وقوله تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ.
وقوله تعالى : فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ ، وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ، قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ ،وقوله تعالى : وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ.
(ب) إشاعة الفتنة في صفوف الجيش الإسلامى متى وجدوا فيه ، أى أن خلو الجيش منهم خير وبركة ووجودهم فيه شر وفتنة.قال تعالى لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
(ج) كراهتهم الخير للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه ، ومحبتهم السوء لهم.قال تعالى : إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ.
(د) تكاسلهم عن أداء الشعائر الدينية بسبب فسوقهم وكفرهم :
قال تعالى : قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ.
(ه) تظاهرهم بالإسلام تقية وجبنهم عن التصريح بما هم عليه من كفر.قال تعالى : وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ.
(و) طعنهم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قسمة الأموال وفي توزيع الصدقات بقصد إشاعة التهم الباطلة حوله.قال تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ، فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ.
(ز) وصفهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه أذن - أى يصدق كل ما يقال له بدون تثبت ...قال تعالى : وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ، يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
(ح) استهزاؤهم بتعاليم الإسلام فيما بينهم ، واعتذارهم عن ذلك بأنهم لم يكونوا جادين فيما ينطقون به من سوء ، وتكذيب اللّه لهم فيما اعتذروا عنه.قال تعالى : يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ ، قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ، قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ.
(ط) تعاطفهم فيما بينهم وتعاونهم على الإثم والعدوان لا على البر والتقوى.(1/430)
قال تعالى : الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ، وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ.
(ى) سخريتهم من فقراء المؤمنين ، لأنهم يتصدقون بالقليل الذي لا يملكون سواه.قال تعالى : الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
(ك) نقضهم للعهود ، وبخلهم بما آتاهم اللّه من فضله.
قال تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ.
(ل) اتخاذهم مسجدا لهم لا من أجل العبادة ، وإنما من أجل المضارة وإيذاء المسلمين ومحاولة تفريق كلمتهم ، وتشتيت وحدتهم.قال تعالى : وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ.
وهكذا نرى السورة الكريمة قد تتبعت المنافقين ، فكشفت عن أصنافهم وأوصافهم وأحوالهم .. بصورة تجعل المؤمنين الصادقين يعرفونهم ويحذرونهم.
بعد ذلك اتجهت السورة : في أواخرها بالحديث إلى المؤمنين الصادقين.
(أ) فذكرتهم بالتعاقد الذي بينهم وبين خالقهم : عز وجل وبشرتهم برضوانه ومحبته متى وفوا بعهودهم فقال ، تعالى : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
(ب) وأعلمتهم بأن إيمانهم يحتم عليهم عدم الاستغفار لمن خالفهم في الدين مهما بلغت درجة قرابته.ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.
(ج) وأمرتهم بأن يصحبوا رسولهم : - صلى الله عليه وسلم - : في جهاده للأعداء ، وأن يكابدوا معه الشدائد والأهوال برغبة ونشاط لأن كل تعب يلحقهم معه مكتوب لهم في سجل حسناتهم.ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.(1/431)
(د) وأرشدتهم إلى أنه في حالة عدم خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - معهم للجهاد ، عليهم أن يقسموا أنفسهم إلى قسمين : قسم يخرج للجهاد وقسم آخر يبقى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتعلم منه العلم ويحفظ عنه ما تجدد من أحكام.وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ، فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ :
(ه) ثم ختم. سبحانه. هذه السورة الكريمة بهاتين الآيتين الدالتين على سابغ رحمته بعباده ، حيث أرسل إليهم رسولا من أنفسهم حريصا على منفعتهم رحيما بهم ، فقال تعالى :
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ.
أما بعد : فهذا عرض إجمالى لما اشتملت عليه سورة التوبة من موضوعات ومن هذا العرض يتبين لنا أن السورة الكريمة قد اهتمت بأمور معينة من أهمها ما يأتى :
1 - رسم المنهاج النهائى الذي يجب أن يسير عليه المسلمون في علاقاتهم مع مشركي العرب ، ومع أهل الكتاب ، ومع المنافقين ، مع بيان الأسباب التي تدعو المسلمين إلى التزام هذا المنهاج.
2 - كشف الغطاء عن المنافقين وأصنافهم وأوصافهم ، وعما انطوت عليه قلوبهم من أحقاد ، وعما سلكوه من مسالك خبيثة لمحاربة الدعوة الإسلامية ، ومناوأة أتباعها الصادقين.
وقد أفاضت السورة في الحديث عن ذلك إفاضة لا توجد في غيرها من سور القرآن الكريم.
3 - حددت السورة الكريمة معالم المجتمع الإسلامى بعد أن تم فتح مكة ، وبعد أن دخل الناس في دين اللّه أفواجا.
فأثنت على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ووعدتهم بالفوز العظيم.قال تعالى : وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
وحكمت على كل فريق من المتخلفين عن غزوة تبوك من أهل المدينة وما حولها بالحكم الذي يناسبه.قال تعالى : وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ.
وقال تعالى : وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ.
وقال تعالى : وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ.
وهكذا نرى السورة الكريمة قد وضحت الطوائف المتنوعة التي كان المجتمع الإسلامى يتكون منها عند نزولها ، أى : بعد أن تم فتح مكة.(1/432)
4 - يؤخذ من الحديث المستفيض الذي ساقته السورة عن المنافقين وصفاتهم وأحوالهم ..
أنهم بعد فتح مكة بدأت دولتهم تعود إلى الظهور في المجتمع الإسلامى بينما كانت قبيل الفتح قد أوشكت على التلاشى والاندثار.
ولعل السبب في ذلك : أن كثيرا من الناس قد دخل في الإسلام بعد أن فتحت مكة ، لأسباب دنيوية متنوعة ، دون أن يستقر الإيمان باللّه في قلوبهم ، وإنما بقيت آثار الجاهلية لها وزنها في تحريك طباعهم واتجاهاتهم وأفكارهم.
قال بعض العلماء : سياق السورة يرسم صورة كاملة للمجتمع المسلم في فترة ما بعد الفتح ، ويصف تكوينه العضوى ، ومن هذه الصورة يتجلى نوع من الخلخلة وقلة التناسق بين مستوياته الإيمانية ، كما تتكشف ظواهر وأعراض من الشح بالنفس والمال ، ومن النفاق والضعف ، والتردد في الواجبات والتكاليف ، والخلط وعدم الوضوح في تصور العلاقات بين المعسكر الإسلامى والمعسكرات الأخرى ، وعدم المفاضلة الكاملة على أساس العقيدة ، وإن كان هذا كله لا يتعارض مع وجود القاعدة الصلبة الأمينة الخالصة من المهاجرين والأنصار ، مما استدعى حملات مفصلة ومنوعة للكشف والتوعية والبيان والتقرير تفي بحاجة المجتمع إليها.
وإن سبب هذه الحالة هو دخول جماعات كثيرة متنوعة من الناس في الإسلام بعد الفتح ، لم تتم تربيتها ، ولم تنطبع بعد بالطابع الإسلامى الأصيل.
5 - عرضت السورة لبيان كثير من الأحكام والإرشادات التي تحتاج إليها الدولة الناشئة ، كحديثها عن مصارف الزكاة ، وعن الجهاد وموجباته ، وعن العهود وأحكامها ، وعن الأشهر الحرم .. إلى غير ذلك من الأحكام. (1)
في هذه السورة فصول عديدة ومتنوعة إلّا أنها يجمعها طابع عام واحد هو الحثّ على الجهاد والحملة على المنافقين والكافرين والمشركين. والثناء على المؤمنين المخلصين.
وتنطوي فصولها على :
(1) التبرّؤ من المشركين الناقضين للعهد والحثّ على قتالهم إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة مع احترام عهد المعاهدين الأوفياء لعهودهم.
(2) والتنبيه على أن المشركين نجس لا يجوز أن يدخلوا منطقة البيت الحرام بعد أن صار في حوزة الإسلام ولا أن يتولوا مسجدا ويعمروه أو يعمروا المسجد الحرام. وليس لهم في ذلك حقّ وميزة.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (6 / 177)(1/433)
(3) وحظر تولي الآباء والأقارب الكفار ومناصرتهم والتحالف معهم وإيجاب إيثار اللّه ورسوله والجهاد في سبيله عليهم وعلى جميع أعراض الدنيا إذا تعارض هذا مع ذاك.
(4) وحثّ على قتال أهل الكتاب الذين لا يؤمنون باللّه ورسوله ولا يحرّمون ما حرّم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحق حتى يعطوا الجزية ويخضعوا لسلطان الإسلام فيكون لهم ذلك مانعا.
(5) وإقرار حرمة الأشهر الحرم الأربعة بأعيانها وتحريم النسيء والتلاعب في أوقاتها بسبيل التقديم والتأخير فيها وإخراج بعضها من الحرمة وجعل غيرها بديلا عنها.
(6) وحثّ واستنفار إلى غزوة أجمعت الروايات على أنها غزوة تبوك وتنديد بالمتثاقلين والمتخلّفين عنها بأعذار كاذبة ووصمهم بالنفاق.
(7) وصور من مواقف المنافقين وأقوالهم ومكائدهم وسخريتهم وتثبيطهم وإخلافهم لوعودهم وعهودهم وتنديد باعتذاراتهم وأيمانهم الكاذبة وإنذارات قارعة لهم وإيجاب الوقوف منهم موقف الشدة والحزم.
(8) وبيان لطبيعة الأعراب وشدة كفر الكافرين ونفاق المنافقين منهم بسببها مع التنويه بطبقة أخلصت في إيمانها وإسلامها وأعمالها منهم.
(9) وتصنيف المنتسبين إلى الإسلام إلى مخلصين سابقين وتابعيهم بإحسان.
ومنافقين متسترين ، وخالطي عمل صالح بعمل سيى ء. وأناس غير معروفة حقيقتهم على اليقين موكولين إلى اللّه. ومنافقين مجاهرين بالضرر والفساد.
(10) حظر الاستغفار للمشركين والصلاة عليهم.
(11) ومشاهد عن إخلاص بعض فقراء المسلمين إزاء الدعوة إلى الجهاد وشدة ندم بعض المخلصين المتخلفين وتوبة اللّه عليهم.
(12) ومشاهد عن مواقف المنافقين عند نزول القرآن.
(13) وتشريع في صدد التناوب في الجهاد.
(14) وختام وصفي رائع لأخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وشدة حرصه على المسلمين ورأفته ورحمته بهم.
وأكثر فصول السورة معقودة على غزوة تبوك وظروفها وأحداثها. وهناك رواية غريبة تذكر أنها نزلت دفعة واحدة. في حين أن مضامين فصولها تلهم بكل قوة أن منها ما نزل قبل غزوة تبوك بمدة ما. ومنها ما نزل أثناء هذه الغزوة ، ومنها ما نزل بعد العودة من هذه الغزوة. حيث يسوغ القول إن الرواية المذكورة غير معقولة وغير صحيحة. وإن فصول السورة قد رتبت في وقت متأخر من عهد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بعد أن تم نزول الفصول التي اقتضت حكمة اللّه ورسوله أن تحتويها.(1/434)
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن آيتيها الأخيرتين مكيّتان. وهذه الرواية مروية في تفسير المنار وفي الإتقان للسيوطي عن ابن الفرس. وصاحب تفسير المنار يسوغ الرواية ويقول إن معنى الآيتين لا يظهر إلّا في دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام في مكة في أول زمن البعثة ، وهناك رواية أوردها ابن كثير تفيد أن الآيتين كانتا منسيتين فألحقتا بآخر السورة ارتجالا. وكانت هذه الرواية مما قوى تسويغ صاحب المنار.
هذا في حين أن هناك روايات تذكر أن الآيتين هما آخر القرآن نزولا. وقد رجحنا أنهما جاءتا معقبتين على الآيات السابقة لهما استلهاما من فحواهما. وسنزيد الأمر بيانا في سياق تفسير الآيات.
والمتواتر اليقيني أن مصحف عثمان الذي هو أصل المصاحف لم يفصل بين سورتي الأنفال وهذه السورة بالبسملة أسوة بسائر السور. وقد روى الترمذي حديثا عن ابن عباس جاء فيه : «قلت لعثمان رضي اللّه عنه ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما بسم اللّه الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال. فقال عثمان كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولم يبين لنا أنها منها فلذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما بسم اللّه الرحمن الرحيم فوضعتها في السبعة الطوال». وهناك روايات أخرى في صدد ذلك. منها رواية عن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه جوابا على سؤال سأله ابنه محمد مفادها أن هذه السورة نزلت بالسيف وأن البسملة أمان. ورواية عن أبيّ بن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر في كل سورة بكتابة بسم اللّه الرحمن الرحيم ولم يأمر بذلك في سورة التوبة وكانت نزلت في آخر القرآن فضمت إلى الأنفال لشبهها بها. ورواية - جاءت بصيغة قيل - تذكر أن الصحابة اختلفوا فيما إذا كانت سورتا الأنفال وبراءة واحدة أم سورتين ولم يتغلب رأي على رأي فتركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول إنهما سورتان. ولم يكتبوا البسملة تنبيها على قول من يقول إنهما سورة واحدة.
وهناك رواية تذكر أن السورتين كانتا تسميان القرينتين لهذا السبب.
وباستثناء حديث الترمذي عن ابن عباس ليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. والمتبادر أن رواية عدم وضع البسملة بسبب كونها نزلت في القتال غير سائغة لأن هناك سورا أخرى احتوت الأمر بالقتال. وتبقى الروايات الأخرى وهي محتملة. وقد يكون فيها إزالة لإشكال ورود سورة الأنفال التي تقلّ آياتها عن المائة بين السور الطوال في حين أن ترتيب سور القرآن سار على وضع الأطول فالأطول(1/435)
إجمالا. ولم يؤثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع البسملة بينهما. وآياتهما معا تجعل سلكهما في سلك السور الطوال سائغا.
وهذه الروايات مع حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي تفيدنا مسألتين مهمتين في صدد تأليف وترتيب سور القرآن والمصحف والآيات ، الأولى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بأن تكون كل سورة في قراطيس لحدتها مفتوحة للزيادة عليها.
وكان وضع الآيات في السور بأمره. والثانية أن ترتيب السور واحدة وراء أخرى كما جاء في المصحف هو بأمره. ونرجح أن المسألة الأولى كانت بنوع خاص بالنسبة للسور المدنيّة. وأن السور المكيّة كان قد تم ترتيبها إما في مكة وإما بعد الهجرة بقليل. وكل ما هنالك أن بعض آيات مدنيّة أضيف إلى بعض هذه السور مثل الآية الأخيرة من كل من سورتي المزمل والشعراء والآيات [163 - 170] من سورة الأعراف للتناسب الموضوعي. ومن المحتمل كثيرا أن تكون هذه الآيات نزلت في أوائل الهجرة. واللّه أعلم.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي ترتيب هذه السورة قبل سورة النصر التي يجعلها آخر السور المدنيّة نزولا. وبعض روايات الترتيب يجعلها بعد سورة النصر. وبعضها يجعلها ثانية عشرة سورة مدنيّة نزولا وبعضها سادسة عشرة بل وبعضها سادسة ومضامينها تلهم أن الروايات الثلاث الأخيرة لا يمكن أن تكون صحيحة. وقد أخذنا برواية المصحف الذي اعتمدناه لأن فحوى وروح سورة النصر يسوغان صحة رواية هذا المصحف بكونها آخر السور المدنيّة نزولا كما أن هناك أحاديث تؤيد ذلك على ما سوف نورده في سياقها.
وللسورة أسماء عديدة. المشهور منها اثنان وهما (التوبة) و(براءة). وهما مقتبسان من ألفاظ فيها كما هو شأن معظم السور. والباقي أطلق عليها بسبب ما فيها من دلالات فهي الفاضحة لأنها فضحت المنافقين ، وهي المبعثرة لأنها بعثرت أسرارهم ، وهي المقشقشة لأنها تقشقش أي تبرئ المسلمين من الكفر والنفاق ، وهي المدمدمة أي المهلكة ، وهي الحافرة لأنها حفرت قلوب المنافقين وكشفت ما يسترونه ، وهي المثيرة لأنها أثارت مخازيهم ، وهي العذاب لأنها نزلت بعذاب الكفار. وهذه الأسماء التي بلغت العشرة معزوة إلى أصحاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وتابعيهم (1)
سورة التوبة مدنية وهي مائة وتسع وعشرون آية. نزلت في غزوة تبوك سنة تسع.
تسميتها :
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (9 / 337)(1/436)
قال الزمخشري : لها عدة أسماء : براءة ، التوبة ، المقشقشة ، المبعثرة ، المشردة ، المخزية ، الفاضحة ، المثيرة ، الحافرة ، المنكّلة ، المدمدمة ، سورة العذاب لأن فيها التوبة على المؤمنين ، وهي تقشقش من النفاق ، أي تبرئ منه ، وتبعثر عن أسرار المنافقين ، أي تبحث عنها ، وتثيرها ، وتحفر عنها ، وتفضحهم ، وتنكلهم ، وتشرد بهم ، وتخزيهم ، وتدمدم عليهم . وتسمى أيضا البحوث لأنها تبحث عن أسرار المنافقين.
وعن حذيفة رضي اللّه عنه : إنكم تسمونها سورة التوبة ، وإنما هي سورة العذاب ، واللّه ما تركت أحدا إلا نالت منه.
وعن ابن عباس في هذه السورة قال : إنها الفاضحة ما زالت تنزل فيهم ، وتنال منهم ، حتى خشينا ألا تدع أحدا ، وسورة الأنفال نزلت في بدر ، وسورة الحشر نزلت في بني النضير.
السبب في إسقاط التسمية من أولها :
قال ابن عباس : سألت عليا رضي اللّه عنه ، لم لم يكتب في براءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؟ قال : لأن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أمان ، وبراءة نزلت بالسيف ونبذ العهود ، وليس فيها أمان .
وقال سفيان بن عيينة : إنما لم تكتب في صدر هذه السورة البسملة لأن التسمية رحمة ، والرحمة أمان ، وهذه السورة نزلت بالمنافقين وبالسيف ، ولا أمان للمنافقين .
قال القرطبي نقلا عن القشيري : والصحيح أن التسمية لم تكتب لأن جبريل عليه السّلام ما نزل بها في هذه السورة. فلم يكتبها الصحابة في المصحف الإمام ، مقتدين في ذلك بأمير المؤمنين عثمان رضي اللّه عنه ، كما قال الترمذي.
مناسبتها لما قبلها :
هناك شبه بين سورة براءة وسورة الأنفال قبلها ، فهي كالمتممة لها في وضع أصول العلاقات الدولية الخارجية والداخلية ، وأحكام السلم والحرب ، وأحوال المؤمنين الصادقين والكفار والمنافقين ، وأحكام المعاهدات والمواثيق ، إلا أن في الأنفال بيان العهود والوفاء بها وتقديسها ، وفي براءة نبذ العهود ، وذكر في السورتين صدّ المشركين عن المسجد الحرام ، والترغيب في إنفاق المال في سبيل اللّه ، وتفصيل الكلام في قتال المشركين وأهل الكتاب وبيان أوضاع المنافقين.
وبالرغم من هذا الشبه الموضوعي في السورتين ، وأنهما تدعيان القرينتين ، وأنهما نزلتا في القتال ، فإنهما في الأصح سورتان مستقلتان ، فليست براءة جزءا من الأنفال ، بدليل كثرة أسمائها المميزة لها ، وفصلها عما سبقها ، واستقر على ذلك ترتيب السور والآيات ، وتناقل المسلمون هذا الفصل في المصحف من عهد الصحابة لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان.(1/437)
قال عثمان رضي اللّه عنه : قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، ولم يبين لنا أنها منها. وفي قوله هذا دليل على أن السور كلها انتظمت بقوله وتبيينه ، وأن براءة وحدها ضمّت إلى الأنفال من غير عهد من النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم لما عاجله من الحمام قبل تبيينه ذلك. وكانتا تدعيان القرينتين ، فوجب أن تجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى للوصف الذي لزمهما من الاقتران ، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم حيّ .
قال ابن العربي : هذا دليل على أن القياس أصل في الدين ، ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجؤوا إلى قياس الشّبه عند عدم النص ، ورأوا أن قصة براءة شبيهة بقصة الأنفال فألحقوها بها ، فإذا كان اللّه قد بيّن دخول القياس في تأليف (أي جمع) القرآن ، فما ظنك بسائر الأحكام ؟!
تاريخ نزولها :
كانت الأنفال من أوائل ما أنزل بعد الهجرة ، وبراءة من آخر ما نزل من القرآن ، نزلت في السنة التاسعة من الهجرة ، وهي السنة التي حدثت فيها غزوة تبوك ، وهي آخر غزواته صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، خرج فيها لغزو الروم ، وقت القيظ والحر الشديد ، زمن العسرة ، حين طابت الثمار ، فكانت ابتلاء لإيمان المؤمنين ، وافتضاحا لنفاق المنافقين. و
قد نزل أولها بعد فتح مكة ، فأرسل النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم عليا ليقرأها على المشركين في موسم الحج.
روى البخاري عن البراء بن عازب قال : آخر آية نزلت : يَسْتَفْتُونَكَ ، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وآخر سورة نزلت : براءة.
ما اشتملت عليه السورة :
افتتحت السورة بالبراءة من المشركين ، ومنحهم مدة أمان أربعة أشهر ، ثم إعلان الحرب عليهم بسبب جرائمهم ، ثم منعهم من دخول المسجد الحرام إلى الأبد.
ثم مجاهدة أهل الكتاب حتى يؤدوا الجزية أو يسلموا. وتضمنت السورة في قسمها الأول حتى نهاية الآية [41] الحث على الجهاد والنفير العام في سبيل اللّه بالأموال والأنفس. ثم تحدثت عن أوصاف المنافقين ومخاطرهم في القسم الثاني إلى آخر السورة ، وتخلل ذلك الإشارة إلى تخلف الأعراب عن الجهاد ، وعدم قبول تخلف أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب عن المشاركة في الجهاد ، وختمت السورة بمقارنات واضحة تميز بين المؤمنين والمنافقين ، وجعل الجهاد فرض كفاية ، وتخصيص فئة أخرى للتفقه في الدين.
فكان محور السورة يدور حول أمرين :
الأول - أحكام جهاد المشركين وأهل الكتاب.(1/438)
الثاني - تمييز المؤمنين عن المنافقين بصدد غزوة تبوك.
أما أحكام الجهاد فقد مهد لها القرآن الكريم في هذه السورة بنبذ العهود والأمان بالنسبة للمشركين ، وإنهاء المعاهدات التي كانت قائمة بين المسلمين وأهل الكتاب لأن كلا من المشركين والكتابيين نقضوا العهود ، وتواطأت طوائف اليهود من بني النضير وبني قريظة وبني قينقاع مع المشركين على محاربة المسلمين ومحاولة القضاء عليهم. وتحدثت حوالي عشرون آية عن أحقاد اليهود ودسائسهم ومؤامراتهم ، وخبثهم وكيدهم ، فلا عهد ولا أمان ، ولا سلم ولا مصالحة بعد انتهاء أمد الأمان ، ونقض العهود من غير المسلمين.
وأما الأمر الثاني فكان بسبب استنفار المسلمين لغزو الروم في غزوة تبوك ، وقد أوضحت الآيات في القسم الأعظم من هذه السورة نفسيات المسلمين ، وظهور عوارض التثاقل والتخلف والتثبيط ، ومراوغة المنافقين ، ودسائسهم الماكرة ، واتخاذهم ما أطلق عليه (مسجد الضرار) الذي نزل بشأنه أربع آيات ، وكرا للتآمر والتخريب ، وتعريتهم بشكل فاضح ، حتى سميت السورة (الفاضحة) لأنها فضحت المنافقين ، ولم تدع لهم سترا إلا هتكته.
والخلاصة : كانت هذه السورة سورة الحسم الكامل لأوضاع غير المسلمين ، وربما كانت أخطر سورة حشدت جيش الإيمان وأعدته للمعركة الفاصلة النهائية بين المسلمين وغيرهم ، سواء في داخل الدولة بتصفية جذور النفاق ، والقضاء على مكر اليهود ، أو في خارج الدولة بالتصدي لغطرسة الروم في غزوة تبوك التي أرهبتهم ، وجمّدت كل تحركاتهم المشبوهة للقضاء على الإسلام والمسلمين.
وكان لهذه التصفية المقدّر والمخطط لها من قبل اللّه تعالى على الصعيد الداخلي والخارجي الأثر الأكبر في استقرار الدولة الإسلامية ، والحفاظ على كيانها الدولي وإظهار هيبتها ومنعة وجودها ، بعد انتقال مؤسسها وقائدها النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
أضواء من التاريخ على صلح الحديبية :
عقد النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم معاهدة صلح الحديبية سنة ست من الهجرة مع المشركين على وضع الحرب أوزارها ، وعلى السلم والأمان مدة عشر سنوات ، بشروط متسامح فيها عن قوة وعزة ، لا عن ضعف وذلة. ثم نقضت قريش المعاهدة بإعانة حليفتها قبيلة بني بكر على قبيلة خزاعة حليفة النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم بالسلاح والرجال ، فاستغاث عمرو بن سالم الخزاعي على رأس وفد بالنبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، فأغاثه قائلا : «نصرت يا عمرو بن سالم ، لا نصرت إن لم أنصر بني كعب» فكان ذلك سبب عودة حالة الحرب مع قريش.(1/439)
فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم الناس بالتأهب للقتال ، وسار لفتح مكة سرا ، ففتحها في السنة الثامنة من الهجرة.
ولما بلغ هوازن فتح مكة ، جمعهم أميرهم مالك بن عوف النصري لقتال المسلمين ، وكانت غزوة حنين التي شهدها دريد بن الصّمّة في شوال في السنة الثامنة ، ثم حاصر النبي بعدها الطائف بضعا وعشرين ليلة ، وقاتلهم قتالا شديدا ، ورماهم بالنبل والمنجنيق.
ثم خرج النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم في رجب سنة تسع إلى غزوة تبوك ، وهي آخر غزواته ، وفيها نزلت أكثر آيات سورة براءة.
ولما رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم من غزوة تبوك أراد الحج ، ولكنه تذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم ، ويطوفون بالبيت عراة ، فكره مخالطتهم ، وبعث أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه أميرا على الحج تلك السنة ، ليقيم للناس مناسكهم ويعلم المشركين ألا يحجوا بعد عامهم هذا ، وأن ينادي في الناس : بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ، ليكون مبلّغا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، لكونه عصبة له. وقال له : «أخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن بذلك في الناس إذا اجتمعوا».
فخرج علي راكبا العضباء ناقة الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، فأدرك أبا بكر في ذي الحليفة ، وأمّ أبو بكر الناس في الحج ، وقرأ عليّ على الناس صدر سورة براءة وذلك يوم النحر بمنى سنة تسع.
روى الإمام أحمد والترمذي في التفسير عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه : أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم بعثه ببراءة مع أبي بكر ، فلما بلغ ذا الحليفة قال : «لا يبلّغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي» فبعث بها مع علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.
وروى البخاري أن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم بعث عليا سنة تسع ، فأذن يوم النحر بمنى بصدر سورة براءة ، وأن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان.
وروى أحمد والترمذي والنسائي عن زيد بن يثيغ رجل من همدان قال : سألنا عليا بأي شيء بعثت؟ يعني يوم بعثه النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم مع أبي بكر في الحجة ، قال : «بعثت بأربع : لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم عهد فعهده إلى مدته ، ولا يحج المشركون بعد عامهم هذا» (1)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (10 / 91)(1/440)
عدد آياتها تسع وعشرون ومائة وتسمى سورة براءة ، والمبعثرة ، والمثيرة ، والمخزية ، والفاضحة ، والمشردة ، وسورة العذاب ، لما فيها من ذكر التوبة ، وما فيها من التبرئة من النفاق ، وما فيها من التعرض للمنافقين وكشف سترهم وما يخزيهم ويشردهم ، وما فيها من نقض العهود وإرصاد العذاب للمشركين ، لهذا وذلك سميت بتلك الأسماء.
وكثرة أسمائها الواردة دليل على أنها سورة مستقلة ليست جزءا مما قبلها.
وإذا كانت سورة فلم تركت البسملة في أولها ؟ !! أما الحكمة في ترك البسملة فالظاهر - واللّه أعلم - أنها نزلت لرفع الأمان ، ونقض العهود مع المشركين ، وفضيحة المنافقين ، وهذا يتنافى مع التصدير بالاسم الجليل الموصوف بالرحمن الرحيم ، وفي الكشاف : سئل ابن عينية - رضى اللّه عنه - فقال :
اسم اللّه سلام وأمان فلا يكتب في النبذ والمحاربة. وما روى عن ابن عباس في هذا فأظنه مدسوس عليه إذ لا يعقل أن يلحق النبي بالرفيق الأعلى ولم يبين للصحابة مكان هذه الآيات ، فاختلف الصحابة في ذلك على أن الصحيح أن البسملة آية فذة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها ، وأنه لا مدخل لأحد بالمرة في إثباتها أو تركها وإنما هذا كله توقيف ووحى ، ولا يعقل أن يترك ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح أن يتشكك مسلم في هذا أبدا ، ولا شك في عدم نزول البسملة ها هنا بالإجماع.
نبذة تاريخية :
في السنة السادسة للهجرة عاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروط تساهل معهم فيها عن قوة وعزة لا عن ضعف وذلة ، ودخلت قبيلة خزاعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبيلة بنى بكر في عهد قريش ، وكانت بين هاتين القبيلتين إحن قديمة وثارات موروثة فاعتدت بنو بكر على خزاعة ونقضوا عهدهم ، وأعانت قريش بنى بكر بالسلاح وبالرجال فانهزمت خزاعة فكان ذلك نقضا للصلح الواقع عام الحديبية :ولذا خرج عمرو بن سالم الخزاعي على رأس وفد إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مستغيثين به ،
فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : « لا نصرت إن لم أنصر بنى كعب »
فكان ذلك سبب عودة حال الحرب العامة وفتح مكة في السنة الثامنة.
وقد ثبت بالتجربة أن المشركين في حال القوة والضعف لا عهود لهم ، ولا أمان فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ « 1 » إلا من عاهد واستقام أمره ، هذا هو الأساس الشرعي الذي بنى عليه ما جاءت به هذه السورة من نبذ عهودهم المطلقة ، وإتمام مدة عهودهم المؤقتة لمن استقام عليها منهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين للّه.
ولما بلغ هوازن فتح مكة جمعهم أميرهم مالك بن عوف النصري لقتال المسلمين وكانت غزوة حنين في شوال في السنة الثامنة ، وبعدها حاصر الطائف بضعا وعشرين ليلة ورماهم بالمنجنيق.(1/441)
ثم أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة بعد ذلك ذا الحجة والمحرم من السنة التاسعة وصفر وربيع الأول والآخر وجماد الأول والآخر ، وخرج في رجب سنة تسع إلى غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها النبي ، وفيها نزلت أكثر آيات السورة الكريمة.
ولما انصرف رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من تبوك أراد الحج ولكنه قال : يحضر البيت عراة مشركون يطوفون بالبيت فلا أحب أن أحج معهم ، فأرسل أبا بكر أميرا على الحج ، ثم لما خرج أرسل بعده عليا وقال له : « اخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن بذلك في الناس إذا اجتمعوا » وقال : « لا يبلغ عنى إلا رجل منى »فخرج علىّ على العضباء ناقة الرسول فأدرك أبا بكر في ذي الحليفة وأم أبو بكر - رضى اللّه عنه - الناس في الحج ، وقرأ علىّ على الناس صدر سورة « براءة » . (1)
سورة التوبة - سورة براءة عدد آيها ثلاثون ومائة ، وهى مدنية ، ولها أسماء كثيرة : منها الفاضحة لما تضمنته من ذكر أسرار المنافقين وأنبائهم بما فى قلوبهم من الكفر وسوء النيات ، والمدمدمة والمخزية.
وقد نزل معظمها بعد غزوة تبوك ، وهى آخر غزواته - صلى الله عليه وسلم - ، وقد كان الاستعداد لها وقت القيظ زمن العسرة ، وفى أثنائها ظهر من علامات نفاق المنافقين ما كان خفيّا من قبل.
وأولها نزل سنة تسع بعد فتح مكة ، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا ليقرأها على المشركين فى الموسم.
روى البخاري عن البراء بن عازب قال : آخر آية نزلت « يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ » وآخر سورة نزلت براءة.
ووجه المناسبة بينها وبين ما قبلها - أنها كالمتممة لها فى معظم ما فى أصول الدين وفروعه ، وفى التشريع الذي جلّه فى أحكام القتال والاستعداد له ، وأسباب النصر فيه ، وأحكام المعاهدات والمواثيق من حفظها ونبذها عند وجود المقتضى لذلك ، وأحكام الولاية فى الحرب وغيرها بين المؤمنين بعضهم مع بعض ، والكافرين بعضهم مع بعض ، وأحوال المؤمنين الصادقين والكفار والمذبذبين من المنافقين ومرضى القلوب ، فما بدىء به فى الأولى أتم فى الثانية - وهاك أمثله على ذلك :
(1) تفصيل الكلام فى قتال المشركين وأهل الكتاب.
(2) ذكر فى الأولى صدّ المشركين عن المسجد الحرام ، وأنهم ليسوا بأوليائه ، وجاء فى الثانية « ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ » إلى آخر الآيات
(3) ذكرت العهود فى سورة الأنفال ، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها.
(4) ذكر فى سورة الأنفال الترغيب فى إنفاق المال فى سبيل اللّه ، وجاء ذلك بأبلغ وجه فى براءة.
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (1 / 850)(1/442)
(5) جاء فى الأولى ذكر المنافقين والذين فى قلوبهم مرض - وفصل ذلك فى الثانية أتمّ تفصيل.
[تنبيه ] لم يكتب الصحابة ولا من بعدهم البسملة فى أولها ، لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من السور ، وقيل رعاية لمن كان يقول إنها مع الأنفال سورة واحدة.
وقيل لأنها جاءت لرفع الأمان والابتداء بالبسملة مذكورا فيها اسم اللّه موصوفا بالرحمة يوجبه. (1)
وجه مناسبتها للأنفال أن في الأولى قسمة الغنائم وجعل خمسها لخمسة أصناف على ما علمت وفي هذه قيمة الصدقات وجعلها لثمانية أصناف على ما ستعلم إن شاء اللّه تعالى ، وفي الأولى أيضا ذكر العهود وهنا نبذها وأنه تعالى أمر في الأولى بالاعداد فقال سبحانه : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال : 60] ونعى هنا على المنافقين عدم الاعداد بقوله عز وجل : وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً [التوبة : 46] وأنه سبحانه ختم الأولى بإيجاب أن يوالي المؤمنين بعضهم بعضا وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية وصرح جل شأنه في هذه بهذا المعنى بقوله تبارك وتعالى : بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة : 1] إلخ إلى غير ذلك من وجوه المناسبة.
وعن قتادة ، وغيره أنها مع الأنفال سورة واحدة ولهذا لم تكتب بينهما البسملة ، وقيل : وفي وجه عدم كتابتها أن الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم اختلفوا في كونها سورة أو بعض سورة ففصلوا بينها وبين الأنفال رعاية لمن يقول هما سورتان ولم يكتبوا البسملة رعاية لمن يقول هما سورة واحدة ، والحق أنهما سورتان إلا أنهم لم يكتبوا البسملة بينهما لما
رواه أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما عن علي كرم اللّه تعالى وجهه من أن البسملة أمان ، وبراءة نزلت بالسيف ،
ومثله عن محمد بن الحنفية. وسفيان بن عيينة ، ومرجع ذلك إلى أنها لم تنزل في هذه السورة كأخواتها لما ذكر ، ويؤيد القول بالاستقلال تسميتها بما مر.
واختار الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته أنهما سورة واحدة وأن الترك لذلك قال في الباب الحادي والثلاثمائة بعد كلام : وأما سورة التوبة فاختلف الناس فيها هل هي سورة مستقلة كسائر السور أو هل هي وسورة الأنفال سورة واحدة فإنه لا يعرف كمال السورة إلا بالفصل بالبسملة ولم تجىء هنا فدل على أنها من سورة الأنفال وهو الأوجه وإن كان لتركها وجه وهو عدم المناسبة بين الرحمة والتبري ولكن ما له تلك القوة بل هو وجه ضعيف.
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (10 / 50)(1/443)
وسبب ضعفه أنه في الاسم اللّه من البسملة ما يطلبه والبراءة إنما هي من الشريك لا من المشرك فإن الخالق كيف يتبرأ من المخلوق ولو تبرأ منه من كان يحفظ وجوده عليه والشريك معدوم فتصح البراءة منه في صفة تنزيه ، وتنزيه اللّه تعالى من الشريك والرسول - صلى الله عليه وسلم - من اعتقاد الجهل ، ووجه آخر من ضعف هذا التأويل الذي ذكرناه وهو أن البسملة موجودة في أول سورة وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ [الهمزة : 1] ووَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين : 1] وأين الرحمة من الويل انتهى ، وقد يقال : كون البراءة من الشريك غير ظاهر من آيتها أصلا وستعلم إن شاء اللّه تعالى المراد منها ، وما ذكره قدس سره في الوجه الآخر من الضعف قد يجاب عنه بأن هذه السورة لا تشبهها سورة فإنها ما تركت أحدا كما قال حذيفة إلا نالت منه وهضمته وبالغت في شأنه ، أما المنافقون والكافرون فظاهر ، وأما المؤمنون ففي قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ إلى الْفاسِقِينَ [التوبة : 23 - 24] وهو من أشد ما يخاطب به المخالف فكيف بالموافق ، وليس في سورة - ويل - ولا في تبت - ولا ولا ، ولو سلّم اشتمال سورة على نوع ما اشتملت عليه لكن الامتياز بالكمية والكيفية مما لا سبيل لإنكاره ولذلك تركت فيها البسملة على ما أقول ، والاسم الجليل وإن تضمن القهر الذي يناسب ما تضمنته السورة لكنه متضمن غير ذلك أيضا مع اقترانه صريحا بما لم يتضمنا سوى الرحمة ، وليس المقصود إلا إظهار صفة القهر ولا يتأتى ذلك مع الافتتاح بالبسملة ، ولو سلّم خلوص الاسم الجليل له. نعم إنه سبحانه لم يترك عادته في افتتاح السور هنا بالكلية حيث افتتح هذه السورة بالباء كما ، افتتح غيرها بها في ضمن البسملة وإن كانت باء البسملة كلمة وباء هذه السورة جزء كلمة وذلك لسر دقيق يعرفه أهله ، هذا ونقل عن السخاوي أنه قال في جمال القراء : اشتهر ترك التسمية في أول براءة ، وروي عن عاصم التسمية أولها وهو القياس لأن إسقاطها إما لأنها نزلت بالسيف أو لأنهم لم يقطعوا بأنها سورة مستقلة بل من الأنفال ، ولا يتم الأول لأنه مخصوص بمن نزلت فيه ونحن إنما نسمي للتبرك ، ألا ترى أنه يجوز بالاتفاق بسم اللّه الرحمن الرحيم وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة : 36] الآية ونحوها ، وإن كان الترك لأنها ليست مستقلة فالتسمية في أول الأجزاء جائزة ، وروي ثبوتها في مصحف ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه.
وذهب ابن مناذر إلى قراءتها ، وفي الاقناع جوازها ، والحق استحباب تركها حيث إنها لم تكتب في الامام ولا يقتدى بغيره. وأما القول بحرمتها ووجوب تركها كما قاله بعض المشايخ الشافعية فالظاهر خلافه ، ولا أرى في الإتيان بها بأسا لمن شرع في القراءة من أثناء السورة واللّه تعالى أعلم. (1)
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (5 / 236)(1/444)
هذه السورة الكريمة من السور المدنية التي تعنى بجانب التشريع ، وهي من أواخر ما نزل على رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) فقد روى البخاري عن البراء بن عازب أن آخر سورة نزلت سورة براءة ، وروى الحافظ ابن كثير : أن أول هذه السورة نزلت على رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) عند مرجعه من غزوة تبوك ، وبعث أبا بكر الصديق أميرا على الحج تلك السنة ، ليقيم للناس مناسكهم ، فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون مبلغا عن رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ما فيها من الأحكام نزلت في (السنة التاسعة) من الهجرة ، وهي السنة التي خرج فيها رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) لغزو الروم ، واشتهرت بين الغزوات النبوية ب (غزوة تبوك ) وكانت في حر شديد ، وسفر بعيد ، حين طابت الثمار ، وأخلد الناس إلى نعيم الحياة ، فكانت إبتلاء لإيمان المؤمنين ، وامتحانا لصدقهم وإخلاصهم لدين الله ، وتمييزا بينهم وبين المنافقين . .
ولهذه السورة الكريمة هدفان أساسيان - إلى جانب الأحكام الأخرى - هما : أولا : بيان القانون الإسلامي في معاملة المشركين ، وأهل الكتاب . ثانيا : إظهار ما كانت عليه النفوس حينما استنفرهم الرسول لغزو الروم . " أما بالنسبة للهدف الأول فقد عرضت السورة إلى عهود المشركين فوضعت لها حدا ، ومنعت حج المشركين لبيت الله الحرام ، وقطعت الولاية بينهم وبين المسلمين ، ووضعت الأساس في قبول بقاء أهل الكتاب في الجزيرة العربية ، وإباحة التعامل معهم ، وقد كان بين النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) والمشركين عهود ومواثيق ، كما كان بينه وبين أهل الكتاب عهود أيضا ، ولكن المشركين نقضوا العهود وتآمروا مع اليهود عدة مرات على حرب المسلمين ، وخانت طوائف اليهود " بنو النضير " و " بنو قريظة " و " بنو قينقاع " ما عاهدوا عليه رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ونقضوا عهودهم مرات ومرات ، فلم يعد من الحكمة أن يبقى المسلمون متمسكين بالعهود وقد نقضها أعداؤهم ، فنزلت السورة الكريمة بإلغاء تلك العهود ونبذها إليهم على وضوح وبصيرة ، لأن الناكثين لا يتورعون عن الخيانة كلما سنحت لهم الفرصة ، وبذلك قطع الله تعالى ما بين المسلمين والمشركين من صلات ، فلا عهد ، ولا صلح ، ولا تعاهد ، ولا سلم ، ولا أمان ، بعد أن منحهم الله فرصة كافية هي السياحة في الأرض (أربعة أشهر) ينطلقون فيها آمنين ، ليتمكنوا من النظر والتدبر في أمرهم ، ويختاروا ما يرون فيه المصلحة لهم . . وفي ذلك نزل صدر السورة الكريمة [ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين . . ] الآيات . ثم تلتها الآيات في قتال الناقضين للعهود من أهل الكتاب [ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. . ] الآية ، وقد تناول الحديث عنهم ما يقرب من عشرين آية ، كشف الله سبحانه فيها القناع عن خفايا أهل الكتاب ، وما انطوت عليه نفوسهم من خبث ، ومكر ، وحقد على الإسلام والمسلمين . " وعرضت السورة للهدف الثاني ، وهو شرح نفسيات المسلمين حين استنفرهم رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) لغزو الروم ، وقد تحدثت الآيات عن المتثاقلين منهم والمتخلفين ، والمثبطين وكشفت الغطاء عن فتن المنافقين ،(1/445)
باعتبار خطرهم الداهم على الإسلام والمسلمين ، وفضحت أساليب نفاقهم ، وألوان فتنتهم وتخذيلهم للمؤمنين ، حتى لم تدع لهم سترا إلا هتكته ، ولا دخيلة إلا كشفتها ، وتركتهم بعد هذا الكشف والإيضاح تكاد تلمسهم أيدي المؤمنين ، وقد استغرق الحديث عن المنافقين معظم السورة بدءا من قوله تعالى [ لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك . . ] إلى قوله تعالى [ لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم ] ولهذا سماها بعض الصحابة " الفاضحة " لأنها فضحت المنافقين وكشفت أسرارهم ، قال سعيد بن جبير : سألت ابن عباس عن سورة براءة فقال : تلك الفاضحة ، ما زال ينزل : (ومنهم ) (ومنهم ) ، حتى خفنا ألا تدع منهم أحدا ، وروي عن حذيفة بن اليمان أنه قال : إنكم تسمونها سورة التوبة ، وإنما هي سورة العذاب ، والله ما تركت أحدا من المنافقين إلا نالت منه ، وهذا هو السر في عدم وجود البسملة فيها ، قال ابن عباس : سألت علي بن أبي طالب لم لم يكتب في براءة [ بسم الله الرحمن الرحيم ] ؟ قال : لأن [ بسم الله الرحمن الرحيم ] أمان ، وبراءة نزلت بالسيف ، ليس فيها أمان ، وقال سفيان بن عيينة : إنما لم تكتب البسملة في صدر هذه السورة ، لأن التسمية رحمة ، والرحمة أمان ، وهذه السورة نزلت بالمنافقين ، وبالسيف ، ولا أمان للمنافقين . وبالجملة فإن هذه السورة الكريمة قد تناولت " الطابور الخامس " المندس بين صفوف المسلمين ألا وهم (المنافقون ) الذين هم أشد خطرا من المشركين ، ففضحتهم وكشفت أسرارهم ومخازيهم ، وظلت تقذفهم بالحمم حتى لم تبق منهم ديارا ، فقد وصل بهم الكيد في التآمر على الإسلام ، أن يتخذوا بيوت الله أوكارا للتخريب والتدمير ، وإلقاء الفتنة بين صفوف المسلمين ، في مسجدهم ، الذي عرف باسم (مسجد الضرار) وقد نزل في شأنه أربع آيات في هذه السورة [ والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل . . ] الآيات ولم يكد النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) يتلقى الوحي حتى قال لأصحابه : (انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه ) فهدموه وكفى الله الإسلام والمسلمين شرهم ، وكيدهم ، وخبثهم ، وفضحهم إلى يوم الدين .
التسمية :
تسمى هذه السورة بأسماء عديدة أوصلها بعض المفسرين إلى أربعة عشر اسما ، قال العلامة الزمخشري : لهذه السورة عدة أسماء : (براءة ، والتوبة ، والمقشقشة ، والمبعثرة ، والمشردة ، والمخزية ، والفاضحة ، والمثيرة ، وا لحافرة ، والمنكلة ، والمدمدمة ، وسورة العذاب ) قال : لأن فيها التوبة على المؤمنين ، وهي(1/446)
تقشقش من النفاق أي تبرىء منه ، وتبعثر عن أسرار المنافقين ، وتبحث عنها ، وتثيرها وتحفر عنها ، وتفضحهم ، وتنكل بهم ، وتشردهم ، وتخزيهم ، وتدمدم عليهم . (1)
مقصودها معاداة من أعرض عما دعت إليه السورة الماضية من اتباع الداعي إلى
الله في توحيده وأتباع ما يرضيه ، وموالاة من أقبل عليه ، وأدل ما فيها على الإبلاغ في هذا المقصد فصة المحلفين فإنهم - لاعترافهم بالتخلف عن الداعي بغير عذر في غزوة تبوك المحتمل على وجه بعيد منهم رضي الله عنهم للاعراض بالقلب - هجروا ، وأعرض عنهم بكل اعتبار حتى بالكلام ، فذلك معنى تسميتها بالتوبة ، وهو يدل على البراءة لأن البراءة منهم 0 بهجرانهم حتى رد السلام ، كان سبب التوبة ، فهو من إطلاق المسبب على السبب وتسميتها براءة واضح أيضا فيما ذكر من مقصودها ، وكذا الفاضحة لأن من افتضح كان أهلا للبراءة منه ، والبحوث لأنه لا يبحث إلا عن حال البغيض ، والمبعثرة هو المنفرة والمثبرة والحفارة والمخزية والمهلكة والمشردةة والمدمدمة والمنكلة لأنه لا يبعثر إلا حال وكذا بعده ، والمشردة عظيمة المناسبة مع ذلك عظيمة المناسبة مع ذلك لما أشارت إليه الأنفال في ) فشرد بهم من خلفهم ْ [ الأنفال : 57 ] وسورة العذاب أيضا واضحة في مقصودها ، وكذا المقشقشة لأنهم قالوا : إن معناه المبرئة من النمفاق ، من تقشقشت قروحه ، إذا تقشرت للبرء ، وتوجيهه أن من عرف أن الله برئ منه ورسوله والمؤمنون لأمر فهو جدير بأن يرجع عن ذلك الأمر
، وعندي أيضا أنه مضاعف القش الذي معناه الجمع ، لأنها جمعت أصناف المنافقين وأحوالهم وعليه خرج ما في وصف أبي جهم بن حذيفة لمن أراد نكاحها : أخاف عليك قشقاشته ، أي تتبعه لمذاق الأمور ، أخذا من القش الذي هو تطلب المأكول من هنا هنا وها هنا ، أو عصاه التي هي غاية ذلك ، ومادة قش ومقلوبها شق ةمضاعفهما قشقش وشقشق تدور على الجمع وتلازمه الفرقة فإنه لا يجتمع إلا ما كان مفرقا ولا يفرق إلا ما كان مجتمعا ، وقد اقتسم هذان المثالان المعنيين إلا قليلا ، فقش القوم : صلحوا وأحبوا بعد الهزال يجمع اللحم ، والرجل : أكل من ها هنا ولف ما قدر عليه مما على الخوان ، واضح في ذلك ، وأفشوا وانفشوا - إذا انطلقوا فجفلوا ومروا ذاهبين - وقد انقشوا إذا مروا وذهبوا مسرعين لاجتماعهم في ذلك وجمعهم ما قدروا عليه من متاعهم ، والقش والإقشاش : طلب المأكول من ها هنا وها هنا لجمعه ، والقشة - بالكسر : القردة كأنها لجمعها ما رأت مما يؤكل في فيها ، والصبية الصغيرة الجثة التي لا تكاد تثبت كأنها لاجتماعها في نفسها ، وكذا القشيش : الصغير من الصبيان ، ودويبة كالجعل إما لاجتماعها في نفسها أو لجمعها القاذورات ، والقشيش كأمير : الفقاطة لأنها بجمعها
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (1 / 346)(1/447)
اللقاطون ، وصوت جلد الحية يحك بعضها ببعض ، لأنه لا يكون إلا عند التثني والتجمع ، وقش من الجدري : برئ منه كتقشقش يصلح أن يكون من الفرقة لآنه فارقه ، ومن الجمع لأن البرء جمعه كله فأزاله ، ويمكن أن تكون همزته للإزالة ، وتقششت القروح وتقشقشت - إذا تقشرت للبرء ، إما من الجمع لاجتماع القوى للصحة ، وإما من الفرقة والزوال ، وكذا تقشقش البعير - إذا برئ من الجرب ، ويقال : قششهم بكلامه - إذا تكلم بقبيح الكلام وآذاهم ، أي لجمعه همومهم على بغضه أو معايبهم ، وكذا قش الشيء : جمعه بيده حتى يتحات ، أي قشره جميعه ، فهو يصلح للفرقة والجمع ، وقش : مشى مشى المهزول أي اضطرب ، وهو يوجب الإسراع والتثني فيصلح للجمع ةالفرقة ، وقش : أكل مما يلقيه الناس على المزابل أو أكل كسر الصدقة ، لأن ذلك غاية في الجمع ، وقش النبات : يبس ، فاستحق أن يمجع ، والقش : ردئ التمر كالدقل ونحوه لأنه ، يجمع في نفسه ، والدلو الضخم لكثرة ما يجمع ، وفي الحديث ) قل يا أيها الكافرون ( و ) قل هو الله أحد ( المقشقشان ، أي المبرئتان من الشرك لما في الحديث : اقرأ ) قل يا أيها الكافرون ( عند منامك فإنها براءة من الشرك ، فالمعنى أنهما تجمعان كل شركط ونفاق دقيق أو جليل فتنزيلاته ، والقشقشة يحكى بها الصوت قبل الهدير في محض الشقشقة قبل أن نرعد بالهدير ، لأن مبادئ صوت الهدير زائد الضخامة ، فكأنه جامع ، فكذا ما يحكيه ، والقشقاشة : العصا ، لجمعها ما يراد بها أو لأنها يقشر عنها لحاؤها كما يقشر جلد الحية وأما مقلوبة فيقال فيه : شقة : صدعة أي فرقة ، وقال الخليل : الصدع ربما كان في أحد الوجهين غير نافذ ، والشق لا يكون إلا نافذا ، وشق ناب البعير : طلع ، لأنه فرق اللحم ، وشق العصا : فرق باثنيتين وفرق بين الجماعة ، وشق عليه الأمر : صعب ففرق نفسه ، وشق عليه : أوقعه في مشقة ، وشق بصر المحتضر : نظر إلى شيء لا يرتد إليه طرفه ، لأنه لتصويبه إلى جهة واحدة مفترق من بقية الجهات ، والشق واحد الشقوق ، والصبح لأنه يفرق جيش الظلام ، وجوبة ما بين الشفرين من جهاز المرأة ، والتفريق ومنه شق عصا المسلمين ، واستكالة البرق إلى وسط السماء من غير أن يأخذ يمينا وشمالا لأنه يشق السحاب مستقيما كما يشق اللوح والعصا ، - بالكسر : الجانب لأنه مفارق للجانب الآخر ، واسم لما نظرت إليه لأنه في جانب واحد ، وجنس من أجناس الجن لأنه فرقة منهم ، ومن كل شيء نصفه - ويفتح - ويفتح ، والمال بيني وبينك شق الشعرة - ويفتح : نصفان سواء ، والشقة - بالكسر : شظية من لوح ، ومن العصا والثوب وغيره ما شق مستطيلا ، والشقية : ضرب من الجماع كأنه على شق واحد ، والشقة بالضم والكسر : البعد والناحية يقصدها المسافرؤ ، والسفر البعيد ، وكله واضح في الفرقة ، والمشقة أيضا لأنها تأخذ أحد شقى النفش ، والفرس البعيد ما بين الفروج والطويل ، كأن أجزاءه تفرقت فطال ضد ما تقدم في الصبية الصغيرة ، والأشق أيضا : العجل إذا استحكم كأنه لما تأهل من شق الأرض بالحراثة ، وكل ما اشتق(1/448)
نصفين ، والشقيقة كسفينة : الفرجة بين الجبلين تنبت العشب ، لأنها فرقت بين الجبلين وفرقت عشبها بين ملتم أرضها ، والمطر ، الوابل المتسع لأن الغيم نشقق عنه ، ومن البرق ما نتشر من الأفق لأنه يشق السحاب ، ووجع يأخذ نصف الرأس والوجه ، وشقائق النعمان معروف سميت لحمرتها تشبيها بشقيقة البرق ، كذا قالوا ، وعندي أنها سميت لتفرق أوراقها وتصفقها فكأنها مشققة مع التجمع ، والشقاق كغراب : تشقق يصيب أرساغ الدواب - والشقشقة بالكسر : شيء كالرثة يخرجه البعير من فيه إذا هاج ، كأنه بشق حلقه فيخرج ويوجب هديره الذي يشق الطباق تجويفه ليصوت ، ومنه شقشق الفحل : هذر ، والعصفور : صوت ، وشقق الكلام : أخرجه أحسن مخرج ، وشقق الحطب : فرق كل واحدة باثنتين أو أكثر ، وانشقت العصا : تفرق الأمر ، والاشتقاق : أخذ شق الشيء والأخذ في الكلام وفي الخصومة يمينا وشمالا مع ترك القصد ، لأنه يشق جهات المعاني ، وه أيضا أخذ الكلمة من الكلمة ، فكأنه فرق بين أجزائها ، وهذا أخي وشق نفسي وشقيقي كأنه يشق نسبه من نسبه أو كأنه شقه منه ، وهذه السورة آخر سورة نزلت روى البخاري في التفسير وغيره من صحيحه عن البراء رضي الله عنه قال : آخر آية نزلت ) يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ( وآخر سورة نزلت براءة .
ولما كانت مناسبة أولها - الداعي إلى البراءة مم ن يخشى نقضه - لآخر الأنفال المبين لمن يصلح للولاية المختتم بشمول العلم في حد عظيم من الظهور مع ما تقدم من بيان مناسبة آخر الأعراف لأول الأنفال ، قدمت الأنفال مع قصرها على براءة مع طولها واشتباه أمرها على الصحابة في كونها سورة مستقلة أو بعض سورة كما قدمت آل عمران مع قصرها على النساء لمثل ذلك من المناسبة ، فكان ما ذكر في براءة من البراءة والتولي شرحا لآخر الأنفال ، روى الإمام أحمد يفي المسند وأبو داود في السنن والترمذي في الجامع وحسنه وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وإسحاق بن راهويه وأبو يعلى والبزار والبيهقي والإمام أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي القاضي في تفسيره - بسند الترمذي والبيهقي - والإمام أبو جعفر النحاس بغير سند عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه : ما حملكم على أن عندتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطرا بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموهما في السبع الطول ؟ ما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان رضي الله عنه : كان رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) مما - وقال البستي : ربما - يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا ، وكانت فصتها شبيهة بقصتها ، فظننت أنها منها ، فقبض رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ولم يبين لنا أنها منها ، قال النحاس : وذهب عني أن أسأله عنعا ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر ) بسم الله(1/449)
الرحمن الرحيم ( فوضعتها في السبع الطول - زاد ابن راهويه : وكانتا تدعيان القرينتين - انتهى. فبين أنهما اشتبها عليه وأنه وضعهما في الطول لمناسبتهما لها على تقدير كونها سورة واحدجة ، قال في القاموس : والسبع الطول - كصرد - من البقرة إلى الأعراف ، والسابعة سورة يونس أو الأنفال وبراءة جميعا لأنهما سورة واحدة - انتهى. وقال في الكشاف : وقيل : سورة الأنفال والتوية سورة واحدة كلتاهما نزلت في القتال تعدان السابعة من الطول وبعدها المئون ، وهذا قول ظاهر لأنهما معا مائتان وست فهما بمنزلة سورة واحدة ، وقال بعضهم : هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من يقول : هما سورتان ، وتركت " بسم " لقول من يقول : هما سورة واحدة. انتهى. وعن أبي كعب رضي الله عنه أنه قال : إنما توهموا ذلك لأن في الأنفال ذكر العهود ، وفي براءة نبذ العهود ، ووضعت إحداهما بجنب الأخرى ، والمراد بالمثاني هنا ما دون المئين وفوق المفصل ، قال أبو عبيد الهروي : قيل لها مثاني لأن المئين جعلت مبادئ والتي تليها مثاني - انتهى. والأحسن كون ذلك بالنسبة إلى المفصل من وجهين : الأول أن المفصل أول لقب جامع للسور باعتبار القصر وفوقه المثاني ثم المئون ثم الطول ، فالمثاني ثانية له حقيقة ، وما هي ثانية للمئين إلا أن ألفينا البداءة بالطول من الطرف الآخر ، الثاني أنها لما زادت على المفصل كانت قسمة السورة منها في ركعتين من الصلاة كقراءة سورتين من المفصل فكانت مثاني لتثنيتها في مجموع الصلاة باعتبار قراءة بعضها في كل من الركعتين ، قال أبو جعفر النحاس : قال أبو إسحاق : حدثني بعض أصحابنا عن صاحبنا محمد بن يزيد أنه قال : لم تكتب في أولها بسم الله ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سألت عليا رضي الله عنه : لم تكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " ها هنا ؟ قال : لأن بسم الله الرحمن الرحيم " أمان - انتهى. وبهذا أخذ الإمام أبو القاسم الشاطبي في قصيدته حيث قال :
ومهما تصلها أو بدأت براءة تنزيلها بالسيف لست مبسملا
وقال في الكشاف : وسئل ابن عيينة فقال : أسنَّ الله سلام وأمان ، فلا يكتب في النبذ والمحاربة ، قال الله تعالى ) ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ) [ النساء : 94 ] قيل : فإن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قد كتب إلى أهل الحرب " بسم الله الرحمن الرحيم " قال : إنما ذلك ابتداء ، يدعوهم ولم ينبذ إليهم ، ألا تراه يقول " سلام على من اتبع الهدى " فمن دعى إلى الله فأجاب ودعى إلى الجزية فأجاب فقد اتبع الهدى ، وأما النبذ فإنما هو البراءة واللعنة - انتى. ولا يعارض هذا خبر ابن عباس عن عثمان رضي الله عنهما ، بل هو شبيه لما نزلت من غير بسملة للمعنى المذكور ، اشتبه أمرها على الصحابة رضوان الهل عليهم ، ولم يقع سؤال عنها حتى توفي رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، فكانت موافقتهم للسور في تسميتها باسم يخصها دليلا على أنها سورة برأسها ، ومخلفتهعم في ترك إنزال البسملة في أولها مع احتمال أنها تركت(1/450)
للمعنى المذكور أو لغيره دليلا على أنها بعض سورة ، فقد روى أبو داود والحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) لا يعرف فصل السورة - وفي رواية : لا يعلم انقضاء السورة حتى ينزل عليه ) بسم الله الرحمن الرحيم ( قال الحافظ أبو شامة : هذا حديث حسن وللحاكم في المستدرك أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهعما قال : كان المسلمون لا يعلمون انقضاؤء السورة حتى ينزل " : بسم الله الرحمن الرحيم " فلما نزل علم أن السورة قد انقضت فلما اشتبه أمرها تركوا كتابة البسملة في أولها وفصلوها عن الأنفال قليلا - والله الموفق. هذا وقد مضى بيان تشابه فصتيهما في أول الأنفال وأثناء الأعراف إجمالا ، وأما تفصيلا فلما في كل منهمت من نبذ العهد إلى من خيف نقضه ، وأن المسجد الحرام لا يصلح لولايته إلا المتقون ، وأن المشركين نجس لا صلاحية فيهم لقربانه ، وأن قلة حزب الله لا تضرهم إذا لزموا دعائم النصر الخمس وكثرتهم لا تغنيهم إذا حصل في ثباتهم لبس ، والحث على الجهاد في غيبر موضع ، وضمان الغنى كما أشار إليه في الأنفال بقوله ) لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ) [ الأنفال : 4 ] وذك أحكام الصدقات التي هي من وادي الغنائم ، وعد أصناف كل ، والأمر بالإنفاق المشار إليه في الإنفاق وغيره كما فعلوا في مال التجارة الذي أرصدوه حتى به على غزوة أحد المشار إليه في الأنفال بقوله ) ) والذين كفروا ينفقون أموالهم ) [ الأتفال : 73 ] أي بالتناصر في الأنفال وغيره كما فعلوا في مال التجارة الذي أرصدوه حتى استعانوا به على غزوة أحد المشار إليه بآية ) إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ) [ الأنفال : 36 ] مع آية ) إلا تفعلوه ) [ الأنفال : 49 ] والأمر الجامع للكل أنهما معا في بيان حال النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) في أول أمره وأثنائه ومنتهاه ، وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في كتابه : اتصالها بالأنفال أوضح من أن يتكلف بتوجيهه حتى أن شدة المشابهة والالتئام - مع أن الشارع عليه السلام لم يكن بين انفصالهما - أوجب أن لا يفصل بينهما [ ) بسم الله الرحمن الرحيم ( ، وذلك أن الأنفال قد تضمنت الأمر بالقتال ) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) [ الأنفال : 39 ] وبين أحكام الفرار من الزحف وحكم النسبة المطلوب فيها بالثبوت ولحوق التأثيم للفار وأنها على حكم الضعف وحكم الأسرى وحكم ولاية المؤمنين وما يدخل تحت هذه الولاية ومن يخرج عنها ، ثم ذكر يفي السورة الأخرى حكم من عهد إليه من المشركين والبراءة منهم إذا لم يوفوا ، وحكم من استجار منهم إلى ما يتعلق بهذا ، وكله باب واحد ، وأحكام متواردة على قصة واحدة ، وهو تحرير حكم المخالف ، فالتحمت السورتان أعظم التحام ، ثم عاد الكلام إلى حكم المنافقين وهتك أستارهم ، انتهى. وأما تطابق آخر الأنفال مع أولها فقد ظهر مما مضى ، وأيضا فلما ذكر في آخر التي قبلها أمر العهد تارة بنبذه إلى من خيفت خيانته كائنا من كان في قوله ) فانبذ إليهم على سواء ) [ الأنفال : 58 ] وتارة(1/451)
بالتمسك به عند الأمن من ذلك في وقه ) إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ) [ الأنفال : 72 ] وبين من يصلح للموالاة ومن لا يصلح ، وختمت بالإخبار بشمول علمه (1)
هذه السورة مدنية من أواخر ما نزل من القرآن - إن لم تكن هي آخر ما نزل من القرآن (2) - ومن ثم قد تضمنت أحكاما نهائية في العلاقات بين الأمة المسلمة وسائر الأمم في الأرض كما تضمنت تصنيف المجتمع المسلم ذاته ، وتحديد قيمه ومقاماته ، وأوضاع كل طائفة فيه وكل طبقة من طبقاته (3) ، ووصف واقع هذا المجتمع بجملته وواقع كل طائفة منه وكل طبقة وصفا دقيقا مصورا مبينا.
والسورة - بهذا الاعتبار - ذات أهمية خاصة في بيان طبيعة المنهج الحركي للإسلام ومراحله وخطواته - حين تراجع الأحكام النهائية التي تضمنتها مع الأحكام المرحلية التي جاءت في السور قبلها - وهذه المراجعة تكشف عن مدى مرونة ذلك المنهج وعن مدى حسمه كذلك. وبدون هذه المراجعة تختلط الصور والأحكام والقواعد ، كما يقع كلما انتزعت الآيات التي تتضمن أحكاما مرحلية فجعلت نهائية ثم أريد للآيات التي تتضمن.
الأحكام النهائية أن تفسر وتؤول لتطابق تلك الأحكام المرحلية وبخاصة في موضوع الجهاد الإسلامي ، وعلاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الأخرى. مما نرجو أن يوفقنا اللّه لإيضاحه وبيانه في هذا التقديم وفي ثنايا استعراض النصوص القرآنية للسورة.
ومن مراجعة نصوص السورة مراجعة موضوعية ومراجعة ما جاء في الروايات المأثورة عن أسباب النزول وملابساته ومراجعة أحداث السيرة النبوية كذلك .. يتبين أن السورة بجملتها نزلت في العام التاسع من الهجرة ..
ولكنها لم تنزل دفعة واحدة .. ومع أننا لا نملك الجزم بالمواقيت الدقيقة التي نزلت فيها مقاطع السورة في خلال العام التاسع ، إلا أنه يمكن الترجيح بأنها نزلت في ثلاث مراحل .. المرحلة الأولى منها كانت قبل غزوة تبوك في شهر رجب من هذا العام. والمرحلة الثانية كانت في أثناء الاستعداد لهذه الغزوة ثم في ثناياها. والمرحلة الثالثة كانت بعد العودة منها. أما مقدمات السورة من أولها إلى نهاية الآية الثامنة
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (3 / 255)
(2) - الرواية الراجحة أن سورة النصر هي آخر سورة نزلت ..
(3) - الطبقات التي نعنيها في المجتمع المسلم ليست طبقات اجتماعية بالمعنى الصغير المفهوم الآن من الطبقية ولكنها الطبقات التي تقوم على قيم إسلامية بحتة كالسابقين من المهاجرين والأنصار ، وأهل بدر ، وأصحاب بيعة الرضوان ومن أنفق من قبل الفتح وقاتل ، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل ، والقاعدين ، والمنافقين ... إلخ متأخرة في نهاية السنة التاسعة قبيل موسم الحج في ذي القعدة أو في ذي الحجة .. وهذا - على الإجمال - هو كل ما يمكن ترجيحه والاطمئنان إليه.(1/452)
والعشرين منها فقد نزلت وقد تضمنت السورة في المقطع الأول منها - من أولها إلى ختام الآية الثامنة والعشرين - تحديدا للعلاقات النهائية بين المعسكر الإسلامي والمشركين عامة في الجزيرة مع إبراز الأسباب الواقعية والتاريخية والعقيدية التي يقوم عليها هذا التحديد ، بالأسلوب القرآني الموحي المؤثر ، وفي تعبيرات قوية الإيقاع حاسمة الدلالة ، عميقة التأثير هذه نماذج منها :
«بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ، وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ. وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ، فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً ، فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ، فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ، فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ». «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ - إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ؟ - فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ، يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ.اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ. فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ، وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ، إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ. أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ، وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؟ أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ ، وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً؟ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ...».... «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ - إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ - وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. قُلْ : إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ ، وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها ، وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ، وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها .. أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ .. فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» ..... «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ، فَلا(1/453)
يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ، وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ - إِنْ شاءَ - إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
وظاهر من الأسلوب القرآني في الآيات التي اقتطفناها هنا ، وفي آيات المقطع كله ومن القوة في التخضيض والتأليب على قتال المشركين ومقاطعتهم في الجزيرة قاطبة ، مدى ما كان يعتلج في نفوس الجماعة المسلمة - أو فريق منها على الأقل له وزنه - من التحرج والتخوف والتردد في اتخاذ هذه الخطوة الحاسمة في ذلك الحين ، بسبب عوامل شتى نرجو أن نكشف عنها في هذا التقديم وفي أثناء استعراض النصوص القرآنية قريبا.
أما المقطع الثاني - في السورة - فقد تضمن تحديدا للعلاقات النهائية كذلك بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب عامة مع بيان الأسباب العقيدية والتاريخية والواقعية التي تحتم هذا التحديد وتكشف كذلك عن طبيعة الإسلام وحقيقته المستقلة وعن انحراف أهل الكتاب عن دين اللّه الصحيح عقيدة وسلوكا بما يجعلهم - في اعتبار الإسلام - ليسوا على دين اللّه الذي نزله لهم والذي به صاروا أهل كتاب : «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ، حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ.»
«وقالت اليهود عزير ابن اللّه ، وقالت النصارى المسيح ابن اللّه .. ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل .. قاتلهم اللّه! أنى يؤفكون؟ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه والمسيح ابن مريم ، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا ، لا إله إلا هو ، سبحانه عما يشركون.«يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ .. هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ».
وظاهر كذلك من الأسلوب القرآني في هذا المقطع أنه مواجهة لما كان في النفوس يومذاك من تهيب وتردد في مواجهة أهل الكتاب عامة - أو الغالبية العظمى منهم - بهذا اللون من العلاقات التي تنص عليها الآية الأولى في المقطع .. وحقيقة إن المقصود - كان - بالمواجهة ابتداء هم الروم وحلفاؤهم من نصارى العرب في الشام وما وراءها وهذا وحده كان يكفي للتردد والتهيب لما كان للروم من بأس وسمعة تاريخية بين أهل الجزيرة ..(1/454)
ولكن النص عام في أهل الكتاب عامة ممن تنطبق عليهم الأوصاف الواردة في الآية كما سنفصل - إن شاء اللّه - عند مواجهة النصوص.
وفي المقطع الثالث يبدأ النعي على المتثاقلين الذين دعوا إلى التجهز للغزوة فتثاقلوا إلى الأرض وتكاسلوا عن النفير .. وهؤلاء ليسوا كلهم من المنافقين كما سيتبين ، مما يشي بمشقة هذه الخطوة ، وهذه الغزوة ، على النفوس في ذلك الحين للأسباب التي نرجو أن نفصلها - بإذن اللّه - ونقف عندها في حينها : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ : انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ؟ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ؟ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ. إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً ، وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ، وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ ، إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ : لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى ، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ».
وظاهر من صيغ التأنيب والتهديد والتوكيد المكررة في هذا المقطع ومن تذكير الذين آمنوا بنصر اللّه للرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ أخرجه الذين كفروا دون أن يكون لأحد من البشر مشاركة في هذا النصر ومن الأمر الجازم لهم بأن ينفروا خفافا وثقالا .. ظاهر من هذا كله ما كان في الموقف من مشقة ومن تخلف ومن قعود ومن تهيب ومن تردد ، اقتضى هذا الحشد من التأنيب والتهديد والتوكيد والتذكير والأمر الشديد ..
ثم يجيء المقطع الرابع في سياق السورة - وهو أطول مقاطعها ، وهو يستغرق أكثر من نصفها - في فضح المنافقين وأفاعيلهم في المجتمع المسلم ، ووصف أحوالهم النفسية والعملية ، ومواقفهم في غزوة تبوك وقبلها وفي أثنائها وما تلاها ، وكشف حقيقة نواياهم وحيلهم ومعاذيرهم في التخلف عن الجهاد وبث الضعف والفتنة والفرقة في الصف ، وإيذاء رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - والخلص من المؤمنين. يصاحب هذا الكشف تحذير الخلصاء من المؤمنين من كيد المنافقين ، وتحديد العلاقات بين هؤلاء وهؤلاء ، والمفاصلة بين الفريقين وتمييز كل منهما بصفاته وأعماله .. وهذا القطاع يؤلف في الحقيقة جسم السورة ويتجلى من خلاله كيف عاد النفاق بعد فتح مكة فاستشرى بعد ما كاد أن يتلاشى من المجتمع المسلم قبيل الفتح ، مما سنكشف عن أسبابه في فقرة تالية. ولن نملك أن نستعرض هنا هذا القطاع بطوله فنكتفي بفقرات منه تدل على طبيعته : « لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) [التوبة : 42 ]».(1/455)
... «وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ، وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ ، وَقِيلَ : اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ. لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا ، وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ .. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ ، وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ».
«وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي ، أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ. إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا : قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ ، وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ» ...... «وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ ، وَما هُمْ مِنْكُمْ ، وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ. لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ». «وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَقالُوا : حَسْبُنَا اللَّهُ ، سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ ، إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ» ...... «وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ. قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ، يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ».«يحلفون باللّه لكم ليرضوكم ، واللّه ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين. ألم يعلموا أنه من يحادد اللّه ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ، ذلك الخزي العظيم».
«يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ ، قُلِ : اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ : إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ، قُلْ : أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ؟. لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ، إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ».
«الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ، يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ، وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ، نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ، إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ. وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ ، وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ»..... «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا ، وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ ، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ، وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ، فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ ، وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» ..
«ومنهم من عاهد اللّه لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين. فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون. فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا اللّه ما وعدوه ، وبما كانوا يكذبون» ..
«الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ(1/456)
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) [التوبة : 79-85] ...إلخ ...
وهذه الحملة الطويلة الكاشفة تشي بما كان للمنافقين في هذه الفترة من محاولات كثيرة لإيذاء الصف المسلم وفتنته وشغله بشتى الفتن والدسائس والأكاذيب عن وجهته. كما أنها في الوقت ذاته تكشف عن حالة من الخلخلة وعدم التناسق في التكوين العضوي للمجتمع الإسلامي في هذه الفترة يشير إليها قول اللّه سبحانه :
«وفيكم سماعون لهم» كما يشير إليها النهي المشدد عن الاستغفار للمنافقين أو الصلاة عليهم .. هذه الحالة التي نشأت عن دخول جماعات كثيرة في الإسلام بعد الفتح لم يكن الإيمان قد استقر في قلوبهم ، ولا كانوا قد انطبعوا بالطابع الإسلامي الصحيح مما سنفصل القول فيه بعد استعراض التصنيف القرآني الوارد في السورة لهذه الجماعات المتنوعة التي كان المجتمع المسلم يتألف منها في هذه الفترة.
والمقطع الخامس في سياق السورة هو الذي يتولى هذا التصنيف. ومنه نعلم أنه كان إلى جوار السابقين المخلصين من المهاجرين والأنصار - وهم الذين كانوا يؤلفون قاعدة المجتمع المسلم الصلبة القوية - جماعات أخرى .. الأعراب وفيهم المخلصون والمنافقون والذين لم تخالط قلوبهم بشاشة الإيمان والمنافقون من أهل المدينة. وآخرون خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ولم يتم انطباعهم بالطابع الإسلامي ولم يصهروا في بوتقة الإسلام تماما. وطائفة مجهولة الحال لا تعرف حقيقة مصيرها متروك أمرها للّه وفق ما يعلمه من حقيقة حالها ومآلها. ومتآمرون يتسترون باسم الدين! ..
والنصوص القرآنية تتحدث عن هذه الجماعات كلها في اختصار مفيد وتقرر كيف تعامل في المجتمع المسلم ، وتوجه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - والخلص من المسلمين إلى طريقة التعامل مع كل منهم : «الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً ، وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ ، عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ ، سَيُدْخِلُهُمُ(1/457)
اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».
«وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ ، لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ».
«وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها ، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ...».... «وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ ، إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً ، لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ..» إلخ.
وظاهر من تعدد الطوائف والطبقات والمستويات الإيمانية في المجتمع المسلم - كما تصفه هذه النصوص - مدى الخلخلة التي وجدت فيه بعد الفتح ، مما كان المجتمع قد برئ منه أو كاد قبيل فتح مكة كما سيجيء.
والمقطع السادس في سياق السورة يتضمن تقريرا لطبيعة البيعة الإسلامية مع اللّه على الجهاد في سبيله وطبيعة هذا الجهاد وحدوده ، وواجب أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب فيه ، وأنه لا يحل لهم أن يتخلفوا عنه وما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول اللّه ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه وضرورة المفاصلة مع المشركين والمنافقين .. وفي ثنايا هذا المقطع يرد بيان لما قضى اللّه به في شأن بعض الذين تخلفوا عن الغزوة مخلصين غير منافقين ووصف لبعض أحوال المنافقين وموقفهم تجاه ما يتنزل من القرآن الكريم : «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ، وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ؟ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» ...... «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى ، مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» ..... «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ ، إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ ، وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ(1/458)
الرَّحِيمُ»...... «ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ ، إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً ، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ، لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ».
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» ...... «وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ : هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ ثُمَّ انْصَرَفُوا ، صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» ..
وفي النهاية تختم السورة بصفة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وبتوجيهه من ربه إلى التوكل عليه وحده والاكتفاء بكفالته سبحانه :«لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ : حَسْبِيَ اللَّهُ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ».
ولقد أطلنا الاقتباس من نصوص السورة في هذا الاستعراض الإجمالي - قبل مواجهة هذه النصوص فيما بعد بالتفصيل - عن قصد! ذلك أن سياق السورة يرسم صورة كاملة للمجتمع المسلم في فترة ما بعد الفتح ، ويصف تكوينه العضوي .. وفي هذه الصورة يتجلى نوع من الخلخلة وقلة التناسق بين مستوياته الإيمانية كما تتكشف ظواهر وأعراض من الشح بالنفس والمال ، ومن النفاق والضعف ، والتردد في الواجبات والتكاليف ، والخلط وعدم الوضوح في تصور العلاقات بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات الأخرى ، وعدم المفاصلة الكاملة على أساس العقيدة - وإن كان هذا كله لا يتعارض مع وجود القاعدة الصلبة الأمينة الخالصة من المهاجرين والأنصار - مما استدعى حملات طويلة مفصلة ومنوعة للكشف والتوعية والبيان والتقرير ، تفي بحاجة المجتمع إليها.
ولقد سبق أن أشرنا إجمالا إلى أن سبب هذه الحالة هو دخول جماعات كثيرة متنوعة من الناس في الإسلام بعد الفتح لم تتم تربيتها ولم تنطبع بعد بالطابع الإسلامي الأصيل. إلا أن هذه الإشارة المجملة لا يمكن فهمها بوضوح إلا بمراجعة الواقع التاريخي الحركي قبل الفتح وبعده .. وسنحاول أن نلم به هنا بأشد اختصار ممكن قبل التعليق بشيء على دلالة هذا الواقع التاريخي ومغزاه ، ودلالة النصوص القرآنية التي وردت في سياق هذه السورة كذلك.(1/459)
لقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة فلم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش - تحس بالخطر الحقيقي الذي يتهددها من دعوة : «أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه» وما تمثله من ثورة على كل سلطان أرضي لا يستمد من سلطان اللّه ومن تمرد نهائي على كل طاغوت في الأرض والفرار منه إلى اللّه.
ثم بالخطر الجدي من التجمع الحركي العضوي الجديد الذي أنشأته هذه الدعوة تحت قيادة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - هذا التجمع الذي يدين منذ اليوم الأول بالطاعة للّه ولرسول اللّه ويتمرد ويخرج على القيادة الجاهلية الممثلة في قريش والأوضاع السائدة في هذه الجاهلية.
لم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش أول الأمر - تحس بهذا الخطر وذاك حتى شنتها حربا شعواء على الدعوة الجديدة ، وعلى التجمع الجديد ، وعلى القيادة الجديدة وحتى أرصدت لها كل ما في جعبتها من أذى ومن كيد ومن فتنة ومن حيلة ..
لقد انتفض التجمع الجاهلي ليدفع عن نفسه الخطر الذي يتهدد وجوده بكل ما يدفع به الكائن العضوي خطر الموت عن نفسه .. وهذا هو الشأن الطبيعي الذي لا مفر منه كلما قامت دعوة إلى ربوبية اللّه للعالمين في مجتمع جاهلي يقوم على أساس من ربوبية العباد للعباد وكلما تمثلت الدعوة الجديدة في تجمع حركي جديد ، يتبع في تحركه قيادة جديدة ، ويواجه التجمع الجاهلي القديم مواجهة النقيض للنقيض!
وعندئذ تعرض كل فرد في التجمع الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها ، إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان .. ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه ، والانضمام إلى التجمع الإسلامي الوليد ، والدينونة لقيادته الجديدة ، إلا كل من نذر نفسه للّه وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان ..
بذلك تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عودا في المجتمع العربي فأما العناصر التي لم تحتمل هذه الضغوط فقد فتنت عن دينها وارتدت إلى الجاهلية مرة أخرى وكان هذا النوع قليلا ، فقد كان الأمر كله معروفا مكشوفا من قبل فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام ، وقطع الطريق الشائك الخطر المرهوب إلا العناصر المختارة الممتازة الفريدة التكوين.
وهكذا اختار اللّه السابقين من المهاجرين من تلك العناصر الفريدة النادرة ، ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين في مكة ثم ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين بعد ذلك في المدينة مع السابقين من الأنصار الذين وإن كانوا لم يصطلوها في أول الأمر كما اصطلاها المهاجرون ، إلا أن بيعتهم لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - (بيعة العقبة) قد دلت على أن عنصرهم ذو طبيعة أصيلة مكافئة لطبيعة هذا الدين .. قال ابن كثير في التفسير : «وقال محمد بن كعب القرظي وغيره : قال عبد اللّه بن رواحة رضي اللّه عنه لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - (يعني ليلة العقبة) : اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال : «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا(1/460)
به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم» قالوا : فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال : «الجنة». قالوا : ربح البيع ، ولا نقيل ولا نستقيل».
ولقد كان هؤلاء الذين يبايعون رسول اللّه هذه البيعة ولا يرتقبون من ورائها شيئا إلا الجنة ويوثقون هذا البيع فيعلنون أنهم لا يقبلون أن يرجعوا فيه ولا أن يرجع فيه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ! يعلمون أنهم لا يبايعون على أمر هين بل كانوا مستيقنين أن قريشا وراءهم ، وأن العرب كلها سترميهم وأنهم لن يعيشوا بعدها في سلام مع الجاهلية الضاربة الأطناب من حولهم في الجزيرة وبين ظهرانيهم في المدينة.
ومن رواية ابن كثير في كتابه : «البداية والنهاية» : «قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر ابن خيثم ، عن أبي الزبير ، عن جابر. قال : مكث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بمكة عشر سنين ، يتبع الناس في منازلهم .. عكاظ والمجنة .. وفي المواسم ، يقول : «من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة». فلا يجد أحدا يؤويه ولا ينصره. حتى إن الرجل ليخرج من اليمن ، أو من مضر - كذا قال فيه - فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون : احذر غلام قريش لا يفتنك. ويمضي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا اللّه إليه من يثرب ، فآويناه وصدقناه ، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ، ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه ، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام. ثم ائتمروا جميعا ، فقلنا : حتى متى نترك رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم فواعدناه شعب العقبة ، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين ، حتى توافينا. فقلنا : يا رسول اللّه علام نبايعك؟ قال : «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، والنفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن تقولوا في اللّه لا تخافوا في اللّه لومة لائم ، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ، ولكم الجنة». فقمنا إليه وأخذ بيده أسعد بن زرارة - وهو من أصغرهم - وفي رواية البيهقي - وهو أصغر السبعين - إلا أنا. فقال : رويدا يا أهل يثرب فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول اللّه ، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة ، وقتل خياركم ، وتعضكم السيوف.
فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على اللّه ، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه ، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند اللّه .. قالوا : أبط عنا يا أسعد! فو اللّه لا ندع هذه البيعة ، ولا نسلبها أبدا! قال : فقمنا إليه ، فبايعناه ، وأخذ علينا وشرط ، ويعطينا على ذلك الجنة» (و قد رواه الإمام أحمد أيضا والبيهقي من طريق داود بن عبد الرحمن العطار - زاد البيهقي عن الحاكم - بسنده إلى يحيى بن سليم كلاهما عن عبد اللّه بن عثمان بن خيثم عن أبي إدريس به نحوه. وهذا إسناد جيد على(1/461)
شرط مسلم ولم يخرجوه. وقال البزار : وروى غير واحد غير ابن خيثم ، ولا نعلمه يروى عن جابر إلا من هذا الوجه).
فقد كان الأنصار إذن يعلمون - عن يقين واضح - تكاليف هذه البيعة وكانوا يعلمون أنهم لم يوعدوا على هذه التكاليف شيئا في هذه الحياة الدنيا - حتى ولا النصر والغلبة - وأنهم لم يوعدوا عليها إلا الجنة .. ثم كان هذا مدى وعيهم بها ومدى حرصهم عليها .. فلا جرم أن يكونوا - مع السابقين من المهاجرين الذين بنوا هذا البناء وأعدوا هذا الإعداد - هم القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم أول العهد بالمدينة ..
ولكن مجتمع المدينة لم يظل بهذا الخلوص والنقاء .. لقد ظهر الإسلام وفشا في المدينة واضطر أفراد كثيرون - ومعظمهم من ذوي المكانة في قومهم - أن يجاروا قومهم احتفاظا بمكانتهم فيهم .. حتى إذا كانت وقعة بدر قال كبير هؤلاء عبد اللّه بن أبيّ بن سلول : هذا أمر قد توجه! وأظهر الإسلام نفاقا. ولا بد أن كثيرين قد جرفتهم الموجة فدخلوا في الإسلام تقليدا - ولو لم يكونوا منافقين - ولكنهم لم يكونوا بعد قد فقهوا في الإسلام ولا انطبعوا بطابعه .. مما أنشأ تخلخلا في بناء المجتمع المدني ناشئا عن اختلاف مستوياته الإيمانية.
وهنا أخذ المنهج القرآني التربوي الفريد ، بقيادة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يعمل عمله في هذه العناصر الجديدة ويعمل كذلك على إعادة التناسق والتوافق بين المستويات العقيدية والخلقية والسلوكية للعناصر المختلفة الداخلة في جسم المجتمع الوليد.
وحين نراجع السور المدنية - بترتيب النزول التقريبي - فإننا نطلع على الجهد الكبير الذي بذل في عملية الصهر الجديدة للعناصر المتنوعة في المجتمع المسلم وبخاصة أن هذه العناصر ظلت تتوارد على هذا المجتمع - على الرغم من وقفة قريش العنيدة وتأليبها لكل قبائل الجزيرة ، ومن وقفة اليهود البشعة وتأليبهم كذلك للعناصر المعادية للدين الجديد والتجمع الجديد - وظلت الحاجة مستمرة لعمليات الصهر والتنسيق بصورة دائمة لا تفتر ولا تغفل لحظة ..
ومع هذا الجهد كله كانت ما تزال تظهر بين الحين والحين - وبخاصة في فترات الشدة - أعراض من الضعف ، والنفاق والتردد ، والشح بالنفس والمال ، والتهيب من مواجهة المخاطر .. وبصفة خاصة أعراض من عدم الوضوح العقيدي الذي يحسم في العلاقة بين المسلم وقرابته من أهل الجاهلية .. والنصوص القرآنية في السور المتوالية تكشف لنا عن طبيعة هذه الأعراض التي كان المنهج القرآني يتعرض لها بالعلاج بشتى أساليبه الربانية الفريدة .. نذكر منها على سبيل المثال : «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ. يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ(1/462)
وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ «1»» ... (الأنفال : 5 - 8) «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ، وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ : آمَنَّا بِهِ ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ، وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ. رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ ، إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ» ... (آل عمران : 7 - 9) «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ : لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً ، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» ... (الحشر : 11 - 13) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها ، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ ، وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ، هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ : ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ : يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ، وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ : إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ - وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ - إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً. وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً ... إلخ» (الأحزاب : 9 - 14) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ، فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً. وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ، فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ : قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً. وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ - كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ - : يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً» ... (النساء : 71 - 73) «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ : كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ، وَقالُوا : رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ! قُلْ : مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى ، وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا : هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا : هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ. قُلْ : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ...» ...النساء : 77 - 78) «إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ، وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ. إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ، وَمَنْ(1/463)
يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ ، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» ..(محمد : 36 - 38).
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ ، وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ. اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ، أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ ، أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ ، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ. لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ، أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ... (المجادلة : 14 - 22).
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) [الممتحنة : 1 - 5]
وحسبنا هذه النماذج العشرة من شتى السور ، للدلالة على ما كان يظهر في المجتمع المسلم من أعراض ..
نتيجة طبيعية وحتمية لدخول عناصر جديدة فيه بصفة مستمرة ، لا يتم صهرها وتنسيقها مع القاعدة الصلبة الخالصة إلا بعد فترة وجهد وتربية مستمرة ..
إلا أن قوام المجتمع المسلم في المدينة كان يظل سليما في جملته بسبب اعتماده أساسا على تلك القاعدة الصلبة الخالصة من السابقين من المهاجرين والأنصار وما تحدثه من تماسك وصلابة في قوامه في وجه جميع الأعراض والظواهر والخلخلة أحيانا ، والتعرض للمخاطر التي تكشف عن هذه العناصر التي لم يتم بعد صهرها ونضجها وتماسكها وتناسقها.(1/464)
وشيئا فشيئا كانت هذه العناصر تنصهر وتتطهر وتتناسق مع القاعدة ويقل عدد الناشزين من ضعاف القلوب ومن المنافقين ومن المترددين كذلك والمتهيبين وممن لم يتم في نفوسهم الوضوح العقيدي الذي يقيمون على أساسه كل علاقاتهم مع الآخرين .. حتى إذا كان قبيل فتح مكة كان المجتمع الإسلامي أقرب ما يكون إلى التناسق التام مع قاعدته الصلبة الخالصة وأقرب ما يكون بجملته إلى النموذج الذي يهدف إليه المنهج التربوي الرباني الفريد ..
نعم إنه كانت في هذا المجتمع ما تزال هناك أقدار متفاوتة أنشأتها الحركة العقيدية ذاتها فتميزت مجموعات من المؤمنين بأقدارها على قدر بلائها في الحركة وسبقها وثباتها .. تميز السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.
وتميز أهل بدر. وتميز أصحاب بيعة الرضوان في الحديبية. ثم تميز بصفة عامة الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا. وجاءت النصوص القرآنية ، والأحاديث النبوية ، والأوضاع العملية في المجتمع المسلم ، تؤكد هذه الأقدار التي أنشأتها الحركة بالعقيدة وتنص عليها.
«وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .. (التوبة : 100).
«لعل اللّه اطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد وجبت لكم الجنة» .. (من حديث أخرجه البخاري. وكان هذا رد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على عمر - رضي اللّه عنه - وقد استأذن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في أن يضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة حينما أدركته لحظة ضعف فأرسل إلى قريش سرا ينبئهم بتجهز رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لفتح مكة).«لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ، وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» ... (الفتح : 18 - 19).
«لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» ... (الحديد : 10).
«مهلا يا خالد ، دع عنك أصحابي فو اللّه لو كان لك أحد ذهبا ، ثم أنفقته في سبيل اللّه ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحة» ... (أورده ابن القيم في زاد المعاد وهو رد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على خالد بن الوليد إذ تلاحى مع عبد الرحمن بن عوف - رضي اللّه عنهما - وخالد هو سيف اللّه. ولكن عبد الرحمن من السابقين الأولين. فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لخالد : «دع عنك أصحابي» وهو يعني هذه الطبقة ذات القدر الخاص المتميز في المجتمع المسلم في المدينة.(1/465)
ولكن تميز هذه الطبقات بأقدارها الإيمانية التي أنشأتها الحركة الإسلامية ، لم يكن مانعا أن تتقارب المستويات الإيمانية وتتناسق في مجتمع المدينة قبيل الفتح وأن يتوارى الكثير من أعراض الخلخلة في الصف ، والكثير من ظواهر الضعف والتردد ، والشح بالنفس والمال ، وعدم الوضوح العقيدي ، والنفاق .. من ذلك المجتمع.
بحيث يمكن اعتبار المجتمع المدني بجملته هو القاعدة الإسلامية.
إلا أن فتح مكة في العام الثامن الهجري ، وما أعقبه من استسلام هوازن وثقيف في الطائف وهما آخر قوتين كبيرتين بعد قريش في الجزيرة ، قد عاد فصب في المجتمع المسلم أفواجا جديدة كثيرة دخلت في الدين مستسلمة على درجات متفاوتة من المستويات الإيمانية وفيهم كارهون للإسلام منافقون وفيهم المنساقون إلى الإسلام الظاهر القاهر ، وفيهم المؤلفة قلوبهم ، دون انطباع بحقائق الإسلام الجوهرية ولا امتزاج بروحه الحقيقية.
لقد كانت وقفة قريش العنيدة الطويلة حاجزا قويا دون انسياح الإسلام في الجزيرة العربية. فقد كانت قريش هي صاحبة الكلمة العليا في الشؤون الدينية في الجزيرة - فوق ما كان لها من نفوذ اقتصادي وسياسي وأدبي كذلك - فكانت وقفتها في وجه الدين الجديد ، بهذه الصورة العنيدة ، مدعاة لصرف العرب في أنحاء الجزيرة عن الدخول فيه ، أو على الأقل مدعاة للتردد والانتظار حتى تنجلي المعركة بين قريش وهذا النبي من أبنائها! ... فلما دانت قريش بالفتح ، ودانت بعدها هوازن وثقيف في الطائف وكانت قبائل اليهود الثلاث القوية في المدينة قد خضدت شوكتها نهائيا فأجليت بنو قينقاع وبنو النضير إلى الشام ، وأبيدت بنو قريظة ، واستسلمت خيبر الاستسلام الأخير ... كان ذلك إيذانا بدخول الناس في دين اللّه أفواجا ، وانسياح الإسلام في أرجاء الجزيرة كلها في خلال عام واحد.
غير أن هذا الاتساع الأفقي في رقعة الإسلام قد أعاد معه جميع الأعراض والظواهر التي ظهرت في المجتمع بعد انتصار بدر - ولكن على نطاق أوسع - بعد ما كاد المجتمع يبرأ منها بتأثير التربية الطويلة المدى ، المستمرة التأثير في خلال السنوات السبع بعد بدر الكبرى! ولولا أن المجتمع المدني بجملته كان قد تحول إلى أن يكون هو القاعدة الصلبة الخالصة لهذه العقيدة ، والأساس الركين لهذا المجتمع لكان هناك خطر كبير من هذا الاتساع الأفقي السريع في رقعة الإسلام في الجزيرة. ولكن اللّه الذي كان يدبر لهذا الأمر ويرعاه ، كان قد أعد العصبة المؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لتكون هي القاعدة الأمينة لهذا الدين بعد التوسع النسبي الذي جاء به انتصار بدر كما أنه - سبحانه - كان قد أعد المجتمع المدني بجملته ليكون هو القاعدة الأمينة بعد التوسع الشديد السريع الذي جاء به فتح مكة .. واللّه أعلم حيث يجعل رسالته ..(1/466)
وأول ما ظهر من ذلك كان يوم حنين الذي جاء عنه في هذه السورة : «التوبة» : «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ، ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها ، وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ» ..
وكان من الأسباب الظاهرة لهذه الهزيمة في أول الأمر أن ألفين من «الطلقاء» الذين أسلموا يوم الفتح ، قد خرجوا مع الآلاف العشرة من جند المدينة الذين فتحوا مكة. فكان وجود هذين الألفين - مع عشرة آلاف - سببا في اختلال التوازن في الصف - بالإضافة إلى عامل المفاجأة من هوازن - ذلك أن الجيش لم يكن كله من القاعدة الصلبة الخالصة التي تمت تربيتها وتناسقها في الزمن الطويل ما بين بدر والفتح.
كذلك كان ما ظهر في أثناء غزوة تبوك من الأعراض والظواهر المؤذية ثمرة طبيعية لهذا الاتساع الأفقي السريع ودخول تلك الأفواج الجديدة ، بمستوياتها الإيمانية والتنظيمية المخلخلة .. هذه الظواهر والأعراض التي تحدثت عنها سورة التوبة ، والتي اقتضت تلك الحملات الطويلة المفصلة المنوعة الأساليب ، التي أشرنا إليها في المقتطفات الممثلة لكل مقاطع السورة.
ونستطيع أن نستطرد هنا لنتابع خطوات الواقع التاريخي للمجتمع المسلم بعد عامين اثنين من الفتح عند ما قبض رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فارتدت الجزيرة العربية كلها ولم يثبت إلا مجتمع المدينة - القاعدة الصلبة الخالصة - فهذه الظاهرة يسهل الآن تفسيرها .. إن عامين اثنين بعد الفتح لم يكونا كافيين لاستقرار حقيقة الإسلام في نفوس هذه الأفواج الكثيرة التي دخلت في دين اللّه بعد الفتح ، بمستوياتها الإيمانية المخلخلة. فلما قبض رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ارتجت الجزيرة المخلخلة ، وثبتت القاعدة الصلبة. واستطاعت هذه القاعدة بصلابتها وخلوصها وتناسقها أن تقف في وجه التيار وأن ترده عن مجراه الجارف وأن تحوله إلى الإسلام مرة أخرى ..
إن رؤية هذه الحقيقة - على هذا النحو - كفيلة بأن ترينا تدبير اللّه الحكيم في المحنة الطويلة التي تعرضت لها الدعوة في مكة - في أول الأمر - وحكمته في تسليط المشركين الطواغيت على الفئة المسلمة يؤذونها ، ويفتنونها عن دينها ، ويهدرون دماءها ، ويفعلون بها الأفاعيل! لقد كان اللّه سبحانه يعلم أن هذا هو المنهج القويم لتربية الجماعة الأولى وتكوين القاعدة الصلبة لهذه العقيدة.
وأنه بدون هذه المحنة الطويلة لا تصلب الأعواد ولا تثبت للضغوط وأن هذه الدرجة من الصلابة والخلوص والتجرد والإصرار والمضي في سبيل اللّه على الأذى والعذاب والقتل والتنكيل والتشريد والتجويع ، وقلة العدد ، وانعدام النصير الأرضي ... إن هذه الدرجة هي وحدها التي تصلح للقاعدة الأصيلة الثابتة عند نقطة الانطلاق الأولى ..(1/467)
إن هذه القاعدة الصلبة من المهاجرين الأوائل هي التي انضم إليها السابقون من الأنصار ، ليكونوا القاعدة في المدينة - قبل بدر - وليكونوا هم الحراس الأقوياء الأشداء في فترة التخلخل التي أعقبت النصر في بدر ، بالتوسع الأفقي الذي جاء بأعداد جديدة لم تنضج بعد ، ولم تتناسق مع القاعدة في مستواها الإيماني والتنظيمي.
وأخيرا فإن القاعدة الصلبة التي اتسعت أبعادها قبيل الفتح ، حتى صارت تتمثل في المجتمع المدني بجملته ، هي التي حرست الإسلام وصانته من الهزات بعد الفتح ثم من الهزة الكبرى بعد وفاة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وارتداد الجزيرة عن الإسلام.
إن هذه الحقيقة - كما أنها ترينا تدبير اللّه الحكيم في المحنة الطويلة التي تعرضت لها الدعوة في مكة وفي الأهوال والمشاق والأخطار التي تعرض لها المجتمع المسلم في المدينة حتى الحديبية - هي كذلك تكشف لنا عن طبيعة المنهج الحركي للدعوة الإسلامية المتجددة في أي زمان وفي أي مكان.
إنه ابتداء يجب توجيه الحرص كله لإقامة القاعدة الصلبة من المؤمنين الخلص ، الذين تصهرهم المحنة فيثبتون عليها والعناية بتربيتهم تربية إيمانية عميقة تزيدهم صلابة وقوة ووعيا ذلك مع الحذر الشديد من التوسع الأفقي قبل الاطمئنان إلى قيام هذه القاعدة الصلبة الخالصة الواعية المستنيرة. فالتوسع الأفقي قبل قيام هذه القاعدة خطر ما حق يهدر وجود أية حركة ، لا تسلك طريق الدعوة الأولى من هذه الناحية ، ولا تراعي طبيعة المنهج الحركي الرباني النبوي الذي سارت عليه الجماعة الأولى.
على أن اللّه - سبحانه - هو الذي يتكفل بهذا لدعوته. فحيثما أراد لها حركة صحيحة ، عرّض طلائعها للمحنة الطويلة وأبطأ عليهم النصر وقللهم وبطأ الناس عنهم حتى يعلم منهم أن قد صبروا وثبتوا ، وتهيأوا وصلحوا لأن يكونوا هم القاعدة الصلبة الخالصة الواعية الأمينة .. ثم نقل خطاهم بعد ذلك بيده - سبحانه - واللّه غالب على أمره ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
والآن نعرض - على وجه الإجمال - للموضوعات الرئيسية التي تضمنتها السورة ، وبخاصة الأحكام النهائية التي قررتها في علاقة المعسكر الإسلامي بسائر المعسكرات حوله .. فالأحكام التي وردت في هذه السورة - بوصفها آخر ما نزل من الأحكام - هي التي تمثل قمة الخط الحركي للمنهج الإسلامي ..
ونحب هنا أن نعيد ما قلناه في الجزء التاسع - في تقديم سورة الأنفال - عن طبيعة هذا المنهج لنفهم على ضوئه هذه الأحكام النهائية الأخيرة ولو كان في إعادته شيء من التكرار في كتاب الظلال. ذلك أن قرب هذه الفقرات التي سنعيدها هنا ضروري لحيوية السياق :
«لقد لخص الإمام ابن القيم سياق الجهاد في الإسلام في «زاد المعاد» في الفصل الذي عقده باسم : «فصل في ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي اللّه عز وجل : أول ما(1/468)
أوحى إليه ربه تبارك وتعالى : أن يقرأ باسم ربه الذي خلق. وذلك أول نبوته. فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ. ثم أنزل عليه : «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ» فنبأه بقوله : «اقْرَأْ» وأرسله ب «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ». ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين. ثم أنذر قومه. ثم أنذر من حولهم من العرب. ثم أنذر العرب قاطبة. ثم أنذر العالمين. فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ويؤمر بالكف والصبر والصفح.
ثم أذن له في الهجرة ، وأذن له في القتال. ثم أمره أن يقاتل من قاتله ، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله. ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله للّه .. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة. وأهل حرب. وأهل ذمة .. فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد. وأمر أن يقاتل من نقض عهده .. ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها : فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام. وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم.
فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان. وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم .. وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام : قسما أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له ، فحاربهم وظهر عليهم. وقسما لهم عهد موقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه ، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم. وقسما لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه ، أو كان لهم عهد مطلق ، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر فإذا انسلخت قاتلهم .. فقتل الناقض لعهده ، وأجل من لا عهد له ، أو له عهد مطلق ، أربعة أشهر ، وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم. وضرب على أهل الذمة الجزية .. فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة .. ثم آلت حالة أهل العهد والصلح إلى الإسلام ، فصاروا معه قسمين : محاربين وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه .. فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به. ومسالم له آمن. وخائف محارب ..
وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى اللّه وأن يجاهدهم بالعلم والحجة وأمر أن يعرض عنهم ، ويغلظ عليهم ، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ونهى أن يصلي عليهم ، وأن يقوم على قبورهم وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر اللّه لهم .. فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين» ..
انتهى.(1/469)
«ومن هذا التلخيص الجيد لمراحل الجهاد في الإسلام تتجلى سمات أصيلة وعميقة في المنهج الحركي لهذا الدين ، جديرة بالوقوف أمامها طويلا. ولكننا في هذه الظلال لا نملك إلا أن نشير إليها إشارات مجملة :
«السمة الأولى : هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين .. فهو حركة تواجه واقعا بشريا .. وتواجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي .. إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية ، تقوم عليها أنظمة واقعية عملية ، تسندها سلطات ذات قوة مادية .. ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كله بما يكافئه .. تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها ، تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات وتخضعهم بالقهر والتضليل ، وتعبدهم لغير ربهم الجليل .. إنها حركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي. كما أنها لا تستخدم القهر المادي لضمائر الأفراد .. وهذه كتلك سواء في منهج هذا الدين وهو يتحرك لإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية للّه وحده كما سيجيء.
«والسمة الثانية في منهج هذا الدين .. هي الواقعية الحركية .. فهو حركة ذات مراحل. كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية. وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها ، فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة ، كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة. والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد ، ولا يراعون هذه السمة فيه ، ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج ، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها .. الذين يصنعون هذا يخلطون خلطا شديدا ، ويلبسون منهج هذا الدين لبسا مضلّلا ، ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية. ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصا نهائيا ، يمثل القواعد النهائية في هذا الدين. ويقولون - وهم مهزومون روحيا وعقليا تحت ضغط الواقع البائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان –
إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع! ويحسبون أنهم يسدون لهذا الدين جميلا بتخلية عن منهجه ، وهو إزالة الطواغيت جميعا من الأرض جميعا ، وتعبيد الناس للّه وحده ، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته ، ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة. بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة ، أو قهرها حتى تدفع الجزية ، وتعلن استسلامها ، والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة ، تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها.
«والسمة الثالثة : هي أن هذه الحركة الدائبة ، والوسائل المتجددة ، لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة ، ولا عن أهدافه المرسومة. فهو منذ اليوم الأول سواء - وهو يخاطب العشيرة الأقربين ، أو يخاطب قريشا ، أو يخاطب العرب أجمعين ، أو يخاطب العالمين .. إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة ويطلب(1/470)
منهم الانتهاء إلى هدف واحد .. هو إخلاص العبودية للّه ، والخروج من العبودية للعباد .. لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين .. ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد ، في خطة مرسومة ، ذات مراحل محددة ، لكل مرحلة وسائلها المتجددة ..
على نحو ما أسلفنا في الفقرة السابقة.
«والسمة الرابعة : هي ذلك الضبط التشريعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى - على النحو الملحوظ في ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن زاد المعاد - وقيام ذلك الضبط على أساس أن الإسلام للّه هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه أو أن تسالمه بجملتها فلا تقف لدعوته بأي حائل من نظام سياسي ، أو قوة مادية. وأن تخلي بينه وبين كل فرد ، يختاره أو لا يختاره بمطلق إرادته. ولكن لا يقاومه ولا يحاربه. فإن فعل ذلك أحد ، كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله ، أو يعلن استسلامه! .
في ضوء هذا البيان نستطيع أن نفهم لم كانت هذه الأحكام الأخيرة الواردة في هذه السورة : من براءة اللّه ورسوله من عهود المشركين وإمهال ذوي العهود الموقوتة منهم - ممن لم ينقضوا مع المسلمين عهدا ، ولم يظاهروا عليهم أحدا - إلى مدتهم. وإمهال ذوي العهود غير الموقوتة - ممن لم ينقضوا مع المسلمين عهدا كذلك ولم يظاهروا عليهم أحدا - إلى أربعة أشهر ومثلهم من لم يكن لهم مع المسلمين عهد أصلا من المشركين.
ونبذ عهود الناقضين لعهودهم ، مع إمهالهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض آمنين. فإذا انسلخت هذه الأشهر أخذوا وقتلوا حيث وجدوا وحوصروا ومنعوا من التنقل وهم آمنون .. كما نفهم الأحكام الواردة فيها عن قتال أهل الكتاب المنحرفين عن دين اللّه الصحيح ، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .. ثم الأحكام الواردة بجهاد المنافقين مع الكافرين بالغلظة عليهم. وعدم الصلاة على موتاهم أو القيام على قبورهم .. وكلها أحكام تعدّل الأحكام المرحلية السابقة في السور التي نزلت قبل التوبة. وهذا التعديل نحسب أنه أصبح مفهوما لنا الآن ، في ضوء ذلك البيان! وليس هنا مجال تفصيل القول في هذه الأحكام الأخيرة ، ولا في الأحكام المرحلية السابقة لها ولا في غيرها من موضوعات السورة الأخرى. فسنعرض لهذا كله بالتفصيل - إن شاء اللّه - عند استعراض النصوص القرآنية في سياق السورة بالتفصيل.
ولكننا فقط نبادر فنقول : إن تلك الأحكام المرحلية ليست منسوخة بحيث لا يجوز العمل بها في أي ظرف من ظروف الأمة المسلمة بعد نزول الأحكام الأخيرة في سورة التوبة. ذلك أن الحركة والواقع الذي تواجهه في شتى الظروف والأمكنة والأزمنة هي التي تحدد - عن طريق الاجتهاد المطلق - أي(1/471)
الأحكام هو أنسب للأخذ به في ظرف من الظروف ، في زمان من الأزمنة. في مكان من الأمكنة! مع عدم نسيان الأحكام الأخيرة التي يجب أن يصار إليها ، متى أصبحت الأمة المسلمة في الحال التي تمكنها من تنفيذ هذه الأحكام كما كان حالها عند نزول سورة التوبة ، وما بعد ذلك أيام الفتوحات الإسلامية التي قامت على أساس من هذه الأحكام الأخيرة النهائية. سواء في معاملة المشركين أو أهل الكتاب.
إن المهزومين في هذا الزمان أمام الواقع البائس لذراري المسلمين - الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان - وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على أصل الجهاد في الإسلام يحاولون أن يجدوا في النصوص المرحلية مهربا من الحقيقة التي يقوم عليها الانطلاق الإسلامي في الأرض لتحرير الناس كافة من عبادة العباد ، وردهم جميعا إلى عبادة اللّه وحده وتحطيم الطواغيت والأنظمة والقوى التي تقهرهم على عبادة غير اللّه ، والخضوع لسلطان غير سلطانه ، والتحاكم إلى شرع غير شرعه ..
ومن ثم نراهم يقولون مثلا : إن اللّه سبحانه يقول : «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» ..ويقول : «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ» ..ويقول : «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» ... ويقول عن أهل الكتاب : «قُلْ : يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا : اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» ..
فالإسلام إذن لا يقاتل إلا الذين يقاتلون أهل دار الإسلام في داخل حدود هذه الدار أو الذين يهددونها من الخارج! وأنه قد عقد صلح الحديبية مع المشركين. وأنه قد عقد معاهدة مع يهود المدينة ومشركيها! ومعنى ذلك - في تصورهم المهزوم - أن لا علاقة للإسلام إذن بسائر البشر في أنحاء الأرض. ولا عليه أن يعبدوا ما يعبدون من دون اللّه. ولا عليه أن يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون اللّه في الأرض كلها ما دام هو آمنا داخل حدوده الاقليمية!
وهو سوء ظن بالإسلام وسوء ظن باللّه - سبحانه! - تمليه الهزيمة أمام الواقع البائس النكد الذي يواجههم ، وأمام القوى العالمية المعادية التي لا طاقة لهم بها في اللحظة الحاضرة! وهان الأمر لو أنهم حين يهزمون روحيا أمام هذه القوى لا يحيلون هزيمتهم إلى الإسلام ذاته ولا يحملونه على ضعف واقعهم الذي جاءهم من بعدهم عن الإسلام أصلا! ولكنهم يأبون إلا أن يحملوا ضعفهم هم وهزيمتهم على دين اللّه القوي المتين! إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعا معينا. وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة. وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام. ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية(1/472)
المنى وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين .. إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قدما في تحسين ظروفها وفي إزالة العوائق من طريقها ، حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة ، والتي كانت تواجه واقعا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية.
إن النصوص الأخيرة تقول في شأن المشركين : «بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ، وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ. وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ، فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً ، وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً ، فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ، فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ»..
وتقول في شأن أهل الكتاب : «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ، وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ، حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» ..
فإذا كان المسلمون اليوم لا يملكون بواقعهم تحقيق هذه الأحكام فهم - اللحظة وموقتا - غير مكلفين بتحقيقها - ولا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها - ولهم في الأحكام المرحلية سعة يتدرجون معها حتى ينتهوا إلى تنفيذ هذه الأحكام الأخيرة عند ما يكونون في الحال التي يستطيعون معها تنفيذها .. ولكن عليهم ألا يلووا أعناق النصوص النهائية لتوافق أحكام النصوص المرحلية. وعليهم ألا يحملوا ضعفهم الحاضر على دين اللّه القوي المتين. وعليهم أن يتقوا اللّه في مسخ هذا الدين وإصابته بالهزال بحجة أنه دين السلم والسلام! إنه دين السلم والسلام فعلا ، ولكن على أساس إنقاذ البشرية كلها من عبادة غير اللّه ، وإدخال البشرية كافة في السلم كافة .. إنه منهج اللّه هذا الذي يراد البشر على الارتفاع إليه ، والاستمتاع بخيره وليس منهج عبد من العبيد ولا مذهب مفكر من البشر حتى يخجل الداعون إليه من إعلان أن هدفهم الأخير هو تحطيم كل القوى التي تقف في سبيله لإطلاق الحرية للناس أفرادا في اختياره ..
إنه حين تكون المذاهب التي يتبعها الناس مذاهب بشرية من صنع العبيد وحين تكون الأنظمة والشرائع التي تصرف حياتهم من وضع العبيد أيضا. فإنه في هذه الحالة يصبح لكل مذهب ولكل نظام الحق في أن(1/473)
يعيش داخل حدوده آمنا ، ما دام أنه لا يعتدي على حدود الآخرين ، ويصبح من حق هذه المذاهب والأنظمة والأوضاع المختلفة أن تتعايش وألا يحاول أحدها إزالة الآخر! فأما حين يكون هناك منهج إلهي وشريعة ربانية ، ووضع العبودية فيه للّه وحده وتكون إلى جانبه مناهج ومذاهب وأوضاع من صنع البشر العبودية فيها للعباد .. فإن الأمر يختلف من أساسه. ويصبح من حق المنهج الإلهي أن يجتاز الحواجز البشرية ويحرر البشر من العبودية للعباد ويتركهم أحرارا في اختيار العقيدة التي يختارونها في ظل الدينونة للّه وحده.
والمهزومون الذين يحاولون أن يلووا أعناق النصوص ليا ليخرجوا من الحرج الذي يتوهمونه في انطلاق الإسلام وراء حدوده الأولى ليحرر البشر في الأرض كلها من العبودية لغير اللّه. ينسون هذه الحقيقة الكبرى ..
وهي أن هناك منهجا ربانيا العبودية فيه للّه وحده يواجه مناهج بشرية العبودية فيها للعبيد!!! إن للجهاد المطلق في هذا الدين مبرراته النابعة من ذات المنهج الإلهي فليراجعها المهزومون الذين يحملون هزيمتهم وضعفهم على هذا الدين . لعل اللّه أن يرزقهم القوة من عنده وأن يجعل لهم الفرقان الذي وعد به عباده المتقين! وأخيرا فإن هذه السورة لم تكتب البسملة في أولها كبقية السور - في مصحف عثمان رضي اللّه عنه وهو عمدة المصاحف - وقد روى الترمذي - بإسناده - عن ابن عباس قال : «قلت لعثمان بن عفان ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال - وهي من المثاني - وإلى براءة - وهي من المئين - وقرنتم بينهما ، ولم تكتبوا بينهما سطر «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»؟ ووضعتموها في السبع الطوال؟ ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان : كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان مما يأتي عليه الزمان وهو تتنزل عليه السور ذات العدد. فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب ، فيقول : «ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا». وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة. وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن. وكانت قصتها شبيهة بقصتها.
وخشيت أنها منها. وقبض رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولم يبين لنا أنها منها. فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر : «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ، ووضعتهما في السبع الطوال».
(1/3234)
وهذه الرواية أقرب الروايات إلى تقديم تفسير مقبول لوضع السورتين هكذا ، وعدم الفصل بينهما بسطر :
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ». كما أنها تفيدنا في تقرير أن وضع الآيات في السور ، وترتيبها في مواضعها ، كان يتم بأمر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في حياته. وأن سورا متعددة كانت تظل مفتوحة في الوقت الواحد(1/474)
فإذا نزلت آية أو آيات في مناسبة واقعة تواجه واقعا قائما. أو تكمل حكما أو تعد له ، وفق المنهج ، الحركي الواقعي لهذا الدين ، أمر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن توضع في موضعها من سورتها ..
وبذلك كانت هناك حكمة معينة في أن تتضمن كل سورة ما تضمنته من الآيات ، وحكمة معينة كذلك في ترتيبها في مواضعها من السورة.
ولقد لاحظنا - كما أثبتنا ذلك مرارا في التعريف بالسور - أن هناك «شخصية» خاصة لكل سورة وسمات معينة تحدد ملامح هذه الشخصية. كما أن هناك جوا معينا وظلالا معينة. ثم تعبيرات بعينها في السورة الواحدة. تؤكد هذه الملامح ، وتبرز تلك الشخصية!
ولعل في الفقرة السابقة ، وفي حديث ابن عباس قبلها ، ما يفسر هذه الظاهرة الواضحة التي أثبتناها مرارا في التعريف بالسور في هذه الظلال. (1)
===============
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1564)(1/475)
(10) سورة يونس
سميت في المصاحف وفي كتب التفسير والسنة سورة يونس لأنها انفردت بذكر خصوصية لقوم يونس، أنهم آمنوا بعد أن توعدهم رسولهم بنزول العذاب فعفا الله عنهم لما آمنوا. وذلك في قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98]. وتلك الخصوصية كرامة ليونس - عليه السلام - وليس فيها ذكر ليونس غير ذلك. وقد ذكر يونس في سورة الصافات بأوسع مما في هذه السورة ولكن وجه التسمية لا يوجبها.
والأظهر عندي أنها أضيفت إلى يونس تمييزا لها عن أخواتها الأربع المفتتحة ب"ألر". ولذلك أضيفت كل واحدة منها إلى نبي أو قوم نبي عوضا عن أن يقال: آلر الأولى وألر الثانية. وهكذا فإن اشتهار السور بأسمائها أول ما يشيع بين المسلمين بأولى الكلمات التي تقع فيها وخاصة إذا كانت فواتحها حروفا مقطعة فكانوا يدعون تلك السور بآل حم وآل ألر ونحو ذلك.
وهي مكية في قول الجمهور. وهو المروي عن ابن عباس في الأصح عنه. وفي "الإتقان" عن عطاء عنه أنها مدنية. وفي "القرطبي" عن ابن عباس أن ثلاث آيات منها مدنية وهي قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} إلى قوله: {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96-95] وجزم بذلك القمي النيسابوري. وفي "ابن عطية" عن مقاتل إلا آيتين مدنيتين هما {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} إلى قوله: {مِنَ الْخَاسِرِينَ} [يونس: 94-95]. وفيه عن الكلبي أن آية واحدة نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} إلى {أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} [يونس: 40] نزلت في شأن اليهود.
وقال ابن عطية: قالت فرقة: نزل نحو من أربعين آية من أولها بمكة ونزل باقيها بالمدينة. ولم ينسبه إلى معين. وأحسب أن هذه الأقوال ناشئة عن ظن أن ما في القرآن من مجادلة مع أهل الكتاب لم ينزل إلا بالمدينة، فإن كان كذلك فظن هؤلاء مخطئي. وسيأتي التنبيه عليه.
وعدد آيها مائة وتسع آيات في عد أكثر الأمصار، ومائة وعشر في عد أهل الشام.
وهي السورة الحادية والخمسون في ترتيب نزول السور. نزلت بعد سورة بني إسرائيل وقبل سورة هود. وأحسب أنها نزلت سنة إحدى عشرة بعد البعثة لما سيأتي عند قوله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا} [يونس: 21].
أغراض هذه السورة(1/476)
ابتدئت بمقصد إثبات رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - بدلالة عجز المشركين عن معارضة القرآن، دلالة نبه عليها بأسلوب تعريضي دقيق بني على الكناية بتهجية الحروف المقطعة في أول السورة كما تقدم في مفتتح سورة البقرة، ولذلك أتبعت تلك الحروف بقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1] إشارة إلى أن إعجازه لهم هو الدليل على أنه من عند الله. وقد جاء التصريح بما كني عنه هنا في قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38].
وأتبع بإثبات رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وإبطال إحالة المشركين أن يرسل الله رسولا بشرا.
وانتقل من ذلك إلى إثبات انفراد الله تعالى بالإلهية بدلالة أنه خالق العالم ومدبره، فأفضى ذلك إلى إبطال أن يكون لله شركاء في إلهيته، وإلى إبطال معاذير المشركين بأن أصنامهم شفعاء عند الله.
وأتبع ذلك بإثبات الحشر والجزاء. فذلك إبطال أصول الشرك.
وتخلل ذلك بذكر دلائل من المخلوقات، وبيان حكمة الجزاء، وصفة الجزاء، وما في دلائل المخلوقات من حكم ومنافع للناس.
ووعيد منكري البعث المعرضين عن آيات الله، وبضد أولئك وعد الذين آمنوا. فكان معظم هذه السورة يدور حول محور تقرير هذه الأصول.
فمن ذلك التنبيه على أن إمهال الله تعالى الكافرين دون تعجيل العذاب هو حكمة منه.
ومن ذلك التذكير بما حل بأهل القرون الماضية لما أشركوا وكذبوا الرسل.
والاعتبار بما خلق الله للناس من مواهب القدرة على السير في البر والبحر، وما في أحوال السير في البحر من الألطاف.
وضرب المثل للدنيا وبهجتها وزوالها، وأن الآخرة هي دار السلام.
واختلاف أحوال المؤمنين والكافرين في الآخرة، وتبرؤ الإلهة الباطلة من عبدتها.
وإبطال إلهية غير الله تعالى، بدليل أنها لا تغني عن الناس شيئا في الدنيا ولا في الآخرة.
وإثبات أن القرآن منزل من الله، وأن الدلائل على بطلان أن يكون مفترى واضحة.
وتحدي المشركين بأن يأتوا بسورة مثله، ولكن الضلالة أعمت أبصار المعاندين.
وإنذار المشركين بعواقب ما حل بالأمم التي كذبت بالرسل، وأنهم إن حل بهم العذاب لا ينفعهم إيمانهم، وأن ذلك لم يلحق قوم يونس لمصادفة مبادرتهم بالإيمان قبل حلول العذاب.
وتوبيخ المشركين على ما حرموه مما أحل الله من الرزق.
وإثبات عموم العلم لله تعالى.
وتبشير أولياء الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة.(1/477)
وتسلية الرسول عما يقوله الكافرون.
وأنه لو شاء لآمن من في الأرض كلهم.
ثم تخلص إلى الاعتبار بالرسل السابقين نوح ورسل من بعده ثم موسى وهارون.
ثم استشهد على صدق رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - بشهادة أهل الكتاب.
وختمت السورة بتلقين الرسول عليه الصلاة والسلام مما يعذر به لأهل الشك في دين الإسلام، وأن اهتداء من اهتدى لنفسه وضلال من ضل عليها، وأن الله سيحكم بينه وبين معانديه. (1)
تمهيد بين يدي السورة
1 - سورة يونس - عليه السلام - هي السورة العاشرة في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها سور : « الفاتحة ، البقرة ، آل عمران ، النساء ، المائدة ، الأنعام ، الأعراف ، الأنفال ، التوبة ».
2 - وكان نزولها بعد سورة « الإسراء ».
3 - وعدد آياتها : تسع ومائة آية عند الجمهور. وفي المصحف الشامي مائة وعشر آيات.
4 - وسميت بهذا الاسم تكريما ليونس - عليه السلام - ولقومه الذين آمنوا به واتبعوه قبل أن ينزل بهم العذاب ، وفي ذلك تقول السورة الكريمة : فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ .
5 - وسورة يونس من السور المكية ، وعلى هذا سار المحققون من العلماء.
وقيل إنها مكية سوى الآية الأربعين منها وهي قوله - تعالى - وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ والآيتين الرابعة والتسعين ، والخامسة والتسعين وهما قوله - تعالى - : فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ، فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ ، لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ.
قال صاحب المنار : وقال السيوطي في الإتقان : استثنى منها الآيات 40 ، 94 ، 95 ، فقيل إنها مدنية نزلت في اليهود. وقيل : من أولها إلى رأس أربعين آية مكي ، والباقي مدني ، حكاه ابن الفرس والسخاوي في جمال القراء.
ثم قال صاحب المنار : وأقول إن موضوع السورة لا يقبل هذا من جهة الدراية ، وهو مما لم نثبت به رواية ، وكون المراد بالذين يقرءون الكتاب في الآية (94) اليهود لا يقتضى أن تكون نزلت بالمدينة ، وبيان ذلك من وجهين :
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (11 / 5)(1/478)
أحدهما : أن المراد بالشك فيها الفرض لا وقوع الشك حقيقة ، ولذلك قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : « لا أشك ولا أسأل » ، وهو مرسل يؤيده قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري.
وثانيهما : أن هذا المعنى نزل في سورة مكية أخرى ، كقوله - تعالى - في سورة الإسراء :
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ .
وقوله - سبحانه - في سورة الأنبياء : فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ .
والذي تطمئن إليه النفس ، أن سورة يونس جميعها مكية ، كما قال المحققون من العلماء ، لأن الذين قالوا بوجود آية أو آيات مدنية فيها لم يأتوا برواية صحيحة تصلح مستندا لهم ، ولأن السورة الكريمة من مطلعها إلى نهايتها تشاهد فيها سمات القرآن المكي واضحة جلية ، فهي تهتم بإثبات وحدانية اللّه ، وبإثبات صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وبإثبات أن هذا القرآن من عند اللّه ، وأن البعث حق ، وأن ما أورده المشركون من شبهات حول الدعوة الإسلامية ، قد تولت السورة الكريمة دحضه بأسلوب منطقي رصين ..
والذي يطالع هذه السورة الكريمة بتدبر وخشوع ، يراها في مطلعها تتحدث عن سمو القرآن الكريم في هدايته وإحكامه ، وعن موقف المشركين من النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوته ، وعن الأدلة على وحدانية اللّه وقدرته.قال - تعالى - : الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ ، أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ.
ثم نراها في الربع الثاني منها تصور بأسلوب حكيم طبيعة الإنسان فتقول وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً ، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ ، كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ الآية 12.
ثم تحكى مصارع الظالمين ، وأقوالهم الفاسدة ، ورد القرآن عليهم فتقول : وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ. ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ.
وبعد أن تمضى السورة الكريمة في دحض أقوال المشركين ، وفي بيان الطبائع البشرية ، نراها في مطلع الربع الثالث. تصور لنا حسن عاقبة المتقين ، وسوء عاقبة الضالين ، فتقول : وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ، وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.(1/479)
ثم تأمر السورة الكريمة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل المشركين بأسلوب توبيخي عمن يرزقهم من السموات والأرض ، وعمن يبدأ الخلق ثم يعيده ، وعمن يهدى إلى الحق ، فتقول : قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ ، وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ، وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ، فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ، فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ.
وبعد أن تتحدى السورة الكريمة المشركين أن يأتوا بسورة من مثل القرآن الكريم. وتعلن عن عجزهم على رءوس الأشهاد ، تأخذ في تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي تصوير جانب من أحوالهم في حياتهم وبعد مماتهم فتقول : بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ. وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ...
ثم نراها في الربع الرابع توجه نداء إلى الناس كافة تدعوهم فيه إلى الإقبال على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مواعظ فيها الشفاء لما في الصدور ، وفيها الهداية لما في النفوس فتقول : يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.
ثم تسوق جانبا من مظاهر قدرة اللّه النافذة ، وعلمه المحيط بكل شيء ، فتقول : وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ، وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.
وفي مطلع الربع الخامس منها تحكى لنا جانبا من قصة نوح - عليه السلام - مع قومه ، وكيف أنه نصحهم ، وذكرهم بآيات اللّه ، ولكنهم لم يستمعوا إليه ، فكانت عاقبتهم الإغراق بالطوفان قال - تعالى - : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) [يونس : 71 - 74]
مما يدل على أن هذا القرآن من عند اللّه. ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. (1)
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (7 / 7)(1/480)
في السورة حكاية أقوال ومواقف عديدة للكفار ، وردود عليها وتسفيه لهم على باطل تقاليدهم وسخيف عقائدهم وشدة عنادهم ومكابرتهم. وإفحام لهم في سياق الجدل والمناظرة. وفيها لفت نظر الناس إلى آيات اللّه ومظاهر قدرته في الكون وتبشير وإنذار بالآخرة وحسابها وثوابها وعقابها وشرح لأثر الإيمان والكفر في نفوس الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
وبيان لمهمة النبي عليه السلام وطبيعة الرسالة ، وتقرير لمسؤولية الناس في الهدى والضلال وتمثيل بما كان بين نوح وقومه وبين موسى وفرعون ، وبما كان من مصير البغاة ونجاة المؤمنين وضرب بقوم يونس الذين آمنوا مثلا على ذلك.
والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن الآيات [40 و94 - 96] مدنية ، وبعض الروايات تذكر أن من أول السورة إلى رأس الآية الأربعين مكي والباقي مدني .
وقد تكرر مضامين الآيات التي يروي مدنيتها في آيات مكية لا خلاف فيها كما أن هذه الآيات منسجمة مع سياقها السابق واللاحق ولذلك فإننا نتوقف في الروايات ونرجح مكية جميع آيات السورة.
وفصول السورة مترابطة متساوقة مما يلهم أنها نزلت متتابعة حتى تمت. (1)
سورة يونس عليه السّلام مكية وهي مائة وتسع آيات.
تسميتها :
سميت «سورة يونس» لذكر قصة نبي اللّه يونس فيها ، وهي قصة مثيرة ، سواء بالنسبة لشخصه الذي تعرض لالتقام الحوت له ، أو بالنسبة لما اختص به قومه من بين سائر الأمم ، برفع اللّه العذاب عنهم حين آمنوا وتابوا بصدق.
موضوعها :
تتميز بالكلام عن الأهداف الكبرى لرسالة القرآن وهي إثبات التوحيد للّه وهدم الشرك ، وإثبات النبوة والبعث والمعاد ، والدعوة للإيمان بالرسالات السماوية وخاتمتها القرآن العظيم ، وهي موضوعات السور المكية عادة.
مناسبتها لما قبلها :
ختمت سورة التوبة السابقة بذكر صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وبدئت هذه السورة بتبديد الشكوك والأوهام نحو إنزال الوحي على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، للتبشير والإنذار ، وكانت أغلبية آيات السورة المتقدمة في أحوال المنافقين وموقفهم من القرآن ، وهذه في أحوال الكفار والمشركين وقولهم في القرآن. فالاتصال بالسورة
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (3 / 442)(1/481)
المتقدمة واضح ، فقد ذكرت أوصاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي تستدعي الإيمان به ، ثم ذكر هنا الكتاب الذي أنزل ، والنبي الذي أرسل ، وأن شأن الضالين التكذيب بالكتب الإلهية.
ويلاحظ أنه لا يشترط وجود تناسب واضح بين السور ولا بين الآيات في ضمن السورة الواحدة ، فقد تتعدد الأغراض والانتقال من العقيدة إلى العبادة إلى الأخلاق والأمثال والقصص وأحكام السلوك والمعاملات ، وذلك أسلوب خاص بالقرآن لاجتذاب الأنفس حين التلاوة والبعد عن السأم والملل ، وقد أصبح هذا الأسلوب هو المرغوب فيه شعبيا كما يظهر في الإقبال على الروايات وأساليب العرض القصصي والتمثيليات ، لشد انتباه المشاهدين والقارئين والسامعين ، من خلال المفاجآت والاستطرادات وتحليل بعض القضايا الجانبية.
فقد يكون هناك تناسب بين السور ، كسور الطواسين وحواميم وسورتي المرسلات والنبأ ، وقد يوجد فاصل بينهما كسورتي الهمزة واللهب مع أن موضوعهما واحد. (1)
ما اشتملت عليه السورة :
سورة يونس تتحدث عن الرسالات الإلهية ، والألوهية وصفات الإله ، والنبوة وقصص بعض الأنبياء ، وموقف المشركين من القرآن ، والبعث والمعاد.
1 - بدأت السورة بتقرير سنة اللّه في خلقه بإرسال رسول لكل أمة ، وختم الرسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، مما لا يستدعي عجب المشركين من بعثته : أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [2].
2 - ثم تحدثت عن إثبات وجود الإله من طريق آثاره في الكون : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ .. الآيات. ثم التذكير بمصير الخلائق إليه بالبعث والجزاء : إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً .. وانقسام البشر إلى مؤمنين وكفار وجزاء كل منهم. وإنذار الجاحدين بإهلاك الأمم الظالمة :وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ...
3 - ثم أوضحت عقائد المشركين وذكرت خمس شبهات لمنكري النبوة والرسالة وناقشتهم نقاشا منطقيا مقنعا ، وأثبتت أن القرآن كلام اللّه ومعجزة النبي الخالدة على مر الزمان : وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وأقامت الدليل على كونه من عند اللّه بتحدي المشركين وهم أمراء البيان وأساطين الفصاحة والبلاغة أن يأتوا بسورة من مثله : أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ، قُلْ : فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ... وذكرت موقف المشركين من القرآن : وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ ....
__________
(1) - انظر تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (11 / 58)(1/482)
4 - ثم ذكرت آثار القدرة الإلهية الباهرة التي تدل على عظمة اللّه وضرورة الإيمان به ، لأنه مصدر الحياة والرزق والنعم : قُلْ : مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ ، وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ، وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ، فَسَيَقُولُونَ : اللَّهُ ، فَقُلْ : أَفَلا تَتَّقُونَ؟!.
5 - ثم تناولت بإيجاز للعبرة والعظة وتقرير صدق القرآن قصص بعض الأنبياء ، كقصة نوح عليه السّلام في تذكير قومه ، وقصة موسى عليه السّلام مع فرعون ، واستعانة فرعون بالسحرة لإبطال دعوة موسى ، وشأن موسى مع قومه ، ودعائه على فرعون ، ونجاة بني إسرائيل ، وغرق فرعون في البحر ، وقصة يونس عليه السّلام مع قومه ، فصار المذكور في هذه السورة ثلاث قصص.
6 - ختمت السورة بما أشارت إليه في الآية [57] : يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وهو اتباع رسالة القرآن وشريعة اللّه ، لما فيها من خير وصلاح للإنسان : قُلْ : يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ، فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ .. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ ، وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ ، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ . (1)
سورة يونس - عليه السلام -مكية كلها ، وقيل إلا آيتي 94 ، 95 فمدنيتان والصحيح الأول ، وعدد آياتها 109 آية. وفيها مناقشة الكفار في العقائد الدينية وتوجيه النظر إلى آيات اللّه الكونية ، وسرد بعض القصص للعظة والعبرة ، وخاصة موسى مع فرعون ، وما يتخلل ذلك من ذكر لطبيعة الإنسان ، ووصف للدنيا ، وانتقال إلى وصف مشاهد القيامة المؤثرة وما يتبع ذلك من إثبات للبعث ، ووصف للقرآن وأثره في النفوس ومناقشة منكريه. (2)
وجه مناسبتها لسورة براءة أن الأولى ختمت بذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذه ابتدأت به ، وأيضا أن في الأول بيانا لما يقوله المنافقون عند نزول سورة من القرآن وفي هذه بيان لما يقوله الكفار في القرآن حيث قال سبحانه : أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس : 38] الآية ، وقال جل وعلا : وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس : 15] وأيضا في الأولى ذم المنافقين بعدم التوبة والتذكر إذا أصابهم البلاء في قوله سبحانه : أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة : 126] على أحد الأقوال وفي هذه ذم لمن يصيبه البلاء فيرعوي ثم يعود وذلك في قوله تعالى : وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس : 12] وفي قوله سبحانه : حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (11 / 93)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (2 / 36)(1/483)
وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [يونس : 22] إلى أن قال سبحانه : فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يونس : 23] وأيضا في الأولى براءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المشركين مع الأمر بقتالهم على أتم وجه وفي هذه براءته - صلى الله عليه وسلم - من عملهم لكن من دون أمر بقتال بل أمر فيها عليه الصلاة والسلام أن يظهر البراءة فيها على وجه يشعر بالإعراض وتخلية السبيل كما قيل على ضد ما في الأولى وهذا نوع من المناسبة أيضا وذلك في قوله تعالى : وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس : 41] إلى غير ذلك ، والعجب من الجلال السيوطي عليه الرحمة كيف لم يلح له في تناسق الدرر وجه المناسبة بين السورتين وذكر وجه المناسبة بين هذه السورة وسورة الأعراف وقد يوجد في الإسقاط ما لا يوجد في الإسقاط (1)
سورة يونس من السور المكية التي تعنى بأصول العقيدة الاسلامية (الايمان بالله تعالى ، والايمان بالكتب ، والرسل ، والبعث والجزاء) وهي تتميز بطابع التوجيه الى الايمان بالرسالات السماوية ، وبوجه أخص الى " القرآن العظيم " خاتمة الكتب المنزلة ، والمعجزة الخالدة على مدى العصور والدهور لسيد الانبياء ( - صلى الله عليه وسلم - )
تحدثت السورة الكريمة في البدء عن الرسالة والرسول ، وبينت ان هذه سنة الله في الاولين والاخرين ، فما من امة الا بعث الله اليها رسولا ، فلا داعي للمشركين للعجب من بعثة خاتم المرسلين [ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس . . ] ؟ ثم تلتها الآيات عن بيان حقيقة " الألوهية " و " العبودية " واساس الصلة بين الخالق والمخلوق ، وعرفت الناس بربهم الحق الذي ينبغي ان يعبدوه ، وان يسلموا وجوههم اليه ، فهو وحده الخالق الرازق ، المحي المميت ، المدبر الحكيم ، وكل ما سواه فباطل وهباء [ إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام . . ] الآيات . وتناولت السورة الكريمة موقف المشركين من الرسالة والقرآن ، وذكرت ان هذا القرآن هو (المعجزة الخالدة) الدالة على صدق النبي الأمي ، وأنه يحمل برهانه في تفرده المعجز ، حيث تحداهم ان يأتوا بسورة من مثله فعجزوا ، مع أنهم اساطين الفصاحة ، وامراء البيان [ أم يقولون افتراه ، قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ] . وانتقلت السورة لتعريف الناس بصفات الإله الحق ، بذكر آثار قدرته ورحمته ، الدالة على التدبير الحكيم ، وما في هذا الكون المنظور من آثار القدرة الباهرة ، التي هي اوضح البراهين على عظمة الله وجلاله وسلطانه [ قل من يرزقكم من السموات والأرض ؟ أمن يملك السمع
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (6 / 55)(1/484)
والأبصار . . ] الآيات وهذه هي القضية الكبرى التي يدور محور السورة عليها ، وهي موضوع الايمان " بوحدانية الله " جل وعلا ، وقد عرضت السورة لها بشتى الادلة السمعية والعقلية . " وتحدثت السورة عن قصص بعض الانبياء ، فذكرت قصة نوح مع قومه ، وقصة موسى مع فرعون الجبار ، وذكرت قصة نبي الله " يونس ، " الذي سميت السورة باسمه - وكل هذه القصص لبيان سنة الله الكونية في اهلاك الظالمين ، ونصرة المؤمنين .وختمت السورة الكريمة بأمر الرسول ، بالاستمساك بشريعة الله ، والصبر على ما يلقى من الأذى في سبيل الله [ واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ] .
التسمية :
سميت السورة " سورة بونس " لذكر قصته فيها ، وما تضمنته من العظة والعبرة برفع العذاب عن قومه حين آمنوا ، بعد ان كاد يحل بهم البلاء والعذاب ، وهذا من الخصائص التي خص الله بها (قوم يونس) لصدق توبتهم وايمانهم [ فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ] !! (1)
وهي أولى المئين إن جعلها براءة مع الأنفال من الطول ، وإلا فبراءة أولاهن ، مقصودها وصف الكتاب بأنه من عند الله من عند الله لما اشتمل عليه من الحكمة وأنه ليس إلا من عنده سبحانه لأن غيره لا يقدر على شيء منه ، وذلك دال ريب على أنه واحد في ملكه لا شريك له في شيء من أمره ، وتمام الدليل على هذا قصة قوم يونس عليه السلام بأنهم لما آمنوا عند المخايل كشف عنهم ، فدل قطعاً على ان الآتي به هو الله الذي آمنوا به غذ لو كان غيره لكان إيمانهم به موجباً للإيقاع بهم ، ولو عذبوا كغيرهم ليقل : هذه عادة الدهر ، كما قالوا : قد مس آباءنا الضراء والسراء ودل ذلك على أن عذاب غيرهم من الأمم إنما هو من عند الله لكفرهم لما اتسق من ذلك طرداً بأحوال سائر الأمم من أنه كلما وجد الإصرار على التكذيب وجد العذاب ، وعكساً منه كلما انتفى في وقت يقبل قبول التوبة انتفى - والله الموفق ) بسم الله ( اي الذي لا أمر لأحد سواه فلا كلبام يشبه كلامه فلا كفوء له ) الرحمن ( الذي عم بكلامه جميع خلقه فأوضح البيان ) الرحيم ( الذي أتم لمطيعهم نعمة الامتنان ) آلر ( فخم اراء ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم ، وأمالها ورش عن نافع بين بين ، والباقون بالإمالة المحضة ، والأصل في ذلك الفتح ، وكذا ما كان من أمثالها مما ألفاتها ليست منقلبة عن ياء نحو ما ولا ، وإمالتها للتنبيه على أنها أسماء للحروف وليست حروفاً - نقل ذلك عن الواحدي .
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (2 / 3)(1/485)
لما قدم في أول الأعراف الحث على إبلاغ النصيحة بهذا الكتاب وفرغ مما اقتضاه السياق من التحذير من مثل وقائع الأولين ومصارع المامضين ومما استتبع ذلك من توصيل القول قي ترجمة هذا النبي الكريم مع قومه في أول أمره وأثنائه وآخر في سورتي الأنفال وبراءة ، وختم ذلك بأن سور الكتاب تزيد كل أحد مماهو ملائم له متهيئ لقبوله وتبعده عما منافر له بعيد من قبول ملاءمته .
وأن الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) بذلك قد حوى من الأوصاف والحلي والأخلاق العلى ما يوجب الإقبال عليه والإسراع إليه .
والإخبار بأن توليهم عنه لا يضره شيئاً لأن ربه لامثل له وأنه ذو العرش العظيم ؛ لما كان ذلك كذلك ، اعاد سبحانه القول في شأن الكتاب الذي افتتح به الأعراف وختم سورة التوبة ، وزاده وصف الحكمه وأشار بأداة البعد إلى رتبته فيها بعيدة المنال بديعة المثال فقال : ( تلك ) أي الآيات العظيمة جداً التي اشتملت عليها هذه السورة ، أو السور التي تقدمت هذه السورة أو هذا القرآن الذي وافق كل ما فيه من القصص كل ما في التوارة والإنجيل من ذلك ، فدل ذلك على صدق الآتي به قطعاً لأنه لم يكن يعرف شيئاً مما في في الكاتبين ولا جالس أحداً يعلمه ) الحكيم ( فكان فيما مضى - أن كونه من عند الله كاف في وجوب اتباعه ، وفيما هنا تأكيد الوجوب بكونه مع ذلك حكيماً والآية : دليل كالناطق بالحكمة لأنه يؤدي إلى النعرفة التي يميز بها طريق النجاة من طريق الهلاك ، وهو حاكم يبين الحق من الباطل في الأصول والفروع ويحكم بالعدل الذي لا جور فيه بوجه في كل نازلة ، ومحكم لما أتى به ، مانع طريق النجاة من طريق الهلاك ، وهو حاكم يبين الحق من الباطل في الأصول والفروع ويحكم بالعدل الذي لا جور فيه بوجه في كل نازلة ، ومحكم لما أتى به ، مانع له من الفساد ، لا يمحوه الماء ولا تحرقه النار ولا تغيره الدهور ، وهذا ما ظهر لي في التحامها بما قبلها ؛ وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تضمنت سورة براءة قوله تعالى إلا تنصروه فقد نصره الله " (1)
نعود مرة أخرى إلى الحياة مع القرآن المكي ، بجوه الخاص ، وظلاله وإيقاعاته وإيحاءاته. بعد ما عشنا فترة في هذه الظلال مع سورتي الأنفال والتوبة من القرآن المدني.
والقرآن المكي ، ولو أنه قرآن من القرآن ، يشترك مع سائره في خصائصه القرآنية العامة وفي تفرده من كل قول آخر لا يحمل الطابع الرباني الفريد العجيب ، في الموضوع وفي الأداء سواء .. إلا أن له مع ذلك جوه الخاص ، ومذاقه المعين ، الذي يعينه موضوعه الأساسي (و هو في اختصار : حقيقة الألوهية ، وحقيقة العبودية ، وحقيقة العلاقات بينهما وتعريف الناس بربهم الحق الذي ينبغي أن يدينوا له ويعبدوه ،
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (3 / 411)(1/486)
ويتبعوا أمره وشرعه وتنحية كل ما دخل على العقيدة الفطرية الصحيحة من غبش ودخل وانحراف والتواء ورد الناس إلى إلههم الحق الذي يستحق الدينونة لربوبيته) .. كما يعينه أسلوب العرض لهذا الموضوع.
وهو أسلوب موح ، عميق الإيقاع ، بالغ التأثير حيث تشترك في أداء هذا الغرض كل خصائص التعبير ، من البناء اللفظي ، إلى المؤثرات الموضوعية على النحو الذي فصلناه من قبل ، في سورة الأنعام ، والذي سلم به هنا إن شاء اللّه.
ولقد كان آخر عهدنا - في هذه الظلال - بالقرآن المكي سورة الأنعام وسورة الأعراف متواليتين في ترتيب المصحف - وإن لم تكونا متواليتين في ترتيب النزول - ثم جاءت الأنفال والتوبة بجوهما وطبيعتهما وموضوعاتهما المدنية الخاصة - فالآن إذ نعود إلى القرآن المكي نجد سورتي يونس وهود متواليتين في ترتيب المصحف وفي ترتيب النزول أيضا .. والعجيب أن هناك شبها كبيرا بين هاتين السورتين وتلكما في الموضوع ، وفي طريقة عرض هذا الموضوع كذلك! فسورة الأنعام تتناول حقيقة العقيدة ذاتها ، وتواجه الجاهلية بها ، وتفند هذه الجاهلية عقيدة وشعورا ، وعبادة وعملا. بينما سورة الأعراف تتناول حركة هذه العقيدة في الأرض وقصتها في مواجهة الجاهلية على مدار التاريخ. وكذلك نحن هنا مع سورتي يونس وهود .. في شبه كبير في الموضوع وفي طريقة العرض أيضا .. إلا أن سورة الأنعام تنفرد عن سورة يونس ، بارتفاع وضخامة في الإيقاع ، وسرعة وقوة في النبض ، ولألاء شديد في التصوير والحركة .. بينما تمضي سورة يونس ، في إيقاع رخي ، ونبض هادئ ، وسلاسة وديعة! .. فأما هود فهي شديدة الشبه بالأعراف موضوعا وعرضا وإيقاعا ونبضا ..
ثم تبقى لكل سورة شخصيتها الخاصة ، وملامحها المميزة ، بعد كل هذا التشابه والاختلاف! والموضوع الرئيسي في سورة يونس هو ذات الموضوع العام للقرآن المكي الذي سبق بيانه في الفقرة السابقة ..
والسورة تتناول محتوياته وفق طريقتها الخاصة ، التي تحدد شخصيتها وملامحها .. ونحن لا نملك - في هذا التقديم - إلا تلخيص هذه المحتويات واحدا واحدا في إجمال ، حتى يجيء بيانها المفصل في أثناء استعراض النصوص القرآنية :
إنها تواجه ابتداء موقف المشركين في مكة من حقيقة الوحي إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ومن هذا القرآن ذاته بالتبعية فتقرر لهم أن الوحي لا عجب فيه ، وأن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون اللّه : «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» .. «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ، قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا : ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ. قُلْ : ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي ، إِنْ(1/487)
أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ ، إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلْ : لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ ، فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ ، أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ؟ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ» .. «وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ؟ قُلْ : فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ..
وتواجه طلبهم خارقة مادية - غير القرآن - واستعجالهم بالوعيد الذي يسمعونه. فتقرر لهم أن آية هذا الدين هي هذا القرآن وهو يحمل برهانه في تفرده المعجز الذي تتحداهم به. وأن الآيات في يد اللّه ومشيئته وأن موعدهم بالجزاء يتعلق بأجل يقدره اللّه ، والنبي لا يملك شيئا فهو عبد من عباد اللّه. - وفي هذا جانب من التعريف لهم بربهم الحق وحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية - : «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا ، كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ. ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ ، لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» .. «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ، فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ قُلْ : لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ، لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ. قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً؟ ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ؟ أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ؟ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟!» .. «وَيَقُولُونَ : لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ! فَقُلْ : إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ ، فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ».
وتواجه اضطراب تصورهم لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية - الأمر الذي يحدثهم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فيه ، فيكذبون بالوحي أو يتشككون فيه ويطلبون قرآنا غيره ، أو يطلبون خارقة مادية تثبت لهم صحته - بينما هم سادرون في عبادة ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الشركاء ، على اعتقاد أنهم شفعاؤهم عند اللّه كما يزعمون للّه الولد سبحانه بلا علم ولا بينة .. فتقرر لهم صفات الإله الحق وآثار قدرته في الوجود من حولهم ، وفي وجودهم هم أنفسهم ، وفيما يتقلب بهم من ظواهر الكون ، وما يتقلب بهم هم من أحوال وهتاف فطرتهم وأنفسهم بربها الحق عند مواجهة الخطر الذي لا دافع له إلا اللّه .. وهذه هي القضية الكبرى التي تستغرق قطاعات شتى من السورة والتي تتفرع عنها سائر محتوياتها الأخرى : «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ، ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ، وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ، إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ. هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا(1/488)
عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ» .. «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ، وَيَقُولُونَ : هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ. قُلْ : أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ؟ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» .. «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ ، وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ : لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. «قُلْ : مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ؟ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ؟ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؟ فَسَيَقُولُونَ : اللَّهُ. فَقُلْ : أَفَلا تَتَّقُونَ؟ فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ، فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ! فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟» .. «قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ؟ قُلِ : اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟ قُلْ : هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ؟ قُلِ : اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ. أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى ؟ فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ، إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» ..
«أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ، وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ..
«قالُوا : اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً - سُبْحانَهُ - هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا؟ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟ قُلْ : إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ، ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» .. «أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».
وتصور لهم حضور اللّه - سبحانه - وشهوده لكل ما يهم به البشر ، وكل ما يزاولون من نية وعمل مما يملأ الحس البشري بالرهبة والروعة ، كما يملؤه بالحذر واليقظة .. وذلك في مثل قوله تعالى في هذه السورة : «وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ. وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ. وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ ، إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ».(1/489)
كذلك تملأ نفوسهم بالتوجس والتوقع لبأس اللّه في كل لحظة ، ليخرجوا من الغفلة التي ينشئها الرخاء والنعمة ولا ينخدعوا بازدهار الحياة حولهم فيأمنوا بأس اللّه الذي يأتي بغتة : «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ. حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ ، وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها ، أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً ، فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ. كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».. «قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً! ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ؟ أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ؟ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟!».
وتواجه اطمئنانهم للحياة الدنيا ورضاهم بها عن الآخرة ، وتكذيبهم بلقاء اللّه ، بتحذيرهم من هذه الطمأنينة الخادعة ، ومن الخسارة في الصفقة الدون التي يرضونها ، وتعريفهم بأن هذه الحياة الدنيا إنما هي للابتلاء ، وفي الآخرة الجزاء .. ثم تواجههم بعرض مشاهد متنوعة من مشاهد القيامة وخاصة ما يتصل منها بتخلي الشركاء عن عبادهم ، وتبرئهم منهم إلى اللّه ، وتعذر الفداء من العذاب مهما كبر الفداء : «إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ. أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. دَعْواهُمْ فِيها : سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ. وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ. وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ..
«وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا ، كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ. ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» .. «وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ، وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها ، وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ، ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً. مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً ، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» .. «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ، ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا : مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ! فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ ، وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ : ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ. فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ، إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ. هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ ، وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» .. «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» .. «وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ ، وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ..
ثم تواجه ما يترتب على اضطراب تصورهم للألوهية وما يترتب على تكذيبهم بالبعث والآخرة ، وما يترتب على تكذيبهم بالوحي والنذارة ، من انطلاقهم في واقع الحياة العملية يزاولون خصائص الربوبية في(1/490)
التشريع لحياتهم ، والتحليل والتحريم في أرزاقهم ومعاملاتهم وفق ما تصوره لهم وثنيتهم واعتقادهم بالشركاء الذين يجعلون لهم نصيبا مما رزقهم اللّه يأخذه السدنة والكهنة ليحلوا لهم ما يشاءون ويحرموا عليهم ما يشاءون ..
وهي القضية الكبرى التي تلي قضية الاعتقاد وتنبثق منها : «قُلْ : أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا؟ قُلْ : آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ؟ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ؟ وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ».
والسورة تحتشد - في إبلاغ تلك الحقائق التي تحتويها وتثبيتها وتعميقها واستجاشة القلوب والعقول لها - بشتى المؤثرات الموحية ، التي يحفل بها الأداء القرآني الفريد في الموضوع وفي التعبير عنه سواء. وهي مؤثرات - على عمقها وحيويتها وحركتها - تناسب شخصية السورة وطبيعتها التي تحدثنا في الفقرة الأولى عنها ..
وهذه نماذج منها ، نلم بها هنا إجمالا ، حتى نستعرضها في السياق تفصيلا :
تحتشد السورة بمشاهد هذا الكون وظواهره ، الموحية للفطرة البشرية بحقيقة الألوهية ، الدالة على التدبير الحكيم ، والقصد المرسوم في بناء هذا الكون وتصريفه ، وفي الموافقات المبثوثة فيه لنشأة الحياة والأحياء ، ولحياة الكائن الإنساني وتلبية حاجاته في حياته .. وقضية الألوهية يعرضها القرآن في هذه الصورة الحية الواقعية الموحية ولا يعرضها في أسلوب الجدل الفلسفي والمنطق الذهني ، واللّه خالق هذا الكون وخالق هذا الإنسان يعلم - سبحانه - أن بين فطرة هذا الإنسان ومشاهد هذا الكون وأسراره لغة مفهومة! وتجاوبا أعمق من منطق الذهن البارد الجاف وأن هذه الفطرة يكفي أن توجه إلى مشاهد هذا الكون وأسراره وأن تستجاش لتستيقظ فيها أجهزة الاستقبال والتلقي وأنها عندئذ تهتز وتتفتح وتتلقى وتستجيب .. ومن ثم يكثر خطاب الفطرة البشرية - في القرآن - بهذه اللغة المفهومة .. وهذه نماذج من هذا الخطاب العميق الموحي : «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ، ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ. أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟» ..
«هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ. ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ» ..
«قُلْ : مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ؟ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ؟ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؟ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ، فَقُلْ : أَفَلا تَتَّقُونَ؟ فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ، فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ؟ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟».(1/491)
«هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ..«قُلِ : انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» ..
وتحتشد بمشاهد الأحداث والتجارب التي يشهدونها بأعينهم ويعيشونها بأنفسهم ولكنهم يمرون بها غافلين عن دلالتها على التدبير والتقدير ، والتصريف والتسيير .. ويعرض السياق القرآني لهم مشاهد من واقعهم هم في استقبال تلك الأحداث والتجارب كما ترفع المرآة للغافل عن نفسه فيرى فيها كيف هو على حقيقته! وهذه نماذج من ذلك المنهج القرآني الفريد : «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ! كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ!» ..
«وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا! قُلِ : اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً ، إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ. هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ ، وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ ، وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ : لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
وتحتشد بمصارع الغابرين من المكذبين. آنا في صورة الخبر ، وآنا في صورة قصص بعض الرسل.
وتلتقي كلها عند عرض مشاهد التدمير على المكذبين وتهديدهم بمثل هذا المصير الذي لقيه من قبلهم. فلا تغرنهم الحياة الدنيا ، فإن هي إلا فترة قصيرة للابتلاء. أو ساعة من نهار يتعارف فيها الناس ، ثم يعودون إلى دار الإقامة في العذاب أو في النعيم!
«وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا. كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ. ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» ..
«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ : يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ ، فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» ..
«ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا : إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ. قالَ مُوسى : أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ. أَسِحْرٌ هذا؟ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ» .. إلى قوله تعالى في نهاية القصة : «وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ(1/492)
وَجُنُودُهُ - بَغْياً وَعَدْواً - حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ : آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ؟ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ؟! فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ» ..
«فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ؟ قُلْ : فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ. ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا ، كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ» ..
وتحتشد بمشاهد القيامة ، تعرض عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين ، عرضا حيا متحركا مؤثرا عميق الإيقاع في القلوب. فتعرض مع مشاهد المصارع في الحياة الدنيا والتدمير على المجرمين ونجاة المؤمنين ، صفحتي الحياة في الدارين ، وبدء المطاف ونهايته حيث لا مهرب ولا فوت :
«لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ، وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ - وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها ، وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ، ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً ، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
«وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ، ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا : مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ! فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ ، وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ : ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ. فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ. هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ ، وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» ..
«وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ! وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ..
ومن المؤثرات التي تحتشد بها السورة تحدي المشركين المكذبين بالوحي ، أن يأتوا بآية من مثل هذا القرآن ..
ثم توجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد دعوتهم وتحديهم ، إلى تركهم ومصيرهم - وهو مصير المكذبين الظالمين من قبلهم - والمضي في طريقه المستقيم لا يحفلهم ولا يأبه لشأنهم .. والتحدي ثم المفاصلة والاستعلاء على هذا النحو مما يوقع في قلوبهم أن هذا النبي واثق من الحق الذي معه ، واثق من ربه الذي يتولاه. وهذا بدوره يهز القلوب ويزلزل العناد :وظاهر من سياقها أنها لحمة واحدة ، تواجه واقعا متصلا حتى ليصعب تقسيمها إلى قطاعات متميزة. وهذا ما ينفي الرواية التي أخذ بها المشرفون على المصحف الأميري من كون الآيات 40 ، 94 ، 95 ، 96 مدنية .. فهذه الآيات متشابكة مع السياق ، وبعضها لا يتسق السياق بدونه أصلا! والترابط في سياق السورة يوحد بين مطلعها وختامها. فيجيء في المطلع قوله تعالى : «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ ، عِنْدَ رَبِّهِمْ ، قالَ الْكافِرُونَ! إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» .. ويجيء في الختام :(1/493)
«وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» .. فالحديث عن قضية الوحي هو المطلع وهو الختام. كما أنه هو الموضوع المتصل الملتحم بين المطلع والختام.
كذلك يبدو الترابط بين المؤثرات المختلفة في السورة. نذكر مثالا لذلك الرد على استعجالهم بالوعيد ، وتهديدهم بأنه يقع بغتة ، حيث لا ينفعهم وقتها إيمان ولا توبة .. ثم يجيء القصص بعد ذلك في السورة ، مصورا ذلك المشهد بعينه في مصارع الغابرين.
في الرد عليهم يقول : «وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ قُلْ : لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً ، إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ، لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ، إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ. قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ، ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ؟ أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ؟ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟! ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا : ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ» ..
وفي نهاية قصة موسى في السورة يجيء هذا المشهد ، وكأنه الصورة الواقعية لذلك الوعيد : «وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً ، حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ : آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ» ..
ثم تتساوق في ثنايا السورة بين ذلك الرد وهذه القصة مشاهد المباغتة بأخذ اللّه للمكذبين من حيث لا يتوقعون ولا يدرون فترسم جوا واحدا متناسقا يبدو فيه الترابط بين المشاهد والموضوعات والأداء سواء.
كذلك يجيء في حكاية قول المشركين عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في أول السورة : «قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» .. ثم يجيء في حكاية فرعون وملئه عن موسى - عليه السلام - : «فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا : إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ» ..
وقد سميت السورة سورة يونس. بينما قصة يونس فيها لا تتجاوز إشارة سريعة على هذا النحو : « فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها! إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» .. ولكن قصة يونس - مع هذا - هي المثل الوحيد البارز للقوم الذين يتداركون أنفسهم قبل مباغتة العذاب لهم فيثوبون إلى ربهم وفي الوقت سعة وهم وحدهم في تاريخ الدعوات الذين آمنوا جملة بعد تكذيب ، فكشف عنهم العذاب الذي أوعدهم به رسولهم قبل وقوعه بهم ، كما هي سنة اللّه في المكذبين المصرّين.
وهكذا نجد الترابط بكل ألوانه في سياق السورة من مطلعها إلى ختامها ، مما يجعلها وحدة متكاملة متشابكة كما أسلفنا.(1/494)
وواضح من المقتطفات التي سبقت من نصوص السورة - في هذا التقديم - أن القضية الأساسية التي يتكئ عليها السياق كله هي قضية الألوهية والعبودية ، وتجلية حقيقتهما ، وبيان مقتضيات هذه الحقيقة في حياة الناس. أما سائر القضايا الأخرى التي تعرضت لها السورة كقضية الوحي ، وقضية الآخرة ، وقضية الرسالات السابقة .. فقد جاءت في صدد إيضاح تلك الحقيقة الكبرى وتعميقها وتوسيع مدلولها وبيان مقتضياتها في حياة البشر واعتقادهم وعبادتهم وعملهم.
والواقع أن تلك القضية الكبرى هي قضية القرآن كله ، وقضية القرآن المكي بصفة خاصة. فتعريف الألوهية الحقة وبيان خصائصها من الربوبية والقوامة والحاكمية وتعريف العبودية وحدودها التي لا تتعداها والوصول من هذا كله إلى تعبيد الناس لإلههم الحق واعترافهم بالربوبية والقوامة والحاكمية له وحده ..
هذا هو الموضوع الرئيسي للقرآن كله .. وما وراءه إن هو إلا بيان لمقتضيات هذه الحقيقة الكبيرة في حياة البشر بكل جوانبها.
وهذه الحقيقة الكبيرة تستحق - عند التأمل العميق - كل هذا البيان الذي هو موضوع هذا القرآن ..
تستحق أن يرسل اللّه من أجلها رسله جميعا ، وأن ينزل بها كتبه جميعا : «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» ..
إن حياة البشر في الأرض لا تستقيم إلا إذا استقامت هذه الحقيقة في اعتقادهم وتصورهم ، واستقامت كذلك في حياتهم وواقعهم.
لا تستقيم أولا إزاء هذا الكون الذي يعيشون فيه ، ويتعاملون مع أشيائه وأحيائه .. وهم حين يضطرب تصورهم لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية يروحون يؤلهون الأشياء والأحياء - بل يؤلهون الأشباح والأوهام! - ويعبدون أنفسهم لها في صور مضحكة ، ولكنها بائسة! ، ويقدمون لها - بوحي من الكهان والمنتفعين بأوهام العوام في كل زمان وفي كل مكان - خلاصة كدهم من الرزق الذي أعطاهم اللّه. بل إنهم ليقدمون لها فلذات أكبادهم كما يقدمون لها أرواحهم في بعض الأحيان .. وهي أشياء وأحياء لا حول لها ولا قوة ، ولا تملك لهم ضرا ولا نفعا .. وتضطرب حياتهم كلها ، وهم يعيشون بين الهلع والجزع من هذه الأشياء والأحياء وبين التقرب والزلفى لمخلوقات مثلهم ، عبوديتها للّه كعبوديتهم .. وذلك كما قال اللّه تعالى عنهم : «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً.
فَقالُوا : هذا لِلَّهِ - بِزَعْمِهِمْ - وَهذا لِشُرَكائِنا! فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ! ساءَ ما يَحْكُمُونَ! وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ - وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ - وَقالُوا : هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ(1/495)
حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ - بِزَعْمِهِمْ - وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها ، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ! - سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ - وَقالُوا : ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا ، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ! سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ - قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ ، قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ ».
فهذه نماذج من تكاليف العبودية لغير اللّه في الأموال والأولاد التي تقدم لمخلوقات من خلق اللّه. أشياء أو أحياء ما أنزل اللّه بها من سلطان! كذلك لا تستقيم حياة البشر إزاء بعضهم البعض بدون استقامة حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية في اعتقادهم وتصورهم ، وفي حياتهم وواقعهم .. إن إنسانية الإنسان وكرامته وحريته الحقيقية الكاملة لا يمكن أن تتحقق في ظل اعتقاد أو نظام لا يفرد اللّه سبحانه بالربوبية والقوامة والحاكمية ولا يجعل له وحده حق الهيمنة على حياة الناس في الدنيا والآخرة ، في السر والعلانية ولا يعترف له وحده بحق التشريع والأمر والحاكمية في كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية ..
والواقع البشري على مدار التاريخ يثبت هذه الحقيقة ويصدقها. فما من مرة انحرف الناس عن الدينونة للّه وحده - اعتقادا ونظاما - ودانوا لغير اللّه من العباد - سواء كانت هذه الدينونة ، بالاعتقاد والشعائر أم كانت باتباع الأحكام والشرائع - إلا كانت العاقبة هي فقدانهم لإنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم! والتفسير الإسلامي للتاريخ يرد ذل المحكومين للطواغيت ، وسيطرة الطواغيت عليهم ، إلى عامل أساسي هو فسوق المحكومين عن دين اللّه ، الذي يفرد اللّه سبحانه بالألوهية ، ومن ثم يفرده بالربوبية والسلطان والقوامة والحاكمية. فيقول اللّه سبحانه عن فرعون وقومه : «وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ : يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ؟ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ، أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ! فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» ..
فيرد استخفاف فرعون لهم إلى أنهم فاسقون. فما يستخف الحاكم الطاغي قومه وهم مؤمنون باللّه موحدون لا يدينون لسواه بربوبية تزاول القوامة والحاكمية! ولقد حدث أن الذين فسقوا عن الدينونة للّه وحده ، فأتاحوا لنفر منهم أن يحكموهم بغير شريعته ، قد وقعوا في النهاية في شقوة العبودية لغيره. العبودية ، التي تأكل إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم ، مهما اختلفت أشكال الأنظمة التي تحكمهم والتي ظنوا في بعضها أنها تكفل لهم الإنسانية والحرية والكرامة! لقد هربت أوربا من اللّه - في أثناء هروبها من الكنيسة الطاغية الباغية باسم الدين الزائف! - وثارت على اللّه - سبحانه - في أثناء ثورتها على تلك الكنيسة التي أهدرت كل القيم الإنسانية في عنفوان سطوتها الغاشمة! ثم ظن الناس هناك أنهم يجدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم - ومصالحهم كذلك - في ظل الأنظمة الفردية (الديمقراطية) وعلقوا كل(1/496)
آمالهم على الحريات والضمانات التي تكفلها لهم الدساتير الوضعية ، والأوضاع النيابية البرلمانية ، والحريات الصحفية ، والضمانات القضائية والتشريعية ، وحكم الأغلبية المنتخبة ..
إلى آخر هذه الهالات التي أحيطت بها تلك الأنظمة .. ثم ماذا كانت العاقبة؟ كانت العاقبة هي طغيان «الرأسمالية» ذلك الطغيان الذي أحال كل تلك الضمانات وكل تلك التشكيلات ، إلى مجرد لافتات ، أو إلى مجرد خيالات! ووقعت الأكثرية الساحقة في عبودية ذليلة للأقلية الطاغية التي تملك رأس المال ، فتملك معه الأغلبية البرلمانية! والدساتير الوضعية! والحريات الصحفية! وسائر الضمانات التي ظنها الناس هناك كفيلة بضمان إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم ، في معزل عن اللّه سبحانه!!! ثم هرب فريق من الناس هناك من الأنظمة الفردية التي يطغى فيها «رأس المال» و«الطبقة!» إلى الأنظمة الجماعية! فماذا فعلوا؟ لقد استبدلوا بالدينونة لطبقة «الرأسماليين» الدينونة لطبقة «الصعاليك»! أو استبدلوا بالدينونة لأصحاب رؤوس الأموال والشركات الدينونة للدولة التي تملك المال إلى جانب السلطان! فتصبح أخطر من طبقة الرأسماليين! وفي كل حالة وفي كل وضع وفي كل نظام دان البشر فيه للبشر ، دفعوا من أموالهم ومن أرواحهم الضريبة الفادحة. دفعوها للأرباب المتنوعة في كل حالة! إنه لا بد من عبودية! فإن لا تكن للّه وحده ، تكن لغير اللّه .. والعبودية للّه وحده تطلق الناس أحرارا كراما شرفاء أعلياء .. والعبودية لغير اللّه تأكل إنسانية الناس وكرامتهم وحرياتهم وفضائلهم .. ثم تأكل أموالهم ومصالحهم المادية في النهاية! من أجل ذلك كله تنال قضية الألوهية والعبودية كل تلك العناية في رسالات اللّه - سبحانه - وفي كتبه ..
وهذه السورة نموذج من تلك العناية .. فهي قضية لا تتعلق بعبدة الأصنام والأوثان في الجاهليات الساذجة البعيدة. ولكنها تتعلق بالإنسان كله في كل زمان وفي كل مكان وتتعلق بالجاهليات كلها .. جاهليات ما قبل التاريخ. وجاهليات التاريخ. وجاهلية القرن العشرين. وكل جاهلية تقوم على أساس من عبادة العباد للعباد !
ومن أجل ذلك كان جوهر الرسالات والكتب هو تقرير ألوهية اللّه - سبحانه - وربوبيته وحده للعباد :«وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ».
وكان ختام هذه السورة التي نواجهها :«قُلْ : يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ ، فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ ، يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قُلْ : يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ، فَمَنِ(1/497)
اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ ، وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» .. (1)
===============
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1745)(1/498)
(11) سورة هود
سميت في جميع المصاحف وكتب التفسير والسنة سورة هود، ولا يعرف لها اسم غير ذلك، وكذلك وردت هذه التسمية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس أن أبا بكر قال: "طيا رسول الله قد شبت، قال: شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت" . رواه الترمذي بسند حسن في كتاب التفسير من سورة الواقعة. وروي من طرق أخرى بألفاظ متقاربة يزيد بعضها على بعض.
وسميت باسم هود لتكرر اسمه فيها خمس مرات، ولأن ما حكي عنه فيها أطول مما حكي عنه في غيرها، ولأن عادا وصفوا فيها بأنهم قوم هود في قوله: {أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60]، وقد تقدم في تسمية سورة يونس وجه آخر للتسمية ينطبق على هذه وهو تمييزها من بين السور ذوات الافتتاح ب {ألر} .
وهي مكية كلها عند الجمهور. وروي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير، وقتادة إلا آية واحدة وهي {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} إلى قوله: {لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]. وقال ابن عطية: هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة. وهي قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} [هود: 12]، وقوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} إلى قوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} قيل نزلت في عبد الله بن سلام، وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] الآية. قيل نزلت في قصة أبي اليسر كما سيأتي، والأصح أنها كلها مكية وأن ما روي من أسباب النزول في بعض آيها توهم لاشتباه الاستدلال بها في قصة بأنها نزلت حينئذ كما يأتي، على أن الآية الأولى من هذه الثلاث واضح أنها مكية.
نزلت هذه السورة بعد سورة يونس وقبل سورة يوسف. وقد عدت الثانية والخمسين في ترتيب نزول السور. ونقل ابن عطية في أثناء تفسير هذه السورة أنها نزلت قبل سورة يونس لأن التحدي فيها وقع بعشر سور وفي سورة يونس وقع التحدي بسورة، وسيأتي بيان هذا.
وقد عدت آياتها مائة وإحدى وعشرين في العدد المدني الأخير. وكانت آياتها معدودة في المدني الأول مائة واثنتين وعشرين، وهي كذلك في عدد أهل الشام وفي عدد أهل البصرة وأهل الكوفة مائة وثلاث وعشرون.
أغراضها:
ابتدأت بالإيماء إلى التحدي لمعارضة القرآن بما تومئ إليه الحروف المقطعة في أول السورة.
وباتلائها بالتنويه بالقرآن.(1/499)
وبالنهي عن عبادة غير الله تعالى.
وبأن الرسول عليه الصلاة والسلام نذير للمشركين بعذاب يوم عظيم وبشير للمؤمنين بمتاع حسن إلى أجل مسمى.
وإثبات الحشر.
والإعلام بأن الله مطلع على خفايا الناس.
وأن الله مدبر أمور كل حي على الأرض.
وخلق العوالم بعد أن لم تكن.
وأن مرجع الناس إليه، وأنه ما خلقهم إلا للجزاء.
وتثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسليته عما يقوله المشركون وما يقترحونه من آيات على وفق هواهم {أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} [هود: 12].
وأن حسبهم آية القرآن الذي تحداهم بمعارضته فعجزوا عن معارضته فتبين خذلانهم فهم أحقاء بالخسارة في الآخرة.
وضرب مثل لفريقي المؤمنين والمشركين.
وذكر نظرائهم من الأمم البائدة من قوم نوح وتفصيل ما حل بهم وعاد وثمود، وإبراهيم، وقوم لوط، ومدين، ورسالة موسى، تعريضا بما في جميع ذلك من العبر وما ينبغي منه الحذر فإن أولئك لم تنفعهم آلهتهم التي يدعونها.
وأن في تلك الأنباء عظة للمتبعين بسيرهم.
وأن ملاك ضلال الضالين عدم خوفهم عذاب الله في الآخرة فلا شك في أن مشركي العرب صائرون إلى ما صار إليه أولئك.
وانفردت هذه السورة بتفصيل حادث الطوفان وغيضه.
ثم عرض باستئناس النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسليته باختلاف قوم موسى في الكتاب الذي أوتيه فما على الرسول وأتباعه إلا أن يستقيم فيما أمره الله وأن لا يركنوا إلى المشركين، وأن عليهم بالصلاة والصبر والمضي في الدعوة إلى الصلاح فإنه لا هلاك مع الصلاح.
وقد تخلل ذلك عظات وعبر والأمر بإقامة الصلاة. (1)
تعريف بسورة هود - عليه السلام -
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (11 / 197)(1/500)
1 - سورة هود - عليه السلام - هي السورة الحادية عشرة في ترتيب المصحف فقد سبقتها في هذا الترتيب سورة الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس.
أما ترتيبها في النزول ، فهي السورة الثانية والخمسون ، وكان نزولها بعد سورة يونس.
2 - وعدد آياتها : ثلاث وعشرون ومائة آية.
3 - وقد سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - بسورة هود ، فقد روى الترمذي عن ابن عباس قال :قال أبو بكر : يا رسول اللّه قد شبت! قال : « شيبتني » « هود » و« الواقعة » ، و« المرسلات » و« عم يتساءلون » و« إذا الشمس كورت ».
وفي رواية : شيبتني هود وأخواتها.
قال القرطبي بعد أن ساق بعض الأحاديث في فضل هذه السورة. ففي تلاوة هذه السور ما يكشف لقلوب العارفين سلطانه وبطشه فتذهل منه النفوس. وتشيب منه الرءوس » .
4 - متى نزلت سورة هود؟
جمهور العلماء على أن سورة هود جميعها مكية ، وقيل هي مكية إلا ثلاث آيات منها : وهي قوله - تعالى - فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ ، وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ... الآية 12.
وقوله - تعالى - أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ الآية 17.
وقوله - تعالى - : وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ الآية 114.
والذي نرجحه أن السورة كلها مكية ، وسنرى عند تفسيرنا لهذه الآيات التي قيل بأنها مدنية ، ما يشهد لصحة ما ذهبنا إليه.
كذلك نرجح أن هذه السورة الكريمة ، كان نزولها في الفترة التي أعقبت حادث الإسراء والمعراج ، وذلك لأن نزولها - كما سبق أن أشرنا - كان بعد سورة يونس ، وسورة يونس كان نزولها بعد سورة الإسراء ، التي افتتحت بالحديث عنه.
وهذه الفترة التي كانت قبيل حادث الإسراء والمعراج والتي أعقبته ، تعتبر من أشق الفترات وأحرجها وأصعبها في تاريخ الدعوة الإسلامية.
ففي هذه الفترة مات أبو طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - والمدافع عنه ، وماتت كذلك السيدة خديجة - رضى اللّه عنها - التي كانت نعم المواسى له عما يصيبه من أذى ... ففقد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بموتهما نصيرين عزيزين ، كانت لهما مكانتهما العظيمة في نفسه ، وتعرض - صلى الله عليه وسلم - في هذه الفترة لألوان من الأذى والاضطهاد فاقت كل ما سبقها وبلغت الحرب المعلنة من المشركين عليه وعلى دعوته ، أقسى وأقصى مداها ..(1/501)
قال ابن إسحاق خلال حديثه عن هذه الفترة : ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد ، فتتابعت على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - المصائب بهلك خديجة - وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها - ويهلك عمه أبى طالب - وكان له عضدا وحرزا في أمره ، ومنعة وناصرا على قومه ، وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين.
فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من الأذى ، ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبى طالب ، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش ، فنثر على رأسه ترابا.
ثم قال ابن إسحاق : فحدثني هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير قال لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ذلك التراب دخل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بيته ، والتراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته ، فجعلت تغسل عنه التراب ، وهي تبكى ، ورسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقول لها : « لا تبكى يا بنية ، فإن اللّه مانع أباك » ..
قال : ويقول بين ذلك : « ما نالت منى قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب » « 1 ».
وسنرى عند استعراضنا للسورة الكريمة ، أنها صورت هذه الفترة أكمل تصوير.
5 - مناسبتها لسورة يونس - عليه السلام - :
قال الآلوسى - رحمه اللّه - : ووجه اتصالها بسورة يونس ، أنه ذكر في سورة يونس قصة نوح - عليه السلام - مختصرة جدا ومجملة ، فشرحت في هذه السورة وبسطت فيها ما لم تبسط في غيرها من السور .. ثم إن مطلعها شديد الارتباط بمطلع تلك ، فإن قوله - تعالى - هنا الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ... نظير قوله - سبحانه - هناك الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ... بل بين مطلع هذه وختام تلك شدة ارتباط - أيضا - ، حيث ختمت بنفي الشرك ، واتباع الوحى ، وافتتحت هذه ببيان الوحى والتحذير من الشرك .
6 - عرض إجمالى للسورة الكريمة :
عند ما نطالع سورة هود بتدبر وتأمل ، نراها في الربع الأول » منها - قد افتتحت بالتنويه بشأن القرآن الكريم. وبدعوة الناس إلى إخلاص العبادة للّه - تعالى - وحده ، وإلى التوجه إليه بالاستغفار والتوبة الصادقة ، حتى ينالوا السعادة في دنياهم وآخرتهم.قال - تعالى - : الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ. وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.(1/502)
ثم وضحت السورة جانبا من مسالك الكافرين ، تلك المسالك التي تدل على جهالاتهم بعلم اللّه التام ، وبقدرته النافذة ، وفصلت مظاهر هذه القدرة ، وشمول هذا العلم ..
قال - تعالى - : أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ، أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ ، يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
ثم بينت أحوال الإنسان في حالة منحه النعمة ، وفي حالة سلبها عنه ، وساقت للرسول - صلى الله عليه وسلم - من الآيات ما يسليه عما أصابه من كفار مكة ، وتحدتهم أن يأتوا بعشر سور من مثل القرآن الكريم ، وأنذرتهم بسوء عاقبة المعرضين عن دعوة اللّه ، الصادين عن سبيله ، الكافرين بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب ، وبشرت المؤمنين بحسن العاقبة ، وضربت المثل المناسب لكل من فريقى الكافرين والمؤمنين.
استمع إلى السورة الكريمة وهي تصور كل ذلك بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول : وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ، لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ....
إلى أن تقول بعد حديث مفصل عن الكافرين وسوء عاقبتهم : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ.
فإذا ما وصلنا إلى الربع الثاني من سورة هود ، وجدناها تسوق لنا بأسلوب مفصل ،قصة نوح - عليه السلام - مع قومه ، فتحكى أمره لهم بعبادة اللّه وحده ، كما تحكى الرد القبيح الذي رد به عليه زعماؤهم ، وكيف أنه - عليه السلام - لم يقابل سفاهتهم بمثلها ، بل خاطبهم بلفظ « يا قوم » الدال على أنه واحد منهم ، يسره ما يسرهم ، ويؤلمه ما يؤلمهم ، ومع هذا فقد لجوا في طغيانهم وقالوا له - كما حكى القرآن عنهم - يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا ، فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ....
فكان رده عليهم إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ....
وقد أتاهم اللّه - تعالى - بالعذاب الذي استعجلوه فأغرقهم بالطوفان الذي غشيهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، والذي قطع دابرهم.
ثم نراها بعد ذلك في الربع الثالث ، تقص علينا مشهدا مؤثرا ، مشهد نوح - عليه السلام - وهو ينادى ابنه الذي استحب الكفر على الإيمان فيقول له بشفقة وحرص :يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ.
ولكن الابن العاق لا يستمع إلى نصيحة أبيه العطوف بل يقول له : سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ.(1/503)
ويجيبه الأب بحزن وحسم لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ، وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ.
ويتضرع الأب الحزين إلى ربه فيقول : رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ.
ويأتيه الجواب من اللّه - تعالى - : يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ، فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ.
ويلجأ نوح - عليه السلام - إلى خالقه ، مستعيذا به من غضبه فيقول : رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ، وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ.
فيقبل اللّه - تعالى - ضراعته فيقول : يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ ، وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ، وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ.
ثم يختم اللّه - تعالى - قصة نوح ، بتسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبما يدل على أن هذا القرآن من عند اللّه ، فيقول : تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ ، إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.
ثم تسوق السورة بعد ذلك قصة هود - عليه السلام - مع قومه ، فتحكى دعوته لهم إلى عبادة اللّه - تعالى - ، ومصارحته إياهم بأنه لا يريد منهم أجرا على دعوته وإرشادهم إلى ما يزيدهم غنى على غناهم وقوة على قوتهم ، ولكنهم قابلوا تلك النصائح الغالية بالتكذيب والسفاهة ، فقالوا له - كما حكت السورة عنهم - يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ ، وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ .....
فيرد عليهم هود بقوله : إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ....
ثم كانت النتيجة بعد هذه المحاورات والمجادلات أن نجى اللّه هودا ، والذين آمنوا معه ، أما الكافرون بدعوته ، فقد نزل بهم العذاب الغليظ ، الذي تركهم صرعى ، كأنهم أعجاز نخل خاوية ...
وفي الربع الرابع منها تسوق لنا السورة الكريمة ، ما دار بين صالح وقومه ، حيث أمرهم بعبادة اللّه ، وذكرهم بنعمه عليهم ، وحذرهم من الاعتداء على الناقة التي هي لهم آية .. ولكنهم استخفوا بتذكيره وبتحذيره فكانت النتيجة إهلاكهم ...قال - تعالى - فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ، وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ. وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها ، أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ.(1/504)
ثم قصت علينا السورة الكريمة ، ما فعله إبراهيم - عليه السلام - عند ما جاءه رسل اللّه بالبشرى ، وكيف أنهم قالوا له عند ما أنكرهم وأوجس منهم خيفة : لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ ....
ثم وضحت حال لوط - عليه السلام - عند ما جاءه هؤلاء الرسل وحكت ما دار بينه وبين قومه الذين جاءوه يهرعون إليه عند ما رأوا الرسل ، فقال لهم : يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ، أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ .....
فيقولون له في صفاقة وانحراف عن الفطرة السليمة : لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ ، وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ.
وأسقط في يد لوط - عليه السلام - ، وأحس بضعفه أمام هؤلاء المنحرفين المندفعين إلى ارتكاب الفاحشة ، اندفاع المجنون إلى حتفه ، فقال بأسى وحزن : لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ.
وهنا كشف له الرسل عن طبيعتهم ، وأخبروه بمهمتهم وطلبوا منه أن يغادر هو ومن آمن معه مكان إقامتهم ، فإن العذاب نازل بهؤلاء المجرمين بعد وقت قصير.قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ ، لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ، إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ ، إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ.
ثم تتابع السورة الكريمة في الربع الخامس ، حديثها عن جانب من قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم ، فتحدثنا عن قصة شعيب - عليه السلام - مع قومه ، وكيف أنه قال لهم مقالة كل رسول لقومه يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ.
ثم نهاهم بأسلوب رصين حكيم ، عن ارتكاب الفواحش التي كانت منتشرة فيهم ، وهي إنقاص الكيل والميزان ، وبخس الناس أشياءهم ...
ولكنهم - كعادة السفهاء الطغاة - قابلوا نصائحه بالتهكم والاستخفاف والوعيد ...
فكانت النتيجة أن حل بهم عذاب اللّه الذي أهلكهم ، كما أهلك أمثالهم.قال - تعالى - وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها ، أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ.
ثم تسوق السورة بعد ذلك بإيجاز ، جانبا من قصة موسى مع فرعون وملئه ، الذين اتبعوا أمر فرعون ، وما أمر فرعون برشيد.
ثم تعقب على كل تلك القصص السابقة ، بتعقيب يدل على أن هذا القرآن من عند اللّه ، وأنه - سبحانه - لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ... قال - تعالى - :(1/505)
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ، وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ....
أما في الربع السادس والأخير منها ، فنراها تبين بأسلوب قوى منذر ، أن الناس سيأتون يوم القيامة ، منهم الشقي ومنهم السعيد ، وأنه - سبحانه - سيوفى كل فريق منهم جزاءه غير منقوص.
ثم ترشد إلى ما يوصل إلى السعادة ، فتدعو إلى الاستقامة على أمر اللّه ، وإلى عدم الركون إلى الظالمين ، وإلى إقامة الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ، وإلى الصبر الجميل.قال - تعالى - : فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا ، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.
ثم ختمت السورة الكريمة ببيان أن من أهم مقاصد ذكر قصص الأنبياء في القرآن الكريم ، تثبيت فؤاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقوية قلبه ، وتسليته عما أصابه ، وتبشيره بأن العاقبة له ولأتباعه.قال - تعالى - : وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ. وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
7 - أهم الموضوعات التي عنيت السورة الكريمة بالحديث عنها :
من استعراضنا لسورة هود ، ومن معرفة الفترة التي نزلت فيها ، نستطيع أن نقول : إن السورة الكريمة قد عنيت بالحديث عن موضوعات متنوعة من أهمها ما يأتى :
(ا) ترغيب الناس في طاعة اللّه ، وتحذيرهم من معصيته ، وهذا المعنى نراه في كثير من آيات سورة هود ، ومن ذلك : قوله - تعالى - : أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ....
وقوله - تعالى - حكاية عن هود - عليه السلام - : وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ....
وقوله - تعالى - حكاية عن شعيب - عليه السلام - : وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ....
(ب) تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من قومه ، ومن مظاهر هذه التسلية ، أن السورة الكريمة قد اشتملت في معظم آياتها على قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم. فقد ذكرت نواحي متنوعة من قصة نوح مع قومه(1/506)
، ومن قصة هود مع قومه ، ومن قصة صالح مع قومه ، ومن قصة شعيب مع قومه ، ومن قصة لوط مع قومه ...
وقد تحدثت خلال كل قصة عن المسالك الخبيثة ، والمجادلات الباطلة ، التي اتبعها الطغاة مع أنبيائهم الذين جاءوا لسعادتهم وهدايتهم.
كما ختمت كل قصة من هذه القصص ، ببيان حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المكذبين ..
وفي ذلك ما فيه من التسلية للرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - عما لحقه من أذى ، وما أصابه من اضطهاد ، وما تعرض له من اعتداء عليه وعلى أصحابه.
وكأن ما ورد في هذه السورة من قصص طويل متنوع ، يقول للرسول - صلى الله عليه وسلم - : إن ما أصابك من قومك يا محمد ، قد أصاب الأنبياء السابقين من أقوامهم ، فاصبر كما صبروا ، فإنه ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسول من قبلك.
(ج) إقامة الأدلة على أن هذا القرآن من عند اللّه ، وليس من كلام البشر ..
فقد تحداهم هنا أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا ، ثم تحداهم في موطن آخر أن يأتوا بسورة من مثله فما استطاعوا ، وساق لهم - على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكثير من أخبار الأولين ، ومن قصص الأنبياء مع أقوامهم مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن معاصرا لهؤلاء السابقين ، ولم يكن قارئا لأخبارهم فدل ذلك على أن هذا القرآن من عند اللّه ، وعلى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صادق فيما يبلغه عن ربه.
قال - تعالى - : أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
وقال - تعالى - : تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ ، إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.
(د) بيان سنة من سنن اللّه التي لا تتخلف ، وهي أنه - سبحانه - لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم بإعراضهم عن الحق ، واتباعهم للهوى ، واستحقاقهم للعقوبة التي هي جزاء عادل لكل ظالم.
وهذا البيان نراه في مواضع متعددة من السورة ، ومن ذلك قوله - تعالى - في ختام الحديث عن قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم.ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ، لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ. وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. إِنَّ فِي ذلِكَ(1/507)
لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ، ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ..... (1)
بين هذه السورة وسابقتها تشابه في مواضع كثيرة ، حيث احتوت حكاية لأقوال ومواقف تعجيزية عديدة للكفار وردود عليها ومناقشة لها وإفحام لهم فيها.
وفيها سلسلة طويلة من قصص الأنبياء والأمم للتذكير بما كان من مواقف كفار الأمم السابقة من أنبيائهم وما صاروا إليه من سوء المصير وما صار المؤمنون منهم إليه من حسن العقبى والنجاة ، تثبيتا وتطمينا للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وإنذارا للكفار ، وفيها تذكير بحكمة اللّه في خلقه التي اقتضت أن لا يكونوا أمة واحدة.
وفصول السورة مترابطة مما يسوغ القول إنها نزلت متتابعة حتى تمت كسابقاتها ، والتشابه بينها وبين السورة السابقة قد يكون قرينة على تتابعهما في النزول ، والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآيات [12 و17 و114] مدنيات ، وانسجام الآيات في السياق والموضوع مع سابقاتها ولا حقاتها يسوغ الشك في صحة الرواية. (2)
سورة هود عليه السلام مكية وهي مائة وثلاث وعشرون آية.
تسميتها :
سميت سورة هود لاشتمالها على قصة هود عليه السلام مع قومه : «عاد» في الآيات [50 - 60] وهي كغيرها من قصص القرآن تمثل صراعا حادا عنيفا بين هود عليه السلام وبين قومه الذين دعاهم إلى عبادة اللّه تعالى ، وهجر عبادة الأصنام والأوثان ، فلما أصروا على كفرهم وتكذيبه ، عذبهم اللّه بعذاب غليظ شامل وهو الريح العقيم الصرصر ، التي سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما : وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ، وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [هود 11/ 58] وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى ، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [الحاقة 69/ 6 - 8].
نزولها وشأنها ومناسبتها لما قبلها :
هذه السورة مكية أي نزلت في مكة إلا الآيات الثلاث التالية وهي :
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (7 / 147)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (3 / 501)(1/508)
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ .. [12] كما قال ابن عباس ومقاتل ، وقوله : أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ .. أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ .. [17] فإنها نزلت في ابن سلام وأصحابه ، وقوله : وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ .. [114] فإنها نزلت في نبهان التمار.
وقد نزلت بعد سورة يونس ، وهي منفقة معها في معناها وموضوعها وافتتاحها ب الر واختتامها بوصف الإسلام والقرآن والنبي الذي جاء بالحق من اللّه ، والدعوة إلى الإيمان بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وتفصيلها ما أجمل في سورة يونس من أمور الاعتقاد من إثبات الوحي والتوحيد والبعث والمعاد والثواب والعقاب والحساب ، وإعجاز القرآن وإحكام آياته ، ومحاجّة المشركين في ذلك وتحديهم بالقرآن ، وذكر قصص بعض الأنبياء كنوح وإبراهيم وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام.
وتمتاز هذه السورة بما فيها من القوارع والزواجر التي اشتملت عليها قصص هؤلاء الأنبياء ، والدعوة الشديدة إلى الاستقامة ، مبتدأة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ،روى أبو عيسى الترمذي عن ابن عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول اللّه ، قد شبت ، قال : «شيبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعمّ يتساءلون ، وإذا الشمس كورت».
وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عما شيبة من سورة هود ، فقال : قوله تعالى : فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ.
ومن فضائلها :
ما أسنده أبو محمد الدارمي في مسنده عن كعب قال : قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «اقرؤوا سورة هود يوم الجمعة»
وعن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «من قرأ سورة هود ، أعطي من الأجر عشر حسنات ..».
ما اشتملت عليه السورة :
تضمنت هذه السورة كسورة يونس أصول الدين العامة وهي التوحيد ، والرسالة ، والبعث والجزاء ، وتوضيح هذه العناصر إجمالا فيما يأتي :
1 - إثبات كون القرآن من عند اللّه ، من طريق إحكام آياته وإتقانها بنظمها نظما رصينا محكما لا نقص فيه ولا خلل ، كالبناء المحكم ، ثم تفصيلها في الحال دون تراخ ، ببيان دلائل التوحيد والنبوة والأحكام والمواعظ والقصص والتفرقة بين الحق والباطل ، ومن طريق إعجاز القرآن وتحديه العرب بأن يأتوا بعشر سورة مثله : أَمْ يَقُولُونَ : افْتَراهُ ، قُلْ : فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [هود 11/ 13] وبعد أن عجزوا عن محاكاته والإتيان بمثله أو بمثل أقصر سورة منه ، أعلن اللّه تعالى إفلاسهم وعجزهم فقال : فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ ، فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [هود 11/ 14].(1/509)
2 - توحيد اللّه : وهو نوعان :
أ- توحيد الألوهية : وهو عبادة اللّه وحده وعدم عبادة أحد سواه ، كما قال تعالى في مطلع هذه السورة : أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ .. فعبادة كل من سواه كفر وضلال.
ب - توحيد الربوبية : أي الاعتقاد بأن اللّه وحده هو الخالق المدبر لهذا الكون ، والمتصرف فيه على مقتضى حكمته ونظام سنته. وكان عرب الجاهلية يؤمنون بأن اللّه هو الرب الخالق : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، لَيَقُولُنَّ اللَّهُ .. [العنكبوت 29/ 61] ولكنهم كانوا يقولون بتعدد الآلهة. وورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تثبت توحيد الربوبية ، مثل المذكور في هذه السورة : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ..[7] والخلق : التقدير المحكم الذي تكون فيه الأشياء على مقادير متناسبة ، ثم أريد به الإيجاد التقديري.
3 - إثبات البعث والجزاء : للإيمان بهما وللترغيب والترهيب ، كما في قوله تعالى : إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [4] وقوله : وَلَئِنْ قُلْتَ : إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [7].
4 - اختبار البشر لمعرفة إحسان أعمالهم : لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [7].
5 - الموازنة بين طبع المؤمن والكافر في أحوال الشدة والرخاء ، فالمؤمن صابر وقت الشدة ، شاكر وقت الرخاء ، والكافر فرح فخور حال النعمة ، يئوس كفور حال المصيبة [الآيات 9 - 11].
6 - استعجال البشر الخير والنفع ، والعذاب الذي ينذر به الرسل : وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ : ما يَحْبِسُهُ .. [8] وقال تعالى في سورة يونس المتقدمة : وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ ، لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [11].
7 - طبائع البشر مختلفة حتى في قبول الدين إلا من رحم ربك :وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ .. [118 - 119] أي أن لهذا الاختلاف فوائد علمية وعلمية ، كما أن فيه مضارّ إذا أدى إلى التفرق في الدين والاختلاف في أصول الحياة والمصالح العامة.
8 - إيراد قصص الأنبياء بالتفصيل تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - على ما يتعرض له. من أذى قريش وصدودهم عن دعوته : وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ .. [120] ، وفي كل قصة عبرة وعظة أيضا للمؤمنين. وقد ذكر اللّه قصة نوح أب البشر الثاني وأمره له بصناعة الفلك ، لنجاته ومن معه من المؤمنين ، وإغراق قومه بالطوفان الذي عم الأرض ، ونوح أطول الأنبياء عمرا ، وأكثرهم بلاء وصبرا [الآيات : 25 - 49] وتبين من قصته أن أتباع الرسل عادة هم الفقراء ، كما حكى تعالى عن قوم نوح : وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هود 11/ 27].(1/510)
ثم ذكر اللّه تعالى قصة هود الذي سميت السورة باسمه ، ودعوته قومه «عاد» الأشداء العتاة المتجبرين إلى عبادة اللّه تعالى ، فاعترفوا بقوتهم وقالوا :
مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ فأهلكهم اللّه بريح صرصر عاتية في بحر أسبوع :سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة 69/ 7] وعبر عن ذلك بأنه عذاب غليظ ، بسبب الكفر والجحود بالآيات الإلهية : وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ، وَعَصَوْا رُسُلَهُ ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ .. [الآيات : 50 - 60].
ثم ذكر سبحانه قصة صالح مع قومه ثمود [الآيات : 61 - 68]. وأشار إلى قصة ضيوف إبراهيم من الملائكة [الآيتان : 69 - 70] ثم قصة «لوط» [الآيات : 70 - 83] ثم قصة شعيب [الآيات : 84 - 95] ثم قصة موسى مع فرعون [الآيات : 96 - 99].
9 - التعقيب المباشر على ما في تلك القصص من عبر وعظات ، بإهلاك الظالمين ، كما قال تعالى : ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ، مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ ، وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الآيات : 100 - 111].
10 - الأمر بالاستقامة في الدين [الآية : 112] وهو أمر ثقيل شديد على النفس ، يتطلب جهاد النفس ، والصبر على أداء الواجبات ، وحمايتها من الموبقات المهلكات.
11 - الطغيان سبيل الدمار ، والركون إلى الظلم موجب عذاب النار :وَلا تَطْغَوْا ، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [الآية : 113].
12 - الأمر بإقامة الصلاة في أوقاتها ليلا ونهارا لأن الحسنات يذهبن السيئات [الآية : 111] والصبر على الطاعة ، فإن اللّه لا يضيع أجر المحسنين [الآية : 115].
13 - محاربة الفساد في الأرض من أجل حفظ الأمة والأفراد من الهلاك :
فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ [الآية : 116].
14 - لا إهلاك ولا عذاب للأمم في حال الإصلاح [الآية : 117].
15 - تهديد المعرضين عن دعوة الحق بالعذاب ، وجعل العاقبة للمتقين.
ويلاحظ أن التهديد والترغيب أمران متلازمان مفيدان في إصلاح الأفراد والجماعات ، وبناء الأمة وتحقيق غلبتها على خصومها ، لذا اقترنا غالبا في القرآن.
16 - ختمت السورة بما بدئت به من الأمر بعبادة اللّه وحده والاتكال عليه ، والتحذير من عقابه : وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ، ليتناسق البدء مع الختام. (1)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (12 / 5)(1/511)
سورة هود عليه السلام مكية على القول الصحيح ، وعدد آياتها ثلاث وعشرون ومائة.
وقد نزلت بعد سورة يونس ؟ هي في معناها وموضوعها ، وفصل فيها ما أجمل في سابقتها ، وكلاهما يتناول أصول العقائد ، وإعجاز القرآن والكلام على البعث والجزاء والثواب والعقاب ، مع ذكر قصص بعض الأنبياء بالتفصيل ألا ترى أن المناسبة بينهما ظاهرة ؟ ! وروى الترمذي عن ابن عباس قال : قال أبو بكر - رضى اللّه عنه - : يا رسول اللّه : قد شبت! قال : « شيّبتنى هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعمّ يتساءلون ، وإذا الشّمس كوّرت »
، ولا غرابة ففي تلاوة هذه السورة ما يكشف سلطان اللّه وبطشه مما تذهل منه النفوس ، وتضطرب له القلوب وتشيب منه الرءوس.
وذلك حينما نقف على أخبار الأمم الماضية ، وما حل بها من عاجل بأس اللّه ، وقيل : إن الذي شيبه من سورة هود قوله تعالى : فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ. (1)
وهى مكية كالتى قبلها ، وعدد آيها ثلاث وعشرون ومائة ، نزلت بعد سورة يونس ، وتصمنت ما تضمنته تلك من أصول الإسلام ، وهى التوحيد والنبوة والبعث والحساب والجزاء.
وفصّل فيها ما أجمل فى سابقتها من قصص الرسل عليهم السلام وهى مناسبة لها فى فاتحتها وخاتمتها وتفصيل الدعوة فى أثنائها ، فقد افتتحتا بذكر القرآن بعد (الر) وذكر رسالة النبي المبلغ عن ربه ، وبيان أن وظيفة الرسول إنما هى التبشير والإنذار وفى أثنائهما ذكر التحدي بالقرآن والرد على الذين زعموا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد افتراه ، ومحاجّة المشركين فى أصول الدين ، وختمتا بخطاب الناس بالدعوة إلى ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ثم أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى الأولى بالصبر حتى يحكم اللّه بينه وبين الكافرين ، وفى الثانية بانتظار هذا الحكم منه تعالى مع الاستقامة على عبادته والتوكل عليه.
وجه اتصالها بسورة يونس عليه السلام أنه ذكر في سورة يونس قصة نوح عليه السلام مختصرة جدا محملة فشرحت في هذه السورة وبسطت فيها ما لم تبسط في غيرها من السور ولا سورة الأعراف على طولها ولا سورة إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً [نوح : 1] التي أفردت لقصته فكانت هذه السورة شرحا لما أجمل في تلك السورة وبسطا له ثم إن مطلعها شديد الارتباط بمطلع تلك فإن قوله تعالى هنا : الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود : 1] نظير قوله سبحانه هناك : الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [يونس : 1] بل بين مطلع هذه وختام تلك شدة ارتباط أيضا حيث ختمت بنفي الشرك واتباع الوحي وافتتحت هذه ببيان الوحي
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (2 / 97)(1/512)
والتحذير من الشرك ، وورد في فضلها ما ورد ، فقد أخرج الدارمي وأبو داود في مراسيله والبيهقي في شعب الإيمان. وغيرهم عن كعب قال : «قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - اقرؤوا هودا يوم الجمعة».
وأخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : «قال أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه : يا رسول اللّه قد شبت قال : شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت».
وأخرج ابن عساكر من طريق يزيد الرقاشي عن أنس عن الصديق رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : «يا رسول اللّه أسرع إليك الشيب قال : أجل شيبتني سورة هود وأخواتها الواقعة والقارعة والحاقة وإذا الشمس كورت وسأل سائل».
وقد جاء في بعض الروايات أيضا أن عمر رضي اللّه تعالى عنه قال له عليه الصلاة والسلام : أسرع إليك الشيب يا رسول اللّه فأجابه بنحو ما ذكر إلا أنه ذكر من الأخوات الواقعة ، وعم ، وإذا الشمس كورت ، وفي رواية أخرى عن سعد بن أبي وقاص قال : قلت يا رسول اللّه لقد شبت فقال : شيبتني هود والواقعة إلى آخر ما في خبر عمر ، وفي بعضها الاقتصار على «شيبتني هود وأخواتها» ،وفي بعض آخر بزيادة «وما فعل بالأمم من قبلي» وقد أخرج ذلك ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي اللّه تعالى عنهما مرفوعا.
وأخرج ابن مردويه وغيره عن عمران بن حصين «أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال له أصحابه : أسرع إليك الشيب فقال : شيبتني هود وأخواتها من المفصل والواقعة»
وكل ذلك يدل على خطرها وعظم ما اشتملت عليه وأشارت إليه وهو الذي صار سببا لإسراع الشيب إليه - صلى الله عليه وسلم - ، وفسره بعضهم بذكر يوم القيامة وقصص الأمم ويشهد له بعض الآثار.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي علي الشتري قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام : فقلت يا رسول اللّه روي عنك أنك قلت : «شيبتني هود» قال : نعم. فقلت : ما الذي شيبك منها قصص الأنبياء عليهم السلام وهلاك الأمم؟ قال : لا ولكن قوله تعالى : فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود : 112] وهذا هو الذي اعتمد عليه بعض السادة الصوفية قدس اللّه تعالى أسرارهم وبينه بما بينه ، والحق أن الذي شيبه - صلى الله عليه وسلم - ما تضمنته هذه السورة أعم من هذا الأمر وغيره ما عظم أمره على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى علمه الجليل ومقامه الرفيع ، وهذا هو المنقدح لذهن السامع ولذلك لم يسأله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عما شيبه منها ومن أخواتها بل اكتفوا بما يتبادر من أمثال ذلك الكلام.
ودعوى أن المتبادر لهم رضي اللّه تعالى عنهم ما خفي على أبي علي فلذلك لم يسألوا على تقدير تسليمها يبقى أنهم لم يسألوا عما شيبه عليه الصلاة والسلام من الأخوات مع أنه ليس فيها إلا ذكر يوم القيامة(1/513)
وهلاك الأمم دون ذلك الأمر؟ وكونهم علموا أن المشيب فيها ذلك وفي أخواتها شيء آخر هو ذكر يوم القيامة وهلاك الأمم يأباه ما في خبر أبي علي من نفيه - صلى الله عليه وسلم - ، وكون ما ذكر مشيبا مفهوما من سورة دون أخرى لا يخفى حاله ، وبالجملة لا ينبغي التعويل على هذه الرواية وإن سلم أنها صحت عن أبي علي ، واتهام الرائي بعدم الحفظ أو بعدم تحقيق المرئي أهون من القول بصحة الرؤية والتكلف لتوجيه ما فيها ، وسيأتي في آخر السورة إن شاء اللّه تعالى تمام الكلام في هذا المقام فليفهم. (1)
* سورة هود مكية وهي تعنى بأصول العقيدة الإسلامية (التوحيد ، الرسالة ، البعث والجزاء) وقد عرضت لقصص الأنبياء بالتفصيل تسلية للنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) على ما يلقاه من أذى المشركين ، لاسيما بعد تلك الفترة العصيبة التي مرت عليه بعد وفاة عمه (أبي طالب وزوجه " خديجة " فكانت الآيات تتنزل عليه ، وهي تقص عليه ما حدث لإِخوانه الرسل أنواع الابتلاء ، ليتأسى بهم في الصبر والثبات .
* ابتدأت السورة الكريمة بتمجيد القرآن العظيم ، الذي أحكمت آياته ، فلا يتطرق إليه خلل ولا تناقض ، لأنه تنزيل الحكيم العليم ، الذي لا تخفى عليه خافية من مصالح العباد
* ثم عرضت لعناصر الدعوة الإسلامية ، عن طريق الحجج العقّليه ، مع الموازنة بين المؤمنين : ، فريق الهدى) و(فريق الضلال ) وضربت مثلا للفريقين ، وضحت به الفارق الهائل بين المؤمنين والكافرين ، وفرقت يينهما كما تفرق الشمس بين الظلمات والنور مثل الفريقين كالأعمى والأصم ، والبصير والسميع ، هل يستون مثلا ؟ أفلا تذكرون ؟.
* ثم تحدثت عن الرسل الكرام مبتدئة بقصة " نوح " عليه السلام أب البشر الثاني ، لأنه لم ينج من الطوفان إلا نوح والمؤمنون الذين ركبوا معه في السفينة ، وغرق كل من على وجه الأرض ، وهو أطول الأنبياء عمرا ، وأكثرهم بلاء وصبرا .
* ثم ذكرت قصة (هود) عليه السلام الذي سميت السورة الكريمة باسمه ، تخليدا لجهوده الكريمة في الدعوة إلى الله ، فقد أرسل الله تعالى إلى قوم (عاد) العتاة المتجبرين ، الذين اغتروا بقوة أجسامهم وقالوا : من أشد منا قوة ؟ فأهلكهم اللْه بالريح الصرصر العاتية ، وقد أسهبت الآيات في الحديث عنهم ، بقصد العظة والعبرة للمتكبرين المتجبرين " وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله ، واتبعوا أمر كل جبار عنيد " إلى قوله . . ألآ إن عادا كفروا ربهم ، ألا بعدا لعاد قوم هود " . " ثم تلتها قصة نبي الله " صالح " ثم قصة " شعيب " ثم قصة " موسى وهارون " ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، ثم جاء التعقيب المباشر بما في هذه القصص من العبر والعظات ، في إهلاك الله تعالى للظالمين " ذلك من أنباء القرى نقصه
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (6 / 189)(1/514)
عليك منها قائم وحصيد . " إلى قوله تعالى : " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهى ظالمة إن أخذه أليم شديد "
* وختمت السورة الكريمة ببيان الحكمة من ذكر قصص المرسلين ، وذلك للاعتبار بما حدث للمكذبين في العصور السالفة ، ولتثبيت قلب النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) أمام تلك الشدائد والأهوال " وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ، وجاءك في هذه الحق وموعظةِ وذكرى للمؤمنين . . " إلى قوله : فأعبده وتوكل عليه ، وما ربك بغافل عما تعملون ، وهكذا تختم السورة بالتوحيد كما بدأت به ، ليتناسق البدء مع الختام !! (1)
مقصودها وصف الكتاب بالإحكام والتفصيل في حالتي البشارة والنذارة المقتضي ذلك لمنزلة سبحانه وضع كل شيء في أتم محاله وإنفاذه مهما أريد الموجب للقدرة على كل شيء ، وأنسب ما فيها لهذاالمقصد ما ذكر في سياق قصة هو عليه السلام من أحكام البشارة والنذارة بالعاجل والآجل والتصريح بالجزم بالمعالجة بالمبادرة الناظر إلى أعظم مدارات السورة ) فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ( والعناية بكل دابة والقدرة على كل شيء من البعث وغيره المقتضي للعلم بكل معلوم اللازم منه التفرد بالملك .
وسيأتي في الأحاف وجه اختصاص كل منهما باسمهما ) بسم الله ) أي الذي له تمام العلم وكمال الحكمة وجميه القدرة ) الرحمن ( لجميع خلقه بعموم البشارة والنذارة ) الرحيم ( لأهل ولايته بالحفظ في سلوك سبيله ) (2)
هذه السورة مكية بجملتها. خلافا لما ورد في المصحف الأميري من أن الآيات (12 ، 17 ، 114) فيها مدنية. ذلك أن مراجعة هذه الآيات في سياق السورة تلهم أنها تجيء في موضعها من السياق ، بحيث لا يكاد يتصور خلو السياق منها بادئ ذي بدء. فضلا على أن موضوعاتها التي تقررها هي من صميم الموضوعات المكية المتعلقة بالعقيدة ، وموقف مشركي قريش منها ، وآثار هذا الموقف في نفس رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - والقلة المسلمة معه ، والعلاج القرآني الرباني لهذه الآثار ..
فالآية 12 مثلا هذا نصها : «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا : لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ! إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ». وواضح أن هذا التحدي وهذا العناد من قريش إلى الحد الذي يضيق به صدر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بحيث يحتاج إلى التسرية عنه ، والتثبيت على ما يوحى إليه إنما كان في مكة وبالذات في الفترة التي تلت وفاة أبي طالب وخديجة ،
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (2 / 23)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (3 / 498)(1/515)
وحادث الإسراء ، وجرأة المشركين على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وتوقف حركة الدعوة تقريبا وهي من أقسى الفترات التي مرت بها الدعوة في مكة ..
والآية 17 هذا نصها : «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ، وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً؟ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ، فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» .. وواضح كذلك أنها من نوع القرآن المكي واتجاهه في مواجهة مشركي قريش بشهادة القرآن للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه إنما يوحى إليه من ربه وبشهادة الكتب السابقة وبخاصة كتاب موسى وبتصديق بعض أهل الكتاب به - وهذا ما كان في مكة من أفراد من أهل الكتاب - واتخاذ هذا قاعدة للتنديد بموقف المشركين. وتهديد الأحزاب منهم بالنار. مع تثبيت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على الحق الذي هو معه ، في وجه توقف الدعوة ، وعناد الأكثرية الغالبة في مكة وما حولها من القبائل .. وليس ذكر كتاب موسى بشبهة على مدنية الآية. فهي ليست خطابا لبني إسرائيل ولا تحديا لهم - كما هو العهد في القرآن المدني - ولكنها استشهاد بموقف تصديق من بعضهم وبتصديق كتاب موسى - عليه السلام - لما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا أشبه بالموقف في مكة في هذه الفترة الحرجة ، ومقتضياتها الواضحة.
والآية 114 واردة في سياق تسرية عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما كان من الاختلاف على موسى من قبل. وتوجيهه للاستقامة كما أمر هو ومن تاب معه ، وعدم الركون إلى الذين ظلموا (أي أشركوا) والاستعانة بالصلاة وبالصبر على مواجهة تلك الفترة العصيبة .. وتتوارد الآيات هكذا : «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ، وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ ، إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا ، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)» .. وواضح أن الآية قطعة من السياق المكي ، موضوعا وجوا وعبارة ..
لقد نزلت السورة بجملتها بعد يونس. ونزلت يونس بعد الإسراء. وهذا يحدد معالم الفترة التي نزلت فيها وهي من أخرج الفترات وأشقها كما قلنا في تاريخ الدعوة بمكة. فقد سبقها موت أبي طالب وخديجة وجرأة المشركين على ما لم يكونوا ليجرؤوا عليه في حياة أبي طالب - وخاصة بعد حادث الإسراء وغرابته ، واستهزاء المشركين به ، وارتداد بعض من كانوا أسلموا قبله - مع وحشة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من خديجة - رضي اللّه عنها - في الوقت الذي تجرأت فيه قريش عليه وعلى دعوته وبلغت الحرب المعلنة(1/516)
عليه وعلى دعوته أقسى وأقصى مداها وتجمدت حركة الدعوة حتى ما كاد يدخل في الإسلام أحد من مكة وما حولها .. وذلك قبيل أن يفتح اللّه على رسوله وعلى القلة المسلمة معه ببيعة العقبة الأولى ثم الثانية ..
قال ابن إسحاق : ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد ، فتتابعت على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - المصائب بهلك خديجة - وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها - وبهلك عمه أبي طالب - وكان له عضدا وحرزا في أمره ، ومنعة وناصرا على قومه - وذلك قبل مهاجرته إلى المدينة بثلاث سنين. فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب ، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش ، فنثر على رأسه ترابا.
قال ابن إسحاق : فحدثني هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير ، قال : لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ذلك التراب ، دخل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بيته والتراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته ، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي. ورسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقول لها : «لا تبكي يا بنية ، فإن اللّه مانع أباك» قال : ويقول بين ذلك : «ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب».
وقال المقريزي في إمتاع الأسماع : فعظمت المصيبة على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بموتهما وسماه «عام الحزن» وقال : «ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب» لأنه لم يكن في عشيرته وأعمامه حاميا له ولا ذابا عنه غيره.
ففي هذه الفترة نزلت سورة هود ويونس قبلها ، وقبلهما سورة الإسراء وسورة الفرقان وكلها تحمل طابع هذه الفترة وتحدث عن مدى تحدي قريش وتعديها
وآثار هذه الفترة وجوها وظلالها واضحة في جو السورة وظلالها وموضوعاتها! وبخاصة ما يتعلق بتثبيت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - والذين معه على الحق والتسرية عنه مما يساور قلبه من الوحشة والضيق والغربة في المجتمع الجاهلي.
وقد برز طابع هذه الفترة ومقتضياتها في السورة في سمات عدة نشير إلى بعض منها :
فمن ذلك استعراض السورة لحركة العقيدة الإسلامية. في التاريخ البشري كله ، من لدن نوح - عليه السلام - إلى عهد محمد عليه الصلاة والسلام - وتقرير أنها قامت على حقائق أساسية واحدة : هي الدينونة للّه وحده بلا شريك ، والعبودية له وحده بلا منازع والتلقي في هذه الدينونة والعبودية عن رسل اللّه وحدهم على مدار التاريخ. مع الاعتقاد بأن الحياة الدنيا إنما هي دار ابتلاء لا دار جزاء وأن الجزاء إنما يكون في الآخرة وأن حرية الاختيار التي أعطاها اللّه للإنسان ليختار الهدى أو الضلال هي مناط هذا الابتلاء.(1/517)
ولقد جاء محمد عليه الصلاة والسلام ومعه «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» .. أما مضمون هذا الكتاب الأساسي فهو : «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ، إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ. وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ...
ولكن هذه لم تكن دعوة مبتدعة ولا قولا غير مسبوق .. لقد قالها من قبل نوح وهود وصالح وشعيب وموسى وغيرهم : «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ، إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ» .. «وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ. يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ، أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ .. وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» .. «وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ، قالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها ، فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ ، إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ. وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» ..
فكلهم إذن قال هذه الكلمة الواحدة ودعا بهذه الدعوة الثابتة ..
ومن ذلك عرض مواقف الرسل - صلوات اللّه وسلامه عليهم - وهم يتلقون الإعراض والتكذيب ، والسخرية والاستهزاء ، والتهديد والإيذاء ، بالصبر والثقة واليقين بما معهم من الحق ، وفي نصر اللّه الذي لا شك آت ثم تصديق العواقب في الدنيا - وفي الآخرة كذلك - لظن الرسل الكرام بوليهم القادر العظيم ، بالتدمير على المكذبين ، وبالنجاة للمؤمنين :
ففي قصة نوح نجد هذا المشهد : «فقال الملأ الذين كفروا من قومه : ما نراك إلا بشرا مثلنا ، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ، وما نرى لكم علينا من فضل ، بل نظنكم كاذبين .. قال :يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعمّيت عليكم ، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟
ويا قوم لا أسألكم عليه مالا ، إن أجري إلا على اللّه ، وما أنا بطارد الذين آمنوا ، إنهم ملاقو ربهم. ولكني أراكم قوما تجهلون. ويا قوم من ينصرني من اللّه إن طردتهم؟ أفلا تذكرون؟ ولا أقول لكم عندي خزائن اللّه ، ولا أعلم الغيب ، ولا أقول : إني ملك ، ولا أقول للذين تزدري أعينكم : لن يؤتيهم اللّه خيرا ، اللّه أعلم بما في أنفسهم ، إني إذن لمن الظالمين. قالوا : يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ، فأتنا(1/518)
بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال : إنما يأتيكم به اللّه - إن شاء - وما أنتم بمعجزين» .. ثم يجيء مشهد الطوفان وهلاك المكذبين ونجاة المؤمنين.
وفي قصة هود نجد هذا المشهد : «قالوا : يا هود ما جئتنا ببينة ، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ، وما نحن لك بمؤمنين. إن نقول : إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء .. قال : إني أشهد اللّه ، واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه ، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون. إني توكلت على اللّه ربي وربكم ، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ، إن ربي على صراط مستقيم ، فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ، ويستخلف ربي قوما غيركم ، ولا تضرونه شيئا ، إن ربي على كل شىء حفيظ» .. ثم تجيء العاقبة : «وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ. وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ ، أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ ، أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ!».
وفي قصة صالح نجد هذا المشهد : «قالوا : يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ، أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب. قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ، فمن ينصرني من اللّه إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير» .. ثم تجيء العاقبة بعد عقر الناقة والتكذيب :
«فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ، وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها ، أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ ، أَلا بُعْداً لِثَمُودَ!» ..
وفي قصة شعيب نجد هذا المشهد : «قالوا : يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ إنك لأنت الحليم الرشيد! قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا؟ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلا باللّه ، عليه توكلت وإليه أنيب. ويا قوم لا يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح ، وما قوم لوط منكم ببعيد. واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، إن ربي رحيم ودود.
قالوا : يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول ، وإنا لنراك فينا ضعيفا ، ولولا رهطك لرجمناك ، وما أنت علينا بعزيز. قال : يا قوم أرهطي أعز عليكم من اللّه واتخذتموه وراءكم ظهريا؟ إن ربي بما تعملون محيط. ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل ، سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب ، وارتقبوا إني معكم رقيب» .. ثم تجيء الخاتمة : «وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ، وَأَخَذَتِ(1/519)
الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ، فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها ، أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ!» ..
ومن ذلك التعقيب على هذا القصص بتوجيه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إلى دلالته : والتسرية عنه بما أصاب إخوانه الكرام قبله وبما أولاهم اللّه من رعايته ونصره وتوجيهه - صلى الله عليه وسلم - إلى مفاصلة المكذبين من قومه كما فاصل الرسل الكرام أقوامهم على الحق الذي أرسلوا به .. وذلك إلى التنويه بدلالة هذا القصص ذاته على صدق دعواه في الوحي والرسالة.
فبعد نهاية قصة نوح نجد هذا التعقيب : «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا ، فَاصْبِرْ ، إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ».
وفي نهاية القصص الوارد في السورة نجد هذا التعقيب الطويل إلى ختام السورة : «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ، وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ. وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» .. «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ، وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ. وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ ، إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ ، وَلا تَطْغَوْا ، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» ... «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ ، وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ : اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ. وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ.
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ، فَاعْبُدْهُ ، وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ..
وهكذا يتجلى لنا الجانب الحركي في التوجيه القرآني؟ وهكذا نرى القرآن يواجه واقع الدعوة والحركة في كل مرحلة بالتوجيه المكافئ للموقف وهكذا نجد القصص في القرآن يواجه مقتضيات الحركة والمعركة مع الجاهلية في مراحلها المختلفة مواجهة حية فاعلة ، شأنه شأن بقية السورة التي يجيء فيها ونجده في الوقت ذاته متناسقا مع سياق السورة وجوها وموضوعها ، متوافيا مع أهدافها ، مصدقا في عالم الواقع لما تقرره من توجيهات وأحكام وإيحاءات تقريرية.
ولقد جاء في التعريف بسورة يونس من قبل في الجزء الحادي عشر :(1/520)
«ولقد كان آخر عهدنا - في هذه الضلال - بالقرآن المكي سورة الأنعام وسورة الأعراف متواليتين في ترتيب المصحف - وإن لم تكونا متواليتين في ترتيب النزول - ثم جاءت الأنفال والتوبة بجوهما وطبيعتهما وموضوعاتهما المدنية الخاصة - فالآن إذ نعود إلى القرآن المكي نجد سورتي يونس وهود متواليتين في ترتيب المصحف وفي ترتيب النزول أيضا .. والعجيب أن هناك شبها كبيرا بين هاتين السورتين وهاتين ، في الموضوع ، وفي طريقة عرض هذا الموضوع كذلك! فسورة الأنعام تتناول حقيقة العقيدة ذاتها وتواجه الجاهلية بها وتفند هذه الجاهلية ، عقيدة وشعورا ، وعبادة وعملا. بينما سورة الأعراف تتناول حركة هذه العقيدة في الأرض ، وقصتها في مواجهة الجاهلية على مدار التاريخ. وكذلك نحن هنا مع سورتي يونس وهود ..
في شبه كبير في الموضوع وفي طريقة العرض أيضا .. إلا أن سورة الأنعام تنفرد عن سورة يونس بارتفاع وضخامة في الإيقاع ، وسرعة وقوة في النبض ، ولألاء شديد في التصوير والحركة .. بينما تمضي سورة يونس في إيقاع رخي. ونبض هادئ. وسلاسة وديعة! .. فأما هود فهي شديدة الشبه بالأعراف موضوعا وعرضا وإيقاعا ونبضا .. ثم تبقى لكل سورة شخصيتها الخاصة ، وملامحها المميزة ، بعد كل هذا التشابه والاختلاف» ..
فالآن نفصل هذه الإشارة المجملة :
إن سورة يونس تحتوي على جانب من القصص مجمل .. إشارة إلى قصة نوح ، وإشارة إلى الرسل من بعده ، وشيء من التفصيل في قصة موسى ، وإشارة مجملة إلى قصة يونس .. ولكن القصص إنما يجيء في السورة شاهدا ومثالا لتصديق الحقائق الاعتقادية التي تستهدفها السورة.
أما سورة هود فالقصص فيها هو جسم السورة. وهو وإن جاء شاهدا ومثالا لتصديق الحقائق الاعتقادية التي تستهدفها إلا أنه يبدو فيه أن استعراض حركة العقيدة الربانية في التاريخ البشري هو الهدف الواضح البارز.
لذلك نجد تركيب السورة يحتوي على ثلاثة قطاعات متميزة :
القطاع الأول يتضمن حقائق العقيدة في مقدمة السورة ويشغل حيزا محدودا.
والقطاع الثاني يتضمن حركة هذه الحقيقة في التاريخ ويشغل معظم سياق السورة.
والقطاع الثالث يتضمن التعقيب على هذه الحركة في حيز كذلك محدود ..
وواضح أن قطاعات السورة بجملتها تتعاون وتتناسق في تقرير الحقائق الاعتقادية الأساسية التي يستهدفها سياق السورة كله وأن كل قطاع منها يقرر هذه الحقائق وفق طبيعته وطريقة تناوله لهذه الحقائق. وهي تختلف بين التقرير والقصص والتوجيه.(1/521)
وهذه الحقائق الأساسية التي تستهدف السورة تقريرها هي :
أن ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به الرسل من قبله حقيقة واحدة موحى بها من اللّه - سبحانه - وهي تقوم على الدينونة للّه وحده بلا شريك. والتلقي في هذه الدينونة عن رسل اللّه وحدهم كذلك. والمفاصلة بين الناس على أساس هذه الحقيقة :
ففي مقدمة السورة تجيء هذه الآيات عن حقيقة دعوة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - :
«الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ، إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ» ..
«أم يقولون : افتراه؟ قل : فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون اللّه إن كنتم صادقين. فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم اللّه ، وأن لا إله إلا هو ، فهل أنتم مسلمون؟».
وفي قصص الرسل يرد عن حقيقة دعوتهم وعن المفاصلة بينهم وبين قومهم وأهلهم على أساس العقيدة :«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ، إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ».
«قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟» ..
«ونادى نوح ربه فقال : رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين. قال : يا نوح إنه ليس من أهلك ، إنه عمل غير صالح ، فلا تسألن ما ليس لك به علم ، إني أعظك أن تكون من الجاهلين».
«وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ» ..
«وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ، قالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» ..
«قالَ : يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً ، فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ» ..
«وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ، قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ...».
«قالَ : يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً ...».
وفي التعقيب ترد هذه الآيات عن حقيقة الدعوة وعن المفاصلة بين الناس على أساسها :«وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ» ..(1/522)
«وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ».
وهكذا تلتقي قطاعات السورة الثلاثة على تقرير هذه الحقيقة.
ولكي يدين الناس للّه وحده بالربوبية ، فإن السورة تتولى تعريفهم به سبحانه ، وتقرر كذلك أنهم في قبضته في هذه الدنيا وأنهم راجعون إليه يوم القيامة ليجزيهم الجزاء الأخير .. وتتوافى مقاطع السورة الثلاثة في تقرير هذه الحقيقة كذلك.
في المقدمة يجيء :«أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ، أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها ، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها ، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ، وَلَئِنْ قُلْتَ : إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ : ما يَحْبِسُهُ؟ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ..
«مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ، وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها ، وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
وفي قصص الرسل تجيء أمثال هذه التعريفات :«إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ، وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً ، إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» ..
«وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً. قالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ. هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها ، فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» ..
وفي التعقيب يجي ء :«وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ. إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» .. «وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ ، إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».
«وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ..
وهكذا تتوافى قطاعات السورة الثلاثة كذلك على التعريف بحقيقة الألوهية وحقيقة الآخرة في سياقها.
وهي لا تستهدف إثبات وجود اللّه - سبحانه - إنما تستهدف تقرير ربوبية اللّه وحده في حياة البشر ، كما أنها مقررة في نظام الكون .. فقضية الألوهية لم تكن محل خلاف إنما قضية الربوبية هي التي كانت(1/523)
تواجهها الرسالات وهي التي كانت تواجهها الرسالة الأخيرة. إنها قضية الدينونة للّه وحده بلا شريك والخضوع للّه وحده بلا منازع. ورد أمر الناس كلهم إلى سلطانه وقضائه وشريعته وأمره. كما هو واضح من هذه المقتطفات من قطاعات السورة جميعا.
وفي سبيل إنشاء تلك الحقائق الاعتقادية في الضمائر ، وتثبيتها في النفوس ، وتعميقها في الكيان البشري ، وبث الحياة النابضة الدافعة فيها بحيث تستحيل قوة إيجابية موحية ، مكيفة للمشاعر والتصورات والأعمال والحركات .. في سبيل إنشاء تلك الحقائق على هذا النحو وفي هذا المستوي يحتوي سياق السورة على شتى المؤثرات الموحية والإيقاعات التي تلمس أوتار الكيان البشري كلها في عمق واستجاشة ، وهو يعرض هذه الحقائق ويفصلها ..
يحتوي الكثير من الترغيب والترهيب .. الترغيب في خير الدنيا والآخرة لمن يستجيب لداعي الدينونة للّه وحده بلا شريك ، وما تحمله للبشرية من خير وصلاح ونماء .. والترهيب بالحرمان من خير الدنيا أو الآخرة وبالعذاب في الدنيا أو في الآخرة لمن يعرضون عن هذا الداعي ، ويسلكون طريق الطواغيت حيث يسلمونهم في الآخرة إلى جهنم ، التي يقودون لها أتباعهم في الآخرة جزاء ما استسلم لقيادتهم هؤلاء الأتباع في الدنيا ورضوا بالدينونة لهم دون الدينونة للّه تعالى. وهذه نماذج من الترهيب والترغيب :«...أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ، إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ، وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
«مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها ، وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ، وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها ، وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
«أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ، وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً؟ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ، فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً؟ أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ ، وَيَقُولُ الْأَشْهادُ : هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ، أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ، وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ، يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ، ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ. لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟».(1/524)
«وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ، وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» ... «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ، وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ ، وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً ، إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» ..
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ، فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ، وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ. يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ، وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ. وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ!» ...... إلخ ... إلخ ..
ويحتوي السياق ذلك القصص الطويل الذي يصدق ذلك الترغيب والترهيب في حركة العقيدة على مدار التاريخ من مصارع المكذبين ونجاة المؤمنين - على النحو الذي سبق في بعض المقتطفات - ويبرز مشهد الطوفان بصفة خاصة ويبلغ نبض السورة أعلى مستواه في ثنايا هذا المشهد الكوني الفريد :«وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ، فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ. وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ، وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ. وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ، قالَ : إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ ، وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ. حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا : احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ - إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ - وَمَنْ آمَنَ ، وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ. وَقالَ : ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ ، وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ - وَكانَ فِي مَعْزِلٍ - يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ. قالَ : سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ! قالَ : لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ، وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ. وَقِيلَ : يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ، وَقِيلَ : بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ... إلخ ويحتوي بعض صور النفس البشرية في مواجهة الأحداث الجارية بالنعماء والبأساء فيرفع للمكذبين المستعجلين بالعذاب ، المتحدين للنذر في استهتار ..
يرفع لهم صور أنفسهم وهم في مواجهة ما يستعجلون به حين يحل بهم وفي الحسرات التي تصيب أنفسهم على تقلب الأحداث بهم وفوت النعمة وإفلاتها من أيديهم وفي البطر والغرور والانخداع بكشف الضر وفيض النعمة من جديد :«وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ : ما يَحْبِسُهُ؟ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ. وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ، ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ ، إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ : ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي ، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» ... ...(1/525)
ويحتوي شيئا من مشاهد القيامة وصور المكذبين فيها ومواجهتهم لربهم الذي كذبوا بوحيه وتولوا عن رسله وما يجدونه يومئذ من خزي لا ينصرهم منه أرباب ولا شفعاء :«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً؟ أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ ، وَيَقُولُ الْأَشْهادُ : هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ! أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ! الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ، وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ، يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ، ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ ، أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ. لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ».
«وإِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ، ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ - إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ... عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ».
ومن المؤثرات التي ترتجف لها القلوب ما يصوره السياق من حضور اللّه سبحانه واطلاعه على ما يخفي البشر من ذوات الصدور بينما هم غارّون لا يستشعرون حضوره سبحانه ، ولا علمه المحيط ولا يحسون قهره للخلائق وإحاطته بها جميعا ، وهم - الذين يكذبون - في قبضته كسائر الخلائق من حيث لا يشعرون :«إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ! أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها ، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها ، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ..
«إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».
ومن المؤثرات الموحية في سياق السورة كذلك ، استعراض موكب الإيمان. بقيادة الرسل الكرام ، على مدار الزمان. وكل منهم يواجه الجاهلية الضالة بكلمة الحق الواحدة الحاسمة الجازمة ، في صراحة وفي صرامة ، وفي ثقة وطمأنينة ويقين .. وقد مر جانب من هذا الاستعراض في المقتطفات السابقة ، والبقية ستأتي في موضعها في تفسير السورة. ومما لا شك فيه أن وحدة موقف الرسل الكرام ، ووحدة الحقيقة التي يواجهون بها الجاهلية على مدار الزمان ووحدة العبارات المحكية عنهم التي تتضمن هذه الحقيقة .. يحمل في طياته ما يحمل من قوة وإيقاع وإيحاء .. (1)
بيان بإجمال للمقاصد الدينية التي حوتها هذه السورة
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 1839)(1/526)
قد اشتملت هذه السورة على ما اشتملت عليه سابقتها من أصول الدين ومبادئه العامة التي لا يكون المؤمن مؤمنا حقا إلا إذا سلك سبيلها ونهج نهجها ، ومن ذلك :
(1) التوحيد وهو ضربان :
(ا) توحيد الألوهية - وهو أول ما دعا إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - ودعا إليه كل رسول قبله ، وهو عبادته تعالى وحده وعدم عبادة أحد معه كما قال : « أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ » فعبادة غيره من الأصنام كحجر وشجر وكوكب أو بشر ولىّ أو نبى أو شيطان أو ملك إذا توجه العبد إليها توجها تعبديا ابتغاء النفع أو كشف الضر فى غير الأسباب التي سخرها اللّه لجميع الناس - كل ذلك كفر لا فرق بينه وبين عبادة الأصنام أو الأوثان إذ جميع ما عدا اللّه فهو عبد وملك له لا يتوجّه بالعبادة إليه.
(ب) توحيد الربوبية - أي اعتقاد أن اللّه وحده هو الخالق المدبر لهذا الكون والمتصرف فيه على مقتضى حكمته ونظام سنته وتسخيره الأسباب لمن شاء بما شاء ، وكان أكثر المشركين من العرب ومن قبلهم يؤمنون بأن الرب الخالق المدبر واحد ، ولكن يقولون بتعدد الآلهة التي يتقرّب بها إليه توسلا وطلبا للشفاعة عنده.
(2) إثبات رسالته - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن بتحديهم بالإتيان بعشر سور مثله مفتريات ودعوة من استطاعوا من دون اللّه لمظاهرتهم وإعانتهم على الإتيان بها إن كانوا صادقين ، وقوله بعد ذلك : « فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ » وما جاء فى قوله : « تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا » .
(3) جاءت آيات البعث والجزاء فى القرآن لدعوة المشركين إلى الإيمان والاستدلال بها على قدرة الخالق ، ولتذكير المؤمنين به للترغيب والترهيب والموعظة والجزاء كما جاء فى قوله : « إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » وقوله :
« وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ » .
(4) إهلاك الأمم بالظلم كما جاء فى قوله لخاتم رسله : « ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ » وقوله : « وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ » .
(5) سنته تعالى فى ضلال الناس وغوايتهم - بأن يكونا بارتكاب أسبابهما من الأعمال الاختيارية والإصرار عليها إلى أن تتمكن من صاحبها وتحيط به خطيئته حتى يفقد الاستعداد للهدى والرشاد.
(6) من طباع البشر العجل والاستعجال لما يطلب من النفع والخير وما ينذر به من الشر كما قال : « وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ » .(1/527)
(7) سنته تعالى فى تكوين الخلق وأنه كان أطوارا فى أزمنة مختلفة بنظام محكم ولم يكن شىء منه فجائيا بلا تقدير ولا ترتيب كما قال تعالى : « وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ » فكلمة الخلق معناها التقدير المحكم الذي تكون فيه الأشياء على مقادير متناسبة ثم أريد بها الإيجاد التقديري فالسموات السبع المرئية للناظرين والأجرام السماوية قائمة بسنن دقيقة النظام ، وما فيها من البسائط والمركّبات الغازية والسائلة والجامدة كذلك ، والكون فى جملته قائم بسنة عامة فى ربط بعضه ببعض وحفظ نظامه ، بأن يبنى بعضه على بعض وهو ما يسميه العلماء الجاذبية العامة والجاذبية الخاصة.
(8) إن الطغيان والركون إلى الظالمين من أمهات الرذائل كما قال : « وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ » .
(9) الاختلاف فى طبائع البشر ، فيه فوائد ومنافع علمية وعملية وعملية لا تظهر مزاياه بدونها ، وفيه مضار وشرور أكبرها التفرق والتعادي به ، وقد شرع اللّه لهم الدين لتكميل فطرتهم والحكم بينهم فيما اختلفوا فيه بكتابه الذي لا مجال فيه للاختلاف ، فاستحق الذين يحكّمونه فيما يتنازعون فيه رحمته وثوابه ، والذين يختلفون فيه سخطه وعقابه.
(10) اتباع الإتراف وما فيه من الفساد والإجرام - ذلك أن مثار الظلم والإجرام الموجب لهلاك الأمم هو اتباع أكثرها لما أترفوا فيه من أسباب النعيم والشهوات واللذات ، والمترفون هم مفسدو الأمم ومهلكوها.
وقد علم هذا المهتدون الأولون بالقرآن من الخلفاء الراشدين والسلف الصالحين فكانوا مثلا صالحا فى الاعتدال فى المعيشة أو تغليب جانب الخشونة والشدة على الإتراف والنعمة ففتحوا الأمصار وأقاموا دولة عز على التاريخ أن يقيم مثلها باتباع هدى القرآن وبيان السنة له وبذلك خرجوا من ظلمات الجهالة إلى نور العلم والعرفان ، ثم أضاعها من خلف من بعدهم من متبعى الإتراف ، وكيف ضلّوا بعد أن استفادوا الفنون والعلوم والملك والسلطان ، وللّه الأمر من قبل ومن بعد.
(11) إقامة الصلاة فى أوقاتها من الليل والنهار ، لأن الحسنات يذهبن السيئات ، وأعظم الحسنات الروحية الصلاة لما فيها من تطهير النفس وتزكية الروح.
(12) النهى عن الفساد فى الأرض ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وهما سياج الدين والأخلاق والآداب.
(13) سننه تعالى فى اختبار البشر لإحسان أعمالهم كما قال : « لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا » .
(14) أول أتباع الرسل والمصلحين هم الفقراء كما حكى عن قوم نوح « وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ » .(1/528)
(15) التنازع بين رجال المال ورجال الإصلاح فى حرية الكسب المطلقة أو تقييد الكسب بالحلال ومراعاة الفضيلة.
(16) من سننه تعالى جعل العاقبة للمتقين وذلك هو الأساس الأعظم فى فوز الجماعات الدينية والسياسية والأمم والشعوب فى مقاصدها وغلبها لخصومها ومناوئيها.
(17) بيان أن الاختلاف فى الدين ضرورى للعباد كما قال:« وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ » .
(18) بيان أن نهى أولى الأحلام عن الفساد يحفظ الأمة من الهلاك كما قال : « فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ » (1)
================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (12 / 102)(1/529)
(12) سورة يوسف
الاسم الوحيد لهذه السورة اسم سورة يوسف، فقد ذكر ابن حجر في كتاب "الإصابة" في ترجمة رافع بن مالك الزرقي عن ابن إسحاق أن أبا رافع بن مالك أول من قدم المدينة بسورة يوسف، يعني بعد أن بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم العقبة.
ووجه تسميتها ظاهر لأنها قصت قصة يوسف - عليه السلام - كلها، ولم تذكر قصته في غيرها. ولم يذكر اسمه في غيرها إلا في سورة الأنعام وغافر.
وفي هذا الاسم تميز لها من بين السور المفتتحة بحروف ألر، كما ذكرناه في سورة يونس.
وهي مكية على القول الذي لا ينبغي الالتفات إلى غيره. وقد قيل: إن الآيات الثلاث من أولها مدنية. قال في "الإتقان": وهو واه لا يلتفت إليه.
نزلت بعد سورة هود، وقبل سورة الحجر.
وهي السورة الثالثة والخمسون في ترتيب نزول السور على قول الجمهور.
ولم تذكر قصة نبي في القرآن بمثل ما ذكرت قصة يوسف - عليه السلام - هذه السورة من الإطناب.
وعدد آيها مائة وإحدى عشرة آية باتفاق أصحاب العدد في الأمصار.
من مقاصد هذه السورة
روى الواحدي والطبري يزيد أحدهما على الآخر عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: أنزل القرآن فتلاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه زمانا، فقالوا "أي المسلمون بمكة":يا رسول الله لو قصصت علينا، فأنزل الله {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة يوسف:1, 2] الآيات الثلاث.
فأهم أغراضها: بيان قصة يوسف - عليه السلام - مع إخوته، وما لقيه في حياته، وما في ذلك من العبر من نواح مختلفة.
وفيها إثبات أن بعض المرائي قد يكون إنباء بأمر مغيب، وذلك من أصول النبوءات وهو من أصول الحكمة المشرقية كما سيأتي عند قوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} [سورة يوسف:4] الآيات.
وأن تعبير الرؤيا علم يهبه الله لمن يشاء من صالحي عباده.
وتحاسد القرابة بينهم.(1/530)
ولطف الله بمن يصطفيه من عباده.
والعبرة بحسن العواقب، والوفاء، والأمانة، والصدق، والتوبة.
وسكنى إسرائيل وبنيه بأرض مصر.
وتسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - بما لقيه يعقوب ويوسف عليهما السلام من آلهم من الأذى. وقد لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من آله أشد ما لقيه من بعداء كفار قومه، مثل عمه أبي لهب، والنضر بن الحارث، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وإن كان هذا قد أسلم بعد وحسن إسلامه، فإن وقع أذى الأقارب في النفوس أشد من وقع أذى البعداء، كما قال طرفة:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [سورة يوسف:7].
وفيها العبرة بصبر الأنبياء مثل يعقوب ويوسف عليهم السلام على البلوى. وكيف تكون لهم العاقبة.
وفيها العبرة بهجرة قوم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى البلد الذي حل به كما فعل يعقوب -عليه السلام- وآله، وذلك إيماء إلى أن قريشا ينتقلون إلى المدينة مهاجرين تبعا لهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وفيها من عبر تاريخ الأمم والحضارة القديمة وقوانينها ونظام حكوماتها وعقوباتها وتجارتها. واسترقاق الصبي اللقيط. واسترقاق السارق، وأحوال المساجين. ومراقبة المكاييل.
وإن في هذه السورة أسلوبا خاصا من أساليب إعجاز القرآن وهو الإعجاز في أسلوب القصص الذي كان خاصة أهل مكة يعجبون مما يتلقونه منه من بين أقاصيص العجم والروم، فقد كان النضر بن الحارث وغيره يفتنون قريشا بأن ما يقوله القرآن في شأن الأمم هو أساطير الأولين اكتتبها محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وكان النضر يتردد على الحيرة فتعلم أحاديث "رستم" و"اسفنديار" من أبطال فارس، فكان يحدث قريشا بذلك ويقول لهم: أنا والله أحسن حديثا من محمد فهلم أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم بأخبار الفرس، فكان ما بعضها من التطويل على عادة أهل الأخبار من الفرس يموه به عليهم بأنه أشبع للسامع، فجاءت هذه السورة على أسلوب استيعاب القصة تحديا لهم بالمعارضة.
على أنها مع ذلك قد طوت كثيرا من القصة من كل ما ليس له كبير أثر في العبرة. ولذلك ترى في خلال السورة {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} [سورة يوسف:56] مرتين {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [سورة يوسف:76] فتلك عبر من أجزاء القصة.(1/531)
وما تخلل ذلك من الحكمة في أقوال الصالحين كقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [سورة يوسف:67]، وقوله: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة يوسف:90]. (1)
تعريف بسورة يوسف - عليه السلام -
1 - سورة يوسف - عليه السلام - هي السورة الثانية عشرة في ترتيب المصحف ، فقد سبقها في الترتيب سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس وهود ..
أما ترتيبها في النزول ، فكانت السورة الثالثة والخمسين ، وكان نزولها بعد سورة هود - عليه السلام - .وعدد آياتها إحدى عشرة ومائة آية.
وجه تسميتها بهذا الاسم ظاهر ، لأنها مشتملة على قصته - عليه السلام - مع إخوته ، ومع امرأة العزيز ، ومع ملك مصر في ذلك الوقت ..
ولم يذكر اسم يوسف - عليه السلام - في غير هذه السورة سوى مرتين : إحداهما في سورة الأنعام في قوله - تعالى - وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا ، وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ ... الآية 84.
والثانية في سورة غافر في قوله - تعالى - وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ ...الآية 34.
والقول الصحيح أن سورة يوسف جميعها مكية ، ولا التفات إلى قول من قال بأن فيها آيات مدنية ، لأن هذا القول لا دليل عليه.
قال الآلوسى : سورة يوسف مكية كلها على المعتمد ، وروى عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا : هي مكية إلا ثلاث آيات من أولها. واستثنى بعضهم رابعة وهي قوله - تعالى - :
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ.
2 - وكل ذلك واه جدا لا يلتفت إليه ، وما اعتمدناه - كغيرنا - من أنها كلها مكية - هو الثابت عن الحبر أى عن ابن عباس »
3 - وقد ورد في سبب نزولها روايات متعددة ، منها ما روى عن سعد بن أبى وقاص أنه قال : أنزل القرآن على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فتلاه على أصحابه زمانا ، فقالوا : يا رسول اللّه ، لو قصصت علينا فنزلت سورة يوسف ... » .
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (12 / 5)(1/532)
4 - طبيعة الفترة التي نزلت فيها هذه السورة : قلنا إن سورة يوسف كان نزولها بعد سورة هود ، وسبق أن بينا عند تفسيرنا لسورة هود ، أن هذه السورة الكريمة كان نزولها - على الراجح - في الفترة التي أعقبت حادث الإسراء والمعراج ..
ويبدو أن سورة يوسف - أيضا - كان نزولها في هذه الفترة ، التي تعتبر من أشق الفترات في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ تعرض خلالها للكثير من أذى المشركين ، بعد أن فقد - صلى الله عليه وسلم - في هذه الفترة عمه أبا طالب ، وزوجه السيدة خديجة - رضى اللّه عنها.
ونزول سورة يوسف في هذه الفترة ، كان من أعظم المسليات التي واسى اللّه - تعالى - بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقد أخبره عما دار بين يوسف وإخوته ، وعما تعرض له هذا النبي الكريم من مصائب وأذى ...
ولا شك أن في قصة يوسف وما يشبهها ، تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من قومه.
5 - والذي يطالع هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل ، يراها قد اشتملت على أوضح الدلائل ، وأنصع البراهين ، التي تشهد بأن هذا القرآن من عند اللّه ...
فقد قصت علينا قصة يوسف - عليه السلام - مع إخوته ومع غيرهم بأسلوب مشوق حكيم ، يهدى النفوس ، ويشرح الصدور ، ويكشف عن الخفايا التي لا يعلمها أحد إلا اللّه - تعالى - ، ويصور أحوال النفس الإنسانية تصويرا بديعا معجزا ...
كما يراها قد ساقت ما ساقت من حكم وأحكام ، وعبر وعظات ، بأسلوب يمتاز بحسن التقسيم ، وجمال العرض ، حتى إننا لنستطيع أن نقسم أهم الموضوعات التي تحدثت عنها إلى عشرة أقسام.
(أ) أما القسم الأول منها ، فنراها تتحدث فيه عن جانب من فضائل القرآن الكريم ، وعن رؤيا يوسف - عليه السلام - وعن نصيحة أبيه له بعد أن قصها عليه ...قال - تعالى - الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ.
(ب) وفي القسم الثاني منها نراها تحدثنا عن مكر إخوة يوسف به ، وحسدهم له ، وتآمرهم على الانتقام منه وإجماعهم على أن يلقوا به في الجب ، وتنفيذهم لذلك بعد خداعهم لأبيهم ، وزعمهم له بأنهم سيحافظون على أخيهم يوسف ...
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى كل ذلك بأسلوبه البديع المعجز فيقول : لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ، إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(1/533)
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ. يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ.إلى أن يقول - سبحانه - : وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ، قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ.
(ج) ثم نراها في القسم الثالث منها تحدثنا عن انتشال السيارة ليوسف من الجب ، وعن بيعهم له بثمن بخس دراهم معدودة ، وعن وصية من اشتراه لامرأته بإكرام مثواه ، وعن محنته مع تلك المرأة التي راودته عن نفسه وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ وعن خروجه من هذه المحنة بريئا ، نقى العرض ، طاهر الذيل ... بعد أن شهد ببراءته شاهد من أهلها.قال - تعالى - : وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ ، قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ ، وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ....إلى أن يقول - سبحانه - : وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ ، قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ....
ثم يختم - سبحانه - هذا القسم من السورة بحكاية ما قاله الزوج لامرأته وليوسف ، بعد أن تبين له صدق يوسف وكذب امرأته فيقول : فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ.
(د) ثم تحدثنا السورة بعد ذلك في القسم الرابع منها عن شيوع خبر امرأة العزيز مع فتاها ، وعما فعلته تلك المرأة مع من أشاع هذا الخبر ، وعن لجوء يوسف - عليه السلام - إلى ربه يستجير به من كيد هؤلاء النسوة ...قال - تعالى - حاكيا هذا المشهد بأسلوب معجز : وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ ، قَدْ شَغَفَها حُبًّا ، إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ. فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ، وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ، وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ، وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ.
(ه) ثم تحدثنا السورة الكريمة بعد ذلك في القسم الخامس منها ، عن يوسف السجين المظلوم ، وكيف أنه لم يمنعه السجن من دعوة رفاقه فيه إلى وحدانية اللّه ، وإلى إخلاص العبادة له - سبحانه - ...يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ(1/534)
ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
(و) ثم تحدثنا السورة الكريمة في القسم السادس منها عن الرؤيا المفزعة التي رآها ملك مصر في ذلك الوقت ، وكيف أن حاشيته عجزت عن تفسيرها ، ولكن يوسف الصديق فسرها تفسيرا صحيحا أعجب الملك ، وحمله على دعوته للالتقاء به ، إلا أن يوسف - عليه السلام - أبى الالتقاء به إلا بعد أن يحقق الملك في قضيته بنفسه ، ويعلن براءته على رءوس الأشهاد ...
وبعد أن استجاب الملك لطلب يوسف ، وثبتت براءته - عليه السلام - حضر معززا مكرما وقال للملك بعزة وإباء : اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى هذا المشهد بأسلوبها الزاخر بالمحاورات والمفاجآت ، فتقول : وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ ، وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ ، يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ....
وينتهى هذا المشهد ببيان سنة من سنن اللّه - تعالى - التي لا تتخلف ، والتي تتمثل في حسن عاقبة المؤمنين حيث يقول - سبحانه - : وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ ، نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ.
(ز) ثم تنتقل السورة الكريمة في القسم السابع منها إلى الحديث عن اللقاء الأول الذي تم بين يوسف وإخوته ، بعد أن حضروا من بلادهم بفلسطين إلى مصر يلتمسون الزاد والطعام ... وكيف أنه عرفهم دون أن يعرفوه .. وكيف أنه - عليه السلام - طلب منهم بعد أن أكرمهم أن يحضروا إليه من بلادهم ومعهم أخوهم من أبيهم - وهو شقيقه « بنيامين ».
وكيف أن أباهم وافق على إرسال « بنيامين » معهم بعد أن أخذ عليهم العهود والمواثيق لكي يحافظوا عليه .. استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى كل ذلك فتقول : وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ، أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى(1/535)
أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ، فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ....
(ح) ثم حدثتنا السورة الكريمة في القسم الثامن منها عن اللقاء الثاني الذي تم بين يوسف وإخوته ، بعد أن حضروا إليه في هذه المرة ومعهم « بنيامين » شقيق يوسف ، وكيف قام يوسف بالتعرف عليه ، ثم كيف احتجزه عنده بحيلة دبرها بإلهام من اللّه - تعالى - وكيف رد على إخوته الذين طلبوا منه أن يأخذ أحدهم مكان « بنيامين » ...
وماذا قال « يعقوب » - عليه السلام - بعد أن عاد إليه أبناؤه ، وليس معهم « بنيامين ».
استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى كل هذه المشاهد والأحداث فتقول :
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ، ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ ، كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ، ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ، نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ....
وينتهى هذا القسم بقول يعقوب - عليه السلام - لأبنائه بعد أن عادوا إليه وليس معهم أخوهم بنيامين : قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ. قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ.
(ط) ثم حدثتنا السورة الكريمة بعد ذلك في القسم التاسع منها عن اللقاء الثالث والأخير بين يوسف وإخوته ، فحكت لنا أن يوسف - عليه السلام - كشف لإخوته عن نفسه في هذا اللقاء. وأمرهم بأن يذهبوا بقميصه ليلقوا به على وجه أبيه ... كما أمرهم أن يعودوا إليه ومعهم جميع أهلهم.
كما حكت لنا لقاء يوسف بأبويه ، وإكرامه لهما ، وشكره للّه - تعالى - على ما وهبه من نعم ..
قال - تعالى - حاكيا ما دار بين يوسف وإخوته ، وبين يوسف وأبيه في هذا اللقاء :(1/536)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ، فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً. وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ...
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ.
ثم ختم - سبحانه - قصة يوسف بهذا الدعاء الذي حكاه - سبحانه - عنه في قوله :
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.
(ى) أما القسم العاشر « 1 » والأخير من السورة الكريمة ، فقد كان تعقيبا على ما جاء في تلك القصة من حكم وأحكام ، ومن عبر وعظات ، ومن آداب وهدايات ...
وقد بين - سبحانه - في هذا القسم ما يدل على أن القرآن من عند اللّه ، وما يشهد بصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه ..
كما بين - سبحانه - وظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وموقف المشركين من دعوته وأنه - صلى الله عليه وسلم - ليس بدعا من الرسل وأن العاقبة ستكون له ولأتباعه المؤمنين.
قال تعالى : ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ....
ثم يختتم - سبحانه - هذه السورة الكريمة بقوله : لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
6 - هذا عرض مجمل لأهم الموضوعات التي اشتملت عليها سورة يوسف - عليه السلام - ومن هذا العرض نرى أن السورة الكريمة قد اهتمت بأمور من أهمها ما يأتى :
(أ) إبراز الحقائق والهدايات ، بأسلوب المحاورات والمجادلات والمناقشات ... ومن مظاهر ذلك :
المحاورات التي دارت حول إخوة يوسف في شأن الانتقام منه ، والتي منها قوله - تعالى - : لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ، وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ.(1/537)
والمحاورات التي دارت بينهم وبين أبيهم في شأن اصطحابهم ليوسف ، والتي منها قوله - تعالى - : قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ.
والمحاورات التي دارت بين يوسف وإخوته ، بعد أن عرفهم وهم له منكرون ، وبعد أن ترددوا عليه ثلاث مرات للحصول على حاجتهم من الزاد ... والتي منها قوله - تعالى - :
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ، فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ. قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ، قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
وهكذا نجد السورة الكريمة زاخرة بأسلوب المحاورات والمناقشات والمجادلات. تارة بين يوسف وإخوته ، وتارة بين إخوته فيما بينهم ، وتارة بينهم وبين أبيهم ، وتارة بين يوسف وامرأة العزيز ، وتارة بينه وبين ملك مصر في ذلك الوقت.
وهذه المحاورات التي حفلت بها السورة الكريمة ، قد أكسبتها لونا من العرض المشوق ، الذي يجعل القارئ لها يتعجل حفظ كل موضوع من موضوعاتها ، ليصل إلى الموضوع الذي يليه.
وهذا الأسلوب في عرض الحقائق من أسمى الأساليب التي تعين القارئ على حفظ القرآن الكريم ، وعلى تدبر معانيه ، وعلى الانتفاع بهداياته ..
(ب) إبرازها لجوهر الأحداث ولبابها .. أما تفاصيل هذه الأحداث. فتركت معرفتها لفهم القارئ وفطنته ، وسلامة تفكيره ، وحسن تدبره لكلام اللّه - تعالى - ..
وهذا اللون من العرض للأحداث ، يسمى في عرف البلغاء ، بأسلوب الإيجاز بالحذف والقارئ لهذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل ، يراها على رأس السور القرآنية التي كثر فيها هذا الأسلوب البليغ.
فمثلا قوله - تعالى - : وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ، قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ... معطوف على كلام محذوف يفهم من السياق.
والتقدير : وبعد أن ألقى إخوة يوسف به في الجب وانصرفوا لشئونهم « جاءوا على قميصه بدم كذب » لكي يخدعوا أباهم ، فلما أخبروه بأن الذئب قد أكله قال : بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ....(1/538)
وكذلك قوله - تعالى - : قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ... مترتب على كلام محذوف يفهم من سياق الآيات.
والتقدير : وبعد أن سمع ما قالته النسوة بشأنه عند ما دخل عليهن بأمر من امرأة العزيز ، وسمع تهديد هذه المرأة له بقولها : قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ.
بعد أن سمع يوسف كل ذلك ، وتيقن من مكرهن به ، لجأ إلى ربه مستجيرا به من كيدهن فقال : رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ....
وأيضا قوله - تعالى - : وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ .... يعتبر من بديع أسلوب الإيجاز بالحذف ، إذ تقدير الكلام : وبعد أن عجز الملأ عن تفسير رؤيا الملك ، وقالوا له : إن رؤياك أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ، قال الذي نجا منهما ، أى : من صاحبي يوسف في السجن وهو الساقي وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أى وتذكر بعد نسيان طويل أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ إلى من عنده تفسير هذه الرؤيا تفسيرا صحيحا - وهو يوسف - فاستجابوا له وأرسلوه إلى يوسف ، فذهب إليه في السجن ، فلما دخل عليه قال له : يا يوسف يا أيها الصديق ، أفتنا في سبع بقرات سمان ... إلخ.
وهذا الأسلوب الذي زخرت به السورة الكريمة ، وهو أسلوب الإيجاز بالحذف ، من شأنه أنه ينشط العقول ، ويبعثها على التأمل والتدبر فيما تقرؤه ، ويعينها على الاتعاظ والاعتبار ..
وهو أسلوب أيضا تقتضيه هذه السورة الكريمة ، لأنها تتحدث عن قصة نبي من أنبياء اللّه - تعالى - . والحديث عن ذلك يستلزم إبراز جوهر الأحداث ولبابها ، لا إبراز تفاصيلها وما لا فائدة من ذكره.
فاشتمال السورة الكريمة على هذا الأسلوب البليغ ، هو من باب رعاية الكلام لمقتضى الحال ، وهو أصل البلاغة وركنها الركين.
(ج) السورة الكريمة اهتمت اهتماما واضحا بشرح أحوال النفس البشرية وتحليل ما يصدر عنها في حال رضاها وغضبها ، وفي حال صلاحها وانحرافها ، وفي حال غناها وفقرها ، وفي حال عسرها ويسرها ، وفي حال صفائها وحقدها ..
وقد حدثتنا عن الشخصيات التي وردت فيها حديثا صادقا أمينا ، كشفت لنا فيه عن جوانب متعددة من أخلاقهم ، وسلوكهم ، وميولهم ، وأفكارهم ... وأعطت كل واحد منهم حقه في الحديث عنه.
(ا) فيوسف - عليه السلام - وهو الشخصية الرئيسية في القصة - حدثتنا عنه حديثا مستفيضا نستطيع من خلاله ، أن نرى له - عليه السلام - مناقب ومزايا متنوعة من أهمها ما يأتى :(1/539)
1 - امتلاكه لنفسه ولشهوته مهما كانت المغريات ، بسبب خوفه لمقام ربه ، ونهيه لنفسه عن الهوى ...
ولا أدل على ذلك من قوله - تعالى - : وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ ، قالَ مَعاذَ اللَّهِ ، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ...
قال الشيخ القاسمى : قال الإمام ابن القيم ما ملخصه : « لقد كانت دواعي متعددة تدعو يوسف إلى الاستجابة لطلب امرأة العزيز منها : ما ركبه اللّه في طبع الرجل من ميله إلى المرأة ...
ومنها : أنه كان شابا غير متزوج .. ومنها : أنها كانت ذات منصب وجمال .. وأنها كانت غير آبية ولا ممتنعة ... بل هي التي طلبت وأرادت وبذلت الجهد ..
ومنها : أنه كان في دارها وتحت سلطانها .. فلا يخشى أن تنم عليه ..
ومنها : أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال فأرته إياهن ، وشكت حالها إليهن ...
ومنها : أنها توعدته بالسجن والصغار إن لم يفعل ما تأمره به ..
ومنها : أن الزوج لم يظهر من الغيرة والقوة ما يجعله يفرق بينه وبينها ...
ومع كل هذه الدواعي ، فقد آثر يوسف مرضاة اللّه ومراقبته ، وحمله خوفه من خالقه على أن يختار السجن على ارتكاب ما يغضبه ... » .
2 - صبره الجميل على المحن والبلايا ، ولجوؤه إلى ربه ليستجير به من كيد امرأة العزيز وصواحبها : قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ...
3 - نشره للدين الحق ، ودعوته لعبادة اللّه وحده ، حتى وهو بين جدران السجن ، فهو القائل لمن معه في السجن : يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ ، أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ....
4 - حسن تدبيره للأمور ، وتوصله إلى ما يريده بأحكم الأساليب ، وحرصه الشديد على إنقاذ الأمة مما يضرها ويعرضها للهلاك ، قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ...
5 - عزة نفسه ، وسمو خلقه ، فقد أبى أن يذهب لمقابلة الملك إلا بعد إعلان براءته وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ، فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ...
6 - تحدثه بنعمة اللّه ، ومعرفته لنفسه قدرها ، وطلبه المنصب الذي يناسبه ، ويثق بقدرته على القيام بحقوقه قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.(1/540)
7 - ذكاؤه وفطنته ، فقد تعرف على إخوته مع طول فراقه لهم : وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ....
8 - عفوه وصفحه عمن أساء إليه قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ...
9 - وفاؤه لأسرته ولعشيرته اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ.
10 - شكر اللّه - تعالى - على نعمه ومننه رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.
هذا جانب من حديث السورة الكريمة عن يوسف - عليه السلام - ، وهو حديث يدل على أنه كان في الذروة العليا من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ..
(د) وتحدثت السورة الكريمة عن يعقوب - عليه السلام - فذكرت من بين ما ذكرت عنه ، صفات الصبر الجميل ، والأمل في رحمة اللّه مهما اشتدت الخطوب ، والحرص على سلامة أبنائه من كل ما يؤذيهم حتى ولو أساءوا إليه ، والنظر إلى الأمور بعين تختلف عن عيون أبنائه ، والحكم عليها بحكم يختلف عن أحكامهم ...
يدل على ذلك قوله - تعالى - وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ.
وقوله - تعالى - : قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ....
وقوله - تعالى - : وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ....
وقوله - تعالى - : وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ. قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ. فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ.
(ه) وتحدثت عن إخوة يوسف حديثا مستفيضا ، تبدو فيه غيرتهم من يوسف ، وحسدهم له ، وتآمرهم على حياته ، وحقدهم عليه حتى وهو بعيد عنهم ... ثم ندمهم في النهاية على ما فرط منهم في حقه بعد أن مكن اللّه له في الأرض ...
نرى ذلك في مثل قوله - تعالى - : اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ...
وفي قوله : قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ.
وفي قوله - سبحانه - : قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ....
وفي قوله - تعالى - : قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ.(1/541)
(و) وتحدثت عن امرأة العزيز حديثا يكشف عن حال المرأة عند ما تحب .. وكيف أنها في سبيل الحصول على رغبتها تحطم كل الموانع النفسية والاجتماعية ... وتستخدم كل الوسائل التي تظن أنها ستوصلها إلى مرادها. حتى ولو كانت هذه الوسائل تخالف ما عرف عن المرأة من أنها حريصة على أن تكون مطلوبة من الرجل لا طالبة له ..
(ز) وتحدثت عن العزيز حديثا قصيرا يناسب حجمه وسلوكه وتبلد شعوره ، فهو مع إيقانه بخطإ امرأته لم يزد على أن قال ليوسف ولها يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ.
(ح) وتحدثت عن ملك مصر في ذلك الوقت ... وعن البيئة التي وصل الحال بها أن تزج بيوسف البريء في السجن ، إرضاء لشهوات النفوس الجامحة ...قال - تعالى - : ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ. (1)
إن ما ورد من قصص وأخبار متصلة بالأمم السابقة وأحداثها أولا لم يكن غريبا عن السامعين إجمالا ، سماعا أو مشاهدة آثارا أو اقتباسا أو تناقلا ، وسواء منه ما هو موجود في أسفار كتب الكتابيين وغيرهم المتداولة مماثلا أو زائدا أو ناقصا أو مباينا لما جاء في القرآن. أم ليس موجودا فيها مما يتصل بالأمم والأنبياء الذين وردت أسماؤهم فيها مثل قصص إبراهيم المتعددة مع قومه وتسخير الجن والريح لسليمان وقارون والعبد الصالح مع موسى ومائدة المسيح ، أو مما يتصل بغيرهم من الأمم والبلاد العربية وأنبيائهم مما لم يرد أسماؤهم فيها مثل قصص عاد وثمود وسبأ وتبع وشعيب ولقمان وذي القرنين. وثانيا لم يورد للقصة بذاتها وإنما ورد للعظة والتمثيل والتذكير والإلزام والإفحام والتنديد والوعيد.
وفي القرآن شواهد وقرائن ونصوص عديدة مؤيدة للنقطة الأولى مثل ما جاء في آيات سورة الروم : [9] وسورة غافر : [21] وسورة الحج : [45 - 46] وسورة الصافات : [133 - 138] وسورة القصص : [58] وسورة الفرقان : [40] وسورة العنكبوت : [38] وسورة هود : [100] وسورة إبراهيم : [45].
وفي أسلوب القصص القرآنية الذي لم يكن سردا تاريخيا كما هو الحال في قصص التوراة والذي تخلله الوعظ والإرشاد والتبشير والإنذار بل والذي جاء سبكه وعظا وإرشادا وتبشيرا وإنذارا ، ثم في سياق إيراد القصص عقب التذكير والتنديد والتسلية والتطمين والموعظة وحكاية مواقف الكفار وعنادهم وحجاجهم أو بين يدي ذلك ، وتكرارها لتنوع المواقف النبوية دعوة وحجاجا وتنديدا وبيانا وعظة سنين طويلة وتجاه فئات مختلفة تأييد للنقطة الثانية ، يضاف إلى هذا ما في القرآن من شواهد ونصوص خاصة
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (7 / 299)(1/542)
وكثيرة أيضا مما يؤيدها كما يبدو واضحا لمن يتمعن في آيات الأعراف : [101 و163 - 166 و175 - 177] والمائدة : [28 - 33] والأنفال : [53 - 54] والتوبة : [69 - 70] ويونس : [12 - 13 و71 - 98] وهود : [100 - 103] ويوسف : [111] والرعد : [38 - 42] وإبراهيم : [9 - 14] ومريم : [54 - 63] وطه : [99 - 101] والفرقان : [35 - 40] والنمل : [45 - 58] والقصص : [1 - 6 و58 - 59] والعنكبوت : [37 - 41] ويس : [13 - 31] وص : [12 - 17]. واللازمة التي اتبعت بكل قصة في سورة الشعراء وهي إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8). وهناك آيتان في سورتي الأنبياء والقصص جديرتان بالتنويه بصورة خاصة لما فيهما من دلالة قوية على أن العرب كانوا يعرفون أخبار الأنبياء ومعجزاتهم وهما هاتان :
1 - بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ...الأنبياء : [5].
2 - فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى .. القصص : [47].
وحكمة النقطة الأولى ظاهرة جلية فيما يتبادر لنا. فالمخاطبون إنما يتأثرون بما احتوته الحادثة أو القصة التي تورد عليهم من موعظة أو مثل أو تذكير وزجر وتنبيه ودعوة إلى الاعتبار والارعواء والتأسي والتدبر في العاقبة إذا كانت مما يعرفونه أو مما يعرفه بعضهم جزئيا أو كليا مفصلا أو مقتضبا. أما إذا لم يكونوا يعرفونه فإنه لا يأتي مستحكم الإلزام والإفحام والتأثير والعبرة ، ولا سيما على مخاطبين كافرين بأصل الدعوة التي يراد التذكير بمواقف الغير والسابقين من مثلها وبمصائرهم بسبب هذه المواقف أو جاهلين للحادثة التي يراد استخراج العبرة من سيرها وظروفها وعواقبها.
وهذه الملاحظة مهمة وجوهرية جدا ، لأن من شأنها أن تحول دون استغراق الناظر في القرآن في ماهيات ووقائع ما احتوته القصص التي لم تقصد لذاتها ، وأن تغنيه عن التكلف والتجوز في التخريج والتأويل والتوفيق أو الحيرة والتساؤل في صدد تلك الماهيات والوقائع ، وأن تجعله يبقي القرآن في نطاق قدسيته من التذكير بالمعروف والإرشاد والموعظة والعبرة ولا يخرج به إلى ساحة البحث العلمي وما يكون من طبيعته من الأخذ والرد والنقاش والجدل والتخطئة والتشكيك على غير طائل ولا ضرورة.
ونريد أن نبحث في ما يمكن أن يرد على موضوع الملاحظة وخاصة نقطتها الأولى.
فلقد ورد في سورة هود بعد قصة نوح خاصة وورد في سورة يوسف بعد إتمام القصة وورد في سورة آل عمران في سياق نشأة مريم آيات جاء فيها تنبيه على أن ذلك من أنباء الغيب كما ترى فيها :
1 - تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ هود : [49].(1/543)
2 - ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ يوسف : [102].
3 - ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ آل عمران : [44].
وظاهر الآيات ينقض تلك النقطة كما هو المتبادر. غير أننا نلاحظ أن قصتي نوح ويوسف خاصة قد وردتا في التوراة قريبتين جدا مما وردتا في القرآن ، وإن التوراة كانت متداولة بين أيدي الكتابيين الذين كان كثير منهم يعيشون في بيئة النبي قبل بعثته وبعدها ، كما أن أهل هذه البيئة كانوا على صلة وثيقة بهم وبالبلاد المجاورة الكتابية الدين أي الشام ومصر والحبشة والعراق العربي ، وأن القرآن قد أكثر من ذكر التوراة مصدقا حينا ومنوها بما احتوته من نور وهدى وحق حينا ومتحديا بها اليهود حينا ، وأن فيه آيات تفيد صراحة أو ضمنا أن أهل بيئة النبي كانوا يسمعون من الكتابيين أشياء كثيرة عن كتبهم كما ترى في الأمثلة التالية :
1 - أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ .. البقرة : [44].
2 - وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ .. البقرة : [89].
3 - وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ البقرة : [76].
4 - أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ البقرة : [108].
5 - وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ «2» مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .. آل عمران : [78].
6 - كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ آل عمران : [93].
7 - وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ المائدة : [43 - 44].
وإن أهل هذه البيئة كانوا يثقون بما عند الكتابيين من علوم ومعارف ، مما ينطوي في ذلك حكمة ما تكرّر في القرآن من الاستشهاد بهم على صحة الرسالة النبوية مما أوردنا آياته في مناسبة سابقة.(1/544)
والروايات متضافرة على أن اليهود كانوا يتبجحون بالتوراة في سياق الدعوة النبوية وأحداثها. وأنهم نشروها مرة أو أكثر في مجالس النبي ، وعلى أنه كان من أهل بيئة النبي العرب من كان يدين بالنصرانية واليهودية ومطلعا على التوراة والإنجيل فضلا عن من يدين بالنصرانية خاصة من العرب الذين يقطنون في أنحاء أخرى من الجزيرة العربية وأطرافها والتوراة كتاب النصارى كما هي كتاب اليهود فضلا عن اختصاص الأولين بالإنجيل كما هو معروف. وفي حديث البخاري عن بدء الوحي وقد أوردناه في الفصل الأول صراحة بمعرفة ورقة بن نوفل اللغة العبرانية واطلاعه على التوراة والإنجيل.
فليس مما يصح فرضه أن لا يكون من العرب السامعين للقرآن من يعرف هاتين القصتين. ومثل هذا يقال بالنسبة لقصة مريم التي ورد في بعض الأناجيل شيء قريب مما ورد عنها في القرآن وفي بدء قصة يوسف آية هذا نصها :
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ [7] والسؤال عن أمرهم لا بدّ من أن يكون آتيا من معرفة شيء ما أو سماع شيء ما عنهم من دون ريب.
لذلك فإن في الآيات الثلاث المذكورة إشكالا يدعو إلى الحيرة ، ولا يستطاع النفوذ إلى الحكمة الربانية فيه نفوذا تاما. وليس من مناص إزاء الواقع ومداه من أن قصص نوح ويوسف ومريم من القصص المشهورة إلا بتأويل هذه الآيات وتخريجها بما يزيل الإشكال ويتسق مع الواقع. وقد رأينا المفسر الخازن يعلق على آية هود فيقول إن قصة نوح مشهورة وإنه ليس مما يحتمل أن لا تكون معروفة ، وإنه يجب صرف الآية على محمل قصد عدم معرفة النبي وقومه بجميع تفصيلاتها. وفي هذا التعليق وجاهة ظاهرة كما أنه لا معدى عنه أو عن ما يقاربه كصرف الغيب إلى معنى البعيد غير المشاهد أو الذي صار في طيات الدهر في صدد القصص التي وردت عقبها خاصة هذه الآيات. وننبه على أن بقية الفصول القصصية في سورتي هود وآل عمران ، وكذلك الفصول القصصية المتنوعة الواردة في مختلف السور بما في ذلك قصص نوح ومريم ويوسف لم يرد فيها مثل هذا التعليق والتقييد ، وأن قصة نوح ذكرت بتفصيل أو اقتضاب مرات كثيرة في السور التي نزلت قبل سورة هود مثل ص والأعراف والقمر والشعراء ، وأن قصة مريم وولادة عيسى ذكرت بتفصيل أيضا في سورة مريم التي نزلت هي الأخرى قبل سورة آل عمران وأشير إليها باقتضاب في سور متعددة أخرى ولم يرد كذلك في سياقها مثل هذا التعليق والتقييد مما يجعل التأويل والتخريج سائغا وصوابا.
ولعل مما يحسن إيراده في صدد قصة نوح مسألة أصنام قوم نوح المذكورة في سورة نوح وهي ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر فقد كانت الأصنام من الأصنام المعبودة عند بعض قبائل العرب في عصر النبي وقد تسمّى كثير من الأشخاص المعاصرين للنبي بعبودية بعضها مثل عبد ودّ وعبد يغوث وفي بعض الروايات(1/545)
أن العرب اقتبسوا هذه الأصنام وعبادتها من قوم نوح ولعل هذا ما كان متداولا بينهم قبل البعثة. وعلى كل فإن هذا قرينة على أن العرب لم يكونوا جاهلين قصة نوح ومواقفه من قومه بالكلية.
ومما يصحّ إضافته إلى الآيات القرآنية الكثيرة التي احتوت دلائل وقرائن تفيد أن السامعين كانوا يعرفون أخبار الأمم والأنبياء التي تتلى عليهم من القرآن على سبيل العظة والتذكير أن المفسرين قد أوردوا بيانات كثيرة في سياق كل قصة من القصص القرآنية مسهبة حينا ومقتضبة حينا آخر ، ومعزوة إلى علماء السير والأخبار إطلاقا حينا وإلى علماء بأسمائهم مثل ابن عباس ومقاتل ومجاهد والضحاك والكلبي وابن إسحاق ووهب بن منبه وكعب الأحبار وغيرهم حينا ، واحتوت تفاصيل وجزئيات حول هذا القصص أو قصصا بسبيلها مهما كان فيها من إغراب ومفارقات فإننا نستبعد أن تكون كلها موضوعة بعد النبي عليه السلام ، ونميل إلى القول بل نرجح أنها احتوت أشياء كثيرة مما كان يدور في بيئة النبي قبل البعثة وبعدها حولها ، وأنها مما يمكن الاستئناس به في تأييد النقطة الأولى من الملاحظة مما هو متسق مع المنطق وهدف التذكير والوعظ القرآني.
ومما يصح إضافته أيضا صيغة أعلام القصص مثل طالوت وجالوت ويونس وأيوب وفرعون وهامان وقارون وهارون وإبراهيم وآزر وسليمان وداود وإدريس ونوح والمسيح عيسى وموسى وهاروت وماروت إلخ فإن هذه الأعلام قد جاءت في القرآن معربة وعلى أوزان عربية ومن المستبعد أن تكون قد عربت لأول مرة في القرآن ، ومن المرجح أن تكون قد عربت وتداولت بأوزانها العربية قبل نزولها وبهذا وحده يصح أن يشملها تعبير إنزال القرآن بلسان عربي مبين لأنها جزء منه وتداولها معربة قبل نزول القرآن يعني كما هو بديهي معرفة العرب شيئا من أخبار أصحابها على الأقل.
و في ما تكررت حكايته في القرآن عن الكفار من قولهم إنه أساطير الأولين وأن النبي كان يستكتبها وتملى عليه ، وإنه كان أناس آخرون يعينونه عليها ، وأنهم لو شاؤوا لقالوا مثلها كما جاء في آيات الأنعام : [25] والأنفال : [30] والفرقان :
[5] والقلم : [8 و15] مثلا قرينة قوية كذلك إن لم نقل قرينة حاسمة على أن العرب كانوا يسمعون من قصص القرآن ونذره وبشائره وتذكيراته ما اتصل بهم علمه وكان من المتداول بينهم. ولقد يرد أن الكفار حينما كانوا يرددون على النبي تعبير أساطير الأولين خاصة كانوا في موقف المكابر المستخف ومع التسليم بهذا فإن كلمة أساطير لا تقتضي دائما أن تعتبر مرادفة لكلمة قصص خرافية كما هو من مفهوماتها فإنها قد تفيد أيضا معنى المدونات لأنها مشتقة من «سطر» بمعنى «كتب» كما هو وارد في القرآن ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ [القلم : 1] وآية الفرقان الخامسة وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً(1/546)
وَأَصِيلًا تلهم أن هذا من المعاني المقصودة للكلمة. ومهما يكن من أمرها فإنها تعني على كل حال أنهم يسمعون أخبارا وقصصا وصلت إلى علمهم عن الأمم السابقة حقيقة كانت أو خرافية.
ومما يرد على ما نخمّن سؤال عن مدى ما بين القصص القرآنية وأسفار التوراة والإنجيل المتداولة من مباينات. فقد قلنا قبل قليل إن في القرآن قصصا مقاربة لما في هذه الأسفار كما أن فيه قصصا مباينة في الأسماء والأحداث أو بزيادة ونقص ، وأن فيه قصصا متصلة بأسماء رجال هذه الأسفار من أنبياء وغيرهم دون ورودها فيها. والذي نعتقده أن ما قلناه ينطبق على هذا أيضا ، وأن ما ورد في القرآن هو الأكثر اتساقا مع ما كان معروفا ومتداولا عند السامعين إجمالا وهذا هو المتمشي مع الحكمة التي نبهنا عليها في القصص القرآنية ونراه طبيعيا ومتسقا مع الواقع والمألوف وهو تداول الناس أخبارا وأسماء على غير الوجه المدون في الكتب والصحف بل وكون المتداول أحيانا كثيرة هو الأكثر صحة من المدون أيضا. فليس والحالة هذه ما يمنع أن يكون لدى النصارى واليهود في عصر النبي و قبله متداولات مدونة وغير مدونة تساق وتورد على هامش ما ورد في أسفار التوراة والإنجيل وبقصد التوضيح والتفسير والتعليق ، هذا بقطع النظر عن احتمالات الاختلاف والمباينة بين الأسفار المتداولة اليوم والأسفار المتداولة قديما. وفي كتب تفسير القرآن روايات كثيرة معزوة إلى الصحابة والتابعين احتوت بيانات عن أحداث تاريخية واجتماعية عربية وغير عربية ، وعن أحداث متصلة ببيئة النبي وسيرته ولم ترد في القرآن ، وإنما وردت إشارة إليها قريبة أو بعيدة ، فأوردت على هامش تفسير الآيات القرآنية وبقصد تفسير بعض الوقائع والأحداث والإشارات والمفهومات التي احتوتها والتعليق عليها ولا يمتنع أن تكون صحيحة كليا أو جزئيا.
ولقد تكون قصص إبراهيم خاصة لافتة للنظر أكثر من غيرها في هذا الباب لأن جلّ ما ورد منها في القرآن لم يرد في التوراة. والمدقق في القصص التي لم ترد في التوراة يجد أنها متصلة بالحياة والظروف والتقاليد التي كانت عليها البيئة النبوية ، وبمواقف الكفار العرب وعقائدهم أيضا اتصالا وثيقا سواء في أمر إسكان ذرية من إبراهيم في مكة أو في إنشاء الكعبة ، أو في أصول الحج وتقاليده ، أو موقفه من أبيه وبراءته منه ، أو حملته على عبادة الأصنام وموقفه من قومه من أجلها وتكسيره إياها وإلقائه في النار بسبب ذلك ، أو محاجّته مع الملك أو نظرته في النجوم وانصرافه عنها ، ويجد أنها داعية إلى التأسي لأنه أبو العرب. والذي نعتقده أن هذه القصص كانت متداولة بين العرب ومتناقلة فيهم جيلا عن جيل دون ما حاجة إلى أن تكون مستقاة من اليهود مع احتمال أن يكون اسما إبراهيم وإسماعيل قد اقتبسا من اليهود لأن التوراة هي أول ما جاء يحمل هذين الاسمين مدونين ، وأن من تلك الناحية خاصة تجيء قصص إبراهيم ملزمة للعرب ، وتورد في القرآن بقوتها التلقينية والتذكيرية المستحكمة النافذة التي وردت بها كما(1/547)
يمكن أن يبدو لمن يتمعن في آيات البقرة : [124 - 141 و258 و260] وآل عمران : [65 - 68 و94 - 97] والأنعام : [74 - 90] والتوبة : [113 - 114] وإبراهيم : [35 - 41] ومريم : [42 - 50] والأنبياء : [51 - 70] والحج : [26 - 37 و78] و الزخرف : [26 - 28] والممتحنة : [4 - 6] ، وهذا هو هدف القصة القرآنية بالذات.
ونظن أنه ليس من شيء يرد من مثل هذا على موضوع القصص الأخرى التي لم يرد أسماء رجالها ومواضيعها في أسفار التوراة والإنجيل ولا سيما أن جل هذه القصص عربي الأمم والأنبياء والبلاد ، وأن كونها مما كان متداولا عند العرب لا يصحّ أن يكون موضع شك وجدل ، وفي الآيات القرآنية دلالات قوية على هذا خاصة مثل آيات العنكبوت : [36 - 38] والأحقاف : [37] والصافات : [137 - 138] والقصص : [58] والحج : [45 - 46].
هذا ، ومعلوم أنه يوجد في القرآن قصص أنزلت جوابا على سؤال صريح مثل قصص ذي القرنين ويوسف وأصحاب الكهف والرقيم ، كما أن هناك قصصا أوردت مباشرة مثل قصة نشأة موسى وسيرته في مطلع سورة القصص. ولقد يرد أن في هذا نقضا لما قلناه من أن القصص القرآنية لم تورد لذاتها كما أنه قد يكون بالنسبة لبعض هذه القصص نقضا لما قلناه من أن القصص الموحاة مما كان متداولا وليس غريبا على الأسماع بالمرة.
ولقد قلنا قبل في صدد قصة يوسف إن السؤال عنها لا يمكن أن يكون ورد إلا من أناس سمعوها وعرفوها أو سمعوا وعرفوا شيئا عنها. وهذا ينطبق على قصة ذي القرنين كما هو بديهي ، ومضامين آيات أصحاب الكهف والرقيم تلهم أنه كان جدل حول قصتهم وعددهم وسني لبثهم ، وهذا يعني أن السؤال وجّه على سبيل الاستفسار - وهذا ما روته الروايات - وبالتالي أن السائلين قد سمعوا وعرفوا شيئا عن القصة. ومعرفة السائلين بعض الشيء لا تقتضي بالبداهة أن لا يكون هناك أناس آخرون يعرفون أشياء كثيرة عنها كما لا تقتضي أن يكون أناس يعرفون ثم أرادوا التحقيق أو الاستفسار أو التحدي إلخ.
وفي كتب التفسير بيانات وتفصيلات جزئية كثيرة عن هاتين القصتين أيضا مما يمكن أن يكون فيه - بسبب كونه مستندا إلى روايات متصلة بعهد النبي - دلالة على تداوله في هذا العهد أيضا. أما قصة موسى فلا نظن أنه يرد أنها كانت غريبة عن الأسماع وفي القرآن دلالات حاسمة على عكس ذلك أوردنا بعض الآيات عنها.
هذا بالنسبة للنقطة الأولى. أما بالنسبة للنقطة الثانية فإن قصة موسى في سورة القصص قد أعقبها آيات تنديدية وتذكيرية ووعظية معطوفة عليها وكنتيجة لها كما يبدو من الآيات [37 - 50].(1/548)
وهذا ما يدخلها في نطاق القصص الأخرى الواردة في معرض التذكير والتمثيل والإنذار والدعوة والاعتبار. وكذلك قصة يوسف فقد أعقبها آيات مثل تلك وهي الآيات [103 - 111] وانتهت بآية فيها قصد العبرة صراحة حيث جاء هذا التعبير لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف : 111] آخرها.
وقصة أصحاب الكهف والرقيم قد جاءت بعد آيات فيها حملة على الكفار لنسبتهم الولد إلى اللّه وهي الآيات [4 - 8] ، كما أعقبها آيات فيها استمرار في الحملة وهي الآيات [23 - 31] ، وأسلوبها متسق مع أسلوب سائر القصص أي أنه تضمن المواعظ والتلقينات الأخلاقية والاجتماعية والدينية واستهدف التدعيم والتأييد للدعوة النبوية وأهدافها حتى ليبدو أن هذا هو المقصود بها عند إنعام النظر في سلسلة آياتها [1 - 31] وخاصة في أمر النبي بعدم المماراة كثيرا في شأنهم وإيكال علم ذلك إلى اللّه. ومع أن قصة ذي القرنين جاءت جوابا على سؤال صريح فإنّ أسلوبها مثل ذلك الأسلوب وقد أعقبتها آيات تضمنت حملة على الكافرين الجاحدين ومتصلة بآيات القصة اتصالا وثيقا نظما وانسجاما. وهذا وذاك يبدوان بارزين عند إنعام النظر في سلسلة الآيات.
وعلى هذا فإن من الصواب أن يقال إن هذه القصص لا تشذ عن الطابع العام للقصص القرآنية الذي نوهنا به في مطلع البحث.
ومما هو جدير بالتنويه ومتصل بالمعنى الذي نقرره وخاصة بالنسبة للنقطة الأولى من الملاحظة أنّ محتويات القصص القرآنية على تنوعها لم تكن موضع جدل ومماراة لا من مشركي العرب ولا من الكتابيين بدليل أنه لم يرد في القرآن أي إشارة تفيد ذلك صراحة أو ضمنا مع أنهم كانوا يحصون على النبي كل شيء ويترصدون لكل ما يتوهمون فيه تناقضا أو شذوذا عما يعرفونه ويعتقدونه ويتداولونه ويتوارثونه ويسارعون إلى إعلان استنكارهم وتكذيبهم ، ويستغلونه فرصة للصد والدعاية والتأليب مما حكى القرآن شيئا كثيرا منه.
وقد يؤيد هذا أن العرب جادلوا في الحياة الأخروية أشد جدال وكذبوا وأنكروا أعنف تكذيب وإنكار فحكت ذلك آيات قرآنية كثيرة حتى لقد شغل هذا الجدل والتكذيب والإنكار وما اقتضاه من ردود وتوكيدات متنوعة الأسلوب حيزا كبيرا من القرآن المكي ولقد كان من أسباب هذا الإنكار والتكذيب والجدل أن العرب كانوا يسمعون ما لا علم لهم به سابقا وما لم يسمعوا عنه شيئا مهما من الكتابيين الذين كانوا مصدرا رئيسيا من مصادر معارفهم لأن أسفار هؤلاء لم تكد تحتوي عن الحياة الأخروية شيئا.(1/549)
وليس ما نقل عن العرب من قولهم عن القرآن إنه أساطير الأولين مما يفيد تكذيبهم للقصص التي يسمعونها ومماراتهم فيها لأن هذا التعبير كما قلنا عنى كما تدل عليه مضامين الآيات القرآنية مدونات الأولين وقصصهم إطلاقا ، ولأنهم كانوا يردّدون هذا القول بقصد تكذيب صلة اللّه ووحيه بالنبي وصحة التنزيل القرآني والدعوة النبوية والحياة الأخروية لا بقصد المماراة في هذه القصص وتكذيبها وإنكارها كما يظهر من التمعن في هذه الآيات التي ورد فيها التعبير :
1 - وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ الأنعام : [25].
2 - وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ الأنفال : [31 - 32].
3 - وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ النحل : [24].
4 - وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً الفرقان : [5 - 6].
5 - فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ القلم : [5 - 15].
ولقد أنكر اليهود أمورا واردة في التوراة فتحداهم القرآن بالإتيان بالتوراة وتلاوتها إن كانوا صادقين في إنكارهم كما جاء في آية آل عمران : [93] صراحة وآيات المائدة : [43 - 45] ضمنا. ولقد حاجّوا في ما قرره القرآن عن إبراهيم وملته ، وقدم الكعبة وصلته بها كما يفهم من آيات البقرة : [132 - 141] وآل عمران : [66 - 99] صراحة وضمنا.
فلو رأى العرب فيما يسمعونه من القصص تناقضا أو تباينا أو شذوذا عما يعرفونه منها إجمالا أو تفصيلا ، أو لو سمعوا أشياء لا عهد لهم بها بالمرة ولو رأى الكتابيون وخاصة اليهود في ما يسمعونه مباينة لما كان متداولا في أيديهم من الكتب وتفسيرها وشروحها أو لما هو متداول ومتناقل بينهم على هامشها مما يتصل بأسماء أنبيائهم لجادلوا وطعنوا وغمزوا ، ولذكر ذلك عنهم القرآن في معرض التكذيب والردّ كما ذكر عنهم جدالهم وحجاجهم وإنكارهم وطعنهم في هذا المعرض في الأمور الأخرى التي توهموا فيها تناقضا أو تغايرا أو جديدا لا عهد لهم به ، ولا غتنموه فرصة للغمز والطعن والدعاية والتهويش.(1/550)
ولقد يرد سؤال عما إذا كان النبي يعرف أيضا القصص القرآنية قبل بعثته أو عن غير طريق الوحي ، وعما إذا لم يكن فيما نقرره تعارض معا مع نزول الوحي بها. والذي نعتقده أن النبي خلافا لما قاله بعضهم كان يعرف كثيرا مما يدور في بيئته من قصص الأمم والأنبياء السابقين وأخبارهم ومساكنهم وآثارهم سواء منها المذكور في أسفار التوراة والإنجيل أو غيره كما أنه كان يعرف كثيرا من أحوال الأمم والبلاد المجاورة للجزيرة العربية بالإضافة إلى ما كان يعرفه من أحوال سكان الجزيرة أيضا وتقاليدهم وأفكارهم وعاداتهم وأخبار أسلافهم ، وأن هذا هو المتسق مع طبيعة الأشياء ، وأن النبي قد اتصل قبل بعثته بالكتابيين الموجودين في مكة وتحدث معهم حول كثير من الشؤون الدينية وحول ما ورد في الكتب المنزلة واستمع إلى كثير مما احتوته ، ونرجح أن هذه الصلة قد استمرت إلى ما بعد بعثته ، وأنها انتهت بإيمان الذين اتصل بهم بنبوته لما رأوا من أعلامها الباهرة فيه. ولعل فيما ورد في بعض آيات القرآن قرينة على ذلك ، فقد جاء في سورة الفرقان هذه الآية وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وفي سورة النحل هذه الآية وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) فهذه الأقوال الصادرة عن الكفار التي حكاها القرآن لا بد من أن تكون مستندة إلى مشاهدة اتصال النبي ببعض أشخاص كانوا يعرفون أنهم ذوو علم أو مظنة علم وتعليم ومعاونة ، ومنهم غرباء ، والمرجح أن الغرباء خاصة منهم كتابيون ، فوهموا أنه يستعين بهم أو يعينونه على نظم القرآن وتأليفه فقالوا ما قالوه. والآيات تنفي التعليم والإعانة ولكنها لا تنفي الاتصال. وقد وردت في كتب التفسير روايات تذكر وقوع شيء من هذا الاتصال ، وقد جاء في «كشاف» الزمخشري مثلا أنه كان لحويطب بن عبد العزى غلام اسمه عايش أو يعيش وكان صاحب كتب وقيل هو جبر غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي وقيل عبدان جبر ويسار كانا يصنعان السيوف في مكة ويقرآن من التوراة والإنجيل ، فكان رسول اللّه إذا مرّ وقف عليهما يسمع ما يقرآن. وحديث بدء الوحي للبخاري صريح بأن النبي اجتمع بورقة بن نوفل الذي تنصر وقرأ العبرانية وكان يقرأ الإنجيل ويكتبه ، وفي روايات السيرة أن ورقة هذا تولى تزويج النبي وكان عمره خمسا وعشرين سنة بخديجة ابنة عمه ، ففي كل هذا ما يستأنس به على صحة ما ذكرناه.
ومن الواضح أن هذا ليس بمخلّ بقدر النبي عليه السلام وعظمته التي إنما كانت تقوم في الحقيقة على ما امتاز به من عظمة الخلق وقوة العقل وصفاء النفس وكبر القلب وعمق الإيمان والاستغراق باللّه ، ولقد قرر القرآن طبيعة النبي البشرية ، وهذا متصل بهذه الطبيعة التي من البديهي جدا أن لا تتناقض مع وقوف النبي على ما كان متداولا في بيئته أو في أي بيئة ونحلة تيسّر له الاتصال بأهلها من أقوال وأفكار وأخبار وعقائد وتقاليد وظروف وأحداث حاضرة وغابرة ، بل إن من البديهي جدا أن يكون واقفا على كل(1/551)
ذلك غير غافل عنه ، وإن هذا هو المعقول الذي لا يمكن أن يصح في العقل غيره. وإننا لنشعر بالدهشة مما أبداه ويبديه بعض العلماء من حرص على توكيد كون النبي لم يكن له معارف مكتسبة مما لا يتسق مع المنطق والمعقول والبديهي توهما بأن في هذا مأخذا ما على كون ما بلّغه النبي من القرآن إنما أتى من هذه المعارف ، ونرى في هذا التوهم خطأ أصليا في تلقي معنى الرسالة النبوية التي هي هداية وإرشاد ودعوة والتي لا يعهد بمهمتها العظمى إلا لمن يكون أهلا لها في عقله وخلقه وقلبه وروحه كما ذكرت آية الأنعام [24] اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ كما أنه آت فيما يتبادر لنا من عدم ملاحظة كون القرآن قسمين متميزين أسسا ووسائل.
ومما يورده هؤلاء حجة آيات العنكبوت هذه : وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ [48 - 49].
حيث يظنون على ما يبدو أن اكتساب المعارف والاطلاع على ما عند الناس من أخبار وأفكار إنما هو حصر على القارئ الكاتب ، وليس هذا صحيحا دائما كما أنه ناشىء عن قياس الغائب بالحاضر وهو قياس مع الفارق. والآيات بسبيل تقرير كون الدعوة التي يدعو إليها النبي وما يبلغه في صددها إنما هو وحي رباني ولم يقتبسه من كتاب ، ولا ينبغي أن يكون عندهم محلّ للشك في ذلك لأنهم يعرفون أنه لم يكن يقرأ ولا يكتب ، ولا يجحد بآيات اللّه التي تصدر عن الذين يختصهم اللّه بمهمته وبيناته إلا المكابرون الظالمون على ما يتبادر. وليس في هذا نقض لما قررناه.
والذي نعتقده أنه ليس في ما قررناه أو في كون القصص القرآنية متسقة إجمالا مع ما كان معروفا متداولا تعارض من ناحية ما مع نزول الوحي الرباني بها على قلب النبي عليه السلام - وهو سبب القول أن النبي لم يكتسب معارفه اكتسابا - لأنها لم تنزل لذاتها بقصد القصص والإخبار وإنما أنزلت بالأسلوب والمدى والنحو الذي اقتضت الحكمة نزولها به ، في معرض التنديد والموعظة والتذكير والجدل ، وكوسيلة من وسائل تدعيم أهداف القرآن وأسس الدعوة النبوية إزاء مواقف المكابرين والمجادلين والجاحدين مما هو موضوع هذا البحث وفوائد الملاحظة التي عقد عليها.
ولقد ورد في القرآن فصول كثيرة جدا مما له صلة ببيئة النبي وحاضر تقاليد أهلها وحياتهم وأمثالهم ومعايشهم وما في أذهانهم من صور متنوعة مما هو معروف مشهود بأسلوب الموعظة والتذكير والتنديد وكوسيلة من وسائل التدعيم والتأييد ، وليس من فرق من حيث الجوهر بين هذا وذاك وليس مما يصح في حال أو يمكن أن يرد على بال ولا مما ادعاه أحد أن النبي لم يكن يعرفه عن غير طريق الوحي.(1/552)
وقد بقيت مسألتان قد تبدوان مشكلتين ، أولاهما ما إذا كان ما احتواه القرآن من قصص صحيحا في جزئيات وقائعه وحقائق حدوثه ، وثانيتهما ما بين بعض القصص القرآنية المتصلة بنبي أو أمة من بعض الخلاف مثل وصف عصا موسى بالحية في سورة والثعبان في سورة أخرى ، ومثل ذكر وقت ما كان يقع على بني إسرائيل من فرعون من قتل الأبناء واستحياء النساء حيث ذكر هذا الوقت في سورة أنه قبل بعثة موسى وفي سورة أنه بعد بعثته. فنحن كمسلمين نقول إن كل ما احتواه القرآن وحي رباني واجب الإيمان وإنا آمنا به كل من عند ربنا ، كما أننا نقول بوجوب ملاحظة كون القرآن في قصصه إنما استهدف العظة والتذكير فحسب ،و هما لا يتحققان إلا فيما هو معروف ومسلم به إجمالا من السامع وأن هذا أيضا من الحق الذي انطوى فيه حكمة التنزيل ، وبوجوب الوقوف من هذه القصص عند الحدّ الذي استهدفه القرآن وعدم الاستغراق في ماهياتها على غير طائل ولا ضرورة ، لأنها ليست مما يتصل بالأهداف والأسس على ما ذكرناه في مطلع البحث وهذا هو الجوهري فيه. وهذا القول يصح على المسألة الثانية مع التنبيه على أن الخلاف ظاهري ويمكن التوفيق فيه وتأويله ، وعلى أنه متصل بالماهيات والحقائق التي لم تقصد لذاتها كما كررنا قوله.
ونريد أن ننبه على ظاهرة قرآنية مهمة فيها توكيد لما نقرره واتساق معه ، وبالتالي فيها دليل انسجام في الأساليب القرآنية ومراميها مكية كانت أو مدنية.
وذلك أن أسلوب القرآن القصصي وهدفه قد اتسقا مع ما ورد فيه من ذكر الوقائع الجهادية والمواقف القضائية والحجاجية وغيرها من أحداث السيرة النبوية ، بحيث إن الناظر في القرآن يجد أن ما ورد فيه من ذلك إنما ورد بقصد العظة والتذكير والتنبيه والحثّ والتحذير والإرشاد والتعليم والتأديب والتشريع ، ولم يرد بأسلوب السرد التاريخي وقصده. وهذا ظاهر من كون تلك الوقائع والمواقف لم تحتو كل الصور والمشاهد والتفصيلات والأحداث ، وإنما احتوت ما يحقق ذلك القصد منها. ولعل هذا هو الذي يفسر حكمة عدم ورود ذكر أو تفصيل لأمور كثيرة من أحداث السيرة وفيها ما هو مهم من وقائع جهادية كفتح مكة والطائف وغزوات مشارف الشام ومؤتة واليمن إلخ. فالظاهر أنه لم يكن فيها أمور تستوجب ذلك وتتصل بالقصد المذكور فاقتضت الحكمة عدم إنزال شيء في بعضها والاكتفاء بالإشارات العابرة بالنسبة لبعضها الآخر. (1)
الشطر الأعظم من هذه السورة احتوى قصة يوسف عليه السلام وإخوته ، وتبعه آيات فيها تطمين للنبي - صلى الله عليه وسلم - وبشرى له وللمؤمنين وتوضيح لمهمته ومداها ، وإنذار وتقريع للكفار وتقرير لحقيقة موقفهم وواقع
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 162)(1/553)
عقائدهم. والقصة في هذه السورة جاءت مباشرة على نمط قصة موسى وفرعون في سورة القصص. وفي الآيات ما يلهم أنها نزلت إجابة لسؤال أو استفسار. وقد احتوت آيات القصة حكما ومواعظ وعبرا عديدة بحيث تطابقت في ذلك مع أسلوب القصص القرآنية وهدفها بوجه عام ، وفي الآيات التي تبعت فصول القصة ما يربط بينها وبين هذه الفصول بحيث يسوغ القول إن فصول السورة نزلت متتابعة إلى أن تمت.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآيات [1 و2 و3 و7] مدنيات ، وانسجام هذه الآيات في الموضوع والسياق وصلتها بهما ومماثلة محتواها لمحتوى آيات مكية لا خلاف فيها يجعلنا نشك في صحة الرواية. (1)
سورة يوسف عليه السّلام مكية وهي مائة وإحدى عشرة آية.
تسميتها وسبب نزولها :
سميت سورة يوسف ، لإيراد قصة النبي يوسف عليه السّلام فيها ،
روي أن اليهود سألوا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عن قصة يوسف فنزلت السورة.
وقال سعد بن أبي وقاص رضي اللّه عنه - فيما رواه عنه الحاكم وغيره - : أنزل القرآن على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ، فتلاه عليهم زمانا ، فقالوا : لو قصصت علينا فنزل : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ [يوسف 12/ 3] و[الكهف 18/ 13] فتلاه عليهم زمانا ، فقالوا : لو حدثتنا فنزل : اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر 39/ 23].
وقد نزلت بعد اشتداد الأزمة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة مع قريش ، وبعد عام الحزن الذي فقد فيه النبي زوجته الطاهرة خديجة ، وعمه أبا طالب الذي كان نصيرا له.
روي في سبب نزولها أن كفار مكة لقي بعضهم اليهود وتباحثوا في شأن محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لهم اليهود : سلوه ، لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر ، وعن قصة يوسف ، فنزلت.
وبالرغم من أنها سورة مكية ، فأسلوبها هادئ ممتع ، مصطبغ بالأنس والرحمة ، واللطف والسلاسة ، لا يحمل طابع الإنذار والتهديد كما هو الشأن الغالب في السور المكية. قال عطاء : لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها. وروى البيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن طائفة من اليهود حين سمعوا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يتلو هذه السورة ، أسلموا لموافقتها ما عندهم.
مناسبتها لما قبلها :
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (4 / 7)(1/554)
نزلت هذه السورة بعد سورة هود ، وهي مناسبة لها ، لما في كلّ من قصص الأنبياء ، وإثبات الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقد تكررت قصة كل نبي في أكثر من سورة في القرآن ، بأسلوب مختلف ، ولمقاصد وأهداف متنوعة ، بقصد العظة والاعتبار ، إلا قصة يوسف عليه السّلام ، فلم تذكر في غير هذه السورة ، وإنما ذكرت جميع فصولها بنحو متتابع شامل ، للإشارة إلى ما في القرآن من إعجاز ، سواء في القصة الكاملة أو في فصل منها ، وسواء في حالة الإجمال أو حالة التفصيل والبيان. قال العلماء : ذكر اللّه أقاصيص الأنبياء في القرآن ، وكرّرها بمعنى واحد في وجوه مختلفة ، بألفاظ متباينة على درجات البلاغة ، وذكر قصة يوسف ولم يكررها ، فلم يقدر مخالف على معارضة ما تكرّر ، ولا على معارضة غير المتكرر ، والإعجاز لمن تأمل .
ما اشتملت عليه السورة :
تضمنت هذه السورة قصة يوسف عليه السّلام ، بجميع فصولها المثيرة ، المفرحة حينا والمحزنة حينا آخر ، فبدأت ببيان منزلته عند أبيه يعقوب وصلته به ، ثم علاقته بإخوته (مؤامرتهم عليه ، وإلقاؤه في البئر ، وبيعه لرئيس شرطة مصر ، وشراؤهم الطعام منه في المرة الأولى ومنحهم إياه دون مقابل ، ومنعهم شراء الطعام في المرة الثانية إن لم يأتوه بأخيهم (بنيامين) وإبقاء أخيه بنيامين لديه في حيلة مدروسة وسرقة مزعومة ، حتى يأتوه بأخيهم لأبيهم ، ثم تعريفه نفسه لإخوته) ، ومحنة يوسف وجماله الرائع ، وقصة يوسف مع امرأة العزيز ، وبراءته المطلقة ، يوسف في غياهب السجون يدعو لدينه ، بوادر الفرج وتعبير رؤيا الملك ، توليته وزيرا للمالية والتجارة ورئاسة الحكم ، إبصار يعقوب حين جاء البشير بقميص يوسف ، لقاء يوسف في مصر مع أبويه وجميع أسرته.
ثم إيراد العبرة من هذه القصة ، وإثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وتسليته ، وبشائر الفرج بعد الضيق ، والأنس بعد الوحشة ، فإن يوسف عليه السّلام انتقل من السجن إلى القصر ، وجعل عزيزا في أرض مصر ، وكل من صبر على البلاء فلا بد من أن يأتيه الفرج والنصر ، وتحذير المشركين من نزول العذاب بهم كما حدث لمن قبلهم ، والدروس والأخلاق المستفادة من قصة يوسف عليه السّلام ، وأهمها نصر الرسل بعد الاستيئاس.
أضواء من التاريخ على قصة يوسف عليه السّلام :
نسب يوسف :
هو يوسف بن يعقوب (إسرائيل اللّه) بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
وهو أحد أولاد يعقوب الاثني عشر ذكرا الذين ولدوا في فدان آرام أثناء رعاية غنم خاله (لابان) مقابل تزوجه ابنتيه ، إلا بنيامين فقد ولد في أرض كنعان بعد رحيله إليها.(1/555)
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن يوسف فيما أخرجه أحمد والبخاري عن ابن عمر : «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم».
وكان يوسف رائع الجمال ، محبوبا لدى أبيه ، مما أثار حقد إخوته عليه وتآمرهم عليه. وقد رأى في منامه في صغره في سن السابعة عشرة سنة أو الثانية عشرة أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر سجدوا له ، فقصّ الرؤيا على أبيه ، فبشره بالنبوة وتعبير الأحلام.
إلقاء يوسف في البئر :
أخذه إخوته معهم إلى البرية بقصد السياحة واللعب ، ثم ألقوه في البئر ، وأخبروا أباهم كذبا أن الذئب أكله ، فلم يقتنع الأب الصالح بكلامهم ، واتهمهم بمكيدة أوقعوها فيه ، ثم أنقذه اللّه بتعلقه بحبل دلو أدلي في البئر ، ثم باعه آخذوه في مصر بثمن نجس ، وادعوا أنهم اشتروه من سيده ، باعوه لرئيس الشرطة وهو العزيز في محافظة الشرقية قرب بحيرة المنزلة ، واسمه (فوطيفار) أو (أطفير) فأحبه وقال لامرأته زليخا : أَكْرِمِي مَثْواهُ .. وجعله صاحب أمره ونهيه ، ورئيس خدمه والمتصرف في بيته ، وتولاه اللّه تعالى بالهداية والتربية والتوفيق.
محنة يوسف :
وكان جماله الرائع سبب محنته ،
روى مسلم في صحيحة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : «فإذا أنا بيوسف إذا هو قد أعطي شطر الحسن»
فأحبته امرأة العزيز ، وراودته عن نفسه ، فأبى إيمانا باللّه ، وامتثالا لأمره ، واجتنابا لمنهياته ، وتقديرا لأفضال زوجها عليه : إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وامتنع همّه بها لوجود البرهان عنده ، وهو حرصه على الطاعة ، والتمسك بآداب آبائه ، لأن لَوْ لا حرف امتناع لوجود ، امتنع الهم لوجود البرهان ، كما في قوله تعالى :وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً ، إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ، لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها ، لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص 28/ 10] أي امتنع إبداؤها بما في نفسها على ابنها ، لوجود الربط على قلبها.
مكيدة امرأة العزيز :
ولما خابت في تحقيق رغبتها منه ، حقدت عليه ، كما هو شأن السادة عند ما يخالفهم أحد الأتباع. ولما رأت زوجها لدى الباب يريد الدخول ، لفقت عليه التهمة ، وأفهمته أنه يريدها بسوء ، فكذبها يوسف الصّديق ، فاحتكم الزوج العاقل إلى القرائن : إن كان قميصه مزّق من الأمام فهي الكاذبة ، وإن مزق من الخلف فهو الصادق ، لأن المقدم على المرأة يظهر أثر مقاومتها ودفاعها من الناحية الإمامية ، والهارب(1/556)
من المرأة يظهر أثر لحاقها به من الخلف ، فظهرت براءته ، والتصقت التهمة بها ، وأمر يوسف بكتمان الخبر ، وأمرها بالاستغفار لذنبها.
ومع هذا ، شاع خبر امرأة العزيز وفتاها في أرجاء المدينة ، ولامتها النساء ، فأعدت لهن طعاما يحتاج إلى القطع بالسكين ، وآتت كل واحدة سكينا ، وأمرت يوسف أن يخرج عليهن ، فبهرهن جماله ، فقطعن أيديهن ، وقلن : ما هذا بَشَراً ، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ فعذرنها ، ثم هددته بالسجن إن لم يستجب لها ، وفشا أمره بين الناس ، فرأى سيده أن يزجه في السجن ، ليحمي سمعة امرأته.
دخول يوسف إلى السجن ودعوته لدينه فيه :
وأدخل يوسف السجن ، ودخل معه السجن فتيان : أحدهما : رئيس الخبازين عند الملك ، والثاني : رئيس سقاته ، فرأى الثاني في منامه أنه يعصر في كأس الملك خمرا ، ورأى الأول أنه يحمل فوق رأسه خبزا وطيرا تأكل الناس منه ، وطلبا من يوسف تعبير الرؤيا.
فأظهر يوسف مقدرته على تأويل الرؤيا ، ولكنه قدم لذلك بدعوته السجناء إلى توحيد اللّه ، قائلا لصاحبيه : أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟ وقال للساقي : إنه يسقي ربه خمرا ، وقال للآخر : إنه سيصلب ، فتأكل الطير من رأسه. وتأمل يوسف الفرج وقال لمن ظن أنه ناج منهما :اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ، فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ، فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ.
رؤيا الملك :
ثم رأى الملك أن سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ، وسبع سنابل خضراء حسنة في ساق واحدة يأكلهن سبع يابسات ، فدعا بالسحرة لسؤالهم عن تأويل المنام ، فقالوا : أضغاث أحلام ، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين.
فتذكر ساقي الملك يوسف في السجن ، فعرض الأمر على الملك ، فوافق على أن يرسله إلى السجن ليأتي له بالتفسير الصحيح للمنام ، فجاءه فيه ، ثم عاد بالجواب إلى الملك ، فقال الملك : ائتوني بيوسف ، فأبى يوسف الخروج من السجن ، حتى تظهر براءته وحقيقة أمره مع النساء ، فأحضرهن الملك ، وسألهن عنه ، قلن : حاشا للّه ما علمنا عليه من سوء ، وأقرت امرأة العزيز (زليخا) ببراءته ، وقالت : الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ، أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ، وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ. وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ، إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وآية : وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ... من قول امرأة العزيز ، لا من قول يوسف كما يذكر بعض المفسرين خطأ.
خروج يوسف من السجن إلى القصر :(1/557)
وخرج يوسف من السجن بريئا من التهمة ، وسأله الملك عن أي عمل يرضاه لنفسه؟ فقال يوسف : اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ فجعله على كل أرض مصر ، وصاحب الأمر والنهي ، ووزيرا للمالية والتجارة ورئاسة الحكم ، وجعل خاتمه في يد يوسف الذي أصبح عمره ثلاثين سنة.
طلب إخوة يوسف الطعام منه :
ومرت السنوات السبع المخصبة ، ثم جاءت السبع المجدبة ، فباع يوسف المصريين من مخازن القمح التي كان قد ادخرها أثناء الخصب ، ثم جاءه أهل فلسطين ، وأرسل يعقوب أولاده مع الجمال والحمير لحمل الطعام من مصر ، فلما قدموا عرفهم يوسف ولم يعرفوه ، إذ أصبح في سن الأربعين ، وطلب منهم أن يأتوه بأخ لهم من أبيهم مرة أخرى ، وأعطاهم الطعام بلا ثمن ، ليأتوه بأخيهم ، دون أن يعلموا أنه ردّ عليهم الثمن ، ووضع نقودهم في أوعيتهم لأنهم سيعودون بها إليه لأنهم لا يقبلون ما ليس لهم.
ولما اشتد القحط بأهل فلسطين ، سمح يعقوب بسفر ابنه (بنيامين) مع إخوته ، فلما قدموا أحسن يوسف ضيافتهم واستقبالهم في حفل غداء ظهرا ، ولكنه لم يأكل معهم جريا على عادة المصريين الذين يعتبرون الأكل مع العبرانيين نجاسة ، وأخبروا خادما ليوسف أنهم عادوا بالفضة ثمن الطعام سابقا ، وبفضة أخرى لشراء القمح.
حيلة يوسف في إبقاء أخيه عنده :
أمر يوسف بتجهيز إخوته من الطعام ، وأمر أن توضع فضة كل واحد في عدله ، وأن يوضع صواع الملك في رحل أخيه بنيامين ، وعند ما عزموا على المسير ، نودوا بأنهم سرقوا سقاية الملك ، وأن من سرقه فهو فداؤه في قانون الملك. ففتشت أعدالهم ، ثم أخرج الصواع من عدل بنيامين ، فتوسطوا لدى الملك واسترحموا أن يأخذ أحدهم بدلا عنه لأن له أبا شيخا كبيرا ، فأبى ، فقالوا : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ، فأسرها يوسف في نفسه ، وقال لهم : أنتم شرّ مكانا من هذا السارق.
وسرقة يوسف المزعومة :
أن أمه ماتت وهو صغير ، فكفلته عمته ، ولما أراد أبوه أن يأخذه منها ، ألبسته منطقة لإبراهيم كانت عندها ، وأخفتها تحت ثيابه ، ثم أظهرت أنها سرقت منها ، ثم أخرجتها من تحت ثيابه ، وطلبت بقاءه عندها يخدمها مدة ، جزاء له بما صنع.
فلما قدم إخوة يوسف على أبيهم يعقوب ما عدا أكبرهم وأصغرهم ، أخبروه بما حدث ، فازداد حزنا حتى ابيضت عيناه ، وتذكر يوسف فقال : يا أسفا على يوسف.
تعارف الإخوة ولقاء الأسرة :(1/558)
ثم جاء إخوة يوسف إلى مصر في المرة الثالثة ، وطلبوا إمدادهم بالطعام ، لما تعرضوا له من الضرّ (الجوع) قائلين : وجئنا ببضاعة مزجاة أي قليلة ، كما طلبوا إطلاق سراح أخيهم ، فذكرهم يوسف بإساءتهم القديمة قائلا : هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ ، إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ فعرفوا أنه يوسف : قالُوا : أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟ قالَ : أَنَا يُوسُفُ ، وَهذا أَخِي ، قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ...
وأعطاهم قميصه لإلقائه على وجه أبيهم ، والإتيان بأهله أجمعين إليه ، فلما وصلوا فلسطين ألقوا القميص على وجه يعقوب ، فارتد بصيرا ، وبشره البشير بسلامة يوسف وأخيه.
فجاء يعقوب وآله إلى مصر ، فآوى يوسف إليه أبويه : يعقوب وزوجه خالة يوسف ، لموت أمه وهو صغير ، وسجد له أبوه وأمه وإخوته الأحد عشر سجود تحية وتعظيم ، لا سجود عبادة ، وتلك هي تأويل رؤياه السابقة بسجود أحد عشر كوكبا له مع الشمس والقمر ، وكان هذا اللقاء فرحة كبري للأسرة برئاسة يعقوب ، استوجبت من يوسف إعلان شكر اللّه تعالى على نعمه عليه ، من العلم والملك ، وطلب من اللّه تعالى أن يتولاه في الدنيا والآخرة ، وأن يتوفاه مسلما أي مطيعا للّه ، غير عاص ، وأن يلحقه بالصالحين من آبائه الأنبياء.
العبر والعظات المستفادة من قصة يوسف :
يمكن استخلاص عبر كثيرة وعظات عديدة ، وأخلاق وفضائل سامية من قصة يوسف عليه السّلام ، منها :
1 - قد تؤدي النقمة إلى النعمة ، فقد بدأت قصة يوسف بالأحزان والمفاجآت المدهشة ، من الإلقاء به في البئر ، ثم بيعه عبدا لرئيس شرطة مصر ، ثم كانت محنته الشديدة مع النساء ، فزجّ به في غياهب السجون ، ثم آل الأمر به إلى أن يصبح حاكم مصر الفعلي.
2 - قد توجد ضغائن وأحقاد بين الإخوة ربما تدفع إلى الموت أو الهلاك.
3 - كانت نشأة يوسف في بيت النبوة نشأة صالحة ، تربى فيها على الأخلاق الكريمة ، والخصال الرفيعة ، فشب على تلك الأوصاف الكاملة التي ورثها من آبائه وأجداده الأنبياء ، وقد أفاده ذلك في مختلف الأحداث الكبرى التي مرا ، وانتصر بها على المحن ، وجاءه الفرج بعد الشدة ، والعز والنصر بعد الذل والانكسار.
4 - إن العفة والأمانة والاستقامة مصدر الخير كله ، للرجال والنساء ، على حدّ سواء ، وإن الاستمساك بالدين والفضيلة مصدر الاحترام وحسن السمعة ، وإن الحق وإن استتر زمنا لا بدّ من أن يظهر ولو بعد حين.(1/559)
5 - إن مثار الفتنة هو خلوة الرجل بالمرأة ، لذا حرمها الإسلام ، وحرم سفر المرأة لمسافة قصيرة بغير محرم ، ولو بوسائط النقل السريعة الحديثة ، لما يطرأ لها من عثرات ومضايقات ملحوظة ومشكلات تصاحب الأسفار ، ثبت في الحديث الذي أخرجه الترمذي والنسائي : «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان».
6 - الإيمان بالمبدأ ، وصلابة الاعتقاد سبيل لتخطي الصعاب ، والترفع عن الدنايا ، وذلك هو الذي جعل ليوسف نفسا كريمة ، وروحا طاهرة ، وعزيمة صماء لا تلين أمام الشهوات والمغريات.
7 - الاعتصام باللّه عند الشدة ، واللجوء إليه عند الضيق ، فلم يأبه يوسف عليه السّلام بتوعد امرأة العزيز له بالسجن ، وإنما لجأ إلى اللّه قائلا : رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ.
8 - المحنة لا تثني المؤمن عن واجبه في الدعوة إلى اللّه تعالى ، فإن يوسف عليه السّلام بالرغم من كونه في السجن ، انتهز فرصة تأويل رؤيا سجينين معه ، فبادر إلى الدعوة إلى التوحيد ودين اللّه ، لعل الموجودين معه يؤمنون بدعوته ، وقد أسلم فعلا الملك ، ومستعبر الرؤيا الساقي ، والشاهد فيما يقال.
9 - الفطنة لاستغلال الأحداث والاتصاف بالإباء والشمم ، فلم يبادر يوسف عليه السّلام إلى الخروج من السجن ، حتى تعلن براءته ، وتظهر طهارته ، وشرف نفسه ، حتى لا يوصف بأنه مجرم ، أودع السجون بجرمه.
10 - إظهار فضيلة الصبر ، فقد كان يوسف متدرعا بدرع الصبر على الأذى ، لاجتياز العقبات والصعاب والمصائب التي تعرّض لها وهي ما ذكر ، والصبر مفتاح الفرج ، ونصف الإيمان ، وطريق تحقيق النصر ، وقد نصره اللّه كما نصر باقي الرسل بعد الاستيئاس. وتوّج نصره بالعفو عن إخوته وكرمه في العفو الذي أصبح مضرب الأمثال ، حتى قال : لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ....
11 - أسفرت قصة يوسف عن براءته المطلقة ، كبراءة الذئب من دمه ، فقد تضافرت شهادات عديدة على براءته ، كما ذكر الرازي :
أولها - شهادة رب العالمين : فقد شهد اللّه تعالى ببراءته عن الذنب بقوله : كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ شهد تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات ، بقوله : لِنَصْرِفَ .. واللام للتأكيد والمبالغة ، وقوله : وَالْفَحْشاءَ وقوله : إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا وقوله :الْمُخْلَصِينَ.
وثانيها - شهادة الشيطان ببراءته بقوله : فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص 38/ 82] فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين ، ويوسف من المخلصين ، للآية السابقة.
وثالثها - شهادة يوسف عليه السّلام بقوله : هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وقوله : رَبِّ ، السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ.(1/560)
ورابعها - شهادة امرأة العزيز : فإنها اعترفت ببراءته وطهارته ، فقالت للنسوة : وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ، فَاسْتَعْصَمَ وقالت : الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ، أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ.
وخامسها - الشهود من أهل العزيز : وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها ، إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ، فَكَذَبَتْ ، وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ .. الآية.
وسادسها - شهادة النسوة اللائي قطّعن أيديهن بقولهن : ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ.
كل تلك الشهادات قاطعة ببراءة يوسف عليه السّلام ، فمن أراد أن يتهمه بالهمّ على السوء - علما بأن الهمّ أمر نفسي لا عقاب عليه - فهو من دعاة السوء ، وأهل الجهالة والغباوة ، وأدنى من الشيطان الذي شهد كما أوضحنا بطهارة يوسف.
12 - أرشدت قصة يوسف إلى أنه لا دافع لقضاء اللّه تعالى ، ولا مانع من قدر اللّه تعالى ، وأنه تعالى إذا قضى للإنسان بخير ومكرمة ، لم يمنعه عنه أحد ولو اجتمع العالم عليه.
13 - دلت القصة على أن الحسد سبب للخذلان والخسران.
14 - الصبر مفتاح الفرج ، فإن يعقوب عليه السّلام لما صبر فاز بمقصوده ، وكذلك يوسف عليه السّلام لما صبر فاز كما تقدم بيانه. (1)
وهي مكية وعدد آياتها إحدى عشرة آية ومائة ، وهي مناسبة لما قبلها إذ الكل في قصص الأنبياء ، وتتضمن السورة قصة يوسف على أحسن نظام وأدق تعبير وأروع وصف ، وقد برز أثناء سردها تأييد الرسول في قضيته الكبرى حيث لم يكن يعرف شيئا عن يوسف ولفت لأنظار العالم إلى الكون وما فيه من آيات وعبر ، وإلى ما في الإنسان من غرائز كحب الولد ، والغيرة والحسد بين الأخوة ، والمكر والخديعة من بعضهم ، ومن امرأة العزيز الثائرة ، وما يتبع ذلك من ندم ، والإشارة إلى ما في المجتمع المصرى إذ ذاك. كل ذلك بأسلوب قوى وعبارة بليغة وتصوير دقيق. (2)
تقدمة لتفسير سورة يوسف
رأينا أن نقدّم لك أيها القارئ صورة موجزة تبين لك حال هذا النبي الكريم والعبرة من ذكر قصته فى القرآن العظيم ، لتكون ذكرى للذاكرين ، وسلوة للقارئين والسامعين.
يوسف الصديق : مثل كامل فى عفّته
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (12 / 188)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (2 / 158)(1/561)
يوسف عليه السلام آية خالدة على وجه الدهر ، تتلى فى صحائف الكون بكرة وعشيا ، تفسّر طيب نجاره وطهارة إزاره ، وعفته فى شبابه ، وقوّته فى دينه ، وإيثاره لآخرته على دنياه ، وأفضل هداية تمثل للنساء والرجال المثل العليا فى العفة والصيانة التي لا تتم لأحد من البشر إلا بصدق الإيمان باللّه ومراقبته له فى السر والعلن.
وسورته منقبة عظمى له ، وآية بينة فى إثبات عصمته ، وأفضل مثل عملى يقتدى به النساء فالرجال ، فبتلاوتها يشعر القارئ بما للشهوة الخسيسة على النفس من سلطان ويسمع بأذنه تغلب الفضيلة فى المؤمن على كل رذيلة ، بقوة الإرادة ووازع الشرف والعصمة ففيها أحسن الأسوة للمؤمنين من الرجال والنساء ، فيها قصة شاب كان من أجمل الناس صورة ، وأكملهم بنية ، يخلو بامرأة ذات منصب وسلطان وهى سيدة له وهو عبدها ، يحملها الافتتان بجماله على أن تذلّ نفسها له ، وتخون بعلها فتراوده عن نفسه (وقد جرت العادة حتى فى الطبقات الدنيا منزلة وتربية أن يكون النساء مطلوبات لا طالبات) فيسمعها من حكمته ، ويريها من كماله وعفته ما هو أفضل درس فى الإيمان باللّه والاعتصام بحبله المتين ، وفى حفظه أمانة سيده الذي أحسن مثواه فيقول : « إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ » فتشعر حينئذ بالذل والمهانة ، والتفريط فى الشرف والصيانة ، وتحقير مقام السيادة والكرامة.
إلا أن فيها أعظم دليل على صبره وحلمه وأمانته وعدله ، وحكمته وعلمه ، وعفوه وإحسانه ، فكفى شاهدا على صبره أن إخوته حسدوه فألقوه فى غيابة الجب وأخرجته السيارة وباعوه بيع العبيد ، وكادت له امرأة العزيز فزجّ فى السجن فصبر على أذى الإخوة وكيد امرأة العزيز ومكر النسوة ، إذ علم ما فى الفاحشة من مفاسد ، وما فى العدل والإحسان من منافع ومصالح ، فآثر الأعلى على الأدنى فاختار عقوبة الدنيا بالسجن على ارتكاب الإثم ، وكانت العاقبة أن نجّاه اللّه ورفع قدره ، وأذل العزيز وامرأته ، وأقرت المرأة والنسوة ببراءته ، ومكّن له فى الأرض وكانت عاقبته النصر ، والملك والحكم ، والعاقبة للمتقين ، قال سبحانه : « وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ » .
وأما عدله وأمانته وعلمه وحكمته فقد ظهرت جليّا حين تولى الحكم فى مصر أيام السبع السنين العجاف التي أكلت الحرث والنسل وكادت توقع البلاد فى المجاعات ، ثم الهلاك المحقق لو لا حكمته وعدله بين الناس والسير بينهم بالسوية وعلى الصراط المستقيم بلا جنف ولا ميل مع الهوى.
ما فى قصص يوسف من عبرة
إن فى هذه القصة لعبرة أيّما عبرة لعلية القوم وساداتهم ، رجالهم ونسائهم ، مجّانهم وأعفائهم ، من نساء ورجال ، فإن امرأة العزيز لم تكن من قبل غويّة ولا كانت فى سيرتها غير عادية ، لكنها ابتليت بحب هذا(1/562)
الشاب الفاتن الذي وضعه عزيز مصر فى قصره ، وخلّى بينه وبين أهله ، فأذلت نفسها له ، بمراودته عن نفسه فاستعصم وأبى وآثر مرضاة ربه ، فشاع فى مصر دورها وقصورها ذلها له ، وإباؤه عليها كما قال سبحانه « وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ » .
وقد ذكرنها بالوصف (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ) دون الاسم الصريح استعظاما لهذا الأمر منها ، ولا سيما وزوجها عزيز مصر أو رئيس حكومتها ، وقد طلبت الفاحشة من مملوكها وفتاها الذي هو فى بيتها وتحت كنفها ، وذلك أقبح لوقوعها منها ، وهى السيدة وهو المملوك وهو التابع وهى المتبوعة ، وقد جرت العادة بأن نفوس النسوة تعزف عن مثل هذه الدناءة ولا ترضى لنفسها بهذه الذلة التي تشعر بالمساواة لا بالسيادة ، وبالضعة لا بالعظمة وللّه فى خلقه شئون.
وقد تضمن وصف النسوة لها بهذا الوصف أنها لم تقتصد فى حبها ولا فى طلبها.
أما الأولى فقولهن فيها : « قَدْ شَغَفَها حُبًّا » أي قد وصل حبه إلى شغاف قلبها (الغشاء المحيط به) وغاض فى سويدائه كما قال شاعرهم :
اللّه يعلم أن حبّك منّى فى سواد الفؤاد وسط الشغاف
وأما الثاني فقولهن : « تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ » .
فلما سمعت بهذا المكر القولى قابلتهن عليه بمكر فعلىّ فقد جمعتهن وأخرجته عليهن ، فلم يشعرن إلا وأحسن خلق اللّه قد طلع عليهن بغتة ، فراعهن ذلك الحسن الفتّان ، وفى أيديهن مدى يقطعن بها مما يأكلنه فقطّعن أيديهن وهن لا يشعرن بما فعلن مأخوذات بذلك الحسن كما جاء فى قوله سبحانه : « فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ، وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ » .
فلما هددته بالسجن والإذلال بعد أن هتك سترها وكاشفت النسوة فى أمرها وتواطأن معها على كيدها - آثر عليه السلام الاعتقال فى السجن على ما يدعونه إليه من الفحش والخنا : « قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ. فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » .
وإنه ليستبين من هذا القصص أن امرأة العزيز كانت مالكة لقياد زوجها الوزير الكبير ، تصرفه كيف شاءت وشاء لها الهوى ، إذ كان فاقدا للغيرة كأمثاله من كبراء لدنيا صغار الأنفس عبيد الشهوات.
قال فى الكشاف عند ذكر ما رأوا من الشواهد الدالة على براءته : وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها ، وفتلها منه فى الذروة والغارب ، وكان مطواعة لها ، وجملا ذلولا زمامه فى يدها ، حتى أنساه(1/563)
ذلك ما عاين من الآيات وعمل برأيها فى سجنه لإلحاق الصغار به كما أوعدته ، وذلك لما أيست من طاعته ، وطمعت فى أن يذلله السجن ويسخره لها اه.
وإنا لنستخلص من هذه القصة الأمور التالية :
(1) أن النقم قد تكون ذريعة لكثير من النعم ، ففى بدء القصة أحداث كلها أتراح ، أعقبتها نتائج كلها أفراح.
(2) أن الإخوة لأب قد توجد بينهم ضغائن وأحقاد ربما تصل إلى تمنى الموت أو الهلاك أو الجوائح التي تكون مصدر النكبات والمصايب
(3) أن العفة والأمانة والاستقامة تكون مصدر الخير والبركة لمن تحلى بها ، والشواهد فيها واضحة ، والعبرة منها ماثلة ، لمن اعتبر وتدبر ونظر بعين الناقد البصير.
(4) إن أسها ودعامتها هو خلوة الرجل بالمرأة فهى التي أثارت طبيعتها وأفضت بها إلى إشباع أنوثتها ، والرجوع إلى هواها وغريزتها ، ومن أجل هذا حرم الدين خلوة الرجل بالمرأة وسفرها بغير محرم ، وفى الحديث « ما اجتمع رجل وامرأة إلا والشيطان ثالثهما » .
وإنا لنرى فى العصر الحاضر أن الداء الدوىّ ، والفساد الخلقي ، الذي وصل إلى الغاية (وكلنا نلمس آثاره ، ونشاهد بلواه) ما بلغ إلى ما نرى إلا باختلاط الرجال بالنساء فى المراقص والملاهي ، والاشتراك معهم فى المفاسد والمعاصي كمعاقرة الخمور ، ولعب القمار فى أندية الخزي والعار ، وسباحة النساء مع الرجال فى الحمامات المشتركة.
وبعد فهل لهذه البلوى من يفرّج كربتها ، وهل لهذا الليل من يزيل ظلامه ، وهل لهذه الجراح من آس وهل لهذه الفوضى من علاج ، ولهذه الطامة من يقوم بحمل عبئها عن الأمة ويكون فيه من الشجاعة ما يجعله يرفع الصوت عاليا بالنزوع عن تلك الغواية ويرد أمر المجتمع والحرص على آدابه إلى ما قرره الدين وسار عليه سلف المسلمين المتقين :
فيصلح أمره وتزهو الفضيلة وتنشأ نابتة جديدة تقوم على حراسة الدين فى بلاد المسلمين وللّه الأمر من قبل ومن بعد.
هدانا اللّه إلى سبيل الفلاح ، وسدد خطانا إلى طريق النجاح ، إنه نعم المولى ونعم النصير. (1)
سورة يوسف عليه السلام هى مكية ، وآياتها إحدى عشرة ومائة ، والمناسبة بينها وبين سورة هود أنها متممة لما فيها من قصص الرسل والاستدلال بذلك على كون القرآن وحيا من عند اللّه دالا على رسالة
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (12 / 106)(1/564)
محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين ، والفرق بين القصص فيها وفيما قبلها ، أن السابق كان قصص الرسل مع أقوامهم فى تبليغ الدعوة والمحاجة فيها وعاقبة من آمن منهم ومن كذبوهم لإنذار مشركى مكة ومن تبعهم من العرب.
وأما هذه السورة فهى قصة نبى ربى فى غير قومه قبل النبوة وهو صغير السن حتى بلغ أشده واكتهل فنبىء وأرسل ودعا إلى دينه ثم تولى إدارة الملك لقطر عظيم فأحسن الإدارة والسياسة فيه وكان خير قدوة للناس فى رسالته وفى جميع ما دخل فيه من أطوار الحياة وتصريف أمورها على أحسن ما يصل إليه العقل البشرى ، ومن أعظم ذلك شأنه مع أبيه وإخوته آل بيت النبوة ، وكان من حكمة اللّه أن يجمعها فى سورة واحدة ، ومن ثم كانت أطول قصة فى القرآن الكريم. (1)
وجه مناسبتها للتي قبلها اشتمالها على شرح ما قاساه بعض الأنبياء عليهم السلام من الأقارب ، وفي الأولى ذكر ما لقوا من الأجانب ، وأيضا قد وقع فيما قبل فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود : 71] وقوله سبحانه : رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود : 73] ووقع هنا حال يعقوب مع أولاده وما صارت إليه عاقبة أمرهم مما هو أقوى شاهد على الرحمة ، وقد جاء عن ابن عباس وجابر بن زيد أن يونس نزلت ثم هود ثم يوسف وعد هذا وجها آخر من وجوه المناسبة. (2)
* سورة يوسف إحدى السور المكية التي تناولت قصص الأنبياء ، وقد أفردت الحديث عن قصة نبي الله (يوسف بن يعقوب ) وما لاقاه عليه السلام من أنواع البلاء ، ومن ضروب المحن والشدائد ، من إخوته ومن الآخرين ، في بيت عزيز مصر ، وفي السجن ، وفي تآمر النسوة ، حتى نجَاه الله من ذلك الضيق ، والمقصودُ بها تسلية النبي ، بما مر عليه من الكرب والشدة ، وما لاقاه من أذى القريب والبعيد .
* والسورة الكريمة أسلوبَ فذ فريد ، في ألفاظها ، وتعبيرها ، وأدائها ، وفي قَصَصها الممتع اللطيف ، تسري مع النفس سريان الدم في العروق ، وتجري - برقتها وسلاستها - في القلب جريان الروح في الجسد ، فهي وإن كانت من السور المكية ، التي تحمل - في الغالب - طابع الإنذار والتهديد ، إلا أنها اختلفت عنها في هذا الميدان ، فجاءت طرية نَدِية ، في أسلوب ممتع لطيف ، سَلِس رقيق ، يحمل جو الأنس والرحمة ، والرأفة والحنان ، ولهذا قال خالدُ بن مَعْدان : (سورة يوسف ومريم مما يتفكه بهما أهل الجنة في الجنة) وقال عطاء : (لا يسمع سورة يوسف محزونٌ إلا استراح إليها).
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (12 / 111)
(2) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (6 / 362)(1/565)
* نزلت السورة الكريمة على رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) بعد سورة " هود " ، في تلك الفترة الحرجة العصيبة من حياة الرسول الأعظم ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، حيث توالت الشدائد والنكبات عليه وعلى المؤمنين ، وبالأخص بعد أن فقد عليه السلام نصيريه : زوجه الطاهر الحنون " خديجة " وعمه " أبا طالب " الذي كان له خير نصير ، وخير معين ، وبوفاتهما إشتد الأذى والبلاء على رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وعلى المؤمنين ، حتى عُرف ذلك العام ب (عام الحُزْن ) .
* في تلك الفترة العصيبة من حياة الرسول الكريم ، وفي ذلك الوقت الذي كان يعاني فيه الرسول والمومنون ، الوحشة ، والغربة ، والانقطاع في جاهلية قريش ، كان الله سبحانه ينزل على نبيه الكريم هذه السورة تسلية له ، وتخفيفا لاَلامه ، بذكر قصص المرسلين ، وكأن الله تعالى يقول لنبيه عليه السلام : لا تحزن يا محمد ولا تتفجع لتكذيب قومك ، وإيذائهم لك ، فإن بعد الشدة فَرَجاً ، وإن بعد الضيق مخرجا ، أنظر إلى أخيك (يوسف ) وتمعن بما حدث له من صنوف البلايا والمِحَن ، وألوان الشدائد والنكبات ، وما ناله من ضروب المِحَن : محنة حَسد إخوته وكيدهم له ، ومحنة رميه في الجب ، ومحنة تعلق إمرأة العزيز به ، وعشقها له ، ثم مراودته عن نفسه ، بشتى طرق الفتنة والإِغراء ، ثم محنة السجن ، بعد ذلك العز ورغد العيش ! ! أنظر إليه كيف أنه لما صبر على الأذى في سبيل العقيدة ، وصبر على الضر والبلاء ، نقله الله من السجن إلى القصر ، وجعله عزيزاً في أرض مصر ، وملكه الله خزائنها ، فكان السيد المطاع ، والعزيز المكرم . . وهكذا أفعل بأوليائي ، ومن صبر على بلائي ، فلا بد أن توطد النفس على تحمل البلاء ، إقتداءً بمن سبقك من المرسلين [ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ] [ واصبر وما صبرك إلا بالله ، ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ] .
* وهكذا جاءت قصة يوسف الصديق تسلية لرسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) عما يلقاه ، وجاءت تحمل البِشرَ والأنس ، والراحة ، والطمأنينة ، لمن سار على درب الأنبياء ، فلا بد من الفرج بعد الضيق ، ومن اليسر بعد العُسر ، وفي السورة دروس وعبر ، وعظات بالغات ، حافلات بروائع الأخبار العجيبة ، والأنباء الغريبة [ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ] .
* هذا هو جو السورة ، وهذه إيحاء اتُها ورموزُها . . تُبشر بقرب النصر ، لمن تمسك بالصبر ، وسار على طريق الأنبياء والمرسلين ، والدعاة المخلصين ، فهي سلوى للقلب ، وبلسم للجروح ، وقد جرت عادة القرآن الكريم ، بتكرير القصة في مواطن عديدة ، بقصد (العظة والإعتبار) ولكن بإيجاز دون توسع ، لإستكمال جميع حلقات القصة ، وللتشويق إلى سماع الأخبار ، دون سآمة أو ملل ، وأما سورة يوسف فقد ذُكرت حلقاتها هنا متتابعة بإسهاب وإطناب ، ولم تكرر في مكان اخر ، كسائر قصص الرسل ،(1/566)
لتشير إلى " إعجاز القرآن " في المجمل والمفصل ، وفي حالتى الإيجاز والإطناب ، فسبحان المَلِك العلي الوهاب .
* قال العلامة القرطبي : (ذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن ، وكررها بمعنى واحد ، في وجوه مختلفة ، وبألفاظ متباينة ، على درجات البلاغة والبيان ، وذكر قصة يوسف عليه السلام ولم يكررها ، فلم يقدر مخالف على معارضة المكرَّر ، ولا على معارضة غير المكرر ، والإعجاز واضح لمن تأمل ) . وصدق الله [ لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب . . ] ! (1)
مقصودها وصف الكتاب بالإبانة لكل ما يوجب الهدى لما ثبتفيما مضى ويأتي في هذه السورة من تمام علم منزله غيبا وشهادة وشمول قدرته قولا وفعلا ، وهذه القصة - كما ترى - أنسب الأشياء لهذا المقصود ، فلذلك سميت سورة يوسف - والله أعلم (2)
هذه السورة مكية ، نزلت بعد سورة هود ، في تلك الفترة الحرجة التي تحدثنا عنها في تقديم سورة يونس وفي تقديم سورة هود .. بين عام الحزن بموت أبي طالب وخديجة سندي رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وبين بيعة العقبة الأولى ثم الثانية التي جعل اللّه فيهما لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وللعصبة المسلمة معه وللدعوة الإسلامية فرجا ومخرجا بالهجرة إلى المدينة .. وعلى هذا فالسورة واحدة من السور التي نزلت في تلك الفترة الحرجة في تاريخ الدعوة وفي حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والعصبة المسلمة معه في مكة ..
والسورة مكية بجملتها ، على خلاف ما ورد في المصحف الأميري من أن الآيات (1 ، 2 ، 3 ، 7) منها مدنية. ذلك أن الآيات الثلاث الأولى هذا نصها : «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ ، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» ..
وهذه الآيات هي مقدمة طبيعية لما جاء بعدها مباشرة من البدء في قصة يوسف عليه السلام .. ونص الآية التالية في السياق هو : «إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ : يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ. رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ...».
ثم تمضي القصة بعد ذلك في طريقها إلى النهاية.
فالتقديم لهذه القصة بقول اللّه تعالى : «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» يبدو هو التقديم الطبيعي المصاحب لنزول القصة ..
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (2 / 46)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (4 / 3)(1/567)
وكذلك هذه الأحرف المقطعة (الر) وتقرير أنها آيات الكتاب المبين. ثم تقرير أن اللّه أنزل هذا الكتاب قرآنا عربيا .. هو كذلك من جو القرآن المكي ، ومواجهة المشركين في مكة بعربية القرآن الذي كانوا يدعون أن أعجميا يعلمه لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ! وتقرير أنه وحي من اللّه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغافلين عن اتجاهه وموضوعاته.
ثم إن هذا التقديم يتناسق مع التعقيب على القصة في نهايتها ، وهو قول اللّه تعالى : «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ» ..
فهناك حبكة بين التقدمة للقصة والتعقيب عليها ظاهر منها نزول التقدمة مع القصة والتعقيب.
أما الآية السابعة فالسياق لا يستقيم بدونها أصلا ولا يتأتى أن تكون السورة قد نزلت في مكة وهي ليست من سياقها ثم أضيفت إليها في المدينة! ذلك أن في الآية الثامنة ضميرا يعود على يوسف وإخوته في هذه الآية السابعة ، بحيث لا يستقيم نزول الآية الثامنة دون أن تكون معها الآية السابقة. وهذا نصها :«لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ. إِذْ قالُوا : لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ، إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
مما يقطع بأن الآيتين نزلتا معا ، في سياق السورة الموصول.
والسورة كلها لحمة واحدة عليها الطابع المكي واضحا في موضوعها وفي جوها وفي ظلالها وفي إيحاءاتها.
بل إن عليها طابع هذه الفترة الحرجة الموحشة بصفة خاصة .. ففي الوقت الذي كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يعاني من الوحشة والغربة والانقطاع في جاهلية قريش - منذ عام الحزن - وتعاني معه الجماعة المسلمة هذه الشدة ، كان اللّه - سبحانه - يقص على نبيه الكريم قصة أخ له كريم - يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم صلوات اللّه وسلامه أجمعين - وهو يعاني صنوفا من المحن والابتلاءات : محنة كيد الإخوة. ومحنة الجب والخوف والترويع فيه. ومحنة الرق وهو ينتقل كالسلعة من يد إلى يد على غير إرادة منه ، ولا حماية ولا رعاية من أبويه ولا من أهله. ومحنة كيد امرأة العزيز والنسوة ، وقبلها ابتلاء الإغراء والشهوة والفتنة! ومحنة السجن بعد رغد العيش وطراوته في قصر العزيز. ثم محنة الرخاء والسلطان المطلق في يديه ، وهو يتحكم في أقوات الناس وفي رقابهم ، وفي يديه لقمة الخبز التي تقوتهم! ومحنة المشاعر البشرية وهو يلقى بعد ذلك إخوته الذين ألقوه في الجب وكانوا السبب الظاهر لهذه المحن والابتلاءات كلها ..
هذه المحن والابتلاءات التي صبر عليها يوسف - عليه السلام - وزاول دعوته إلى الإسلام من خلالها ، وخرج منها كلها متجردا خالصا آخر توجهاته ، وآخر اهتماماته ، في لحظة الانتصار على المحن جميعا وفي لحظة لقاء أبويه ولم شمله وفي لحظة تأويل رؤياه وتحققها كما رآها : «إذ قال يوسف لأبيه : يا أبت(1/568)
إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر. رأيتهم لي ساجدين» .. آخر توجهاته وآخر اهتماماته في هذه اللحظة هي التوجه المخلص المتجرد المنيب إلى ربه ، منخلعا من هذا كله بكليته كما يصوره القرآن الكريم : «فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ، وَقالَ : ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ. وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ، وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً. وَقالَ : يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا ، وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ، وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ .. رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، تَوَفَّنِي مُسْلِماً ، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» ..
وهكذا كانت طلبته الأخيرة .. بعد ذلك كله وهو في غمرة السلطان والرخاء ولمة الشمل .. أن يتوفاه ربه مسلما ، وأن يلحقه بالصالحين .. وذلك بعد الابتلاء والمحنة ، والصبر الطويل والانتصار الكبير ..
فلا عجب أن تكون هذه السورة. بما احتوته من قصة ذلك النبي الكريم ، ومن التعقيبات عليها بعد ذلك ، مما يتنزل على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - والجماعة المسلمة معه في مكة ، في هذه الفترة بالذات ، تسلية وتسرية ، وتطمينا كذلك وتثبيتا للمطاردين المغتربين الموحشين! لا بل إن الخاطر ليذهب بي اللحظة إلى الإحساس بالإيحاء البعيد بالإخراج من مكة إلى دار أخرى يكون فيها النصر والتمكين مهما بدا أن الخروج كان إكراها تحت التهديد! كما أخرج يوسف من حضن أبيه ، ليواجه هذه الابتلاءات كلها. ثم لينتهي بعد ذلك إلى النصر والتمكين : «وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ، وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ..
ولقد كان ذلك وهو يضع أقدامه في مصر في قصر العزيز .. حتى وهو ما يزال فتى يباع بيع الرقيق ..!
وما يذهب بي الخاطر إليه اللحظة يجعلني أتذوق مذاقا خاصا - أشير إليه ولا أملك التعبير عنه! - ذلك التعقيب الذي أعقب القصة : «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ. لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
إنه الإيحاء بمجرى سنة اللّه عند ما يستيئس الرسل - كما استيأس يوسف في محنته الطويلة - والتلميح بالمخرج المكروه الذي يليه الفرج المرغوب! .. الإيجاء والتلميح اللذان تدركهما القلوب المؤمنة ، وهي في مثل هذه الفترة تعيش ، وفي جوها تتنفس ، فتتذوق وتستشرف وتلمح الإيحاء والتلميح. من بعيد ..(1/569)
والسورة ذات طابع متفرد في احتوائها على قصة يوسف كاملة. فالقصص القرآني - غير قصة يوسف - يرد حلقات ، تناسب كل حلقة منها أو مجموعة حلقات موضوع السورة واتجاهها وجوها. وحتى القصص الذي ورد كاملا في سورة واحدة كقصص هود وصالح ولوط وشعيب ورد مختصرا مجملا. أما قصة يوسف فوردت بتمامها وبطولها في سورة واحدة. وهو طابع متفرد في السور القرآنية جميعا.
هذا الطابع الخاص يتناسب مع طبيعة القصة ويؤديها أداء كاملا .. ذلك أنها تبدأ برؤيا يوسف ، وتنتهي بتأويلها. بحيث لا يناسبها أن تكون حلقة منها أو جملة حلقات في سورة وتكون بقيتها في سورة أخرى.
وهذا الطابع كفل لها الأداء الكامل من جميع الوجوه فوق تحقيقه للهدف الأصيل الذي من أجله سيقت القصة ، والتعقيبات التي تلتها.
وسنحتاج أن نقول كلمة مفصلة - بعض الشي ء - عن هذا الأداء الكامل ، تكشف عن ذلك المنهج القرآني الفريد... وباللّه التوفيق ..
إن قصة يوسف - كما جاءت في هذه السورة - تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة ، بقدر ما تمثل النموذج الكامل لهذا المنهج في الأداء النفسي والعقيدي والتربوي والحركي أيضا .. ومع أن المنهج القرآني واحد في موضوعه وفي أدائه ، إلا أن قصة يوسف تبدو وكأنها المعرض المتخصص في عرض هذا المنهج من الناحية الفنية للأداء! إن القصة تعرض شخصية يوسف - عليه السلام - وهي الشخصية الرئيسية في القصة - عرضا كاملا في كل مجالات حياتها ، بكل جوانب هذه الحياة ، وبكل استجابات هذه الشخصية في هذه الجوانب وفي تلك المجالات. وتعرض أنواع الابتلاءات التي تعرضت لها تلك الشخصية الرئيسية في القصة وهي ابتلاءات متنوعة في طبيعتها وفي اتجاهاتها .. ابتلاءات الشدة وابتلاءات الرخاء. وابتلاءات الفتنة بالشهوة ، والفتنة بالسلطان. وابتلاءات الفتنة بالانفعالات والمشاعر البشرية تجاه شتى المواقف وشتى الشخصيات .. ويخرج العبد الصالح من هذه الابتلاءات والفتن كلها نقيا خالصا متجردا في وقفته الأخيرة ، متجها إلى ربه بذلك الدعاء المنيب الخاشع كما أسلفنا في نهاية الفقرة السابقة.
وإلى جانب عرض الشخصية الرئيسية في القصة تعرض الشخصيات المحيطة بدرجات متفاوتة من التركيز.
وفي مساحات متناسبة من رقعة العرض ، وعلى أبعاد متفاوتة من مركز الرؤية ، وفي أوضاع خاصة من الأضواء والظلال .. وتتعامل القصة مع النفس البشرية في واقعيتها الكاملة. متمثلة في نماذج متنوعة : نموذج يعقوب الوالد المحب الملهوف والنبي المطمئن الموصول .. ونموذج إخوة يوسف وهواتف الغيرة والحسد والحقد والمؤامرة والمناورة ، ومواجهة آثار الجريمة ، والضعف والحيرة أمام هذه المواجهة ، متميزا فيهم أحدهم بشخصية موحدة السمات في كل مراحل القصة ومواقفها .. ونموذج امرأة العزيز بكل(1/570)
غرائزها ورغائبها واندفاعاتها الأنثوية ، كما تصنعها وتوجهها البيئة المصرية الجاهلية في بلاط الملوك ، إلى جانب طابعها الشخصي الخاص الواضح في تصرفها وضوح انطباعات البيئة .. ونموذج النسوة من طبقة العلية في مصر الجاهلية! والأضواء التي تلقيها على البيئة ، ومنطقها كما يتجلى في كلام النسوة عن امرأة العزيز وفتاها ، وفي إغرائهن كذلك ليوسف وتهديد امرأة العزيز له في مواجهتهن جميعا. وما وراء أستار القصور ودسائسها ومناوراتها ، كما يتجلى في سجن يوسف بصفة خاصة .. ونموذج «العزيز» وعليه ظلال طبقته وبيئته في مواجهة جرائم الشرف من خلال مجتمعه! .. ونموذج «الملك» في خطفة يتوارى بعدها كما توارى العزيز في منطقة الظلال بعيدا عن منطقة الأضواء في مجال العرض المتناسق .. وتبرز الملامح البشرية واضحة صادقة بواقعية كاملة في هذا الحشد من الشخصيات والبيئات ، وهذا الحشد من المواقف والمشاهد ، وهذا الحشد من الحركات والمشاعر ..
ومع استيفاء القصة لكل ملامح «الواقعية» السليمة المتكاملة وخصائصها في كل شخصية وفي كل موقف وفي كل خالجة .. فإنها تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة ، ذلك الأداء الصادق ، الرائع بصدقه العميق وواقعيته السليمة .. المنهج الذي لا يهمل خلجة بشرية واقعية واحدة ، وفي الوقت ذاته لا ينشئ مستنقعا من الوحل يسميه «الواقعية» كالمستنقع الذي أنشأته «الواقعية» الغربية الجاهلية! وقد ألمت القصة بألوان من الضعف البشري بما فيها لحظة الضعف الجنسي ، ودون أن تزوّر - أي تزوير - في تصوير النفس البشرية بواقعيتها الكاملة في هذه المواقف ، ودون أن تغفل أية لمحة حقيقية من لمحات النفس أو الموقف ، فإنها لم تسف قط لتنشىء ذلك المستنقع المقزز للفطرة السليمة ، ذلك الذي يسمونه في جاهلية القرن العشرين «الواقعية» أو يسمونه أخيرا «الطبيعية!».
وظلت القصة صورة نظيفة للأداء الواقعي الكامل مع تنوع الشخصيات وتنوع المواقف :
إخوة يوسف .. والأحقاد الصغيرة في قلوبهم تكبر وتتضخم حتى تحجب عن ضمائرهم هول الجريمة وبشاعتها ونكارتها وضخامتها! ثم تزين لهم «المحلل الشرعي!» الذي يخرجون به من تلك الجريمة ..
ملاحظا في هذا واقعيتهم في بيئتهم الدينية - وهم أولاد نبي اللّه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم صلوات اللّه وسلامه - وانطباعات هذه البيئة في تفكيرهم ومشاعرهم وتقاليدهم ، وحاجتهم النفسية - من ثم - إلى مبرر للجريمة ، وإلى طريقة للتحلل من نكارتها وبشاعتها : «لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ. إِذْ قالُوا : لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا - وَنَحْنُ عُصْبَةٌ - إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ! اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ، وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ! قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ : لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ، يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ - إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ! - قالُوا : يا أَبانا ، ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ. أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ! قالَ :(1/571)
إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ، وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ. قالُوا : لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ. فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ، وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ ، قالُوا : يا أَبانا ، إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ ، وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ، وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ. وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ، قالَ : بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ» ..
ونحن نجدهم - هم هم - في كل مواقف القصة بعد ذلك - كما نجد موقف أحدهم الخاص من أول القصة إلى آخرها - فما إن يذهبوا بأخي يوسف بعد ما طلبه منهم وهم لا يعرفونه يحسبون أنه عزيز مصر الذي قدموا من بلادهم - كنعان - ليشتروا منه القمح في سنوات الجدب العجاف ، حيث يدبر اللّه ليوسف أن يأخذ أخاه منهم بحجة أنه وجد صواع الملك في رحله .. ما إن يروا هذا التدبير - وهم لا يعلمون ما وراءه - حتى ينفجر حقدهم القديم على يوسف : «قالوا : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل! فأسرّها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم. قال : أنتم شر مكانا ، واللّه أعلم بما تصفون» ..
كذلك نجدهم - هم هم - بعد مواجهة أبيهم بالفجيعة الثانية في شيخوخته الحزينة ، فما إن يروا تجدد حزنه على يوسف حتى ينفجر حقدهم القديم ، دون مراعاة لشيخوخة أبيهم ونكبته الأليمة :
«وتولى عنهم وقال : يا أسفا على يوسف! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم. قالوا : تاللّه تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين!» ..
ومثلها عند ما أرسل يوسف قميصه إلى أبيه في النهاية - بعد ما كشف لهم عن شخصيته - فلما رأوا أباهم يستنشق عبير يوسف ، غاظهم هذا الاتصال الباطني الدال على عمق ما بينه وبين يوسف ، فلم يملكوا أنفسهم أن يبكتوه ويؤنبوه : «ولما فصلت العير قال أبوهم : إني لأجد ريح يوسف ، لولا أن تفندون! قالوا : تاللّه إنك لفي ضلالك القديم!» ..
وامرأة العزيز .. في صرع الشهوة التي تعمي عن كل شيء في اندفاعها الهائج الكاسح ، فلا تحفل حياء أنثويا ولا كبرياء ذاتيا ، كما لا تحفل مركزا اجتماعيا ولا فضيحة عائلية .. والتي تستخدم - مع ذلك - كل مكر الأنثى وكيدها ، سواء في تبرئة نفسها أو حماية من تهوى من جرائر التهمة التي ألصقتها به ، وتحديد عقوبة لا تودي بحياته! أو رد الكيد للنسوة من ثغرة الضعف الغريزي الشهوي الذي تعرفه فيهن من معرفتها لنفسها! أو التبجح بشهوانيتها أمام انكشاف ضعف عزيمتها وكبريائها أمام من تهوى ، ووقوف نسوتها معها على أرض واحدة ، حيث تبدو فيها الأنثى متجردة من كل تجمل المرأة وحيائها ، الأنثى التي لا تحس في إرواء هواتفها الأنثوية أمرا يعاب أصلا! ومع صدق التصوير والتعبير عن هذا النموذج البشري الخاص بكل واقعيته ، وعن هذه اللحظة الخاصة بكل طبيعيتها ، فإن الأداء القرآني -(1/572)
الذي ينبغي أن يكون هو النموذج الأعلى للأداء الفني الإسلامي - لم يتخل عن طابعه النظيف مرة واحدة - حتى وهو يصور لحظة التعري النفسي والجسدي الكامل بكل اندفاعها وحيوانيتها - لينشىء ذلك المستنقع الكريه الذي يتمرغ في وحله كتاب «القصة الواقعية» وكتاب «القصة الطبيعية» في هذه الجاهلية النكدة بحجة الكمال الفني في الأداء! «وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته : أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا. وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ، ولنعلمه من تأويل الأحاديث ، واللّه غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما ، وكذلك نجزي المحسنين. وراودته التي هو في بيتها عن نفسه ، وغلّقت الأبواب وقالت : هيت لك! قال : معاذ اللّه! إنه ربي أحسن مثواي ، إنه لا يفلح الظالمون. ولقد همّت به وهم بها ، لولا أن رأى برهان ربه. كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ، إنه من عبادنا المخلصين.
واستبقا الباب ، وقدّت قميصه من دبر ، وألفيا سيدها لدى الباب ، قالت : ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم؟! قال : هي راودتني عن نفسي ، وشهد شاهد من أهلها : إن كان قميصه قدّ من قبل فصدقت وهو من الكاذبين. وإن كان قميصه قدّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين. فلما رأى قميصه قدّ من دبر قال : إنه من كيدكن ، إن كيدكن عظيم! يوسف أعرض عن هذا ، واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين! .. وقال نسوة في المدينة : امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه! قد شغفها حبا! إنا لنراها في ضلال مبين! فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن ، وأعتدت لهن متكأ ، وآتت كل واحدة منهن سكينا ، وقالت : اخرج عليهن! فلما رأينه أكبرنه ، وقطّعن أيديهن ، وقلن : حاش للّه! ما هذا بشرا ، إن هذا إلا ملك كريم. قالت : فذلكن الذي لمتنني فيه! ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين. قال : رب ، السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه ، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين. فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن ، إنه هو السميع العليم» ..
وكذلك حين نلتقي بها مرة أخرى بعد ما دخل يوسف السجن بسبب كيدها وكيد النسوة وبقي هناك حتى رأى الملك رؤياه ، وتذكر الفتى الذي كان سجينا معه أن يوسف هو وحده الذي يعرف تأويل الرؤيا ، فطلب الملك أن يأتوه به ، فأبى حتى يحقق قضيته ، ويبرىء ساحته ، فاستدعاها الملك مع النسوة. وإذا بها ما تزال المرأة المحبة ، مع التغير الطبيعي الواقعي الذي يحدثه الزمن والعمر والأحداث والظروف ومع تسرب الإيمان الذي تعرفه من يوسف من خلال تلك المشاعر والمؤثرات جميعا : «وقال الملك : ائتوني به. فلما جاءه الرسول قال : ارجع إلى ربك فاسأله : ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ إن ربي بكيدهن عليم. قال : ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن : حاش للّه! ما علمنا عليه من سوء.(1/573)
قالت امرأة العزيز : الآن حصحص الحق ، أنا راودته عن نفسه ، وإنه لمن الصادقين. ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ، وأن اللّه لا يهدي كيد الخائنين. وما أبرىء نفسي ، إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ، إن ربي غفور رحيم» ..
ويوسف .. العبد الصالح - الإنسان - لم يزوّر الأداء القرآني في شخصيته الإنسانية لمحة واحدة وهو يواجه الفتنة بكل بشريته - مع نشأته في بيت النبوة وتربيته ودينه - وبشريته مع نشأته وتربيته ودينه تمثل بمجموعها واقعيته بكل جوانبها .. لقد ضعف حين همت به حتى هم بها ولكن الخيط الآخر شده وأنقذه من السقوط فعلا. ولقد شعر بضعفه إزاء كيد النسوة. ومنطق البيئة ، وجو القصور ، ونسوة القصور أيضا! ولكنه تمسك بالعروة الوثقى .. ليست هنالك لمحة واحدة مزوّرة في واقعية الشخصية وطبيعيتها وليس هنالك رائحة من مستنقعات الجاهلية ووحلها الفني! ذلك أن هذا هو الواقع السليم بكل جوانبه ..
والعزيز .. وشخصيته بطبيعتها الخاصة ، وبطبيعة سمت الإمارة ثم بضعف النخوة ، وغلبة الرياء الاجتماعي وستر الظواهر وإنقاذها! وفيه تتمثل كل خصائص بيئته : «فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ، قالَ : إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ ، إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ، وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ، إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ!» ..
والنسوة .. نسوة هذا المجتمع بكل ملامحه .. اللغط بسيرة امرأة العزيز وفتاها الذي راودته عن نفسه ، بعد ما شغفها حبا! والاستنكار الذي تبدو فيه غيرة النسوة من امرأة العزيز أكثر مما يبدو فيه استنكار الفعلة! ثم وهلتهن أمام طلعة يوسف. ثم إقرارهن الأنثوي العميق بموقف المرأة التي كن يلغطن بقصتها ويستنكرن موقفها وإحساس هذه المرأة بهذا الإقرار الذي يشجعها على الاعتراف الكامل ، وهي آمنة في ظل استسلامهن لأنوثتهن كما تصنعها بيئتهن الخاصة وتوجهها. ثم ميلهن كلهن على يوسف بالإغراء والإغواء ، رغم ما أنطقتهن به الوهلة الأولى من نظافته وطهارته البادية من قولهن : «حاشَ لِلَّهِ! ما هذا بَشَراً ، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ» ..
نأخذ ذلك من قولة يوسف عليه السلام :
«قال : رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه ، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين» ..
فلم تعد امرأة العزيز وحدها تراوده ولكن عادت نسوة تلك الطبقة بجملتها تطارده! والبيئة .. التي تتجلى سماتها من خلال ذلك كله. ثم من خلال ذلك التصرف في أمر يوسف ، على الرغم مما بدا من براءته. ذلك التصرف المقصود به مواراة الفضيحة ودفن معالمها ولا يهم أن يذهب بريء كيوسف ضحيتها : «ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين» ..(1/574)
فإذا تابعنا شخصية يوسف - عليه السلام - فإننا لا نفتقد في موقف واحد من مواقف القصة ملامح هذه الشخصية ، المنبثقة من مقوماتها الذاتية البيئية الواقعية ، المتمثلة في كونه «العبد الصالح - الإنسان - بكل بشريته ، مع نشأته في بيت النبوة وتربيته ودينه» ..
فهو في السجن وظلماته - مع الظلم وظلماته! - لا يغفل عن الدعوة لدينه ، في كياسة وتلطف - مع الحزم والفصل - وفي إدراك لطبيعة البيئة ومداخل النفوس فيها .. كما أنه لا يغفل عن حسن تمثيله بشخصه وأدبه وسلوكه لدينه هذا الذي يدعو إليه في سجنه :
«ودخل معه السجن فتيان. قال أحدهما : إني أراني أعصر خمرا ، وقال الآخر : إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه. نبئنا بتأويله ، إنا نراك من المحسنين. قال : لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ، ذلكما مما علمني ربي ، إني تركت ملة قوم لا يؤمنون باللّه وهم بالآخرة هم كافرون.
واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ما كان لنا أن نشرك باللّه من شي ء ، ذلك من فضل اللّه علينا وعلى الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. يا صاحبي السجن ، أأرباب متفرقون خير أم اللّه الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل اللّه بها من سلطان ، إن الحكم إلا اللّه ،أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، ذلك الدين القيم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يا صاحبي السجن ، أما أحدكما فيسقي ربه خمرا ، وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه ، قضي الأمر الذي فيه تستفتيان» ..
وهو - مع هذا كله - بشر ، فيه ضعف البشر. فهو يتطلب الخلاص من سجنه ، بمحاولة إيصال خبره إلى الملك ، لعله يكشف المؤامرة الظالمة التي جاءت به إلى السجن المظلم. وإن كان اللّه - سبحانه - شاء أن يعلمه أن يقطع الرجاء إلا منه وحده :
«وقال للذي ظن أنه ناج منهما : اذكرني عند ربك. فأنساه الشيطان ذكر ربه. فلبث في السجن بضع سنين ...».
ثم تطالعنا ملامح هذه الشخصية كذلك بعد بضع سنين ، وقد رأى الملك رؤياه ، فحار في تأويلها الكهنة والسدنة حتى تذكر صاحب السجن يوسف - بعد ما تمت التربية الربانية للعبد الصالح ، فاطمأن إلى قدر اللّه به واطمأن إلى مصيره - حتى إذا ما طلب الملك - بعد تأويله لرؤياه - أن يأتوه به ، أجاب في هدوء المطمئن الواثق وتمنع عن مغادرة سجنه إلا بعد تحقيق تهمته وتبرئة سمعته : «وقال الملك : إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات.(1/575)
يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي ، إن كنتم للرؤيا تعبرون. قالوا : أضغاث أحلام ، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد أمة : أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون. يوسف أيها الصديق ، أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ، لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون. قال : تزرعون سبع سنين دأبا ، فما حصدتم فذروه في سنبله ، إلا قليلا مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن. إلا قليلا مما تحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون .. وقال الملك : ائتوني به .. فلما جاءه الرسول قال : ارجع إلى ربك فاسأله : ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ إن ربي بكيدهن عليم. قال : ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن : حاش للّه! ما علمنا عليه من سوء. قالت امرأة العزيز : الآن حصحص الحق ، أنا راودته عن نفسه ، وإنه لمن الصادقين.
ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ، وأن اللّه لا يهدي كيد الخائنين. وما أبرىء نفسي ، إن النفس لأمارة بالسوء ، إلا ما رحم ربي ، إن ربي غفور رحيم .. وقال الملك : ائتوني به أستخلصه لنفسي ، فلما كلمه قال : إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال : اجعلني على خزائن الأرض ، إني حفيظ عليم» ..
ومنذ هذه اللحظة التي تجلت فيها شخصية يوسف مكتملة ناضجة واعية ، مطمئنة ساكنة واثقة ، نجد هذه الشخصية تتفرد على مسرح الأحداث ، وتتوارى تماما شخصيات الملك والعزيز والنسوة والبيئة. ويمهد السياق القرآني لهذا التحول في القصة وفي الواقع بقوله :
«وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ ، نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ. وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ» ..
ومنذ هذه اللحظة نجد هذه الشخصية تواجه ألوانا أخرى من الابتلاءات ، تختلف في طبيعتها عن الألوان الأولى وتواجهها بذلك الاكتمال الناضج الواعي ، وبتلك الطمأنينة الساكنة الواثقة.
نجد يوسف وهو يواجه - للمرة الأولى - إخوته بعد ما فعلوا به تلك الفعلة القديمة وهو في الموقف الأعلى بالقياس إليهم والأقوى .. ولكننا نجد سمة الضبط واضحة في انفعالاته وتصرفاته : «وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون. ولما جهزهم بجهازهم قال : ائتوني بأخ لكم من أبيكم ، ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين؟ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون.
قالوا : سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون. وقال لفتيانه : اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون» ..
ونجده وهو يدبر - بتدبير اللّه له - كيف يأخذ أخاه. فنلمح الشخصية الناضجة الواعية الحكيمة المطمئنة ، الضابطة الصابرة : «وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ : قالَ : إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا(1/576)
يَعْمَلُونَ. فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ : أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ. قالُوا - وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ - ماذا تَفْقِدُونَ؟ قالُوا : نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ، وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ، وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ. قالُوا : تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ ، وَما كُنَّا سارِقِينَ. قالُوا : فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ؟ قالُوا : جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ، كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ. فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ، ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ .. كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ، ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ، نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. قالُوا : إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ! فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ ، قالَ : أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ. قالُوا : يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ، إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ ، إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. قالَ : مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ ، إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ» ..
ثم نلتقي به وقد استوفت المحنة بيعقوب أجلها ، وقدر اللّه أن تنقضي الابتلاءات التي نزلت به وببيته ، وحن يوسف إلى أبويه وأهله ، ورق لإخوته والضر باد بهم ، فكشف لهم عن نفسه ، في عتاب رقيق ، وفي عفو كريم ، يجيء في أوانه ، وكل الملابسات توحي به ، وتتوقعه من هذه الشخصية بسماتها تلك : «فلما دخلوا عليه قالوا : يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر ، وجئنا ببضاعة مزجاة. فأوف لنا الكيل وتصدق علينا ، إن اللّه يجزي المتصدقين. قال : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون؟ قالوا : أإنك لأنت يوسف؟ قال : أنا يوسف ، وهذا أخي ، قد من اللّه علينا ، إنه من يتق ويصبر فإن اللّه لا يضيع أجر المحسنين.
قالوا : تاللّه لقد آثرك اللّه علينا ، وإن كنا لخاطئين. قال : لا تثريب عليكم اليوم ، يغفر اللّه لكم ، وهو أرحم الراحمين. اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ، وأتوني بأهلكم أجمعين» ..
وفي النهاية يجيء ذلك الموقف الجليل الرائع .. موقف اللقاء الجامع ويوسف في أوج سلطانه وأوج تأويل رؤياه وتحقق أحلامه .. وإذا به ينسلخ من هذا كله وينتحي جانبا ينفرد بربه ، ويناجيه خالصا له ، وذلك كله مطروح وراءه : «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» ..
إنها شخصية موحدة متكاملة ، بكل واقعيتها الممثلة لمقوّماتها الواقعية في نشأتها وبيئتها.
ويعقوب .. الوالد المحب الملهوف ، والنبي المطمئن الموصول ، وهو يواجه بالاستبشار والخوف معا تلك الرؤيا الواعدة التي رآها يوسف وهو يرى فيها بشائر مستقبل مرموق ، بينما هو يتوجس خيفة من الشيطان وفعله في نفوس بنيه. فتتجلى شخصيته بواقعيتها الكاملة في كل جوانبها :«إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ : يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ. قالَ : يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ(1/577)
عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً. إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ ، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».
ثم نجد هذه الشخصية كذلك بكل واقعيتها البشرية النبوية ، وبنوه يراودونه عن يوسف ثم وهم يفاجئونه بالفجيعة :
«قالوا : يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون. أرسله معنا غدا يرتع ويلعب ، وإنا له لحافظون.
قال : إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون. قالوا : لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون. فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب ، وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون. وجاءوا أباهم عشاء يبكون ، قالوا : يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب ، وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين. وجاءوا على قميصه بدم كذب ، قال : بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل ، واللّه المستعان على ما تصفون» ..
ثم نلتقي بهذه الشخصية - بكل واقعيتها تلك - وبنوه يراودونه مرة أخرى على السلوة الباقية له .. أخي يوسف .. وقد طلبه منهم عزيز مصر - يوسف - الذي لا يعرفونه! في مقابل أنيعطيهم كيلا يقتاتون به في السنوات العجاف! «فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا : يا أبانا منع منا الكيل ، فأرسل معنا أخانا نكتل وإنّا له لحافظون : قال : هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل؟ فاللّه خير حافظا وهو أرحم الراحمين. ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم ، قالوا : يا أبانا ما نبغي ، هذه بضاعتنا ردت إلينا ، ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ، ونزداد كيل بعير ، ذلك كيل يسير. قال : لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من اللّه : لتأتنني به إلا أن يحاط بكم. فلما آتوه موثقهم قال : اللّه على ما نقول وكيل .. وقال : يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ، وما أغني عنكم من اللّه من شي ء ، إن الحكم إلا للّه ، عليه توكلت ، وعليه فليتوكل المتوكلون. ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من اللّه من شي ء ، إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها ، وإنه لذو علم لما علمناه ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون» ..
ثم نلتقي به في فجيعته الثانية .. والدا ملهوفا ونبيا موصولا .. ذلك بعد أن دبر اللّه ليوسف كيف يأخذ أخاه. فيتخلف أحد أبناء يعقوب - صاحب الشخصية الخاصة فيهم ، متوافيا مع سماته التي صاحبت مواقفه كلها في القصة ، مشفقا أن يقابل أباه بعد الموثق الذي آتاه إياه. إلا أن يأذن له أبوه أو يحكم له اللّه - : «فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ، قالَ كَبِيرُهُمْ : أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ(1/578)
اللَّهِ ، وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ؟ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي ، أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا : يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ! وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا ، وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ. وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ. قالَ : بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ : يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ! وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ. كَظِيمٌ. قالُوا : تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ! قالَ : إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ ، وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ. إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» ..
وفي آخر مواقف المحنة الطويلة للشيخ المبتلى نجد ذات الملامح وذات الواقعية. وهو يشم ريح يوسف في قميصه ، ويواجه غيظ بنيه وتبكيتهم فلا يشك في صدق ظنه بربه :
«وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ : إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ، لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ. قالُوا : تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ. فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً. قالَ : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ : إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟ قالُوا : يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ. قالَ : سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» إنها الشخصية الموحدة الخصائص والملامح ، الواقعية المشاعر والتصرفات ، الممثلة لكل واقعية ذاتها وظروفها وبيئتها بلا تزوير ولا نقص ولا تحريف! والواقعية الصادقة الأمينة النظيفة السليمة في الوقت نفسه ، لا تقف عند واقعية الشخصيات الإنسانية التي تحفل بها القصة في هذا المجال الواسع ، على هذا المستوي الرائع. ولكنها تتجلى كذلك في واقعية الأحداث والسرد والعرض وصدقها وطبيعيتها في مكانها وزمانها ، وفي بيئتها وملابساتها .. فكل حركة وكل خالجة وكل كلمة تجيء في أوانها وتجيء في الصورة المتوقعة لها وتجيء في مكانها من مسرح العرض متراوحة بين منطقة الظل ومنطقة الضوء بحسب أهميتها ودورها وطبيعة جريان الحياة بها .. الأمر الملحوظ في الشخصيات أيضا كما قررنا من قبل هذا ..
حتى لحظات الجنس في القصة ومواقفه أخذت مساحتها كاملة - في حدود المنهج النظيف اللائق «بالإنسان» في غير تزوير ولا نقص ولا تحريف للواقعية البشرية في شمولها وصدقها وتكاملها - ولكن استيفاء تلك اللحظات لمساحتها المتناسقة مع بقية الأحداث والمواقف لم يكن معناه الوقوف أمامها كما لو كانت هي كل واقعية الكائن البشري وكما لو كانت هي محور حياته كلها ، وهي كل أهداف حياته التي تستغرقها! كما تحاول الجاهلية أن تفهمنا أن هذا وحده هو الفن الصادق! إن الجاهلية إنما تمسخ الكائن البشري باسم الصدق الفني! وهي تقف أمام لحظة الجنس كما لو كانت هي كل وجهة الحياة البشرية بجملتها فتنشىء منها مستنقعا واسعا عميقا ، مزينا في الوقت ذاته بالأزهار الشيطانية! وهي لا(1/579)
تفعل هذا لأن هذا هو الواقع ، ولا لأنها هي مخلصة في تصوير هذا الواقع! إنما تفعله لأن «بروتوكولات صهيون» تريد هذا! تريد تجريد «الإنسان» إلا من حيوانيته حتى لا يوصم اليهود وحدهم بأنهم هم الذين يتجردون من كل القيم غير المادية! وتريد أن تغرق البشرية كلها في وحل المستنقع كي تنحصر فيه كل اهتماماتها ، وتستغرق فيه كل طاقاتها فهذه هي أضمن سبيل لتدمير البشرية حتى تجثو على ركبتيها خاضعة لملك صهيون المرتقب الملعون! ثم تتخذ من الفن وسيلة إلى هذا الشر كله ، إلى جانب ما تتخذه من نشر المذاهب «العلمية!» المؤدية إلى ذات الهدف. تارة باسم «الداروينية» وتارة باسم «الفرويدية» وتارة باسم «الماركسية» أو «الاشتراكية العلمية» .. وكلها سواء في تحقيق المخططات الصهيونية الرهيبة! والقصة بعد ذلك تتجاوز الشخصيات والأحداث لترسم ظلال الفترة التاريخية التي تجري فيها أحداث القصة ، وتتحرك فيها شخصياتها الكثيرة ، وتسجل سماتها العامة ، فترسم مسرح الأحداث بأبعاده العالمية في تلك الفترة التاريخية ..
ونكتفي ببعض اللمحات والسهام التي ترسم تلك الأبعاد :
إن مصر في هذه الفترة لم يكن يحكمها الفراعنة من الأسر المصرية إنما كان يحكمها «الرعاة» الذين عاش إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب قريبا منهم ، فعرفوا شيئا عن دين اللّه منهم. نأخذ هذا من ذكر القرآن للملك بلقب «الملك» في حين يسمى الملك الذي جاء على عهد موسى - عليه السلام - من بعد بلقبه المعروف. «فرعون» .. ومن هذا يتحدد زمن وجود يوسف - عليه السلام - في مصر فهو كان ما بين عهد الأسرة الثالثة عشرة والأسرة السابعة عشرة وهي أسر «الرعاة» الذين سماهم المصريون «الهكسوس»! كراهية لهم إذ يقال : إن معنى الكلمة في اللغة المصرية القديمة : «الخنازير» أو «رعاة الخنازير»! وهي فترة تستغرق نحو قرن ونصف قرن.
إن رسالة يوسف عليه السلام كانت في هذه الفترة. وهو كان قد بدأ الدعوة إلى الإسلام .. ديانة التوحيد الخالص .. وهو في السجن وقرر أنها دين آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب وقررها في صورة واضحة كاملة دقيقة شاملة. فيما حكاه القرآن الكريم من قوله :
«إني تركت ملة قوم لا يؤمنون باللّه ، وهم بالآخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ما كان لنا أن نشرك باللّه من شي ء ، ذلك من فضل اللّه علينا وعلى الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم اللّه الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل اللّه بها من سلطان ، إن الحكم إلا للّه ، أمر ألا تعبدوا إلا إياه. ذلك الدين القيم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون» ..(1/580)
وهي صورة للإسلام واضحة كاملة ودقيقة شاملة - كما جاء به رسل اللّه جميعا - من ناحية أصول العقيدة.
تحتوي ، الإيمان باللّه ، والإيمان بالآخرة ، وتوحيد اللّه وعدم الشرك به أصلا ، ومعرفة اللّه سبحانه بصفاته ..
الواحد ، القهار .. والحكم بعدم وجود حقيقة ولا سلطان لغيره أصلا ومن ثم نفي الأرباب التي تتحكم في رقاب العباد ، وإعلان السلطان والحكم للّه وحده ، ما دام أن اللّه أمر ألا يعبد الناس غيره. ومزاولة السلطان والحكم والربوبية هي تعبيد للناس مخالف للأمر بعبادة اللّه وحده. وتحديد معنى «العبادة» بأنها الخضوع للسلطان والحكم والإذعان للربوبية ، وتعريف الدين القيم بأنه إفراد اللّه سبحانه بالعبادة - أي إفراده بالحكم - فهما مترادفان أو متلازمان : «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ، أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» ..
وهذه هي أوضح صورة للإسلام وأكملها وأدقها وأشملها ..
وواضح أن يوسف - عليه السلام - عند ما سيطر على مقاليد الأمور في مصر ، استمر في دعوته للإسلام على هذا النحو الواضح الكامل الدقيق الشامل .. ولا بد أن الإسلام انتشر في مصر على يديه - وهو يقبض على أقوات الناس وأزوادهم لا على مجرد مقاليد الحكم بينهم - وانتشر كذلك في البقاع المجاورة ممن كانت وفودها تجيء لتقتات مما تم ادخاره بحكمته وتدبيره - وقد رأينا إخوة يوسف يجيئون من أرض كنعان المجاورة في الأردن ضمن غيرهم من القوافل ليمتاروا من مصر ويتزودوا ، مما يصور حالة الجدب التي حلت بالمنطقة كلها في هذه الفترة.
والقصة تشير إلى آثار باهتة للعقيدة الإسلامية التي عرف الرعاة شيئا عنها في أول القصة ، كما تشير إلى انتشار هذه العقيدة ووضوحها بعد دعوة يوسف بها.
والإشارة الأولى وردت في حكاية قول النسوة حين طلع عليهن يوسف : «فلما رأينه أكبرنه ، وقطّعن أيديهن وقلن : حاش للّه! ما هذا بشرا. إن هذا إلا ملك كريم» ..
ووردت في قول العزيز لامرأته : «يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين» ..
أما الإشارة الثانية الواضحة فقد جاءت على لسان امرأة العزيز التي يتجلى أنها آمنت بعقيدة يوسف وأسلمت في النهاية ، فيما حكاه عنها السياق القرآني :(1/581)
«قالت امرأة العزيز : الآن حصحص الحق ، أنا راودته عن نفسه ، وإنه لمن الصادقين ، ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ، وأن اللّه لا يهدي كيد الخائنين. وما أبرىء نفسي. إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ، إن ربي غفور رحيم» ..
وإذا اتضح أن ديانة التوحيد - على هذا المستوي - كانت قد عرفت قبل تولي يوسف مقاليد الحكم في مصر فلا بد أن تكون قد انتشرت بعد ذلك واستقرت على نطاق واسع في أثناء توليه الحكم ، ثم من بعد ذلك في عهد أسر الرعاة. فلما استرد الفراعنة زمام الأمور في الأسرة الثامنة عشرة أخذوا يقاومون ديانة التوحيد ممثلة في ذرية يعقوب التي تكاثرت في مصر ، لإعادة الوثنية التي تقوم عليها الفرعونية! ...
وهذا يكشف لنا سببا أصيلا من أسباب اضطهاد الفراعنة بعد ذلك لبني إسرائيل - أي يعقوب - إلى جانب السبب السياسي ، وهو أنهم جاءوا واستوطنوا وحكموا واستقروا في عهد ملوك الرعاة الوافدين.
فلما طرد المصريون ملوك الرعاة طاردوا حلفاءهم من بني إسرائيل أيضا .. وإن كان اختلاف العقيدتين ينبغي أن يكون هو التفسير الأقوى لذلك الاضطهاد الفظيع. ذلك أن انتشار عقيدة التوحيد الصحيحة يحطم القاعدة التي يقوم عليها ملك الفراعين! فهي العدو الأصيل للطواغيت وحكم الطواغيت وربوبية الطواغيت! ولقد وردت إشارة إلى هذا الذي نقرره في حكاية القرآن الكريم لقول مؤمن آل فرعون في سورة غافر في دفاعه الإسلامي المجيد عن موسى عليه السلام ، في وجه فرعون وملئه عند ما همّ فرعون بقتل موسى ، ليقتل معه الخطر الذي يتهدد ملكه كله من عقيدة التوحيد التي جاء بها موسى :
«وقال فرعون : ذروني أقتل موسى وليدع ربه ، إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد.
وقال موسى : إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب. وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه : أتقتلون رجلا أن يقول : ربي اللّه؟ وقد جاءكم بالبينات من ربكم ، وإن يك كاذبا فعليه كذبه ، وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم ، إن اللّه لا يهدي من هو مسرف كذاب. يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض. فمن ينصرنا من بأس اللّه إن جاءنا؟ قال فرعون : ما أريكم إلا ما أرى. وما أهديكم إلا سبيل الرشاد. وقال الذي آمن : يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب. مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ، وما اللّه يريد ظلما للعباد ، ويا قوم إني أخاف علكيم يوم التناد. يوم تولون مدبرين ما لكم من اللّه من عاصم ، ومن يضلل اللّه فما له من هاد .. ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به ، حتى إذا هلك قلتم : لن يبعث اللّه من بعده رسولا ، كذلك يضل اللّه من هو مسرف مرتاب.(1/582)
الذين يجادلون في آيات اللّه بغير سلطان أتاهم. كبر مقتا عند اللّه وعند الذين آمنوا! كذلك يطبع اللّه على كل قلب متكبر جبار ... إلخ» ..
فقد كان الصراع الحقيقي بين عقيدة التوحيد التي تفرد اللّه سبحانه بالربوبية ، فتفرده بالعبادة - أي بالدينونة والخضوع والاتباع لحاكميته وحده - وبين الفرعونية التي تقوم على أساس العقيدة الوثنية ، ولا تقوم إلا بها.
ولعل التوحيد الناقص المشوه الذي عرف به «أخناتون» لم يكن إلا أثرا من الآثار المضطربة التي بقيت من التوحيد الذي نشره يوسف عليه السلام في مصر كما أسلفنا وبخاصة إذا صح ما يقال في التاريخ من أن أم أخناتون كانت آسيوية ولم تكن فرعونية! وبعد هذا الاستطراد نعود إلى اللمحات الدالة على طبيعة الفترة التاريخية التي وقعت فيها أحداث القصة وتحركت فيها أشخاصها. فنجدها تتجاوز حدود الرقعة المصرية ، وتسجل طابع العصر كله. فواضح تماما انطباع هذه الفترة الزمنية بالرؤى والتنبؤات التي لا تقتصر على أرض واحدة ، ولا على قوم بأعيانهم .. ونحن نرى هذه الظاهرة واضحة في رؤيا يوسف وتعبيرها وتأويلها في النهاية. وفي رؤيا الفتيين صاحبي السجن.
وفي رؤيا الملك في النهاية .. وكلها تتلقى بالاهتمام سواء ممن يرونها أو ممن يسمعونها مما يشي بطابع العصر كله! وعلى وجه الإجمال فإن القصة غنية بالعناصر الفنية. غنية كذلك بالعنصر الإنساني ، حافلة بالانفعال والحركة. وطريقة الأداء تبرز هذه العناصر إبرازا قويا. فضلا على خصائص التعبير القرآنية الموحية المؤثرة ، ذات الإيقاع الموسيقي المناسب لكل جو من الأجواء التي يصورها السياق.
في القصة يتجلى عنصر الحب الأبوي في صور ودرجات منوعة واضحة الخطوط والظلال : في حب يعقوب ليوسف وأخيه وحبه لبقية أبنائه. وفي استجاباته الشعورية للأحداث حول يوسف من أول القصة إلى آخرها.
وعنصر الغيرة والتحاسد بين الإخوة من أمهات مختلفات ، بحسب ما يرون من تنوع صور الحب الأبوي.
وعنصر التفاوت في الاستجابات المختلفة للغيرة والحسد في نفوس الإخوة فبعضهم يقودهم هذا الشعور إلى إضمار جريمة القتل ، وبعضهم يشير فقط بطرح يوسف في الجب تلتقطه بعض السيارة نفورا من الجريمة ..
وعنصر المكر والخداع في صور شتى. من مكر إخوة يوسف به ، إلى مكر امرأة العزيز بيوسف وبزوجها وبالنسوة.
وعنصر الشهوة ونزواتها والاستجابة لها بالاندفاع أو بالإحجام. وبالإعجاب والتمني ، والاعتصام والتأبي.
وعنصر الندم في بعض ألوانه ، والعفو في أوانه. والفرح بتجمع المتفارقين ..(1/583)
وذلك إلى بعض صور المجتمع الجاهلي في طبقة العلية من الملأ : في البيت والسجن والسوق والديوان - في مصر يومذاك. والمجتمع العبراني ، وما يسود العصر من الرؤى والتنبؤات.
وتبدأ القصة بالرؤيا يقصها يوسف على أبيه ، فينبئه أبوه بأن سيكون له شأن عظيم ، وينصحه بألا يقصها على إخوته كي لا يثير حسدهم فيغريهم الشيطان به فيكيدون له .. ثم تسير القصة بعد ذلك ، وكأنما هي تأويل للرؤيا ولما توقعه يعقوب من ورائها حتى إذا اكتمل تأويل الرؤيا في النهاية أنهى السياق القصة ، ولم يسر فيها كما سار كتّاب «العهد القديم» بعد هذا الختام الفني الدقيق ، الوافي بالغرض الديني كل الوفاء.
وما يسمى بالعقدة الفنية في القصة واضح في قصة يوسف. فهي تبدأ بالرؤيا كما سبق ، ويظل تأويلها مجهولا ، يتكشف قليلا قليلا ، حتى تجيء الخاتمة فتحل العقدة حلا طبيعيا لا تعمّل فيه ولا اصطناع! والقصة مقسمة إلى حلقات. كل حلقة تحتوي جملة مشاهد. والسياق يترك فجوات بين المشهد والمشهد يملؤها تخيل القارئ وتصوره ، ويكمل ما حذف من حركات وأقوال ، مع ما في هذا من تشويق ومتاع ..
وحسبنا هذا القدر من التحليل الفني لقصة يوسف ، وتمثيلها للمنهج القرآني الإسلامي في الأداء. وفي هذا القدر ما يكشف عن مدى الإمكانيات التي يعرضها هذا المنهج للمحاولات البشرية في الأدب الإسلامي ، لتمكينه من الأداء الفني الكامل والواقعية الصادقة السليمة ، دون أن يسف أو يحتاج إلى التخلي عن النظافة اللائقة بفن يقدم ل «الإنسان» !
وتبقى وراء ذلك كله عبرة القصة وقيمتها في مجال الحركة الإسلامية وإيحاءاتها المتوافية مع حاجات الحركة في بعض مراحلها. ومع حاجاتها الثابتة التي لا تتعلق بمرحلة خاصة منها. إلى جانب الحقائق الكبرى التي تتقرر من خلال سياق القصة ، ثم من خلال سياق السورة كلها بعد ذلك. وبخاصة تلك التعقيبات الأخيرة في السورة ..
ونكتفي في هذا التقديم للسورة بلمحات سريعة من هذا كله :
لقد أشرنا في مطالع هذا التقديم إلى مناسبة قصة يوسف بجملتها للفترة الحرجة التي كانت تمر بها الحركة الإسلامية في مكة عند نزول السورة ، وللشدة التي كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - والقلة المؤمنة معه يتعرضون لها. وذلك بما تحمل القصة من عرض لابتلاءات أخ كريم للنبي الكريم ثم بما تحمله بعد ذلك من استفزاز من الأرض ثم تمكين.(1/584)
وهذا الذي سبق أن قررناه يصور لونا من إيحاءات القصة المتوافية مع حاجات الحركة الإسلامية في تلك الفترة ويقرب معنى «الطبيعة الحركية» لهذا القرآن وهو يزود الدعوة ، ويدفع الحركة ، ويوجه الجماعة المسلمة توجيها واقعيا إيجابيا محدد الهدف مرسوم الطريق.
كذلك أشرنا في ثنايا تحليل القصة إلى الصورة الواضحة الكاملة الدقيقة الشاملة للإسلام ، كما عرضها يوسف عليه السلام. وهي صورة تستحق الوقوف أمامها طويلا ..
إنها تقرر ابتداء وحدة العقيدة الإسلامية التي جاء بها الرسل جميعا واستيفاء مقوماتها الأساسية في كل رسالة وقيامها على التوحيد الكامل للّه سبحانه ، وعلى تقرير ربوبيته للبشر وحده ، ودينونة البشر له وحده ..
كما تقرر تضمن تلك العقيدة الواحدة للإيمان بالدار الآخرة بصورة واضحة. وهذا التقرير يقطع الطريق على مزاعم ما يسمونه «علم الأديان المقارن» من أن البشرية لم تعرف التوحيد ولا الآخرة إلا أخيرا جدا ، بعد أن اجتازت عقائد التعدد والتثنية بأشكالها وصورها المختلفة وأنها ترقت في معرفة العقيدة كما ترقت في معرفة العلوم والصناعات .. هذه المزاعم التي تتجه إلى تقرير أن الأديان من صنع البشر شأنها شأن العلوم والصناعات .
كذلك هي تقرر طبيعة ديانة التوحيد التي جاء بها الرسل جميعا .. إنه ليس توحيد الألوهية فحسب. ولكنه كذلك توحيد الربوبية .. وتقرير أن الحكم للّه وحده في أمر الناس كله وأن هذا التقرير ناشىء من أمر اللّه سبحانه بألا يعبد إلا إياه. والتعبير القرآني الدقيق في هذه القضية يحدد مدلول «العبادة» تحديدا دقيقا.
فهي الحكم من جانب اللّه والدينونة من جانب البشر .. وهذا وحده هو «الدين القيم» فلا دين إذن للّه ما لم تكن دينونة الناس للّه وحده ، وما لم يكن الحكم للّه وحده. ولا عبادة للّه إذن إذا دان الناس لغير اللّه في شأن واحد من شؤون الحياة. فتوحيد الألوهية يقتضي توحيد الربوبية. والربوبية تتمثل في أن يكون الحكم للّه .. أو أن تكون العبادة للّه .. فهما مترادفان أو متلازمان. والعبادة التي يعتبر بها الناس مسلمين أو غير مسلمين هي الدينونة والخضوع والاتباع لحكم اللّه دون سواه ..
وهذا التقرير القرآني بصورته هذه الجازمة ينهي كل جدل في اعتبار الناس في أي زمان وفي أي مكان مسلمين أو غير مسلمين ، في الدين القيم أم في غير هذا الدين .. فهذا الاعتبار يعد من المعلوم من الدين بالضرورة .. من دان لغير اللّه وحكّم في أي أمر من أمور حياته غير اللّه ، فليس من المسلمين وليس في هذا الدين ، ومن أفرد اللّه سبحانه بالحاكمية ورفض الدينونة لغيره من خلائقه فهو من المسلمين وفي هذا الدين ..(1/585)
وكل ما وراء ذلك تمحّل لا يحاوله إلا المهزومون أمام الواقع الثقيل في بيئة من البيئات وفي قرن من القرون! ودين اللّه واضح. وهذا النص وحده كاف في جعل هذا الحكم من المعلوم من الدين بالضرورة. من جادل فيه فقد جادل في هذا الدين! ومن الإيحاءات الواردة في ثنايا القصة صورة الإيمان المتجرد الخالص الموصول كما تتجلى في قلبي عبدين صالحين من عباد اللّه المختارين : يعقوب ويوسف : فأما يوسف فقد أشرنا من قبل إلى موقفه الأخير متجردا من كل شي ء ، نافضا عنه كل شيء ، متجها إلى ربه ، مبتهلا إليه في انكسار وفي خشوع يناجيه : «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» ..
ولكن هذا الموقف الأخير لم يكن هو كل شيء في هذا الجانب فهو على مدار القصة يقف هذا الموقف ، موصولا بربه ، يحسه - سبحانه - قريبا منه مستجيبا له :
في موقف الإغراء والفتنة والغواية يهتف :
«معاذ اللّه! إنه ربي أحسن مثواي. إنه لا يفلح الظالمون» ..
وفي الموقف الآخر وهو يخشى على نفسه الضعف والميل يهتف كذلك : «رب ، السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين» ..
وفي موقف تعريف نفسه لإخوته ، يبين فضل اللّه عليه ويشكر نعمته ويذكرها :
«قالوا : أإنك لأنت يوسف؟ قال : أنا يوسف وهذا أخي قد منّ اللّه علينا ، إنه من يتق ويصبر فإن اللّه لا يضيع أجر المحسنين» ..
وكلها مواقف تحمل إيحاءات يتجاوز مداها حاجة الحركة الإسلامية في مكة ، إلى حاجة الحركة الإسلامية في كل فترة.
وأما يعقوب ففي قلبه تتجلى حقيقة ربه باهرة عميقة لطيفة مأنوسة في كل موقف وفي كل مناسبة وكلما اشتد البلاء شفت تلك الحقيقة في قلبه ورفت بمقدار ما تعمقت وبرزت ..
فمنذ البدء ويوسف يقص عليه رؤياه يذكر ربه ويشكر نعمته : «وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ ، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
وفي مواجهة الصدمة الأولى في يوسف يتجه إلى ربه مستعينا به :
«قال : بل سولت لكم أنفسكم أمرا ، فصبر جميل ، واللّه المستعان على ما تصفون» ..(1/586)
وفي مواجهته لعاطفته الأبوية الخائفة على أبنائه ، وهو يوصيهم ألا يدخلوا من باب واحد وأن يدخلوا مصر من أبواب متفرقة ، لا ينسى أن هذا التدبير لا يغني عنهم من اللّه شيئا ، وأن الحكم النافذ هو حكم اللّه وحده وإنما هي حاجة في النفس لا تغني من اللّه وقدره :
«وَقالَ : يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ، وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» ..
وفي مواجهة الصدمة الثانية في كبرته وهرمه وضعفه وحزنه ، لم يتسرب اليأس من رحمة ربه لحظة واحدة إلى قلبه : «قالَ : بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ».
ثم يبلغ تجلي الحقيقة في قلب يعقوب درجة البهاء والصفاء ، وبنوه يؤنبونه على حزنه على يوسف وبكائه له حتى تبيض عيناه من الحزن فيواجههم بأنه يجد حقيقة ربه في قلبه كما لا يجدونها ، ويعلم من شأن ربه ما لا يعلمون فمن هنا اتجاهه إليه وحده وشكواه له وبثه ورجاؤه في رحمته وروحه : «وتولى عنهم وقال : يا أسفا على يوسف! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم. قالوا : تاللّه تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين! قال : إنما أشكو بثي وحزني إلى اللّه ، وأعلم من اللّه ما لا تعلمون .. يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ، ولا تيأسوا من روح اللّه ، إنه لا ييأس من روح اللّه إلا القوم الكافرون» ..
ولقد ذكرهم بما يعلمه من شأن ربه وما يجده من حقيقته في قلبه ، وهم يجادلونه في ريح يوسف ، وقد صدّق اللّه فيه ظنه :
«ولما فصلت العير قال أبوهم : إني لأجد ريح يوسف ، لولا أن تفندون. قالوا : تاللّه إنك لفي ضلالك القديم. فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا ، قال : ألم أقل لكم : إني أعلم من اللّه ما لا تعلمون؟».
إنها الصورة الباهرة لتجلي حقيقة الألوهية في قلب من قلوب الصفوة المختارة. وهي تحمل الإيحاء المناسب لفترة الشدة في حياة الجماعة المسلمة في مكة كما أنها تحمل الإيحاء الدائم بالحقيقة الإيمانية الكبيرة ، لكل قلب يعمل في حقل الدعوة والحركة بالإسلام على مدار الزمان أيضا.
وأخيرا نجيء إلى التعقيبات المتنوعة التي جاءت بعد القصة الطويلة إلى نهاية السورة.
إن التعقيب الأول والمباشر يواجه تكذيب قريش بالوحي إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بتقرير مأخوذ من هذا القصص الذي لم يكن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حاضرا وقائعه :«ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ، وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون» ..(1/587)
وهذا التعقيب يترابط مع التقديم للقصة في الاتجاه ذاته : «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ ، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» ..والتقديم والتعقيب على هذا النحو يؤلفان مؤثرا موحيا من المؤثرات الكثيرة في سياق السورة ، لتقرير الحقيقة التي يعرضانها ، وتوكيدها في مواجهة الاعتراض والتكذيب.
ومن ثم يعقب ذلك التسرية عن قلب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وتهوين أمر المكذبين على نفسه.
وبيان مدى عنادهم وإصرارهم وعماهم عن الآيات المبثوثة في كتاب الكون ، وهي حسب الفطرة السليمة في التنبه إلى دلائل الإيمان ، والاستماع إلى الدعوة والبرهان. ثم تهديدهم بعذاب اللّه الذي قد يفاجئهم وهم غافلون : «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ. وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ. وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ. أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ؟» ..
وهي إيقاعات مؤثرة بقدر ما تحمل من حقائق عميقة عن طبيعة الناس حين لا يدينون بدين اللّه الصحيح.
وبخاصة في قوله تعالى : «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» ..
فهذا هو التصوير العميق لكثير من النفوس التي يختلط فيها الإيمان بالشرك ، لأنها لم تحسم في قضية التوحيد.
وهنا يجيء الإيقاع الكبير العميق المؤثر الموحي ، بتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى تحديد طريقه وتميزها وإفرادها عن كل طريق ، والمفاصلة على أساسها الواضح الفريد :
«قُلْ : هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ، وَسُبْحانَ اللَّهِ ، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..
ثم تختم السورة بإيقاع آخر يحمل عبرة القصص القرآني كله ، في هذه السورة وفي سواها. يحملها للنبي - صلى الله عليه وسلم - والقلة المؤمنة معه ، ومعها التثبيت والتسرية والبشرى ويحملها للمشركين المعاندين ، ومعها التذكير والعظة والنذير. كما أن فيها للجميع تقريرا لصدق الوحي وصدق الرسول وتقريرا لحقيقة الوحي وحقيقة الرسالة ، مع تخليص هذه الحقيقة من الأوهام والأساطير :
«وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى . أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا ، فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ. لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..(1/588)
إنه الإيقاع الأخير. والإيقاع الكبير ..
وبعد فلعل من المناسب في تقديم السورة التي حوت قصة يوسف ، نموذجا كاملا للأداء الفني الصادق الجميل ، أن نلم بشيء من لطائف التناسق في الأداء القرآني في السورة بكاملها وأن نقف عند نماذج من هذه اللطائف تمثل سائرها :
في هذه السورة - كما في السور القرآنية الأخرى - تتكرر تعبيرات معينة ، تؤلف جزءا من جو السورة وشخصيتها الخاصة. وهنا يرد ذكر العلم كثيرا ، وما يقابله من الجهل وقلة العلم في مواضع شتى : «وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ ، كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ ، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»..
«وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ، وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ. وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ».
«وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» ..
«فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
«قالَ : لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ ، إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما. ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي» ..
«إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ..
«قالُوا : أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ» ..
«يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ ، وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ ، لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ» ..
«وَقالَ الْمَلِكُ : ائْتُونِي بِهِ ، فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ : ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ : ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ؟ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ» ..
«ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» ..
«قالَ : اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» ..
«... وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ..
«قالُوا : تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ» ..
«قالَ : أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ» ..
«فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ : أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ ..» ..
«وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ» ..
«عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» ..(1/589)
الَ : إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ»..
«قالَ : هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ؟» ..
«قالَ : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ : إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟» ..
«رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ...».
وهي ظاهرة بارزة تلفت النظر إلى بعض أسرار التناسق ولطائفه في هذا الكتاب الكريم.
وفي السورة تعريف بخصائص الألوهية ، وفي مقدمتها «الحكم» وهو يرد مرة على لسان يوسف - عليه السلام - بمعنى الحاكمية في العباد من ناحية دينونتهم وطاعتهم الإرادية ، ويأتي مرة على لسان يعقوب - عليه السلام - بمعنى الحاكمية في العباد من ناحية دينونتهم للّه في صورتها القهرية القدرية ، فيتكامل المعنيان في تقرير مدلول الحكم وحقيقة الألوهية على هذا النحو الذي لا يجيء عفوا ولا مصادفة أبدا : يقول يوسف في معرض تفنيد ربوبية الحكام في مصر ومخالفتها لوحدانية الألوهية : «يا صاحِبَيِ السِّجْنِ ، أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ، أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ»
..
ويقول يعقوب في معرض تقرير أن قدر اللّه نافذ وأن قضاءه ماض :
«يا بَنِيَّ ، لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ، وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» ..
وهذا التكامل في مدلول الحكم يشير إلى أن الدين لا يستقيم إلا أن تكون الدينونة الإرادية للّه في الحكم ، كالدينونة القهرية له سبحانه في القدر. فكلاهما من العقيدة وليست الدينونة في القدر القاهر وحدها هي الداخلة في نطاق الاعتقاد ، بل الدينونة الإرادية في الشريعة هي كذلك في نطاق الاعتقاد.
ومن لطائف التناسق أن يذكر يوسف الحصيف الكيس اللطيف المدخل ، صفة اللّه المناسبة .. «اللطيف».
في الموقف الذي يتجلى فيه لطف اللّه في التصريف :«وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ، وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً. وَقالَ : يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا. وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ، وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي .. إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ .. إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» ..(1/590)
ومن لطائف التناسق ما سبق أن أشرنا إليه من التطابق في السورة بين تقديم القصص ، والتعقيب المباشر عليه ، والتعقيب الختامي الطويل .. وكل هذه التعقيبات تتجه إلى تقرير قضايا واحدة ، وتتلاقى عليها بين البدء والختام .. (1)
إجمال ما جاء فى سورة يوسف
(1) قصص يوسف رؤياه على أبيه يعقوب.
(2) نهى يعقوب لولده عن قصّه قصصه على إخوته.
(3) تدبيرهم المكيدة ليوسف وإلقائه فى غيابة الجب.
(4) ادعاؤهم أن الذئب قدأ كله.
(5) عثور قافلة ذاهبة إلى مصر عليه والتقاطها له.
(6) بيعها إياه فى مصر بثمن بخس لعزيز مصر.
(7) وصية العزيز لامرأته بإكرام مثواه.
(8) مراودة المرأة له عن نفسها وإعداد الوسائل لذلك.
(9) تمنّعه من ذلك إكراما لسيده الذي أكرم مثواه.
(10) قدّها لقميصه وادعاؤها عليه أنه هو الذي أراد بها الفاحشة.
(11) شهادة شاهد من أهلها بما يحلى الحقيقة.
(12) افتضاح أمرها فى المدينة لدى النسوة.
(13) تدبيرها المكيدة لأولئك النسوة وإحكام أمرها.
(14) إدخاله السجن اتباعا لمشيئتها.
(15) تعبيره رؤيا فتيبن دخلا معه السجن
(16) رؤيا الملك وطلبه تعبيرها
(17) إرشاد أحد الفتيين للملك عن يوسف وأنه نعم المعبّر لها
(18) طلب الملك إحضاره من السجن واستخلاصه لنفسه
(19) توليته رئيسا للحكومة ومهيمنا على ماليتها
(20) مجىء إخوة يوسف إليه وطلبه منهم أن يحضروا أخاهم لأبيهم
(21) إرجاع البضاعة التي جاءوا بها.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 1949)(1/591)
(22) إحضارهم أخاه إليه بعد إعطائهم الموثق لأبيهم.
(23) طلب أبيهم أن يدخلوا المدينة من أبواب متعددة.
(24) إخبار يوسف لأخيه عن ذات نفسه.
(25) أذان المؤذن أن العير قد سرقوا.
(26) قول الإخوة إن أخاه قد سرق من قبل بعد حجزه عنده.
(27) طلب الإخوة من يوسف أن يأخذ أحدهم مكانه.
(28) وجود غشاوة على عينى يعقوب من الحزن.
(29) تعريف يوسف بنفسه لإخوته.
(30) حين جاء البشير بقميص يوسف ارتد يعقوب بصيرا.
(31) طلب الإخوة من أبيهم أن يستغفر لهم.
(32) رفع يوسف أبويه على العرش.
(33) قول يوسف لأبيه هذا تأويل رؤياى من قبل.
(34) دعاؤه بحسن الخاتمة.
(35) فى هذا القصص إثبات لنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
(36) تحذير المشركين من نزول العذاب بهم كما حدث لمن قبلهم.
(37) لم يرسل اللّه إلا رجالا وما أرسل ملائكة.
(38) نصر الرسل بعد الاستيئاس.
(39) فى قصص الرسل عبرة لأولى الألباب. (1)
===============
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (13 / 58)(1/592)
(13) سورة الرعد
هكذا سميت من عهد السلف. وذلك يدل على أنها مسماة بذلك من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يختلفوا في اسمها.
وإنما سميت بإضافتها إلى الرعد لورود ذكر الرعد فيها بقوله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} [سورة الرعد: 13]. فسميت بالرعد لأن الرعد لم يذكر في سورة مثل هذه السورة، فإن هذه السورة مكية كلها أو معظمها. وإنما ذكر الرعد في سورة البقرة وهي نزلت بالمدينة وإذا كانت آيات {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} إلى قوله: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [سورة الرعد: 12] مما نزل بالمدينة، كما سيأتي تعين أن ذلك نزل قبل نزول سورة البقرة.
وهذه السورة مكية في قول مجاهد وروايته عن ابن عباس ورواية علي بن أبي طلحة وسعيد بن جبير عنه وهو قول قتادة. وعن أبي بشر قال: سألت سعيد ابن جبير عن قوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أي في آخر سورة الرعد [43] أهو عبد الله بن سلام? فقال: كيف وهذه سورة مكية، وعن ابن جريج وقتادة في رواية عنه وعن ابن عباس أيضا: أنها مدنية، وهو عن عكرمة والحسن البصري، وعن عطاء عن ابن عباس. وجمع السيوطي وغيره بين الروايات بأنها مكية إلا آيات منها نزلت بالمدينة يعني قوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} إلى قوله: {شَدِيدُ الْمِحَالِ} وقوله: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [سورة الرعد: 43]. قال ابن عطيه: والظاهر أن المدني فيها كثير، وكل ما نزل في شأن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة فهو مدني.
وأقول أشبه آياتها بأن يكون مدنيا قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [سورة الرعد: 41] كما ستعلمه، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ} - إلى -{وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [سورة الرعد: 30]، فقد قال مقاتل وابن جريج: نزلت في صلح الحديبية كما سيأتي عند تفسيرها.
ومعانيها جارية على أسلوب معاني القرآن المكي من الاستدلال على الوحدانية وتفريع المشركين وتهديدهم. والأسباب التي أثارت القول بأنها مدنية أخبار واهية، وسنذكرها في مواضعها من هذا التفسير ولا مانع من أن تكون مكية. ومن آياتها نزلت بالمدينة وألحقت بها، فإن ذلك في بعض سور القرآن، فالذين قالوا: هي مكية لم يذكروا موقعها من ترتيب المكيات سوى أنهم ذكروها بعد سورة يوسف وذكروا بعدها سورة إبراهيم.(1/593)
والذين جعلوها مدنية عدوها في النزول بعد سورة القتال وقبل سورة الرحمان وعدوها سابعة وتسعين في عداد النزول. وإذ قد كانت سورة القتال نزلت عام الحديبية أو عام الفتح تكون سورة الرعد بعدها.
وعدت آياتها ثلاثا وأربعين من الكوفيين وأربعا وأربعين في عدد المدنيين وخمسا وأربعين عند الشام.
مقاصدها
أقيمت هذه السورة على أساس إثبات صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أوحي إليه من إفراد الله بالإلهية والبعث وإبطال أقوال المكذبين فلذلك تكررت حكاية أقوالهم خمس مرات موزعة على السورة بدءا ونهاية.
ومهد لذلك بالتنويه بالقرآن وأنه منزل من الله، والاستدلال على تفرده تعالى بالإلهية بدلائل خلق العالمين ونظامهما الدال على انفراده بتمام العلم والقدرة وإدماج الامتنان لما في ذلك من النعم على الناس.
ثم انتقل إلى أقوال أهل الشرك ومزاعمهم في إنكار البعث.
وتهديدهم أن يحل بهم ما حل بأمثالهم.
والتذكير بنعم الله على الناس.
وإثبات أن الله هو المستحق للعبادة دون آلهتهم.
وأن الله العالم بالخفايا وأن الأصنام لا تعلم شيئا ولا تنعم بنعمة.
والتهديد بالحوادث الجوية أن يكون منها عذاب للمكذبين كما حل بالأمم قبلهم.
والتخويف من يوم الجزاء.
والتذكير بأن الدنيا ليست دار قرار.
وبيان مكابرة المشركين في اقتراحهم مجيء الآيات على نحو مقترحاتهم.
ومقابلة ذلك بيقين المؤمنين. وما أعد الله لهم من الخير.
وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما لقي من قومه إلا كما لقي الرسل عليهم السلام من قبله.
والثناء على فريق من أهل الكتب يؤمنون بأن القرآن منزل من عند الله.
والإشارة إلى حقيقة القدر ومظاهر المحو والإثبات.
وما تخلل ذلك من المواعظ والعبر والأمثال. (1)
تمهيد بين يدي سورة الرعد
نريد بهذا التمهيد - كما سبق أن ذكرنا في تفسير السورة السابقة - إعطاء القارئ الكريم صورة واضحة عن سورة الرعد ، قبل أن نبدأ في تفسيرها آية فآية فنقول - وباللّه التوفيق :
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (12 / 133)(1/594)
1 - سورة الرعد هي السورة الثالثة عشرة في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها اثنتا عشرة سورة ، هي سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس ، وهود ، ويوسف.
2 - وسميت بهذا الاسم منذ العهد النبوي ، ولم يعرف لها اسم سوى هذا الاسم ، ولعل سبب تسميتها بذلك ، ورود ذكر الرعد فيها ، في قوله - تعالى - وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ... .
3 - وعدد آياتها ثلاث وأربعون آية في المصحف الكوفي ، وأربع وأربعون آية في المدني ، وخمس وأربعون في البصري ، وسبع وأربعون في الشامي
4 - والذي يقرأ أقوال المفسرين في بيان زمان نزولها ، يراها أقوالا ينقصها الضبط والتحقيق.
فهناك روايات صرحت بأنها مكية ، وأخرى صرحت بأنها مدنية ، وثالثة بأنها مكية إلا آيات منها فمدنية ، ورابعة بأنها مدنية إلا آيات منها فمكية ...
قال الآلوسى : « جاء من طريق مجاهد عن ابن عباس وعلى بن أبى طلحة أنها مكية ».
وروى ذلك عن سعيد بن جبير - أيضا - .
قال سعيد بن منصور في سننه ، حدثنا أبو عوانة عن أبى بشر قال : سألت ابن جبير عن قوله - تعالى - وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ هل هو عبد اللّه بن سلام؟ فقال : كيف وهذه السورة مكية.
وأخرج مجاهد عن ابن الزبير ، وابن مردويه من طريق العوفى عن ابن عباس ، ومن طريق ابن جريج وعثمان بن عطاء عنه أنها مدنية.
وأخرج أبو الشيخ عن قتادة أنها مدنية إلا قوله - تعالى - وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ ... الآية فإنها مكية.
وروى أن من أولها إلى آخر قوله - تعالى - وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ....نزل بالمدينة ، أما باقيها فنزل في مكة ....
هذه بعض الروايات في زمان نزولها ، وهي - كما ترى - التعارض فيها واضح.
والذي تطمئن إليه النفس ، أن السورة الكريمة يبدو بوضوح فيها طابع القرآن المكي ، سواء أكان ذلك في موضوعاتها ، أم في أسلوبها ، أم في غير ذلك من مقاصدها وتوجيهاتها.
وأن نزولها - على الراجح - كان في الفترة التي أعقبت موت أبى طالب ، والسيدة خديجة - رضى اللّه عنها.
وهي الفترة التي لقى فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما لقى من أذى المشركين وعنتهم ، وطغيانهم ...(1/595)
والذي جعلنا نرجح أن نزولها كان في هذه الفترة ، ما اشتملت عليه السورة الكريمة ، من أدلة متنوعة على وحدانية اللّه - تعالى - وقدرته ، ومن تسلية له - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من قومه - كما سنرى ذلك عند تفسيرنا لآياتها ، كذلك مما جعلنا نرجح أن نزولها كان في هذه الفترة ، قول السيوطي في كتابه الإتقان : « ونزلت بمكة سورة الأعراف ، ويونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ... » .
وقد رجحنا عند تفسيرنا لسورة يونس ، وهود ، ويوسف - عليهم السلام - أن هذه السور قد نزلت في تلك الفترة من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ونرجح هنا أن نزول سورة الرعد كان في تلك الفترة - أيضا - لمناسبة موضوعاتها لأحداث هذه الفترة.
5 - عرض إجمالى لسورة الرعد :
(ا) لقد افتتحت السورة الكريمة بالثناء على القرآن الكريم ، وبالإشارة إلى إعجازه ، ثم ساقت ألوانا من الأدلة على قدرة اللّه - تعالى - ووحدانيته وعظيم حكمته ... اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ...
(ب) ثم حكت السورة بعد ذلك جانبا من أقوال المشركين في شأن البعث ، وردت عليهم بما يكبتهم فقال - تعالى - وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ، أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ، وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ....
(ج) ثم بينت السورة الكريمة ما يدل على كمال علمه - تعالى - وعلى عظم سلطانه ، وعلى حكمته في قضائه وقدره فقال - تعالى - : اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ ....
(د) ثم أمر - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل المشركين سؤال تهكم وتوبيخ عمن خلق السموات والأرض فقال - تعالى - : قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ. قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا ، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ، أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ ، أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ ، فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ، قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.
(ه) ضربت السورة الكريمة مثلين للحق والباطل. وعقدت مقارنة بين مصير أتباع الحق ، ومصير أتباع الباطل فقال - تعالى - : أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى ، إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ...
(و) ثم حكت السورة الكريمة بعض المطالب المتعنتة التي طلبها المشركون من النبي - صلى الله عليه وسلم - وردت عليهم بما يمحق باطلهم ، ويزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم فقال - تعالى - : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ(1/596)
آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ، قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ....
(ز) ثم حكت السورة الكريمة لونا آخر من غلوهم في كفرهم ، ومن مقترحاتهم الفاسدة ، حيث طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسير لهم بالقرآن جبال مكة ليتفسحوا في أرضها ، ويفجر لهم فيها الأنهار والعيون ليزرعوها ، ويحيى لهم الموتى ليخبروهم بصدقه ...
فقال - تعالى - : وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ ، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً ، أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ....
(ح) ثم ختمت السورة الكريمة ببيان حسن عاقبة المتقين ، وسوء عاقبة المكذبين ، وبالثناء على القرآن الكريم ، وبتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من أعدائه وبالشهادة له بالرسالة ، وبتهديد المشركين بالعذاب الأليم ، فقال - تعالى - مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها ، تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ ...
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا ، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً ، وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا ، قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ.
6 - ومن هذا العرض الإجمالى للسورة الكريمة ، نراها قد اهتمت بالحديث عن موضوعات من أبرزها ما يأتى :
(ا) إقامة الأدلة المتنوعة على كمال قدرة اللّه - تعالى - وعظيم حكمته. تارة عن طريق التأمل في هذا الكون وما فيه من سموات مرتفعة بغير عمد ، وأرض صالحة للاستقرار عليها ، وشمس وقمر وكواكب مسخرة لمنافع الناس ، وجبال لتثبيت الأرض ، وأنهار لسقى الزرع ...
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ، صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
وتارة عن طريق علمه المحيط بكل شيء ، فهو العليم بما تنقصه الأرحام وما تزداده في الخلقة وفي المدة وفي غير ذلك ، وهو العليم بأحوال عباده سواء أكانوا ظاهرين بالنهار أم مستخفين بالليل.اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ....
وتارة عن طريق الظواهر الكونية التي يرسلها - سبحانه - لعباده خوفا وطمعا ، هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ....(1/597)
وتارة عن طريق العطاء والمنع لمن يشاء من عباده : اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ....
وتارة عن طريق المصائب والقوارع التي ينزلها - سبحانه - بالكافرين وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ .
(ب) إثبات أن هذا القرآن من عند اللّه - تعالى - وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صادق فيما يبلغه عن ربه ، والرد على المشركين فيما طلبوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - من مطالب متعنتة ، ومن الآيات التي وردت في ذلك قوله - تعالى - : تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ، وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ.
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ.
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ.
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ، وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ.
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ ، قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ ، إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ.
(ج) تثبيت فؤاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسليته عما لحقه من أذى ، وذلك لأن السورة الكريمة - كما سبق أن أشرنا - مكية ، وأنها - على الراجح - قد نزلت في فترة اشتد فيها إعراض المشركين عن دعوة الحق وتكذيبهم لها ، وتطاولهم على صاحبها - صلى الله عليه وسلم - ومطالبتهم له بالخوارق التي لا يؤيدها عقل سليم.
فنزلت السورة الكريمة لتثبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه ، ولتمزق أباطيل المشركين عن طريق حشود من الأدلة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه.
ومن الآيات التي وردت في ذلك قوله - تعالى - : وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ.
وقوله - تعالى - وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ.
وقوله - تعالى - وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً ، يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ، وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ، وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ
هذه بعض الموضوعات التي نرى السورة الكريمة قد اهتمت بتفصيل الحديث عنها.(1/598)
وهناك موضوعات أخرى يراها كل من تأمل آياتها بفكر سليم ، وعقل قويم ، وروح صافية ... (1)
في السورة مقدمة رائعة في تقرير عظمة اللّه ونواميس كونه. وفصول من المشاهد الجدليّة التي كانت تقوم بين النبي والمشركين فيها صور من أقوالهم وتحدّيهم ومكابرتهم وإنكارهم رسالة النبي والآخرة ، وطلبهم الآيات منه وردود عليهم فيها إفحام وإنذار وتسفيه وتمثيل ومقايسة بين الصالحين وذوي النيّات الحسنة والعقول السليمة ، والأشرار ذوي العقول الغليظة والسرائر الخبيثة. وتمثيل للحقّ والباطل وتقرير بقاء الحقّ ونفعه. وتذكير بمواقف الأمم السابقة وإشارة إلى موقف أهل الكتاب المؤيد للرسالة النبوية والوحي القرآني وتثبيت وتطمين للنبي ، وبيان مصائر المؤمنين والكفار المشركين في الآخرة.
وفصول السورة منسجمة تكاد تكون سلسلة واحدة مما يسوغ القول إنها نزلت متتابعة إن لم تكن نزلت دفعة واحدة.
وهذه السورة من السور المختلف في مكيتها ومدنيتها. وقد رجّحنا مكيتها لأن ما احتوته من تقريرات وتنبيهات وأمثال وصور مماثلة لما في السور المكيّة من مثل ذلك ولأنها تمثّل العهد المكيّ دون العهد المدنيّ. ولقد جاءت في المصحف الذي نعتقد أنه مرتّب بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي حياته في سلسلة من السور المكيّة التي تبدأ بحروف متقطعة مماثلة لما بدأت به وهي سور يونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر مما يمكن أن يكون قرينة قوية إضافية على مكيتها واللّه أعلم.
والروايات التي تذكر مكية السورة تذكر أن بعض آياتها مدنية مع شيء من الاختلاف حيث يذكر بعضها أن من أول السورة إلى الآية [30] مدنيّ والباقي مكيّ ، ويذكر بعضها أن الآيتين [31 و43] مدنيتان وبعضها أن الآيات [11 - 13]مدنيات. وأسلوب هذه الآيات جميعها ومضامينها وانسجامها في سياقها نظما وموضوعا يسوغ الشك في هذه الروايات أيضا. (2)
سورة الرعد مدنية وهي ثلاث وأربعون آية.
تسميتها :
سمّيت سورة الرّعد ، للكلام فيها عن الرّعد والبرق والصّواعق وإنزال المطر من السّحاب : هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً ، وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ، وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ، وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ [الرّعد 13/ 12 - 13] والمطر أو الماء سبب للحياة : حياة الأنفس البشريّة والحيوان
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (7 / 431)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 515)(1/599)
والنّبات ، والصّواعق قد تكون سببا للإفناء ، وذلك مناقض للماء الذي هو رحمة ، والجمع بين النّقيضين من العجائب.
ناسبتها لما قبلها :
هناك تناسب بين سورة الرّعد وسورة يوسف في الموضوع والمقاصد ووصف القرآن ، أما الموضوع فكلاهما تضمّنتا الحديث عن قصص الأنبياء مع أقوامهم ، وكيف نجّى اللّه المؤمنين المتّقين وأهلك الكافرين ، وأما المقاصد فكلّ من السّورتين لإثبات توحيد الإله ووجوده ، ففي سورة يوسف : أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ. وفي سورة الرّعد : اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها .. [2 - 4]. قُلْ : مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ : اللَّهُ [16] ، وفيهما من الأدلّة على وجود الصّانع الحكيم وكمال قدرته وعلمه ووحدانيته الشيء الكثير ، ففي سورة يوسف : وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها ، وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ. وفي سورة الرّعد آيات دالّة على قدرة اللّه تعالى وألوهيّته مثل الآيات [2 - 4] ، والآيات [8 - 11] ، والآيات [12 - 16] ، والآيتان [30 و33].
وأما وصف القرآن فختمت به سورة يوسف : ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
وبدئت سورة الرّعد بقوله سبحانه : تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ، وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ.
ما اشتملت عليه السّورة :
تحدثت سورة الرّعد عن مقاصد السّور المدنية التّي تشبه مقاصد السّور المكيّة ، وهي التّوحيد وإثبات الرّسالة النّبوية ، والبعث والجزاء ، والرّد على شبهات المشركين. وأهم ما اشتملت عليه هو ما يأتي :
1 - بدئت السّورة بإقامة الأدلّة على وجود اللّه تعالى ووحدانيته ، من خلق السّموات والأرض ، والشّمس والقمر ، والليل والنّهار ، والجبال والأنهار ، والزّروع والثّمار المختلفة الطّعوم والرّوائح والألوان ، وأن اللّه تعالى منفرد بالخلق والإيجاد ، والإحياء والإماتة ، والنّفع والضّر.
2 - إثبات البعث والجزاء في عالم القيامة ، وتقرير إيقاع العذاب بالكفار في الدّنيا.
3 - الإخبار عن وجود ملائكة تحفظ الإنسان وتحرسه بأمر اللّه تعالى.
4 - إيراد الأمثال للحقّ والباطل ، ولمن يعبد اللّه وحده ولمن يعبد الأصنام ، بالسّيل والزّبد الذي لا فائدة فيه ، وبالمعدن المذاب ، فيبقي النّقي الصّافي ويطرح الخبث الذي يطفو.
5 - تشبيه حال المتّقين أهل السّعادة الصّابرين المقيمي الصّلاة بالبصير ، حال العصاة الذين ينقضون العهد والميثاق ، ويفسدون في الأرض بالأعمى.(1/600)
6 - البشارة بجنان عدن للمتّقين ، والإنذار بالنّار لناقضي العهد المفسدين في الأرض.
7 - بيان مهمّة الرّسول وهي الدّعوة إلى عبادة اللّه وحده ، وعدم الشّرك به ، وتحذيره من مجاملة المشركين في دعوتهم.
8 - الرّسل بشر كغيرهم من النّاس ، لهم أزواج وذريّة ، وليست المعجزات رهن مشيئتهم ، وإنما هي بإذن اللّه تعالى ، ومهمّتهم مقصورة على التّبليغ ، أما الجزاء فإلى اللّه تعالى.
9 - إثبات ظاهرة التّغير في الدّنيا ، مع ثبوت الأصل العام لمقادير الخلائق في اللوح المحفوظ.
10 - الاعلام بأن الأرض ليست كاملة التّكوير ، وإنما هي بيضاوية ناقصة في أحد جوانبها : أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها.
11 - إحباط مكر الكافرين بأنبيائهم في كلّ زمان.
12 - ختمت السّورة بشهادة اللّه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بالنّبوة والرّسالة ، وكذا شهادة المؤمنين من أهل الكتاب بوجود أمارات النّبي - صلى الله عليه وسلم - في كتبهم. وكان في السّورة بيان مدى فرح هؤلاء بما ينزل من القرآن مصدّقا لما عرفوه من اكتب الإلهية. (1)
سورة الرعد روى أنها مكية ، وقيل : مدنية ، وعدد آياتها ثلاث وأربعون ، وهي مناسبة لسابقتها ، فقد قال اللّه في سورة يوسف : وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ وهنا توضيح لهذا المجمل وتفصيل له ، وفيها ذكر للتوحيد أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ؟ . وهنا امتداد لدعوة التوحيد ، وذكر كثير من صفات اللّه ، وفي كل سلوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - . (2)
سورة الرعد هى مدنية وآيها ثلاث وأربعون ، نزلت بعد سورة محمد ، ومناسبتها لما قبلها من وجوه :
(1) إنه سبحانه أجمل فى السورة السابقة الآيات السماوية والأرضية فى قوله :« وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ » ثم فصلها هنا أتم تفصيل فى مواضع منها :
(2) إنه أشار فى سورة يوسف إلى أدلة التوحيد بقوله « أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ؟ » ثم فصل الأدلة هنا بإسهاب لم يذكر فى سالفتها.
(3) إنه ذكر فى كلتا السورتين أخبار الماضين مع رسلهم ، وأنهم لاقوا منهم ما لاقوا ، وأخذهم اللّه أخذ عزيز مقتدر ، وكتب الخزي على الكافرين ، والنصر لرسله والمؤمنين ، وفى ذلك تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وتثبيت لقلبه.
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (13 / 96)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (2 / 212)(1/601)
(4) جاء فى آخر السورة السابقة وصف القرآن بقوله : « ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » وفى أول هذه وهو قوله : « تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ » . (1)
وجه مناسبتها لما قبلها أنه سبحانه قال فيما تقدم : وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [يوسف : 105] فأجمل سبحانه الآيات السماوية والأرضية ثم فصل جل شأنه ذلك هنا أتم تفصيل ، وأيضا أنه تعالى قد أتى هنا مما يدل على توحيده عز وجل ما يصلح شرحا لما حكاه عن يوسف عليه السلام من قوله : أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف : 39] وأيضا في كل من السورتين ما فيه تسلية له - صلى الله عليه وسلم - ، هذا مع اشتراك آخر تلك السورة وأول هذه فيما فيه وصف القرآن كما لا يخفى. وجاء في فضلها ما أخرجه ابن أبي شيبة. والمروزي في الجنائز أنه كان يستحب إذا حضر الميت أن يقرأ عنده سورة الرعد فإن ذلك يخفف عن الميت وأنه أهون لقبضه وأيسر لشأنه ، وجاء في ذلك أخبار أخر نصوا على وضعها واللّه تعالى أعلم. (2)
سورة الرعد من السور المكية ، التي تتناول المقاصد الأساسية للسور المكية ، من تقرير " الوحدانية " و " الرسالة " و " البعث والجزاء " ودفع الشبه التي يثيرها المشركون ، وقيل : إنها مدنية وجوها جو المكي . ابتدأت السورة الكريمة بالقضية الكبرى ، قضية الإيمان بوجود الله ووحدانيته ، فمع سطوع الحق ووضوحه ، كذب المشركون بالقرآن ، وجحدوا وحدانية الرحمن ، فجاءت الآيات تقرر كمال قدرته تعالى ، وعجيب خلقه ، في السموات والأرض ، والشمس والقمر ، والليل والنهار ، والزروع والثمار ، وسائر ما خلق الله في هذا الكون الفسيح البديع .
ثم تلتها الآيات في إثبات البعث والجزاء ، ثم بعد ذكر الأدلة الساطعة والبراهين القاطعة ، على انفراده جل وعلا بالخلق والإِيجاد ، والإِحياء والإِماتة ، والنفع والضر ، ضرب القرآن مثلين للحق والباطل أحدهما : في الماء ينزل من السماء ، فتسيل به الأودية والشعاب ، ثم هو يجرف في طريقه الغثاء ، فيطفو على وجهه الزبد الذي لا فائدة فيه ، والثاني : في المعادن التي تذاب لتصاغ منها الأواني وبعض الحلية كالذهب والفضة ، وما يعلو هذه المعادن من الزبد والخبث ، الذي لا يلبث ان يذهب جفاء ويضمحل ويتلاشى ، ويبقى المعدن النقي الصافي [ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا . . ]
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (13 / 60)
(2) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (7 / 80)(1/602)
الآيات فذلك مثل الحق والباطل . وذكرت السورة الكريمة اوصاف أهل السعادة وأهل الشقاوة ، وضربت مثَلا بشهادة الله لرسوله بالنبوة والرسالة ، وأنه مرسل من عند الله العزيز الحكيم .
التسمية :
سميت [ سورة الرعد ] لتلك الظاهرة الكونية العجيبة ، التي تتجلى فيها قدرة الله وسلطانه ، فالماء جعله الله سببا للحياة ، وأنزله بقدرته من السحاب ، والسحاب جمع الله فيه بين (الرحمة والعذاب ) ، فهو يحمل المطر ويحمل الصواعق ، وفي الماء الإحياء ، وفي الصواعق الإفناء ، وجمع النقيضين من العجائب كما قال القائل : جمع النقيضين من أسرار قدرته هذا السحاب به ماء به نار فما أجمل واعظم قدرة الله !! (1)
مقصودها وصف الكتاب بأنه الحق في نفسه ، وتارة يتأثر عنه مع أن له صوتا وصيتا وإرعابا وإرهابا يهدي بالفعل ، وتارة لا يتأثر بل يكون سببا للضلال والعمى ، وأنسب ما فيها لهذا المقصد الرعد فإنه مع كونه حقا في نفسه يسمعه الأعمى والبصير والبارز والمستتر ، وتارة يتأثر عنه البرق والمطر وتارة لا ، وإذا نزل المطر فتارة ينفع إذا أصاب الأراضي الطيبة وسلمت من عاهة ، وتارة يخيب إذا نزل على السباخ الخوارة وتارة يضر لإغراق أو الصواعق أو البرد وغيرها - والله أعلم . (2) كثيرا ما أقف أمام النصوص القرآنية وقفة المتهيب أن أمسها بأسلوبي البشري القاصر المتحرج أن أشوبها بتعبيري البشري الفاني! وهذه السورة كلها - شأنها شأن سورة الأنعام من قبلها - من بين هذه النصوص التي لا أكاد أجرؤ على مسها بتفسير أو إيضاح.
ولكن ماذا أصنع ونحن في جيل لا بد أن يقدم له القرآن مع الكثير من الإيضاح لطبيعته ولمنهجه ولموضوعه كذلك ووجهته ، بعد ما ابتعد الناس عن الجو الذي تنزل فيه القرآن. وعن الاهتمامات والأهداف التي تنزل لها ، وبعد ما انماعت وذبلت في حسهم وتصورهم مدلولاته وأبعادها الحقيقية ، وبعد ما انحرفت في حسهم مصطلحاته عن معانيها .. وهم يعيشون في جاهلية كالتي نزل القرآن ليواجهها ، بينما هم لا يتحركون بهذا القرآن في مواجهة الجاهلية كما كان الذين تنزل عليهم القرآن أول مرة يتحركون .. وبدون هذه الحركة لم يعد الناس يدركون من أسرار هذا القرآن شيئا. فهذا القرآن لا يدرك أسراره قاعد ، ولا يعلم مدلولاته إلا إنسان يؤمن به ويتحرك به في وجه الجاهلية لتحقيق مدلوله ووجهته.
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (2 / 70)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (4 / 117)(1/603)
ومع هذا كله يصيبني رهبة ورعشة كلما تصديت للترجمة عن هذا القرآن! إن إيقاع هذا القرآن المباشر في حسي محال أن أترجمه في ألفاظي وتعبيراتي. ومن ثم أحس دائما بالفجوة الهائلة بين ما أستشعره منه وما أترجمه للناس في هذه «الظلال»! وإنني لأدرك الآن - بعمق - حقيقة الفارق بين جيلنا الذي نعيش فيه والجيل الذي تلقى مباشرة هذا القرآن.
لقد كانوا يخاطبون بهذا القرآن مباشرة ويتلقون إيقاعه في حسهم ، وصوره وظلاله ، وإيحاءاته وإيماءاته.
وينفعلون بها انفعالا مباشرا ، ويستجيبون لها استجابة مباشرة. وهم يتحركون به في وجه الجاهلية لتحقيق مدلولاته في تصورهم. ومن ثم كانوا يحققون في حياة البشر القصيرة تلك الخوارق التي حققوها ، بالانقلاب المطلق الذي تم في قلوبهم ومشاعرهم وحياتهم ، ثم بالانقلاب الآخر الذي حققوه في الحياة من حولهم ، وفي أقدار العالم كله يومذاك ، وفي خط سير التاريخ إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها.
لقد كانوا ينهلون مباشرة من معين هذا القرآن بلا وساطة. ويتأثرون بإيقاعه في حسهم فما لأذن. وينضجون بحرارته وإشعاعه وإيحائه ويتكيفون بعد ذلك وفق حقائقه وقيمه وتصوراته.
أما نحن اليوم فنتكيف وفق تصورات فلان وفلان عن الكون والحياة والقيم والأوضاع. وفلان وفلان من البشر القاصرين أبناء الفناء!
ثم ننظر نحن إلى ما حققوه في حياتهم من خوارق في ذات أنفسهم وفي الحياة من حولهم ، فنحاول تفسيرها وتعليلها بمنطقنا الذي يستمد معاييره من قيم وتصورات ومؤثرات غير قيمهم وتصوراتهم ومؤثراتهم.
فنخطئ ولا شك في تقدير البواعث وتعليل الدوافع وتفسير النتائج .. لأنهم هم خلق آخر من صنع هذا القرآن ..
وإنني لأهيب بقراء هذه الظلال ، ألا تكون هي هدفهم من الكتاب. إنما يقرءونها ليدنوا من القرآن ذاته. ثم ليتناولوه عند ذلك في حقيقته ، ويطرحوا عنهم هذه الظلال. وهم لن يتناولوه في حقيقته إلا إذا وقفوا حياتهم كلها على تحقيق مدلولاته وعلى خوض المعركة مع الجاهلية باسمه وتحت رايته.
وبعد فهذا استطراد اندفعت إليه وأمامي هذه السورة - سورة الرعد - وكأنما أقرؤها لأول مرة ، وقد قرأتها من قبل وسمعتها ما لا أحصيه من المرات. ولكن هذا القرآن يعطيك بمقدار ما تعطيه ويتفتح عليك في كل مرة بإشعاعات وإشراقات وإيحاءات وإيقاعات بقدر ما تفتح له نفسك ويبدو لك في كل مرة جديدا كأنك تتلقاه اللحظة ، ولم تقرأه أو تسمعه أو تعالجه من قبل!(1/604)
وهذه السورة من أعاجيب السور القرآنية التي تأخذ في نفس واحد ، وإيقاع واحد (1) ، وجو واحد ، وعطر واحد من بدئها إلى نهايتها والتي تفعم النفس ، وتزحم الحس بالصور والظلال والمشاهد والخوالج ، والتي تأخذ النفس من أقطارها جميعا ، فإذا هي في مهرجان من الصور والمشاعر والإيقاعات والإشراقات ، والتي ترتاد بالقلب آفاقا وأكوانا وعوالم وأزمانا ، وهو مستيقظ ، مبصر ، مدرك ، شاعر بما يموج حوله من المشاهد والموحيات.
إنها ليست ألفاظا وعبارات ، إنما هي مطارق وإيقاعات : صورها. ظلالها. مشاهدها. موسيقاها.
لمساتها الوجدانية التي تكمن وتتوزع هنا وهناك!
إن موضوعها الرئيسي ككل موضوع السور المكية (2) كلها على وجه التقريب - هو العقيدة وقضاياها
هو توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية ، وتوحيد الدينونة للّه وحده في الدنيا والآخرة جميعا ومن ثم قضية الوحي وقضية البعث .. وما إليها ...
ولكن هذا الموضوع الواحد ذا القضايا الواحدة ، لم يتكرر عرضه قط بطريقة واحدة في كل تلك السور المكية وفي غيرها من السور المدنية. فهو في كل مرة يعرض بطريقة جديدة وفي ضوء جديد ويتناول عرضه مؤثرات وموحيات ذات إيقاع جديد وإيحاء جديد! إن هذه القضايا لا تعرض عرضا جدليا باردا يقال في كلمات وينتهي كأية قضية ذهنية باردة إنما تعرض وحولها اطار ، هو هذا الكون كله بكل ما فيه من عجائب هي براهين هذه القضايا وآياتها في الإدراك البشري البصير المفتوح. وهذه العجائب لا تنفد ولا تبلى جدتها. لأنها تنكشف كل يوم عن جديد يصل إليه الإدراك ، وما كشف منها من قبل يبدو جديدا في ضوء الجديد الذي يكشف! ومن ثم تبقى تلك القضايا حية في مهرجان العجائب الكونية التي لا تنفد ولا تبلى جدتها! وهذه السورة تطوف بالقلب البشري في مجالات وآفاق وآماد وأعماق وتعرض عليه الكون كله في شتى مجالاته الأخاذة : في السماوات المرفوعة بغير عمد. وفي الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى. وفي الليل يغشاه النهار. وفي الأرض الممدودة وما فيها من رواس نابتة وأنهار جارية ، وجنات وزرع ونخيل مختلف الأشكال والطعوم والألوان ، ينبت في قطع من الأرض متجاورات ويسقى
__________
(1) - الإيقاع الموسيقي في القرآن يتألف من عناصر شتى : من مخارج الحروف في الكلمة الواحدة ومن تناسق الإيقاعات بين كلمات الفقرة ومن اتجاهات المد في الكلمات ، ثم من اتجاهات المد في نهاية الفاصلة المطردة في الآيات ومن حرف الفاصلة ذاته (و قد تكلمت عن هذا بتوسع في كتاب التصوير الفني) وجميع العناصر التي يتألف منها الإيقاع في هذه السورة واحدة فيما عدا اتجاه المد وحرف الفاصلة في القسم الأول منها حتى آية 5 فمد الفاصلة وحرفها : «يؤمنون. توقنون. يتفكرون. يعقلون. خالدون» وبقية السورة : «العقاب. هاد. بمقدار.المتعال. بالنهار ... إلخ».
(2) - السورة مكية بخلاف ما ورد في المصحف الأميري وبعض المصاحف - اعتمادا على بعض الروايات - أنها مدنية .. ومكية السورة شديدة الوضوح : سواء في طبيعة موضوعها ، أو طريقة أدائها ، أو في جوها العام. الذي لا يخطىء تنسمه من يعيش فترة في ظلال القرآن!(1/605)
بماء واحد. وفي البرق يخيف ويطمع ، والرعد يسبح ويحمد ، والملائكة تخاف وتخشع ، والصواعق يصيب بها من يشاء ، والسحاب الثقال والمطر في الوديان ، والزبد الذي يذهب جفاء ، ليبقى في الأرض ما ينفع الناس.
وهي تلاحق ذلك القلب أينما توجه : تلاحقه بعلم اللّه النافذ الكاشف الشامل ، يلم بالشارد والوارد ، والمستخفي والسارب ، ويتعقب كل حي ويحصي عليه الخواطر والخوالج.
والغيب المكنون الذي لا تدركه الظنون ، مكشوفا لعلم اللّه ، وما تحمل كل أنثى ، وما تغيض الأرحام وما تزداد.
إنها تقرب لمدارك البشر شيئا من حقيقة القوة الكبرى المحيطة بالكون ظاهره وخافيه ، جليله ودقيقه ، حاضره وغيبه. وهذا القدر الذي يمكن لمدارك البشر تصوره هائل مخيف ، ترجف له القلوب.
وذلك إلى الأمثال المصورة تتمثل في مشاهد حية حافلة بالحركة والانفعال. إلى مشاهد القيامة ، وصور النعيم والعذاب ، وخلجات الأنفس في هذا وذاك. إلى وقفات على مصارع الغابرين ، وتأملات في سير الراحلين ، وفي سنة اللّه التي مشت عليهم فإذا هم داثرون ..
هذا عن موضوعات السورة وقضاياها ، وعن آفاقها الكونية وآمادها .. ووراءها خصائص الأداء الفنية العجيبة. فالإطار العام الذي تعرض فيه قضاياها هو الكون كما أسلفنا ومشاهده وعجائبه في النفس وفي الآفاق. وهذا الإطار ذو جو خاص :
إنه جو المشاهد الطبيعية المتقابلة : من سماء وأرض. وشمس وقمر. وليل ونهار. وشخوص وظلال.
وجبال راسية وأنهار جارية. وزبد ذاهب وماء باق. وقطع من الأرض متجاورات مختلفات. ونخيل صنوان وغير صنوان .. ومن ثم تطرد هذه التقابلات في كل المعاني وكل الحركات وكل المصائر في السورة ، فيتناسق التقابل المعنوي في السورة مع التقابلات الحسية ، وتتسق في الجو العام .. ومن ثم يتقابل الاستعلاء في الاستواء على العرش مع تسخير الشمس والقمر. ويتقابل ما تغيض الأرحام مع ما تزداد. ويتقابل من أسرّ القول مع من جهر به. ومن هو مستخف بالليل مع من هو سارب بالنهار. ويتقابل الخوف مع الطمع تجاه البرق. ويتقابل تسبيح الرعد حمدا مع تسبيح الملائكة خوفا. وتتقابل دعوة الحق للّه مع دعوة الباطل للشركاء. ويتقابل من يعلم مع من هو أعمى. ويتقابل الذين يفرحون من أهل الكتاب بالقرآن مع من ينكر بعضه. ويتقابل المحو مع الإثبات في الكتاب .. وبالإجمال تتقابل المعاني ، وتتقابل الحركات ، وتتقابل الاتجاهات .. تنسيقا للجو العام في الأداء! وظاهرة أخرى من ظواهر التناسق في جو الأداء .. فلأنه جو الطبيعة من سماء وأرض ، وشمس وقمر ، ورعد وبرق ، وصواعق وأمطار .. وحياة وإنبات .. يجيء الحديث عما تكنه الأرحام من حيوان ويجيء معها : «وما تغيض الأرحام وما تزداد» ..(1/606)
ويتناسق غيض الأرحام وازديادها مع سيل الماء في الأودية ومع الإنبات .. وذلك من بدائع التناسق في هذا القرآن.
ذلك طرف من الأسباب التي من أجلها أقف أمام هذه السورة - كما وقفت من قبل كثيرا أمام غيرها - متهيبا أن أمسها بأسلوبي البشري القاصر ، متحرجا أن أشوبها بتعبيري البشري الفاني ...
ولكنها ضرورة الجيل .. الجيل الذي لا يعيش في جو هذا القرآن .. نستعين عليها باللّه. واللّه المستعان. (1)
خلاصة هذه السورة
ترى مما تقدم فى تفسير هذه السورة أنها اشتملت على الأمور الآتية :
(1) إقامة الأدلة على التوحيد بما يرى من خلق السموات والأرض والجبال والأنهار والزرع والنبات على اختلاف ألوانه وأشكاله ، وهذا تفصيل لما أجمله فى السورة قبلها من قوله : « وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ » .
(2) إثبات البعث ويوم القيامة ، والتعجب من إنكارهم له.
(3) استعجالهم العذاب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وبيان أنه واقع بهم لا محالة كما وقع لمن قبلهم من الأمم الغابرة.
(4) بيان أن للإنسان ملائكة تحفظه وتحرسه وتكتب عليه ما يكتسبه من الحسنات والسيئات بأمر اللّه.
(5) ضرب الأمثال لمن يعبد اللّه وحده ولمن يعبد الأصنام بالسيل والزبد الرابى.
(6) بيان حال المتقين الذين يصلون ما أمر اللّه به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب وأقاموا الصلاة وأنفقوا فى السر والعلن ، وبيان مآلهم يوم القيامة.
(7) بيان حال الذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويفسدون فى الأرض وبيان مآلهم.
(8) إنكار الشركاء مع إقامة الأدلة على أن لا شريك للّه.
(9) وصف الجنة التي وعد بها المتقون وبيان أنها مآل المتقين ومآل الكافرين النار وبئس القرار.
(10) بيان أن كثيرا ممن أسلموا من أهل الكتاب يفرحون بما ينزل من القرآن ، إذ يرون فيه تصديقا لما بين أيديهم من الكتاب.
(11) بيان مهمة الرسول وأن خلاصة ما جاء به - عبادة اللّه وحده ، وعدم الشرك به ، ودعاؤه لجلب النفع ودفع الضر وأن إليه المرجع والمآب.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2038)(1/607)
(12) بيان أن كل رسول أرسل بلغة قومه ليسهل عليهم قبول دعوته وفهمها.
(13) تحذير الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمته من قبول دعوة المشركين من بعد ما جاءهم من العلم.
(14) إن جميع الرسل صلوات اللّه عليهم كان لهم أزواج وذرية.
(15) إن المعجزات ليست بمشيئة الرسل يأتون بها كلما أرادوا ، وإنما هى بإذن اللّه وإرادته.
(16) بيان أن هذه الحياة الدنيا إنما هى محو وإثبات ، وموت وحياة ، فيزيل اللّه قوما ويوجد آخرين ، وكل ذلك محفوظ فى علم الذي لا تغيير فيه ولا تبديل.
(17) إن مهمة الرسل إنما هى التبليغ ، أما الجزاء على مخالفة الأوامر فأمر ذلك إلى اللّه ، ولا يعنى الرسول أن يحصل فى زمنه أو بعد وفاته.
(18) إن انتقام اللّه من المكذبين قد بدأ فى حياة الرسول بقتل أعدائه وأسرهم وتشريدهم فى البلاد.
(19) إن مكر أولئك الكافرين بالرسول ليس ببدع جديد ، فكثير من الأمم السابقة مكروا بأنبيائهم ، وكان النصر حليف المتقين ، ونكّل اللّه بالقوم الظالمين.
(20) إلحاف الكافرين فى إنكار رسالته - صلى الله عليه وسلم - ، مع بيان أن اللّه شهيد على ذلك بما أقام من الأدلة على صدقه ، وكذلك شهادة من آمن من أهل الكتاب بوجود أمارات رسالته - صلى الله عليه وسلم - فى كتبهم وتبشيرها بها. (1)
==============
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (13 / 119)(1/608)
(14) سورة إبراهيم
أضيفت هذه السورة إلى اسم إبراهيم - عليه السلام - فكان ذلك اسما لها لا يعرف لها غيره. ولم أقف على إطلاق هذا الاسم عليها في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في كلام أصحابه في خبر مقبول.
ووجه تسميتها بهذا وإن كان ذكر إبراهيم - عليه السلام - جرى في كثير من السور أنها من السور ذوات {ألر}. وقد ميز بعضها عن بعض بالإضافة إلى أسماء الأنبياء - عليهم السلام - التي جاءت قصصهم فيها، أو إلى مكان بعثة بعضهم وهي سورة الحجر، ولذلك لم تضف سورة الرعد إلى مثل ذلك لأنها متميزة بفاتحتها بزيادة حرف ميم على ألف ولام وراء.
وهي مكية كلها عند الجمهور. وعن قتادة إلا آيتي {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} إلى قوله: {وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [سورة إبراهيم: 28]، وقيل: إلى قوله: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [سورة إبراهيم: 30]. نزل ذلك في المشركين في قضية بدر، وليس ذلك إلا توهما كما ستعرفه.
نزلت هذه السور بعد سورة الشورى وقبل سورة الأنبياء. وقد عدت السبعين في ترتيب السور في النزول.
وعدت آياتها أربعا وخمسين عند المدنين وخمسين عند أهل الشام، وإحدى وخمسين عند أهل البصرة. واثنتين وخمسين عند أهل الكوفة.
واشتملت من الأغراض على أنها ابتدأت بالتنبيه إلى إعجاز القرآن، وبالتنويه بشأنه، وأنه أنزل لإخراج الناس من الضلالة. والامتنان بأن جعله بلسان العرب. وتمجيد الله تعالى الذي أنزله. ووعيد الذين كفروا به بمن أنزل عليه.
وإيقاظ المعاندين بأن محمد - صلى الله عليه وسلم - ما كان بدعا من الرسل. وأن كونه بشرا أمر غير مناف لرسالته من عند الله كغيره من الرسل. وضرب له مثلا برسالة موسى - عليه السلام - إلى فرعون لإصلاح حال بني إسرائيل وتذكيره قومه بنعم الله ووجوب شكرها وموعظته إياهم بما حل بقوم نوح وعاد ومن بعدهم وما لاقته رسلهم من التكذيب.
وكيف كانت عاقبة المكذبين.
وإقامة الحجة على تفرد الله تعالى بالإلهية بدلائل مصنوعاته وذكر البعث وتحذير الكفار من تغرير قادتهم وكبرائهم بهم من كيد الشيطان وكيف يتبرأون منهم يوم الحشر ووصف حالهم وحال المؤمنين يومئذ.(1/609)
وفضل كلمة الإسلام وخبث كلمة الكفر ثم التعجيب من حال قوم كفروا نعمة الله وأوقعوا من تبعهم في دار البوار بالإشراك والإيماء إلى مقابلته بحال المؤمنين.
وعد بعض نعمة على الناس تفضيلا ثم جمعها إجمالا.
ثم ذكر الفريقين بحال إبراهيم - عليه السلام - ليعلم الفريقان من هو سالك سبيل إبراهيم - عليه السلام - ومن هو ناكب عنه من ساكني البلد الحرام وتحذيرهم من كفران النعمة.
وإنذارهم أن يحل بالذين ظلموا من قبل.
وتثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بوعد النصر.
وما تخلل ذلك من الأمثال.
وختمت بكلمات جامعة من قوله: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ} [سورة إبراهيم: 52] إلى آخرها. (1)
تعريف بسورة إبراهيم - عليه السلام -
1 - سورة إبراهيم - عليه السلام - هي السورة الرابعة عشرة في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول ، فقد كان بعد سورة نوح - عليه السلام - .
وقد ذكر السيوطي قبلها سبعين سورة من السور المكية .
2 - وعدد آياتها ثنتان وخمسون آية في المصحف الكوفي ، وإحدى وخمسون في البصري ، وأربع وخمسون في المدني ، وخمس وخمسون في الشامي.
3 - وسميت بهذا الاسم ، لاشتمالها على الدعوات الطيبات التي تضرع بها إبراهيم - عليه السلام - إلى ربه ، ولا يعرف لها اسم آخر سوى هذا الاسم.
4 - وجمهور العلماء على أنها مكية ، وليس فيها آية أو آيات غير مكية.
وقال الآلوسى : « أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة.
والظاهر أنهما أرادا أنها كلها كذلك ، وهو الذي عليه الجمهور.
وأخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا آيتين منها فإنهما نزلتا بالمدينة وهما قوله - تعالى - : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ فإنهما نزلتا في قتلى بدر من المشركين .. .
وسنرى عند تفسيرنا لهاتين الآيتين ، أنه لم يقم دليل يعتمد عليه على أنهما مدنيتان. وأن السورة كلها مكية كما قال جمهور العلماء.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (12 / 213)(1/610)
5 - هذا ، وبمطالعتنا لهذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل نراها في مطلعها تحدثنا عن وظيفة القرآن الكريم ، وعن جانب من مظاهر قدرة اللّه - تعالى - ، وعن سوء عاقبة الكافرين ، وعن الحكمة في إرسال كل رسول بلسان قومه قال - تعالى - : الر. كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ .. وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ، فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
ثم نراها بعد ذلك تحدثنا عن طرف من رسالة موسى - عليه السلام - مع قومه ، وعن أخبار بعض الأنبياء مع أقوامهم ، وعن نماذج من المحاورات التي دارت بين الرسل وبين من أرسلوا إليهم.قال - تعالى - : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ....
ثم تضرب السورة الكريمة بعد ذلك مثلا لأعمال الكافرين ، وتصور أحوالهم عند ما يخرجون من قبورهم يوم القيامة ، وتحكى ما يقوله الشيطان لهم في ذلك اليوم ... فتقول :
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ...
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً ...
وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ.
ثم تسوق السورة مثلا آخر لكلمتى الإيمان والكفر فتقول : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ ...
ثم يحكى ألوانا متعددة من الأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - وعلمه وقدرته ونعمه على عباده فتقول : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ ....
ثم تسوق بعد ذلك تلك الدعوات الصالحات الجامعات لأنواع الخير ، التي تضرع بها إبراهيم إلى ربه فتقول : وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ....رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ.
ثم يختم - سبحانه - هذه السورة الكريمة بآيات فيها ما فيها من أنواع العذاب الذي أعده للظالمين ، وفيها ما فيها من ألوان التحذير من السير في طريق الكافرين والجاحدين فيقول :(1/611)
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ. مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ ....
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ، وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ.
6 - ومن هذا العرض الإجمالى للسورة الكريمة ، نراها قد اهتمت بأمور من أبرزها ما يلى :
(أ) تذكير الناس بنعم خالقهم عليهم ، وتحريضهم على شكر هذه النعم وتحذيرهم من جحودها وكفرها ...
ومن الآيات التي وردت في هذه السورة في هذا المعنى قوله - تعالى - : وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ.
وقوله - تعالى - : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ.
وقوله - تعالى - : وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ.
(ب) تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما لقيه من مشركي قريش ، تارة عن طريق ما لقيه الأنبياء السابقون من أقوامهم ، وتارة عن طريق بيان أن العاقبة للمتقين.
ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله - تعالى - : أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ، جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ....
وقوله - تعالى - : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ، فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ....
(ج) اشتمال السورة الكريمة على أساليب متعددة للترغيب في الإيمان ، وللتحذير من الكفر ، تارة عن طريق ضرب الأمثال ، وتارة عن طريق بيان حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المكذبين ، وتارة عن طريق حكاية ما يقوله الشيطان لأتباعه يوم القيامة ، وما يقوله الضعفاء للذين استكبروا وما يقوله الظالمون يوم يرون العذاب ...
ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله - تعالى - : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ، أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ. تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها ، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.(1/612)
وقوله - تعالى - : فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ. وقوله - تعالى - : وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ....
هذه بعض الموضوعات التي اهتمت السورة بإبرازها وبتركيز الحديث عنها ، وهناك موضوعات أخرى عنيت السورة بتفصيل الحديث عنها ، ويراها المتدبر لآياتها ... (1)
في السورة تقرير لمهمة النبي ، وحملة على كفار العرب وبخاصة زعمائهم وتذكير ببعض الرسل السابقين ومواقف أممهم منهم. وإنذار بالمصائر السيئة التي صاروا إليها وتقرير كون الإيمان هو أساس كل عمل صالح وطريق قويم وكون الكفر هو محبط لكل عمل ومورد للهلاك. وتنديد بما انطبع عليه الناس من الكفر والجحود لنعم اللّه وحكاية لمناجاة إبراهيم ربه وحملته على الأصنام وتقريع صارم للظالمين في معرض تثبيت النبي وتطمينه.
وفصول السورة مترابطة تبرر القول إنها نزلت دفعة واحدة ، أو فصولا متلاحقة. وقد روي أن الآيتين [28 و29] مدنيتان ومضمونهما وانسجامهما مع السياق يسوغان الشك في الرواية. (2)
سورة إبراهيم عليه السلام ،مكية وهي اثنتان وخمسون آية.
تسميتها :
سمّيت سورة إبراهيم لاشتمالها على جزء من قصّة إبراهيم أبي الأنبياء عليه السّلام ، يتعلّق بحياته في مكّة ، وصلته بالعرب وإسماعيل ، وأنّ إبراهيم وإسماعيل بنيا البيت الحرام ، وأنهما كانا يدعو ان اللّه تعالى بالهداية ، وأن إبراهيم دعا أن يجنّبه وبنيه عبادة الأصنام ، وأن يرزق زوجته وابنه إسماعيل اللذين أسكنهما في مكّة من الثّمرات ، وأن يجعله هو وذريّته مقيمي الصّلاة ، وذلك في الآيات [35 - 41].
مناسبتها لما قبلها :
هذه السّورة امتداد لما ذكر في سورة الرّعد ، وتوضيح لما أجمل فيها ، فكلّ منهما تحدّث عن القرآن ، ففي سورة الرّعد ذكر تعالى أنه أنزل القرآن حكما عربيا [الآية 37] ، وهنا ذكر حكمة ذلك والغاية من تنزيل القرآن ، وهي إخراج الناس من الظّلمات إلى النّور بإذن اللّه [الآية : 1].
وكلّ منهما ذكر فيه تفويض إنزال الآيات الكونية إلى اللّه وبإذنه ، فقال تعالى في سورة الرّعد : وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ، لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [38] ، وهنا ذكر ذلك على لسان الرسل : ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [11].
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (7 / 505)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 213)(1/613)
وفي كليهما ذكرت الآيات الكونية من رفع السّماء بغير عمد ومدّ الأرض وتسخير الشّمس والقمر ، وجعل الرّواسي في الأرض ، وخلق الثّمرات المختلفة الطّعوم والألوان.
وتعرّضت السّورتان لإثبات البعث ، وضرب الأمثال للحقّ والباطل ، والكلام على مكر الكفار وكيدهم وعاقبته ، والأمر بالتّوكّل على اللّه تعالى.
ما اشتملت عليه هذه السّورة :
اشتملت سورة إبراهيم على ما يأتي :
1 - إثبات أصول العقيدة من الإيمان باللّه وبالرّسل وبالبعث والجزاء ، وإقرار التّوحيد ، والتّعريف بالإله الحقّ خالق السّموات والأرض ، وبيان الهدف من إنزال القرآن الكريم ، وهو إخراج النّاس من الظّلمات إلى النّور ، واتّحاد مهمّة الرّسل ودعوتهم في أصول الاعتقاد والفضائل وعبادة اللّه والإنقاذ من الضّلال.
2 - الوعد والوعيد : ذمّ الكافرين ووعيدهم على كفرهم وتهديدهم بالعذاب الشّديد ، ووعد المؤمنين على أعمالهم الطّيّبة بالجنان [الآية 2 ، والآية 23 ، والآيات 28 - 31].
3 - الحديث عن إرسال الرّسل بلغات أقوامهم ، لتسهيل البيان والتّفاهم [الآية 4].
4 - تسلية الرّسول - صلى الله عليه وسلم - ببيان ما حدث للرّسل السّابقين مع أقوامهم : قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ، والتّذكير بعقابهم ، كما في الآيات [9 - 12] ، والآيات [13 - 18].
5 - ابتدأ من بين قصص بعض الأنبياء المتقدّمين عليهم السّلام بمحاورة موسى لقومه ودعوته إيّاهم لعبادة اللّه تعالى [الآيات 5 - 8].
6 - دعوات إبراهيم عليه السّلام بعد بناء البيت الحرام لأهل مكة بالأمان والرّزق وتعلّق القلوب بالبيت الحرام ، وتجنيبه وذريّته عبادة الأصنام ، وشكره ربّه على ما وهبه من الأولاد بعد الكبر ، وتوفيقه وذريّته لإقامة الصّلاة ، وطلبه المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين [الآيات 35 - 41].
7 - بيان مشهد من مشاهد الحوار بين أهل النّار في عالم الآخرة [الآيات 19 - 23].
8 - ضرب الأمثال لكلمة الحقّ والإيمان وكلمة الباطل والضّلال بالشّجرة الطّيّبة والشّجرة الخبيثة [الآيات 24 - 27].
9 - التّذكير بأهوال القيامة وتهديد الظالمين وبيان ألوان عذابهم [الآيات :42 - 52].
10 - بيان الحكمة من تأخير العذاب ليوم القيامة ، وهو ما ختمت به السّورة [الآيتان : 51 - 52]. (1)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (13 / 197)(1/614)
سورة إبراهيم عليه السلام ،مكية حكاه القرطبي في تفسيره عن الحسن وعكرمة إلا آيتين منها قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ إلى قوله : فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية.
وهي امتداد لما في سورة الرعد ، وتوضيح لما أجمل فيها أو اختصار لما وضح في سابقتها ، ألا ترى أن كلا منهما تكلم عن القرآن وعن الآيات الكونية ، وإثبات البعث.
وضرب الأمثال للحق والباطل ، والكلام على مكر الكفار وعاقبته إلى آخر ما في السورة. (1)
هى مكية وعدد آياتها ثنتان وخمسون.
وارتباطها بالسورة قبلها من وجوه :
(1) إنه قد ذكر سبحانه فى السورة السابقة أنه أنزل القرآن حكما عربيا ولم يصرح بحكمة ذلك وصرح بها هنا.
(2) إنه ذكر فى السورة السالفة قوله : « وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ » وهنا ذكر أن الرسل قالوا : « ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ » .
(3) ذكر هناك أمره عليه السلام بالتوكل على اللّه ، وهنا حكى عن إخوانه المرسلين أمرهم بالتوكل عليه جل شأنه.
(4) اشتملت تلك على تمثيل الحق والباطل ، واشتملت هذه على ذلك أيضا.
(5) ذكر هناك رفع السماء بغير عمد ومدّ الأرض وتسخير الشمس والقمر ، وذكر هنا نحو ذلك.
(6) ذكر هناك مكر الكفار وذكر مثله هنا ، وذكر من وصفه ما لم يذكر هناك. (2)
ارتباطها بالسورة التي قبلها واضح جدا لأنه قد ذكر في تلك السورة من مدح الكتاب وبيان أنه مغن عما اقترحوه ما ذكر ، وافتتحت هذه بوصف الكتاب والإيماء إلى أنه مغن عن ذلك أيضا ، وإذا أريد ب مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرعد : 43] اللّه تعالى ناسب مطلع هذه ختام تلك أشد مناسبة ، وأيضا قد ذكر في تلك إنزال القرآن حكما عربيا ولم يصرح فيها بحكمة ذلك وصرح بها هنا وأيضا تضمنت تلك الأخبار من قبله تعالى بأنه ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن اللّه تعالى وتضمنت هذه الأخبار به من جهة الرسل عليهم السلام وأنهم قالوا : ما كان لنا أن نأتي بسلطان إلا بإذن اللّه ، وأيضا ذكر هناك أمره عليه الصلاة والسلام بأن عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ [الرعد : 30] وحكي هنا عن إخوانه المرسلين عليهم السلام توكلهم
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (2 / 243)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (13 / 122)(1/615)
عليه سبحانه وأمرهم بالتوكل عليه جل شأنه ، واشتملت تلك على تمثيل للحق والباطل واشتملت هذه على ذلك أيضا بناء على بعض ما ستسمعه إن شاء اللّه تعالى في قوله سبحانه : مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً [إبراهيم : 24] إلى آخره ، وأيضا ذكر في الأولى من رفع السماء ومد الأرض وتسخير الشمس والقمر إلى غير ذلك ما ذكر وذكر هنا نحو ذلك إلا أنه سبحانه اعتبر ما ذكر أولا آيات وما ذكر ثانيا نعما وصرح في كل بأشياء لم يصرح بها في الآخر ، وأيضا قد ذكر هناك مكر الكفرة وذكر هنا أيضا وذكر من وصفه ما لم يذكر هناك ، وأيضا قال الجلال السيوطي : إنه ذكر في الأولى قوله تعالى : وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ [الرعد : 32] وذلك مجمل في أربعة مواضع الرسل. والمستهزئين.
وصفة الاستهزاء والأخذ وقد فصلت الأربعة في قوله سبحانه : أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ [إبراهيم : 9] الآيات ، وقد اشتركت السورتان مما عدا افتتاح كل منهما بالمتشابه بأن كلا قد افتتح بالألف واختتم بالباء ، وجمعا أيضا في آخر ما ختما به ، وبقي مناسبات بينهما غير ما ذكرنا لو ذكرناها لطال الكلام واللّه تعالى أعلم بما في كتابه. (1)
تناولت السورة الكريمة موضوع العقيدة في أصولها الكبيرة ( الإيمان بالله ، الإيمان بالرسالة ، والإيمان بالبعث والجزاء) ويكاد يكون محور السورة الرئيسي الرسالة والرسول " فقد تناولت دعوة الرسل الكرام بشيء من التفصيل ، وبينت وظيفة الرسول ، ووضحت معنى وحدة الرسالات السماوية ، فالأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ، جاءوا لتشييد صرح الإيمان ، وتعريف الناس بالإله الحق الذي تعنو له الوجوه ، وإخراج البشرية من الظلمات إلى النور ، فدعوتُهم واحدة ، وهدفهم واحد ، وإن كان بينهم اختلافْ في الفروع .
* وقد تحدثت السورة عن رسالة موسى عليه السلام ، ودعوته لقومه إلى أن يعبدوا الله ويشكروه ، وضربت الأمثال بالمكذبين للرسل ، من الأمم السابقة كقوم نوح ، وعاد ، وثمود ، ثم تناولت الآيات موضوع الرسل مع أقوامهم على مر العصور والدهور ، وحكت ما جرى بينهم من محاورات ومناورات ، انتهت بأهلاك الله للظالمين
[ وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا ، فأوحى اليهم ربهم لنهلكن الظالمين ، ولنسكننكم الأرض من بعدهم ، ذلك لمن خاف مقامى وخاف وعيد ] .
* وتحدثت السورة عن مشهد من مشاهد الآخرة ، حيث يلتقي الأشقياء المجرمون ، بأتباعهم الضعفاء ، وذكرت ما يدور بينهم من حوار طويل ، ينتهي بتكدس الجميع في (نار جهنم ) ، يصطلون سعيرها ،
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (7 / 169)(1/616)
فلم ينفع الأتباع تلك اللعنات والشتائم ، التي وجهوها إلى الرؤساء ، فالكل في السعير ، ثم ضربت الآيات ، مثلا لكلمة الإيمان ، وكلمة الضلال ، بالشجرة الطيبة ، والشجرة الخبيثة ، وختمت السورة ببيان مصير الظالمين ، يوم الجزاء والدين .
التسمية :
سميت السورة الكريمة (سورة إبراهيم ) تخليدا لمآثر أب الأنبياء ، وإمام الحنفاء " إبراهيم " عليه السلام ، الذي حطم الأصنام ، وحمل راية التوحيد ، وجاء بالحنيفية السمحة ودين الإسلام ، الذي بعث الله به خاتم المرسلين ، وقد قص علينا القرآن الكريم دعواته المباركات بعد انتهائه من بناء البيت العتيق ، وكلها دعوات إلى الإيمان والتوحيد (1)
مقصود السورة التوحيد ، وبيان أن هذا الكتاب غاية البلاغ إلى الله ، لأنه كافل ببيان الصراط الدال عليه المؤدى إليه .ناقل - بما فيه من الأسرار - للخلق من طور إلى طور - بما يشير إليه حرف الراء ، وأدل ما فيها على هذا المرام قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أما التوحيد فواضح ، وأما أمر الكتاب فلأنه من جملة دعائه لذريته الذين أسكنهم عند البيت المحرم من ذرية إسماعيل عليه السلام ) ) ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك وبعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ( ) [ البقرة : 129 ] .
ولما ختم الرعد بأنه لا شهادة تكافىء شهادة من عنده علم الكتاب إشارة إلى أن الكتاب هو الشاهد بإعجازه ببلاغته وما حوى من فنون العلوم ، وأتى به في ذاك السياق معرفاً لما تقدم من ذكره في البقرة وغيرها ثم تكرر وصفه في سورة يونس وهود ويوسف والرعد بأنه حكيم محكم مفصل مبين ، وأنه الحق الثابت الذي تزول الجبال الرواسي وهو ثابت لا يتعتع شيء منه . (2)
هذه السورة - سورة إبراهيم - مكية ، موضوعها الأساسي هو موضوع السور المكية الغالب : العقيدة في أصولها الكبيرة : الوحي والرسالة والتوحيد والبعث والحساب والجزاء.
ولكن السياق في السورة يسلك نهجا خاصا بها في عرض هذا الموضوع وحقائقه الأصيلة. نهجا مفردا يميزها - كالشأن في كل سورة قرآنية - عن السور غيرها. يميزها بجوها وطريقة أدائها ، والأضواء والظلال الخاصة التي تعرض فيها حقائقها الكبرى. ولون هذه الحقائق التي قد لا تفترق موضوعيا عن مثيلاتها في السور الأخرى ولكنها تعرض من زاوية خاصة ، في أضواء خاصة فتوحي إيحاءات خاصة. كما تختلف مساحتها في رقعة السورة وجوها ، فتزيد أطرافا وتنقص أطرافا ، فيحسها القارئ جديدة بما
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (2 / 82)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (4 / 165)(1/617)
وقع فيها من تجديد في «اللقطات الفنية». ونحن نستعمل هذا التعبير «اللقطات الفنية» لأنه يلاحظ في صورته المعجزة في طريقة الأداء القرآنية! ويبدو أنه كان لجو السورة من اسمها نصيب .. إبراهيم .. أبو الأنبياء .. المبارك ، الشاكر الأواه المنيب.
وكل الظلال التي تخلعها هذه الصفات ملحوظة في جو السورة ، وفي الحقائق التي تبرزها ، وفي طريقة الأداء ، وفي التعبير والإيقاع.
ولقد تضمنت السورة عدة حقائق رئيسية في العقيدة. ولكن حقيقتين كبيرتين تظللان جو السورة كلها.
وهما الحقيقتان المتناسقتان مع ظل إبراهيم في جو السورة : حقيقة وحدة الرسالة والرسل ، ووحدة دعوتهم ، ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة بدين اللّه على اختلاف الأمكنة والأزمان. وحقيقة نعمة اللّه على البشر وزيادتها بالشكر ومقابلة أكثر الناس لها بالجحود والكفران ..
وبروز هاتين الحقيقتين ، أو هذين الظلين. لا ينفي أن هناك حقائق أخرى في سياق السورة. ولكن هاتين الحقيقتين تظللان جو السورة. وهذا ما أردنا الإشارة إليه : تبدأ السورة ببيان وظيفة الرسول وما أوتيه من كتاب .. فهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن اللّه : «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ».
وتختم بهذا المعنى وبالحقيقة الكبرى التي تتضمنها الرسالة. حقيقة التوحيد : «هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ، وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ».
وفي أثنائها يذكر أن موسى قد أرسل بمثل ما أرسل به محمد - صلى الله عليه وسلم - ولمثل ما أرسل به ، حتى في ألفاظ التعبير : «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» ..
ويذكر كذلك أن وظيفة الرسل عامة كانت هي البيان : «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» ..
وتتضمن إلى جانب وظيفة الرسول بيان حقيقته البشرية ، وهي التي تحدد وظيفته. فهو مبلّغ ومنذر وناصح ومبين. ولكنه لا يملك أن يأتي بخارقة إلا بإذن اللّه ، وحين يشاء اللّه ، لا حين يشاء هو أو قومه ولا يملك كذلك أن يهدي قومه أو يضلهم ، فالهدى والضلال متعلقان بسنة اللّه التي اقتضتها مشيئته المطلقة.
ولقد كانت بشرية الرسل هي موضع الاعتراض من جميع الأقوام في جاهليتهم ، والسورة هنا تحكي قولهم مجتمعين :«قالُوا : إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا ، فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ».
وتحكي رد رسلهم كذلك مجتمعين : «قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ : إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».(1/618)
ويتضمن السياق كذلك أن إخراج الناس من الظلمات إلى النور إنما يتم «بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» .. وكل رسول يبين لقومه «فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».
وبهذا وذلك تتحدد حقيقة الرسول ، فتتحدد وظيفته في حدود هذه الحقيقة ، ولا تشتبه حقيقة الرسل البشرية وصفاتهم ، بشيء من حقيقة الذات الإلهية وصفاتها. وكذلك يتجرد توحيد اللّه بلا ظل من مماثلة أو مشابهة.
كذلك تتضمن السورة تحقق وعد اللّه للرسل والمؤمنين بهم إيمانا حقا. تحقق ذلك الوعد في الدنيا بالنصر والاستخلاف ، وفي الآخرة بعذاب المكذبين ونعيم المؤمنين.
يصور السياق هذه الحقيقة الكبيرة في نهاية المعركة بين الرسل مجتمعين وقومهم مجتمعين في الدنيا : «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ : لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ .. وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ..».
ويصورها في مشاهد القيامة في الآخرة : «وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ» ..
«وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ، سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ» ..
ويصورها في الأمثال التي يضربها لهؤلاء وهؤلاء : «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ. يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ، وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ»..
«مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ ، لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْ ءٍ. ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» ..
فأما الحقيقتان اللتان تظللان جو السورة ، وتتسقان مع ظل إبراهيم : أبي الأنبياء. الشكور الأواه المنيب ، وهما حقيقة وحدة الرسالة والرسل ، ووحدة دعوتهم ، ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة.
وحقيقة نعمة اللّه على البشر كافة وعلى المختارين منهم بصفة خاصة .. فنفردهما هنا بالحديث.
فأما الحقيقة الأولى فيبرزها السياق في معرض فريد في طريقة الأداء. لقد أبرزها سياق بعض السور الماضية في صورة توحيد الدعوة التي يجيء بها كل رسول ، فيقول كلمته لقومه ويمضي ، ثم يجيء رسول ورسول.(1/619)
كلهم يقولون الكلمة ذاتها ، ويلقون الرد ذاته ، ويصيب المكذبين ما يصيبهم في الدنيا ، وينظر بعضهم ويمهل إلى أجل في الأرض أو إلى أجل في يوم الحساب. ولكن السياق هناك كان يعرض كل رسول في مشهد ، كالشريط المتحرك منذ الرسالات الأولى. وأقرب مثل لهذا النسق سورة الأعراف وسورة هود.
فأما سورة إبراهيم - أبي الأنبياء - فتجمع الأنبياء كلهم في صف وتجمع الجاهليين كلهم في صف. وتجري المعركة بينهم في الأرض ، ثم لا تنتهي هنا ، بل تتابع خطواتها كذلك في يوم الحساب! ونبصر فنشهد أمة الرسل ، وأمة الجاهلية ، في صعيد واحد ، على تباعد الزمان والمكان. فالزمان والمكان عرضان زائلان ، أما الحقيقة الكبرى في هذا الكون - حقيقة الإيمان والكفر - فهي أضخم وأبرز من عرضي الزمان والمكان : «ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود. والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا اللّه. جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم ، وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به ، وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب.
قالت رسلهم : أفي اللّه شك فاطر السماوات والأرض ، يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ، ويؤخركم إلى أجل مسمى؟ قالوا : إن أنتم إلا بشر مثلنا ، تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ، فأتونا بسلطان مبين.
قالت لهم رسلهم : إن نحن إلا بشر مثلكم ، ولكن اللّه يمن على من يشاء من عباده ، وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن اللّه ، وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون. وما لنا ألا نتوكل على اللّه وقد هدانا سبلنا ، ولنصبرن على ما آذيتمونا. وعلى اللّه فليتوكل المتوكلون. وقال الذين كفروا لرسلهم : لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا. فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ، ولنسكننكم الأرض من بعدهم. ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد.«وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ، مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ ، يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ ، وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ ، وَما هُوَ بِمَيِّتٍ ، وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ» ..
فها هنا تتجمع الأجيال من لدن نوح وتتجمع الرسل ويتلاشى الزمان والمكان وتبرز الحقيقة الكبرى :
حقيقة الرسالة وهي واحدة. واعتراضات الجاهليين عليها وهي واحدة. وحقيقة نصر اللّه للمؤمنين وهي واحدة. وحقيقة استخلاف اللّه للصالحين وهي واحدة. وحقيقة الخيبة والخذلان للمتجبرين وهي واحدة.
وحقيقة العذاب الذي ينتظرهم هناك وهي واحدة .. وذلك إلى التماثل بين قول اللّه لمحمد - صلى الله عليه وسلم - :«كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ».
وحكاية قوله لموسى - عليه السلام - :«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ».(1/620)
ولا تنتهي المعركة بين الكفر والإيمان هنا بل يتابع السياق خطواته بها إلى ساحة الآخرة. فتبرز معالمها في مشاهد القيامة المتنوعة التي تتضمنها السورة. وهذه نماذج منها :«وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً ، فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ؟ قالُوا : لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ ، سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ. وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ : إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ، وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ، فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ، ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ، إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ، إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ .. وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ، تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ» ..
«وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ. مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ» ..
«وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ ، وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ. فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ. يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ ، وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ. سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ» ...
وهي كلها تشير إلى أنها معركة واحدة تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة ، وتكمل إحداهما الأخرى بلا انقطاع ولا انفصال.
وتكمل الأمثال التي تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة كذلك إبراز معالم المعركة بين الفريقين ، ونتائجها الأخيرة : مثل الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة : شجرة النبوة ، وشجرة الإيمان ، وشجرة الخير. والكلمة الخبيثة : كالشجرة الخبيثة : شجرة الجاهلية والباطل والتكذيب والشر والطغيان.
وأما الحقيقة الثانية المتعلقة بالنعمة والشكر والبطر فتطبع جو السورة كله ، وتتناثر في سياقها.
يعدد اللّه نعمه على البشر كافة ، مؤمنهم وكافرهم ، صالحهم وطالحهم ، برهم وفاجرهم ، طائعهم وعاصيهم. وإنها لرحمة من اللّه وسماحة وفضل أن يتيح للكافر والفاجر والعاصي نعمه في هذه الأرض ، كالمؤمن والبار والطائع : لعلهم يشكرون. ويعرض هذه النعمة في أضخم مجالي الكون وأبرزها ، ويضعها داخل اطار من مشاهد الوجود العظيمة :«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ. وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها. إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» ..(1/621)
وفي إرسال الرسل للناس نعمة تعدل تلك أو تربو عليها :«كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» ..
والنور أجلّ نعم اللّه في الوجود. والنور هنا هو النور الأكبر. النور الذي يشرق به كيان الإنسان ، ويشرق به الوجود في قلبه وحسه .. وكذلك كانت وظيفة موسى في قومه. ووظيفة الرسل كما بينتها السورة.
وفي قول الرسل مجتمعين :«يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» ..
والدعوة لأجل الغفران نعمة تعدل نعمة النور ، وهي منه قريب ..
وفي جو الحديث عن النعمة يذكّر موسى قومه بأنعم اللّه عليهم :«وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ : اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ».
وفي هذا الجو يذكر وعد اللّه للرسل :«فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ» ..
وهي نعمة من نعم اللّه الكثار الكبار.
ويبرز السياق حقيقة زيادة النعمة بالشكر :«وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» ..
مع بيان أن اللّه غني عن الشكر وعن الشاكرين :«إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ».
ويقرر السياق أن الإنسان في عمومه لا يشكر النعمة حق الشكر :«وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» ..
ولكن الذين يتدبرون آيات اللّه ، وتتفتح لها بصائرهم يصبرون على البأساء ويشكرون على النعماء :«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ».
ويمثل الصبر والشكر في شخص إبراهيم في موقف خاشع ، وفي دعاء واجف ، عند بيت اللّه الحرام ، كله حمد وشكر وصبر ودعاء.
«وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ : رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ، فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ. رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ ، وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي(1/622)
السَّماءِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ. رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ، رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ ، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» ..
ولأن النعمة والشكر عليها والكفر بها تطبع جو السورة تجيء التعبيرات والتعليقات فيها متناسقة مع هذا الجو :«وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» ..
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» ..
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ» ..
«اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» ..
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ» ..
وفي رد الأنبياء على اعتراض المكذبين بأنهم بشر يجي ء :«وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» ..
فيبرز منة اللّه تنسيقا للرد مع جو السورة كله. جو النعمة والمنة والشكر والكفران ..
وهكذا يتساوق التعبير اللفظي مع ظلال الجو العام في السورة كلها على طريقة التناسق الفني في القرآن ..
وتنقسم السورة إلى مقطعين متماسكي الحلقات :
المقطع الأول يتضمن بيان حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول. ويصور المعركة بين أمة الرسل وفرقة المكذبين في الدنيا وفي الآخرة ، ويعقب عليها بمثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة.
والمقطع الثاني يتحدث عن نعم اللّه على البشر ، والذين كفروا بهذه النعمة وبطروا. والذين آمنوا بها وشكروا ونموذجهم الأول هو إبراهيم. ويصور مصير الظالمين الكافرين بنعمة اللّه في سلسلة من أعنف مشاهد القيامة وأجملها ، وأحفلها بالحركة والحياة .. ليختم السورة ختاما يتسق مع مطلعها :«هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ، وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» .. (1)
فذلكة لمحتويات السورة
(1) هداية الناس إلى معرفة ربهم الخالق للسموات والأرض.
(2) دم الكافرين الذين يستحبون الدنيا ويصدّون عن الدين القويم.
(3) بيان أن الرسل إنما يرسلون بلغات أقوامهم ، ليسهل عليهم فهم الأوامر والنواهي.
(4) التذكير بأيام اللّه ببيان ما حدث للرسل مع أقوامهم ، ليكون فى ذلك تسلية لرسوله ، وما هدد به الأمم رسلهم من الإخراج والنفي من الديار.
(5) وعيد الكافرين على كفرهم وذكر ما يلقونه من العذاب ، وضرب الأمثلة لذلك.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2077)(1/623)
(6) وعد المؤمنين بجنات تجرى من تحتها الأنهار ، وضرب المثل لذلك.
(7) دعوة إبراهيم ربه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام التي أضلت كثيرا من الناس ، ثم شكره على ما وهبه من الأولاد على كبر سنه ، ثم طلبه المغفرة منه له ولوالديه وللمؤمنين يوم العرض والحساب.
(8) بيان أن تأخير العذاب عن المجرمين ليوم معلوم إنما كان لحكمة اقتصت ذلك ، وحينئذ يرون من الذلة والصغار وسوء العذاب ما يجل عنه الوصف. (1)
===============
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (13 / 171)(1/624)
(15) سورة الحجر
سميت هذه السورة الحجر، ولا يعرف لها اسم غيره. ووجه التسمية أن اسم الحجر لم يذكر في غيرها.
والحجر اسم البلاد المعروفة به وهو حجر ثمود. وثمود هم أصحاب الحجر. وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ} والمكتبون في كتاتيب تونس يدعونها سورة {رُبَمَا} لأن كلمة "ربما" لم تقع في القرآن كله إلا في أول هذه السورة.
وهي مكية كلها وحكي الاتفاق عليه.
وعن الحسن استثناء قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} بناء على أن سبعا من المثاني هي سورة الفاتحة وعلى أنها مدنية. وهذا لا يصح لأن الأصح أن الفاتحة مكية.
واستثناء قوله تعالى: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} بناء على تفسيرهم {الْمُقْتَسِمِينَ} بأهل الكتاب وهو صحيح، وتفسير {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} أنهم قالوا: ما وافق منه كتابنا فهو صدق وما خالف كتابنا فهو كذب.ولم يقل ذلك إلا يهود المدينة، وهذا لا نصححه كما نبينه عند الكلام على تلك الآية.
ولو سلم هذا التفسير من جهتيه فقد يكون لأن اليهود سمعوا القرآن قبل هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقليل فقالوا ذلك حينئذ،على أنه قد روي أن قريشا لما أهمهم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - استشاروا في أمره يهود المدينة.
وقال في "الاتقان" ينبغي استثناء قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} لما أخرجه الترمذي وغيره في سبب نزولها وأنها في صفوف الصلاة اهـ.
وهو يشير بذلك إلى ما رواه الترمذي من طريق نوح بن قيس الجذامي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال:كانت امرأة تصلي خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسناء فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر (أي من صفوف الرجال) فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ}. قال الترمذي ورواه جعفر بن سليمان ولم يذكر ابن عباس. وهذا أشبه أن يكون أصح من حديث نوح اه. وهذا توهين لطريق نوح.
قال ابن كثير في تفسيره:"وهذا الحديث فيه نكارة شديدة. والظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط ليس فيه لابن عباس ذكر، فلا اعتماد إلا على حديث جعفر بن سليمان وهو مقطوع.(1/625)
وعلى تصحيح أنها مكية فقد عدت الرابعة والخمسين في عدد نزول السور؛ نزلت بعد سورة يوسف وقبل سورة الأنعام.
ومن العجيب اختلافهم في وقت نزول هذه السورة وهي مشتملة على آية {فاصدع بما تؤمر} وقد نزلت عند خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من دار الأرقم في آخر السنة الرابعة من بعثته.
وعدد آيها تسع وتسعون باتفاق العادين.
مقاصد هذه السورة
افتتحت بالحروف المقطعة التي فيها تعريض بالتحدي بأعجاز القرآن.
وعلى التنويه بفضل القرآن وهديه.
وإنذار المشركين بندم يندمونه على عدم إسلامهم.
وتوبيخهم بأنهم شغلهم عن الهدى انغماسهم في شهواتهم.
وإنذارهم بالهلاك عند حلول إبان الوعيد الذي عينه الله في علمه.
وتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - على عدم إيمان من لم يؤمنوا، وما يقولونه في شأنه وما يتوركون بطلبه منه، وأن تلك عادة المكذبين مع رسلهم.
وأنهم لا تجدي فيهم الآيات والنذر لو أسعفوا بمجيء آيات حسب اقتراحهم به وأن الله حافظ كتابه من كيدهم.
ثم إقامة الحجة عليهم بعظيم صنع الله وما فيه من نعم عليهم.
وذكر البعث ودلائل إمكانه.
وانتقل إلى خلق نوع الإنسان وما شرف الله به هذا النوع.
وقصة كفر الشيطان.
ثم ذكر قصة إبراهيم ولوط - عليهما السلام - وأصحاب الأيكة وأصحاب الحجر.
وختمت بتثبيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وانتظار ساعة النصر، وأن يصفح عن الذين يؤذونه، ويكل أمرهم إلى الله، ويشتغل بالمؤمنين، وأن الله كافيه أعداءه.
مع ما تخلل ذلك من الاعتراض والإدماج من ذكر خلق الجن، واستراقهم السمع، ووصف أحوال المتقين، والترغيب في المغفرة، والترهيب من العذاب. (1)
تعريف بسورة الحجر
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (13 / 5)(1/626)
1 - سورة الحجر ، هي السورة الرابعة عشرة في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فقد ذكر الزركشي والسيوطي أنها نزلت بعد سورة يوسف ..
وعدد آياتها تسع وتسعون آية.
2 - وسميت بسورة الحجر ، لورود هذا اللفظ فيها دون أن يرد في غيرها وأصحاب الحجر هم قوم صالح - عليه السلام - ، إذ كانوا ينزلون الحجر - بكسر الحاء وسكون الجيم - وهو المكان المحجور ، أى الممنوع أن يسكنه أحد غيرهم لاختصاصهم به.
ويجوز أن يكون لفظ الحجر ، مأخوذ من الحجارة ، لأن قوم صالح - عليه السلام - كانوا ينحتون بيوتهم من أحجار الجبال وصخورها ، ويبنون بناء محكما جميلا.قال - تعالى - حكاية عما قاله نبيهم صالح لهم - وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ ومساكنهم ما زالت آثارها باقية ، وتعرف الآن بمدائن صالح ، وهي في طريق القادم من المدينة المنورة إلى بلاد الشام أو العكس ، وتقع ما بين خيبر وتبوك ...
وقد مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على ديارهم وهو ذاهب إلى غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة ...
3 - وسورة الحجر كلها مكية.
قال الشوكانى : وهي مكية بالاتفاق. وأخرج النحاس في ناسخه ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة الحجر بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله » .
وقد ذكر الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه السورة أنها مكية ، دون أن يذكر في ذلك خلافا.
وقال الآلوسى : أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير - رضى اللّه عنهم - أنها نزلت بمكة. وروى ذلك عن قتادة ومجاهد.
وفي مجمع البيان عن الحسن أنها مكية إلا قوله - تعالى - وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وقوله - تعالى - كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ .
والحق أن السورة كلها مكية ، وسنبين - عند تفسيرنا للآيات التي قيل بأنها مدنية - أن هذا القول ليس له دليل يعتمد عليه.
4 - (ا) وعند ما نقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل. نراها في مطلعها تشير إلى سمو مكانة القرآن الكريم ، وإلى سوء عاقبة الكافرين الذين عموا وصموا عن دعوة الحق ..قال - تعالى - الر ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ. رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ. ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ.
(ب) ثم تخبرنا بعد ذلك بأن اللّه - تعالى - قد تكفل بحفظ كتابه ، وصيانته من أى تحريف أو تبديل ، وبأن المكذبين للرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما يكذبونه عن عناد وجحود ، لا عن نقص في الأدلة الدالة على صدقه - صلى الله عليه وسلم -(1/627)
.قال - تعالى - إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ. وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ.
(ج) ثم تسوق السورة الكريمة بعد ذلك ألوانا من الأدلة على وحدانية اللّه وقدرته ، وعلى سابغ نعمه على عباده ...
قال - تعالى - وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ. وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ.
(د) ثم حكت السورة قصة خلق آدم - عليه السلام - ، وتكليف الملائكة بالسجود له ، وامتثالهم جميعا لأمر اللّه - سبحانه - ، وامتناع إبليس وحده عن الطاعة ، وصدور حكمه - سبحانه - بطرده من الجنة ... قال - تعالى - وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ. وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ..
(ه) ثم قصت علينا السورة الكريمة بأسلوب فيه الترغيب والترهيب ، وفيه العظة والعبرة ، جانبا من قصة إبراهيم ، ثم من قصة لوط ، ثم من قصة شعيب ، ثم من قصة صالح - عليهم الصلاة والسلام - ...قال تعالى - : وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ. قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ. قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ. قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ. قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ. قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ. إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ.
(و) ثم ختمت سورة الحجر بتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من قومه ، وأمرته بالصفح والعفو حتى يأتى اللّه بأمره ، وبشرته بأنه - سبحانه - سيكفيه شر أعدائه ، وبأنه سينصره عليهم ...قال - تعالى - : وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ.(1/628)
ومن هذا العرض الإجمالى للسورة الكريمة ، نراها قد اهتمت اهتماما واضحا بتثبيت المؤمنين وتهديد الكافرين ، تارة عن طريق الترغيب والترهيب ، وتارة عن طريق قصص السابقين ، وتارة عن طريق التأمل في هذا الكون وما اشتمل عليه من مخلوقات تدل على وحدانية اللّه وعظيم قدرته وسابغ رحمته ... (1)
في السورة حكاية لبعض أقوال الكفار ومناظراتهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفت نظر إلى عظمة اللّه تعالى في كونه. وتذكير بقصة آدم وإبليس. وتذكير بمصائر بعض الأمم التي يمرّ العرب بديارهم المدمرة. وتثبيت للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وتبشيرهم وإنذار ووعيد للكافرين.
وفصول السورة مترابطة وآياتها متوازنة. وهذا وذاك يلهمان أنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متتابعة حتى تمّت ، والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية [87] مدنية. وانسجامها التام في السياق والموضوع يسوغ الشك في الرواية. (2)
سورة الحجر مكية ، وهي تسع وتسعون آية.
تسميتها :
سميت سورة الحجر لذكر قصة أصحاب الحجر فيها ، وهم ثمود ، والحجر :واد بين المدينة والشام.
مناسبتها لما قبلها :
هناك تناسب بين هذه السورة وسورة إبراهيم في البدء والختام والمضمون ، أما البداية : فكلتا السورتين افتتحتا بوصف الكتاب المبين ، وأما المضمون : ففي كليهما وصف السموات والأرض ، وإيراد جزء من قصة إبراهيم عليه السلام وبعض قصص الرسل السابقين ، تسلية لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عما تعرض له من أذى قومه بتذكيره بما تعرض له الأنبياء من قبله ، ونصرة اللّه لهم ، مع نقاش الكفار والمشركين.
وأما الخاتمة : ففي سورة إبراهيم وصف تعالى أحوال الكفار يوم القيامة بقوله : وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ، سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ ، وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ثم قال هنا في هذه السورة :
رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ فأخبر أن المجرمين المذكورين إذا طال مكثهم في النار ، ورأوا عصاة المؤمنين والموحدين قد أخرجوا منها ، تمنوا أن لو كانوا في الدنيا مسلمين. هذا مع اختتام آخر
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (8 / 6)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (4 / 34)(1/629)
سورة إبراهيم بوصف الكتاب :هذا بَلاغٌ .. وافتتاح هذه به تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ وهذا تشابه في الأطراف بداية ونهاية .
ما اشتملت عليه السورة :
تتفق هذه السورة مع بيان أهداف التنزيل المكي وهي إثبات الوحدانية والنبوة والبعث والجزاء ، والتذكير بمصارع الطغاة ومكذبي رسل اللّه الكرام ، لذا ابتدأت السورة بالإنذار والتهديد ، والتهويل والتوبيخ : رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ. ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
وتضمنت السورة ما يأتي :
1 - مناقشة الكفار والمشركين الذين كذبوا بالرسل وبما أتوا به من آيات ، بدءا من أبي البشر الثاني : نوح عليه السلام إلى خاتم النبيين : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [10 - 11].
2 - إيراد الأدلة والبراهين على وجود اللّه تعالى من خلق السموات والأرض وخلق الإنسان ، ومشاهد الرياح اللواقح ، والحياة والموت ، والحشر والنشر :
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ .. [16] وَالْأَرْضَ مَدَدْناها .. [19] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [26] وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ .. [22] وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ [23] وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [25] وبيان حكمة خلق الموجودات : وهي عبادة اللّه وإقامة العدل وإرساء دعائم النظام في الحياة.
3 - إثبات صدق الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ .. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [8 - 9].
4 - الإشارة لنظرية ظلمة السماء : وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ ، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ، لَقالُوا : إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا ، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [14 - 15].
5 - قصة آدم وإبليس المعبّرة عن الطاعة والرفض ، بامتثال الملائكة أمر اللّه بالسجود لآدم وتعظيمه ، وأمر إبليس بالسجود له وعصيانه الأمر : فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [29 - 31].
6 - وصف حال أهل الشقاوة والنار ، وأهل السعادة والتقوى والجنة [42 - 48].
7 - تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - منعا لليأس والقنوط بتذكيره بقصة لوط وشعيب وصالح عليهم السلام مع أقوامهم الذين دمرهم اللّه [قصة آل لوط : 58 - 77] [أصحاب الأيكة : قوم شعيب : 78 - 79] [أصحاب الحجر : ثمود : 80 - 84].(1/630)
8 - بيان ما أنعم اللّه به على نبيه من إنزال القرآن [87] وإهلاك أعدائه المستهزئين [95] وأمره بعدم الافتتان بتمتيع الآخرين بالدنيا ، وأمره بالتواضع للمؤمنين [88] والجهر بالدعوة [94] والصبر والتسبيح والعبادة حتى الموت عند مضايقته باستهزاء المشركين [97 - 99].
والخلاصة : تضمنت السورة دلائل التوحيد ، وأحوال القيامة ، وصفة الأشقياء والسعداء ، وبعض قصص الأنبياء ، وأفضال اللّه على نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - . (1)
مكية. وحكى القرطبي الإجماع على ذلك. وعدد آياتها تسع وتسعون ، وسميت سورة الحجر لذكر قصة أصحاب الحجر فيها ، وهي كبقية السور المكية تدور حول نقاش المشركين في معتقداتهم وأفكارهم وما يتبع ذلك من إثبات البعث وبيان مظاهر قدرة اللّه أو تذكير الإنسان بنشأته الأولى ، وعلاقته بالملائكة والجن ، ثم ذكر قصص بعض الأنبياء ، وختام السورة بالحديث مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - . (2)
هى مكية وآيها تسع وتسعون.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه :
(1) إنها افتتحت بمثل ما افتتحت به سابقتها من وصف الكتاب المبين.
(2) إنها شرحت أحوال الكفار يوم القيامة وتمنيهم أن لو كانوا مسلمين كما كانت السالفة كذلك.
(3) إن فى كل منهما وصف السموات والأرض.
(4) إن فى كل منهما قصصا مفصّلا عن إبراهيم عليه السلام.
(5) إن فى كل منهما تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بذكر ما لاقاه الرسل السالفون من أممهم وكانت العاقبة للمتقين. (3)
وجه مناسبتها لما قبلها أنها مفتتحة بنحو ما افتتح به السورة السابقة ومشتملة أيضا على شرح أحوال الكفرة يوم القيامة وودادتهم لو كانوا مسلمين ، وقد اشتملت الأولى على نحو ذلك ، وأيضا ذكر في الأول طرف من أحوال المجرمين في الآخرة ، وذكر هنا طرف مما نال بعضا منهم في الدنيا ، وأيضا قد ذكر سبحانه في كل مما يتعلق بأمر السموات والأرض ما ذكر ، وأيضا فعل سبحانه نحو ذلك فيما يتعلق بإبراهيم عليه السلام ، وأيضا في كل من تسلية نبينا - صلى الله عليه وسلم - ما فيه إلى غير ذلك مما لا يحصى. (4)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (14 / 5)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (2 / 271)
(3) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (14 / 3)
(4) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (7 / 249)(1/631)
سورة الحجر من السور المكية ، التي تستهدت المقاصد الأساسية للعقيدة الإسلامية (الوحدانية ، النبوة ، البعث والجزاء) ومحور السورة يدور حول مصارع الطغاة ، والمكذبين لرسل الله ، في شتى الأزمان والعصور ، ولهذ ابتدأت السورة بالإنذار والتهديد ، ملفعا بظل من التهويل والوعيد [ ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأهل فسوف يعلمون ] .
* عرضت السورة لدعوة الأنبياء ، وبينت موقف أْهل الشقاوة والضلالة من الرسل الكرام ، فما من نبى إلا سخر منه قومه الضالون ، من لدن بعثة شيخ الأنبياء " نوح " عليه السلام ، إلى بعثة خاتم المرسلين ، وقد بينت السورة أن هذه سنة المكذبين ، في كل زمان وحين [ ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون . . ] الآيات .
* وعرضت السورة إلى الآيات الباهرات ، المبدعة في صفحة هذا الكون العجيب ، الذي ينطق بأثار اليد المبدعة ، ويشهد بجلال عظمة الخالق الكبير ، بدءا بمشهد السماء ، فمشهد الأرض ، فمشهد الرياح اللواقح ، فمشهد الحياة والموت ، فمشهد الحشر والنشر ، وكلها ناطقة بعظمة الله وجلاله ، وشاهدة بوحدانيته وقدرته
[ ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم . . ] الآيات . " وعرضت السورة إلى قصة (البشرية الكبرى) قصة الهدى والضلال ممثلة في خلق آدم عليه السلام ، وعدوه اللدود (إبليس ) اللعين ، وما جرى من سجود الملائكة لآدم ، واستكبار إبليس عن السجود ، واعتراضه على أمر الله وتوعده لذرية آدم [ وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون . . ] الآيات .
* ومن قصة آدم تنتقل السورة إلى قصص بعض الأنبياء ، تسلية لرسول الله عليه السلام ، وتثبيتاً لقلبه الشريف ، لئلا يتسرب إليه اليأس والقنوط ، فتذكر قصة (لوط ، وشعيب ، وصالح ) عليهم السلام ، وما حل بأقوامهم المكذبين .
* وتختم السورة الكريمة بتذكير الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) بالنعمة العظمى عليه ، بإنزال هذا الكتاب المجيد المعجز ، وتأمره بالصبر والسلوان ، على ما يلقاه من أذى المشركين ، وتبشره بقرب النصر له وللمؤمنين [ ولقد اَتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم . . ] إلى آخر السورة الكريمة .
التسمية :
سميت السورة الكريمة (سورة الحِجر) لأن الله تعالى ذكر ما حدث لقوم صالح ، وهم (قبيلة ثمود) وديارهم في الحِجر بين المدينة والشام ، فقد كانوا أشداء ، ينحتون الجبال ليسكنوها ، وكأنهم مخلدون في(1/632)
هذه الحياة ، لا يعتريهم موت ولا فناء ، فبينا هم آمنون مطمئنون جاءتهم صيحة العذاب في وقت الصباح [ فأخذتهم الصيحة مصبحين فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ] . (1)
مقصودها وصف الكتاب بأنه في الذروة من الجمع للمعاني الواضحة للحق من غير اختلاف أصلا ، وأشكل ما فيها وأمثلة في هذا المعنى قصة أصحاب الحجر ، فإن وضوح آيتهم عندهم وعند كل من شاهدها أو سمع بها كوضوح ما دل عليه مقصود هذه السورة في أمر الكتاب عند جميع العرب لا سيما قريش ، وأيضا آيتهم في غاية الإيضاح للحق والجمع لمعانيه الدائرة على التوحيد المقتضي للاجتماع على الداعي ، ومن يتضح ويتأيد ما اخترته من الإعراب لقوله تعالى ) كما أنزلنا على المقتسمين ( ، ومن هنا تعليقي له ب ) كانوا عنا معرضين ( المقتضي لشدة الملابسة بين شأنهم في كفرهم وشأن قريش في مثل ذلك - كما ستراه ، على أن لفظ الحجر يدل على مادل عليه مقصود السورة من الجمع والاستدارة التي روحها الإحاطة المميزة للمحاط به من غيره بلا لبس أصلا - والله أعلم . (2)
هذه السورة مكية بجملتها ، نزلت بعد سورة يوسف ، في الفترة الحرجة ، ما بين «عام الحزن» وعام الهجرة .. تلك الفترة التي تحدثنا عن طبيعتها وملابساتها ومعالمها من قبل في تقديم سورة يونس وفي تقديم سورة هود وفي تقديم سورة يوسف بما فيه الكفاية ..
وهذه السورة عليها طابع هذه الفترة ، وحاجاتها ومقتضياتها الحركية .. إنها تواجه واقع تلك الفترة مواجهة حركية وتوجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - والجماعة المسلمة معه ، توجيها واقعيا مباشرا وتجاهد المكذبين جهادا كبيرا. كما هي طبيعة هذا القرآن ووظيفته.
ولما كانت حركة الدعوة في تلك الفترة تكاد تكون قد تجمدت ، بسبب موقف قريش العنيد منها ومن النبي - صلى الله عليه وسلم - والعصبة المؤمنة معه حيث اجترأت قريش على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بما لم تكن تجترئ عليه في حياة أبي طالب. واشتد استهزاؤها بدعوته كما اشتد إيذاؤها لصحابته .. فقد جاء القرآن الكريم في هذه الفترة يهدد المشركين المكذبين ويتوعدهم ويعرض عليهم مصارع المكذبين الغابرين ومصائرهم ويكشف للرسول - صلى الله عليه وسلم - عن علة تكذيبهم وعنادهم وهي لا تتعلق به ولا بالحق الذي معه ، لكنها ترجع إلى العناد الذي لا تجدي معه الآيات البينات. ومن ثم يسلي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويواسيه ويوجهه إلى الإصرار على الحق الذي معه والصدع به بقوة في مواجهة الشرك وأهله والصبر بعد ذلك على بطء الاستجابة ووحشة العزلة ، وطول الطريق! ومن هنا تلتقي هذه السورة في وجهتها وفي موضوعها وفي
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (2 / 92)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (4 / 199)(1/633)
ملامحها مع بقية السور التي نزلت في تلك الفترة وتواجه مثلها مقتضيات تلك الفترة وحاجاتها الحركية. أي الحاجات والمقتضيات الناشئة من حركة الجماعة المسلمة بعقيدتها الإسلامية في مواجهة الجاهلية العربية في تلك الفترة من الزمان بكل ملابساتها الواقعية.
ومن ثم تواجه حاجات الحركة الإسلامية ومقتضياتها كلما تكررت هذه الفترة ، وذلك كالذي تواجهه الحركة الإسلامية الآن في هذا الزمان.
ونحن نؤكد على هذه السمة في هذا القرآن .. سمة الواقعية الحركية .. لأنها في نظرنا مفتاح التعامل مع هذا الكتاب وفهمه وفقهه وإدراك مراميه وأهدافه ..
إنه لا بد من استصحاب الأحوال والملابسات والظروف والحاجات والمقتضيات الواقعية العملية التي صاحبت نزول النص القرآني .. لا بد من هذا لإدراك وجهة النص وأبعاد مدلولاته ولرؤية حيويته وهو يعمل في وسط حي ويواجه حالة واقعة كما يواجه أحياء يتحركون معه أو ضده. وهذه الرؤية ضرورية لفقه أحكامه وتذوقها كما هي ضرورية للانتفاع بتوجيهاته كلما تكررت تلك الظروف والملابسات في فترة تاريخية تالية ، وعلى الأخص فيما يواجهنا اليوم ونحن نستأنف الدعوة الإسلامية.
نقول هذه المقالة ونحن على يقين أنه لن يرى هذه الرؤية اليوم إلا الذين يتحركون فعلا بهذا الدين في مواجهة الجاهلية الحاضرة ومن ثم يواجهون أحوالا وملابسات وظروفا وأحداثا كالتي كان يواجهها صاحب الدعوة الأولى - صلوات اللّه وسلامه عليه - والعصبة المسلمة معه .. من الإعراض والتولي عن هذا الدين في حقيقته الكبيرة الشاملة التي لا تتحقق إلا بالدينونة الكاملة للّه وحده في كل شأن من شؤون الحياة الاعتقادية والأخلاقية والتعبدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية .. وما يلقونه كذلك من الإيذاء والمطاردة والتعذيب والتقتيل كالذي كانت تلك العصبة المختارة الأولى تبتلى - في سبيل اللّه - به ..
إن هؤلاء الذين يتحركون بهذا الدين في مواجهة الجاهلية ويواجهون به ما كانت تواجهه الجماعة المسلمة الأولى .. هم وحدهم الذين يرون تلك الرؤية .. وهم وحدهم الذين يفقهون هذا القرآن ويدركون الأبعاد الحقيقية لمدلولات نصوصه. على النحو الذي أسلفنا .. وهم وحدهم الذين يملكون استنباط فقه الحركة الذي لا يغني عنه فقه الأوراق ، في مواجهة الحياة المتحركة التي لا تكف عن الحركة! وبمناسبة هذه الإشارة إلى فقه الحركة نحب أن نقرر أن الفقه المطلوب استنباطه في هذه الفترة الحاضرة هو الفقه اللازم لحركة ناشئة في مواجهة الجاهلية الشاملة. حركة تهدف إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، ومن الجاهلية إلى الإسلام ومن الدينونة للعباد إلى الدينونة لرب العباد كما كانت الحركة الأولى - على(1/634)
عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - تواجه جاهلية العرب بمثل هذه المحاولة قبل أن تقوم الدولة في المدينة وقبل أن يكون للإسلام سلطان على أرض وعلى أمة من الناس.
نحن اليوم في شبه هذا الموقف لا في مثله ، وذلك لاختلاف بعض الظروف والملابسات الخارجية ..
نحن نستهدف دعوة إلى الإسلام ناشئة في مواجهة جاهلية شاملة .. ولكن مع اختلاف في الملابسات والظروف والحاجات والمقتضيات الواقعية للحركة .. وهذا الاختلاف هو الذي يقتضي «اجتهادا» جديدا في «فقه الحركة» يوائم بين السوابق التاريخية للحركة الإسلامية الأولى وبين طبيعة الفترة الحاضرة ومقتضياتها المتغيرة قليلا أو كثيرا ..
هذا النوع من الفقه هو الذي تحتاج إليه الحركة الإسلامية الوليدة .. أما الفقه الخاص بأنظمة الدولة ، وشرائع المجتمع المنظم المستقر ، فهذا ليس أوانه ... إنه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم ، قاعدة التعامل فيه هي شريعة اللّه والفقه الإسلامي! .. هذا النوع من الفقه يأتي في حينه وتفصل أحكامه على قد المجتمع المسلم حين يوجد ويواجه الظروف الواقعية التي تكون محيطة بذلك المجتمع يومذاك! إن الفقه الإسلامي لا ينشأ في فراغ ولا تستنبت بذوره في الهواء! ونعود إلى استكمال الحديث عن موضوعات السورة :
محور هذه السورة الأول : هو إبراز طبيعة المكذبين بهذا الدين ودوافعهم الأصيلة للتكذيب ، وتصوير المصير المخوف الذي ينتظر الكافرين المكذبين .. وحول هذا المحور يدور السياق في عدة جولات ، متنوعة الموضوع والمجال ، ترجع كلها إلى ذلك المحور الأصيل. سواء في ذلك القصة ، ومشاهد الكون ، ومشاهد القيامة ، والتوجيهات والتعقيبات التي تسبق القصص وتتخلله وتعقب عليه.
وإذا كان جو سورة الرعد يذكّر بجو سورة الأنعام. فإن جو هذه السورة - الحجر - يذكر بجو سورة الأعراف. - وابتداؤها كان بالإنذار ، وسياقها كله جاء مصداقا للإنذار - فهنا كذلك في سورة الحجر يتشابه البدء والسياق ، مع اختلاف في الطعم والمذاق! إن الإنذار في مطلع سورة الأعراف صريح :«كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ، قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ. وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ. فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا : إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ ..»
ثم ترد فيها قصة آدم وإبليس ويتابعها السياق حتى تنتهي الحياة الدنيا ، ويعود الجميع إلى ربهم ، فيجدوا مصداق النذير .. ويلي القصة عرض لبعض مشاهد الكون : السماوات والأرض ، والليل والنهار ، والشمس والقمر ، والنجوم مسخرات بأمره ، والرياح والسحاب والماء والثمرات .. ويلي ذلك قصص قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى : وكلها تصدق النذير ..(1/635)
وهنا في سورة الحجر يجيء الإنذار كذلك في مطلعها ، ولكن ملفعا بظل من التهويل والغموض يزيد جوها رهبة وتوقعا للمصير :«رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ. ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ» ..
ثم يعرض السياق بعض مشاهد الكون : السماء وما فيها من بروج ، والأرض الممدودة والرواسي الراسخة ، والنبت الموزون ، والرياح اللواقح ، والماء والسقيا ، والحياة والموت والحشر للجميع .. يلي ذلك قصة آدم وإبليس ، منتهية بمصير أتباعه ومصير المؤمنين .. ومن ثم لمحات من قصص إبراهيم ولوط وشعيب وصالح منظورا فيها إلى مصائر المكذبين ، وملحوظا فيها أن مشركي العرب يعرفون الآثار الدارسة لهذه الأقوام ، وهم يمرون عليها في طريقهم إلى الشام.
فالمحور في السورتين واحد ، ولكن شخصية كل منهما متميزة وإيقاعهما يتشابه ولا يتماثل ، على عادة القرآن الكريم في تناوله لموضوعاته الموحدة ، بطرق شتى ، تختلف وتتشابه ، ولكنها لا تتكرر أبدا ولا تتماثل! ويمكن تقسيم سياق السورة هنا إلى خمس جولات ، أو خمسة مقاطع ، يتضمن كل منها موضوعا أو مجالا :
تتضمن الجولة الأولى بيان سنة اللّه التي لا تتخلف في الرسالة والإيمان بها والتكذيب. مبدوءة بذلك الإنذار الضمني الملفع بالتهويل :«رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ. ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» ..
ومنتهية بأن المكذبين إنما يكذبون عن عناد لا عن نقص في دلائل الإيمان : «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا : إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ!» ..
وأنهم جميعا من طراز واحد :«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ» ..
وتعرض الجولة الثانية بعض آيات اللّه في الكون : في السماء وفي الأرض وما بينهما. وقد قدرت بحكمة ، وأنزلت بقدر :«وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ. وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ. وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ ، فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ» ..(1/636)
وإلى اللّه مرجع كل شيء وكل أحد في الوقت المقدر المعلوم : «وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ. وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» ..
أما الجولة الثالثة فتعرض قصة البشرية وأصل الهدى والغواية في تركيبها وأسبابها الأصيلة ، ومصير الغاوين في النهاية والمهتدين. وذلك في خلق آدم من صلصال من حمأ مسنون والنفخ من روح اللّه في هذا الطين.
ثم في غرور إبليس واستكباره وتوليه الغاوين دون المخلصين.
والجولة الرابعة في مصارع الغابرين من قوم لوط وشعيب وصالح ، مبدوءة بقول اللّه : «نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» ثم يتتابع القصص ، يجلو رحمة اللّه مع إبراهيم ولوط ، وعذابه لأقوام لوط وشعيب وصالح .. ملحوظا في هذا القصص أنه يعرض على قريش مصارع أقوام يمرون على أرضهم في طريقهم إلى الشام ويرون آثارهم :
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ. وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ» ..
أما الجولة الخامسة والأخيرة فتكشف عن الحق الكامن في خلق السماوات والأرض المتلبس بالساعة وما بعدها من ثواب وعقاب ، المتصل بدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو الحق الأكبر الشامل للكون كله ، وللبدء والمصير : «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ..» إلى آخر السورة .. (1)
خلاصة ما اشتملت عليه السورة الكريمة من الحكم والأحكام
(1) وصف القرآن الكريم.
(2) الإعراض عن المشركين حتى يحل بهم ريب المنون.
(3) استهزاء المشركين وإنكارهم لنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبهم لما يرونه من الآيات.
(4) إقامة الأدلة على وجود اللّه بما يرونه من الآيات فى خلق السموات والأرض وفى خلق الإنسان.
(5) عصيان إبليس أمر ربه فى السجود لآدم وذكر الحوار بينه وبين ربه ، وطلبه الإنظار إلى يوم الدين.
(6) بيان حالى أهل الجنة وأهل النار يوم القيامة.
(7) قصص بعض الأنبياء وذكر ما أهلك اللّه به كل أمة من الأمم المكذبة لرسلها.
(8) بيان أن الحكمة فى خلق السموات والأرض هى عبادة اللّه وحده وإقامة العدل والنظام فى المجتمع.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2121)(1/637)
(9) ذكر ما أنعم اللّه به على نبيه من السبع المثاني والقرآن العظيم (10) نهى نبيه والمؤمنين عن تمنى زخرف الدنيا وزينتها.
(11) أمره - صلى الله عليه وسلم - بخفض الجناح والرفق بمن اتبعه من المؤمنين.
(12) التذكير بنعمة اللّه عليه بإهلاك أعدائه المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين.
(13) الأمر بالدعوة للدين جهرا والصدع بها وعدم المبالاة بالمشركين.
(14) أمره - صلى الله عليه وسلم - بالتسبيح والعبادة إذا ضاق صدره باستهزاء المشركين والطعن فيه وفى كتابه الكريم. (1)
==============
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (14 / 50)(1/638)
(16) سورة النحل
سميت هذه السورة عند السلف سورة النحل، وهو اسمها المشهور في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة.
ووجه تسميتها بذلك أن لفظ النحل لم يذكر في سورة أخرى.
وعن قتادة أنها تسمى سورة النِعَم - أي بكسر النون وفتح العين -. قال ابن عطية: لما عدد الله فيها من النعم على عباده.
وهي مكية في قول الجمهور وهو عن أبن عباس وابن الزبير. وقيل: إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة منصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة أحد، وهي قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [سورة النحل:126] إلى آخر السورة. قيل: نزلت في نسخ عزم النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يمثل بسبعين من المشركين أن أظفره الله بهم مكافأة على تمثيلهم بحمزة.
وعن قتادة وجابر بن زيد أن أولها مكي إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [سورة النحل:41] فهو مدني إلى آخر السورة.
وسيأتي في تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ} [سورة النحل:79] ما يرجح أن بعض السورة مكي وبعضها مدني، وبعضها نزل بعد الهجرة إلى الحبشة كما يدل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} [سورة النحل:110]، وبعضها متأخر النزول عن سورة الأنعام لقوله في هذه {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [سورة النحل:118]، يعني بما قص من قبل قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [سورة الأنعام:146]
الآيات.
وذكر القرطبي أنه روي عن عثمان بن مظعون: لما نزلت هذه الآية قرأتها على أبي طالب فتعجب وقال: يا آل غالب اتبعوا ابن أخي تفلحوا فوالله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق.
وروى أحمد عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون لما نزلت هذه الآية كان جالسا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يسلم قال: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا - صلى الله عليه وسلم - .
وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره الله أن يضعها في موضعها هذا من هذه السورة.
وهذه السورة نزلت بعد سورة الأنبياء وقبل سورة الم السجدة. وقد عدت الثانية والسبعين في ترتيب نزول السور.(1/639)
وآيها مائة وثمان وعشرون بلا خلاف. ووقع للخفاجي عن الداني أنها نيف وتسعون. ولعله خطأ أو تحريف أو نقص.
أغراض هذه السورة
معظم ما اشتملت عليه السورة إكثار متنوع الأدلة على تفرد الله تعالى بالإلهية، والأدلة على فساد دين الشرك وإظهار شناعته.
وأدلة إثبات رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وإنزال القرآن عليه - عليه الصلاة والسلام -.
وإن شريعة الإسلام قائمة على أصول ملة إبراهيم - عليه السلام -.
وإثبات البعث والجزاء؛ فابتدئت بالإنذار بأنه قد اقترب حلول ما أنذر به المشركون من عذاب الله الذي يستهزئون به، وتلا ذلك قرع المشركين وزجرهم على تصلبهم في شركهم وتكذيبهم.
وانتقل إلى الاستدلال على إبطال عقيدة الشرك؛ فابتدئ بالتذكير بخلق السماوات والأرض، وما في السماء من شمس وقمر ونجوم، وما في الأرض من ناس وحيوان ونبات وبحار وجبال، وأعراض الليل والنهار.
وما في أطوار الإنسان وأحواله من العبر.
وخصت النحل وثمراتها بالذكر لوفرة منافعها والاعتبار بإلهامها إلى تدبير بيوتها وإفراز شهدها.
والتنويه بالقرآن وتنزيهه عن اقتراب الشيطان، وإبطال افترائهم على القرآن.
والاستدلال على إمكان البعث وأنه تكوين كتكوين الموجودات.
والتحذير مما حل بالأمم التي أشركت بالله وكذبت رسله عليهم السلام عذاب الدنيا وما ينتظرهم من عذاب الآخرة. وقابل ذلك بضده من نعيم المتقين المصدقين والصابرين على أذى المشركين والذين هاجروا في الله وظلموا.
والتحذير من الارتداد عن الإسلام، والترخيص لمن أكره على الكفر في التقية من المكرهين.
والأمر بأصول من الشريعة؛ من تأصيل العدل، والإحسان، والمواساة، والوفاء بالعهد، وإبطال الفحشاء والمنكر والبغي، ونقض العهود، وما على ذلك من جزاء بالخير في الدنيا والآخرة.
وأدمج في ذلك ما فيها من العبر والدلائل، والامتنان على الناس بما في ذلك من المنافع الطيبات المنتظمة، والمحاسن، وحسن المناظر، ومعرفة الأوقات، وعلامات السير في البر والبحر، ومن ضرب الأمثال.
ومقابلة الأعمال بأضدادها.
والتحذير من الوقوع في حبائل الشيطان.(1/640)
والإنذار بعواقب كفران النعمة.
ثم عرض لهم بالدعوة إلى التوبة {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [سورة النحل:119] الخ....
وملاك طرائق دعوة الإسلام {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [سورة النحل:125].
وتثبيت الرسول - عليه الصلاة والسلام - ووعده بتأييد الله إياه. (1)
تعريف بسورة النحل
1 - سورة النحل هي السورة السادسة عشرة في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها سور :
الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ، وإبراهيم ، والحجر.
أما في ترتيب النزول ، فكان ترتيبها التاسعة والستين ، وكان نزولها بعد سورة الكهف .
2 - وعدد آياتها ثمان وعشرون ومائة آية.
3 - وسميت بسورة النحل ، لقوله - تعالى - فيها وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ... .
وتسمى - أيضا - بسورة النعم ، لأن اللّه - تعالى - عدد فيها أنواعا من النعم التي أنعم بها على عباده.
4 - وسورة النحل من السور المكية : أى التي كان نزولها قبل الهجرة النبوية الشريفة.
قال القرطبي : « وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد اللّه فيها من نعمه على عباده. وقيل : هي مكية إلا قوله - تعالى - وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ .. الآية. نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد .. » .
وقال الآلوسى : وأطلق جمع القول بأنها مكية ، وأخرج ذلك ابن مردويه عن ابن عباس ، وابن الزبير - رضى اللّه عنهم - وأخرجه النحاس من طريق مجاهد عن الحبر أنها نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها ، فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة أحد.
والذي تطمئن إليه النفس ، أن سورة النحل كلها مكية ، وذلك لأن الروايات التي ذكروها
في سبب نزول قوله - تعالى - ، وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ .. إلخ السورة ، فيها مقال. فقد ذكر الإمام ابن كثير عند سردها ، أن بعضها مرسل وفيه مبهم ، وبعضها في إسناده ضعف .. .
5 - (أ) وإذا ما قرأنا سورة النحل بتدبر وتفكر ، نراها في مطلعها تؤكد أن يوم القيامة حق ، وأنه آت لا ريب فيه ، وأن المستحق للعبادة والطاعة إنما هو اللّه الخالق لكل شيء.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (13 / 74)(1/641)
قال - تعالى - : أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ، يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ.
(ب) تم تسوق ألوانا من الأدلة على وحدانية اللّه وقدرته ، عن طريق خلق السموات والأرض وخلق الإنسان والحيوان ، وعن طريق إنزال الماء من السماء ، وتسخير الليل والنهار ، والشمس والقمر والنجوم .. وغير ذلك من النعم التي لا تحصى.استمع إلى بعض هذه الآيات التي تحكى جانبا من هذه النعم فتقول : خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.
ثم تقول : وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ. أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها ، إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
(ج) وبعد أن توبخ السورة المشركين لتسويتهم بين من يخلق ومن لا يخلق تحكى جانبا من أقاويلهم الباطلة التي وصفوا بها القرآن الكريم ، وتصور استسلامهم لقضاء اللّه العادل فيهم يوم الحساب ، فتقول : وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ.
إلى أن تقول : الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ، فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ، بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ.
(د) وكعادة القرآن الكريم في قرنه الترهيب بالترغيب ، وفي عقده المقارنات بين مصير المؤمنين ومصير الكافرين ، جاءت الآيات بعد ذلك لتبشر المتقين بحسن العاقبة.
جاء قوله - تعالى - : وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ، وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ.
(ه) ثم تعود السورة الكريمة مرة أخرى إلى حكاية أقوال المشركين حول مسألتين من أخطر المسائل ، وهما مسألة الهداية والإضلال ، ومسألة البعث بعد الموت بعد أن حكت ما قالوه في شأن القرآن الكريم.
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى أقوالهم ثم يرد عليها بما يبطلها فيقول : وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ، كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ. وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ(1/642)
كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ، وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ، بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ.
(و) ثم تهدد السورة الكريمة أولئك الجاحدين لنعم اللّه ، الماكرين للسيئات ، بأسلوب يستثير النفوس ويبعث الرعب في القلوب ، وتدعوهم إلى التأمل والتفكر في ملكوت السموات والأرض ، لعل هذا التفكر يكون سببا في هدايتهم ، وتخبرهم بأن اللّه - تعالى - هو الذي نهاهم عن الشرك ، وهو الذي أمرهم بإخلاص العبادة له.استمع إلى القرآن وهو يصور هذه المعاني بأسلوبه البديع فيقول : أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ. وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ. وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ.
(ز) ثم انتقلت السورة إلى سرد أنواع من جهالات المشركين ، ومن سوء تفكيرهم ، حتى يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، ويشكروا اللّه - تعالى - على توفيقه إياهم إلى الدخول في الإسلام.
لقد ذكرت السورة الكريمة ألوانا متعددة من جهالات الكافرين ، ومن ذلك قوله - تعالى - : وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ ، تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ. وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ.
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ ، وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ.
(ح) هكذا تصور سورة النحل ما كان عليه المشركون من غباء وغفلة وسوء تفكير ، ثم تعود - سورة النعم - مرة أخرى إلى الحديث عن نعم اللّه - تعالى - على عباده ، فتتحدث عن نعمة الكتاب ، وعن نعمة الماء ، وعن نعمة الأنعام ، وعن نعمة الثمار والفواكه ، وعن نعمة العسل المتخذ من بطون النحل وعن نعمة التفاضل في الأرزاق ، وعن نعمة الأزواج والبنين والحفدة.
قال - تعالى - : وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ، نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ.(1/643)
إلى أن يقول - سبحانه - : وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ.
(ط) ثم تسوق السورة الكريمة مثلين مشتملين على الفرق الشاسع ، بين المؤمن والكافر ، وبين الإله الحق والآلهة الباطلة ، فتقول : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ، وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً ، هَلْ يَسْتَوُونَ؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ، وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
(ى) وبعد إيراد هذين المثلين البليغين ، تعود سورة النعم إلى الحديث عن أنواع أخرى من نعم اللّه على خلقه ، لكي يشكروه عليها ، ويستعملوها فيما خلقت له فتتحدث عن نعمة إخراج الإنسان من بطن أمه ، وعن نعمة البيوت التي هي محل سكن الإنسان ، وعن نعمة الظلال ، وعن نعمة الجبال ، وعن نعمة الثياب. قال - تعالى - : وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ ، وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها ، أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً ، وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ، كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ.
(ك) ثم بعد أن تصور السورة الكريمة أحوال المشركين يوم القيامة عند ما يرون العذاب ، وتحكى ما يقولون عند ما يرون شركاءهم ، وتقرر أن اللّه يبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سيكون شهيدا على من بعث إليهم.
بعد كل ذلك تسوق السورة الكريمة عددا من الآيات الآمرة بمكارم الأخلاق والناهية عن منكراتها فتقول : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ ، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها ، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ.
(ل) وبعد هذه التوجيهات السامية المشتملة على الترغيب والترهيب ، وعلى الأوامر والنواهي. تتحدث آيات السورة عن آداب تلاوة القرآن وعن الشبهات التي أثارها المشركون حوله مع الرد عليها بما يدحضها ، وعن حكم من تلفظ بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، فتقول : فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ.(1/644)
ثم تقول : وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ، لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ.
ثم تقول : مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
(م) ثم تعود السورة الكريمة لضرب الأمثال ، فتسوق مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم بالنعم فلم يقابلوها بالشكر ، فانتقم اللّه - تعالى - منهم. كما تسوق جانبا من حياة سيدنا إبراهيم كمثال للشاكرين الذين استعملوا نعم اللّه فيما خلقت له.استمع إلى قوله - تعالى - : وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ.
ثم إلى قوله - تعالى - : إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
(ن) وأخيرا تختتم السورة الكريمة بتلك الآيات الجامعة لأحكم الأساليب وأكملها وأجملها وأ نجمعها في الدعوة إلى اللّه - تعالى - وفي معاملة الناس فتقول : ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.
6 - وبعد ، فهذا عرض إجمالى لأهم المقاصد التي اشتملت عليها السورة الكريمة ، ومنه نرى :
(أ) عنايتها الفائقة بإقامة الأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - وعلى صدق رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - في دعوته ، وعلى أن يوم القيامة حق ، وعلى أن القرآن من عند اللّه - عز وجل.
(ب) كما نرى تفصيلها القول في بيان آلاء اللّه - تعالى - على خلقه ، وقد سبحت السورة في هذا الجانب سبحا عظيما ، فذكّرت الإنسان بنعمة خلقه ، وبنعمة تسخير الأنعام والشمس ، والقمر ، والنجوم ، والماء ، والجبال ، والأشجار .. كل ذلك وغيره لمنفعته ومصلحته.
(ج) كما نلمس اهتمامها بضرب الأمثال للمؤمن والكافر ، والشاكر والجاحد والإله الحق والآلهة الباطلة .. وذلك لأن في ضرب الأمثال تقريبا للبعيد وتوضيحا للخفى ، بأسلوب من شأنه أن يكون أوقع في القلوب ، وأثبت في النفوس وأدعى إلى التدبر والتفكر.(1/645)
(د) كما ندرك حرصها على إيراد أقوال المشركين وشبههم! ثم الرد عليها بطريقة تقنع العقول ، وترضى العواطف ، بأن الإسلام هو الدين الحق ، وبذلك يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم.
(ه) كما نحس - عند قراءتها - بعنايتها بتوجيه المؤمنين إلى مكارم الأخلاق ، وأمهات الفضائل ، كالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، والوفاء ، والصبر ، والشكر ... وبنهيهم عن الرذائل كالغدر والجحود ، ونقض العهود ، والاستكبار ، والظلم.
وأخيرا فإن المتأمل في هذه السورة - أيضا - يراها حافلة بأسلوب الترغيب والترهيب ، والتبشير والإنذار ، والوعد والوعيد.الوعيد للكافرين بسوء المصير إذا ما لجوا في ضلالهم وطغيانهم كما في قوله - تعالى - : الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ.
والوعد للمؤمنين بالحياة الطيبة في الدارين ، كما في قوله - تعالى - : مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. (1)
في السورة مواضيع متنوعة ، غير أن طابعها المميز تعداد نعم اللّه ومشاهد عظمته والتذكير بما يسّر اللّه للناس من وسائل الرزق وسخر لهم من نواميس الكون لإثبات استحقاقه وحده للعبادة والتنديد بالكافرين والمشركين وإنذارهم والتنويه بالمؤمنين الشاكرين وتطمينهم. وفيها مبادئ أخلاقية شخصية واجتماعية رائعة.
وخطة جليلة للنبي والمسلمين عامة في صدد الدعوة إلى سبيل اللّه. وفيها إشارات إلى عقائد العرب باتخاذ اللّه بنات وكراهيتهم للبنات. وإلى هجرة المسلمين الأولى ، وإلى حوادث ارتداد وعودة بعض المرتدين إلى الإسلام ، وإلى قول الكفار بأن شخصا يعلّم النبي ، وإلى حادث تبديل آية مكان آية في القرآن ، وإلى ما حرّم اللّه من لحوم وذبائح ، وإلى ملّة إبراهيم.
ولا يمكن أن يقال إن فصولها منقطعة عن بعضها بل إن التساوق بينها أو بين أكثرها أكثر ظهورا ، وهذا يبرر القول إن فصولها نزلت متتابعة فدونت متتابعة كما نزلت إلى أن تمت.
وقد روي أن الآيات [126 - 128] مدنية ، وأسلوبها ومضمونها وسياقها يسوغ التوقف في ذلك ويجعل الرجحان لمكيتها. (2)
سورة النحل مكية ، وهي مائة وثمان وعشرون آية.
تسميتها :
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (8 / 91)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 115)(1/646)
سميت سورة النحل ، لاشتمالها في الآيتين [68 - 69] : وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ على قصة النحل التي ألهمها اللّه امتصاص الأزهار والثمار ، وتكوين العسل الذي فيه شفاء للناس ، وتلك قصة عجيبة مثيرة للتفكير والتأمل في عجيب صنع اللّه تعالى ، والاستدلال بهذا الصنع على وجود اللّه سبحانه.
وسميت أيضا سورة «النّعم» لتعداد نعم اللّه الكثيرة فيها على العباد «1».
ارتباطها بالسورة التي قبلها :
إن آخر سورة الحجر شديد الارتباط بأول هذه السورة ، فإن قوله تعالى في آخر السورة السابقة : فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ يدل على إثبات الحشر يوم القيامة وسؤالهم عما فعلوه في الدنيا ، وكذلك قوله تعالى : وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ يدل على ذكر الموت ، وكل من هاتين الآيتين ظاهر المناسبة لقوله هنا في أول السورة : أَتى أَمْرُ اللَّهِ إلا أنه في الحجر أتى بقوله :
يَأْتِيَكَ بلفظ المضارع ، وهنا أَتى بلفظ الماضي لأن المراد بالماضي هنا : أنه بمنزلة الآتي الواقع ، وإن كان منتظرا ، لقرب وقوعه وتحقق مجيئه.
وكذلك ترتبط هذه السورة بسورة إبراهيم لأنه تعالى ذكر هناك فتنة الميت ، وما يحصل عندها من الثبات أو الإضلال ، وذكر هنا الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [28 ، 32] وما يحصل عقب ذلك من النعيم أو العذاب. وذكر أيضا النعيم في سورة إبراهيم ، وقال بعده : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [34] وكررت الآية نفسها هنا [18] وذكر هنا أنواع النّعم المختلفة.
ما اشتملت عليه السورة :
تضمنت هذه السورة الكلام على أصول العقيدة وهي الألوهية والوحدانية ، والبعث والحشر والنشور ، فبدأت بإثبات الحشر والبعث واقتراب الساعة ودنوها ، معبرا تعالى بصيغة الماضي الدال على التحقق والوقوع قطعا ، مثل قوله تعالى : اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء 21/ 1] وقوله : اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر 54/ 1] وكل ذلك يدل على أن إخبار اللّه تعالى في الماضي والمستقبل سواء لأنه آت لا محالة.
ثم أثبتت الوحي الذي كان ينكره المشركون كما أنكروا البعث ، وأنهم كانوا يستعجلون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم العذاب الذي هددهم به.
ثم تحدثت السورة عن أدلة القدرة الإلهية في هذا الكون الدالة على وحدانية اللّه من خلق السموات والأرض ، وما فيهما من كواكب ونجوم ، وجبال وبحار ، وسهول ووديان ، ومياه وأنهار ، ونباتات وحيوانات ، وأسماك ولآلئ بحرية وبواخر تجري في البحر ، ورياح لواقح ومسيرة للفلك ، ودعت إلى(1/647)
التأمل في منافع المطر والأنعام وثمرات النخيل والأعناب ، ومهمة النحل ، وخلق الإنسان ثم إماتته ، والمفاضلة بين الناس في الرزق ، وطيران الطيور ، وتهيئة المساكن ، وغير ذلك.
وأوضحت السورة نعم اللّه تعالى الكثيرة المتتابعة ، وذكّرت الناس بنتيجة الكفر بها ، وعدم القيام بشكرها ، وإعداد أبواب جهنم للكفار خالدين فيها ، وإعداد جنات عدن للمتقين الذين أحسنوا العمل في الدنيا. وأبانت فضل اللّه سبحانه بإرسال الرسل في كل الأمم ، وحصرت مهمتهم الموحدة بالأمر بعبادة اللّه واجتناب الطاغوت.
وأبانت السورة مهمة خطيرة للأنبياء في عالم القيامة وهي الشهادة على الأمم بإبلاغهم الدعوة الحقة إلى دين اللّه ، وعدم الإذن للكافرين في الكلام ، ورفض قبول أعذارهم.
ثم ذكر تعالى أجمع آية في القرآن وهي قوله : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ .. [90] وأعقبها بالأمر بالوفاء بالعهود والوعود ، وتحريم نقضها ، وتعظيم شروطها وبنودها ، وعدم اتخاذ الأيمان الداخلة في العهود والمواثيق وسيلة للخداع والمكر.
ثم أمر اللّه تعالى بالاستعاذة من الشيطان الرجيم عند تلاوة القرآن ، والتصريح بانعدام سلطانه وتأثيره على المؤمنين المتقين المتوكلين على ربهم ، وبيان أن سلطانه على المشركين.
وأوضح سبحانه أن هذا القرآن نزل به روح القدس على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهو كلام اللّه ، لا كلام بشر عربي أو أعجمي.
وفي السورةضرب الأمثال لإثبات التوحيد ودحض الشرك والأنداد من دون اللّه والكفر بأنعم اللّه ، ورفع الحرج عمن نطق بالكفر كرها ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، وإعطاء كل نفس حق الدفاع عن نفسها يوم القيامة ، وجزاء كل إنسان بما عمل.
وفي أواخر السورة عقب الحديث عن الأنعام بيان ما حرمه اللّه منها ، وزجر العلماء عن الإفتاء بالتحريم أو بالتحليل دون دليل ، ومقارنة ذلك بما حرمه تعالى على اليهود بسبب ظلمهم.
ثم ختمت السورة بمدح إبراهيم بسبب ثباته على التوحيد الخالص ، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باتباع ملته ، ثم أمره بالدعوة إلى اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وقصره العقاب على المثل دون تجاوز ذلك ، والأمر بالصبر على المصائب والأحزان ، والاعتماد على عون اللّه للمتقين المحسنين. (1)
وتسمى سورة النعم لما عدد اللّه فيها من النعم ، وهي مكية على الصحيح ، ويدور الكلام فيها حول ذكر النعم وبيان مظاهر القدرة ، ونقاش المشركين في عقائدهم مع التعرض ليوم القيامة وما فيه ، وقد
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (14 / 79)(1/648)
ذكر في آخر السورة السابقة المستهزئين المكذبين وذكر الموت ، وقال : لنسألنهم أجمعين ، كل ذلك يتناسب مع أول السورة هنا ، وعدد آياتها ثمان وعشرون ومائة آية. (1)
هذه السورة مكية سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة منصرف رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من أحد.وآيها ثمان وعشرون ومائة.
ووجه ارتباطها بما قبلها أنه لما قال فى السورة السالفة : « فو ربّك لنسألنهم أجمعين » كان ذلك تنبيها إلى حشرهم يوم القيامة وسؤالهم عما فعلوه فى الدنيا ، فقيل : « أتى أمر اللّه » وأيضا فإن قوله فى آخرها : « واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين » شديد الالتئام بقوله أتى أمر اللّه. (2)
سورة النحل من السور المكية التي تعالج موضوعات العقيدة الكبرى (الألوهية ، والوحي ، والبعث والنشور) وإلى جانب ذلك تتحدث عن دلائل القدرة والوحدانية ، في ذلك العالم الفسيح ، في السموات والأرض ، والبحار والجبال ، والسهولِ والوديان ، والماء الهاطل ، والنبات النامي ، والفلك التي تجري في البحر ، والنجوم التي يهتدي بها السالكون في ظلمات الليل ، إلى آخر تلك المشاهد التي يراها الإنسان في حياته ، ويدركها بسمعه وبصره ، وهي صور حية مشاهدة ، دالة على وحدانية الله جل وعلا ، وناطقة بأثار قدرته التي أبدع بها جل جلاله الكائنات .
* تناولت السورة الكريمة في البدء أمر الوحي " الذي كان مجال إنكار المشركين واستهزائهم ، فقد كذبوا بالوحي واستبعدوا قيام الساعة ، واستعجلوا الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) أن يأتيهم بالعذاب الذي خوفهم به ، وكلما تأخر العذاب زادوا استعجالا وسخرية ، وزادوا استهزاء واستهتاراً .
* ولقد هدفت السورة الكريمة إلى تقرير مبدأ (وحدانية الله ) جل وعلا بلفت الأنظار إلى قدرة الله الواحد القهار ، فخاطبت كل حاسةٍ في الإنسان ، وكل جارحةٍ في كيانه البشري ، ليتجه بعقله إلى ربه ، ويستنير بما يرى من آثار صنع الله على عظمة الله سبحانه وتعالى.
* ثم تتابعت السورة الكريمةُ تذكر الناس بنتيجة الكفر بنعم الله ، وعدم القيام بشكرها ، وتحذرهم تلك العاقبة الوخيمة التي يئول إليها مصيرُ كل معاند وجاحد .
* وختمت السورة الكريمة بأمر الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، والصبر والعفو عما يلقاه من الأذى في سبيل تبليغ دعوة الله ، فله عند الله الجزاء الأوفى. التسميه : سميت هذه
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (2 / 296)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (14 / 51)(1/649)
السورة الكريمة بسورة النحل " لاشتمالها على تلك العبرة التي تشير إلى عجيب صنع الخالق ، وتدل على الألوهية بهذا الصنع العجيب (1)
مقصودها الدلالة على أنه تعالى تام القدرة والعلم ، فاعل بالاختيار ، منزه عن شوائب النقص ، وادل ما فيها علىهذا المعنى أم النحل لما ذكر من شأنها من دقة الفهمة في ترتيب بيوتها ورعيها وسائر أمرها من اختلاف ألوان ما يخرح منها من أعسالها ، وجعله شفاء مع أكلها من الثمار النافعة والضارة - وغير ذلك من الأمور ، ووسمها بالنعم واضح في ذلك - والله أعلم . (2)
هذه السورة هادئة الإيقاع ، عادية الجرس ولكنها مليئة حافلة. موضوعاتها الرئيسية كثيرة منوعة والإطار الذي تعرض فيه واسع شامل والأوتار التي توقع عليها متعددة مؤثرة ، والظلال التي تلونها عميقة الخطوط.
وهي كسائر السور المكية تعالج موضوعات العقيدة الكبرى : الألوهية. والوحي. والبعث. ولكنها تلم بموضوعات جانبية أخرى تتعلق بتلك الموضوعات الرئيسية. تلم بحقيقة الوحدانية الكبرى التي تصل بين دين إبراهيم - عليه السلام - ودين محمد - صلى الله عليه وسلم - وتلم بحقيقة الإرادة الإلهية والإرادة البشرية فيما يختص بالإيمان والكفر والهدى والضلال. وتلم بوظيفة الرسل ، وسنة اللّه في المكذبين لهم. وتلم بموضوع التحليل والتحريم وأوهام الوثنية حول هذا الموضوع. وتلم بالهجرة في سبيل اللّه ، وفتنة المسلمين في دينهم ، والكفر بعد الإيمان وجزاء هذا كله عند اللّه .. ثم تضيف إلى موضوعات العقيدة موضوعات المعاملة : العدل والإحسان والإنفاق والوفاء بالعهد ، وغيرها من موضوعات السلوك القائم على العقيدة ..
وهكذا هي مليئة حافلة من ناحية الموضوعات التي تعالجها.
فأما الإطار الذي تعرض فيه هذه الموضوعات ، والمجال الذي تجري فيه الأحداث ، فهو فسيح شامل ..
هو السماوات والأرض. والماء الهاطل والشجر النامي. والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم. والبحار والجبال والمعالم والسبل والأنهار. وهو الدنيا بأحداثها ومصائرها ، والأخرى بأقدارها ومشاهدها. وهو الغيب بألوانه وأعماقه في الأنفس والآفاق.
في هذا المجال الفسيح يبدو سياق السورة وكأنه حملة ضخمة للتوجيه والتأثير واستجاشة العقل والضمير.
حملة هادئة الإيقاع ، ولكنها متعددة الأوتار. ليست في جلجلة الأنعام والرعد ، ولكنها في هدوئها تخاطب كل حاسة وكل جارحة في الكيان البشري ، وتتجه إلى العقل الواعي كما تتجه إلى الوجدان
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (2 / 102)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (4 / 243)(1/650)
الحساس. إنها تخاطب العين لترى ، والأذن لتسمع ، واللمس ليستشعر ، والوجدان ليتأثر ، والعقل ليتدبر. وتحشد الكون كله : سماءه وأرضه ، وشمسه وقمره ، وليله ونهاره ، وجباله وبحاره وفجاجه وأنهاره وظلاله وأكنانه نبته وثماره ، وحيوانه وطيوره. كما تحشد دنياه وآخرته ، وأسراره وغيوبه .. كلها أدوات توقع بها على أوتار الحواس والجوارح والعقول والقلوب ، مختلف الإيقاعات التي لا يصمد لها فلا يتأثر بها إلا العقل المغلق والقلب الميت ، والحس المطموس.
هذه الإيقاعات تتناول التوجيه إلى آيات اللّه في الكون ، وآلائه على الناس كما تتناول مشاهد القيامة ، وصور الاحتضار ، ومصارع الغابرين تصاحبها اللمسات الوجدانية التي تتدسس إلى أسرار الأنفس ، وإلى أحوال البشر وهم أجنة في البطون ، وهم في الشباب والهرم والشيخوخة ، وهم في حالات الضعف والقوة ، وهم في أحوال النعمة والنقمة. كذلك يتخذ الأمثال والمشاهد والحوار والقصص الخفيف أدوات للعرض والإيضاح.
فأما الظلال العميقة التي تلون جو السورة كله فهي الآيات الكونية تتجلى فيها عظمة الخلق ، وعظمة النعمة ، وعظمة العلم والتدبير .. كلها متداخلة .. فهذا الخلق الهائل العظيم المدبر عن علم وتقدير ، ملحوظ فيه أن يكون نعمة على البشر ، لا تلبي ضروراتهم وحدها ، ولكن تلبي أشواقهم كذلك ، فتسد الضرورة. وتتخذ للزينة ، وترتاح بها أبدانهم وتستروح لها نفوسهم ، لعلهم يشكرون ..
ومن ثم تتراءى في السورة ظلال النعمة وظلال الشكر ، والتوجيهات إليها ، والتعقيب بها في مقاطع السورة ، وتضرب عليها الأمثال ، وتعرض لها النماذج ، وأظهرها نموذج إبراهيم «شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».
كل أولئك في تناسق ملحوظ بين الصور والظلال والعبارات والإيقاعات ، والقضايا والموضوعات .. (1)
مجمل ما حوته السورة الكريمة من الآداب والأحكام
(1) استعجال المشركين للساعة.
(2) ذكر الأدلة على التوحيد بخلق العالم العلوي والسفلى وخلق الإنسان.
(3) الامتنان على عباده بخلق الأنعام وما فيها من المنافع من أكل وحمل أثقال إلى البلاد البعيدة.
(4) النعي على المشركين فى عبادة الأصنام والأوثان.
(5) إنذار المشركين بأن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المثلات وبما آتاهم من العذاب من حيث لا يشعرون.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2158)(1/651)
(6) احتجاج المشركين بعدم الحاجة إلى إرسال الرسل بأن ما هم فيه من كفر وضلال مقدر مكتوب عليهم ، فلا فائدة فى إرسالهم ، وقد ردّ اللّه عليهم بأن وظيفة الرسل البلاغ والإنذار لا خلق الهداية والإيمان.
(7) إجمال دعوة الأنبياء بأنها عبادة اللّه واجتناب الطاغوت ، ومن الناس من استجاب لدعوتهم ومنهم من حقت عليه الضلالة.
(8) إنكار المشركين للبعث والنشور وحلفهم على ذلك ، وتكذيب اللّه لهم فيما يقولون.
(9) إنكارهم بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه رجل لا ملك ، فكذبهم اللّه بأن الأنبياء جميعا كانوا رجالا لا ملائكة.
(10) إنذار المشركين بعذاب الخسف.
(11) جعلهم الملائكة بنات مع حزنهم إذا بشر أحدهم بالأنثى.
(12) رحمة اللّه بعباده وعدم مؤاخذتهم بذنوبهم ، وأنه لو آخذهم ما ترك على ظهر الأرض دابة.
(13) ذكر نعمه على عباده بإنزال اللبن من بين الفرث والدم ، وأخذ الثمرات من النخيل والأعناب والعسل من النحل.
(14) تفاضل الناس فى الأعمار والأرزاق.
(15) ضرب الأمثال لدحض الشركاء والأنداد من دون اللّه.
(16) الامتنان على عباده بخلق السمع والبصر وتسخير الطير فى جو السماء وجعل البيوت سكنا ، وجعله لنا سرابيل تقى الحر وسرابيل تقى بأس العدو.
(17) جعل الأنبياء شهداء على أممهم وعدم الإذن للكافرين فى الكلام وعدم قبول معذرتهم.
(18) الأمر بالعدل والإحسان وصلة الأرحام ، والنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، والأمر بالوفاء بالعهود والوعود وضرب الأمثال لذلك.
(19) الأمر بالاستعاذة من الشيطان وبيان أن سلطانه على المشركين.
(20) تكذيبهم للرسول إذا جاءهم بحكم لم يكن فى شريعة من قبله من الأنبياء وادعاؤهم بأن هذا القرآن إنما هو تعليم من عبد رومى ورد اللّه عليهم ذلك.
(21) إنه لا ضير على من كفر باللّه وقلبه مطمئن بالإيمان دون من شرح بالكفر صدرا.
(22) دفاع كل نفس عن نفسها يوم القيامة وجزاء كل نفس بما عملت.
(23) ذكر ما حرمه اللّه من المطاعم والنهى عن تقوّلهم على اللّه بغير علم.
(24) ذكر ما حرمه على اليهود بسبب ظلمهم.(1/652)
(25) مدح إبراهيم عليه السلام ووصفه بصفات لم يوصف بها نبى غيره ، ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باتباعه وسلوك طريقته فى العقاب والصبر على الأذى. (1)
===============
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (14 / 164)(1/653)
(17) سورة الإسراء
سميت في كثير من المصاحف سورة الإسراء. وصرح الآلوسي بأنها سميت بذلك، إذ قد ذكر في أولها الإسراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واختصت بذكره.
وتسمى في عهد الصحابة سورة بني إسرائيل. ففي جامع الترمذي في أبواب الدعاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل".
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم:"إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي". وبذلك ترجم لها البخاري في كتاب التفسير ، والترمذي في أبواب التفسير. ووجه ذلك أنها ذكر فيها من أحوال بني إسرائيل ما لم يذكر في غيرها. وهو استيلاء قوم أولى بأس الآشوريين عليهم ثم استيلاء قوم آخرين وهم الروم عليهم.
وتسمى أيضا سورة"سبحان"، لأنها افتتحت بهذه الكلمة. قاله في بصائر ذوي التمييز .
وهي مكية عند الجمهور. قيل: إلا آيتين منها، وهما {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} إلى قوله: {قَلِيلاً} [الإسراء:73]. وقيل: إلا أربعا، هاتين الآيتين، وقوله: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء:60]، وقوله: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْق} [الإسراء:80]. وقيل: إلا خمسا، هاته الأربع، وقوله :{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِه} [الإسراء:107]إلى آخر السورة. وقيل: إلا خمس آيات غير ما تقدم، وهي المبتدأة بقوله :{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} الآية [الإسراء:33]، وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} الآية [الإسراء:32]، وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} الآية [الإسراء:57]، وقوله: {أَقِمِ الصَّلاة} الآيةَ[الإسراء:78]، وقوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّه} الآيةُ[الإسراء: 26]. وقيل إلا ثمانيا من قوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} إلى قوله: {سُلْطَاناً نَصِيراً} [الإسراء:73ـ80].
وأحسب أن منشأ هاته الأقوال أن ظاهر الأحكام التي اشتملت عليها تلك الأقوال يقتضي أن تلك الآي لا تناسب حالة المسلمين فيما قبل الهجرة فغلبت على ظن أصحاب تلك الأقوال مدنية. وسيأتي بيان أن ذلك غير متجه عند التعرض لتفسيرها.
ويظهر أنها نزلت في زمن فيه جماعة المسلمين بمكة، وأخذ التشريع المتعلق بمعاملات جماعتهم يتطرق إلى نفوسهم، فقد ذكرت فيها أحكام متتالية لم تذكر أمثال عددها في سورة مكية غيرها عدا سورة الأنعام، وذلك من قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إلى قوله : {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء:23ـ38].(1/654)
وقد اختلف في وقت الإسراء. والأصح أنه كان قبل الهجرة بنحو سنة وخمسة أشهر، فإذا كانت قد نزلت عقب وقوع الإسراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - تكون قد نزلت في حدود سنة اثنتي عشرة بعد البعثة، وهي سنة اثنتين قبل الهجرة في منتصف السنة.
وليس افتتاحها بذكر الإسراء مقتضيا أنها نزلت عقب وقوع الإسراء. بل يجوز أنها نزلت بعد الإسراء بمدة.
وذكر فيها الإسراء إلى المسجد الأقصى تنويها بالمسجد الأقصى وتذكيرا بحرمته.
نزلت هذه السورة بعد سورة القصص وقبل سورة يونس.
وعدت السورة الخمسين في تعداد نزول سورة القرآن.
وعدد آيها مائة وعشر في عد أهل المدينة، ومكة، والشام، والبصرة. ومائة وإحدى عشرة في عد أهل الكوفة.
أغراضها
العماد الذي أقيمت عليه أغراض هذه السورة إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -
وإثبات أن القرآن وحي من الله.
وإثبات فضله وفضل من أنزل عليه.
وذكر أنه معجز.
ورد مطاعن المشركين فيه وفيمن جاء به، وأنهم لم يفقهوه فلذلك أعرضوا عنه .
وإبطال إحالتهم أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أسري به إلى المسجد الأقصى. فافتتحت بمعجزة الإسراء توطئة للتنظير بين شريعة الإسلام وشريعة موسى عليه السلام على عادة القرآن في ذكر المثل والنظائر الدينية، ورمزا إلهيا إلى أن الله أعطى محمدا - صلى الله عليه وسلم - من الفضائل أفضل مما أعطى من قبله.
وأنه أكمل له الفضائل فلم يفته منها فائت. فمن أجل ذلك أحله بالمكان المقدس الذي تداولته الرسل من قبل، فلم يستأثرهم بالحلول بذلك المكان هو مهبط الشريعة الموسوية، ورمز أطوار تاريخ بني إسرائيل وأسلافهم، والذي هو نظير المسجد الحرام في أن أصل تأسيسه في عهد إبراهيم كما سننبه عليه عند تفسير قوله تعالى :{ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1]، فأحل الله به محمدا عليه الصلاة والسلام بعد أن هجر وخرب إيماء إلى أن أمته تجدد مجده.
وأن الله مكنه من حرمي النبوة والشريعة، فالمسجد الأقصى لم يكن معمورا حين نزول هذه السورة وإنما عمرت كنائس حوله، وأن بني إسرائيل لم يحفظوا حرمة المسجد الأقصى، فكان إفسادهم سببا في تسلط(1/655)
أعدائهم عليهم وخراب المسجد الأقصى. وفي ذلك رمز إلى أن إعادة المسجد الأقصى ستكون على يد أمة هذا الرسول الذي أنكروا رسالته.
ثم إثبات دلائل تفرد الله بالإلهية، والاستدلال بآية الليل والنهار وما فيهما من المنن على إثبات الوحدانية.
والتذكير بالنعم التي سخرها الله للناس، وما فيها من الدلائل على تفرده بتدبير الخلق، وما تقتضيه من شكر المنعم وترك شكر غيره، وتنزيهه عن اتخاذ بنات له.
وإظهار فضائل من شريعة الإسلام وحكمته، وما علمه الله المسلمين من آداب المعاملة نحو ربهم سبحانه، ومعاملة بعضهم مع بعض، والحكمة في سيرتهم وأقوالهم، ومراقبة الله في ظاهرهم وباطنهم.
وعن ابن عباس أنه قال:"التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل". وفي رواية عنه:"ثمان عشرة آية منها كانت في ألواح موسى" أي من قوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} إلى قوله: { وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراًْ} [الإسراء:22ـ39].
ويعني بالتوراة الألواح المشتملة على الوصايا العشر، وليس مراده أن القرآن حكى ما في التوراة ولكنها أحكام قرآنية موافقة لما في التوراة.
على أن كلام ابن عباس معناه: أن ما في الألواح مذكور في تلك الآي، ولا يريد أنهما سواء، لأن تلك الآيات تزيد بأحكام، منها قوله: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} إلى قوله: {لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء: 25ـ27)، وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31]، وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} إلى قوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [الإسراء:34ـ39]، مع ما تخلل ذلك كله من تفصيل وتبيين عريت عنه الوصايا العشر التي كتبت في الألواح.
وإثبات البعث والجزاء.
والحث على إقامة الصلوات في أوقاتها.
والتحذير من نزغ الشيطان وعداوته لآدم وذريته، وقصة إبايته من السجود.
والإنذار بعذاب الآخرة.
وذكر ما عرض للأمم من أسباب الاستئصال والهلاك.
وتهديد المشركين بأن الله يوشك أن ينصر الإسلام على باطلهم.
وما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين واستعانتهم باليهود. واقتراحهم الآيات، وتحميقهم في جهلهم بآية القرآن وأنه الحق.(1/656)
وتخلل ذلك من المستطردات والنذر والعظات ما فيه شفاء ورحمة، ومن الأمثال ما هو علم وحكمة. (1)
الرأى على أنها سميت الإسراء .. لأنها بدأت بالإسراء ، ولأن الإسراء أعظم حدث فى حياة النبىّ ، بل وفى حياة البشرية كلها .. فلم يقع هذا الحدث فى الحياة البشرية ، إلا تلك المرّة .. فكان بذلك أعظم معلم من معالم تلك السورة ، وحقّ له أن يكون وحده دون غيره ، عنوانا لها.
هذا ، و« البيضاوي » فى تفسيره ، يسمّى هذه السورة سورة : « أسرى » جاعلا فعل الإسراء « أسرى » ، هو العنوان للسورة ، دون تغيير فيه ..
ومن أعجب الأعاجيب هنا ، أن نجد لهذه السورة اسما ، يجعله المفسّرون من بعض أسمائها ، على ما جرت به عادتهم من تكثير الآراء وحشدها ،للأمر الواحد .. فجعلوا من أسماء هذه السورة ، اسم : « بنى إسرائيل »..
وواضح أن هذا الاسم دخيل منتحل ، تسلّل إلى المفسّرين وأصحاب السّير ، فيما تسلّل من الإسرائيليات ، التي دسّها اليهود على هؤلاء العلماء ، فقبلوها منهم بحسن نيّة ..
ولو كان لبنى إسرائيل أن تكون لهم سورة باسمهم فى القرآن الكريم ، لكانت سورة البقرة ـ مثلا ـ أولى من الإسراء فى هذا المقام ، إذ كانت البقرة تحوى من أخبار بنى إسرائيل ، أكثر مما تحويه سورة الإسراء ، ومع هذا فقد أخذت السورة اسم البقرة ، وهى بقرة بنى إسرائيل ، ولم تأخذ اسمهم! الأمر الذي يحمل على القول بأنه مستبعد أصلا أن يكون لبنى إسرائيل سورة باسمهم فى كتاب اللّه ، وإن كان لأبى لهب سورة باسمه! ومن جهة أخرى ، فإنا نرى سورا فى القرآن ، فيها حديث مستفيض عن بنى إسرائيل ، كسورة الأعراف ، وسورة طه ، مثلا ، ومع هذا فلم تسمّ أىّ منهما سورة بنى إسرائيل!! فلما ذا كانت سورة « الإسراء » بالذات ، هى التي يدخل عليها هذا الاسم ، وينازعها شرف هذه التسمية التي سميت بها تلك السورة ؟
إننا نشمّ هنا ريح « اليهود » ونجد بصمات أصابعهم المتلصصة ، التي تريد أن يكون حديث « الإسراء » حديثا خافتا ، لا بذكر إلا عند تلاوة الآية ، دون أن يجرى له ذكر عند الحديث عن سور القرآن الكريم ، كلما ذكرت آية من آيات هذه السورة ، ونسبت إليها الآية .. وذكر السورة فى القرآن الكريم يحرى عادة أكثر من ذكر أي آية من آياتها.
هذه واحدة ، من فعلات اليهود فى حديث الإسراء!
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (14 / 5)(1/657)
وأكثر من هذا كيدا ، ومكرا ، ما أدخلوه على حديث الإسراء ذاته من زور الأحاديث ، التي أخذها عنهم بعض العلماء ، عن غفلة ، ونيّة حسنة ، باعتبار أن هذه الأحاديث المبالغ فيها تعالى من قدر النبىّ ، وترفع من شأنه .. وما دروا أن تلك المفتريات إذ تجتمع مع الحقّ ، تبعث حوله الشك والاتهام ، الأمر الذي يذهب بجلال الحقيقة وروعتها ، وإنما مردّ ذلك الجلال ، وتلك الروعة ، إلى قربها من الطبيعة البشرية ، ومداناتها للواقع المألوف .. وحسبنا شاهدا لهذا ، القرآن الكريم ، فى إعجازه الذي قصرت عن مداناته أيدى الإنس والجن ، ومع هذا ، فهو من كلام لم يخرج عن مألوف اللسان العربىّ ، ولم يجاوز حدود اللغة العربية! وسنرى فى حديث الإسراء ، ما دخل على هذا الحديث من دسّ اليهود وكيدهم ، الأمر الذي ألقى شبها كثيرة عند من يستمعون إلى هذا الحديث وما اختلط به ، فلا يدرى المؤمن ماذا يأخذ من هذه الأحاديث وماذا يدع ، فلو أنه أخذها جملة لما اطمأن إليها قلبه ، ولما سكن إليها عقله ، ولو أخذ بعضا وترك بعضا ، لفقد الثقة فيما أخذ أو ترك .. جميعا!!
[مناسبتها للسورة التي قبلها]
ختمت سورة النحل ، التي قبل هذه السورة بقوله تعالى : « وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ».
وهذا الختام يحدّث عما كان يعانيه الرسول الكريم من ضيق ، وما يجده فى نفسه من مشاعر الحزن والألم ، لما يلقى من قومه وأهله من كيد ، وما يرى فيهم من عناد وإصرار على الكفر والضلال .. فناسب ذلك أن يذكر معه ، ما كان من فضل اللّه على النبي الكريم ، بهذه الرحلة المباركة التي رأى فيها النبىّ الكريم ما رأى من آيات ربّه ، فوجد فى هذا ، الروح لنفسه ، والانشراح لصدره ، والعزاء الجميل من مصابه فى أهله ..
ولعلّ فيما حدّث به ختام سورة النّحل ما يكشف عن بعض حكمة الإسراء ، وأنه ـ كما سنرى ـ كان استضافة للنبىّ الكريم فى رحاب الملأ الأعلى ، ليستشفى مما نزل به من ضيق ، وما ألمّ به من ألم ، فى هذا الصراع الذي كان محتدما بينه وبين قومه ، حتى لقد كانت تتنزّل عليه آيات اللّه تدعوه إلى أن يرفق بنفسه ، وأن يتخفف من مشاعر الحزن على أهله ، ألا يكونوا مؤمنين. وفى هذا يقول سبحانه « فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ » (8 : فاطر) ويقول جلّ شأنه :« أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ » (99 : يونس) ويقول سبحانه :« إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ » (56 : القصص) ..
ويجتمع هذا كله فى قوله تعالى فى آخر سورة النحل : « وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ »..(1/658)
فناسب هذا الختام للسورة أن تجىء بعدها سورة الإسراء ، وما كشف اللّه لنبيه فى هذه الرحلة المباركة من جلال ملكوته ، وما أراه من أسرار علمه وحكمته! (1)
تعريف بسورة الإسراء
1 - سورة الإسراء هي السورة السابعة عشرة في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها سورة :
الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء .... إلخ.
أما ترتيبها في النزول ، فقد ذكر السيوطي في الإتقان أنها السورة التاسعة والأربعون ، وأن نزولها كان بعد سورة القصص .
2 - وتسمى - أيضا - بسورة بنى إسرائيل ، وبسورة « سبحان » ، وعدد آياتها عند الجمهور إحدى عشرة آية ومائة ، وعند الكوفيين عشر آيات ومائة آية.
3 - ومن الأحاديث التي وردت في فضلها ، ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود - رضى اللّه عنه - أنه قال في بنى إسرائيل ، والكهف ومريم : إنهن من العتاق الأول ، وهنّ من تلادى
والعتاق : جمع عتيق وهو القديم ، وكذلك التالد بمعنى القديم. ومراده - رضى اللّه عنه - أن هذه السور من أول ما حفظه من القرآن.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا حماد بن زيد ، عن مروان عن أبى لبابة ، قال : سمعت عائشة - رضى اللّه عنها - تقول : كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يصوم حتى نقول :
ما يريد أن يفطر ، ويفطر حتى نقول : ما يريد أن يصوم ، وكان يقرأ كل ليلة : « بنى إسرائيل » و« الزمر » .
4 - ومن وجوه مناسبة هذه السورة لما قبلها ، ما ذكره أبو حيان بقوله : « ومناسبة هذه لما قبلها ، أنه - تعالى - لما أمره - في آخر النحل - بالصبر ، ونهاه عن الحزن عليهم ، وعن أن يضيق صدره من مكرهم ، وكان من مكرهم نسبته إلى الكذب والسحر والشعر ، وغير ذلك مما رموه به ، أعقب - تعالى - ذلك بذكر شرفه ، وفضله ، واحتفائه به ، وعلو منزلته عنده » .
5 - وسورة الإسراء من السور المكية ، ومن المفسرين الذين صرحوا بذلك دون أن يذكروا خلافا في كونها مكية. الزمخشري ، وابن كثير ، والبيضاوي ، وأبو حيان.
وقال الآلوسى : وكونها كذلك بتمامها قول الجمهور.
وقيل : هي مكية إلا آيتين : وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ... وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (8 / 405)(1/659)
وقيل : إلا أربعا ، هاتان الآيتان ، وقوله - تعالى - : وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ ....
وقوله - سبحانه - : وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ... .
والذي تطمئن إليه النفس أن سورة الإسراء بتمامها مكية - كما قال جمهور المفسرين - لأن الروايات التي ذكرت في كون بعض آياتها مدنية ، لا تنهض دليلا على ذلك لضعفها ...
والذي يغلب على الظن أن نزول هذه السورة الكريمة : أو نزول معظمها ، كان في أعقاب حادث الإسراء والمعراج.
وذلك لأن السورة تحدثت عن هذا الحدث ، كما تحدثت عن شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - حديثا مستفيضا ، وحكت إيذاء المشركين له ، وتطاولهم عليه ، وتعنتهم معه ، كمطالبتهم إياه بأن يفجر لهم من الأرض ينبوعا ...
وقد ردت السورة الكريمة على كل ذلك ، بما يسلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويثبته ، ويرفع منزلته ، ويعلى قدره ... في تلك الفترة الحرجة من حياته - صلى الله عليه وسلم - وهي الفترة التي أعقبت موت زوجه السيدة خديجة - رضى اللّه عنها - وموت عمه أبى طالب ...
6 - (أ) وعند ما نقرأ سورة الإسراء نراها في مطلعها تحدثنا عن إسراء اللّه - تعالى - بنبيه - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وعن الكتاب الذي آتاه اللّه - تعالى - لموسى - عليه السلام - ليكون هداية لقومه ، وعن قضاء اللّه في بنى إسرائيل ...
قال - تعالى - : سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ، لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ، أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا. ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً. وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً ..
(ب) ثم يبين - سبحانه - بعد ذلك أن هذا القرآن قد أنزله - سبحانه - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليهدى الناس إلى الطريق الأقوم ، وليبشر المؤمنين بالأجر الكبير ، وأن كل إنسان مسئول عن عمله ، وسيحاسب عليه يوم القيامة ، دون أن تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ...قال - تعالى - : إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ ، أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ....إلى أن يقول - سبحانه - : وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.(1/660)
(ج) ثم تسوق السورة الكريمة سنة من سنن اللّه في خلقه ، وهي أن عاقبة الترف والفسق ، الدمار والهلاك ، وأن من يريد العاجلة كانت نهايته إلى جهنم ، ومن يريد الآخرة ويقدم لها العمل الصالح كانت نهايته إلى الجنة.استمع إلى القرآن الكريم وهو يصور هذه المعاني بأسلوبه البليغ فيقول : وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها. فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً. وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ. وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً. مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً.
(د) وبعد أن بين - سبحانه - أن سعادة الآخرة منوطة بإرادتها ، وبأن يسعى الإنسان لها وهو مؤمن ، عقب ذلك بذكر بضع وعشرين نوعا من أنواع التكاليف ، التي متى نفذها المسلم ظفر برضى اللّه - تعالى - ومثوبته ، ومن تلك التكاليف قوله - تعالى - : لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.
وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ...
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ...
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ....
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا.
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ...
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ...
(ه) وبعد أن ساقت السورة الكريمة تلك التكاليف المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ أو النقض ، في ثماني عشرة آية ، أتبعت ذلك بالثناء على القرآن الكريم ، وبتنزيه اللّه - تعالى - عن الشريك ، وببيان أن كل شيء يسبح بحمده - عز وجل - قال - تعالى - : وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً. قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ ، إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً. تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً.
(و) ثم تحكى السورة الكريمة جانبا من أقوال المشركين ، وترد عليها بما يدحضها ، وتأمر المؤمنين بأن يقولوا الكلمة التي هي أحسن .. فتقول : وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً. قُلْ(1/661)
كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً. أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ، فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ ، قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً. يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ، وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا. وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً.
(ز) وبعد أن تقرر السورة الكريمة شمول علم اللّه - تعالى - لكل شيء ، وقدرته على كل شيء ، بعد أن تقرر ذلك ، تحكى لنا جانبا من قصة آدم وإبليس فتقول : .
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً. قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ، لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا. قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً.
(ح) ثم تسوق السورة بعد ذلك ألوانا من نعم اللّه على عباده في البر والبحر ، وألوانا من تكريمه لبنى آدم ، كما تصور أحوال الناس يوم القيامة ، وعدالة اللّه - تعالى - في حكمه عليهم فتقول : وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً. أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ ، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا ...ثم يقول - سبحانه - : وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ، وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا. يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ، فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ...
(ط) ثم تحكى السورة جانبا من نعم اللّه - تعالى - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - حيث ثبته - سبحانه - أمام مكر أعدائه ، وأمره بالمداومة على الصلاة وعلى قراءة القرآن ، لأن ذلك يزيده ثباتا على ثباته ، وتكريما على تكريمه.قال - تعالى - : وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ ، وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا. وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا.
(ى) ثم يقول - سبحانه - : أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً. وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً. وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ، وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً ..
(ك) وبعد أن تقرر السورة الكريمة طبيعة الإنسان ، وتقرر أن الروح من أمر اللّه - تعالى - تتبع ذلك بالثناء على القرآن الكريم ، وببيان أنه المعجزة الخالدة للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وبإيراد المطالب المتعنتة التي طالب المشركون بها النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/662)
استمع إلى القرآن الكريم وهو يقرر كل ذلك بأسلوبه البليغ فيقول : قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً. وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً. وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً ، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ، قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا.
(ل) ثم تسوق السورة الكريمة في أواخرها الدلائل الدالة على وحدانية اللّه - تعالى - وقدرته ، وتحكى جانبا من قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وتؤكد أن هذا القرآن أنزله اللّه - تعالى - بالحق ، وبالحق نزل ، وأنه نزله مفرقا ليقرأه الناس على تؤدة وتدبر.
وكما افتتحت السورة الكريمة بالثناء على اللّه - تعالى - ، فقد اختتمت بحمد اللّه - تعالى - وتكبيره. قال - تعالى - :
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً.
(م) وبعد فهذا عرض إجمالى لأهم الموضوعات والمقاصد التي اشتملت عليها سورة الإسراء. ومن هذا العرض يتبين لنا ما يلى : .
1 - أن سورة الإسراء - كغيرها من السور المكية - قد اهتمت اهتماما بارزا بتنقية العقيدة من كل ما يشوبها من شرك أو انحراف عن الطريق المستقيم.
وقد ساقت السورة في هذا المجال أنواعا متعددة من البراهين على وحدانية اللّه - تعالى - وعلمه وقدرته ، ووجوب إخلاص العبادة له ، وعلى تنزيهه - سبحانه - عن الشريك ، ومن ذلك قوله - تعالى - : أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً. وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً. قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ ، إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً.
2 - كذلك على رأس الموضوعات التي فصلت السورة الحديث عنها ، شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد ابتدأت بإسراء اللّه - تعالى - به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، حيث أراه - سبحانه - من آياته ما أراه ، ثم تحدثت عن طبيعة رسالته ، وعن مزاياها ، وعن موقف المشركين منه ، وعن المطالب المتعنتة التي طلبوها منه ، وعن تثبيت اللّه - تعالى - له ، وعن تبشيره بحسن العاقبة ...
قال - تعالى - : وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً.(1/663)
3 - من الواضح - أيضا - أن سورة الإسراء اعتنت بالحديث عن القرآن الكريم ، من حيث هدايته ، وإعجازه ، ومنع الذين لا يؤمنون به عن فقهه ، واشتماله على ما يشفى الصدور ، وتكراره للبينات والعبر بأساليب مختلفة ، ونزوله مفرقا ليقرأه الناس على مكث ..
ومن الآيات التي وردت في ذلك قوله - تعالى - : إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ....
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً ...
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ...
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ، وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا ...
4 - اهتمت السورة الكريمة اهتماما بينا ، بالحديث عن التكاليف الشرعية ، المتضمنة لقواعد السلوك الفردى والجماعى.
وقد ذكرت السورة أكثر من عشرين تكليفا ، في آيات متتالية ، بدأت بقوله - تعالى - :
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا الآية 22 وانتهت بقوله - تعالى - :
كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً الآية 38.
وبجانب حديثها المستفيض عن التكاليف الشرعية ، تحدثت - أيضا - عن طبيعة الإنسان في حالتي العسر واليسر ، وعن بخله الشديد بما يملكه ...
قال - تعالى - : وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ ، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً.
وقال - سبحانه - : قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي ، إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً.
5 - ومن الجوانب التي حرصت السورة الكريمة على تجليتها والكشف عنها : بيان سنن اللّه التي لا تتخلف في الهداية والإضلال ، وفي الثواب والعقاب ، وفي النصر والخذلان ، وفي الرحمة والإهلاك ، ومن ذلك قوله - تعالى - : مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
.
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا.
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ....(1/664)
هذه بعض المقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها سورة الإسراء ، وهناك مقاصد أخرى يراها المتأمل فيها ، والمتدبر لآياتها ، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق. (1)
في السورة إشارة إلى حادث الإسراء النبوي ، ومجموعة من الوصايا والأوامر والنواهي والحكم الدينية والأخلاقية والاجتماعية ، وفيها استطرادات إلى أحداث بني إسرائيل التاريخية وإلى قصة آدم وإبليس وقصة موسى وفرعون في معرض التمثيل والموعظة ، وفيها حكاية لمواقف الكفار وعقائدهم وأقوالهم وتعجيزاتهم ومناقشتهم فيها وتسفيههم ، وإشارة إلى محاولات الكفار لزحزحة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بعض ما يدعو إليه ومساومته ، وإلى بعض أزماته ، وتسليته من جهة ، ومعاتبته من جهة ثانية ، وحكاية لموقف بعض علماء الكتابيين وإيمانهم بالقرآن ، وإشادة بالقرآن في مواضع عديدة ، وتنويه بما فيه من حق وهدى وروحانية وشفاء وإعجاز ، وفصولها مترابطة وآياتها متوازنة ومتساوقة مما يمكن أن يلهم أن فصولها نزلت متلاحقة إلى أن تمت.
وقد روي أن الآيات [26 و32 و33 و57 و73 - 80] مدنيات وليست الروايات وثيقة السند من جهة وسياق الآيات ومضامينها وتوازنها وانسجامها مع ما سبقها ولحق بها يسوغ الشك في الرواية ويرجّح مكية الآيات ، وللسورة اسم آخر هو بني إسرائيل لأن فيها فصلا عنهم. (2)
سورة الإسراء مكية ، وهي مائة وإحدى عشرة آية.
تسميتها :
سميت سورة الإسراء لافتتاحها بمعجزة الإسراء للنبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة ليلا ، كما سميت أيضا سورة بني إسرائيل ، لإيرادها قصة تشردهم في الأرض مرتين بسبب فسادهم : وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ [4 - 8].
فضلها :
أخرج أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن عائشة رضي اللّه عنها : «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزّمر».
وأخرج البخاري وابن مردويه عن ابن مسعود «أنه قال في بني إسرائيل - أي هذه السورة - والكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء : هن من العتاق الأوّل ، وهن من تلادي»
أي فهي مشتركة في قدم النزول ، وكونها مكيات ، واشتمالها على القصص.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (8 / 273)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (3 / 351)(1/665)
مناسبتها لما قبلها :
يظهر وجه ارتباطها بسورة النحل من عدة نواح :
1 - إنه تعالى بعد أن قال في آخر سورة النحل : إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ
فسّر في هذه السورة شريعة أهل السبت وشأنهم ، وذكر جميع ما شرعه لهم في التوراة ،
فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال : «إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل».
2 - بعد أن أمر اللّه نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على أذى المشركين في ختام سورة النحل بنسبته إلى الكذب والسحر والشعر ، سلّاه هنا ، وأبان شرفه وسمو منزلته عند ربه بالإسراء ، وافتتح السورة بذكره تشريفا له ، وتعظيما للمسجد الأقصى الذي أشير إلى قصة تخريبه.
3 - في السورتين بيان نعم اللّه الكثيرة على الإنسان ، حتى سميت سورة النحل «سورة النعم» وفصلت هنا أنواع النعم العامة والخاصة ، كما في الآيات [9 - 12] و[70].
4 - في سورة النحل أبان تعالى أن القرآن العظيم من عنده ، لا من عند بشر ، وفي هذه السورة ذكر الهدف الجوهري من ذلك القرآن.
5 - في سورة النحل ذكر تعالى قواعد الاستفادة من المخلوقات الأرضية ، وفي هذه السورة ذكر قواعد الحياة الاجتماعية من بر الأبوين ، وإيتاء ذوي القربى والمساكين وأبناء السبيل حقوقهم من غير تقتير ولا إسراف ، وتحريم القتل والزنى وأكل مال اليتيم ، وإيفاء الكيل والميزان بالقسط ، وإبطال التقليد من غير علم.
ما اشتملت عليه السورة :
1 - تضمنت السورة الإخبار عن حدث عظيم ومعجزة لخاتم الأنبياء والمرسلين وهي معجزة الإسراء من مكة إلى المسجد الأقصى في جزء من الليل ، والتي هي دليل باهر على قدرة اللّه عز وجل ، وتكريم إلهي لهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - .
2 - وأخبرت عن قصة بني إسرائيل في حالي الصلاح والفساد ، بإعزازهم حال الاستقامة وإمدادهم بالأموال والبنين ، وتشردهم في الأرض مرتين بسبب عصيانهم وإفسادهم ، وتخريب مسجدهم. ثم عودهم إلى الإفساد باستفزازهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإرادتهم إخراجه من المدينة : وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها [76].
3 - وأبانت بعض الأدلة الكونية على قدرة اللّه وعظمته ووحدانيته ، مثل آية وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ .. [12].(1/666)
4 - وضعت هذه السورة أصول الحياة الاجتماعية القائمة على التحلي بالأخلاق الكريمة والآداب الرفيعة ، وذلك في الآيات : وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ... [23 - 39].
5 - نددت السورة بنسبة المشركين البنات إلى اللّه زاعمين أن البنات من الملائكة : أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً ، إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً [40] ثم أنكرت عليهم وجود آلهة مع اللّه [41 - 44] ثم فندت مزاعمهم بإنكار البعث والنشور [49 - 52] [98 - 99] وحذرت النبي - صلى الله عليه وسلم - من موافقته المشركين في بعض معتقداتهم [73 - 76].
6 - أوضحت السورة سبب عدم إنزال الأدلة الحسية الدالة على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - [الآية 59] ، ومدى تعنت المشركين في إنزال آيات اقترحوها غير القرآن من تفجير الأنهار ، وجعل مكة حدائق وبساتين ، وإسقاط قطع من السماء ، والإتيان بوفود الملائكة ، وإيجاد بيت من ذهب ، والصعود في السماء [الآيات 89 - 97].
7 - أنبأت السورة عن قدسية مهمة القرآن وسمو غاياته : إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [9] وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [82] وعجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله [88] مما يدل على إعجازه.
8 - أعلنت السورة مبدأ تكريم الإنسان بأمر الملائكة بالسجود له وامتناع إبليس [61 - 65] وتكريم بني آدم ورزقهم من الطيبات [70].
9 - عددت أنواعا جليلة من نعم اللّه على عباده : [12 - 17] ثم لوم الإنسان على عدم الشكر : وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ .. [83] ومن أخص النعم : هبة الروح والحياة [85].
10 - عقدت مقارنة بين من أراد العاجلة ومن أراد الباقية [18 - 21].
11 - ذكرت أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإقامة الصلاة والتهجد في الليل [78 - 79] ودخوله المدينة وخروجه من مكة [80].
12 - أشارت إلى جزء من قصة موسى مع فرعون وبني إسرائيل [101 - 104].
13 - أبانت حكمة نزول القرآن منجمّا (مفرقا بحسب الوقائع والحوادث والمناسبات) [105 - 106].
14 - ختمت السورة بتنزيه اللّه عن الشريك والولد ، والناصر والمعين ، واتصاف اللّه بالأسماء الحسنى التي أرشدنا إلى الدعاء بها [110 - 111].(1/667)
والخلاصة : إن السورة اهتمت بترسيخ أصول العقيدة والدين كسائر السور المكية ، من إثبات التوحيد ، والرسالة والبعث ، وإبراز شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وتأييده بالمعجزات الكافية للدلالة على صدقه ، وتفنيد شبهات كثيرة للمشركين. (1)
سورة الإسراء كلها مكية وقد جزم البيضاوي في تفسيره بذلك ، وقيل : كلها إلا آيات وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ .. فإنها نزلت حين جاء إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وقد ثقيف ، وحين قالت اليهود : ليست هذه - أى المدينة - بأرض الأنبياء ، وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وإِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ فهذه الآيات الثلاث مدنية ، ويظهر واللّه أعلم أن الأصح رأى البيضاوي ، وعدد آياتها مائة وإحدى عشرة آية.
وتسمى سورة بنى إسرائيل.
وهذه السورة عالجت العقيدة الإسلامية في شتى مظاهرها ، فتراها تكلمت عن الرسول ورسالته ، والقرآن وهدايته وموقف القوم منه ، ثم عن الإنسان وسلوكه وأسس المجتمع الإسلامى السليم ، وامتازت بتنزيه اللّه عما يقوله المشركون ، وفي ثنايا ذلك كله قصص عن بنى إسرائيل ، وذكرت طرفا من قصة آدم ، وابتدأت الكلام عن الإسراء. (2)
سورة الإسراء - سورة بنى إسرائيل هى مكية كما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس ، وقال مقاتل إلا ثمانى آيات من قوله : وإن كادوا ليفتنونك إلى آخر هنّ.وآيها عشر ومائة.
أخرج أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم « عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ كل ليلة بنى إسرائيل والزّمر »
وأخرج البخاري وابن مردويه « عن ابن مسعود أنه قال فى هذه السورة والكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول وهن من تلادى » .
ووجه مناسبتها لسورة النحل وذكرها بعدها أمور :
(1) إنه سبحانه ذكر فى سورة النحل اختلاف اليهود فى السبت ، وهنا ذكر شريعة أهل السبت التي شرعها لهم فى التوراة ، فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال : « إن التوراة كلها فى خمس عشرة آية من سورة بنى إسرائيل » .
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (15 / 5)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (2 / 349)(1/668)
(2) إنه لما أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر ونهاه عن الحزن وضيق الصدر من مكرهم فى السورة السالفة - ذكر هنا شرفه وعلو منزلته عند ربه.
(3) إنه ذكر فى السورة السالفة نعما كثيرة حتى سميت لأجلها سورة النعم ، ذكر هنا أيضا نعما خاصة وعامة.
(4) ذكر هناك أن النحل يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس - وهنا ذكر : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين.
(5) إنه فى تلك أمر بإيتاء ذى القربى ، وكذلك هنا مع زيادة إيتاء المسكين وابن السبيل. (1)
وجه اتصال هذه بالنحل - كما قال الجلال السيوطي - أنه سبحانه لما قال في آخرها إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ [النحل : 124] ذكر في هذه شريعة أهل السبت التي شرعها سبحانه لهم في التوراة فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل ، وذكر تعالى فيها عصيانهم وإفسادهم وتخريب مسجدهم واستفزازهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وإرادتهم إخراجه من المدينة وسؤالهم إياه عن الروح ثم ختمها جل شأنه بآيات موسى عليه السلام التسع وخطابه مع فرعون وأخبر تعالى أن فرعون أراد أن يستفزهم من الأرض فأهلك وورث بنو إسرائيل من بعده وفي ذلك تعريض بهم أنهم سينالهم ما نال فرعون حيث أرادوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ما أراد هو بموسى عليه السلام وأصحابه ، ولما كانت هذه السورة مصدّرة بقصة تخريب المسجد الأقصى افتتحت بذكر إسراء المصطفى - صلى الله عليه وسلم - تشريفا له بحلول ركابه الشريف جبرا لما وقع من تخريبه.
وقال أبو حيان في ذلك : إنه تعالى لما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر ونهاه عن الحزن على الكفرة وضيق الصدر من مكرهم وكان من مكرهم نسبته - صلى الله عليه وسلم - إلى الكذب والسحر والشعر وغير ذلك مما رموه وحاشاه به عقب ذلك بذكر شرفه وفضله وعلو منزلته عنده عز شأنه ، وقيل : وجه ذلك اشتمالها على ذكر نعم منها خاصة ومنها عامة وقد ذكر في سورة النحل من النعم ما سميت لأجله سورة النعم واشتمالها على ذكر شأن القرآن العظيم كما اشتملت تلك وذكر سبحانه هناك في النحل يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النحل : 69] وذكر هاهنا في القرآن وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء : 82] وذكر سبحانه في تلك أمره بإيتاء ذي القربى وأمر هنا بذلك مع زيادة في قوله سبحانه : وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً [الإسراء : 26]
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (15 / 3)(1/669)
وذلك بعد أن أمر جل وعلا بالإحسان بالوالدين اللذين هما منشأ القرابة إلى غير ذلك مما لا يحصى فليتأمل واللّه تعالى الموفق. (1)
سورة الإسراء من السور المكية التي تهتم بشئون العقيدة ، شأنها كشأن سائر السورة المكية من العناية بأصول الدين (الوحدانية ، والرسالة ، والبعث ) ولكن العنصر البارز في هذه السورة الكريمة هو (شخصية الرسول ) ، ، وما أى ده الله به من المعجزات الباهرة ، والحجج القاطعة ، الدالة على صدقه عليه الصلاة والسلام .
* تعرضت السورة الكريمة لمعجزة (الإسراء) التى كانت مظهرا من مظاهر التكريم الإلهى ، لخاتم الأنبياء والمرسلين ، وآية باهرة تدل على قدرة الله جل وعلا في صنع العجائب والغرائب.
* وتحدثت عن بني إسرائيل ، وما كتب الله عليهم من التشرد في الأرض مرتين ، بسبب طغيانهم وفسادهم ، وعصيانهم لأوامر الله [ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن فى الأرض مرتين . . ] الآيات .
* وتحدثت عن بعض الآيات الكونية ، التي تدل على العظمة والوحدانية ، وعن النظام الدقيق الذي يحكم الليل والنهار ، ويسير وفق ناموسٍ ثابت لا يتبدل [ وجعلنا الليل والنهار آيتين ، فمحونا آية الليل . . ] الآيات .
* وتعرضت السورة إلى بعض الآداب الاجتماعية ، والأخلاق الفاضلة الكريمة ، فحثت عليها ، ودعت إلى التحلى بها ، ليكون هناك المجتمع المثالي الفاضل الذي ينشده الإسلام ، بدءا من قوله تعالى : [ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه . ] الآيات .
* وتحدثت عن ضلالات المشركين ، حيث نسبوا إلى الله تعالى الصاحبة والولد ، والعجيب في أمرهم أنهم يكرهون البنات ، ثم ينسبونها إلى العلي الكبير ، المنزه عن الشبيه والنظير [ أفأصفاكم ربكم بالبنين وإتخذ من الملائكة إناثا ؟ إنكم لقولون قولا عظيماً . . ] الآيات .
* وتحدثت عن البعث والنشور ، والمعاد والجزاء ، الذي كثر حوله الجدل ، وأقامت الأدلة والبراهين على إمكانه ، ثم تحدثت عن القرآن العظيم (معجزة محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) الخالدة) ، وذكرت تعنت المشركين في اقتراحاته حيث طلبوا معجزة أخرى غير القرآن ، أن يفجر لهم الأنهار ، ويجعل لهم مكة حدائق وبساتين [ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا . ] الآيات .
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (8 / 3)(1/670)
* ثم ختمت السورة بتنزيه الله عن الشريك والولد ، وعن صفات النقص والعجز ، واتصافه بالعزة والكبرياء [ وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا ] .
التسمية :
سميت السورة الكريمة (سورة الإسراء) لتلك المعجزة الباهرة معجزة الإسراء التى خص الله تعالى بها نبيه الكريم خاتم النبيين ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، احتفاء به ، وتكريما له ، على صبره ، وتحمله ضروب البلاء والأذى ، في سبيل تبليغ دعوة الله ، وانها لحفاوة عظيمة ان يُسرى به إلى بيت المقدس ، ثم أن يُصعد به إلى السماء ، لم ينلها قبله أحد من الأنبياء . (1)
المقصود بها الإقبال على اله وحده ، وخلع كل ما سواه ، لأنه وحده المالك لتفاصيل الأمور ، وتفضيل بعض الخلق على بعض ، وذلك هو العمل بالتقوى التي أدناها التوحيد الذي افتتحت به النحل ، وأعلاها الإحسان الذي اختتمت به ، وهو الفناء عما سوى الله ، وهي من أوائل ما أنزل ، روى البخاري في فضائل القرآن وغيره عن ابن مسعود رض الله عنه قال : بنو إسائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء إنهن من العتاق الأول ، وهن من تلادي .
وكل من أسمائها واضح الدلالة على ما ذكر أنه مقصودها ، أما ( سبحان ) ، الذي هو علم للتنزيه فمن أظهر ما يكون فيه ، لأن من كان على غاية النزاهة عن كل نقص ، كان جديراً بأن لا نعبد إلا إياه ، وأن نعرض عن كل ما سواه ، لكونه متصفاً بما ذكر ، وأما بنو إسرائيل فمن أحاط أيضاً بتفاصيل أمرهم في سيرهم إلى الأرض المقدسة الذي هو كالإسراء وإيتائهم الكتاب وما ذكر مع ذلك من أمرهم في هذه السورة عرف ذلك ) باسم الله ( الملك المالك لجميع الأمر ) الرحمن ( لكل ما أوجده بما رباه ) الرحيم ( لمن خصه بالتزام العمل بما يرضاه .
لما كان مقصود النحل التنزه عن الاستعجال وغيره من صفات النقص ، والاتصاف بالكمال المنتج لأنه قادر على الأمور الهائلة ومنها جعل الساعة كلمح البصر أو أقرب ، وختمها بعد تفضيل إبراهيم عليه السلام والأمر باتباعه بالإشارة إلى نصر أوليائه - مع ضعفهم في ذلك الزمان وقلتهم - على أعدائه على كثرتهم وقوتهم ، وكان ذلك من خوارق العادات ونواقص المطردات ، وأمرهم بالتأني والإحسان ، افتتح هذه بتحقيق ما أشار الختم إليه بما خرقه من العادة في الإسراء ، وتنزيه نفسه الشريفة من توهم استبعاد ذلك ، تنبيهاً على أنه قادر على أن يفعل الأمور العظيمة الكثيرة الشاقة في أسرع وقت ، دفعاً لما قد
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (2 / 123)(1/671)
يتوهم أو يتعنت به من يسمع نهيه عن الاستعجال وأمره بالصبر ، وبياناً لأنه مع المتقي المحسن ، تنويهاً بأمر محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وإعلاماً بأنه رأس المحسنين وأعلاهم رتبة وأعظمهم منزلة ، بما آتاه من الخصائص التي منها المقام المحمود ، وتمثيلاً لما أخبر به من أمر الساعة فقال تعالى : ( سبحان ( وهو علم للتنزيه ، دال على أبلغ ما يكون من معناه ، منصوب بفعل متروك إظهاره ، فسد مسده ) الذي أسرى ( فنزه نفسه الشريفة عن كل شائبة نقص يمكن أن يضفيها إليه أعداؤه بهذا اللفظ الأبلغ عقب الأمر بالتأني آخر النحل .
كما نزه نفسه الشريفة بذلك اللفظ عقب النهي عن الاستعجال في أولها ، وهو راد لما علم من ردهم عليه وتكذيبهم له إذا حدثهم عن الإسراء ، وفيه مع ذلك إيماء إلى التعجب من هذه القصة للتنبيه على أنها من الأمور البالغة في العظمة إلى حد لا يمكن استيفاء وصفه . (1)
هذه السورة - سورة الإسراء - مكية ، وهي تبدأ بتسبيح اللّه وتنتهي بحمده وتضم موضوعات شتى معظمها عن العقيدة وبعضها عن قواعد السلوك الفردي والجماعي وآدابه القائمة على العقيدة إلى شيء من القصص عن بني إسرائيل يتعلق بالمسجد الأقصى الذي كان إليه الإسراء. وطرف من قصة آدم وإبليس وتكريم اللّه للإنسان.
ولكن العنصر البارز في كيان السورة ومحور موضوعاتها الأصيل هو شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - وموقف القوم منه في مكة. وهو القرآن الذي جاء به ، وطبيعة هذا القرآن ، وما يهدي إليه ، واستقبال القوم له.
واستطراد بهذه المناسبة إلى طبيعة الرسالة والرسل ، وإلى امتياز الرسالة المحمدية بطابع غير طابع الخوارق الحسية وما يتبعها من هلاك المكذبين بها. وإلى تقرير التبعة الفردية في الهدى والضلال الاعتقادي ، والتبعة الجماعية في السلوك العملي في محيط المجتمع .. كل ذلك بعد أن يعذر اللّه - سبحانه - إلى الناس ، فيرسل إليهم الرسل بالتبشير والتحذير والبيان والتفصيل «وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا».
ويتكرر في سياق السورة تنزيه اللّه وتسبيحه وحمده وشكر آلائه. ففي مطلعها : «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ...» وفي أمر بني إسرائيل بتوحيد اللّه يذكرهم بأنهم من ذرية المؤمنين مع نوح «إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً» .. وعند ذكر دعاوى المشركين عن الآلهة يعقب بقوله : «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً ، تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» .. وفي حكاية قول بعض أهل الكتاب حين يتلى عليهم القرآن : «وَيَقُولُونَ : سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا» .. وتختم السورة بالآية «وَقُلِ
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (4 / 327)(1/672)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ، وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً»
.
في تلك الموضوعات المنوعة حول ذلك المحور الواحد الذي بيّنا ، يمضي سياق السورة في أشواط متتابعة.
يبدأ الشوط الأول بالإشارة إلى الإسراء : «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ» مع الكشف عن حكمة الإسراء «لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا» .. وبمناسبة المسجد الأقصى يذكر كتاب موسى وما قضى فيه لبني إسرائيل ، من نكبة وهلاك وتشريد مرتين ، بسبب طغيانهم وإفسادهم مع إنذارهم بثالثة ورابعة «وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا» .. ثم يقرر أن الكتاب الأخير - القرآن - يهدي للتي هي أقوم ، بينما الإنسان عجول مندفع لا يملك زمام انفعالاته. ويقرر قاعدة التبعة الفردية في الهدى والضلال ، وقاعدة التبعة الجماعية في التصرفات والسلوك.
ويبدأ الشوط الثاني بقاعدة التوحيد ، ليقيم عليها البناء الاجتماعي كله وآداب العمل والسلوك فيه ، ويشدها إلى هذا المحور الذي لا يقوم بناء الحياة إلا مستندا إليه.
ويتحدث في الشوط الثالث عن أوهام الوثنية الجاهلية حول نسبة البنات والشركاء إلى اللّه ، وعن البعث واستبعادهم لوقوعه ، وعن استقبالهم للقرآن وتقولاتهم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويأمر المؤمنين أن يقولوا قولا آخر ، ويتكلموا بالتي هي أحسن.
وفي الشوط الرابع يبين لماذا لم يرسل اللّه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالخوارق فقد كذب بها الأولون ، فحق عليهم الهلاك اتباعا لسنة اللّه كما يتناول موقف المشركين من إنذار اللّه لهم في رؤيا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبهم وطغيانهم. ويجيء في هذا السياق طرف من قصة إبليس ، وإعلانه أنه سيكون حربا على ذرية آدم. يجيء هذا الطرف من القصة كأنه كشف لعوامل الضلال الذي يبدو من المشركين. ويعقب عليه بتخويف البشر من عذاب اللّه ، وتذكيرهم بنعمة اللّه عليهم في تكريم الإنسان ، وما ينتظر الطائعين والعصاة يوم ندعو كل أناس بإمامهم : «فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا».
ويستعرض الشوط الأخير كيد المشركين للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومحاولة فتنته عن بعض ما أنزل إليه ومحاولة إخراجه من مكة. ولو أخرجوه قسرا - ولم يخرج هو مهاجرا بأمر اللّه - لحل بهم الهلاك الذي حل بالقرى من قبلهم حين أخرجت رسلها أو قتلتهم. ويأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يمضي في طريقه يقرأ قرآنه ويصلي صلاته ، ويدعو اللّه أن يحسن مدخله ومخرجه ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل ، ويعقب بأن هذا(1/673)
القرآن الذي أرادوا فتنته عن بعضه فيه شفاء وهدى للمؤمنين ، بينما الإنسان قليل العلم «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا».
ويستمر في الحديث عن القرآن وإعجازه. بينما هم يطلبون خوارق مادية ، ويطلبون نزول الملائكة ، ويقترحون أن يكون للرسول بيت من زخرف أو جنة من نخيل وعنب ، يفجر الأنهار خلالها تفجيرا! أو أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا. أو أن يرقى هو في السماء ثم يأتيهم بكتاب مادي معه يقرأونه ... إلى آخر هذه المقترحات التي يمليها العنت والمكابرة ، لا طلب الهدى والاقتناع. ويرد على هذا كله بأنه خارج عن وظيفة الرسول وطبيعة الرسالة ، ويكل الأمر إلى اللّه. ويتهكم على أولئك الذين يقترحون هذه الاقتراحات كلها بأنهم لو كانوا يملكون خزائن رحمة اللّه - على سعتها وعدم نفادها - لأمسكوا خوفا من الإنفاق! وقد كان حسبهم أن يستشعروا أن الكون وما فيه يسبح للّه ، وأن الآيات الخارقة قد جاء بها موسى من قبل فلم تؤد إلى إيمان المتعنتين الذين استفزوه من الأرض ، فأخذهم اللّه بالعذاب والنكال.
وتنتهي السورة بالحديث عن القرآن والحق الأصيل فيه. القرآن الذي نزل مفرقا ليقرأه الرسول على القوم زمنا طويلا بمناسباته ومقتضياته ، وليتأثروا به ويستجيبوا له استجابة حية واقعية عملية. والذي يتلقاه الذين أوتوا العلم من قبله بالخشوع والتأثر إلى حد البكاء والسجود. ويختم السورة بحمد اللّه الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل. كما بدأها بتسبيحه وتنزيهه.
وقصة الإسراء - ومعها قصة المعراج - إذ كانتا في ليلة واحدة - الإسراء من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس. والمعراج من بيت المقدس إلى السماوات العلى وسدرة المنتهى ، وذلك العالم الغيبي المجهول لنا .. هذه القصة جاءت فيها روايات شتى وثار حولها جدل كثير. ولا يزال إلى اليوم يثور.
وقد اختلفت في المكان الذي أسري منه ، فقيل هو المسجد الحرام بعينه - وهو الظاهر - وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «بينا أنا في المسجد في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل عليه السلام بالبراق». وقيل : أسري به من دار أم هانئ بنت أبي طالب. والمراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به. وعن ابن عباس : الحرم كله مسجد.
وروي أنه كان نائما في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته ، وقص القصة على أم هانىء وقال : «مثل لي النبيون فصليت بهم» ثم قام ليخرج إلى المسجد ، فتشبثت أم هانىء بثوبه ، فقال :
«ما لك؟» قالت : أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم. قال : «وإن كذبوني». فخرج فجلس إليه أبو جهل ، فأخبره رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بحديث الإسراء. فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب ابن لؤي هلم.(1/674)
فحدثهم ، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا وارتد ناس ممن كان آمن به وسعى رجال إلى أبي بكر - رضي اللّه عنه - فقال : أو قال ذلك؟ قالوا نعم. قال : فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا : فتصدقه في أن يأتي في الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح؟ قال :
نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك. أصدقه بخبر السماء! فسمي الصدّيق. وكان منهم من سافر إلى بيت المقدس فطلبوا إليه وصف المسجد ، فجلى له ، فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أما النعت فقد أصاب. فقالوا : أخبرنا عن عيرنا. فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق.
فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية - لمراقبة مقدم العير - فقال قائل منهم : هذه واللّه الشمس قد شرقت.
فقال آخر : وهذه واللّه العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق ، كما قال محمد .. ثم لم يؤمنوا! .. وفي الليلة ذاتها كان العروج به إلى السماء من بيت المقدس.
واختلف في أن الإسراء كان في اليقظة أم في المنام. فعن عائشة - رضي اللّه عنها - أنها قالت : واللّه ما فقد جسد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولكن عرج بروحه. وعن الحسن كان في المنام رؤيا رآها. وفي أخبار أخرى أنه كان بروحه وجسمه ، وأن فراشه - عليه الصلاة والسلام - لم يبرد حتى عاد إليه.
والراجح من مجموع الروايات أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ترك فراشه في بيت أم هانىء إلى المسجد فلما كان في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان أسري به وعرج. ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد.
على أننا لا نرى محلا لذلك الجدل الطويل الذي ثار قديما والذي يثور حديثا حول طبيعة هذه الواقعة المؤكدة في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسافة بين الإسراء والمعراج بالروح أو بالجسم ، وبين أن تكون رؤيا في المنام أو رؤية في اليقظة .. المسافة بين هذه الحالات كلها ليست بعيدة ولا تغير من طبيعة هذه الواقعة شيئا وكونها كشفا وتجلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أمكنة بعيدة وعوالم بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة ..
والذين يدركون شيئا من طبيعة القدرة الإلهية ومن طبيعة النبوة لا يستغربون في الواقعة شيئا. فأمام القدرة الإلهية تتساوى جميع الأعمال التي تبدو في نظر الإنسان وبالقياس إلى قدرته وإلى تصوره متفاوتة السهولة والصعوبة ، حسب ما اعتاده وما رآه. والمعتاد المرئي في عالم البشر ليس هو الحكم في تقدير الأمور بالقياس إلى قدرة اللّه.
أما طبيعة النبوة فهي اتصال بالملأ الأعلى - على غير قياس أو عادة لبقية البشر - وهذه التجلية لمكان بعيد ، أو عالم بعيد والوصول إليه بوسيلة معلومة أو مجهولة ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى(1/675)
والتلقي عنه. وقد صدق أبوبكر - رضي اللّه عنه - وهو يرد المسألة المستغربة المستهولة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول : إني لأصدقه بأبعد من ذلك. أصدقه بخبر السماء! ومما يلاحظ - بمناسبة هذه الواقعة وتبين صدقها للقوم بالدليل المادي الذي طلبوه يومئذ في قصة العير وصفتها - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يسمع لتخوف أم هانى ء - رضي اللّه عنها - من تكذيب القوم له بسبب غرابة الواقعة. فإن ثقة الرسول بالحق الذي جاء به ، والحق الذي وقع له ، جعلته يصارح القوم بما رأى كائنا ما كان رأيهم فيه. وقد ارتد بعضهم فعلا ، واتخذها بعضهم مادة للسخرية والتشكيك. ولكن هذا كله لم يكن ليقعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الجهر بالحق الذي آمن به .. وفي هذا مثل لأصحاب الدعوة أن يجهروا بالحق لا يخشون وقعه في نفوس الناس ، ولا يتملقون به القوم ، ولا يتحسسون مواضع الرضى والاستحسان ، إذا تعارضت مع كلمة الحق تقال.
كذلك يلاحظ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يتخذ من الواقعة معجزة لتصديق رسالته ، مع إلحاح القوم في طلب الخوارق - وقد قامت البينة عندهم على صدق الإسراء على الأقل - ذلك أن هذه الدعوة لا تعتمد على الخوارق ، إنما تعتمد على طبيعة الدعوة ومنهاجها المستمد من الفطرة القويمة ، المتفقة مع المدارك بعد تصحيحها وتقويمها. فلم يكن جهر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالواقعة ناشئا عن اعتماده عليها في شيء من رسالته. إنما كان جهرا بالحقيقة المستيقنة له لمجرد أنها حقيقة (1)
مجمل ما حوته السورة من الأغراض
(1) الإسراء من مكة إلى بيت المقدس.
(2) تاريخ بنى إسرائيل فى حالى الارتقاء والانحطاط.
(3) حكم وعظات للأمة الإسلامية يجب أن تراعيها حتى لا تذهب دولها كما ذهبت دولة بنى إسرائيل.
(4) بيان أن كل ما فى السموات والأرض مسبّح للّه.
(5) الكلام فى البعث مع إقامة الأدلة على إمكانه.
(6) الرد على المشركين الذين اتخذوا مع اللّه آلهة من الأوثان والأصنام.
(7) الحكمة فى عدم إنزال الآيات التي التي اقترحوها على محمد - صلى الله عليه وسلم - .
(8) قصص سجود الملائكة لآدم وامتناع إبليس من ذلك.
(9) تعداد بعض نعم اللّه على عباده.
(10) طلب المشركين من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يوافقهم فى بعض معتقداتهم وإلحافهم فى ذلك.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2208)(1/676)
(11) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإقامة الصلاة والتهجد فى الليل.
(12) بيان إعجاز القرآن وأن البشر يستحيل عليهم أن يأتوا بمثله.
(13) قصص موسى مع فرعون.
(14) الحكمة فى إنزال القرآن منجما.
(15) تنزيه اللّه عن الولد والشريك والناصر والمعين. (1)
================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (15 / 112)(1/677)
(18) سورة الكهف
سماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة الكهف.
روى مسلم، وأبو داود، عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف" وفي رواية لمسلم: "من آخر الكهف، عصم من فتنة الدجال" . ورواه الترمذي عن أبي الدرداء بلفظ "من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عصم من فتنة الدجال" . قال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
وكذلك وردت تسميتها عن البراء بن عازب في "صحيح البخاري" . قال: "كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدنو، وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال: "تلك السكينة تنزلت بالقرآن" .
وفي حديث أخرجه ابن مردويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه سماها سورة أصحاب الكهف".
وهي مكية بالاتفاق كما حكاه ابن عطية. قال: "وروي عن فرقد أن أول السورة إلى قوله: {جُرُزاً} نزل بالمدينة"، قال: "والأول أصح".
وقيل قوله: {وَاصْبِرْ نَفسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الكهف: 28] نزلتا بالمدينة، وقيل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفرْدَوْسِ نُزُلاً} [الكهف: 107] إلى آخر السورة نزل بالمدينة. وكل ذلك ضعيف كما سيأتي التنبيه عليه في مواضعه.
نزلت بعد سورة الغاشية وقبل سورة الشورى.
وهي الثامنة والستون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد.
وقد ورد في فضلها أحاديث متفاوتة أصحها الأحاديث المتقدمة.
وهي من السور التي نزلت جملة واحدة. روى الديلمي في سند الفردوس عن أنس قال: نزلت سورة الكهف جملة معها سبعون ألفا من الملائكة. وقد أغفل هذا صاحب "الإتقان" .
وعدت آيها في عدد قراء المدينة ومكة مائة وخمسا، وفي عدد قراء الشام مائة وستا، وفي عدد قراء البصرة مائة وإحدى عشرة، وفي عد قراء الكوفة مائة وعشرا، بناء على اختلافهم في تقسيم بعض الآيات إلى آيتين.
وسبب نزولها ما ذكره كثير من المفسرين، وبسطه ابن إسحاق في سيرته بدون سند، وأسنده الطبري إلى ابن عباس بسند فيه رجل مجهول: "أن المشركين لما أهمهم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وازدياد المسلمين معه وكثر تساؤل(1/678)
الوافدين إلى مكة من قبائل العرب عن أمر دعوته، بعثوا النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة يثرب يسألونهم رأيهم في دعوته، وهم يطمعون أن يجد لهم الأحبار ما لم يهتدوا إليه مما يوجهون به تكذيبهم إياه. قالوا: فإن اليهود أهل الكتاب الأول وعندهم من علم الأنبياء أي صفاتهم وعلاماتهم علم ليس عندنا، فقدم النضر وعقبة إلى المدينة ووصفا لليهود دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبراهم ببعض قوله. فقال لهم أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث? فإن أخبركم بهن فهو نبئ وإن لم يفعل فالرجل متقول، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وسلوه عن الروح ما هي. فرجع النضر وعقبة فأخبرا قريشا بما قاله أحبار اليهود، فجاء جمع من المشركين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألوه عن هذه الثلاثة، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أخبركم بما سألتم عنه غدا وهو ينتظر وقت نزول الوحي عليه بحسب عادة يعلمها. ولم يقل: إن شاء الله. فمكث رسول الله ثلاثة أيام لا يوحى إليه، وقال ابن إسحاق: خمسة عشر يوما، فأرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا وقد أصبحنا اليوم عدة أيام لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، حتى أحزن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشق عليه، ثم جاءه جبريل عليه السلام بسورة الكهف وفيها جوابهم عن الفتية وهم أهل الكهف، وعن الرجل الطواف وهو ذو القرنين. وأنزل عليه فيما سألوه من أمر الروح {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الاسراء: 85] في سورة الإسراء. قال السهيلي: وفي رواية عن ابن إسحاق من غير طريق البكائي "أي زياد ابن عبد الله البكائي الذي يروي عنه ابن هشام" أنه قال في هذا الخبر: "فناداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هو أي الروح جبريل. وهذا خلاف ما روى غيره أن يهود قالت لقريش: سلوه عن الروح فإن أخبركم به فليس بنبئ وإن لم يخبركم به فهو نبي" ا هـ.
وأقول: قد يجمع بين الروايتين بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أجابهم عن أمر الروح بقوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الاسراء: 85] بحسب ما عنوه بالروح عدل بهم إلى الجواب عن أمر كان أولى لهم العلم به وهو الروح الذي تكرر ذكره في القرآن مثل قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193] وقوله {وَالرُّوحُ فيهَا} [القدر: 4] وهو من ألقاب جبريل على طريقة الأسلوب الحكيم مع ما فيه من الإغاظة لليهود، لأنهم أعداء جبريل كما أشار إليه قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] الآية. ووضحه حديث عبد الله ابن سلام في قوله للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين ذكر جبريل عليه السلام ذاك عدو اليهود من الملائكة فلم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم منفذا قد يلقون منه التشكيك على قريش إلا سده عليهم.
وقد يعترضك هنا: أن الآية التي نزلت في أمر الروح هي من سورة الإسراء فلم تكن مقارنة للآية النازلة في شان الفنية وشأن الرجل الطواف فماذا فرق بين الآيتين، وأن سورة الإسراء يروي أنها نزلت قبل سورة الكهف فإنها معدودة سادسة وخمسين في عداد نزول السور، وسورة الكهف معدودة ثامنة وستين(1/679)
في النزول. وقد يجاب عن هذا بأن آية الروح قد تكون نزلت على أن تلحق بسورة الإسراء فإنها نزلت في أسلوب سورة الإسراء وعلى مثل فواصلها، ولأن الجواب فيها جواب بتفويض العلم إلى الله، وهو مقام يقتضي الإيجاز، بخلاف الجواب عن أهل الكهف وعن ذي القرنين فإنه يستدعي بسطا وإطنابا ففرقت آية الروح عن القصتين.
على أنه يجوز أن يكون نزول سورة الإسراء مستمرا إلى وقت نزول سورة الكهف، فأنزل قرآن موزع عليها وعلى سورة الكهف. وهذا على أحد تأويلين في معنى كون الروح من أمر ربي كما تقدم في سورة الإسراء. والذي عليه جمهور الرواة أن آية {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الاسراء: 85] مكية إلا ما روي عن ابن مسعود. وقد علمت تأويله في سورة الإسراء.
فاتضح من هذا أن أهم غرض نزلت فيه سورة الكهف هو بيان قصة أصحاب الكهف، وقصة ذي القرنين. وقد ذكرت أولاهما في أول السورة وذكرت الأخرى في آخرها.
كرامة قرآنية:
لوضع هذه السورة على هذا الترتيب في المصحف مناسبة حسنة ألهم الله إليها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رتبوا المصحف فإنها تقارب نصف المصحف إذ كان في أوائلها موضع قيل هو نصف حروف القرآن وهو التاء من قوله تعالى: {وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف: 19] وقيل نصف حروف القرآن وهو"النون" من قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف: 74] في أثنائها، وهو نهاية خمسة عشر جزءا من أجزاء القرآن وذلك نصف أجزائه، وهو قوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:75]، فجعلت هذه السورة في مكان قرابة نصف المصحف.
وهي مفتتحة بالحمد حتى يكون افتتاح النصف الثاني من القرآن بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} كما كان افتتاح النف الأول بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} . وكما كان أول الربع الرابع منه تقريبا بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1].
أغراض السورة
افتتحت بالتحميد على إنزال الكتاب للتنويه بالقرآن تطاولا من الله تعالى على المشركين وملقنيهم من أهل الكتاب.
وأدمج فيه إنذار المعاندين الذين نسبوا لله ولدا، وبشارة للمؤمنين، وتسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أقوالهم حين تريث الوحي لما اقتضته سنة الله مع أوليائه من إظهار عتبه على الغفلة عن مراعاة الآداب الكاملة.
وذكر افتتان المشركين بالحياة الدنيا وزينتها وأنها لا تكسب النفوس تزكية.
وانتقل إلى خبر أصحاب الكهف المسؤول عنه.(1/680)
وحذرهم من الشيطان وعداوته لبني آدم ليكونوا على حذر من كيده.
وقدم لقصة ذي القرنين قصة أهم منها وهي قصة موسى والخضر عليهما السلام، لأن كلتا القصتين تشابهتا في السفر لغرض شريف. فذو القرنين خرج لبسط سلطانه على الأرض، وموسى عليه السلام خرج في طلب العلم.
وفي ذكر قصة موسى تعريض بأحبار بني إسرائيل إذ تهمموا بخبر ملك من غير قومهم ولا من أهل دينهم ونسوا خبرا من سيرة نبيهم.
وتخلل ذلك مستطردات من إرشاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وتثبيته. وأن الحق فيما أخبر به، وأن أصحابه الملازمين له خير من صناديد المشركين، ومن الوعد والوعيد، وتمثيل المؤمن والكافر، وتمثيل الحياة الدنيا وانقضائها، وما يعقبها من البعث والحشر، والتذكير بعواقب الأمم الدنيا وانقضائها، وما يعقبها من البعث والحشر، والتذكير بعواقب الأمم المكذبة للرسل، وما ختمت به من إبطال الشرك ووعيد أهله؛ ووعد المؤمنين بضدهم، والتمثيل لسعة علم الله تعالى. وختمت بتقرير أن القرآن وحي من الله تعالى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - فكان في هذا الختام محسن رد العجز على الصدر. (1)
1 - سورة الكهف هي السورة الثامنة عشرة في ترتيب سور المصحف ، فقد سبقتها في الترتيب سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران .. إلخ.
أما ترتيبها في النزول ، فهي السورة الثامنة والستون ، فقد ذكر قبلها صاحب الإتقان سبعا وستين سورة ، كما ذكر أن نزولها كان بعد سورة الغاشية.
ومما ذكره صاحب الإتقان يترجح لدينا ، أن سورة الكهف من أواخر السور المكية التي نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة ، إذ من المعروف عند العلماء أن السور المكية زهاء اثنتين وثمانين سورة.
قال الآلوسي : سورة الكهف ، ويقال لها سورة أصحاب الكهف .. وهي مكية كلها في المشهور ، واختاره الداني .. وعدها بعضهم من السور التي نزلت جملة واحدة.
وقيل : مكية إلا قوله - تعالى - وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ .. الآية.
وقيل هي مكية إلا أولها إلى قوله - تعالى - جُرُزاً وقيل : مكية إلا قوله - تعالى - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا .. إلى آخر السورة.
وهي مائة وإحدى عشرة آية عند البصريين ، ومائة وعشر آيات عند الكوفيين ...
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (15 / 5)(1/681)
والذين تطمئن إليه النفس أن سورة الكهف كلها مكية ، وقد ذكر ذلك دون أن يستثنى منها شيئا الإمام ابن كثير ، والزمخشري ، وأبو حيان ، وغيرهم ، وفضلا عن ذلك فالذين قالوا بأن فيها آيات مدنية ، لم يأتوا بما يدل على صحة قولهم ، كما سيتبين لنا عند تفسير الآيات التي قيل بأنها مدنية.
2 - وقد صدر الامام ابن كثير تفسيره لهذه السورة ، بذكر الأحاديث التي وردت في فضلها فقال ما ملخصه : ذكر ما ورد في فضلها ، والعشر الآيات من أولها وآخرها ، وأنها عصمة من الدجال.
قال الامام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن سالم بن أبى الجعد ، عن معدان بن أبى طلحة ، عن أبى الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف ، عصم من الدجال ».
وفي رواية عن أبى الدرداء ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال ».
وأخرج الحاكم عن أبى سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة ، أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين « 1 » ».
3 - عرض إجمالى لسورة الكهف :
(أ) عند ما نقرأ سورة الكهف ، نراها في مطلعها تفتتح بالثناء على اللّه - تعالى - وبالتنويه بشأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن الذي نزل عليه ثم تنذر الذين نسبوا إلى اللّه - عز وجل - مالا يليق به ، وتصمهم بأقبح ألوان الكذب ، ثم تنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التأسف عليهم ، بسبب إصرارهم على كفرهم.قال - تعالى - : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ، وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً. ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً. وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً. ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً.
(ب) ثم ساقت السورة بعد ذلك فيما يقرب من عشرين آية قصة أصحاب الكهف ، فحكت أقوالهم عند ما التجأوا إلى الكهف ، وعند ما استقروا فيه واتخذوه مأوى لهم ، كما حكت جانبا من رعاية اللّه ، تعالى ، لهم ، ورحمته بهم .. ثم صورت أحوالهم وهم رقود ، وذكرت تساؤلهم فيما بينهم بعد أن بعثهم اللّه - تعالى - من رقادهم الطويل ، وإرسالهم أحدهم إلى المدينة لإحضار بعض الأطعمة ، وإطلاع الناس عليهم. وتنازعهم في أمرهم ، ونهى اللّه - تعالى - عن الجدال في شأنهم ، كما ذكرت المدة التي لبثوها في كهفهم.قال - تعالى - وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ، قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ، وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً.(1/682)
(ج) ثم أمرت السورة الكريمة النبي - صلى الله عليه وسلم - برعاية الفقراء من أصحابه. ومدحتهم بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه .. كما أمرته بأن يجهر بكلمة الحق ، فمن شاء بعد ذلك فليؤمن ومن شاء فليكفر ، فإن اللّه - تعالى - قد أعد لكل فريق ما يستحقه من ثواب أو عقاب.قال - تعالى - وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ، إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها ، وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.
(د) ثم ضربت السورة الكريمة مثلا للشاكرين والجاحدين ، وصورت بأسلوب بليغ مؤثر تلك المحاورة الرائعة التي دارت بين صاحب الجنتين الغنى المغرور ، وبين صديقه الفقير المؤمن الشكور ، وختمت هذه المحاورة ببيان العاقبة السيئة لهذا الجاهل الجاحد.استمع إلى القرآن وهو يبين ذلك بأسلوبه فيقول : وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ، فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ، وَيَقُولُ : يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً. وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً.
(ه) ثم أتبعت السورة هذا المثل للرجلين ، بمثال آخر لزوال الحياة الدنيا وزينتها ، وببيان أحوال الناس يوم القيامة ، وأحوال المجرمين عند ما يرون صحائف أعمالهم وقد خلت من كل خير.قال - تعالى - : وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ ، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً ، الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا. وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً.
(و) وبعد أن ذكرت السورة الكريمة طرفا من قصة آدم وإبليس ، وبينت أن هذا القرآن قد صرف اللّه فيه للناس من كل مثل ، وحددت وظيفة المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
بعد كل ذلك ساقت في أكثر من عشرين آية قصة موسى مع الخضر - عليهما السلام - وحكت ما دار بينهما من محاورات. انتهت بأن قال الخضر لموسى : وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ، ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.
(ز) ثم جاءت بعد قصة موسى والخضر - عليهما السلام - قصة ذي القرنين في ست
عشرة آية ، بين اللّه ، تعالى ، فيها جانبا من النعم التي أنعم بها على ذي القرنين ، ومن الأعمال العظيمة التي مكنه - سبحانه - من القيام بها.قال - تعالى - حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا. قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا. قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً.(1/683)
(ح) ثم ختمت السورة الكريمة ببيان ما أعده - سبحانه - للكافرين من سوء العذاب وما أعده للمؤمنين من جزيل الثواب ، وببيان مظاهر قدرته ، - عز وجل - التي توجب على كل عاقل أن يخلص له العبادة والطاعة.قال - تعالى - : قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً. أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً. ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا. خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا. قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي ، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً. قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً.
4 - وبعد : فهذا عرض إجمالى لأهم الموضوعات التي اشتملت عليها سورة الكهف ، ومن هذا العرض نرى :
(أ) أن القصص قد اشتمل على جانب كبير من آياتها ، ففي أوائلها نرى قصة أصحاب الكهف ، وبعدها قصة الرجلين اللذين جعل اللّه لأحدهما جنتين من أعناب. ثم بعد ذلك جاء طرف من قصة آدم وإبليس ، ثم جاءت قصة موسى والخضر - عليهما السلام - ثم ختمت بقصة ذي القرنين.
وقد وردت هذه القصص في أكثر من سبعين آية ، من سورة الكهف المشتملة على عشر آيات بعد المائة.
(ب) اهتمت السورة الكريمة بإقامة الأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - وعلى صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عنه ، وعلى إثبات أن هذا القرآن من عنده - تعالى.
نرى ذلك في أمثال قوله - تعالى - الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ.
وقوله - تعالى - : قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.
وفي غير ذلك من الآيات التي حكت لنا تلك القصص المتعددة.
(ج) برز في السورة عنصر الموازنة والمقارنة بين حسن عاقبة الأخيار وسوء عاقبة الأشرار ، ترى ذلك في قصة أصحاب الكهف ، وفي قصة الرجلين وفي قصة ذي القرنين.
وفي الآيات التي ذكرت الكافرين وسوء مصيرهم ، ثم أعقبت ذلك يذكر المؤمنين وحسن مصيرهم كما برز فيها عنصر التسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - والتهوين من شأن أعدائه فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً.(1/684)
كما برز فيها التصوير المؤثر لأهوال يوم القيامة كما في قوله - تعالى - : وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً. وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
والخلاصة : أن سورة الكهف قد - ساقت - بأسلوبها البليغ الذي يغلب عليه طابع القصة - ألوانا من التوجيهات السامية ، التي من شأنها أنها تهدى إلى العقيدة الصحيحة ، وإلى السلوك القويم. وإلى الخلق الكريم ، وإلى التفكير السليم الذي يهدى إلى الرشد ، وإلى كل ما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة. (1)
في السورة حملة شديدة على الكفار ، ووصف لشدة عنادهم وجحودهم وما كان يحدثه هذا من حزن للنبي - صلى الله عليه وسلم - . وإشارات إلى ما كان من استخفاف الكفار بشأن فقراء المسلمين واعتدادهم بثرواتهم وقوتهم ووصف لهول يوم القيامة ومصير الكفار والمؤمنين فيه. وأمثال ومواعظ في صدد الدعوة النبوية وتسفيه الاغترار بالدنيا والانشغال بها عن الخير والصلاح. وقصص أصحاب الكهف وموسى مع العبد الصالح وذي القرنين تضمنت المواعظ والتذكير.
وآيات السورة متوازنة ، وليس بين فصولها تغاير أسلوبي بالرغم من تنوعها وهذا وذاك معا مما يبرر القول إنها نزلت متتابعة حتى تمّت.
ويروى أن الآيات [28 و83 - 101] مدنيات ، والسياق والأسلوب والمضمون يسوّغ الشك والتوقف في ذلك.
ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي الدرداء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدّجّال» «1». وفي رواية : «من حفظ من خواتيم سورة الكهف عصم من الدجّال». وروى الحاكم والبيهقي عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين وفي رواية أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق» «2». وهناك نصوص أخرى مقاربة أوردها ابن كثير في مطلع تفسيره للسورة مروية عن الإمام أحمد بالإضافة إلى هذه النصوص.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (8 / 459)(1/685)
وينطوي في الأحاديث تنويه نبوي بفضل هذه السورة لا بدّ من أن يكون له حكمة قد يكون منها ما احتوته من أمثال ومواعظ. وبالإضافة إلى هذا ففي الأحاديث قرينة على أن هذه السورة أو السور القرآنية كانت تامة الترتيب معروفة الأسماء في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - . (1)
سورة الكهف مكية ، وهي مائة وعشر آيات.
تسميتها :
سميت سورة الكهف ، لبيان قصة أصحاب الكهف العجيبة الغريبة فيها في الآيات [9 - 26] مما هو دليل حاسم ملموس على قدرة اللّه الباهرة.
وهي إحدى سور خمس بدئت ب الْحَمْدُ لِلَّهِ : وهي الفاتحة ، الأنعام ، الكهف ، سبأ ، فاطر. وهو استهلال يوحي بعبودية الإنسان للّه تعالى ، وإقراره بنعمه وأفضاله ، وتمجيد اللّه عز وجل ، والاعتراف بعظمته وجلاله وكماله.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر مناسبة وضع هذه السورة بعد سورة الإسراء من نواح : هي افتتاح الإسراء بالتسبيح ، وهذه بالتحميد ، وهما مقترنان في القرآن وسائر الكلام بحيث يسبق التسبيح التحميد ، نحو : فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [الحجر 15/ 98] وفي الحديث : «سبحان اللّه وبحمده». كما أن الإسراء اختتمت بالتحميد أيضا ، فتشابهت الأطراف أيضا.
ولما أمر اليهود المشركين أن يسألوا النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عن ثلاثة أشياء : عن الروح ، وعن قصة أصحاب الكهف ، وعن قصة ذي القرنين ، أجاب تعالى في آخر سورة بني إسرائيل عن السؤال الأول ، وقد أفرد فيها لعدم الجواب عن الروح ، ثم أجاب تعالى في سورة الكهف عن السؤالين الآخرين ، فناسب اتصالهما ببعضهما.
ولما ذكر تعالى في الإسراء : وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [85] ناسب ذكر قصة موسى مع العبد الصالح الخضر ، كالدليل على ما تقدم. وقد ورد في الحديث : أنه لما نزل : وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قال اليهود : قد أوتينا التوراة فيها علم كل شيء ، فنزل : قُلْ : لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ ... [109].
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 50)(1/686)
ولما قال تعالى في الإسراء : فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً [104] أعقبه في سورة الكهف بالتفصيل والبيان بقوله : فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي ، جَعَلَهُ دَكَّاءَ ، وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا إلى قوله : وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً [98 - 100] «1».
والخلاصة : أنه تعالى لما قال في آخر الإسراء : وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وذكر المؤمنين به أهل العلم ، وأنه يزيدهم خشوعا ، وأنه تعالى أمر بالحمد له وأنه لم يتخذ ولدا ، أمره تعالى بحمده على إنزال هذا الكتاب السالم من العوج ، القيم على كل الكتب ، المنذر من اتخذ ولدا ، المبشر المؤمنين بالأجر الحسن.
ثم استطرد إلى حديث كفار قريش ، والتفت من الخطاب في قوله :
وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً إلى الغيبة في قوله : عَلى عَبْدِهِ لما في عبده من الإضافة المقتضية تشريفه.
ما اشتملت عليه السورة :
استهلت السورة ببيان وصف القرآن بأنه قيم مستقيم لا اختلاف فيه ولا تناقض في لفظه ومعناه ، وأنه جاء للتبشير والإنذار.
ثم لفتت النظر إلى ما في الأرض من زينة وجمال وعجائب تدل دلالة واضحة على قدرة اللّه تعالى.
وتحدثت السورة عن ثلاث قصص من روائع قصص القرآن وهي قصة أصحاب الكهف ، وقصة موسى مع الخضر ، وقصة ذي القرنين. أما قصة أصحاب الكهف [9 - 26] فهي مثل عال ، ورمز سام للتضحية بالوطن والأهل والأقارب والأصدقاء والأموال في سبيل العقيدة ، فقد فرّ هؤلاء الشباب الفتية المؤمنون بدينهم من بطش الملك الوثني ، واحتموا في غار في الجبل ، فأنامهم اللّه ثلاث مائة وتسع سنين قمرية ، ثم بعثهم ليقيم دليلا حسيا للناس على قدرته على البعث.
واتبع اللّه تعالى تلك القصة بأمر النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بالتواضع ومجالسة الفقراء المؤمنين وعدم الفرار منهم إلى مجالسة الأغنياء لدعوتهم إلى الدين : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ .. [28].
ثم هدد اللّه تعالى الكفار بعد إظهار الحق ، وذكر ما أعده لهم من العذاب الشديد في الآخرة : وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ .. [29] وقارن ذلك بما أعده سبحانه من جنات عدن للمؤمنين الصالحين [30 - 31].
وأما قصة موسى مع الخضر في الآيات [60 - 78] فكانت مثلا للعلماء في التواضع أثناء طلب العلم ، وأنه قد يكون عند العبد الصالح من العلوم في غير أصول الدين وفروعه ما ليس عند الأنبياء ، بدليل قصة خرق السفينة ، وحادثة قتل الغلام ، وبناء الجدار.
وأما قصة ذي القرنين في الآيات [83 - 99] فهي عبرة للحكام والسلاطين ، إذ أن هذا الملك تمكن من السيطرة على العالم ، ومشرق الأرض ومغربها ، وبنائه السد العظيم بسبب ما اتصف به من التقوى والعدل والصلاح.(1/687)
وتخللت هذه القصص أمثلة ثلاثة بارزة رائعة مستمدة من الواقع ، لإظهار أن الحق لا يقترن بالسلطة والغنى ، وإنما يرتبط بالإيمان ، وأول هذه الأمثلة :
قصة أصحاب الجنتين [32 - 44] للمقارنة بين الغني المغتر بماله ، والفقير المعتز بإيمانه ، لبيان حال فقراء المؤمنين وحال أغنياء المشركين.
وثانيها : مثل الحياة الدنيا [45 - 46] لإنذار الناس بفنائها وزوالها. وأردف ذلك بإيراد بعض مشاهد القيامة الرهيبة من تسيير الجبال ، وحشر الناس في صعيد واحد ، ومفاجأة الناس بضائف أعمالهم [47 - 49].
وثالثها : قصة إبليس وإبائه السجود لآدم [50 - 53] للموازنة بين التكبر والغرور ، وما أدى إليه من طرد وحرمان وتحذير الناس من شر الشيطان ، وبين العبودية للّه والتواضع ، وما حقق من رضوان اللّه تعالى.
وأردف ذلك بيان عناية القرآن بضرب الأمثال للناس للعظة والذكرى ، وإيضاح مهام الرسل للتبشير والإنذار ، والتحذير من الإعراض عن آيات اللّه [54 - 57].
وأن سياسة التشريع اقتران الرحمة بالعدل ، فليست الرحمة فوق العدل ولا العدل فوق الرحمة : وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [58 - 59].
وختمت السورة بموضوعات ثلاثة : أولها - إعلان تبديد أعمال الكفار وضياع ثمرتها في الآخرة [100 - 106] وثانيها - تبشير المؤمنين الذين عملوا الصالحات بالنعيم الأبدي الأخروي [107 - 108] وثالثها - أن علم اللّه تعالى لا يحده حد ولا نهاية له [109 - 110]. (1)
قال القرطبي : وهي مكية في قول جميع المفسرين وقال الكشاف مكية إلا بعض آيات فيها ، والرأى الأول هو الصحيح ، وعدد آياتها عشر ومائة.
وتراها تكلمت عن القرآن الكريم وأثره ، ثم ذكرت قصة أصحاب الكهف وما فيها من عبر. وأتبعتها توجيهات نافعة : ثم سبق مثل عملي المغتر بالدنيا والمغرور بها مع تذكير الناس بيوم القيامة وفي خلال ذلك حكم وآيات ، وتوجيهات وإنذارات ثم بعد ذلك كانت قصة موسى مع الخضر ، وإجابتهم عن الروح وعن ذي القرنين ، وما أروع ختام هذه السورة بالكلام على المؤمنين وكلمات اللّه لا تنفد. (2)
هى مكية كلها فى المشهور واختاره جمع من العلماء ، وآيها مائة وإحدى عشرة.
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (15 / 197)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (2 / 403)(1/688)
ومناسبتها ما قبلها من وجوه.
(1) إن سورة الإسراء افتتحت بالتسبيح ، وهذه بالتحميد ، وهما مقترنان فى سائر الكلام فى نحو « فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ » ونحو سبحان اللّه وبحمده.
(2) تشابه ختام السالفة وافتتاح هذه ، فإنّ كلا منهما حمد.
(3) إنه ذكر فى السابقة قوله : « وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا » والخطاب فيها لليهود ، وذكر هنا قصة موسى نبىّ بنى إسرائيل مع الخضر عليهما السلام وهى تدل على كثرة معلومات اللّه التي لا تحصى ، فكانت كالدليل على ما تقدم.
(4) إنه جاء فى السورة السابقة : « فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا » ثم فصل ذلك هنا بقوله : « فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا » إلى قوله : « وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً » . (1)
وجه مناسبة وضعها بعد الإسراء على ما قيل افتتاح تلك بالتسبيح وهذه بالتحميد وهما مقترنان في الميزان وسائر الكلام نحو فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [الحجر : 98 ، النصر : 3] فسبحان اللّه وبحمده وأيضا تشابه اختتام تلك وافتتاح هذه فإن في كل منهما حمدا ، نعم فرق بينهما بأن الحمد الأول ظاهر في الحمد الذاتي والحمد المفتتح به في هذه يدل على الاستحقاق الغير الذاتي ، وقال الجلال السيوطي في ذلك : أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثلاثة أشياء عن الروح وعن قصة أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين ، وقد ذكر جواب السؤال الأول في آخر السورة الأولى وجواب السؤالين الآخرين في هذه فناسب اتصالهما ، ولم تجمع الأجوبة الثلاثة في سورة لأنه لم يقع الجواب عن الأول بالبيان فناسب أن يذكر وحده في سورة ، واختيرت سورة الإسراء لما بين الروح وبين الإسراء من المشاركة بأن كلا منهما مما لا يكاد تصل إلى حقيقته العقول ، وقيل : إنما ذكر هناك لما أن الإسراء متضمن العروج إلى المحل الأرفع والروح متصفة بالهبوط من ذلك المحل ولذا قال ابن سينا فيها :
هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تعزز وتمنع
ثم قال : ظهر لي وجه آخر وهو أنه تعالى لما قال في تلك وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء : 85] والخطاب لليهود استظهر على ذلك بقصة موسى نبي بني إسرائيل مع الخضر عليهما السلام التي كان سببها ذكر العلم والأعلم وما دلت عليه من كثرة معلومات اللّه تعالى التي لا تحصى فكانت هذه السورة
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (15 / 113)(1/689)
كإقامة الدليل لما ذكر من الحكم في تلك السورة. وقد ورد في الحديث أنه لما نزل وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قالت اليهود : قد أوتينا التوراة فيها علم كل شيء فنزل قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي
[الكهف : 109] الآية فتكون هذه السورة من هذه الجهة جوابا عن شبهة الخصوم فيما قرر في تلك ، وأيضا لما قال سبحانه هناك فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً [الإسراء : 104] شرح ذلك هنا وبسطه بقوله سبحانه فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ [الكهف : 98] إلى قوله تعالى : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً [الكهف : 99 ، 100] اه ، وللمناسبة أوجه أخر تظهر بأدنى تأمل . (1)
* سورةُ الكهف من السور المكية ، وهي إحدى سورٍ خمس بُدئت ب " الحمدُ لله ، وهذه السور هي الفاتحة ، الأنعام ، آلكهف ، سبأ ، فاطر وكلها تبتدىء بتمجيد الله جل علا وتقديسه ، والاعتراف له بالعظمة والكبرياء ، والجلال والكمال .
* تعرضت السورة الكريمة لثلاث قصص من روائع قصص القرآن ، في سبيل تقرير أهدافها الأساسية لتثبيت العقيدة ، والإيمان بعظمة ذي الجلال . . أما الأولى فهي قصة (أصحاب الكهف وهي قصة التضحية بالنفس في سبيل العقيدة ، وهم الفتية المؤمنون الذين خرجوا من بلادهم فرارا بدينهم ، ولجئوا إلى غار في الجبل ، ثم مكثوا فيه نياما ثلاثمائة وتسع سنين ، ثم بعثهم الله بعد تلك المدة الطويلة . والقصة الثانية : قصة موسى مع الخضر ، وهي قصة التواضع في سبيل طلب العلم ، وما جرى من الأخبار الغيبية التي اطلع الله عليها ذلك العبد الصالح " الخضر " ولم يعرفها موسى عليه السلام حتى آْعلمه بها الخضر كقصة السفينة ، وحادثة قتل الغلام ، وبناء الجدار . والقصة الثالثة : قصة ذي القرنين وهو ملك مكَّن الله تعالى له بالتقوى والعدل أن يبسط سلطانه على المعمورة ، وأن يملك مشارق الأرض ومغاربها ، وما كان من أمره في بناء السد العظيم .
* وكما استخدمت السورة - في سبيل هدفها - هذه القصص الثلاث ، استخدمت أمثلة واقعية ثلاثة ، لبيان أن الحقً لا يرتبط بكثرة المال والسلطان ، وإنما هو مرتبط بالعقيدة ، المثل الأول : للغني المزهو بماله ، والفقير المعتز بعقيدته وإيمانه ، في قصة أصحاب الجنتين . والثاني : للحياة الدنيا وما يلحقها من فناء وزوال ، والثالث : مثل التكبر والغرور مصورا في حادثة امتناع إبليس عن السجود لآدم ، وما ناله من الطرد والحرمان ، وكل هذه القصص والأمثال بقصد العظة والاعتبار .
التسمية :
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (8 / 189)(1/690)
سميت " سورة الكهف " لما فيها من المعجزة الربانية ، فى تلك القصة العجيبة الغريبة قصة أصحاب الكهف . (1)
مقصودها وصف الكتاب بأنه قيم ، لكونه زاجراً عن الشريك الذي هو خلاف ما قام عليه الدليل في ) سبحان ( من أنه لا وكيل دونه ، ولا إله إلا هو ، وقاصّاً بالحق أخبار قوم قد فضلوا في أزمانهم وفق ما وقع الخبر به في ) سبحان ( من أنه يفضل من يشاء ، ويفعل ما يشاء ، وأدل ما فيها على هذا المقصد قصة أهل الكهف لأن خبرهم أخفى ما فيها من القصص مع أن سبب فراقهم لقومهم الشرك ، وكان أمرهم موجباً - بعد طول رقادهم - للتوحيد وإبطال الشرك ) بسم الله ( الذي لا كفوء له ولا شريك ) الرحمن ( الذي أقام عباده على أوضح الطرق بقيم الكتاب ) الرحيم ( بتفضيل من اختصه بالصواب . (2)
القصص هو العنصر الغالب في هذه السورة. ففي أولها تجيء قصة أصحاب الكهف ، وبعدها قصة الجنتين ، ثم إشارة إلى قصة آدم وإبليس. وفي وسطها تجيء قصة موسى مع العبد الصالح. وفي نهايتها قصة ذي القرنين.
ويستغرق هذا القصص معظم آيات السورة ، فهو وارد في إحدى وسبعين آية من عشر ومائة آية ومعظم ما يتبقى من آيات السورة هو تعليق أو تعقيب على القصص فيها. وإلى جوار القصص بعض مشاهد القيامة ، وبعض مشاهد الحياة التي تصور فكرة أو معنى ، على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير.
أما المحور الموضوعي للسورة الذي ترتبط به موضوعاتها ، ويدور حوله سياقها ، فهو تصحيح العقيدة وتصحيح منهج النظر والفكر. وتصحيح القيم بميزان هذه العقيدة.
فأما تصحيح العقيدة فيقرره بدؤها وختامها.
في البدء : «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً. لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا : اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً. ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ. كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً».
وفي الختام : «قُلْ : إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ، فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً».
وهكذا يتساوق البدء والختام في إعلان الوحدانية وإنكار الشرك ، وإثبات الوحي ، والتمييز المطلق بين الذات الإلهية وذوات الحوادث.
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (2 / 144)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (4 / 441)(1/691)
ويلمس سياق السورة هذا الموضوع مرات كثيرة في صور شتى :
في قصة أصحاب الكهف يقول الفتية الذين آمنوا بربهم : «رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً ، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً».
وفي التعقيب عليها : «ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ، وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً» ..
وفي قصة الجنتين يقول الرجل المؤمن لصاحبه وهو يحاوره : «أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ، لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً».
وفي التعقيب عليها : «وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً ، هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ، هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً».
وفي مشهد من مشاهد القيامة : «وَيَوْمَ يَقُولُ : نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ، وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً».
وفي التعقيب على مشهد آخر : «أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ؟ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا» أما تصحيح منهج الفكر والنظر فيتجلى في استنكار دعاوى المشركين الذين يقولون ما ليس لهم به علم ، والذين لا يأتون على ما يقولون ببرهان. وفي توجيه الإنسان إلى أن يحكم بما يعلم ولا يتعداه ، وما لا علم له به فليدع أمره إلى اللّه.
ففي مطلع السورة : «وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا : اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ» والفتية أصحاب الكهف يقولون : «هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً. لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ!» وعند ما يتساءلون عن فترة لبثهم في الكهف يكلون علمها للّه : «قالُوا : رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ».
وفي ثنايا القصة إنكار على من يتحدثون عن عددهم رجما بالغيب : «سَيَقُولُونَ : ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ : خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ - رَجْماً بِالْغَيْبِ - وَيَقُولُونَ : سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ. قُلْ : رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً ، وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً».
وفي قصة موسى مع العبد الصالح عند ما يكشف له عن سر تصرفاته التي أنكرها عليه موسى يقول : «رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي» فيكل الأمر فيها للّه.
فأما تصحيح القيم بميزان العقيدة ، فيرد في مواضع متفرقة ، حيث يرد القيم الحقيقية إلى الإيمان والعمل الصالح ، ويصغر ما عداها من القيم الأرضية الدنيوية التي تبهر الأنظار.
فكل ما على الأرض من زينة إنما جعل للابتلاء والاختبار ، ونهايته إلى فناء وزوال : «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ، وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً».(1/692)
وحمى اللّه أوسع وأرحب ، ولو أوى الإنسان إلى كهف خشن ضيق. والفتية المؤمنون أصحاب الكهف يقولون بعد اعتزالهم لقومهم : «وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ - إِلَّا اللَّهَ - فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً» والخطاب يوجه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليصبر نفسه مع أهل الإيمان غير مبال بزينة الحياة الدنيا وأهلها الغافلين عن اللّه «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً. وَقُلِ : الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ».
وقصة الجنتين تصور كيف يعتز المؤمن بإيمانه في وجه المال والجاه والزينة. وكيف يجبه صاحبها المنتفش المنتفخ بالحق ، ويؤنبه على نسيان اللّه : «قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ : أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا؟ لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً. وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ : ما شاءَ اللَّهُ ، لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً. فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ ، وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً ، أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً».
وعقب القصة يضرب مثلا للحياة الدنيا وسرعة زوالها بعد ازدهارها : «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ ، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً».
ويعقب عليه ببيان للقيم الزائلة والقيم الباقية : «الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا».
وذو القرنين لا يذكر لأنه ملك ، ولكن يذكر لأعماله الصالحة. وحين يعرض عليه القوم الذين وجدهم بين السدين أن يبني لهم سدا يحميهم من يأجوج ومأجوج في مقابل أن يعطوه مالا ، فإنه يرد عليهم ما عرضوه من المال ، لأن تمكين اللّه له خير من أموالهم «قالَ : ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ». وحين يتم السد يرد الأمر للّه لا لقوته البشرية : «قالَ : هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ، فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا».
وفي نهاية السورة يقرر أن أخسر الخلق أعمالا ، هم الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه وهؤلاء لا وزن لهم ولا قيمة وإن حسبوا أنهم يحسنون صنعا : «قُلْ : هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً؟ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً».
وهكذا نجد محور السورة هو تصحيح العقيدة. وتصحيح منهج الفكر والنظر. وتصحيح القيم بميزان العقيدة.(1/693)
ويسير سياق السورة حول هذه الموضوعات الرئيسية في أشواط متتابعة :
تبدأ السورة بالحمد للّه الذي أنزل على عباده الكتاب للإنذار والتبشير. تبشير المؤمنين وإنذار الذين قالوا : اتخذ اللّه ولدا وتقرير أن ما على الأرض من زينة إنما هو للابتلاء والاختبار ، والنهاية إلى زوال وفناء .. ويتلو هذا قصة أصحاب الكهف. وهي نموذج لإيثار الإيمان على باطل الحياة وزخرفها ، والالتجاء إلى رحمة اللّه في الكهف ، هربا بالعقيدة أن تمس.
ويبدأ الشوط الثاني بتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، وأن يغفل الغافلين عن ذكر اللّه .. ثم تجيء قصة الجنتين تصور اعتزاز القلب المؤمن باللّه ، واستصغاره لقيم الأرض .. وينتهي هذا الشوط بتقرير القيم الحقيقية الباقية.
والشوط الثالث يتضمن عدة مشاهد متصلة من مشاهد القيامة تتوسطها إشارة قصة آدم وإبليس .. وينتهي ببيان سنة اللّه في إهلاك الظالمين ، ورحمة اللّه وإمهاله للمذنبين إلى أجل معلوم.
وتشغل قصة موسى مع العبد الصالح الشوط الرابع.
وقصة ذي القرنين الشوط الخامس.
ثم تختم السورة بمثل ما بدأت : تبشيرا للمؤمنين وإنذارا للكافرين ، وإثباتا للوحي وتنزيها للّه عن الشريك. (1)
إجمال ما تضمنته السورة من الأغراض والمقاصد
(1) وصف الكتاب الكريم بأنه قيم لا عوج فيه ، جاء للتبشير والإنذار.
(2) ما جاء على ظهر الأرض هو زينة لها ، وقد خلقه اللّه ابتلاء للإنسان ليرى كيف ينتفع به.
(3) ما جاء من قصص أهل الكهف ليس بالعظيم إذا قيس بما فى ملكوت السموات والأرض.
(4) وصف الكهف وأهله ، مدة لبثهم فيه ، عدد أهله.
(5) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجلوس مع فقراء المؤمنين وعدم الفرار منهم إلى أغنيائهم إجابة لدعوتهم.
(6) ذكر ما يلاقيه الكفار من الوبال والنكال يوم القيامة.
(7) ضرب مثل يبين حال فقراء المؤمنين وأغنياء المشركين.
(8) ضرب المثل لحال الدنيا.
(9) عرض كتاب المرء عليه فى الآخرة وخوف المجرمين منه.
(10) عداوة إبليس لآدم وبنيه.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2256)(1/694)
(11) قصص موسى والخضر.
(12) قصص ذى القرنين وسد يأجوج ومأجوج ، وكيف صنعه ذو القرنين
(13) وصف أعمال المشركين وأنها ضلال وخيبة فى الآخرة.
(14) ما يلقاه المؤمنون من النعيم فى الآخرة.
(15) علوم اللّه تعالى لا نهاية لها. (1)
===============
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (16 / 30)(1/695)
(19) سورة مريم
اسم هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وأكثر كتب السنة سورة مريم. ورويت هذه التسمية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث رواه الطبراني والديلمي، وابن منده، وأبو نعيم، وأبو أحمد الحاكم: عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن أبيه عن جده أبي مريم قال :"أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله إنه ولدت لي الليلة جارية، فقال: والليلة أنزلت علي سورة مريم فسمها مريم " . فكان يكنى أبا مريم، واشتهر بكنيته. واسمه نذير، ويظهر أنه أنصاري.
وابن عباس سماها سورة كهيعص ، وكذلك وقعت تسميتها في صحيح البخاري في كتاب التفسير في أكثر النسخ وأصحها. ولم يعدها جلال الدين في الإتقان في عداد السور المسماة باسمين ولعله لم ير الثاني اسما.
وهي مكية عند الجمهور. وعن مقاتل: أن آية السجدة مدنية. ولا يستقيم هذا القول لاتصال تلك الآية بالآيات قبلها إلا أن تكون ألحقت بها في النزول وهو بعيد.
وذكر السيوطي في الإتقان قولا بأن قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]الآية مدني، ولم يعزه لقائل.
وهي السورة الرابعة والأربعون في ترتيب النزول؛ نزلت بعد سورة فاطر وقبل سورة طه. وكان نزول سورة طه قبل إسلام عمر بن الخطاب كما يؤخذ من قصة إسلامه فيكون نزول هذه السورة أثناء سنة أربع من البعثة مع أن السورة مكية، وليس أبو مريم هذا معدودا في المسلمين الأولين فلا أحسب الحديث المروي عنه مقبولا.
ووجه التسمية أنها بسطت فيها قصة مريم وابنها وأهلها قبل أن تفصل في غيرها.
ولا يشبهها في ذلك إلا سورة آل عمران التي نزلت في المدينة.
وعدت آياتها في عدد أهل المدينة ومكة تسعا وتسعين. وفي عدد أهل الشام والكوفة ثمانا وتسعين.
أغراض السورة
ويظهر أن هذه السورة نزلت للرد على اليهود فيما اقترفوه من القول الشنيع في مريم وابنها، فكان فيها بيان نزاهة آل عمران وقداستهم في الخير.
وهل يثبت الخطي إلا وشيجه
ثم التنويه بجمع من الأنبياء والمرسلين من أسلاف هؤلاء وقرابتهم.(1/696)
والإنحاء على بعض خلفهم من ذرياتهم الذين لم يكونوا على سننهم في الخير من أهل الكتاب والمشركين وأتوا بفاحش من القول إذ نسبوا لله ولدا، وأنكر المشركون منهم البعث وأثبت النصارى ولدا لله تعالى.
والتنويه بشأن القرآن في تبشيره ونذارته. وأن الله يسره بكونه عربيا ليسر تلك اللغة.
والإنذار مما حل بالمكذبين من الأمم من الاستئصال.
واشتملت على كرامة زكريا إذ أجاب الله دعاءه فرزقه ولدا على الكبر وعقر امرأته.
وكرامة مريم بخارق العادة في حملها وقداسة ولدها، وهو إرهاص لنبوءة عيسى عليه السلام، ومثله كلامه في المهد.
والتنويه بإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وموسى، وإسماعيل، وإدريس عليه السلام.
ووصف الجنة وأهلها.
وحكاية إنكار المشركين البعث بمقالة أبي بن خلف والعاصي ابن وائل وتبجحهم على المسلمين بمقامهم ومجامعهم.
وإنذار المشركين أن أصنامهم التي اعتزوا بها سيندمون على اتخاذها.
ووعد الرسول النصر على أعدائه.
وذكر ضرب من كفرهم بنسبة الولد لله تعالى.
والتنويه بالقرآن ولملته العربية، وأنه بشير لأوليائه ونذير بهلاك معانديه كما هلكت قرون قبلهم.
وقد تكرر في هذه السورة صفة الرحمان ست عشرة مرة، وذكر اسم الرحمة أربع مرات، فأنبأ بأن من مقاصدها تحقيق وصف الله تعالى بصفة الرحمان. والرد على المشركين الذين تقعروا بإنكار هذا الوصف كما حكى الله تعالى عنهم في قوله في سورة الفرقان: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: من الآية60]
ووقع في هذه السورة استطراد بآية {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: من الآية64] (1)
تعريف بسورة مريم
1 - سورة مريم من السور المكية.
قال القرطبي : وهي مكية بالإجماع. وهي تسعون وثماني آيات.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (16 / 5)(1/697)
وقال ابن كثير : وقد روى محمد بن إسحاق في السيرة ، من حديث أم سلمة ، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة ، أن جعفر بن أبى طالب - رضى اللّه عنه - قرأ صدر هذه السورة على النجاشيّ .
وكان نزولها بعد سورة فاطر « 3 ».
2 - ويبدو أن تسميتها بهذا الاسم كان بتوقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد أخرج الطبراني والديلمي ، من طريق أبى بكر بن عبد اللّه بن أبى مريم الغساني عن أبيه عن جده ، قال :
أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : ولدت لي الليلة جارية. فقال : والليلة أنزلت على سورة مريم.
وجاء فيما روى عن ابن عباس ، تسميتها بسورة كهيعص .
وقد تكرر اسم مريم في القرآن ثلاثين مرة ، ولم تذكر امرأة سواها باسمها الصريح.
3 - والذي يقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل ، يراها زاخرة بالحديث عن عدد من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - .
فقد افتتحت بالحديث عن تلك الدعوات التي تضرع بها زكريا إلى ربه ، لكي يهب له وليا ، يرثه ويرث من آل يعقوب.
وقد استجاب اللّه - تعالى - دعاء زكريا ، فوهبه يحيى كما قال - تعالى - : يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا.
ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن قصة مريم ، بصورة فيها شيء من التفصيل ، فذكرت اعتزالها لقومها ومجيء جبريل إليها وما دار بينه وبينها من محاورات ، ومولدها لعيسى وإتيانها
به قومها ، وما دار بينها وبينهم في شأنه. ثم ختمت هذه القصة بالقول الحق في شأن عيسى ، قال - تعالى - : ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ ، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.
5 - ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن طرف من قصة إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس ، وختمت حديثها عن الرسل الكرام بقوله - تعالى - : أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ، وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ. وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ. وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا.
6 - ثم حكت السورة الكريمة أنماطا من الشبهات التي تفوه بها الضالون ، ومن هذه الشبهات ما يتعلق بالبعث والنشور ، ومنها ما يتعلق بموقفهم من القرآن الكريم ومنها ما يتعلق بزعمهم أن للّه ولدا ... وقد ردت على كل شبهة من هذه الشبهات بما يبطلها ، ويخرس ألسنة قائليها.(1/698)
ومن ذلك قوله - تعالى - : وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً.
وقوله - سبحانه - : أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً. أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً. كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا. وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً.
وقوله - عز وجل - : وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً.
7 - ومن هذا العرض الإجمالى لآيات السورة الكريمة ، يتبين لنا أن سورة مريم قد اهتمت بإقامة الأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - ، وعلى نفى الشريك والولد عن ذاته - سبحانه - ، كما اهتمت - أيضا - بإقامة الأدلة على أن البعث حق ، وعلى أن الناس سيحاسبون على أعمالهم يوم القيامة.
كما زخرت السورة بالحديث عن قصص بعض الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - تارة بشيء من التفصيل كما في قصة زكريا وعيسى ابن مريم ، وتارة بشيء من الاختصار والتركيز كما في قصة إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس.
كما نراها بوضوح تحكى شبهات المشركين. ثم ترد عليها بما يبطلها ...
وقد ساقت السورة ما ساقت من قضايا ، بأسلوب عاطفى بديع ، يهيج المشاعر نحو الخير والحق والفضيلة ، وينفر من الشر والباطل والرذيلة ، ويطلع العقول على نماذج شتى من مظاهر رحمة اللّه - تعالى - بعباده الصالحين ترى ذلك في مثل قوله - تعالى - : ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا.
وفي مثل قوله - سبحانه - : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا.
8 - قال بعض العلماء ما ملخصه : والظل الغالب في جو السورة هو ظل الرحمة والرضا والاتصال. فهي تبدأ بذكر رحمة ربك لعبده زكريا. ويتكرر لفظ الرحمة ومعناها وظلها في ثنايا السورة كثيرا. ويكثر فيها اسم الرَّحْمنِ.
وإنك لتحس لمسات الرحمة الندية. ودبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلال ، كما تحس انتفاضات الكون وارتجافاته لوقع كلمة الشرك التي لا تطيقها فطرته ...
كذلك تحس أن للسورة إيقاعا موسيقيا خاصا ، فحتى جرس ألفاظها وفواصلها فيه رخاء ، وفيه عمق كألفاظ : رضيا ، سريا ، حفيا ، نجيا ...
فأما المواضع التي تقتضي الشدة والعنف ، فتجيء فيها الفاصلة مشددة في الغالب ، كألفاظ : ضدّا ، هدّا ، إدّا ، أزّا .(1/699)
وبعد فهذا تعريف لسورة مريم ، نرجو أن يكون القارئ له ، قد أخذ صورة مركزة عن أهم المقاصد التي اشتملت عليها السورة الكريمة. (1)
في السورة تذكير بمعجزة اللّه تعالى في ولادة يحيى استطرادا إلى ذكر معجزة ولادة عيسى عليهما السلام ، وتسفيه القول ببنوته للّه. واستطرادا إلى ذكر بعض الأنبياء والتنويه بهم والدعوة إلى التأسي بهم. وفيها فصول احتوت مواقف وأقوالا للكفار وحملة عليهم وعلى عقائدهم وإنذارا لهم وبيانا لمصيرهم ومصير المؤمنين المتقين بالمقابلة.
ويبدو أن السورة قسمان. الأول إلى آخر سلسلة الأنبياء ، والثاني من هنا إلى آخر السورة. وكلا القسمين متوازن ومقفى إجمالا مع اختلاف في القافية. وبينهما كذلك شيء من الترابط ، وهذا من جهة ، ونظم فصول السورة عامة من جهة أخرى يدلان على أنها نزلت متلاحقة حتى تمّت دون فصل. وقد روي أن الآيتين [58 و71] مدنيتان. واتصالهما بالسياق سبكا وموضوعا يسوّغ الشك في الرواية. وفي السورة آيتان تبدوان معترضتين وتحتويان صورة من صور التنزيل القرآني وهما [64 ، 65]. (2)
سورة مريم مكية ، وهي ثمان وتسعون آية.
تسميتها :
سميت «سورة مريم» لاشتمالها على قصة حمل السيدة مريم ، وولادتها عيسى عليه السلام ، من غير أب ، وأصداء ذلك الحمل ، وما تبعه ورافق ولادة عيسى من أحداث عجيبة ، من أهمها كلامه وهو طفل في المهد.
مناسبتها لما قبلها :
اشتملت السورتان على قصص عجيبة ، فسورة الكهف اشتملت على قصة أصحاب الكهف ، وطول لبثهم هذه المدة الطويلة ، بلا أكل ولا شرب ، وقصة موسى مع الخضر ، وما فيها من المثيرات ، وقصة ذي القرنين.
وسورة مريم فيها أعجوبتان : قصة ولادة يحيى بن زكريا عليه السلام حال كبر الوالد وعقم الوالدة أي بين شيخ فان وعجوز عاقر ، وقصة ولادة عيسى عليه السلام من غير أب.
ما اشتملت عليه السورة :
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (9 / 9)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (3 / 141)(1/700)
موضوع السورة كسائر السور المكية هو إثبات وجود اللّه ووحدانيته ، وإثبات البعث والجزاء من خلال إيراد قصص جماعة من الأنبياء ، على النحو التالي :
1 - افتتحت السورة بقصة ولادة يحيى بن زكريا عليهما السلام ، من أب شيخ كبير وأم عاقر لا تلد ، ولكن بقدرة اللّه القادر على كل شيء ، خلافا للمعتاد ، وإجابة لدعاء الوالد الصالح ، وأعقبه الخبر بإيتاء يحيي النبوة في حال الصبا ، الآيات [1 - 15].
2 - أردف ذلك قصة ولادة عيسى من مريم العذراء ، من غير أب ، لتكون دليلا آخر على القدرة الربانية. وقد أثار ذلك موجة من النقد واللوم والتعنيف ، خفف منها كلام عيسى وهو طفل في المهد ، تبرئة لأمه ، ووصف نفسه بصفات النبوة والكمال.
واقترن المخاض بحدثين غريبين : هما نداء عيسى أمه حين الولادة بألا تحزن ، فقد جعل اللّه عندها نهرا ، وأمرها بهز النخل أخذا بالأسباب لإسقاط الرطب ، الآيات [16 - 36].
وأحدثت هذه الولادة اختلافا بين النصارى في شأن عيسى ، الآيات [37 - 40].
3 - انتقلت الآيات بعدئذ إلى بيان جانب من قصة إبراهيم الخليل عليه السلام ، ومناقشته أباه في عبادة الأصنام ، وإكرام اللّه له بهبته - وهو كبير ، وامرأته سارّة عاقر - ولدا هو إسحاق ومن بعده ابنه يعقوب وجعلهما نبيين ، كما حدث فعلا من ولادة إسماعيل قبل ذلك ، وإبراهيم شيخ كبير بعد دخوله على زوجته هاجر ، الآيات [41 - 50].
4 - ثم تحدثت السورة عن قصة موسى ومناجاته ربه في الطور ، وجعل أخيه هارون نبيا ، الآيات [51 - 53].
5 - ثم أشارت إلى قصص إسماعيل الموصوف بصدق الوعد وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وإدريس الصدّيق النبي ، وما أنعم اللّه به على أولئك الأنبياء من ذرية آدم لإثبات وحدة الرسالة بدعوة الناس إلى التوحيد ونبذ الشرك الآيات [54 - 58]. وما سبق كله يشمل حوالي ثلثي السورة.
6 - قورن الخلف بالسلف ، وبان الفرق بأن الخلف أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات ، وجدد الوعد بجنات عدن لمن تاب وعمل صالحا [59 - 63].
7 - ناسب ذلك الكلام عن الوحي ، وأن جبريل لا ينزل بالوحي إلا بإذن ربه ، الآيات [64 - 65].
8 - ناقش اللّه المشركين الذين أنكروا البعث ، وأخبر بحشر الكافرين مع الشياطين ، وإحضارهم جثيا حول جهنم ، وبأن جميع الخلق ترد على النار [66 - 72].(1/701)
9 - أبان اللّه تعالى موقف المشركين حين سماع القرآن من المؤمنين بأنهم خير منهم مجلسا ومجتمعا. وهددهم بأنه أهلك كثيرا من الأمم السابقة بسبب عتوهم واستكبارهم ، وأنه يمدّ للظالمين ويمهلهم ، ويزيد الهداية للمهتدين ، وأن معبودات المشركين ستكون أعداء لهم [73 - 84] وذلك كله لتنزيه اللّه عن الولد والشريك.
10 - التمييز بين حشر وفد المتقين إلى الجنان ، وسوق المجرمين إلى النيران [85 - 87].
11 - التنديد بمن ادعى الولد للّه ، والرضا عن المؤمنين الصالحين ، وأن القرآن لتبشير المتقين وإنذار الكافرين المعاندين [88 - 98]. (1)
وهي مكية كلها على القول الصحيح ، نزلت بعد فاطر ، وعدد آياتها ثمان وتسعون آية. وتهدف إلى تقرير مبدأ التوحيد للّه ونفى الشريك والولد عنه وإثبات البعث ، وتتخذ القصص مادة لذلك ، ثم تعرض لبعض المشاهد يوم القيامة ، ومناقشة المنكرين للبعث. (2)
وجه مناسبتها لسورة الكهف اشتمالها على نحو ما اشتملت عليه من الأعاجيب كقصة ولادة يحيى. وقصة ولادة عيسى عليهما السلام ولهذا ذكرت بعدها ، وقيل إن أصحاب الكهف يبعثون قبل الساعة ويحجون مع عيسى عليه السلام حين ينزل ففي ذكر هذه السورة بعد تلك مع ذلك إن ثبت ما لا يخفى من المناسبة ، ويقوى ذلك ما قيل أنهم من قومه عليه السّلام وقيل غير ذلك. (3)
* سورة مريم مكية ، وغرضها تقرير التوحيد ، وتنزيه الله جل وعلا عما لا يليق به ، وتثبيت عقيدة الإيمان بالبعث والجزاء ، ومحورُ هذه السورة يدور حول التوحيد ، والإيمان بوجود الله ووحدانيته ، وبيان منهج المهتدين ، ومنهج الضالين .
* عرضت السورة الكريمة لقصص بعض الأنبياء مبتدئةً بقصة نبي الله " زكريا " وولده " يحيى " الذي وهبه على الكبر من امرأة عاقر ولا تلد ، ولكن الله قادرعلى كل شيء ، يسمع دعاء المكروب ، ويتسجيب لنداء الملهوف ، ولذلك استجاب الله دعاءه ورزقه الغلام النبيه .
* وعرضت السورة لقصة أعجب وأغرب ، تلك هي قصة " مريم العذراء " وإنجابها لطفل من غير أب ، وقد شاءت الحكمة الإلهية أن تبرز تلك المعجزة الخارقة بميلاد عيسى من أم بلا أب ، لتظل آثار القدرة الربانية ماثلةً أمام الأبصار ، بعظمة الواحد القهار .
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (16 / 46)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (2 / 443)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (8 / 377)(1/702)
* وتحدثت كذلك عن قصة " إبراهيم " مع ابيه ، ثم ذكرت بالثناء والتبجيل رسل الله الكرام : " إسحاق ، يعقوب ، موسى ، هارون ، إسماعيل ، إدريس ، نوحاً " وقد استغرق الحديث عن هؤلاء الرسل الكرام حوالي ثلثي السورة ، والهدفُ من ذلك إثبات " وحدة الرسالة " وأن الرسل جميعا جاؤوا لدعوة الناس إلى توحيد الله ، ونبذ الشرك والأوثان .
* وتحدثت السورة عن بعض مشاهد القيامة ، وعن أهوال ذلك اليوم الرهيب ، حيث يجثو فيه الكفرة المجرمون حول جهنم ليقذفوا فيها ، ويكونوا وقودا لها .
* وختمت السورة الكريمة بتنزيه الله عن الولد ، والشريك ، والنظير ، وردًت على ضلالات المشركين بأنصع بيان ، وأقوى برهان .
التسمية :
سميت (سورة مريم ) تخليدا لتلك المعجزة الباهرة ، في خلق إنسان بلا أب ، ثم إنطاق الله للوليد وهو طفل في المهد ، وما جرى من أحداث غريبة رافقت ميلاد عيسى عليه السلام . (1)
مقصودها بيان اتصافه سبحانه بشمول الرحمة بإفاضة النعم علىجميع خلقه ، المستلزم للدلالة على اتصافه لجميع صفات الكمال ، المستلزم لشمول القدرة على إبداع المستغرب ، المستلزم لتمام القدرة الموجب للقدرة على البعث والتنزه عن الولد لأنه لا يكون إلا لمحتاج ، ولا يكون إلا مثل الوالد ، ولا سمي له سبحانه فضلا عن مثيل ، وعلى هذا دلت تسميتها بمريم ، لأن قصتها أدل ما فيها على تمام القدرة وشمول العلم ، لأن أغرب ما في المخلوقات وأجمعه خلقا الآدمي ، وأعجب أقسام توليده الأربعة - بعد كونه آدميا - ما كان من أنثى بلا توسط ذكر ، لأن أضعف الأقسام ، وأغرب ذلك أن يتولد منها على ضعفها أقوى النوع وهو الذكر ، ولا سيما إن أوتي قوة الكلام والعلم والكتاب في حال الطفولية ، وأن يخبر بسلامته الكاملة فيكون الأمر كذلك ، لم يقدر أحد - مع كثرة الأعداء - على أن يسمه بشيء من أذى ، هذا إذا جمعته من إخراج الرطب في غير حينه من يابس الحطب ، ومن إنباع الماء في غير موضعه ، وعلى مثل ذلك أيضا دلت تسميتها بما في أولها من الحروف ، بيان ذلك أن مخرج الكاف من أقصى اللسان مما يلي الحلق ويحاذيه من أسفل الحنك ، وهي أدنى من مخرج القاف قليلا إلى مقدم الفم ر ، ولها من الصفات الهمس والشدة والانفتاح والاستفال والخفاء ، ومخرج الياء من وسط اللسان والحنك الأعلى ، ولها من الصفات الجهر والرخاوة والانفتاح والاستفال ، وه أغلب صفاتها ، ومخرج العين وسط الحلق ، ولها من صفات الجهر وبين أصول الثنيتين السفليين ، وله من الصفات الهمس والرخاوة والإطباق
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (2 / 165)(1/703)
والاستعلاء والصفير ، فالافتتاح بهذه الأحرف هنا إشارة - والله أعلم - إلى أن أهل الله عامة - من ذكر منهم في هذه السورة وغيرهم - يكون أمرهم عند المخالفين أولا - كما تشير إليه الكاف - ضعيفا مع شدة انفتاح كما كان حال النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) أول ما دعا ، فإنه اشتهر أمره ولكنه كان ضعيفا بإنكار قومه إلا أنهم لم يبالغوا في الإنكار ، ثم يصير الأمر فيا ، ائل العراك - كما تشير إلأيه الهاء - إلى استقال ، ثم يزداد بتمالؤ المستكبرين عليهم ضعفا وخفاء ، وإلى هذا تشير قراءتها بالإمالة ، ولا بد مع ذلك من نوع ظهور - كما يشبر إليه انفتاح الهاء وإليه تشير قراءة الفتح ، وهذا كما كان النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) حين صرح بسب آلهتهم وتسفيه أحلامهم وتضليل آبائهم فقاموا عليه إلبا واحدا ، فهاجر أكثر الصحابة رضي الله عنهم إلى الحبشة ، وخاف أبو طالب دهماء العرب فقال قصيدته اللامية يفي ذلك ، وتمادى الحال حتى ألجاتهم قريش إلأى الشعب ، وتكون في وسط أمرهم - كما تشير إليه الياءوقراءتها بالفتح ، لهم قوة مع رخاوة واشتهار واستفال ، وهو الأغلب عليهم ظاهرا كما تشير إليه قراءة الإمالة ، فيكون ذلهم من وراء عز وعزهم في ثوب ذل ، يعرف ذلك من عاناه ، ونظر إليه بعين الحقيقة واجتلاء ، وهذا كما كان عند قيام من قام من قريش يفي نقض الصحيفة الظالمة وإخراجهم من الشعب ، ثم عند موت خديجة رضي الله عنها وأبي طالب ، وخرج ( - صلى الله عليه وسلم - ) إلى الطائف فردوه - بأبي هو وأمي ونفسي وودلدي وعيني ، فلما قرب من مكة المشرفة لم يستطع دخولها بغير جوار ، فاختفى في غار حراء وأرسل إلى من يجيره ، ثم أرسل حتى أجاره المطعم بن عدي ، ولبس السلاح هو من أطاعةى وأدخله ( - صلى الله عليه وسلم - ) حتى طاف بالبيت ، ثم قضى سبحانه أن قتل المطعم في بدر كافرا ، بعد اجتهاد النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) في سلامته والإيصاء به أن لا يقتل - ليعلم أنه سبحانه مختار في عموم رحمته وخصوصها ، لئلا ييأس عاص أو يأمن طائع ، ثم إذا علا أمرهم عن الوسط صاعدا قوي - كما تشير إليه العين ، فصار بين الشدة والرخاوة ، وفيه انفتاح بشهرة مع استفال في بعض الأمر كما كان حاله ( - صلى الله عليه وسلم - ) عند مبايعة الأنصار رضوان الله عليهم ، وأما آخر أمرهم فهو وإن كالن فيه نوع من الضعف ، وضرب من الرخاوة واللين كما كان في غزوة حنين والطائف ، فإنه تعقبه قوة عظيمة بالإطباق ، واستعلاء واشتهار يملأ الآفاق ، كما يشير إليه الصغير - هذا في أهل الله عامة المذكورين في هذه السورة وغيرهم ، وأما ما يخص عيسى عليه الصلاة والسلام الذي هو صورة سورتها ومطمح إشارتها وسيرتها فجعل الحروف اللسانية من هذه الحروف أغلبها ثلاثة أحرف منها إشارة إللا أن إبراهيم عليه السلام بما أعطى في نفسه وفي ذريته ولسان الصدق المذكور به هو لسان هذا الوجود ، وأن دولة آله الذين عيسى عليه السلام من أعيانهم هي وسط هذا الوجود حقيقة وخيارا ، فموسى عليه السلام أو أصحاب شرائعهم بمنزلة القاف التي هي من أقصى اللسان وله حظ كبير منها ، فإنه من أجله قتل أبناء بني إسرائيل وولد في سنةالقتل ، وكان سبب هجرته وابتداء سيره إلى الله(1/704)
تعالى قتله القبطي ، وقرب نجيا ، ومن صفاتها الجهر والشدة والانفتاح ، والاستعالاء والقلقلة ، وهو عريق يفي كل من خيرات ذلك ، وداود عليه السلام ثاني ذوي كتبهم بمنزلة الهمزة التي هي أبعد من مخرج الهاء إحدى هذه الحروف ، وهو أول من جمع من بني إسرائيل بين الملك والنبوة ، وله حظ من صفاتها : الجهر والشدة والانفتاح ، بما كان فيه من الملك والظهور ، والنصر على الأعداء وعجائب المقدور ، وله حظ من وصفها بالاستفال في أول أمره وفي آخره بما كان من بكائه وتواضعه وإخباته لربه وصلاحه ، فالكاف هنا إشارة إلى أن عيسى عليه الصلاة والسلام هو ثاني الشارعين يفي الوجود ، والهاء عبارة عن أنه من عقب داود عليه السلام ، وكل منهما له حظ من صفات الحرف المشير إليه الدال عليه ، والصاد التي هي من طرف اللسان وهي خاتمة هذه الحروف إشارة مما فيها من الإطباق المشير إلى تطبيق الرسالة لجميع الوجوه ، ومن الاستعلاء المشير إلى نهاية العطمة ، والصفير المشير إلى غاية الانتشار بما فيها من الصفات إلى أن أول أمر عيسى عليه السلام يكون فيه مع الشدة ضعف ، ثم تشير أيضا الهاء - التي هي من أقصى الحلق - إلى أن أمره يبطن بعد ذلك الظهور ويخفى بارتفاعه إلى السماء ، ويدل الاستفال على أنها قريبة إلى السفلى ، وهو كذلك فإنه في الثانية بدلالة رتبة الكاف والهاء في مخرجيهما ، وتشير الياء بجهرها إلى ظهوره بنزوله ، وتدل بكونها من وسط اللسان على تمكنه في أموره ، وباعتلائها على شيء في ذلك وهو ضعف الاتباع وحصرهم في ذلك الوقت ، وتدل بانفتاحها ورخاوتها على ظهوره على الدجال في أولئك القوم الذين قد جهدهم البلاء عند نزوله ، ومسهم الضر قبل حلوله ، وتليح غلبة الاستفال عليها إلى أمر يأجوج ومأجوج لما يوحيه الله إليه " إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بهم ، فجرز عبادي إلى الطور " وتدل العين بكونها من وسط الحق على انحصارهم ، ويجهرها على أنه لا سبيل للعدو عليهم ولا وصول بوجه إليهم ، وبما فيها من البينية والاستفال على جهدهم مع حسن العاقبة ، وتبشر - بما فيها من الانفتاح - بحصول الفتح الذي ليس وراءه 9 فتح ، وتدل الصاد بمخرجها على القوة الزائدة ، وبالهمس والرخاوة على أنها قوة لا بطش فيها ، وبالإطباق والاستعلاء على عموم الذين جميع الناس ، وبالصفير على أنه ليس وراء ذلك إلا النفخ في الصور لعموم الهلاك لكل موجود مفطور ، ثم لبعثرة القبور ، وتحصيل ما في الصدور ، وكل هذا من ترتيب سنته سبحانه في المصطفين من عباده على هذا النحو البديع ، وترتيب هذه الحروف على هذا النظم الدال عليه دائر على القدرة التامة والعلم الشامل والحكمة الباهرة ، رحمهم سبحانه بأن نكبهم طريق الجبارين التي أوصلتهم إلى القسوة ، وجنبهم سنن المستكبرين التي تلجئ ولا بد إلأى الشقوة ، فجعل نصرهم في لوامع انكسار ، وكسرهم في جوامع انتصار ، وحماهم من فخامة دائمة تجر إلى بذح وعلو واستكبار ، ومن رقة ثابتة تحمل على ذل وسفول وصغار ، فلقد انطبق الاسمان على المسمى ، واتضحا غاية الاتضاح في أمره ونما ، وهذا معنى ما قال الكلبي : هو(1/705)
ثناء أثنى الله به على نفسه. ) بسم الله ( المنزه عن كل شائبة نقص ، القادر على كل ما يريد ) الرحمن ( الذي عم نواله سائر مخلوقاته ) الرحيم ( الذي اختص الصالحين من عباده ، بما يسعد من مراده . (1)
يدور سياق هذه السورة على محور التوحيد ونفي الولد والشريك ويلم بقضية البعث القائمة على قضية التوحيد .. هذا هو الموضوع الأساسي الذي تعالجه السورة ، كالشأن في السور المكية غالبا.
والقصص هو مادة هذه السورة. فهي تبدأ بقصة زكريا ويحيى. فقصة مريم ومولد عيسى. فطرف من قصة إبراهيم مع أبيه .. ثم تعقبها إشارات إلى النبيين : إسحاق ويعقوب ، وموسى وهرون ، وإسماعيل ، وإدريس. وآدم ونوح. ويستغرق هذا القصص حوالي ثلثي السورة. ويستهدف إثبات الوحدانية والبعث ، ونفي الولد والشريك ، وبيان منهج المهتدين ومنهج الضالين من أتباع النبيين.
ومن ثم بعض مشاهد القيامة ، وبعض الجدل مع المنكرين للبعث.
واستنكار للشرك ودعوى الولد وعرض لمصارع المشركين والمكذبين في الدنيا وفي الآخرة .. وكله يتناسق مع اتجاه القصص في السورة ويتجمع حول محورها الأصيل.
وللسورة كلها جو خاص يظللها ويشيع فيها ، ويتمشى في موضوعاتها ..
إن سياق هذه السورة معرض للانفعالات والمشاعر القوية .. الانفعالات في النفس البشرية ، وفي «نفس» الكون من حولها. فهذا الكون الذي نتصوره جمادا لا حس له يعرض في السياق ذا نفس وحس ومشاعر وانفعالات ، تشارك في رسم الجو العام للسورة. حيث نرى السماوات والأرض والجبال تغضب وتنفعل حتى لتكاد تنفطر وتنشق وتنهد استنكارا :
«أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً» ..
أما الانفعالات في النفس البشرية فتبدأ مع مفتتح السورة وتنتهي مع ختامها. والقصص الرئيسي فيها حافل بهذه الانفعالات في مواقفه العنيفة العميقة. وبخاصة في قصة مريم وميلاد عيسى.
والظل الغالب في الجو هو ظل الرحمة والرضى والاتصال. فهي تبدأ بذكر رحمة اللّه لعبده زكريا «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا» وهو يناجي ربه نجاء : «إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا» .. ويتكرر لفظ الرحمة ومعناها وظلها في ثنايا السورة كثيرا. ويكثر فيها اسم «الرَّحْمنِ». ويصور النعيم الذي يلقاه المؤمنون به في صورة ود : «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» ويذكر من نعمة اللّه على يحيى أن آتاه اللّه حنانا «وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا». ومن نعمة اللّه على عيسى أن جعله برا بوالدته وديعا لطيفا :
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (4 / 514)(1/706)
«وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا» ..
وإنك لتحس لمسات الرحمة الندية ودبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلال. كما تحس انتفاضات الكون وارتجافاته لوقع كلمة الشرك التي لا تطيقها فطرته .. كذلك تحس أن للسورة إيقاعا موسيقيا خاصا.
فحتى جرس ألفاظها وفواصلها فيه رخاء وفيه عمق : رضيا. سريا. حفيا. نجيا .. فأما المواضع التي تقتضي الشد والعنف ، فتجيء فيها الفاصلة مشددة دالا في الغالب. مدّا. ضدّا. إدّا ، هدّا ، أو زايا : عزّا. أزّا.
وتنوع الإيقاع الموسيقي والفاصلة والقافية بتنوع الجو والموضوع يبدو جليا في هذه السورة . فهي تبدأ بقصة زكريا ويحيى فتسير الفاصلة والقافية هكذا :
«ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا ... إلخ».
وتليها قصة مريم وعيسى فتسير الفاصلة والقافية على النظام نفسه :
«وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ... إلخ» إلى أن ينتهي القصص ، ويجيء التعقيب ، لتقرير حقيقة عيسى ابن مريم ، وللفصل في قضية بنوته.
فيختلف نظام الفواصل والقوافي .. تطول الفاصلة ، وتنتهي القافية بحرف الميم أو النون المستقر الساكن عند الوقف لا بالياء الممدودة الرخية. على النحو التالي :
«ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ ... إلخ».
حتى إذا انتهى التقرير والفصل وعاد السياق إلى القصص عادت القافية الرخية المديدة :
«وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ : يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً .. إلخ».
حتى إذا جاء ذكر المكذبين وما ينتظرهم من عذاب وانتقام ، تغير الإيقاع الموسيقي وجرس القافية :«قُلْ : مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا. حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً .. إلخ».
وفي موضع الاستنكار يشتد الجرس والنغم بتشديد الدال :«وَقالُوا : اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا ، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا ... إلخ».
وهكذا يسير الإيقاع الموسيقي في السورة وفق المعنى والجو ويشارك في إبقاء الظل الذي يتناسق مع المعنى في ثنايا السورة ، وفق انتقالات السياق من جو إلى جو ومن معنى إلى معنى.(1/707)
ويسير السياق مع موضوعات السورة في أشواط ثلاثة :
الشوط الأول يتضمن قصة زكريا ويحيى ، وقصة مريم وعيسى. والتعقيب على هذه القصة بالفصل في قضية عيسى التي كثر فيها الجدل ، واختلفت فيها أحزاب اليهود والنصارى.
والشوط الثاني يتضمن حلقة من قصة إبراهيم مع أبيه وقومه واعتزاله لملة الشرك وما عوضه اللّه من ذرية نسلت بعد ذلك أمة. ثم إشارات إلى قصص النبيين ، ومن اهتدى بهم ومن خلفهم من الغواة ومصير هؤلاء وهؤلاء. وينتهي بإعلان الربوبية الواحدة ، التي تعبد بلا شريك : «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ. هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا؟» والشوط الثالث والأخير يبدأ بالجدل حول قضية البعث ، ويستعرض بعض مشاهد القيامة. ويعرض صورة من استنكار الكون كله لدعوى الشرك ، وينتهي بمشهد مؤثر عميق من مصارع القرون! «وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ. هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً» (1)
خلاصة لما حوته السورة الكريمة من المقاصد
(1) دعاء زكريا ربه أن يهب له ولدا سريا مع ذكر الأسباب التي دعته إلى ذلك (2) استجابة اللّه دعاءه وبشارته بولد يسمى يحيى لم يسمّ أحد من قبله بمثل اسمه.
(3) تعجب زكريا من خلق ذلك الولد من أبوين : أمّ عاقر وأب شيخ هرم.
(4) طلبه العلامة على أن امرأته حامل.
(5) إيتاء يحيى النبوة والحكم صبيا.
(6) ما حدث لمريم من اعتزالها لأهلها ، وتمثل جبريل لها بشرا سويا ، والتجائها إلى اللّه أن يدفع عنها شر هذا الرجل ، وإخباره لها أنه ملك لا بشر.
(7) حملها بعيسى عليه السلام وانتباذها مكانا قصيا حتى لا يراها الناس وهى على تلك الحال.
(8) نداء عيسى لها حين الولادة ، وأمرها بهزّ النخلة حتى تساقط عليها رطبا جنيا.
(9) مجيئها بعيسى ومقابلتها لقومها وهى على تلك الحال وقد انهال عليها اللوم والتعنيف بأنها فعلت ما لم يسبقها إليه أحد من تلك الأسرة الشريفة التي اشتهرت بالصلاح والتقوى.
(10) كلام عيسى وهو فى المهد تبرئة لأمه ووصفه نفسه بصفات الكمال من النبوة والبركة والبر بوالديه وأنه لم يكن جبارا متكبرا على خالقه.
(11) اختلاف النصارى فى شأنه.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2299)(1/708)
(12) قصص إبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر ووصفه له بالجهل وعدم التأمل فى المعبودات التي يعبدها من دون اللّه ثم تحذيره إياه بسوء مغبة أعماله ، وردّ أبيه عليه مهددا متوعدا (13) هبة اللّه له إسحاق ويعقوب ، وإيتاؤهما الحكم والنبوة.
(14) قصص موسى ومناجاته ربه فى الطور ، والامتنان عليه بجعل أخيه هارون وزيرا ونبيا.
(15) قصص إسماعيل ووصف اللّه له بصدق الوعد وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
(16) قصص إدريس عليه السلام ووصف اللّه له بأنه صديق نبى رفيع القدر ، عظيم المنزلة عند ربه.
(17) مجىء خلف من بعد هؤلاء الأنبياء أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.
(18) وعد اللّه لمن تاب وآمن وعمل صالحا بجنات لا لغو فيها ولا تأثيم.
(19) إن جبريل لا ينزل إلى الأنبياء إلا بإذن ربه.
(20) إنكار المشركين للبعث استبعادا له ، ورد اللّه عليهم بأنه خلقهم من قبل ولم يكونوا شيئا.
(21) الإخبار بأن اللّه يحشر الكافرين يوم القيامة مع قرنائهم من الشياطين ثم يحضرهم حول جهنم جثيا ، ثم بدئه بمن هو أشد جرما واللّه أعلم بهم.
(22) الإخبار بأن جميع الخلق ترد على النار ثم ينجى اللّه الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا.
(23) بيان أن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن فخروا على المؤمنين بأنهم خير منهم مجلسا وأكرم منهم مكانا.
(24) تهديدهم بأنه أهلك كثيرا ممن كان مثلهم فى العتو والاستكبار ، وأكثر أثاثا ورياشا.
(25) بيان أن اللّه يمد للظالم ويمهله ، ليجترح من السيئات ما شاء ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
(26) النعي على المشركين باتخاذ الشركاء ، وأنهم يوم القيامة سيكونون لهم أعداء.
(27) نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طلب تعجيل هلاك المشركين ، إذ أن حياتهم مهما طالت فهى محدودة معدودة.
(28) التفرقة بين حشر المتقين إلى دار الكرامة ، وسوق المجرمين إلى دار الخزي والهوان.
(29) النعي الشديد على من ادعى أن للّه ولدا.
(30) بيان أن اللّه قد أنزل كتابه بلسان عربى مبين ، ليبشر به المتقين ، وينذر به الكافرين ذوى اللدد والخصومة. (1)
===============
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (16 / 90)(1/709)
(20 ) سورة طه
سميت سورة "طاها" باسم الحرفين المنطوق بهما في أولها.
ورسم الحرفان بصورتهما لا بما ينطق به الناطق من اسميهما تبعا لرسم المصحف كما تقدم في سورة الأعراف. وكذلك وردت تسميتها في كتب السنة في حديث إسلام عمر بن الخطاب كما سيأتي قريبا.
وفي تفسير القرطبي عن مسند الدرامي عن هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أن الله تبارك وتعالى قرأ "طاها" باسمين قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى لأمة ينزل هذا عليها" الحديث. قال ابن فورك: معناه أن الله أظهر كلامه وأسمعه من أراد أن يسمعه من الملائكة، فتكون هذه التسمية مروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وذكر في الإتقان عن السخاوي أنها تسمى أيضا "سورة الكليم"، وفيه عن الهذلي في كامله أنها تسمى "سورة موسى".
وهي مكية كلها على قول الجمهور. واقتصر عليه ابن عطية وكثير من المفسرين. وفي الإتقان أنه استثني منها آية {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: من الآية130] واستظهر في الإتقان أن يستثنى منها قوله تعالى {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [طه: من الآية131]. لما أخرج أبو يعلى والزار عن أبي رافع قال: "أضاف النبي - صلى الله عليه وسلم - ضيفا فأرسلني إلى رجل من اليهود أن أسلفني دقيقا إلى هلال رجب فقال: لا، إلا برهن، فأتيت النبي فأخبرته فقال: أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض. فلم أخرج من عنده حتى نزلت {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [طه:131] الآية اهـ.
وعندي أنه إن صح حديث أبي رافع فهو من اشتباه التلاوة بالنزول. فالعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأها متذكرا فظنها أبو رافع نازلة ساعتئذ ولم يكن سمعها قبل، أو أطلق النزول على التلاوة. ولهذا نظائر كثيرة في المرويات في أسباب النزول كما علمته غير مرة.
وهذه السورة هي الخامسة والأربعون في ترتيب النزول نزلت بعد سورة مريم وقبل سورة الواقعة. ونزلت قبل إسلام عمر بن الخطاب لما روى الدارقطني عن أنس بن مالك، وابن إسحاق في سيرته عنه قال: خرج عمر متقلدا بسيف. فقيل له: إن ختنك وأختك قد صبوا، فأتاهما عمر وعندهما خباب بن الأرت يقرئهما سورة "طاها"، فقال: "أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرأه? فقالت له أخته: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ. فقام عمر وتوضأ وأخذ الكتاب فقرأ طه. فلما قرأ صدرا منها قال: ما(1/710)
أحسن هذا الكلام وأكرمه" إلى آخر القصة. وذكر الفخر عن بعض المفسرين أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة.
وكان إسلام عمر في سنة خمس من البعثة قبيل الهجرة الأولى إلى الحبشة فتكون هذه السورة قد نزلت في سنة خمس أو أواخر سنة أربع من البعثة.
وعدت آيها في عدد أهل المدينة ومكة مائة وأربعا وثلاثين وفي عدد أهل الشام مائة وأربعين، وفي عدد أهل البصرة مائة واثنتين وثلاثين. وفي عدد أهل الكوفة مائة وخمسا وثلاثين.
أغراضها
احتوت من الأغراض على:
- التحدي بالقرآن بذكر الحروف المقطعة في مفتتحها
- والتنويه بأنه تنزيل من الله لهدي القابلين للهداية؛ فأكثرها في هذا الشأن.
- والتنويه بعظمة الله تعالى. وإثبات رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنها تماثل رسالة أعظم رسول قبله شاع ذكره في الناس. فضرب المثل لنزول القران على محمد - صلى الله عليه وسلم - بكلام الله موسى عليه السلام
- وبسط نشأة موسى وتأييد الله إياه ونصره على فرعون بالحجة والمعجزات وبصرف كيد فرعون عنه وعن أتباعه.
- وإنجاء الله موسى وقومه، وغرق فرعون،وما أكرم الله به بني إسرائيل في خروجهم من بلد القبط.
وقصة السامري وصنعه العجل الذي عبده بنو إسرائيل في مغيب موسى عليه السلام.
وكل ذلك تعويض بأن مآل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - صائر إلى ما صارت إليه بعثة موسى عليه السلام من النصر على معانديه. فلذلك انتقل من ذلك إلى وعيد من أعرضوا عن القرآن ولم تنفعهم أمثاله ومواعظه.
- وتذكير الناس بعدواة الشيطان الإنسان بما تضمنه قصة خلق آدم.
- ورتب على ذلك سوء الجزاء في الآخرة لمن جعلوا مقادتهم بيد الشيطان وإنذارهم بسوء العقاب في الدنيا.
- وتسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما يقولونه وتثبيته على الدين.
وتخلل ذلك إثبات البعث. وتهويل يوم القيامة وما يتقدمه من الحوادث والأهوال. (1)
مناسبتها للسورة التي قبلها
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (16 / 91)(1/711)
ختمت سورة مريم بقوله تعالى : « فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ».
وبدئت سورة طه بقوله : « ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى ».والختام ، والبدء ، على سواء فى تذكير النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه ، بأنه ليس مسئولا عن هداية الناس ، وحملهم حملا على الإيمان باللّه .. وإنما دعوته هى تبليغ رسالة ربّه .. والرسالة ـ كما يحملها القرآن الكريم ـ واضحة بيّنة ، لا تحتاج إلى جهد يبذل وراءها ، ليكشف عن مضامينها .. إنها لا تحتاج ـ لكى يجنى الناس ثمراتها ـ إلا إلى آذان تسمع ، وعقول تعقل ، وقلوب تعى « فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها » (41 : الزمر) « وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ .. وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ » (29 : الكهف) (1)
تعريف بسورة طه
1 - سورة « طه » من السور المكية. وكان ترتيبها في النزول بعد سورة مريم.
قال الآلوسى : « وتسمى - أيضا - بسورة الكليم .. وآياتها - كما قال الداني - مائة وأربعون آية عند الشاميين ومائة وخمس وثلاثون عند الكوفيين ، ومائة وأربع وثلاثون عند الحجازيين » .
وقال القرطبي : « سورة طه - عليه السلام - مكية في قول الجميع ، نزلت قبل إسلام عمر - رضى اللّه عنه - ، فقد قيل له : إن ختنك وأختك قد صبوا - أى : دخلا في الإسلام - فأتاهما وعندهما رجل من المهاجرين .. يقال له : خباب وكانوا يقرءون « طه » .
2 - وقد افتتحت السورة الكريمة بخطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وببيان وظيفته ، وببيان سمو منزلة القرآن الكريم : الذي أنزله عليه ربه الذي له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
قال - تعالى - : طه. ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى . إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى . تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى . الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ....
3 - ثم فصلت السورة الكريمة الحديث عن قصة موسى - عليه السلام - فبدأت بنداء اللّه - تعالى - له ، وباختياره لحمل رسالته. ثم تحدثت عن تكليفه - سبحانه - لموسى ، بالذهاب إلى فرعون.قال - تعالى - : اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي.
4 - ثم حكت السورة ما دار بين موسى وبين فرعون من مناقشات ومجادلات ، وكذلك ما دار بين موسى وبين السحرة الذين جمعهم فرعون لمنازلة موسى - عليه السلام - وكيف أن السحرة انتهى
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (8 / 776)(1/712)
أمرهم بالإيمان ، وبقولهم لفرعون : لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا ، وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى .
5 - ثم بينت السورة الكريمة ما فعله بنو إسرائيل في غيبة موسى عنهم ، وكيف أن السامري قد أضلهم بأن جعلهم يعبدون عجلا له خوار ... وكيف أن موسى رجع إليهم غضبان أسفا .. فحطم العجل وأحرقه وألقاه في اليم وهو يقول : إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً.
6 - وبعد أن فصلت السورة الكريمة الحديث عن قصة موسى - عليه السلام - عقبت على ذلك ببيان وظيفة القرآن الكريم ، وببيان جانب من أهوال يوم القيامة ، وسوء عاقبة الكافرين ، وحسن عاقبة المؤمنين.قال - تعالى - : وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً.
7 - ثم ساقت السورة في أواخرها جانبا من قصة آدم ، فذكرت سجود الملائكة له ، ونسيانه لأمر ربه ، وقبول اللّه - تعالى - لتوبة آدم بعد أن وسوس له الشيطان بما وسوس ..قال - تعالى - : وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً. وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى . فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى .
8 - ثم ختمت السورة الكريمة بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصبر وبالإكثار من ذكر اللّه - تعالى - وبعدم التطلع إلى زهرة الحياة الدنيا ، وبأمر أهله بالصلاة. وبالرد على مزاعم المشركين ، وبتهديدهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا على ضلالهم ..قال - تعالى - : قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا ، فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى .
9 - هذا عرض إجمالى لأهم المقاصد التي اشتملت عليها سورة طه. ومن هذا العرض نرى : أن القصة قد أخذت جانبا كبيرا منها. وكذلك الحديث عن القرآن الكريم وعن يوم القيامة ، وعن أحوال الناس فيه .. قد تكرر فيها بأسلوب يهدى للتي هي أقوم .. (1)
في السورة تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتخفيف عنه. وسلسلة طويلة تحتوي قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل وقصة آدم وإبليس في معرض التسلية وضرب المثل والعظة والإنذار. وفيها حكاية لبعض مواقف الكفار وبيان لمصيرهم ومصير المتقين.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (9 / 83)(1/713)
وفصول السورة مترابطة منسجمة كما أن آياتها متماثلة في التسجيع وأكثر مقاطعها متوازنة مقفاة مما يسوغ القول إنها نزلت فصولا متلاحقة. وفيها آية معترضة تعلّم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أدب تلقي القرآن. ومشابهة لآيات سورة القيامة [16 - 19].
وقد روي أن الآيتين [130 - 131] مدنيتان. وانسجامهما مع السياق سبكا وموضوعا يسوّغ الشك في الرواية. وفي فاتحة السورة ما يمكن أن يكون قرينة على صحة نزولها بعد سورة مريم. (1)
سورة طه مكية ، وهي مائة وخمس وثلاثون آية.
التسمية :
سميت (سورة طه) لابتداء السورة بالنداء بها طه ، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى وهو اسم من أسماء النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، وفي ذلك تكريم له ، وتسلية عما يلقاه من إعراض قومه.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه هي :
أولا - أن طه نزلت بعد سورة مريم ، كما روي عن ابن عباس.
ثانيا - أنه ذكر في سورة مريم قصص عدد من الأنبياء والمرسلين (عشرة) مثل زكريا ويحيى وعيسى وإبراهيم ، وموسى الذي ذكرت قصته موجزة مجملة ، فذكرت في هذه السورة موضحة مفصلة ، كما وضحت قصة آدم عليه السلام الذي لم يذكر في سورة مريم إلا مجرد اسمه فقط.
ثالثا - أنه ذكر في آخر سورة مريم تيسير القرآن باللسان العربي ، لسان محمد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم للتبشير والإنذار ، وابتدئ ذكر هذه السورة بتأكيد هذا المعنى.
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة كموضوعات سائر السور المكية وهو إثبات أصول الدين من التوحيد والنبوة والبعث. وكانت بداية السورة ذات إيحاء وتأثير عجيب ، من خلال الحديث عن سلطان اللّه وعظمته وقدرته وشمول علمه ، وقد أدرك هذا عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه حين تلاوتها في بداية إسلامه ، كما هو معروف في قصة إسلامه.
وتضمنت السورة ما يأتي :
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (3 / 186)(1/714)
1 - القرآن الكريم تذكرة لمن يخشى رب الأرض والسموات العلى ، وتثبيت لشخصية النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في قيامه بواجب الدعوة والتبليغ ، والإنذار والتبشير ، وعدم الالتفات لمكائد المشركين [الآيات : 1 - 8].
2 - البيان الجلي لقصة موسى وتكليم اللّه له ، وإلقائه صغيرا في اليم في صندوق ، وإرساله مع أخيه هارون إلى فرعون الطاغية الجبار ، وجداله بالحسنى لإثبات ربوبية اللّه وحده ، ومبارزته السحرة ، وتأييد اللّه له وانتصاره المؤزر ، وإيمان السحرة بدعوته ، ومعجزة انفلاق البحر وعبور بني إسرائيل فيه ، وإهلاك فرعون وجنوده ، وكفران بني إسرائيل بنعم اللّه الكثيرة عليهم ، وحديث السامري وإضلاله بني إسرائيل باتخاذ العجل إلها لهم ، وغضب موسى من أخيه هارون ، الآيات [9 - 98].
3 - الإشارة لفائدة القصص القرآني ، وتوضيح جزاء من أعرض عن القرآن [99 - 101].
4 - بيان حالة الحشر الرهيبة ، وإبادة الجبال ، وأوصاف المجرمين يوم القيامة ، والحساب العادل [102 - 112].
5 - عربية القرآن ووعيده وعصمة رسوله من نسيانه [113 - 114].
6 - إيراد قصة آدم عليه السلام مع إبليس في الجنة [115 - 122].
7 - تأكيد بيان الجزاء في الدنيا والآخرة لمن أعرض عن القرآن ، بالعيشة الضنك في الدنيا ، والعمى في الآخرة عن الحجة المنقذة من العذاب [124 - 127].
8 - العظة والاعتبار بهلاك الأمم السابقة وتأخير عذاب المشركين إلى يوم القيامة [128 - 129].
9 - توجيهات ربانية للنبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأمته في الصبر على الأذى ، وتنزيه اللّه تعالى في الليل والنهار ، وعدم الافتتان بزهرة الحياة الدنيا لدى الآخرين ، وأمر الأهل بإقامة الصلاة ومتابعة التنفيذ [130 - 132].
10 - طلب المشركين إنزال آيات مادية من اللّه ، وإعذارهم بعد إرسال الرسول وإنزال القرآن ، ثم وعيدهم بالعذاب المنتظر يوم القيامة [133 - 135]. (1)
هي مكية وعدد آياتها خمس وثلاثون ومائة آية وهذه السورة تحدد موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه رسول فقط ، وليس عليه إلا البلاغ ، واللّه معه لن يتركه وتلك سنته مع الأنبياء والمؤمنين فهذا موسى ومن آمن معه مع التذكير بيوم القيامة والتعرض لقصة آدم ليتعظ أبناؤه ويعرفوا موقفهم من الشيطان. (2)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (16 / 174)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (2 / 476)(1/715)
هى مكية إلا آيتي 130 ، 131 فمدنيتان ، وآيها خمس وثلاثون بعد المائة ، نزلت بعد سورة مريم.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه :
(1) إنه لما ذكر فى سورة مريم قصص عدد من الأنبياء والمرسلين ، بعضها بطريق البسط والإطناب كقصص زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام ، وبعضها بين البسط والإيجاز كقصص إبراهيم عليه السلام ، وبعضها موجز مجمل كقصة موسى عليه السلام ، ثم أشار إلى بقية النبيين بالإجمال - ذكر هنا قصة موسى التي أجملت فيما سلف ، واستوعبها غاية الاستيعاب ، ثم فصّل قصة آدم عليه السلام ، ولم يذكر فى سورة مريم إلا اسمه فحسب.
(2) إنه روى عن ابن عباس أن هذه السورة نزلت بعد سالفتها.
(3) إن أول هذه السورة متصل بآخر السورة السابقة ومناسب له فى المعنى ، إذ ذكر فى آخر تلك أنه إنما يسّر القرآن بلسانه العربي المبين ، ليكون تبشيرا للمتقين وإنذارا للمعاندين ، وفى أوائل هذه ما يؤكد هذا المعنى (1)
وجه الترتيب على ما ذكره الجلال أنه سبحانه لما ذكر في سورة مريم قصص عدة من الأنبياء عليهم السّلام وبعضها مبسوط كقصة زكريا ويحيى وعيسى عليهم السّلام وبعضها بين البسط والإيجاز كقصة إبراهيم عليه السّلام وبعضها موجز مجمل كقصة موسى عليه السّلام وأشار إلى بقية النبيين عليهم السّلام إجمالا ذكر جل وعلا في هذه السورة شرح قصة موسى عليه السّلام التي أجملها تعالى هناك فاستوعبها سبحانه غاية الاستيعاب وبسطها تبارك وتعالى أبلغ بسط ثم أشار عز شأنه إلى تفصيل قصة آدم عليه السّلام الذي وقع في مريم مجرد ذكر اسمه ثم أورد جل جلاله في سورة الأنبياء بقية قصص من لم يذكر قصته في مريم كنوح ولوط وداود وسليمان وأيوب واليسع وذي الكفل وذي النون عليهم السّلام وأشير فيها إلى قصة من ذكرت قصته إشارة وجيزة كموسى وهارون وإسماعيل. وذكرت تلو مريم لتكون السورتان كالمتقابلتين وبسطت فيها قصة إبراهيم عليه السّلام البسط التام فيما يتعلق به مع قومه ولم يذكر حاله مع أبيه إلا إشارة كما أنه في سورة مريم ذكر حاله مع قومه إشارة ومع أبيه مبسوطا ، وينضم إلى ما ذكر اشتراك هذه السورة وسورة مريم في الافتتاح بالحروف المقطعة ، وقد روي عن ابن عباس وجابر بن زيد رضي اللّه تعالى عنهم أن طه نزلت بعد سورة مريم. ووجه ربط أول هذه بآخر تلك أنه
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (16 / 93)(1/716)
سبحانه ذكر هناك تيسير القرآن بلسان الرسول عليه الصلاة والسّلام معللا بتبشير المتقين وإنذار المعاندين وذكر تعالى هنا ما فيه نوع من تأكيد ذلك. (1)
سورة طه مكية ، وهي تبحث عن نفس الاهداف للسور المكية ، وغرضها الاساسى التركيز على اصول الدين من (التوحيد ، والنبوة ، والبعث والنشور) في هذه السورة الكريمة تظهر شخصية الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) في شد أزره ، وتقوية روحه ، حتى لا يتأثر بما يلقى اليه من السفاهة والعناد ، والاستهزاء والتكذيب ، ولارشاده الى وظيفته الاساسية ، وهي التبليغ والتذكير ، والانذار والتبشير ، وليس عليه ان يجبر الناس على الايمان . عرضت السورة لقصص الانبياء ، تسلية لرسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) وتطمينا لقلبه الشريف ، فذكرت بالتفصيل قصة (موسى) و(هارون ) مع فرعون الطاغية الجبار ويكاد يكون معظم السورة في الحديث عنها ، وبالأخص موقف المناجاة بين موسى وربه ، وموقف تكليفه بالرسالة ، وموقف الجدال بين موسى وفرعون ، وموقف المبارزة بينه وبين السحرة ، وتتجلى في ثنايا تلك القصة رعايةُ الله لموسى ، نبيه وكليمه ، لإهلاك الله لأعدائه الكفرة المجرمين . وعرضت السورة لقصة آدم بشكل سريع خاطف ، برزت فيه رحمة الله لآدم بعد الخطيئة ، وهدايته لذريته بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين ، ثم ترك الخيار لهم لإختيار طريق الخير او الشر . وفي ثنايا السورة الكريمة تبرز بعض مشاهد القيامة ، في عبارات يرتجف لها الكون ، وتهتز لها القلوب هلعا وجزعا ، و ما يصيب الناس من الذهول والسكون [ وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا ] . وعرضت السورة ليوم (الحشر الأكبر) ، حيث يتم الحساب العادل ، ويعود الطائعون الى الجنة ، ويذهب العصاة الى النار ، تصديقا لوعد الله الذي لا يتخلف ، بإثابة المؤمنين وعقاب المجرمين . وختمت السورة ببعض التوجيهات الربانية للرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) في الصبر وتحمل الأذى في سبيل الله حتى يأتي نصر الله .
التسمية : سميت " سورة طه " وهو اسم من اسمائه الشريفة ( - صلى الله عليه وسلم - ) تطييبا لقلبه ، وتسلية لفؤاده عما يلقاه من صدود وعناد ، ولهذا ابتدأت السورة بملاطفته بالنداء [ طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ] . (2)
مقصودها الإعلام بإمهال المدعوين والحلم عنهم والترفق بهم إلى أن يكونوا أكثر الأمم ، زيادة في الشرف داعيهم ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وعلى هذا المقصد الشريف دل اسمها بطريق الرمز والإشارة ، لتبيين أهل الفطنة والبصارة ، وذلك بما في أولها من الحروف المقطعة ، وذلك أنه لما كان ختام سورة مريم حاملاً على الخوف من أن تهلك أمته ( - صلى الله عليه وسلم - ) قبل ظهور أمره الذي أمر الله به واشتهار دعوته ، لقلة من آمن به منهم
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (8 / 462)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (2 / 178)(1/717)
، ابتدأه سبحانه بالطاء إشارة بمخرجها الذي هو من رأس اللسان وأصول الثنيتين العليين إلى قوة أمر وانتشاره ، وعلوه وكثرة أتباعه ، لأن هذا المخرج أكثر المخارج حروفاً ، وأشدها حركة وأوسعها انتشاراً ، وبما فيها من صفات الجهر والإطباق و الاستعلاء والقلقلة إلى انقلاب ما هو فيه من الإسرار جهراً ، وما هو فيه من الرقة فخامة ، لأنها من حروف التفخيم ، وأنه يستعلي أمره ، وينتشر ذكره ، حتى يطبق جميع الوجود ويقلقل سائر الأمم ، ولكن يكون ذلك بما تشير إليه الهاء بمخرجها من أقصى الحلق . (1)
تبدأ هذه السورة وتختم خطابا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ببيان وظيفته وحدود تكاليفه .. إنها ليست شقوة كتبت عليه ، وليست عناء يعذب به. إنما هي الدعوة والتذكرة ، وهي التبشير والإنذار. وأمر الخلق بعد ذلك إلى اللّه الواحد الذي لا إله غيره. المهيمن على ظاهر الكون وباطنه ، الخبير بظواهر القلوب وخوافيها.
الذي تعنو له الجباه ، ويرجع إليه الناس : طائعهم وعاصيهم .. فلا على الرسول ممن يكذب ويكفر ولا يشقى لأنهم يكذبون ويكفرون.
وبين المطلع والختام تعرض قصة موسى عليه السلام من حلقة الرسالة إلى حلقة اتخاذ بني إسرائيل للعجل بعد خروجهم من مصر ، مفصلة مطولة وبخاصة موقف المناجاة بين اللّه وكليمه موسى - وموقف الجدل بين موسى وفرعون. وموقف المباراة بين موسى والسحرة ... وتتجلى في غضون القصة رعاية اللّه لموسى الذي صنعه على عينه واصطنعه لنفسه ، وقال له ولأخيه : «لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى » ..
وتعرض قصة آدم سريعة قصيرة ، تبرز فيها رحمة اللّه لآدم بعد خطيئته ، وهدايته له. وترك البشر من أبنائه لما يختارون من هدى أو ضلال بعد التذكير والإنذار.
وتحيط بالقصة مشاهد القيامة. وكأنما هي تكملة لما كان أول الأمر في الملأ الأعلى من قصة آدم. حيث يعود الطائعون إلى الجنة ، ويذهب العصاة إلى النار. تصديقا لما قيل لأبيهم آدم ، وهو يهبط إلى الأرض بعد ما كان!
ومن ثم يمضي السياق في هذه السورة في شوطين اثنين : الشوط الأول يتضمن مطلع السورة بالخطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - «ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى . إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى ...» تتبعه قصة موسى نموذجا كاملا لرعاية اللّه سبحانه لمن يختارهم لإبلاغ دعوته فلا يشقون بها وهم في رعايته.
والشوط الثاني يتضمن مشاهد القيامة وقصة آدم وهما يسيران في اتجاه مطلع السورة وقصة موسى. ثم ختام السورة بما يشبه مطلعها ويتناسق معه ومع جو السورة.
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (5 / 3)(1/718)
وللسورة ظل خاص يغمر جوها كله .. ظل علوي جليل ، تخشع له القلوب ، وتسكن له النفوس ، وتعنو له الجباه .. إنه الظل الذي يخلعه تجلي الرحمن على الوادي المقدس على عبده موسى ، في تلك المناجاة الطويلة والليل ساكن وموسى وحيد ، والوجود كله يتجاوب بذلك النجاء الطويل .. وهو الظل الذي يخلعه تجلي القيوم في موقف الحشر العظيم : «وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً» .. «وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ» ..
والإيقاع الموسيقي للسورة كلها يستطرد في مثل هذا الجو من مطلعها إلى ختامها رخيا شجيا نديا بذلك المد الذاهب مع الألف المقصورة في القافية كلها تقريبا. (1)
خلاصة لما تضمنتة السورة الكريمة
(1) إن القرآن أنزل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - تذكرة لمن يخشى ، أنزله من خلق الأرض والسموات العلى.
(2) قصص موسى عليه السلام وتكليمه ربه فى الطور ، وحديث العصا واليد البيضاء من غير سوء ، وطلبه من ربه أن يجعل له أخاه هرون وزيرا وإجابة سؤاله فى ذلك ، وامتنانه عليه بما حدث له حين وضع فى التابوت وألقى فى اليمّ وقصّ أخته ورجوعه إلى أمه ، ثم طلب ربه منه أن يبلغ فرعون دعوته وينصح له فى قبول دينه وإقامة شعائره ، وإجابة فرعون له بأنه ساحر كذاب ، وأنه سيجمع له السحرة ثم إيمان السحرة به فتوعدهم فرعون بالعذاب فلم يأبهوا له ، واستمر فرعون فى غيه حتى أوحى اللّه إلى موسى أن يخرج من مصر فأتبعه هو وجنوده فأغرقوا.
(3) حديث السامري وإضلاله بنى إسرائيل باتخاذه عجلا جسدا له خوار حين كان موسى بالطور ، وحين رجع ورأى ذلك هاله الأمر وغضب من أخيه هرون وأخذ يجره من رأسه ، ثم إغلاظه القول للسامرى ودعوته عليه بأنه يعيش طريدا فى الحياة وسيعذبه اللّه فى الآخرة أشد العذاب ، ثم نسف إلهه وإلقاؤه فى اليمّ.
(4) بيان أن من أعرض عن القرآن فإنه سيلقى الجزاء والوبال يوم القيامة.
(5) ذكر أوصاف المجرمين حينئذ ، وأنهم يختلفون فى مدة لبثهم فى الدنيا.
(6) سؤال المشركين عن حال الجبال يوم القيامة ، وأن الأصوات حينئذ تخشع للرحمن فلا تسمع إلا همسا ، وأن الوجوه تخضع لربها القائم بأمرها.
(7) وصف القرآن الكريم بأنه عربى مبين أنزل تذكرة للناس ، وأن اللّه سيعصم رسوله من نسيانه ، فلا ينبغى أن يعجل بتلاوته قبل أن يتم تبليغ جبريل له.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2326)(1/719)
(8) قصص آدم عليه السلام مع إبليس ، وترك آدم للعهد الذي وصاه به ربه وقبول نصيحة إبليس مما كان سببا فى إخراجه من الجنة.
(9) بيان أن من أعرض عن ذكر ربه عاش فى الدنيا عيشة ضنكا وعمى فى الآخرة عن الحجة التي تنقذه من العذاب ، لأنه قد كان فى الدنيا أعمى عنها تاركا لها فتركه ربه من إنعامه.
(10) بيان أن فى المثلات التي سلفت للأمم قبلهم ممن يمرون على ديارهم مصبحين وبالليل كعاد وثمود - ما كان ينبغى أن يكون رادعا لهم وزاجرا لو تدبروا وعقلوا.
(11) إن كلمة اللّه قد سبقت بأنه سيؤخر عذاب المشركين إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة.
(12) طلبه من رسوله تنزيهه والثناء عليه آناء الليل وأطراف النهار رجاء أن يعطيه ما يرضيه.
(13) أمر رسوله أن يأمر أهله بالصلاة ويصطبر هو عليها وهى لا تكون شاغلا لهم عن الرزق.
(14) طلب المشركين من الرسول أن يأتيهم بآية من نوع ما أوتى الرسل الأولون (15) إن إنزال القرآن على رسوله ليزيح العلة ويمنع المعذرة يوم القيامة ، فلا يقولون : لو لا أرسلت إلينا رسولا وأتيتنا بكتاب نتبعه.
(16) وعيد المشركين بأنهم يتربصون ، وسيعلمون يوم القيامة لمن يكون حسن العاقبة ؟ . (1)
=================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (16 / 171)(1/720)
(21) سورة الأنبياء
سماها السلف "سورة الأنبياء". ففي" صحيح البخاري "عن عبد الله بن مسعود قال: "بنو إسرائيل،والكهف، ومريم، طه، والأنبياء، هن من العتاق الأول وهن من تلادي". ولا يعرف لها اسم غير هذا.
ووجه تسميتها سورة الأنبياء أنها ذكر فيها أسماء ستة عشر نبيا ومريم ولم يأت في سورة القرآن مثل هذا العدد من أسماء الأنبياء في سور القرآن عدا ما في سورة الأنعام. فقد ذكر فيها أسماء ثمانية عشر نبيا في قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} إلى قوله: {وَيُونُسَ وَلُوطاً} فإن كانت سورة الأنبياء هذه نزلت قبل سورة الأنعام فقد سبقت بالتسمية بالإضافة إلى الأنبياء، وإلا فاختصاص سورة الأنعام بذكر أحكام الأنعام أوجب تسميتها بذلك الاسم فكانت سورة الأنبياء أجدر من بقية سور القرآن بهذه التسمية، على أن من الحقائق المسلمة أن وجه التسمية لا يوجبها.
وهي مكية بالاتفاق. وحكي ابن عطية والقرطبي الإجماع على ذلك ونقل السيوطي في "الإتقان" استثناء قوله تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} ، ولم يعزه إلى قائل. ولعله أخذه من رواية عن مقاتل والكلبي عن ابن عباس أن المعنى ننقصها بفتح البلدان، أي بناء على أن المراد من الرؤية في الآية الرؤية البصرية، وأن المراد من الأرض أرض الحجاز، وأن المراد من النقص نقص سلطان الشرك منها. وكل ذلك ليس بالمتعين ولا بالراجح.وسيأتي بيانه في موضعه. وقد تقدم بيانه في نظيرها من سورة الرعد التي هي أيضا مكية بالأرجح أن سورة الأنبياء مكية كلها.
وهي السورة الحادية والسبعون في ترتيب النزول نزلت بعد حم السجدة وقبل سورة النحل، فتكون من أواخر السور النازلة قبل الهجرة. ولعلها نزلت بعد إسلام من أسلم من أهل المدينة كما يقتضيه قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} ، كما سيأتي بيانه، غير أن ما رواه ابن إسحاق عن ابن عباس أن قوله تعالى في سورة الزخرف: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} ، أن المراد بضرب المثل هو المثل الذي ضربه ابن الزبعرى لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} كما يأتي يقتضي أن سورة الأنبياء نزلت قبل سورة الزخرف. وقد عدت الزخرف ثانية وستين في النزول.
وعدد آيها في عد أهل المدينة ومكة والشام والبصرة مائة وإحدى عشرة وفي عد أهل الكوفة مائة واثنتا عشرة.(1/721)
أغراض السورة:
والأغراض التي ذكرت في هذه السور هي:
الإنذار بالبعث، وتحقيق وقوعه وإنه لتحقق وقوعه كان قريبا.
وإقامة الحجة عليه بخلق السماوات والأرض عن عدم وخلق الموجودات من السماء.
والتحذير من التكذيب بكتاب الله تعالى ورسوله.
والتذكير بأن هذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما هو إلا كأمثاله من الرسل وما جاء إلا بمثل ما جاء به الرسل من قبله.
وذكر كثير من أخبار الرسل عليهم السلام.
والتنويه بشأن القرآن وأنه نعمة من الله على المخاطبين وشأن رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - وأنه رحمة للعالمين.
والتذكير بما أصاب الأمم السالفة من جراء تكذيبهم رسلهم وأن وعد الله للذين كذبوا واقع ولا يغرهم تأخيره فهو جاء لا محالة.
وحذرهم من أن يغتروا بتأخيره كما اغتر الذين من قبلهم حتى أصابهم بغتة، وذكر من أشراط الساعة فتح يأجوج ومأجوج.
وذكرهم بما في خلق السماوات والأرض من الدلالة على الخالق.
ومن الإيماء إلى أن وراء هذه الحياة حياة أخرى أتقن وأحكم لتجزي كل نفس بما كسبت وينتصر الحق على الباطل.
ثم ما في ذلك الخلق من الدلائل على وحدانية الخالق إذا لا يستقيم هذا النظام بتعدد الآلهة.
وتنزيه الله تعالى عن الشركاء وعن الأولاد والاستدلال على وحدانية الله تعالى.
وما يكرهه على فعل ما لا يريد.
وأن جميع المخلوقات صائرون إلى الفناء.
وأعقب ذلك تذكيرهم بالنعمة الكبرى عليهم وهي نعمة الحفظ.
ثم عطف الكلام إلى ذكر الرسل والأنبياء.
وتنظير أحوالهم وأحوال أممهم بأحوال محمد - صلى الله عليه وسلم - وأحوال قومه.
وكيف نصر الله الرسل على أقوامهم واستجاب دعواتهم.
وأن الرسل كلهم جاءوا بدين الله وهو دين واحد في أصوله قطعه الضالون قطعا.
وأثنى على الرسل وعلى من آمنوا بهم.(1/722)
وأن العاقبة للمؤمنين في خير الدنيا وخير الآخرة، وأن الله سيحكم بين الفريقين بالحق ويعين رسله على تبليغ شرعه. (1)
تمهيد بين يدي السورة
1 - سورة الأنبياء ، من السور المكية. وعدد آياتها اثنتا عشرة ومائة عند الكوفيين.
وعند غيرهم إحدى عشرة آية ومائة. وكان نزولها بعد سورة إبراهيم.
قال الآلوسى : وهي سورة عظيمة ، فيها موعظة فخيمة ، فقد أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية ، وابن عساكر ، عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب فأكرمه عامر ، وكلم فيه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فجاءه الرجل فقال : إنى استقطعت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - واديا ما في العرب واد أفضل منه. وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك.فقال عامر : لا حاجة لي في ذلك ، فقد نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا.ثم قرأ : اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ .. .
2 - وعند ما نقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل ، نراها في مطلعها تسوق لنا ما يهز القلوب ، ويحملها على الاستعداد لاستقبال يوم القيامة بالإيمان والعمل الصالح ، ويزجرها عن الغفلة والإعراض.قال - تعالى - : اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ...
3 - ثم تحكى السورة بعد ذلك ألوانا من الشبهات التي أثارها المشركون حول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحول دعوته ، وردت عليهم بما يبطل شبهاتهم وأقوالهم ، فقال - تعالى - : بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ ، بَلْ هُوَ شاعِرٌ ، فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ.
4 - ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك ادلة متعددة على وحدانية اللّه - تعالى - وعلى شمول قدرته. منها قوله - عز وجل - : أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ.
وقوله - سبحانه - : أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ، وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (17 / 5)(1/723)
5 - وبعد أن ذكرت السورة ألوانا من نعم اللّه على خلقه ، وحكت جانبا من تصرفات المشركين السيئة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أتبعت ذلك بتسليته - صلى الله عليه وسلم - عما قالوه في شأنه.قال - تعالى - : وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
6 - ثم عرضت السورة الكريمة جانبا من قصص بعض الأنبياء ، تارة على سبيل الإجمال ، وتارة بشيء من التفصيل ، فتحدثت عن موسى وهارون ، وعن إبراهيم ولوط ، وعن إسحاق ويعقوب ، وعن نوح وأيوب ، وعن داود وسليمان ، وعن إسماعيل وإدريس ، وعن يونس وزكريا.
وفي نهاية حديثها عنهم - صلوات اللّه وسلامه عليهم - عقبت بالمقصود الأساسى من رسالتهم ، وهو دعوة الناس جميعا إلى إخلاص العبادة للّه - تعالى - ، وأنهم جميعا قد جاءوا برسالة واحدة في جوهرها ، فقال - تعالى - : إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ.
7 - ثم تحدثت في أواخرها عن أشراط الساعة ، وعن أهوالها ، وعن أحوال الناس فيها.
قال - تعالى - : حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ، يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ.
8 - ثم ختم - سبحانه - سورة الأنبياء بالحديث عن سنة من سننه التي لا تتخلف ، وعن رسالة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وعن موقفه من أعدائه ، فقال - تعالى - : وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ ، وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ.
وبعد : فهذا عرض إجمالى لسورة الأنبياء ، ومنه نرى أنها قد أقامت ألوانا من الأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - ، وعلى صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن يوم القيامة حق ...
كما حكت شبهات المشركين وردت عليها بما يبطلها ، كما ساقت نماذج متعددة من قصص الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام. (1)
في السورة حملات شديدة على الكفار وزعمائهم بسبب عنادهم واستخفافهم بالنبي ودعوته وحكاية لأقوالهم وتحدياتهم ومؤامراتهم ، وردود قوية في البرهنة على وحدة اللّه وتنزهه عن الولد والشريك وطبيعة إرسال الرسل من البشر ، وثناء على الملائكة وتقرير عبوديتهم للّه ولفت نظر إلى مشاهد قدرة اللّه في
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (9 / 179)(1/724)
السموات والأرض للتدليل على وحدة اللّه واستحقاقه وحده للعبادة وقدرته على تحقيق وعده الحق. وفيها سلسلة تتضمن ذكر بعض الأنبياء ورسالاتهم وثناء على إخلاصهم وعناية اللّه بهم في معرض التذكير والتثبيت والتطمين والبشرى ، وبيان مصائر الكفار والصالحين في الآخرة وتقرير لمهمة الرسالة وأهدافها.
وفصول السورة مترابطة مما يسوغ القول إنها نزلت متتابعة. (1)
سورة الأنبياء مكية ، وهي مائة واثنتا عشرة آية
تسميتها :
سميت سورة الأنبياء لتضمنها الحديث عن جهاد الأنبياء المرسلين مع أقوامهم الوثنيين ، بدءا من قصة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام بإسهاب وتفصيل ، ثم إسحاق ، ويعقوب ، ولوط ، ونوح ، وداود ، وسليمان ، وأيوب ، وإسماعيل ، وإدريس ، وذي الكفل ، وذي النون : يونس ، وزكريا ، وعيسى ، إلى خاتم النبيين محمد صلوات اللّه وسلامه عليهم ، وذلك بإيجاز يدل على مدى ما تعرضوا له من أهوال وشدائد ، فصبروا عليها ، وضحوا في سبيل اللّه ، لإسعاد البشرية.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من ناحيتين :
الأولى :الإشارة إلى قرب الأجل المسمى للعذاب ، ودنو الأمل المنتظر ، فقال تعالى في آخر سورة طه : وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى ثم قال : قُلْ : كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا وقال تعالى في مطلع هذه السورة :اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ.
والثانية :التحذير من الاغترار بالدنيا ، والعمل للآخرة ، فقال تعالى في آخر سورة طه : وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ..
فإن قرب الساعة يقتض الإعراض عن زهرة الحياة الدنيا لدنوها من الزوال والفناء ، وختمت سورة الأنبياء بمثل ما بدئت به السورة المتقدمة ، فأبان اللّه تعالى أنه بالرغم من قرب الساعة والحساب ، فإن الناس غافلون عنها ، ولاهون عن القرآن والاستماع إليه.
فضلها ومزيتها :
ورد في فضل هذه السورة أحاديث صحاح منها :
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 253)(1/725)
ما رواه البخاري عن عبداللّه بن مسعود قال : «بنو إسرائيل ، والكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء : هن من العتاق الأول ، وهن من تلادي» أي من قديم ما حفظ من القرآن ، كالمال التّلاد.
ولما نزلت هذه السورة قيل لعامر بن ربيعة رضي اللّه عنه : هلا سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها؟ فقال : «نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا».
مشتملاتها :
موضوع السورة بيان أصول العقيدة الإسلامية ومبادئها وهي التوحيد ، والرسالة النبوية ، والبعث والجزاء ، وقد بدأت بوصف أهوال القيامة ، ثم ذكرت قصص جملة من الأنبياء الكرام عليهم السلام ، كما تقدم.
كانت البداية مرهبة مرعبة ، منذرة محذّرة بقرب قيام الساعة ، والناس لاهون غافلون عنها وعن خطورة الحساب والعقاب ، معرضون عن سماع القرآن ، مفتونون بلذائذ الحياة الدنيا.
ثم أوضحت السبب في إنكار المشركين في مكة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو أنه بشر مثلهم ، وعجزه عن الإتيان بآيات فذة ومعجزات باهرة مادية ، كما أتى بها الأنبياء السابقون مثل موسى وعيسى ، فرد القرآن عليهم بأن الأنبياء جميعا كانوا بشرا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ، ثم أنذرهم بالإهلاك ، كما أهلك بعض الأمم المتقدمة لتكذيبهم رسلهم ، ولفت أنظارهم إلى عظمة خلق السموات والأرض ، وإلى أن الملائكة طائعون للّه ، منقادون لأمره ، ينفّذون ما أمروا به من التعذيب بسرعة لا تعرف التردد والانتظار ، ونعى على من ادعى أنهم بنات اللّه تعالى.
ثم ناقشهم القرآن في اتخاذهم آلهة من دون اللّه ، وطالبهم بالدليل على ادعائهم ، وأقام البرهان على وحدانية اللّه إذ لو كان في السماء والأرض آلهة إلا اللّه لفسدتا ، ووصف النشأة الأولى للسموات والأرض ، وأنهما كانتا رتقا ففصلتا ، وأبان أن الجبال أوتاد للأرض حتى لا تميد بأهلها ، وأن اللّه تعالى خالق الليل والنهار والشمس والقمر ، ثم تكون النهاية الموت والفناء لكل شيء ، حتى للملائكة والأنبياء ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ، وأوضح أن استعجال الكافرين العذاب غباء وطلب في غير محله فإن العذاب قريب ، والساعة آتية لا ريب فيها ، وأنها تأتيهم بغتة فتبهتهم ، وأن موازين الحساب دقيقة وفي أتم عدل ، فلا يبخس أحد شيئا من حقه ، ولا يظلم إنسان مثقال حبة من خردل.
وتحقيقا لهاتيك الغايات وتأكيدا عليها ، جاءت الأمثال الواقعية تنذر وتذكّر ، من خلال إيراد قصص بعض الأنبياء كموسى وهارون ، وإبراهيم ولوط ، وإسحاق ويعقوب ، ونوح ، وداود وسليمان ، وأيوب وإسماعيل ، وإدريس وذي الكفل ، ويونس وزكريا ويحيى ، وعيسى عليهم السلام.(1/726)
وأثبت القرآن عقب ذلك وحدة مهام الأنبياء وهي الدعوة إلى عبادة اللّه ، وتطمين المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالجزاء الحسن ، وأن الأمم المعذبة في الدنيا سترجع حتما إلى اللّه في الدار الآخرة لعذاب آخر.
ومن علائم الساعة انفتاح سد يأجوج ومأجوج.
وفي القيامة عذاب شديد ، وأهوال شديدة يلقاها الكفار ، وأنهم مع أصنامهم حطب جهنم ، وفيها تتبدل الأرض غير الأرض وتطوى السموات كطي الكتب ، ويحظى الصالحون بالنعيم الأبدي ، ويرث الأرض من هو أصلح لعمارتها.
وختمت السورة ببيان كون النبي - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين ، وأنه أوحي إليه بأن الإله واحد لا شريك له ، وأنه يجب الانقياد لحكمه ، وأنه ينذر الناس بعذاب قريب وأن مجيء الساعة واقع محتم ، وأن الإمهال به وتأخير العقوبة امتحان واختبار ، وأن اللّه يحكم بين النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم وبين أعدائه المشركين ، وأنه المستعان على افتراءاتهم واتهاماتهم. (1)
سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ،مكية عند الجميع ، وهي مائة واثنتا عشرة آية ، وسميت بذلك لذكر قصص الأنبياء فيها وهي كغيرها من السور المكية ، تهدف إلى إثبات عقيدة الإسلام في نفوس المشركين فتراها تعرض لأقوالهم ، وترد عليهم مهددة منذرة ، وتلفت الأنظار للكون وما فيه حتى يستدل بذلك على خالقه ، ثم تعرض لقصص بعض الأنبياء للعبرة والعظة ، وهي في البدء والنهاية تصور بعض مشاهد يوم القيامة بأسلوب قوى مؤثر. (2)
وجه اتصالها بما قبلها غني عن البيان ، وهي سورة عظيمة فيها موعظة فخيمة فقد أخرج ابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، وابن عساكر عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ (3) ، " أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ ، فَأَكْرَمَ عَامِرٌ مَثْوَاهُ وَكَلَّمَ فِيهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَجَاءَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ : إِنِّي اسْتَقْطَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَادِيًا مَا فِي الْعَرَبِ وَادٍ أَفْضَلَ مِنْهُ ، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَقْطَعَ لَكَ مِنْهُ قِطْعَةً تَكُونُ لَكَ وَلِعَقِبِكَ مِنْ بَعْدِكَ ، قَالَ عَامِرٌ : لَا حَاجَةَ لِي فِي قَطِيعَتِكَ ، نَزَلَتِ الْيَوْمَ سُورَةٌ أَذْهَلَتْنَا عَنِ الدُّنْيَا : اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ " (4) .
هذه السورة مكية وهي تعالج موضوع العقيدة الاسلامية في ميادينها الكبيرة (الرسالة ، الوحدانية ، البعث والجزاء) وتتحدث عن الساعة وشدائدها ، والقيامة واهوالها ، وعن قصص الانبياء المرسلين ، صلوات الله
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (17 / 5) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (17 / 3)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (2 / 515)
(3) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (601 ) ضعيف
(4) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (9 / 3)(1/727)
وسلامه عليهم اجمعين . ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن غفلة الناس عن الآخرة ، وعن الحساب والجزاء ، بينما القيامة تلوح لهم ، وهم عن ذلك اليوم الرهيب غافلون ، وقد شغلتهم مغريات الحياة عن الحساب المرقوب .
ثم انتقلت الى الحديث عن المكذبين ، وهم يشهدون مصارع الغابرين ، ولكنهم لا يعتبرون ولا يتعظون ، حتى اذا ما فاجأهم العذاب ، رفعوا اصواتهم بالتضرع والاستغاثة ، ولكن هيهات ان ينفع الندم ، او تفيد الاستغاثة . وتناولت السورة دلائل القدرة في الأنفس والآفاق ، لتنبه على عظمة الخالق المدبر الحكيم ، فيما خلق وأبدع ، ولتربط بين وحدة الكون ، ووحدة الإله الكبير جل جلاله . وبعد عرض الادلة والبراهين ، الشاهدة على وحدانية رب العالمين ، تذكر السورة حال المشركين ، وهم يتلقون الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) بالاستهزاء والسخرية والتكذيب ، وتعقب على ذلك بسنة الله الكونية في اهلاك الطغاة المجرمين ثم تتناول السورة الكريمة قصص بعض الرسل ، وتتحدث بالاسهاب عن قصة " ابراهيم " عليه السلام مع قومه الوثنيين ، في اسلوب مشوق ، فيه من نصاعة البيان ، وقوة الحجة والبرهان ، ما يجعل الخصم يقر بالهزيمة في خنوع واستسلام ، وفي قصته عبر وعظات ، لمن كان له قلب وفكر سليم . . وتتابع السورة الحديث عن الرسل الكرام فتتحدث عن (اسحاق ، ويعقوب ، ولوط ، ونوح ، وداود ، وسليمان ، وايوب ، واسماعيل ، وادريس ، وذي الكفل ، وذي النون ، وزكريا ، وعيسى) بايجاز ، ولهذا سميت سورة الانبياء ، مع بيان الاهوال والشدائد التي تعرضوا لها ، وتختم ببيان رسالة سيد المرسلين محمد بن عبد الله المرسل رحمة للعالمين .
التسمية : سميت " سورة الانبياء " لان الله تعالى ذكر فيها جملة من الانبياء الكرام فى استعراضٍ سريع ، يطول احيانا ويقصر احيانا ، وذكر جهادهم وصبرهم وتضحيتهم في سبيل الله ، وتفانيهم في تبليغ الدعوة لاسعاد البشرية . (1)
مقصودها الاستدلال على تحقق الساعة وقربها ولو بالموت ، ووقوع الحساب فيها على الجليل والحقير ، لأن موجدها لا شريك له يعوقه عنها ، وهن من لا يبدل القول لديه ، والدال على ذلك أوضح دلالة مجموع قصص جماعة ممن ذكر فيها من الأنبياء عليهم السلام ، ولا يستقل قصة منها استقلالا ظاهرا بجميع ذلك كما سنبين ، ولا يخلو قصو من قصصهم من دلالة على شيء من ذلك فنسبت إلى الكل - والله الموفق . (2)
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (2 / 195)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (5 / 63)(1/728)
هذه السورة ، مكية تعالج الموضوع الرئيسي الذي تعالجه السور المكية .. موضوع العقيدة .. تعالجه في ميادينه الكبيرة : ميادين التوحيد ، والرسالة والبعث.
وسياق السورة يعالج ذلك الموضوع بعرض النواميس الكونية الكبرى وربط العقيدة بها. فالعقيدة جزء من بناء هذا الكون ، يسير على نواميسه الكبرى وهي تقوم على الحق الذي قامت عليه السماوات والأرض ، وعلى الجد الذي تدبر به السماوات والأرض ، وليست لعبا ولا باطلا ، كما أن هذا الكون لم يخلق لعبا ، ولم يشب خلقه باطل : «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» ..
ومن ثم يجول بالناس .. بقلوبهم وأبصارهم وأفكارهم .. بين مجالي الكون الكبرى : السماء والأرض.
الرواسي والفجاج. الليل والنهار. الشمس والقمر ... موجها أنظارهم إلى وحدة النواميس التي تحكمها وتصرفها ، وإلى دلالة هذه الوحدة على وحدة الخالق المدبر ، والمالك الذي لا شريك له في الملك ، كما أنه لا شريك له في الخلق .. «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» ..
ثم يوجه مداركهم إلى وحدة النواميس التي تحكم الحياة في هذه الأرض ، وإلى وحدة مصدر الحياة :
«وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» وإلى وحدة النهاية التي ينتهي إليها الأحياء : «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» ..
وإلى وحدة المصير الذي إليه ينتهون : «وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ» ..
والعقيدة وثيقة الارتباط بتلك النواميس الكونية الكبرى. فهي واحدة كذلك وإن تعدد الرسل على مدار الزمان : «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» .. وقد اقتضت مشيئة اللّه أن يكون الرسل كلهم من البشر : «وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ» ..
وكما أن العقيدة وثيقة الارتباط بنواميس الكون الكبرى ، فكذلك ملابسات هذه العقيدة في الأرض.
فالسنة التي لا تتخلف أن يغلب الحق في النهاية وأن يزهق الباطل ، لأن الحق قاعدة كونية وغلبته سنة إلهية :«بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» .. وأن يحل الهلاك بالظالمين المكذبين ، وينجي اللّه الرسل والمؤمنين : «ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ» .. وأن يرث الأرض عباد اللّه الصالحون : «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» ..
ومن ثم يستعرض السياق أمة الرسل الواحدة في سلسلة طويلة استعراضا سريعا. يطول بعض الشيء عند عرض حلقة من قصة إبراهيم - عليه السلام - وعند الإشارة إلى داود وسليمان. ويقصر عند الإشارة إلى قصص نوح ، وموسى ، وهارون ، ولوط ، وإسماعيل ، وإدريس ، وذي الكفل ، وذي النون ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى عليهم السلام.(1/729)
وفي هذا الاستعراض تتجلى المعاني التي سبقت في سياق السورة. تتجلى. في صورة وقائع في حياة الرسل والدعوات ، بعد ما تجلت في صورة قواعد عامة ونواميس.
كذلك يتضمن سياق السورة بعض مشاهد القيامة وتتمثل فيها تلك المعاني نفسها في صورة واقع يوم القيامة ..
وهكذا تتجمع الإيقاعات المنوعة في السورة على هدف واحد ، هو استجاشة القلب البشري لإدراك الحق الأصيل في العقيدة التي جاء بها خاتم الرسل - صلى الله عليه وسلم - فلا يتلقاها الناس غافلين معرضين لاهين كما يصفهم في مطلع السورة : «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ...».
إن هذه الرسالة حق وجد. كما أن هذا الكون حق وجد. فلا مجال للهو في استقبال الرسالة ولا مجال لطلب الآيات الخارقة وآيات اللّه في الكون وسنن الكون كله. توحي بأنه الخالق القادر الواحد ، والرسالة من لدن ذلك الخالق القادر الواحد.
نظم هذه السورة من ناحية بنائه اللفظي وإيقاعه الموسيقي هو نظم التقرير ، الذي يتناسق مع موضوعها ، ومع جو السياق في عرض هذا الموضوع .. يبدو هذا واضحا بموازنته بنظم سورتي مريم وطه مثلا. فهناك الإيقاع الرخي الذي يناسب جوهما. وهنا الإيقاع المستقر الذي يناسب موضوع السورة وجوها ..
ويزيد هذا وضوحا بموازنة نظم قصة إبراهيم - عليه السلام - في مريم ونظمها هنا. وكذلك بالتأمل في الحلقة التي أخذت منها هنا الحلقة التي أخذت منها هناك. ففي سورة مريم أخذت حلقة الحوار الرخي بين إبراهيم وأبيه. أما هنا فجاءت حلقة تحطيم الأصنام ، وإلقاء إبراهيم في النار. ليتم التناسق في الموضوع والجو والنظم والإيقاع.
والسياق في هذه السورة يمضي في أشواط أربعة :
الأول : ويبدأ بمطلع قوي الضربات ، يهز القلوب هزا ، وهو يلفتها إلى الخطر القريب المحدق ، وهي عنه غافلة لاهية : «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ... إلخ».
ثم يهزها هزة أخرى بمشهد من مصارع الغابرين ، الذين كانوا عن آيات ربهم غافلين ، فعاشوا سادرين في الغي ظالمين : «وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ. فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ. لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ. قالُوا : يا وَيْلَنا! إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ. فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ» ..(1/730)
ثم يربط بين الحق والجد في الدعوة ، والحق والجد في نظام الكون. وبين عقيدة التوحيد ونواميس الوجود. وبين وحدة الخالق المدبر ووحدة الرسالة والعقيدة. ووحدة مصدر الحياة ونهايتها ومصيرها على النحو الذي أسلفناه.
فأما الشوط الثاني فيرجع بالحديث إلى الكفار الذين يواجهون الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالسخرية والاستهزاء ، بينما الأمر جد وحق ، وكل ما حولهم يوحي باليقظة والاهتمام. وهم يستعجلون العذاب والعذاب منهم قريب .. وهنا يعرض مشهدا من مشاهد القيامة. ويلفتهم إلى ما أصاب المستهزئين بالرسل قبلهم. ويقرر أن ليس لهم من اللّه من عاصم. ويوجه قلوبهم إلى تأمل يد القدرة وهي تنقص الأرض من أطرافها ، وتزوي رقعتها وتطويها ، فلعل هذا أن يوقظهم من غفلتهم التي جاءتهم من طول النعمة وامتداد الرخاء ..
وينتهي هذا الشوط بتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى بيان وظيفته : «قُلْ : إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ» وإلى الخطر الذي يتهددهم في غفلتهم : «وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ» حتى تنصب الموازين القسط وهم في غفلتهم سادرون.
ويتضمن الشوط الثالث استعراض أمة النبيين ، وفيها تتجلى وحدة الرسالة والعقيدة. كما تتجلى رحمة اللّه بعباده الصالحين وإيحاؤه لهم وأخذ المكذبين.
أما الشوط الرابع والأخير فيعرض النهاية والمصير ، في مشهد من مشاهد القيامة المثيرة : ويتضمن ختام السورة بمثل ما بدأت : إيقاعا قويا ، وإنذارا صريحا ، وتخلية بينهم وبين مصيرهم المحتوم .. (1)
خلاصة ما تتضمنه هذه السورة
(1) الإنذار بقرب الساعة مع غفلتهم عنها.
(2) إنكار المشركين نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، لأنه بشر مثلهم ، وأن ما جاء به أضغاث أحلام ، وأنه قد افتراه ، ولو كان نبيا حقا لأتى بآية كآيات موسى وعيسى.
(3) الرد على هذه الشبهة بأن الأنبياء جميعا كانوا بشرا ، وأهل العلم من اليهود والنصارى يعلمون ذلك حق العلم.
(4) الإخبار بأن اللّه أهلك كثيرا من الأمم المكذبة لرسلها وأنشأ بعدهم أقواما آخرين.
(5) بيان أن السموات والأرض لم تخلقا عبثا ، وأن الملائكة لا يستكبرون عن عبادته ولا يملّون.
(6) إقامة الدليل على وحدانية اللّه تعالى والنعي على من يتخذ آلهة من دونه بلا دليل على صدق ما يقولون مع أن الأنبياء جميعا أوحى إليهم أنه لا إله إلا هو.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2364)(1/731)
(7) النعي على من ادعى أن الملائكة بنات اللّه.
(8) وصف النشأة الأولى ببيان أن السموات والأرض كانتا رتقا فانفصلتا ، وأن الجبال جعلت فى الأرض أوتادا حتى لا تميد بأهلها ، وأن كلا من الشمس والقمر يسبح فى فلكه.
(9) استعجال الكافرين للعذاب ، مع أنهم لو علموا كنهه ما طلبوه.
(10) بيان أن الساعة تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون.
(11) قصص بعض الأنبياء كموسى وهارون وإبراهيم ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذى الكفل ويونس وزكريا وقصص مريم.
(12) بيان أن الدين الحق عند اللّه هو الإسلام وبه جاءت جميع الشرائع والاختلاف بينها إنما هو فى الرسوم بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة.
(13) حادث يأجوج ومأجوج من أشراط الساعة واقتراب يوم القيامة.
(14) بيان أن الأصنام وعابديها يكونون يوم القيامة حطب جهنم ، وأنهم لو كانوا آلهة حقا ما دخلوها.
(15) وصف ما يلاقيه الكفار من الأهوال فى النار يوم القيامة.
(16) وصف النعيم الذي يتمتع به أهل الجنة إذ ذاك.
(17) بيان أن الأرض ستبدل غير الأرض ، وأن السماء تطوى طى السحل للكتاب.
(18) إن سنة اللّه فى الكون أن يرث الأرض من يصلح لعمارتها من أي دين كان وأيّ مذهب اعتنق.
(19) الوحى إنما جاء بالتوحيد وأن لا إله إلا إله واحد ، وأن الواجب الاستسلاء له والانقياد لأمره.
(20) ما ختمت به السورة من طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم اللّه بينه وبين أعدائه المشركين ، وأنّ اللّه هو المستعان على ما يصفونه به من أنه مفتر وأنه محنور وأنه شاعر يتربصون به ريب المنون. (1)
=============
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (17 / 81)(1/732)
(22) سورة الحج
سميت هذه السورة الحج في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - . أخرج أبو داود، والترمذي عن عقبة بن عامر قال: "قلت: يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين? قال: نعم " وأخرج أبو داود، وابن ماجه عن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان. وليس لهذه السورة اسم غير هذا.
ووجه تسميتها سورة الحج أن الله ذكر فيها كيف أمر إبراهيم عليه السلام بالدعوة إلى حج البيت الحرام، وذكر ما شرع للناس يومئذ من النسك تنويها بالحج وما فيه من فضائل ومنافع، وتقريعا للذين يصدون المؤمنين عن المسجد الحرام وإن كان نزولها قبل أن يفرض الحج على المسلمين بالاتفاق، وإنما فرض الحج بالآيات التي في سورة البقرة وفي سورة آل عمران.
واختلف في هذه السورة هل هي مكية أو مدنية. أو كثير منها مكي وكثير منها مدني.
فعن ابن عباس ومجاهد وعطاء: هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ} إلى {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} . قال ابن عطية: وعد النقاش ما نزل منها بالمدينة عشر آيات.
وعن ابن عباس أيضا والضحاك وقتادة والحسن: هي مدنية إلا آيات {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي} إلى قوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} فهن مكيات.
وعن مجاهد، عن ابن الزبير: أنها مدنية. ورواه العوفي عن ابن عباس.
وقال الجمهور هذه السورة بعضها مكي وبعضها مدني وهي مختلطة، أي لا يعرف المكي بعينه، والمدني بعينه. قال ابن عطية: وهو الأصح.
وأقول: ليس هذا القول مثل ما يكثر أن يقولوه في بضع آيات من عدة سور: إنها نزلت في غير البلد الذي نزل فيه أكثر السورة المستثنى منها، بل أرادوا أن كثيرا منها مكي وأن مثله أو يقاربه مدني، وأنه لا يتعين ما هو مكي منها وما هو مدني ولذلك عبروا بقولهم: هي مختلطة. قال ابن عطية: روي عن أنس ابن مالك أنه قال: "نزل أول السورة في السفر فنادى رسول الله بها فاجتمع إليه الناس" وساق الحديث الذي سيأتي. يريد ابن عطية أن نزولها في السفر يقتضي أنها نزلت بعد الهجرة.
ويشبه أن يكون أولها نزل بمكة فإن افتتاحها بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} جار على سنن فواتح السور المكية. وفي أساليب نظم كثير من آياتها ما يلائم أسلوب القرآن النازل بمكة. ومع هذا فليس الافتتاح بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} بمعين أن تكون مكية، وإنما قال ابن عباس {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} يراد به المشركون. ولذا فيجوز أن(1/733)
يوجه الخطاب به إلى المشركين في المدينة في أول مدة حلول النبي - صلى الله عليه وسلم - بها، فإن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يناسب أنه نزل بالمدينة حيث صد المشركون النبي والمؤمنين عن البقاء معهم بمكة. وكذلك قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير ٌالَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} فإنه صريح في أنه نزل في شان الهجرة.
روى الترمذي بسنده عن ابن عباس قال: لما أخرج النبي من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم ليهلكن فأنزل الله {أذن أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير ٌالَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} ، وكذلك قوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} ففيه ذكر الهجرة وذكر من يقتل من المهاجرين وذلك مؤذن بجهاد متوقع كما سيجيء هنالك.
وأحسب أنه لم تتعين طائفة منها متوالية نزلت بمكة ونزل ما بعدها بالمدينة بل نزلت آياتها متفرقة. ولعل ترتيبها كان بتوقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومثل ذلك كثير.
وقد قيل في قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} إنه نزل في وقعة بدر، لما في الصحيح عن علي وأبي ذر: أنها نزلت في مبارزة حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث مع شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر وكان أبو ذر يقسم على ذلك.
ولذلك فأنا أحسب هذه السورة نازلا بعضها آخر مدة مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة كما يقتضيه افتتاحها بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فقد تقرر أن ذلك الغالب في أساليب القرآن المكي، وأن بقيتها نزلت في مدة مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة.
وروى الترمذي وحسنه وصححه عن ابن أبي عمر، عن سفيان عن ابن جدعان، عن الحسن، عن عمران بن حصين أنه لما نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} إلى قوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} . قال: أنزلت عليه هذه وهو في سفر? فقال: "أتدرون..." وساق حديثا طويلا. فاقتضى قوله: أنزلت عليه وهو في سفر? أن هذه السورة أنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة فإن أسفاره كانت في الغزوات ونحوها بعد الهجرة.
وفي رواية عنه أن ذلك السفر في غزوة بني المصطلق من خزاعة وتلك الغزوة في سنة أربع أو خمس، فالظاهر من قوله "أنزلت وهو في سفر" أن عمران بن حصين لم يسمع الآية إلا يومئذ فظنتها أنزلت يومئذ فإن عمران بن حصين ما أسلم إلا عام خيبر وهو عام سبعة، أو أن أحد رواة الحديث أدرج كلمة أنزلت عليه وهو في سفر في كلام عمران بن حصين ولم يقله عمران. ولذلك لا يوجد هذا اللفظ فيما ما روى الترمذي وحسنه وصححه أيضا عن محمد ابن بشار، عن يحيى بن سعيد عن هشام بن أبي عبد الله عن(1/734)
قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين قال: كنا مع النبي في سفر فرفع صوته بهاتين الآيتين {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} إلى قوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} إلى آخره. فرواية قتادة عن الحسن أثبت من رواية ابن جدعان عن الحسن، لأن ابن جدعان واسمه علي بن زيد قال فيه أحمد وأبو زرعة: ليس بالقوي. وقال فيه ابن خزيمة: سيء الحفظ، وقد كان اختلط فينبغي عدم اعتماد ما انفرد به من الزيادة. وروى ابن عطية عن أنس بن مالك أنه قال: أنزل أول هذه السورة على رسول الله في سفر. ولم يسنده ابن عطية.
وذكر القرطبي عن الغزنوي أنه قال: سورة الحج من أعاجيب السور نزلت ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، مكيا ومدنيا، سلميا وحربيا، ناسخا ومنسوخا، محكما ومتشابها.
وقد عدت السورة الخامسة والمائة في عداد نزول سورة القرآن في رواية جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: نزلت بعد سورة النور وقبل سورة المنافقين. وهذا يقتضي أنها عنده مدنية كلها لأن سورة النور وسورة المنافقين مدنيتان فينبغي أن يتوقف في اعتماد هذا فيها.
وعدت آياتها عند أهل المدينة ومكة: سبعا وسبعين. وعدها أهل الشام: أربعا وسبعين. وعدها أهل البصرة: خمسا وسبعين: وعدها أهل الكوفة: ثمانا وسبعين.
ومن أغراض هذه السورة:
- خطاب الناس بأمرهم أن يتقوا الله ويخشوا يوم الجزاء وأهواله.
- والاستدلال على نفي الشرك وخطاب المشركين بأن يقلعوا عن المكابرة في الاعتراف بانفراد الله تعالى بالإلهية وعن المجادلة في ذلك اتباعا لوساوس الشياطين، وأن الشياطين لا تغني عنهم شيئا ولا ينصرونهم في الدنيا وفي والآخرة.
- وتفظيع جدال المشركين في الوحدانية بأنهم لا يستندون إلى علم وأنهم يعرضون عن الحجة ليضلوا الناس.
- وأنهم يرتابون في البعث وهو ثابت لا ريبة فيه وكيف يرتابون فيه بعلة استحالة الإحياء بعد الإماتة ولا ينظرون أن الله أوجد الإنسان من تراب ثم من نطفة ثم طوره أطورا.
وأن الله ينزل الماء على الأرض الهامدة فتحيا وتخرج من أصناف النبات، فالله هو القادر على كل ذلك. فهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير.
وأن مجادلتهم بإنكار البعث صادرة عن جهالة وتكبر عن الامتثال لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
- ووصف المشركين بأنهم في تردد من أمرهم في اتباع دين الإسلام.(1/735)
- والتعريض بالمشركين بتكبرهم عن سنة إبراهيم عليه السلام الذي ينتمون إليه ويحسبون أنهم حماة دينه وأمناء بيته وهم يخالفونه في أصل الدين.
وتذكير لهم بما من الله عليهم في مشروعية الحج من المنافع فكفروا نعمته.
- وتنظيرهم في تلقي دعوة الإسلام بالأمم البائدة الذين تلقوا دعوة الرسل بالإعراض والكفر فحل بهم العذاب.
- وأنه يوشك أن يحل بهؤلاء مثله فلا يغرهم تأخير العذاب فإنه إملاء من الله لهم كما أملى للأمم من قبلهم. وفي ذلك تأنيس للرسول - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا، وبشارة لهم بعاقبة النصر على الذين فتنوهم وأخرجوهم من ديارهم بغير حق.
- وأن اختلاف الأمم بين أهل هدى وأهل ضلال أمر به افترق الناس إلى ملل كثيرة.
- وأن يوم القيامة هو يوم الفصل بينهم لمشاهدة جزاء أهل الهدى وجزاء أهل الضلال.
- وأن المهتدين والضالين خصمان اختصموا في أمر الله فكان لكل فريق جزاؤه.
- وسلى الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بأن الشيطان يفسد في قلوب أهل الضلالة آثار دعوة الرسل ولكن الله يحكم دينه ويبطل ما يلقي الشيطان فلذلك ترى الكافرين يعرضون وينكرون آيات القرآن.
- وفيها التنويه بالقرآن والمتلقين له بخشية وصبر. ووصف المفار بكراهيتهم القرآن وبغض المرسل به. والثناء على المؤمنين وأن الله يسر لهم أتباع الحنيفية وسماهم المسلمين.
- والإذن للمسلمين بالقتال وضمان النصر والتمكين في الأرض لهم.
- وختمت السورة بتذكير الناس بنعم الله عليهم وأن الله اصطفى خلقا من الملائكة ومن الناس فأقبل على المؤمنين بالإرشاد إلى ما يقربهم إلى الله زلفى وأن الله هو مولاهم وناصرهم. (1)
مناسبتها للسورة التي قبلها
كانت سورة الأنبياء ـ السابقة على هذه السورة ـ حديثا متصلا عن أنبياء اللّه ورسله ، وما ابتلاهم اللّه سبحانه وتعالى به من ضرّاء وسرّاء ، ثم كانت عاقبتهم جميعا إلى العافية فى الدنيا ، وإلى رضا اللّه ورضوانه فى الآخرة ..
وقد بدئت هذه السورة ـ سورة الأنبياء ـ بهذا الخبر المثير : « اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ » ثم ختمت السورة بهذا البلاغ المبين ، الذي جاء به قوله تعالى : « وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ » ثم تلتها الآيات التي تحدث عن النبىّ ـ صلوات اللّه
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (17 / 131)(1/736)
وسلامه عليه ـ وأنه المبعوث رحمة للعالمين ، وأنه لا يحمل الناس حملا على الهدى الذي بين يديه ، فمن تولّى ، فما على النبىّ من أمره شىء .. والموعد الآخرة ، حيث يفصل اللّه بين العباد ..وقد جاءت سورة الحج فبدأت بهذا الإعلان ، أو هذا النذير الصارخ :« يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها .. وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ».
وواضح ما بين بدء هذه السورة ، وبدء سورة الأنبياء وخاتمتها ، وما بين بدئها وختامها من تلاق وتلاحم .. بحيث يمكن أن تقرأ سورة الحج فى أعقاب سورة الأنبياء ، من غير فاصل بالبسملة ، وكأنها بعض منها ، وتعقيب على مقرراتها. (1)
تعريف بسورة الحج
1 - سورة الحج هي السورة الثانية والعشرون في ترتيب المصحف ، وعدد آياتها ثمان وتسعون آية في المصحف الكوفي ، وسبع وتسعون في المكي وخمس وتسعون في البصري ، وأربع وتسعون في الشامي.وسميت بسورة الحج ، لحديثها بشيء من التفصيل عن أحكام الحج.
2 - ومن العلماء من يرى أنها من السور المكية ، ومنهم من يرى أنها من السور المدنية.
والحق أن سورة الحج من السور التي فيها آيات مكية ، وفيها آيات مدنية فمثلا : الآيات التي تتحدث عن الإذن بالقتال ، من الواضح أنها آيات مدنية ، لأن القتال شرعه اللّه - تعالى - بالمدينة ، وكذلك الآيات التي تتحدث عن أحكام الحج ، لأن الحج فرض بعد الهجرة.
قال الآلوسى بعد أن ذكر أقوال العلماء في ذلك : « والأصح أن سورة الحج مختلطة » فيها آيات مدنية ، وفيها آيات مكية ، وإن اختلف في التعيين ، وهو قول الجمهور » .
وقال بعض العلماء : « والذي يغلب على السورة هو موضوعات السور المكية وجو السور المكية. فموضوعات التوحيد ، والتخويف من الساعة ، وإثبات البعث ، وإنكار الشرك ، ومشاهد القيامة. وآيات اللّه المبثوثة في صفحات الكون .. بارزة في السورة. وإلى جوارها الموضوعات المدنية من الإذن بالقتال ، وحماية الشعائر ، والوعد بنصر اللّه لمن يقع عليه البغي وهو يرد العدوان ، والأمر بالجهاد في سبيل اللّه » .
3 - وقد افتتحت السورة الكريمة افتتاحا ترتجف له النفوس ، حيث تحدثت عن أهوال يوم القيامة ، وعن أحوال الناس فيه ...قال - تعالى - يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَها
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (9 / 970)(1/737)
تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها ، وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ..
4 - وبعد أن ساقت السورة الكريمة نماذج متنوعة لأحوال الناس في هذه الحياة ، وأقامت الأدلة على أن البعث حق ... أتبعت ذلك ببشارة المؤمنين بما يشرح صدورهم.قال - تعالى - إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ.
ثم بينت السورة الكريمة أن كل شيء في هذا الكون يسجد للّه - تعالى - وأن كثيرا من الناس ينال الثواب بسبب إيمانه وعمله الصالح ، وكثيرا منهم يصيبه العقاب بسبب كفره وفسوقه.قال - تعالى - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ ، وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ، إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ.
5 - وبعد أن عقدت السورة الكريمة مقارنة بين خصمين اختصموا في ربهم ، وبينت عاقبة كل منهما ... أتبعت ذلك بحديث مفصل عن فريضة الحج. فذكرت سوء عاقبة الكافرين الذين يصدون عن سبيل اللّه والمسجد الحرام ، كما بينت أن اللّه - تعالى - قد أمر نبيه إبراهيم بأن يؤذن للناس بالحج ، لكي يشهدوا منافع لهم ، ويذكروا اسم اللّه في أيام معلومات ، كما بشرت الذين يعظمون حرمات اللّه بالخير وحسن الثواب ، ووصفت من يشرك باللّه فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ.
ثم ختمت حديثها عن فريضة الحج ببيان أن الهدى الذي يقدمه الحجاج هو من شعائر اللّه ، فعليهم أن يقدموه بإخلاص وسخاء ، وأن يشكروا اللّه - تعالى - على نعمه.قال - تعالى - : وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ ، فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ ، فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ، كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ ، كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ.
6 - ثم بينت السورة أن اللّه - تعالى - قد شرع لعباده المؤمنين الجهاد في سبيله ، وبشرهم بأنه معهم يدافع عنهم ، ويجعل العاقبة لهم. فقال - تعالى - إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.
ثم أخذت السورة الكريمة في تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من قومه ...
قال - تعالى - : وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى ، فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ، ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ.(1/738)
ثم أمر اللّه - تعالى - رسوله بأن يمضى في طريقه دون أن يهتم بأذى المشركين. وأن يجابههم بكلمة الحق بدون خوف أو وجل ، فقال - تعالى - قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.
7 - وبعد أن بين - سبحانه - مظاهر حكمته في هداية من اهتدى ، وفي ضلال من ضل ، أتبع ذلك بحديث مستفيض عن ألوان نعمه على خلقه ، فقال - تعالى - : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ، وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ، وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ.
8 - ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، بنداءين : أحدهما : وجهه إلى الناس جميعا ، وبين لهم فيه ، أن الذين يعبدونهم من دون اللّه لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له.
والثاني : وجهه - سبحانه - إلى المؤمنين ، وأمرهم فيه بمداومة الركوع والسجود والعبادة له - عز وجل - وبالمواظبة على فعل الخير وعلى الجهاد في سبيله.قال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ، وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ، فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى ، وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
9 - هذا : والمتأمل في هذه السورة الكريمة ، يرى أن من أبرز ما اهتمت بالحديث عنه ما يأتى :
(ا) بيان أنواع الناس في هذه الحياة ، وعاقبة كل نوع ، ترى ذلك واضحا في قوله - تعالى - : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ ، خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ....
(ب) إقامة الأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - وعلى أن البعث حق بأسلوب منطقي واضح. يقنع العقول ويهدى القلوب.ترى ذلك في قوله - تعالى - : يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ، لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ، وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ(1/739)
وَرَبَتْ ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ، وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ.
(ج) الحديث المفصل عن فريضة الحج ، وما اشتملت عليه هذه الفريضة من منافع وآداب وأحكام.
(د) المقارنة بين مصير المؤمنين ومصير الكافرين ، نرى ذلك في آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ. فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ.
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ.
(ه) بيان سنن اللّه في خلقه ، والتي من أعظمها : دفاعه عن المؤمنين ، ونصره لهم ، ترى ذلك في مثل قوله - تعالى - : إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.
والتي من أعظمها - أيضا - عدم إخلاف وعده ، قال - تعالى - : وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ، وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ.
(و) يمتاز أسلوب السورة - في مجموعه - بالقوة والعنف ، والشدة والرهبة ، والإنذار والتحذير ، وغرس التقوى في القلوب بأسلوب تخشع له النفوس ..
نرى ذلك في كثير من آياتها ، ومن ذلك ، قوله - تعالى - : يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها ، وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ..
وقوله - تعالى - : وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ.
وقوله - تعالى - : ... فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ..
وقوله - سبحانه - : فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ. فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ، أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ..
وبجانب هذه الشدة في الأسلوب ، نرى في السورة - أيضا - أسلوبا آخر فيه من اللين والرقة والبشارة للمؤمنين ما فيه ، ويكفيك قوله - تعالى - : إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي(1/740)
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ، وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ. (1)
في السورة إنذار بالقيامة وهولها. وتدليل على قدرة اللّه على بعث الناس ومحاسبتهم. وتنديد بفئات من الكفار وذوي القلوب المريضة وتنويه بالمؤمنين.
وإنذار رهيب للأولين وبشرى للآخرين. وتوبيخ للكفار على صدّهم عن المسجد الحرام. وبيان عن صلة إبراهيم بالكعبة والحج. واستطراد إلى مناسك الحج وبخاصة ما يتعلق بالقرابين وإقرارها بعد تنقيتها من شوائب الشرك. وبشرى للمهاجرين بنصر اللّه وعنايته في حالتي الموت والحياة. وتقرير باعتبار المسلمين مظلومين بما كان من قتال المشركين لهم وأذاهم. وتقرير حق الدفاع لهم وتقرير ما يمكن أن يكون من سعادة المجتمع إذا تمكنوا في الأرض حيث يقيمونه على أساس قويم من صلاة وزكاة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وتطمين وتثبيت للنبي إزاء عناد الكفار وتذكير بآثار عظمة اللّه في كونه. وبعذاب اللّه للأمم السابقة لكفرها وتكذيبها لرسلها ، ومشاهد ومواقف جدلية. وختام قوي موجّه للمسلمين ، منوّه بالمكانة العظمى التي خصّوا بها ، احتوى فيما احتواه تقرير نسبة العرب بالأبوة إلى إبراهيم (عليه السلام) وما جعل اللّه لهم من مزيّة ليكونوا شهداء على الناس.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن هذه السورة مدنية ، في حين أن المفسرين البغوي والنيسابوري والزمخشري والطبرسي والخازن والبيضاوي والنسفي يروون أنها مكية ، وبعضهم يذكر أن بعض آيات منها مدنيّة.
والآيات المرويّة مدنيتها هي [19 - 22] في رواية و[19 - 24] في رواية أخرى ، ثم الآيات [38 - 41 و52 - 55 و58 - 60].
والمتمعن في الآيات [19 - 24] ومضمونها ، يجد أن أسلوبها ومضمونها مكّيان أكثر من كونهما مدنيين. وكذلك الآيات [52 - 55]. أما الآيات [38 - 41 و58 - 60] فقد يؤيّد أسلوبها ومضمونها مدنيتها ، مع احتمال أن تكون - وبخاصة الآيات [38 - 41] - مكية أيضا لأن أسلوبها ومضمونها يسوغان تخمين ذلك.
وهناك آيات لم يذكرها الرواة في عداد الآيات المدنية على ما اطّلعنا عليه ، مع أن مضمونها قد يسوغ بل قد يرجّح مدنيتها وهي الآيات [25 - 27] ثم الآيتان الأخيرتان من السورة اللتان يحتمل أن تكونا مدنيتين أيضا على ما سوف نشرحه بعد.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (9 / 267)(1/741)
وعلى كل حال ، فإن أسلوب معظم آيات السورة ومضمونها يسوغان ترجيح صحّة رواية مكّيتها ، مع احتمال أن تكون بعض آياتها مدنية. (1)
سورة الحج مدنية ، وهي ثمان وسبعون آية.
تسميتها :
سميت سورة الحج لإعلان فريضة الحج فيها على الناس ، على لسان إبراهيم الخليل عليه السلام : وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ بعد بناء البيت العتيق ، فأذن ، فبلغ صوته أنحاء الأرض ، وأسمع النطف في الأصلاب والأجنة في الأرحام ، وأجابوا النداء : «لبيك اللهم لبيك».
صلتها بما قبلها :
هناك تناسب وارتباط بين بداية هذه السورة ، وخاتمة السورة السابقة ، فقد ختم اللّه سورة الأنبياء ببيان اقتراب الساعة ووصف أهوالها في قوله :
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ، فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا وافتتح هذه السورة بقوله : إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ، يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ.
وفي السورة المتقدمة بيان قصص أكثر من عشرة من الأنبياء تدور على ما قاموا به من إثبات توحيد اللّه ، ونبذ الشرك ، والإيمان بالبعث ، وفي هذه السورة استدلال بخلق الإنسان بأطواره المتعددة وبإبداع السموات والأرض على قدرة اللّه على إحياء البشر للبعث ، وعلى وجوده تعالى ووحدانيته ، ثم تنبيه الأفكار على الالتفات لأحوال أهل القرى الظالمة التي أهلكها اللّه ، والاتعاظ بها بسبب تكذيبهم الرسل.
مشتملاتها :
بالرغم من أن هذه السورة مدنية تضمنت الكلام عن فرضية الحج ومناسكه ، وعن مشروعية القتال ومقومات النصر ، فإنها تحدثت عن أمور مشابهة لموضوعات السور المكية من الإيمان باللّه عزّ وجلّ وتوحيده ، والبعث والاستدلال عليه ، والجزاء على الأعمال.
افتتحت السورة بما يهز المشاعر ، وينشر الرعب والخوف من أهوال الساعة ، وشدائد يوم القيامة.
ثم انتقلت إلى بيان أدلة البعث ، وإتيان القيامة ، وبيان بعض مشاهدها من جعل الأبرار في دار النعيم ، وزجّ الكفار في نار الجحيم ، وإعلان خسارة المنافقين المضطربين الذين لا يعرف لهم قرار ولا اتجاه. ثم أبانت حرمة المسجد الحرام ، وفرضية الحج ومنافعه ، وحرماته وشعائره ، ومناسكه وذبائحه ، وأردفت ذلك بالحديث المقنع عن أسباب فرضية القتال ، ومقومات النصر على الأعداء ، مع تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (6 / 7)(1/742)
عما ناله من أذى قومه ، وتكذيبهم له ، والتعريف بحال أهل القرى الظالمة التي أهلكها اللّه ، وجعل العاقبة للمتقين ، وتحديد مهمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي الإنذار مكذبي القرآن بالنار ، وتبشير المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالجنة والنعيم ، وإظهار مدى فضل اللّه على المهاجرين وإثابتهم.
واقتضت الحكمة بعدئذ الكلام عن أدلة القدرة الإلهية من خلق الليل والنهار ، والسماء والأرض ، والإحياء والإماتة ، والعلم الشامل لجميع مكنونات الكون ، وتفرد اللّه تعالى بالحساب والفصل والحكم بين الناس. ثم بيان مدى تبرم الكفار بآيات اللّه ، وإظهار الغضب على وجوههم ، وتحديهم بأن معبوداتهم من الأصنام وغيرها لا تستطيع خلق ذبابة ، فضلا عن خلق الإنسان ، وأن منشأ شركهم إقفار قلوبهم من تقدير اللّه حق قدره ، علما بأن اللّه يرسل رسلا من الملائكة ومن البشر لتبليغ الرسالة الإلهية على أتم وجه.
ثم عاد الكلام إلى بيان أحكام التشريع من أمر المؤمنين بفرائض جوهرية ثلاث : هي إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والجهاد في سبيل اللّه حق الجهاد ، وأردف ذلك بالتذكير بسماحة الإسلام ، وأن الدين يسر لا عسر ، ثم أمرهم بالاعتصام بدين اللّه والقرآن والإسلام ، وبيان أن الرسول شهيد على أمته يوم القيامة ، وأن أمته تشهد على الأمم المتقدمة بتبليغ أنبيائهم لهم دعوة اللّه وتشريعه ، وتلك مزية سامية لهذه الأمة.
فضلها :قال العزيزي : وهي من أعاجيب السور ، نزلت ليلا ونهارا ، سفرا وحضرا ، مكيا ومدنيا ، سلميا وحربيا ، محكما ومتشابها. (1)
سورة الحج هى مدينة إلا الآيات 52 ، 53 ، 54 ، 55 فبين مكة والمدينة ، والأصح أنها مختلطة منها المكي ومنها المدني ، قال العزيزي وهى من أعاجيب السور نزلت ليلا ونهارا سفرا وحضرا ، مكيا ومدنيا ، سلميا وحربيا ، محكما ومتشابها.وآيها ثمان وسبعون.
وهى بحسب موضوعاتها أقسام ثلاثة :
(1) البعث والدليل عليه وما يتبع ذلك.
(2) الحج والمسجد الحرام.
(3) أمور عامة كالقتال وهلاك الظالمين والاستدلال بنظام الدنيا على وجود الخالق وضرب المثل بعجز الأصنام وعدم استطاعتها خلق الذباب.
ومناسبتها للسورة قبلها من وجوه :
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (17 / 148)(1/743)
(1) إن آخر السورة قبلها كان فى أمر القيامة كقوله : يوم نطوى السماء كطى السجل للكتب ، وقوله : واقترب الوعد الحق - وأول هذه السورة الاستدلال على البعث بالبراهين العقلية.
(2) إنه قد أقيمت فى السورة السالفة الحجج الطبيعية على الوحدانية - وفى هذه جعل العلم الطبيعي من براهين البعث.
(3) فى السورة السالفة وما قبلها قصص الأنبياء وبراهينهم لقومهم ، وفى هذه السورة خطاب من اللّه للأمم الحاضرة ، وهو خطاب يسترعى السمع ويوجب علينا ولو إجمالا أن نعرف صنع اللّه فى أرضه وسمائه وتدبيره خلق الأجنّة والنبات والحيوان (1)
وهي مكية في القول الصحيح إلا بعض آيات. وقال الجمهور : السورة مختلطة منها مكي ومنها مدني. وهذا هو الأصح ، وآياتها ثمان وسبعون آية ، وهي تتضمن الكلام على البعث وبعض مشاهده ، ثم تنتقل إلى الكلام على المشركين وموقفهم من المسجد الحرام واستتبع ذلك الكلام على البيت وشعائر الحج ، ثم الكلام على المكذبين ومصارعهم للعبرة بهم وفي نهاية السورة آيات اللّه في الكون مع ضرب المثل للآلهة. (2)
وجه مناسبتها للسورة التي قبلها ظاهر ، وجاء في فضلها ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عُقْبَةَ بْنِ عْامِرٍ قالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ عَلَى سَائِرِ الْقُرْآنِ بِسَجْدَتَيْنِ قَالَ « نَعَمْ فَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلاَ يَقْرَأْهُمَا » (3) . .
والروايات في أن فيها سجدتين متعددة مذكورة في الدر المنثور ، نعم أخرج ابن أبي شيبة (4) عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، أَنَّهُ قَالَ : " لَيْسَ فِي الْحَجِّ إِلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْأُولَى ". (5)
سورة الحج مدنية وهي تتناول جوانب التشريع ، شأنها شأن سائر السور المدنية التي تعني بأمور التشريع ، ومع أن السورة مدنية إلا أنه يغلب عليها جو السور المكية ، فموضوع الإيمان ، والتوحيد ، والإنذار ، والتخويف ، وموضوع البعث والجزاء ، ومشاهد القيامة وأهوالها ، هو البارز في السورة الكريمة ، حتى ليكاد يخيل للقارىء ، أنها من السور المكية ، هذا إلى جانب الموضوعات التشريعية ، من الإذن بالقتال ،
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (17 / 83)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (2 / 563)
(3) - مسند أحمد - (17828) حسن
(4) - مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ (4249 ) صحيح مقطوع
(5) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (9 / 105)(1/744)
وأحكام الحج والهدي ، والأمر بالجهاد في سبيل الله ، وغير ذلك من المواضيع التي هي من خصائص السور المدنية ، حتى لقد عدها بعض العلماء ، من السور المشتركة بين المدني والمكي .
*ابتدأت السورة الكريمة بمطلع عنيف مخيف ، ترتجف له القلوبُ ، وتطيش لهوله العقول ، ذلكم هو الزلزال العنيف الذي يكون بين يدي الساعة ، ويزيد في الهول على خيال الإنسان ، لأنه لا يدك الدور والقصور فحسب ، بل يصل هوله إلي المرضعات الذاهلات عن أطفالهن ، والحوامل المسقطات حملهن ، والناس الذين يترنحون كأنهم سكارى من الخمر ، وما بهم شيء من السكر والشراب ، ولكنه الموقف المرهوب ، الذي تتزلزل له القلوب [ يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم . . ] الآيات.
*ومن أهوال الساعة إلى أدلة (البعث والنشور) تنتقل السورة لتقيم الأدلة والبراهين على البعث بعد الفناء ، ثم الإنتقال إلى دار الجزاء ، لينال الإنسان جزاءه إن خيرا فخير ، وإن شراً فشر .
* وتحدثت السورة عن بعض مشاهد القيامة ، حيث يكون الأبرار في دار النعيم والفجار في دار الجحيم .
* ثم إنتقلت للحديث عن الحكمة من الإذن بقتال الكفار ، وتناولت الحديث عن القرى المدمرة بسبب ظلمها وطغيانها ، وذلك لبيان سنة الله في الدعوات ، وتطمينا للمسلمين بالعاقبة التي تنتظر الصابرين . " وفي ختام السورة ضربت مثلا لعبادة المشركين للأصنام ، وبينت أن هذه المعبودات أعجز وأحقر من أن تخلق ذبابة ، فضلا عن أن تخلق إنسانا سميعاً بصيرا ، ودعت إلى اتباع ملة الخليل (إبراهيم ) كهف الإيمان ، وركن التوحيد ، وهكذا بدأت السورة بعقيدة البعث ، وختمت بالتوحيد . التسميه : سميت " سورة الحج " تخليدا لدعوة الخليل إبراهيم عليه السلام ، حين إنتهى من بناء البيت العتيق ونادى الناس لحج بيت الله الحرام ، فتواضعت الجبال حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض ، وإسمع نداؤه من في الأصلاب والأرحام ، وأجابوا النداء " لبيك اللهم لبيك " !! (1)
مقصودها الحث على التقوى المعلية عن دركة الاستحقاق للحكم بالعدل إلى درجة استئال الإنعام بالفضل ، في يوم الجمع للفصل ، وأنسب ما فيها لذلك الحج وهو ظاهر ) بسم الله ( الذي اقتضت عظمته خضوع كل شيء ) الرحمن ( الذي عم برحمته وعدله كل موجود ) الرحيم ( الذي خص بفضله من شاء من ذوي عدله . (2)
هذه السورة مشتركة بين مكية ومدنية كما يبدو من دلالة آياتها. وعلى الأخص آيات الإذن بالقتال.
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (2 / 212)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (5 / 129)(1/745)
وآيات العقاب بالمثل ، فهي مدنية قطعا. فالمسلمون لم يؤذن لهم في القتال والقصاص إلا بعد الهجرة. وبعد قيام الدولة الإسلامية في المدينة. أما قبل ذلك فقد قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حين بايعه أهل يثرب ، وعرضوا عليه أن يميلوا على أهل منى من الكفار فيقتلوهم «إني لم أومر بهذا». حتى إذا صارت المدينة دار إسلام شرع اللّه القتال لرد أذى المشركين عن المسلمين والدفاع عن حرية العقيدة ، وحرية العبادة للمؤمنين.
والذي يغلب على السورة هو موضوعات السور المكية ، وجو السور المكية. فموضوعات التوحيد والتخويف من الساعة ، وإثبات البعث ، وإنكار الشرك. ومشاهد القيامة ، وآيات اللّه المبثوثة في صفحات الكون .. بارزة في السورة وإلى جوارها الموضوعات المدنية من الإذن بالقتال ، وحماية الشعائر ، والوعد بنصر اللّه لمن يقع عليه البغي وهو يرد العدوان ، والأمر بالجهاد في سبيل اللّه.
والظلال الواضحة في جو السورة كلها هي ظلال القوة والشدة والعنف والرهبة. والتحذير والترهيب واستجاشة مشاعر التقوى والوجل والاستسلام.
تبدو هذه الظلال في المشاهد والأمثال ..
فمشهد البعث مزلزل عنيف رهيب : «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها ، وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» ..
وكذلك مشهد العذاب : «فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ ، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ، وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ، كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها - مِنْ غَمٍّ - أُعِيدُوا فِيها ، وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» ..
ومثل الذي يشرك باللّه : «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ» ..
وحركة من ييأس من نصر اللّه : «مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ، ثُمَّ لْيَقْطَعْ ، فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ» ..
ومشهد القرى المدمرة بظلمها : «فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ ، فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ، وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ» ..
تجتمع هذه المشاهد العنيفة المرهوبة إلى قوة الأوامر والتكاليف ، وتبرير الدفع بالقوة ، وتأكيد الوعد بالنصر والتمكين. إلى عرض الحديث عن قوة اللّه وضعف الشركاء المزعومين ..(1/746)
ففي الأولى : «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا : رَبُّنَا اللَّهُ. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً. وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ ، وَآتَوُا الزَّكاةَ ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ. وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» ..
وفي الثانية : «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» ..
ووراء هذا وذلك ، الدعوة إلى التقوى والوجل واستجاشة مشاعر الرهبة والاستسلام تبدأ بها السورة ، وتتناثر في ثناياها : «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ» .. «ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» .. «فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ، فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ. الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» .. «لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ» ..
ذلك إلى استعراض مشاهد الكون ، ومشاهد القيامة ، ومصارع الغابرين. والأمثلة والعبر والصور والتأملات لاستجاشة مشاعر الإيمان والتقوى والإخبات والاستسلام .. وهذا هو الظل الشائع في جو السورة كلها ، والذي يطبعها ويميزها.
ويجري سياق السورة في أربعة أشواط :
يبدأ الشوط الأول بالنداء العام. نداء الناس جميعا إلى تقوى اللّه ، وتخويفهم من زلزلة الساعة ، ووصف الهول المصاحب لها ، وهو هول عنيف مرهوب. ويعقب في ظل هذا الهول باستنكار الجدل في اللّه بغير علم ، واتباع كل شيطان محتوم على من يتبعه الضلال. ثم يعرض دلائل البعث من أطوار الحياة في جنين الإنسان ، وحياة النبات مسجلا تلك القربى بين أبناء الحياة ، ويربط بين تلك الأطوار المطردة الثابتة وبين أن اللّه هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن اللّه يبعث من في القبور .. وكلها سنن مطردة وحقائق ثابتة متصلة بناموس الوجود .. ثم يعود إلى استنكار الجدل في اللّه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير بعد هذه الدلائل المستقرة في صلب الكون وفي نظام الوجود. وإلى استنكار بناء العقيدة على حساب الربح والخسارة ، والانحراف عن الاتجاه إلى اللّه عند وقوع الضراء ، والالتجاء إلى غير حماه واليأس من نصرة اللّه وعقباه. وينتهي هذا الشوط بتقرير أن الهدى والضلال بيد اللّه ، وأنه سيحكم بين أصحاب العقائد المختلفة يوم الحساب .. وهنا يعرض ذلك المشهد العنيف من مشاهد العذاب للكافرين ، وإلى جواره مشهد النعيم للمؤمنين.(1/747)
ويتصل الشوط الثاني بنهاية الشوط الأول بالحديث عن الذين كفروا ويصدون عن سبيل اللّه والمسجد الحرام. ويستنكر هذا الصد عن المسجد الحرام الذي جعله اللّه للناس جميعا. يستوي في ذلك المقيمون به والطارئون عليه .. وبهذه المناسبة يذكر طرفا من قصة بناء البيت ، وتكليف إبراهيم - عليه السلام - أن يقيمه على التوحيد ، وأن يطهره من رجس الشرك. ويستطرد إلى بعض شعائر الحج وما وراءها من استجاشة مشاعر التقوى في القلوب ، وهي الهدف المقصود. وينتهي هذا الشوط بالإذن للمؤمنين بالقتال لحماية الشعائر والعبادات من العدوان الذي يقع على المؤمنين ولا جريرة لهم إلا أن يقولوا : ربنا اللّه! والشوط الثالث يتضمن عرض نماذج من تكذيب المكذبين من قبل ، ومن مصارع المكذبين ومشاهد القرى المدمرة على الظالمين. وذلك لبيان سنة اللّه في الدعوات ، وتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما يلقاه من صد وإعراض ، وتطمين المسلمين ، بالعاقبة التي لا بد أن تكون. كذلك يتضمن عرض طرف من كيد الشيطان للرسل والنبيين في دعوتهم ، وتثبيت اللّه لدعوته ، وإحكامه لآياته ، حتى يستيقن بها المؤمنون ، ويفتن بها الضعاف والمستكبرون!.
أما الشوط الأخير فيتضمن وعد اللّه بنصرة من يقع عليه البغي وهو يدفع عنه العدوان ويتبع هذا الوعد بعرض دلائل القدرة في صفحات الكون ، وإلى جوارها يعرض صورة زرية لضعف الآلهة التي يركن إليها المشركون .. وينتهي الشوط وتنتهي السورة معه بنداء الذين آمنوا ليعبدوا ربهم ، ويجاهدوا في اللّه حق جهاده ،ويعتصموا باللّه وحده ، وهم ينهضون بتكاليف عقيدتهم العريقة منذ أيام إبراهيم الخليل ..
وهكذا تتساوق موضوعات السورة وتتعاقب في مثل هذا التناسق .. (1)
خلاصة ما تضمنته السورة من الحكم والأحكام
(1) وصف حال يوم القيامة وما فيه من شدائد وأهوال تشيب منها الولدان.
(2) جدال عبدة الأصنام والأوثان بلا حجة ولا برهان.
(3) إثبات البعث وإقامة الأدلة عليه.
(4) وصف المنافقين المذبذبين فى دينهم وعدم ثباتهم على حال واحدة.
(5) ما أعد اللّه لعباده المؤمنين من الثواب المقيم فى جنات النعيم.
(6) بيان أن اللّه ناصر نبيه ومظهر دينه على سائر الأديان.
(7) بيان أن اللّه يحكم يوم القيامة بين عباده من أرباب الديانات المختلفة ويجازى كلا بما يستحق.
(8) إقامة الأدلة على وجود خالق السموات والأرض وبيان أن العالم كله خاضع لقدرته.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2405)(1/748)
(9) أمر المؤمنين بقتال المشركين الذين أخرجوهم من ديارهم ، وبيان أن هذا القتال لا بد منه لنصرة الحق فى كل زمان ومكان وأن اللّه ينصر من يدافع عنه.
(10) تسلية الرسول على ما يناله من أذى قومه وأنهم ليسوا بدعا فى الأمم ، فكثير ممن قبلهم كذبوا رسلهم ثم كانت العاقبة للمتقين ، وأهلك اللّه القوم الظالمين ، والعبرة ماثلة أمامهم فى حلهم وترحالهم.
(11) بيان أن المفسدين يلقون الشبهات على الحق ليزلزلوا عقائد المؤمنين ، لكنها لا تلبث أن تزول وينكشف نور الحق ويزيل ظلام الباطل.
(12) الثواب على الهجرة للّه ورسوله سواء قتل المهاجر أو مات.
(13) وصف حال الكافرين إذا تلى عليهم القرآن ، بما يظهر على وجوههم من أمارات الغضب.
(14) بيان أن اللّه يرسل رسلا من الملائكة ورسلا من البشر وأن اللّه عليم بمن يصلح لهذه الرسالة.
(15) أمر المؤمنين بدوام الصلاة والزكاة وفعل الخيرات والجهاد حق الجهاد فى سبيل الحق.
(16) بيان أن الدين يسر لا عسر ، وأنه كمّلة إبراهيم سمح لا شدة فيه.
(17) بيان أن الرسول شهيد على أمته يوم القيامة وأن هذه الأمة تشهد على الأمم السالفة بأن رسلهم قد بلغوهم شرائع اللّه وما قصّروا فى ذلك. (1)
=================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (17 / 150)(1/749)
(23) سورة المؤمنون
سورة المؤمنون ويقال سورة المؤمنون.
فالأول على اعتبار إضافة السورة إلى المؤمنين لافتتاحها بالإخبار عنهم بأنهم أفلحوا. ووردت تسميتها بمثل هذا فيما رواه النسائي: عن عبد الله بن السائب قال: "حضرت رسول الله يوم الفتح فصلى في قبل الكعبة فخلع نعليه فوضعهما عن يساره فافتتح سورة المؤمنين فلما جاء ذكر موسى أو عيسى أخذته سعلة فركع" .
والثاني على حكاية لفظ {الْمُؤْمِنُونَ} الواقع أولها في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} فجعل ذلك اللفظ تعريفا للسورة.
وقد وردت تسمية هذه السورة سورة المؤمنين في السنة. روى أبو داود: عن عبد الله بن السائب قال: "صلى بنا رسول الله الصبح بمكة فاستفتح سورة المؤمنين حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر موسى وعيسى أخذت النبي سعلة فحذف فركع" .
ومما جرى على الألسنة أن يسموها سورة قد أفلح. ووقع ذلك في كتاب الجامع من العتبية في سماع ابن القاسم. قال ابن القاسم: أخرج لنا مالك مصحفا لجده فتحدثنا أنه كتبه على عهد عثمان بن عفان وغاشيته من كسوة الكعبة فوجدنا.. إلى أن قال.. وفي قد أفلح كلها الثلاث لله أي خلافا لقراءة: سيقولون الله. ويسمونها أيضا سورة الفلاح.
وهي مكية بالاتفاق. ولا اعتداد بتوقف من توقف في ذلك بأن الآية التي ذكرت فيها الزكاة وهي قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} تعين أنها مدنية؛ لأن الزكاة فرضت في المدينة. فالزكاة المذكورة فيها هي الصدقة لا زكاة النصب المعينة في الأموال. وإطلاق الزكاة على الصدقة مشهور في القرآن. قال تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:7,6] وهي من سورة مكية بالاتفاق، وقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 55,54] ولم تكن زكاة النصب مشروعة في زمن إسماعيل.
وهي السورة السادسة والسبعون في عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة {الطور} وقبل سورة {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} .
وآياتها مائة وسبع عشرة في عد الجمهور. وعدها أهل الكوفة مائة وثمان عشرة، فالجمهور عدوا {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} آية، وأهل الكوفة عدوا {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ}(1/750)
[المؤمنون: 11,10] آية وما بعدها آية أخرى، كما يؤخذ من كلام أبي بكر ابن العربي في العارضة في الحديث الذي سنذكره عقب تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
أغراض السورة
هذه السورة تدور آيها حول محور تحقيق الوحدانية وإبطال الشرك ونقض قواعده، والتنويه بالإيمان وشرائعه.
فكان افتتاحها بالبشارة للمؤمنين بالفلاح العظيم على ما تحلوا به من أصول الفضائل الروحية والعملية التي بها تزكية النفس واستقامة السلوك.
وأعقب ذلك بوصف خلق الإنسان أصله ونسله الدال على تفرد الله تعالى بالإلهية لتفرده بخلق الإنسان ونشأته ليبتدئ الناظر بالاعتبار في تكوين ذاته ثم بعدمه بعد الحياة. ودلالة ذلك الخلق على إثبات البعث بعد الممات وأن الله لم يخلق الخلق سدى ولعبا.
وانتقل إلى الاعتبار بخلق السماوات ودلالته على حكمة الله تعالى.
وإلى الاعتبار والامتنان بمصنوعات الله تعالى التي أصلها الماء الذي به حياة ما في هذا العالم من الحيوان والنبات وما في ذلك من دقائق الصنع، وما في الأنعام من المنافع ومنها الحمل.
ومن تسخير المنافع للناس وما أوتيه الإنسان من آلات الفكر والنظر. وورد ذكر الحمل على الفلك فكان منه تخلص إلى بعثه نوح وحدث الطوفان.
وانتقل إلى التذكير ببعثة الرسل للهدى والإرشاد إلى التوحيد والعمل الصالح، وما تلقاها به أقوامهم من الإعراض والطعن والتفرق، وما كان من عقاب المكذبين، وتلك أمثال لموعظة المعرضين عن دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فأعقب ذلك بالثناء على الذين آمنوا واتقوا.
وبتنبيه المشركين على أن حالهم مماثل لأحوال الأمم الغابرة وكلمتهم واحدة فهم عرضة لأن يحل بهم ما حل بالأمم الماضية المكذبة. وقد أراهم الله مخائل العذاب لعلهم يقلعون عن العناد فأصروا على إشراكهم بما ألقى الشيطان في عقولهم.
وذكروا بأنهم يقرون إذا سئلوا بأن الله مفرد بالربوبية ولا يجرون على مقتضى إقرارهم أنهم سيندمون على الكفر عندما يحضرهم الموت وفي يوم القيامة.
وبأنهم عرفوا الرسول وخبروا صدقه وأمانته ونصحه المجرد عن طلب المنفعة لنفسه الإ ثواب الله فلا عذر لهم بحال في إشراكهم وتكذيبهم الرسالة، ولكنهم متبعون أهواءهم معرضون عن الحق.
وما تخلل ذلك من جوامع الكلم.(1/751)
وختمت بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغض عن سوء معاملتهم ويدفعها بالتي هي أحسن، ويسأل المغفرة للمؤمنين، وذلك هو الفلاح الذي ابتدئت به السورة. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة « المؤمنون » من السور المكية ، وعدد آياتها ثماني عشرة آية ومائة ، وكان نزولها بعد سورة الأنبياء.
2 - وقد افتتحت السورة الكريمة بالحديث عن الصفات الكريمة التي وصف اللّه - تعالى - بها عباده المؤمنين ، فذكر منها أنهم في صلاتهم خاشعون وأنهم للزكاة فاعلون ...
ثم ختمت السورة تلك الصفات الجليلة ، ببيان ما أعده الخالق - عز وجل - لأصحاب هذه الصفات فقال : أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
3 - ثم تنتقل السورة بعد ذلك إلى الحديث عن أطوار خلق الإنسان ، فابتدأت ببيان أصل خلقه ، وانتهت ببيان أنه سيموت ، ثم سيبعث يوم القيامة ليحاسب على ما قدم وما أخر.
قال - تعالى - : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً. فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً. ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ، فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ.
4 - وبعد أن أقام - سبحانه - الأدلة على قدرته على البعث عن طريق خلق الإنسان في تلك الأطوار المتعددة ، أتبع ذلك ببيان مظاهر قدرته - تعالى - عن طريق خلق الكائنات المختلفة التي يراها الإنسان ويشاهدها وينتفع بها ..فقال - سبحانه - : وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ ، فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ، وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ.
5 - ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك فيما يقرب من ثلاثين آية بعض قصص الأنبياء مع أقوامهم ، فذكر جانبا من قصة نوح مع قومه ، ومن قصة موسى مع فرعون وقومه.
ثم ختم هذه القصص ببيان مظاهر قدرته في خلق عيسى من غير أب ، فقال - تعالى - :
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ، وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ ..
6 - ثم وجه - سبحانه - بعد ذلك نداء عاما إلى الرسل - عليهم الصلاة والسلام - أمرهم فيه بالمواظبة على أكل الحلال الطيب ، وعلى المداومة على العمل الصالح ، وبين - سبحانه - أن شريعة الأنبياء جميعا
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (18 / 5)(1/752)
هي شريعة واحدة في أصولها وعقائدها ، فقال - تعالى - : وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ.
ثم تحدثت السورة الكريمة حديثا طويلا عن موقف المشركين من الدعوة الإسلامية ، وبينت مصيرهم يوم القيامة ، وردت على شبهاتهم ودعاواهم الفاسدة ، ودافعت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعن دعوته ، وختمت هذا الدفاع بما يسلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويثبت فؤاده.قال - تعالى - : وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ.
ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك ألوانا من الأدلة على وحدانية اللّه وقدرته ، منها ما يتعلق بخلق سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم ، ومنها ما يتعلق بنشأتهم من الأرض ، ومنها ما يتعلق بإشهادهم على أنفسهم بأن خالق هذا الكون هو اللّه - تعالى - واستمع إلى قوله - تعالى - : قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ، قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ.
9 - وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر قدرة اللّه - تعالى - ، أمر - سبحانه - نبيه أن يلتجئ إليه من شرورهم ومن شرور الشياطين ، وأمره أن يقابل سيئات هؤلاء المشركين بالتي هي أحسن ، حتى يقضى اللّه أمرا كان مفعولا.قال - تعالى - : قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ.
10 - ثم صورت السورة الكريمة في أواخرها أحوال المشركين عند ما يدركهم الموت ، وكيف أنهم يتمنون العودة إلى الدنيا ولكن هذا التمني لا يفيدهم شيئا ، وكيف يوبخهم - سبحانه - على سخريتهم من المؤمنين في الدنيا. قال - تعالى - : إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ ، رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ.
11 - ثم ختمت السورة الكريمة بهذه الآية التي يأمر اللّه - تعالى - فيها نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالمواظبة على طلب المزيد من رحمته ومغفرته - سبحانه - فقال - تعالى - : وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.(1/753)
12 - وهكذا نرى سورة « المؤمنون » قد طوفت بنا في آفاق من شأنها أن تغرس الإيمان في القلوب ، وأن تهدى النفوس إلى ما يسعدها في دينها ودنياها. (1)
في السورة تنويه بصفات المؤمنين ومصيرهم السعيد. وتوكيد بالبعث ، وتذكير بقدرة اللّه في خلق الإنسان والأكوان وما فيها من منافع وحقه في الشكر والإخلاص. وسلسلة قصص بعض الأنبياء ومواقف أقوامهم منهم في صدد التمثيل والإنذار للكفار وتثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وتطمينهم. وحملة على الكفار لاغترارهم بما يتمتعون به في الدنيا. وتبكيت لهم على وقوفهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - موقف العناد والاتهام مع معرفتهم له ومع ما في مهمته من الخير المحض لهم المجرّد عن كل غرض. وحكاية لبعض أقوالهم في إنكار البعث وردود قوية عليهم من مشاهد قدرة اللّه وملكوته واعترافهم بذلك. وتصوير مصائر المؤمنين والكفار الأخروية بما فيه التطمين والبشرى للأولين والرعب والهول للآخرين.
وفصول السورة مترابطة وآياتها متوازنة. وهذا يبرر القول أنها نزلت متتابعة. (2)
سورة المؤمنون مكية ، وهي مائة وثمان عشرة آية.
تسميتها وفضلها :
سميت سورة المؤمنون لافتتاحها بقول اللّه تعالى : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ثم ذكر أوصاف المؤمنين السبعة وجزاءهم العظيم في الآخرة وهو ميراث الفردوس.
روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي والحاكم عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ ، يُسْمَعُ عِنْدَهُ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ ، فَمَكَثْنَا سَاعَةً ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ : " اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا ، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا ، وَلَا تُخْزِنَا ، وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا ، وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا " . ثُمَّ قَالَ : " لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ ، ثُمَّ قَرَأَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ " (3) . .
وروى النسائي في تفسيره عَنْ أَبِي عِمْرَانَ ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ بَابَنُوسَ ، قَالَ : قُلْنَا لِعَائِشَةَ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، كَيْفَ كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ , قَالَتْ : " كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ الْقُرْآنُ " ، فَقَرَأَتْ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى انْتَهَتْ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ , قَالَتْ : " هَكَذَا كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " (4)
مناسبة السورة لما قبلها :
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (10 / 5)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 300)
(3) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (1419) فيه راو مختلف فيه هل هو مجهول أم ثقة ؟
(4) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (9976) صحيح(1/754)
تظهر صلة هذه السورة بسورة الحج من نواح هي :
1 - ختمت سورة الحج بجملة من الأوامر الجامعة لخيري الدنيا والآخرة ، منها قوله تعالى : وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وهو مجمل فصّل في فاتحة هذه السورة ، فذكر تعالى خصال الخير التي من فعلها فقد أفلح ، فقال : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الآيات العشر.
2 - ذكر في أول سورة الحج قوله : يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ ، فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ الآية لإثبات البعث والنشور ، ثم زاد هنا بيانا ضافيا في قوله : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ الآيات. فما أجمل أو أوجز هناك ، فصل وأطنب هنا.
3 - في كل من السورتين أدلة على وجود الخالق ووحدانيته.
4 - في السورتين أيضا ذكرت قصص بعض الأنبياء المتقدمين للعبرة والعظة ، في كل زمن وعصر ولكل فرد وجيل.
ما اشتملت عليه السورة :
تضمنت السورة الكلام عن أصول الدين من وجود الخالق وتوحيده وإثبات الرسالة والبعث.
وابتدأت بالإشادة بخصال المؤمنين المصدقين باللّه ورسوله التي استحقوا بها ميراث الفردوس الأعلى في الجنان.
ثم أبانت الأدلة على وجود اللّه تعالى والقدرة الإلهية والوحدانية من خلق الإنسان مرورا بأطواره المتعددة ، وخلق السموات البديعة ، وإنزال الماء منها لإنبات الجنات أو البساتين التي تزهو بالنخيل والأعناب ، والزيتون والرمان ، والفواكه الكثيرة ، وإيجاد الأنعام ذات المنافع العديدة للإنسان ، وتسخير السفن لحمل الركاب والبضائع.
ثم أوردت قصص بعض الأنبياء والمرسلين كنوح وهود وموسى وهارون وعيسى وأمه مريم ، لتكون نماذج للعبرة والعظة عبر الأجيال ، وتسلية لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عما يلقاه من أذى المشركين من قريش ، مع توبيخهم ووعيدهم على استكبارهم عن الحق ، ووصفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنون وغيره ، وعدم إيمانهم برسالته ، وإخبارهم بما يلقونه من العذاب والنكال يوم القيامة ، وإقناعهم بالأدلة والبراهين على حدوث البعث والنشور.
وفي خلال ذلك أوضحت بعض الآيات يسر التكليف وسماحته وعدم المطالبة إلا بما فيه الوسع والقدرة ، والتذكير بما أنعم اللّه به على الإنسان من نعم الحواس والمشاعر ، والإنكار الشديد على نسبة الولد والشريك للّه تعالى.(1/755)
ثم طمأنت الآيات النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نجاته من القوم الظالمين ، ووضعت له أسلوب الدعوة إلى اللّه تعالى ، وعرفته طريق الاعتصام باللّه من همزات الشياطين.
وعرضت السورة في خاتمتها لموقف الحساب الرهيب وأهواله وشدائده ، وما فيه من معايير النجاة والخسران ، من ثقل الموازين وخفتها ، وقسمة الناس إلى فريقين : سعداء وأشقياء ، وعدم إفادة الأنساب في شيء ، وتمني الكفار العودة لدار الدنيا ليعملوا صالحا ، وتذكيرهم بسخريتهم وضحكهم من المؤمنين ، وسؤالهم عن مدة لبثهم في الدنيا ، وتوبيخهم على إنكار البعث ، وإعلان تفرد الإله الملك القاهر بالحساب ومحاورته أهل النار ، وبيان خسارة من عبد مع اللّه إلها آخر ، ونجاة أهل الإيمان والعمل الصالح ، وإفاضة رحمة اللّه عليهم ومغفرته لهم. (1)
مكية كلها في قول الجميع ، وعدد آياتها ثماني عشرة ومائة آية.
وهي تدور حول الإيمان والمؤمنين من أولها إلى آخرها فهي إذ تصف المؤمنين ، تذكر أسس الإيمان في الإنسان والكون ، ثم تتعرض لرسالات بعض الأنبياء وكلها تدعو للإيمان ، ثم تعود إلى المؤمنين وخصالهم وإلى الكافرين وأعمالهم مع تعرض لبعض صفات اللّه ونراها تختتم الكلام بتوجيهات للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم بذكر مشهد من مشاهد يوم القيامة للعبرة والعظة. (2)
* سورة " المؤمنون " من السور المكية التي تعالج أصول الدين من (التوحيد والرسالة ، والبعث ) سميت بهذا الإسم الجليل " المؤمنون " تخليدا لهم وإشادةً بمآثرهم وفضائلهم الكريمة ، التي استحقوا بها ميراث الفردوس الأعلى في جنات النعيم .
* عرضت السورة الكريمة لدلائل القدرة والوحدانية ، مصورة في هذا الكون العجيب ، في (الإنسان ، والحيوان ، والنبات ، ثم في خلق السموات البديعة ذات الطرائق ، وفي الآيات الكونية المنبثة فيما يشاهده الناس في العالم المنظور ، من أنواع النخيل والأعناب ، والزيتون والرمان ، والفواكه والثمار ، والسفن الكبيرة التي تمحر عباب البحار) وغير ذلك من الآيات الكونية الدالة على وجود الله جل وعلا .
* وقد عرضت السورة لقصص بعض الأنبياء ، تسلية لرسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، عما يلقاه من أذى المشركين ، فذكرت قصة نوح ، ثم قصة هود ، ثم قصة موسى ، ثم قصة مريم البتول وولدها عيسى ، ثم عرضت لكفار مكة وعنادهم ومكابرتهم للحق بعدما سطع سطوع الشمس في رابعة النهار ، وأقامت الحجج
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (18 / 5) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (18 / 3)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (2 / 611)(1/756)
والبراهين على البعث والنشور ، وهو المحور الذي تدور عليه السورة ، وأهم ما يجادل فيه المبطلون ، فقصمت ببيانها الساطع ظهر الباطل .
* وتحدثت السورة عن الأهوال والشدائد التي يلقاها الكفار وقت الإحتضار ، وهم في سكرات الموت ، وقد تمنوا العودة إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم من صالح العمل ، ولكن هيهات فقد انتهى الأجل ، وضاع الأمل .
* وختمت السورة بالحديث عن يوم القيامة حيث ينقسم الناس إلى فريقين : سعداء ، وأشقياء ، وينقطع الحسب والنسب ، فلا ينفع إلا الإيمان والعمل الصالح ، وسجلت المحاورة بين المَلِكِ الجبار ، وبين أهل النار وهم يصطرخون فيها فلا يغاثون ولا يجابون !! (1)
مقصودها اختصاص المؤمنين بالفلاح ، وتسمها واضح الدلالة على ذلك ) بسم الله ( الذي له الأمر كله ، فلا راد لأمره ) الرحمن ( الذي من عموم رحمته الإبلاغ في البيان ) الرحيم ( الذي خص من أراد بالإيمان . (2)
هذه سورة «المؤمنون» .. اسمها يدل عليها. ويحدد موضوعها .. فهي تبدأ بصفة المؤمنين ، ثم يستطرد السياق فيها إلى دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق. ثم إلى حقيقة الإيمان كما عرضها رسل اللّه - صلوات اللّه عليهم - من لدن نوح - عليه السلام - إلى محمد خاتم الرسل والنبيين وشبهات المكذبين حول هذه الحقيقة واعتراضاتهم عليها ، ووقوفهم في وجهها ، حتى يستنصر الرسل بربهم ، فيهلك المكذبين ، وينجي المؤمنين ..
ثم يستطرد إلى اختلاف الناس - بعد الرسل - في تلك الحقيقة الواحدة التي لا تتعدد .. ومن هنا يتحدث عن موقف المشركين من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويستنكر هذا الموقف الذي ليس له مبرر .. وتنتهي السورة بمشهد من مشاهد القيامة يلقون فيه عاقبة التكذيب ، ويؤنبون على ذلك الموقف المريب ، يختم بتعقيب يقرر التوحيد المطلق والتوجه إلى اللّه بطلب الرحمة والغفران ..
فهي سورة «المؤمنون» أو هي سورة الإيمان ، بكل قضاياه ودلائله وصفاته. وهو موضوع السورة ومحورها الأصيل.
ويمضي سياق السورة في أربعة أشواط :
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (2 / 229)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (5 / 182)(1/757)
يبدأ الشوط الأول بتقرير الفلاح للمؤمنين : «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» .. ويبين صفات المؤمنين هؤلاء الذين كتب لهم الفلاح .. ويثني بدلائل الإيمان في الأنفس والآفاق ، فيعرض أطوار الحياة الإنسانية منذ نشأتها الأولى إلى نهايتها في الحياة الدنيا متوسعا في عرض أطوار الجنين ، مجملا في عرض المراحل الأخرى .. ثم يتابع خط الحياة البشرية إلى البعث يوم القيامة .. وبعد ذلك ينتقل من الحياة الإنسانية إلى الدلائل الكونية :
في خلق السماء ، وفي إنزال الماء ، وفي إنبات الزرع والثمار. ثم إلى الأنعام المسخرة للإنسان والفلك التي يحمل عليها وعلى الحيوان.
فأما الشوط الثاني فينتقل من دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق إلى حقيقة الإيمان. حقيقته الواحدة التي توافق عليها الرسل دون استثناء : «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .. قالها نوح - عليه السلام - وقالها كل من جاء بعده من الرسل ، حتى انتهت إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وكان اعتراض المكذبين دائما : «ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ!» .. «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً» .. وكان اعتراضهم كذلك : «أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ؟» .. وكانت العاقبة دائما أن يلجأ الرسل إلى ربهم يطلبون نصره ، وأن يستجيب اللّه لرسله ، فيهلك المكذبين .. وينتهي الشوط بنداء للرسل جميعا : «يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً ، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ، وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ».
والشوط الثالث يتحدث عن تفرق الناس - بعد الرسل - وتنازعهم حول تلك الحقيقة الواحدة. التي جاءوا بها : «فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً ، كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ». وعن غفلتهم عن ابتلاء اللّه لهم بالنعمة ، واغترارهم بما هم فيه من متاع. بينما المؤمنون مشفقون من خشية ربهم ، يعبدونه ولا يشركون به ، وهم مع ذلك دائموا الخوف والحذر «وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ» .. وهنا يرسم مشهدا لأولئك الغافلين المغرورين يوم يأخذهم العذاب فإذا هم يجأرون فيأخذهم التوبيخ والتأنيب : «قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ ، مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ» .. ويستنكر السياق موقفهم العجيب من رسولهم الأمين ، وهم يعرفونه ولا ينكرونه وقد جاءهم بالحق لا يسألهم عليه أجرا. فماذا ينكرون منه ومن الحق الذي جاءهم به؟ وهم يسلمون بملكية اللّه لمن في السماوات والأرض ، وربوبيته للسماوات والأرض ، وسيطرته على كل شيء في السماوات والأرض. وبعد هذا التسليم هم ينكرون البعث ، ويزعمون للّه ولدا سبحانه! ويشركون به آلهة أخرى «فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ».
والشوط الأخير يدعهم وشركهم وزعمهم ويتوجه بالخطاب إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن يدفع السيئة بالتي هي أحسن ، وأن يستعيذ باللّه من الشياطين ، فلا يغضب ولا يضيق صدره بما يقولون ..(1/758)
وإلى جوار هذا مشهد من مشاهد القيامة يصور ما ينتظرهم هناك من عذاب ومهانة وتأنيب .. وتختم السورة بتنزيه اللّه سبحانه : «فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ». وبنفي الفلاح عن الكافرين في مقابل تقرير الفلاح في أول السورة للمؤمنين : «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ». وبالتوجه إلى اللّه طلبا للرحمة والغفران : «وَقُلْ : رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ».
جو السورة كلها هو جو البيان والتقرير ، وجو الجدل الهادئ ، والمنطق الوجداني ، واللمسات الموحية للفكر والضمير. والظل الذي يغلب عليها هو الظل الذي يلقيه موضوعها .. الإيمان .. ففي مطلعها مشهد الخشوع في الصلاة : «الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ». وفي صفات المؤمنين في وسطها : «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ» .. وفي اللمسات الوجدانية : «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ». وكلها مظلّلة بذلك الظل الإيماني اللطيف. (1)
خلاصة ما تضمنته السورة من الحكم والأحكام والآداب
(1) فوز المؤمنين ذوى الصفات الفاضلة بدخول الجنات خالدين فيها أبدا.
(2) ذكر حال النشأة الأولى.
(3) خلق السموات السبع وإنزال المطر من السماء وإنشاء الجنات من النخيل والأعناب وذكر منافع الحيوان للإنسان.
(4) قصص بعض الأنبياء كنوح وشعيب وموسى وهرون وعيسى عليهم السلام ثم أمرهم جميعا بأكل الطيبات وعمل الصالحات.
(5) لا يكلف اللّه عباده إلا بما فيه يسر وسجاحة.
(6) وصف ما يلقاه الكافرون من النكال والوبال يوم القيامة وتأنيبهم على عدم الإيمان بالرسول ، وتفنيد المعاذير التي اعتذروا بها.
(7) ذكر ما أنعم به على عباده من الحواس والمشاعر.
(8) إنكار المشركين للبعث والجزاء والحجاج على إثبات ذلك.
(9) النعي على من أثبت الولد والشريك للّه.
(10) دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه ألا يجعله فى القوم الظالمين حين عذابهم.
(11) تعليم نبيه - صلى الله عليه وسلم - الأدب فى معاملة الناس ، وأمره أن يدعوه بدفع همزات الشياطين عنه.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2452)(1/759)
(12) طلب الكفار العودة إلى الدنيا حين رؤية العذاب ، لعلهم إذا عادوا عملوا صالحا.
(13) وصف أهوال يوم القيامة وبيان ما فيها من الشدائد.
(14) أوصاف السعداء والأشقياء.
(15) تأنيب الكافرين على طلبهم العودة إلى الدنيا وزجرهم على هذا الطلب.
(16) سؤال المشركين عن مدة لبثهم فى الدنيا ، وبيان أنهم ينسون ذلك.
(17) النعي على من عبد مع اللّه إلها آخر. (1)
=================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (18 / 64)(1/760)
(24) سورة النور
سميت هذه السورة سورة النور من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - . روي عن مجاهد قال رسول الله: "علموا نساءكم سورة النور" ولم أقف على إسناده. وعن حارثة بن مضر: كتب إلينا عمر بن الخطاب أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور. وهذه تسميتها في المصاحف وكتب التفسير والسنة، ولا يعرف لها اسم آخر. ووجه التسمية أن فيها آية: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
وهي مدنية باتفاق أهل العلم ولا يعرف مخالف في ذلك. وقد وقع في نسخ تفسير القرطبي عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية. في المسألة الرابعة كلمة وهي مكية يعني الآية. فنسب الخفاجي في حاشيته على تفسير البيضاوي وتبعه الآلوسي، إلى القرطبي أن تلك الآية مكية مع أن سبب نزولها الذي ذكره القرطبي صريح في أنها نزلت بالمدينة كيف وقد قال القرطبي في أول هذه السورة: مدنية بالإجماع. ولعل تحريفا طرأ على النسخ من تفسير القرطبي وأن صواب الكلمة وهي محكمة أي غير منسوخ حكمها فقد وقعت هذه العبارة في تفسير ابن عطية، قال وهي محكمة قال ابن عباس: تركها الناس. وسيأتي أن سبب نزول قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الآية. قضية مرثد ابن أبي مرثد مع عناق. ومرثد بن أبي مرثد استشهد في صفر سنة ثلاث للهجرة في غزوة الرجيع، فيكون أوائل هذه السورة نزل قبل سنة ثلاث، والأقرب، أن يكون في أواخر السنة الأولى أو أوائل السنة الثانية أيام كان المسلمون يتلاحقون للهجرة وكان المشركون جعلوهم كالأسرى.
ومن آياتها آيات قصة الإفك وهي نازلة عقب غزوة بني المصطلق من خزاعة. والأصح أن غزوة بني المصطلق كانت سنة أربع فإنها قبل غزوة الخندق.
ومن آياتها {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} الآية. نزلت في شعبان سنة تسع بعد غزوة تبوك فتكون تلك الآيات مما نزل بعد نزول أوائل هذه السورة وهذا يقتضي أن هذه السورة نزلت منجمة متفرقة في مدة طويلة وألحق بعض آياتها ببعض.
وقد عدت هذه السورة المائة في ترتيب نزول سور القرآن عند جابر ابن زيد عن ابن عباس. قال: نزلت بعد سورة {إذا جاء نصر الله} وقبل سورة الحج، أي: عند القائلين بان سورة الحج مدنية.
وآيها اثنتان وستون في عد المدينة ومكة، وأربع وستون في عد البقية.
أغراض هذه السورة
شملت من الأغراض كثيرا من أحكام معاشرة الرجال للنساء. ومن آداب الخلطة والزيادة.(1/761)
- وأول ما نزلت بسببه قضية التزوج بامرأة اشتهرت بالزنى وصدر ذلك ببيان حد الزنى.
- وعقاب الذين يقذفون المحصنات.
- وحكم اللعان.
- والتعرض إلى براءة عائشة رضي الله عنها مما أرجفه عليها أهل النفاق، وعقابهم، والذين شاركوهم في التحدث به.
- والزجر عن حب إشاعة الفواحش بين المؤمنين والمؤمنات.
- والأمر بالصفح عن الأذى مع الإشارة إلى قضية مسطح بن أثاثة.
- وأحكام الإستئذان في الدخول إلى بيوت الناس المسكونة، ودخول البيوت غير المسكونة.
- وآداب المسلمين والمسلمات في المخالطة.
- وإفشاء السلام.
- والتحريض على تزويج العبيد والإماء.
- والتحريض على مكاتبتهم، أي إعتاقهم على عوض يدفعونه لمالكيهم.
- وتحريم البغاء الذي كان شائعا في الجاهلية.
- والأمر بالعفاف.
- وذم أحوال أهل النفاق والإشارة إلى سوء طويتهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .
- والتحذير من الوقوع في حبائل الشيطان.
- وضرب المثل لهدي الإيمان وضلال الكفر.
- والتنويه ببيوت العبادة والقائمين فيها.
- وتخلل ذلك وصف عظمة الله تعالى وبدائع مصنوعاته وما فيها من منن على الناس.
- وقد أردف ذلك بوصف ما أعده الله للمؤمنين، وأن الله علم بما يضمره كل أحد وأن المرجع إليه والجزاء بيده. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة النور من السور المدينة ، وعدد آياتها أربع وستون آية ، وكان نزولها بعد سورة النصر.
وقد اشتملت هذه السورة الكريمة ، على أحكام العفاف والستر. وهما قوام المجتمع الصالح. وبدونها تنحط المجتمعات. ويصير أمرها فرطا ، ويصبح الفرد إلى الحيوان الأعجم ، أقرب منه إلى الإنسان العاقل.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (18 / 112)(1/762)
قال الآلوسى : « روي عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " عَلِّمُوا رِجَالَكُمْ سُورَةَ الْمَائِدَةِ وَعَلِّمُوا نِسَاءَكُمْ سُورَةَ النُّورِ " (1) .
وعَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرَّبٍ ، قَالَ : كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ أَنْ " تَعَلَّمُوا سُورَةَ النِّسَاءِ وَالْأَحْزَابِ وَالنُّورِ " . (2)
2 - وتبدأ هذه السورة الكريمة ببدء فريد ، تقرر فيه وجوب الانقياد لما فيها من أحكام وآداب فتقول : سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها ، وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
ثم تقبح فاحشة الزنا تقبيحا يحمل النفوس على النفور منها ، وعلى نبذ مرتكبيها ، وعلى تنفيذ حدود اللّه - تعالى - فيهم بدون شفقة أو رأفة.قال - تعالى - : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ، وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
3 - ثم تبين السورة الكريمة بعد ذلك ، حكم الذين يرمون النساء العفيفات بالفاحشة ، وحكم الذين يرمون أزواجهم بذلك ، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم.قال - تعالى - : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً ، وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ. فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ.
4 - ثم ذكر - سبحانه - في ست عشرة آية قصة الإفك ، على الصديقة بنت الصديق ، ومن بين ما اشتملت عليه هذه القصة : تنبيه المؤمنين إلى العذاب العظيم الذي أعده اللّه - تعالى - لمن أشاع هذا الإفك ، وحض المؤمنين على التثبت من صحة الأخبار ، وعلى وجوب حسن الظن بالمؤمنين ، وعلى تحذيرهم من اتباع خطوات الشيطان.
ثم ختمت القصة ببراءة السيدة عائشة من كل ما اتهمت به ، قال - تعالى - : أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.
5 - وبعد أن أفاضت السورة الكريمة في بيان قبح فاحشة الزنا ، وفي عقوبة من يقذف المحصنات الغافلات .. أتبعت ذلك بحديث مستفيض ، عن آداب الاستئذان ، وعن وجوب غض البصر بالنسبة للرجال والنساء على السواء ، وعن تعليم الناس الآداب القويمة.
__________
(1) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ (2330 ) حسن مرسل
(2) - فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِلْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ (364 ) صحيح(1/763)
والأخلاق المستقيمة ، حتى يحيا المجتمع المسلم حياة يسودها الطهر والعفاف والنقاء.
قال - تعالى - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ، حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.وقال - سبحانه - : قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ، ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ....
6 - ثم حببت السورة الكريمة إلى المؤمنين والمؤمنات الزواج من أهل الدين والصلاح ، دون أن يمنعهم من ذلك الفقر أو قلة ذات اليد ، فإنهم إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ وعلى الذين لم يتيسر لهم وسائل الزواج ، أن يعتصموا بالعفاف ، حتى يغنيهم اللّه - تعالى - من فضله.
قال - تعالى - : وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ - أى زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ، إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ ، يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ، وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
7 - وبعد أن ساقت السورة الكريمة تلك التوجيهات السامية ، التي من شأنها أن تسلح الأفراد والجماعات ، بسلاح الطهر والعفاف والتستر والآداب الحميدة .. أتبعت ذلك ببيان أن اللّه - تعالى - هو نور العالم كله علويه وسفليه ، وهو منوره بآياته التكوينية والتنزيلية الدالة على وحدانيته وقدرته ، وأن أشرف البيوت في الأرض ، هي بيوته التي يذكر فيها اسمه والتي يسبح له فيها بالغدو والآصال رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ. يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ. لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ، وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.
تلك هي عاقبة المؤمنين الصادقين. الذين « لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه » أما الكافرون فأعمالهم « كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، ووجد اللّه عنده فوفاه حسابه ، واللّه سريع الحساب ».
8 - ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى الحديث عن مظاهر قدرة اللّه - تعالى - في هذا الكون ، وأن المتأمل في هذا الوجود ، يرى مظاهر قدرته - سبحانه - ظاهرة في هذا السحاب الذي يتحول إلى مطر لا غنى للناس عنه ، وفي تقلب الليل والنهار. وفي خلق الدواب على أشكال مختلفة.قال - تعالى - : يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ ، يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
9 - ثم كشفت السورة الكريمة للمؤمنين عن جانب من رذائل المنافقين ، لكي يحذروهم.(1/764)
فقال - تعالى - : وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا ، أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ، بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
10 - وبعد هذا التوبيخ للمنافقين على سلوكهم الذميم ، وعلى نكوصهم عن حكم اللّه - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - جاء وعد اللّه - تعالى - للمؤمنين ، بالاستخلاف في الأرض ، وبالتمكين في الدين ، وبتبديل خوفهم أمنا ، فقال - تعالى - : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ.
11 - ثم عادت السورة مرة أخرى إلى الحديث عن آداب الاستئذان ، فأمرت المؤمنين أن يعودوا مماليكهم وصبيانهم الذين لم يبلغوا الحلم ، على الاستئذان في الدخول عليهم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر ، وعند وقت الظهيرة ، ومن بعد صلاة العشاء ، فإن هذه الأوقات قد تكون المرأة أو الرجل فيها ، بحالة لا يصح الاطلاع عليها ..
قال - تعالى - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ، وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ. وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ، ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ ، طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ ، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
12 - ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ببيان صفات المؤمنين الصادقين ، وبحضهم على تكريم رسولهم - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه وتوقيره. وببيان أن هذا الكون كله ملك للّه - تعالى - وتحت قبضته وعلمه ، فقال - سبحانه - : أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ، وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
13 - وبعد : فهذا عرض إجمالى للمقاصد التي اشتملت عليها سورة النور ، ومنها نرى أن السورة الكريمة زاخرة بالأحكام الشرعية ، وبالآداب الإسلامية وبالتربية الدينية وبالوسائل الوقائية التي من شأنها أن تغرس الأخلاق الكريمة في نفوس الأفراد والجماعات.
وأن تجعلهم يرغبون في اعتناق الفضيلة. وينفرون من مقاربة الرذيلة. ويسعدون في دينهم ودنياهم. (1)
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (10 / 73)(1/765)
في السورة فصول عديدة في التشريع والتأديب : حيث تتضمن تشريعات بشأن جريمة الزنا والقذف. وإشارة إلى حادث الإفك الذي قذفت به أم المؤمنين عائشة وآثاره ومواعظ وتنديدات وتنبيهات في سياقه. ودعوة إلى التعفف وتجنب أسباب الفتنة. وتعليمات في آداب الدخول على البيوت. واحتشام النساء في اللباس والتزين وتوقي أسباب الإغراء. وحثّا على تزويج العزاب من الرجال والنساء والمماليك. وتقريرات لعظمة اللّه وآثاره ونوره وهداه. وتنويها بالمخلصين المهتدين وتنديدا بالكافرين وما يرتكسون فيه من الظلمات التي تحبط أعمالهم.
وتنديدا بمواقف مرضى القلوب في التحاكم إلى النبي والدعوة إلى الجهاد والاستخفاف بمجالسه ودعوته وإنذارا لهم. وتوطيدا لسلطان النبي السياسي والقضائي. ووعدا بنصر اللّه وتمكينه في الأرض لمن آمن وأخلص وأحسن العمل.
وتعليمات في آداب الأكل وتيسيرا للناس فيها.
وفصول السورة على تعددها مترابطة ترابطا موضوعيا أو زمنيا. وهذا يسوغ القول إنها نزلت في ظروف متقاربة ورتبت على الوجه الذي جاءت عليه في السورة بسبب ذلك. هذا مع احتمال أن يكون بعض فصولها نزلت قبل بعض فصول في سور متقدمة عليها في الترتيب ، حيث روي أن وقعة المريسيع مع بني المصطلق التي كان حديث الإفك في مناسبتها وقعت قبل وقعة الخندق مع أن وقعة الخندق أو الأحزاب ذكرت في سورة الأحزاب وحيث يمكن أن يقال إذا صحت تواريخ الوقائع أن فصول السورة قد رتبت متأخرة نوعا ما. واللّه أعلم.
وترتيب السورة في المصحف الذي اعتمدناه يأتي بعد سورة الحشر. ولما كنا رجحنا نزول سورة الحشر قبل سورة الأحزاب وقدمناها عليها فقد صار ترتيبها بعد سورة البيّنة مباشرة على أننا نقول مع ذلك كله إنه ليس هناك قرينة قوية تسمح بترجيح كون أي فصل من فصول السيرة نزل بعد وقعة الخندق أو الأحزاب. وإن هذا قد يسيغ احتمال أن تكون فصول السيرة كلها نزلت قبل سورة الأحزاب وفي ظروف وقعة المريسيع وبني المصطلق وبعدها أيضا. واللّه تعالى أعلم. (1)
سورة النور مدنية ، وهي أربع وستون آية.
تسميتها :
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (8 / 352)(1/766)
سميت سورة النور لتنويرها طريق الحياة الاجتماعية للناس ، ببيان الآداب والفضائل ، وتشريع الأحكام والقواعد ، ولتضمنها الآية المشرقة وهي قوله تعالى : اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [35] أي منورهما ، فبنوره أضاءت السموات والأرض ، وبنوره اهتدى الحيارى والضالون إلى طريقهم.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر مناسبة هذه السورة لسورة قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ من وجهين :
الأول - أنه تعالى لما قال في مطلع سورة المؤمنين : وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ذكر هنا أحكام من لم يحفظ فرجه من الزناة ، وما اتصل بذلك من شأن القذف ، وقصة الإفك ، والأمر بغض البصر الذي هو داعية الزنى ، والاستئذان الذي جعل من أجل النظر ، وأمر بالتزويج حفظا للفروج ، وأمر من عجز عن مؤن الزواج بالاستعفاف وحفظ فرجه ، ونهى عن إكراه الفتيات على الزنى.
الثاني - بعد أن ذكر اللّه تعالى في سورة المؤمنين المبدأ العام في مسألة الخلق ، وهو أنه لم يخلق الخلق عبثا ، بل للتكليف بالأمر والنهي ، ذكر هنا طائفة من الأوامر والنواهي في أشياء تعد مزلقة للعصيان والانحراف والضلال.
فضلها :في هذه السورة أنس وشعور بالطمأنينة لأن المؤمن يرتاح للعفة والطهر ، ويشمئز من الفحش وسوء الظن والاتهام ....
مشتملاتها :
اشتملت هذه السورة على أحكام مهمة تتعلق بالأسرة ، من أجل بنائها على أرسخ الدعائم ، وصونها من المخاطر والعواصف ، والتركيز على تماسكها وتنظيمها ، وحمايتها من الانهيار والدمار.
فكان مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والسّتر.
لقد بدأت ببيان حد الزنى ، وحد قذف المحصنات ، وحكم اللعان عند الاتهام بالفاحشة أو لنفي نسب الولد ، من أجل تطهير المجتمع من الانحلال والفساد واختلاط الأنساب ، وبعدا عن هدم حرمة الأعراض ، وصون الأمة من التردي في حمأة الإباحية والفوضى.
ثم ذكرت قصة الإفك المبنية على سوء الظن والتسرع بالاتهام لتبرئة أم المؤمنين عائشة رضي اللّه عنها ، ومحاربة شيوع الفاحشة ، وترديد الإشاعات المغرضة التي تهدم صرح الأمة ، وتقوّض بنيتها التي ينبغي أن تقوم على الثقة والمحبة ، والابتعاد عن وساوس الشيطان.
ثم تحدثت السورة عن باقة من الآداب الاجتماعية في الحياة الخاصة والعامة ، وهي الاستئذان عند دخول البيوت ، وغض الأبصار ، وحفظ الفروج ، وإبداء النساء زينتهن لغير المحارم مما يدل على تحريم الاختلاط بين الرجال والنساء غير المحارم ، وتزويج الأيامى (غير المتزوجين) من الرجال والنساء ، والاستعفاف لمن(1/767)
لم يجد مؤن الزواج ، من أجل تحقيق الاستقامة على شريعة اللّه ، وصون الأسرة المسلمة ، ورعاية حال الشباب والفتيات ، والبعد عن الفتنة.
ثم أبانت مزية تشريع الأحكام وأنه نور وهدى ، وفضل آيات القرآن ، ومزية بيوت اللّه وهي المساجد ، وعدم جدوى أعمال الكفار وتشبيهها بالسراب الخادع أو ظلمات البحار.
وأعقب ذلك تنبيه الناس إلى أدلة وجود اللّه ووحدانيته في صفحة الكون الأعلى والأسفل من تقليب الليل والنهار وإنزال المطر وخلق السموات والأرض ، وخضوع جميع الكائنات الحية للّه عز وجل ، وطيران الطيور ، وخلق الدواب ذات الأنواع العجيبة.
ثم انتقل إلى وصف مواقف المنافقين والمؤمنين الصادقين من حكم اللّه والرسول بإعراض الأولين وإطاعة الآخرين ، ووعده تعالى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات بالاستخلاف في الأرض.
ثم عادت الآيات لبيان حكم استئذان الموالي والأطفال في البيوت في أوقات ثلاثة ، وحكم رفع الحرج عن ذوي الأعذار في الجهاد ، وعن الأقارب والأصدقاء في الأكل من بيوت أقاربهم بلا إذن ، واستئذان المؤمنين الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند الانصراف ، وتفويضه بالإذن لمن شاء ، وتعظيم مجلسه ومناداته بأدب جم وحياء وتبجيل يليق به وبرسالته. (1)
مدنية بالإجماع - وعدد آياتها ثلاث وستون آية. وفيها إشعاعات النور ، والآداب الإسلامية العامة التي تحافظ على الأنساب والأعراض وبيان أن ذلك كله من نور اللّه. (2)
وجه اتصالها بسورة المؤمنين أنه سبحانه لما قال فيها وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ [المؤمنون : 5] ذكر في هذه أحكام من لم يحفظ فرجه من الزانية والزاني وما اتصل بذلك من شأن القذف وقصة الإفك والأمر بغض البصر الذي هو داعية الزنا والاستئذان الذي إنما جعل من أجل النظر وأمر فيها بالإنكاح حفظا للفرج وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف ونهى عن إكراه الفتيات على الزنا. (3)
سورة النور من السور المدنية ، التى تتناول الأحكام التشريعية ، وتعنى بأمور التشريع ، والتوجيه والاخلاق ، وتهتم بالقضايا العامة والخاصة التي ينبغى ان يربى عليها المسلمون ، افرادا وجماعات ، وقد اشتملت هذه السورة على احكام هامة وتوجيهات عامة تتعلق بالاسرة ، التي هى النواة الأولى لبناء المجتمع الأكبر.
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (18 / 118) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (18 / 66)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (2 / 649)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (9 / 273)(1/768)
وضحت السورة الآداب الإجتماعية التي يجب أن يتمسك بها المؤمنون في حياتهم الخاصة والعامة ، كالإستئذان عند دخول البيوت ، وغض الابصار ، وحفظ الفروج ، وحرمة إختلاط الرجال بالنساء الأجنبيات ، وما ينبغي ان تكون عليه الاسرة المسلمة و " البيت المسلم " من العفاف والستر ، والنزاهة والطهر ، والاستقامة على شريعة الله ، صيانةً لحرمتها ، وحفاظا عليها من عوامل التفكك الداخلي ، والانهيار الخلقي ، الذي يهدم الأمم والشعوب . وقد ذكرت في هذه السورة الكريمة بعض الحدود الشرعية التي فرضها الله كحد الزنى ، وحد القذف ، وحد اللعان ، وكل هذه الحدود انما شرعت تطهيرا للمجتمع ، من الفساد والفوضى ، واختلاط الانساب ، والانحلال الخلقى ، وحفظا للأمة من عوامل التردي في بؤرة الإباحية والفساد ، التي تسبب ضياع الأنساب ، وذهاب العرض والشرف . وبإختصار فإن هذه السورة الكريمة عالجت ناحية من أخطر النواحي الاجتماعية هي (مسألة الاسرة) وما يحفها من مخاطر ، وما يعترض طريقها من عقبات ومشاكل ، تؤدي بها الى الانهيار ثم الدمار ، هذا عدا عما فيها من آداب سامية ، وحكم عالية ، وتوجيهات رشيدة ، الى أسس الحياة الفاضلة الكريمة ، ولهذا كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الى اهل الكوفة يقول لهم : علموا نساءكم سورة النور.
التسمية : سميت (سورة النور) لما فيها من إشعاعات النور الرباني ، بتشريع الأحكام والآداب ، والفضائل الانسانية ، التي هي قبس من نور الله على عباده ، وفيض من فيوضات رحمته وجوده [ الله نور السموات والأرض ] اللهم نور قلوبنا بنور كتابك المبين يا رب العالمين . (1)
مقصودها مدلول اسمها المودع قلبها المراد منه أنه تعالى شامل العلم ، اللازم منه تمام القدرة ، اللازم منه إثبات الأمور على غاية الحكمة ، اللازم منه تأكيد الشرف للنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، اللازم منه شرف من اختاره لصحبته على منازل قربهم منه واختصاصهم به ، اللازم منه غاية النزاهة والشرف والطهارة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي مات النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وهو عنها راض ، وماتت هي رضي الله عنها صالحة محسنة ، وهذا هو المقصود بالذات ولكن إثباته محتاج إلى تلك المقدمات ) بسم الله ( الذي تمت كلمته فبهرت قدرته ) الرحمن ( الذي ظهرت الحقائق كلها بشمول رحمته ) الرحيم ( الذي شرف من اختاره بخدمته . (2)
هذه سورة النور .. يذكر فيها النور بلفظه متصلا بذات اللّه : «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ويذكر فيها النور بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح ممثلة هذه الآثار في الآداب والأخلاق التي يقوم عليها بناء
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (2 / 244)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (5 / 229)(1/769)
هذه السورة. وهي آداب وأخلاق نفسية وعائلية وجماعية ، تنير القلب ، وتنير الحياة ويربطها بذلك النور الكوني الشامل أنها نور في الأرواح ، وإشراق في القلوب ، وشفافية في الضمائر ، مستمدة كلها من ذلك النور الكبير.
وهي تبدأ بإعلان قوي حاسم عن تقرير هذه السورة وفرضها بكل ما فيها من حدود وتكاليف ، ومن آداب وأخلاق : «سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها ، وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» .. فيدل هذا البدء الفريد على مدى اهتمام القرآن بالعنصر الأخلاقي في الحياة ، ومدى عمق هذا العنصر وأصالته في العقيدة الإسلامية ، وفى فكرة الإسلام عن الحياة الإنسانية ..
والمحور الذي تدور عليه السورة كلها هو محور التربية التي تشتد في وسائلها إلى درجة الحدود. وترق إلى درجة اللمسات الوجدانية الرفيقة ، التي تصل القلب بنور اللّه وبآياته المبثوثة في تضاعيف الكون وثنايا الحياة. والهدف واحد في الشدة واللين. هو تربية الضمائر ، واستجاشة المشاعر ورفع المقاييس الأخلاقية للحياة ، حتى تشف وترف ، وتتصل بنور اللّه .. وتتداخل الآداب النفسية الفردية ، وآداب البيت والأسرة ، وآداب الجماعة والقيادة. بوصفها نابعة كلها من معين واحد هو العقيدة في اللّه ، متصلة كلها بنور واحد هو نور اللّه. وهي في صميمها نور وشفافية ، وإشراق وطهارة. تربية عناصرها من مصدر النور الأول في السماوات والأرض. نور اللّه الذي أشرقت به الظلمات. في السماوات والأرض ، والقلوب والضمائر ، والنفوس والأرواح.
ويجري سياق السورة حول محورها الأصيل في خمسة أشواط :
الأول يتضمن الإعلان الحاسم الذي تبدأ به ويليه حد الزنا ، وتفظيع هذه الفعلة ، وتقطيع ما بين الزناة والجماعة المسلمة ، فلا هي منهم ولا هم منها. ثم بيان حد القذف وعلة التشديد فيه واستثناء الأزواج من هذا الحد مع التفريق بين الزوجين بالملاعنة. ثم حديث الإفك وقصته .. وينتهي هذا الشوط بتقرير مشاكلة الخبيثين للخبيثات ، ومشاكلة الطيبين للطيبات. وبالعلاقة التي تربط بين هؤلاء وهؤلاء.
ويتناول الشوط الثاني وسائل الوقاية من الجريمة ، وتجنيب النفوس أسباب الإغراء والغواية. فيبدأ بآداب البيوت والاستئذان على أهلها ، والأمر بغض البصر والنهي عن إبداء الزينة للمحارم. والحض على إنكاح الأيامى. والتحذير من دفع الفتيات إلى البغاء .. وكلها أسباب وقائية لضمانة الطهر والتعفف في عالم الضمير والشعور ، ودفع المؤثرات التي تهيج الميول الحيوانية ، وترهق أعصاب المتحرجين المتطهرين ، وهم يقاومون عوامل الإغراء والغواية.
والشوط الثالث يتوسط مجموعة الآداب التي تتضمنها السورة ، فيربطها بنور اللّه. ويتحدث عن أطهر البيوت التي يعمرها وهي التي تعمر بيوت اللّه .. وفي الجانب المقابل الذين كفروا وأعمالهم كسراب من(1/770)
اللمعان الكاذب أو كظلمات بعضها فوق بعض. ثم يكشف عن فيوض من نور اللّه في الآفاق : في تسبيح الخلائق كلها للّه. وفي إزجاء السحاب. وفي تقليب الليل والنهار. وفي خلق كل دابة من ماء ، ثم اختلاف أشكالها ووظائفها وأنواعها وأجناسها ، مما هو معروض في صفحة الكون للبصائر والأبصار ..
والشوط الرابع يتحدث عن مجافاة المنافقين للأدب الواجب مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في الطاعة والتحاكم. ويصور أدب المؤمنين الخالص وطاعتهم. ويعدهم ، على هذا ، الاستخلاف في الأرض والتمكين في الدين ، والنصر على الكافرين.
ثم يعود الشوط الخامس إلى آداب الاستئذان والضيافة في محيط البيوت بين الأقارب والأصدقاء. وإلى آداب الجماعة المسلمة كلها كأسرة واحدة ، مع رئيسها ومربيها - رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - .
وتتم السورة بإعلان ملكية اللّه لما في السماوات والأرض ، وعلمه بواقع الناس ، وما تنطوي عليه حناياهم ، ورجعتهم إليه ، وحسابهم على ما يعلمه من أمرهم. وهو بكل شيء عليم. (1)
مجمل ما حوته السورة الكريمة من الأغراض والمقاصد
(1) عقوبة الزاني والزانية.
(2) عقوبة قاذفى المحصنات الغافلات المؤمنات.
(3) حكم قذف الزوجات.
(4) قصص الإفك وبراءة أم المؤمنين عائشة.
(5) آداب الزيارة.
(6) أمر المؤمنين بغضّ الأبصار وحفظ الفروج.
(7) نهى النساء عن إبداء زينتهن لغير بعولتهن إلخ.
(8) أمر المؤمنين بإنكاح الأيامى من الرجال والنساء ، فالمجتمع الإسلامى كأنه أسرة واحدة.
(9) أمر من لم تتوافر له وسائل النكاح لعدم وجود المال أو سواه بالعفة حتى يغنيه اللّه.
(10) بيان أن الأعمال الصالحة التي يعملها الكافرون فى الدنيا لا تجدى عنهم نفعا يوم القيامة ، بل تكون كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا (11) الأدلة التي نصبها اللّه فى الأكوان علويها وسفليها شاهدة بوحدانيته.
(12) المنافقون يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم.
(13) وصف المؤمنين الصادقين.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2485)(1/771)
(14) وعد اللّه عباده المؤمنين بأنه سيستخلفهم فى الأرض وينشر دينهم الذي ارتضى لهم.
(15) استئذان الموالي والأطفال فى أوقات ثلاث إذا أرادوا الدخول على أهليهم (16) رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض فى الجهاد.
(17) لا حرج فى الأكل من بيوت الآباء والأمهات إلخ بلا إذن.
(18) نهى المؤمنين عن الانصراف من مجلس رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إذا كانوا معه فى أمر جامع.
(19) إباحة إذنه لهم إن شاء حين الطلب.
(20) بيان أن مجلس الرسول مبجّل موقر وليس كمجلس المؤمنين بعضهم مع بعض. (1)
=================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (18 / 143)(1/772)
(25) سورة الفرقان
سميت هذه السورة سورة الفرقان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبمسمع منه. ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال: "سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلبيته بردائه فانطلقت به أقوده إلى رسول الله فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها.." الحديث.
ولا يعرف لهذه السورة اسم غير هذا. والمؤدبون من أهل تونس يسمونها "تبارك الفرقان" كما يسمون "سورة الملك" تبارك، وتبارك الملك.
ووجه تسميتها "سورة الفرقان" لوقوع لفظ الفرقان فيها. ثلاث مرات في أولها ووسطها وآخرها.
وهي مكية عند الجمهور. وروي عن ابن عباس أنه استثنى منها ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان: 68 - 70]. والصحيح عنه أن هذه الآيات الثلاث مكية كما في صحيح البخاري في تفسير الفرقان: عن القاسم بن أبي بزة أنه سأل سعيد بن جيبر: هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة? فقرأت عليه: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68]. فقال سعيد: قرأتها على ابن عباس كما قرأتها علي? فقال: هذه مكية نسختها" آية مدنية التي في سورة النساء. يريد قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} [النساء: 93]. وعن الضحاك: أنها مدنية إلا الآيات الثلاث من أولها إلى قوله: {وَلا نُشُوراً} [الفرقان: 3]. وأسلوب السورة وأغراضها شاهدة بأنها مكية.
وهي السورة الثانية والأربعون في ترتيب النزول، نزلت بعد سورة يس وقبل سورة فاطر، وعدد آياتها سبع وسبعون باتفاق أهل العدد.
أغراض هذه السورة
واشتملت هذه السورة على الابتداء بتحميد الله تعالى وإنشاء الثناء عليه، ووصفه بصفات الإلهية والوحدانية فيها.
وأدمج في ذلك التنويه بالقرآن، وجلال منزله، وما فيه من الهدى، وتعريض بالامتنان على الناس بهديه وإرشاده إلى اتقاء المهالك، والتنويه بشأن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وأقيمت هذه السورة على ثلاث دعائم:(1/773)
الأولى: إثبات أن القرآن منزل من عند الله، والتنويه بالرسول المنزل عليه - صلى الله عليه وسلم - ، ودلائل صدقه، ورفعة شأنه عن أن تكون له حظوظ الدنيا، وأنه على طريقة غيره من الرسل، ومن ذلك تلقى قومه دعوته بالتكذيب.
الدعامة الثانية: إثبات البعث والجزاء، والإنذار بالجزاء في الآخرة، والتبشير بالثواب فيها للصالحين، وإنذار المشركين بسوء حظهم يومئذ، وتكون لهم الندامة على تكذيبهم الرسول وعلى إشراكهم واتباع أئمة كفرهم.
الدعامة الثالثة: الاستدلال على وحدانية الله، وتفرده بالخلق، وتنزيهه عن أن يكون له ولد أو شريك، وإبطال إلهية الأصنام، وإبطال ما زعموه من بنوة الملائكة لله تعالى.
وافتتحت في آيات كل دعامة من هذه الثلاث بجملة "تبارك الذي" الخ.
قال الطيبي: مدار هذه السورة على كونه - صلى الله عليه وسلم - مبعوثا إلى الناس كافة ينذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم ولهذا جعل براعة استهلالها {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1] .
وذكر بدائع من صنعه تعالى جمعا بين الاستدلال والتذكير.
وأعقب ذلك بتثبيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - على دعوته ومقاومته الكافرين.
وضرب الأمثال للحالين ببعثة الرسل السابقين وما لقوا من أقوامهم مثل قوم موسى وقوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقوم لوط.
والتوكل على الله، والثناء على المؤمنين به، ومدح خصالهم ومزايا أخلاقهم، والإشارة إلى عذاب قريب يحل بالمكذبين. (1)
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة « النور » التي تسبق هذه السورة ، نورا من نور الحق جلّ وعلا ، سطع نورها في آفاق المجتمع الإسلامي ، فجلا كل غاشية ، وفضح كل ضلال وبهتان.
وكانت « سورة الفرقان » مكملة لهذه السورة ، إذ قد استفتحت بتمجيد اللّه ، الذي أفاض على عباده هذا الخير الكثير المبارك ، بما نزّل من آيات بينات على نبيّه الكريم .. هى الفرقان ، بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، والنور والظلام.
فكان النور المشع من سورة النور كاشفا للشّبه ، مجليا للشكوك والريب ، مقيما أمر المسلمين على نور مبين .. وهذا النور الذي معهم من آيات اللّه ، هو « الفرقان » الذي يفرقون به بين الحق والباطل ، وبين الهدى والضلال!. (2)
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (19 / 5)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (9 / 1342)(1/774)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة الفرقان من السور المكية ، وعدد آياتها سبع وسبعون آية ، وكان نزولها بعد سورة « يس ». أما ترتيبها في المصحف فهي السورة الخامسة والعشرون.
ومن المفسرين الذين لم يذكروا خلافا في كونها مكية ، الإمام ابن كثير والإمام الرازي.
وقال القرطبي : هي مكية كلها في قول الجمهور. وقال ابن عباس وقتادة : إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة ، وهي : وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى قوله - تعالى - :
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
2 - وقد افتتحت هذه السورة الكريمة بالثناء على اللّه - تعالى - الذي نزل الفرقان على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - والذي له ملك السموات والأرض ... والذي خلق كل شيء فقدره تقديرا.قال - تعالى - : تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ. وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً.
3 - ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى حكاية بعض أقوال المشركين الذين أثاروا الشبهات حول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحول دعوته ، وردت عليهم بما يمحق باطلهم ، وقارنت بين مصيرهم السيئ ، وبين ما أعده اللّه - تعالى - للمؤمنين من جنات.قال - تعالى - : وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها ، وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً.
4 - وبعد أن يصور القرآن حسراتهم يوم الحشر ، وعجزهم عن التناصر ، يعود فيحكى جانبا من تطاولهم وعنادهم ، ويرد عليهم بما يكبتهم ، وبما يزيد المؤمنين ثباتا على ثباتهم.
قال - تعالى - : وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ، لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا ، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا.
5 - ثم تحكى السورة جانبا من قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم. فيقول : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ، وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً ...(1/775)
6 - ثم تعود السورة مرة أخرى إلى الحديث عن تطاول هؤلاء الجاحدين على رسولهم - صلى الله عليه وسلم - وتعقب على ذلك بتسليته - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه منهم فتقول : وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً. أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها ، وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ؟ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا.
7 - ثم تنتقل السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن مظاهر قدرة اللّه - تعالى - فتسوق لنا مظاهر قدرته في مد الظل ، وفي تعاقب الليل والنهار ، وفي الرياح التي يرسلها - سبحانه - لتكون بشارة لنزول المطر ، وفي وجود برزخ بين البحرين ، وفي خلق البشر من الماء ... ثم يعقب على ذلك بالتعجب من حال الكافرين ، الذين يعبدون من دونه - سبحانه - ما لا ينفعهم ولا يضرهم ..
قال - تعالى - : أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ، ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً.
8 - ثم تسوق السورة في أواخرها صورة مشرقة لعباد الرحمن ، الذين من صفاتهم التواضع ، والعفو عن الجاهل. وكثرة العبادة للّه - تعالى - والتضرع إليه بأن يصرف عنهم عذاب جهنم ، وسلوكهم المسلك الوسط في إنفاقهم ، وإخلاصهم الطاعة للّه - تعالى - وحده. واجتنابهم للرذائل التي نهى اللّه - عز وجل - عنها.
قال - تعالى - : وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ، وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً.
9 - ومن هذا العرض المختصر لأبرز القضايا التي اهتمت بالحديث عنها السورة الكريمة ، نرى ما يأتى.
(أ) أن السورة الكريمة قد ساقت ألوانا من الأدلة على قدرة اللّه - تعالى - وعلى وجوب إخلاص العبادة له ، وعلى الثناء عليه - سبحانه - بما هو أهله.نرى ذلك في مثل قوله - تعالى - : تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ ...تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً ... تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ .... وفي مثل قوله - تعالى - : وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ ، وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً.(1/776)
(ب) أن السورة الكريمة زاخرة بالآيات التي تدخل الأنس والتسرية والتسلية والتثبيت على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن اتهمه المشركون بما هو برىء منه ، وسخروا منه ومن دعوته ، ووصفوا القرآن بأنه أساطير الأولين ، واستنكروا أن يكون النبي من البشر.
نرى هذه التهم الباطلة فيما حكاه اللّه عنهم في قوله - تعالى - : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ، فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً.
وترى التسلية والتسرية والتثبيت في قوله - تعالى - : انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً.
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ، أَتَصْبِرُونَ ، وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ، كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً.
وهكذا نرى السورة الكريمة زاخرة بالحديث عن الشبهات التي أثارها المشركون حول النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوته ، وزاخرة - أيضا - بالرد عليها ردا يبطلها. ويزهقها. ويسلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه منهم ، ويزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم.
(ج) أن السورة الكريمة مشتملة على آيات كثيرة ، تبين ما سيكون عليه المشركون يوم القيامة من هم وغم وكرب وحسرة وندامة وسوء مصير ، كما تبين ما أعده اللّه - تعالى - لعباده المؤمنين من عاقبة حسنة ، ومن جنات تجرى من تحتها الأنهار.
فبالنسبة لسوء عاقبة المشركين نرى قوله - تعالى - : بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً.
ونرى قوله - تعالى - : وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي ، وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا.
وبالنسبة للمؤمنين نرى قوله - تعالى - : قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا.(1/777)
ونرى قوله - سبحانه - : وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً. إلى قوله - تعالى - : خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً.
وهكذا نرى السورة تسوق آيات كثيرة في المقارنة بين مصير الكافرين ومصير المؤمنين ..
وليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ... (1)
في السورة صور عديدة لمواقف الكفار من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقوالهم وتعجيزاتهم.
وحملة تقريعية وإنذارية عليهم. وردود مفحمة ببراهين على قدرة اللّه وعظمته وربوبيته. وتذكير ببعض الأمم السابقة ومصائرهم. وتنويه بالمؤمنين الصالحين وأخلاقهم وحسن عاقبتهم.
وبين موضوعاتها وموضوعات السورة السابقة شيء غير يسير من التشابه والتساوق مما يمكن أن يكون قرينة على صحة ترتيب نزولها بعدها. ونظم السورة مسجع وموزون أكثر منه مرسلا. وفصولها مترابطة. وهذا وذاك مما يسوغ القول بوحدة نزولها أو تلاحق فصولها في النزول. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [68 - 70] مدنيات. وانسجامها مع السياق والأسلوب وبروز الطابع المكي عليها مما يحمل على الشك في الرواية. وقد روى الطبري تفنيدا للرواية وتوكيدا بمكية الآيات. وهناك حديث رواه مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس سنورده في ما بعد جاء فيه أن الآية [70] مكية وهذه الآية جزء لا يتجزأ من الآيتين السابقتين لها حيث يؤيد كل هذا شكّنا في الرواية. (2)
مكية ، وهي سبع وسبعون آية.
تسميتها :سميت سورة الفرقان لافتتاحها بالثناء على اللّه عزّ وجلّ الذي نزل الفرقان ، هذا الكتاب
مناسبتها لما قبلها :
تظهر مناسبة سورة الفرقان لسورة النور من وجوه : أهمها : أن سورة النور ختمت بأن اللّه تعالى مالك جميع ما في السموات والأرض ، وبدئت سورة الفرقان بتعظيم اللّه الذي له ملك السموات والأرض من غير ولد ولا شريك في الملك.
وأوجب اللّه تعالى في أواخر سورة النور إطاعة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأبان مطلع الفرقان وصف دستور الطاعة ، وهو هذا القرآن العظيم الذي يرشد العالم لأقوم طريق.
وتضمنت سورة النور القول في الإلهيات ، وأبانت ثلاثة أنواع من دلائل التوحيد : أحوال السماء والأرض ، والآثار العلوية من إنزال المطر وكيفية تكون الثلج والبرد ، وأحوال الحيوانات ، وذكر في
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (10 / 165)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (3 / 47)(1/778)
الفرقان جملة من المخلوقات الدالة على توحيد اللّه ، كمدّ الظل ، والليل والنهار ، والرياح والماء ، والأنعام ،والأناسي ، ومرج البحرين ، وخلق الإنسان والنسب والصهر ، وخلق السموات والأرض في ستة أيام ، والاستواء على العرش ، وبروج السماء ، والسراج والقمر ونحو ذلك مما هو تفصيل لقوله سبحانه : الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فقال في النور : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً [43] ، وقال في الفرقان :وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً [48] وقال في النور : وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [45] وقال في الفرقان : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً ، فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً [54].
وفي كلتا السورتين وصف أعمال الكافرين والمنافقين يوم القيامة وأنها تكون مهدرة باطلة ، فقال في النور : وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ [39] وقال في الفرقان : وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [23].وشمل آخر سورة النور الكلام على فصل القضاء : وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا [64] وافتتحت سورة الفرقان بالثناء على اللّه عزّ وجلّ مالك الملك ، وصاحب السلطان المطلق.
ما اشتملت عليه السورة :
هذه السورة كسائر السور المكية اهتمت بأصول العقيدة من التوحيد والنبوة وأحوال القيامة.
فبدأت بإثبات الوحدانية للّه عزّ وجلّ ، وصدق القرآن ، وصحة رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ووقوع البعث والجزاء يوم القيامة لا محالة ، وفندت أضداد هذه العقائد ، ونعت على المشركين عبادة الأصنام والأوثان ونسبة الولد للّه عزّ وجلّ ، وتكذيبهم بالبعث والقيامة ، وهددتهم بما سيلقون من ألوان العذاب والنكال في نار جهنم ، ومفاجأتهم بما في جنان الخلد من أصناف النعيم المقيم.
ثم أبانت شؤم مصير بعض المشركين كعقبة بن أبي معيط الذي عرف الحق ثم ارتدّ عنه ، فسمّاه القرآن بالظالم : وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ متأثرا بصديقه الذي سمي بالشيطان وهو أبيّ بن خلف.
ثم ذكرت قصص بعض الأنبياء السابقين وتكذيب أقوامهم لهم ، وما حلّ بهم من نكال ودمار وهلاك بسبب تكذيبهم رسل اللّه ، كقوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وأصحاب الرّس ، وقوم لوط ، وأمثالهم من الكافرين الطغاة.
وأوردت السورة أدلة على قدرة اللّه ووحدانيته ، مما في الكون البديع من عجائب صنعه ، وما في الأرض من آثار خلقه في الإنسان ، والبحر ، وخلق السموات والأرض في ستة أيام ، وإنزال الأمطار وإرسال الرياح مبشرات بالمطر ، وجعل البروج في السماء ، وتعاقب الليل والنهار.(1/779)
ثم ختمت السورة ببيان صفات عباد الرحمن المخلصين الموقنين ، وما يتحلون به من أخلاق سامية وآداب رضية ، تجعلهم يستحقون بها إكرام اللّه تعالى وثوابه الجزيل في جنات النعيم. (1)
هى مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة ، وهى 68 ، 69 ، 70 ، وآيها سبع وسبعون نزلت بعد سورة يس.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه :
(1) إنه سبحانه اختتم السورة السابقة بكونه مالكا لما فى السموات والأرض مصرّفا له على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة مع النظام البديع والوضع الأنيق ، وأنه سيحاسب عباده يوم القيامة على ما قدموا من العمل خيرا كان أو شرا ، وافتتح هذه بما يدل على تعاليه فى ذاته وصفاته وأفعاله وعلى حبه لخير عباده بإنزال القرآن لهم هاديا وسراجا منيرا.
(2) اختتم السورة السالفة بوجوب متابعة المؤمنين للرسول - صلى الله عليه وسلم - مع مدحهم على ذلك وتحذيرهم من مخالفة أمره خوف الفتنة والعذاب الأليم ، وافتتح هذه بمدح الرسول وإنزال الكتاب عليه لإرشادهم إلى سبيل الرشاد ، وذمّ الجاحدين لنبوته بقولهم : إنه رجل مسحور ، وإنه يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق إلى آخر ما قالوا.
(3) فى كل من السورتين وصف السحاب وإنزال الأمطار وإحياء الأرض الجرز فقال فى السالفة : « أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً » إلخ وقال فى هذه : « وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً » إلخ.
(4) ذكر فى كل منهما وصف أعمال الكافرين يوم القيامة وأنها لا تجزيهم فتيلا ولا قطميرا فقال فى الأولى : « وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ » إلخ وقال فى هذه :« وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً » .
(5) وصف النشأة الأولى للإنسان فى أثنائهما فقال فى الأولى : « وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ » وفى الثانية : « وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً » (2)
مكية : وآياتها سبع وسبعون وقيل هي مكية إلا آيات 68 ، 69 ، 70 فقط.
لقد تكلم اللّه في هذه السورة على التوحيد الخالص له وعلى القرآن. وعلى النبوة ، وأحوال القيامة ، وختمها بوصف العباد المؤمنين ، كما افتتحها بالكلام على إثبات الصانع ووصفه بالجلال والكمال ،
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (19 / 5)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (18 / 145)(1/780)
وتنزهه عن النقص وما هو محال ، وفي خلال ذلك تكلم عن أعمال المؤمنين والكافرين وعاقبتها ... وهدد الكفار بذكر قصص الأمم السابقة. (1)
لما ذكر جل وعلا في آخر السورة السابقة وجوب متابعة المؤمنين للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومدح المتابعين وحذر المخالفين افتتح سبحانه هذه السورة بما يدل على تعاليه جل شأنه عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله أو على كثرة خيره تعالى ودوامه وأنه أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا إطماعا في خيره وتحذيرا من عقابه جل شأنه وفي هذه السورة أيضا من تأكيد ما في السابقة من مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما فيها فقال تبارك وتعالى : [سورة الفرقان (25) : الآيات 1 إلى 20] (2)
سورة الفرقان مكية وهي تعنى بشئون العقيدة ، وتعالج شبهات المشركين حول رسالة محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) وحول القرآن العظيم ، ومحور السورة يدور حول آيات صدق القرآن ، وصحة الرسالة المحمدية ، وحول عقيدة الإيمان بالبعث والجزاء ، وفيها بعض القصص للعظة والإعتبار.
* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن القرآن الذي تفنن المشركون بالطعن فيه ، والتكذيب بآياته ، فتارة زعموا أنه أساطير الأولين ، وأخرى زعموا أنه من إختلاق محمد أعانه عليه بعض أهل الكتاب ، وثالثة زعموا أنه سحر مبين ، فرد الله تعالى عليهم هذه المزاعم الكاذبة ، والأوهام الباطلة ، وأقام الأدلة والبراهين على أنه تنزيل رب العالمين ، ثم تحدثت عن موضوع الرسالة التى طالما خاض فيها المشركون المعاندون ، واقترحوا أن يكون الرسول ملكا لا بشرا ، وأن تكون الرسالة - على فرض تسليم الرسول من البشر - خاصة بذوي الجاه والثراء ، فتكون لإنسان غني عظيم ، لا لفقير يتيم ، وقد رد الله تعالى شبهتهم بالبرهان القاطع ، والحجة الدامغة ، التي تقصم ظهر الباطل .
* ثم ذكرت الآيات فريقا من المشركين عرفوا الحق وأقروا به ، ثم انتكسوا إلى جحيم الضلال ، وذكرت منهم " عقبة بن أبي معيط " الذي أسلم ثم ارتد عن الدين بسبب صديقه الشقي " أُبي بن خلف " وقد سماه القرآن الكريم بالظالم
[ ويوم يعض الظالم على يديه ] الآية وسمى صديقه بالشيطان .
*وفى ثنايا السورة الكريمة جاء ذكر بعض الأنبياء إجمالا وجاء الحديث عن أقوامهم المكذبين ، وما حل بهم من النكال والدمار ، نتيجة لطغيانهم وتكذيبهم لرسل الله ، كقوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وأصحاب الرس ، وقوم لوط ، وغيرهم من الكافرين الجاحدين ، كما تحدثت السورة عن دلائل قدرة الله
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (2 / 705)
(2) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (9 / 420)(1/781)
ووحدانيته ، وعن عجائب صنعه وآثار خلقه في هذا الكون البديع ، الذي هو من آثار قدرة الله ، وشاهد من شواهد العظمة والجلال .
*وختمت السورة ببيان صفات عباد الرحمن ، وما أكرمهم الله به من الأخلاق الحميدة ، التي استحقوا بها الأجر العظيم في جنات النعيم .
التسمية : سميت السورة الكريمة (سورة الفرقان ) لأن الله تعالى ذكر فيها هذا الكتاب المجيد الذي أنزله على عبده محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وكان النعمة الكبرى على الإنسانية لأنه النور الساطع والضياء المبين ، الذي فرق الله به بين الحق والباطل ، والنور والظلام ، والكفر والإيمان ، ولهذا كان جديرا بأن يسمى الفرقان . (1)
مقصودها إنذار عامة المكلفين بما له سبحانه من القدرة الشاملة ، المستلزم للعلم التام ، المدلول عليه بهذا القرآن المبين ، المستلزم لأنه لا موجد على الحقيقة سواه ، فهو الحق ، وما سواه باطل ؛ وتسميتها بالقرقان واضح الدلالة على ذلك ، فإن الكتاب ما نزل إلا للتفرقة بين الملتبسات ، وتمييز الحق منالباطل ) ) ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة ( ) [ الأنفال : 42 ] فلا يكون لأحد على الله حجة (2)
هذه السورة المكية تبدو كلها وكأنها إيناس لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وتسرية ، وتطمين له وتقوية وهو يواجه مشركي قريش ، وعنادهم له ، وتطاولهم عليه ، وتعنتهم معه ، وجدالهم بالباطل ، ووقوفهم في وجه الهدي وصدهم عنه.
فهي في لمحة منها تصور الإيناس اللطيف الذي يحيط به اللّه عبده ورسوله وكأنما يمسح على آلامه ومتاعبه مسحا رفيقا ويهدهد قلبه ، ويفيض عليه من الثقة والطمأنينة ، وينسم عليه من أنسام الرعاية واللطف والمودة.
وهي في اللمحة الأخرى تصور المعركة العنيفة مع البشرية الضالة الجاحدة المشاقة للّه ورسوله ، وهي تجادل في عنف ، وتشرد في جموح ، وتتطاول في قحة ، وتتعنت في عناد ، وتجنح عن الهدى الواضح الناطق المبين.
إنها البشرية التي تقول عن هذا القرآن العظيم : «إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» .. أو تقول :«أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» والتي تقول عن محمد رسول اللّه الكريم :
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (2 / 264)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (5 / 291)(1/782)
«إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» .. أو تقول في استهزاء : «أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا؟» .. والتي لا تكتفي بهذا الضلال ، فإذا هي تتطاول في فجور على ربها الكبير : «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ : اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا : وَمَا الرَّحْمنُ؟ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟ وَزادَهُمْ نُفُوراً». أو تتعنت فتقول : «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا؟».
وهي هي من قديم كما يرسمها سياق السورة من عهد نوح إلى موقفها هذا الأخير مع رسولها الأخير ..
لقد اعترض القوم على بشرية الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : «ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا!» واعترضوا على حظه من المال ، فقالوا : «أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها».
واعترضوا على طريقة تنزيل القرآن فقالوا : «لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة!».
وذلك فوق التكذيب والاستهزاء والقحة والافتراء الأثيم.
ووقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - يواجه هذا كله ، وهو وحيد فريد مجرد من الجاه والمال ، ملتزم حده مع ربه لا يقترح عليه شيئا ، ولا يزيد على أن يتوجه إليه مبتغيا رضاه ، ولا يحفل بشيء سواه : «رب إلا يكن بك علي غضب فلا أبالي. لك العتبى حتى ترضى» ..
فهنا في هذه السورة يؤويه ربه إلى كنفه ، ويمسح على آلامه ومتاعبه ، ويهدهده ويسري عنه ، ويهون عليه مشقة ما يلقى من عنت القوم وسوء أدبهم وتطاولهم عليه ، بأنهم يتطاولون على خالقهم ورازقهم ، وخالق هذا الكون كله ومقدره ومدبره .. فلا عليه أن ينالوه بشيء من ذاك! «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً» .. «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ، وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً» .. «وإذا قيل لهم : اسجدوا للرحمن قالوا : وما الرحمن؟» ..
ويعزيه عن استهزائهم به بتصوير المستوي الهابط الذي يتمرغون فيه : «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا؟ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ؟ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا!».
ويعده العون والمساعدة في معركة الجدل والمحاجة : «وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً» ..
وفي نهاية المعركة كلها يعرض عليه مصارع المكذبين من قبل : قوم موسى ونوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وما بين ذلك من قرون.(1/783)
ويعرض عليه نهايتهم التعيسة في سلسلة من مشاهد القيامة : «الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا» .. «بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً. إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً. وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً. لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً» .. «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ : يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. يا وَيْلَتى ! لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا ..»
ويسليه بأن مثله مثل الرسل كلهم قبله : «وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ» .. «وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ. وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً».
ويكلفه أن يصبر ويصابر ، ويجاهد الكافرين بما معه من قرآن ، واضح الحجة قوي البرهان عميق الأثر في الوجدان : «فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً» ..
ويغريه على مشاق الجهاد بالتوكل على مولاه : «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ، وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً» ..
وهكذا تمضي السورة : في لمحة منها إيناس وتسرية وعطف وإيواء من اللّه لرسوله. وفي لمحة منها مشاقة وعنت من المشركين لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وتتبير ونكال من اللّه الكبير المتعال. حتى تقرب من نهايتها ، فإذا ريح رخاء وروح وريحان ، وطمأنينة وسلام .. وإذا صورة «عباد الرحمن» .. «الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ، وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ..» وكأنما تتمخض عنهم معركة الجهاد الشاقة مع البشرية الجاحدة الضالة المعاندة المشاقة وكأنما هم الثمرة الحلوة الجنية الممثلة للخير الكامن في شجرة البشرية ذات الأشواك.
وتختم السورة بتصوير هوان البشرية على اللّه ، لولا تلك القلوب المؤمنة التي تلتجئ إليه وتدعوه : «قُلْ : ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ. فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً» ..
هذه هي ظلال السورة وذلك هو محورها الذي تدور عليه ، وموضوعها الذي تعالجه. وهي وحدة متصلة ، يصعب فصل بعضها عن بعض. ولكن يمكن تقسيمها إلى أربعة أشواط في علاج هذا الموضوع.
يبدأ الشوط الأول منها بتسبيح اللّه وحمده على تنزيل هذا القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا. وبتوحيد اللّه المالك لما في السماوات والأرض ، المدبر للكون بحكمة وتقدير ، ونفي الولد والشريك. ثم يذكر اتخاذ المشركين مع ذلك آلهة من دونه لا يخلقون شيئا وهم يخلقون .. كل أولئك قبل أن يحكي مقولاتهم المؤذية عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من تكذيبه فيما جاءهم به ، وادعائهم أنه إفك افتراه ، وأنه أساطير الأولين اكتتبها. وقبل أن يحكي اعتراضاتهم على بشرية الرسول وحاجته للطعام والمشي في الأسواق ، واقتراحاتهم أن ينزل عليه ملك أو يلقى إليه كنز ، أو تكون له جنة يأكل منها. وقحتهم في وصفه - صلى الله عليه وسلم -(1/784)
- بأنه رجل مسحور .. وكأنما يسبق بمقولاتهم الجاحدة لربهم كي يهون على نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقولاتهم عنه وعن رسالته .. ومن ثم يعلن ضلالهم وتكذيبهم بالساعة ، ويتوعدهم بما أعده اللّه لهم من سعير ، يلقون فيها مكانا ضيقا مقرنين. ويعرض في الصفحة المقابلة صورة المؤمنين في الجنة.
«لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ» .. ويستمر في عرض مشهدهم يوم الحشر ، ومواجهتهم بما كانوا يعبدون من دون اللّه ، وتكذيب هؤلاء لهم فيما كانوا يدعون على اللّه من شرك .. وينتهي هذا الشوط بتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن الرسل جميعا كانوا بشرا مثله ، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.
ويبدأ الشوط الثاني بتطاول المكذبين بلقاء اللّه على اللّه ، وقولهم : «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا».
ويعاجلهم بمشهد اليوم الذي يرون فيه الملائكة .. «وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً» .. «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ : يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا» .. ليكون في ذلك تأسية للرسول - صلى الله عليه وسلم - وهم يهجرون القرآن ، وهو يشكو لربه هذا الهجران. وهم يعترضون على طريقة تنزيله ويقولون : «لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً». ويعقب على هذا الاعتراض بمشهدهم يوم القيامة يحشرون على وجوههم ، وهم المكذبون بيوم القيامة ، وبتصوير عاقبة المكذبين قبلهم من قوم موسى وقوم نوح ، وعاد وثمود وأصحاب الرس والقرون الكثيرة بين ذلك ، ويعجب من أمرهم وهم يمرون على قرية لوط المدمرة ولا يعتبرون.
فيهون بذلك كله من وقع تطاولهم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقولهم : «أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا؟» ثم يعقب على هذا الاستهزاء بتحقيرهم ووضعهم في صف الأنعام بل دون ذلك : «إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا».
والشوط الثالث جولة في مشاهد الكون تبدأ بمشهد الظل ، وتستطرد إلى تعاقب الليل والنهار ، والرياح المبشرة بالماء المحيي ، وخلقة البشر من الماء. ومع هذا فهم يعبدون من دون اللّه ما لا ينفعهم ولا يضرهم ، ويتظاهرون على ربهم وخالقهم ، ويتطاولون في قحة إذا دعوا إلى عبادة اللّه الحق .. «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ : اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا : وَمَا الرَّحْمنُ؟» .. وهو «الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً».. ولكنهم هم لا يتذكرون ولا يشكرون ..
ثم يجئ الشوط الأخير يصور «عِبادُ الرَّحْمنِ» الذين يسجدون له ويعبدونه ، ويسجل مقوماتهم التي استحقوا بها هذه الصفة الرفيعة. ويفتح باب التوبة لمن يرغب في أن يسلك طريقة عباد الرحمن. ويصور(1/785)
جزاءهم على صبرهم على تكاليف الإيمان والعبادة : «أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً».
وتختم السورة بتقرير هوان البشرية على اللّه لولا هذه القلوب الطائعة المستجيبة العارفة باللّه في هذا القطيع الشارد الضال من المكذبين والجاحدين ..
وفي هذا الهوان تهوين لما يلقاه منهم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فهو يتفق مع ظل السورة وجوها ، ويتفق مع موضوعها وأهدافها ، على طريقة التناسق الفني في القرآن.
والآن نبدأ الشوط الأول بالتفصيل : «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً. وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً» ..
إنه البدء الموحي بموضوع السورة الرئيسي : تنزيل القرآن من عند اللّه ، وعموم الرسالة إلى البشر جميعا.
ووحدانية اللّه المطلقة. وتنزيهه عن الولد والشريك ، وملكيته لهذا الكون كله ، وتدبيره بحكمة وتقدير ..
وبعد ذلك كله يشرك المشركون ، ويفتري المفترون ، ويجادل المجادلون ، ويتطاول المتطاولون! (1)
خلاصة ما اشتملت عليه السورة الكريمة من الأحكام
اشتملت هذه السورة على عدة مقاصد :
(1) إثبات النبوة والوحدانية ، والنعي على عبدة الأصنام والأوثان ، وإثبات البعث والنشور وجزاء المكذبين بذلك مع ذكر شبهاتهم التي قالوها فى النبي - صلى الله عليه وسلم - وفى القرآن ثم تفنيدها.
(2) قصص بعض الأنبياء السالفين وتكذيب أممهم لهم ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
(3) العجائب الكونية من مدّ الظل وجعل الليل لباسا وجعل النهار معاشا وإرسال الرياح مبشرات بالأمطار ومروج البحرين : العذب الفرات ، والملح الأجاج ، وجعل البروج فى السماء ، وجعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكورا.
(4) الأخلاق والآداب من قوله : وعباد الرحمن إلى آخر السورة. (2)
===============
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2544)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (19 / 43)(1/786)
(26) سورة الشعراء
اشتهرت عند السلف بسورة الشعراء لأنها تفردت من بين سور القرآن بذكر كلمة الشعراء. وكذلك جاءت تسميتها في كتب السنة. وتسمى أيضا سورة طسم.
وفي "أحكام ابن العربي" أنها تسمى أيضا الجامعة، ونسبه أبن كثير والسيوطي في الإتقان إلى تفسير مالك المروي عنه1. ولم يظهر وجه وصفها بهذا الوصف. ولعلها أول سورة جمعت ذكر الرسل أصحاب الشرائع المعلومة إلى الرسالة المحمدية.
وهي مكية، فقيل جميعها مكي، وهو المروي عن ابن الزبير. ورواية عن ابن عباس ونسبه ابن عطية إلى الجمهور. وروي عن ابن عباس أن قوله تعالى {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] إلى آخر السورة نزل بالمدينة لذكر شعراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسان بن ثابت وابن رواحة وكعب بن مالك وهم المعني بقوله {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء: 227] الآية. ولعل هذه الآية هي التي أقدمت هؤلاء على القول بأن تلك الآيات مدنية. وعن الداني قال: نزلت {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] في شاعرين تهاجيا في الجاهلية.
وأقول: كان شعراء بمكة يهجون النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم النضر بن الحارث، والعوراء بنت حرب زوج أبي لهب ونحوهما، وهم المراد بآيات {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} . وكان شعراء المدينة قد أسلموا قبل الهجرة وكان في مكة شعراء مسلمون من الذين هاجروا إلى الحبشة كما سيأتي.
وعن مقاتل: أن قوله تعالى {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء: 197] نزل بالمدينة. وكان الذي دعاه إلى ذلك أن مخالطة علماء بني إسرائيل كانت بعد الهجرة. ولا يخفى أن الحجة لا تتوقف على وقوع مخالطة علماء بني إسرائيل؛ فقد ذكر القرآن مثل هذه الحجة في آيات نزلت بمكة، من ذلك قوله {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} في [سورة الرعد: 43] وهي مكية، وقوله {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} في [سورة القصص: 52] وهي مكية، وقوله {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} في [سورة العنكبوت: 47] وهي مكية. وشأن علماء بني إسرائيل مشهور بمكة وكان لأهل مكة صلات مع اليهود بالمدينة ومراجعة بينهم في شأن بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم عند قوله تعالى {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} في[سورة الإسراء: 85]، ولذا فالذي نوقن به أن السورة كلها مكية.(1/787)
وهي السورة السابعة والأربعون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الواقعة وقبل سورة النمل. وسيأتي في تفسير قوله تعالى {وأنذر عشيرتك الأقربين} ما يقتضي أن تلك الآية نزلت قبل نزول سورة أبي لهب وتعرضنا لإمكان الجمع بين الأقوال.
وقد جعل أهل المدينة وأهل مكة وأهل البصرة عدد آيها مائتين وستا وعشرين، وجعله أهل الشام وأهل الكوفة مائتين وسبعا وعشرين.
الأغراض التي اشتملت عليها
أولها التنويه بالقرآن، والتعريض بعجزهم عن معارضته، وتسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما يلاقيه من إعراض قومه عن التوحيد الذي دعاهم إليه القرآن.
وفي ضمنه تهديدهم على تعرضهم لغضب الله تعالى، وضرب المثل لهم بما حل بالأمم المكذبة رسلها والمعرضة عن آيات الله.
وأحسب أنها نزلت إثر طلب المشركين أن يأتيهم الرسول بخوارق، فافتتحت بتسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - وتثبيت له ورباطة لجأشه بأن ما يلاقيه من قومه هو سنة الرسل من قبله مع أقوامهم مثل موسى وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب؛ ولذلك ختم كل استدلال جيء به على المشركين المكذبين بتذييل واحد هو قوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 190 - 191] تسجيلا عليهم بأن آيات الوحدانية وصدق الرسل عديدة كافية لمن يتطلب الحق ولكن أكثر المشركين لا يؤمنون وأن الله عزيز قادر على أن ينزل بهم العذاب وأنه رحيم برسله فناصرهم على أعدائهم.
قال في "الكشاف": كل قصة من القصص المذكورة في هذه السورة كتنزيل برأسه. وفيها من الاعتبار ما في غيرها فكانت كل واحدة منها تدلي بحق في أن تختم بما اختتمت به صاحبتها، ولأن في التكرير تقريرا للمعاني في الأنفس وكلما زاد ترديده كان أمكن له في القلب وأرسخ في الفهم وأبعد من النسيان، ولأن هذه القصص طرقت بها إذان وقرت عن الإنصات للحق فكوثرت بالوعظ والتذكير وروجعت بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح أذنا أو يفتق ذهنا اهـ.
ثم التنويه بالقرآن، وشهادة أهل الكتاب له، والرد على مطاعنهم في القرآن وجعله عضين، وأنه منزه عن أن يكون شعرا ومن أقوال الشياطين، وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإنذار عشيرته، وأن الرسول ما عليه إلا البلاغ، وما تخلل ذلك من دلائل . (1)
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (19 / 106)(1/788)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة الشعراء هي السورة السادسة والعشرون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فكان نزولها بعد سورة الواقعة. كما يقول صاحب الإتقان ، أى : هي السادسة والأربعون في ترتيب النزول.
2 - قال القرطبي : هي مكية في قول الجمهور. وقال مقاتل : منها مدني الآية التي يذكر فيها الشعراء ، وقوله : أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ. وقال ابن عباس وقتادة : مكية إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة من قوله - تعالى - : وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إلى آخر السورة. وهي مائتان وسبع وعشرون آية. وفي رواية : وست وعشرون .
3 - وسورة الشعراء تسمى - أيضا - بسورة « الجامعة » ، ويغلب على هذه السورة الكريمة ، الحديث عن قصص الأنبياء مع أقوامهم.
فبعد أن تحدثت في مطلعها عن سمو منزلة القرآن الكريم ، وعن موقف المشركين من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أتبعت ذلك بالحديث عن قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل ، ثم عن قصة إبراهيم مع قومه ثم عن قصة نوح مع قومه ، ثم عن قصة هود مع قومه ، ثم عن قصة صالح مع قومه ، ثم عن قصة لوط مع قومه ، ثم عن قصة شعيب مع قومه ..
4 - ثم تحدثت في أواخرها عن نزول الروح الأمين بالقرآن الكريم على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وساقت ألوانا من التسلية والتعزية للرسول - صلى الله عليه وسلم - بسبب تكذيب الكافرين له ، وأرشدته إلى ما يجب عليه نحو عشيرته الأقربين ، ونحو المؤمنين ، وبشرت أتباعه بالنصر وأنذرت أعداءه بسوء المصير ، فقد ختمت بقوله - تعالى - : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً ، وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.
5 - والسورة الكريمة بعد ذلك تمتاز بقصر آياتها ، وبجمعها لموضوعات السور الملكية ، من إقامة الأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - ، وعلى أن البعث حق ، وعلى صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن هذا القرآن من عند اللّه ، كما نرى أسلوبها يمتاز بالترغيب والترهيب ، الترغيب للمؤمنين في العمل الصالح ، والترهيب للمشركين بسوء المصير إذا ما استمروا على شركهم.
وقد ختمت كل قصة من قصص هذه السورة الكريمة بقوله - تعالى - : إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وقد تكرر ذلك فيها ثماني مرات ... (1)
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (10 / 229)(1/789)
في السورة تقريع للكفار وحملة عليهم وتسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - إزاء مواقفهم. وفيها سلسلة طويلة في قصص الأنبياء وأممهم ، فيها العبرة والموعظة والمثل والإنذار والتثبيت. وفيها بعض صور السيرة النبوية وبيئة النبي عليه السلام وعهده وبعض أقوال الكفار وعقائدهم.
وهي ثاني سورة من القرآن من حيث عدد الآيات. وفصولها مترابطة منسجمة وأواخر آياتها متوازنة. ومع أن أسلوبها مسجع بشكل ما فهو أقرب إلى الترسل المطلق مع التوازن.
وقد لحق أكثر فصولها لازمة مكررة مما يجعلها ذات خصوصية سبكية كسورة المرسلات وجملة فصول السورة تسوغ القول إنها نزلت متلاحقة حتى تمت.
وقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [97 و224 - 227] مدنيات. وعدا الآية [227] الآيات الأخرى منسجمة مع سياقها سبكا وموضوعا مما يحمل على الشك في صحة الرواية. أما الآية [227] فإن مضومنها يؤيد صحة مدنيتها وقد ألحقت بالآيات [224 - 226] للمناسبة والاستدراك على ما سوف يأتي شرحه. (1)
سورة الشعراء مكية ، وهي مائتان وسبع وعشرون آية.
تسميتها :
سميت (سورة الشعراء) لما ختمت به من المقارنة بين الشعراء الضالين والشعراء المؤمنين في قوله سبحانه : وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إلى قوله : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [224 - 226] بقصد الرد على المشركين الذين زعموا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان شاعرا ، وأن ما جاء به من قبيل الشعر.
مناسبتها لما قبلها :
تتضح مناسبة هذه السورة لسورة الفرقان في الموضوع والبداية والنهاية.
أما الموضوع : ففيها تفصيل لما أجمل في الفرقان من قصص الأنبياء بحسب ترتيبها المذكور في تلك السورة ، فبدأ بقصة موسى ، وهذا سر لطيف يجمع بين السورتين. وكان في الفرقان إشارة إلى قرون بين ذلك كثيرة ، ففصلت هنا قصة إبراهيم ، وقوم شعيب ، وقوم لوط.
وأما البداية : فقد بدئت كلتا السورتين بتمجيد القرآن العظيم : تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ .. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ.
وأما النهاية : فإن خاتمة كلتا السورتين متشابهة ، فقد ختمت الفرقان بوعيد المكذبين ، ووصف المؤمنين بأنهم يقولون : سَلاماً للجاهلين ، وأنهم يمرون مر الكرام باللغو ، وختمت الشعراء بتهديد الظالمين
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (3 / 241)(1/790)
المكذبين ، والرضا عن الشعراء المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، ويذكرون اللّه كثيرا ، وينتصرون ممن ظلمهم.
مشتملاتها :
تضمنت هذه السورة كسائر السور المكية الكلام عن أصول الاعتقاد والإيمان من إثبات «التوحيد ، والرسالة النبوية ، والبعث» لذا كانت آياتها قصارا للزجر والردع وشدة التأثير.
وابتدأت الكلام عن القرآن الكريم وبيان هدفه في الهداية ، وتبشير المؤمنين الصالحين بالجنة ، وإنذار الكافرين الذين لا يؤمنون بالآخرة بسوء العذاب ، وإثبات إنزال القرآن وحيا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتسليته عن إعراض قومه عن الإيمان برسالته ، والاستدلال بخلق النباتات على وجود اللّه وتوحيده.
ثم أوردت قصص الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم لعظة المكذبين ، مبتدئة بقصة موسى ومعجزاته ، ومحاورته مع فرعون الجبار وقومه في شأن توحيد اللّه ، وتأييده بالآيات البيّنات ، وإيمان السحرة برب موسى وهارون ، ثم تلتها قصة إبراهيم الخليل مع أبيه وقومه عبدة الأوثان ، وإبطاله عبادتها ، وإثباته وحدانية اللّه عز وجل.
ثم جاء بعدها قصص «نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب» عليهم السلام وما فيها من حملاتهم العنيفة ضد الوثنية ، والفساد الخلقي والاجتماعي ، وبيان عاقبة التكذيب للرسل ، ونهاية الجبابرة العتاة بأنواع رهيبة من العذاب.
وأعقب ذلك جعل الخاتمة كبدء السورة بإثبات كون القرآن العظيم وحيا وتنزيلا من رب العالمين لا من كلام الشياطين ، وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسول من اللّه لتبليغ رسالته إلى عشيرته والأمم جميعا ، ليس بكاهن ولا شاعر ، وأنه من سلالة الموحدين ، وبراءته من أفعال المشركين ، والرد على افترائهم وزعمهم أن القرآن من تنزل الشياطين التي تتنزل على كل أفّاكّ أثيم ، وإعلامهم بأن الغاوين الضالين هم أتباع الشعراء ، وليسوا المؤمنين الصلحاء المجاهدين. (1)
وجه اتصالها بما قبلها اشتمالها على بسط وتفصيل لبعض ما ذكر فيما قبل ، وفيها أيضا من تسليته صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم ما فيها ، وقد افتتحت كلتا السورتين بما يفيد مدح القرآن الكريم وختمتا بإيعاد المكذبين به كما لا يخفى. (2)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (19 / 118) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (19 / 44)
(2) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (10 / 58)(1/791)
* سورة الشعراء قد عالجت أصول الدين من (التوحيد ، والرسالة ، والبعث ) شأنها شأن سائر السور المكية ، التي تهتم بجانب العقيدة وأصول الإيمان .
* ابتدأت السورة الكريمة بموضوع القرآن العظيم ، الذي أنزله الله هداية للخلق ، وبلسما شافيا لأمراض الإنسانية ، وذكرت موقف المشركين منه ، فقد كذبوا به مع وضوح آياته ، وسطوع براهينه ، وطلبوا معجزة أخرى غير القرآن الكريم عنادا واستكبارا [ إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين . . ] الآيات
* ثم تحدثت السورة عن طائفة من الرسل الكرام ، الذين بعثهم الله لهداية البشرية ، فبدأت بقصة الكليم (موسى) مع فرعون الطاغية الجبار ، وما جرى من المحاورة والمداورة بينهما في شأن الإله جل وعلا ، وما أيد الله به موسى من الحجة الدامغة التي تقصم ظهر الباطل ، وقد ذكرت في القصة حلقات جديدة ، إنتهت ببيان العظة والعبرة من الفارق الهائل ، بين الإيمان والطغيان [ وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون الظالمين ] ؟ الآيات .
* ثم تناولت قصة الخليل (إبراهيم ) عليه السلام ، وموقفه من قومه وأبيه في عبادتهم للأوثان والأصنام ، وقد أظهر لهم بقوة حجته ، ونصاعة بيانه ، بطلان ما هم عليه من عبادة ما لا يسمع ولا ينفع ، وأقام لهم الأدلة القاطعة على وحدانية رب العالمين ، الذي بيده النفع والضر ، والإحياء والإماتة [ وأتل عليهم نبأ إبراهيم . إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون ] ؟الآيات .
* ثم تحدثت السورة عن المتقين والغاوين ، والسعداء والأشقياء ، ومصير كل من الفريقين يوم الدين [ وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين . . ] الآيات .
* وبعد أن تابعت السورة في ذكر قصص الأنبياء (نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ) عليهم الصلاة والسلام ، وبينت سنة الله في معاملة المكذبين لرسله ، عادت للتنويه بشأن الكتاب العزيز ، تفخيما لشأنه ، وبيانا لمصدره [ وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين ، على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ] .
* ثم ختمت السورة بالرد على إفتراء المشركين ، في زعمهم أن القرآن من تنزل الشياطين ، [ وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون ] ليتناسق البدء مع الختام ، في أروع تناسق وإلتئام ! التسميه : سميت (سورة الشعراء) لأن الله تعالى ذكر فيها أخبار الشعراء ، وذلك للرد على المشركين في زعمهم أن محمدا كان شاعرا ، وأن ما جاء به من قبيل الشعر ، فرد الله عليهم ذلك(1/792)
الكذب والبهتان بقوله سبحانه : [ والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ] ؟ وبذلك ظهر الحق وبان . (1)
مقصودها أن هذا الكتاب بين في نفسه بإعجازه أنه من عند الله ، مبين لكل ملتبس ، ومن ذلك بيان آخر التي قبلها بتفصيلهن وتنزيله على أحوال الأمم وتمثيله ، وتسكين أسفه ( - صلى الله عليه وسلم - ) خوفاً من أن يعم أمته الهوان بعدم الإيمان ، وأن يشتد قصدهم لأتباعه بالأذى والعدوان بما تفهمه ) سوف ( من طول الزمان ، بالإشارة غلى إهلاك من علم منه دوام العصيان ، ورحمة من أراده للهداية والإحسان ، وتسميتها بالشعراء أدل دليل على ذلك بما يفارق به القرآن الشعر من علو مقامه ، واستقامة مناهجه وعز مرامه ، وصدق وعده ووعيده وعدل تبشيره وتهديده ، وكذا تسميتها بالظلة إشارة إلى أنه أعدل في بيانه ، أو أدل في جميع شأنه ، من المقادير التي دلت عليها قصة شعيب عليه السلام بالمكيال والميزان ، وأحرق من الظلة لمن يبارزه بالعصيان . (2)
موضوع هذه السورة الرئيسي هو موضوع السور المكية جميعا .. العقيدة .. ملخصة في عناصرها الأساسية :
توحيد اللّه : «فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ» .. والخوف من الآخرة : «وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» .. والتصديق بالوحي المنزل على محمد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ» ..
ثم التخويف من عاقبة التكذيب ، إما بعذاب الدنيا الذي يدمر المكذبين وإما بعذاب الآخرة الذي ينتظر الكافرين : «فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ»! .. «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ».
ذلك إلى تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعزيته عن تكذيب المشركين له وللقرآن : «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» وإلى طمأنة قلوب المؤمنين وتصبيرهم على ما يلقون من عنت المشركين وتثبيتهم على العقيدة مهما أو ذوا في سبيلها من الظالمين كما ثبت من قبلهم من المؤمنين.
وجسم السورة هو القصص الذي يشغل ثمانين ومائة آية من مجموع آيات السورة كلها. والسورة هي هذا القصص مع مقدمة وتعقيب. والقصص والمقدمة والتعقيب تؤلف وحدة متكاملة متجانسة ، تعبر عن
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (2 / 278)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (5 / 344)(1/793)
موضوع السورة وتبرزه في أساليب متنوعة ، تلتقي عند هدف واحد .. ومن ثم تعرض من كل قصة الحلقة أو الحلقات التي تؤدي هذه الأغراض.
ويغلب على القصص كما يغلب على السورة كلها جو الإنذار والتكذيب ، والعذاب الذي يتبع التكذيب.
ذلك أن السورة تواجه تكذيب مشركي قريش لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - واستهزاءهم بالنذر ، وإعراضهم عن آيات اللّه ، واستعجالهم بالعذاب الذي يوعدهم به مع التقول على الوحي والقرآن والادعاء بأنه سحر أو شعر تتنزل به الشياطين!
والسورة كلها شوط واحد - مقدمتها وقصصها وتعقيبها - في هذا المضمار. (1)
خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة
(1) مقدمة فى تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - على إعراض قومه عن الدين ، وبيان أنهم ليسوا ببدع فى الأمم ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - ليس بأول الرسل الذين كذّبوا ، وأن اللّه قادر على إنزال القوارع التي تلجئهم إلى الإيمان ، ولكن جرت سنته أن يجعل الإيمان فى القلوب اختيار يا لا اضطراريا.
(2) الاستدلال بخلق النبات وأطواره المختلفة وأشكاله المنوّعة - على وجود الإله ووحدانيته.
(3) قصص الأنبياء مع أممهم لما فيه من العبرة لأولئك المكذبين.
(4) إثبات أن القرآن وحي من رب العالمين ، لا كلام تتنزل به الشياطين.
(5) بيان أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ليس بكاهن ولا شاعر.
(6) التهديد والوعيد لمن يعبد مع اللّه سواه من الأصنام والأوثان ، ويكذب بالرسول والنور الذي أنزل معه. (2)
إشكال والجواب عنه :
عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " أُعْطِيتُ السَّبْعَ الطُّوَلَ مَكَانَ التَّوْرَاةِ ، وَأُعْطِيتُ الْمِئِينَ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ ، وَأُعْطِيتُ الْمَثَانِي مَكَانَ الزَّبُورِ ، وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ " (3)
وعَنْ أَبِي رَافِعٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أُعْطِيتُ السَّبْعَ مَكَانَ التَّوْرَاةِ وَأُعْطِيتُ الْمِئِينَ مَكَانَ الزَّبُورِ وَأُعْطِيتُ الْمَثَانِيَ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ "
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2583)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (19 / 117)
(3) - فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِلْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ (334 ) صحيح(1/794)
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : فَهَذَا التَّأْلِيفُ مِنْ لَفْظِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهَذَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَسَعُهُمْ جَهْلُهُ لِأَنَّ تَأْلِيفَ الْقُرْآنِ مِنْ إِعْجَازِهِ وَلَوْ كَانَ التَّأْلِيفُ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَسُوعِدَ بَعْضُ الْمُلْحِدِينِ عَلَى طَعْنِهِمْ وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَا طَعَنَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ عُثْمَانَ أَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَنْ يَجْمَعَ الْقُرْآنَ وَضَمَّ إِلَيْهِ جَمَاعَةً فَتُوُهِّمَ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّأْلِيفُ وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذَا بِأَجْوِبَةٍ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّمَا أُمِرَ بِجَمْعِهِ وَإِنْ كَانَ مَجْمُوعًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَوَقَعَ بَيْنَهُمُ الشَّرُّ وَالْخِلَافُ فَأَرَادَ عُثْمَانُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنَ السَّبْعَةِ حَرْفًا وَاحِدًا هُوَ أَفْصَحُهَا وَيُزِيلُ السِّتَّةَ وَهَذَا مِنْ أَصَحِّ مَا قِيلَ فِيهِ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ هَذَا وَيَدُلُّكَ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ فَلَا مَعْنَى لِجَمْعِهِ إِيَّاهُ إِلَّا عَلَى هَذَا أَوْ مَا أَشْبَهَهُ وَقَدْ قِيلَ إِنَّمَا جَمَعَهُ وَإِنْ كَانَ يَحْفَظُهُ لِتَقُومَ حُجَّتُهُ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَبِدَّ بِرَأْيِهِ وَقَدْ عَارَضَ بَعْضَ النَّاسِ فِي هَذَا فَقَالَ : لِمَ خُصَّ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِهَذَا وَفِي الصَّحَابَةِ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَاحْتَجَّبما روي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَشَّرَاهُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ "
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَدَّمَ لِأَشْيَاءَ لَمْ تَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمِنْهَا أَنَّ قِرَاءَتَهُ كَانَتْ عَلَى آخِرِ عَرْضَةٍ عَرَضَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَا قَالَ قَدْ تَأَوَّلَهُ هَذَا الْمُعَارِضُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَلَيْسَ التَّأْوِيلُ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَا وَسِعَ أَحَدًا أَنْ يَقْرَأَ إِلَّا بِحَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَالتَّأْوِيلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُرَتِّلُ الْقُرْآنَ فَحَضَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى تَرْتِيلٍ مِثْلِ تَرْتِيلِهِ لَا غَيْرُ وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثِ ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ طسم ، فَقَالَ : لَا أَحْفَظُهَا سَلْ خَبَّابًا عَنْهَا فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ حَضَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْعَرْضَةَ الْآخِرَةَ قِيلَ قَدْ ذَكَرْنَا مَا لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ سِوَى هَذَا عَلَى أَنَّ حَرْفَ عَبْدِ اللَّهِ الصَّحِيحَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمُصْحَفِنَا يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ قَالَ : قَرَأْتُ عَلَى عَاصِمٍ وَقَرَأَ عَاصِمٌ عَلَى زَرٍّ وَقَرَأَ زَرٌّ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ (1)
وعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " أُعْطِيتُ مَكَانَ التَّوْرَاةِ السَّبْعَ ، وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الزَّبُورِ الْمِئِينِ , وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ الْمَثَانِيَ ، وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ "
__________
(1) - النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ لِلنَّحَّاسِ (324 و325) وسنده واه ، ويشهد له ما قبله ، والثاني صحيح(1/795)
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : أَفَلَا تَرَى أَنَّ الْأَنْفَالَ مِنَ الْمَثَانِي , وَأَنَّ بَرَاءَةَ مِنَ الْمِئِينَ , وَأَنَّ فِي ذَلِكَ مَا قَدْ دَلَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غَيْرُ صَاحِبَتِهَا , وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُعْطِيَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَكَانَ مَا أُعْطِيَ الْأُخْرَى مَكَانَهُ فِيمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ . وَفِي ذَلِكَ مَا قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا سُورَتَانِ لَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ وَفِي التَّحْزِيبِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا الْبَابِ مَا قَدْ حَقَّقَ ذَلِكَ أَيْضًا ، فَإِنْ يَكُنِ التَّحْزِيبُ كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَهُوَ الْحُجَّةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ خِلَافُهَا , وَإِنْ يَكُنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، فَهُمُ الْمُقْتَدُونَ بِهِ الْمُتَّبِعُونَ لِآثَارِهِ الَّذِينَ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ مَا كَانَ عَلَيْهِ , فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مَا كَانَ فِي التَّحْزِيبِ , فَقَدْ ثَبَتَ بِهِ أَنَّ بَرَاءَةَ وَالْأَنْفَالَ سُورَتَانِ لَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ . وَقَدْ ذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ تَرْكَهُمْ ، كَانَ ، اكْتِتَابَ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَيْنَ الْأَنْفَالِ وَبَرَاءَةَ لِغَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي فِي حَدِيثِ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُثْمَانَ وَأَنِفُوا أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا يَذْهَبُ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعِنَايَتِهِ كَانَ بِالْقُرْآنِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَيَذْكُرُونَ أَنَّ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّمَا كَانَ تَرْكُهُمْ لِكِتَابَتِهَا بَيْنَ الْأَنْفَالِ وَبَيْنَ بَرَاءَةَ ; لِأَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حُرُوفُ رَحْمَةٍ وَسُورَةُ بَرَاءَةَ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ جِنْسِ مَا يُرَادُ بِهِ الرَّحْمَةُ , وَإِنَّمَا هِيَ نَقْضُ عُهُودٍ ، وَنِذَارَاتٌ ، وَوَعِيدَاتٌ وَتَخْوِيفَاتٌ ، وَإِبَانَةُ نِفَاقٍ مِمَّنْ نَافَقَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَاسْتَحَقَّ بِهِ مَا اسْتَحَقَّ مِنَ الْعَذَابِ , وَالتَّخْلِيدِ فِي النَّارِ ، فَلَمْ يَرَوْا مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكْتُبُوا فِي أَوَّلِهَا سَطْرًا : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، إِذْ كَانَ مَا بَعْدَهُ أَكْثَرُهُ لَا رَحْمَةَ فِيهِ , وَإِنَّمَا هُوَ أَضْدَادٌ لَهَا , وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي عَلَى غَيْرِ جِهَةِ الْآثَارِ , وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ كَانَ فِي ذَلِكَ وَإِيَّاهُ أَسْأَلُ التَّوْفِيقَ . وَقَدْ دَخَلَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فِي مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ أَنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سُورَتَيْنِ مِنْ سُوَرِ الْعَذَابِ قَدْ كُتِبَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا سَطْرُ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ وَتَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ مَا قَدْ دَلَّ أَنَّ سُورَةَ الْعَذَابِ قَدْ يُكْتَبُ قَبْلَهَا : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كَمَا يُكْتَبُ قَبْلَ سُورَةِ الرَّحْمَةِ . وَكَانَ آخَرُونَ يَقُولُونَ : إِنَّمَا تُرِكَ اكْتِتَابُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَبْلَ سُورَةِ بَرَاءَةَ إعْظَامًا لِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ بِهَا ، فَفَسَدَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا يَدْفَعُهُ ، فَأَمَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّا يَدْفَعُهُ فَكِتَابُ سُلَيْمَانَ إِلَى صَاحِبَةِ سَبَأٍ ، الْكِتَابُ الَّذِي أَعْلَمَتْ صَاحِبَةُ سَبَأٍ قَوْمَهَا أَنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ , وَأَنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَهِيَ وَهُمْ مُشْرِكُونَ قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْهُدْهُدِ لِسُلَيْمَانَ : وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ . وَأَمَّا مَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (1)
==============
__________
(1) - مُشْكِلُ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ ( 1180 ) صحيح(1/796)
(27) سورة النمل
أشهر أسمائها سورة النمل. وكذلك سميت في صحيح البخاري وجامع الترمذي. وتسمى أيضا سورة سليمان ، وهذان الاسمان اقتصر عليهما في الإتقان وغيره.
وذكر أبو بكر ابن العربي في أحكام القرآن أنها تسمى سورة الهدهد. ووجه الأسماء الثلاثة أن لفظ النمل ولفظ الهدهد لم يذكرا في سورة من القرآن غيرها، وأما تسميتها سورة سليمان فلأن ما ذكر فيها من ملك سليمان مفصلا لم يذكر مثله في غيرها.
وهذه السورة مكية بالاتفاق كما حكاه ابن عطية والقرطبي والسيوطي وغير واحد. وذكر الخفاجي أن بعضهم ذهب إلى مكية بعض آياتها كذا ولعله سهو صوابه مدنية بعض آياتها ولم أقف على هذا لغير الخفاجي.
وهي السورة الثامنة والأربعون في عداد نزول السور، نزلت بعد الشعراء وقبل القصص. كذا روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير.
وقد عدت آياتها في عدد أهل المدينة ومكة خمسا وتسعين، وعند أهل الشام والبصرة والكوفة أربعا وتسعين.
من أغراض هذه السورة
أول أغراض هذه السورة افتتاحها بما يشير إلى إعجاز القرآن ببلاغة نظمه وعلو معانيه، بما يشير إليه الحرفان المقطعان في أولها.
والتنويه بشأن القرآن وأنه هدى لمن ييسر الله الاهتداء به دون من جحدوا أنه من عند الله.
والتحدي بعلم ما فيه من أخبار الأنبياء.
والاعتبار بملك أعظم ملك أوتيه نبي. وهو ملك داود وملك سليمان عليهما السلام. وما بلغه من العلم بأحوال الطير، وما بلغ إليه ملكه من عظمة الحضارة.
وأشهر أمة في العرب أوتيت قوة وهي أمة ثمود. والإشارة إلى ملك عظيم من العرب وهو ملك سبأ. وفي ذلك إيماء إلى أن نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - رسالة تقارنها سياسة الأمة ثم يعقبها ملك، وهو خلافة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وأن الشريعة المحمدية سيقام بها ملك للأمة عتيد كما أقيم لبني إسرائيل ملك سليمان.
ومحاجة المشركين في بطلان دينهم وتزييف آلهتهم وإبطال أخبار كهانهم وعرافيهم، وسدنة آلهتهم. وإثبات البعث وما يتقدمه من أهوال القيامة وأشراطها.(1/797)
وأن القرآن مهيمن على الكتب السابقة. ثم موادعة المشركين وإنباؤهم بأن شأن الرسول الاستمرار على إبلاغ القرآن وإنذارهم بأن آيات الصدق سيشاهدونها والله مطلع على أعمالهم.
قال ابن الفرس ليس في هذه السورة إحكام ولا نسخ. ونفيه أن يكون فيها إحكام ولا نسخ معناه أنها لم تشتمل على تشريع قار ولا على تشريع منسوخ. وقال القرطبي في تفسير آية {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [النمل: 91 - 92] الآية نسختها آية القتال اهـ، يعني الآية النازلة بالقتال في سورة البراءة. وتسمى آية السيف، والقرطبي معاصر لابن الفرس إلا أنه كان بمصر وابن الفرس بالأندلس، وقوله {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} ويؤخذ منهما حكمان كما سيأتي. (1)
مناسبتها لما قبلها
كانت الآيات التي ختمت بها سورة الشعراء ، دفاعا عن القرآن الكريم ، من أن يكون من واردات الشعر ، كما كانت دفاعا عن النبيّ ، أن يكون من زمرة الشعراء .. فمعدن القرآن ، غير هذا المعدن الذي يصاغ منه الشعر ، ونسيج القرآن ، غير نسيج الشعر .. نظما ومعنى .. والنبيّ على طبيعة تخالف كل المخالفة طبيعة الشعراء .. قولا وفعلا .. سلوكا وخلقا!.
وكان بدء سورة « النّمل ».. حديثا عن هذا القرآن ، الذي هو منقطع عن كل سبيل يصله بالشعر ، حيث أنه هدى وبشرى للمؤمنين الذين يؤمنون به ، يتعاملون بأحكامه وآدابه ، على حين أن الشعر يقوم عموده على غير هذا الطريق الجادّ المستقيم .. كما كان هذا البدء حديثا عن النبيّ ، بأنه بمعزل عن الموارد التي يردها الشعراء ، ويملئون دلاءهم منها .. إنهم يأخذون ما توحيه إليهم شياطينهم ، على حين أن النبيّ ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ يتلقى هذا القرآن وحيا من لدن حكيم عليم .. « وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ».
فالمناسبة بين بدء سورة النمل ، وختام سورة الشعراء ، ظاهرة ، والالتحام بينهما. قويّ ، كما ترى. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة النمل ، من السور المكية : وهي السورة السابعة والعشرون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها بعد سورة الشعراء.
قال القرطبي : سورة النمل ، مكية كلها في قول الجميع .
2 - وسميت بسورة النمل ، لقوله - تعالى - : حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (19 / 216)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (10 / 205)(1/798)
قال الآلوسى : « وتسمى أيضا - كما في الدر المنثور - سورة سليمان ، وعدد آياتها خمس وتسعون آية - عند الحجازيين - ، وأربع وتسعون - عند البصريين - وثلاث وتسعون - عند الكوفيين - » .
3 - وقد افتتحت سورة النمل بالثناء على القرآن الكريم ، وعلى المؤمنين الذين يحافظون على فرائض اللّه - تعالى - ، ويوقنون بالآخرة وما فيها من ثواب أو عقاب ...
أما الذين لا يؤمنون بالآخرة ، فقد أنذرتهم بسوء المصير أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ.
4 - ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن جانب من قصة موسى - عليه السلام - فذكرت لنا ما قاله موسى لأهله عند ما آنس من جانب الطور نارا ، وما قاله اللّه - تعالى - له عند ما جاءها ، وما أمره - سبحانه - به ، في قوله - تعالى - : وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ. يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ.
5 - ثم تحدثت السورة بعد ذلك عما منحه اللّه - تعالى - لداود وسليمان - عليهما السلام - من علم واسع ، ومن عطاء كبير ، وحكت ما قالته نملة عند ما رأت سليمان وجنوده ، كما حكت ما دار بين سليمان - عليه السلام - وبين الهدهد ، وما دار بينه - عليه السلام - وبين ملكة سبأ من كتب ومحاورات انتهت بإسلام ملكة سبأ ، حيث قالت : بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
ثم ساقت السورة جانبا من قصة صالح - عليه السلام - مع قومه ، فتحدثت عن الرهط التسعة الذين كانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، والذين بيتوا السوء لنبيهم صالح وللمؤمنين معه ، فكانت نتيجة مكر هؤلاء المفسدين الخسار والهلاك. كما قال - تعالى - :
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ ، أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ. فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا ...
7 - وبعد أن ساقت السورة جانبا من قصة لوط - عليه السلام - مع قومه. أتبعت ذلك بالحديث عن وحدانية اللّه - تعالى - وقدرته ، فذكرت ألوانا من الأدلة على ذلك ، وقد قال - سبحانه - في أعقاب كل دليل أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ ، وكرر ذلك خمس مرات ، في خمس آيات.
8 - وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر وحدانية اللّه وقدرته - سبحانه - ، أخذت السورة الكريمة في تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي تثبيت فؤاده ، وفي بيان أن هذا القرآن هداية ورحمة.قال - تعالى - : إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ. فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ.(1/799)
9 - ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بالحديث عن علامات الساعة وأهوالها ، وعن عاقبة المؤمنين ، وعاقبة الكافرين ، وعن المنهج الذي اتبعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمر غيره باتباعه ، فقال - تعالى - : إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها ، وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ. وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
10 - وبعد : فهذا عرض مجمل لسورة النمل. ومنه نرى أن السورة الكريمة زاخرة بالحديث عن أدلة وحدانية اللّه - تعالى - وقدرته ، وعن مظاهر فضله - تعالى - على عباده.
وعن علمه - سبحانه - المحيط بكل شيء ، وعن آياته الكونية التي يكشف منها للناس ما يشاء كشفه وبيانه.
كما نرى أن السورة الكريمة قد اشتمل القصص على جانب كبير منها ، خصوصا قصص بعض أنبياء بنى إسرائيل ، فقد حدثتنا عن جانب من قصة موسى ، وداود ، وسليمان. ثم بينت أن على بنى إسرائيل المعاصرين للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعودوا إلى القرآن ، ليعرفوا منه الأمر الحق في كل ما اختلفوا فيه ، قال - تعالى - : إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
كما نراها تجمع في توجيهاتها وإرشاداتها بين الترغيب والترهيب ، وبين التذكير بنعم اللّه التي نشاهدها في هذا الكون ، وبين التحذير من أهوال يوم القيامة ، وتختم بهذه الآية الجامعة : وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. (1)
في السورة حملة تقريع على الكفار وحكاية لبعض مواقفهم وأقوالهم وخاصة في صدد الآخرة وحسابها وجزائها. وفيها قصص بعض الأنبياء وأقوالهم ، منها ما أسهب فيه وهو قصة ما كان بين سليمان عليه السلام وملكة سبأ بقصد الموعظة.
وفيها تقريرات عن مظاهر قدرة اللّه تعالى ورحمته بسبيل البرهنة على ربوبيته وتسفيه المشركين وتقريعهم. وفيها صورة من الدعوة النبوية في العهد المكي وتثبيت وتطمين للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين.
وهي مشابهة في المطلع والنهاية والفصول القصصية الاستطرادية للسورة السابقة مما يمكن أن يكون فيه قرينة على صحة الترتيب. وفصولها مترابطة مما يسوغ القول إنها نزلت متلاحقة حتى تمت. (2)
سورة النمل مكية ، وهي ثلاث وتسعون آية.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (10 / 295)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (3 / 279)(1/800)
تسميتها :سميت سورة النمل لإيراد قصة وادي النمل فيها ، ونصيحة نملة منها بقية النمل بدخول جحورهن ، حتى لا يتعرضن للدهس من قبل جند سليمان عليه السلام دون قصد ، ففهم سليمان الذي علمه اللّه منطق الطير والدواب كلامها ، وتبسم ضاحكا من قولها ، ودعا ربه أن يلهمه شكره على ما أنعم به عليه.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه :
1 - أنها كالتتمة لها في بيان بقية قصص الأنبياء ، وهي قصة داود وسليمان عليهما السلام.
2 - أن فيها تفصيلا لما أجمل في سورة الشعراء من القصص النبوي ، وهي قصة موسى في الآيات [7 - 14] وقصة صالح في الآيات [45 - 53] ولوط في الآيات [54 - 58].
3 - نزلت هذه السور الثلاث (الشعراء ، والنمل ، والقصص) متتالية على هذا الترتيب ، وذلك كاف في ترتيبها في المصحف على هذا النحو. روي عن ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب نزول السور : أن الشعراء ، ثم طس ، ثم القصص. كما يوجد تشابه بينها في البداية والافتتاح (طسم ، الشعراء ، طس ، النمل ، طسم ، القصص) ولعل التشابه بين الأولى والثالثة ، والاختلاف الجزئي في الثانية دليل على تأكيد المقصود بهذه الحروف المقطعة وهو تحدي العرب بالقرآن الذي تكوّن من حروف لغتهم المتركبة في جمل ، بزيادة أحيانا ونقص أحيانا من تلك الحروف.
4 - كذلك وجد التشابه الموضوعي بينهما في وصف القرآن وتنزيله من عند اللّه لأنه قال في بداية الشعراء : تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ وقال هنا :
تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ وقال في أواخر الشعراء : وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وقال هنا : تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ أي الذي هو تنزيل رب العالمين.
5 - تلتقي السورتان في بيان وحدة القصد من القصص القرآني ، وهو تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما يلقاه من أذى قومه ، وإعراضهم عنه.
مشتملاتها :
هذه السورة المكية تتفق مع أغراض السور المكية في بيان أصول العقيدة :
وهي التوحيد ، والنبوة ، والبعث ، وإثبات كون القرآن الكريم منزلا من عند اللّه العزيز الحكيم.
وإسهاما في توضيح تلك الأغراض أبانت السورة معجزة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - الخالدة ، وهي تنزيل القرآن المجيد هدى ورحمة وبشرى للمؤمنين ، ثم سردت وقائع مثيرة من قصص الأنبياء : موسى ، وداود ، وسليمان ، وصالح ، ولوط ، عليهم السلام ، تبين مدى ما تعرّض له موسى وصالح ولوط من أذى أقوامهم ،(1/801)
وتكذيبهم برسالاتهم ، وإنزال العقاب الأليم بهم ، وتنبّه إلى ما أنعم اللّه به على داود وسليمان من النعم العظمى ، بهبة النبوة والملك والسلطان ، وتسخير الجن والإنس والطير ، وإذعان الملكة بلقيس لدعوة سليمان.
وفي هذا حكمة بالغة لأصحاب السلطة هي اتخاذ السلطان والنفوذ سبيلا للدعوة إلى اللّه جل جلاله.
وتلا ذلك بيان الأدلة والبراهين على وجود اللّه وتوحيده من خلق الكون :
سمائه وأرضه ، بره وبحره ، وإلهام الإنسان الإفادة من كنوز الأرض ، والهداية في ظلمات البر والبحر ، وإمداده بالأرزاق الوفيرة ، ومفاجأته بأهوال يوم القيامة ومغيبات الأحداث ، وسعة علم اللّه ، وتعاقب الليل والنهار.
وأنكرت السورة بعدئذ على المشركين تكذيبهم بالبعث والحشر والنشور ، وألزمت بني إسرائيل بالاحتكام إلى القرآن في خلافاتهم وخصوماتهم ، وتحدثت عن أشراط الساعة ، كخروج دابة الأرض ، وحشر فوج من كل أمة ، وتسيير الجبال ، ثم ذكّرت بالنفخ في الصور لجمع الناس ومجيئهم داخرين صاغرين للّه تعالى.
وختمت السورة بتصنيف الناس إلى سعداء أبرار ، وأشقياء فجار ، وجزاء كلّ بما يستحق خيرا أو شرا ، وإعلام المشركين بوجوب عبادة اللّه وحده ، والتخلي عن عبادة الأصنام والأوثان ، والالتزام بمنهج القرآن ودستوره في الحياة لأنه نور وهداية ، ومن اهتدى فلنفسه ومن ضلّ فعليها ، وتعريفهم بآيات اللّه العظمى في وقت لا ينفعهم فيه شيء غير الإيمان باللّه وحده ، وتعرضهم للجزاء الحتمي عن جميع أعمالهم.
والخلاصة : أن ما ذكر في هذه السورة يدعو إلى المبادرة إلى الإيمان باللّه تعالى ربا وإلها لا شريك له ، والتصديق بالبعث طريقا لإنصاف الخلائق ، واتخاذ القرآن نبراسا ودستورا للحياة الإنسانية. (1)
وجه اتصالها بما قبلها أنها كالتتمة لها حيث زاد سبحانه فيها ذكر داود وسليمان وبسط فيها قصة لوط عليه السلام أبسط مما هي قبل وقد وقع فيها إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً [النمل : 7] إلخ وذلك كالتفصيل لقوله سبحانه فيما قبل : فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ الشعراء : 21] وقد اشتمل كل من السورتين على ذكر القرآن وكونه من اللّه تعالى وعلى تسليته - صلى الله عليه وسلم - إلى غير ذلك ، وروي عن ابن عباس وجابر بن زيد أن الشعراء نزلت ثم طس ثم القصص. (2)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (19 / 252) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (19 / 118)
(2) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (10 / 151)(1/802)
سورة النمل من السور المكية التى تهتم بالحديث عن أصول العقيدة " التوحيد ، والرسالة ، والبعث " وهي إحدى سور ثلاث نزلت متتالية ، ووضعت في المصحف متتالية ، وهي : (الشعراء ، والنمل ، والقصص ) ويكاد يكون منهاجها واحدا ، في سلوك مسلك العظة والعبرة ، عن طريق قصص الغابرين .
تناولت السورة الكريمة القرآن العظيم ، معجزة محمد الكبرى ، وحجته البالغة إلى يوم الدين ، فوضحت أنه تنزيل من حكيم عليم ، ثم تحدثت عن قصص الأنبياء بإيجاز في البعض وإسهاب في البعض ، فذكرت بالإجمال قصة " موسى " وقصة " صالح " وقصة " لوط " وما نال أقوامهتم من العذاب والنكال ، بسبب إعراضهم عن دعوة الله ، وتكذيبهم لرسله الكرام ، بدءا من قصة موسى عليه السلام [ إذ قال موسى لأهله إني ءانست نارا سأتيكم منها بخبر أو ءاتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون . . ] الآيات . ، وتحدثت بالتفصيل عن قصة " داود " وولده " سليمان " وما أنعم الله عليهما من النعم الجليلة ، وما خصهما به من الفضل الكبير ، بالجمع بين النبوة والملك الواسع ، ثم ذكرت قصة (سليمان ) مع (بلقيس ) ملكة سبأ [ ولقد ألينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ] الآيات .
وفي هذه القصة مغزى دقيق لأصحاب الجاه والسلطان ، والعظماء والملوك ، فقد إتخذ سليمان الملك وسيلة للدعوة إلى الله ، فلم يترك حاكما جائرا ، ولا ملكا كافرا إلا دعاه إلى الله ، وهكذا كان شأنه مع " بلقيس " حتى تركت عبادة الأوثان ، وأتت مع جندها خاضعة مسلمة ، مستجيبة لدعوة الرحمن [ قالت ربي إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ] .
وتناولت السورة الكريمة الدلائل والبراهين على وجود الله ووحدانيته ، من آثار مخلوقاته وبدائع صنعه ، وساقت بعض الأهوال والمشاهد الرهيبة ، التي يراها الناس يوم الحشر الأكبر ، حيث يفزعون ويرهبون ، وينقسمون إلى قسمين : (السعداء الأبرار) و(الكفار الفجار) الذين يكبون على وجوههم في النار ، ووضحت أن القيامة هو يوم العدالة الإلهية ، الذي يجزى فيه كل إنسان ، على ما عمل في هذه الحياة الدنيا ، من خير أو شر ، جزاء عادلا يناسب عمله [ ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين . . ] إلى نهاية السورة الكريمة . التسميه : سميت (سورة النمل ) لأن الله تعالى ذكر فيها قصة النملة ، التي وعظت بني جنسها وذكرت ثم اعتذرت عن سليمان وجنوده ، ففهم نبي الله كلامها ، وتبسم من قولها ، وشكر الله على ما منحه من الفضل والإنعام ، وفي ذلك أعظم الدلالة على علم الحيوان ، وأن ذلك من إلهام الواحد الديان . (1)
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (2 / 296)(1/803)
مقصودها وصف هذا الكتاب بالكفاية لهداية الخلق أجمعين ، بالفصل بين الصراط المستقيم ، وطريق الحائرين ، والجمع لأصول الدين ، لإحاطة علم منزله بالخفي والمبينن وبشارة المؤمنين ، ونذارة الكافرين ، بيوم احتماع الأولين والآخرين ، وكل ذلك يرجع إلى العلم المستلزم للحكمة ، فالمقصود الأعظم منها إظهار العلم والحكمة كما كان مقصود التي قبلها إظهار البطش والنقمة ، وأدل ما فيها على هذا المقصود ما للنمل من حسن التدبير ، وسداد المذاهب في العيش ، ولا سيما ما ذكر عنها سبحانه من صحة القصد في السياسة ، وحسن التعبير عن ذلك القصد ، وبلاغة التأدية ) بسم الله ( الذي كمل علمه فبهرت حكمته ) الرحمن ( الذي عم بالهداية بأوضح البيان ) الرحيم ( الذي منّ بجنان النعيم . (1)
هذه السورة مكية نزلت بعد الشعراء وهي تمضي على نسقها في الأداء : مقدمة وتعقيب يتمثل فيهما موضوع السورة الذي تعالجه وقصص بين المقدمة والتعقيب يعين على تصوير هذا الموضوع ، ويؤكده ، ويبرز فيه مواقف معينة للموازنة بين موقف المشركين في مكة ومواقف الغابرين قبلهم من شتى الأمم ، للعبرة والتدبر في سنن اللّه وسنن الدعوات.
وموضوع السورة الرئيسي - كسائر السور المكية - هو العقيدة : الإيمان باللّه ، وعبادته وحده ، والإيمان بالآخرة ، وما فيها من ثواب وعقاب. والإيمان بالوحي وأن الغيب كله للّه ، لا يعلمه سواه. والإيمان بأن اللّه هو الخالق الرازق واهب النعم وتوجيه القلب إلى شكر أنعم اللّه على البشر. والإيمان بأن الحول والقوة كلها للّه ، وأن لا حول ولا قوة إلا باللّه.
ويأتي القصص لتثبيت هذه المعاني وتصوير عاقبة المكذبين بها ، وعاقبة المؤمنين.
تأتي حلقة من قصة موسى - عليه السّلام - تلي مقدمة السورة. حلقة رؤيته للنار وذهابه إليها ، وندائه من الملأ الأعلى ، وتكليفه الرسالة إلى فرعون وملئه. ثم يعجل السياق بخبر تكذيبهم بآيات اللّه وهم على يقين من صدقها وعاقبة التكذيب مع اليقين .. «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين». وكذلك شأن المشركين في مكة كان مع آيات القرآن المبين.
وتليها إشارة إلى نعمة اللّه على داود وسليمان - عليهما السلام - ثم قصة سليمان مع النملة ، ومع الهدهد ،ومع ملكة سبأ وقومها. وفيها تظهر نعمة اللّه على داود وسليمان وقيامهما بشكر هذه النعمة. وهي نعمة العلم والملك والنبوة مع تسخير الجن والطير لسليمان. وفيها تظهر كذلك أصول العقيدة التي يدعو إليها كل رسول.
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (5 / 405)(1/804)
ويبرز بصفة خاصة استقبال ملكة سبأ وقومها لكتاب سليمان - وهو عبد من عباد اللّه - واستقبال قريش لكتاب اللّه. هؤلاء يكذبون ويجحدون. وأولئك يؤمنون ويسلمون. واللّه هو الذي وهب سليمان ما وهب ، وسخر له ما سخر. وهو الذي يملك كل شي ء ، وهو الذي يعلم كل شيء. وما ملك سليمان وما علمه إلا قطرة من ذلك الفيض الذي لا يغيض.
وتليها قصة صالح مع قومه ثمود. ويبرز فيها تآمر المفسدين منهم عليه وعلى أهله ، وتبييتهم قتله ثم مكر اللّه بالقوم ، ونجاة صالح والمؤمنين معه ، وتدمير ثمود مع المتآمرين : «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا» .. وقد كانت قريش تتآمر على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وتبيت له ، كما بيتت ثمود لصالح وللمؤمنين.
ويختم القصص بقصة لوط مع قومه. وهمهم بإخراجه من قريتهم هو والمؤمنون معه ، بحجة أنهم أناس يتطهرون!
وما كان من عاقبتهم بعد إذ هاجر لوط من بينهم ، وتركهم للدمار : «وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ» ..
ولقد همت قريش بإخراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتآمرت في ذلك قبل هجرته من بين ظهرانيهم بقليل.
فإذا انتهى القصص بدأ التعقيب بقوله : «قل : الحمد للّه وسلام على عباده الذين اصطفى. آللّه خير أم ما يشركون؟» .. ثم أخذ يطوف معهم في مشاهد الكون ، وفي أغوار النفس. يريهم يد الصانع المدبر الخالق الرازق ، الذي يعلم الغيب وحده ، وهم إليه راجعون. ثم عرض عليهم أحد أشراط الساعة وبعض مشاهد القيامة ، وما ينتظر المكذبين بالساعة في ذلك اليوم العظيم.
ويختم السورة بإيقاع يناسب موضوعها وجوها : «إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ : إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ. وَقُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ. سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ..
والتركيز في هذه السورة على العلم. علم اللّه المطلق بالظاهر والباطن ، وعلمه بالغيب خاصة. وآياته الكونية التي يكشفها للناس. والعلم الذي وهبه لداود وسليمان. وتعليم سليمان منطق الطير وتنويهه بهذا التعليم .. ومن ثم يجيء في مقدمة السورة : «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ». ويجيء في التعقيب «قُلْ : لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ» .. «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ. وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ويجيء في الختام : «سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها» .. ويجيء في قصة سليمان : «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ» .. وفي قول(1/805)
سليمان : «يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ» .. وفي قول الهدهد : «أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ». وعند ما يريد سليمان استحضار عرش الملكة ، لا يقدر على إحضاره في غمضة عين عفريت من الجن ، إنما يقدر على هذه : «الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ».
وهكذا تبرز صفة العلم في جو السورة تظللها بشتى الظلال في سياقها كله من المطلع إلى الختام. ويمضي سياق السورة كله في هذا الظل ، حسب تتابعه الذي أسلفنا. (1)
خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من حكم وأحكام وقصص
(1) وصف القرآن الكريم بأنه هدى ورحمة للمؤمنين.
(2) قصص موسى عليه السلام.
(3) قصص سليمان عليه السلام.
(4) قصص ثمود وقصص قوم لوط.
(5) النعي على المشركين فى عبادة الأصنام والأوثان ، وإقامة الأدلة على وحدانية اللّه تعالى.
(6) إنكار المشركين للبعث والنشور وقولهم : إن هذا إلا أساطير الأولين.
(7) علم اللّه بما فى الصدور.
(8) حكم القرآن على ما اختلف فيه بنو إسرائيل.
(9) قطع الأطماع فى إيمان المشركين وتشبيههم بالعمى الصم
(10) أشراط الساعة كخروج الدابة من الأرض ، وحشر فوج من كل أمة ، وتسيير الجبال.
(11) الجزاء على العمل خيرا كان أو شرا.
(12) أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للمشركين : إنه إنما أمر بعبادة رب مكة ، لا بعبادة الأصنام والأوثان.
(13) أمره بحمد اللّه والثناء عليه وطلبه تلاوة القرآن.
(14) إنه سبحانه سيرى المشركين آياته فيعرفونها حق المعرفة حين لا يفيدهم ذلك شيئا. (2)
===============
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2624)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (20 / 29)(1/806)
(28) سورة القصص
سميت سورة القصص ولا يعرف لها اسم آخر. ووجه التسمية بذلك وقوع لفظ {الْقَصَصُ} فيها عند قوله تعالى {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} [القصص: 25]. فالقصص الذي أضيفت إليه السورة هو قصص موسى الذي قصه على شعيب عليهما السلام فيما لقيه في مصر قبل خروجه منها. فلما حكي في السورة ما قصه موسى كانت هاته السورة ذات قصص لحكاية قصص، فكان القصص متوغلا فيها. وجاء لفظ {الْقَصَصُ} في [سورة يوسف: 3] ولكن سورة يوسف نزلت بعد هذه السورة.
وهي مكية في قول جمهور التابعين. وفيها آية {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]. قيل نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجحفة في طريقه إلى المدينة للهجرة تسلية له على مفارقة بلده. وهذا لا يناكد أنها مكية لأن المراد بالمكي ما نزل قبل حلول النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة كما أن المراد بالمدني ما نزل بعد ذلك ولو كان نزوله بمكة.
وعن مقاتل وأبن عباس أن قوله تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} إلى قوله {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 52-55] نزل بالمدينة.
وهي السورة التاسعة والأربعون في عداد نزول سور القرآن، نزلت بعد سورة النمل وقبل سورة الإسراء، فكانت هذه الطواسين الثلاث متتابعة في النزول كما هو ترتيبها في المصحف، وهي متماثلة في افتتاح ثلاثتها بذكر موسى عليه السلام. ولعل ذلك الذي حمل كتاب المصحف على جعلها متلاحقة.
وهي ثمان وثمانون آية باتفاق العادين.
أغراضها
اشتملت هذه السورة على التنويه بشأن القرآن والتعريض بأن بلغاء المشركين عاجزون عن الإتيان بسورة مثله. وعلى تفصيل ما أجمل في [سورة الشعراء: 18-19] من قول فرعون لموسى {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} إلى قوله {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} ففصلت سورة القصص كيف كانت تربية موسى في آل فرعون.
وبين فيها سبب زوال ملك فرعون.
وفيها تفصيل ما أجمل في [سورة النمل: 7] من قوله {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} ففصلت سورة القصص كيف سار موسى وأهله وأين آنس النار ووصف المكان الذي نودي فيه بالوحي إلى أن ذكرت دعوة موسى فرعون فكانت هذه السورة أوعب لأحوال نشأة موسى إلى وقت إبلاغه الدعوة ثم(1/807)
أجملت ما بعد ذلك لأن تفصيله في سورة الأعراف وفي سورة الشعراء. والمقصود من التفصيل ما يتضمنه من زيادة المواعظ والعبر.
وإذ قد كان سوق تلك القصة إنما هو للعبرة والموعظة ليعلم المشركون سنة الله في بعثة الرسل ومعاملته الأمم المكذبة لرسلها.
وتحدى المشركين بعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك وهو أمي لم يقرأ ولم يكتب ولا خالط أهل الكتاب، ذيل الله ذلك بتنبيه المشركين إليه وتحذيرهم من سوء عاقبة الشرك وأنذرهم إنذارا بليغا.
وفند قولهم {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48] من الخوارق كقلب العصا حية ثم انتقاضهم في قولهم إذ كذبوا موسى أيضا.
وتحداهم بإعجاز القرآن وهديه مع هدي التوراة.
وأبطل معاذيرهم ثم أنذرهم بما حل بالأمم المكذبة رسل الله.
وساق لهم أدلة على وحدانية الله تعالى وفيها كلها نعم عليهم وذكرهم بما سيحل بهم يوم الجزاء.
وأنحى عليهم في اعتزازهم على المسلمين بقوتهم ونعمتهم ومالهم بأن ذلك متاع الدنيا وأن ما ادخر للمسلمين عند الله خير وأبقى.
وأعقبه بضرب المثل لهم بحال قارون في قوم موسى. وتخلص من ذلك إلى التذكير بأن أمثال أولئك لا يحظون بنعيم الآخرة وأن العاقبة للمتقين.
وتخلل ذلك إيماء إلى اقتراب مهاجرة المسلمين إلى المدينة، وإيماء إلى أن الله مظهرهم على المشركين بقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5] الآية.
وختم الكلام بتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتثبيته ووعده بأنه يجعل بلده في قبضته ويمكنه من نواصي الضالين.
ويقرب عندي أن يكون المسلمون ودوا أن تفصل لهم قصة رسالة موسى عليه السلام فكان المقصود انتفاعهم بما في تفاصيله من معرفة نافعة لهم تنظيرا لحالهم وحال أعدائهم. فالمقصود ابتداء هم المسلمون ولذلك قال تعالى في أولها {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 3] أي للمؤمنين. (1)
مناسبة السورة لما قبلها
جاء في سورة الشعراء ، ثم في سورة النمل ، السابقتين على هذه السورة ـ حديث موجز عن موسى وفرعون ..فقد جاء فى « الشعراء » قول فرعون لموسى : « أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (20 / 5)(1/808)
سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ » (18 ـ 19 : الشعراء) وجاء في هذه السورة ـ القصص ـ بيان مفصّل لهذه الفترة من حياة موسى ، تحدّثت عن مولده ، وإلقائه في اليم ، والنقاط آل فرعون له ، ونشأته فى بيت فرعون تمنّى له .. ثم قتله المصري ، ثم فراره إلى مدين .. وهذه الأحداث كلّها قد طويت طيّا في الآيتين السابقتين من (سورة الشعراء) وجاء في سورة (النمل) : « إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ » (7) ولم يذكر فيها من هم أهله ؟ ومن أين جاءوا ؟ وما وجهتهم معه ؟ .فجاء في سورة (القصص) .. فرار موسى إلى أرض مدين ، ولقاؤه شعيبا ، وتزوّجه بإحدى ابنتيه اللتين لقيهما على ماء مدين ، وسقى لهما ... كما سنرى ذلك مفصلا في هذه السورة. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة القصص ، هي السورة الثامنة والعشرون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها بعد سورة النمل. فترتيب نزولها موافق لترتيبها في المصحف. وعدد آياتها ثمانون آية.
2 - قال القرطبي : وهي مكية كلها في قول الحسن ، وعكرمة ، وعطاء. وقال ابن عباس وقتادة : إلا آية نزلت بين مكة والمدينة. وقال ابن سلام : بالجحفة في وقت هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، وهي قوله - تعالى - : إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ ... .
فعن يحيى بن سلام قال : بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين هاجر ، نزل عليه جبريل بالجحفة وهو متوجه من مكة إلى المدينة فقال له : أتشتاق يا محمد إلى بلدك التي ولدت فيها؟ قال :
نعم ، فقرأ عليه : إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ ... .
3 - والمتدبر لهذه السورة الكريمة ، يرى أكثر من نصفها ، في الحديث عن قصة موسى - عليه السلام - .فهي تبدأ بقوله - تعالى - : طسم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ، نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ...
4 - ثم تحدثت السورة الكريمة بعد ذلك ، عما ألهم اللّه - تعالى - به أم موسى بعد ولادتها له ، وعن حالتها النفسية بعد أن عرفت أن ابنها قد التقطه من اليم أعداؤها. وعما قالته لأخته ، وعن فضل اللّه - تعالى - عليها ورحمته بها ، حيث أعاد إليها ابنها موسى ، قال - تعالى - : فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ ، وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (10 / 306)(1/809)
5 - ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على موسى - عليه السلام - بعد أن بلغ أشده واستوى ، وبعد أن قتل رجلا من أعدائه ، وكيف أنه خرج من المدينة خائفا يترقب ، قال : رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
وقد أجاب اللّه - تعالى - له دعاءه ، فنجاه منهم ، ويسر له الوصول إلى جهة مدين ، فعاش هناك عشر سنين ، أجيرا عند شيخ كبير من أهلها ، وتزوج موسى - عليه السلام - بعد انقضاء تلك المدة ، بإحدى ابنتي هذا الشيخ الكبير.
قال - تعالى - حاكيا بعض ما قاله هذا الشيخ لموسى : قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ، وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ، أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ ، وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ.
6 - ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ، أن موسى بعد أن قضى المدة التي تعاقد عليها مع الرجل الصالح ، وبعد أن تزوج ابنته ، سار بها متجها إلى مصر ، وفي الطريق رأى نارا ، فلما ذهب إليها ، أمره ربه - تعالى - بأن يذهب إلى فرعون وقومه ليأمرهم بإخلاص العبادة له - عز وجل - وذهب موسى - عليه السلام - إليهم ، وبلغهم رسالة ربه ، ولكنهم كذبوه ، فكانت عاقبتهم كما قال - تعالى - : فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ...
7 - وبعد هذا الحديث المفصل عن قصة موسى - عليه السلام - أخذت السورة الكريمة في تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من قومه ، فذكرت له ما يدل على أن هذا القرآن من عند اللّه - تعالى - وأمرته أن يتحدى المشركين به ، وبينت له أنه - عليه الصلاة والسلام - لا يستطيع أن يهدى من يحبه ولكن اللّه هو الذي يهدى من يشاء هدايته ، وحكت جانبا من أقوال المشركين وردت عليها ، كما حكت جانبا من المصير السيئ الذي سيكونون عليه يوم القيامة ، فقال - تعالى - : وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ، فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ ...
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ : أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ. وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ ، فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.
8 - ثم عادت السورة بعد ذلك للحديث عن قصة تتعلق برجل كان من قوم موسى : وهو قارون ، فأخبرتنا بجانب من النعم التي أنعم اللّه - تعالى - بها عليه ، وكيف أنه قابل هذه النعم بالجحود والكنود ، دون أن يستمع إلى نصح الناصحين ، أو وعظ الواعظين ، وكيف أن الذين يريدون الحياة الدنيا تمنوا أن يكونوا مثله ، وكيف أن الذين أوتوا العلم قالوا لهم على سبيل الزجر : وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ(1/810)
وَعَمِلَ صالِحاً ، وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ وكيف أن الذين يريدون الحياة الدنيا قالوا بعد أن رأوا مصرع قارون : لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا ...
ثم ختم - سبحانه - هذه القصة ، ببيان سنة من سننه التي لا تتخلف فقال - تعالى - :
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
9 - وبعد أن انتهت السورة الكريمة ، عن الحديث المتنوع من قصص السابقين ، ومن التعقيبات الحكيمة عليها ..بعد كل ذلك ، جاء الأمر من اللّه - تعالى - بإخلاص العبادة له ، والنهى عن الإشراك به فقال - سبحانه - وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ، لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
10 - وبعد ، فهذا عرض مجمل لما اشتملت عليه سورة القصص من مقاصد وأهداف ، ومن هذا العرض ، ترى أن السورة الكريمة قد اهتمت بأمور من أهمها ما يأتى :
(أ) تثبيت المؤمنين ، وتقوية عزائمهم ، وتبشيرهم بأن العاقبة لهم ، وبأن اللّه - تعالى - سيجعل من ضعفهم قوة ، ومن قلتهم كثرة ، كما جعل من موسى وقومه أمة منتصرة بعد أن كانت مهزومة ، وغالبة بعد أن كانت مغلوبة.ترى هذه التقوية والبشارة في مثل قوله - تعالى - : وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ.
(ب) أن السورة الكريمة تعطينا صورة زاخرة بالمعاني الكريمة والمؤثرة ، عن حياة موسى - عليه السلام - فهي تحكى لنا حالة أمه. وأحاسيسها ، وخلجات قلبها ، وخوفها ، عند ولادته ، وبعد ولادته ، وبعد إلقائه في اليم ، وبعد أن علمت بالتقاط آل فرعون له ، وبعد رد اللّه - تعالى - إليها ابنها ، فضلا منه - سبحانه - ورحمة.
كما تحكى لنا ما جبل عليه موسى - عليه السلام - من مروءة عالية جعلته يأبى أن يرى مظلوما فلا ينصره ، ومحتاجا فلا يعينه.
فعند ما رأى امرأتين عاجزتين عن سقى غنمهما ، قال لهما : ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ ، وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ ، فَسَقى لَهُما ...
وعند ما رأى مظلوما يستنصره ، ما كان منه إلا أن نصره ، وقال : رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ.
(ج) تأكيد أن هذا القرآن من عند اللّه ، بدليل أن هذا القرآن قد قص على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى الناس ، قصصا لا علم لهم بحقيقتها قبل أن يقصها عليهم.(1/811)
قال - تعالى - : وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ ، إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ، وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ.
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا ، وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ، لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
(د) اهتمت السورة اهتماما واضحا ، ببيان مظاهر قدرة اللّه - تعالى - في هذا الكون ، هذه القدرة التي نراها في إهلاك الظالمين والمغرورين ، حتى ولو ساندتهم جميع قوى الأرض.
كما نراها في الرد على كفار مكة الذين زعموا ، أن اتباعهم للحق يؤدى إلى تخطفهم والاعتداء عليهم وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ، أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ، وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها ، فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ ، وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ..
والخلاصة ، أن سورة القصص على رأس السور المكية ، التي حضت المؤمنين على الثبات والصبر ، وساقت لهم من أخبار السابقين ، ما يزيدهم إيمانا على إيمانهم. ويقينا على يقينهم ، بأن اللّه - تعالى - سيجعل العاقبة لهم .. (1)
في السورة تفصيل عن نشأة موسى عليه السلام ورسالته إلى فرعون ، تخلّله مواعظ وعبر ، وفيها إشارة إلى قارون بسبيل ضرب المثل ، وفيها صور عن مواقف الكفار والكتابيين من الدعوة وتنديد بالأولين وتحدّ لهم وتنويه بالآخرين الذين أعلنوا إيمانهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والقرآن ، وفيها صور عن حجاج الكفار ومخاوفهم من عواقب الدعوة وتسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتثبيت وتطمين وخطة حازمة له إزاء الكفار والمشركين ومبادئ عامة في واجبات الإنسان والإهابة به إلى عدم الاستغراق في الدنيا ومواعظ وتلقينات اجتماعية وأخلاقية.
وفصول السورة مترابطة بحيث يسوّغ القول إنها نزلت متلاحقة حتى تمّت.
وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [52 - 55] مدنية ، وأن الآية [85] نزلت في طريق هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة. ومضامين الآيات وانسجامها مع سياقها يسوّغ الشك في صحة الروايات. (2)
سورة القصص مكية ، وهي ثمان وثمانون آية
تسميتها :
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (10 / 369)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (3 / 308)(1/812)
سميت سورة (القصص) لما فيها من البيان العجيب لقصة موسى عليه السلام من حين ولادته إلى حين رسالته ، التي يتضح فيها أحداث جسام ، برز فيها لطف اللّه بالمؤمنين وخذلانه الكافرين. ثم ذكر فيها قصة قارون من قوم موسى المشابهة للقصة الأولى في تقويض أركان الطغيان ، طغيان السلطة عند فرعون ، وطغيان المال عند قارون.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر مناسبة هذه السورة لسورتي النمل والشعراء في أنها تفصيل لما أوجز فيهما من قصة موسى عليه السلام ، مبتدئا ببيان استعلاء فرعون وظلمه ، وذبحه أبناء بني إسرائيل الموجب لإلقاء موسى عند ولادته في اليم ، خوفا عليه من الذبح ، ثم انتشال فرعون له وتربيته في قصره عنده إلى سن الشباب ، حيث حدثت حادثة قتله القبطي ، التي استوجبت فراره من مصر إلى مدين ، وزواجه بابنة شعيب عليه السلام ، ثم مناجاته ربه وبعثه إياه رسولا ، وما تبع ذلك.
كذلك فصلت هذه السورة موقف القرآن من توبيخ المشركين على إنكارهم يوم القيامة ، من خلال الإخبار بإهلاك الكثيرين من أهل القرى بسبب ظلمهم ، والتساؤل عن شركاء اللّه يوم القيامة وما يدور بينهم وبين عبدتهم من نقاش انتهى بتبرئهم من عبادتهم ، وإيراد الأدلة المتضافرة لإثبات قدرة اللّه على الخلق والإيجاد والبعث والإعدام.
كما أن هناك ربطا من وجه آخر بين سورتي النمل والقصص ، فقد أوجز هنا ما فصّل في السورة المتقدمة من إهلاك قوم صالح وقوم لوط ، ومن بيان مصير من جاء بالحسنة ومن جاء بالسيئة.
ما اشتملت عليه السورة :
تلتقي هذه السورة مع ما سبقها من سورتي الشعراء والنمل في بيان أصول العقيدة : التوحيد والرسالة والبعث في ثنايا قصص الأنبياء ، وإيضاح الأدلة المثبتة لهذه الأصول في قضايا الكون وعجائبه البديعة ونظمه الفريدة.
وكان الطابع الغالب على هذه السورة تبيان قصة موسى مع فرعون التي تمثل الصراع بين طغيان القوي وضعف الضعيف ، لكن الأول على الباطل والثاني على الحق ، وأعوان الباطل هم جند الشيطان وأعوان الحق هم جند الرحمن.
كان فرعون معتمدا على سلطانه وقوته وثروته ، فطغى وبغى ، واستعبد شعب بني إسرائيل ، وزاد في غلوه أنه ذبح الأبناء ، واستحيا النساء ، وادعى الربوبية ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص 28/ 38] وأفسد في الأرض.(1/813)
واستوجب ذبح الأطفال إلقاء موسى في اليم ، والتقاط آل فرعون له ، ثم رده إلى أمه ، ثم تربيته في قصر فرعون ، إلى أن بلغ أشده وصار رشيدا قويا ، فقتل قبطيا قتلا خطأ ، فهرب من مصر إلى أرض مدين ، فتزوج بابنة شعيب عليه السلام ، ومكث راعيا ماشيته عشر سنين ، ثم عاد إلى مصر ، فناجى ربه في الطور ، وأيده اللّه بمعجزات أهمها معجزة العصا واليد ، فبلغ رسالة ربه ، لكن كذبه فرعون وقومه علوا واستكبارا ، فأغرقهم اللّه في البحر. وذلك شبيه بإنكار قريش نبوة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - مع ما جاءهم به من الحق ، فوصفوه بالسحر المفترى ، وتنكروا للإيمان برسالته بأعذار واهية ، فأنذرهم القرآن بعذاب مماثل لقوم فرعون ، وأبان لهم أن اللّه لا يعذب قوما إلا بعد إرسال رسول إليهم ، وأن الرسول باختيار اللّه تعالى لا بحسب أهواء المشركين ، وأن آلهتهم المزعومة ستتبرأ من عبادتهم يوم القيامة ، وأن اللّه هو الإله الواحد الذي لا شريك له ، وأنه القادر على بعث الأموات ، كما قدر على بدء الخلق ، وإيجاد تعاقب الليل والنهار. وسيشهد الأنبياء على أممهم بتبليغ رسالات ربهم ، وقد آمن جماعة من أهل الكتاب ، وسيعطون أجرهم مرتين ، وأن الهداية بيد اللّه تعالى ، لا بيد رسوله ، فلن يتمكن من هداية من أحب.
وأعقب ذلك بقصة مشابهة هي قصة قارون من قوم موسى واعتماده على طغيان الثروة والمال كاعتماد فرعون على طغيان السلطة والحكم ، فكان مصيره أشأم من مصير فرعون وهو الخسف به وبداره الأرض ، فما كان له من فئة ينصرونه وما كان من المنتصرين.
وكل من خبر القصتين برهان قاطع على صحة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يكن حاضرا معهم ، ولم يتعلم ذلك من معلم.
وختمت القصتان بإعلان مبادئ :
أولها - أن ثواب الآخرة يكون للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا.
وثانيها - أن الإيمان باللّه وباليوم الآخر هو طريق السعادة الموجب لمضاعفة الحسنات ومقابلة السيئات بجزاء واحد ، وتحقيق النصر لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على أعدائه ، وعودته إلى مكة فاتحا بعد تهجيره منها.
وثالثها - بيان نهاية العالم كله وهي الهلاك الشامل ، وانفراد اللّه تعالى بالبقاء والدوام ، والحكم والحساب ، ورجوع البشر كافة إليه : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ، لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ونحوها : كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن 55/ 25 - 26]. (1)
هذه السورة مكية على الأصح ، ولذا تراها تعلم المسلمين وقت أن كانوا يسامون الخسف والعذاب من المشركين : أن النصر من عند اللّه ، وأن الأمن في جوار اللّه ، وأن الكفار مهما كانوا على جانب من
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (20 / 51) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (20 / 30)(1/814)
القوة والجاه والعلم والمال فمآلهم الخسف من اللّه والإبادة ولذلك ضرب مثلا لهذا بفرعون ذي البطش وبقارون ذي العلم وكيف كان مآلهما .. ووسط ذلك ساق البراهين المادية على قدرته وصدق رسله. مع ذكر بعض المواقف يوم القيامة. (1)
وجه مناسبتها لما قبلها اشتمالها على شرح بعض ما أجمل فيه من أمر موسى عليه السلام.
قال الجلال السيوطي : إنه سبحانه لما حكى في الشعراء قول فرعون لموسى عليه السلام : أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ [الشعراء : 18 ، 19] إلى قول موسى عليه السلام : فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء : 21].
ثم حكى سبحانه في طس قول موسى عليه السلام لأهله إِنِّي آنَسْتُ ناراً [النمل : 7] إلى آخره الذي هو في الوقوع بعد الفرار وكان الأمران على سبيل الإشارة والإجمال فبسط جل وعلا في هذه السورة ما أوجزه سبحانه في السورتين وفصل تعالى شأنه ما أجمله فيهما على حسب ترتيبهما فبدأ عز وجل بشرح تربية فرعون له مصدرا بسبب ذلك من علو فرعون وذبح أبناء بني إسرائيل الموجب لإلقاء موسى عليه السلام عند ولادته في اليم خوفا عليه من الذبح وبسط القصة في تربيته وما وقع فيها إلى كبره إلى السبب الذي من أجله قتل القبطي إلى قتل القبطي وهي الفعلة التي فعل إلى النم عليه بذلك الموجب لفراره إلى مدين إلى ما وقع له مع شعيب عليه السلام وتزوجه بابنته إلى أن سار بأهله وآنس من جانب الطور نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا إلى ما وقع له فيها من المناجاة لربه جل جلاله وبعثه تعالى إياه رسولا وما استتبع ذلك إلى آخر القصة فكانت هذه السورة شارحة لما أجمل في السورتين معا على الترتيب ، وبذلك عرف وجه الحكمة من تقديم طس على هذه وتأخيرها عن الشعراء في الذكر في المصحف وكذا في النزول فقد روي عن ابن عباس وجابر ابن زيد أن الشعراء نزلت ، ثم طس ، ثم القصص ، وأيضا قد ذكر سبحانه في السورة السابقة من توبيخ الكفرة بالسؤال يوم القيامة ما ذكر ، وذكر جل شأنه في هذه من ذلك ما هو أبسط وأكثر مما تقدم ، وأيضا ذكر عز وجل من أمر الليل والنهار هنا فوق ما ذكره سبحانه منه هناك ، وقد يقال في وجه المناسبة أيضا : إنه تعالى فصل في تلك السورة أحوال بعض المهلكين من قوم صالح وقوم لوط وأجمل هنا في قوله تعالى : وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ [القصص : 58] الآيات ، وأيضا بسط في الجملة هناك حال من جاء بالحسنة وحال من جاء بالسيئة وأوجز سبحانه هنا حيث قال تعالى : مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما
__________
(1) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (2 / 813)(1/815)
كانُوا يَعْمَلُونَ [القصص : 84] فلم يذكر عز وجل من حال الأولين أمنهم من الفزع ومن حال الآخرين كب وجوههم في النار إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمّل. (1)
* سورة القصص من السور المكية التي تهتم بجانب العقيدة (التوحيد ، والرسالة ، والبعث ) وهي تتفق في منهجها وهدفها مع سورتي (النمل ، والشعراء) كما أتفقت في جو النزول ، فهي تكمل أو تفضل ما أجمل في السورتين قبلها.
* محور السورة الكريمة يدور حول فكرة (الحق ) و(الباطل ) ومنطق الإذعان والطغيان ، وتصور قصة الصراع بين جند الرحمن ، وجند الشيطان ، وقد ساقت في سبيل ذلك قصتين : أولاهما قصة الطغيان بالحكم والسلطان ، ممثلة في قصة " فرعون " الطاغية المتجبر ، الذي أذاق بني إسرائيل سوء العذاب ، فذبح الأبناء ، واستحيا النساء ، وتكبر على الله حتى تجرأ على ادعاء الربوبية فقال [ ما علمت لكم من إله غيري ] والثانية : قصة الاستعلاء والطغيان بالثروة والمال ممثلة في (قارون ) مع قومه ، وكلا القصتين رمز إلى طغيان الإنسان في هذه الحياة ، سواء بالمال ، أو الجاه ، أو السلطان .
* ابتدأت السورة بالحديث عن طغيان فرعون ، وعلوه وفساده في الأرض ، ومنطق الطغيان في كل زمان ومكان . [ إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا . . ] الآيات
* ثم انتقلت إلى الحديث عن ولادة موسى وخوف أمه عليه من بطش فرعون ، وإلهام الله تعالى لها بإلقائه في البحر ، ليعيش معززا مكرما في حجر فرعون ، كريحانة زكية تنبت وسط الأشواك والأوحال [ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم . . ] الآيات .
* ثم تحدثت عن بلوغ (موسى) سن الرشد ، وعن قتله للقبطي ، وعن هجرته إلى أرض مدين ، وتزوجه بابنة شعيب ، وتكليف الله له بالعودة إلى مصر لدعوة فرعون الطاغية إلى الله ، وما كان من أمر موسى مع فرعون بالتفصيل إلى أن أغرقه الله في البحر ، وتحدثت عن كفار مكة ، ووقوفهم في وجه الرسالة المحمدية ، وبينت أن مسلك أهل الضلال واحد! ، ثم انتقلت إلى الحديث عن قصة قارون ، وبينت الفارق العظيم بين منطق الإيمان ، ومنطق الطغيان [ إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ه وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة . . ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة بالإرشاد إلى طريق السعادة ، وهو طريق الإيمان الذي دعا إليه الرسل الكرام [ من جاء بالحسنة فله خير منها ، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ] الآيات .
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (10 / 251)(1/816)
التسمية : سميت سورة " القصص " لأن الله تعالى ذكر فيها قصة موسى مفصلة موضحة ، من حين ولادته إلى حين رسالته ، وفيها من غرائب الأحداث العجيبة ما يتجلى فيه بوضوح ، عناية الله بأوليائه ، وخذلانه لأعدائه . (1)
مقصودها التواضع لله ، المستلزم لرد الأمر كله إليه ، الناشىء عن الإيمان بالآخرة ، الناشىء عن الإيمان بنبوة محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، الثابتة بإعجاز القرآن ، المظهر للخفايا على لسان من لم يتعلم علماً قط من أحد من الخلق ، المنتج لعلو المتصف به ، وذلك هو المأخوذ من تسميتها بالقصص الذي حكم لأجله شعيب بعلو الكليم عليهما السلام على من ناواه ، وقمعه لمن عاداه ، فكان المآل وفق ما قال ) (2)
هذه السورة مكية ، نزلت والمسلمون في مكة قلة مستضعفة ، والمشركون هم أصحاب الحول والطول والجاه والسلطان. نزلت تضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم ، نزلت تقرر أن هناك قوة واحدة في هذا الوجود ،هي قوة اللّه وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون ، هي قيمة الإيمان. فمن كانت قوة اللّه معه فلا خوف عليه ، ولو كان مجردا من كل مظاهر القوة ، ومن كانت قوة اللّه عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى ومن كانت له قيمة الإيمان فله الخير كله ، ومن فقد هذه القيمة فليس بنافعه شيء أصلا.
ومن ثم يقوم كيان السورة على قصة موسى وفرعون في البدء ، وقصة قارون مع قومه - قوم موسى - في الختام .. الأولى تعرض قوة الحكم والسلطان. قوة فرعون الطاغية المتجبر اليقظ الحذر وفي مواجهتها موسى طفلا رضيعا لا حول له ولا قوة ، ولا ملجأ له ولا وقاية. وقد علا فرعون في الأرض ، واتخذ أهلها شيعا ، واستضعف بني إسرائيل ، يذبح أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، وهو على حذر منهم ، وهو قابض على أعناقهم.
ولكن قوة فرعون وجبروته ، وحذره ويقظته ، لا تغني عنه شيئا بل لا تمكن له من موسى الطفل الصغير ، المجرد من كل قوة وحيلة ، وهو في حراسة القوة الحقيقية الوحيدة ترعاه عين العناية ، وتدفع عنه السوء ، وتعمي عنه العيون ، وتتحدى به فرعون وجنده تحديا سافرا ، فتدفع به إلى حجره ، وتدخل به عليه عرينه ، بل تقتحم به عليه قلب امرأته وهو مكتوف اليدين إزاءه ، مكفوف الأذى عنه ، يصنع بنفسه لنفسه ما يحذره ويخشاه! والقصة الثانية تعرض قيمة المال ، ومعها قيمة العلم. المال الذي يستخف القوم وقد خرج عليهم قارون في زينته ، وهم يعلمون أنه أوتي من المال ما إن مفاتحه لتعيي العصبة من الرجال
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (2 / 312)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (5 / 460)(1/817)
الأقوياء. والعلم الذي يعتز به قارون ، ويحسب أنه بسببه وعن طريقه أوتي ذلك المال. ولكن الذين أوتوا العلم الصحيح من قومه لا تستخفهم خزائنه ، ولا تستخفهم زينته بل يتطلعون إلى ثواب اللّه ، ويعلمون أنه خير وأبقى. ثم تتدخل يد اللّه فتخسف به وبداره الأرض ، لا يغني عنه ماله ولا يغني عنه علمه وتتدخل تدخلا مباشرا سافرا كما تدخلت في أمر فرعون ، فألقته في اليم هو وجنوده فكان من المغرقين.
لقد بغى فرعون على بني إسرائيل واستطال بجبروت الحكم والسلطان ولقد بغى قارون عليهم واستطال بجبروت العلم والمال. وكانت النهاية واحدة ، هذا خسف به وبداره ، وذلك أخذه اليم هو وجنوده. ولم تكن هنالك قوة تعارضها من قوى الأرض الظاهرة. إنما تدخلت يد القدرة سافرة فوضعت حدا للبغي والفساد ، حينما عجز الناس عن الوقوف للبغي والفساد.
ودلت هذه وتلك على أنه حين يتمحض الشر ويسفر الفساد ويقف الخير عاجزا والصلاح حسيرا ويخشى من الفتنة بالبأس والفتنة بالمال. عندئذ تتدخل يد القدرة سافرة متحدية ، بلا ستار من الخلق ، ولا سبب من قوى الأرض ، لتضع حد للشر والفساد (1) .
وبين القصتين يجول السياق مع المشركين جولات يبصرهم فيها بدلالة القصص - في سورة القصص - ويفتح أبصارهم على آيات اللّه المبثوثة في مشاهد الكون تارة ، وفي مصارع الغابرين تارة ، وفي مشاهد القيامة تارة ..
وكلها تؤكد العبر المستفادة من القصص ، وتساوقها وتتناسق معها وتؤكد سنة اللّه التي لا تتخلف ولا تتبدل على مدار الزمان. وقد قال المشركون لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا». فاعتذروا عن عدم اتباعهم الهدى بخوفهم من تخطف الناس لهم ، لو تحولوا عن عقائدهم القديمة التي من أجلها يخضع الناس لهم ، ويعظمون البيت الحرام ويدينون للقائمين عليه.
فساق اللّه إليهم في هذه السورة قصة موسى وفرعون ، تبين لهم أين يكون الأمن وأين تكون المخافة وتعلمهم أن الأمن إنما يكون في جوار اللّه ، ولو فقدت كل أسباب الأمن الظاهرة التي تعارف عليها
__________
(1) - سبق أن قلت في تفسير سورة طه في صفحة 2345 من الجزء السادس عشر :
إنه حين كان بنو إسرائيل يؤدون ضريبة الذل لفرعون وهو يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم لم تتدخل يد القدرة لإدارة المعركة. فهم لم يكونوا يؤدون هذه الضريبة إلا ذلا واستكانة وخوفا. فأما حين استعلن الإيمان في قلوب الذين آمنوا بموسى واستعدوا لاحتمال التعذيب ، وهم مرفوعو الرؤوس يجهرون بكلمة الإيمان في وجه فرعون دون تلجلج ، ودون تحرج ، ودون اتقاء التعذيب. فأما عند ذلك فقد تدخلت يد القدرة لإدارة المعركة ، وإعلان النصر الذي ثم قبل ذلك في الأرواح والقلوب».
والذي قلته هنا أصح ، بشهادة سياق القصة في هذه السورة. وإن كان لما قلت في سورة طه مكانه بتغيير في العبارة. فإن يد القدرة تدخلت منذ أول الأمر لإدارة المعركة. ولكن النصر النهائي لم يتم تمامه إلا بعد استعلان الإيمان في القلوب الذين آمنوا بموسى بعد رسالته ، وجهروا بكلمة الحق في وجه الطغيان العاتي المتجبر.(1/818)
الناس وأن الخوف إنما يكون في البعد عن ذلك الجوار ولو تظاهرت أسباب الأمن الظاهرة التي تعارف عليها الناس! وساق لهم قصة قارون تقرر هذه الحقيقة في صورة أخرى وتؤكدها.
وعقب على مقالتهم «أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا؟ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» .. يذكرهم بأنه هو الذي آمنهم من الخوف فهو الذي جعل لهم هذا الحرم الآمن وهو الذي يديم عليهم أمنهم ، أو يسلبهم إياه ومضى ينذرهم عاقبة البطر وعدم الشكر : «وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ».
ويخوفهم عاقبة أمرهم بعد أن أعذر إليهم وأرسل فيهم رسولا. وقد مضت سنة اللّه من قبل بإهلاك المكذبين بعد مجيء النذير : «وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ».
ثم يعرض عليهم مشهدهم يوم القيامة حين يتخلى عنهم الشركاء على رؤوس الأشهاد فيبصرهم بعذاب الآخرة بعد أن حذرهم عذاب الدنيا وبعد أن علمهم أين يكون الخوف وأين يكون الأمان.
وتنتهي السورة بوعد من اللّه لرسوله الكريم وهو مخرج من مكة مطارد من المشركين بأن الذي فرض عليه القرآن لينهض بتكاليفه ، لا بد رادّه إلى بلده ، ناصره على الشرك وأهله. وقد أنعم عليه بالرسالة ولم يكن يتطلع إليها وسينعم عليه بالنصر والعودة إلى البلد الذي أخرجه منه المشركون. سيعود آمنا ظافرا مؤيدا. وفي قصص السورة ما يضمن هذا ويؤكده. فقد عاد موسى - عليه السّلام - إلى البلد الذي خرج منه خائفا طريدا. عاد فأخرج معه بني إسرائيل واستنقذهم ، وهلك فرعون وجنوده على أيدي موسى وقومه الناجين ..ويختم هذا الوعد ويختم السورة معه بالإيقاع الأخير :«وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ، لَهُ الْحُكْمُ ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».
هذا هو موضوع السورة وجوها وظلالها العامة ، فلنأخذ في تفصيل أشواطها الأربعة : قصة موسى. والتعقيب عليها. وقصة قارون. وهذا الوعد الأخير .. (1)
خلاصة ما تحويه السورة الكريمة من الأغراض
(1) استعلاء فرعون وإفساده فى الأرض.
(2) استضعافه بنى إسرائيل وقتله أبناءهم واستبقاؤه نساءهم.
(3) منته تعالى على بنى إسرائيل بإنقاذهم من بأس فرعون وجعلهم أئمة فى أمر الدين والدنيا ووراثتهم أرض الشام.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2673)(1/819)
(4) إغراق فرعون وجنوده.
(5) إلقاء موسى فى اليمّ ، والتقاط آل فرعون له ، ثم رده إلى أمه.
(6) قتل موسى للقبطى ، ثم هربه إلى أرض مدين ، وتزوجه ببنت كاهنها ، وبقاؤه بها عشر سنين.
(7) عودة موسى إلى مصر ، ومناجاته ربه.
(8) معجزات موسى من العصا واليد البيضاء.
(9) طلبه من ربه أن يرسل معه أخاه هرون ليكون له وزيرا وإجابته إلى ذلك.
(10) تبليغه رسالة ربه إلى فرعون ، وتكذيب فرعون له ، واستكباره فى الأرض بغير الحق.
(11) إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بإخباره عن قصص الماضين ، دون أن يكون حاضرا معهم ، ولا أن يتعلم ذلك من معلم.
(12) إنكار قريش لنبوته ، بعد أن جاءهم بالحق من ربهم ، وقولهم : إن ما جاء به سحر مفترى.
(13) إيمان أهل الكتاب بالقرآن وإعطاؤهم أجرهم مرتين.
(14) إثبات أن الهداية بيد اللّه ، لا بيد رسوله ، فلا يمكنه أن يهدى من يحب.
(15) معاذير قريش فى عدم إيمانهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ثم دحضها.
(16) بيان أن اللّه لا يعذب أمة إلا إذا أرسل إليهم رسولا ، حتى لا يكون لهم حجة على اللّه.
(17) نداء المشركين على رءوس الأشهاد ، وأمرهم بإحضار شركائهم ونداؤهم ، ليسألهم عما أجابوا به الرسل ، فلم يستطيعوا لذلك ردا.
(18) بيان أن اختيار الرسل للّه ، لا للمشركين ، فهو الذي يصطفى من يشاء لرسالته.
(19) التذكير بنعمته على عباده باختلاف الليل والنهار.
(20) شهادة الأنبياء على أممهم.
(21) ذكر قارون وبغيه فى الأرض ، ثم خسف الأرض به.
(22) بيان أن ثواب الآخرة لا يكون إلا لمن لا يريد العلو فى الأرض ولا الفساد فيها.
(23) مضاعفة اللّه للحسنات ، وجزاء السيئة بمثلها.
(24) الإنباء بالغيب عن نصر اللّه لرسوله ، وفتحه لمكة.
(25) بيان أن كل ما فى الوجود فهو هالك ، إلا اللّه تبارك وتعالى. (1)
================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (20 / 99)(1/820)
(29) سورة العنكبوت
اشتهرت هذه السورة بسورة العنكبوت من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رواه عكرمة قال: كان المشركون إذا سمعوا تسمية سورة العنكبوت يستهزئون بهما، أي بهذه الإضافة فنزل قوله تعالى {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} يعني المستهزئين بهذا ومثله وقد تقدم الإلماع إلى ذلك عند قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} في [سورة البقرة: 26].
ووجه إطلاق هذا الاسم على هذه السورة أنها اختصت بذكر مثل العنكبوت في قوله تعالى فيها {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} .
وهي مكية كلها في قول الجمهور، ومدنية كلها في أحد قولي ابن عباس وقتادة، وقيل بعضها مدني. روى الطبري والواحدي في أسباب النزول عن الشعبي أن الآيتين الأوليين منها أي إلى قوله {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} نزلتا بعد الهجرة في أناس من أهل مكة اسلموا فكتب إليهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة أن لا يقبل منهم إسلام حتى يهاجروا إلى المدينة فخرجوا مهاجرين فاتبعهم المشركون فردوهم.
وروى الطبري عن عكرمة عن ابن عباس أن قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} إلى قوله {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} نزلت في قوم بمكة وذكر قريبا مما روى عن الشعبي.
وفي أسباب النزول للواحدي: عن مقاتل نزلت الآيتان الأوليان في مهجع مولى عمر بن الخطاب خرج في جيش المسلمين إلى بدر فرماه عامر بن الحضرمي من المشركين بسهم فقتله فجزع عليه أبوه وامرأته فأنزل الله هاتين الآيتين. وعن علي ابن أبي طالب أن السورة كلها نزلت بين مكة والمدينة. وقيل: إن آية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت: 10] نزلت في ناس من ضعفة المسلمين بمكة كانوا إذا مسهم أذى من الكفار وافقوهم في باطن الأمر وأظهروا للمسلمين أنهم لم يزالوا على إسلامهم كما سيأتي عند تفسيرها.
وقال في الإتقان: ويضم إلى ما استثني من المكي فيها قوله تعالى {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} [العنكبوت: 60] لما أخرجه ابن أبي حاتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المؤمنين الذين كانوا بمكة بالمهاجرة إلى المدينة فقالوا كيف نقدم بلدا ليست لنا فيه معيشة فنزلت {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} [العنكبوت: 60].
وقيل هذه السورة آخر ما نزل بمكة وهو يناكد بظاهره جعلهم هذه السورة نازلة قبل سورة المطففين. وسورة المطففين آخر السور المكية. ويمكن الجمع بأن ابتداء نزول سورة العنكبوت قبل ابتداء نزول سورة(1/821)
المطففين ثم نزلت سورة المطففين كلها في المدة التي كانت تنزل فيها سورة العنكبوت ثم تم بعد ذلك جميع هذه السورة.
وهذه السورة هي السورة الخامسة والثمانون في ترتيب نزول سور القرآن نزلت بعد سورة الروم وقبل سورة المطففين، وسيأتي عند ذكر سورة الروم ما يقتضي أن العنكبوت نزلت في أواخر سنة إحدى قبل الهجرة فتكون من أخريات السور المكية بحيث لم ينزل بعدها بمكة إلا سورة المطففين.
وآياتها تسع وستون باتفاق أصحاب العدد من أهل الأمصار.
أغراض هذه السورة
افتتاح هذه السورة بالحروف المقطعة يؤذن بأن من أغراضها تحدي المشركين بالإتيان بمثل سورة منه كما بينا في سورة البقرة، وجدال المشركين في أن القرآن نزل من عند الله هو الأصل فيما حدث بين المسلمين والمشركين من الأحداث المعبر عنها بالفتنة في قوله هنا {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]. فتعين أن أول أغراض هذه السورة تثبيت المسلمين الذين فتنهم المشركون وصدوهم عن الإسلام أو عن الهجرة مع من هاجروا.
ووعد الله بنصر المؤمنين وخذل أهل الشرك وأنصارهم وملقنهم من أهل الكتاب.
والأمر بمجافاة المشركين والابتعاد منهم ولو كانوا اقرب القرابة.
ووجوب صبر المؤمنين على أذى المشركين وأن لهم في سعة الأرض ما ينجيهم من أذى أهل الشرك.
ومجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن ما عدا الظالمين منهم للمسلمين.
وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالثبات على إبلاغ القرآن وشرائع الإسلام.
والتأسي في ذلك بأحوال الأمم التي جاءتها الرسل، وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - جاء بمثل ما جاءوا به.
وما تخلل أخبار من ذكر فيها من الرسل من العبر.
والاستدلال على أن القرآن منزل من عند الله بدليل أمية من أنزل عليه - صلى الله عليه وسلم - .
وتذكير المشركين بنعم الله عليهم ليقلعوا عن عبادة ما سواه.
وإلزامهم بإثبات وحدانيته بأنهم يعترفون بأنه خالق من في السماوات ومن في الأرض.
والاستدلال على البعث بالنظر في بدء الخلق وهو أعجب من إعادته.
وإثبات الجزاء على الأعمال.
وتوعد المشركين بالعذاب الذي يأتيهم بغتة وهم يتهكمون باستعجاله.(1/822)
وضرب المثل لاتخاذ المشركين أولياء من دون الله بمثل وهي بيت العنكبوت. (1)
مناسبتها لما قبلها
كان ختام سورة القصص دعوة إلى النبيّ الكريم ، وإلى المؤمنين جميعا ، أن يكون ولاؤهم كلّه للّه ، ولدين اللّه ، وأن يكون ما بينهم وبين أهليهم وذوى قرابتهم ، من وراء هذا ، وأنه لا بأس إذا قطع الإنسان ، رحمه ، وعادى أهله في سبيل دينه ، إذا كان في صلة الرحم ، وموادّة الأهل ، ما يجور على الدين. وقد كان ..ثم كان بدء سورة « العنكبوت » إعلانا صريحا للمؤمنين ، بما انطوى عليه ختام سورة « القصص » وهو أن الإيمان له تبعاته وأعباؤه التي يجب أن يتحملها المؤمنون في رضا ، وأن يتقبلوها في صبر واحتساب لما وعدهم به اللّه سبحانه وتعالى ، من ثواب عظيم ، وأجر كريم.فالمؤمن في وجه فتن كثيرة ، ترد عليه من أكثر من جهة .. من نزعات نفسه ، ومن وساوس شياطين الإنس والجنّ ، ومن دفاع عن دين اللّه ، الذي يكيد له الكائدون ، ويبغى عليه الباغون .. كما سنرى ذلك في شرح الآيات التي بدئت بها هذه السورة. (2)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة العنكبوت هي السورة التاسعة والعشرون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها بعد سورة الروم ، أى : أنها من أواخر السور المكية في النزول ، إذ أن ترتيبها في النزول الثالثة والثمانون من بين السور المكية ، ولم ينزل بعدها قبل الهجرة سوى سورة المطففين وعدد آياتها تسع وستون آية.
2 - وجمهور العلماء على أنها مكية ، ومنهم من يرى أن فيها آيات مدنية.
قال الآلوسى : عن ابن عباس أنها مكية وذهب إلى ذلك - أيضا - الحسن وجابر وعكرمة. وعن بعضهم أنها آخر ما نزل بمكة ... وقال يحيى بن سلام : هي مكية ، إلا من أولها إلى قوله - تعالى - : وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ ... .
والذي تطمئن إليه النفس أن سورة العنكبوت كلها مكية ، وليس هناك روايات يعتمد عليها في كون بعض آياتها مدنية.
3 - وقد افتتحت سورة العنكبوت ببعض الحروف المقطعة الم ، ثم تحدثت عن تكاليف الإيمان ، وأنه يستلزم الامتحان والاختبار ، ليميز اللّه الخبيث من الطيب ، وعن الحسنة التي أعدها - سبحانه - لعباده المؤمنين الصادقين. قال - تعالى - : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (20 / 126)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (10 / 399)(1/823)
4 - ثم حكت جانبا من أقوال المشركين ، ومن دعاواهم الكاذبة ، وردت عليهم بما يبطل أقوالهم ، وبما يزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم ...قال - تعالى - : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ ، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ.
5 - ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك ، إلى الحديث عن قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم ، فأشارت إلى قصة نوح مع قومه ، ثم ذكرت بشيء من التفصيل جانبا من قصة إبراهيم مع قومه ، ومن قصة لوط مع قومه ، وأتبعت ذلك بإشارات مركزة تتعلق بقصة شعيب وهود وصالح وموسى مع أقوامهم ...
ثم اختتمت هذه القصص ببيان العاقبة السيئة التي صار إليها المكذبون لرسلهم ، فقال - تعالى - : فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ، وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
6 - ثم ضربت السورة الكريمة مثلا لحال الذين أشركوا مع اللّه - تعالى - آلهة أخرى في العبادة ، فشبهت ما هم عليه من كفر وشرك - في ضعفه وهوانه وهلهلته - ببيت العنكبوت ، وأمرت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، أن يزدادوا ثباتا على ثباتهم ، وأن يستعينوا على ذلك ، بتلاوة القرآن الكريم ، وبإقامة الصلاة ، وبالإكثار من ذكر اللّه - تعالى - .قال - سبحانه - : اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ ، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ.
7 - ثم أمرت السورة الكريمة المؤمنين بأن يجادلوا أهل الكتاب بالتي هي أحسن ، إلا الذين ظلموا منهم ، وأرشدتهم إلى ما يقولونه لهم ، ومدحت من يستحق المدح منهم ، وذمت من يستحق الذم ، وأقامت الأدلة الساطعة على أن هذا القرآن من عند اللّه - تعالى - .
قال - سبحانه - : وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ، فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ ، وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ.
8 - ثم وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين ، حضهم فيه على الهجرة من أرض الكفر إلى دار الإيمان ، ورغبهم في ذلك بوسائل ، منها : إخبارهم بأن الآجال بيد اللّه - تعالى - وحده ، وكذلك الأرزاق بيده وحده ، وأن من استجاب لما أمره اللّه - تعالى - به ، أعطاه - سبحانه - الكثير من خيره وفضله.قال - تعالى - يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ، ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ.(1/824)
9 - ثم ساق - سبحانه - في أواخر السورة ، ألوانا من تناقضات المشركين ، حيث إنهم إذا سألهم سائل عمن خلق السموات والأرض ... قالوا : اللّه - تعالى - هو الذي خلقهما ، ومع ذلك فهم يشركون معه في العبادة آلهة أخرى ، وإذا أحاط بهم الموج وهم في السفن ...
دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ ، وهم يعيشون في حرم آمن ، والناس يتخطفون من حولهم .. ومع ذلك فهم بالباطل يؤمنون وبنعمة اللّه يكفرون.
هذا شأنهم ، أما المؤمنون الصادقون فقد وعدهم اللّه - تعالى - بما يقر أعينهم فقال في ختام السورة : وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ.
10 - وهكذا نرى هذه السورة الكريمة ، وقد حدثتنا - من بين ما حدثتنا - عن الإيمان وتكاليفه ، وعن سنن اللّه في خلقه ، وعن قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم ، وعن هوان الشرك والشركاء ، وعما يعين المؤمن على طاعة اللّه ، وعن علاقة المؤمنين بغيرهم ، وعن البراهين الساطعة الناطقة بأن هذا القرآن من عند اللّه ، وعن أن المؤمن لا يليق به أن يقيم في مكان لا يستطيع فيه أن يؤدى شعائر دينه ، وعن سوء عاقبة الأشرار ، وحسن عاقبة الأخبار ... (1)
في السورة تنبيه على أن المؤمنين معرضون للامتحان الذي يظهر به صدق إيمانهم. وصورة لبعض ضعفاء الإيمان وتنديد بهم. وتقرير بأن واجب الطاعة للوالدين والإحسان إليهما قاصر على غير الشرك. وحكاية لبعض أساليب الإغراء والدعاية التي كان يعمد إليها زعماء الكفار لصدّ المسلمين وردّهم. وسلسلة قصصية احتوت أخبار نوح وإبراهيم ولوط وشعيب وأممهم. وإشارات إلى مواقف عاد وثمود وفرعون. وصور العذاب الذي حاق بالمكذبين. وعناية اللّه بالأنبياء والمؤمنين في معرض التنديد والتذكير والتطمين معا. وحكاية لمواقف جدل ومناظرة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - والكفار وأهل الكتاب في صدد القرآن. وحثّ للمسلمين على الصبر والثبات على الحقّ والهجرة في سبيل اللّه والاعتماد عليه. وتنديد بالمشركين لما يبدو منهم من تناقض في عقائدهم باللّه ومواقفهم من الدعوة إليه.
وأكثر فصول السورة منسجمة مع بعضها بقوة. وباقيها ليس منقطعا عنها صورا وموضوعا. ولهذا نرجّح أنها نزلت متتابعة بدون فاصل.
وقد روي أن الآيات [1 - 11] مدنيات وقد شكّكنا في ذلك في التعليقات التي علقناها في سياق تفسيرها. (2)
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (11 / 5)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 465)(1/825)
سورة العنكبوت مكية ، وهي تسع وستون آية.
تسميتها :
سميت سورة العنكبوت لأن اللّه تعالى شبّه الذين اتخذوا الأصنام وغيرها آلهة بالعنكبوت التي اتخذت بيتا ضعيفا واهنا ، فقال : مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً .. الآية [41].
موضوعها :
موضوع السورة كسائر السور المكية تقرير أصول العقيدة وهي الوحدانية ، والرسالة ، والبعث والجزاء ، وتثبيت الإيمان في القلوب في جميع الأحوال ، وبخاصة وقت الابتلاء والمحنة ، فافتتحت بالإخبار عن فتنة الإنسان ، وختمت بالحديث عن هداية المجاهدين نفوسهم إلى أقوم السبل ونصرة اللّه لهم.
مناسبتها لما قبلها :
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها في بيان أمثلة واقعية من الصراع بين الحق والباطل ، وبين الضعف والقهر ، وبين أثر الصمود والصبر على الإيمان وأثر الانسلاخ منه ، ففي سورة القصص ذكر اللّه تعالى استعلاء فرعون وجبروته ، وتفريقه الناس شيعا ، واستضعافه بني إسرائيل بذبح أبنائهم واستحياء نسائهم ،ونجاة موسى عليه السلام مع قومه ، ونصره على الطغاة وإغراقهم ، كما ذكر اللّه قصة قارون الباغية وعقابه بالخسف.
وفي هذه السورة ذكر اللّه قصة المسلمين في مكة الذين فتنهم المشركون عن دينهم ، وعذبوهم على الإيمان بنحو أقل من تعذيب فرعون بني إسرائيل ، حثا لهم على قوة التحمل والصبر ، وتسلية لهم بما وقع لمن قبلهم ، ثم ذكر نجاة نوح عليه السلام في سفينته مع جند الإيمان ، وإغراق قومه الذين كذبوه.
كما أن بين السورتين تشابها في الإشارة إلى موضوع الهجرة ، ففي خاتمة القصص الإشارة إلى هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ وفي خاتمة هذه السورة الإشارة إلى هجرة المؤمنين : يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
[56].
وكذلك يوجد ارتباط بين السورتين في تحديد الغاية والغرض ، ففي سورة القصص بيان العاقبة المحمودة للمتقين المتواضعين : تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [83] وفي هذه السورة تقرير العاقبة الحسنة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها ، نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [58].(1/826)
ثم إنه تعالى لما قال في آخر السورة المتقدمة : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وأعقبه بما يبطل قول منكري الحشر : لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ رد في مطلع هذه السورة على منكري الحشر القائلين : لا فائدة في التكاليف إذ لا مرجع بعد الهلاك والزوال ، ومضمون الرد أن للتكليف فائدة وهي أن يثيب اللّه الشكور ويعذب الكفور.
مشتملات السورة :
اشتملت هذه السورة على ما يأتي :
1 - إعلان اختبار المؤمنين على الشدائد والمحن في الدنيا ، وبيان فائدة جهاد النفس ، ومعرفة مدى صلابة الإيمان وقت الشدة ، فالمؤمن هو المجاهد الصابر الذي لا يلين أمام الأحداث الجسام ، ويظل ثابت العهد كالطود الشامخ دون أن يتزحزح عن إيمانه وعقيدته ، وأما مهتز الإيمان أو المنافق ، فيظهر الإيمان أحيانا ، ولكنه لا يتحمل الأذى في سبيل اللّه : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : آمَنَّا بِاللَّهِ ، فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ ... وحينئذ يعلم اللّه المؤمنين علم انكشاف وإظهار كما يعلم المنافقين ، لكنه سبحانه عالم بذلك سلفا.
2 - الحديث عن محنة الأنبياء التي هي أشد وأصعب من محنة المؤمنين ، فقد قص اللّه على رسوله وعلى المؤمنين قصة نوح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب ، وهود ، وصالح ، وموسى ، وهارون ، ليعلموا أن اللّه نصرهم ، وأهلك أقوامهم :
فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا .. الآية [40].
3 - محاجة المشركين بضرب الأمثال لهم تقريعا وتوبيخا ، ومحاجة أهل الكتاب بالحسنى واللين والحكمة.
4 - إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بمعجزة إنزال القرآن عليه علما بأنه أمي لا يقرأ ولا يكتب ، وتفنيد بعض شبهات المشركين في نبوته ، واستعجالهم العذاب المحقق نزوله بهم.
5 - الإذن للمؤمنين بالهجرة من ديارهم فرارا بدينهم من الفتن ، وترغيبهم بالصبر ، وإبعاد خوف الموت عن نفوسهم فإن الموت محقق في كل مكان وزمان ، وتبشيرهم بالعاقبة الحسنة إذا عملوا الصالحات ، وزهدوا في الدنيا لأن الدار الآخرة هي دار الحياة الباقية الحقة.
6 - اعتراف المشركين بأن اللّه هو خالق السموات والأرض وأنه هو الرازق ، وأنه كاشف الضر والمنجي من المخاطر ، وذلك يتضمن الحديث عن الأدلة والبراهين على القدرة والوحدانية في هذا الكون الفسيح.(1/827)
7 - الامتنان على أهل مكة بإقامتهم في الحرم الآمن ، مع خوف من حولهم ، ثم كفرهم بهذه النعمة وغيرها بالإشراك باللّه ، وتكذيب رسوله ، وهو غاية الظلم.
8 - بيان جزاء المؤمنين الذين صبروا أمام المحن والشدائد ، وجاهدوا في سبيل اللّه بالنفس والمال ، واجتازوا المحنة بأمان وسلام. (1)
مكية كلها في قول بعضهم ، وعن ابن عباس إنها مكية إلا عشر آيات من أولها ، والظاهر أنها نزلت بين مكة والمدينة كما قال على بن أبى طالب ... وهي تسع وستون آية. وعلى العموم فإنها تدور حول بيان حقيقة الإيمان ، وما يصادف المؤمنين من فتن تصهرهم وتقوى روحهم ومع ذلك فالنصر للإيمان ، وقد جاء القصص مؤيدا لذلك مع ضرب المثل لقوة الكفار وآلهتهم ، ونتيجة الجهاد في سبيل اللّه. (2)
وجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى أخبر في أول السورة السابقة عن فرعون أنه عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ [القصص : 4] وافتتح هذه بذكر المؤمنين الذين فتنهم الكفار وعذبوهم على الإيمان بعذاب دون ما عذب به فرعون بني إسرائيل بكثير تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم وحثا على الصبر ، ولذا قيل هنا : وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت : 3] وأيضا لما كان في خاتمة الأولى الإشارة إلى هجرة النبي صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم أي في قوله تعالى : إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص : 85] على بعض الأقوال ، وفي خاتمة هذه الإشارة إلى هجرة المؤمنين بقوله تعالى : يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ [العنكبوت : 56] ناسب تتاليهما. (3)
* سورة العنكبوت مكية ، وموضوعها : العقيدة في أصولها الكبرى (الوحدانية ، الرسالة ، البعث والجزاء) ومحور السورة الكريمة يدور حول الإيمان و " سنة الابتلاء " في هذه الحياة ، لأن المسلمين في مكة كانوا في أقصى أنواع المحنة والشدة ، ولهذا جاء الحديث عن موضوع الفتنة والابتلاء في هذه السورة مطولا مفصلا ، وبوجه خاص عند ذكر قصص الأنبياء ، والمرسلين ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
* تبتدىء السورة الكريمة بهذا البدء الصريح [ آلم . أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ] ؟ وتمضي السورة تتحدث عن فريق من الناس يحسبون الإيمان كلمة تقال باللسان ، فإذا نزلت بهم المحنة والشدة ، انتكسوا إلى جحيم الضلال ، وارتدوا عن الإسلام تخلصا من عذاب الدنيا ، كأن
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (20 / 181) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (20 / 101)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (2 / 854)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (10 / 337)(1/828)
عذاب الآخرة أهون من عذاب الدنيا [ ومن الناس من يقول آمنا بالله ، فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله . . ] الآيات .
* وتتحدث عن " محنة الأنبياء! وما لاقوه من شدائد وأهوال في سبيل تبليغ رسالة الله ، بدءا بقصة (نوح ، ثم إبراهيم ، ثم لوط ، ثم شعيب ) ، وتتحدث عن بعض الأمم الطغاة المتجبرين ، كعاد ، وثمود ، وقارون ، وهامان وغيرهم وتذكر ما حل بهم من الهلاك والدمار [ فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ] الآيات .
* وفي قصص الأنبياء دروس من المحن والابتلاء ، تتمثل في ضخامة الجهد وضالة الحصيلة ، فهذا نوح عليه السلام يمكث في قومه تسعمائة وخمسين سنة ، يدعوهم إلى الله فما يؤمن معه إلا قليل [ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون ] وهذا أبو الأنبياء إبراهيم الخليل يحاول هداية قومه بكل وسيلة ، ويجادلهم بالحجة والبرهان ، فما تكون النتيجة إلا العلو والطغيان [ قالوا اقتلوه او حرقوه فأنجاه الله من النار . . ] الآيا ت . " وفي قصة لوط يظهر التبجح بالرذيلة دون خجل أو حياء [ ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ] الآيات وبعد ذلك الاستعراض السريع لمحنة الأنبياء ، تمضي السورة الكريمة تبين صدق رسالة محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) فهو رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب ، ثم جاءهم بهذا الكتاب المعجز ، وهذا من أعظم البراهين على أنه كلام رب العالمين [ وما كنت تملو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ] وتنتقل السورة للحديث عن الأدلة والبراهين على (القدرة والوحدانية) في هذا الكون الفسيح
* ثم تختم ببيان جزاء الذين صبروا أمام المحن والشدائد ، وجاهدوا بأنواع الجهاد النفسي والمالي ، ووقفوا في وجه المحنة والابتلاء [ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ، وإن الله لمع المحسنين ] وهو جزاء كريم ، يناسب جهد التضحية والبذل ، في سبيل نصرة الحق والدين !
التسمية :
سميت " سورة العنكبوت " لأن الله ضرب العنكبوت فيها مثلا للأصنام المنحوتة ، والآلهة المزعومة [ مثل الذين اتخدوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا . . ] الآيات . (1)
مقصودها الحث على الاجتهاد في الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والدعاء إلى الله تعالى وحمده من غير فترة ، كما ختمت به السورة الماضية ، من غير تعريج على غيره سبحانه أصلاً ، لئلايكون مَثَلُ
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (2 / 331)(1/829)
الفرج عند المتعوض عوضاً منه مَثَلَ العنكبوت ، فهي سورة ضعف الكافرين وقوة المؤمنين ، وقد ظهر سر تسميتها بالعنكبوت وأنه دال على مقصودها . (1)
سورة العنكبوت مكية. وقد ذكرت بعض الروايات أن الإحدى عشرة آية الأولى مدنية. وذلك لذكر «الجهاد» فيها وذكر «المنافقين» .. ولكننا نرجح أن السورة كلها مكية. وقد ورد في سبب نزول الآية الثامنة أنها نزلت في إسلام سعد بن أبي وقاص كما سيجيء. وإسلام سعد كان في مكة بلا جدال. وهذه الآية ضمن الآيات الإحدى عشرة التي قيل إنها مدنية. لذلك نرجح مكية الآيات كلها. أما تفسير ذكر الجهاد فيها فيسير.
لأنها واردة بصدد الجهاد ضد الفتنة. أي جهاد النفس لتصبر ولا تفتن. وهذا واضح في السياق. وكذلك ذكر النفاق فقد جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس.
والسورة كلها متماسكة في خط واحد منذ البدء إلى الختام.
إنها تبدأ بعد الحروف المقطعة بالحديث عن الإيمان والفتنة وعن تكاليف الإيمان الحقة التي تكشف عن معدنه في النفوس. فليس الإيمان كلمة تقال باللسان ، إنما هو الصبر على المكاره والتكاليف في طريق هذه الكلمة المحفوفة بالمكاره والتكاليف.
ويكاد هذا أن يكون محور السورة وموضوعها فإن سياقها يمضي بعد ذلك المطلع يستعرض قصص نوح وإبراهيم ولوط وشعيب ، وقصص عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان ، استعراضا سريعا يصور ألوانا من العقبات والفتن في طريق الدعوة إلى الإيمان. على امتداد الأجيال.
ثم يعقب على هذا القصص وما تكشف فيه من قوى مرصودة في وجه الحق والهدى ، بالتصغير من قيمة هذه القوى والتهوين من شأنها ، وقد أخذها اللّه جميعا :
«فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا» ..
ويضرب لهذه القوى كلها مثلا مصورا يجسم وهاهنا وتفاهتها : «مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ».
ويربط بعد ذلك بين الحق الذي في تلك الدعوات والحق الذي في خلق السماوات والأرض ثم يوحد بين تلك الدعوات جميعا ودعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فكلها من عند اللّه. وكلها دعوة واحدة إلى اللّه. ومن ثم يمضي في الحديث عن الكتاب الأخير وعن استقبال المشركين له وهم يطلبون الخوارق غير مكتفين بهذا
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (5 / 533)(1/830)
الكتاب وما فيه من رحمة وذكرى لقوم يؤمنون. ويستعجلون بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين. ويتناقضون في منطقهم : «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ... لَيَقُولُنَّ اللَّهُ!» .. «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ!» .. «فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» .. ولكنهم مع هذا كله يشركون باللّه ويفتنون المؤمنين.
وفي ثنايا هذا الجدل يدعو المؤمنين إلى الهجرة فرارا بدينهم من الفتنة ، غير خائفين من الموت ، إذ «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ». غير خائفين من فوات الرزق : «وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ» ..
ويختم السورة بتمجيد المجاهدين في اللّه وطمأنتهم على الهدى وتثبيتهم : «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» .. فيلتئم الختام مع المطلع وتتضح حكمة السياق في السورة ، وتماسك حلقاتها بين المطلع والختام ، حول محورها الأول وموضوعها الأصيل.
ويمضي سياق السورة حول ذلك المحور الواحد في ثلاثة أشواط :
الشوط الأول يتناول حقيقة الإيمان ، وسنة الابتلاء والفتنة ، ومصير المؤمنين والمنافقين والكافرين. ثم فردية التبعة فلا يحمل أحد عن أحد شيئا يوم القيامة : «وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ» ..
والشوط الثاني يتناول القصص الذي أشرنا إليه ، وما يصوره من فتن وعقبات في طريق الدعوات والدعاة ، والتهوين من شأنها في النهاية حين تقاس إلى قوة اللّه. ويتحدث عن الحق الكامن في دعوة الرسل ، وهو ذاته الحق الكامن في خلق السماوات والأرض. وكله من عند اللّه.
والشوط الثالث يتناول النهي عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى. إلا الذين ظلموا منهم. وعن وحدة الدين كله ، واتحاده مع هذا الدين الأخير الذي يجحد به الكافرون ، ويجادل فيه المشركون. ويختم بالتثبيت والبشرى والطمأنينة للمجاهدين في اللّه المهديين إلى سبل اللّه : «وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» ..
ويتخلل السورة من المطلع إلى الختام إيقاعات قوية عميقة حول معنى الإيمان وحقيقته. تهز الوجدان هزا.
وتقفه أمام تكاليف الإيمان وقفة جد صارم فإما النهوض بها وإما النكوص عنها. وإلا فهو النفاق الذي يفضحه اللّه.
وهي إيقاعات لا سبيل إلى تصويرها بغير النصوص القرآنية التي وردت فيها. فنكتفي بالإشارة إليها هنا حتى نستعرضها في موضعها مع السياق. (1)
مشتملات هذه السورة الكريمة
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2718)(1/831)
(1) اختبار المؤمنين ليعلم صدقهم فى إيمانهم.
(2) فى الجهاد فائدة للمجاهد ، واللّه غنىّ عن ذلك.
(3) الحسنات يكفّرن السيئات.
(4) الأمر بالإحسان إلى الوالدين وبرهما مع عدم طاعتهما فى الإشراك باللّه.
(5) حال المنافق الذي يظهر الإيمان ولا يحتمل الأذى فى سبيل اللّه.
(6) حال الكافرين الذين يضلون غيرهم ، ويقولون للمؤمنين : نحن نحمل خطاياكم إن كنتم ضالين.
(7) قصص الأنبياء : كنوح وإبراهيم ولوط وشعيب وصالح وموسى وهرون ، وبيان ما آل إليه أمر الأنبياء من النصر ، وأمر أممهم من الهلاك بضروب مختلفة من العقاب.
(8) حجاج المشركين بضرب الأمثال لهم مما فيه تقريعهم وتأنيهم.
(9) حجاج أهل الكتاب ، والنهى عن جدلهم بالفظاظة والغلظة.
(10) إثبات النبوة ببيان صدق معجزته - صلى الله عليه وسلم - .
(11) ذكر بعض شبههم فى نبوته ، والرد على ذلك.
(12) استعجالهم بالعذاب تهكما.
(13) أمر المؤمنين بالفرار بدينهم من أرض يخافون فيها الفتنة.
(14) العاقبة الحسنى للذين يعملون الصالحات.
(15) اعترافهم بأن الخالق الرازق هو اللّه.
(16) بيان أن الدار الآخرة هى دار الحياة الحقة.
(17) امتنانه على قريش بسكناهم البيت الحرام ، ثم كفرانهم بهذه النعمة بإشراكهم به سواه. (1)
================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (21 / 26)(1/832)
(30) سورة الروم
هذه السورة تسمى سورة الروم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كما في حديث الترمذي عن ابن عباس ونيار بن مكرم الأسلمي، وسيأتي قريبا في تفسير الآية الأولى من السورة.
ووجه ذلك أنه ورد فيها ذكر اسم الروم ولم يرد في غيرها من القرآن.
وهي مكية كلها بالاتفاق، حكاه ابن عطية والقرطبي، ولم يذكرها صاحب "الإتقان" في السور المختلف في مكيتها ولا في بعض آيها. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري: أن هذه السورة نزلت يوم بدر فتكون عنده مدنية. قال أبو سعيد: لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين وفرحوا بذلك فنزلت {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} إلى قوله: {بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 1- 5] وكان يقرؤها {غُلِبَتِ} بفتح اللام، وهذا قول لم يتابعه أحد، وأنه قرأ {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3] بالبناء للنائب، ونسب مثل هذه القراءة إلى علي وابن عباس وابن عمر. وتأولها أبو السعود في "تفسيره" آخذاً من "الكشاف" بأنها إشارة إلى غلب المسلمين على الروم. قال أبو السعود: وغلبهم المسلمون في غزوة مؤتة سنة تسع. وعن ابن عباس كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان. وعن الحسن البصري أن قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17] الآية مدنية بناء على أن تلك الآية تشير إلى الصلوات الخمس وهو يرى أن الصلوات الخمس فرضت بالمدينة وأن الذي كان فرضا قبل الهجرة هو ركعتان في أي وقت تيسر للمسلم. وهذا مبني على شذوذ.
وهي السورة الرابعة والثمانون في تعداد نزول السور، نزلت بعد سورة الانشقاق وقبل سورة العنكبوت. وقد روي عن قتادة وغيره أن غلب الروم على الفرس كان في عام بيعة الرضوان، ولذلك استفاضت الروايات وكان بعد قتل أبي بن خلف يوم أحد.
واتفقت الروايات على أن غلب الروم للفرس وقع بعد مضي سبع سنين من غلب الفرس على الروم الذي نزلت عنده هذه السورة. ومن قال: إن ذلك كان بعد تسع سنين بتقديم التاء المثناة فقد حمل على التصحيف كما رواه القرطبي عن القشيري يقتضي أن نزول سورة الروم كان في إحدى عشرة قبل الهجرة لأن بيعة الرضوان كانت في سنة ست بعد الهجرة. وعن أبي سعيد الخذري أن انتصار الروم على فارس يوافق يومه يوم بدر.
وعدد آيها في عد أهل المدينة وأهل مكة تسع وخمسون. وفي عدد أهل الشام والبصرة والكوفة ستون. وسبب نزولها ما رواه الترمذي عن ابن عباس والواحدي وغير واحد: أنه لما تحارب الفرس والروم الحرب(1/833)
التي سنذكرها عند قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} [الروم: 2، 3] وتغلب الفرس على الروم كان المشركون من أهل مكة فرحين بغلب الفرس على الروم لأن الفرس كانوا مشركين ولم يكونوا أهل كتاب فكان حالهم أقرب إلى حال قريش ولأن عرب الحجاز والعراق كانوا من أنصار الفرس وكان عرب الشام من أنصار الروم فأظهرت قريش التطاول على المسلمين بذلك فأنزل الله هذه السورة مقتا لهم وإبطالا لتطاولهم بأن الله سينصر الروم على الفرس بعد سنين. فلذلك لما نزلت الآيات الأولى من هذه السورة خرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 4], وراهن أبو بكر المشركين على ذلك كما سيأتي.
أغراض هذه السورة
أول أغراض هذه السورة سبب نزولها على ما سر المشركين من تغلب الفرس على الروم، فقمع الله تعالى تطاول المشركين به وتحداهم بأن العاقبة للروم في الغلب على الفرس بعد سنين قليلة.
ثم تطرق من ذلك إلى تجهيل المشركين بأنهم لا تغوص أفهامهم في الاعتبار بالأحداث ولا في أسباب نهوض وانحدار الأمم من الجانب الرباني، ومن ذلك إهمالهم النظر في الحياة الثانية ولم يتعظوا بهلاك الأمم السالفة المماثلة لهم في الإشراك بالله، وانتقل من ذلك إلى ذكر البعث. واستدل لذلك ولوحدانيته تعالى بدلائل من آيات الله في تكوين نظام العالم ونظام حياة الإنسان. ثم حض النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين على التمسك بهذا الدين وأثنى عليه. ونظر بين الفضائل التي يدعو إليها الإسلام وبين حال المشركين ورذائلهم، وضرب أمثالا لإحياء مختلف الأموات بعد زوال الحياة عنها ولإحياء الأمم بعد يأس الناس منها، وأمثالا لحدوث القوة بعد الضعف وبعكس ذلك. وختم ذلك بالعود إلى إثبات البعث ثم بتثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ووعده بالنصر.
ومن أعظم ما اشتملت عليه التصريح بأن الإسلام دين فطر الله الناس عليه وأن من ابتغى غيره دينا فقد حاول تبديل ما خلق الله وأنى له ذلك. (1)
مناسبتها لما قبلها
حملت سورة « العنكبوت » ـ التي سبقت هذه السورة ـ دعوة للمسلمين إلى أن يوطّنوا أنفسهم على ما يلقاهم من بلاء وفتن على طريق الإيمان ، وآذنتهم بأنهم مبتلون بكثير من الشدائد والمحن ، وأن فيما يبتلؤن به ، الهجرة ، وفراق الأهل والديار ... تم كان ختامها هذا الوعد الذي تلقّوه من اللّه سبحانه وتعالى ، بأن اللّه سيهديهم السبيل المستقيم ، سبيل اللّه ، وأنه معهم ، يمدّهم بأمداد نصره وتأييده.
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (21 / 5)(1/834)
ثم تجىء بعد هذا سورة « الروم » هذه ، فتعرض مشهدا من الواقع ، ونخبر عن حدث مشهود ، يراه المسلمون والمشركون ، يومئذ ، وهو تلك الحرب التي وقعت بين الروم والفرس ، والتي انتصر فيها الفرس ، وهم عبدة أوثان ، على الروم وهم أهل كتاب ، كان ذلك ، والحرب على أشدّها بين المشركين والمسلمين فى مكة ، وقد كانت الدولة للمشركين ، حيث كانوا هم الكثرة ، وأصحاب القوة والجاه ، على حين كان المسلمون قلّة قليلة ، أغلبها من المستضعفين ، من الإماء والعبيد ، وكان أقوى المسلمين قوة ، وأعزّهم نفرا ، من يستطيع أن يفلت من يد القوم ، ويخرج فارّا بدينه ، تاركا كل شىء وراءه!!
فى هذا الوقت جاءت الأنباء إلى أهل مكة تحدّث بتلك الحرب الدائرة بين الفرس والروم ، وبأن الغلبة كانت للفرس ، وكان لذلك فرحة فى نفوس المشركين ، لم يستطيعوا أن يمسكوا بها فى كيانهم ، بل انطلقوا يردّدونها فيما بينهم ، ويديرون أحاديثها على أسماع المسلمين ، استهزاء وسخرية وشماتة ، إذ كان المسلمون يمثلون الروم ، الذين يؤمنون بكتاب سماوى ، على حين كان المشركون يمثلون الفرس ، عبدة النار .. وأما وقد غلب عبدة النار أهل الكتاب ، فإن عبدة الأصنام المشركين ستكون لهم الغلبة دائما على الذين اتبعوا محمدا ، وآمنوا بالكتاب الذي معه ، وأن ما يعدهم به الكتاب الذي فى أيديهم من نصر وعزّة ، ليس إلا خداعا ووهما كاذبا ، وأن فيما وقع بين الفرس والروم ، وما كان من انتصار الفرس على الروم لهو شاهد بيّن ، لا تدفع شهادته ... وإذن فإن ما يدّعى بأنه كتب سماوية من عند اللّه ـ قديما وحديثا ـ هو مجرد كذب وافتراء .. إذ لو كانت هذه الكتب من عند اللّه لما خذل أتباعها أبدا ... وإلا فأين اللّه وقد خذل أتباع كتبه ؟ هكذا كان تفكير المشركين وتقديرهم.
وقد وجد المسلمون فى أنفسهم شيئا من الأسى لتلك الهزيمة التي حلّت بالروم ، ثم ضاعف ذلك الأسى ، وزاد فى مرارته ما كان يلقاهم به المشركون من كلمات ساخرة ، ونظرات شامتة .. ذلك والمسلمون قد كانت تنزف جراحاتهم دما ، من طعنات المشركين لهم ، فى أجسامهم ، ومشاعرهم ...على السواء.
وفى كل موقف يشتد فيه البلاء على المؤمنين ، وتضيق فيه عليهم الأرض بما رحبت ، تطلع عليهم آية من آيات اللّه ، فتمسك بسفينتهم المضطربة ، وتنتزعها من يد العاصفة المجنونة المشتملة عليها ، وإذا الأمن والسلامة يحفّان بهم ، وإذا هم وقد ظفروا ، وغنموا ، وانقلبوا بنعمة من اللّه وفضل ، لم يمسسهم سوء!!
ومن هذه الآيات الأولى التي تنزلت بها سورة « الرّوم » وجد المسلمون ربح رحمة اللّه ، فى هذا الوعد الكريم ، وفى تلك البشرى المسعدة التي ساقنها إليهم بين يديها.
وحفّا قد غلبت الرّوم فى هذه المعركة ، وليس بالمستبعد أن يغلب المؤمنون فى معركة أو أكثر من معاركهم مع المشركين ، ولكن العاقبة أبدا للمؤمنين .. ولقد غلبت الروم فى هذه المعركة ، ولكن الصراع لم ينته بعد.(1/835)
فهناك معركة غير منظورة ، يعلمها اللّه ، وستقع بعد بضع سنين ، وفيها يكون النصر للروم ، وبهذا النصر يحسم الأمر بينهم وبين الفرس ، فلن تقوم للفرس قائمة بعد هذا اليوم ، بل ولن تكون لهم دولة ، حيث يستولى المسلمون على هذه الدولة ، وتصبح بعضا من دولة الإسلام. (1)
مقدمة وتمهيد
1 - سورة الروم هي السورة الثلاثون في ترتيب المصحف أما ترتيبها في النزول فهي السورة الثانية والثمانون ، وقد كان نزولها بعد سورة الانشقاق.
2 - وقد افتتحت بالحديث عن قصة معينة ، وهي قصة الحروب التي دارت بين الفرس والروم ، والتي انتهت في أول الأمر بانتصار الفرس ، ثم كان النصر بعد ذلك للروم.
قال - تعالى - : الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ ، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
3 - ثم وبخت السورة الكريمة الكافرين ، لعدم تفكرهم في أحوال أنفسهم ، وفي أحوال السابقين الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا ، وتوعدتهم بسوء المصير بسبب انطماس بصائرهم ، وإعراضهم عن دعوة الحق ، ووعدت المؤمنين بحسن الجزاء.قال - تعالى - : وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ ، فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ.
4 - ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك اثنى عشر دليلا على وحدانية اللّه - تعالى - وقدرته ، وقد بدئت هذه الأدلة بقوله - تعالى - : وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ، وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ. وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ.
5 - وبعد أن أقام - سبحانه - هذه الأدلة المتعددة على وحدانيته وقدرته ، أتبع ذلك بأن أمر الناس باتباع الدين الحق ، وبالإنابة إليه - تعالى - فقال : فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (11 / 472)(1/836)
6 - ثم بين - سبحانه - أحوال الناس في السراء والضراء ، ودعاهم إلى التعاطف والتراحم ، ونفرهم من تعاطى الربا ، فقال - تعالى - : فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ، ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ ، وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ.
7 - ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ألوانا من نعمه على عباده ، وبين الآثار السيئة التي تترتب على جحود هذه النعم ، ودعا الناس للمرة الثانية إلى اتباع الدين القيم ، الذي لا يقبل اللّه - تعالى - دينا سواه ، فقال - تعالى - : فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ. مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ، وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ.
8 - ثم عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن نعمة اللّه في الرياح وفي إرسال الرسل ، وأمر كل عاقل أن يتأمل في آثار هذه النعم ، ليزداد إيمانا على إيمانه ، فقال - تعالى - فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
9 - ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ببيان أهوال الساعة ، وحكى أقوال أهل العلم والإيمان ، في ردهم على المجرمين عند ما يقسمون أنهم ما لبثوا في هذه الدنيا سوى ساعة واحدة ، وأمر - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يصبر على أذى أعدائه ، فقال - تعالى - : فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ، وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ.
10 - وهكذا نجد أن سورة « الروم » قد أفاضت في الحديث عن الأدلة المتعددة ، التي تشهد بوحدانية اللّه - تعالى - وقدرته ، كما تشهد بأن هذا القرآن من عند اللّه ، وبأن يوم القيامة حق وصدق ، كما ساقت آيات متعددة في المقارنة بين مصير الأخيار ، ومصير الأشرار ، ودعت الناس إلى الثبات على الدين الحق ، وهو دين الإسلام ، كما حضت على التعاطف والتراحم بين المسلمين ، ونهت عن تعاطى الربا ، لأنه لا يربو عند اللّه - تعالى - ، وإنما الذي يعطى من صدقات هو الذي يربو عند اللّه - عز وجل - كما ذكرت أنواعا من النعم التي أنعم اللّه - تعالى - بها على عباده ، وأمرتهم بشكره - سبحانه - عليها ، لكي يزيدهم من فضله.
هذه أهم المقاصد التي اشتملت عليها السورة الكريمة ، وهناك مقاصد أخرى يراها من يتدبر هذه السورة الكريمة (1)
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (11 / 61)(1/837)
في السورة إشارة إلى ما كان من انكسار الروم في بلاد الشام وما سوف يكون لهم من غلبة يفرح بها المؤمنون. وتنديد بالكفار لغفلتهم عن الآخرة واستغراقهم في الدنيا وتذكير بمن قبلهم. وتوكيد بمجيء الآخرة. وبيان لمصير المؤمنين والكفار فيها. وتنزيه للّه عن الشركاء. وسلسلة رائعة في مشاهد قدرة اللّه وآياته ونواميسه في كونه في صدد البرهنة على عظمته وقدرته. وإشارة إلى طبائع الناس في الجزع عند الشدة والبطر عند الفرح دون شكر ولا صبر ، وتقرير لما يجب على المؤمنين في هذه الحالات. وتثبيت للنبي وتطمين له ووعد متكرر بالنصر وتوكيد بتحقيق الوعد.
وفصول السورة مترابطة مما يبرر القول إنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة.
وقد روي أن الآية [17] مدنية. وانسجامها التّام موضوعا وسياقا مع ما قبلها وما بعدها يبرر الشكّ في الرواية. (1)
سورة الروم مكية ، وهي ستون آية.
تسميتها :
سميت سورة الروم لافتتاحها بخبر غلبة الروم ، والإخبار عن نصرهم بعدئذ في بضع سنين ، وتلك إحدى معجزات القرآن العظيم بالإخبار عن المغيبات في المستقبل ووقوع الشيء كما أخبر به.
موضوعها :
هو موضوع سائر السور المكية التي تبحث في أصول العقيدة الإسلامية وهي التوحيد وصفات اللّه تعالى ، والإيمان بالرسالة النبوية ، وبالبعث والجزاء في الآخرة.
مناسبتها لما قبلها :
تتشابه سورة الروم وسورة العنكبوت التي قبلها في المطلع ، فإن كلا منهما افتتح ب الم غير مقرون بذكر التنزيل والكتاب والقرآن ، على خلاف القاعدة الخاصة في المفتتح بالحروف المقطعة ، فإنها كلها قرنت بذلك إلا هاتين السورتين وسورة القلم. وقد ذكر في أول هذه السورة ما هو معجزة وهو الإخبار عن الغيب ، فقدمت هذه الحروف الهجائية لتنبيه السامع والإقبال بقلبه وعقله وروحه على الاستماع.
وهناك تشابه آخر بين السورتين من وجوه ثلاثة :
الأول - إن السورة السابقة بدئت بالجهاد وختمت به : وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وبدئت هذه السورة بوعد المؤمنين بالغلبة والنصر ، وهم يجاهدون في سبيل اللّه تعالى.
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 428)(1/838)
الثاني - إن الاستدلال في هذه السورة على أصول الاعتقاد وأهمها التوحيد جاء مفصلا للمجمل في السورة السابقة مثل قوله تعالى : أَوَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [19] فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [20].
الثالث - ترتب على التفرقة بين المشركين وأهل الكتاب في السورة المتقدمة أن أبغض المشركون أهل الكتاب ، وتركوا مراجعتهم في الأمور ، وكانوا من قبل يراجعونهم في الأمور ، وسبب البغضاء أن المشركين في جدالهم نسبوا إلى عدم العقل : بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [63] وطلب مجادلة أهل الكتاب بالحسنى وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [46] وكان أهل الكتاب يوافقون النبي في الإله ، كما قال تعالى : وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ [46].
فلما غلب أهل الكتاب حين قاتلهم الفرس المجوس ، فرح المشركون بذلك ، فأنزل اللّه تعالى أوائل سورة الروم لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق ، وإنما قد يريد اللّه تعالى مزيد ثواب في المحب ، فيبتليه ويسلط عليه الأعادي ، وقد يختار للمعادي تعجيل العذاب الأدنى ، دون العذاب الأكبر يوم القيامة.
مشتملات السورة :
افتتحت السورة بإثبات النبوة بالإخبار بالغيب ، وهو انتصار الروم على الفرس في حرب تقع بينهما في غضون بضع سنوات (من 3 - 9 سنوات) ووقع الخبر كما أخبر القرآن ، وتلك معجزة القرآن تثبت صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتتضمن البشارة بنصر جند الرحمن على حزب الشيطان.
ثم ذكرت أدلة الوحدانية وعظمة القدرة الإلهية بالتأمل في صفحة الكون والنظر في خلق السموات والأرض ، والاعتبار بمأساة المكذبين الغابرين وعاقبتهم السيئة ، وأردف بعدها أدلة البعث ، والأمر بعبادة اللّه وحده ، وذلك مقتضى الفطرة التي فطر الناس عليها.
ونوقش فيها المشركون وضربت لهم الأمثال في أن الشركاء ضعفاء عاجزون لا يملكون لأنفسهم يوم القيامة نفعا ، ولا يتمكنون دفع الضر عن أحد ، ولا يستطيعون خلق شيء وإيجاده ولا إمداد أحد بالرزق. وكشف القرآن حقيقة حال المشركين كما ذكر في السورة المتقدمة وهي لجوءهم إلى اللّه وقت الضر ، وإشراكهم به وقت الرخاء ، وأميط اللثام عن طبيعة الإنسان وهي الفرح بالنعمة ، والقنوط حين الشدة إلا من آمن وعمل صالحا.
ونهى اللّه تعالى عن اتباع المشركين وغيرهم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ، ثم أمر تعالى بالتصدق على ذوي القربى والمساكين وابن السبيل ، واجتناب أكل الربا ، وتنمية المال بوجوه الحلال وتطهيره بالزكاة.
ثم قارنت السورة بين مصير المؤمنين في روضات الجنان فضلا من اللّه تعالى ، ومصير الكافرين في نيران الجحيم جزاء أعمالهم وكفرهم ، وحينئذ تظهر فائدة الإيمان والخير ، وظلام الكفر والشر.(1/839)
وأعقب ذلك إيراد بعض الأدلة الكونية الناطقة بقدرة اللّه والدالة على وحدانيته من إرسال الرياح مبشرات بالرحمة ، وتسيير السفن في البحار ، وتمكين المسافرين من التجارة وابتغاء فضل اللّه في أقطار الأرض ، والدلائل الملحوظة في الأنفس من خلق ثم رزق ، ثم إماتة ، ثم إحياء.
وختمت السورة بتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن إعراض قومه عن الإيمان برسالته بأنهم أغلقوا منافذ الهداية ، وعطلوا طاقات الفكر والعقل عن النظر في وسائل الوصول إلى الإيمان باللّه ، فهم صمّ عمي لا يسمعون ولا يبصرون ، وأنهم مهما رأوا من الآيات ، وشاهدوا من البراهين والمعجزات ، لن يؤمنوا بسبب العناد ، والتشبث بمواقع الكفر ، والحفاظ على مراكز الزعامة والنفوذ بين العرب.
وهذا يقتضي الصبر على أذى المشركين حتى يأتي النصر ، ومتابعة القيام بواجب تبليغ الرسالة ، فإنه قد يهتدي بعضهم أو غيرهم ، وسيكون النصر في جانب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والخذلان لمن كذب به ، ولن يؤثر في مسيرة دعوته كفر الذين لا يوقنون بالبعث بعد الممات. (1)
مكية ، وعدد آياتها ستون آية : وهي تدور حول إثبات أن الأمر للّه من قبل ومن بعد ، مع ذكر بعض صفات اللّه الواجبة له ، وتهديد المشركين ، وبيان أن الإسلام دين الفطرة ، وبيان طبيعة الإنسان ، ويلاحظ فيها ذكر الآيات الكونية الدالة على العلم والقدرة والوحدانية كثيرا. (2)
وجه اتصالها بالسورة السابقة على ما قاله الجلال السيوطي أنها ختمت بقوله تعالى : وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت : 69] وافتتحت هذه بوعد من غلب من أهل الكتاب بالغلبة والنصر وفرح المؤمنين بذلك وأن الدولة لأهل الجهاد فيه ولا يضرهم ما وقع لهم قبل ذلك من هزيمة ، هذا مع تواخيها لما قبلها في الافتتاح - بالم - ولا يخفى أن قتال أهل الكتاب ليس من المجاهدة في اللّه عزّ وجلّ وبذلك تضعف المناسبة ، ومن وقف على أخبار سبب النزول ظهر له أن ما افتتحت به هذه السورة متضمنا نصرة المؤمنين بدفع شماتة أعدائهم المشركين وهم لم يزالوا مجاهدين في اللّه تعالى ولأجله ولوجهه عزّ وجلّ ولا يضر عدم جهادهم بالسيف عند النزول ، وهذا في المناسبة أوجه فيما أرى من الوجه الذي ذكره الجلال فتأمل. (3)
سورة الروم مكية ، وأهدافها نفس أهداف السورة المكية ، التي تعالج قضايا العقيدة الإسلامية ، في إظارها العام وميدانها الفسيح " الإيمان بالوحدانية ، وبالرسالة ، وبالبعث والجزاء " .
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (21 / 42) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (21 / 27)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 13)
(3) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (11 / 18)(1/840)
* ابتدأت السورة الكريمة بالتنبؤ عن حدث غيبي هام ، أخبر عنه القرآن الكريم قبل حدوثه ، ألا وهو انتصار الروم على الفرس ، في الحرب التي ستقع قريبا بينهما ، وقد حدث كما أخبر عنه القرآن ، وبذلك تحققت النبوءة ، وذلك من أظهر الدلائل على صدق محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) فيما جاء به من الوحي ، ومن أعظم معجزات القرآن [ الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ] الآيات .
* ثم تحدثت السورة عن حقيقة المعركة بين حزب الرحمن ، وحزب الشيطان ، وأنها معركة قديمة قدم هذه الحياة ، فالحرب لا تهدأ ما دام هناك حق وباطل ، وخير وشر ، وما دام الشيطان يحشد أعوانه وأنصاره لإطفأء نور الله ، ومحاربة دعوة الرسل الكرام ، وقد ساقت الآيات دلائل وشواهد على انتصار الحق على الباطل ، في شتى العصور والدهور ، وتلك هي سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا [ ويوم تقوم الساعة يبلس المجرهون ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين ] الآيات
* ثم تناولت السورة الحديث عن القيامة وأهوالها وعن المصير المشنوم لأهل الكفر والضلال في ذلك اليوم العصيب ، حيث يكون المؤمنون في روضات يحبرون ، ويكون المجرمون في العذاب محضرين ، وتلك نهاية المطاف للأبرار والفجار ، والعاقبة الموكدة للمحسنين والمجرمين [ ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفزقون . فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم فى روضة يحبرون . وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون ] الآيات .
* وتناولت السورة بعد ذلك بعض المشاهد الكونية ، والدلائل الغيبية ، الناطقة بقدرة الله ووحدانيته ، لإقامة البرهان على عظمة الواحد الديان ، الذي تخضع له الرقاب ، وتعنو له الوجوه ، وضربت بعض الأمثلة للتفريق والتمييز بين من يعبد الرحمن ، وبين من يعبد الأوثان [ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون . وله الحمد فى السموات وفى الأرض وعشيا وحين يظهرون ] الآيات .
* وختمت السورة بالحديث عن كفار قريش ، إذ لم تنفعهم الآيات والنذر ومهما رأوا من الآيات الباهرة ، والبراهين الساطعة ، لا يعتبرون ولا يتعظون ، لأنهم كالموتى لا يسمعون ولا يبصرون ، وكل ذلك بقصد التسلية لرسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) لحينه عما يلقاه من أذى المشركين ، والصبر حتى يأتي النصر .
التسمية :
سميت بسورة الروم " لذكر تلك المعجزة الباهرة ، التي تدل على صدق أنباء القرآن العظيم [ ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ] وتلك هي بعض معجزات القرآن . (1)
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 3)(1/841)
مقصودها إثبات الأمر كله ، فتأتي الوحدانية والقدرة على كل شيء ، فيأتي البعث ونصر أوليائه ، وخذلان أعدائه ، وهذا هو المقصود بالذات ، واسم السورة واضح الدلالة عليه بما كان من السبب في نصر الروم من الوعد الصادق والسر المكتوم (1)
نزلت الآيات الأولى من هذه السورة بمناسبة معينة. ذلك حين غلبت فارس على الروم فيما كانت تضع يدها من جزيرة العرب. وكان ذلك في إبان احتدام الجدل حول العقيدة بين المسلمين السابقين إلى الإسلام في مكة قبل الهجرة والمشركين .. ولما كان الروم في ذلك الوقت أهل كتاب دينهم النصرانية ، وكان الفرس غير موحدين ديانتهم المجوسية ، فقد وجد المشركون من أهل مكة في الحادث فرصة لاستعلاء عقيدة الشرك على عقيدة التوحيد ، وفألا بانتصار ملة الكفر على ملة الإيمان.
ومن ثم نزلت الآيات الأولى من هذه السورة تبشر بغلبة أهل الكتاب من الروم في بضع سنين غلبة يفرح لها المؤمنون ، الذين يودون انتصار ملة الإيمان من كل دين.
ولكن القرآن لم يقف بالمسلمين وخصومهم عند هذا الوعد ، ولا في حدود ذلك الحادث. إنما كانت هذه مناسبة لينطلق بهم إلى آفاق أبعد وآماد أوسع من ذلك الحادث الموقوت. وليصلهم بالكون كله ، وليربط بين سنة اللّه في نصر العقيدة السماوية والحق الكبير الذي قامت عليه السماوات والأرض وما بينهما. وليصل بين ماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها. ثم يستطرد بها إلى الحياة الأخرى بعد هذه الحياة الدنيا ، وإلى العالم الآخر بعد عالم الأرض المحدود. ثم يطوف بهم في مشاهد الكون ، وفي أغوار النفس ، وفي أحوال البشر ، وفي عجائب الفطر .. فإذا هم في ذلك المحيط الهائل الضخم الرحيب يطلعون على آفاق من المعرفة ترفع حياتهم وتطلقها ، وتوسع آمادها وأهدافها ، وتخرجهم من تلك العزلة الضيقة. عزلة المكان والزمان والحادث.
إلى فسحة الكون كله : ماضيه وحاضره ومستقبله ، وإلى نواميس الكون وسننه وروابطه.
ومن ثم يرتفع تصورهم لحقيقة الارتباطات وحقيقة العلاقات في هذا الكون الكبير. ويشعرون بضخامة النواميس التي تحكم هذا الكون ، وتحكم فطرة البشر ودقة السنن التي تصرف حياة الناس وأحداث الحياة ، وتحدد مواضع النصر ومواضع الهزيمة وعدالة الموازين التي تقدر بها أعمال الخلق ، ويقوّم بها نشاطهم في هذه الأرض ، ويلقون على أساسها الجزاء في الدنيا والآخرة.
وفي ظل ذلك التصور المرتفع الواسع الشامل تتكشف عالمية هذه الدعوة وارتباطها بأوضاع العالم كله من حولها - حتى وهي ناشئة في مكة محصورة بين شعابها وجبالها - ويتسع مجالها فلا تعود مرتبطة بهذه
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (5 / 582)(1/842)
الأرض وحدها إنما هي مرتبطة كذلك بفطرة هذا الكون ونواميسه الكبرى ، وفطرة النفس البشرية وأطوارها ، وماضي هذه البشرية ومستقبلها. لا على هذه الأرض وحدها ، ولكن كذلك في العالم الآخر الوثيق الصلة بها والارتباط.
وكذلك يرتبط قلب المسلم بتلك الآفاق والآماد ويتكيف على ضوئها شعوره وتصوره للحياة والقيم ويتطلع إلى السماء والآخرة ويتلفت حواليه على العجائب والأسرار ، وخلفه وقدامه على الحوادث والمصائر.
ويدرك موقفه هو وموقف أمته في ذلك الخضم الهائل ويعرف قيمته هو وقيمة عقيدته في حساب الناس وحساب اللّه ، فيؤدي حينئذ دوره على بصيرة ، وينهض بتكاليفه في ثقة وطمأنينة واهتمام.
ويمضي سياق السورة في عرض تلك الارتباطات ، وتحقيق دلالاتها في نظام الكون ، وتثبيت مدلولاتها في القلوب .. يمضي سياق السورة في شوطين مترابطين :
في الشوط الأول يربط بين نصر المؤمنين والحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض وما بينهما ، ويرتبط به أمر الدنيا والآخرة. ويوجه قلوبهم إلى سنة اللّه فيمن مضى قبلهم من القرون. ويقيس عليها قضية البعث والإعادة. ومن ثم يعرض عليهم مشهدا من مشاهد القيامة وما يجري فيه للمؤمنين والكافرين. ثم يعود من هذه الجولة إلى مشاهد الكون ، وآيات اللّه المبثوثة في ثناياه ودلالة تلك المشاهد وإيحائها للقلوب. ويضرب لهم من أنفسهم ومما ملكت أيمانهم مثلا يكشف عن سخافة فكرة الشرك ، وقيامها على الأهواء التي لا تستند إلى حق أو علم .. وينهي هذا الشوط بتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى اتباع طريق الحق الواحد الثابت الواضح. طريق الفطرة التي فطر الناس عليها والتي لا تتبدل ولا تدور مع الهوى ولا يتفرق متبعوها فرقا وشيعا ، كما تفرق الذين اتبعوا الهوى.
وفي الشوط الثاني يكشف عما في طبيعة الناس من تقلب لا يصلح أن تقام عليه الحياة. ما لم يرتبطوا بمعيار ثابت لا يدور مع الأهواء ، ويصور حالهم في الرحمة والضر ، وعند بسط الرزق وقبضه. ويستطرد بهذه المناسبة إلى وسائل إنفاق هذا الرزق وتنميته. ويعود إلى قضية الشرك والشركاء فيعرضها من هذه الزاوية فإذا هم لا يرزقون ولا يميتون ولا يحيون. ويربط بين ظهور الفساد في البر والبحر وعمل الناس وكسبهم ويوجههم إلى السير في الأرض ، والنظر في عواقب المشركين من قبل. ومن ثم يوجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الاستقامة على دين الفطرة ، من قبل أن يأتي اليوم الذي يجزى فيه كل بما كسبت يداه. ويعود بهم بعد ذلك إلى آيات اللّه في مشاهد الكون كما عاد بهم في الشوط الأول. ويعقب عليها بأن الهدى هدى اللّه وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يملك إلا البلاغ ، فهو لا يهدي العمي ولا يسمع الصم. ثم يطوف بهم في جولة جديدة في ذات أنفسهم ويذكرهم بأطوار نشأتهم من بدئها إلى منتهاها ، منذ الطفولة الواهنة الضعيفة إلى(1/843)
الموت والبعث والقيامة ، ويعرض عليهم مشهدا من مشاهدها. ثم ينهي هذا الشوط ويختم معه السورة بتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبر على دعوته ، وما يلقاه من الناس فيها والاطمئنان إلى أن وعد اللّه حق لا بد آت فلا يقلقه ولا يستخفه الذين لا يوقنون.
وجو السورة وسياقها معا يتعاونان في تصوير موضوعها الرئيسي. وهو الكشف عن الارتباطات الوثيقة بين أحوال الناس ، وأحداث الحياة ، وماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها ، وسنن الكون ونواميس الوجود.
وفي ظلال هذه الارتباطات يبدو أن كل حركة وكل نأمة ، وكل حادث وكل حالة ، وكل نشأة وكل عاقبة ، وكل نصر وكل هزيمة .. كلها مرتبطة برباط وثيق ، محكومة بقانون دقيق. وأن مرد الأمر فيها كله للّه : «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ». وهذه هي الحقيقة الأولى التي يؤكدها القرآن كله ، بوصفها الحقيقة الموجهة في هذه العقيدة. الحقيقة التي تنشأ عنها جميع التصورات والمشاعر والقيم والتقديرات والتي بدونها لا يستقيم تصور ولا تقدير .. (1)
خلاصة ما احتوت عليه السورة الكريمة من الموضوعات
(1) إثبات النبوة بالإخبار بالغيب.
(2) البراهين الدالة على الوحدانية.
(3) الاعتبار بما حدث للمكذبين من قبلهم.
(4) الأدلة التي فى الآفاق شاهدة على وحدانية اللّه وعظيم قدرته.
(5) الأدلة على صحة البعث.
(6) ضرب الأمثال على أن الشركاء لا يجدونهم فتيلا ولا قطميرا يوم القيامة.
(7) الأمر بعبادة اللّه وحده وهى الفطرة التي فطر الناس عليها.
(8) النهى عن اتباع المشركين الذين فرقوا دينهم بحسب أهوائهم.
(9) من طبيعة المشرك الإنابة إلى اللّه إذا مسه الضر ، والإشراك به حين الرخاء.
(10) من دأب الناس الفرح بالنعمة والقنوط حين الشدة. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
(11) الأمر بالتصدق على ذوى القربى والمساكين وابن السبيل.
(12) الدلائل التي وضعها سبحانه فى الأنفس شاهدة على وحدانيته.
(13) للخير والشر فائدة تعود إلى المرء يوم تجزى كل نفس بما كسبت.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2754)(1/844)
(14) فى النظر فى آثار المكذبين عبرة لمن اعتبر.
(15) تسلية الرسول على عدم إيمان قومه بأنهم صم عمى لا يسمعون ولا يبصرون.
(16) بيان أن الكافرين يكذبون فى الآخرة كما كانوا يكذبون فى الدنيا.
(17) الإرشاد إلى أن الرسول قد بلغ الغاية فى الإعذار والإنذار ، وأن قومه قد بلغوا الغاية فى التكذيب والإنكار.
(18) أمره - صلى الله عليه وسلم - بإدامة التبليغ مهما لاقى من الأذى ، فإن العاقبة والنصر له ، والخذلان لمن كذب به. (1)
=================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (21 / 71)(1/845)
(31) سورة لقمان
سميت هذه السورة بإضافتها إلى لقمان لأن فيها ذكر لقمان وحكمته وجملا من حكمته التي أدب بها ابنه. وليس لها اسم غير هذا الاسم، وبهذا الاسم عرفت بين القراء والمفسرين. ولم أقف على تصريح به فيما يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسند مقبول.
وروى البيهقي في "دلائل النبوة" عن ابن عباس: أنزلت سورة لقمان بمكة.
وهي مكية كلها عند ابن عباس في أشهر قوليه وعليه إطلاق جمهور المفسرين وعن ابن عباس من رواية النحاس استثناء ثلاث آيات من قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} إلى قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [لقمان: 27- 29]. وعن قتادة إلا آيتين إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان: 28] وفي "تفسير الكواشي" حكاية قول إنها مكية عدا آية نزلت بالمدينة وهي {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان: 4]قائلا لأن الصلاة والزكاة فرضت بالمدينة. ورده البيضاوي على تسليم ذلك بأن فرضها بالمدينة لا ينافي تشريعها بمكة على غير إيجاب. والمحقوق يمنعون أن تكون الصلاة والزكاة فرضتا بالمدينة، فأما الصلاة فلا ريب في أنها فرضت على الجملة بمكة، وأما الزكاة ففرضت بمكة دون تعيين أنصباء ومقادير، ثم عينت الأنصباء والمقادير بالمدينة. ويتحصل من هذا أن القائل بأن آية {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} إلى آخرها نزلت بالمدينة قاله من قبل رأيه وليس له سند يعتمد كما يؤذن به قوله لأن الصلاة والزكاة الخ. ثم هو يقتضي أن يكون صدر سورة النازل بمكة {هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان: 3] {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [لقمان: 5] الخ ثم ألحق به {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان: 4].
وأما القول باستثناء آيتين وثلاث فمستند إلى ما رواه ابن جرير عن قتادة وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} [لقمان: 27] إلى آخر الآيتين أو الثلاث نزلت بسبب مجادلة كانت من اليهود أن أحبارهم قالوا: يا محمد أرأيت قوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء: 85] إيانا تريد أم قومك? فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كلا أردت. قالوا: ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شئ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنها في علم الله قليل، فأنزل الله عليه {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} الآيات. وذلك مروي بأسانيد ضعيفة وعلى تسليمها فقد أجيب بأن اليهود جادلوا في ذلك ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة بأن لقنوا ذلك وفدا من قريش إليهم إلى المدينة، وهذا أقرب للتوفيق بين الأقوال. وهذه الروايات وإن كانت غير ثابتة بسند صحيح إلا أن مثل هذا يكتفي فيه(1/846)
بالمقبول في الجملة. قال أبو حيان: سبب نزول هذه السورة أن قريشا سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قصة لقمان مع ابنه، أي سألوه سؤال تعنت واختبار. وهذا الذي ذكره أبو حيان يؤيد تصدير السورة بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6].
وهذه السورة هي السابعة والخمسون في تعداد نزول السور، نزلت بعد سورة الصافات وقبل سورة سبأ. وعدت آياتها ثلاثا وثلاثين في عد أهل المدينة ومكة، وأربعا وثلاثين في عد أهل الشام والبصرة والكوفة.
أغراض هذه السورة
الأغراض التي اشتملت عليها هذه السورة تتصل بسبب نزولها الذي تقدم ذكره أن المشركين سألوا عن قصة لقمان وابنه، وإذا جمعنا بين هذا وبين ما سيأتي عند قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] من أن المراد به النضر بن الحارث إذ كان يسافر إلى بلاد الفرس فيقتني كتب اسفنديار ورستم وبهرام، وكان يقرؤها على قريش ويقول: يخبركم محمد عن عاد وثمود وأحثكم أنا عن رستم واسفنديار وبهرام، فصدرت هذه السورة بالتنويه بهدى القرآن ليعلم الناس أنه لا يشتمل إلا على ما فيه هدى وإرشاد للخير ومثل الكمال النفساني، فلا التفات فيه إلى أخبار الجبابرة وأهل الضلال إلا في مقام التحذير مما هم فيه ومن عواقبه، فكان صدر هذه السورة تمهيدا لقصة لقمان، وقد تقدم الإلماع إلى هذا في قوله تعالى في أول سورة يوسف [3] {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} ، ونبهت عليه في المقدمة السابعة بهذا التفسير. وانتقل من ذلك إلى تسفيه النضر بن الحارث وقصصه الباطلة.
وابتدئ ذكر لقمان بالتنويه بأن آتاه الله الحكمة وأمره بشكر النعمة. وأطيل الكلام في وصايا لقمان وما اشتملت عليه: من التحذير من الإشراك، ومن الأمر ببر الوالدين، ومن مراقبة الله لأنه عليم بخفيات الأمور، وإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر، والتحذير من الكبر والعجب، والأمر بالاتسام بسمات المتواضعين في المشي والكلام.
وسلكت السورة أفانين ذات مناسبات لما تضمنته وصية لقان لابنه، وأدمج في ذلك تذكير المشركين بدلائل وحدانية الله تعالى وبنعمه عليهم وكيف أعرضوا عن هديه وتمسكوا بما ألفوا عليه آباءهم.
وذكرت مزية دين الإسلام. وتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتمسك المسلمين بالعروة الوثقى، وأنه لا يحزنه كفر من كفروا.
وانتظم في هذه السورة الرد على المعارضين للقرآن في قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} {لقمان: 27] وما بعدها. وختمت بالتحذير من دعوة الشيطان والتنبيه إلى بطلان ادعاء علم الغيب. (1)
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (21 / 86)(1/847)
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة الروم ، بقوله تعالى : « فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ».. وفي هذا الختام ـ كما أشرنا إلى ذلك من قبل ـ دعوة للنبىّ ، وللمؤمنين معه إلى الصبر على المكاره ، واحتمال الشدائد ، على طريق لإيمان ، وذلك بما يمتلىء به القلب من إيمان باللّه ، ومن يقين راسخ في لقاء ما وعد اللّه النبىّ والمؤمنين من نصر وإعزاز وتمكين ، وأنهم إذا كانوا على يقين من الفوز والرضوان في الآخرة ، فليكونوا على هذا اليقين من النصر والتمكين في الدنيا ، وأنه إذا طال انتظارهم لما وعدوا به في الدنيا ، فهو ـ على أي حال ـ أقرب مما وعدوا به في الآخرة .. فليصبروا إذن ، حتى يلقوا ما وعدهم للّه به في الدنيا ، ليزداد يقينهم بما وعدهم اللّه به فى الآخرة.هذا ، هو ما ختمت به سورة « الروم » ، وهو يلتقى لقاء تامّا بما بدئت به سورة لقمان .. وهوقوله تعالى : «الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »..وذلك على ما نرى عند تفسير هذه الآيات. (1)
مقدّمة
1 - سورة لقمان هي السورة الحادية والثلاثون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فهي السورة السادسة والخمسون من بين السور المكية ، وكان نزولها بعد سورة الصافات .
وعدد آياتها : أربع وثلاثون آية. وقد ذكر الإمام ابن كثير وغيره أنها مكية ، دون أن يستثنى شيئا منها.
وقال الآلوسى ما ملخصه : أخرج ابن الضريس ، وابن مردويه ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : " وَسُورَةُ لُقْمَانَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ سِوَى ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلْنَ بِالْمَدِينَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمَدِينَةِ أَتَتْهُ أَحْبَارُ الْيَهُودِ فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ بَلَغَنَا أَنَّكَ تَقُولُ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أَفَعَنَيْتَنَا أَمْ عَنَيْتَ غَيْرَنَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " عَنَيْتُ الْجَمِيعَ " فَقَالَتْ لَهُ الْيَهُودُ : يَا مُحَمَّدُ أَوَمَا تَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - وَخَلَّفَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِينَا وَمَعَنَا ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِلْيَهُودِ : " التَّوْرَاةُ وَمَا فِيهَا مِنْ الأَنْبَاءٍ قَلِيلٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى " فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمَدِينَةِ ثَلَاثَ آيَاتٍ وَهُنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِلَى تَمَامِ الثَّلَاثِ الْآيَاتِ " قَالَ : " وَسُورَةُ الم السَّجْدَةِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ سِوَى ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلْنَ بِالْمَدِينَةِ فِي رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ شَجَرَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ أَنَا أَذْرَبُ مِنْكَ لِسَانًا وَأَحَدُّ مِنْكَ سِنَانًا وَأَرَدُّ
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (11 / 552)(1/848)
لِلْكَتِيبَةِ ، فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ : اسْكُتْ فَإِنَّكَ فَاسِقٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ إِلَى تَمَامِ الثَّلَاثِ الْآيَاتِ "
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : فِي سُورَةِ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ مَوْضِعٌ وَاحِدٌ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ " (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : " أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بِمَكَّةَ ، وَمَا أُنْزِلَ مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ ، فَكَانَتْ إِذَا نَزَلَتْ فَاتِحَةُ سُورَةٍ بِمَكَّةَ فَكُتِبَتْ بِمَكَّةَ ، ثُمَّ يَزِيدُ اللَّهُ فِيهَا مَا يَشَاءُ ، وَكَانَ أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ثُمَّ ن وَالْقَلَمِ ، ثُمَّ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ، ثُمَّ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، ثُمَّ الْفَاتِحَةَ ، ثُمَّ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ثُمَّ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ثُمَّ سَبَّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ثُمَّ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ثُمَّ وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ، ثُمَّ وَالضُّحَى ، ثُمَّ أَلَمْ نَشْرَحْ ، ثُمَّ وَالْعَصْرِ ثُمَّ وَالْعَادِيَاتِ ثُمَّ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ثُمَّ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ثُمَّ أَرَأَيْتَ الَّذِيَ يُكَذِّبُ ، ثُمَّ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ثُمَّ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ ثُمَّ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ثُمَّ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثُمَّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثُمَّ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ثُمَّ عَبَسَ وَتَوَلَّى ثُمَّ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ثُمَّ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ثُمَّ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ثُمَّ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ثُمَّ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ثُمَّ الْقَارِعَةُ ثُمَّ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ ثُمَّ وَالْمُرْسَلَاتِ ثُمَّ ق وَالْقُرْآنِ ثُمَّ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ثُمَّ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ثُمَّ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ثُمَّ ص وَالْقُرْآنِ ثُمَّ الْأَعْرَافَ ، ثُمَّ قُلْ أُوحِيَ ثُمَّ يس وَالْقُرْآنِ ثُمَّ الْفُرْقَانَ ، ثُمَّ الْمَلَائِكَةَ ، ثُمَّ كهيعص ثُمَّ طه ثُمَّ الْوَاقِعَةَ ، ثُمَّ طسم الشُّعَرَاءِ ، ثُمَّ طس النَّمْلِ ، ثُمَّ الْقَصَصَ ، ثُمَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، ثُمَّ يُونُسَ ، ثُمَّ هُودَ ، ثُمَّ يُوسُفَ ، ثُمَّ الْحِجْرَ ، ثُمَّ الْأَنْعَامَ ، ثُمَّ الصَّافَّاتِ ، ثُمَّ لُقْمَانَ ، ثُمَّ سَبَأَ ، ثُمَّ الزُّمَرَ ، ثُمَّ حم الْمُؤْمِنِ ، ثُمَّ حم السَّجْدَةِ ، ثُمَّ حم عسق ثُمَّ الزُّخْرُفَ ، ثُمَّ الدُّخَانَ ، ثُمَّ الْجَاثِيَةَ ، ثُمَّ الْأَحْقَافَ ، ثُمَّ الذَّارِيَاتِ ، ثُمَّ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ثُمَّ الْكَهْفَ ، ثُمَّ النَّحْلَ ، ثُمَّ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا ثُمَّ سُورَةَ إِبْرَاهِيمَ ، ثُمَّ الْأَنْبِيَاءَ ، ثُمَّ الْمُؤْمِنُونَ ، ثُمَّ تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ ، ثُمَّ الطُّورَ ، ثُمَّ تَبَارَكَ الْمُلْكِ ، ثُمَّ الْحَاقَّةَ ، ثُمَّ سَأَلَ سَائِلٌ ثُمَّ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ثُمَّ النَّازِعَاتِ ، ثُمَّ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ثُمَّ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ثُمَّ الرُّومَ ، ثُمَّ الْعَنْكَبُوتَ ، ثُمَّ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ . فَهَذَا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِمَكَّةَ ، وَهِيَ سِتٌّ وَثَمَانُونَ سُورَةً ، ثُمَّ أَنْزَلَ بِالْمَدِينَةِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، ثُمَّ الْأَنْفَالَ ، ثُمَّ آلَ عِمْرَانَ ، ثُمَّ الْأَحْزَابَ ، ثُمَّ الْمُمْتَحِنَةَ ، ثُمَّ النِّسَاءَ ، ثُمَّ إِذَا زُلْزِلَتِ ثُمَّ الْحَدِيدَ ، ثُمَّ سُورَةَ مُحَمَّدٍ ، ثُمَّ الرَّعْدَ ، ثُمَّ سُورَةَ الرَّحْمَنِ ، ثُمَّ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ ثُمَّ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ ثُمَّ الْحَشْرَ ، ثُمَّ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ ثُمَّ النُّورَ ، ثُمَّ الْحَجَّ ، ثُمَّ الْمُنَافِقُونَ ، ثُمَّ الْمُجَادَلَةَ ، ثُمَّ الْحُجُرَاتِ ، ثُمَّ لِمَ تُحَرِّمْ ثُمَّ الْجُمُعَةَ ، ثُمَّ التَّغَابُنَ ، ثُمَّ الْحَوَارِيُّونَ ، ثُمَّ الْفَتْحَ ، ثُمَّ الْمَائِدَةَ
__________
(1) - النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ لِلنَّحَّاسِ (425 ) ضعيف(1/849)
، ثُمَّ التَّوْبَةَ ، فَذَلِكَ ثَمَانٌ وَعِشْرُونَ سُورَةً فَجَمِيعُ الْقُرْآنِ مِائَةُ سُورَةٍ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً ، وَجَمِيعُ آيِ الْقُرْآنِ سِتَّةُ آلَافِ آيَةٍ وَسِتُّمِائَةِ آيَةٍ وَسِتُّ عَشْرَةَ آيَةً ، وَجَمْعُ حُرُوفِ الْقُرْآنِ : ثَلَاثُ مِائَةِ أَلْفِ حَرْفٍ ، وَثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفِ حَرْفٍ وَسِتُّمِائَةَ حَرْفٍ وَوَاحِدٌ وَسَبْعُونَ حَرْفًا " (1)
2 - وتبدأ السورة الكريمة ، بالثناء على القرآن الكريم ، وعلى المؤمنين الذين يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، وهم بالآخرة هم يوقنون.
ثم تنتقل إلى الحديث عن جانب من صفات المشركين ، الذين يستهزئون بآيات اللّه - تعالى - ، ويعرضون عنها ، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها ، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً ، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
ثم ساقت أدلة متعددة على وحدانية اللّه - تعالى - وقدرته ، قال - تعالى - : خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ، وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ ، وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ. هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ، بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
3 - ثم قص علينا - سبحانه - تلك الوصايا الحكيمة ، التي أوصى بها لقمان ابنه ، والتي اشتملت على ما يهدى إلى العقيدة السليمة ، وإلى الأخلاق الكريمة ، وإلى مراقبة الخالق - عز وجل - وإلى أداء العبادات التي كلفنا - سبحانه - بها.
ومن هذه الوصايا قوله - سبحانه - : يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ ، إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ. وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ، وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ، إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ.
4 - ثم بين - سبحانه - ألوانا من نعمه على عباده ، منها ما يتعلق بخلق السموات ، ومنها ما يتعلق بخلق الأرض ، كما بين - عز وجل - أن علمه محيط بكل شيء ، وأنه لا نهاية له .. قال - تعالى - : وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ، ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ.
5 - ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، بدعوة الناس جميعا إلى تقواه - عز وجل - وإلى بيان الأمور الخمسة التي لا يعلمها إلا هو - سبحانه - فقال : يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً ، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ، وَلا
__________
(1) - فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الضُّرَيْسِ (17 ) ضعيف جدا(1/850)
يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.
6 - هذا ، والمتأمل في هذه السورة الكريمة ، يراها قد خاطبت النفس البشرية ، بما من شأنه أن يسعدها ويحييها حياة طيبة.
إنها قد بينت أوصاف المؤمنين الصادقين ، وأوصاف أعدائهم : وبينت عاقبة الأخيار وعاقبة الأشرار ، ووضحت تلك الوصايا الحكيمة التي أوصى بها لقمان ابنه وأحب الناس إليه ، وساقت أنواعا من النعم التي أنعم بها - سبحانه - على عباده ، وبينت أن هناك أمورا لا يعلمها إلا اللّه - تعالى - وحده.
وقد ساقت السورة ما ساقت من هدايات ، بأسلوب بليغ مؤثر ، يرضى العواطف ، ويقنع العقول .. (1)
في السورة تنويه بالمؤمنين المحسنين وتقريع للكافرين المعطلين المستكبرين. وحكاية لبعض أقوالهم. وردود مفحمة عليهم وإشارة إلى لقمان وحكمته وجملة من مواعظ لابنه على سبيل ضرب المثل والحث على كريم الأخلاق والمبادئ. واستدراك في صدد طاعة الوالدين وتنويه بعظمة اللّه وسوابغ نعمه على الناس. وحث على الاستجابة إلى الدعوة وعدم إضاعة الفرصة. وتنديد بتمسك المشركين بتقاليد الآباء رغم سخفها وبطلها.
وأسلوب السورة وترابط فصولها يسوغان القول إنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متتابعة.
وقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [27 - 29] مدنية والرواية تتحمل التوقف لانسجام الآيات وتواثقها مع سائر الآيات السابقة واللاحقة لها. (2)
سورة لقمان مكية ، وهي أربع وثلاثون آية.
تسميتها :
سميت سورة لقمان لاشتمالها على قصة (لقمان الحكيم) الذي أدرك جوهر الحكمة ، بمعرفة وحدانية اللّه وعبادته ، والأمر بفضائل الأخلاق والآداب ، والنهي عن القبائح والمنكرات.
موضوعها :
تضمنت الكلام عن موضوعات السور المكية وهي إثبات أصول العقيدة من الإيمان باللّه ووحدانيته ، وتصديق النبوة ، والإقرار بالبعث واليوم الآخر.
وسبب نزولها أن قريشا سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قصة لقمان مع ابنه وعن بره والديه ، فنزلت.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (11 / 107)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (4 / 240)(1/851)
صلتها بما قبلها أو مناسبتها لما قبلها :
تظهر صلة هذه السورة بسورة الروم قبلها من وجوه :
1 - قال تعالى في آخر السورة السابقة : وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ إشارة إلى كون القرآن معجزة ، وقال في مطلع هذه السورة : تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ، هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ.
2 - كذلك قال سبحانه في آخر السورة المتقدمة : وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ إشارة إلى أن المشركين يكفرون بالآيات ، وقال في هذه السورة : وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً [7].
3 - وصف اللّه تعالى قدرته على بدء الخلق والبعث في كلتا السورتين ، فقال في السورة السالفة : وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [27] وقال هنا : ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [28].
4 - أثبت اللّه تعالى في كلتا السورتين إيمان المؤمنين بالبعث ، فقال في السورة السابقة : وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ : لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ ، فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ [56] وهذا عين إيقانهم بالآخرة المذكور في مطلع هذه السورة : وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ.
5 - حكى اللّه تعالى في السورتين ما عليه حال المشركين من القلق والاضطراب ، إذ يضرعون إلى اللّه في وقت الشدة ، ويكفرون به وقت الرخاء ، فقال في السورة المتقدمة : وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ...[33] وقال في هذه السورة : وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ... [32].
6 - ذكر في سورة الروم : فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ [15] وقد فسر بالسماع ، وفي لقمان : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [6] وقد فسر بالغناء وآلات الملاهي.
7 - قابل تعالى بين السورتين ، فذكر في سورة الروم مدى اعتزاز المشركين بأموالهم ورفضهم إشراك غيرهم فيها ، وذكر هنا قصة لقمان الحكيم العبد الصالح الذي أوصى ابنه بالتواضع وترك التكبر ، كما ذكر في الأولى محاربة الروم والفرس في معركتين عظيمتين ، وذكر في السورة الثانية في قصة لقمان الأمر بالصبر والمسالمة وترك المحاربة.
مشتملات السورة :
اشتملت هذه السورة على الموضوعات التالية : فبدأت ببيان معجزة النبي الخالدة وهي القرآن دستور الهداية الربانية ، وموقف الناس منه ، ففريق المؤمنين يصدّقون بكل ما جاء فيه ، فيظفرون بالجنان ، وفريق الكافرين الساخرين الهازئين الذي يعرضون عما فيه من الآيات ، ويضلون عن سبيل اللّه جهلا وسفها ، فيتلقون العذاب الأليم.(1/852)
ثم تحدثت عن أدلة الوحدانية والقدرة الباهرة للّه ربّ العالمين من خلق العالم والكون ، وتلا ذلك بيان قصة لقمان الحكيم ووصاياه الخالدة لابنه ، تعليما للناس وإرشادا لهم ، وعلى رأسها نبذ الشرك ، وبر الوالدين ، ورقابة اللّه على كل صغيرة وكبيرة ، وإقامة الصلاة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والتواضع واجتناب الكبر ، ومشي الهوينى ، وإخفاض الصوت.
وأردف ذلك توبيخ المشركين على إصرارهم على الشرك مع مشاهدتهم أدلة التوحيد ، والنعي عليهم في تقليدهم الآباء ، وجحودهم نعم اللّه الكثيرة التي لا حصر لها ، وإعلامهم أن طريق النجاة هو إسلام النفس للّه والإحسان بالعمل الصالح ، وبيان تناقضهم حين يقرّون بأن اللّه هو خالق كل شيء ثم يعبدون معه غيره ، مع أن اللّه هو مالك السموات والأرض والمنعم بجلائل النعم ، وعلمه محيط بكل شيء ، وأن خلق جميع البشر وبعثهم كخلق نفس واحدة وبعثها ، فهو المدبر والمصرف الذي لا يعجزه شيء ، وأنهم يتضرعون إليه وقت الشدة ويشركون به وقت الرخاء.
ثم أضافت السورة أدلة أخرى على القدرة الإلهية من إيلاج الليل في النهار وبالعكس ، وتسخير الشمس والقمر ، وتسيير السفن في البحار وغير ذلك.
وختمت السورة ببيان الأمر بالتقوى والخوف من عذاب يوم القيامة الذي لا بد من إتيانه ، ولا أمل فيه بنصرة أحد ، وعدم الاغترار بمتاع الدنيا وزخارفها ، والتنبيه على مفاتيح الغيب الخمسة التي اختص اللّه بعلمها ، وأن اللّه محيط علمه بالكائنات جميعها ، خبير بكل ما يجري فيها. (1)
وهي مكية كلها غير آيتين هما : وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ..الآية 27 ، 28. وهي أربع وثلاثون آية ، هدفها إثبات البعث والوحدانية ، وصدق الرسل في رسالتهم. (2)
أخرج ابن الضريس ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : أنزلت سورة لقمان بمكة ، ولا استثناء في هذه الرواية. وفي رواية النحاس في تاريخه عنه استثناء ثلاث آيات منها وهي وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لقمان : 27] إلى تمام الثلاث فإنها نزلن بالمدينة ، وذلك
أنه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لما هاجر قال له أحبار اليهود : بلغنا أنك تقول : وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء : 85] أعنيتنا أم قومك؟ قال : كلّا عنيت فقالوا : إنك تعلم أننا أوتينا التوراة وفيها بيان كل شيء فقال عليه الصلاة والسلام : ذلك في علم اللّه تعالى قليل فأنزل الآيات.
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (21 / 124) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (21 / 72)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 41)(1/853)
ونقل الداني عن عطاء ، وأبو حيان عن قتادة أنهما قالا : هي مكية إلا آيتين هما وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ إلى آخر الآيتين ، وقيل : هي مكية إلّا آية وهي قوله تعالى : الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ [لقمان : 4] فإن إيجابهما بالمدينة ، وأنت تعلم أن الصلاة فرضت بمكة ليلة الإسراء كما في صحيح البخاري وغيره فما ذكر من أن إيجابها بالمدينة غير مسلم ، ولو سلم فيكفي كونهم مأمورين بها بمكة ولو ندبا فلا يتم التقريب فيها ، نعم المشهور أن الزكاة إيجابها بالمدينة فلعل ذلك القائل أراد أن إيجابهما معا تحقق بالمدينة لا أن إيجاب كل منهما تحقق فيها ، ولا يضر في ذلك أن إيجاب الصلاة كان بمكة ، وقيل : إن الزكاة إيجابها كان بمكة كالصلاة وتقدير الأنصباء هو الذي كان بالمدينة وعليه لا تقريب فيهما ، وايها ثلاث وثلاثون في المكي والمدني وأربع وثلاثون في عدد الباقين.
وسبب نزولها على ما في البحر أن قريشا سألت عن قصة لقمان مع ابنه وعن بر والديه فنزلت. ووجه مناسبتها لما قبلها على ما فيه أيضا أنه قال تعالى فيما قبل : وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الروم : 58] وأشار إلى ذلك في مفتتح هذه السورة ، وأنه كان في آخر ما قبلها وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ [الروم : 58] وفيها وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً [لقمان : 7] وقال الجلال السيوطي : ظهر لي في اتصالها بما قبلها مع المؤاخاة في الافتتاح - بألم إن قوله تعالى : هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [لقمان : 43] متعلق بقوله تعالى فيما قبل : وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ [الروم : 56] الآية فهذا عين إيقانهم بالآخرة وهم المحسنون الموصوفون بما ذكر ، وأيضا ففي كلتا السورتين جملة من الآيات وابتداء الخلق.
وذكر في السابقة فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ [الروم : 15] وقد فسر بالسماع وذكر هنا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان : 6] وقد فسر بالغناء وآلات الملاهي ا ه.
وسيأتي إن شاء اللّه تعالى الكلام في ذلك ، وأقول في الاتصال أيضا : إنه قد ذكر فيما تقدم قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم : 27] وهنا قوله سبحانه : ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان : 28] وكلاهما يفيد سهولة البعث وقرر ذلك هنا بقوله عزّ وجلّ قائلا : إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وذكر سبحانه هناك قوله تعالى : وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [الروم : 33] وقال عزّ وجلّ هنا : وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [لقمان : 32] فذكر سبحانه في كل من الآيتين قسما لم يذكره في الأخرى إلى غير ذلك.
وما ألطف هذا الاتصال من حيث إن السورة الأولى ذكر فيها مغلوبية الروم وغلبتهم المبنيتين على المحاربة بين ملكين عظيمين من ملوك الدنيا تحاربا عليها وخرج بذلك عن مقتضى الحكمة فإن الحكيم لا يحارب(1/854)
على دنيا دنية لا تعدل عند اللّه تعالى جناح بعوضة وهذه ذكر فيها قصة عبد مملوك على كثير من الأقوال حكيم زاهد في الدنيا غير مكترث بها ولا ملتفت إليها أوصى ابنه بما يأبى المحاربة ويقتضي الصبر والمسالمة وبين الأمرين من التقابل ما لا يخفى. (1)
* هذه السورة الكريمة " سورة لقمان " من السور المكية ، التي تعالج موضوع العقيدة ، وتعنى بالتركيز على الأصول الثلاثة لعقيدة الإيمان وهي (الوحدانية ، والنبؤة ، والبعث والنشور) كما هو الحال في السور المكية .
* ابتدأت السورة الكريمة بذكر الكتاب الحكيم ، معجزة محمد الخالدة ، الباقية الدائمة على مدى الزمان ، وأقامت الحجج والبراهين على وحدانية رب العالمين ، وذكرت دلائل القدرة الباهرة ، والإبداع العجيب ، في هذا الكون الفسيح ، المحكم النظام ، المتناسق في التكوين ، فى سمائه وأرضه ، وشمسه وقمره ، ونهاره وليله ، وفي جباله وبحاره ، وأمواجه وأمطا ره ، ونبأته وأشجا ره ، وفي سائر ما يشاهده المرء من دلائل القدرة والوحدانية ، مما يأخذ القلب ، ويبهر العقل ، ويواجه الإنسان مواجهة جاهرة ، لا يملك معها إلا التسليم بقدرة الخالق العظيم [ الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ] الآيات .
* كما لفتت أنظار المشركين إلى دلائل القدرة والوحدانية منبثة في هذا الكون البديع ، وهزت كيانهم هزا [ هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين ] .
* وختمت السورة الكريمة بالتحذير من ذلك اليوم الرهيب الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون [ يا أيها الناس اتقوا ريكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن والده ، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا ] الآية .
التسمية :
سميت سورة لقمان لاشتمالها على قصة " لقمان الحكيم " التي تضمنت فضيلة الحكمة وسر معرفة الله تعالى وصفاته ، وذم الشرك ، والأمر بمكارم الأخلاق ، والنهي عن ا لقبائح والمنكرات وما تضمنته كذلك من الوصايا الثمينة التي أنطقه الله بها ، وكانت من الحكمة والرشاد بمكان ! . (2)
مقصودها إثبات الحكمة للكتاب اللازم منه حكمة منولة سبحانه في أقواله وأفعاله ، وقصة لقمان المسمى به السورة دليل واضح على ذلك كأنه سبحانه لما أكمل ما أ ) اد من أول القرآن إلى آخره براءة الني هي سورة عزو الروم ، وكان سبحانه قد ابتدأ القرآن أم القرآن بنفي الريب عن هذا الكتاب ، وأنه هدى
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (11 / 64)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 14)(1/855)
للمتقين ، واستدل على ذلك فيما تبعها من السور ، ثن ابتدأ سورة يونس بعد سورة عزو الروم بإثبات حكمته ، وأتبع ذلك دليله إلى أن ختم سورة الروم ، ابتدأ دورا جديدا على وجه أضخم من الأول ، فوصفه في أول هذه التالية للروم بما وصفه به في يونس التالية لغزو الروم ، وذلك الوصف هو الحكمة وزاد أنه هدى وهداية للمحسنين ، فهؤلاء أصحاب النهايات ، والمتقون أصحاب البدايات . (1)
جاء هذا القرآن الكريم ليخاطب الفطرة البشرية بمنطقها. نزله الذي خلق هذه الفطرة ، والذي يعلم ما يصلح لها وما يصلحها ، ويعلم كيف يخاطبها ، ويعرف مداخلها ومساربها. جاء يعرض على هذه الفطرة الحقيقة المكنونة فيها من قبل والتي تعرفها قبل أن تخاطب بهذا القرآن ، لأنها قائمة عليها أصلا في تكوينها الأول .. تلك هي حقيقة الاعتراف بوجود الخالق وتوحيده ، والتوجه إليه وحده بالإنابة والعبادة مع موكب الوجود كله المتجه إلى خالقه بالحمد والتسبيح .. إنما تغشى على الفطرة غواش من دخان هذه الأرض وتغمرها غمرات من فورة اللحم والدم وتنحرف بها عن الطريق دفعات من الهوى والشهوة. هنا يجيء هذا القرآن ليخاطب الفطرة بمنطقها الذي تعرفه ويعرض عليها الحقيقة التي غفلت عنها بالأسلوب الذي تألفه ويقيم على أساس هذه الحقيقة منهاج الحياة كله ، مستقيما مع العقيدة ، مستقيما مع الفطرة ، مستقيما على الطريق إلى الخالق الواحد المدبر الخبير ..
وهذه السورة المكية نموذج من نماذج الطريقة القرآنية في مخاطبة القلب البشري. وهي تعالج قضية العقيدة في نفوس المشركين الذين انحرفوا عن تلك الحقيقة. إنها القضية التي تعالجها السور المكية في أساليب شتى ، ومن زوايا منوعة ، تتناول القلب البشري من جميع أقطاره وتلمس جوانبه بشتى المؤثرات التي تخاطب الفطرة وتوقظها ..
هذه القضية الواحدة - قضية العقيدة - تتلخص هنا في توحيد الخالق وعبادته وحده وشكر آلائه. وفي اليقين بالآخرة وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل. وفي اتباع ما أنزل اللّه والتخلي عما عداه من مألوفات ومعتقدات.
والسورة تتولى عرض هذه القضية بطريقة تستدعي التدبر لإدراك الأسلوب القرآني العجيب في مخاطبة الفطر والقلوب. وكل داع إلى اللّه في حاجة إلى تدبر هذا الأسلوب.
إنها تعرض هذه القضية في مجال العرض القرآني. وهو هذا الكون الكبير. سماؤه وأرضه. شمسه وقمره.نهاره وليله. أجواؤه وبحاره ، أمواجه وأمطاره. نباته وأشجاره .. وهذا المجال الكوني يتكرر في القرآن الكريم.
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (6 / 3)(1/856)
فيحيل الكون كله مؤثرات ناطقة ، وآيات مبثوثة عن الإيمان والشمائل ، تخاطب القلوب البشرية وتؤثر فيها وتستحييها ، وتأخذ عليها المسالك والدروب.
ومع أن القضية واحدة ومجال العرض واحد ، فإنها تعرض في السورة أربع مرات في أربع جولات ، تطوف كل منها بالقلب البشري في ذلك المجال الفسيح ، مستصحبة في كل مرة مؤثرات جديدة ، ومتبعة أسلوبا كذلك جديدا في العرض والتناول. وتتبع هذه الجولات وهي تبدأ وتنتهي بطريقة عجيبة فيه متاع للقلب والعقل. إلى جانب ما فيه من دواعي التأثر والاستجابة.
تبدأ الجولة الأولى بعد افتتاح السورة بالأحرف المقطعة فتقرر أن هذه السورة من جنس تلك الأحرف ، هي آيات الكتاب الحكيم ، وهي هدى ورحمة للمحسنين. وهؤلاء المحسنون هم : «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» فتقرر قضية اليقين بالآخرة وقضية العبادة للّه. ومعها مؤثر نفسي ملحوظ هو أن «أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ومن ذا الذي لا يريد أن يكون من المفلحين؟.
وفي الجانب الآخر فريق من الناس يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل اللّه بغير علم ، ويتخذ تلك الآيات هزوا. وهؤلاء يعاجلهم بمؤثر نفسي مخيف مناسب لاستهزائهم بآيات اللّه : «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» .. ثم يمضي في وصف حركات هذا الفريق : «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها» .. ومع الوصف مؤثر نفسي يحقر هذا الفريق : «كأن في أذنيه وقرا» ومؤثر آخر يخيفه مع التهكم الواضح في التعبير : «فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» والبشارة هنا فيها ما فيها من التهكم الملحوظ!. ثم يعود إلى المؤمنين يفصل شيئا من فلاحهم الذي أجمله في أول السورة ويبين جزاءهم في الآخرة ، كما كشف عن جزاء المستهزئين المستكبرين : «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. وهنا يعرض صفحة الكون الكبير مجالا للبرهان الذي يطالع الفطرة من كل جانب ، ويخاطبها بكل لسان ، ويواجهها بالحق الهائل الذي يمر عليه الناس غافلين : «خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ، وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ ، وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» .. وأمام هذه الأدلة الكونية التي تهول الحس وتبده الشعور يأخذ بتلابيب القلوب الشاردة ، التي تجعل للّه شركاء وهي ترى خلقه الهائل العظيم : «هذا خَلْقُ اللَّهِ. فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ؟ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
وعند هذا الإيقاع الكوني الضخم العميق تنتهي الجولة الأولى بقضاياها ومؤثراتها معروضة في ساحة الكون الكبير.(1/857)
فأما الجولة الثانية فتبدأ من خلال نفوس آدمية ، وتتناول القضية ذاتها في المجال ذاته بأسلوب جديد ومؤثرات جديدة .. «وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ» فما طبيعة هذه الحكمة وما مظهرها الفريد؟ إنها تتلخص في الاتجاه للّه بالشكر : «أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» فهذه هي الحكمة وهذا هو الاتجاه الحكيم .. والخطوة التالية هي اتجاه لقمان لابنه بالنصيحة : نصيحة حكيم لابنه. فهي نصيحة مبرأة من العيب ، صاحبها قد أوتي الحكمة. وهي نصيحة غير متهمة ، فما يمكن أن تتهم نصيحة والد لولده. هذه النصيحة تقرر قضية التوحيد التي قررتها الجولة الأولى وقضية الآخرة كذلك مصحوبة بهذه المؤثرات النفسية ومعها مؤثرات جديدة : «وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ : يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» .. ويؤكد هذه القضية بمؤثر آخر فيعرض لعلاقة الأبوة والأمومة بأسلوب يفيض انعطافا ورحمة : «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ» ويقرن قضية الشكر للّه بالشكر لهذين الوالدين ، فيقدمها عليها : «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» ..
ثم يقرر القاعدة الأولى في قضية العقيدة ، وهي أن وشيجة العقيدة هي الوشيجة الأولى ، المقدمة على وشيجة النسب والدم. وعلى ما في هذه الوشيجة من انعطاف وقوة إلا أنها تالية للوشيجة الأولى : «وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ، وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ».
ويقرر معها قضية الآخرة : «ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. ويتبع هذه القضية بمؤثر هائل وهو يصور عظمة علم اللّه ودقته وشموله وإحاطته ، تصويرا يرتعش له الوجدان البشري وهو يتابعه في المجال الكوني الرحيب : «يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ ، أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» .. ثم يتابع لقمان وصيته لابنه بتكاليف العقيدة ، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والصبر على ما يستتبعه هذا وذلك من مواجهة المتاعب التي لا بد أن تواجه صاحب العقيدة ، وهو يخطو بها الخطوة الطبيعية ، فيتجاوز بها نفسه إلى غيره : «وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» .. ومع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على المصاب الأدب الواجب. أدب الداعي إلى اللّه.
ألا يتطاول على الناس ، فيفسد بالقدرة ما يصلح بالكلام : «وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ. إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ» .. والمؤثر النفسي بتحقير التصعير والنفخة ملحوظ في التعبير. وبه تنتهي هذه الجولة الثانية ، وقد عالجت القضية ذاتها في مجالها المعهود ، بمؤثرات جديدة وبأسلوب جديد.(1/858)
ثم تبدأ الجولة الثالثة .. تبدأ بعرض القضية المعهودة في مجال السماوات والأرض ، مصحوبة بمؤثر منتزع من علاقة البشر بالسماوات والأرض وما فيها من نعم سخرها اللّه للناس وهم لا يشكرون : «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ» .. وفي ظل هذا المؤثر يبدو الجدل في اللّه مستنكرا من الفطرة ، تمجه القلوب المستقيمة .. ثم يتابع استنكار موقف الكفر والجمود : «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا : بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا» .. وهو موقف سخيف مطموس ، يتبعه بمؤثر مخيف : «أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ؟» .. ومن ثم يعرض قضية الجزاء في الآخرة مرتبطة بقضية الإيمان والكفر : «وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ .. وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ، فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» .. ويشير إلى علم اللّه الواسع الدقيق : «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ».
ويصحب ذلك العرض بتهديد مخيف : «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ» .. وقرب ختام الجولة يقفهم وجها لوجه أمام منطق الفطرة وهي تواجه هذا الكون ، فلا تملك إلا الاعتراف بالخالق الواحد الكبير : «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ : اللَّهُ. قُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ..
ويختم الجولة بمشهد كوني يصور امتداد علم اللّه بلا نهاية ، وانطلاق مشيئته في الخلق والإنشاء بلا حدود ويجعل من هذا دليلا كونيا على البعث والإعادة وعلى الخلق والإنشاء : «وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» ..
وتبدأ الجولة الرابعة بمشهد كوني ذي إيقاع خاص في القلب البشري. مشهد الليل وهو يطول فيدخل في جسم النهار ويمتد والنهار وهو يطول فيدخل في جسم الليل ويمتد. ومشهد الشمس والقمر مسخرين في فلكيهما يجريان في حدود مرسومة إلى وقت لا يعلمه إلا خالقهما الخبير بهما وبالناس وبما يعملون : «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» .. ويتخذ من هذا المشهد الكوني دليله إلى الفطرة على القضية المعهودة : «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» .. ويلمس القلوب بمؤثر آخر من نعمة اللّه على الناس في صورة الفلك التي تجري في البحر : «أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ؟» ويعقب على هذا بوقفهم أمام منطق الفطرة حين تواجه هول البحر مجردة من غرور القدرة والعلم الذي يبعدها عن بارئها ويتخذ من هذا المنطق دليلا على قضية(1/859)
التوحيد : «وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ» .. وبمناسبة موج البحر وهو له يذكرهم بالهول الأكبر ، وهو يقرر قضية الآخرة. الهول الذي يفصم وشائح الدم التي لا يفصلها في الدنيا هول : «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ. وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ. فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» .. وعند هذا المقطع وهذا المؤثر الذي يرتجف له الكيان يختم السورة بآية تقرر القضايا التي عالجتها جميعا ، في إيقاع قوي عميق مرهوب : «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ. وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» ..
هذه الجولات الأربع بأساليبها ومؤثراتها ودلائلها وآياتها نموذج من أسلوب القرآن الكريم في معالجة القلوب.
هذا الأسلوب المختار من خالق هذه القلوب العليم بمداخلها. الخبير بما يصلح لها وما تصلح به من الأساليب .. (1)
مجمل ما حوته السورة الكريمة من الموضوعات
(1) القرآن هداية ورحمة للمؤمنين.
(2) قصص من ضل عن سبيل اللّه بغير علم ، واتخذ آيات اللّه هزوا.
(3) وصف العالم العلوي ، والعالم السفلى ، وما فيهما من العجائب الدالة على وحدانية اللّه.
(4) قصص لقمان وإيتاؤه الحكمة ، وشكره لربه على ذلك ، ثم نصائحه لابنه.
(5) الأمر بطاعة الوالدين إلا فيما لا يرضى الخالق.
(6) النعي على المشركين فى ركونهم إلى التقليد إذا دعوا إلى النظر فى الكون وعبادة الخالق له.
(7) لا نجاة للإنسان إلا بالإخبات للّه وعمل الصالحات.
(8) تسلية الرسول على عدم إيمان المشركين.
(9) تعجيب رسوله من المشركين بأنهم يقرون بأن اللّه هو الخالق لكل شىء ثم هم يعبدون معه غيره ممن هو مخلوق مثلهم.
(10) نعم اللّه ومخلوقاته لا حصر لها.
(11) الأمر بالنظر إلى الكون وعجائبه لنسترشد بذلك إلى وحدانية الصانع لها.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2780)(1/860)
(12) تحميق المشركين بأنهم فى الشدائد يدعون اللّه وحده ، وفى الرخاء يشركون معه سواه.
(13) الأمر بالخوف من عقاب اللّه يوم لا يجزى والد عن ولده.
(14) مفاتيح الغيب الخمسة التي استأثر اللّه بعلمها.
(15) إحاطة علمه تعالى بجميع الكائنات ظاهرها وباطنها. (1)
===============
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (21 / 102)(1/861)
(32) سورة السجدة
أشهر أسماء هذه السورة هوسورة السجدة، وهو أخصر أسمائها، وهو المكتوب في السطر المجعول لاسم السورة من المصاحف المتداولة. وبهذا الاسم ترجم لها الترمذي في "جامعه" وذلك بإضافة كلمة سورة إلى كلمة السجدة. ولا بد من تقدير كلمة {ألم} محذوفة للاختصار إذ لا يكفي مجرد إضافة سورة إلى السجدة في تعريف هذه السورة، فإنه لا تكون سجدة من سجود القرآن إلا في سورة من السور.
وتسمى أيضا {ألم تَنْزِيلُ} ؛ روى الترمذي عن جابر بن عبد الله: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام حتى يقرأ {ألم تَنْزِيلُ} [السجدة: 1, 2] و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1].
وتسمى "ألم تنزيل السجدة". وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرة: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر "ألم تنزيل السجدة" و {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} [الانسان: 1]. قال شارحو "صحيح البخاري" ضبط اللام من كلمة {تَنْزِيلُ} بضمة على الحكاية، وأما لفظ "السجدة" في هذا الحديث فقال ابن حجر: هو بالنصب. وقال العيني والقسطلاني بالنصب على أنه عطف بيان- يعني أنه بيان للفظ {ألم تَنْزِيلُ} -، وهذا بعيد لأن لفظ السجدة ليس اسما لهذه السورة إلا بإضافة "سورة" إلى "السجدة"، فالوجه أن يكون لفظ "السجدة" في كلام أبي هريرة مجرورا بإضافة مجموع {ألم تَنْزِيلُ} إلى لفظ "السجدة"، وسأبين كيفية هذه الإضافة.
وعنونها البخاري في "صحيحه" : "سورة تنزيل السجدة". ويجب أن يكون {تَنْزِيلُ} مضمونا على حكاية لفظ القرآن، فتميزت هذه السورة بوقوع سجدة تلاوة فيها من بين السور المفتتحة بـ {ألم} ، فلذلك فمن سماها سورة السجدة عنى تقدير مضاف أي سورة "ألم السجدة".
ومن سماها تنزيل السجدة فهو على تقدير "ألم تنزيل السجدة" بجعل {ألم تَنْزِيلُ} اسما مركبا ثم أضافته إلى السجدة، أي ذات السجدة، لزيادة التمييز والإيضاح، وإلا فإن ذكر كلمة {تَنْزِيلُ} كاف في تمييزها عما عداها من ذوات {ألم} ثم اختصر بحذف {ألم} وإبقاء {تَنْزِيلُ} ، واضيف {تَنْزِيلُ} إلى "السجدة" على ما سيأتي في توجيه تسميتها "ألم تنزيل السجدة".
ومن سماها "إلم السجدة" فهو على إضافة "ألم" إلى "السجدة" إضافة على معنى اللام وجعل "ألم" اسما للسورة. ومن سموها "ألم تنزيل السجدة" لم يتعرضوا لضبطها في "شروح صحيح البخاري" ولا في النسخ الصحيحة من "الجامع الصحيح" ، ويتعين أن يكون {ألم} مضافا إلى {تَنْزِيلُ} على أن مجموع المضاف والمضاف إليه اسم لهذه السورة محكي لفظه؛ فتكون كلمة {تَنْزِيلُ} مضمونه على حكاية لفظها القرآني،(1/862)
وأن يعتبر هذا المركب الإضافي اعتبار العلم مثل: عبد الله، ويعتبر مجموع ذلك المركب الإضافي مضافا إلى السجدة إضافة المفردات، وهو استعمال موجود، ومنه قول تأبط شرا:
إني لمهد من ثنائي فقاصد ... به لبن عم الصدق شمس بن مالك
إذ أضاف مجموع "ابن عم" إلى "الصدق"، ولم يرد إضافة عم إلى الصدق. وكذلك قول أحد الطائيين في "ديوان الحماسة" :
داو ابن السوء بالنأي والغنى ... كفى بالغنى والنأي عنه مداويا
فإنه ما أراد وصف عمه بالسوء ولكنه أراد وصف ابن عمه بالسوء. فأضاف مجموع ابن عم إلى السوء، ومثله قول رجل من كلب في "ديوان الحماسة" :
هنيئا لابن عم السوء أني مجاوره بني ثعل لبوني
وقال عيينة بن مرداس في "الحماسة" :
فلما عرفت اليأس منه وقد بدت ... أيادي سبا الحاجات للمتذكر
فأضاف مجموع "أيادي سبا" وهو كالمفرد لأنه جرى مجرى المثل إلى الحاجات. وقال بعض رجازهم:
أنا ابن عم الليل وابن خاله إذا دجى دخلت في سرباله
فأضاف "ابن عم" إلى لفظ "الليل"، وأضاف "ابن خال" إلى ضمير "الليل" على معنى أنا مخالط الليل، ولا يريد إضافة عم ولا خال إلى الليل. ومن هذا اسم عبد الله بن قيس الرقيات، فالمضاف إلى "الرقيات" هو مجموع المركب إما "عبد الله"، أو "ابن قيس"
لا أحد مفرداته. وهذه الإضافة قريبة من إضافة العدد المركب إلى من يضاف إليه مع بقاء اسم العدد على بنائه كما تقول: أعطه خمسة عشره.
وتسمى هذه السورة أيضا سورة المضاجع لوقوع لفظ "المضاجع" في قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16].
وفي "تفسير القرطبي" عن "مسند الدرامي" أن خالد بن معدان سماها: المنجية. قال: بلغني أن رجلا يقرؤها ما يقرأ شيئا غيرها، وكان كثير الخطايا فنشرت جناحها وقالت: رب اغفر له فإنه كان يكثر من قراءتي فشفعها الرب فيه وقال: اكتبوا له بكل خطيئة حسنة وارفعوا له درجة اهـ. وقال الطبرسي: تسمى "سورة سجدة لقمان" لوقوعها بعد سورة لقمان لئلا تلتبس بسورة "حم السجدة"، أي كما سموا سورة "حم السجدة" وهي سورة فصلت "سورة سجدة المؤمن" لوقوعها بعد سورة المؤمنين.
وهي مكية في إطلاق أكثر المفسرين وإحدى روايتين عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه استثناء ثلاث آيات مدنية وهي: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً} إلى {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 18- 21].(1/863)
قيل نزلت يوم بدر في علي بن أبي طالب والوليد ابن عقبة وسيأتي إبطاله. وزاد بعضهم آيتين {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} إلى {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16، 17] لما روي في سبب نزولها وهو ضعيف. والذي نعول عليه أن السورة كلها مكية وأن ما خالف ذلك إن هو إلا تأويل أو إلحاق خاص بعام كما أصلنا في المقدمة الخامسة. نزلت بعد سورة النحل وقبل سورة نوح، وقد عدت الثالثة والسبعين في النزول. وعدت آياتها عند جمهور العادين ثلاثين، وعدها البصريون سبعا وعشرين.
من أغراض هذه السورة
أولها التنويه بالقرآن أنه منزل من عند الله، وتوبيخ المشركين على ادعائهم أنه مفترى بأنهم لم يسبق لهم التشرف بنزول كتاب. والاستدلال على إبطال إلهية أصنامهم بإثبات انفراد الله بأنه خالق السماوات والأرض ومدبر أمورهما. وذكر البعث والاستدلال على كيفية بدء خلق الإنسان ونسله، وتنظيره بإحياء الأرض، وأدمج في ذلك أن إحياء الأرض نعمة عليهم كفروا بمسديها. والإنحاء على الذين أنكروه ووعيدهم. والثناء على المصدقين بآيات الله ووعدهم، ومقابلة إيمانهم بكفر المشركين، ثم إثبات رسالة رسول عظيم قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - هدى به أمة عظيمة. والتذمير بما حل بالمكذبين السابقين ليكون ذلك عظة للحاضرين، وتهديدهم بالنصر الحاصل للمؤمنين. وختم ذلك بانتظار النصر. وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عنه تحقيرا لهم، ووعده بانتظار نصره عليهم.
ومن مزايا هذه السورة وفضائلها ما رواه الترمذي (1) والنسائي وأحمد والدرامي عَنْ جَابِرٍ " " أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ " {الم تَنْزِيلُ} [السجدة: 1، 2] و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]. (2)
مناسبتها لما قبلها
جاء في آخر السورة السابقة ـ سورة لقمان ـ قوله تعالى : « إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ».. وقد تضمنت هذه الآية أمورا خمسة ، جعلت علمهن مما استأثر اللّه سبحانه وتعالى بعلمه وليس لعلم الإنسان سبيل إليهن ..وقد جاء في هذه السورة ـ سورة السجدة ـ بيان شارح لهذه الأمور ..ومؤكد لتقريرها .. كما سنرى. (3)
مقدّمة
__________
(1) - سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ ـ الْجَامِعُ الصَّحِيحُ (2951 ) حسن
(2) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (21 / 138)
(3) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (11 / 598)(1/864)
1 - سورة « السجدة » هي السورة الثانية والثلاثون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها بعد سورة « المؤمنون » ، أى : أنها من أواخر السور المكية.
قال الآلوسى ما ملخصه : وتسمى - أيضا - بسورة « المضاجع ». وهي مكية ، كما روى عن ابن عباس.
وروى عنه أنها مكية سوى ثلاث آيات ، تبدأ بقوله - تعالى - : أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً ... وهي تسع وعشرون آية في البصري. وثلاثون آية في المصاحف الباقية ... » .
ومن فضائل هذه السورة ما رواه الشيخان عن أبى هريرة قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر يوم الجمعة الم. تَنْزِيلُ ... السجدة. وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ ....
وروى الإمام أحمد عن جابر قال : « كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينام حتى يقرأ هذه السورة ، وسورة تبارك » .
2 - وتبدأ هذه السورة الكريمة ، بالثناء على القرآن الكريم ، وببيان أنه من عند اللّه - تعالى - ، وبالرد على الذين زعموا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد افتراه من عند نفسه ...
ثم تسوق ألوانا من نعم اللّه - تعالى - على عباده ، ومن مظاهر قدرته ، وبديع خلقه ، وشمول إرادته ، وإحسانه لكل شيء خلقه ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ، وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ.
3 - ثم تذكر السورة الكريمة بعد ذلك جانبا من شبهات المشركين حول البعث والحساب ، وترد عليها بما يبطلها ، وتصور أحوالهم عند ما يقفون أمام خالقهم للحساب تصويرا مؤثرا مرعبا قال - تعالى - : وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا ، فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ.
4 - وبعد أن تذكر السورة الكريمة ما أعده اللّه - تعالى - للمؤمنين من ثواب لا تعلمه نفس من الأنفس ، وما أعده للكافرين من عقاب .. بعد كل ذلك تبين أن عدالته - تعالى - قد اقتضت عدم المساواة بين الأخيار والأشرار وإنما يجازى كل إنسان على حسب عمله.
قال - تعالى - : أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً ، لا يَسْتَوُونَ.
5 - ثم تشير السورة الكريمة بعد ذلك إلى ما أعطاه اللّه - تعالى - لنبيه موسى - عليه السّلام - من نعم ، وما منحه للصالحين من قومه من منن ، لكي يتأسى بهم المؤمنون وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي(1/865)
مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ ، وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ. وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا ، وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ.
6 - ثم حضت السورة الكريمة المشركين على التدبر والتفكر في آيات اللّه - تعالى - ، ونهتهم عن الجحود والعناد ، وحكت جانبا من سفاهاتهم ، وأمرت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يرد عليهم ، وأن يمضى في طريقه دون أن يعير سفاهاتهم اهتماما.
قال - تعالى - : وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ.
7 - وبعد فهذا عرض إجمالى لسورة « السجدة » ومنه نرى أنها زاخرة بالأدلة على وحدانية اللّه - تعالى - وقدرته ، وعلى أن القرآن حق ، والبعث حق ، والحساب حق ، والجزاء حق .. (1)
في السورة توكيد بصلة القرآن بالوحي الإلهي وردّ على الكفار على نسبتهم افتراءه للنبي عليه السلام. وتنويه بقدرة اللّه في مشاهد الكون ونواميس الخلق للبرهنة على استحقاقه وحده للعبادة والخضوع. وحكاية لشكوك الكفار بالبعث والحساب وحملة عليهم ومقايسة بين مصيرهم ومصير المؤمنين. وإشارة إلى رسالة موسى وفضل اللّه على بني إسرائيل حينما صبروا واتبعوا آيات اللّه. وتثبيت وتطمين للنبي عليه السلام.
وآيات السورة متساوقة ومنسجمة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. وقد روي أن الآيات [16 - 20] مدنية ، وانسجامها مع ما قبلها سبكا وموضوعا يسوغ الشك في الرواية. (2)
سورة السجدة مكية ، وهي ثلاثون آية.
تسميتها وفضلها :
سميت سورة السجدة لما فيها من وصف المؤمنين الذين يسجدون للّه تعالى ويسبحونه عند سماع آيات القرآن العظيم : إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً ، وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [15].
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر يوم الجمعة الم تَنْزِيلُ السجدة ، وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ [الإنسان 76/ 1].
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (11 / 139)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (5 / 340)(1/866)
وروى الإمام أحمد عن جابر رضي اللّه عنه قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينام حتى يقرأ الم تَنْزِيلُ السجدة ، وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك 67/ 1].
مناسبتها لما قبلها :
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها وهي سورة لقمان من ناحية اشتمال كل منهما على أدلة التوحيد وهو الأصل الأول للعقيدة ، وبعد أن ذكر اللّه تعالى في السورة المتقدمة الأصل الثاني وهو الحشر أو المعاد ، وختم تلك السورة بهذين الأصلين ، بدأ هذه السورة ببيان الأصل الثالث وهو الرسالة أو النبوة ، فقال تعالى : الم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ ...كذلك تعد بعض آيات هذه السورة شرحا وتفصيلا للسورة السالفة ، فقوله تعالى هنا : ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [5] توضيح لقوله تعالى في بيان مفاتح الغيب هناك : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [34].
وقوله سبحانه هنا : أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ [27] تفصيل لقوله هناك : وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [34].
وقوله هنا : الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [7] شرح لقوله هناك :وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ [34].
وقوله هنا : يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ [5] شرح لقوله هناك : وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً [34].
وقوله هنا : أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ إلى قوله : قُلْ : يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [10 - 11] إيضاح لقوله :وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [34].
موضوعها :
موضوع هذه السورة كموضوع سائر السور المكية وهو إثبات أصول الاعتقاد : «الإيمان باللّه واليوم الآخر والكتب والرسل والبعث والجزاء» ومحور الكلام إثبات (البعث) بعد الموت الذي أنكره المشركون والماديون ، واتخذوه سببا لتكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
مشتملاتها :
افتتحت السورة بتقرير كون القرآن العظيم بلا أدنى شك هو كتاب اللّه المنزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وإثبات رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإبطال مزاعم المشركين بأن الرسول افترى هذا القرآن ، وبيان أنه لم يأتهم رسول مثله قبله.
ثم أوردت السورة أدلة وحدانية اللّه وقدرته من تدبيره الكون ، وخلقه الإنسان ورعايته له في أطواره التي يمر بها ، ثم بعثه الخلق مرة أخرى ليوم مقداره ألف سنة مما تعدّون ، بأسلوب يرد على إنكار المشركين(1/867)
البعث والنشور ، لظنهم بسبب عجزهم أن التفتت إلى ذرّات مبعثرة مشتتة يحيل بعدئذ تجمعها وإعادتها إلى خلق جديد.
ثم وصفت السورة حال المجرمين الكافرين وحال المؤمنين الطائعين للّه ، فالأولون تلبسهم الذلة والمهانة ، ويتمنون الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا ، ويذوقون العذاب الأليم. والمؤمنون لا تفارقهم في الدنيا الطاعة في الليل والنهار ، ويدعون ربهم خوفا وطمعا ، وينفقون أموالهم في مرضاة اللّه ، ولهم في الآخرة جزاء عملهم الثواب الجزيل ، والفضل العظيم الذي تقرّ به أعينهم ، وجنات المأوى والاستقرار والخلود.
وعقّبت السورة على حال هذين الفريقين باستبعاد التسوية بينهما إذ لا يعقل مكافأة العصاة كمكافأة الطائعين.
ثم ختمت السورة بتقرير ما بدأت به ، فذكرت الرسالة ، وأبانت الهدف من إنزال التوراة على موسى عليه السلام ، وهو هداية بني إسرائيل ، تنبيها على وجه الشبه بين رسالة محمد ورسالة موسى عليهما الصلاة والسلام.
ثم ذكرت التوحيد والقدرة وأقامت البرهان عليهما بإهلاك الأمم الظالمة في الماضي ، وأخيرا أكدت حدوث الحشر الذي استبعد الكفار حصوله.
فصار مطلع السورة ومضمونها وخاتمتها إثبات أصول العقيدة وهي كما ذكرت : التوحيد ، والرسالة ، والبعث. (1)
وهي مكية غير ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة : وهي قول اللّه تعالى : أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ إلى قوله تعالى : وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ الآية 18 : 20 ، وعدد آياتها ثلاثون آية ،روى البخاري عن ابن عباس وأبى هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة الم تَنْزِيلُ السجدة ، وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ
وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام حتى يقرأ سورتي (السجدة وتبارك).
وهي تهدف إلى تقرير توحيد اللّه بما تعرض من صفحة الكون وما فيه من عجائب ونشأة الإنسان ، وما سيكون من مشاهد القيامة ، وما لقيه السابقون ، وكذلك تقرر صدق الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - الموحى إليه بهذا القرآن لهداية البشر. وكذلك تقرر البعث والحساب بما يقطع حجتهم ويزيل شكهم. (2)
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (21 / 182) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (21 / 103)
(2) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 58)(1/868)
وجه مناسبتها لما قبلها اشتمال كل على دلائل الألوهية ، وفي البحر لما ذكر سبحانه فيما قبل دلائل التوحيد وهو الأصل الأول ثم ذكر جلّ وعلا المعاد وهو الأصل الثاني وختم جل شأنه به السورة ذكر تعالى في بدء هذه السورة الأصل الثالث وهو النبوة وقال الجلال السيوطي في وجه الاتصال بما قبلها : إنها شرح لمفاتيح الغيب الخمسة التي ذكرت في خاتمة ما قبل ، فقوله تعالى : ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة : 5] شرح قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان : 34] ولذلك عقب بقوله سبحانه : عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [السجدة : 6] وقوله تعالى : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ [السجدة : 7] شرح قوله سبحانه : وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [لقمان : 34] وقوله تبارك وتعالى : الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة : 7] الآيات شرح قوله جل جلاله : وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ [لقمان : 34] وقوله عزّ وجلّ : يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ [السجدة : 5] وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة : 13] شرح قوله تعالى : وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وقوله جلّ وعلا : أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السجدة : 10] إلى قوله تعالى : قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة : 11] شرح قوله سبحانه : وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان : 34] اه ، ولا يخلو عن نظر ، وجاء في فضلها أخبار كثيرة ... (1)
سورة السجدة مكية ، وهي كسائر السور المكية تعالج أصول العقيدة الإسلامية (الإيمان بالله ، واليوم الآخر ، والكتب والرسل ، والبعث والجزاء) والمحور الذي تدور عليه السور الكريمة ، هو موضوع (البعث بعد الفناء) الذي طالما جادل المشركون حوله ، واتخذوه ذريعة لتكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام .
* تبتدىء السورة الكريمة بدفع الشك والارتياب عن القرآن العظيم ، المعجزة الكبرى لرسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) الذي لا تحوم حول ساحته الشبهات والأباطيل ، ومع وضوح إعجازه ، وسطوع آياته ، وإشراقة بيانه ، وسمو أحكامه ، اتهم المشركون الرسول بأنه افترى هذا القرآن ، واختلقه من تلقاء نفسه ، فجأءت السورة الكريمة ترد هذا البهتان ، بروائع الحجة والبرهان [ الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه . . ] الآيات .
* ثم تحدثت السورة عن دلائل القدرة والوحدانية ، ببيان آثار قدرة الله قي الكائنات العلوية والسفلية ، على طريقة القرآن في لفت الأنظار إلى إبداع الواحد القهار [ الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام . . ] الآيات .
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (11 / 113)(1/869)
* ثم ذكر القرآن شبهة المشركين السخيفة ، في إنكارهم للبعث والنشور ، ورد عليها بالحجج القاطعة ، والأدلة الساطعة ، التي تنتزع الحجة من الخصم الجاحد العنيد ، فلا يلبث أن يقر على نفسه بالهزيمة ، أمام قوارع القرآن ، وروائع الحجة والبيان [ وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد ] الآيات .
* وختمت السورة بالحديث عن يوم الحساب ، وما أعد الله فيه للمؤمنين المتقين ، من النعيم الدائم في جنات الخلد ، وما أعده للمجرمين من العذاب والنكال في دار الجحيم [ أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا ؟ لا يستوون أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون الآيات
التسمية : سميت " سورة السجدة " لما فيها من أوصاف المؤمنين الأبرار ، الذين إذا سمعوا آيات القرآن العظيم [ خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ] (1) .
مقصودها إنذار الكفار بهذا الكتاب السار للأبرار بدخول الجنة والنجاة من النار ، واسمها السجدة منطبق على ذلك بما دعغت إليه آيتها من الإخبات وترك الاستكبار ، وكذا تسميتها بآلم تنزيل فإنه مشير إلى تأمل جميع السورة ، فهو في غاية الوضوح في هذا المقصود (2)
هذه السورة المكية نموذج آخر من نماذج الخطاب القرآني للقلب البشري بالعقيدة الضخمة التي جاء القرآن ليوقظها في الفطر ، ويركزها في القلوب : عقيدة الدينونة للّه الأحد الفرد الصمد ، خالق الكون والناس ، ومدبر السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من خلائق لا يعلمها إلا اللّه. والتصديق برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - الموحى إليه بهذا القرآن لهداية البشر إلى اللّه. والاعتقاد بالبعث والقيامة والحساب والجزاء.
هذه هي القضية التي تعالجها السورة وهي القضية التي تعالجها سائر السور المكية. كل منها تعالجها بأسلوب خاص ، ومؤثرات خاصة تلتقي كلها في أنها تخاطب القلب البشري خطاب العليم الخبير ، المطلع على أسرار هذه القلوب وخفاياها ، ومنحنياتها ودروبها ، العارف بطبيعتها وتكوينها ، وما يستكن فيها من مشاعر ، وما يعتريها من تأثرات واستجابات في جميع الأحوال والظروف.
وسورة السجدة تعالج تلك القضية بأسلوب وبطريقة غير أسلوب وطريقة سورة لقمان السابقة. فهي تعرضها في آياتها الأولى ثم تمضي بقيتها تقدم مؤثرات موقظة للقلب ، منيرة للروح ، مثيرة للتأمل والتدبر كما تقدم أدلة وبراهين على تلك القضية معروضة في صفحة الكون ومشاهده وفي نشأة الإنسان وأطواره وفي مشاهد من اليوم الآخر حافلة بالحياة والحركة وفي مصارع الغابرين وآثارهم الناطقة بالعبرة لمن يسمع لها ويتدبر منطقها! كذلك ترسم السورة صورا للنفوس المؤمنة في خشوعها وتطلعها إلى ربها. وللنفوس
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 24)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (6 / 42)(1/870)
الجاحدة في عنادها ولجاجها وتعرض صورا للجزاء الذي يتلقاه هؤلاء وهؤلاء ، وكأنها واقع مشهود حاضر للعيان ، يشهده كل قارئ لهذا القرآن.
وفي كل هذه المعارض والمشاهد تواجه القلب البشري بما يوقظه ويحركه ويقوده إلى التأمل والتدبر مرة ، وإلى الخوف والخشية مرة ، وإلى التطلع والرجاء مرة. وتطالعه تارة بالتحذير والتهديد ، وتارة بالإطماع ، وتارة بالإقناع .. ثم تدعه في النهاية تحت هذه المؤثرات وأمام تلك البراهين. تدعه لنفسه يختار طريقه ، وينتظر مصيره على علم وعلى هدى وعلى نور.
ويمضي سياق السورة في عرض تلك القضية في أربعة مقاطع أو خمسة متلاحقة متصلة : يبدأ بالأحرف المقطعة «ألف. لام. ميم» منبها بها إلى تنزيل الكتاب من جنس هذه الأحرف. ونفي الريب عن تنزيله والوحي به : «مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» .. ويسأل سؤال استنكار عما إذا كانوا يقولون : افتراه. ويؤكد أنه الحق من ربه لينذر قومه «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» ..
وهذه هي القضية الأولى من قضايا العقيدة : قضية الوحي وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التبليغ عن رب العالمين.
ثم يعرض قضية الألوهية وصفتها في صفحة الوجود : في خلق السماوات والأرض وما بينهما ، وفي الهيمنة على الكون وتدبير الأمر في السماوات والأرض ، ورفع الأمر إليه في اليوم الآخر .. ثم في نشأة الإنسان وأطواره وما وهبه اللّه من السمع والبصر والإدراك. والناس بعد ذلك قليلا ما يشكرون.
وهذه هي القضية الثانية : قضية الألوهية وصفتها : صفة الخلق ، وصفة التدبير ، وصفة الإحسان ، وصفة الإنعام ، وصفة العلم. وصفة الرحمة. وكلها مذكورة في سياق آيات الخلق والتكوين.
ثم يعرض قضية البعث ، وشكهم فيه بعد تفرق ذراتهم في التراب : «وَقالُوا : أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟» ويرد على هذا الشك بصيغة الجزم واليقين.
وهذه هي القضية الثالثة : قضية البعث والمصير.
ومن ثم يعرض مشهدا من مشاهد القيامة : «إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» يعلنون يقينهم بالآخرة ويقينهم بالحق الذي جاءتهم به الدعوة. ويقولون الكلمة التي لو قالوها في الدنيا لفتحت لهم أبواب الجنة ولكنها في موقفهم ذاك لا تجدي شيئا ولا تفيد. لعل هذا المشهد أن يوقظهم - قبل فوات الأوان - لقول الكلمة التي سيقولونها في الموقف العصيب. فيقولوها الآن في وقتها المطلوب.
وإلى جوار هذا المشهد البائس المكروب يعرض مشهد المؤمنين في هذه الأرض : إذا ذكروا بآيات ربهم.«خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» .. وهي صورة موحية شفيفة ترف حولها القلوب. يعرض إلى(1/871)
جوارها ما أعده اللّه لهذه النفوس الخاشعة الخائفة الطامعة من نعيم يعلو على تصور البشر الفانين : «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» .. ويعقب عليه بمشهد سريع لمصائر المؤمنين والفاسقين في جنة المأوى وفي نار الجحيم. وبتهديد المجرمين بالانتقام منهم في الأرض أيضا قبل أن يلاقوا مصيرهم الأليم.
ثم ترد إشارة إلى موسى - عليه السّلام - ووحدة رسالته ورسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - والمهتدين من قومه ، وصبرهم على الدعوة ، وجزائهم على هذا الصبر بأن جعلهم اللّه أئمة. وفي هذه الإشارة إيحاء بالصبر على ما يلقاه الدعاة إلى الإسلام من كيد ومن تكذيب.
وتعقب هذه الإشارة جولة في مصارع الغابرين من القرون ، وهم يمشون في مساكنهم غافلين .. ثم جولة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء بالحياة والنماء فيتقابل مشهد البلى ومشهد الحياة في سطور.
وتختم السورة بحكاية قولهم : «مَتى هذَا الْفَتْحُ؟» وهم يتساءلون في شك عن يوم الفتح الذي يتحقق فيه الوعيد. والجواب بالتخويف من هذا اليوم والتهديد. وتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليعرض عنهم ويدعهم لمصيرهم المحتوم. (1)
مجمل ما اشتملت عليه السورة الكريمة من الموضوعات
(1) إثبات رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيان أن مشركى العرب لم يأتهم رسول من قبله.
(2) إثبات وحدانية اللّه ، وأنه المتصرف فى الكون ، المدبر له على أتم نظام وأحكم وجه.
(3) إثبات البعث والنشور ، وبيان أنه يكون فى يوم كألف سنة مما تعدون.
(4) تفصيل خلق الإنسان فى النشأة الأولى ، وبيان الأطوار التي مرت به ، حتى صار بشرا سويا.
(5) وصف الذلة التي يكون عليها المجرمون يوم القيامة ، وطلبهم الرجوع إلى الدنيا لإصلاح أحوالهم ، ورفض ما طلبوا لعدم استعدادهم للخير والفلاح.
(6) تفصيل أحوال المؤمنين فى الدنيا ، وذكر ما أعده اللّه لهم من النعيم ، والثواب العظيم فى الآخرة.
(7) استعجال الكفار لمجئ يوم القيامة استبعادا منهم لحصوله. (2)
================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2802)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (21 / 123)(1/872)
(33) سورة الأحزاب
هكذا سميت {سورة الأحزاب} في المصاحف وكتب التفسير والسنة، وكذلك رويت تسميتها عن ابن عباس وأبي بن كعب بأسانيد مقبولة. ولا يعرف لها اسم غيره. ووجه التسمية أن فيها ذكر أحزاب المشركين من قريش ومن تحزب معهم أرادوا غزو المسلمين في المدينة فرد الله كيدهم وكفى الله المؤمنين القتال. وهي مدنية بالاتفاق، وسيأتي عن ابن عباس أن آية {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} [الأحزاب: 36] الخ نزلت في تزويج زينب بنت جحش من زيد بن حارثة في مكة. وهي التسعون في عداد السور النازلة من القرآن، نزلت بعد سورة الأنفال، وقبل سورة المائدة.
وكان نزولها على قول ابن إسحاق أواخر سنة خمس من الهجرة وهو الذي جرى عليه ابن رشد في "البيان والتحصيل" . وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك: أنها كانت سنة أربع وهي سنة غزوة الأحزاب وتسمى غزوة الخندق حين أحاط جماعات من قريش وأحابيشهم وكنانة وغطفان وكانوا عشرة آلاف وكان المسلمون ثلاثة آلاف وعقبتها غزوة قريظة والنضير. وعدد آيها ثلاث وسبعون باتفاق أصحاب العدد.
ومما يجب التنبيه عليه مما يتعلق بهذه السورة ما رواه الحاكم والنسائي وغيرهما عن زر بن حبيش قال: قال لي أبي بن كعب: كأين تعدون سورة الأحزاب? قال: قلت: ثلاثا وسبعين آية. قال: أقط - بهمزة استفهام دخلت على قط، أي: حسب - فوالذي يحلف به أبي: إن كانت لتعدل سورة البقرة. ولقد قرأنا فيها: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتية نكالا من الله والله عزيز حكيم" فرفع فيما رفع، أي: نسخ فيما نسخ من تلاوة آياتها. وما رواه أبو عبيد القاسم بن سلام بسنده وابن الأنباري بسنده عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - مائتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن. وكلام الخبرين ضعيف السند. ومحمل الخبر الأول عند أهل العلم أن أبيا حدث عن سورة الأحزاب قبل أن ينسخ منها ما نسخ. فمنه ما نسخت تلاوته وحكمه ومنه ما نسخت تلاوته خاصة مثل آية الرجم. وأنا أقول: إن صح عن أبي ما نسب إليه فما هو إلا أن شيئا كثيرا من القرآن كان أبي يلحقه بسورة الأحزاب وهو من سور أخرى من القرآن مثل كثير من سورة النساء الشبيه ببعض ما في سورة الأحزاب أغراضا ولهجة مما فيه ذكر المنافقين واليهود، فإن أصحاب رسول الله لم يكونوا على طريقة واحدة في ترتيب آي القرآن ولا في عدة سوره وتقسيم سوره كما تقدم في المقدمة الثامنة ولا في ضبط المنسوخ لفظه. كيف وقد أجمع حفاظ القرآن والخلفاء الأربعة وكافة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا(1/873)
الذين شذوا على أن القرآن هو الذي في المصحف وأجمعوا في عدد آيات القرآن على عدد قريب بعضه من بعض كما تقدم في المقدمة الثامنة.
وأما الخبر عن عائشة فهو أضعف سندا وأقرب تأويلا فإن صح عنها، ولا إخاله، فقد تحدثت عن شيء نسخ من القرآن كان في سورة الأحزاب. وليس بعد إجماع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مصحف عثمان مطلب لطالب.
ولم يكن تعويلهم في مقدار القرآن وسوره إلا على حفظ الحفاظ. وقد افتقد زيد ابن ثابت آية من سورة الأحزاب لم يجدها فيما دفع إليه من صحف القرآن فلم يزل يسأل عنها حتى وجدها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري وقد كان يسمع رسول الله يقرؤها، فلما وجدها مع خزيمة لم يشك في لفظها الذي كان عرفه. وهي آية {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} إلى قوله: {تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23]. وافتقد الآيتين من آخر سورة براءة فوجدهما عند أبي خزيمة بن أوس -المشتهر بكنيته-.
وبعد فخبر أبي بن كعب خبر غريب لم يؤثر عن أحد من أصحاب رسول الله فنوقن بأنه دخله وهم من بعض رواته. وهو أيضا خبر آحاد لا ينتقض به إجماع الأمة على المقدار الموجود من هذه السورة متواترا. وفي "الكشاف" : وأما ما يحكى أن تلك الزيادة التي رويت عن عائشة كانت مكتوبة في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن، أي الشاة، فمن تأليفات الملاحدة والروافض ا هـ.
ووضع هذا الخبر ظاهر مكشوف فإنه لو صدق هذا لكانت هذه الصحيفة قد هلكت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بعده والصحابة متوافرون وحفاظ القرآن كثيرون فلو تلفت هذه الصحيفة لم يتلف ما فيها من صدور الحفاظ. وكون القرآن قد تلاشى منه كثير هو أصل من أصول الروافض ليطعنوا به في الخلفاء الثلاثة، والرافضة يزعمون أن القرآن مستودع عند الإمام المنتظر فهو الذي يأتي بالقرآن وقر بعير. وقد استوعب قولهم واستوفى إبطاله أبو بكر بن العربي في كتاب "العواصم من القواصم" .
أغراض هذه السورة
لكثير من آيات هذه السورة أسباب لنزولها، وأكثرها نزل للرد على المنافقين أقوالا قصدوا بها أذى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وأهم أغراضها: الرد عليهم قولهم لما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة فقالوا: تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك فأنزل الله تعالى إبطال التبني. وأن الحق في أحكام الله لأنه الخبير بالأعمال وهو الذي يقول الحق. وأن ولاية النبي - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين أقوى ولاية، ولأزواجه حرمة الأمهات لهم، وتلك ولاية من جعل الله فهي أقوى وأشد من ولاية الأرحام. وتحريض المؤمنين على التمسك بما شرع الله لهم لأنه أخذ العهد بذلك على جميع النبي ين. والاعتبار بما أظهره الله من عنايته(1/874)
بنصر المؤمنين على أحزاب أعدائهم من الكفرة والمنافقين في وقعة الأحزاب ودفع كيد المنافقين. والثناء على صدق المؤمنين وثباتهم في الدفاع عن الدين. ونعمة الله عليهم بأن أعطاهم بلاد أهل الكتاب الذين ظاهروا الأحزاب.
وانتقل من ذلك إلى أحكام في معاشرة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر فضلهن وفضل آل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفضائل أهل الخير من المسلمين والمسلمات. وتشريع في عدة المطلقة قبل البناء.
وما يسوغ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأزواج. وحكم حجاب أمهات المؤمنين ولبسة المؤمنات إذا خرجن. وتهديد المنافقين على الإرجاف بالأخبار الكاذبة. وختمت السورة بالتنويه بالشرائع الإلهية فكان ختامها من رد العجز على الصدر لقوله في أولها: {و اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأحزاب: 2]، وتخلل ذلك مستطردات من الأمر بالائتساء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - . وتحريض المؤمنين على ذكر الله وتنزيهه شكرا له على هديه. وتعظيم قدر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الله وفي الملأ الأعلى، والأمر بالصلاة عليه والسلام. ووعيد المنافقين الذين يأتون بما يؤذي الله ورسوله والمؤمنين. والتحذير من التورط في ذلك كيلا يقعوا فيما وقع فيه الذين آذوا موسى عليه السلام. (1)
مناسبتها لما قبلها
مع أن هذه السورة مدنية ، ومع أن السورة التي قبلها (السجدة) مكية ، ومع الفاصل الزمنى الممتد بينهما ، فقد اتصلت السورتان بعضهما ببعض ، والتقى ختام السابقة منهما ببدء التالية ، حتى لكأنهما سورة واحدة .. وهذا مما يدل على أن ترتيب السّور في المصحف توقيفى كترتيب الآيات في السور .. وهذا يعنى أن الصورة التي نزل عليها القرآن تختلف جمعا وترتيبا ـ وإن لم تختلف مادة وموضوعا ـ عن الصورة التي انتظم عليها نظام القرآن ، بعد أن تم نزوله ، فى العرضة الأخيرة التي كانت بين جبريل وبين النبىّ ـ صلوات اللّه وسلامه عليهما ـ على ما سنرى ذلك عند تفسير السورة.
وهنا يلقانا أمر نحبّ أن نقف عنده ، وننظر فيه ، وفي الآثار التي تنجم عنه ..
[فتنة الترتيب النزولى للقرآن ] فهناك دعوة جديدة محمومة بدأت تظهر في آفاق مختلفة في محيط العالم الإسلامى ، وفي خارج هذا المحيط ، تدعو إلى إعادة نظم القرآن وجمعه على حسب ترتيب نزوله .. بمعنى أن يكون المصحف القرآنى المقترح ، مبتدئا بأول آية تلقاها النبي الكريم ، وحيا من ربه ، ثم الآية التي تليها ، وهكذا آية آية ، وآيات آيات ، حتى آخر آية نزلت على النبي ..
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (21 / 175)(1/875)
وهذا أمر يبدو في ظاهره أنه دراسة من الدراسات التي تخدم القرآن ، مثل تلك الدراسات التي قامت حول الكتاب الكريم ، كأسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ ، والمكي والمدني ، والنهارى والليلى ، وما نزل ببيت المقدس ، وما نزل بالطائف ، وما نزل بالسفر ، وما نزل بالحضر ، إلى غير ذلك من تلك الدراسات الكثيرة ، التي تدور في فلك القرآن ، ولا تمس الصميم منه ..
ومن هنا كان خطر هذه الدعوة ، التي قد ينخدع لها كثير من المسلمين ، والتي ربما اندفع في تيارها ، بعض العلماء ، عن نية حسنة ، ومقصد سليم ، إذ كان الأمر في ظاهره دراسة في كتاب اللّه ، وفتحا جديدا ، يعد كشفا من كشوف العلم الحديث في دراسة القرآن ..
ويبدو الخطر الذي يتهدد القرآن من الفتنة ، ماثلا من وجوه :
فأولا : استحالة ضبط صورة القرآن على حسب الترتيب النزولى لآياته ..حيث لم يعرف الترتيب النزولى إلا لعدد محدود من آيات القرآن ، لا تمثل إلا أقل القليل منه .. قد لا تتجاوز بضع آيات ، أو عشرات من الآيات على أكثر تقدير .. وحتى هذا القليل الذي يقال إنه معروف الترتيب ، لم يقع الإجماع بين العلماء عليه ، وحتى أنهم لم يتفقوا على أول ما نزل به الوحى ، كما لم يتفقوا على آخر ما نزل به .. فبينما يقول أكثرهم إن أول ما تلقى النبي من وحي ، هوقوله تعالى : « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ » ـ بينما يقول أكثرهم هذا ، يقول بعضهم ـ كما في صحيح مسلم ـ إن أول ما نزل من القرآن « المدثر » كما يقول آخرون ، إن أول ما نزل من القرآن « الفاتحة » ثم نزل بعدها المدثر ، ثم الآيات الثلاث الأولى من سورة « نوح ».وبينما يقول أكثر العلماء ، إن آخر القرآن نزولا هوقوله تعالى : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً » (3 :
المائدة) إذ يقول آخرون إن آخر ما نزل من القرآن هو : « إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ » ويقول غيرهم إن آخر القرآن نزولا هوقوله تعالى : « وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ » (281 : البقرة) وفي البخاري أن آخر القرآن نزولا :« يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ » (176 : النساء).
فإذا كان المسلمون لم يتفقوا على أول آيات نزلت من القرآن ، كما لم يتفقوا على آخر ما نزل منه ، فكيف يقع اتفاقهم فيما وراء ذلك ؟ والمعروف أن أوائل الأمور ، وأواخرها أكثر إلفاتا للناس وشدّا لانتباههم ، وإيقاظا لمشاعرهم ، وتعلقا بذاكرتهم ، من غيرها! ثانيا : لو سارت هذه الفتنة إلى غايتها ، وسلّم لأصحابها أن يمضوا بها كما يشاءون ـ ومع افتراض النية الحسنة فيهم ـ فإن الذي سيحدث من هذا هو أن تتغير صورة القرآن تغيرا كبيرا ، لا يصبح معه القرآن قرآنا ، بل سيكون هناك عشرات ، بل مئات وألوف من المصاحف التي تسمى قرآنا ، والتي لا يلتقى واحد منها مع آخر .. وكل ما فيها أنها(1/876)
آيات القرآن ، انفرط عقدها ، وتناثرت آياتها ، كما تتناثر أجزاء آلة من الآلات الميكانيكية أو الكهربية ، ثم تتناولها أيدى أطفال ، يجمعونها ويفرقونها كما يشاءون! ونضرب لهذا مثلا من القرآن ، لصورة من تلك الصور التي يمكن أن نجىء عليها سورة كسورة العلق مثلا ، وهى التي يكاد يتفق العلماء على أن الآيات الأولى منها كانت أول ما نزل من الوحى .. وهى قوله تعالى : « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ » إلى قوله تعالى : « عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ».. ثم نصل هذه الآيات بما قيل إنه كان أول ما تلقاه النبي بعدها من آيات ، وهى قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ » ثم لنصل بها ما كان تاليا لها في النزول ، وهى الآيات الثلاث من أول سورة « نوح ».
ونقرأ هذا القرآن : « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ »
« يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ »
« إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » « قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ »..
هذه صورة ، أو سورة ، مما يمكن أن يقرأ عليه القرآن ، لو أخذ بالترتيب النزولى ، الذي تدعو إليه تلك الفتنة ، وذلك على قول واحد من تلك الأقوال الكثيرة المختلفة في هذا الترتيب ... فكيف لو أخذ بكل قول ؟ ثم كيف لو أخذ بالأقوال المختلفة كلها في القرآن كله ، فى ترتيب نزوله ؟ إنه ـ والأمر كذلك ـ لا تكاد تجتمع آية إلى آية ، حيث لا تلتقى رواية على رواية ، ولا يتفق قول مع قول .. وبهذا يكون أىّ ترتيب لآيات القرآن ، صالحا لأن يقبل أي دعوى تدّعى أنه الترتيب الذي نزل عليه .. وتستوى في هذا جميع الدعاوى التي تدعى ، إذ كانت كلها ترجع إلى غير مستند صحيح ، يعول عليه ..
ومن هذا يتسع المجال للكيد ، وتنفسح السبيل للأهواء .. وإذا الذي في أيدى المسلمين أعداد لا تحصى من كتاب اللّه .. حتى ليكاد يكون لكل مسلم قرآن يقرؤه على الترتيب الذي يراه ..
وانظر ، ماذا يكون وراء هذا من بلاء ، وفتنة! فمثلا إذا قرأ قارئ آية ، ثم أتبعها أخرى ، وجد مئات ، وألوفا من الخلاف عليه ، هذا يقول : إن الآية التالية هى كذا ، وذاك يقول إنها هكذا.
وثالث ، ورابع .. إلى مئات المقولات وألوفها .. وحسب المسلمين من هذا فرقة وشتاتا ..! مع أن هذا أقل ما يرد عليهم من شرور هذه الفتنة ، إذا كان هذا الخلاف في غير آيات الأحكام .. أما إذا وقع ذلك(1/877)
في آيات الأحكام ، وهو واقع لا محالة ، فهيهات أن تقوم للمسلمين شريعة ، أو ينتظم لهم له رأى في حكم من أحكام دينهم ..
وخذ مثلا لهذا ، الآيات الواردة في الخمر ، أو الربا ، والتي روعى في نزولها أخذ المسلمين بالرفق والحكمة ، فى تحريم هذين المنكرين .. فجاء الحكم في تحريمهما متدرجا ، من التنزه والتعفف ، إلى الكراهية ، ثم إلى التحريم ..
إن لقائل أن يقول : إن آيات الخمر نزلت على هذا الترتيب :«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ .. وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ».
وإن لقائل هذا القول لمنطقا ، إذ أن له أن يقول ، إن آيات الخمر نزلت جملة واحدة ، جمعت أطراف الأمر كله! وعلى هذا يكون النظر في حرمة الخمر وحلّه .. ثم إن له أن يقول ـ وإن لقوله لمنطقا ـ : إن الخمر ليس حراما حرمة مطلقة ، إلا أن يسكر منه شاربه ، ثم يصلى وهو سكران! ويقال : مثل هذا كذلك في الربا ، على اعتبار أن آخر الآيات نزولا هى قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً ».
. فالربا لا يكون ـ على هذا الاعتبار حراما إلا إذا كان أضعافا مضاعفة.
وهكذا يمكن أن تعرض أحكام الشريعة كلها على آيات القرآن ، وتستدار لها الآيات على أي وجه يقيمه الناس عليه ..
وثالثا : لو سلّم جدلا ، بإمكان ترتيب القرآن ترتيبا زمنيا بحسب نزوله ـ وهو أمر مستحيل استحالة مطلقة ـ فما جدوى هذا ؟ وماذا يعود على دارسى القرآن منه ؟
لقد أشرنا إلى بعض الأخطار المزلزلة التي تهدد الإسلام ـ شريعة وعقيدة ـ من هذه الفتنة فهل وراء هذه المجازفة شىء من الخير ، يقوم إلى جوار هذه الشرور العظيمة الناجمة منها ؟ إن كل شر يقوم إلى جواره(1/878)
بعض الخير ، الذي قد يجعل للشر وجها يحتمل عليه ، ويبّرر الأخذ به ..فهل في هذا الشر أية لمحة من لمحات الخير ؟ .
والذي نقطع به أن هذا العمل شر محض ، وإن زين أهله ظاهره بهذا الطلاء الزائف ، تحت شعار الدراسة التاريخية للقرآن ، على نحو الدراسة الجغرافية ، أو الدراسة النفسية ، أو غير ذلك من الدراسات التي تضاف إلى القرآن ، وتدور في فلكه ، دون أن تمس الصميم منه ..
ولا نقف طويلا في مواجهة هذه الفتنة ، ولا نمعن النظر كثيرا في وجهها الكئيب المشئوم .. وننظر في كتاب اللّه ، الذي في أيدينا ، نظرا مباشرا ، على ما تركه فينا من أنزل إليه هذا الكتاب ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ فهذا هو القرآن الذي أمرنا بالتعبد به تلاوة ، والعمل بأحكامه ، وآدابه على ما نتلوه عليه .. فهذا هو قرآننا ، وهذا هو ديننا الذي نتلقاه من كتابنا .. وإن أية تلاوة تقوم على غير هذا الوجه ، هى كلام ، لا قرآن ، وإن أية شريعة تقوم على غير هذه التلاوة ليست من شريعة الإسلام ، ولا من دين اللّه ، سواء التقت مع شريعة اللّه أو لم تلتق معها ، وسواء أوافقت دين الإسلام ، أو خالفته ..
نقول هذا ، ونحن على علم ، وعلى إيمان بأن القرآن الكريم نزل منجما ، ولم ينزل جملة واحدة ، وأنه كان في مرحلة نزوله ، على ترتيب غير هذا الترتيب الذي انتهى إليه ، بعد أن تم نزوله!.
فهناك دوران قام عليهما بناء القرآن الكريم .. دور الدعوة .. ثم الدور الذي تلاها .. ولكل من الدورين أسلوبه ، وغايته.
القرآن في دور الدعوة :
ونزول القرآن في دور الدعوة ، قام على أسلوب خاص ، من حيث تنجيم النزول ، وترتيبه معا .. فمن حيث التنجيم .. لم ينزل القرآن جملة واحدة .. بل نزل آية آية ، وآيات آيات ، حسب مقتضيات الدعوة ، ومستلزمات أحداثها .. وقد بين اللّه سبحانه وتعالى الحكمة في هذا ، فقال تعالى : « وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا » (106 : الإسراء) كما زاد ذلك بيانا في قوله سبحانه : « وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ؟ .. كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً » (32 ـ 33 الفرقان).
ومن حيث ترتيب النزول .. فقد نزل القرآن لغاية تحقق أمرين :
أولهما : اقتلاع الشرك ، الذي كان قد استولى على الحياة الإنسانية كلها ، واغتال مواطن الإيمان في كل بقعة منها .. ليقيم في الأرض مكانا للإيمان باللّه ، حتى يعتدل ميزان الإنسانية ، ويكون لها نهار يدور في فلكها ، مع هذا الليل الطويل الذي تعيش فيه ..(1/879)
وثانيهما : إقامة شريعة في تلك المواطن التي قام فيها الإيمان ، حتى تثبت أصوله ، وتطلع ثمراته ، فيكون منها زاد طيب لأهل الإيمان ، يعيشون فيه ، وتطيب لهم وللناس الحياة معه ..
ولتحقيق الأمر الأول ، كانت معركة الإسلام الأولى منحصرة في ميدان الشرك .. ومن هنا كانت آياته التي تنزل في هذه المرحلة من مراحل الدعوة ، جندا مرسلة من اللّه ، تدكّ معاقل الشرك ، وتهدم حصونه ، وتفتح للعقول والقلوب ، الطريق إلى اللّه ..
وقد استغرقت هذه المرحلة الجزء الأكبر من الدعوة الإسلامية ، فى إقامة الحجج على وجود اللّه ، وكشف البراهين على وحدانيته ، وما له سبحانه من صفات الكمال والجلال .. ثم في فضح الشرك ، وتعرية آلهة المشركين من كل ما ألقوه عليهم من أوهام وضلالات ..
وفي أثناء هذا الدور كانت تتنزل بعض الآيات في الدعوة إلى مكارم الأخلاق ، وفي إقامة مشاعر الناس على الأخوة الإنسانية ، وعلى الصبر ، والرفق ، والإحسان إلى غير ذلك مما يليق بمن يعرف اللّه ، ويؤمن به ، ويدخل في زمرة عباده الذين يبتغون مرضاته ، ويرجون وحمته ..
فلما انكسرت شوكة الشرك ، وأوشكت دولته أن تدول ، أخذت آيات اللّه تتنزل بأحكام الشريعة التي تقوم عليها الحياة الروحية والمادية لهذا المجتمع الذي آمن باللّه ، وأجلى الشرك من موطنه ، فكان ما ينزل من آيات اللّه في هذا الدور ، يكاد يكون مقصورا على بناء أحكام الشريعة ، من عبادات ، ومعاملات ، وحدود ، ومن سلم ، وحرب ، وغنائم ، وغير ذلك مما ينتظمه قانون الشريعة الإسلامية ..
وكان من مقتضيات حكمة الشريعة القائمة على اليسر ، ورفع الحرج ، أن جاءت كثير من أحكام الشريعة متدرجة في تكاليفها من السهل إلى الصعب ، لأنها كانت تتعامل مع أناس قطعوا شطرا كبيرا من حياتهم في الجاهلية ، ورسب في نفوسهم ، واختلط بمشاعرهم كثير من ضلالاتها ..
فكان مما اقتضته الحكمة الإلهية أخذ هؤلاء الذين لقيهم الإسلام على أول دعوته ـ بالرفق ، والتلطف ، حتى بألفوا هذا الدين ، ويتعقلوا أحكامه ، ويأخذوا أنفسهم بها .. ولو أخذوا بغير هذا الأسلوب ، لتغير موقفهم من الشريعة ، ولما أحدثت فيهم هذه الآثار العظيمة التي أخرجت منهم خير أمة أخرجت للناس.
هذا هو الخطّ الذي قامت عليه سيرة الدعوة الإسلامية ، وعلى هذه المسيرة كانت تتنزل آيات اللّه بالزاد الذي تحتاج إليه كل مرحلة .. حتى كانت آخر آية نزلت من كتاب اللّه ، كانت الدعوة قد بلغت غايتها ، وآتت الثمر المرجو منها .. فنزل قوله تعالى : « إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ .. إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً » مؤذنا بمصافحة السماء للأرض ، مصافحة وداع ، بعد أن أودعت فيها هذا الزاد العتيد .. ثم كانت آية الختام : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً » !.(1/880)