المفَصَّلُ
في موضوعات سور القرآن
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
((حقوق الطبع لكل مسلم ))(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، القائل في محكم كتابه العزيز : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (44) سورة النحل.
والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ،القائل : « خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ » . (1)
وعلى وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم ليكون دستورا للعالمين ، قال تعالى : {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (48) سورة المائدة .
وقد أنزله على قلب النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - خلال ثلاثة وعشرين عاماً ،من أجل سهولة حفظه وفهمه والعمل به ، قال تعالى : {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} (106) سورة الإسراء
أي : وَآتَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ قُرْآناً نَزَّلْنَاهُ عَلَيْكَ مُفَرَّقاً وَمُنَجَّماً لِتَتْلُوَهُ عَلَى النَّاسِ ، وَتُبَلِّغَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى مَهْلٍ ( عَلَى مُكْثٍ ) ، لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ حِفْظِهِ ، وَفَهْمِ أَحْكَامِهِ ، وَالتَّمَعُّنِ فِيهَا لِتَرْسَخَ فِي عُقُولِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ . وَقَدْ نَزَّلْنَاهُ شَيْئاً فَشَيْئاً بِحَسَبِ الظُّرُوفِ وَالحَوَادِثِ وَالوَقَائِعِ ( نَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ) . (2)
وقد عمل به المسلمون جيلاً بعد جيل .
ولما كثر المسلمون في أصقاع المعمورة احتاجوا إلى تفسير كتاب الله تعالى فقام علماء أجلاء تبحروا في التفسير ، فكتبوا تفسير القرآن من الإمام الطبري فما بعد ، وما من عصر خلا من أئمة قاموا بتفسير كتاب الله تعالى حسب ما منَّ الله تعالى به عليهم ، ليبقى القرآن حاضرا في حياة الأمة المسلمة في كل جوانبها، ومنهم من ركَّز على جانب معين من جوانب التفسير أكثر من غيره .
وبدأ بعض المفسرين يذكر في تفسيره مناسبات سور القرآن أو بعض موضوعاتها ، كالإمام الرازي ، ولكن بقلة ، إلى أن وصلت إلى الإمام البقاعي فألف كتابا ضخما في تناسب سور وآيات القرآن لم
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (5027 ) عَنْ عُثْمَانَ - رضى الله عنه
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2136)(1/1)
يسبق إليه ، وذكر في بداية كل سورة مقاصدها بشكل موجز ، ولكنه عميق . قال في بداية تفسيره لسورة الفاتحة " فالغرض الذي سبقت له الفاتحة هو إثبات استحقاق الله تعالى لجميع المحامد وصفات الكمال ، واختصاصه بملك الدنيا والآخرة ، وباستحقاق العبادة والاستعانة بالسؤال في المن بإلزام صراط الفائزين والإنقاذ من طريق الهالكين مختصا بذلك كله ، ومدار ذلك كله مراقبة العباد لربهم ، لإفراده بالعبادة .فهو مقصود الفاتحة بالذات وغيرها وسائل إليه. " (1)
ثم الإمام الآلوسي في تفسيره الضخم ، فقد ذكر في بداية كل سورة تناسبها مع التي قبلها ، وغالباً ما ينقل ذلك عن الإمام السيوطي .
وأكثر من تكلَّم في موضوعات السور وأهدافها ومقاصدها المفسرون المعاصرون ، وأولهم المراغي رحمه الله حيث ذكر في مقدمة كل سورة وجه تناسبها مع التي قبلها ، ثم ذكر في نهاية كل سورة - غالبا- أهم مقاصد السورة بشكل دقيق ، بحيث تصلح لأن تكون بمثابة عناوين لموضوعات سور القرآن .
يقول في آخر تفسير سورة الزلزلة :
" اشتملت هذه السورة الكريمة على مقصدين :
(1) اضطراب الأرض يوم القيامة ودهشة الناس حينئذ.
(2) ذهاب الناس لموقف العرض والحساب ثم مجازاتهم على أعمالهم." (2)
ثم تلاه الحجازي رحمه الله صاحب التفسير الواضح ،حيث ذكر في بداية كل سورة أهم الموضوعات التي اشتملت عليها ، ولكن بشكل موجز ، فمثلاً يقول في بداية تفسيره لسورة الزلزلة :
" وفيها أثبت اللّه أن الخير مهما كان سيجازى عليه صاحبه ، وأن الشر مهما كان سيجازى عليه صاحبه ، كل ذلك يوم القيامة. " (3)
ثم تلاه دروزة رحمه الله في التفسير الحديث ، حيث ذكر ذلك في مقدمة كل سورة ، ولكن بشكل موجز ، لكنه أكثر من التفسير الواضح ، يقول في تفسير سورة الزلزلة :
" في السورة إنذار بيوم القيامة وهوله وحسابه. وحثّ على الخير وتحذير من الشرّ بصورة عامة....." (4)
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (1 / 12)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (30 / 220)
(3) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (3 / 892)
(4) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (6 / 118)(1/2)
وتلاه السيد رحمه الله في الظلال ،فقد حلَّق تحليقاً عجيباً في الكلام على موضوعات السور ، بكلام بديع ، قال مقدمة تفسير سورة الفاتحة :
"يرددُ المسلم هذه السورة القصيرة ذات الآيات السبع ، سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على الحد الأدنى وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلَّى السنن وإلى غير حد إذا هو رغب في أن يقف بين يدي ربه متنفلا ، غير الفرائض والسنن. ولا تقوم صلاة بغير هذه السورة لما ورد في الصحيحين عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من حديث عبادة بن الصامت : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية ، وكليات التصور الإسلامي ، وكليات المشاعر والتوجهات ، ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة ، وحكمة بطلان كل صلاة لا تذكر فيها .. .." (1)
ثم جاء الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسيره التحرير والتنوير ، فذكر أهم ما اشتملت عليه السورة في بداية كل سورة ، ولكن بشكل أوسع ودقيق ، يقول في بداية سورة النصر بعد تعريفه بها :
" والغَرض منها الوعد بنصر كامل من عند الله أو بفتح مكة ، والبشارة بدخول خلائق كثيرة في الإسلام بفتح وبدونه إن كان نزولها عند منصرف النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) من خيبر كما قال ابن عباس في أحد قوليه .
والإِيماءُ إلى أنه حين يقع ذلك فقد اقترب انتقال رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) إلى الآخرة .
ووعدُه بأن الله غفر له مغفرة تامة لا مؤاخذة عليه بعدها في شيء مما يختلج في نفسه الخوف أن يكون منه تقصير يقتضيه تحديد القوة الإنسانية الحدَّ الذي لا يفي بما تطلبه همَّتُه المَلَكية بحيث يكون قد ساوَى الحد الملَكي الذي وصفه الله تعالى في الملائكة بقوله : ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون ( ( الأنبياء : 20 ) ." (2)
ثم تلاه الخطيب رحمه الله (3) في التفسير القرآني بالقرآن ، فقد ذكر مناسبة كل سورة لما قبلها بشكل دقيق جدا ، يقول في مناسبة سورة المسد لما قبلها :
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 21) قلت : حول بطلان الصلاة بترك قراءة الفاتحة تفصيل بين الأئمة
(2) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (30 / 589)
(3) - لا أدري أحي هو أم مات ، والرحمة تجوز للحي والميت(1/3)
"كانت سورة « النصر » ـ كما قلنا ـ مددا من أمداد السماء ، تحمل بين يديها هذه البشريات المسعدة للنبىّ وللمؤمنين ، وتريهم رأى العين عزّة الإسلام ، وغلبته ، وتخلع عليهم حلل النصر ، وتعقد على جبينهم إكليل الفوز والظفر. وتحت سنابك خيل الإسلام المعقود بنواصيها النصر ، والتي هى على وعد من اللّه به ـ حطام هذا الطاغية العنيد الذي يمثّل ضلال المشركين كلّهم ، ويجمع فى كيانه وحده ، سفههم ، وعنادهم ، وما كادوا به للنبىّ والمؤمنين ..إنه أبو لهب .. وامرأته حمالة الحطب .." (1)
وللشيخ الصابوني رحمه الله كتاب عن موضوعات سور القرآن ، ثم أودعه في كتابه صفوة التفاسير ، والكتاب جيد في بابه ، يقول في تعريفه لسورة الكوثر :
"* سورة الكوثر مكية ، وقد تحدثت عن فضل الله العظيم على نبيه الكريم ، بإعطائه الخير الكثير ، والنعم العظيمة في الدنيا والآخرة ، ومنها [ نهر الكوثر ]وغير ذلك من الخير العظيم العميم ، وقد دعت الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) إلى إدامة الصلاة ، ونحر الهدي شكرا لله[ إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر] .
* وختمت السورة ببشارة الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) بخزي أعدائه ، ووصفت مبغضيه بالذلة والحقارة ، والإنقطاع من كل خير في الدنيا والآخرة ، بينما ذكر الرسول مرفوع على المنائر والمنابر ، واسمه الشريف على كل لسان ، خالد إلى آخر الدهر والزمان [ إن شانئك هو الأبتر ] ." (2)
ثم التفسير الوسيط لسيد طنطاوي هدانا الله وإياه، فقد ذكر أهم ما اشتملت عليه السورة في بدايتها ، قال في بداية تفسيره لسورة قريش: " ومن أهدافها : تذكير أهل مكة بجانب من نعم اللّه - تعالى - عليهم لعلهم عن طريق هذا التذكير يفيئون إلى رشدهم ، ويخلصون العبادة لخالقهم ومانحهم تلك النعم العظيمة. " (3)
ثم جاء أستاذنا وهبة الزحيلي حفظه الله في التفسير المنير ،فجمع الخلاصة في تناسب السور وأهم الموضعات التي اشتملت عليها ، وهذا في تفسيره من الفاتحة حتى الناس، يقول في تفسيره لسورة الماعون :
" مناسبتها لما قبلها :
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15 / 1702)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (3 / 529)
(3) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم لطنطاوي - (15 / 513)(1/4)
ترتبط السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة :
1 - ذم اللَّه في السورة السابقة سورة قريش الجاحدين لنعمة اللَّه الذين أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وذم في هذه السورة من لم يحضّ على طعام المسكين.
2 - أمر اللَّه في السورة المتقدمة بعبادته وحده وتوحيده : لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
وذم في هذه السورة الذين هم عن صلاتهم ساهون ، وينهون عن الصلاة.
3 - عدّد اللَّه تعالى في السورة الأولى نعمه على قريش ، وهم مع ذلك ينكرون البعث ، ويجحدون الجزاء في الآخرة ، وأتبعه هنا بتهديدهم وتخويفهم من عذابه لإنكار الدّين ، أي الجزاء الأخروي.
ما اشتملت عليه السورة :
تحدثت هذه السورة المكية في مطلعها عن الكافر ، وفي نهايتها المدنية عن المنافق.
أما مطلعها فهو في ذمّ الكافر المكذب بيوم الحساب والجزاء : أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ووصفته بصفتين : الأولى - انتهاره وزجره وطرده اليتيم ، والثانية - عدم الحض أو الحث على إطعام المسكين ، فلم يحسن في عبادة ربه ، ولم يفعل الخير لغيره.
وأما خاتمتها فهي في ذم المنافق الذي أظهر الإسلام وأخفى الكفر ، ووصفته بصفات ثلاث : الأولى - الغفلة عن الصلاة ، والثانية - مراءاته الناس بعمله ، والثالثة - منعه الماعون الذي يستعان وينتفع به بين الجيران ، فهو لا يعمل للَّه ، بل يرائي في عمله وصلاته.
وتوعدت الفريقين بالخزي والعذاب والهلاك ، ولفتت الأنظار إليهم بأسلوب الاستهجان والاستغراب والتعجيب من صنيعهم." (1)
وغالبه مستقى من تفسير المراغي ومن صفوة التفاسير مع بعض التعديلات والزيادات .
وعامة الناس يكفيهم ما ورد فيه حول ذلك.
هذا وبما أن هذا الموضوع الجلل يؤدي لفهم القرآن الكريم بشكل دقيق ، فقد أفردته بهذا الكتاب الكبير ، حيث جمعت أقوال هؤلاء الأئمة كلها فيه .
وقد اشتمل على بيان كون السورة مكية أو مدنية .
وتسمية السورة وسببه .
ومناسبة السورة لما قبلها .
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (30 / 419)(1/5)
وأغراض السورة
وأهم الموضوعات التي اشتملت عليه السورة .
ومقاصد السورة .
وما ورد فيه من أحاديث تتكلم عن أسباب النزول أو فضائل السورة أو سبب تسميتها ، فقد ورد تبعاً ، وليس أصلاً ،ففيه الصحيح والحسن والضعيف ، وسوف نفرد فضائل السور بكتاب ، وأسباب النزول بكتاب آخر إن قدر الله تعالى لنا ذلك .
وقد اشتمل هذا الكتاب على بابين :
الباب الأول عبارة عن تمهيد تطرقنا فيه للأبحاث التالية باختصار :
المبحث الأول - معرفة المكي والمدني
المبحث الثاني - الحكمة من نزول القرآن مفرقاً
المبحث الثالث-ترتيب القرآن
المبحث الرابع -كتابة القرآن وجمعه
المبحث الخامس-معرفة أسباب النزول
الباب الثاني - ويشتمل على تفصيل موضوعات السور القرآنية سورة سورة من الفاتحة حتى الناس .
وقد ذكرت مصدر كل بحث بنهايته ، في الهامش ، وقد وضعته في الشاملة 3 مفهرساً كي يتسنى لطلاب العلم البحث فيه بسهولة ، وهو موافق للمطبوع .
وأرجو من الله تعالى أن يسدَّ هذا الكتاب فراغاً في مكتبة التفسير ، وأن يكون عونا لطلاب العلم والباحثين حول هذه الموضوعات .
كما أرجو من الله تعالى أن ينفع به جامعه وقارئه وناشره والدال عليه في الدارين .
قال تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} (174) سورة النساء.
جمعه وأعده
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 25 ربيع الأول لعام 1430هـ الموافق ل21/3/2009 م
- - - - - - - - - - - - - - - -(1/6)
الباب الأول
تمهيد
المبحث الأول
معرفة المكي والمدني
مقدمة :
نزل القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - مفرقاً في خلال ثلاث وعشرين سنة، قضى رسول الله أكثرها بمكة، قال الله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً}[الاسراء:106]
ولذلك قسَّم العلماء رحمهم الله تعالى القرآن إلى قسمين: مكي ومدني:
- فالمكي: ما نَزَلَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل هجرته إلى المدينة
- والمدني: ما نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد هجرته إلى المدينة
وعلى هذا فقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً}[المائدة: الآية3] من القسم المدني وإن كانت قد نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بعرفة، ففي "صحيح البخاري"عن عمر رضي الله عنه أنه قال: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، نزلت وهو قائم بعرفة يوم جمعة. (1)
علم المكي والمدني
لبث النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة عمرا ما كان يدري فيه ما الكتاب وما الإيمان، ثم اختاره الله لتبليغ رسالته، فأوحى إليه روحا من أمره، وجعل مبعثه كمبعث الرسل الذين خلوا من قبله في سن الأربعين ليكون أنضج فكرا, وأصدق عزمًا، وأمضى إرادة، وأقوى بأسا، وأوسع تجربة, وأثبت جنانا.
ولقد بادر بعض المفسرين إلى القرآن نفسه يستخرجون من نصوصه عمر النبي قبيل البعثة، فلما لم يظفروا إلا بقوله تعالى على لسان نبيه: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ}1 انطلقوا به يجزمون بأن لفظة "العمر" ترادف سن الأربعين على وجه اليقين2. وكم خلطوا بمثل هذا التفسير العجول بين مدلول اللغة وواقع التاريخ!.
إن لفظة "العمر" لا تعين وحدها شيئا مما قطعوا به، وليس في مدلولها اللغوي إيماءة إلى مفهوم عددي صريح، ولكنها -بوحي من سياق التركيب في الجملة أو من سياق الواقع في التاريخ -قد ترمي إلى فكرة
__________
(1) - مقدمة في أصول التفسير - (2 / 7)(1/7)
العدد بضرب من التلويح: فمن قطع من أولئك المفسرين بأن سن الأربعين ترادف في الآية {عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ}، فقد استلهم واقع السيرة المطهرة ثم نزل السياق القرآني على أحكام هذا الواقع تنزيلا..
أما ما أثاره المستشرقون من شبهات حول تفسير الآية فمغالطة عليم أو سفه جهول: فإنهم زعموا أن لا قبل لباحث بتحديد عمر النبي في بدء الوحي1, وعلل بعضهم تعذر هذا التحديد باضطراب الروايات وتناقضها2 بينما فسره بعضهم الآخر بما درج عليه العرب وأكثر الساميين من إضفاء صفة سحرية على رقم الأربعين الذي ينطوي على أعمق الأسرار3.
ومغالطتهم -على علم- تتمثل في معرفتهم كذب دعواهم فيما زعموه من اضطراب الروايات، فإن تعدد الروايات لا يستلزم الاضطراب حتما، وإنما يقع التناقض والتضارب إذا تعادلت الروايات وتساوت وتعذر الترجيح بينها كما ذكر نقاد الحديث في مصطلحهم العلمي الدقيق4، فأما إذا رجحت رواية على أخرى فما من فرصة بعد للقول بالتناقض، ولينقل المؤرخون عشرات الروايات في عمر النبي5 فسيظل الرأي الأشهر هو الرأي الأصح كما رجحه المحققون من أهل التفسير6.
وجهل المسشرقين أو تجاهلهم يتمثل في حيرتهم الحقيقية أو المصطنعة لدى تحديد الرقم السحري المليء بالأسرار عند العرب والساميين, فهو الأربعون تارة، والسبعة أو السبعون تارة أخرى1، وقد فاتهم أن المبالغة في بعض الأرقام -وإن تك في ذاتها حقيقة واقعة- لا تلغي المفهوم العددي في الأحوال كافة، ولا تلازم بين الأمرين حين تنتصر لمفهوم عددي معين أوثق الروايات، أصدق وقائع التاريخ.
لا مفر إذن من مجابهة أولئك المستشرقين، مغالطيهم ومتجاهليهم، بأن الله بعث نبيه حقا على رأس الأربعين, من غير استناد إلى تفسير "العمر" في الآية، ومن غير تأثر بعقائد الساميين في هذا الرقم العجيب، بل اعتمادا على ما نطقت به الروايات الصحيحة المشهورة التي كادت تبلغ حد التواتر، إذ استفاضت بين الخاصة والعامة، وتناقلتها الألسنة القديمة والحديثة.
وما من ريب في أن إثارة الشبهات حول عمر النبي في بدء الوحي محاولة أولية للتشكيك في منطلق الدعوة الإسلامية بمكة تتلوها محاولات أخرى للغض من قيمة المعلومات المأثورة المتعلقة بمراحل الوحي المتعاقبة في مكة ثم في المدينة, فأنى للباحث أن يتصور كيف كانت تتتابع نوازل القرآن إذا كانت صورة بدء الوحي قد انطبعت في ذهنه غامضة لا تحكي الأصل في شيء؟
وإن في وسعنا الآن -وقد أزحنا عن الظروف الأولى لبدء الوحي كل لبس أو غموض، وفصلنا القول في سن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبيل البعثة- أن نتدرج مع التنزيل القرآني مرحلة مرحلة, مطمئنين إلى ما وافانا به أئمتنا المحققون في وصف تلك المراحل ابتداء ووسطا وختاما، مثلما اطمأننا -فيما سبق من فصول هذا الكتاب- إلى ما وافونا به في تحليل ظاهرة الوحي نفسها، وفي تقصي النوازل القرآنية المنجمة على حسب(1/8)
المناسبات الفردية أو الاجتماعية، وفي تحري جمع القرآن وحفظه واستنساخه في المصاحف وتحسين رسمه، وفي الاستيثاق من متواتر أحرفه السبعة، وفي تتبع أسباب نزوله وما صح من وجوه الترابط بين آياته، بما عرف عنهم من ورع بالغ يتناول الأشخاص والمتون والأسانيد، وحاسة نقدية مرهفة تعنى بالتناسق الفني ولا تهمل حقائق التاريخ.
ولعنا لا نرتاب -إذا وضعنا العلوم القرآنية موضع الموازنة- في أن العلم بالمكي والمدني أحوجها إلى تمحيص الروايات، وتحقيق النصوص، والتحاكم إلى التاريخ الصحيح، وهو -على كل حال- أحوج إلى هذا كله من "أسباب النزول"، لأن العلم بتلك الأسباب يتناول ضروبا معينة من الجزئيات المتعلقة بالمناسبات الفردية والاجتماعية, ولا يتناول شيئا من التفصيلات القرآنية الأخرى التي نزلت ابتداء غير مبنية على أسباب1، أما العلم المكي والمدني فلا غنى له عن تناول القرآن كله سورا وآيات: فكل سورة فيه إما مكية أو مدنية، وقد تستثنى من السورة المكية آيات مدنية، ومن السورة المدنية آيات مكية، كما أن كل آية في القرآن معروفة "الهوية" واضحة السيرة, فإذا اختلطت بغير زمرتها أخضعها العلماء الثقات لمقاييسهم النقدية الدقيقة حتى قطعوا أو كادوا يقطعون بأنها تنتمي إلى النوازل المكية أو المدنية.
كان العلم بالمكي والمدني إذن خليقا بالعناية البالغة التي أحيط بها، وجديرًا أن يعد بحق منطلق العلماء لاستيفاء البحث في مراحل الدعوة الإسلامية، والتعرف على خطواتها الحكمية المتدرجة مع الأحداث والظروف والتطلع إلى مدى تجاوبها مع البيئة العربية في مكة والمدينة، وفي البادية والحاضرة، والوقوف على أساليبها المختلفة في مخاطبة المؤمنين والمشركين وأهل الكتاب.
ووفاء هذا العلم بتلك المعارف الواسعة جعل بحوثه أشتاتا وألوانا: فهو في آن واحد ترتيب زماني، وتحديد مكاني وتبويب موضوعي, وتعيين شخصي.
ويخيل إلينا أن هذه الألوان المتباينة جميعا قد طافت بأذهان العلماء حين ترددوا في تقسيم المكي والمدني على أساس من المكان أو الزمان أو الأشخاص. فمن قال: "المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة" لاحظ المكان، ومن قال: "المكي ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة" راعى أشخاص المخاطبين، ومن آثر الأخذ بالاصطلاح المشهور: "المكي ما نزل قبل هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وإن كان نزوله بغير مكة، والمدني ما نزل بعد هذه الهجرة وإن كان نزوله بمكة"، عني بالترتيب الزمني في مراحل الدعوة الإسلامية. ونحن إذا نأخذ بهذا التعريف الأخير لا نكتم القارئ ما نلمحه من تحقق عناصر الزمان والمكان والأشخاص في الاصطلاحات الثلاثة على السواء1، بل نلمح فيها أيضا عنصرًا رابعًا لا يخفى على ذي بصر: وهو عنصر الموضوع.(1/9)
هذه سورة الممتحنة من مطلعها إلى ختامها2 نزلت بالمدينة إذا لاحظنا المكان، وكان نزولها بعد الهجرة إذا اعتبرنا الزمان، ووقعت خطابا لأهل مكة إذا أردنا الأشخاص، واشتملت على توجيه اجتماعي محص قلوب المؤمنين إذا رغبنا بمعرفة موضوعها، لذلك أدرجها العلماء في باب "ما نزل بالمدينة وحكمه مكي"3.
وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}4 نزل بمكة إذا التمسنا المكان، ويوم الفتح بعد الهجرة إن تحرينا الزمان، والغاية منه الدعوة إلى التعارف وتذكير الإنسانية بوحدة أصلها إن عينا الموضوع، وهو -إن راعينا الأشخاص- خطاب لأهل مكة والمدينة على السواء، فما سماه العلماء مكيا على الإطلاق، ولا مدنيا على التعيين, بل أدرجوه في باب "ما نزل بمكة وحكمه مدني"5.
على أننا لم نتردد في تفضيل التقسيم الزمني للمكي والمدني؛ لأننا نواجه موضوعا وثيق الصلة بالتاريخ, فليس لنا أن نختار في مثله التبويب المكاني ما دمنا نرمي إلى تحديد ما نزل بمكة أو بالمدينة ابتداء ووسطا وختاما، فإن هذه الأطوار المتعاقبة تفرض أن يكون اختيار الترتيب الزمني أمرا بديهيا لا مجال للتردد فيه، أما تعيين الأشخاص واستخراج الموضوعات فأمران ثانويان يقعان موقعهما المناسب من الترتيب الزمني المترادف ترادف الوقائع والأحداث.
وبهذا المنهج التاريخي الزمني, الذي لا يتغاضى عن الآفاق النفسية والأطوار الاجتماعية، ولا يتجاهل أثر البيئة في الحياة والأحياء, أخذ المحققون من علمائنا وشددوا في مأخذهم به حتى منعوا الجاهل بمراحل الدعوة الإسلامية أن يتصدى لكتاب الله مفسرًا لآياته أو خائضا فيه، قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري1: "من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة ابتداء ووسطا وانتهاء وترتيب ما نزل بالمدينة كذلك، ثم ما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي"2.
ويعنينا من قول أبي القاسم النيسابوري هنا أنه التفت التفاتة صريحة إلى تقسيم القرآن كله إلى ست مراحل زمنية: ثلاث في مكة بداية وتوسطا وختاما، وثلاث بعدها في المدينة بداية وتوسطا وختاما. فما جنح إليه بعض المستشرقين من ترتيب القرآن على أسباب النزول, وتقسيمه إلى مراحل ست أو أربع3 -كما سنرى بعد قليل- لا ضرر فيه لذاته، إذا أباح الخوض في مثله علماؤنا الأعلام, وإنما يتجسد الضرر فيه حين يتجافى هذا الترتيب على الروايات الصحيحة ويأخذ بالرأي المرتجل الفطير.
ولو أتممنا عبارة أبي القاسم النيسابوري لألفيناه فيها -بعد التزامه المنهج التاريخي الزمني- لا يلبث أن يلحق بهذا المنهج نفسه جزئيات تبدو في نظرنا صغيرة يسيرة، ولكنها في نظره هامة جليلة، إذ يجعل العلم بها فريضة على كل من يعنى بتفسير كتاب الله المجيد: فعلى المفسر المحقق أن يعرف كذلك "ما نزل بمكة(1/10)
في أهل المدينة, وما نزل بالمدينة في أهل مكة، ثم ما يشبه نزول المكي في المدني، وما يشبه نزول المدني في المكي، ثم ما نزل بالجحفة1، وما نزل ببيت المقدس, وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، ثم ما نزل ليلا، وما نزل نهارًا، وما نزل مشيعا، وما نزل مفردا، ثم الآيات المدنيات في السور المكية والآيات المكية في السور المدنية، ثم ما حمل من مكة إلى المدينة، وما حمل من المدينة إلى مكة، وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة, ثم ما نزل مجملا، وما نزل مفسرًا، وما نزل مرموزا، ثم ما اختلفوا فيه فقال بعضهم: مكي، وبعضهم مدني: هذه خمسة وعشرون وجها من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله تعالى2".
ونحن نعترف بأنه ليس في وسعنا أن نعرض هنا تفصيلا لتلك الملابسات كافة، فإن بحث كل منهما على حدة يستغرق مجلدا بأكمله، وهيهات له أن يكون وافيا بالمقصود، شافيا للغليل، فحسبنا -للدالالة على ما عاناه العلماء في تتبع مراحل الوحي- أن نشير إجمالا إلى بعض الروايات التي لم يكتف أصحابها بوصف ما نزل في مكة أو في المدينة، قبل الهجرة أو بعدها، بل بلغت عنايتهم بهذا الكتاب الكريم أقصى ما يبلغه الباحثون من التحري والتدقيق، فلم يفتهم ذكر أبسط التفصيلات وأصغر الجزئيات.
لاحظوا مثلا بصورة عامة أن أكثر القرآن نزل نهارا3، ثم استرعى انتباههم أن هذه القاعدة لم تتبع في بعض الحالات الجزئية، فسورة مريم أنزلت ليلا. روى الطبراني1 عن أبي مريم الغساني قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ولدت لي الليلة جارية، فقال: "والليلة أنزلت علي سورة مريم، سمها مريم"2. وأول سورة الفتح نزلت ليلاً، ففي البخاري من حديث عمر: "لقد نزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس"، فقرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}3. وأول سورة الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} نزل ليلا في غزوة بني المصطلق، وهم حي من خزاعة، والناس يسيرون4.
ويوشك أحدنا -إذا جعل الروايات الصحيحة عمدته- أن يستحضر النازل القرآني في أي جزء من الليل كان؛ في وسطه أم أوله أم آخره، وإني لأتمثل هذه اللحظة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح حين نزل عليه -كما في الصحيح- قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}5، ثم أتمثله صلوات الله عليه في خيمة من أدم وقد بات نفر من أصحابه على باب الخيمة يحرسونه، فلما أن كان بعد هزيع من الليل أنزل الله عليه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}6. وأتمثله أخيرا عند السيدة أم سلمة أم المؤمنين وقد بقي من الليل ثلثه7 حين نزلت عليه آية الثلاثة الذين خلفوا8.
ولقد تكون الليلة شاتية، ويكون البرد فيها شديدا، فلا يفوت الراوي أن يصفها لنا إرهاصا لذكر الآيات التي نزلت في هذا الجو المكفهر، فما من جزئية مهما تكن تافهة في نظرنا الآن إلا وهي على لسان الراوي شيء له قيمته الدينية والاجتماعية، فليصورها تصويرا واقعيا أمينا، ولا ينقصن منها ولا يزيدن عليها:(1/11)
أولئك هم الناس يتفرقون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الأحزاب إلا اثني عشر رجلا فيخاطب عليه الصلاة والسلام الصحابي الجليل حذيفة قائلا: "قم فانطلق إلى عسكر الأحزاب" فيجيبه حذيفة: والذي بعثك بالحق ما قمت لك إلا حياء.. من البردّ. فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}1.
ونجد في المقابل أن الآيات النازلة في غزوة تبوك إنما كانت في شدة الحر، وأن رجلا من المنافقين قال يومئذ: لا تنفروا في الحر، فأنزل الله: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا}2.
وإذا كان أكثر القرآن نزل في الحضر فإن تنقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في سبيل الدعوة جعله يتلقى الوحي أحيانا في بعض أسفاره, تثبيتا لفؤاده، وتأييدا لجهاده، وكثيرا ما يعبر الرواة عن هذا بمثل قولهم: نزلت الآية أو الآيات على النبي - صلى الله عليه وسلم - في "مسير" له. ويغلب عليهم تعيين هذا المسير، وتحديد السفر ومكانه وزمانه: وفي الصحيح عن عمر أن قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}3 نزل عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع، وفي "دلائل" البيهقي أن خاتمة سورة النحل نزلت بأحد والنبي - صلى الله عليه وسلم - واقف على حمزة حين استشهد4.
ولقد كانت حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - سلسلة من الجهاد المتواصل، فكثر نزول الوحي عليه في مغازيه: ففي بدر عقب الواقعة نزل أول الأنفال1، وفي عمرة الحديبية نزل قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى}2، وفي تبوك نزل قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا}3. وقد تتبع السيوطي عددا من الأمثلة الأخرى تراجع في موضعها من "الإتقان"4.
وليلة الإسراء والمعراج ليست إلا ليلة في حساب الزمان، ولكنها جزء من الأزل البعيد العميق في علم الله، فمن القرآن آيات نزلت في تلك الليلة القدسية، ولئن صح أن قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}5 نزل ببيت المقدس عندما أسرى الله بعبده ليلا6، فإن الآيتين من آخر سورة البقرة نزلتا -كما يقول ابن العربي: "في الفضاء بين السماء والأرض"7 حين رأى محمد من آيات ربه الكبرى ساعة المعراج.
وهذا الاستقصاء في تحري ما عسى أن يبدو لبعضهم غير ذي بال لم يكن له في نفوس الرواة والعلماء إلا تفسير واحد: إنه صدق الرواية وإمكان الثقة بها إلى أبعد حد فيما يتعلق بتحديد المكي والمدني في كتاب الله.
وعلى هذا الأساس من الدقة والاستقصاء فرق العلماء بين ما يشبه تنزيل المدينة في السور المكية وما يشبه تنزيل مكة في السور المدنية1، وغرضهم من التعبير، "بالتشبيه" واضح، فإنهم يلاحظون الطابع العام لكل(1/12)
سورة ثم ما يشبه هذا الطابع شبها قريبا يكاد يلحقه به، فإذا وجدت في سورة هود المكية مثل قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ}...2 فليس من الضروري أن تعتبرها مدنية وإن أشبهت التنزيل المدني. وإذا تلوت في سورة الأنفال المدنية مثل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}3 فليس لك أن تحكم بأنها مكية ولو كان فيها من التنزيل المكي ظلال وسمات.
وكثيرا ما يصرف وجه الشبه القريب بين المكي والمدني الباحثين المتسرعين عن تتبع مرحلة دقيقة خطيرة في تاريخ الدعوة الإسلامية, حين تستدعي ظروف معينة حمل النازل القرآني من مكان إلى مكان، ولكن العلماء الثقات وافونا بذلك كله، فلكل آية في القرآن تاريخها، بل لكل لفظة فيه سيرتها وترجمتها: فمن شيخ المفسرين الطبري علمنا أن قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}4 حمل من المدينة إلى مكة5، ومن القرطبي6 علمنا أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا}1 حمل مع الآيات من أول سورة براءة من المدينة إلى مكة، ثم قرأها علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم النحر على الناس2.
وحين نجد علماءنا يبذلون هذا الجهد المشكور في تحري الروايات وضبطها ليرتبوا السور القرآنية تبعا لتطورات الدعوة وأدق جزئياتها، لا نملك أنفسنا من الدهشة والذهول إذ نسمع المستشرقين يدعون بالويل والثبور على الرواة والروايات، ويرتابون في إمكان ترتيب القرآن اعتمادا على سيرة الرسول3.
ومن الغريب حقا أن يظن المسشرقون أن في وسعهم ترتيب القرآن زمنيا وهم يجحدون كل أثر للرواية الصحيحة في هذا الترتيب، ولو كانوا يتشددون في الروايات فلا يقبلون منها إلا المسندة الصحيحة لهان الأمر, فإن علماء الإسلام أنفسهم كانوا -ولا يزالون- يرفضون الأخذ بالروايات الضعيفة في المكي والمدني وغيرهما من الموضوعات التي تلقي الضياء ساطعا على تتبع مراحل الوحي القرآني، وترتيب سوره وآياته، وتدرج تعاليمه، وإرشاداته، على أن بين المستشرقين من حاول أن يبحث هذا الموضوع على صعيد لا يختلف كثيرا عن صعيدنا، كالأستاذ غريم H. Grimme الذي اعتمد على الروايات والأسانيد الإسلامية في ترتيب سور القرآن4. ويؤخذ عليه مع ذلك أمران: أما أحدهما فعدم تمحيصه صحيح تلك الروايات وسقيمها وعجزه كسائر المستشرقين عن هذا التمحيص، ولذلك لم يبال بترتيب القرآن على أساس واه من الأسانيد الضعيفة أحيانا والباطلة أحيانا أخرى. وأما الآخر فهو تخليه عن المنهج الذي اشترطه على نفسه من احترام الروايات ليصدر في نهاية المطاف - في مواطن مختلفة- عن رأي المستشرق نولدكه في وصف المراحل المتعاقبة على الوحي القرآني1.(1/13)
والواقع أن المستشرق نولدكه Noldeke كان مقتنعا بضرورة ترتيب القرآن زمنيا على غير الطريقة الإسلامية, وقد رسم لنفسه منهجا جديدا تأثر به كثيرون، فأصبح موضوع هذا الترتيب يشغل أذهان المستشرقين جميعا، ويعلقون عليه أخطر النتائج في عالم الدراسات القرآنية.
وقد ظهرت في أروبة في منتصف القرن التاسع عشر محاولات لترتيب سور القرآن ودراسة مراحله التاريخية، منها محاولة وليم موير William Muir الذي قسم المراحل القرآنية إلى ست، خمس في مكة وسادستها في المدينة2.
واعتمد فيها -إلى حد غير قليل- على سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأسانيدها بعد دراستها دراسة نقدية حشد لها الكثير من معلوماته التاريخية3، ولكنه وقع -مع ذلك- في أخطاء عديدة وأخذ بروايات واهية، والمقارنة في هذا المجال بينه وبين غريم Grimme ستظل ممكنة ميسورة.
ومنها محاولة ويل Weil التي بدأها سنة 1844 ولم تتخذ صورتها النهائية إلا سنة 1872، ولا يقيم فيها وزنا للروايات والأسانيد الإسلامية4، لذلك كانت في نظر بلاشير "الطريقة الوحيدة المثمرة حقا"5، وكان من قبله في نظر نولدكه نقطة الانطلاق في أجرأ محاولة لترتيب القرآن فبها أخذ، وعلى كثير من أسسها بنى دراسته.
وكان ويل Weil قد قسم المراحل القرآنية إلى أربع: ثلاث في مكة ورابعة في المدينة، فتابعه على ذلك نولدكه سنة 1860 عندما ظهر كتابه عن "تاريخ القرآن"1 للمرة الأولى، مع إجراء بعض التعديلات الطفيفة في محتويات كل مرحلة على حدة، ثم تابعه مرة ثانية مع نظائر هذه التعديلات عندما شاركه شفالي Schwally في نشر الكتاب منقحا مزيدًا.
وقد تأثر بهذه الطريقة كل من بل2 R.Bell ورودويل Rodwell3 وبلاشير Blachere4 وتظل ترجمته بلاشير للقرآن في نظرنا أدق الترجمات، للروح العلمي الذي يسودها، لا يغض من قيمتها إلا الترتيب الزمني للسور القرآنية بطريقة يعترف بلاشير نفسه بأنها لا تخلو من تعسف في إطلاق الأحكام5 دعا إليه ما يعتقده من أن القرآن وحده نقطة الانطلاق في تعاقب المراحل الإسلامية, وترتيب السور، وتدرج التعاليم، وأن سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والأخبار التي يرويها الصحابة عنه لا يمكن أن تستقل وحدها بإيضاح شيء سكت عنه القرآن، وإنما تكمل تكميلا ثانويا ما جاء في نص القرآن6.
أما نحن فلا نرتاب قط -بعد الذي عرضناه من تشدد علمائنا في استقصاء كل ما يتعلق بالمكي والمدني- في أن الرواية الصحيحة هي الطريقة الوحيدة إلى ترتيب القرآن أمثل ترتيب زمني وأصلحه وأدقه، والروايات في هذا المجال لم ترد إلا عن الصحابة الذين شاهدوا مكان الوحي وعرفوا زمانه، أو التابعين الذين سمعوا وصف ذلك وتفصيله من الصحابة. أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرد عنه شيء من هذا القبيل،(1/14)
لأنه عليه الصلاة والسلام -كما يقول القاضي أبو بكر1 في "الانتصار": "لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة"2.
ولا ريب أن كثيرا من الصحابة كانوا على علم كامل بالمكي والمدني به استطاعوا أن يستقصوا تلك الجزئيات الدقيقة التي حفلت بها كتب التفسير بالمأثور والمؤلفات الكثيرة في علوم القرآن، وقد أشرنا إلى جملة صالحة منها على سبيل التمثيل والاستشهاد، وفي وسعنا أن نكون فكرة عن غزارة علم الصحابة في هذه الموضوعات من خلال قول ابن مسعود: "والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله تعالى إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت"3 ولكن ابن مسعود -مهما نصف من سعة علمه- ليس الرجل الوحيد الذي أقسم هذا القسم منفردا به من بين سائر الصحابة، فقد أقسم نحوا من قسمه علي أيضًا، وقد كان بين الصحابة بلا ريب من أتيح له أن يشهد ما شهد هذان الصحابيان الجليلان، وربما رأى بعضهم أكثر مما رأياه، بل نحن لا نستبعد أن يكون بين مجاهيل الصحابة من يكمل برواية تحملها شيئا فات علماء الصحابة ومشاهيرهم4.
لذلك لم يكن الاعتماد على الرواية الصحيحة متنافيا مع إعمال الفكر والاجتهاد، ولا سيما في الموضوعات التي لا تكون فيها الرواية نصا صريحا، ولهذا الاجتهاد صور وأشكال متنوعة في مبحث المكي والمدني فقد يقع الاختلاف في مكية بعض السور أو مدنيتها، وفي استثناء آيات مكية من سورة مدنية أو آيات مدنية من سورة مكية، وفي ترتيب ما نزل بمكة أو المدينة، وفي الخصائص الأسلوبية أو الموضوعية لكل من المكيي والمدني، ثم لا يفصل في الاختلاف إلا بضروب من الاجتهاد.
فإذا زعم النحاس1 أن سورة النساء مكية مستندا إلى أن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}2 نزل بمكة اتفاقا في شأن مفتاح الكعبة، تصدى له السيوطي يضعف رأيه قائلا: "وذلك مستند واه، لأنه لا يلزم من نزول آية أو آيات من سورة طويلة نزل معظمها بالمدينة أن تكون مكية، خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة مدني. ومن راجع أسباب نزول آياتها عرف الرد عليه. ومما يرد عليه أيضا ما أخرجه البخاري عن عائشة قالت: "ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده"، ودخولها عليه كان بعد الهجرة اتفاقًا"3.
وإذا كان في كل من المكي والمدني آيات مستثناة، فمن العلماء من اعتمد في استثنائها على الاجتهاد دون النقل4. ولا يعارض هذا ما ورد عن ابن عباس: "كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة، ثم يزيد الله فيها ما شاء"، لأن إلحاق المكي بالمدني أو المدني بالمكي يعرف وجه الحكمة فيه حينئذ عن طريق الاجتهاد: مثاله سورة الإسراء فهي مكية؛ إلا أنهم استثنوا منها {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}5 فرجحوا أنها آية مدنية "نزلت في وفد ثقيف، أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه شططا، وقالوا: متعنا بآلهتنا(1/15)
حتى نأخذ ما يهدى لها. فإذا أخذناه كسرناها وأسلمنا، وحرمنا وادينا كما حرمت مكة, حتى تعرف العرب فضلنا عليهم"1.
ويعين العلماء -تبعا للروايات والأسانيد- السور المكية والسور المدنية2 ثم يرتبونها حسب تعاقبها في النزول، وإذا هم يترددون في أول ما نزل وآخره3، ويصل بهم الأمر إلى الاختلاف في سورة الفاتحة التي يرتلها المسلمون في كل ركعة من ركعات الصلاة، فيرى بعضهم أنها مكية وآخرون أنها مدنية4، ويؤثر فريق ثالث القول بنزولها مرتين5، ثم يرجح بعضهم أنها أول ما نزل بمكة، فهي إذن أول ما نزل على الإطلاق6، ويرجح آخرون أن عددا من السور كان أسبق منها في النزول، ففي مثل هذه المواطن يتنافس العلماء في إيراد الحجج والبراهين, وهي حجج إلى الاجتهاد أقرب منها إلى النقل، فهذا عالم كالواحدي يستبعد مثلا أن يقوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - خلال بضع عشرة سنة بمكة يؤدي الصلاة من غير الفاتحة7! والواحدي -كما نعلم- لم يقم بدراسته "لأسباب النزول" في كتابه المشهور إلا على الروايات والأسانيد، لكن باب الاجتهاد والاستنباط مفتوح دائما على مصراعيه حتى عند أصحاب النقل والنص!
والمستشرق بلاشير بدلا من أن يرى في تفكير الواحدي هنا محاولة للاجتهاد والاستنباط, يستشعر فيه ضربا من استسلام اليائس الذي انقطع كل رجاء عنده في معالجة الموضوع، فاعترف بجهله ووجد السلامة في هذا الاعتراف!1.. ولا نرى بلاشير في هذا إلا مغاليا، فليس من شأن العلماء أن يقطعوا جازمين في أمر خطير كالذي يتعلق بترتيب الوحي القرآني, وإنما حسبهم أن يحاولوا -كما صنع الواحدي- ترجيح شيء على شيء، والجهل لا يعالج دائما بالقطعي من الأمور، فالترجيح وحده كاف لتحصيل العلم والمعرفة. وليست غايتنا هنا الدفاع عن الواحدي، بل التنبيه على أن كثيرا من جزئيات المكي والمدني انتهى به العلم إلينا عن طريق الاجتهاد، وأن العقل كالنقل، والقياس كالسماع، في ثبوت العلم بالشيء، وقد لاحظ الجعبري هذا حين قال: "لمعرفة المكي والمدني طريقان: سماعي وقياسي2"، وعرف السماعي بأنه "ما وصل إلينا نزوله بأحدهما"، ثم أنشأ يذكر أمثلة وشواهد على القياسي. وإذا قرأنا أمثلته بأمثلة العلماء الذين مارسوا القرآن وتذوقوا فنونه وأساليبه استنبطنا من مجموعها ضابطا قياسيا نستطيع به أن نميز السور المكية والمدنية، ونتعرف إلى طابع كل منها وخصائصه، وسنرى أن هذا الضابط قلما يتخلف عند التطبيق.
من خصائص السور المكية تبعا لهذا الضابط:
1- أن كل سورة فيها سجدة فهي مكية3.
2- أن كل سورة فيها لفظ "كلا" فهي مكية. ولم ترد إلا في النصف الأخير من القرآن1.(1/16)
3- كل سورة فيها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وليس فيها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهي مكية إلا سورة الحج ففي أواخرها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}2 مع أن كثيرا من العلماء يرون أنها مكية.
4- كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الغابرة فهي مكية سوى البقرة3.
5- كل سورة فيها قصة آدم وإبليس فهي مكية سوى البقرة أيضًا4.
6- كل سورة تفتتح بحروف التهجي : {الم} و{الر} ونحو ذلك فهي مكية سوى الزهراوين وهما البقرة وآل عمران، وفي سورة الرعد خلاف، فبعضهم يرى أنها مدنية لا مكية5.
وهذه الخصائص الست -إذا حفظ ما استثني منها جانبا- أمارات قطعية لا تتخلف. وهناك أمارات غالبة رجح امتياز القسم المكي بها. فمما يكثر في السور المكية ويشيع:
1- قصر الآيات والصور وإيجازها وحرارة تعبيرها وتجانسها الصوتي.
2- الدعوة إلى أصول الإيمان بالله واليوم الآخر، وتصوير الجنة والنار.
3- الدعوة إلى التمسك بالأخلاق الكريمة والاستقامة على الخير.
4- مجادلة المشركين وتسفيه أحلامهم.
5- كثرة القسم جريا على أساليب العرب1.
وأما السور المدنية فمن خصائصها القطعية:
1- أن كل سورة فيها إذن بالجهاد أو ذكر له وبيان لأحكامه فهي مدنية.
2- أن كل سورة فيها تفاصيل لأحكام الحدود والفرائض والحقوق والقوانين المدنية والاجتماعية والدولية فهي مدنية2.
3- أن كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية ما عدا سورة العنكبوت فإنها مكية3، إلا أن الآيات الإحدى عشرة الأولى منها مدنية، وفيها ذكر المنافقين.
4- مجادلة أهل الكتاب ودعوتهم إلى الغلو في دينهم4.
ومن الأمارات الغالبة5 التي يرجح امتياز القسم المدني بها:
1- طول أكثر سوره وبعض آياته وإطنابها وأسلوبها التشريعي الهادي.
2- تفصيل البراهين والأدلة على الحقائق الدينية.
وهذه الخصائص الموضوعية والأسلوبية، سواء أكانت قطعية أم أغلبية، تصور الخطى الحكيمة المتدرجة التي كان يخطوها الإسلام في تشريعه: فخطاب أهل المدينة لا يمكن أن يكون مماثلا لخطاب أهل مكة، لأن البيئة الجديدة في المدينة أصبحت تستدعي التفصيل في التشريع، وفي بناء المجتمع الجديد. فكان لا بد أن يطنب القرآن بعد الإيجاز، ويفصل بعد الإجمال، ويراعي حال المخاطبين في كل آياته وسوره.(1/17)
كان في مكة قوم طغاة معاندون، يضطهدون رسول الله والمؤمنين، فناسب أن ينزل على الرسول في مكة مثل قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ}1. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ}2، وقوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}3. وهكذا كثر في مكة نزول الآيات التي تقرع المشركين، وتشتد في تسفيه أحلامهم, وتسلي الرسول والمؤمنين وتعلمهم السماحة والصفح الجميل. أما المدينة فكان فيها بعد الهجرة ثلاثة أصناف من الناس: المؤمنون من مهاجرين وأنصار، ثم المنافقون, ثم اليهود. أما اليهود فجادلهم القرآن ودعاهم إلى كلمة سواء، وأما المنافقون ففضحهم وكشف مساوئهم، وأما المؤمنون فشجعهم -من ناحية- على المضي في الصراط المستقيم، وشرع لهم -من ناحية ثانية- ما يتعلق بالسلم والحرب، وبحياة الفرد والمجموع، وبالسياسة والاقتصاد. هذه الزكاة مثلا لا معنى لفرضها في مكة والقوم فقراء مضطهدون. وتلك صلاة الخوف التي لا تكون إلا في الحرب لا يمكن أن تشرع في مكة، لأن المؤمنين لم يؤذن لهم بالقتال إلا في المدينة، وقد خلت السورة المكية خلوا تاما من ذكر الجهاد وكل ما يتعلق بالحرب.
ولو أخذنا برأي أبي القاسم النيسابوري الذي التزم المنهج التاريخي الزمني في ترتيب المكي والمدني لكان علينا -تطبيقا له وتأثرا به- أن نقسم كلا من السور المكية والسور المدنية إلى ثلاث مراحل: ابتدائية، ومتوسطة، وختامية، ولا نتجشم كبير عناء في تعيين هاتيك المراحل إذا عولنا على أصح الأسانيد وأخذنا بمقاييس النقاد المحدثين. وترددنا في القسم المدني سوف يكون يسيرا بل لا يكاد يكون شيئا مذكورا، إذ انتشر في المدينة الإسلام، وحفظ القرآن, وكثر القراء الكاتبون، وتيسرت وسائل النسخ والنقل والرواية والتفقه في الدين. أما القسم المكي فقد كان منطق الأحداث نفسه يقتضي وقوع التردد في تصوير مراحله، ولا سميا في أوائله، لأن الإسلام بدأ بمكة غريبا، ولم يؤمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أعوام الوحي الأولى إلا نفر قليل، فلم يتيسر لغير السابقين الأولين منهم تقصي أطوار التنزيل، وتحري أوائلها على وجه التحديد.
بيد أننا إن ندع جانبا ما اختلف العلماء المحققون في ترتيبه الزمني وعجزوا فيه عن تعيين السابق والمسبوق، لا يتعذر علينا أن نضع أيدنا على زمر متشابهة، وفصائل متماثلة، تبرز فيها ملامح صريحة نجزم معها بأنها مرحلة أولى أو متوسطة أو نهائية في مكة أو في المدينة.
فمن السور التي اتفق المؤرخون والمفسرون على أنها من أوائل الوحي، أو أنها بعبارتنا الحديثة من المرحلة المكية الأولى: العلق، والمدثر، والتكوير، والأعلى، والليل، والشرح، والعاديات، والتكاثر، والنجم.
ومن المرحلة المتوسطة في مكة: عبس، والتين، والقارعة، والقيامة، والمرسلات، والبلد، والحجر.(1/18)
ومن المرحلة الختامية في مكة: الصافات، والزخرف، والدخان، والذاريات، والكهف، وإبراهيم، والسجدة.
وهذه الزمر الثلاث -وإن بدت سمات المكي واضحة عليها- تتفاوت تفاوتا يسيرا فكرة وأسلوبا حتى لتبدو كل زمرة منها، بل كل سورة منها، وحدة فكرية إيقاعية قائمة بذاتها. وما سنلمحه في تحليلنا الخاطف لها لا يعدو الإيماء إلى أبرز ما يتمثل في ألفاظها وفواصلها والعقائد التي انطوت عليها آياتها المعجزات.
ففي سورة العلق -التي رأينا في فصل ظاهرة الوحي أنها أول ما نزل من القرآن1- تصوير حي لأضخم حدث في تاريخ البشر شهدت به الإنسانية نفسها تولد ميلادا جديدًا يصلها بالسماء وأسرارها ولا يلصقها بالأرض وأوحالها، فيوجه المقطع الأول من هذه السورة محمد رسول الله إلى الاتصال بالملأ الأعلى والقراءة باسم الله2، فمنه المنشأ وإليه المصير، وهو الذي كرم الإنسان بتعليمه أسرار الوجود، وتمكينه من استعمال "القلم" رمز العلم والتعليم، مع أنه خلقه من شيء مهين، "من علق" دم جامد عالق بالرحم في قرار مكين3.
وفي مطلع سورة المدثر -وقد نزل كما رأينا بعد فترة الوحي4- ينادي الله نبيه إلى قيام لا نوم فيه، ونشاط لا يعرف الكسل، فليثب من فراشه وثبا، وليترك الدثار الدافئ فإن أمامه كفاحا طويلا ثقيلا: إن الخطر القريب يترصد الضالين الغافلين، فعلى رسول الهدى أن يوقظ الهجع الرقود، مكبرا ربه العظيم، مستصغرا كل كيد في هذا الوجود، مطهرا ثيابه أمارة على طهارة قصده، هاجرا كل شرك ودنس، محاربا بلا هوادة كل موجبات العذاب، باذلا أقصى ما يبلغه المجاهدون من التضحية دون من ولا استكثار1.
وتعالج سورة "التكوير" ثلاث حقائق لا تنقطع صلتها بالعقيدة والإيمان: حقيقة الانقلاب الكوني يوم القيامة, وحقيقة الوحي الخالد والدعوة العالمية, وحقيقة الإرادة الإنسانية المرتبطة بمشيئة الله العليم الحكيم2.
أما الانقلاب الكوني فيبدو في مطلع السورة هائلا مروعا، يشتمل الشمس التي بردت وانطفأت شعلتها، والنجوم التي انتثرت وانطمس ضياؤها، والجبال التي نسفت وذريت هباء في الهواء وسيرت كالسراب، ومرت مر السحاب، والنوق الحبالى في شهرها العاشر وقد أهملت من الفزع في كل مكان, مع أنها لدى العربي أجود النياق, والوحوش الشاردة في الشعاب وقد تجمعت من الهول وتلاصقت منها الجنوب، والبحار التي التهبت مياههن حتى تفجرت بالنيران، وفاضت بالحمم والمحرقات، والأرواح المتجانسة وقد انضم بعضها إلى بعض في زمر وأزواج، والأنثى التي وئدت في غلظة يطرح عليها وحدها سؤال، وتخص وحدها بالاستجواب: ما سر وأدها؟ وكيف يكون إنسانا من أقدم على وأدها وهي على قيد الحياة؟(1/19)
ويشمل هذا الانقلاب الكوني أيضا نشر صحف الأعمال حتى لا تخفى يومئذ خافية، وإزاحة السقف المرفوع في القبة الزرقاء، وتسعير الجحيم وإذكاء حرها بوقودها من الناس والحجارة، وتقريب الجنة من السعداء حتى لتبدو كالعروس في زينتها تغري خطيبها بالدنو منها والالتصاق بها واستنشاق عبيرها، فيومئذ تعلم كل نفس ما قدمت وأخرت، وما أحضرت معها من زاد يخفف عنها شيئا من العذاب!.
وتمهيدًا لذكر الحقيقة الثانية المتعلقة بالوحي وطبيعته، ينتقل السياق إلى قسم رشيق أنيق بمشاهد من الكون خلعت عليها الحياة، وقذفت فيها الروح: فبالكواكب التي تجري في السماء ثم تعود للتوارى في أفلاكها كأنها الظباء تعدو رشيقة ثم ترجع إلى كنسها فتختبئ فيها وتلتمس الراحة بعد العدو الشديد، وبالليل الذي لف الكون بسواده حتى بات لا يرى نفسه ولا يبصر دربه، فهو يتخبط في سراه تخبط الأعشى، ويجس بيده كل شيء في الظلام مجسة الأعمى، وبالصبح الذي ولد بعد ذهاب الليل, فأبصر النور وتحرك، وتفتح قلبه للحياة فخفق وتنفس, بهذه المشاهد الكونية الحية أقسم الله: أن لا دخل لمحمد في الوحي، فإنما يلقنه إياه -بأمر ذي العرش- ملك كريم، له من القوة ما يمكنه من حمل أمانة السماء إلى أهل الأرض, وله من المكانة ما يجعله مطاعا من الملائكة جميعا في الملأ الأعلى.
وبهذه المشاهد الحية أيضا أقسم الله: إن محمدا أمين على الوحي، راجح العقل، وقد صاحبه أهل مكة أربعين عاما قبل البعثة فعرفوه وسموه الصادق الأمين، وها هو ذا الآن يخبرهم بأنه رأى ملك الوحي بعينيه في الأفق الواضح المبين الذي لا يزيغ عنده البصر ولا يطغى1، فكيف يظنون به الظنون؟ وكيف يزعمون أنه مجنون تتنزل عليه الشياطين؟
وفي هذا المقطع نفسه يذكر الله أهل مكة بأن هذا الوحي لم يوجه إليهم وحدهم، وما كان ليوجه إليهم وحدهم، بل هو دعوة عالمية1 لا بد أن تنتصر مهما يقاوموها الآن ويطاردوا المؤمنين بها. وباب هذه الدعوة مفتوح على مصراعيه لكل من أراد أن يستقيم على الحق والهدى.
أما الحقيقة الثالثة فقد ختمت بها سورة "التكوير" بآية واحدة حاسمة جازمة قررت بأن الإرادة الحقيقية الفاعلة هي إرادة الله، فما لأحد إرادة منفصلة عن إرادة العليم الخبير، بل هو الذي قدر فهدى، وألهم الإنسان إرادة بها يختار لولاها لما شرف بالتكليف.
وفي سورة "الأعلى"2 تمجيد لاسم الخالق الذي أتقن كل شيء، ورسم له طريقه، وهداه إلى غاية وجوده, وعرض لبعض آثاره في خلقه حين قدر لكل دابة في الأرض رزقها من مرعى أخضر، أو غثاء ذاو ضارب إلى السواد، وكفالة ربانية بتحفيظ النبي القرآن ونقشه في لوح قلبه من غير أن يبذل شيئا من الجهد في حفظه, ومن غير أن يحتمل نسيان حرف واحد منه لأن الحفظ كالنسيان أمران متعلقان بالمشيئة الإلهية الطليقة من كل قيد، لا بالإنسان الذي يظل -مهما يسم- عرضة للسهو والنسيان، وبشري للنبي(1/20)
والمؤمنين بتيسيرهم لحمل هذه الدعوة اليسرى، والنهوض بأماناتها الكبرى، وتصوير لاختلاف وجهات الناس إزاء هذه الدعوة المباركة: فمنهم الذي يؤمن بالله، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه، ومنهم الذي شقي في الدنيا بنفسه المظلمة الكنود، وفي الآخرة بعذابها الأليم الشديد: فلن يموت في جهنم فيستريح ولن يحيا في راحة واطمئنان، وموعظة لكل ذي فطرة سليمة تؤكد أن الفلاح للزكاة والطهر، والخسران للرجس والدنس، وتنذر بفناء الدنيا العاجلة وبقاء الآخرة الخالدة، وفي ختام هذه السورة تذكير بوحدة الدين، فإن الذي ينزله الرب الخالق الأعلى على قلب محمد قد أنزل مثله من قبل على شيخ الأنبياء إبراهيم وعلى كليم الله موسى: فهي عقيدة واحدة، وتعاليم واحدة، ليس لها إلا مصدر واحد هو الله رب العالمين1.
وفي سورة "الليل"2 يقسم الله بتقلب الليل والنهار، وخلق الذكر والأنثى، على أن طرائق الناس في الحياة مختلفة، فلا بد أن تكون مصائرهم مختلفة أيضا: فكما تقابل صورة النهار السافر صورة الليل الغامر، وتعاكس طبيعة الأنثى اللطيفة طبيعة الذكر الخشنة، ينافر سعي المتقين عمل المجرمين, ويضاد ثواب السعداء عقاب الأشقياء. ولن يسكب الله الرضوان إلا في قلب من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى.
وفي سورة "الشرح" مناجاة رقيقة حلوة يضع الله فيها عن نبيه ضائقة حلت به وثقلت على ظهره حتى كادت تحطمه، ويبشره بانفراج كربه، وانشراح صدره، وتيسير أمره, ورفع مكانته في الأرض وفي السماء، وقرن اسمه باسمه في الصباح وفي المساء، ويدعوه إلى التفرغ لعبادته كلما تجرد عن الناس وعن شواغل الحياة في طريق الدعوة الطويل3.
وفي سورة "العاديات"1 يقسم الله بخيل الغارة التي تعدو في ساحة المعركة ضابحة صاخبة لاهثة الأنفاس، وتصك الصخر بحوافرها صكا يقدح النار ويوري الشرر، وتقتحم أرض العدو بغارة صباحية مفاجئة تثير بها الغبار, وتتوسط الجموع وتجوس خلال الديار، ثم تملأ الصفوف ذعرًا وتلجئهم إلى الفرار2... يقسم الله بهذه الخيل العاديات الصاخبات الثائرات على أن الإنسان جاحد نعمة ربه يقيم من نفسه شاهدا على جحوده، ولا يحمله على هذا الكفر إلا ما فطر عليه من حب المال والخير ومتاع الحياة، فليطلق الإنسان نفسه من أغلالها، وليطف بخياله مشهد مصيره المحتوم ومصائر إخوانه البشر أجمعين حين يبعثون من مراقدهم، فتبعثر قبورهم، وتحصل أسرار صدورهم ويخبرهم ربهم بكنودهم وجحودهم، ويجزون سؤء العذاب على ما قدمت أيديهم.
وفي سورة "التكاثر" إنذار رهيب للغافلين اللاهين الذين يتكاثرون بالأموال والبنين، حتى ينتهوا إلى زيارة المقابر الضيقة, فلا يجدوا في حفرها المظلمة فرصة للتنافس. إن الهول الأكبر سيحيق بهم فيستيقظون على حقيقته الرهيبة بعد أن طالت سكراتهم، ويرون الجحيم وعذابها بأم أعينهم، ويستصغرون -وهم يعاينون العذاب المقيم- كل ما أصابوه من ألوان النعيم3.(1/21)
وفي سورة "النجم"4 تصوير دقيق لحقيقة الوحي وطريقة تلقيه،وحقيقة ملك الوحي وأسلوب نزوله، وتهكم بعباد الأوثان وسخرية بأصنامهم وتصحيح لعقائد العرب في الملائكة, وإيماءة إلى حكمة الله من خلق الكون, والتفاتة إلى اتفاق الرسالات جميعا على أصول العقائد, وقواعد المسئولية والجزاء، وإنذار للعابثين الضاحكين بقرب مصرعهم كما لقي مصرعه من قبل كل جبار عنيد.
أقسم الله بالنجم حين يهوي عبد تلألئه, ويتدلى بعد أن كان في كبد السماء قصيا، على أن محمدا مبلغ عن ربه، مهتد لم يضل, رشيد لم يعرف طريق الغواية, بل صاحبه قومه المخاطبون بهذا الوحي عمرا من قبله فما عرفوا عليه من سوء ولا جربوا عليه كذبا، فالوحي الذي ينزل عليه لا مراء فيه، والملك الذي يحمله إليه شديد القوى عظيم الخلق، يسد الأفق بمنظره المهيب1، وقد تيسر لهذا النبي الأمي أن يلتقي به، ويراه على صورته الحقيقية مرتين: إحداهما في بدء الوحي حين التصق به وقرأ عليه القرآن, وكانت رؤية يقينية قريبة استوثق منها القلب والبصر، والأخرى ليلة الإسراء والمعراج حين رحل معه رحلة واقعية رأى خلالها آيات ربه الكبرى وبلغ سدرة المنتهى2 التي ينتهي إليها المطاف، وينتهي إليها علم الأولين والآخرين، فإذا هي أقرب درجة إلى الفردوس جنة المتقين التي تأوي إليها أرواح الصديقين والملائكة والمقربين1. فمن ذا الذي يماري محمدا فيما رآه، وما طغى بصره ولا زاغت عيناه؟
ولئن كان الوحي حقيقة مشهودة مرئية فإن عبادة العرب للات والعزى ومناة وسائر أصنامهم الأخرى أوهام وأساطير, وحين زعموا أن هذه الأصنام ملائكة وأن الملائكة بنات الله، لم يركنوا إلا للظن والهوى، ولم يعرفوا سوى الجور في القسمة, فإنهم يكرهون البنات، وقد نسبوا إلى الله ما يكرهون, وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الله إناثًا!.
ولكن هذه الأسماء التي يخلعونها على أصنامهم تارة، وعلى الملائكة تارة أخرى، ليس وراءها مدلول، ولا يؤيدها منطق ولا سلطان, فما أجدر النبي أن يعرض عن أولئك الجاهلين ويهمل شأنهم موجها وجهه للذي فطر السموات والأرض ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وإن مفهوم المسئولية والجزاء لقديم راسخ الجذور منذ بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فكلهم متفقون على أصول العقائد، وكلهم يدعون الناس إلى تحمل تبعاتهم بأنفسهم, ثم إلى الله منتهى كل شيء، ومرجع كل نفس لتدافع عن نفسها، ولقد نطقت بهذا كله صحف إبراهيم وموسى، مثلما نطقت بقدرة الله على الجمع بين النقيضين في نشأة الإنسان وحياته وموته وبعثه ونشوره، فقد خلق الله في الإنسان دواعي الضحك ودواعي البكاء, وقد جهزه للموت بعد أن أعده للحياة، وجعل في الإفراز المنوي المراق خصائص الذكر أو خصائص الأنثى, أفليست النشأة الأخرى أهون عليه من النشأة الأولى؟(1/22)
ليعرف المشركون إذن حدود قدرتهم، وليزدجروا عن غيهم، وليذكروا كيف أباد الله المكذبين الجاحدين وأنزل بهم الخسف والدمار، وليعلموا أن الخطر داهم، وأن مصرعهم قريب، وليسجدوا لله قبل أن يقذف بالحق على باطلهم، فتزهق أرواحهم وهم كافرون.
إن هذا لقليل من كثير مما انطوت عليه السور المكية في مرحلتها الأولى، أبينا أن نستخلص ما فيه من أفكار وعقائد وتعاليم إلا مما ثبت لدينا -بعد أن ثبت للعلماء المحققين- أنه حقا من أوائل الوحي. وتحليلنا لتلك لنوازل الأولى -وإن جاء خاطفا- كاف لإلقاء الضوء على الموضوعات المعروضة، والمشاهد المصورة، وكاف أيضا لتمييز هذه الزمرة القرآنية بخصائصها الأسلوبية عن الزمرتين المكيتين التاليتين، وعن الزمر المدنيات الثلاث ابتداء ووسطًا وختامًا.
وكان يسيرًا علينا أن نلاحظ -في سور هذه المرحلة الأولى كلها- أن الحديث عن الوحي والدين، ووصف قدرة الله وآثار رحمته، وتقرير النشأة الأخرى قياسا على النشأة الأولى، وتصوير مشاهد القيامة، وإنذار المشركين بمثل العذاب الدنيوي الذي أصاب المكذبين من قبل، وتأكيد فكرة المسئولية والثواب والعقاب، وتسلية النبي على ما يلقاه من اضطهاد قومه له بوصف ما لقيه إخوانه الرسل من قبل، والتصريح بوحدة الدين في أصول عقائده والتلويح بعالمية الدعوة المباركة وشمولها البشر جميعا، كادت تؤلف الموضوعات البارزة وإن عرضت بأساليب مختلفة، وإيقاعات موسيقية متباينة.
وإنه ليسير علينا كذلك -لو عدنا إلى هاتيك السور نفسها فقرأناها، واحدة واحدة- أن ندرك أن آياتها جميعا قصار، وأنها شديدة الإيجاز، وأن القسم فيها بمشاهد الكون كثير، وأن صيغ الإنشاء فيها من أمر ونهي واستفهام وتمن ورجاء تتخلل مقاطعها وتزيدها حرارة، وأن ألفظاها رشيقة منتقاة يسري التنقيم في أحرفها المهموسة تارة، المجهورة تارة أخرى, وأن فواصلها الموزونة المقفاة -بإيقاعها العجيب- تنساب أحيانا وتتموج، وتلهث أحيانا وتتهدج، وتقصف أحيانا وتدمر، وتصرخ أحيانا وتزمجر، وأن تجسيم المعنويات، وتشخيص الجوامد، وخلع الحركة والحياة والحوار على الأشياء الصامتة، قد أحالت مشاهدها لوحات فنية غنية بالأصباغ الحية.
وحين ننتقل إلى ما اخترنا تحليله مما صح لدينا أنه من المرحلة المكية المتوسطة, سنجد في زمرته كلها نظائر هذه الخصائص الموضوعية والأسلوبية، ففي كل سورة مثل تلك الأفكار والتعاليم، وفي كل سورة مثل تلك الصور والظلال، وفي كل سورة مثل تلك الأنغام والألحان، بيد أن زيادة بعض العقائد، أو إضافة بعض الحقائق، توشك أن تجعل من كل سورة على حدة -وليس من كل زمرة وحسب- منظومة علوية تملأ القلوب والآذان.(1/23)
هذه مثلا سورة "عبس" -من المرحلة المكية المتوسطة, ومن أوائلها على وجه اليقين- تعالج حادثة من حوادث السيرة بتوجيه القلوب إلى حقيقة القيم, وحقيقة الحياة، وحقيقة الإنسان، وحقيقة الفزع الأكبر يوم القيامة. وتعالج السورة هذه الحقائق الضخمة بإيحاءات شديدة التأثير، ولمسات عميقة النفاذ، وصور وارفة الظلال، وفواصل قوية الإيقاع.
عبس النبي وأعرض عن ابن أم مكتوم، المؤمن الأعمى الفقير، وقد جاء يسأله أن يعلمه مما علمه الله. فليعقب القرآن على هذا الحادث الفردي، وليعتب على النبي عتابا شديدًا1، وليدعه إلى استبدال قيم السماء بقيم الأرض، وموازين الشريعة العادلة بمواضعات البشر الجائرة، وليجعل الله هذا الحادث درسا بليغا وتذكرة لا تنسى للنبي وللمؤمنين {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}2.
ما كان للنبي أن يعرض عن هذا الأعمى ويعبس ويتولى، فإن هذا الاعمى لأكرم عند الله بتقاه من أصحاب النسب والقوة لجاه، وإن كل قيم الحياة لا يقام لها وزن متى تجردت من الإيمان وتعرت من التقوى.
تلك هي حقيقة القيم، أما حقيقة الحياة فقصة ذات مراحل وفصول. تتراءى في فصولها كلها يد حانية لطيفة تدبر للأحياء، في عالم الإنسان والحيوان, طعامهم الذي يقيم أودهم، ويحفظ صحتهم، فتصب عليهم ماء السحاب صبا، وتسلك هذا الماء ينابيع في الأرض، ثم تتركه يتخلل التربة الخصبة وينفذ فيها ويشقها شقا ليعين النبات على النماء والانبثاق من التراب، والامتداد في الهواء، وإذا بالنبات يستحيل حبًّا يقضم، وعنبا يعصر، أو فاكهة تؤكل غضة طرية، أو زيتونا ينبت بالدهن، أو نخلا باسقات, وإذا بالحدائق التي ينبت فيها هذا النبات ملتفة الأشجار، متشابكة الأغصان، فيها من الثمار ما يتفكه به الإنسان، ومن المراعي ما يسد حاجة الحيوان.
وكان ينبغي للإنسان أن يدرك حقيقة الحياة, وحقيقة القيم، لأنه الحي المجهز بكل أسباب الحياة، ولكنه ظلوم جهول، وجحود كفور، فقد نسي أصل نشأته من نطفة من ماء مهين، وتجاهل تكريم الله إياه بتيسير صعابه في درب الحياة، وإيداعه جوف الأرض بعد الممات، فقصر في أداء حق الله وقضاء واجبه نحو الله، واسترسل في جحوده كأنه متروك سدى بلا حساب ولا عقاب. فما أعجب حقيقة الإنسان, وما أعجب كفر الإنسان!.
ولكن حقيقة مذهلة كبرى تنتظر الإنسان يوم الهلع والفزع الأكبر، يوم تقوم الساعة فتصخ الآذان صخا ملحاحا, فما يسمع الإنسان غير أصواتها النافذة العنيفة، ويذهل بكربها عن أقرب الناس إليه، ولا يفكر إلا بنفسه ومصيره، وللناس يومئذ صنفان من الوجوه: إما وجوه السعداء بتهللها ونورها وبشراها، وإما وجوه الأشقياء بانقباضها وسوادها وحزنها، فطوبى للمؤمنين وساءت مصائر الكفرة الفجرة1.(1/24)
ويريد القرآن أن يعرض حقيقة الفطرة الإنسانية وهي قويمة سليمة، وحقيقتها حين تنحرف عن الصراط المستقيم، فيجعل سورة "التين" معرضا لهذا، وفي إطار من القسم ببعض الثمار المباركة والأماكن المقدسة1 يكرم الله الإنسان, ويمتنُّ عليه بتكوينه الفطري المقوم، وتصويره الجسمي المعدل, والارتقاء به جسدا وروحا إلى المقام الأسنى، ثم يلوح باستعداده للهبوط النفسي، والانحلال الخلقي، والانحدار إلى أسفل سافلين إلا إذا أضاءت له الفطرة مسالك الحياة، فبصرته بحقيقة الإيمان، ورغبته بصالح الأعمال، وانتهت به إلى الكمال، وأورثته جنات النعيم، فهل للإنسان بعد إدراك الحقيقة أن يطمس نور الفطرة، فيكذب بدين الله، ويتجاهل حكمة الله، وينساق مع غيه وهواه2؟
وفي آيات مدوية رهيبة تقذف الرعب في القلوب يصور القرآن مشهدا سريعا من مشاهد القيامة يقفيه بمشهد الجزاء والحساب. وذلك في سورة "القارعة" التي تقرع بهولها كل شيء، حتى ليغدو الناس في غمراتها حيارى خفافا صغارًا كالفراش المتهافت لا يعرف لم يطير ولا أين المصير، وتمسي الجبال الرواسي هباء تذروه الرياح كالصوف المتطاير المنفوش، فليتوقع الإنسان في ذلك الهول المرهوب عيشة راضية إن أحسن عملا, أو نارا حامية وهلاكا أبديا إن أساء وكان شقيا.
وإن تتطاير الجبال الثقال يوم القارعة تطاير الصوف والهباء، فما أحوج الإنسان إلى الموازين الثقال تعوض خفته لئلا يتهافت كالفراش1.
وفي سورة "القيامة" يرسم القرآن الانقلاب الكوني الشامل الهائل في ومضات سريعة تأكيدا للبعث وردًا على منكريه، ويطمئن النبي إلى نقش الوحي في صدره فلا تدركنه العجلة التي أدركت البشر في حب الحياة الفانية، ويحدد بإيجاز شديد مصير السعداء ومصير الأشقياء، ويصور مشهد الاحتضار الذي كتب على كل حي, ويذكر الإنسان بنشأته الأولى ليقيس عليها نشأته الآخرة.
وتوطئة لتصوير الانقلاب الكوني يلوح الله بالقسم بيوم القيامة وبالنفس التقية اللوامة على أن البعث واقع والساعة آتية لا ريب فيها، وإذا كان الإنسان يستبعد جمع العظام وهي رميم فإن الله يقدر على ما هو أدق وأجل: إذ يسوي له أطراف أصابعه ويعيد تركيبها في مواضعها على اختلاف "بصماتها" وأشكالها، فعلام الفجور؟ ولم يستبعد الإنسان البعث والنشور؟
وتأكيد البعث بهذا الأسلوب القوي الذي يواجه القلب الغافل ويحاصره كان أصلح تمهيد بين يدي الانقلاب الكوني يوم يقوم الناس لرب العالمين: فما أسرع الانقلاب في كل شيء يوم القيامة! إن الإنسان الفزع القلق ليرى الكون كله مختل النظام ببصره الحائر الزائغ المتقلب، فما للقمر نور بعد أن طمس، ولا للشمس مشرق بعد أن اقترنت بالقمر، ولا للإنسان ملجأ يقيه الهول الشديد بعد أن سيق إلى الله ليحاسب على ما قدمت يداه!(1/25)
والإنسان لم يستبعد البعث والنشور والحساب إلإ اتباعا للهوى، واحتفالا بالشهوات، واستعجالا لملذات الحياة، ولكن الحياة مهما تطل إلى زوال، فلا داعي الاستعجال، حتى رسول الله الأمين تعتريه أحيانا سمة من سمات الإنسان العجول, فيحرك لسانه بالوحي عجلان، مخافة أن يفوته حفظ شيء من القرآن, فليستعل بنبوته على الطبيعة الإنسانية العجلى، وليثق بأن منزل الوحي على قلبه قد تكفل بحفظه وصيانته، وجمعه وبيانه1.
وما أسعد الذي فضل حب الله على حب هذه الدنيا العاجلة! إنه مطمئن إلى الله، متطلع إلى رضوان الله, مستشرف إلى النعيم الروحي الأسمى الذي يتمثل في نضرة وجهه حين ينظر إلى جمال الله! أما الذين استحب العاجلة على الآجلة، وآثر اتباع الهوى على طاعة الله, فما أنكى مصيره وما أشقاه! إنه محروم من نور البصيرة المشرق، يترقب بوجهه الكالح العباس كارثة تقصم ظهره، وتحطم فقاره، وتنذره بالعذاب الأليم2.
ولو رجع منكرو البعث مرة واحدة إلى مشهد الاحتضار الذي يتكرر كل يوم تحت أبصارهم، وتذكروا كيف يفارق الأحياء أحبتهم، ويرحلون إلى عالم مجهول, لأيقنوا بأن الله القهار الذي أمات الحي قادر على أن يحيي الميت. فإنهم يعرفون أن الرقى والتعاويذ لا تغني عن المحتضر شيئا متى بلغت روحه الحلقوم، وتلوي من سكرات الموت في كرب شديد. فمن كان مشهد الاحتضار لا يرعبه, وانتزاع الأحبة لا يقلقه، فليذهب في درب الحياة فخورا، وليمط ظهره متعاجبا مزهوا، وليعرض عن الحق أيما إعراض. إن الويل لينتظره، وإن غضب الله قد حل بساحته!.
وما كان على منكري البعث إلا أن يلتفتوا إلى نشأتهم الأولى ليقيسوا عليها بمنطق الفطرة نشأتهم الآخرة، ألم يكن الإنسان ماء رقيقا مهينا؟ ألم يتحول هذا الماء دما متجمدا عالقا بجدران الرحم؟ أولم يتطور في هذا القرار المكين حتى أضحى جنينا به خصائص الذكر أو خصائص الأنثى؟ فهل يعجز عن إحيائه من خلقه من العدم؟ وهل يتركه خالقه الحكيم سدى؟ ألا تنطق الفطرة السليمة بوجوب البعث والنشور، وثواب المتقين وعقاب الفاجرين؟1.
وفي سورة "المرسلات" نمط خاص فريد في تصوير أجمل مشاهد الدنيا وأعنف مشاهد الآخرة، وأصدق حقائق الكون وأعمق أغوار النفس، في مقاطع شافية الفواصل، متعددة الأنغام، مصحوبة بقوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين} يتكرر فيها عشر مرات كأنه لازمة الإيقاع، وتجيء هذه المقاطع، بسماتها الحادة العنيفة، متناسقة كل التناسق مع مطلع السورة الرهيب الذي أقسم الله فيه بالملائكة المرسلات على أن وعده بالآخرة واقع لا ريب فيه.(1/26)
وفي القسم بالمرسلات غموض ملحوظ يتناسق مع عالم الغيب المقسم عليه، فكل ما فيه مغيب مجهول، وقد اخترنا أنهن الملائكة مخافة الخوض -في هذه العجالة- في الخلاف الطويل المشهور, فقد أقسم الله -وهو بقسمه أعلم- بالملائكة اللاتي يرسلهن متتابعات، فيعصفن عصف الرياح وهن بأمره ماضيات، فينشرن في الأرض شرائعه, ويفرقن بإذنه بين الحق والباطل بما يلقين إلى أنبيائه من وحي فيه إعذار إلى الخلق وإنذار2!.
وبعد هذا القسم الغيبي المفعم بالأسرار، تعرض السورة مشهدا جديدا من مشاهد القيامة يخطف البصر بتعاقبه السريع، ويحاصر القلب بكربه الشديد: لقد انفرط عقد هذا الكون المنظور، فكل شيء فيه ينشق وينفجر، وكل شيء من حوله يضمحل ويذوب: أما النجوم فقد طمس ضياؤها، وأما السماء فقد انشق أديمها، وأما الجبال فقد نسفت ذراها سويت بالأرض كأنها الكثيب المهيل، وأما رسل الله فقد أخر الموعد الذي ضرب لهم للمثول بين يدي الله إلى أجل طويل ثقيل يفصل فيه بين خصوم الأنبياء وأتباعهم, ويقضي فيه بالحق ولا يظلمون. فما أشد ويل المكذبين المجرمين!.
وأعداء النبيين كانوا في جميع الأجيال يلقون مصرعهم، فليس مشركو مكة بدعا من المجرمين، وإنهم منذ الساعة ليتوقعون هلاكهم الدنيوي العاجل فكيف يكون إذن عذابهم الآجل في الجحيم!
ليتهم -قبل الانطلاق إلى يوم الفصل -يفكرون في أنفسهم، وفي الأرض الذلول التي يطئونها بأقدامهم، فلو فكروا في أنفسهم لعجبوا لتقدير البارئ الحكيم الذي خلقهم في بطون أمهاتهم طورا بعد طور حتى أصبحوا بشرا أسوياء بعد أن كانوا أجنة في الأرحام. ولو فكروا في الأرض التي يطئون لرأوها أمهم الحنون، تكفتهم إلى صدرها وتضم أحياءهم وأمواتهم، فمنها خلقوا وفيها يعادون ومنها يخرجون تارة أخرى. ألم يروا إلى جبالها الشم الراسخات ينحدر الغيث عن ذراها، فيفجر الله به العيون، ويسقيهم الماء العذب النمير؟
فإن لم يفكروا في الآفاق وفي أنفسهم فليشقوا طريقهم إلى العذاب مسرعين. إن لدخان جنهم ظلالا ذوات شعب ثلاث تمتد لافحة محرقة أشد حرا من لهب السعير، فلينطلقوا إلى هذي الظلال، وليجدوا لديها الحرور! وإن يك لدخان جهنم تلك الظلال الخانقة اللاهبة فكيف بشررها ولظاها؟ إن كل شررة منها في حجم القصر الكبير ضخامة وارتفاعا، وتكاد شظاياها التي تتناثر مصفرة من كثرة الوقود تحكي قطيعا من الجمال الصفر تعدو في البيد في هياج شديد!1.
ما أجدر الأصوات في ذلك اليوم أن تخشع، وما أجدر الألسنة أن تجف صامتة في الحلوق، وما أجدر المجرمين أن يكظموا حناجرهم ويكتبوا أعذارهم في صدورهم، فما لأحد عذر يبديه في ذلك الموقف(1/27)
المهيب. لقد حشر الله الأولين والآخرين ليفصل بينهم بحكمه، فمن كان له مكر فليمكر، ومن أوتي القوة فليحسن التدبير...
لكن الترهيب في القرآن يعقبه الترغيب، وإن الجنة والنار ليتقابلان في أكثر السور تقابل شطري البيت في القصيد، فالمتقون ينعمون في الفردوس بظلال حقيقية وارفة لا بظلال الحرور اللافح، وتجري من تحتهم العيون النضاخة العذبة ولا يتناثر من فوقهم شرر النار الموقدة، ويكرمون بخطاب الله لهم ودعوته إياهم إلى الهناءة بما يأكلون وما يشربون ولا يفرض عليهم الصمت الكئيب.
فهلا بكت المجرمون أنفسهم، وأدركوا أن متاع الدنيا قليل؟ وهلا خشعت نفوسهم للحق فركعوا مع الراكعين؟ أم كتب عليهم الشقاء فهم لا يؤمنون؟2.
وفي سورة "البلد" تلويح بقسم عظيم على أن حياة الإنسان سلسلة من المكابدة والمشقة والكفاح. أما القسم به فهو أمران: أحدهما ببيت الله الحرام3.
الذي زاده شرفا أن نبي الله حل فيه مقيم، والآخر كل والد وكل مولود وما يعانيه كلاهما من كبد في جميع مراحل الحياة. ولكن الغرور يستولي على الإنسان، فينخدع بقوته، وينسى أن الله الذي منحه هذه القوة قادر على أن يسلبها منه، وينخدع أيضا بماله، فيكنزه زاعما أنه ينفق منه الكثير في وجوه الخير، وينسى مرة أخرى أن الله محيط به يرى كيف جمع ماله وأين أنفقه، فليعرف هذا الإنسان أنه رهين بما كسبت يداه، وأنه بتصرفه المغرور إنما يجني على نفسه، إذ وهبه الله الخصائص التي تهديه إلى سواء الصراط، من عينين بهما يبصر، ولسان به ينطق, واستعداد نفسي لتمييز الشر من الخير.
إن على الإنسان -وقد أوتي وسائل الهداية كاملة- أن يقتحم عقبة كأداء تعترض طريقه إلى جنات عدن. ولن يذلل هذه العقبة إلا بالإيمان والعمل الصالح، فليحرر في سبيل الله رقاب العبيد1، وليطعم في أيام المجاعة اليتامى من ذوي القربى والمساكين البائسين، وليقم بهذا كله وفاء بحق الإيمان، واستشعارًا لأنبل معاني الصبر على المشاق, وأظهر معاني التراحم في الحياة. فبمثل هذا يكتب في سجل السعداء ويمسي من أصحاب اليمين.
أما الإنسان الذي صده الغرور عن الإيمان، فلجَّ في عتوه ونفوره، فمصيره المشئوم ينتظره في جهنم: تغلق عليه أبوابها ثم لا يموت فيها ولا يحيا2.
وبسورة "الحجر" نختم ما اخترنا تحليله من النوازل القرآنية في المرحلة المكية الثانية أو "المتوسطة". وقد انفردت هذه السورة عن كل ما سبقها من السور التي تحدثنا عنها في المرحلتين المكيتين بطولها النسبي, فهي تسع وتسعون آية، وانفردت آياتها كذلك بطولها النسبي على تفاوت في ذلك بين مقاطعها(1/28)
المتتابعات. ومن خصائص هذه السورة أيضا أنها افتتحت ببعض الحروف المقطعة {الر} وقد عقدنا فصلا خاصا لها ولأمثالها في هذا الكتاب، فلا داعي للحديث عنها الآن.
وأبرز الحقائق التي عرضتها سورة "الحجر" إنذار الكافرين بسوء المصير، وبيان سنة الله في المكذبين, وتصوير آيات الله في السماء وفي الأرض وما بينهما، وحديث عن خلق آدم وإبليس ، وسجود الملائكة لآدم واستكبار إبليس, وتثبيت فؤاد محمد بقصص المرسلين: كبشارة إبراهيم على الكبر بغلام عليم، ونجاة لوط وأهله من الخسف والدمار, ومصرع قوم لوط بزلزال وحجارة من سجيل، وهلاك أصحاب الأيكة قوم شعيب, وأخذ أصحاب الحجر من قوم صالح بالصيحة الطاغية, وتبيان الحق الذي تقوم به السموات والأرض وتقوم عليه الساعة، ودعوة النبي إلى الصفح الجميل, والجهر بدين الله، واللواذ بحمد الله حتى يمضي إلى جواره الكريم1.
ولقد طوي مطلع هذه السورة على إنذار ضمني خفي2 يحث الكافرين على اعتناق الإسلام قبل أن تضيع الفرصة، وينقضي الأجل، لأن الأمل الخادع مهما يشغلهم بالأطماع لن يدفع عنهم مصيرهم المحتوم، فسوف يعلمون أن سنة الله في الأمم لا تتخلف، وأن لكل أمة كتابا معلوما وأجلا مسمى، تحيا ما كتب الله لها الحياة, فإذا انحرفت عن الطريق الواضح المرسوم جاءها أمر الله ليلا أو نهارا فدمرها تدميرًا.
لكن المشركين، إزاء هذا الإنذار الرهيب، لا ينفكون عن باطلهم وغرورهم، بل يسترسلون في لغوهم وعبثهم، ويتهكمون على النبي الكريم، ويرمونه بالجنون، ويطالبونه بنزول الملائكة تصديقا له، وتثبيتا لمدلول الوحي الذي يدعيه.
ونزول الملائكة ليس في ذاته بالمستحيل، بيد أنه أمارة على الهلاك القريب, فهل يستعجل المشركون العذاب لأنفسهم؟ وهل يريدون أن تحق عليهم كلمة الخراب والدمار؟1.
إن الكفر ملة واحدة، وإن أساليب التعنت والعناد لدى الكافرين متماثلة, وما صورة مشركي مكة إلا مرآة للمكذبين من كل جيل: لو خرق الله لهم السماء, وفتح لهم فيها بابا، وأعد لهم فيها معراجا، ومكنهم من اختراق حجابها، وصدع بابها، والصعود في معراجها، لكابروا بلا حياء، وأنكروا بعناد عجيب ما رآه بصرهم الحسير, وزعموا أنهم مسحورون، وأن عيونهم مخدرة سكرى لا ترى إلا وهمًا وخيالًا2.
إن القرآن -مع ذلك- لا يسلمهم إلى عنادهم البغيض، بل يوقظهم من سكرتهم، ويستثير كوامن الخير في أنفسهم, ويفتح عيونهم على مشاهد في هذا الكون الجميل تنطق بآثار الخلاق العليم: فهذه نجوم متلألئة في السماء تنتقل من منازلها وهي تدور، فتسر الناظرين, وتلك جبال شامخات ألقيت في الأرض بثقلها وضخامتها، فهي توحي بالرهبة والجلال، وهذا نبات يفترش الأرض أو يستلقي عليها أو يمتد في الهواء،(1/29)
وقد وزنه الله أحكم الوزن في طعمه ولونه وريحه ليكون رزقا للخلق ومعايش للعباد، ينزل من خزائن الرحمن بقدر معلوم، وتلك رياح لواقح تحمل الماء وتنطلق به ثم تسقطه مطرا غزيرًا مدرارًا3 يروي العطاش ويحيي الموات، فالملك كله بيد الله،وارث السموات والأرض، يحيي ويميت وإليه المصير.
وللقرآن أطرف الأساليب في إيقاظ الهجع الرقود: إن قصصه الديني ليفتح القلوب الغلف، ويضيء العيون العمي، ويرهف الآذان الصم، حين يذيع أسرار الوجود. لذلك عرضت سورة "الحجر" هنا حقائق الهدى والضلال من خلال قصة آدم وإبليس: إن هذين المخلوقين يختلفان في المنشأ فلا عجب إذا اختلفا في المصير. أما آدم فمخلوق من طين هذه الأرض، من صلصالها اليابس الذي يصلصل إن نقر، وفيه نفحة من روح الله يستشرف بها إلى الملأ الأعلى، وهو بذلك جدير بأن تقع له الملائكة ساجدين. وأما إبليس فمخلوق من نار سامة1، ولهب خالص, فالشر يكتنفه من كل جانب، والغرور يدفعه إلى الاستعلاء، فيأبى السجود لآدم، ويحصر وظيفته في إغواء ذريته إلا عباد الله المخلصين.
وهكذا انقسم البشر: إلى غاوين من أتباع إبليس، يدخلون جنهم داخرين لكل باب من أبوابها السبعة صنف معلوم2، ومهتدين من عباد الرحمن ينعمون بالجنات والعيون، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وحقائق الهدى والضلال حلقات متتابعات في قصص الأنبياء: فليستمع المشركون إلى قصة إبراهيم مع الملائكة المرسلين إلى قوم لوط، وليذكروا كيف خاف منهم ثم اطمأن إليهم حين بشروه على الكبر بغلام عليم، وإلى قصة لوط حين ضاق ذرعا بقومه الفجرة الفاحشين، فأسرى بأهله ليلا قبل أن يداهمهم الصبح القريب بمطر من حجارة من سجيل، وإلى قصة أصحاب الأيكة الذين كذبوا شعيبا فلقوا مصرعهم في وقته المحتوم، وإلى قصة أصحاب الحجر1 الذين كذبوا صالحا وأعرضوا عنه، وألهاهم الأمل الكاذب فيما نحتوه من البيوت المحصنة في صلب الصخور، ثم أتت على حصنهم صيحة طاغية فدمرتها تدميرًا وهم فيها آمنون في سكون الصبح الجميل.
وإذا لم يكن للمشركين في هذا القصص عبرة، فليكن لمحمد فيه أسوة حسنة, وليتسل به عما يلقاه من قومه، وليكتشف من خلاله الحق الذي أقام الله عليه السموات والأرض، وليصفح الصفح الجميل عن أعدائه الجاهلين, وليمض في طريق الدعوة إلى الله ولينذر الغافلين، وليصرف بصره عن متاع الغرور قانعا بما آتاه الله من السبع المثاني2 والقرآن العظيم، وليجهر بالوحي الذي أنزل الله مثله على قلوب النبيين، فإن العاقبة للمتقين.
وإننا -إذ نختم بسورة "الحجر" تحليلنا السريع لما اخترناه من سور المرحلة المتوسطة- لا يغيب عنا أن انفرادها بميزة الطول النسبي إرهاص لما سنلمحه في المرحلة الأخيرة من طول نسبي أيضا حتى ليصعب التمييز بين سور المرحلتين في هذه الخصيصة ولا سيما إذا لاحظنا أن الفصل بين مختلف الزمر أمر اعتباري(1/30)
ليس له من الواقع نصيب، فكل مرحلة امتداد للتي سبقتها ولا يبدو هذا الامتداد أوضح ما يكون إلا في السور الأولى من المرحلة الجديدة, حين تقابل بسماتها المستقلة وملامحها المتميزة السور الأواخر من المرحلة السابقة.
ولا يغيب عنا أيضا أن افتتاح سورة "الحجر" بالحروف المقطعة إرهاص لكثير من سور المرحلة الثالثة المفتتحة بهذه الحروف. وذلك يؤكد ما كنا أومأنا إليه من اشتراك المراحل المكية كلها في خصائص موضوعية وأسلوبية متماثلة تتفاوت حظوظها في هذا الاشتراك، ولولا أخذنا بالمنهج الزمني في ترتيب المكي والمدني زمرا وفصائل، وتقسيم كل منها إلى مراحل، لضممنا السور المكيات كلها في زمرة واحدة تقابل السور المدنيات بزمرتها كلها مقابلة كاملة.
وإن نرد تفصيل الحديث عما تميزت به المرحلة المكية المتوسطة عن الأولى -قبل أن نمضي إلى تصوير ملامح المرحلة الثالثة التالية- نجد في يسر وسهولة أن بعض الإضافات التي زيدت في هذه على حقائق تلك قد صيرت موضوعاتها كالمستقلة بنفسها، وأن بعض الأصباغ التي وشيت بها هذه زيادة على وشي تلك قد جعلت أسلوبها خاصا فريدا، مع أن الأصول في سور كلتا المرحلتين بقيت بارزة المعالم، واضحة السمات.
إن جميع الحقائق التي عالجتها المرحلة الأولى في الكون والحياة، والإنسان قد عالجتها أيضا هذه المرحلة الثانية، بيد أنها وسعت نطاقها، وفصلت جزئياتها، وألقت الضوء ساطعا على معالمها: فقد بدأت الدعوة الإسلامية تثير مخاوف المشركين وتقذف الرعب حقا في قلوبهم، فما تني تنذرهم سوء المنقلب, وتعرض عليهم صورا من تدمير الله القرى الظالمة، وتقص عليهم قصص الغابرين، وتفصل لهم البراهين1 على توحيد الله، وصدق الوحي، وقيام الساعة، ووقوع البعث والنشور والثواب والعقاب، وتصور لهم الجنة والنار في لوحتين متقابلتين حافلتين بالمشاهد والظلال, وتذكرهم بنعم الله التي لا تحصى في الأرض وفي السماء، وفي الأنفس والآفاق، وتدعوهم إلى الاهتداء بنور الفطرة، وترغبهم في صالح الأعمال، وتوازن بينهم وبين الذين آمنوا وعملو الصالحات، وتضع لهم الموازين القسط للأشخاص والقيم والأخلاق، وتوضح لهم وحدة الدين في أصول الإيمان، وترسم لهم نشأة الكون وخلق آدم وإبليس، وتوضح لهم أسرار الهدى والضلال.
أما أسلوب هذه المرحلة فربما كان -في جل المواطن- امتدادا لأسلوب المرحلة المكية الأولى في الإيجاز وحرارة التعبير، وتجانس المقاطع والفواصل، ووفرة التجسيم والتشخيص والتخييل، وكثرة الأصباغ والألوان واللوحات، إلا أن بعض السور بدأت تجنح إلى الطول، وبعض الآيات بدأت هي الأخرى تطول1، وتعددت في السورة الواحدة الأنغام، وبرزت أحيانا بين مقاطعها لوازم الإيقاع، وذيلت بعض(1/31)
الفواصل باسم أو اسمين متتالين من أسماء الله الحسنى2، وظلت الألفاظ تنتخب انتخابا، رشيقة تارة عنيفة تارة أخرى، وهي في كلتا الحالين تهز المشاعر الراقدة بالبيان الرفيع، والسحر الخلاب!.
الآن نمضي إلى المرحلة المكية الثالثة الختامية، فيفاجئنا فيها -أكثر ما يفاجئنا- طولها بوجه عام آيات وسورًا، وإن كان الأغلب عليها طول السور دون الآيات, وهذا الطول نفسه -حيثما يلاحظ- ليس شيئا ذا بال إذا قيس بعدد الآيات في السور المدنية أو بعدد الألفاظ في الآية المدنية الواحدة، ولكنه بلا ريب يعد طولا بالنسبة إلى ما يتوقعه القارئ في جميع المراحل المكية من تناسق القرآن مع ما يرغبه فصحاء مكة من إيجاز التعبير تعويلا على الإشارة الخفية أو الإيماءة البارعة المحكمة.
وطول هذه السور سيحول دون تحليلنا لجميع ما ذكرناه منها، فبدلا من أن نتناول بالدراسة الخاطفة كل ما سردناه1 سنكتفي بإبراز الملامح الأساسية لسور منها ثلاث هي: الصافات، والكهف، وإبراهيم، ويقاس بعد ذلك سائرها على هذي الثلاث.
أما "الصافات" فتقع في اثنتين وثمانين ومائة آية، متعددة الفواصل، متنوعة الإيقاع في آياتها الإحدى عشرة الأوائل، ثم تلتزم فيها حتى نهايتها فاصلتا الواو والنون، والياء والنون, وأحيانا الياء والميم.
ومن خلال مقاطع السورة المتتابعة تبرز طائفة من الأفكار والمشاهد والمواقف المترابطة المتناسقة التي ترتد كلها إلى بناء العقيدة في النفوس خالصة من الشرك: فمن تثبيت فكرة التوحيد إلى تأكيد فكرة البعث وتصوير بعض المفاجآت يوم القيامة، ومن الملائكة الصافات إلى الشياطين المستمعين إلى الملأ الأعلى ورجمهم بالشهب الثاقبة، ومن تكذيب المشركين بالنبي إلى عرض سلسلة من قصص الرسل: نوح وإبراهيم وابنه الذبيح وفي حادثة الفداء بمواقفها المؤثرة الموحية، ومن حملة على أسطورة العرب في الملائكة إلى وعد الله لرسله بالنصر المبين.
أقسم الله بالملائكة الصافات لربها في السماء2 الماثلات بين يديه صفا صفا في ارتقاب أمره، وتنفيذ مشيئته، وزجر المكذبين لرسله، وتلاوة الذكر3 على أصفيائه من خلقه، على أنه واحد لا شريك له في ذاته ولا في ملكه.
وإن وحدانيته سبحانه لأبلغ رد على تلك الأسطورة الحمقاء التي افترضت قرابة بين الله -جل وعلا- وبين الجن: فقد زعمت العرب أن الله تعالى تزوج الجنة فولدت من هذا التزاوج الملائكة, فهن بنات الله! وفي سورة الصافات رد على هذه الفرية الجهلاء في أربع مواطن: أولها المطلع الذي رسم -من خلال القسم- صورة الملائكة قائمات بأمر الله, صفوفا بين يديه, نازلات بالوحي على قلوب النبيين، فهن من خلق الله في عالم الغيب المستور.(1/32)
والموضع الثاني في قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ}1، فما بين السموات والأرض من مخلوقات دقيقة، وما يعرج بينهما من ملائكة مطهرين وأرواح علوية، خلق من خلقه، وعبيد من عباده، يعترفون له بالألوهية والوحدانية والقدرة.
والموضع الثالث: في رجم الشياطين الذين يحاولون استراق السمع، مع أنهم -بزعم العرب- هم "الجنة" الذين جعلوا بينهم وبين الله نسبا، فما بالهم يطاردون في السماء، ويقذفون بالشهب، رغم قرابتهم المزعومة مع الله الكبير المتعال؟
والموضع الرابع الأخير قبيل خاتمة السورة في تلك الحملة العنيفة الساخرة على هذه الفرية السخيفة المتهافتة، وفي استفتاء القرآن أولئك الحمقى عن منشأ أسطورتهم، وعن أسرار تأنيثهم الملائكة, وعن أسباب نسبتهم ما يكرهون إلى الله. وهكذا كانت وحدانية الله في ذاته أبلغ رد على أسطورة العرب في الملائكة والشياطين!.
على أن الحديث عن رجم الشياطين بالشهب إنما جاء عقب الحديث عن تزيين السماء الدنيا بالكواكب، فقد أودع الله الكواكب خصيصتين تكمل إحداهما الأخرى، أولاهما خصيصة التزيين والتجميل حتى لا تقع العين في السماء إلا على البهاء والجمال، والثانية خصيصة الحفظ والرصد حتى لا يستمع شيطان متمرد ما يدور في الملأ الأعلى: فهذه الكواكب حفظة للسماء تطرد العتاة عن بابها برجوم من نار، وتدحرهم دحرا فيولون الأدبار.
وإن قيام الكواكب بوظيفتيها كلتيهما على الوجه الأدق الأكمل لبرهان صادق على تناسق هذا الكون، وجريان كل شيء فيه بقدر، وتحرك كل ما فيه بقدرة الله الخالق البارئ المصور.
ومشركو مكة -بدلا من أن يتدبروا صنعة الخالق الذي أتقن كل شيء- يلجون في عتوهم ونفورهم، ويتمادون في غيهم وغرورهم، كأنهم يحسبون أنفسهم أشد خلقا من الملائكة الصافات، أو أقوى تمردا من الشياطين العتاة1، وإذا هم ينكرون البعث بعد أن يصيروا ترابا وعظاما، ويرمون القرآن بالسحر شكا وارتيابا، فيأمر الله نبيه -في موقفهم العجب- بتذكيرهم بنشأتهم الأولى من طين رخو لزج، وإنذارهم بصيحة البعث تزجرهم زجرة واحدة وتسوقهم وأزواجهم وما كانوا يعبدون إلى أرض المحشر، فيجدون أنفسهم فجاءة في الجحيم أذلة مستسلمين، ثم يتبرأ بعضهم من بعض ويعترفون باستحقاقهم العذاب الأليم.
وسنة القرآن في مقابلة مصير الأشقياء بمصير السعداء لا تتبدل، فهنا تصوير وارف الظلال لمظاهر التكريم التي أعدها الله للمخلصين من عباده: بدأ باستثنائهم من العذاب الأليم، ثم آتاهم ما تشتهيه أنفسهم في جنات النعيم، فهم يتكئون على السرر في راحة واطمئنان، ويتناولون الفواكه من قطوف ذللت تذليلا،(1/33)
ويتساقون خمرا علوية لا تصدع الرءوس ولا تقطع لذة الشراب"1، ويضاعف لهم هذا النعيم بأنبل صحبة وأسماها وأحلها مع أزواجهم الحييات المصونات من الحور الحسان الناعمات.
وإنهم لفي نعيمهم هذا إذ يذكر أحدهم قرينا له كان في الدنيا يكذب بالبعث والنشور, فيذهب السعداء لتفقد هذا القرين والتطلع إلى مصيره، فيجدونه في وسط الجحيم، ويوجه السعيد إلى قرينه الشقي كلمات التأنيب، وفي خلالها يحمد الله على أن جعله وإخوانه من الأتقياء المخلصين.
ويطلق القرآن هنا الموازنة إلى أبعد مدى، وهو يبسط أمام المكذبين الجاحدين الفرق الشاسع بين تقلب السعداء في أعطاف النعيم وغصص الأشقياء وهم يأكلون من شجرة الزقوم، وهي شجرة جهنمية خبيثة تناهت في القبح وإثارة الرعب حتى أشبهت رءوس الشياطين التي يتصورها الخيال أقبح ما تكون2، وكلما احترقت حلوقهم من الظمأ واللهيب شربوا ماء حميما غاليا عكرا فقطع أمعاءهم, وكلما التمسوا ملجأ يقيهم هذا الويل الشديد ردوا إلى قعر جهنم، وساءت مستقرا ومقاما.
ويذكر القرآن هؤلاء الضالين بأسباب ضلالهم، فإنهم مقلدون يهرعون على آثار آبائهم، ولا يقارنون مقارنة منطقية بين مصيرهم المظلم ومصير المؤمنين المشرق السعيد، ولكن أسلافهم ضلوا من قبل مع أن النذر أرسلوا فيهم متتابعين، فلم ينج من العذاب العاجل إلا المصطفون الأخيار.
وفي معرض هذا التذكير الذي يفيض بالإيحاءات المؤثرة, ويهز القلوب الغالفة هزا شديدا، رسم القرآن في لمحات عجلى قصة نوح الذي استجاب الله دعاءه فنجاه وأهله من الكرب العظيم، وأغرق المكذبين به، وقصة إبراهيم الذي حطم أصنام قومه، فهموا به ليقتلوه، وبنوا له بنيانا ليحرقوه فأنقذه الله من كيدهم وجعل النار بردا عليه وسلاما وقصة موسى وهارون اللذين اصطفاهما الله لرسالته، وآتاهما التوراة فيها هدى ونور، وكتب لهما النصر على فرعون وملئه المفسدين، وقصة إلياس الذي أنكر على قومه عبادتهم بعلا وإعراضهم عن أحسن الخالقين، وقصة لوط الذي نجاه الله وأهله -إلا امرأته- من الزلزال والدمار، وأمطر قومه الضالين حجارة من سجيل، فساء مطر المنذرين, وقصة يونس الذي ضاق ذرعا بتكذيب قومه فخرج مغاضبا آبقا، فركب سفينة مشحونة, واقترعوا حين تلاعبت بها الرياح والأمواج على من يلقونه منها تخفيفا لوزنها الثقيل، فخرجت القرعة ليونس فألقي في البحر والتقمه الحوت وهو مستحق للوم على قنوطه ومغاضبته، ثم سبح الله في بطن الحوت فاستجاب الله دعاءه، فأخرجه من بطنه ونبذه على الشاطئ عاريا سقيما، ولما أبل من مرضه دعا قومه إلى عبادة الله فآمنوا كلهم وكانوا مائة ألف أو يزيدون1.
هذه القصص جميعا رسمت أحداثها سورة "الصافات" في ومضات سريعة برزت من خلالها عاقبة المكذبين واستجابة الله لعباده المخلصين, فكان فيها إنذار للمشركين بسوء المصير ودعوة للنبي إلى الصبر الجميل.(1/34)
ولذلك خص إبراهيم الخليل في سلسلة هذه القصص بسياق أطول، ومراحل أكثر إسهابا وتفصيلا، حين عرضت حادثة فداء ابنه بمواقفها المؤثرة، وحوارها الأخاذ، وأسلوبها الرهيب، فقد أبرزت هذه الحادثة -بعد قصة تحطيم إبراهيم للأصنام- لما توحي به من الاستسلام لله، والاطمئنان إليه والثقة به،وهي الزاد الحقيقي لكل داعية يتحلى بالصبر الجميل, في طريق الدعوة الطويل:
ذهب إبراهيم إلى ربه، وهجر كل شيء في سبيله, وسأله أن يهبه ولدا صالحا، فبشره بغلام حليم1، وما كاد هذا الغلام يرافق أباه في درب الحياة، ويبلغ معه السعي في آفاقها، حتى تعرض لأقسى محنة فصبر واستسلم. لقد رأى إبراهيم في منامه أنه يذبح ابنه، فأدرك أنها إشارة من ربه، فاستجاب راضيا مطمئنا، وأخبر ابنه برؤياه فوجده مستسلما صابر، ولكنه حين كب ابنه على جبينه استعدادا لذبحه فداه الله بكبش عظيم يذبحه، وعده وفيا بعهده، مؤديا لمهمته، وناداه: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
وبانتهاء سلسلة هذا القصص القرآني -ما أوجز عرضه وما أسهب به- تتجه المقاطع الأخيرة من سورة "الصافات" إلى مناقشة العرب في أسطورتهم عن الملائكة والشياطين, تأكيدا لتوحيد الله وتنزيهه عما يصفه به الجاهلون2. وفي اختتام السورة -بعد ذلك- بآيات التحميد والتسبيح تناسق تام بين البداية والنهاية: فقد أقسم الله في المطلع على أنه واحد، منزه عن كل شريك في ذاته أو ملكه, وختم السورة بالتسبيح بحمده تنزيها له أيضا عن كل شريك. وإن في هذا لبرهانا دامغا على وحدة الموضوع في السورة الواحدة مهما تطل آياتها وتتشعب فيها الجزئيات.
وأطرف ما في الحملة القرآنية على الأسطورة العربية في الملائكة والشياطين التنزل إلى خطاب العرب بمنطقهم نفسه ليعرفوا من تلقاء أنفسهم سخف ما تخيلوه وزعموه. فالنبي العربي الأمي مدعو إلى استفتاء العرب الأميين عن استئثارهم بالبنين من دون الله الذي ينسبون إليه البنات، فهل يفضل الله البنات على البنين؟ أم شهدوا مولد الملائكة فعرفوا جنسهم؟ أم افتروا على الله كذبا وهم يعلمون؟
وكيف طوعت لهم أنفسهم أن يزعموا أن بين الله وبين الجنة نسبا, مع أن الجن يعلمون أنهم -ككل خلق الله- يحضرون يوم القيامة ليحاسبوا على ما قدمت أيديهم؟ إن أباطيلهم هذه لن تخدع إلا من في قلبه مرض ومن تؤهله طبيعته الفاسدة لدخول الجحيم.
وليت أولئك المبطلين يسمعون رد الملائكة على أسطورتهم الحمقاء، فإنهم في الملأ الأعلى ما ينفكون يناجون ربهم بلسان الحال أو المقال مرددين: إنا صافون1 صفا بين يديك، نسبح بحمدك ونقدس لك، وننزهك عن الصاحبة والولد وعن كل شريك!.(1/35)
وبعد هذه الحملة العنيفة الساخرة على الأسطورة الجاهلية الحمقاء، تهدد السورة مخترعي هذه الأساطير بمصيرهم المشئوم، وتعرض عليهم سنة الله في نصر جنده المخلصين، فلله العزة جميعا، وعلى رسله السلام، وله الحمد ولا يمكننا الجزم بأن القرآن -حين أبطل تأنيث الملائكة- قد أثبت لها صفة الذكورة، فإن الملائكة من عالم الغيب الذي لا نعرف منه على وجه اليقين إلا ما جاء صراحة في الكتاب أو على لسان المعصوم، ولم يكلفنا الله ولا رسوله معرفة جنس الملائكة، أإناث هم أم ذكور, بل وصفهم لنا ببعض وظائفهم في طاعة الله بعلامات التأنيث تارة وأمارات التذكير تارة أخرى, ومن ذلك أن مثولهم صفا بين يدي الله عبر عنه في مطلع هذه السورة بـ{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} على جمع المؤنث السالم، وفي أواخرها بقوله على لسان الملائكة: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} على جمع المذكر السالم. وتذكير الملائكة لفظا -بوجه عام- هو الذي يغلب في القرآن، ومنه قوله تعالى في غير هذا الموضع: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} وقوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}.
وحده لا شريك له منزها عن كل ما يصفون وما يخترعون1.
وحين ننتقل الآن إلى سورة "الكهف" لا مفر لنا من الإيجاز الشديد، والاستغناء في أكثر المواطن بالتلويح عن التصريح، لأننا نواجه سورة طويلة من عشر ومئة آية, ونلاحظ في آياتها نفسها انسيابا وطولا وإطنابا إلا في مقاطع قليلة، فضلا على ما يتلى في أوائلها وأواسطها, وأواخرها من قصص ديني يكاد يستغرق ثلثيها، وفضلا على ما يتخلل هذا القصص أو يعقبه من تعليق أو تذييل أو تفسير.
وربما بدت لنا سورة "الكهف" إحدى السور التي تفسح المجال لتفصيل الحديث عن خضوع القصة في القرآن للغرض الديني ، ولكننا لن نعرض لهذا التفصيل إلا بقدر مخافة الذهاب باستطرادنا بيعدا عن غايتنا الأساسية في هذا الفصل، إذ يعنينا منه تقصي الخطوات التي مرت بها الدعوة الإسلامية في مكة ثم في المدينة، ولا ريب أن تقصي هذه الخطوات لا يسمح لنا -حتى في السور التي اخترنا تحليلها- باستطراد مفصل ولا تعقيب طويل.
تهدف سورة "الكهف" -كجميع السور المكية ولا سيما في هذه المرحلة الثالثة الأخيرة- إلى بناء العقيدة بناء سليما في إثبات الوحدانية، والفصل الواضح بين ذات الخالق وذات المخلوق، وكشف الحجب عن ظاهرة الوحي وأسرارها المعجزة العجيبة. ولا حاجة بنا إلى التصريح بمقاطع السورة وآياتها الناطقة بهذه الحقائق, فإنها تنبئ عن نفسها ولو اكتفى القارئ بإلقاء نظرة عجلى إليها. وحسبك في بدايتها أن هذا القرآن أنزل غير ذي عوج لتبشير المؤمنين الموحدين وإنذار الذين قالوا: اتخذ الله ولدا2، وفي نهايتها أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يؤمر بتوضيح الفرق الذي لا يتناهى بين آفاقه البشرية المحدودة وأفق الوحي المبين، فما هو إلا بشر مثل سائر البشر، وإنما يمتاز عنهم بتلقيه أوامر ربه الذي يقذف في قبله نور النبوة والهداية1، وفي(1/36)
غضونها قول أصحاب الكهف: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} وقول المؤمن صاحب الجنتين البطر المغرور: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} وقول العبد الصالح لموسى: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِيرَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} فتلك جميعا آيات نواطق بوحدانية الله وعلمه الشامل الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
وإذا آثرنا الإلمام بهذه الحقائق الأولية ولم نفض فيها لمحنا في السورة موضوعا شديد الصلة بتلك الحقائق ينبثق عنها بأساليب طريفة جدا تكاد تصيره مستقلا فريدا: ذلك هو تصوير شئون الغيب، واقتطاعها من إطار العقيدة العام لتقابل بأسرارها العميقة كل ما ظهر أمره من قضايا الإيمان.
وفي السورة ثلاث أقاصيص تصحح عقائد المؤمنين في شئون الغيب، وتفصل لهم بين ما يرقى علمهم إليه وما لا يعرفونه إلا إذا كشف الله عن أبصارهم الغطاء: قصة أصحاب الكهف، وقصة موسى مع العبد الصالح، وقصة ذي القرنين في رحلاته الثلاث ولا سيما "بين السدين" مع يأجوج ومأجوج.
أما أصحاب الكهف فقد اختار القرآن لعرض قصتهم ثلاث لوحات حافلة بالحركة حتى في تصوير رقادهم الطويل: فمن عجب أن ترسم ريشة القرآن الخلاقة -في اللوحة الأولى- أولئك الفتية أيقاظا وهم رقود، إذ جعلتهم طوال النوم الذي ضرب على آذانهم أكثر من ثلاثة قرون2 يتقلبون تقلب الأيقاظ ولكنهم لا يقعدون ولا يفتحون أعينهم ولا يغادرون مكانهم فيثيرون برقادهم المتقلب ذعرا شديدا في قلوب المارين بهم المطلعين عليهم. وتزداد هذه اللوحة حياة وحركة بصورة كلبهم باسطا ذراعيه بالفناء كأنه يقوم على حراستهم, وبصورة الشمس متجافية عنهم، متباعدة عن كهفهم، كأنها لا تريد لشعاعها أن ينفذ إليهم، فهي تميل عن كهفهم يمنة إذا طلعت وتجاوزهم يسرة إذا غربت، فما أعجبها آية من آيات الله1.
واللوحة الثانية -بطبيعتها- حافلة بالحركة والحياة: فقد استيقظ الرقود، ودب فيهم النشاط من جديد، وفركوا العيون، ونظر بعضهم إلى بعض في استغراب شديد، إذا شعروا أنهم يصحون من رقدة طويلة ولكنهم لم يعرفوا كم لبثوا في كهفهم نائمين، فتساءلوا عن مدة لبثهم وتناجوا فيما بينهم، وظنوا أن نومهم -مهما يك قط طال- لم يزد على يوم أو بعض يوم، ثم ردوا الأمر إلى ربهم، فإنهم فتية مؤمنون يفوضون كل أمرهم إلى الله.
وفي اللوحة الثالثة -وهي خاطفة سريعة- يغادر أحد الفتية الكهف، ويذهب بما بقي معهم من نقودهم الفضية ليشتري لهم طعاما طيبا يسدون به إحساسهم بالجوع بعد رقادهم العجيب، فينصحونه -قبيل الخروج- بالحذر من مشركي تلك المدينة، لئلا يعرفوا مخبأهم فيقتلوهم رجما أو يردوهم عن عبادة الواحد القهار2.(1/37)
ومن خاتمة هذه الأقصوصة، ثم من أسلوب التعقيب على خاتمتها، نستنتج أن أهل تلك المدينة كانوا قد آمنوا بعد شرك أسلافهم، وأن الله أعثرهم على الفتية الذين فروا بدينهم منذ ثلاثة قرون فتلقوهم بالحفاوة والتكريم حين عرفوهم من زميلهم الذي جاء السوق يشتري الطعام، ثم يتوفى الله أصحاب الكهف حقا في أجلهم المحتوم، فيتنافس مواطنوهم في تكريمهم بعد موتهم وينتهون -بعد نزاع طويل- إلى بناء معبد فوق أضرحتهم، تخليدا لذكراهم المجيدة، ورقدتهم العجيبة1.
وهذه القصة القرآنية -على إيغالها في الغرابة- ليست أعجب ما في الكون من آيات وأحداث، وقد صور القرآن لوحاتها الثلاث -بكل غرائبها- ضمن هذا الإطار الذي يستصغر أحداثها كلها ما دامت يد القدرة الإلهية صالحة للتعلق بها وتدبيرها. وتأكيدا لهذه الفكرة، مهد القرآن لوقائع هذه القصة بقوله الصريح: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ2 كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} وجواب هذا الاستفهام ينطق بأن أصحاب الكهف لم يكونوا أعجب آيات الله3: فإنهم فتية آمنوا بربهم، واعتزوا بإيمانهم، ودعوا قومهم بقوة إلى التوحيد، واستنكروا عبادتهم الآلهة من دون الله، فما ضاق الكفر بهم ذرعا هيأ الله لهم من رحمته كنفا، وآواهم إلى الكهف, وأنسأ فيه آجالهم، وأطال فيه رقادهم، وجعل في طول رقدتهم -على غير ما ألفه الناس- آية من آياته وإن لم تكن أعظم الآيات!
والقرآن حريص -من خلال هذه الأقصوصة- على تصحيح عقائد المؤمنين في شئون الغيب: فهو يومئ إلى خوض الناس فيها وتضخيمهم أحداثها جيلا فجيلا ، ورجمهم بالغيب في تعيين عدد أبطالها، ويوجه المؤمنين إلى ترك المراء فيما لا يعنيهم، وينهاهم عن استفتاء أهل الكتاب وغيرهم في تلك القصة1 فما لهم حاجة في معرفة زمانها ولا مكانها، ولا أسماء أشخاصها ولا أشكالهم ولا أعدادهم، ولا الطريقة التي صينوا بها في فجوة من الكهف لم يعبث بهم عابث حتى جاء الوقت المعلوم. بل اتجه القرآن إلى عبرة هذه القصة يستخلصها للمؤمنين ويحملهم على استخلاصها بأنفسهم، فليس لهم أن يقفوا غير ما علموه في الماضي وما يمكنهم الساعة أن يعلموه. أما المستقبل فهو غيب محجب لا يقطع أحد فيه بقول ولا عمل، وإنما يحسن فيه التفكير، والتدبير {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}2.
وأما قصة موسى مع العبد الصالح فارتباطها بشئون الغيب أوثق من ارتباط قصة الكهف بتلك الشئون: فإن مشاهدها الأربعة المعروضة في هذه السورة قد تصادم ما تعارف الناس على تسميته بمنطق الأشياء والأحداث، وقد تثير بغرائبها الاستنكار، بيد أنها تحل أبسط حل وأيسره إذا ما عرضت على الصعيد الغيبي بمفاجآته ومعجزاته.(1/38)
وأول تلك المشاهد الأربعة بطله موسى كليم الله، وهو -على ما فيه من عجب- ليس شيئا ذا بال حين يقاس بالمشاهد الثلاثة الباقية التي كان بطلها عبدًا صالحا آتاه الله رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما.
إن موسى -في المشهد الأول- مصمم على بلوغ مجمع البحرين3.
ولو مضى حقبا حتى يصل إليه، ويريد الله له أن يلتقي بالعبد الصالح فينسيه حوتا كان قد أعده للأكل فتاه، ولعله شواه، لكن هذا الحوت المشوي دبت فيه الحياة مرة أخرى فسرب في البحر واتخذ سبيله فيه. وعجب فتى موسى للمفاجأة الغريبة. أما موسى فلم يعجب بل أدرك أن المكان الذي نسيا فيه حوتهما هو الموعد المحدد للقاء العبد الصالح، فعادا إلى آثارهما فوجدا الرجل الذي كان يبحثان عنه1.
وفي المشهد الثاني يختفي فتى موسى، وينفرد نبي الله موسى بحوار مع العبد الصالح ذي العلم اللدني، ويلتمس النبي الكريم من الولي الصفي أن يصاحبه في رحلته ويتعلم من لدنه شيئا من حقائق الغيب التي كشف الله له حجابها فيشترط العبد الصالح على نبي الله موسى الصبر والطاعة من غير تردد ولا استفسار ولا استنكار، ويركبان سفينة، فإذا العبد الصالح يخرقها بمن فيها حين أمست في ثبج البحر، فغلبت موسى طبيعته وأنكر على رجل العجائب فعلته، وعجب له كيف يغرق السفينة فيعرض ركابها للهلاك، ويشتد الحوار بين الرجلين ويعاهد موسى ذلك العبد الصالح على أن يجنبه الإرهاق بكثرة المراجعة والتساؤل.
وفي المشهد الثالث يلتقي الرجلان في طريقهما بغلام، فيقتله العبد الصالح، فيثور موسى في وجهه، ويعترض على قتله النفس الزكية الطاهرة قتلا عمدا، ويذكره رجل العجائب بعهده، فيعتذر موسى كرة أخرى وينوي ألا يسأل العبد الصالح شيئا.
وفي المشهد الرابع يدخلان مدينة بخيلة لا تؤوي ضيفا ولا تطعم جائعا، فيجدان فيها جدارًا يوشك أن ينقض، فيقيمه الرجل الغريب دون مقابل مع أنهما كانا جائعين يستطعمان، فما لرجل الأسرار لا يطلب أجرا يأكلان به من أهل القرية البخلاؤ2؟
وبتدخل موسى مرة ثالثة في المراجعة والاستفسار أضاع آخر فرصة له في مصاحبة الرجل، وأنشأ يستمع في عجب شديد لتأويل العبد الصالح لمواقفه الغامضة بكل مفاجآتها وأسرارها.
أما خرقه للسفينة فكان سببا لسلامتها وصيانتها لمساكين يعملون في البحر، إذ كان ملكهم في تلك الفترة ظالما يغتصب السفن الصالحة, فنجت هذه بعيبها من الاغتصاب.
وأما قتله للغلام -مع أنه يقترف ما يوجب قتله شرعا- فكان رحمة بأبويه المؤمنين, إذ أعلم الله العبد الصالح أن هذا الغلام لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا، فقد طبع كافرًا1، ولولا إطلاع الله عبده الصالح على حقيقة هذا الأمر الغيبي المحجب لما كان له ولا لسواه قتل نفس زكية بغير حق.(1/39)
وأما إقامته الجدار بلا مقابل فلم تكن خدمة لأهل القرية البخلاء، وإنما كانت فرصة لصيانة كنز تحت الجدار ليتيمين صغيرين خبأ لهما أبوهما ذاك الكنز ليستخرجاه من تحت الجدار متى بلغا أشدهما, فلما رآه البعد الصالح ينقض أقامه بإذن الله لئلا ينكشف أمره لأهل المدينة فينتزعوا ملكيته من أيدي الصغيرين اليتيمين.
وبهذا التأويل لم يزعم العبد الصالح لنفسه علم الغيب، بل إلى الله حكمة ما صنع، واعترف بعجزه المطلق عن فعل أمر لم يأذن به الله، وكان رمزا للعلم الغيبي اللدني الذي يتمثل -بإرادة الله- في شخص رجل من الناس، ليس بالنبي المعروف ولا الرسول المشهور, فقد سكت حتى عن اسمه القرآن!2.
ولعل القصة الثالثة عن ذي القرنين تبدو -في الظاهر- أضعف صلة بشئون الغيب من قصتي أصحاب الكهف والعبد الصالح. فإنها لا تعدو أن تكون وصفا لرحلات ثلاث إلى الشرق والغرب والوسط قام بها رجل يسمى ذا القرنين. لكن الجو الغامض الذي أحيط بهذه الرحلات، وتراءى غموضه كالمقصود في القرآن، يلوح بالمعاني الغيبية من وراء ستار: فقد بلغ ذو القرنين هذا مغرب الشمس في رحلته الأولى، ومشرقها في رحلته الثانية، والمنطقة المتوسطة "بين السدين" في رحلته الثالثة.
وفي رحلته الغربية وجد الشمس تغرب في عين {حَمِئَةٍ} كثيرة الطين اللزج1، في موضع تكثر فيه المياه والأعشاب، وقد سكت القرآن عن تحديد تلك العين "الحمئة"، فألقانا الغموض المقصود في تجهيل شديد ربما كان يفوق سرية الأمور المسماة "بالغيبة".
وفي رحلته الشرقية وجد الشمس تطلع على قوم لا ستر لهم دونها، فربما أفاد هذا أن القوم كانوا عراة، وربما أشار إلى أن أرضهم مكشوفة تطلع الشمس عليهم فيها بلا ساتر، وليس في النص ما يقطع بأسماء القوم ولا باسم الأرض التي كانوا فيها ينزلون.
أما رحلته المتوسطة بين {السَّدَّيْنِ} فكل ما فيها يدعو إلى الرهبة الشديدة التي يفوق الشعور بها أحيانا شعور التهيب لدى مواجهة الغيب وأسراره: فالقرآن هنا يذكر موضعا بعينه يسميه {بَيْنَ السَّدَّيْنِ} مثلما يذكر قوما بأعيانهم يسميهم {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} ويصفهم بالإفساد في الأرض2. وما نظن هذه الألوان من الغموض إلا مقصودة في هذا السياق، فإن حديث القرآن عن ذي القرنين لا يشبه -ولا ينبغي أن يشبه- حديث كتاب في السيرة عن الفتوحات التي أتمها فاتح عظيم، وإنما يرسم القرآن -في غضون هذه الرحلات الثلاث- ملامح إنسان شديد الصلة بالله، لم يكن سلطانه بقوته الشخصية بل مكن الله له في الأرض، وآتاه من كل شيء سببا، وهتف به أو ألهمه أو أوحى إله -كما يريد- في الملمات ليوجهه أفضل الوجهات، حتى قال له عند العين الحمئة: {يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا}.(1/40)
وتبدو صلته بالله شديدة وثقى في قوله للقوم -عند بناء السد: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي} ثم قوله عند انتهائه من هذا البناء: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}1.
وهكذا اختيرت تلك القصص الثلاث في سورة "الكهف" لمعالجة شئون الغيب، وردها جميعا إلى الذي يحفها بالأسرار، ولا يميط عنها اللثام إلا بمقدار، ولا يأذن لأحد برؤيتها إلا من وراء ستار.
وإذا صححنا الرواية التي تزعم أن أهل مكة بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة لالتماس أسئلة منهم تحرج محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ، وأن أولئك الأحبار أغروا رسولي قريش بسؤال النبي الكريم "عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان لهم من حديث عجيب، وعن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه"2، تجلى لنا في هذه السورة عمق الدرس القرآني الذي اتجه إلى المؤمنين ينهاهم عن الرجم بالغيب، ويحذرهم من الجدل العقيم، ويصل قلوبهم بربهم علام الغيوب: فالموضوع الذي هدفت إليه السورة هو -بالمقام الأول- بناء العقيدة بناء سليما في ذات الله، وفي شئون الغيب الموكولة إلى علم الله.
وفي السورة بعد ذلك ومضات سريعة تخللت بعض مقاطعها مصغرة للقيم المادية1، معرضة بفناء الدنيا وسرعة زوالها2، داعية إلى صبر الأنفس مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي, مؤكدة أن الاعتزاز الحقيقي إنما يكون بالإيمان والتقوى3، وأن الكافرين بلقاء ربهم هم الأخسرون أعمالا4. ولا ريب أن تخلل السورة بهذه الومضات السريعة يتناسق مع محورها الأساسي الذي رأيناه يدور حول بناء العقيدة, فلا بد في هذا البناء من تصحيح النظر إلى قيم الأشياء ومقاييس الحياة.
ومع سورة "إبراهيم" ننتهي إلى الحلقة الأخيرة المختارة من سور المرحلة المكية الختامية, فيخيل إلينا أننا نواجه فيها تكرارا لحقائق شديدة الشبه بما عرفناه في تحليل السور المكية الماضية، ولا سيما في أواخر المرحلة الثانية، وأن عيوننا تقع فيها أيضا على مشاهد مكررة وكأنها ظلال المشاهد السابقات:
فإن أبرز الحقائق التي تعالجها سورة "إبراهيم" وحدة الدعوة التي نادى بها رسل الله، وتنزيه الله عن كل شريك، وتذكير المشركين بالبعث والحساب، وعرض آلاء الرحمن التي يكفر بها الإنسان، وإن أبرز المشاهد التي رسمتها سورة "إبراهيم" مواقف المكذبين المعاندين للأنبياء، وصور المجرمين في جهنم والمتقين في الجنات، وسياط التبكيت والتأنيب تصب على الإنسان الظلوم الكفار الذي يتعامى عن صفحات الكون الجميلة وهي معروضة على الأنظار1.
وإنها لنظرة عجلى لا يكتفي بمثلها إلا الذي يقرأ القرآن غافلا عن الأضواء الخاصة التي تتوهج في كل سورة, وعن الإيحاءات الخاصة التي يبثها في القلوب كل مقطع قرآني جديد.(1/41)
ولعل أهم ما امتازت به هذه السورة أن مظللة في جميع مقاطعها بشخصية النبي الصفي الذي سميت باسمه: شيخ الأنبياء إبراهيم. فمن خلال دعوته المباركة برزت وحدة الرسالة في جميع الأجيال, وفي ظلال إيمانه الراسخ نبتت فكرة التوحيد، وفي إطار من قلبه المنيب رسمت لوحات الكون الجميل, ثم صورت مواقف الشكر والجحود.
وينبغي ألا يفوتنا أن إبراهيم إنما ذكر في وسط السورة أثناء الحديث عن نعم الله التي لا تحصى، وأن صورته فيها جسمت "نموذج" الصبار الشكور, الذي لا ينفك يبتهل إلى الله ويسبح بحمده بكرة وعشيا، ولكن هذه الصورة طبعت السياق كله طبعة واحدة وتركت في كل مقطع منه ظلا من إبراهيم الخليل.
ولقد جاء في مطلع السورة ذكر موسى، ثم تلاه ذكر قوم نوح وعاد وثمود، إلا أن هذه الأسماء الضخمة -رغم تمهل السياق في عرض طائفة من الأحداث المرتبطة بها- لم يكن لها في محور السورة توجيه: فما تحدثت الآيات عن موسى، وإخراجه قومه من الظلمات إلى النور، وتذكيره إياهم بنجاتهم من آل فرعون1، إلا ليكون رمزا لوحدة الرسل التي نادى بها إبراهيم، لذلك لم يلبث السياق أن انتقل إلى حقيقة الرسالة وحقيقة دعوتها إلى الاعتقاد بالله الواحد، على لسان نوح وعاد وثمود: ففي أزمنة مختلفة ومواضع متعددة جاء أولئك الرسل جميعا بأصول متماثلة بينة لا تخفى حقائقها على أولي القلوب والأبصار. وكل رسول من أولئك المصطفين الأخيار كان يثير انتباه قومه إلى شكهم المريب كلما تعاموا عن آيات الله في السموات والأرض, وكل رسول منهم كان يقرر بشريته ولا ينكرها قائلا لقومه المكابرين: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}2، وما كان فيهم إلا مواجه للطغيان، صبور على الاضطهاد، متوكل على الله، كأن كلا منهم صورة مكررة من أبيه إبراهيم: به يقتدي، وعلى آثاره يسير، وهكذا برزت وحدة الرسالة ونبتت فكرة التوحيد في ظلال من إيمان إبراهيم.
ثم تقلب في السورة صفحات مضيئة من كتاب الكون الكبير: في الماء المنهمر من السماء، والثمر النابت من الأرض، والشمس بضيائها الوهاج، والقمر بنوره الفضي، وفي كل صفحة من تلك الصفحات نرى أبا الأنبياء إبراهيم قارئا يتدبر، خاشعا يتبتل، كأن دعاءه الضارع يتكرر كلما لهج لسان بحمد الله! وهكذا رسمت لوحات الكون الجميل في إطار من قلبه المنيب.
ويريد الله في هذه السورة أن يمد ظلال "خليله" على هذه اللوحات مدا،فيصور دعاءه الخاشع صاعدا إليه ذاهبا في السماء، حين يسأله للبلد الحرام الأمن والسلام، ويرجوه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام، ويطمع في رضاه عن كل من تبع سبيله، ولا يستعجل لمن حاد عن الصراط عذاب الخزي والهوان, ويحمد الله على أن وهبه على الكبر إسماعيل وإسحاق، ويختم بابتهال ضارع أن يغفر الله له ولوالديه وللمؤمنين يوم يقوم الحساب1.(1/42)
وينعكس، في مقابل هذه الصورة، "نموذج" آخر يجسد الإنسان الكافر الكنود الذي يتلو كتاب الكون بلسان جاحد، وينظر إلى آفاقه الجميلة ببصر حسير، فلا يبالي بشيء مما سخره الله له في السماء والأرض، والبر والبحر، والشمس والقمر، والنجم والشجر، واليل والنهار. وعلى أمثاله يلقي القرآن سياط التقريع والتأنيب تهز القلب وتلذع الوجدان وهو يقول: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}2.
وإبراهيم, الذي عرضت من خلال شخصيته النبوية الكبرى تلك العقائد والتعاليم لم يك مجهولا في مكة: فجميع المكيين يعظمون إبراهيم, ولم يك مجهولا في المدينة فجميع يهود يثرب كانوا يقدسون الخليل, ولم تكن أخباره خافية على النصارى حيثما وجدوا فإن له في قلوبهم مكانة يغبطه عليها سائر النبيين: فإلقاء الأضواء على عقيدة التوحيد وعلى دعوة الرسل في إطار من شخص إبراهيم قد لون هذه السورة لونا يجمع على استحسانه أهل مكة وأهل التوحيد، وفتح باب الإيمان على مصراعيه أمام الحنفاء للدخول في دين الله أفواجا، وجاء في أواخر الوحي المكي إرهاصًا لأوائل السورة المدنية التي دأبت على تعظيم إبراهيم، وعلى تألف قلوب اليهود بمثل هذا التعظيم، وفي هذه الأضواء الخاصة برزت سورة "إبراهيم" بنمط فريد، في عرض فكرة التوحيد3.
وعقب تحليلنا لهذه السورة -بعد سورتي الصافات والكهف- أشرفنا على نهاية الوحي في مكة، وبتنا نستشعر جوا جديد يكاد يجعل المرحلة المكية الثالثة مرحلة انتقالية تتوسط بسورها الطوال وحي مكة الذي تم نزوله ووحي المدينة الذي سيتعاقب على ما يجد من الوقائع بعد الهجرة, وربا فسرنا -في ضوء هذه المرحلة الانتقالية- كثرة الآيات والمقاطع التي التبست على المفسرين فظنوها مدنية واستثنوها من بعض السور المكية غافلين عن العامل الزمني الذي نعتقد نحن أنه فرض تلك المقاطع ذات الطابع المدني على سور طابعها مكي -مع أن السور برمتها مكية خالصة- وفقا لتمهيده الطريق بين مراحل الوحي المدني المقبل سريعا من وراء حجاب الغيب.
ولقد امتازت سور المرحلة المكية الختامية بطولها وطول آياتها، وافتتاح طائفة منها ببعض الحروف المقطعة، وتوجيه الخطاب فيها إلى الناس جميعا لا إلى أهل مكة وحدهم، والتذكير بطاعة الله ورسوله تمهيدا لما سيفصل في المدينة من الفرائض والواجبات، والدعوة إلى الإحسان والعمل الصالح للفوز بالجنة والنجاة من النار، وتوضيح شئون الغيب المتعلقة بذات الله وصفاته، أو بالملائكة والجن، أو بالأنبياء والأولياء، أو بالمعجزات والكرامات، ورد الهداية والضلال إلى الله إلى جانب ما يتصرف به الإنسان في حدود حريته واختياره، وعرض قصص النبيين ولا سيما أئمتهم المعظمين كإبراهيم, وتصوير عقيدة التوحيد بأسلوب جديد.(1/43)
ولا ريب أننا أسهبنا الحديث عن السور المكية بمراحلها الثلاث، وكان مقصدنا من ذاك الإسهاب واضحا: هو تقصي أطوار التنزيل لتعيين السابق منها والمسبوق، وإبراز الملامح الصريحة التي تعيننا على ترجيح الإطار الزمني المتنزلة فيه طائفة من السور والآيات. وقد أشرنا آنفا إلى صعوبة الجزم في تصوير المراحل المكية، ولا سيما في بدء الوحي, وإلى سهولته في تعيين المراحل المدنية حتى آخر ما نزل من الوحي، وعللنا ذلك بانتشار الإسلام وتيسر أدوات النسخ والكتابة والنقل في المدينة.
افتتاح المرحلة المدنية بسورة البقرة :
وإذا أغفلنا النزر القليل الذي اختلفت في مدنيته، أو تعددت الروايات في سبقه وتأخره، وسعنا أن نتفق مع المحققين من المفسرين على أن المرحلة المدنية الأولى افتتحت بالبقرة، ثم تلتها الآنفال، ثم آل عمران، فالأحزاب، فالممتحنة، فالنساء، فالحديد، وأن المرحلة المدنية المتوسطة بدأت بسورة محمد، ثم تلتها الطلاق، فالحشر، فالنور, فالمنافقون، فالمجادلة، فالحجرات، وأن المرحلة الثالثة والنهائية في المدينة استهلت بالتحريم, ثم تلتها الجمعة، فالمائدة، فالتوبة، فالنصر.
ولعل القارئ يتوقع -رغم طول هذا الفصل بين يديه -أن نختار الآن أيضا من كل زمرة من هذه الزمر المدنية الثلاث سورة واحدة نحللها على نحو ما صنعنا في المراحل المكيات الثلاث، فنستغني بسورة "البقرة" عن الزمرة المدنية الأولى، وبـ"النور" عن الثانية، وبـ"المائدة" عن الثالثة الختامية.
ولكننا نؤكد لكل من قرأ هذا الفصل بعناية -وما نظننا بحاجة إلى التأكيد- أننا حتى لو اكتفينا بعرض الخطوط التشريعية الكبرى في هاتيك السور "النموذجية" الثلاث، لطال بنا الحديث، وغلبت على أسلوبنا عبارات الأصوليين والفقهاء، وخرجنا بكتابنا عن الغاية الأدبية التي من أجلها ألفناه: فإن الحقائق الشرعية في العبادات والمعاملات, والحلال والحرام, والأحوال الشخصية والقوانين الدولية, وشئون السياسة والاقتصاد, وأحوال السلم والحرب، ووقائع المعارك والغزوات، تتردد في جل هذه السور المدنية بنسب متفاوتة, وأشكال متغايرة تتجدد باستمرار, بل بأشكال تبدو جدتها أحيانا ناسخة لما قبلها، أو مبدلة لحكمه1، أو مفصلة على الأقل لشيء من إجماله، ومقيدة لبعض إطلاقه، ومخصصة لبعض عمومه. لذلك رأينا أن الإشارة إلى هذه القضايا المتشابكة في التنزيل المدني تغني عن تفصيل الجزئيات ولو كانت هذه الجزئيات لا تعدو الخطوط العريضة الكبرى.
وبحسبنا -إن غضضنا النظر عن تعاقب المراحل المدنية ابتداء ووسطا وختاما- أن نومئ فقط إلى رءوس المسائل التي وردت في سورة واحدة من المرحلة المدنية الأولى هي سورة الأنفال، أو سورة بدر الكبرى كما كان يسميها عبد الله بن عباس1.(1/44)
افتتحت هذه السورة بالحديث عن الآنفال، فالمعركة قد انتهت، والنصر قد تحقق، وبدأ المسلمون يختلفون في الغنائم والأسلاب، ثم رسمت صورة فريق من المؤمنين أقبلوا على المعركة كارهين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، ثم صورت استغاثة المؤمنين بربهم، ومده لهم بالملائكة والنعاس والماء يذهب عنهم رجس الشيطان، ثم أمست عبارتها صاخبة بما توالى فيها من الأوامر والأحكام العسكرية المتعلقة بالفرار يوم الزحف، ويمتن الله -بعد ذلك- على المؤمنين بالنصر، فما قتلوا عدوهم ولكن الله قتلهم، وما النصر إلا من عند الله، وتتعاقب التعاليم الدينية والأخلاقية للمؤمنين بعد المعركة، فليطيعوا الله والرسول، وليحذروا الفتن العامة التي يختلط فيها الفاسد بالصالح, وليحذورا خيانة الله وخيانة أماناتهم وهم يعلمون.
وتستعرض السورة -في غضون هذه التعاليم- صورا من مكر الكافرين وعنادهم، وتقرر مبادئ عامة في اضمحلال القوى الكافرة واستحالة أموالها حسرات عليها. ثم تنذر الكافرين بقتالهم لحماية العقيدة ونشر دين الله, وتتحدث عن الغنائم وطرقة توزيعها ومصارفها، وتصور جانبا من معركة بدر وتفصل وقائعها حين كان المؤمنون بالعدوة الدنيا والمشركون بالعدوة القصوى والركب أسفل منهم، وترتد إلى المؤمنين, كرة أخرى تحذرهم من الاغترار بالنصر، ومن السير للقتال بطرا ورياء ، وتعرض عليهم صورة الكافرين على فراش الموت، ثم تدعو إلى إعداد القوة لحماية السلم, وترغب صراحة في الجنوح للسلم إذا جنح لها الأعداء، ولكنها تظل تحرض المؤمنين على القتال، وتثير فيهم القوة المعنوية، وتجعل أحدهم في حال الضعف كفوءا لاثنين من المشركين وفي حال القوة كفؤا لعشرة من الرجال، وتعود إلى بدر فتعتب على النبي وصحبه لأخذهم الفداء من الأسرى وإيثارهم عرض الدنيا على الآخرة، وتقرر في الختام أنواع الولاية الأربعة وترتب على هذه التصنيفات بعض الحقوق والواجبات1. وتظل الأدة المفضلة لعرض هذه التشريعات هي التصوير، فما ألقيت تفصيلاتها جافة كما تلقى أحكام القانون.
وهكذا كان تنوع الموضوعات هو الباعث الأهم على تنوع الأسلوب القرآني، فما هما بالأسلوبين المتعارضين اللذين لا تربط بينهما صلة، وإنما هو أسلوب واحد يشتد أو يلين، ويفصل أو يجمل تبعا لحال المخاطبين. وهذا سر من أسرار الإعجاز التي يمتاز بها القرآن الكريم. (1)
ويتميز القسم المكي عن المدني من حيث الأسلوب والموضوع (2) :
[أ] - أما من حيث الأسلوب فهو:
__________
(1) - مباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح ص 164 فما بعدها ، وقد تركتنا الهوامش للاختصار
(2) - مقدمة في أصول التفسير - (2 / 8)(1/45)
1 - الغالب في المكي قوة الأسلوب، وشدة الخطاب؛ لأن غالب المخاطبين مُعرِضون مستكبرون، ولا يليق بهم إلا ذلك، اقرأ سورتي المدثر، والقمر.
أما المدني: فالغالب في أسلوبه اللين، وسهولة الخطاب، لأن غالب المخاطبين مقبلون منقادون، اقرأ سورة المائدة
2 - الغالب في المكي قصر الآيات، وقوة المحاجة؛ لأن غالب المخاطبين معاندون مشاقون؛ فخوطبوا بما تقتضيه حالهم، اقرأ سورة الطور.
أما المدني: فالغالب فيه طول الآيات، وذكر الأحكام؛ مرسلة بدون محاجة؛ لأن حالهم تقتضي ذلك، اقرأ آية الدَّيْنِ في سورة البقرة.
[ب] - وأما من حيث الموضوع فهو:
1 - الغالب في المكي تقرير التوحيد والعقيدة السليمة، خصوصاً ما يتعلق بتوحيد الألوهية والإِيمان بالبعث؛ لأن غالب المخاطبين ينكرون ذلك.
أما المدني فالغالب فيه تفصيل العبادات والمعاملات؛ لأن المخاطبين قد تقرر في نفوسهم التوحيد والعقيدة السليمة، فهم في حاجة لتفصيل العبادات والمعاملات.
2 - الإِفاضة في ذكر الجهاد وأحكامه والمنافقين وأحوالهم في القسم المدني لاقتضاء الحال؛ ذلك حيث شرع الجهاد، وظهر النفاق بخلاف القسم المكي.
فوائد معرفة المدني والمكي (1) :
معرفة المكي والمدني نوع من أنواع علوم القرآن المهمة؛ وذلك لأن فيها فوائد منها:
1 -ظهور بلاغة القرآن في أعلى مراتبها، حيث يخاطِب كلَّ قوم بما تقتضيه حالهم من قوة وشدة، أو لين وسهولة.
2 -ظهور حكمة التشريع في أسمى غاياته حيث يتدرج شيئاً فشيئاً بحسب الأهم على ما تقتضيه حال المخاطبين واستعدادهم للقبول والتنفيذ.
3 -تربية الدعاة إلى الله تعالى، وتوجيههم إلى أن يتبعوا ما سلكه القرآن في الأسلوب والموضوع، من حيث المخاطبين، بحيث يبدأ بالأهم فالأهم، وتستعمل الشدة في موضعها والسهولة في موضعها.
4 -تمييز الناسخ من المنسوخ فيما لو وردت آيتان مكية ومدنية، يتحقق فيهما شروط النسخ، فإن المدنية ناسخة للمكية؛ لتأخر المدنية عنها.
===============
__________
(1) مقدمة في أصول التفسير - (2 / 9)(1/46)
المبحث الثاني
الحكمة من نزول القرآن مفرقاً (1) :
من تقسيم القرآن إلى مكي ومدني؛ يتبين أنه نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - مفرقاً ولنزوله على هذا الوجه حِكَمٌ كثيرة منها:
1 - تثبيت قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِك (يعني كذلك نزلناه مفرقاً) لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ (ليصدوا الناس عن سبيل الله) إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً}[الفرقان: 32، 33].
2 - أن يسهل على الناس حفظه وفهمه والعمل به، حيث يقرأ عليهم شيئاً فشيئاً؛ لقوله تعالى:{وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً}[الاسراء:106].
3 - تنشيط الهمم لقبول ما نزل من القرآن وتنفيذه، حيث يتشوق الناس بلهف وشوق إلى نزول الآية؛ لا سيما عند اشتداد الحاجة إليها كما في آيات الإِفك واللعان.
4 - التدرج في التشريع حتى يصلَ إلى درجة الكمال، كما في آيات الخمر الذي نشأ الناس عليه، وألفوه، وكان من الصعب عليهم أن يُجَابَهُوا بالمنع منه منعاً باتًّا، فنزل في شأنه أولاً قوله تعالى:{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}[البقرة:219]، فكان في هذه الآية تهيئة للنفوس لقبول تحريمه حيث إن العقل يقتضي أن لا يمارس شيئاً إثمه أكبر من نفعه، ثم نزل ثانياً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ }[النساء: الآية43] ، فكان في هذه الآية تمرين على تركه في بعض الأوقات وهي أوقات الصلوات، ثم نزل ثالثاً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[المائدة:90- 92] فكان في هذه الآيات المنع من الخمر منعاً باتًّا في جميع الأوقات، بعد أن هُيِّئت النفوس، ثم مُرِنَت على المنع منه في بعض الأوقات.
وجاء في بيان حكمة إنزال القرآن منجما بكلمة جامعة وهي {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} لأن تثبيت الفؤاد يقتضي كل ما به خير للنفس، فمنه ما قاله الزمخشري: الحكمة في تفريقه أن نقوي بتفريقه فؤادك حتى
__________
(1) - مقدمة في أصول التفسير - (2 / 10)(1/47)
تعيه وتحفظه، لأن المتلقن إنما يقوي قلبه على حفظ العلم يلقى إليه إذ ألقي إليه شيئا بعد شيء وجزءا عقب جزء، وما قاله أيضا "أنه كان ينزل على حسب الدواعي والحوادث وجوابات السائلين" اهـ، أي فيكونون أوعى لما ينزل فيه لأنهم بحاجة إلى علمه، فيكثر العمل بما فيه وذلك مما يثبت فؤاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ويشرح صدره.
وما قاله بعد ذلك "إن تنزيله مفرقا وتحديهم بأن يأتوا ببعض تلك التفارق كلما نزل شيء منها، أدخل في الإعجاز وأنور للحجة من أن ينزل كله جملة" اهـ.
ومنه ما قال الجد الوزير رحمه الله: إن القرآن لو لم ينزل منجما على حسب الحوادث لما ظهر في كثير من آياته مطابقتها لمقتضى الحال ومناسبتها للمقام وذلك من تمام إعجازها. وقلت: إن نزوله منجما أعون لحفاظه على فهمه وتدبره. (1)
وقد قال المفسرون في سياق الآيات إن الكفار كانوا يتحدّون النبي - صلى الله عليه وسلم - بإنزال القرآن جملة واحدة كما أنزلت الكتب السماوية التوراة والإنجيل والزبور جملة واحدة. وعلّلوا نزول القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - مفرقا بأنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب فكان لا بد له من التلقين والحفظ اللذين يقتضيان إنزال القرآن مفرّقا في حين كان الأنبياء الأولون يقرأون ويكتبون فنزلت عليهم جملة واحدة ومكتوبة «2».
وقد يكون ما قاله المفسرون عن سبب تحدّي الكفار صحيحا ، وأن يكون هؤلاء سمعوا من الكتابيين أن التوراة والإنجيل والزبور نزلت على موسى وعيسى وداود عليهم السلام جملة واحدة. غير أننا لا نستطيع موافقتهم على أخذهم ذلك كقضية مسلّم بها وتعليلهم إياه بأمّية النبي - صلى الله عليه وسلم - . فباستثناء الألواح التي ذكرت آية الأعراف [145] أن اللّه أنزلها مكتوبة على موسى لم يرد في القرآن صراحة أن اللّه أنزل الكتب الأخرى مكتوبة ودفعة واحدة. والأسفار المنسوبة إلى موسى والعائدة إلى عهده وحياته والمتداولة اليوم تذكر أن اللّه إنما أمر موسى بإحضار لوحين وتكرر كذلك أن موسى كتب كلام الربّ في سفر وسلّمه للاويين لحفظه في تابوت العهد في بيت الربّ وتفيد أن معظم ما احتوته من تعليمات وتشريعات نزل مفرّقا وفي فترات ومناسبات عديدة وفق سير الظروف بالنسبة لموسى عليه السلام وبالنسبة لبني إسرائيل «3». والزبور الذي هو على الأرجح سفر المزامير مقاطع متتالية فيها تسبيح وتقديس وابتهال بلسان داود عليه السلام. ويتبادر منها أنها لم توح إلى داود مرة واحدة. وليس في اليد إنجيل منسوب إلى عيسى عليه السلام ولم يرو أحد أنه اطّلع على مثل ذلك. والأناجيل المتداولة هي ترجمة لحياته تضمّنت كثيرا من
__________
(1) - التحرير والتنوير - (19 / 45)(1/48)
أقواله وتعاليمه التي عليها سمة الوحي. غير أنها كانت تمثل وقائع ومجالس مختلفة فلا يمكن أن تكون نزلت دفعة واحدة. وكل هذا هو شأن القرآن بطبيعة الحال.
ولقد عاد بعض المفسّرين «1» إلى القول في سياق هذه الآية إن اللّه تعالى قد أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا وأنه صار ينزل منجما على النبي من هذه السماء حسب الوقائع والحوادث. ولقد أوردنا هذا في سياق سورة القدر وعلّقنا عليه بما يغني عن التكرار.
هذا ، ومع أن تعبير (القرآن) أصبح علما على جميع ما أوحى اللّه تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الفصول والمجموعات القرآنية المحكمة والمتشابهة فإن هذه الآية وأمثالها مما تكرر في القرآن ومن ذلك الآية السابقة [30] تؤيد ما قلناه في سياق تفسير سورة المزمل من أن أصل مفهوم القرآن هو السور والفصول المحكمة التي احتوت مبادئ الدعوة وتدعيماتها الرئيسية كما تؤيد أن هذا هو الذي فهمه العرب وأن ما جاء في سياق التدعيم والتأييد من قصص وأمثال وحجج وجدل وردود وحملات وحكاية أقوال الكفّار وتحدّياتهم ومشاهد الآخرة مما يصحّ أن يسمّى من المتشابهات لم يكن في الأصل مما عناه التعبير وفهمه العرب وأن شمول التعبير لكل ما احتواه المصحف من ذلك أيضا إنما كان بسبب أنه من وحي اللّه وتنزيله مثل ذلك الأصل وهو ما عنته آية آل عمران هذه : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [7]. (1)
إذن فكلمة " أنزل " مقصورة على الله، إنما كلمة " نَزّلَ " تأتي من الملائكة، و " نَزَلَ " تأتي من الروح الأمين الذي هو " جبريل " ، فكأن كلمة " أنزل " بهمزة التعدية، عدت القرآن من وجوده مسطوراً في اللوح المحفوظ إلى أن يبرز إلى الوجود الإنساني ليباشر مهمته.
وكلمة " نَزَلَ " و " نَزَّلَ " نفهمهما أن الحق أنزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا مناسباً للأحداث ومناسباً للظروف، فكان الإنزال في رمضان جاء مرة واحدة، والناس الذين يهاجموننا يقولون كيف تقولون: إن رمضان أنزل فيه القرآن مع أنكم تشيعون القرآن في كل زمن، فينزل هنا وينزل هناك وقد نزل في مدة الرسالة المحمدية؟
نقول لهم: نحن لم نقل إنه " نزل " ولكننا قلنا " أنزل " ، فأنزل: تعدي من العِلم الأعلى إلى أن يباشر مهمته في الوجود. ... ... ...
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة - (3 / 82)(1/49)
وحين يباشر مهمته في الوجود ينزل منه " النَّجْم " ـ يعني القسط القرآني ـ موافقا للحدث الأرضي ليجيء الحكم وقت حاجتك، فيستقر في الأرض، إنما لو جاءنا القرآن مكتملاً مرة واحدة فقد يجوز أن يكون عندنا الحكم ولا نعرفه، لكن حينما لا يجيء الحكم إلا ساعة نحتاجه، فهو يستقر في نفوسنا.
وأضرب هذا المثل ـ ولله المثل الأعلى ـ أنت مثلاً تريد أن تُجهز صيدلية للطوارئ في المنزل، وأنت تضع فيها كل ما يخص الطوارئ التي تتخيلها، ومن الجائز أن يكون عندك الدواء لكنك لست في حاجة له، أما ساعة تحتاج الدواء وتذهب لتصرف تذكرة الطبيب من الصيدلية، عندئذ لا يحدث لبس ولا اختلاط، فكذلك حين يريد الله حكماً من الأحكام ليعالج قضية من قضايا الوجود فهو لا ينتظر حتى ينزل فيه حكم من الملأ الأعلى من اللوح المحفوظ، إنما الحكم موجود في السماء الدنيا، فيقول للملائكة: تنزلوا به، وجبريل ينزل في أي وقت شاء له الحق أن ينزل من أوقات البعثة المحمدية، أو الوقت الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يوجد فيه الحكم الذي يغطي قضية من القضايا.
إذن فحينما يوجد من يريد أن يشككنا نقول له: لا.
نحن نملك لغة عربية دقيقة، وعندنا فرق بين " أنزل " و " نَزَّل " و " نزل " ولذلك فكلمة " نزل " تأتي للكتاب، وتأتي للنازل بالكتاب يقول تعالى:{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ }[الشعراء: 193]
ويقول سبحانه:{ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ }[الإسراء: 105]
وكان بعض من المشركين قد تساءلوا؛ لماذا لم ينزل القرآن جملة واحدة؟. وانظر إلى الدقة في الهيئة التي أراد الله بها نزول القرآن فقد قال الحق:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً }[الفرقان: 32]
وعندما نتأمل قول الحق: } كَذَلِكَ { فهي تعني أنه سبحانه أنزل القرآن على الهيئة التي نزل بها لزوماً لتثبيت فؤاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، ولو نزل مرة واحدة لكان تكليفاً واحداً، وأحداث الدعوة شتى وكل لحظة تحتاج إلى تثبيت فحين يأتي الحدث ينزل نَجْم قرآني فيعطي به الحق تثبيتا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأضرب مثلا بسيطا ـ ولله المثل الأعلى والمنزه عن كل تشبيه ـ أن ابناً لك يريد حُلة جديدة أتحضرها له مرة واحدة، فتصادفه فرحة واحدة، أم تحضر له في يوم رابطة العنق واليوم الذي يليه تحضر له القميص الجديد، ثم تحضر له " البدلة "؟، إذن فكل شيء يأتي له وقع وفرحة. ... ...
والحق ينزل القرآن منجماً لماذا؟ } لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ { ومعنى } لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ { أي أنك ستتعرض لمنغصات شتى، وهذه المنغصات الشتى كل منها يحتاج إلى تَرْبِيتٍ عليك وتهدئة لك، فيأتي القسط القرآني ليفعل ذلك وينير أمامك الطريق. } كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً { أي لم نأت به مرة واحدة بل جعلناه مرتباً على حسب ما يقتضيه من أحداث. حتى يتم العمل بكل قسط، ويهضمه المؤمن ثم نأتي(1/50)
بقسط آخر. ولنلحظ دقة الحق في قوله عن القرآن:{ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً }[الفرقان: 33]
إن الكفار لهم اعتراضات، ويحتاجون إلى أمثلة، فلو أنه نزل جملة واحدة لأهدرَتْ هذه القضية، وكذلك حين يسأل المؤمنون يقول القرآن: يسئلونك عن كذا وعن كذا، ولو شاء الله أن يُنزل القرآن دفعة واحدة، فكيف كان يغطي هذه المسألة؟ فما داموا سوف يسألون فلينتظر حتى يسألوا ثم تأتي الإجابة بعد ذلك.
إذن فهذا هو معنى " أنزل " أي أنه أنزل من اللوح المحفوظ، ليباشر مهمته في الوجود، وبعد ذلك نزل به جبريل، أو تتنزل به الملائكة على حسب الأحداث التي جاء القرآن ليغطيها.
ويقول الحق: } أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ {. ونعرف أن كلمة } هُدًى { معناها: الشيء الموصل للغاية بأقصر طريق، فحين تضع إشارات في الطريق الملتبسة، فمعنى ذلك أننا نريد للسالك أن يصل إلى الطريق بأيسر جهد، و " هدى " تدل على علامات لنهتدي بها يضعها الخالق سبحانه، لأنه لو تركها للخلق ليضعوها لاختلفت الأهواء، وعلى فرض أننا سنسلم بأنهم لا هوى لهم ويلتمسون الحق، وعقولهم ناضجة، سنسلم بكل ذلك، ونتركهم كي يضعوا المعالم، ونتساءل: وماذا عن الذي يضع تلك العلامات، وبماذا يهتدي؟.
إذن فلابد أن يوجد له هدى من قبل أن يكون له عقل يفكر به، كما أن الذي يضع هذا الهدى لابد ألا ينتفع به، وعلى ذلك فالله سبحانه أغنى الأغنياء عن الخلق ولن ينتفع بأي شيء من العباد، أما البشر فلو وضعوا " هدى " فالواضع سينتفع به، ورأينا ذلك رأى العين؛ فالذي يريد أن يأخذ مال الأغنياء ويغتني يخترع المذهب الشيوعي، والذي يريد أن يمتص عرق الغير يضع مذهب الرأسمالية، ومذاهب نابعة من الهوى، ولا يمكن أن يُبرأ أحد من فلاسفة المذاهب نفسه من الهوى: الرأسمالي يقنن فيميل لهوى نفسه، والشيوعي يميل لنفسه، ونحن نريد مَن يُشرع لنا دون أن ينتفع بما شرع، ولا يوجد من تتطابق معه هذه المواصفات إلا الحق سبحانه وتعالى فهو الذي يشرع فقط، وهو الذي يشرع لفائدة الخلق فقط.
والذي يدلك على ذلك أنك تجد تشريعات البشر تأتي لتنقض تشريعات أخرى، لأن البشر على فرض أنهم عالمون فقد يغيب عنهم أشياء كثيرة، برغم أن الذي يضع التشريع يحاول أن يضع أمامه كل التصورات المستقبلية، ولذلك نجد التعديلات تجرى دائما على التشريعات البشرية؛ لأن المشرع غاب عنه وقت التشريع حكم لم يكن في باله، وأحداث الحياة جاءت فلفتته إليه، فيقول: التشريع فيه نقص ولم يعد ملائماً، ونعدله. ... ...(1/51)
إذن فنحن نريد في من يضع الهدى والمنهج الذي يسير عليه الناس بجانب عدم الانتفاع بالمنهج لابد أيضا أن يكون عالما بكل الجزئيات التي قد يأتي بها المستقبل، وهذا لا يتأتى إلا في إله عليم حكيم، ولذلك قال تعالى:{ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }[الأنعام: 153]
ستتبعون السبل، هذا له هوى، وهذا له هوى، فتوجد القوانين الوضعية التي تبددنا كلنا في الأرض، لأننا نتبع أهواءنا التي تتغير ولا نتبع منهج من ليس له نفع في هذه المسألة، ولذلك أقول: افطنوا جيداً إلى أن الهدى الحق الذي لا أعترض عليه هو هدى الله، } هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىا وَالْفُرْقَانِ {. والقرآن في جملته " هدى " والفرقان هو أن يضع فارقاً في أمور يلتبس فيها الحق بالباطل، فيأتي التنزيل الحكيم ليفرق بين الحق والباطل. (1)
إذن فلم يعطنا سبحانه مقومات المادة فقط، ولكن أعطانا مقومات القيم أيضا؛ لأن المادة بدون قيم تكون شرسة هوجاء رعناء، فيريد الله أن يجعل المادة في مستوى إيماني. إذن لابد أن تنزل القيم. لذلك قال سبحانه: { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } و { نَزَّلَ } تفيد شيئا قد وجب عليك؛ لأن النزول معناه: شيء من أعلى ينزل، وهو يقول لك: لا تتأبى على القيم التي جاءت لك من أعلى منك؛ لأنها ليست من مساو لك، إنها من خالق الكون والبشر، والذي يمكنك أن تتأبى عليه ما يأتي ممن هو أدنى منك.
لكن حين يجيء لك التقنين ممن هو أعلى منك فلا تتأبّ عليه؛ لأن خضوعك له ليس ذلة بل عزة، فقال: { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ }. وفي سياق القرآن نجده سبحانه يقول:{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ }[الشعراء: 193].
ومرة أخرى يقول في القرآن الكريم:{ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً }[الإسراء: 105].
ولكن هل نزل القرآن وحده؟ لقد كان جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يعني ذلك خروج القرآن عن كونه " نزل " ، فجبريل عليه السلام كان ينزل بالقرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . والحق سبحانه وتعالى يقول:{ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً }[الإسراء: 105].
وبذلك تتساوى " أنزل " مع " نزل ". وحين نأتي للحدث أي الفعل في أي وقت من الأوقات فإننا نتساءل: أهو موقوت بزمن أم غير موقوت بزمن؟ إن القرآن الكريم قد نزل على رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - في
__________
(1) - تفسير الشعراوي - ( / 189)(1/52)
ثلاثة وعشرين عاما وينزل القرآن حسب الحوادث، فكل نجم من نجوم القرآن ينزل حسب متطلبات الأحداث. ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول:{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }[القدر: 1].
والحق هنا يحدد زمنا. ولنا أن نعرف أن القرآن الذي نزل في ثلاثة وعشرين عاما هو الذي أنزله الله في ليلة القدر.
إذن فللقرآن نزولان اثنان: الأول: إنزال من " أنزل ".
الآخر: تنزيل من " نَزّل ".
إذن فالمقصود من قوله ـ سبحانه ـ: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليباشر مهمته في الكون، وهذا ما أنزله الله في ليلة القدر.
والكتاب الكريم الذي أنزله الله في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ينزلُ منجما على حسب الأحداث التي تتطلب تشريعا أو إيضاحا لأمر.
لكن الكتب الأخرى لم يكن لها ذلك اللون من النزول والتنزيل، لقد نزلت مرة واحدة؛ لا حسب الأحداث والمناسبات، لقد جاءت مرة واحدة، كما نزل القرآن أولا من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. ... ... ...
ولننظر إلى الأداء القرآني حين يقول:} نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ { [آل عمران: 3]
وهنا يجب أن نلتفت إلى أن الحق قال عن القرآن: " نَزَّل " وقال عن التوراة والإنجيل: " أنزل ". لقد جاءت همزة التعدية وجمع ـ سبحانه ـ بين التوراة والإنجيل في الإنزال، وهذا يوضح لنا أن التوراة والإنجيل إنما أنزلهما الله مرة واحدة، أما القرآن الكريم فقد نَزَّله الله في ثلاث وعشرين سنة منجما ومناسباً للحوادث التي طرأت على واقع المسلمين، ومتضمنا البلاغ الشامل من يوم الخلق إلى يوم البعث.
ونَزَّل الله القرآن منجما مناسباً للأحداث، ليثبت فؤاد رسول الله؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتعرض لأحداث شتى، كلما يأتي حدث يريد تثبيتا ينزل نجم من القرآن.{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً }[الفرقان: 32].
وكان النجم من القرآن ينزل, ويحفظه المؤمنون، ويعملون بهديه، ثم ينزل نجم آخر، والله سبحانه يقول:{ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً }[الفرقان: 33].
فمن رحمته سبحانه وتعالى بالمسلمين أن فتح لهم المجال لأن يسألوا، وأن يستوضحوا الأمور التي تغمض عليهم.(1/53)
وجعل الحق سبحانه لأعمال المؤمنين الاختيارية خلال الثلاثة والعشرين عاما فرصة ليقيموا حياتهم في ضوء منهج القرآن، وصوب لهم القرآن ما كان من خطأ وذلك يدل على أن القرآن قد فرض الجدل والمناقشة، وفرض مجيء الشيء في وقت طلبه؛ لأن الشيء إذا ما جيء به وقت طلبه فإن النفس تقبل عليه وترضى به.
ومثال ذلك في حياتنا اليومية أن الواحد منا قد يملك في منزله صندوقا للأدوية مُمتلئا بألوان شتى من الداء، ولكن عندما يصاب صاحب هذا الصندوق بقليل من الصداع فهو يبحث عن قرص أسبرين، قد لا يعرف مكانه في صندوق الدواء فيبعث في شرائه، وذلك أسهل وأوثق. (1)
معنى { فَرَقْنَاهُ } أي: فصّلناه، أو أنزلناه مُفرّقاً مُنجّماً حَسْب الأحداث { عَلَىا مُكْثٍ } على تمهُّل وتُؤدَة وتأنٍّ.
وقد جاءت هذه الآية للردِّ على الكفار الذين اقترحوا أن ينزل القرآن جملة واحدة، كما قال تعالى حكاية عنهم:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً.. }[الفرقان: 32]
وأول ما نلحظه عليهم أن أسلوبهم فضحهم، وأبان ما هُمْ فيه من تناقض، ألم يسبق لهم أن اتهموا الرسول بافتراء القرآن. وهاهم الآن يُقِرُّون بأنه نزل عليه، أي: من جهة أعلى، ولا دَخْلَ له فيه، وقد سبق أن أوضحنا أنهم لا يتهمون القرآن، بل يتهمون رسول الله الذي نزل عليه القرآن.
ثم يتولّى الحق سبحانه الردّ عليهم في هذا الاقتراح، ويُبيِّن أنه اقتراح باطل لا يتناسب وطبيعة القرآن، فلا يصح أن ينزل جملة واحدة كما اقترحوا للأسباب الآتية:
1.{ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ.. }[الفرقان: 32]
{ كَذَلِكَ } أي: أنزلناه كذلك على الأمر الذي تنتقدونه من أنه نزل مُفرّقاً مُنجّماً حسْب الأحداث{ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ.. }[الفرقان: 32] لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيتعرّض لكثير من تعنّتات الكفار، وسيقف مواقف مُحرِجة من تعذيب وتنكيل وسخرية واستهزاء، وهو في كل حالة من هذه يحتاج لتثبيت وتسلية.
وفي نزول الوحي عليه يَوْماً بعد يَوْم، وحسْب الأحداث ما يُخفّف عنه، وما يزيل عن كاهله ما يعاني من مصاعب ومَشَاقِّ الدعوة وفي استدامة الوحي ما يصله دائماً بمَنْ بعثه وأرسله، أما لو نزل القرآن جملةً واحدة لكان التثبيت أيضاً مرة واحدة، ولَفقد رسول الله جانب الصلة المباشرة بالوحي، وهذا هو الجانب الذي يتعلق في الآية برسول الله.
__________
(1) - تفسير الشعراوي - ( / 395)(1/54)
2.{ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً }[الفرقان: 32] أي: نَزَّلْنَاه مُرتّلاً مُفرّقاً آيةً بعد آية، والرتل: هو المجموعة من الشيء. كما نقول: رتل من السيارات، وهكذا نزل القرآن مجموعة من الآيات بعد الأخرى، وهذه الطريقة في التنزيل تُيسِّر للصحابة حِفْظ القرآن وفَهْمه والعمل به، فكانوا رضوان الله عليهم يخفظون القدر من الآيات ويعملون بها، وبذلك تيسَّر لهم حفظ القرآن والعمل به، فكانت هذه الميْزَة خاصة بالصحابة الذي حفظوا القرآن، وما زلنا حتى الآن نُجِّزئ القرآن للحفظة، ونجعله ألواحاً، يحفظ الله تلو الآخر.
3.{ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً }[الفرقان: 33]
وهذه للمخالفين لرسول الله، وللمعاندين لمنهج الله الذين سيعترضون عليه، ويحاولون أن يستدركوا عليه أموراً، وإن يتهموا رسول الله، فلا بُدَّ من الردّ عليهم وإبطال حُجَجهم في وقتها المناسب، ولا يتأتّى ذلك إذا نزل القرآن جملة واحدة. (1)
ذلك كانت هذه المسألة من الشبهات التي أثارها خصوم رسول الله، حين قالوا كما حكى عنهم القرآن{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً... }[الفرقان: 32] فردَّ عليهم القرآن ليبين لهم حكمة نزوله مُنجَّماً:{ كَذَلِكَ... }[الفرقان: 32] أي: أنزلناه كذلك مُنجَّماً{ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً }[الفرقان: 32].
فلو نزل القرآن جملة واحدة لكان التثبيت لرسول الله مرة واحدة، وهو محتاج إلى تثبيت مستمر مع الأحداث التي سيتعرَّض لها، فيوصل الله له الآيات ليظل على ذَكْر من سماع كلام ربه كلما اشتدتْ به الأحداث، فيأتيه النجم من القرآن لَيُسلِّيه، ويُسرِّي عنه ما يلاقي من خصومه.
وحكمة أخرى في قوله:{ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً }[الفرقان: 32] فكلما نزل قِسْط من القرآن سَهُلَ عليهم حفظه وترتيبه والعمل به، كما أن المؤمنين المأمورين بهذا المنهج ستستجد عليهم قضايا، وسوف يسألون فيها رسول الله، فكيف سيكون الجواب عليها إنْ نزل القرآن جملة واحدة.
لا بُدَّ أن يتأخر الجواب إلى أنْ يطرأ السؤال؛ لذلك يقول تعالى:{ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً }[الفرقان: 33].
وقد ورد الفعل يسألونك في القرآن عدة مرات في سور شتى، فكيف تتأتى لنا الإجابة لو جاء القرآن كما تقولون جملة واحدة، ثم سبحان الله هل اطقتموه مُنجمَّاً حتى تطلبوه جملة واحدة؟
ثم تختم الآية بحكمة أخرى: { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [القصص: 51] فكلما نزل نجم من القرآن ذكَّرهم بما غفلوا عنه من منهج الله. (2)
__________
(1) - تفسير الشعراوي - ( / 2119)
(2) - تفسير الشعراوي - ( / 3231)(1/55)
لقد جاء هذا القرآن ليربي أمة ، وينشىء مجتمعا ، ويقيم نظاما. والتربية تحتاج إلى زمن وإلى تأثر وانفعال بالكلمة ، وإلى حركة تترجم التأثر والانفعال إلى واقع. والنفس البشرية لا تتحول تحولا كاملا شاملا بين يوم وليلة بقراءة كتاب كامل شامل للمنهج الجديد. إنما تتأثر يوما بعد يوم بطرف من هذا المنهج وتتدرج في مراقيه رويدا رويدا ، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئا فشيئا ، فلا تجفل منه كما تجفل لو قدم لها ضخما ثقيلا عسيرا. وهي تنمو في كل يوم بالوجبة المغذية فتصبح في اليوم التالي أكثر استعدادا للانتفاع بالوجبة التالية ، وأشد قابلية لها والتذاذا بها.
ولقد جاء القرآن بمنهاج كامل شامل للحياة كلها. وجاء في الوقت ذاته بمنهاج للتربية يوافق الفطرة البشرية عن علم بها من خالقها. فجاء لذلك منجما وفق الحاجات الحية للجماعة المسلمة ، وهي في طريق نشأتها ونموها ، ووفق استعدادها الذي ينمو يوما بعد يوم في ظل المنهج التربوي الإلهي الدقيق. جاء ليكون منهج تربية ومنهاج حياة لا ليكون كتاب ثقافة يقرأ لمجرد اللذة أو لمجرد المعرفة. جاء لينفذ حرفا حرفا وكلمة كلمة ، وتكليفا تكليفا. جاء لتكون آياته هي «الأوامر اليومية» التي يتلقاها المسلمون في حينها ليعملوا بها فور تلقيها ، كما يتلقى الجندي في ثكنته أو في الميدان «الأمر اليومي» مع التأثر والفهم والرغبة في التنفيذ ومع الانطباع والتكليف وفق ما يتلقاه ..
من أجل هذا كله نزل القرآن مفصلا. يبين أول ما يبين عن منهجه لقلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويثبته على طريقه ويتتابع على مراحل الطريق رتلا بعد رتل ، وجزءا بعد جزء :«كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا» ..
والترتيل هنا هو التتابع والتوالي وفق حكمة اللّه وعلمه بحاجات تلك القلوب واستعدادها للتلقي ..
ولقد حقق القرآن بمنهجه ذاك خوارق في تكييف تلك النفوس التي تلقته مرتلا متتابعا ، وتأثرت به يوما يوما ، وانطبعت به أثرا أثرا. فلما غفل المسلمون عن هذا المنهج ، واتخذوا القرآن كتاب متاع للثقافة ، وكتاب تعبد للتلاوة ، فحسب ، لا منهج تربية للانطباع والتكيف ومنهج حياة للعمل والتنفيذ. لم ينتفعوا من القرآن بشي ء ، لأنهم خرجوا عن منهجه الذي رسمه العليم الخبير .. (1)
تنجيم القرآن وأسراره (2)
لقد شاءت الحكمة الإلهية أن يظل الوحي متجاوبا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلمه كل يوم شيئا جديدًا، ويرشده ويهديه, ويثبته ويزيده اطمئنانا، ومتجاوبا مع الصحابة يربيهم ويصلح عاداتهم، ويجيب
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2562)
(2) - مباحث في علوم القرآن الصالح ص 49 فما بعدها(1/56)
عن وقائعهم، ولا يفاجئهم بتعاليمه وتشريعاته، فكان مظهر هذا التجاوب، نزوله منجما "بحسب الحاجة: خمس آيات، وعشر آيات وأكثر وأقل1. وقد صح نزول عشر آيات في قصة "الإفك"2 جملة، وصح نزول عشر آيات من أول "المؤمنين"3 جملة، وصح نزول {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}4 وحدها -وهي بعض آية- وكذا قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً}5 إلى آخر الآية، نزلت بعد نزول أول الآية"1.
على هذا المنوال ظل القرآن ينزل نجوما، ليقرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - على مكث ويقرأه الصحابة شيئا بعد شيء، يتدرج مع الأحداث والوقائع والمناسبات الفردية والاجتماعية التي تعاقبت في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - خلال ثلاثة وعشرين عاما على الأصح، تبعا للقول بأن مدة إقامته عليه الصلاة والسلام، في مكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة. أما إقامته بالمدينة فهي عشر سنين اتفاقًا: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين2، وقدر بعضهم مدة نزول القرآن بعشرين سنة، وبعضهم بخمس وعشرين، وبنوا هذا على أن إقامته عليه الصلاة والسلام، بمكة بعد البعثة كانت عشر سنين أو خمس عشرة سنة3.
وقد بدأ نزول القرآن -كما قال الشعبي4- "في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة من سائر الأوقات"5. والشعبي يجمع في هذا الرأي بين قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}6 وقوله: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ}7، وهو فهم سديد لا يتضارب مع إخبار الله بإنزال كتابه في ليلة مباركة، وفي شهر رمضان، إذ يكون المراد أنه تعالى ابتدأ إنزاله في {لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}1، ووصف هذه الليلة بأنها {لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وهي إحدى ليالي رمضان، كما في قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}2، ثم استمر نزوله نجوما بعد ذلك، متدرجا مع الوقائع والأحداث.
ولسنا نميل إلى الرأي القائل: إن للقرآن تنزلات ثلاثة: الأولى إلى اللوح المحفوظ، والثاني إلى بيت العزة في السماء الدنيا، والثالث تفريقه منجما بحسب الحوادث، وإن كانت أسانيد هذا الرأي كلها صحيحة3، لأن هذه التنزلات المذكورة من عالم الغيب الذي لا يؤخذ فيه إلا بما تواتر يقينا في الكتاب والسنة، فصحة الأسانيد في هذا القول لا تكفي وحدها لوجوب اعتقاده، فكيف وقد نطق القرآن بخلافه؟!
إن كتاب الله لم يصرح إلا بتفريق الوحي وتنجيمه، ومنه يفهم بوضوح أن هذا التدرج كان مثار اعتراض المشركين الذين ألفوا أن تلقى القصيدة جملة واحدة، وسمع بعضهم من اليهود أن التوراة نزلت جملة واحدة، فأخذوا يتساءلون عن نزول القرآن نجوما، وودوا لو ينزل كله مرة واحدة، وقد ذكر الله اعتراضهم في سورة الفرقان ورد عليه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا، وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}4.(1/57)
على أن القائلين بتنزيلات القرآن الثلاثة لا يفوتهم -بعد بيان حكمه هذا التعدد في أماكن النزول1- أن يشيروا إلى أسرار تنزله الثالث الأخير منجما بحسب الوقائع، وهذه الأسرار قد بلغت من الوضوح حدا لا تخفى معه على أحد، "ولولا أن الحكمة الإلهية -كما يقولون- اقتضت وصوله إليهم منجما بحسب الواقع لأهبطه إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله باين بينه وبينها فجعل له الأمرين: إنزاله جملة ثم إنزاله مفرقا، تشريفا للمنزل عليه"2.
ويعنينا من أقوالهم تطلعهم إلى أسرار التدرج في نزول القرآن، فقد أوشكوا عند بلوغ هذه الناحية من البحث ألا يتركوا مجالا لقائل بعدهم، إذ لاحظوا في التدرج الحكمتين اللتين أشرنا إليهما، وهما تجاوب الوحي مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وتجاوبه مع المؤمنين، وإن كان تعبيرهم عن ذلك يختلف قليلا عن تعبيرنا.
ولتجاوب الوحي مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - صورتان: إحداهما تثبيت فؤاده بما يتجدد نزوله من القرآن بعد كل حادثة, والثانية تيسير حفظ القرآن عليه.
وقد أشار إلى الصورة الأولى أبو شامة3 في قوله:" فإن قيل: ما السر في نزوله منجما؟ وهلا أنزل كسائر الكتب جملة؟ قلنا: هذا سؤال قد تولى الله جوابه فقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} يعنون: كما أنزل على من قبله من الرسل، فأجابهم تعالى بقوله: {كَذَلِكَ} أي: أنزلناه مفرقا {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي: لنقوي به قلبك، فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب، أشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه، وتجدد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان1 لكثرة لقياه جبريل"2.
ولقد راع القرآن خيال العرب وأخذ أسماعهم بما فيه من أنباء الرسل مع أقوامهم، تتكرر بصورة مختلفة، وأساليب متنوعة، فتزداد حلاوة كلما تكررت، ولا غرض لها في أكثر المواطن التي ذكرت فيها إلا تثبيت قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقلوب المؤمنين. ونطق القرآن بذلك فقال: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}3: ففي ذكر قصص الرسل، وتفريقه، وتنوعيه، تقوية لقلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعزاء له على ما يلقاه من أذى قومه، وما كان محمد بدعا من الرسل، فهم جميعا عذبوا وكذبوا واضطهدوا: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}4.
وهكذا ما انفك القرآن يتجدد نزوله مهونا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشدائد، مسليا له مرة بعد مرة، محببا إليه التأسي بمن قبله من الرسل، يأمره تارة بالصبر أمرًا صريحا فيقول: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}1، ويقول: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}2 وينهاه تارة أخرى عن الحزن نهيا صريحا، كما في قوله: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}3، وقوله: {وَلا يَحْزُنْكَ(1/58)
قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}4. ويعلمه أحيانا أن الكافرين لا يجرحون شخصه في نفسه، ولا يتهمونه بالكذب لذاته، وإنما يعاندون الحق بغيا من عند أنفسهم، لأنهم شرذمة من الجاحدين تتكرر في كل عصر وجيل، كما في قوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}5. وفي تفسير هذه الآية يقول الحافظ ابن كثير: "يقول تعالى مسليا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} أي: قد أحطنا علما بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك علهيم كقوله: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} كما قال تعالى في الآية الأخرى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} وقوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي: لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر، و{وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي: ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم"6.
وتكرار نزول هذه الآيات المسلية، المعزية، المرشدة إلى الصبر الجميل والأسوة الحسنة، هو الحكمة المقصودة من إيراد أنباء الرسل وقص قصصهم.
ولو استمر اضطهاد المشركين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانقطع عنه الوحي المثبت لقلبه، فلم يتجدد نزول الآيات المسلية له، لشعر عليه الصلاة والسلام بما يشعر به البشر في هذه الحالات من استيلاء الحزن على قلبه، واستبداد اليأس بنفسه، والله لم ينهه عن الحزن والحسرات وبخع النفس وضيق الصدر -كما رأينا- إلا لأنه بشر مثل سائر البشر، في طبيعته استعداد لجميع هذه الانفعالات النفسية، وقد انتبه إلى هذا المعنى السيد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا}1 فقال: "والآية تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد تسلية، وإرشاد إلى سنته تعالى في الرسل والأمم، أو هي تذكير بهذه السنة وما تتضمنه من حسن الأسوة إذ لم تكن هذه الآية أول ما نزل في هذا المعنى" ثم زاد هذه الفكرة وضوحا بقوله: "ولولا أن دفع الأسى بالأسى من مقتضى الطبع البشري لما ظهرت حكمة تكرار التسلية بأمثال هذه الآية، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتلو القرآن في الصلاة ولا سيما صلاة الليل، فربما يقرأ السورة ولا يعود إليها إلا بعد أيام يفرغ فيها من قراءة ما نزل من سائر السور، فاحتيج إلى تكرار تسليته وأمره بالصبر المرة بعد المرة، لأن الحزن والأسف اللذين كانا يعرضان له - صلى الله عليه وسلم - ، من شأنهما أن يتكررا بتكرر سببهما وبتذكره عند تلاوة الآيات الواردة في بيان حال الكفار ومحاجتهم وإنذارهم"2.
والصورة الثانية لتجاوب الوحي مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي -كما ذكرنا- تيسير حفظ القرآن عليه. ومن العلماء من يرى أن "تثبيت فؤاده" المذكور في آية الفرقان السابقة لا يراد منه إلا جمع القرآن حفظا في(1/59)
قلبه "فإنه عليه الصلاة والسلام كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، ففرق عليه لييسر عليه حفظه، بخلاف غيره من الأنبياء، فإنه كان كاتبا قارئا، فيمكنه حفظه الجميع إذا نزل جملة"3. وقد أراد ابن فورك4 أن يزيد هذا الأمر تفصيلا وبيانًا فقال: "قيل: أنزلت التوراة جملة، لأنها نزلت على نبي يقرأ ويكتب -وهو موسى- وأنزل القرآن مفرقا لأنه أنزل غير مكتوب على نبي أمي"1.
وأما تجاوب الوحي مع المؤمنين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففي القرآن منه صور متنوعة، وألوان متباينة تلتقي كلها عند غاية واحدة: وهي رعاية حال المخاطبين، وتلبية حاجاتهم في مجتمعهم الجديد الآخذ في الازدهار، وعدم مفاجأتهم بتشريعات وعادات وأخلاق لا عهد لهم بمثلها. وقد أشار إلى هذا مكي2 في "الناسخ والمنسوخ" حين لاحظ أن نزول القرآن "أدعى إلى قبول إذا نزل على التدريج، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة، فإنه كان ينفر من قبوله كثير من الناس لكثرة ما فيه من الفرائض والمناهي، ويوضح ذلك ما أخرجه البخاري3 عن عائشة قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء، "لا تشربو الخمر" لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو انزل "لا تزنوا" لقالوا: "لا ندع الزنى أبدًا"4.
وظاهر كلام السيدة عائشة في قولها هذا أنها جمعت بين تحريم الخمر وتحريم الزنا بالتدريج، فيخيل إلى السامع أن تحريم الزنى لم يتم إلا على مراحل كالخمر، وليس ذلك بصحيح ولا هو مراد بنت الصديق، فإنها رضي الله عنها كانت تعلم أن الزنى حرم دفعة واحدة، في خطوة واحدة جازمة، بمثل قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}1، وإنما أرادت الصديقة بيان أوائل ما نزل من القرآن، وأن تلك الأوائل ما كانت بمقتضى حكمة الله لتتناول الحلال والحرام، بل تناولت أصول الإيمان بالله واليوم الآخر. فعدم تحريم الزنى في أول ما نزل من الوحي لا يعني أن هذا التحريم تأخر كثيرا: إذ وقع تحريمه في مكة على كل حال، وهو لا يعني تدرج هذا التحريم على مراحل، إذ لم نعلم في كتاب الله ولا سنة رسوله إثبات منفعة للزنى إلى جانب إثمه الكبير كما علمناه في تحريم الخمر والميسر، ولم نر لونا من ألوان الزنى والسفاح يقر في الإسلام بأية صورة، وإنما الذي عرفناه أن الإسلام أمضى أمره بتحريم الزنى بأسلوب صارم ولهجة قاطعة، كما حرم سائر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق.
وما من ريب في أن الإسلام فرق بين الأعماق والسطحيات في أنفس الأفراد والمجتمعات، فكل قضية عميقة الجذور في نفس الفرد اتخذت شكل عادة شعورية وكل قضية عميقة الجذور في نفس المجتمع اتخذت شكل تقليد اجتماعي أو عرف دولي، فللإسلام فيها موقف المتمهل المتريث الذي يؤمن بأن البطء مع التنظيم خير من العجلة مع الفوضى!(1/60)
وكل قضية سطحية تنزلق إلى نفس الفرد أو إلى نفس الجماعة فتفسد علها فطرتها الزكية النقية، فهي جريمة في الحياة الإنسانية لا يجوز السكوت عنها، فليقطع الإسلام فيها برأيه، ولتكن حدوده فيها غير قابلة للنقاش، فما يناقش في أمر هذه الحدود إلا الخارج على مقتضى الفطرة، المنسلخ من الكرامة الإنسانية2.
وفي ضوء هذه التفرقة بين الأعماق والسطحيات في الأنفس والآفاق, وفي الأفراد والمجتمعات، نظر الإسلام إلى القتل والسرقة والغصب وأكل أموال الناس بالباطل ومختلف ضروب الغش في المعاملات نظرته إلى الزنى، فحرمها مرة واحدة تحريما قاطعا لا تساهل فيه.
وإذ صح أن التعبير عن التحريم أكثر هذه الأشياء إنما ورد في الكتاب متأخرا، وأن أكثرها وقع تحريمه في المدينة بعد هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، إليها، فلا يصح القول -على وجه الإطلاق والتعميم- بتدرج التحريم على مراحل في هذه الشئون: فكما حرم الله الزنى في لهجة قاطعة فقال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} حرم القتل في خطوة جازمة فقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}1، وحرم السرقة يوم قضت حكمته أن يعبر عن تحريمها في أسلوب صارم فقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ}2.
وبمثل هذه الصرامة حرم اغتصاب أموال الناس بغير حق فقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}3, وكل لون من ألوان الغش في المعاملات إنما جاء تحريمه في الكتاب بهذه الصيغ الجازمة، فإن لم يكن في الكتاب ففي السنة المطهرة.
والإسلام مهما يبد حريصا على تدرج التشريع وتنجيم النوازل القرآنية لا يسمح قط بالخلط بين تأخير البيان لوقت الحاجة وبين تدرج التشريع، فلقد أخر الله بيان أحكام كثيرة من حلال وحرام، ومن أوامر ونواه، ولكنه حين أراد بيانها أمضى أمره فيها مرة واحدة, ولم يدع فيها للتدريج مجالًا، وعلم المؤمنين بهذا سرعة الاستجابة للأوامر الدينية وأعدهم به لتحمل التكاليف الشرعية: ففي أول أمرهم كلفهم بالصلاة والصدقة والصيام، إلا أن الصلاة كانت في البداية صلاة مطلقة بالغدوة والعشي، فما فرضت عليهم بعددها في اليوم والليلة وركعاتها وأشكالها إلا قبل الهجرة بسنة. وعرف المسلمون في أول أمرهم أنواعا من الصدقة والصيام ولكن مقادير الزكاة وشروط الصيام لم تفرض إلا بعد الهجرة بسنة، فهذا كله من مرانة الإسلام ويسره وسماحته: إذ قال الله: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}1، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}2، فما يريد الله أن يشق على عباده وإنما يأخذهم بالرفق ، وينهاهم عن كثرة السؤال لئلا يبدو لهم ما يكرهون من جديد التكاليف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا}3.(1/61)
وإذا سلك هذا كله في باب "تأخير البيان لوقت الحاجة" ولم يكن من التدريج في شيء، فإن انطباق هذا الحكم على السطحيات المنزلقة إلى أنفس الأفراد أو إلى أنفس المجتمعات أولى وأجدر، ومن هنا لم يدع داع إلى التدرج في تحريم الزنى ولا القتل ولا السرقة ولا أكل أموال الناس بالباطل.
إنما يكون التدرج في النوازل القرآنية إذن في مثل الخمر والميسر من العادات الشعورية أو الأمراض النفسية، وفي مثل استرقاق الأسرى من التقاليد الاجتماعية والأعراف الدولية.
وحسبنا -على سبيل المثال- أن نمر مرورًا خاطفا بالتحريم القرآني المتدرج للعادة الشعورية الخطيرة المسماة "بإدمان المسكرات": فقد نزل في أمرها أول ما نزل قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}4 فوجه أنظار السكارى إلى أن الحرمة إنما تقوم على غلبة الشر، فمهما يكن في الخمر من منافع اقتصادية في المتاجرة بها، ومن منافع ظاهرية في حمرة الخد التي توهم الصحة الحسنة، ومن منافع اجتماعية فيما تدفع إليه من السخاء والجود في حالة السكر والعربدة، أو من الشجاعة التي تبلغ أحيانا حد التهور في ساحة الحرب، فإن إثمها أكبر من نفعها، فتلك علة كافية لتحريمها. فكانت الخطوة الأولى تحريكا للمنطق التشريعي في نفوس المسلمين، ثم تبعتها الخطوة الثانية بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}1 فضيق عليهم الفرصة لمزاولة السكر، لأن الصلوات الخمس كانت قد شرعت في أوقات متقاربة لا يكفي ما بينها للإفاقة من نشوة الخمر، حتى إذا أصبحت فرص السكر نادرة بطبيعة الحال حرم الله عليهم الخمر في لهجة قاطعة جازمة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}2، فقالوا: انتهينا، وانتهوا حقيقة، وأصبحوا ينتظرون حدود الله في شارب الخمر، ويخجلون أن يصل الأمر بأحد المسلمين إلى أن تقام عليه هذه الحدود.
وهكذا تدرج الوحي مع النبي يربيه ويعلمه ويهديه حتى "كان خلقه القرآن" كما تقول السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وتدرج في تربية المؤمنين، فلم يزين قلوبهم بحلية الإيمان الصادق، والعبادة الخالصة، والخلق السمح، إلا بعد أن مهد لذلك بتقبيح تقاليدهم الباطلة وعقائدهم الفاسدة شيئا فشيئا، وساعدهم نزوله المنجم على حفظ آياته في الصدور، كما قوي من عزائمهم في الشدائد، فكان دستور حياتهم علما وعملا، وكان المدرسة الصالحة التي جعلت منهم رجالا وأبطالا، ولعل ابن عباس في قوله: "نزله جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم"1 عند تفسيره قوله تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ(1/62)
بِالْحَقِّ}2 إنما كان يومئ إلى هذا النوع من التربية السامية التي أتاحها للمؤمنين نزول كتابهم منجما بحسب الحاجة، متدرجا مع الوقائع والأحداث.
أراد القرآن مثلا -على الصعيد التربوي- أن يحطم العصبية الجاهلية الرعناء، وأن يستبدل التقوى بتفاخرها بالآباء، فمهد لذلك برفع العبيد الأرقاء إلى مقام السادة الأحرار: إن بلالا الحبشي الأسود ليرقى ظهر الكعبة ويؤذن يوم الفتح, فيقول المشركون مستنكرين: "أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة؟!" فتنزل على قلب النبي آية تضع الموازين القسط للأشخاص والقيم والأشياء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}3.
وعلى الصعيد الاجتماعي، أراد الإسلام أن يحفظ على هذه الأمة اعتدالها وتوازنها، وأن يجعلها وسطا في عقائدها وأخلاقها، وعباداتها، ومعاملاتها، فمهد لذلك بتصحيح مقاييسها ودعوتها إلى ما يحييها، فلما اتفقت جماعة من الصحابة على "أن يجبوا أنفسهم، ويعتزلوا النساء، ولا يأكلوا لحمًا ولا دسما، ويلبسوا المسوح، ولا يأكوا من الطعام إلا قوتا، ويسيحوا في الأرض كهيئة الرهبان" أنزل الله لتقويم هذا الانحراف عن دواعي الفطرة قوله الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}4. ومن عجائب الإيحاء التعبيري في القرآن أن انحراف أولئك الصحابة شبه في الآية بالاعتداء والعدوان!.
أما الصعيد النفسي فيكاد القرآن فيه يخاطب كل نفس على حدة، متناولًا بنظرته الشاملة أسرارها، كلها وخفاياها، وإنما نجتزئ هنا بتنزل قرآني واحد على سبيل المثال، لقد كلف الله الصحابة الأولين، ضروب المشقات وألوانها فتحملوها مختارين، ولكنه في آية واحدة حمل عليهم إصرا كبيرا, وحملهم ما لا طاقة لهم به، حتى جثوا على ركبهم دهشة وذهولًا، حين أنزل قوله الكريم: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}1، فعجبوا كيف يحاسبهم الله على ما همت به أنفسهم ولم يعملوه، وأتوا رسول الله يقولون: قد أنزل الله عليك هذه الآية ولانطيقها! وإذا الوحي يتنزل بالتخفيف والتيسير, ويعلن مبدأه السمح الصريح: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}!2.
وبعد.. لئن كان تصوير الوحي لشخص الرسول دليلا وجدانيا على صدقه عليه الصلاة والسلام، لعمري إنه في تدرج نروله برهان منطقي دامغ على أن هذا الكتاب المجيد كلام الله العليم الحكيم، أنزله على رسوله هدى وموعظة وتبيانا لكل شيء.(1/63)
روايات نزول القرآن جملة واحدة وأثرها (1) :
فأولا : من ذلك الآثار المروية بأن القرآن قد نزل جملة واحدة إلى سماء الدنيا ثم صار ينزل على النبي خلال مدة حياته بعد بعثته. فالذي يبدو لنا أنه كان لهذه الآثار أثر قليل أو كثير في بعض الثغرات التي ذكرناها أو بالأحرى في أكثرها ، بحيث صارت عاملا بين حين وآخر وبقصد وغير قصد في إغفال صلة الفصول القرآنية بالسيرة والبيئة النبوية ، ومفهوم الأساليب الخطابية العربية ومدارك سامعي القرآن ومألوفاتهم ومتداولاتهم وعاملا كذلك في إسباغ معان خاصة أو مستقلة على الألفاظ والأساليب القرآنية ، واستخراج معان خاصة منها تباعد بيننا وبين نزول القرآن وجو البيئة النبوية التي تتصل بالقرآن ونزوله وأساليبه وألفاظه اتصالا مباشرا ووثيقا على ما شرحناه في مناسبة سابقة.
ومع أن من العلماء من توقف في التسليم بمدى هذه الآثار ورأى فيها تعارضا مع ما في القرآن من ناسخ ومنسوخ وجدل ، وقال إن القرآن كان ينزل على قلب النبي من عند اللّه منجما حسب الحوادث فإن كثيرا منهم أخذوا بها كما يبدو من التدقيق في مختلف الكتب والتفاسير القديمة التي كانت عماد كتب التفسير التالية قليلا أو كثيرا ، ومنهم من جمع بين الأخذ بها وبين القول بنزول القرآن حسب الحوادث معا ، وجل هذه الآثار إن لم يكن كلّها منسوب إلى ابن عباس مع اختلاف في النصوص والطرق :
1 - فقد أخرج الحاكم من إحدى الطرق عن ابن عباس أنه قال : «أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة ثم قرأ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان : 32].
2 - وأخرج الحاكم كذلك بطريق أخرى عن ابن عباس أنه قال «فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي».
3 - وأخرج الطبراني من إحدى الطرق عن ابن عباس قال «أنزل القرآن في ليلة القدر إلى سماء الدنيا جملة واحدة ثم أنزل نجوما».
4 - وأخرج الطبراني كذلك عن ابن عباس من طريق أخرى أنه قال «أنزل القرآن جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا ونزله جبريل على محمد بجواب كلام العباد وأعمالهم».
5 - وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس «أن القرآن دفع إلى جبريل في ليلة القدر جملة واحدة ثم جعل ينزله تنزيلا».
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة - (1 / 257)(1/64)
6 - وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال «نزل القرآن جملة واحدة من عند اللّه من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل عشرين ليلة ونجمه جبريل على النبي عشرين سنة». وقد سيقت هذه الروايات في سياق هذه الآيات :
1 - شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة : 185].
2 - إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان : 3].
3 - إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر : 1].
ووردت متقاربة المدى مع بعض التباين في الصيغة في التفسير المنسوب إلى ابن عباس وفي تفاسير عديدة مثل الطبري و«الكشاف» والخازن وأبي السعود والبيضاوي جريا على العادة من اتخاذ المفسرين الروايات الواردة في أغلب الأحيان عمادا للتفسير مهما كان أمرها ورواتها على ما شرحناه في مناسبة سابقة.
ولم يقتصر الأمر على الروايات المعزوة إلى ابن عباس فإن بعض العلماء رووا روايات وقالوا أقوالا أخرى في الموضوع فقال أبو شامة وهو من علماء القرآن باحتمال أن يكون القرآن قد أنزل إلى السماء قبل نبوة النبي. وروي عن عكرمة أنه قال إن آية فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة : 75] ، تعني نزول القرآن منجما من السماء الأولى.
وعلّق بعض العلماء والمفسرين على ما تضمنته الروايات تعليقات تطبيقية وتوفيقية على اعتبار أنها قضية مسلمة فقال أبو شامة إن السرّ في إنزاله إلى السماء تفخيم أمره وأمر من نزل عليه ، وذلك بإعلام سكان السماوات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم قد قربناه إليهم لننزله عليهم ، ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجما حسب الوقائع لهبط به الأرض جملة واحدة كسائر الكتب المنزلة قبله ، ولكن اللّه باين بينه وبينها فجعل له الأمرين بإنزاله جملة ثم إنزاله مفرقا .. وقال الحاكم والترمذي أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا تسليما منه للأمة ما كان أبرز لهم من الحظ بمبعث محمد ، وذلك أن بعثة محمد كانت رحمة فلما خرجت الرحمة بفتح الباب جاءت بمحمد وبالقرآن فوضع القرآن ببيت العزة في السماء الدنيا ليدخل في حدّ الدنيا ووضعت النبوة في قلب محمد ، وجاء جبريل بالرسالة ثم بالوحي ، كأنه تعالى أراد أن يسلم هذه الرحمة التي كانت حظ هذه الأمة من اللّه .. وقال السخاوي إن في إنزاله إلى السماء جملة واحدة تكريما لبني آدم وتعظيما لشأنهم عند الملائكة ، وتعريفهم عناية اللّه بهم ورحمته لهم ، ولهذا أمر سبعين ألفا من الملائكة أن تشيع سورة الأنعام «1» ، وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل بإملائه على السفرة الكرام وإنساخهم إياه وتلاوتهم له ، وفيه تسوية بين نبينا وبين موسى في إنزاله كتابه جملة ، والتفضيل لمحمد في إنزاله جملة ومنجما ..! وجاء في تفسير الخازن في سياق سورة القدر وبعد إيراد الروايات المذكورة سابقا : قيل إنما أنزله إلى سماء الدنيا(1/65)
لشرف الملائكة بذلك ولأنها كالمشترك بيننا وبين الملائكة فهي لهم سكن ولنا سقف وزينة ، وذكر السيوطي في إتقانه أنه ورد في تفسير النيسابوري أن جماعة من العلماء قالوا نزل القرآن جملة ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت يقال له بيت العزة فحفظ جبريل وغشي على أهل السماوات من هيبة كلام اللّه فمرّ بهم جبريل وقد أفاقوا وقالوا ماذا أنزل ربكم قالوا الحق يعني القرآن وهو معنى قوله تعالى حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ : 23] ، فأتى به جبريل إلى بيت العزة فأملاه على السفرة الكتبة يعني الملائكة وهو معنى قوله تعالى : بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) [عبس 15 - 16] ، وآية سبأ جاءت في سياق مشهد من مشاهد الآخرة وفيه إنذار وتنديد بالكفار وحكي فيه موقف من مواقف الجدل بينهم وبين النبي ولا صلة قط بينه وبين المعنى أو المشهد الذي أورده النيسابوري ، وفي هذا مثل آخر لأخذ المفسرين الآيات آية أو جملة من آية وعدم ملاحظتهم السياق الذي جاءت فيه .. ومنهم من ناقش ما إذا كانت جملة إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر : 1] من جملة القرآن الذي نزل جملة واحدة أم لا لأنها تتضمن إخبارا وتوهم التعارض ، ثم خرجوها بأن معنى أنزلناه في الجملة قضيناه وقدرناه «1».
كل هذا في حين أن هذه الأقوال وخاصة المعزوة إلى ابن عباس وهي الأصل فيها ليست مرفوعة إلى النبي ، وهي أخبار عن غيب متصل بعلم اللّه وسرّ ملكوته ووجوده لا يمكن العلم بها إلا عن طريق النبي وهو ما لم يثبت فيما اطلعنا عليه ، ونستبعد صدورها عن ابن عباس لما فيها من تخمين في أمر لا يصح أن يلقى الكلام فيه جزافا ومن غير سند نبوي ثابت أو صراحة قرآنية.
وفي الروايات الوثيقة الواردة أن الوحي نزل لأول مرة على النبي بأول آيات القرآن في ليلة من ليالي رمضان وهو معتكف في غار حراء على عادته من الاعتكاف في هذا الشهر ، وما احتوته آيات البقرة والدخان والقدر هو فيما نعتقد إشارة إلى هذا الحادث ، وقد جاءت كلمة القرآن في أوائل سورة المزمل التي هي من أوائل القرآن نزولا ثم ظلت تتكرر في السور المكية والمدنية وكانت تعني بطبيعة الحال الجزء الذي تم نزوله على قلب النبي ، وفي هذا دليل على أن تعبير إِنَّا أَنْزَلْناهُ في آيتي الدخان والقدر وجملة شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ في آية البقرة [158] لا تقتضي أن تكون قصدت جميع القرآن مما يمكن أن يكون محل إشكال أريد تخريجه على الوجه الذي خرج به.
ولقد أورد السيوطي في إتقانه حديثا نبويا برواية واثلة بن الأسقع جاء فيه أن النبي قال إن التوراة نزلت لست مضين من رمضان والإنجيل لثلاث عشرة والزبور لثمان عشرة والقرآن لأربع وعشرين خلت منه ، وسيق هذا الحديث في معرض تلك الآيات والروايات والأقوال ، ومهما يكن من أمره فليس من شأنه على فرض صحته أن يؤيد تلك الأقوال والروايات لأنه ليس فيه صراحتها ، وليس من المستبعد أن يكون(1/66)
أريد به الإشارة إلى أول نزول الكتب السماوية بما فيها القرآن كما هو الواقع المروي في الأحاديث الصحيحة بالنسبة إلى القرآن.
ومن الطريف أن بعض المعلقين استنبط على ما ذكره السيوطي من عدم الرد على الكفار فيما تحدوه من إنزال القرآن جملة واحدة صحة ما قيل من أن الكتب السماوية نزلت جملة واحدة وقال إنها لو لم تكن نزلت جملة واحدة لكان القرآن ردّ على المتحدين.
وإذا كان بعض العلماء توقف في ما إذا كانت جملة إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر : 1] هي من جملة القرآن الذي نزل جملة واحدة أم لا لأنها تتضمن إخبارا وتوهم التعارض فكم بالأحرى الآيات الكثيرة المماثلة ثم الفصول الكثيرة جدا الواردة في مختلف السور والتي تحكي حجاج الكفار وجدلهم في القرآن وتحديه أو تحكي مواقف الكفار من الدعوة النبوية ومن إنذارات القرآن وتبشيراته باليوم الآخر وحسابه وثوابه وعقابه ، وهزؤهم بالنبي وتحديه بإحداث المعجزات وإنزال الملائكة إلخ ، ثم التي تحكي وقائع السيرة الجهادية والتشريعية ، ثم التي تندد بالكفار وتصور عنادهم وتحتم لهم الخلود في النار وتلك التي تذكر إسلام كثير منهم وتوبة اللّه عليهم وانتقالهم من صف الكفار إلى صف المسلمين ومن مصير الخلود في النار إلى الخلود في الجنة وأمثال ذلك مما كان يقع نتيجة لسير الدعوة وظروفها الطارئة ومما يغلب عليه طابع الوسائل التدعيمية لأهداف القرآن وأسسه ودعوته. ولا ندري كيف سوغ القائلون لأنفسهم بعد هذا أن يقولوا إن القرآن - وهم يعنون جميع ما بين الدفتين من أسس ووسائل - قد نزل جملة واحدة يوم بعثة النبي أو قبله.
وعلى كل حال فإن ما ساقه القائلون في حكمة إنزال القرآن جملة واحدة إلى السماء عند بدء النبوة أو قبلها وكذلك ما علقوا به من تعليقات هي الأخرى أقوال تخمينية ، وفيها من التكلّف والتزيد بل والتهافت ما يستطيع أن يلمسه المدقق الذي ينعم النظر ، وأن القول في أصله يظل غير مفهوم الحكمة ، وغير متسق مع طبائع الأمور وحقائق الأشياء ، ولقد غاب عنهم فيما يتراءى لنا أن القرآن بصفته وحي اللّه قد تحققت فيه جميع معاني التعظيم والتفخيم والتكريم ، وإنه ليس في حاجة إلى المزيد بمثل هذه المظاهر كما غاب عنهم أنهم يقررون ماهيات مادية عن السماء الأولى وبيت العزة والحفظة والسفرة والتوزيع على جبريل وتلقي جبريل عنهم ، ويصفون مشاهد إبصارية لا يصحّ إلقاء الكلام فيها جزافا ، وليس عندهم أي دليل نقلي ثابت وصحيح صادر عن النبي الذي هو وحده صاحب الحق في الإخبار عن الغيبيات.
ومهما يكن من أمر فإن هذه الأقوال تدل على أن كثيرا من الناظرين في القرآن وعلمائه ومفسريه اعتبروا أو يقع الوهم بأنهم اعتبروا القرآن - ومن جملته الفصول الوسائلية والتدعيمية والوقائع الجهادية والأسئلة(1/67)
والأجوبة ومواقف التحدي والجدل والحجاج المتقابلة - مستقلا في أصله عن الأحداث التي نزل بمناسباتها ، وكون هذه الأحداث ليست إلا ظروفا عابرة لنزوله حتى مع قولهم إن القرآن قد نزل منجما حسب الحوادث - لأن هذا يبدو غريبا إزاء القول إن القرآن نزل في بدء نبوة النبي أو قبلها جملة واحدة إلى سماء الدنيا - فقالوا ما قالوه وولعوا بما ولعوا به من أسرار القرآن ، واستقراء حروفه ورموزه ومغيباته ، واستغرقوا في ماهيات ما جاء فيه من مشاهد كونية وقصص تاريخية ، وحاولوا أن يستخرجوا حقائق ما كان ويكون من الوقائع والعلوم ونظرياتها ، وفي هذا ما فيه من التكلّف والتجاوز والتشويش وتعريض القرآن للمغامز والمطاعن في حين أنه لا طائل من ورائه ولا ضرورة له ولا أسناد وثيقة تدعمه.
==============(1/68)
المبحث الثالث
ترتيب القرآن
ترتيب القرآن: تلاوته تالياً بعضه بعضاً حسبما هو مكتوب في المصاحف ومحفوظ في الصدور.
وهو ثلاثة أنواع:
[النوع الأول]: ترتيب الكلمات بحيث تكون كل كلمة في موضعها من الآية، وهذا ثابت بالنص والإِجماع، ولا نعلم مخالفاً في وجوبه وتحريم مخالفته، فلا يجوز أن يقرأ: لله الحمد رب العالمين بدلاً من {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2].
[النوع الثاني]: ترتيب الآيات بحيث تكون كل آية في موضعها من السورة، وهذا ثابت بالنص والإِجماع، وهو واجب على القول الراجح وتحرم مخالفته ولا يجوز أن يقرأ: مالك يوم الدين الرحمن الرحيم بدلاً من: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة] ففي "صحيح البخاري عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ : قُلْتُ لِعُثْمَانَ : هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي فِي البَقَرَةِ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة : 240] قَدْ نَسَخَتْهَا الأُخْرَى ، فَلِمَ تَكْتُبُهَا ؟ قَالَ : " تَدَعُهَا يَا ابْنَ أَخِي ، لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ " ، قَالَ حُمَيْدٌ : أَوْ نَحْوَ هَذَا (1)
وعَنْ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قُلْتُ لِعُثْمَانَ : مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الأَنْفَالِ ، وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي ، وَإِلَى بَرَاءَةَ ، وَهِيَ مِنَ الْمِائَيْنِ ، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، فَوَضَعْتُمُوهُمَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ ، مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ آيَةٌ ، قَالَ : ضَعُوهَا فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا وَكَانَتِ الأَنْفَالُ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَبَرَاءَةُ مِنْ آخِرِهَا نَزَلَ ، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا تُشْبِهُ قِصَّتَهَا ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي ذَلِكَ شَيْئًا ، فَمِنْ ثَمَّ قَرَنَّا بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ نَكْتُبْ بَيْنَهُمَا بِسَطْرِ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ." (2)
وعن ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ : مَا حَمَلَكُمْ أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ المَثَانِي وَإِلَى بَرَاءَةٌ وَهِيَ مِنَ المِئِينَ فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَوَضَعْتُمُوهَا فِي
__________
(1) - صحيح البخارى - (4536 )
(2) - مسند البزار - (1 / 82) ( 344) صحيح(1/69)
السَّبْعِ الطُّوَلِ ، مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ فَيَقُولُ : " " ضَعُوا هَؤُلَاءِ الآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا " " وَإِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الآيَةَ فَيَقُولُ : " " ضَعُوا هَذِهِ الآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا " " ، وَكَانَتِ الأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَتْ بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ القُرْآنِ وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا ، فَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، فَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ : (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: " إنِّي لَمُسْتَتِرٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ إذْ جَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ ثَقَفِيٌّ وَخَتَنَاهُ قُرَشِيَّانِ كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ , فَتَحَدَّثُوا بَيْنَهُمْ بِحَدِيثٍ , فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَى اللهَ يَسْمَعُ مَا قُلْنَاهُ ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَرَاهُ يَسْمَعُ إذَا رَفَعْنَا وَلَا يَسْمَعُ إذَا خَفَضْنَا , وَقَالَ الْآخَرُ: إنْ كَانَ يَسْمَعُ مِنْهُ شَيْئًا إنَّهُ لَيَسْمَعُهُ كُلَّهُ , فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَنْزَلَ اللهُ: { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ } [فصلت: 22] حَتَّى بَلَغَ: { الْمُعْتَبِينَ } [فصلت: 24] "
وفي رواية عَنْ عَبْدِ اللهِ فَقَالَ لِي سُفْيَانُ: عُمَارَةُ عَنْ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ اللهِ فَقُمْتُ مِنْ فَوْرِي إلَى الْأَعْمَشِ فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ عِنْدَكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ كُنْتُ مُتَعَلِّقًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ عُمَارَةُ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ فَقُلْتُ: إنَّ سُفْيَانَ يَقُولُ: عُمَارَةُ عَنْ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَالَ لِي: أَمْهِلْ فَجَعَلَ يُهِمُّهُمْ كَمَا يُهِمُّهُمُ الْبَعِيرُ , ثُمَّ قَالَ: أَصَابَ سُفْيَانُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأَمَّلْنَا هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَاتِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَجَدْنَا قَائِلًا مِنَ النَّاسِ قَدْ قَالَ إنْ قِيلَ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ السُّورَةِ اللَّاتِي هُنَّ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحَالَةِ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ إذْ نُزُولُهُنَّ كَانَ مِنْ أَجْلِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ } . الْآيَةَ , فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ يَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ , ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ } [فصلت: 21] إلَى قَوْلِهِ: { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [فصلت: 21] . فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلٍ يَكُونُ مِنْهُمْ حِينَئِذٍ خِطَابًا لِجُلُودِهِمْ عِنْدَ شَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِمْ بِمَا شَهِدَتْ بِهِ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ , وَذَلِكَ كُلُّهُ كَائِنٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ مِمَّا كَانَ فِي الدُّنْيَا , ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُوَبِّخًا لَهُمْ: { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ } [فصلت: 22] . إلَى قَوْلِهِ: { فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ } [فصلت: 24] . أَيْ: حِينَئِذٍ . وَفِي ذَلِكَ مَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي رَوَيْتُهُ عَلَى مَا فِيهِ ; لِأَنَّ الَّذِي فِيهِ إنْزَالُ اللهِ إيَّاهُ عَلَى نَبِيِّهِ لِمَا كَانَ مِنْ أُولَئِكَ الْجُهَّالِ فِي الدُّنْيَا . فَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ فِي
__________
(1) - سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ ـ الْجَامِعُ الصَّحِيحُ (3158 ) صحيح(1/70)
ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ أَنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللهُ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ فِي الْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ مَا ذَكَرَهُ لَهُ عَنْ أُولَئِكَ الْجُهَّالِ تَوْبِيخًا لَهُمْ وَإِعْلَامًا مِنَ اللهِ إيَّاهُمْ بِذَلِكَ مَا أَعْلَمَهُمْ بِهِ فِيهِ , ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ: { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إلَى النَّارِ } [فصلت: 19] إلَى قَوْلِهِ: { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [فصلت: 21] فَجَعَلَ - صلى الله عليه وسلم - ذَلِكَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي جَعَلَهُ فِيهِ مِمَّا هُوَ شَكِلٌ لِذَلِكَ وَوَصَلَهُ بِهِ إذْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا يُخَاطَبُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الِاحْتِمَالَ الَّذِي قَدْ ذَكَرْنَا مَا قَدْ روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ، قُلْتُ لِعُثْمَانَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي وَإِلَى بَرَاءَةٌ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينِ فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرًا . بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَوَضَعْتُمُوهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ قَالَ فَقَالَ عُثْمَانُ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ السُّوَرِ ذَوَاتِ الْعَدَدِ فَكَانَ إذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَخَلَ بَعْضُ مَنْ يَكْتُبُ لَهُ فَيَقُولُ: " ضَعُوا هَذَا فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا , وَكَذَا " وَإِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ يَقُولُ: " ضَعُوا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا , وَكَذَا " وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَتْ بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا وَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرًا . بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَوَضَعْتُهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ" فَأَخْبَرَ عُثْمَانُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمَرُونَ أَنْ يَجْعَلُوا بَعْضَ الْآيِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِمْ فِي سُورَةٍ مُتَكَامِلَةٍ قَبْلَ ذَلِكَ وَكَانَ فِي قَوْلِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا مَا قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يُؤْمَرُونَ أَنْ يَجْعَلُوا مَا تَأَخَّرَ نُزُولُهُ مِنَ الْآيِ عِنْدَ الَّذِي يُشْبِهُهُ مِمَّا قَدْ تَقَدَّمَ نُزُولُهُ مِنْهَا، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مَا قَدْ دَلَّ عَلَى احْتِمَالِ مَا وَصَفْنَا مِمَّا أَحَلْنَا بِهِ التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا وَاللهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ (1)
[النوع الثالث]: ترتيب السُّوَرُ بحيث تكون كل سورة في موضعها من المصحف، وهذا ثابت بالاجتهاد فلا يكون واجباً وفي "مسند أحمد" عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فِى لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَقَامَ يُصَلِّى فَلَمَّا كَبَّرَ قَالَ « اللَّهُ أَكْبَرُ ذُو الْمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ ». ثُمَّ قَرَأَ الْبَقَرَةَ ثُمَّ النِّسَاءَ ثُمَّ آلَ عِمْرَانَ لاَ يَمُرُّ بِآيَةِ تَخْوِيفٍ إِلاَّ وَقَفَ عِنْدَهَا ثُمَّ رَكَعَ يَقُولُ « سُبْحَانَ رَبِّىَ الْعَظِيمِ ». مِثْلَ مَا كَانَ قَائِماً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ « سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ ». مِثْلَ مَا كَانَ قَائِماً ثُمَّ سَجَدَ يَقُولُ « سُبْحَانَ رَبِّىَ الأَعْلَى ». مِثْلَ مَا كَانَ قَائِماً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ « رَبِّ اغْفِرْ لِى ». مِثْلَ مَا كَانَ قَائِماً ثُمَّ سَجَدَ يَقُولُ « سُبْحَانَ رَبِّىَ الأَعْلَى ». مِثْلَ مَا كَانَ قَائِماً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَامَ فَمَا صَلَّى إِلاَّ
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (1 / 118) (129 و130) صحيح(1/71)
رَكْعَتَيْنِ حَتَّى جَاءَ بِلاَلٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلاَةِ. (1) ، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: صَلَّى بِنَا الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِعَاقُولِ الْكُوفَةِ فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى الْكَهْفَ , وَالثَّانِيَةِ بِسُورَةِ يُوسُفَ قَالَ: وَصَلَّى بِنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ , فَقَرَأَ بِهِمَا فِيهِمَا". (2)
وذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي تَرْتِيبِ سُوَرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ خِلَافًا هَلْ كَانَ تَوْفِيقًا أَوْ اجْتِهَادًا .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ : تَرْتِيبُ السُّوَرِ بِالِاجْتِهَادِ لَا بِالنَّصِّ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ، فَيَجُوزُ قِرَاءَةُ هَذِهِ قَبْلَ هَذِهِ ، وَكَذَا فِي الْكِتَابَةِ ، وَلِذَا تَنَوَّعَتْ مَصَاحِفُ الصَّحَابَةِ فِي كِتَابَتِهَا ، لَكِنْ لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى الْمُصْحَفِ زَمَنَ عُثْمَانَ صَارَ هَذَا مِمَّا سَنَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ .وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ لَهُمْ سُنَّةً يَجِبُ اتِّبَاعُهَا .وَأَمَّا تَرْتِيبُ الْآيَاتِ فَثَبَتَ بِالنَّصِّ إجْمَاعًا اهـ (3) .
وقال دروزة معلقاً : " وواضح كل الوضوح أن محل اتباع هذه السنة التي يجب اتباعها إنما هو في كتابة المصحف الذي يكون للتلاوة لا في كتابة تفسير وشرح لمعاني الآيات والسور الكريمة. فإن ذلك غير داخل في موضوع اختلاف العلماء أو اتفاقهم إطلاقا. بل هم فيما روي متفقون على سواغيته وجوازه. واللّه تعالى أعلم. " (4)
وفي منظومة الآداب :
" قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي التِّبْيَانِ وَابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ وَغَيْرُهُمَا : أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَتَنْزِيهِهِ وَصِيَانَتِهِ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ جَحَدَ حَرْفًا مِمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهِ ، أَوْ زَادَ حَرْفًا لَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ وَهُوَ عَالَمٌ بِذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : اعْلَمْ أَنَّ مَنْ اسْتَخَفَّ بِالْقُرْآنِ أَوْ الْمُصْحَفِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ ، أَوْ جَحَدَ حَرْفًا مِنْهُ ، أَوْ كَذَّبَ بِشَيْءٍ مِمَّا صَرَّحَ بِهِ فِيهِ مِنْ حُكْمٍ أَوْ خَبَرٍ ، أَوْ أَثْبَتَ مَا نَفَاهُ أَوْ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ ، أَوْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .
وَكَذَلِكَ إنْ جَحَدَ التَّوْرَاةَ أَوْ الْإِنْجِيلَ أَوْ كُتُبَ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَةَ ، أَوْ كَفَرَ بِهَا أَوْ سَبَّهَا أَوْ اسْتَخَفَّ بِهَا فَهُوَ كَافِرٌ .
__________
(1) - مسند أحمد - (24110) صحيح لغيره
(2) - شرح معاني الآثار - (1 / 181) (1082 ) صحيح
(3) - تفسير القرآن للعثيمين - (1 / 16) و قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ في القرآن: لمرعي بن يوسف الكرمي: ط: دار القرآن الكريم - الكويت ت: سامي عطا حسن: (1/232). وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (2 / 175)
(4) - التفسير الحديث لدروزة - (1 / 12) والتفسير الحديث لدروزة - (10 / 18)(1/72)
قَالَ : وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْمَتْلُوَّ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ الْمَكْتُوبِ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِمَّا جَمَعَهُ الدَّفَّتَانِ مِنْ أَوَّلِ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } إلَى آخِرِ قُلْ { أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } كَلَامُ اللَّهِ وَوَحْيُهُ الْمُنَزَّلُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ جَمِيعَ مَا فِيهِ حَقٌّ ، وَأَنَّ مَنْ نَقَصَ مِنْهُ حَرْفًا قَاصِدًا لِذَلِكَ ، أَوْ بَدَّلَهُ بِحَرْفٍ آخَرَ مَكَانَهُ ، أَوْ زَادَ فِيهِ حَرْفًا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ الْمُصْحَفُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ عَامِدًا لِكُلِّ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ . (1)
============
__________
(1) - غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (2 / 175)(1/73)
المبحث الرابع
كتابة القرآن وجمعه
لكتابة القرآن وجمعه ثلاث مراحل:
[المرحلة الأولى]: في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان الاعتماد في هذه المرحلة على الحفظ أكثر من الاعتماد على الكتابة؛ لقوة الذاكرة وسرعة الحفظ وقلة الكاتبين ووسائل الكتابة، ولذلك لم يجمع في مصحف بل كان من سمع آية حفظها، أو كتبها فيما تيسر له من عُسُب النخل، ورقاع الجلود، ولِخاف الحجارة، وكِسر الأكتاف وكان القراء عدداً كبيراً.
ففي "صحيح البخاري"(1) عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث سبعين رجلاً يقال لهم: القرَّاء، فعرض لهم حيَّان من بني سليم رِعل وذكوان عند بئر معونة فقتلوهم، وفي الصحابة غيرهم كثير كالخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبي الدرداء رضي الله عنهم.
[المرحلة الثانية]: في عهد أبي بكر رضي الله عنه في السنة الثانية عشرة من الهجرة وسببه أنه قُتِلَ في وقعة اليمامة عددٌ كبيرٌ من القراء منهم، سالم مولى أبي حذيفة؛ أحد من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأخذ القرآن منهم، فأمر أبو بكر رضي الله عنه بجمعه لئلا يضيع، ففي "صحيح البخاري"(2) أن عمر بن الخطاب أشار على أبي بكر رضي الله عنهما بجمع القرآن بعد وقعة اليمامة، فتوقف تورعاً، فلم يزل عمر يراجعه حتى شرح الله صدر أبي بكر لذلك، فأرسل إلى زيد بن ثابت فأتاه، وعنده عمر فقال له أبو بكر: إنك رجلٌ شابٌّ عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَتَتَبَّع القرآن فاجمعه، قال: فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللِّخاف وصدور الرجال، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما رواه البخاري مطولاً، وقد وافق المسلمون أبا بكر على ذلك وعدُّوه من حسناته، حتى قال علي رضي الله عنه: أعظم الناس في المصاحف أجراً أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله.
[المرحلة الثالثة]: في عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه في السنة الخامسة والعشرين، وسببه اختلاف الناس في القراءة بحسب اختلاف الصحف التي في أيدي الصحابة رضي الله عنهم فخيفت الفتنة، فأمر عثمان رضي الله عنه أن تجمع هذه الصحف في مصحف واحد؛ لئلا يختلف الناس، فيتنازعوا في كتاب الله تعالى ويتفرقوا.(1/74)
ففي "صحيح البخاري"(3) أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان من فتح أرمينية وأذربيجان، وقد أفزعه اختلافهم في القراءة، فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة، أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، ففعلت، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وكان زيد بن ثابت أنصاريًّا والثلاثة قرشيين - وقال عثمان للرهط الثلاثة القرشيين: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرق.
وقد فعل عثمان رضي الله عنه هذا بعد أن استشار الصحابة رضي الله عنهم، لما روى ابن أبي داود(4) عن علي رضي الله عنه أنه قال: واللهِ ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملإٍ مِنَّا، قال: أرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة ولا اختلاف، قلنا: فَنِعْمَ ما رأيت.
وقال مصعب بن سعد(5) : أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك، أو قال: لم ينكر ذلك منهم أحد، وهو من حسنات أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه التي وافقه المسلمون عليها، وكانت مُكَمِّلة لجمع خليفة رسول الله أبي بكر رضي الله عنه.
والفرق بين جمعه وجمع أبي بكر رضي الله عنهما أن الغرض من جمعه في عهد أبي بكر رضي الله عنه تقييد القرآن كله مجموعاً في مصحف، حتى لا يضيع منه شيء دون أن يحمل الناس على الاجتماع على مصحف واحد؛ وذلك أنه لم يظهر أثرٌ لاختلاف قراءاتهم يدعو إلى حملهم على الاجتماع على مصحف واحد.
وأما الغرض من جمعه في عهد عثمان رضي الله عنه فهو تقييد القرآن كله مجموعاً في مصحف واحد، يحمل الناس على الاجتماع عليه لظهور الأثر المخيف باختلاف القراءات.
وقد ظهرت نتائج هذا الجمع حيث حصلت به المصلحة العظمى للمسلمين من اجتماع الأمة، واتفاق الكلمة، وحلول الأُلفة، واندفعت به مفسدة كبرى من تفرق الأمة، واختلاف الكلمة، وفشو البغضاء، والعداوة .(1/75)
وقد بقي على ما كان عليه حتى الآن متَّفقاً عليه بين المسلمين متواتراً بينهم، يتلقاه الصغير عن الكبير، لم تعبث به أيدي المفسدين، ولم تطمسه أهواء الزائغين فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين. (1)
الرد على ما يثار حول جمع القرآن من شبه
كان القرآن ولا يزال هدفا لأعداء الإسلام يسددون إليه سهام المطاعن ويتخذون من علومه مثارا للشبهات يلفقونها زورا وكذبا ويروجونها ظلما وعدوانا من ذلك ما نقصه عليك في موضوعنا هذا مشفوعا بالتفنيد فيما يأتي الشبهة الأولى وهي تعتمد على سبع شبه يقولون إن في طريقة كتابة القرآن وجمعه دليلا على أنه قد سقط منه شيء وأنه ليس اليوم بأيدينا على ما زعم محمد أنه أنزل عليه واعتمدوا في هذه الشبهة على المزاعم الآتية أولا أن محمدا قال رحم الله فلانا لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطتهن ويرى أنسيتهن فهذا الحديث فيه اعتراف من النبي نفسه بأنه أسقط عمدا بعض آيات القرآن أو أنسيها
ثانيا أن ما جاء في سورة الأعلى !< سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله >! 87 الأعلى6 ، 7 يدل بطريق الاستثناء الواقع فيه على أن محمدا قد أسقط عمدا أو أنسي آيات لم يتفق له من يذكره إياها ثالثا أن الصحابة حذفوا من القرآن كل ما رأوا المصلحة في حذفه فمن ذلك آية المتعة أسقطها علي بن أبي طالب بتة وكان يضرب من يقرؤها وهذا مما شنعت عائشة به عليه فقالت إنه يجلد على القرآن وينهى عنه وقد بدله وحرفه رابعا أن أبي بن كعب حذف من القرآن ما كان يرويه ولا نجده اليوم في المصحف وهو اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونثني عليك الخير كله نشكرك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخاف عذابك إن عذابك الجد بالكفار ملحق خامسا أن كثيرا من آياته لم يكن لها قيد سوى تحفظ الصحابة وكان بعضهم قد قتلوا في مغازي محمد وحروب خلفائه الأولين وذهب معهم ما كانوا يتخطفونه من قبل أن يوعز أبو بكر إلى زيد بن ثابت بجمعه فلذلك لم يستطع زيد أن يجمع سوى ما كان يتحفظه الأحياء سادسا أن ما كان مكتوبا منه على العظام وغيرها فإنه كان مكتوبا عليها بلا نظام ولا ضبط وقد ضاع بعضها وهذا ما حدا العلماء إلى الزعم أن فيه آيات نسخت حرفا لا حكما وهو من غريب المزاعم وحقيقة الأمر فيها أنها سقطت بتة بضياع العظم الذي كانت مكتوبة عليه ولم يبق
__________
(1) - تفسير القرآن للعثيمين - (1 / 17)(1/76)
منها سوى المعنى محفوظا في صدورهم سابعا لما قام الحجاج بنصرة بني أمية لم يبق مصحفا إلا جمعه وأسقط منه أشياء كثيرة قد نزلت فيهم وزاد فيه أشياء ليست منه وكتب ستة مصاحف جديدة بتأليف ما أراده ووجه بها إلى مصر والشام ومكة والمدينة والبصرة والكوفة وهي القرآن المتداول اليوم وعمد إلى المصاحف المتقدمة فلم يبق منها نسخة إلا أغلى لها الخل وطرحها فيه حتى تقطعت وإنما رام بما فعله أن يتزلف إلى بني أمية فلم يبق في القرآن ما يسوءهم نقض هذه المزاعم الباطلة ملخص هذه الشبهة أن القرآن الذي بأيدينا ناقص سقط منه ماسقط بدليل المزاعم السبعة التي سقناها أمامك وإذن فلنمحص بين يديك هذه المزاعم لنأتي بنيان هذه الشبهة من القواعد
1 أما احتجاجهم الأول وهو الحديث الذي أوردوه فإنه لا ينهض حجة لهم فيما زعموا من الشك في الأصل الذي قامت عليه كتابة القرآن وجمعه بل الأصل سليم قويم وهو وجود هذه الآيات مكتوبة في الوثائق التي استكتبها الرسول ووجودها محفوظة في صدور أصحابه الذين تلقوها عنه والذين بلغ عددهم مبلغ التواتر وأجمعوا جميعا على صحته كما عرف ذلك في دستور جمع القرآن إنما قصارى هذا الخبر أنه يدل على أن قراءة ذلك الرجل ذكرت النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها وكان قد أنسيها أو أسقطها أي نسيانا وهذا النوع من النسيان لا يزعزع الثقة بالرسول ولا يشكك في دقة جمع القرآن ونسخه فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان قد حفظ هذه الآيات من قبل أن يحفظها ذلك الرجل ثم استكتبها كتاب الوحي وبلغها الناس فحفظوها عنه ومنهم رجل الرواية عباد بن بشار رضي الله عنه على ما روي وليس في ذلك الخبر الذي ذكروه رائحة أن هذه الآيات لم تكن بالمحفوظات التي كتبها كتاب الوحي وليس فيه ما يدل على أن أصحاب الرسول كانوا قد نسوها جميعا حتى يخاف عليها وعلى أمثالها الضياع ويخشى عليها السقوط عند الجمع واستنساخ المصحف الإمام كما يفتري أولئك الخراصون بل الرواية نفسها تثبت صراحة أن في الصحابة من كان يقرؤها وسمعها الرسول منه ثم إن دستور جمع القرآن وقد مر آنفا يؤيد أنهم لم يكتبوا في المصحف إلا ما تظاهر الحفظ والكتابة والإجماع على قرآنيته ومنه هذه الآيات التي يدور عليها الكلام هنا من غير ما شك ولا يفوتنك في هذا المقام أمران أحدهما أن كلمة أسقطتهن في بعض روايات هذا الحديث معناها أسقطتهن نسيانا كما تدل على ذلك كلمة أنسيتهن في الرواية الأخرى ومحال أن يراد بها الإسقاط عمدا لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا ينبغي له ولا يعقل منه أن يبدل شيئا في القرآن بزيادة أو نقص من تلقاء نفسه وإلا كان خائنا أعظم الخيانة والخائن لا يمكن أن يكون رسولا هذا هو حكم العقل المجرد من الهوى وهو أيضا حكم النقل في كتاب الله إذ يقول سبحانه !< إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون >! 15 الحجر 9 وإذ يقول جل ذكره !< قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي >! 10 يونس 15 الأمر الثاني أن روايات هذا الخبر لا تفيد أن هذه الآيات التي سمعها الرسول من عباد بن بشار(1/77)
قد امحت من ذهنه الشريف جملة غاية ما تفيده أنها كانت غائبة عنه ثم ذكرها وحضرت في ذهنه بقراءة عباد وغيبة الشيء عن الذهن أو غفلة الذهن عن الشيء غير محوه منه بدليل أن الحافظ منا لأي نص من النصوص يغيب عنه هذا النص إذا اشتغل ذهنه بغيره وهو يوقن في ذلك الوقت بأنه مخزون في حافظته بحيث إذا دعا إليه داع استعرضه واستحضره ثم قرأه أما النسيان التام المرادف لامحاء الشيء من الحافظة فإن الدليل قام على استحالته على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يخل بوظيفة الرسالة والتبليغ وإذا عرض له نسيان فإنه سحابة صيف لا تجيء إلا لتزول ولا ريب أن نسيان الرسول هنا كان بعد أن أدى وظيفته وبلغ الناس وحفظوا عنه فهو نسيان لم يخل بالرسالة والتبليغ قال البدر العيني في باب نسيان القرآن من شرحه لصحيح البخاري ما نصه وقال الجمهور جاز النسيان عليه أي على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ليس طريقه البلاغ والتعليم بشرط ألا يقر عليه بل لا بد أن يذكره وأما غيره فلا يجوز قبل التبليغ وأما نسيان ما بلغه كما في هذا الحديث فهو جائز بلا خلاف اه هذا ولقد كنت في الطبعة الأولى تابعت بعض الكاتبين هنا في اتهام هذه الرواية بالدس والوضع ولكن تبين لي بعد إعادة النظر وتنبيه بعض ذوي الفطن أن الخبر صحيح رواه الشيخان ففي صحيح البخاري عن هشام عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يقرأ في المسجد فقال يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية من سورة كذا زاد في رواية أخرى وقال أسقطتهن من سورة كذا وكذا وفي صحيح مسلم عن هشام عن أبيه عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا يقرأ من الليل فقال يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطتها من سورة كذا وكذا وقال النووي في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن ما نصه وثبت في الصحيحين أيضا عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا يقرأ فقال رحمه الله لقد أذكرني آية كنت أسقطتها وفي رواية في الصحيح كنت أنسيتها اه سبحان ربي !< لا يضل ربي ولا ينسى >! 20 طه 52 2 وأما احتجاجهم الثاني وهو الاسثناء الذي في قوله سبحانه !< سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله >! 87 الأعلى 6 7 فلا يدل على ما زعموا لأنه استثناء صوري لا حقيقي والحكمة فيه أن يعلن الله عباده أن عدم نسيانه - صلى الله عليه وسلم - الذي وعده الله إياه في قوله !< فلا تنسى >! إنما هو محض فضل من الله وإحسان ولو شاء سبحانه أن ينسيه لأنساه وفي ذلك الاستثناء الصوري فائدتان إحداهما ترجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث يشعر دائما أنه مغمور بنعمة الله وعنايته ما دام متذكرا للقران لا ينساه والثانية تعود على أمته حيث يعلمون أن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فيما خصه الله به من العطايا والخصائص لم يخرج عن دائرة العبودية فلا يفتنون فيه كما فتن النصارى في المسيح ابن مريم والدليل على أن هذا الاستثناء صوري لا حقيقي أمران أحدهما ما جاء في سبب النزول وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتعب نفسه بكثرة قراءة القرآن حتى وقت نزول الوحي مخافة أن ينساه ويفلت منه فاقتضت رحمة الله بحبيبه أن يطمئنه من هذه الناحية وأن يريحه من هذا العناء فنزلت هذه الآية كما نزلت آية !< لا(1/78)
تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه >! 75 القيامة 16 17 وآية !< ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما >! 20 طه 114 ثانيهما أن قوله !< إلا ما شاء الله >! 6 الأنعام 128 يعلق وقوع النسيان على مشيئة الله إياه والمشيئة لم تقع بدليل ما مر بك من نحو قوله !< إن علينا جمعه وقرآنه >! 75 القيامة 17 وإذا فالنسيان لم يقع للعلم بأن عدم حصول المعلق عليه يستلزم عدم حصول المعلق فالذي عنده ذوق لأساليب اللغة ونظر في وجوه الأدلة يتردد في أن الآية وعد من الله أكيد بأن الرسول يقرئه الله فلا ينسى وعدا منه على وجه التأييد من غير استثناء حقيقي لوقت من الأوقات وإلا لما كانت الآية مطمئنة له عليه الصلاة والسلام ولكان نزولها أشبه بالعبث ولغو الكلام قال العلامة المرحوم الشيخ محمد عبده عند تفسيره للاستثناء في هذه الآية ما نصه ولما كان الوعد على وجه التأبيد واللزوم ربما يوهم أن قدرة الله لا تسع غيره وأن ذلك خارج عن إرادته جل شأنه جاء بالاستثناء في قوله !< إلا ما شاء الله >! فإنه إذا أراد أن ينسيك شيئا لم يعجزه ذلك فالقصد هو نفي النسيان رأسا وقالوا إن ذلك كما يقول الرجل لصاحبه أنت سهيمي فيما أملك إلا ما شاء الله لا يقصد استثناء شيء وهو من استعمال القلة في معنى النفي وعلى ذلك جاء الاستثناء في قوله تعالى في سورة هود !< وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ >! 11 هود 108 أي غير مقطوع فالاستثناء في مثل هذا للتنبيه على أن ذلك التأبيد والتخليد بكرم من الله وسعة جود لا بتحتيم عليه وإيجاب وأنه لو أراد أن يسلب ما وهب لم يمنعه من ذلك مانع وما ورد من أنه - صلى الله عليه وسلم - نسي شيئا كان يذكره فذلك إن صح فهو في غير ما أنزل الله من الكتاب والأحكام التي أمر بتبليغها وكل ما يقال غير ذلك فهو من مدخلات الملحدين التي جازت على عقول المغفلين فلوثوا بها ما طهره الله فلا يليق بمن يعرف قدر صاحب الشريعة - صلى الله عليه وسلم - ويؤمن بكتاب الله أن يتلق بشيء من ذلك اه
ذلك رأي في معنى الاستثناء وثمة وجه آخر فيه وهو أنه استثناء حقيقي غير أن المراد به منسوخ التلاوة دون غيره ويكون معنى الآية أن الله تعالى يقرئ نبيه فلا ينسيه إلا ما شاءه وهو ما نسخت تلاوته لحكمة من الحكم التي بينها العلماء في مبحث النسخ والدليل على هذا قوله سبحانه في سورة البقرة !< ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها >! 2 البقرة 106 قال العلامة أبو السعود في تفسيره وقرئ ما ننسخ من آية أو ننسكها وقرئ ما ننسك من آية أو ننسخها والمعنى أن كل آية نذهب بها على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معا إلى بدل أو إلى غير بدل نأت بخير منها أي نوع آخر هو خير للعباد بحسب الحال في النوع والثواب من الذاهبة وقرئ بقلب الهمزة ألفا أو مثلها أي فيما ذكر من النفع والثواب اه ما أردنا نقله وأيا ما يكن معنى الاستثناء في آية !< سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله >! 87 الأعلى 6 7 فإنه لا يفهم منه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نسي حرفا واحدا مما أمر بتلاوته وتبليغه(1/79)
للخلق وإبقاء التشريع على قراءته وقرآنيته من غير نسخ وذلك على أن المراد من النسيان المحو التام من الذاكرة أما إن أريد به غيبة الذهن عنه فقد سبق القول فيه قريبا ولا تحسبن أن دواعي سهو الرسول ونسيانه تنال من مقامه فإنه دواع شريفة على حد ما قيل ( ياسائلي عن رسول الله كيف سها % والسهو من كل قلب غافل لاهي ) ( سها عن كل شيء سره فسها % عما سوى الله فالتعظيم لله ) 3و4 وأما احتجاجهم الثالث والرابع بأن الصحابة قد حذفوا من القرآن عند جمعه ما رأوا المصلحة في حذفه ومنه آية المتعة وصيغة القنوت فهو احتجاج باطل قائم على إهمال النصوص الصحيحة المتضافرة على أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أحرص الناس على الاحتياط للقرآن وكانوا أيقظ الخلق في حراسة القرآن ولهذا لم يعتبروا من القرآن إلا ما ثبت بالتواتر وردوا كل مالم يثبت تواتره لأنه غير قطعي ويأبى عليهم دينهم وعقلهم أن يقولوا بقرآنية ما ليس بقطعي وقد سبق لك ما وضعوه من الدساتير المحكمة الرشيدة في كتابة الصحف على عهد أبي بكر وكتابة المصاحف على عهد عثمان فارجع إليها إن شئت لتعرف مدى إمعان هؤلاء المبطلين في التجني والضلال وإذا كان هؤلاء الطاعنون يريدون أن يلمزوا الصحابة ويعيبوهم بهذه الحيطة البالغة لكتاب الله حتى أسقطوا ما لم يتواتر وما لم يكن في العرضة الأخيرة وما نسخت تلاوته وكان يقرؤه من لم يبلغه النسخ نقول إذا كانوا يريدون أن يلمزوا الصحابة والقرآن بذلك فالأولى لهم أن يلمزوا أنفسهم وأن يواروا سوأتهم لأن المسلمين كانوا ولا يزالون أكرم على أنفسهم من أن يقولوا في كتاب الله بغير علم وأن ينسبوا إلى الله ما لم تقم عليه حجة قاطعة وأن يسلكوا بالقرآن مسلك الكتب المحرفة والأناجيل المبدلة وإننا نذكر هؤلاء بتلك الكلمة التي يرددونها هم وهي من كان بيته من زجاج فلا يرجمن الناس بالحجارة وكلمة الفصل في هذا الموضوع أن آية المتعة التي يزعمون وصيغة القنوت التي يحكمون لم يثبت قرآنيتهما حتى يكونا في عداد القرآن وإن ادعوا قرآنيتهما فعليهم البيان !< قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين >! 2 البقرة 111 قال صاحب الانتصار ما نصه إن كلام القنوت المروي أن أبي بن كعب أثبته في مصحفه لم تقم الحجة بأنه قرآن منزل بل هو ضرب من الدعاء وأنه لو كان قرآنا لنقل إلينا نقل القرآن وحصل العلم بصحته ثم قال ويمكن أن يكون منه كلام كان قرآنا منزلا ثم نسخ وأبيح الدعاء به وخلط بما ليس بقرآن ولم يصح ذلك عنه إنما روي عنه إنما روي عنه أنه أثبته في مصحفه وقد أثبت في مصحفه ما ليس بقرآن من دعاء أو تأويل ا ه وهذا الدعاء هو القنوت الذي أخذ به السادة الحنفية وبعضهم ذكر أن أبيا رضي الله عنه كتبه في مصحفه وسماه سورة الخلع والحفد لورود مادة هاتين الكلمتين فيه وقد عرفت توجيه ذلك والخلاصة أن بعض الصحابة الذين كانوا يكتبون القرآن لأنفسهم في مصحف أو مصاحف خاصة بهم ربما كتبوا فيها ما ليس بقرآن مما يكون تأويلا لبعض ما غمض عليهم من معاني القرآن أو مما يكون دعاء يجري مجرى أدعية القرآن في أنه يصح(1/80)
الإتيان به في الصلاة عند القنوت أو نحو ذلك وهم يعلمون أن ذلك كله ليس بقرآن ولكن ندرة أدوات الكتابة وكونهم يكتبون القرآن لأنفسهم وحدهم دون غيرهم هون عليهم ذلك لأنهم أمنوا على أنفسهم اللبس واشتباه القرآن بغيره فظن بعض قصار النظر أن كل ما كتبوه فيها إنما كتبوه على أنه قرآن مع أن الحقيقة ليست كذلك إنما هي ما علمت أضف إلى ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى عليه حين من الدهر نهى عن كتابة غير القرآن إذ يقول - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه مسلم لا تكتبوا عني ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه وذلك كله مخافة اللبس والخلط والاشتباه في القرآن الكريم
5 - وأما احتجاجهم الخامس بأن كثيرا من آيات القرآن لم يكن لها قيد سوى تحفظ الصحابة وقد قتل بعضهم وذهب معهم ما كانوا يتحفظونه فلا يسلم لهم لأن نفس ما كان يتحفظه الشهداء من القراء كان يتحفظه كثير غيرهم أيضا من الأحياء الذين لم يستشهدوا ولم يموتوا بدليل قول عمر وأخشى أن يموت القراء من سائر المواطن ومعنى هذا أن القراء لم يموتوا كلهم إنما المسألة مسألة خشية وخوف ومعلوم أن أبا بكر كان من الحفاظ وكذلك عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وغيرهم وهؤلاء عاشوا حتى جمع القرآن في الصحف وعاش منهم من عاش حتى نسخ في المصاحف وحينئذ فكتابة زيد ما كتبه هي كتابة لكل القرآن لم تفلت منه كلمة ولا حرف وكان القرآن كله مكتوبا كما سبق شرحه وبيانه حتى إن الصحابة في جمعه كانوا يستوثقون له بأن يعتمدوا على الحفظ والكتابة معا دون الاكتفاء بأحدهما وكانوا فيما يعتمدون عليه من الكتابة يتأكدون من أنه كتب بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويطلبون على ذلك شاهدين كما سلف إيضاحه 6 - وأما احتجاجهم السادس بأن ما كان مكتوبا من القرآن على العظام ونحوها كان غير منظم ولا مضبوط الخ فينقضه ما أثبتناه آنفا في جمع القرآن من أن ترتيب آياته كان توقيفيا وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يرشد كتاب الوحي أن يضعوا آية كذا في مكان كذا من سورة كذا وكان يقرئها أصحابه كذلك ويحفظها الجميع ويكتبها من ساء منهم لنفسه على هذا النحو حتى صار ترتيب القرآن وضبط آياته معروفا مستفيضا بين الصحابة حفظا وكتابة ووجدوا ما كتب عند الرسول من القرآن مرتب الآيات كذلك في كل رقعة أو عظمة وإن كانت العظام والرقاع منتشرة وكثيرة مبعثرة على أننا قررنا غير مرة أن التعويل كان على الحفظ والتلقي قبل كل شيء ولم يكن التعويل على المكتوب وحده فلا جرم كان في الحفظ والكتابة معا ضمان للنظام والترتيب والضبط والحصر وأما قولهم في هذا الاحتجاج وقد ضاع بعضها فيظهر أنهم استندوا في ذلك إلى ما ورد من أنه فقدت آية من آخر سورة براءة فلم يجدوها إلا عند خزيمة بن ثابت فظن هؤلاء أن هذا اعتراف منا بضياع شيء من مكتوب القرآن وليس الأمر كما فهموا بل المعنى أن الصحابة لم يجدوا تلك الآية مكتوبة إلا عند خزيمة بخلاف غيرها من الآيات فقد كانت مكتوبة عند عدة من الصحابة ومع ذلك فقد كان الصحابة يقرؤونها ويحفظونها ويعرفونها بدليل(1/81)
قولهم فقدت آية وإلا فما أدراهم أنها فقدت من الكتابة لو لم يحفظوها وأما قولهم في هذا الاحتجاج أيضا إن ضياع ذلك البعض دعا الصحابة إلى دعوى النسخ وهو من غريب المزاعم فهو قول أثيم أرادوا به الطعن على النسخ وإنكاره وسيأتيك الكلام على النسخ وحكمته ودفع الشبه عنه في مبحث خاص إن شاء الله 7 وأما احتجاجهم السابع بما نسبوه إلى الحجاج فهي نسبة كاذبة لا برهان لهم بها ولا دليل عليها وها هو التاريخ فليأتوا لنا منه بسلطان مبين على أن الحجاج جمع المصاحف فضلا عن أنه نقص منها أو زاد فيها ولو أنه فعل ذلك لنقل إلينا متواترا لأن هذا مما تتوافر الدواعي على نقله وتواتره وكيف يفعل ذلك والأمة كلها تقره وأئمة الدين الموجودون في عهده كالحسن البصري يسكتون ولا ينكرون ولا يدافعون ولا يستقتلون إن هذا إلا أختلاق ثم إن الحجاج كان عاملا من العمال على بعض أقطار الإسلام فأنى له أن يجمع المصاحف ويحرقها فيما عدا ولايته التي هو عامل عليها وإذا فرضنا أن الحجاج كان له من القوة والشوكة ما أسكت به كل الأمة في زمانه على هذا الخرق الواسع في الإسلام والقرآن فما الذي أسكت المسلمين بعد انقضاء عهد الحجاج وإذا كان الحجاج قد استطاع التحكم في المصاحف والتلاعب فيها بالزيادة والنقص فكيف استطاع أن يتحكم في قلوب الحفاظ وهم آلاف مؤلفة في ذلك العهد حتى يمحو منها ما شاء ويثبت ما أراد هذه دعاوى ساقطة تحمل أدلة سقوطها في ألفاظها وتدل على جرأة القوم وإغراقهم في الجهل والضلال !< ومن يضلل الله فما له من هاد >! 13 الرعد 33 نسأل الله السلامة بمنه وكرمه آمين الشبهة الثانية يقولون إن القرآن كما حصل فيه نقص عند الجمع حصلت فيه زيادة والدليل على ذلك إنكار ابن مسعود أن المعوذتين من القرآن وأن في القرآن ما هو من كلام أبي بكر وكلام عمر وننقض هذه الشبهة أولا بأن ابن مسعود لم يصح عنه هذا النقل الذي تمسكتم به من إنكاره كون المعوذتين من القرآن والمسألة مذكورة في كثير من كتب التفسير وعلوم القرآن مع تمحيصها والجواب عليها وخلاصة ما قالوه أن المسلمين أجمعوا على وجوب تواتر القرآن ويشكل على هذا ما نقل من إنكار ابن مسعود قرآنية الفاتحة والمعوذتين بل روي أنه حك من مصحفه المعوذتين زعما منه أنهما ليستا من القرآن وقد أجابوا عن ذلك بمنع صحة النقل قال النووي في شرح المهذب ما نصه أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن وأن من جحد شيئا منها كفر وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح ا ه وقال ابن حزم في كتاب القدح المعلى هذا كذب على ابن مسعود وموضوع بل صح عن ابن مسعود نفسه قراءة عاصم وفيها المعوذتان والفاتحة وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأهما في الصلاة زاد ابن حبان من وجه آخر عن عقبة بن عامر أيضا فإن استطعت ألا تفوتك قراءتهما في صلاة فافعل وأخرج أحمد من طريق أبي العلاء بن الشخير عن رجل من الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرأنا المعوذتين وقال له إذا أنت صليت فاقرأ بهما + وإسناده صحيح + ثانيا يحتمل أن إنكار ابن مسعود لقرآنية(1/82)
المعوذتين والفاتحة على فرض صحته كان قبل علمه بذلك فلما تبين له قرآنيتهما بعد تم التواتر وانعقد الإجماع على قرآنيتهما كان في مقدمة من آمن بأنهما من القرآن قال بعضهم يحتمل أن ابن مسعود لم يسمع المعوذتين من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تتواترا عنده فتوقف في أمرهما وإنما لم ينكر ذلك عليه لأنه كان بصدد البحث والنظر والواجب عليه التثبت في هذا الأمر ا ه ولعل هذا الجواب هو الذي تستريح إليه النفس لأن قراءة عاصم عن ابن مسعود ثبت فيها المعوذتان والفاتحة وهي صحيحة ونقلها عن ابن مسعود صحيح وكذل إنكار ابن مسعود للمعوذتين جاء من طريق صححه ابن حجر إذا فليحمل هذا الإنكار على أولى حالات ابن مسعود جمعا بين الروايتين وما يقال في نقل إنكاره قرآنية المعوذتين يقال في نقل إنكاره قرآنية الفاتحة بل نقل إنكاره قرآنية الفاتحة أدخل في البطلان وأغرق في الضلال باعتبار أن الفاتحة أم القرآن وأنها السبع المثاني التي تثنى وتكرر في كل ركعة من ركعات الصلاة على لسان كل مسلم ومسلمة فحاشى لابن مسعود أن يكون قد خفي عليه قرآنيتها فضلا عن إنكاره قرآنيتها وقصارى ما نقل عنه أنه لم يكتبها في مصحفه وهذا لا يدل على الإنكار قال ابن قتيبة ما نصه وأما إسقاطه الفاتحة من مصحفه فليس لظنه أنها ليست من القرآن معاذ الله ولكنه ذهب إلى أن القرآن إنما كتب وجمع بين اللوحين مخافة الشك والنسيان والزيادة والنقصان ا ه ومعنى هذا أن عدم كتابة ابن مسعود للفاتحة في مصحفه كان سببه وضوح أنها من القرآن وعدم الخوف عليها من الشك والنسيان والزيادة والنقصان ثالثا أننا إن سلمنا أن ابن مسعود أنكر المعوذتين وأنكر الفاتحة بل أنكر القرآن كله فإن إنكاره هذا لا يضرنا في شيء لأن هذا الإنكار لا ينقض تواتر القرآن ولا يرفع العلم القاطع بثبوته القائم على التواتر ولم يقل أحد في الدنيا إن من شرط التواتر والعلم اليقيني المبني عليه ألا يخالف فيه مخالف وإلا لأمكن من هدم كل تواتر وإبطال كل علم قام عليه بمجرد أن يخالف فيه مخالف ولو لم يكن في العير ولا في النفير قال ابن قتيبة في مشكل القرآن ظن ابن مسعود أن المعوذتين ليستا من القرآن لأنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ بهما الحسن والحسين فأقام على ظنه ولا نقول إنه أصاب في ذلك وأخطأ المهاجرون والأنصار ا ه
رابعا أن ما زعموه من أن آية !< وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل >! 3 آل عمران 144 الخ من كلام أبي بكر فهو زعم باطل لا يستند إلى دليل ولا شبه دليل وقد جاء في الروايات الصحيحة أنها نزلت في واقعة أحد لعتاب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما صدر منهم وأنها ليست من كلام أبي بكر وذلك أنه لما أصيب المسلمون في غزوة أحد بما أصيبوا به وكسرت رباعية النبي - صلى الله عليه وسلم - وشج وجهه الشريف وجحشت ركبته وشاع بين المقاتلة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قتل هنالك قال بعض المسلمين ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان وبعضهم جلسوا وألقوا بأيديهم وقال أناس من المنافقين إن كان محمد قد قتل فألحقوا بدينكم الأول فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك إن كان محمد قتل فإن(1/83)
رب محمد لم يقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه ثم قال اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء يعني المسلمين وأبرأ إليك مما قال هؤلاء يعني المنافقين ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل رضي الله عنه وروي أن أول من عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كعب بن مالك فقد ورد أنه قال عرفت عينيه تحت المغفرة تزهران فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه رضي الله عنهم ينافحون عنه ثم لام النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على الفرار فقالوا يا رسول الله فديناك بآبائنا وأبنائنا أتانا الخبر أنك قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين فأنزل الله تعالى هذه الآية !< وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا >! 3 آل عمران 144 الخ من سورة آل عمران والظاهر أن هؤلاء الطاعنين بزيادة هذه الآية وأنها من كلام أبي بكر يعتمدون فيما طعنوا على ما كان من عمر يوم وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن رد أبي بكر عليه بهذه الآية فزعموا أنها من كلام أبي بكر وما هي من كلام أبي بكر إنما هي من كلام رب العزة أنزلها قبل وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ببضع سنين والمسلمون جميعا ومنهم أبو بكر وعمر يحفظونها ويعرفونها غير أن منهم من ذهب عنها كعمر لهول الحادث وشدة الصدمة وتصدع قلبه بموت رسول الرحمة وهادي الأمة - صلى الله عليه وسلم - وكان من آثار ذلك أن عمر رضي الله عنه غفل عن هذه الآية يوم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام يومئذ وقال إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل مات والله ليرجعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات هنالك نهض أبو بكر ينقذ الموقف فقال على رسلك يا عمر أنصت فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم تلا هذه الآية !< وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل >! إلى آخرها قال الراوي فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ فأخذها الناس من أبي بكر وقال عمر ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات ا ه وهذه الآية كما ترى لا يشم منها رائحة أنها من كلام أبي بكر بلى هي تحمل في طيها أدلة كونها من كلام الله وأن الصحابة يعلمون أنها من كلام الله نزلت قبل أن ينزل بهم هذا الخطب الفادح ببضع سنين ولكن ما الحيلة فيمن أعماهم الهوى والتعصب !< فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور >! 22 الحج 46 خامسا أن ما ادعوه من أن آية !< واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى >! من كلام عمر مردود أيضا بمثل ما رددنا به زعمهم السابق في آية !< وما محمد إلا رسول >! الخ بل زعمهم هذا أظهر في البطلان لأن الثابت عن عمر أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - لو اتخذنا من مقام إبراهيم(1/84)
مصلى فنزلت !< واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى >! في سورة البقرة وهناك فرق بين كلمة عمر في تمنيه الذي هو سبب النزول وبين كلمة القرآن النازلة بذلك السبب فأنت ترى أن الآية جاء فيها الفعل بصيغة الأمر ولم يقرن بلفظ لو أما تمني عمر فجاء الفعل فيه بصيغة الماضي وقرن بلفظ لو وتحقيق القرآن أمنية أو أمنيات لعمر لا يدل على أن ما نزل تحقيقا لهذه التمنيات يعتبر من كلام عمر بل البعد بينهما شاسع والبون بعيد الشبهة الثالثة يزعم بعض غلاة الشيعة أن عثمان ومن قبله أبو بكر وعمر أيضا حرفوا القرآن وأسقطوا كثيرا من آياته وسوره ورووا عن هشام بن سالم من أبي عبد الله أن القرآن
الذي جاء به جبريل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - كان سبعة عشر ألف آية وروى محمد بن نصر عنه أنه قال كان في سورة لم يكن اسم سبعين رجلا من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم وروى محمد بن جهم الهلالي وغيره عن أبي عبد الله أن لفظ !< أمة هي أربى من أمة >! 16 النحل 92 في سورة النحل ليس كلام الله بل هو محرف عن موضعه وحقيقة المنزل أئمة هي أزكى من أئمتكم ومنهم من قال إن القرآن كانت فيه سورة تسمى سورة الولاية وأنها أسقطت بتمامها وأن أكثر سورة الأحزاب سقط إذ أنها كانت مثل سورة الأنعام فأسقطوا منها فضائل أهل البيت وكذلك ادعوا أن الصحابة أسقطوا لفظ ويلك من قبل !< لا تحزن إن الله معنا >! 9 التوبة 40 وأسقطوا لفظ عن ولاية علي من بعد !< وقفوهم إنهم مسؤولون >! 37 الصافات 24 وأسقطوا لفظ بعلي بن أبي طالب من بعد !< وكفى الله المؤمنين القتال >! 33 الأحزاب 25 وأسقطوا لفظ آل محمد من بعد !< وسيعلم الذين ظلموا >! 26 الشعراء 227 إلى غير ذلك فالقرآن الذي بأيدي المسلمين اليوم شرقا وغربا أشد تحريفا عند هؤلاء الشيعيين من التوراة والإنجيل وأضعف تأليفا منهما وأجمع للأباطيل !< قاتلهم الله أنى يؤفكون >! 9 التوبة 30 وننقض هذه الشبهة بما يأتي أولا أنها اتهامات مجردة عن السند والدليل وكانت لا تستحق الذكر لولا أن رددها بعض الملاحدة وربما يخدع بها بعض المفتونين ويكفي في بطلانها أنهم لم يستطيعوا ولن يستطيعوا أن يقيموا عليها برهانا ولا شبه برهان ( والدعاوى ما لم يقيموا عليها % بينات أبناؤها أدعياء ) ولكن هكذا شاءت حماقتهم وسفاهتهم !< ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء >! 22 الحج 18 ثانيا أن بعض علماء الشيعة أنفسهم تبرأ من هذا السخف ولم يطق أن يكون منسوبا إليهم وهو منهم فعزاه إلى بعض من الشيعة جمع بهم التفكير وغاب عنهم الصواب قال الطبرسي في مجمع البيان ما نصه أما الزيادة فيه أي القرآن فمجمع على بطلانها وأما النقصان فقد روي عن قوم من أصحابنا وقوم من الحشوية والصحيح خلافه وهو الذي نصره المرتضى واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء ا ه
وقال الطبرسي أيضا في مجمع البيان ما نصه أما الزيادة في القرآن فمجمع على بطلانها وأما النقصان فهو أشد استحالة ثم قال إن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام(1/85)
والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وحراسته وبلغت إلى حد لم يبلغه شيء فيما ذكرناه لأن القرآن مفخرة النبوة ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته فكيف يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية الصادقة والضبط الشديد ا ه ثالثا أن التواتر قد قام والإجماع قد انعقد على أن الموجود بين دفتي المصحف كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير ولا تبديل والتواتر طريق واضحة من طرق العلم والإجماع سبيل قويم من سبل الحق !< فماذا بعد الحق إلا الضلال >! 10 يونس 32 رابعا أن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو الذي يزعمون أنهم يناصرونه ويتشيعون له بهذه الهذيانات صح النقل عنه بتحبيذ جمع القرآن على عهد أبي بكر ثم عهد عثمان ولعلك لم تنس أنه قال في جمع أبي بكر ما نصه أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله وكذلك قال في جمع عثمان ما نصه يا معشر الناس اتقوا الله وإياكم والغلو في عثمان وقولكم حراق مصاحف فوالله ما حرقها إلا عن ملأ منا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوله لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان وبهذا قطع الإمام ألسنة أولئك المفترين ورد كيدهم في نحورهم مخذولين فأين يذهبون !< إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب >! 2 البقرة 166 !< ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب >! 3 آل عمران 8 خامسا أن الخلافة قد انتهت إلى علي كرم الله وجهه بعد أبي بكر وعمر وعثمان فماذا منعه أن يجهر وقتئذ بالحق في القرآن وأن يصحح للناس ما أخطأ فيه أسلافه على هذا الزعم والبهتان مع أنه الإمام المعصوم في عقيدة أولئك المبطلين ومع أنه كان من سادات حفظة القرآن ومن أشجع خلق الله في نصرة الدين والإسلام ولقد صار الأمر بعده إلى ابنه الحسن رضي الله عنه فماذا منعه الآخر من انتهاز هذه الفرصة كي يظهر حقيقة كتاب الله للأمة هذه مزاعم لا يقولها إلا مجنون ولا يصدق بها إلا مأفون
الشبهة الرابعة يقولون ورد أن عبد الله بن مسعود قال يا معشر المسلمين أعزل عن نسخ المصاحف ويتولاه رجل والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر ا ه قالوا وهو يعني بهذا الرجل زيد بن ثابت ويريد بذلك الكلام الطعن على جمع القرآن وهذا يدل بالتالي على أن القرآن الموجود بين أيدينا ليس موضع ثقة ولم يبلغ حد التواتر وننقض شبهتهم هذه أولا بأن كلام ابن مسعود هذا إذا صح لا يدل على الطعن في جمع القرآن إنما يدل على أنه كان يرى في نفسه أنه هو الأولى أن يسند إليه هذا الجمع لأنه كان يثق بنفسه أكثر من ثقته بزيد في هذا الباب وذلك لا ينافي أنه كان يرى في زيد أهلية وكفاية للنهوض بما أسند إليه وإن كان هو في نصر نفسه أكفأ وأجدر غير أن المسألة تقديرية ولا ريب أن تقدير أبي بكر(1/86)
وعمر وعثمان لزيد أصدق من تقدير ابن مسعود له كيف وقد عرفت فيما سبق مجموعة المؤهلات والمزايا التي توافرت فيه حتى جعلته الجدير بتنفيذ هذه الغاية السامية أضف إلى ذلك أن عثمان ضم إليه ثلاثة ثم كان هو وجمهور الصحابة مشرفين عليهم مراقبين لهم وناهيك في عثمان أنه كان من حفاظ ومعلمي القرآن وخلاصة هذا الجواب أن اعتراض ابن مسعود على فرض صحته كان منصبا على طريقة تأليف لجنة الجمع لا على صحة نفس الجمع مع أن كلمة ابن مسعود السالفة لا تدل على أكثر من أنه كان يكبر زيدا بزمن طويل إذ كان عبد الله مسلما وزيد لا يزال ضميرا مستترا في صلب أبيه وليس هذا بمطعن في زيد فكم ترك الأول للآخر ولو كان الأمر بالسن لاختل كثير من نظام الكون ثم إن كلمة ابن مسعود ربما يفهم منها الطعن في زيد من ناحية أن أباه كان كافرا ولكن هذا ليس بمطعن فكثير من أكابر الصحابة كانوا في مبدأ أمرهم كفارا وخرجوا من أصلاب آباء كافرين والله تعالى يقول !< ولا تزر وازرة وزر أخرى >! 6 الأنعام 164 ويقول !< قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف >! 8 الأنفال 38 ثانيا أننا إذا سلمنا صحة ما نقل عن ابن مسعود وسلمنا أنه أراد الطعن في صحة جمع القرآن لا نسلم أنه دام على هذا الطعن والإنكار بدليل ما صح عنه أنه رجع إلى ما في مصحف عثمان وحرق مصحفه في آخرة الأمر حين تبين له أن هذا هو الحق وبدليل ما صح عنه من قراءة عاصم عن زرعة وقد تقدم ثالثا أن كلام ابن مسعود هذا على تسليم صحته وأنه أراد به الطعن في صحة الجمع وأنه دام عليه ولم يرجع عنه لا نسلم أنه يدل على إبطال تواتر القرآن فإن التواتر كما أسلفنا يكفي في القطع بصحة مرويه أن ينقل عن جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب بشروطه وليس من شروطه ألا يخالف فيه مخالف حتى يقدح في تواتر القرآن أن يخالف فيه ابن مسعود أو غير ابن مسعود ما دام جم غفير من الصحابة قد أقروا جمع القرآن على هذا النحو في عهد أبي بكر مرة وفي عهد عثمان مرة أخرى
الشبهة الخامسة يقولون كيف يكون القرآن متواترا مع ما يروى عن زيد بن ثابت أنه قال في الجمع على عهد أبي بكر ما نصه فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع غيره وهما لقد جاءكم رسول إلى آخر السورة ثم كيف يكون القرآن متواترا مع ما يروى أيضا عن زيد بن ثابت أنه قال في الجمع على عهد عثمان ما نصه فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهادته بشهادة رجلين !< من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه >! 33 الأحزاب 23 والجواب على هذه الشبهة أولا أن كلام زيد بن ثابت هذا لا يبطل التواتر وبيان ذلك أن الآيتين ختام سورة التوبة لم تثبت قرآنيتهما بقول أبي خزيمة وحده بل ثبتت بأخبار كثرة غامرة من الصحابة عن حفظهم في صدورهم وإن لم يكونوا كتبوه في أوراقهم ومعنى(1/87)
قول زيد حتى وجدت من سورة التوبة آيتين لم أجدهما عند غيره أنه لم يجد الآيتين اللتين هما ختام سورة التوبة مكتوبتين عند أحد إلا عند أبي خزيمة فالذي انفرد به أبو خزيمة هو كتابتهما لا حفظهما وليس الكتابة شرطا في المتواتر بل المشروط فيه أن يرويه جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب ولو لم يكتبه واحد منهم فكتابة أبي خزيمة الأنصاري كانت توثقا واحتياطا فوق ما يطلبه التواتر ويقتضيه فكيف نقدح في التواتر بانفراده بها ثانيا يقال مثل ذلك فيما روي عن زيد في آية سورة الأحزاب !< من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه >! فإن معناه أن زيدا لم يجدها مكتوبة عند أحد إلا عند خزيمة بن ثابت الأنصاري ويدل على أن هذا هو المعنى الذي أراده زيد بعبارته تلك قول زيد نفسه فقدت آية من سورة الأحزاب الخ فإن تعبيره بلفظ فقدت يشعر بأنه كان يحفظ هذه الآية وأنها كانت معروفة له غير أنه فقد مكتوبها فلم يجده إلا مع خزيمة وإلا فمن الذي أنبأ زيدا أنه فقد آية
ثالثا أن كلام زيد فيما مضى من ختام التوبة وآية الأحزاب لا يدل على عدم تواترهما حتى على فرض أنه يريد انفراد أبي خزيمة وخزيمة بذكرهما من حفظهما غاية ما يدل عليه كلامه أنهما انفردا بذكرهما ابتداء ثم تذكر الصحابة ما ذكراه وكان هؤلاء الصحابة جمعا يؤمن تواطؤهم على الكذب فدونت تلك الآيات في الصحف والمصحف بعد قيام هذا التواتر فيها الشبهة السادسة يقولون كانت الآيات تكتب على الحجارة وسعف النخل والعظام خوفا عليها من الضياع وبقي جانب كبير منها محفوظا في صدور الرجال وقد نشأ عن ذلك عدة مشاكل يعتبرها الباحثون فيه كافية لإثبات كون القرآن الحالي لا يحتوي جميع الآيات التي نطق بها محمد وبعضها يختلف في القراءة واللفظ والمعنى ويقولون بعبارة أخرى إنه من المستحيل أن يكون القرآن الحالي حاويا لجميع ما أنزل إذ من المؤكد أنه ذهب منه جانب ليس بقليل وأنسي منه جانب آخر قال ابن عمر لا يقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله قد ذهب منه كثير ولكن ليقل قد أخذت ما ظهر منه فهذا يثبت ان القرآن الحالي لا يتضمن جميع ما كان مسطورا في اللوح المحفوظ ولا هو طبق ما نطقت به شفتا محمد سيما أن في آيات عديدة منه اختلافات مدهشة ولا يعلم نصها الصحيح أحد ا ه وننقض هذه الشبهة بما يأتي أولا أن كتابة القرآن على الحجارة والسعف والعظام وبقاء جانب كبير منه محفوظا في صدور الرجال لا يلزم منه مشكلة واحدة فضلا عن عدة مشاكل إنما هو وهم من الأوهام تخيلوه فخالوه وبدليل أنهم لم يذكروا سندهم فيما ذهبوا إليه من هذا الشطط ثانيا أن الحجارة وسعف النخل والعظام التي كتب عليها بعض آيات القرآن لم تكن بحيث يمكن أن يتخيل أولئك الطاعنون أو يخيلوا إلى الناس أنها لا تصلح للكتابة عليها بل كانت العرب لبداوتها ولبعدها عن وسائل الحضارة والعمران تصطفي من أنواع الحجارة الموفورة عندها نوعا رقيقا يكون كالصحيفة يصلح للكتابة وللبقاء أشبه بما نراه اليوم من الكتابة الجميلة المنقوشة على صفحات مصنوعة مما نسميه الجبس وكذلك(1/88)
سعف النخل يكشطون الخوص عنه ويكتبون في الجزء العريض منه بعد أن يصقلوه ويهذبوه فيكون أشبه بالصحيفة وقل مثل هذا في العظام بدليل أن الروايات الواردة في ذلك نصت على نوع خاص منه وهو عظام الأكتاف وذلك لأنها عريضة رقيقة ومصقولة صالحة للكتابة عليها بسهولة
ثالثا أن استنتاجهم من هذا كون القرآن الحالي لا يحتوي جميع الآيات التي نطق بها محمد استنتاج معكوس وفهم منكوس لأن كتابة القرآن وحفظه في آن واحد في صدور آلاف مؤلفة من الخلق أدعى إلى بقاء ذلك القرآن وأدل على أنه لم تفلت منه كلمة ولا حرف كيف وأحد الأمرين من الكتابة والحفظ كاف في هذه الثقة فما بالك إذا كان القرآن كله مكتوبا بخطوط أشخاص كثيرين ومحفوظا في صدور جماعات كثيرين رابعا قولهم وبعضها يختلف في القراءة واللفظ والمعنى إن أرادوا به الطعن في تعدد القراءات واختلاف وجوه الأداء فقد سبق في مبحث نزول القرآن على سبعة أحرف ما يكفيك في الرد عليهم وسيأتيك في مبحث القراءات ما يزيدك تنورا في هذا الموضوع وإن أرادوا به شيئا آخر فعليهم البيان وحسبك أن تعرف أن اختلاف حروف القرآن أمر تقتضيه الحكمة ويوجبه عموم الدعوة الإسلامية خصوصا لمن شافههم الرسول عليه الصلاة والسلام وهم على اختلاف قبائلهم وتنوع لهجاتهم وتباين وجوه نطقهم عرب تؤلف بينهم العروبة الواحدة ويجمعهم اللسان العربي العام فأي عيب على القرآن إذا اختلفت حروف أدائه وكيفيات النطق بكلماته ليسع القبائل العربية جميعا وليتسنى لها تلاوة ألفاظه وتفهم معانيه ولئلا يقول أحد منها لو جاء القرآن بلغتنا لكان لنا معه شأن ولأتينا بمثله وعارضنا بلاغته !< والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون >! 12 يوسف 21
خامسا قولهم إنه من المستحيل أن يكون القرآن الحالي حاويا لجميع ما أنزل الخ كلام مجرد من السند والحجة لا يستحق الرد فإن استندوا فيه إلى ما سبق فقد استندوا إلى أوهن من بيت العنكبوت وقد عرفت وجوه الوهن التي فيه وإن استندوا إلى ما ذكروه بعد مما نسبوه لابن عمر فقد زادوا الطين بلة لأن هذه النسبة إلى ابن عمر نسبة خاطئة كاذبة وعلى فرض صحتها فهي موقوفة وليست بمرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى فرض رفعها فهي معارضة للأدلة القاطعة المتوافرة في تواتر القرآن وسلامته من التغيير والزيادة والنقصان ومعارض القاطع ساقط مهما كانت قيمة سنده في خبر الواحد سادسا أن نهايتهم التي ختموا بها هذه الشبهة أقبح من بدايتهم لأنهم رتبوها على تلك الأكاذيب والمهاترات ثم زادوا فيها اتهاما جديدا مجردا من السند والحجة أيضا وهو أن في آيات عديدة من القرآن اختلافات مدهشة ولا يعلم نصها الصحيح أحد وهكذا خرجوا من اتهام إلى اتهام واحتجوا بكذب على كذب وهانت عليهم كرامتهم وعقولهم فقالوا ما شاء لهم الهوى والتعصب إلى هذا الحد وأنت خبير بأن القرآن الحالي وصل إلينا محفوظا من كل عبث كما نطق به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكما خطه الله تعالى بقلمه في لوحه !< وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه(1/89)
الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد >! 41 فصلت 41 ، 42 أما زعمهم أن فيه اختلافات مدهشة فقد علمت في مبحث نزول القرآن على سبعة أحرف مدى اختلاف وجوه القراءات وحكمته وأنه لا يؤدي إلى تخاذل وتناقض حتى يكون مدهشا وأما نصوص القرآن الصحيحة فقد علمها وحفظها جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب في كل طبقة من طبقات الأمة من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليوم فادعاء هؤلاء الجهلة الدجالين أنه لا يعلم نصوص القرآن الصحيحة أحد ادعاء مفضوح وكذب مكشوف قال صاحب مسلم الثبوت وهو من أشهر الكتب في أصول الفقه الإسلامي ما نقل آحادا فليس بقرآن قطعا ولم يعرف في هذا خلاف لواحد من أهل المذاهب والدليل على ذلك أن القرآن مما تتوافر الدواعي على نقله لتضمنه التحدي ولأنه أصل الأحكام باعتبار المعنى واللفظ جميعا ولذلك علم جهد الصحابة في حفظه بالتواتر القاطع وكل ما تتوافر الدواعي على نقله ينقل متواترا عادة فوجوده ملزوم التواتر عند الكل عادة فإذا انتفى اللازم وهو التواتر انتفى الملزوم قطعا والمنقول آحادا ليس متواترا فليس قرآنا ا ه بتصرف قليل خط منيع من خطوط الدفاع عن الكتاب والسنة أو الدواعي والعوامل التي توافرت في الصحابة حتى استظهروا القرآن والحديث النبوي وتثبتوا فيهما إن الناظر في الشبهات السالفة وأمثالها يبدو له في وضوح أن القوم يحاولون الطعن في القرآن عن طريق النيل من الصحابة فطورا يقولون إن الصحابة حين جمع القرآن لم يكونوا يستظهرونه وإن الذين استظهروه منهم ماتوا قبل جمعه واستشهدوا وطورا يقولون إن الصحابة لم يتثبتوا في جمع القرآن بل حطبوا فيه بليل وزادوا فيه ونقصوا منه ما شاؤوا وقد كثرت هجمات أعداء الإسلام من هذه الناحية كثرة فاحشة بحيث إذا استقصينا شبهاتهم كلها ضاق بنا نطاق هذا التأليف وخرجنا جملة من الجو العلمي الهادىء اللذيذ إلى ميدان صاخب بالقيل والقال والصيال والجدال والدفاع والنضال (1)
================
__________
(1) - مناهل العرفان للزرقاني - (1 / 286) فما بعدها(1/90)
المبحث الخامس
معرفة أسباب النزول
1- تعريف سبب النزول:
هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه أو مبينة لحكمه أيام وقوعه كحادثة وقعت، أو سؤالٍ وجه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
والمراد بأيام وقوعه: أن تنزل بعده مباشرة، أو بعد ذلك بقليل، وإذ كان بحثنا عن أسباب النزول خاصة، فإننا لن نعرض لما أنزله الله ابتداء غير مبني على سبب من سؤال أو حادثة، كأكثر الآيات المشتملة على قصص الأمم الغابرة مع أنبيائها، أو وصف بعض الوقائع الماضية أو الأخبارية الغيبية المستقبلة، أو تصوير قيام الساعة أو مشاهد القيامة أو أحوال النعيم والعذاب، وهي في القرآن كثيرة أنزلها الله لهداية الخلق إلى الصراط المستقيم، وجعلها مرتبطة بالسياق القرآني سابقة ولاحقة، من غير أن تكون إجابة عن سؤال أو بيانا لحكم شيء وقع. قال السيوطي: "والذي يتحرر في سبب النزول أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه، ليخرج ما ذكره الواحدي في تفسيره في سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم الحبشة به، فإن ذلك ليس من أسباب النزول في شيء، بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية، كذكر قصة نوح وعاد وثمود وبناء البيت ونحو ذلك، وكذلك ذكره في قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} سبب اتخاذه خليلا، فليس ذلك من أسباب النزول كما لا يخفى" (1) ..
وهذا التعريف الذي اصطلحنا عليه يستلزم قسمة ثنائية لآيات القرآن، لبعضها علاقة بأسباب النزول، وليس لبعضها الآخر أية علاقة بهذه الأسباب, فما نقل عن علي وابن مسعود وغيرهما من علماء الصحابة من أنه "لم تنزل آية إلا علم أحدهم فيما نزلت، وفيمن نزلت, وأين نزلت" (2) ينبغي ألا تؤخذ بمعناه الحرفي حتى ولو أقسم أحدهم على هذا (3) ، فإما أنهم يريدون به -على طريقة العرب في المبالغة- تأكيد عنايتهم بهذا الكتاب الكريم، وتتبعهم كل أمر يتصل به، وإما
__________
(1) - الإتقان 1/ 53.
(2) - الإتقان 1/ 222.
(3) - وذلك ما نقلوه عنهم حقا، فعلي كرم الله وجهه يقسم -كما رووا عنه- قائلا: "والله ما نزلت آية إلا وأنا أعلم فيم نزلت". ومثله قسم عبد الله بن مسعود، وإن كان ابن مسعود: يقول: "فيمن نزلت"، فاجتمع من قسميهما كليهما العلم بنزول الآيات في الأشخاص.(1/91)
أنهم يحسنون الظن بما سمعوه وشهدوه في عهد الرسول الكريم، ويودون لو أخذ الناس عنهم كل ما يعرفون حتى لا يذهب العلم بذهابهم وإن كان محتملا عقلا أن يكون أحدهم فاته أن يعرف بنفسه معرفة شخصية سبب نزول آية ما، ولم يتيسر له أن يعرفها إلا من صحابي آخر، لكنه عد معرفته لها -ولو بالواسطة- علما بها كعلمه بكل ما سمعه بأذنه مباشرة من غير وسيط، وإما أن الرواة تزيدوا في نقل هذا عنهم وعزوه إليهم، فإن في عبارتهم نفسها ضربا من التفاخر بالعلم يصعب علينا تصديق صدوره عنهم وهم الذين ضربت الأمثال بتواضعهم الجم وأدبهم الرفيع في الورع والإحجام عن التفيا في الدين.
هذا، وقد عرفنا الصحابة منصرفين إلى تلقي القرآن, مشغولين بجمعه في الصدور والسطور، وكان كتاب الله يستغرق جل أوقاتهم، كما يملك عليهم كل مشاعرهم, وكان الوحي ينزل على نبيهم في كل لحظة أو يمكن على الأقل أن ينزل في أي لحظة بالآية والآيات بعد الواقعة أو الواقعات، فأنى لأولئك الصحابة الوقت لمتابعة سبب كل آية! وكيف يتيسر للواحد منهم أن يشهد بنفسه نزول كل آية، وأن يكون دائما في المكان أو الزمان اللذين نزلت في نطاقهما الآيات! وإذا اندفع بعضهم إلى حفظ كل ما سمعه أو تقييده، فهل يجب أن يكون كل ما حفظه وعلمه متناولا كل ما يجب أن يحفظ أو يعلم من أسباب النزول؟.
إن المنطق السليم ليحكم بأن أحدهم إنما كان يتكلم على معرفته الدقيقة بما تيسر له سماعه بنفسه, ولكننا لا نستبعد أن يكون هو نفسه جاهلا بعض هاتيك الأسباب، مثلما لا نستبعد أن يكون العلماء بالقرآن قد جهلوا الكثير من هذه الأسباب، وأنه كلما امتد بالناس الزمان ازداد جهلهم بها لبعدهم عن الينبوع الصافي النمير، لذلك كان علماء السلف الصالح يتشددون كثيرا في الروايات المتعلقة بأسباب النزول، وكان تشددهم يتناول أشخاص رواتها وأسانيدها ومتونها. فأما الأشخاص فما كان أشد ورعهم إذ يستفتون في أسباب النزول! هذا محمد بن سيرين يقول: سألت عبيدة عن آية من القرآن فقال: "اتق الله وقل سدادًا، ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن" (1) . ولكن هذا الورع لم يكن ليمنعهم من قبول أخبار الصحابة في مثل هذه الموضوعات، وحجتهم في هذا لا تقبل الجدل، فهم يرون "أن قول الصحابي فيما لا مجال للرأي والاجتهاد فيه، بل عمدته لنقل والسماع، محمول
__________
(1) - الإتقان 1/ 52.(1/92)
على سماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأنه يبعد جدا أن يقول ذلك من تلقاء نفسه" (1) . ولذلك قرر ابن الصلاح والحاكم وغيرهما في علوم الحديث أن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل إذا أخبر عن آية أنها أنزلت في كذا فإنه حديث مسند، له حكم المرفوع (2) .
وليس من الرواية الصحيحة في هذا المجال قول التابعي إلا إذا اعتضد بمرسل آخر رواه أحد أئمة التفسير الذين ثبت أخذهم عن الصحابة كعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وسعيد بن المسيب والضحاك (3) .
وبقبول خبر الصحابي الذي شهد التنزيل، والتابعي الذي أخذ عنه الصحابي، فهم أن الغرض من اشتراط صحة الرواية التحقق من وقوع المشاهدة أو السماع للحادثة أو السؤال الذي كان سبب نزول شيء من القرآن.
ولعل التحقق من هذه الوقائع جميعا هو الذي حمل العلماء على أن يحصروا الوسيلة لمعرفة سبب النزول في الرواية الصحيحة، مستبعدين فيها كل محاولة شخصية لإبداء الرأي أو الاجتهاد في مثل هذا الموضوع. وإلى هذا أشار الواحدي بقوله: "ولا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب, وبحثوا عن علمها وجدوا في الطلاب" (4) . ثم عرض الواحدي بعد ذلك صورة من تحرج السلف الصالح في القول بأسباب النزول مخافة الكذب على القرآن بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثم أخذ على العلماء في زمانه تساهلهم في رواية هذه الأسباب، كأنهم لا يلقون بالا إلى الوعيد الذي أنذر الله به كل من افترى على الله كذبا، فقال مستاء متألما: "وأما اليوم فكل أحد يخترع شيئا، ويختلق إفكا وكذبا, ملقيًا زمامه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد للجاهل بسبب الآية" (5) !
__________
(1) - منهج العرفان، لمحمد علي سلامة، ص39. "انظر الإتقان 1/ ص52".
(2) - معرفة سبب النزول أمر يحصل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا، وربما لم يجزم بعضهم فقال: "أحسب هذه الآية نزلت في كذا" كما أخرجه الأئمة الستة عن عبد الله بن الزبير قال: خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرة, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "اسق يا زبير, ثم أرسل الماء إلى جارك"، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلون وجهه، الحديث. قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} "الإتقان 1/ 52". وانظر أيضا "الإتقان 1/ 229". والشراج جمع شرج، وهو مسيل ماء من الحرة إلى السهل.
(3) - الإتقان 1/ 553.
(4) - أسباب النزول "للواحدي" ص3-4.
(5) - نفسه ص4.(1/93)
ولقد تعرضت تصانيف القدامى أنفسهم في أسباب النزول للنقد الشديد، رغم ما اتسم به مؤلفوها من الورع البالغ والحذر العلمي الأمين، فلن يكون نقد ما نقوله اليوم إلا أشد وأقسى، ولن يكون المأخذ علينا إلا أمرَّ وأنكى!
وحسبك أن السيوطي-بعد أن ذكر الذين أفردوا هذا العلم بالتصنيف (1) - ما لبث أن عرض بما في كتاب "الواحدي" من "إعواز" (2) ، ثم عرض باختصار الجعبري لهذا الكتاب و"حذفه أسانيده من غير أن يزيد عليه شيئا"، وأخبر بعد ذلك بأن شيخ الإسلام أبا الفضل بن حجر ألف في أسباب النزول "كتابا مات عنه مسودة، فلم يتيسر للسيوطي أن يقف عليه كاملا" ومع أن عبارته تشي بأنه وقف على شيء منه أو على المسودة كلها التي مات أبو الفضل عنها لم يشر قط إلى إعجابه بصنيعه ورضاه عنه، بل أوشك أن يكون إلى نقده أقرب حين جعل صنيعه وصنائع السابقين كلهم في كفة، وصنيعه هو -أعني السيوطي- في كفة أخرى في "كتابه الحافل الموجز المحرر الذي لم يؤلف مثله في هذا النوع"، وهو المسمى "لباب النقول, في أسباب النزول!" (3) .
وربما لم يكن لافتخار السيوطي بكتابه كبير قيمة في نظرنا، فقد ألفنا في الأعصر المتأخرة هذه النغمة المزهوة الفخور تتردد في مواطن شتى من كتب أولئك العلماء الجماعين، وألفنا بصورة خاصة هذه النغمة غير المحببة في كتب لسيوطي نفسه رحمه الله وغفر له، ولكن يعنينا من لهجة الفخر هذه ما توحي به من إعواز الكتب القديمة حقا، فلولا نقص فيها حال دون وفائها بهذا العلم العظيم لما آنس السيوطي وغيره جراءة على رميها بالضعف والإعواز.
وليت ذلك الإعواز كان موطن الضعف الوحيد في هاتيك التصانيف: إنها لتعج حتى بالأخطاء التاريخية, والمغالطات المنطقية، والمبالغات العجيبة، والغرائب النادرة!
يقرأ الواحدي مثلا قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}( سورة البقرة 114 )، فلا يستنتج منه أنه وعيد عام مطلق للذين يستهينون بالمعابد، ويعطلون الشعائر، وينتهكون الحرمات، ويسعون في خراب بيوت الله، بل يقع في خطأ تاريخي فاحش لو كان متعلقا بشخصه هو لهان أمره, ولكنه يحمله حملا على نص في كتاب الله، وما كان
__________
(1) - وقد عد السيوطي أقدمهم في هذا الباب علي ابن المديني شيخ البخاري. الإتقان 1/ 48.
(2) - الإتقان 1/ 48. قلت نصف الكتاب بلا سند والنصف الآخر فيه الصحيح والحسن والضعيف والمنكر والهاي ، بل والموضوع !!
(3) - الإتقان 1/ 48. وقد طبع "لباب النقول" ببولاق سنة 1280هـ، بهامش "تفسير الجلالين".(1/94)
له ولا لغيره أن يحملوا على القرآن خطأ من أخطائهم: فمن عجب أن الواحدي لم يتحرج هنا من أن يذكر رأي قتادة الذي قال: إن الآية نزلت في بختنصر البابلي وأصحابه, فقد غزوا اليهود، وخربوا بيت المقدس، وأعانتهم على ذلك النصارى من الروم (1) ، فيذكر اتحاد النصارى مع بختنصر على تخريب بيت المقدس مع أن حادثة بختنصر هذا وقعت قبل ميلاد المسيح بستمائة وثلاث وثلاثين سنة (2) .
ويغتفر للواحدي هذا الخطأ لأمرين: أما أحدهما فهو أنه لم يكن معدودًا بين المؤرخين, وأما الآخر فهو أنه لم يختر رأي قتادة بل اكتفى بذكره من غير تعليق عليه كأنه لا يرى فيه بأسًا، وإن كان قد ذكر قبله تأويلا وبعده تفسيرا، وجاء كلا الأمرين الآخرين محتملا، ففي التأويل الأول قول ابن عباس من رواية الكلبي: "نزلت الآية في طيطوس (3) الرومي وأصحابه من النصارى، وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتلتهم، وسبوا ذراريهم، وحرقوا التوارة, وخربوا بيت المقدس، وقذفوا فيه الجيف" ولا مانع من هذا التأويل في نظر المؤرخين لأن دخول طيطوس بيت المقدس وتخريبها وقع بعد المسيح بسبعين سنة. وفي التفسير الآخير قول ابن عباس أيضا ولكن من رواية عطاء (4) : "نزلت في مشركي أهل مكة، ومنعهم المسلمين من ذكر الله تعالى في المسجد الحرام"، وابن عباس يشير بهذا إلى قصة عمرة الحديبية، وربما بدا هذا التأويل للوهلة الأولى أقرب إلى السياق القرآني والتاريخي، أو ربما بدا على الأقل أكثر احتمالا من حادثة طيطوس, إذ طال على هذه الأمد فلا مناسبة لأن تكون هي المقصودة بالآية، ولكن يعترض على هذا التأويل بأن مشركي العرب عمروا المسجد الحرام في جاهليتهم، وعدوه مناط عزهم وفخرهم، وما سعوا في خرابه قط، فلا تقصدهم الآية إلا في ناحية واحدة: وهي منعهم النبي وأصحابه من دخول مكة في عمرة الحديبية (5) .
__________
(1) - أسباب النزول للواحدي 24
(2) - قارن بتفسير المنار 1/ 431.
(3) - وردت في مطبوعة "أسباب النزول ص24" ططلوس، صوابها ما أثبتناه, ومنهم من يسميه "تيتوس" بتاءين بدلا من الطاءين.
(4) - لا بد أن يلاحظ هنا كيف تضاربت روايتان كلتاهما عن ابن عباس، إلا أن أحداهما من طريق الكلبي والأخرى من طريق عطاء! ومن عجب أن ابن عباس نفسه يرى الآية نازلة تارة في الرومان وتارة في العرب!. ولكن رواية الكلبي لا يعول عليها لأنه كذاب
(5) - ومن هنا رأى الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسير المنار 1/ 431 أنه يصح أن تكون الآية في الأمرين على التوزيع, فالذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه هم مشركو مكة والذين سعوا في خرابها هم مشركو الرومانيين, وفي قرن العملين إشارة إلى تساويهما في القبح!.(1/95)
وحتى الخطأ الفاحش الذي ارتكبه الواحدي -جهلا بحوادث التاريخ- يمكن التماس العذر له فيه بحمل قوله على أدرينال الروماني الذي سماه اليهود "بختنصر الثاني" وقد جاء بعد المسيح بمائة وثلاثين سنة، وبنى مدينة على أطلال أورشليم وزينها وجعل فيها الحمامات، وبنى هيكلا للمشتري على أطلال هيكل سليمان، وحرم على اليهود دخول المدينة، وجعل جزاء من يدخلها القتل (1) .
وإن التمسنا للواحدي مثل هذا العذر، فأي عذر لابن جرير الطبري المفسر المؤرخ الذي لم يكتف بذكر حادثة بختنصر كما فعل الواحدي، بل اختارها من بين طائفة من الأقوال كعادته، فصرح قائلا: "وأولى التأويلات التي ذكرتها بتأويل الآية قول من قال: عنى الله عز وجل بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} النصارى، وذلك أنهم هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس، وأعانوا بختنصر على ذلك, ومنعوا مؤمني بني إسرائيل من الصلاة فيه بعد منصرف بختنصر عنهم إلى بلاده" ؟! (2) .
ما بال ابن جرير يرجح هذا القول ويختاره وهو المؤرخ الحجة الحافظ؟ ألنا على الصعيد العلمي أن نحمل قوله على بختنصر الثاني دفاعا عنه وتحيزا إليه أم نسلم بالخطأ التاريخي يقع به أكابر العلماء وأوثق الحافظين؟
ولو استعرضنا نظائر هذه الأخطاء التاريخية التي حملت حملا على أسباب النزول, وأنطقت القرآن بما لم ينطق، لطال بنا الاستعراض، وامتد بنا التجوال, وإنما ننتهزها فرصة لنضع أيدينا على السر الكامن وراء هذه الأخطاء، فهو في نظرنا ظن أكثر العلماء أن لا بد لكل آية من سبب نزول حتى في وقائع الأمم الماضية التي دفنت معها أسبابها ونتائجها, وطويت في رموسها مقدماتها وعواقبها، فإن كان لزاما التماس سبب نزول لها فليكن متعلقا بالأحياء على عهد الرسول الكريم، سواء أكانوا من المؤمنين أم من المشركين أم من أهل الكتاب.
فبدلا من أن يقال في الآية التي نحن فيها: إن سبب نزولها دخول بختنصر أو طيطوس بيت المقدس لتخريبه، تلقى نظرة فاحصة على السياق القرآني قبلها فيلاحظ أنه كان خطابا لأهل الكتاب عامة ومن على شاكلتهم وأنه بالضرورة ما يبرح خطابا لهم ولأمثالهم, يستنكر كل حادثة تنتهك فيها حرمات المعابد سواء أوقعت في عهدهم أم في عهد أسلافهم، وسواء أصدرت عنهم أم
__________
(1) - تفسير المنار 1/ 431.
(2) - تفسير الطبري 1/ 397. ومن العجيب أن ابن جرير يستدل على صحة ما ذكره بعبارة طويلة لا مجال لنقلها هنا، فيراجعها القارئ إن شاء 1/ 398.(1/96)
عن غيرهم، وسواء أوقعت حقا أو سوف تقع أم يمكن أن تقع، فخطابهم بالآية لا يرمي إلى تعيين الأشخاص أو الأمكنة أو الأزمنة، وإنما يتناول وعيدا شديدا لكل من تحدثه نفسه بتخريب المعابد في أي زمان أو مكان!
وإيثار مثل هذا التأويل ينقذ المفسر من الخبط الأعمى في أسباب النزول، ويفرد في القرآن سورا وآيات نزلت ابتداء غير مبنية على سبب، وكان المنطق نفسه يقضي بأن تتنزل هكذا ابتداء من غير أسباب، أو كان المنطق يقضي بأن يكون لها سبب عام لا ينبغي أن يعد سببا حقيقيا: كقصة موسى التي تكررت في مواطن مختلفة من القرآن بصور شتى، فإنها نزلت ابتداء غير مبنية على أسباب، ومن أبى إلا أن يلتمس لها أسبابا ردها جميعا إلى سبب واحد عام هو تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - وتثبيت فؤاده في غمرة الشدائد التي كان يلقاها من قومه الجفاة العتاة، لكن الآيات التي صورت قصة موسى -وقد نزلت في غير زمن صاحبها- يقال: إنها نزلت لتسلية محمد - صلى الله عليه وسلم - لنزولها في زمانه، ولا يقال: إنها نزلت في موسى وقومه, لأنها تنزلت بعد إسدال الستار على تلك القصة بقرون وأجيال!.
وإذا غضضنا النظر عن بعض هذا الخلط غير المقصود الناشئ من مبالغة المفسرين بإدراج الواقائع الماضية في أسباب النزول, واجهنا عقبات أخرى في صيغ الروايات المتعلقة بهذه الأسباب، فليست عبارة الراوي الصحيحة نصا في بيان سبب النزول في جميع الأحوال، بل فيها النص الواضح, وفيها ما يحتمل السبب وسواه، فإذا صرح الراوي بلفظ السبب فقال: "سبب نزول هذه الآية كذا"، أو أتى بفاء تعقيبية داخلة على مادة نزول الآية بعد سرده حادثة ما أو ذكره سؤالا طرح على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "حدث كذا أو سئل عليه الصلاة والسلام عن كذا فنزلت آية كذا" فذلك نص واضح في السببية. وأما إذا اكتفى بقوله "نزلت هذه الآية في كذا" فإن العبارة تحتمل مع السببية شيئا آخر هو ما تضمنته الآية من الأحكام . (1)
وقال دروزة :
" إن هناك روايات كثيرة في أسباب النزول ومناسباته وقد حشرت في كثير من كتب التفسير التي كتبت في مختلف الأدوار لا تثبت على النقد والتمحيص طويلا ، سواء بسبب ما فيها من تعدد وتناقض ومغايرة أو من عدم الاتساق مع روح الآيات التي وردت فيها وسياقها بل ونصوصها
__________
(1) - انظر مباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح(1/97)
أحيانا ، ومع آيات أخرى متصلة بموضوعها أو موضحة لها أو عاطفة عليها ، حتى أن الناقد البصير ليرى في كثير من هذه الروايات أثر ما كان من القرون الإسلامية الثلاثة الأولى من خلافات سياسية ومذهبية وعنصرية وفقهية وكلامية قوي البروز ، وحتى ليقع في نفسه أن كثيرا منها منحول أو مدسوس أو محرف عن سوء نية وقصد تشويش وتشويه ودعاية ونكاية وحجاج وتشهير ، أو قصد تأييد رأي على رأي ، وشيعة على شيعة.
والمتبادر أنه لما كان عهد التدوين الذي راجت فيه الرواية تلقف المدونون من الأفواه الغثّ والسمين والصحيح والفاسد والمعقول وغير المعقول والملفق والمنحول والمحرف فدونوه وتناقلوه ، وجعله المفسرون القديمون من عمد تفسيرهم ، بل كان وظلّ الركن الأقوى والأوسع في التفسير ، فكان هذا التساهل من جانب المدونين أولا والمفسرين المتقدمين ثانيا باعثا على تسلسل الدور وانتقال الروايات من عهد إلى عهد من دون تحفظ أو تمحيص إلا قليلا حتى صارت كأنها قضايا مسلّمة أو نصوص نقلية يجب الوقوف عندها والتقيد بها أو التوفيق بينها إلخ ، وأدى هذا إلى الوقوع في أخطاء وتشويشات ومفارقات كثيرة ، سواء كان في صدد السيرة النبوية وأحداثها أو ظروف ما قبل البعثة ، أو المفهومات والدلالات والأحكام القرآنية. ولقد كان هذا في أحيان كثيرة مستندا من مستندات أعداء العرب والإسلام المتعقبين للثغرات فيهم ، فتمسكوا بكثير من الروايات الواردة في التفسير مع ما هي عليه من وهن وتهافت فأساؤوا فهم القرآن وخلطوا فيه عن عمد أو غير عمد ، شأنهم في ذلك شأنهم في التمسك بكثير من الروايات الواردة عن السيرة النبوية والبيئة النبوية وظروفها وما بعدها من أحداث الحركة الإسلامية وظروفها وتاريخها. والأمثلة على ذلك كثيرة جدا " (1)
2- الأمثلة:
(أ) ما نزل بعد حادثة. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) صَعِدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِى « يَا بَنِى فِهْرٍ ، يَا بَنِى عَدِىٍّ » . لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ « أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِى تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِىَّ » . قَالُوا نَعَمْ ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا . قَالَ « فَإِنِّى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » . فَقَالَ أَبُو
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 205)(1/98)
لَهَبٍ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ ( تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ) (1) .
(ب) ومن أمثلة ما نزل جواباً لسؤال سئل عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: {ويسألونك عَن الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِىّ لاَ يُجَلِيهَا لوقتها إِلاَّ هُوَ} [4] قيل نزلت في قريش وقيل في نفر من اليهود والأول أشبه لأن الآية مكية وكانوا يسألون عن وقت الساعة استبعاداً لوقوعها وتكذيباً بوجودها (2) .
فوائد معرفة سبب النزول :
لمعرفة سبب النزول فوائد كثيرة منها:
1- الاستعانة بسبب النزول على الوقوف على مرام الآيات ودفع الإِشكال عنها وإدراك سرها.
2- دفع توهم الحصر عما يفيد بظاهره الحصر.
3- معرفة الحكمة التي من أجلها شرع الحكم.
4- تسهيل الحفظ وتيسير الفهم وتثبيت الوحي في ذهن كل من يسمع الآية إذا عرف سببها.
معرفة اسم من نزلت فيه الآية، وتعين المبهم حتى لا يشتبه بغيره فيتهم البريء، ويبرأ المريب مثلاً (3)
ذلك بأننا من القرآن -إذا أردنا تدبره حقا- تلقاء شيء أسمى من "علم التفسير": فما تحل أقوال المفسرين كل عقدة, وما تزيح كل شبهة, ولا تفصل كل إجمال.
ونحن من القرآن أيضا إزاء شيء فوق اللغة وقواعدها وآدابها، فإن ظلال التعبير في القرآن، وإيحاءات المفردات في آياته، وألوان التصاوير في قصصه ولوحاته، لترتبط أوثق الارتباط بالوقائع الحية، والأحداث النواطق، والمشاهد الشواخص، كأن أبطالها ما انفكوا على مسرح الحياة يغدون ويروحون، فأنى للشروح اللغوية الجامدة والاصطلاحات البلاغية الجافة أن تستطلع في الوقائع يقين أخبارها، أو تستبطن من الأحداث خفي أسرارها، وهي أعيا من أن ترجع في الآذان أصداءها الحلوة العذاب؟
__________
(1) - صحيح البخارى(4770 ) -تب : خسر
(2) - تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/282) .
(3) - في رحاب القرآن د/ المحيسن(2/ 30- 36) . بتصرف.(1/99)
ونحن من القرآن -آخر الأمر- أمام شيء فوق التاريخ نفسه، فإن وقفنا على سبب النزول التاريخي لم نكن قد تقصينا كل شيء، فما أكذب التاريخ وما أكذب المؤرخين على لسانه! وكأين في التاريخ من فجوات ينبغي أن تملأ وثغرات لا بد أن تسد أما أسباب النزول -من وجهة النظر الدينية- فليس لنا فيها إلا أن نستوحي الواقع لا صورته, والإنسان لا شبيهه، والحق لا صداه، فهل من عجب إذا حرم العلماء المحققون الإقدام على تفسير الكتاب الله لمن جهل أسباب النزول؟ (1) وهل بالغ الواحدي حين قال: "لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها!" (2) .
وإن التعبير عن سبب النزول بـ"القصة" لينم عن ذوق رفيع، ويكاد يشي هنا بالغاية الفنية إلى جانب الغرض الديني النبيل: فما سبب النزول إلا قصة تستمد من الواقع عرضها وحلها، وعقدتها وحبكتها، وأشخاصها وأحداثها، وتجعل آيات القرآن تتلى في كل زمان ومكان بشغف وولوع، وتطرد السآمة عن جميع القارئين بما توالي عرضه من حكايات أمثالهم وأقاصيص أسلافهم، كأنها حكاياتهم هم إذ يرتلون آيات الله، أو أقاصيصهم هم ساعة يطربون لألحان السماء!.
ومن أجل هذا كان جهل الناس بأسباب النزول كثيرًا ما يوقعهم في اللبس والإبهام, فيفهمون الآيات على غير وجهها، ولا يصيبون الحكمة الإلهية من تنزيلها، كما حدث لمروان بن الحكم حين توهم أن قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ}( سورة آل عمران 188) وعيد للمؤمنين، فقال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون! فقال ابن عباس: وما لكم ولهذه! إنما دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - يهود، فسألهم عن شيء فتكموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من
__________
(1) - أسباب النزول "للسيوطي" ص2
(2) - أسباب النزول "للواحدي" ص3. وقال ابن تيمية: "معرفة سبب النزول تعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب". وقال ابن دقيق العيد: "معرفة سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن" انظر الإتقان 1/ 48.
ويقارب العبارة الأخيرة قول أبي الفتح القشيري: "بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز، وهو أمر تحصل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا". انظر البرهان 1/ 22.(1/100)
كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ} حتى قوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} (1) فلم يزل الإشكال إلا بمعرفة سبب النزول.
ولولا بيان سبب النزول لظل الناس إلى يومنا هذا يبيحون تناول المسكرات وشرب الخمور أخذا بظاهر قوله تعالى في سورة المائدة: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}( سورة المائدة 93) فقد حكي عن عثمان بن مظعون وعمرو بن معديكرب أنهما كانا يقولان: الخمر مباحة، ويحتجان بهذه الآية، وخفي عليهما سبب نزولها، فإنه يمنع من ذلك، وهو ما قاله الحسن وغيره: لما نزل تحريم الخمر قالوا: كيف بإخواننا الذين ماتوا وهي في بطونهم، وقد أخبرنا الله أنها رجس! فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} (2) .
ولولا بيان أسباب النزول لأباح الناس لأنفسهم التوجه في الصلاة إلى الناحية التي يرغبون، عملا بالمتبادر من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}( سورة البقرة 115). ولكن الذي يطلع على سبب نزول الآية يستنتج أنها عالجت حال نفر من المؤمنين صلوا مع النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة مظلمة فلم يدروا كيف القبلة، فصلى كل رجل منهم على حاله" (3) تبعا لاجتهاده، فلم يضع الله لأحد منهم عمله، وأثابه الرضى عن صلاته ولو لم يتجه إلى الكعبة، لأنه لم يكن له إلى معرفة القبلة سبيل في ظلام الليل البهيم!.
صيغة سبب النزول
تنقسم صيغة سبب النزول إلى قسمين:
(أ) الصيغة الصريحة: تكون صيغة سبب النزول نصاً صريحاً في السببية إذا قال الراوي: "سبب نزول هذه الآية كذا". ومثل هذه العبارة أن يذكر الراوي سؤالاً، أو حادثة، كأن يقول: (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كذا فنزلت الآية) أو: (حدث كذا فنزلت الآية). وقد لا يصرح بالإِنزال ،ولكن يفهم من قول الراوي بأن الآية أو الآيات نزلتَ بسبب هذا السؤال أو الحادثة.
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب التفسير 6/ 40، تفسير ابن كثير 1/ 436. الإتقان 1/ 48 البرهان 1/ 27.
(2) - البرهان 1/ 28 "وقارن بأسباب النزول للواحدي 196، وتفسير ابن كثير 1/ 97, والإتقان 1/ 53".
(3) - أسباب النزول "للواحدي" ص25.(1/101)
(ب) الصيغة المحتملة: وتكون صيغة سبب النزول محتملة للسببية ،إذا قال الراِوي: "نزلت أو أنزلت هذه الآية في كذا " . فهذه العبارة ليست نصاً صريحاَ في السببية لأنها تحتمل السببية وتحتمل بيان المعنى، وما تضمنته الآية من الأحكام.
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "قولهم نزلت هذه الآية في كذا يراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب كما تقول: عُني بهذه الآية كذا" (1) .
وقال الزركشي: "عُرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: (نزلت هذه الآية في كذا) فإنه يريد بذلك أن هذه الآية تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في نزولها" (2) .
وتكون صيغة سبب النزول محتملة إذا قال الراوي: "ما أحسب هذه الآية نزلت إلاّ في ذلك".
فإذا وردت روايتان أو أكثر، وكانت إحداهما نصاً صريحاً في السببية والأخرى ليست نصاً فيه، أخذنا ما هو نص صريح، وحملنا الأخرى على بيان المعنى.
ومثال ذلك: عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابرًا يَقُولُ كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ إِذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِى قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ فَنَزَلَتْ ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) (3)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ) قَالَ يَأْتِيهَا فِى . قال الحميدي : يعني في الفرج. أخرجه البخاري (4) ، أي إتيان النساء في أدبارهن (5)
فالمعتمد عليه في بيان السبب هو رواية (جابر رضي اللّه عنه) لكونها نصاً في السببية. أما رواية ابن عمر رضي اللّه عنهما فتحمل على بيان التفسير والمعنى (6)
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
قد تنزل الآية أو الآيات من القرآن الكريم لسبب خاص ولفظها عام فحينئذٍ يكون حكمهِا شاملاً لما نزلت بسببه، ولما تناوله لفظها لأن القرآن الكريم نزل تشريعاَ عاماً لكل الأمة، فالعبرة بعموم
__________
(1) - مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية (13/339) .
(2) - البرهان في علوم القرآن للزركشي (1/ 31- 32) .
(3) - صحيح مسلم (3608 )
(4) - صحيح البخارى(4527)
(5) - انظر كلام الحافظ في الفتح 8/ 190.
(6) - المدخل لدراسة القرآن- محمد أبو شهبة ص 144.(1/102)
اللفظ لا بخصوص السبب على الراجح ، في حالة إذا كان فرض المسألة في لفظ له عموم، أما إذا كانت الآية نزلت في معين ولا عموم للفظها فإنها تقصر عليه قطعاً.
مثال ذلك: آيات اللعان وهي قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) [النور : 6 - 9] } نزلت في هلال بن أمية فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « الْبَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِى ظَهْرِكَ » . فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلاً يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ . فَجَعَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « الْبَيِّنَةَ وَإِلاَّ حَدٌّ فِى ظَهْرِكَ » فَقَالَ هِلاَلٌ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّى لَصَادِقٌ ، فَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِى مِنَ الْحَدِّ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ) فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ ( إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) فَانْصَرَفَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَجَاءَ هِلاَلٌ ، فَشَهِدَ ، وَالنَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ » . ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ وَقَّفُوهَا ، وَقَالُوا إِنَّهَا مُوجِبَةٌ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ ثُمَّ قَالَتْ لاَ أَفْضَحُ قَوْمِى سَائِرَ الْيَوْمِ ، فَمَضَتْ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ ، فَهْوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ » . فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لَوْلاَ مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِى وَلَهَا شَأْنٌ » (1) . .
فالآيات نزلت بسبب قذف هلال بن أمية امرأته بشريك بن السحماء ولكن حكمها شامل له ولغيره بدليل أن رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - حكم بها في عويمر العجلاني أيضاً، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ عُوَيْمِرًا أَتَى عَاصِمَ بْنَ عَدِىٍّ وَكَانَ سَيِّدَ بَنِى عَجْلاَنَ فَقَالَ كَيْفَ تَقُولُونَ فِى رَجُلٍ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً ، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ سَلْ لِى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَأَتَى عَاصِمٌ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَسَائِلَ ، فَسَأَلَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا ، قَالَ عُوَيْمِرٌ وَاللَّهِ لاَ أَنْتَهِى حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَجَاءَ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً ، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ فِيكَ وَفِى صَاحِبَتِكَ » . فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمُلاَعَنَةِ بِمَا سَمَّى اللَّهُ فِى كِتَابِهِ ، فَلاَعَنَهَا ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنْ حَبَسْتُهَا فَقَدْ ظَلَمْتُهَا ، فَطَلَّقَهَا ، فَكَانَتْ سُنَّةً
__________
(1) - صحيح البخارى (4747) - الخدلج : ممتلئ الساقين - السابغ : العظيم(1/103)
لِمَنْ كَانَ بَعْدَهُمَا فِى الْمُتَلاَعِنَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « انْظُرُوا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمَ الأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَلاَ أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إِلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمِرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَلاَ أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا ، إِلاَّ قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا » . فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِى نَعَتَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ تَصْدِيقِ عُوَيْمِرٍ ، فَكَانَ بَعْدُ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ (1)
- - - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى(4745 ) -الأسحم : الأسود - الوحرة : دويبة حمراء تلصق بالأرض(1/104)
الباب الثاني
تفصيل موضوعات سور القرآن سورة سورة
(1) سورة الفاتحة
سورة الفاتحة من السور ذات الأسماء الكثيرة : أنهاها صاحب الإتقان إلى نيف وعشرين بين ألقاب وصفات جرت على ألسنة القراء من عهد السلف ولم يثبت في السنة الصحيحة والمأثور من أسمائها إلا فاتحة الكتاب والسبع المثاني وأم القرآن أو أم الكتاب فلنقتصر على بيان هذه الأسماء الثلاثة
فأما تسميتها فاتحة الكتاب فقد ثبتت في السنة في أحاديث كثيرة منها عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَصَاعِدًا ». (1) " وفاتحة مشتقة من الفتح وهو إزالة حاجز عن مكان مقصود ولوجه فصيغتها تقتضي أن موصوفها شيء يزيل حاجزا وليس مستعملا في حقيقته بل مستعملا في معنى أول الشيء تشبيها للأول بالفاتح لأن الفاتح للباب هو أول من يدخل فقيل الفاتحة في الأصل مصدر بمعنى الفتح كالكاذبة بمعنى الكذب والباقية بمعنى البقاء في قوله تعالى ( فهل ترى لهم من باقية ) وكذلك الطاغية في قوله تعالى : ( فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية ) " في قول ابن عباس أي بطغيانهم " . والخاطئة بمعنى الخطأ والحاقة بمعنى الحق . وإنما سمي أول الشيء بالفاتحة إما تسمية للمفعول بالمصدر الآتي على وزن فاعلة لآن الفتح يتعلق بأول أجزاء الفعل ففيه يظهر مبدأ المصدر وإما على اعتبار الفاتحة اسم فاعل ثم جعلت اسما لأول الشيء ؛ إذ بذلك الأول يتعلق الفتح بالمجموع فهو كالباعث على الفتح فالأصل فاتح الكتاب وأدخلت عليه هاء التأنيث دلالة على النقل من الوصفية إلى الاسمية أي إلى معاملة معاملة الاسم في الدلالة على ذات معينة لا على ذي وصف مثل الغائبة في قوله تعالى ( وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين ) ومثل العافية والعاقبة قال التفتزاني في شرح الكشاف : " ولعدم اختصاص الفاتحة والخاتمة بالسورة ونحوها كانت التاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية وليست لتأنيث الموصوف في الأصل لأنهم يقولون فاتحة وخاتمة دائما لا في خصوص جريانه على موصوف مؤنث كالسورة والقطعة وذلك كقولهم فلان خاتمة العلماء وكقول الحريري في المقامة الأولى " أدتني خاتمة المطاف وهدتني فاتحة الألطاف " . وأيا ما كان ففاتحة وصف وصف به مبدأ القرآن وعومل معاملة الأسماء الجنسية ثم أضيف إلى الكتاب ثم صار هذا المركب علما بالغلبة على هذه السورة
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (822 ) صحيح(1/105)
ومعنى فتحها الكتاب أنها جعلت أول القرآن لمن يريد أن يقرأ القرآن من أوله فتكون فاتحة بالجعل النبوي في ترتيب السور وقيل لأنها أول ما نزل وهو ضعيف لما ثبت في الصحيح واستفاض أن أول ما أنزل سورة ( اقرأ باسم ربك ) وهذا مما لا ينبغي أن يتردد فيه . فالذي نجزم به أن سورة الفاتحة بعد أن نزلت أمر الله رسوله أن يجعلها أول ما يقرأ في تلاوته
وإضافة سورة إلى فاتحة الكتاب في قولهم سورة فاتحة الكتاب من إضافة العام إلى الخاص باعتبار فاتحة الكتاب علما على المقدار المخصوص من الآيات من الحمد لله إلى الضالين بخلاف إضافة سورة إلى ما أضيفت إليه في بقية سور القرآن فإنها على حذف مضاف أي سورة ذكر كذا وإضافة العام إلى الخاص وردت في كلام العرب مثل قولهم شجر الأراك ويوم الأحد وعلم الفقه ونراها قبيحة لو قال قائل : إنسان زيد وذلك باد لمن له أدنى ذوق إلا أن علماء العربية لم يفصحوا عن وجه الفرق بين ما هو مقبول من هذه الإضافة وبين ما هو قبيح فكان حقا أن أبين وجهه : وذلك ان إضافة العام إلى الخاص تحسن إذا كان المضاف والمضاف إليه اسمي جنس وأولهما أعم من الثاني فهنالك يجوز التوسع بإضافة الأعم إلى الأخص إضافة مقصودا منها الاختصار ثم تكسبها غلبة الاستعمال قبولا نحو قولهم شجر الأراك عوضا أن يقولوا : الشجر الذي هو الأراك ويوم الأحد عوضا عن أن يقولوا : يوم هو الأحد . وقد يكون ذلك جائزا غير مقبول لأنه لم يشع في الاستعمال كما لو قلت حيوان الإنسان ؛ فأما إذا كان المتضايفين غير اسم جنس فالإضافة في مثله ممتنعة فلا يقال : إنسان زيد . ولهذا جعل قول الناس " شهر رمضان " علما على الشهر المعروف بناءا على أن لفظ رمضان خاص بالشهر المعروف لا يحتمل معنى آخر فتعين أن يكون ذكر كلمة " شهر " معه قبيحا لعدم الفائدة منه لولا أنه شاع حتى صار مجموع المركب الإضافي علما على ذلك الشهر
ويصح عندي أن تكون إضافة السورة إلى فاتحة الكتاب من إضافة الموصوف إلى الصفة كقولهم : مسجد الجامع وعشاء الآخرة أي سورة موصوفة بأنها فاتحة الكتاب فتكون الإضافة بيانية ولم يجعلوا لها اسما استغناء بالوصف كما يقول المؤلفون مقدمة أو باب بلا ترجمة ثم يقولون باب جامع مثلا ثم يضيفونه فيقولون : باب جامع الصلاة وأما إضافة فاتحة إلى الكتاب فإضافة حقيقية باعتبار أن المراد من الكتاب بقيته عدا السورة المسماة الفاتحة كما نقول : خطبة التأليف وديباجة التقليد
وأما تسميتها أم القرآن وأم الكتاب فقد ثبتت في السنة من ذلك ما في صحيح البخاري في كتاب الطب عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ كُنَّا فِى مَسِيرٍ لَنَا فَنَزَلْنَا فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ فَقَالَتْ إِنَّ سَيِّدَ الْحَىِّ سَلِيمٌ ، وَإِنَّ نَفَرَنَا غُيَّبٌ فَهَلْ مِنْكُمْ رَاقٍ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مَا كُنَّا نَأْبُنُهُ بِرُقْيَةٍ فَرَقَاهُ فَبَرَأَ فَأَمَرَ لَهُ بِثَلاَثِينَ شَاةً وَسَقَانَا لَبَنًا فَلَمَّا رَجَعَ قُلْنَا لَهُ أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً أَوْ كُنْتَ تَرْقِى قَالَ لاَ مَا رَقَيْتُ إِلاَّ بِأُمِّ الْكِتَابِ . قُلْنَا لاَ تُحْدِثُوا شَيْئًا حَتَّى(1/106)
نَأْتِىَ - أَوْ نَسْأَلَ - النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَكَرْنَاهُ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « وَمَا كَانَ يُدْرِيهِ أَنَّهَا رُقْيَةٌ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِى بِسَهْمٍ » (1) . ووجه تسميتها أم القرآن أن الأم يطلق على أصل الشيء ومنشئه وفي الحديث الصحيح عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا السَّائِبِ ، مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ ، يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ ، فَهِيَ خِدَاجٌ ، فَهِيَ خِدَاجٌ ، غَيْرُ تَمَامٍ فَقُلْتُ : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ، إِنِّي أَحْيَانًا أَكُونُ وَرَاءَ الإِمَامِ ، قَالَ : فَغَمَزَ ذِرَاعِي ، وَقَالَ : اقْرَأْ بِهَا يَا فَارِسِيُّ فِي نَفْسِكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ : قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ ، فَنِصْفُهَا لِي ، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ،قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اقْرَؤُوا يَقُولُ الْعَبْدُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، يَقُولُ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي ، يَقُولُ الْعَبْدُ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، يَقُولُ اللَّهُ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي ، يَقُولُ الْعَبْدُ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، يَقُولُ اللَّهُ : مَجَّدَنِي عَبْدِي ، وَهَذِهِ الآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي ، يَقُولُ الْعَبْدُ : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فَهَذِهِ الآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ، يَقُولُ الْعَبْدُ : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} ، فَهَؤُلاَءِ لِعَبْدِي ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. (2) " أي منقوصة مخدوجة " . وقد ذكروا لتسمية الفاتحة أم القرآن وجوها ثلاثة : أحدها أنها مبدوه ومفتتحه فكأنها أصله ومنشؤه يعني أن افتتاحه الذي هو وجود أول أجزاء لقرآن قد ظهر فيها فجعلت كالأم للولد في أنها الأصل والمنشأ فيكون أم القرآن تشبيها بالأم التي هي منشأ الولد لمشابهتها بالمنشأ من حيث ابتداء الظهور والوجود . الثاني أنها تشتمل محتوياتها على أنواع مقاصد القرآن وهي ثلاثة أنواع : الثناء على الله ثناء جامعا لوصفه بجميع المحامد وتنزيهه من جميع النقائص ولإثبات تفرده بالإلهية وإثبات البعث والجزاء وذلك من قوله ( الحمد لله ) إلى قوله ( ملك يوم الدين ) والأوامر والنواهي من قوله ( إياك نعبد ) والوعد والوعيد من قوله ( صراط الذين ) إلى آخرها فهذه هي أنواع مقاصد القرآن كله وغيرها تكملات لها لأن القصد من القرآن إبلاغ مقاصده الأصلية وهي صلاح الدارين وذلك يحصل بالأوامر والنواهي ولما توقفت الأوامر والنواهي على معرفة الآمر وأنه الله الواجب وجوده خالق الخلق لزم تحقيق معنى الصفات ولما توقف تمام الامتثال على الرجاء في الثواب والخوف من العقاب لزم تحقق الوعد والوعيد . والفاتحة مشتملة على هاته الأنواع فإن قوله ( الحمد لله ) إلى قوله ( يوم الدين ) حمد وثناء وقوله ( إياك نعبد ) إلى قوله ( المستقيم ) من نوع الأوامر والنواهي وقوله صراط الذين إلى آخرها من نوع الوعد والوعيد مع أن ذكر المغضوب عليهم والضالين يشير أيضا
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز (5007) -السليم : اللديغ قيل سمى سليما رجاء سلامته
(2) - صحيح ابن حبان - (5 / 84) (1784) صحيح(1/107)
إلى نوع قصص القرآن وقد يؤيد هذا الوجه بما ورد في الصحيح في ( قل هو الله أحد ) أنها تعدل ثلث القرآن لأن ألفاظها كلها ثناء على الله تعالى
الثالث أنها تشتمل معانيها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية والأحكام العملية فإن معاني القرآن إما علوم تقصد معرفتها وإما أحكام يقصد منها العمل بها فالعلوم كالتوحيد والصفات والنبوءات والمواعظ والأمثال والحكم والقصص إما عمل الجوارح وهو العبادات والمعاملات وإما عمل القلوب أي العقول وهو تهذيب الأخلاق وآداب الشريعة وكلها تشتمل عليها معاني الفاتحة بدلالة المطابقة أو التضمن أو الالتزام ف ( الحمد لله ) يشمل سائر صفات الكمال التي استحق الله لأجلها حصر الحمد له تعالى بناء على ما تدل عليه جملة ( الحمد لله ) من اختصاص جنس الحمد به تعالى واستحقاقه لذلك الاختصاص كما سيأتي و ( رب العالمين ) يشمل سائر صفات الأفعال والتكوين عند من أثبتها و ( الرحمن الرحيم ) يشمل أصول التشريع الراجعة للرحمة بالمكلفين و ( ملك يوم الدين ) يشمل أحوال القيامة و ( إياك نعبد ) يجمع معنى الديانة والشريعة و ( إياك نستعين ) يجمع معنى الإخلاص لله في الأعمال . قال عز الدين بن عبد السلام في كتابه حل الرموز ومفاتيح الكنوز : الطريقة إلى الله لها ظاهر " أي عمل ظاهر أي بدني " وباطن " أي عمل قلبي " فظاهرها الشريعة وباطنها الحقيقة والمراد من الشريعة والحقيقة إقامة العبودية على الوجه المراد من المكلف . ويجمع الشريعة والحقيقة كلمتان هما قوله ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ( فإياك نعبد ) شريعة ( وإياك نستعين ) حقيقة اه . و ( اهدنا الصراط المستقيم ) يشمل الأحوال الإنسانية وأحكامها من عبادات ومعاملات وآداب و ( صراط الذين أنعمت عليهم ) يشير إلى أحوال الأمم والأفراد الماضية الفاضلة وقوله ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) يشمل سائر قصص الأمم الضالة ويشير إلى تفاصيل ضلالاتهم المحكية عنهم في القرآن فلا جرم يحصل من معاني الفاتحة - تصريحا وتضمنا - علم إجمالي بما حواه القرآن من الأغراض . وذلك يدعو نفس قارئها إلى تطلب التفصيل على حسب التمكن والقابلية . ولأجل هذا فرضت قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة حرصا على التذكير لما في مطاويها وأما تسميتها السبع المثاني فهي تسمية ثبتت بالسنة ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد ابن المعلى " أن رسول الله قال الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " ووجه تسميتها بذلك أنها سبع آيات باتفاق القراء والمفسرين ولم يشذ عن ذلك إلا الحسن البصري فقال هي ثمان آيات وإلا الحسين الجعفي فقال هي ست آيات وقال بعض الناس تسع آيات ويتعين حينئذ كون البسملة ليست من الفاتحة لتكون سبع آيات ومن عد البسملة أدمج آيتين . وأما وصفها بالمثاني فهو مفاعل جمع مثنى بضم الميم وتشديد النون أو مثنى مخفف مثنى أو مثنى بفتح الميم مخفف مثني كمعنى مخفف معني ويجوز تأنيث الجميع كما نبه عليه السيد الجرجاني في شرح الكشاف وكل ذلك مشتق من التثنية(1/108)
وهي ضم ثان إلى أول . ووجه الوصف به أن تلك الآيات تثنى في كل ركعة كذا في الكشاف . قيل وهو مأثور عن عمر بن الخطاب وهو مستقيم لأن معناه أنها تضم إليها السورة في كل ركعة ولعل التسمية بذلك كانت في أول فرض الصلاة فإن الصلوات فرضت ركعتين ثم أقرت صلاة السفر وأطيلت صلاة الحضر كذا ثبت في حديث عائشة في الصحيح وقيل العكس وقيل لأنها تثنى في الصلاة أي تكرر فتكون التثنية بمعنى التكرير بناء على ما شاع عند العرب من استعمال المثني في مطلق المكرر نحو " ثم ارجع البصر كرتين " وقولهم لبيك وسعديك وعليه فيكون المراد بالمثاني هنا مثل المراد بالمثاني في قوله تعالى ( كتابا متشابها مثاني ) أي مكرر القصص والأغراض . وقيل سميت المثاني لأنها ثنيت في النزول فنزلت بمكة ثم نزلت في المدينة وهذا قول بعيد جدا وتكرر النزول لا يعتبر قائله وقد اتفق على أنها مكية فأي معنى لإعادة نزولها بالمدينة
وهذه السورة وضعت في أول السور لأنها تنزل منها منزل ديباجة الخطبة أو الكتاب مع ما تضمنته من أصول مقاصد القرآن كما علمت آنفا وذلك شأن الديباجة من براعة الاستهلال . وهذه السورة مكية باتفاق الجمهور وقال كثير إنها أول سورة نزلت والصحيح أنه نزل قبلها ( اقرأ باسم ربك ) وسورة المدثر ثم الفاتحة وقيل نزل قبلها أيضا ( ن والقلم ) وسورة المزمل وقال بعضهم هي أول سورة نزلت كاملة أي غير منجمة بخلاف سورة " القلم " وقد حقق بعض العلماء أنها نزلت عند فرض الصلاة فقرأ المسلمون بها في الصلاة عند فرضها وقد عدت في رواية عن جابر بن زيد السورة الخامسة في ترتيب نزول السور . وأيا ما كان فإنها قد سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتحة الكتاب، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ :« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سَبْعُ آيَاتٍ ، إِحْدَاهُنَّ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَهِىَ السَّبْعُ مِنَ الْمَثَانِى وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَهِىَ أُمُّ الْقُرْآنِ وَهِىَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ ». (1) وأمر بأن تكون أول القرآن
قلت : ولا يناكد ذلك نزولها بعد سور أخرى لمصلحة اقتضت سبقها قبل أن يتجمع من القرآن مقدار يصير به كتابا فحين تجمع ذلك أنزلت الفاتحة لتكون ديباجة الكتاب . وأغراضها قد علمت من بيان وجه تسميتها أم القرآن
وهي سبع آيات باتفاق القراء والمفسرين ولم يشذ عن ذلك إلا الحسن البصري قال هي ثمان آيات ونسب أيضا لعمرو بن عبيد وإلى الحسين الجعفي قال هي ست آيات ونسب إلى بعضهم غير معين أنها تسع آيات وتحديد هذه الآيات السبع هو ما دل عليه حديث الصحيحين عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهْىَ خِدَاجٌ - ثَلاَثًا - غَيْرُ تَمَامٍ ». فَقِيلَ لأَبِى هُرَيْرَةَ إِنَّا نَكُونُ
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (2 / 45) (2485) صحيح(1/109)
وَرَاءَ الإِمَامِ. فَقَالَ اقْرَأْ بِهَا فِى نَفْسِكَ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِى وَبَيْنَ عَبْدِى نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَمِدَنِى عَبْدِى وَإِذَا قَالَ (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَىَّ عَبْدِى. وَإِذَا قَالَ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). قَالَ مَجَّدَنِى عَبْدِى - وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَىَّ عَبْدِى - فَإِذَا قَالَ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ). قَالَ هَذَا بَيْنِى وَبَيْنَ عَبْدِى وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ). قَالَ هَذَا لِعَبْدِى وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ ». (1)
فهن ثلاث ثم واحدة ثم ثلاث فعند أهل المدينة لا تعد البسملة آية وتعد ( أنعمت عليهم ) آية وعند أهل مكة وأهل الكوفة تعد البسملة آية وتعد ( أنعمت عليهم ) جزء آية والحسن البصري عد البسملة آية وعد ( أنعمت عليهم ) آية (2)
سورة الفاتحة هي السورة الوحيدة التي أمر الإسلام أتباعه أن يقرءوها في كل صلاة. وفي جميع الركعات ، وفي كل الأوقات ، ولهذا أصبح حفظها ميسورا لكل مؤمن.
وهذه السورة على صغر حجمها ، وقلة آياتها ، قد اشتملت بوجه إجمالى على مقاصد الدين من توحيد ، وتعبد ، وأحكام ، ووعد ووعيد.
ونرى من الخير قبل أن نبدأ في تفسيرها بالتفصيل ، أن نمهد لذلك بالكلام عما يأتى :
أولا : متى نزلت سورة الفاتحة؟
للإجابة على هذا السؤال نقول : إن الرأى الراجح بين المحققين من العلماء أنها نزلت بمكة ، بل هي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة.
وقيل : إنها مدنية. وقيل : إنها نزلت مرتين مرة بمكة حين فرضت الصلاة ومرة بالمدينة حين حولت القبلة.
قال القرطبي : الأول أصح لقوله - تعالى - في سورة الحجر : وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وسورة الحجر مكية بالإجماع. ولا خلاف في أن فرض الصلاة كان بمكة ، وما حفظ أنه لم يكن في الإسلام قط صلاة بغير الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ « يدل على ذلك حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ » (3) .. وهذا خبر عن الحكم لا عن الابتداء ».
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز (904 )- الخداج : النقصان
(2) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (1 / 74)
(3) - سنن الترمذى- المكنز - (248 ) قَالَ وَفِى الْبَابِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَأَنَسٍ وَأَبِى قَتَادَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ عُبَادَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَغَيْرُهُمْ قَالُوا لاَ تُجْزِئُ صَلاَةٌ إِلاَّ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ. وَقَالَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ كُلُّ صَلاَةٍ لَمْ يُقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِىَ خِدَاجٌ غَيْرُ تَمَامٍ. وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِىُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.(1/110)
ثانيا : عدد آياتها : وهي سبع آيات لقوله - تعالى - : وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. قال العلماء : السبع المثاني هي الفاتحة.
وقال ابن كثير : هي سبع آيات بلا خلاف. وقال عمرو بن عبيد : هي ثماني آيات لأنه جعل إِيَّاكَ نَعْبُدُ آية. وقال حسين الجعفي : هي ست آيات وهذان القولان شاذان » « 2 ».
ثالثا : اسماؤها : لسورة الفاتحة أسماء كثيرة من أشهرها :
1 - « الفاتحة أو فاتحة الكتاب ، وسميت بذلك لأنه تفتتح قراءة القرآن بها لفظا. وتفتتح بها الكتابة في المصحف خطا ، وتفتتح بها الصلوات ، وإن لم تكن هي أول ما نزل من القرآن. وقد اشتهرت بهذا الاسم في أيام النبوة.
وقد أصبح هذا الاسم علما بالغلبة لتلك الطائفة من الآيات التي مبدؤها الْحَمْدُ لِلَّهِ ..
ونهايتها .. وَلَا الضَّالِّينَ.
2 - « أم القرآن أو الكتاب » وسميت بذلك لاشتمالها إجمالا على المقاصد التي ذكرت فيه تفصيلا ، أو لاشتمالها على ما فيه من الثناء على اللّه بما هو أهله ، والتعبد بأمره ونهيه ، وبيان وعده ووعيده ، أو على جملة معانيه من الحكم النظرية ، والأحكام العملية التي هي سلوك الصراط المستقيم ، والاطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء.
قال ابن جرير : « والعرب تسمى كل أمر جامع أمّا ، وكل مقدم له توابع تتبعه « أما » فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ : « أم الرأس ». وتسمى لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها « أما » « 3 ».
3 - « السبع المثاني » جمع مثنى كفعلى اسم مكان. أو مثنى - بالتشديد - من التثنية على غير قياس. وسميت بذلك لأنها سبع آيات في الصلاة ، أى تكرر فيها أخرج الإمام أحمد ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [الفاتحة: 1] هِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ وَهِيَ أُمُّ الْكِتَابِ وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي " (1)
4 - وتسمى - أيضا - سورة « الحمد ». 5 - و« الكنز ». 6 - و« الواقية ». 7 - و« الشفاء » ، لحديث. هي الشفاء من كل داء.
8 - و« الكافية » لأنها تكفى عن سواها ولا يكفى سواها عنها.
9 - و« الأساس ». 10 - و« الرقية ».
__________
(1) - شعب الإيمان - (4 / 18) (2122) ومسند أحمد - المكنز -(10041) صحيح(1/111)
هذا ، وقد ذكر القرطبي للفاتحة اثنى عشر اسما ، كما ذكر السيوطي لها في كتابه « الإتقان » خمسة وعشرين اسما.
رابعا : فضلها : ورد في فضل سورة الفاتحة أحاديث كثيرة منها :
ما رواه البخاري في صحيحه عَنْ أَبِى سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ كُنْتُ أُصَلِّى فِى الْمَسْجِدِ فَدَعَانِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ أُجِبْهُ ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى كُنْتُ أُصَلِّى . فَقَالَ « أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ ( اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ ) ثُمَّ قَالَ لِى لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِىَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِى الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ » . ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِى ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ أَلَمْ تَقُلْ « لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِىَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِى الْقُرْآنِ » . قَالَ « ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) هِىَ السَّبْعُ الْمَثَانِى وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِى أُوتِيتُهُ » . (1) ..... .
تلك هي بعض الأحاديث التي وردت في فضل هذه السورة الكريمة. (2)
فيها تقرير الحمد للّه تعالى وربوبيته للعالمين ، وسعة رحمته ، وتعليم بعبادته وحده والاستعانة به وحده وطلب الهداية منه ، والوقاية من طريق الضالين والمغضوب عليهم.
وقد ورد حديث نبوي يفيد أنها أولى السور القرآنية التامة نزولا على ما ذكرناه في المقدمة ، وقد قال كثير من المفسرين إنها براعة استهلال رائعة للقرآن.
ولعل في ذلك كله تنطوي حكمة وضعها فاتحة للمصحف وإيجاب قراءتها في كل ركعة صلاة ، ومطلعها مما تكرر في مطالع سور عديدة أخرى وهي الأنعام والكهف وسبأ وفاطر مما يمكن أن يعد أسلوبا من أساليب القرآن في مطالع سوره. (3)
إنها مشتملة على أربعة أنواع من العلوم التي هي مناط الدين «الأول» علم الأصول ومعاقده معرفة اللّه تعالى وصفاته وإليها الإشارة بقوله رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ومعرفة النبوات وهي المرادة بقوله تعالى أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ والمعاد المؤمى إليه بقوله تعالى : مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ «الثاني» علم الفروع وأسه العبادات وهو المراد بقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وهي بدنية ومالية وهما مفتقران إلى أمور المعاش من المعاملات والمناكحات ولا بد لها من الحكومات فتمهدت الفروع على الأصول.
«الثالث» علم ما به يحصل الكمال وهو علم الأخلاق وأجله الوصول إلى الحضرة الصمدانية والسلوك لطريقة الاستقامة في منازل هاتيك الرتب العلية وإليه الإشارة بقوله إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «الرابع» علم القصص والإخبار عن الأمم السالفة السعداء والأشقياء وما يتصل بها من الوعد والوعيد
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4474 )
(2) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (1 / 11)
(3) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (1 / 285)(1/112)
وهو المراد بقوله تعالى أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ وإذا انبسط ذهنك أتيت بأبسط من ذلك ، وهذان الوجهان يستدعيان حمل الكتاب على المعاني أو تقديرها في التركيب الإضافي ، والوجه الأول لا يقتضيه ومن هذا رجحه البعض وإن كان أدق وأحلى لا لأنه يشكل عليهما ما ورد من أن الفاتحة تعدل ثلثي القرآن إذ يزيله إذا ثبت أن الإجمال لا يساوي التفصيل فزيادة مبانيه منزلة منزلة ثلث آخر من الثواب قاله الشهاب ثم قال : ومن العجب ما قيل هنا من أن ذلك لاشتمالها على دلالة التضمن والالتزام وهما ثلثا الدلالات انتهى. وأنا أقول الأعجب من هذا توجيهه رحمه اللّه مع ما رواه الديلمي في الفردوس عن أبي الدرداء فاتحة الكتاب تجزي ما لا يجزىء شيء من القرآن ولو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان وجعل القرآن في الكفة الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات فإنه لا يتبادر منه إلا الفضل في الثواب فيعارض ظاهره ذلك الخبر على توجيهه وعلى توجيه صاحب القيل لا تعارض. نعم إنه بعيد ويمكن التوفيق بين الخبرين وبه يزول الإشكال بأن الأول كان أولا وتضاعف الثواب ثانيا ولا حجر على الرحمة الواسعة أو بأن اختلاف المقال لاختلاف الحال أو بأن ما يعدل الشيء كله يعدل ثلثيه أو بأن القرآن في أحد الخبرين أو فيهما بمعنى الصلاة مثله في قوله تعالى : وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء : 78] وذلك يختلف باختلاف مراتب الناس في قراءتهم وصلواتهم فليتدبر ، وعلى العلات لا يقاسان بما قيل في وجه التسمية بذلك لأنها أفضل السور أو لأن حرمتها كحرمة القرآن كله أو لأن مفزع أهل الإيمان إليها أو لأنها محكمة والمحكمات أم الكتاب (1)
تضمنت هذه السورة معاني القرآن العظيم ، واشتملت على أصول الدين وفروعه ، وتناولت العقيدة ، والعبادة ، والتشريع ، والإيمان بالبعث وبصفات اللّه الحسنى ، وإفراده بالعبادة والاستعانة والدعاء ، والإرشاد إلى طلب الهداية إلى الدين الحق والصراط المستقيم ، وتجنب طريق المنحرفين عن هداية اللّه تعالى.
أسماؤها :
للفاتحة اثنا عشر اسما ذكرها القرطبي ، وهي الصلاة ،للحديث القدسي : «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين»
«، وسورة الحمد ، لأن فيها ذكر الحمد ، وفاتحة الكتاب ، لأنه تفتتح قراءة القرآن بها لفظا وكتابة ، وتفتتح بها الصلوات ، وأم الكتاب في رأي الجمهور ، وأم القرآن في رأي الجمهور ،
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «الحمد للّه : أمّ القرآن ، وأمّ الكتاب ، والسبع المثاني» «1»
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (1 / 38)(1/113)
، والمثاني ، لأنها تثنى في كل ركعة ، والقرآن العظيم ، لتضمنها جميع علوم القرآن ومقاصده الأساسية ، والشفاء
لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «فاتحة الكتاب شفاء من كل سم» «2» ،
والرّقية ،
لقوله - صلى الله عليه وسلم - لمن رقى بها سيد الحي : «ما أدراك أنها رقية» «3»
، والأساس ، لقول ابن عباس : «... وأساس الكتب : القرآن ، وأساس القرآن :
الفاتحة ، وأساس الفاتحة : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم» ، والوافية : لأنها لا تتنصف ولا تحتمل الاختزال ، فلو نصفت الفاتحة في ركعتين لم يجز عند الجمهور ، والكافية ، لأنها تكفي عن سواها ، ولا يكفي سواها عنها. هذه هي أسماء سورة الفاتحة ، وأشهرها ثلاث : الفاتحة ، وأم الكتاب ، والسبع المثاني. والسورة : طائفة من القرآن مؤلفة من ثلاث آيات ، فأكثر ، لها اسم يعرف بطريق الرواية الثابتة.. (1)
بين يدى السورة الكريمة :
هذه السورة الكريمة مكية ، وآياتها سبع بالإجماع ، وتسمى " الفاتحة " لافتتاح الكتاب العزيز بها ، حيث إنها أول القرآن فى (الترتيب) لا فى (النزول) ، وهى - على قصرها ووجازتها - قد حوت معانى القرآن العظيم ، واشتملت على مقاصده الأساسية بالإجمال ، فهى تتناول أصول الدين وفروعه ، تتناول العقيدة ، والعباد ، والتشريع ، والاعتقاد باليوم الآخر ، والإيمان بصفات الله الحسنى ، وإفراده بالعبادة ، والاستعانة والدعاء ، والتوجه إليه جل وعلا بطلب الهداية إلى الدين الحق ، والصراط المستقيم ، والتضرع إليه بالتثبيت على الإيمان ونهج سبيل الصالحين ، وتجنب طريق المغضوب عليهم والضالين ، وفيها الأخبار عن قصص الأمم السابقين ، والاطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء ، وفيها التعبد بأمر الله سبحانه ونهيه ، إلى غير ما هنالك من مقاصد وأغراض وأهداف ، فهي كالأم بالنسبة لبقية السور الكريمة ، ولهذا تسمى " أم الكتاب " لأنها جمعت مقاصده الأساسية. (2)
يردد المسلم هذه السورة القصيرة ذات الآيات السبع ، سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على الحد الأدنى وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلى السنن وإلى غير حد إذا هو رغب في أن يقف بين يدي ربه متنفلا ، غير الفرائض والسنن. ولا تقوم صلاة بغير هذه السورة لما ورد في الصحيحين عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من حديث عبادة بن الصامت : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (1 / 53)
(2) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (1 / 8)(1/114)
إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية ، وكليات التصور الإسلامي ، وكليات المشاعر والتوجهات ، ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة ، وحكمة بطلان كل صلاة لا تذكر فيها .. (1)
السورة طائفة من القرآن مؤلفة من ثلاث آيات فأكثر لها اسم يعرف بطريق الرواية ، وقد روى لهذه السورة عدة أسماء اشتهر منها : أم الكتاب ، أم القرآن.
(لاشتمالها على مقاصد القرآن من الثناء على اللّه والتعبد بأمره ونهيه ، وبيان وعده ووعيده) ، والسبع المثاني لأنها تثنى فى الصلاة) ، والأساس (لأنها أصل القرآن وأول سورة فيه) ، والفاتحة (لأنها أول القرآن فى هذا الترتيب أو أول سورة نزلت)
فقد أخرج البيهقي فى كتابه الدلائل عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِخَدِيجَةَ : " إِنِّي إِذَا خَلَوتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً وَقَدْ وَاللَّهِ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَمْرًا " فَقَالَتْ : مَعَاذَ اللَّهِ ، مَا كَانَ اللَّهُ لِيَفْعَلَ بِكَ ، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتُؤَدِّي الْأَمَانَةَ ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ ، فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ ، وَلَيْسَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَمَّ ذَكَرَتْ خَدِيجَةُ حَدِيثَهُ لَهُ وَقَالَتْ : يَا عَتِيقُ اذْهَبْ مَعَ مُحَمَّدٍ إِلَى وَرَقَةَ ، فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ ، فَقَالَ : انْطَلِقْ بِنَا إِلَى وَرَقَةَ ، فَقَالَ : وَمَنْ أَخْبَرَكَ ؟ قَالَ : خَدِيجَةُ ، فَانْطَلَقَا إِلَيْهِ ، فَقَصَّا عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " إِذَا خَلَوتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً خَلْفِي : يَا مُحَمَّدُ ، يَا مُحَمَّدُ ، فَأَنْطَلِقُ هَارِبًا فِي الْأَرْضِ " فَقَالَ : لَا تَفْعَلْ ، فَإِذَا أَتَاكَ فَاثْبُتْ حَتَّى تَسْمَعَ مَا يَقُولُ ، ثُمَّ ائْتِنِي فَأَخْبِرْنِي ، فَلَمَّا خَلَا نَادَاهُ يَا مُحَمَّدُ قُلْ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى بَلَغَ وَلَا الضَّالِّينَ ، قُلْ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَأَتَى وَرَقَةَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : أَبْشِرْ ، ثُمَّ أَبْشِرْ ، فَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ ابْنُ مَرْيَمَ ، وَأَنَّكَ عَلَى مِثْلِ نَامُوسِ مُوسَى ، وَأَنَّكَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ ، وَأَنَّكَ سَوْفَ تُؤْمَرُ بِالْجِهَادِ بَعْدَ يَوْمِكَ هَذَا ، وَلَئِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ لَأُجَاهِدَنَّ مَعَكَ ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَرَقَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَقَدْ رَأَيْتُ الْقِسَّ فِي الْجَنَّةِ عَلَيْهِ ثِيَابُ الْحَرِيرِ ، لِأَنَّهُ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي " (2) .
وقد رجح هذا بأنها مشتملة على مقاصد القرآن على سبيل الإجمال ، ثم فصل ما أجملته بعد.
بيان هذا أن القرآن الكريم اشتمل على التوحيد ، وعلى وعد من أخذ به بحسن المثوبة ووعيد من تجافى عنه وتركه بسىء العقوبة ، وعلى العبادة التي تحيى التوحيد فى القلوب وتثبته فى النفوس ، وعلى بيان سبيل السعادة الموصل إلى نعيم الدنيا والآخرة ، وعلى القصص الحاوي أخبار المهتدين الذين وقفوا عند
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 21)
(2) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ (463) صحيح مرسل ، وقال :يَعْنِي وَرَقَةَ ، فَهَذَا مُنْقَطِعٌ ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ نُزُولِهَا بَعْدَ مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ، وَ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ(1/115)
الحدود التي سنها اللّه لعباده ، وفيها سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم ، والضالين الذين تعدّوا الحدود ، ونبذوا أحكام الشرائع وراءهم ظهريا.
وقد حوت الفاتحة هذه المعاني جملة ، فالتوحيد يرشد إليه قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)
لأنه يدل على أن كل ثناء وحمد يصدر عن نعمة فهو له ، ولن يكون هذا إلا إذا كان عز اسمه مصدر النعم التي تستوجب الحمد ، وأهمها نعمة الإيجاد والتربية وذلك صريح قوله : (رَبِّ الْعالَمِينَ) وقد استكمله بقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وبذلك اجتثّ جذور الشرك التي كانت فاشية فى جميع الأمم ، وهى اتخاذ أولياء من دون اللّه يستعان بهم على قضاء الحاجات ويتقرب بهم إلى اللّه زلفى.
والوعد والوعيد يتضمنهما قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) إذ الدين هو الجزاء وهو إما ثواب للمحسن وإما عقاب للمسىء.
والعبادة تؤخذ من قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
وطريق السعادة يدل عليه قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إذ معناه أنه لا تتم السعادة إلا بالسير على ذلك الصراط القويم ، فمن خالفه وانحرف عنه كان فى شقاء مقيم.
والقصص والأخبار يهدى إليها قوله : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) فهو يرشد إلى أن هناك أمما قد مضت وشرع اللّه شرائع لهديها فاتبعتها وسارت على نهجها ، فعلينا أن نحذو حذوها ونسير على سننها.
وقوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) يدل على أن غير المنعم عليهم صنفان :
صنف خرج عن الحق بعد علمه به ، وأعرض عنه بعد أن استبان له ، ورضى بما ورثه عن الآباء والأجداد وهؤلاء هم المغضوب عليهم ، وصنف لم يعرف الحق أبدا أو عرفه على وجه مضطرب مهوش ، فهو فى عماية تلبس الحق بالباطل وتبعد عن الجادة الموصلة إلى الصراط السوي ، وهؤلاء هم الضالون.
وهذه السورة إحدى السور المكية التي نزلت قبل هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، وعدة آيها سبع.
وقد نزل القرآن الكريم منجّما أي مفرقا فى ثلاث وعشرين سنة بحسب الحوادث التي دعت إلى نزوله ، وقد نزل بعضه بمكة قبل الهجرة وبعضه بالمدينة بعدها ، ولكل من المكي والمدني ميزات يعرف بها.
ميزات المكي :
فمن ميزات المكي أنه نزل لبيان أسس الدين من الإيمان باللّه واليوم الآخر ، والملائكة والكتاب والنبيين ، وفعل الخيرات وترك المنكرات ، مع إيجاز فى التعبير ، واختصار فى الأسلوب ، ويتضح ذلك جليا فى قصار المفصّل كالحاقة والواقعة والمرسلات.
ميزات المدني :(1/116)
ومن ميزات المدني أنه جاء بأحكام العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية فى السلم والحرب ، وأصول التشريع للحكومات الإسلامية ، إلى إسهاب فى الأسلوب وبسطة فى القول ، ولا سيما عند محاجة أهل الكتاب ، والنعي عليهم بتحريف ما أنزل إليهم ودعوتهم إلى التوحيد الخالص ، وبيان أن الإسلام الذي جاء به القرآن هو دين الأنبياء صلوات اللّه عليهم جميعا. (1)
===============
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (1 / 23)(1/117)
(2) سورة البقرة
كذا سُميت هذه السورةُ سورة البقرة في المروي عَنْ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلاَّمٍ يَقُولُ حَدَّثَنِى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِىُّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلاَ تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ ». قَالَ مُعَاوِيَةُ بَلَغَنِى أَنَّ الْبَطَلَةَ السَّحَرَةُ. (1) وما جرى في كلام السلف ، فقد ورد في ( الصحيح ) عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ قَرَأَ الآيَتَيْنِ الآخِرَتَيْنِ مِنَ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ (2) ، وعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : قَالَتْ عَائِشَةُ : " لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْآيَاتِ ، آيَاتِ الرِّبَا مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا ، فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ ". (3)
ووجه تسميتها أنها ذكرت فيها قصة البقرة التي أمر الله بني إسرائيل بذبحها لتكون آية ووصف سوء فهمهم لذلك ، وهي مما انفردت به هذه السورة بذكره ، وعندي أنها أضيفت إلى قصة البقرة تمييزاً لهاعن السور آل آلم من الحروف المقطعة لأنهم كانوا ربما جعلوا تلك الحروف المُقَطعة أسماء للسور الواقعة هي فيها وعرفوها بها نحو : طه ، ويس ، وص عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " " لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامٌ ، وَإِنَّ سَنَامَ القُرْآنِ سُورَةُ البَقَرَةِ وَفِيهَا آيَةٌ هِيَ سَيِّدَةُ آيِ القُرْآنِ ، هِيَ آيَةُ الكُرْسِيِّ " " (4) وسَنام كل شيء أعلاه وهذا ليس علَماً لها ولكنه وصف تشريف . وكذلك قول خالد بن مَعْدان إنها فسطاط القرآن والفسطاط ما يحيط بالمكان لإحاطتها بأحكام كثيرة .
نزلت سورة البقرة بالمدينة بالاتفاق وهي أول ما نزل في المدينة ، وحكى ابن حجر في ( شرح البخاري ) الاتفاق عليه ، وقيل نزلت سورة المطففين قبلها بناء على أن سورة المطففين مدنية ، ولا شك أن سورة البقرة فيها فرض الصيام ، والصيام فرض في السنة الأولى من الهجرة ، فُرض فيها صوم عاشوراء ثم فرض صيام رمضان في السنة الثانية لأن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) صام سبع رمضانات أولها رمضان من العام الثاني من الهجرة ، فتكون سورة البقرة نزلت في السنة الأولى من الهجرة في أواخرها أو في الثانية .
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز (1910 )
البطلة : السحرة =الصواف : جمع صافة وهى الباسطة أجنحتها فى الهواء =الغيايتان : مثنى غياية وهى السحابة =الفرقان : الجماعتان
(2) - مسند أبي عوانة (3148 ) صحيح
(3) - مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الصَّنْعَانِيِّ (14191 ) صحيح
(4) - سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ ـ الْجَامِعُ الصَّحِيحُ (2937 ) ضعيف(1/118)
وفي البخاري عن عائشة ( ما نزلت سورة البقرة إلا وأنا عنده ) ( تعني النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وكان بناء رسول الله على عائشة في شوال من السنة الأولى للهجرة ، وقيل في أول السنة الثانية ، وقد روى عنها أنها مكثت عنده تسع سنين فتوفي وهي بنت ثمان عشرة سنة وبنى بها وهي بنت تسع سنين ، إلا أن اشتمال سورة البقرة على أحكام الحج والعمرة وعلى أحكام القتال من المشركين في الشهر الحرام والبلد الحرام ينبىء بأنها استمر نزولها إلى سنة خمس وسنة ست كما سنبينه عند آية : ( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ( ( البقرة : 196 ) وقد يكون ممتداً إلى ما بعد سنة ثمان كما يقتضيه قوله : ( الحج أشهر معلومات الآيات إلى قوله لمن اتقى ( ( البقرة : 197 203 ) . على أنه قد قيل إن قوله : ( واتقوا يوماً تُرجعون فيه إلى الله ( ( البقرة : 281 ) الآية هو آخر ما نزل من القرآن ، وقد بينا في المقدمة الثامنة أنه قد يستمر نزول السورة فتنزِل في أثناء مدة نزولها سورٌ أخرى .
وقد عدت سورة البقرة السابعة والثمانين في ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة المطففين وقَبْل آللِ عمران .
وإذ قد كان نزول هذه السورة في أول عهدٍ بإقامة الجامعة الإسلامية واستقلال أهل الإسلام بمدينتهم كان من أول أغراض هذه السورة تصفية الجامعة الإسلامية من أن تختلط بعناصر مفسدة لما أقام الله لها من الصلاح سعياً لتكوين المدينة الفاضلة النقية من شوائب الدجل والدخل .
وإذْ كانت أولَ سورة نزلت بعد الهجرة فقد عُني بها الأنصار وأَكبوا على حفظها ، يدل لذلك ما جاء في السيرة أنه لما انكشف المسلمون يوم حنَين قال النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) للعباس : ( اصرُخْ يا معشرَ الأنصار يا أهل السَّمُرَة ( يعني شجرة البيعة في الحديبية ) يا أهل سورةِ البقرة ) فقال الأنصار : لبيك لبيك يا رسول الله أَبشر . وفي ( الموطأ ) قال مالك إنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها ، وفي ( صحيح البخاري ) : كان نصراني أسلم فقرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب للنبيء ( - صلى الله عليه وسلم - ) ثم ارتد إلى آخر القصة .
وعدد آيها مائتان وخمس وثمانون آية عند أهل العدد بالمدينة ومكة والشام ، وست وثمانون عند أهل العدد بالكوفة ، وسبع وثمانون عند أهل العدد بالبصرة .
مُحتَوَيَات هذه السورة
هذه السورة مترامية أطرافها ، وأساليبها ذات أفنان ، قد جمعت من وشائج أغراض السور ما كان مصداقاً لتلقيبها فُسطاط القرآن ، فلا تستطيع إحصاء محتوياتها بحسبان ، وعلى الناظر أن يترقب تفاصيلَ منها فيما يأتي لنا من تفسيرها ، ولكن هذا لا يحجم بنا عن التعرض إلى لائحات منها ، وقد حيكت(1/119)
بنسج المناسبات والاعتبارات البلاغية من لُحمة محكمة في نظم الكلام ، وسدًى متين من فصاحة الكلمات .
ومعظم أغراضها ينقسم إلى قسمين : قسم يُثبت سموَّ هذا الدين على ما سبقه وعلو هديه وأصولَ تطهيره النفوسَ ، وقسمٌ يبين شرائع هذا الدِّين لأتباعه وإصلاح مجتمعهم . وكان أسلوبها أحسنَ ما يأتي عليه أسلوب جامع لمحاسن الأساليب الخطابية ، وأساليب الكتب التشريعية ، وأساليب التذكير والموعظة ، يتجدد بمثله نشاط السامعين بتفنن الأفانين ، ويحضر لنا من أغراضها أنها ابتدئت بالرمز إلى تحدي العرب المعاندين تحدياً إجمالياً بحروف التهجي المفتتح بها رمزاً يقتضي استشرافهم لما يرد بعده وانتظارَهم لبيان مقصده ، فأعقب بالتنويه بشأن القرآن فتحوَّل الرمز إيماء إلى بعض المقصود من ذلك الرمز له أشد وقع على نفوسهم فتبقى في انتظار ما يتعقبه من صريح التعجيز الذي سيأتي بعد قوله : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ( ( البقرة : 23 ) . فعدل بهم إلى ذات جهة التنويه بفائق صدق هذا الكتاب وهديه ، وتخلص إلى تصنيف الناس تجاه تلقيهم هذا الكتاب وانتفاعهم بهديه أصنافاً أربعة ( وكانوا قبل الهجرة صنفين ) بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك التلقي . وإذ قد كان أخص الأصناف انتفاعاً بهديه هم المؤمنين بالغيب المقيمين الصلاة يعني المسلمين ابتدىء بذكرهم ، ولما كان أشد الأصناف عناداً وحقداً صِنْفَا المشركين الصُّرَحاء والمنافقين لُف الفريقان لفاً واحداً فقورعوا بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة ، ثم خص بالإطناب صنف أهل النفاق تشويهاً لنفاقهم وإعلاناً لدخائلهم ورد مطاعنهم ، ثم كان خاتمة ما قرعت به أنوفهم صريح التحدي الذي رمز إليه بَدءاً تحدياً يُلجئهم إلى الاستكانة ويخرس ألسنتهم عن التطاول والإبانة ، ويلقي في قرارات أنفسهم مذلة الهزيمة وصدقَ الرسول الذي تحداهم ، فكان ذلك من رد العَجُز على الصدر فاتسع المجال لدعوة المنصفين إلى عبادة الرب الحق الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض ، وأنعم عليهم بما في الأرض جميعاً . وتخلص إلى صفة بدء خلق الإنسان فإن في ذلك تذكيراً لهم بالخلق الأول قبل أن توجد أصنامهم التي يزعمونها من صالحي قوم نوح ومن بعدهم ، ومنة على النوع بتفضيل أصلهم على مخلوقات هذا العالم ، وبمزيته بِعِلم ما لم يعلمه أهل الملأ الأعلى وكيف نشأت عداوة الشيطان له ولنسله ، لتهيئة نفوس السامعين لاتهام شهواتها ولمحاسبتها على دعواتها . فهذه المنة التي شملت كل الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها كانت مناسبة للتخلص إلى منة عظمى تخص الفريق الرابع وهم أهل الكتاب الذين هم أشدُّ الناس مقاومة لهدي القرآن ، وأنفذُ الفِرق قولاً في عامة العرب لأن أهل الكتاب يومئذٍ هم أهل العلم ومظنة اقتداء العامة لهم من قوله : ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي ( ( البقرة : 40 ) الآيات فأطنب في تذكيرهم بنعم الله وأيامه لهم ، ووصْففِ ما لاقَوْا به نعمه الجمة من الانحراف عن الصراط السوي انحرافاً بلغ بهم(1/120)
حد الكفر وذلك جامع لخلاصة تكوين أمة إسرائيل وجامعتهم في عهد موسى ، ثم ما كان من أهم أحداثهم مع الأنبياء الذين قفوا موسى إلى أن تلقوا دعوة الإسلام بالحَسد والعداوة حتى على المَلَك جبريل ، وبيان أخطائهم ، لأن ذلك يلقي في النفوس شكاً في تأهلهم للاقتداء بهم . وذكر من ذلك نموذجاً من أخلاقهم من تعلق الحياة : ( ولتجدن أحرص الناس على حياة ( ( البقرة : 96 ) ، ومحاولة العمل بالحسر ) واتبعوا ما تتلوا الشياطين الخ ( ( البقرة : 102 ) وأذَى النبي بموجّه الكلام ) لا تقولوا راعنا ( ( البقرة : 104 ) .
ثم قُرن اليهود والنصارى والمشركون في قَرن حسدهم المسلمين والسخط على الشريعة الجديدة : ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين إلى قوله : ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ( البقرة : 105 112 ) ، ثم ما أثير من الخلاف بين اليهود والنصارى وإدعاء كل فريق أنه هو المحق : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء إلى يختلفون ( ( البقرة : 113 ) ثم خُص المشركون بأنهم أظلم هؤلاء الأصناف الثلاثة لأنهم منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام وسعوا بذلك في خرابه وأنهم تشابهوا في ذلك هم واليهود والنصارى واتحدوا في كراهية الإسلام .
وانتقل بهذه المناسبة إلى فضائل المسجد الحرام ، وبانيه ، ودعوته لذريته بالهدى ،والاحتراز عن إجابتها في الذين كفروا منهم ، وأن الإسلام على أساس ملة إبراهيم وهو التوحيد ، وأن اليهودية والنصرانية ليستا ملة إبراهيم ، وأن من ذلك الرجوع إلى استقبال الكعبة ادخره الله للمسلمين آية على أن الإسلام هو القائم على أساس الحنيفية ، وذكر شعائر الله بمكة ، وإبكات أهل الكتاب في طعنهم على تحويل القبلة ، وأن العناية بتزكية النفوس أجدر من العناية باستقبال الجهات : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قِبَل المشرق والمغرب ( ( البقرة : 177 ) . وذكروا بنسخ الشرائع لصلاح الأمم وأنه لا بدع في نسخ شريعة التوراة أو الإنجيل بما هو خير منهما .
ثم عاد إلى محاجة المشركين بالاستدلال بآثار صنعة الله : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك الخ ( ( البقرة : 164 ) ، ومحاجة المشركين في يوم يَتبرأون فيه من قادتهم ، وإبطال مزاعم دين الفريقين في محرمات من الأكل : ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ( ( البقرة : 172 ) ، وقد كمل ذلك بذكر صنف من الناس قليل وهم المشركون الذين لم يظهروا الإسلام ولكنهم أظهروا مودة المسلمين : ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ( ( البقرة : 204 ) .
ولما قضى حق ذلك كله بأبدع بيان وأوضح برهان ، انتُقل إلى قسم تشريعات الإسلام إجمالاً بقوله : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ( ( البقرة : 177 ) ، ثم تفصيلاً : القصاص ، الوصية ، الصيام ، الاعتكاف ، الحج ، الجهاد ، ونظام المعاشرة والعائلة ، المعاملات المالية ، والإنفاق في سبيل الله(1/121)
، والصدقات ، والمسكرات ، واليتامى ، والمواريث ، والبيوع والربا ، والديون ، والإشهاد ، والرهن ، والنكاح ، وأحكام النساء ، والعدة ، والطلاق ، والرضاع ، والنفقات ، والأيمان .
وختمت السورة بالدعاء المتضمن لخصائص الشريعة الإسلامية وذلك من جوامع الكلم فكان هذا الختام تذييلاً وفذلكة : ( ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ( ( البقرة : 284 ) الآيات .
وكانت في خلال ذلك كله أغراض شتى سبقت في معرض الاستطراد في متفرق المناسبات تجديداً لنشاط القارىء والسامع ، كما يسفر وجه الشمس إثر نزول الغيوث الهوامع ، وتخرج بوادر الزَّهْر عقب الرعود القوارع ، من تمجيد الله وصفاته : ( الله لا إلاه إلا هو ( ( البقرة : 255 ) ورحمته وسماحة الإسلام ، وضرب أمثال : ( أو كصيب ( ( البقرة : 19 ) واستحضار نظائر : ( وإن من الحجارة ( ( البقرة : 74 ) ) ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم ( ( البقرة : 243 ) وعلم وحكمة ، ومعاني الإيمان والإسلام ، وتثبيت المسلمين : ( يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر ( ( البقرة : 153 ) والكمالات الأصلية ، والمزايا التحسينية ، وأخذ الأعمال والمعاني من حقائقها وفوائدها لا من هيئاتها ، وعدم الاعتداد بالمصطلحات إذَا لم تَرْممِ إلى غايات : ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ( ( البقرة : 189 ) ) ليس البر أن تولوا وجوهكم ( ( البقرة : 177 ) ) وإخراج أهله منه أكبر عند الله ( ( البقرة : 217 ) والنظر والاستدلال ، ونظام المحاجة ، وأخبار الأمم الماضية ، والرسل وتفاضلهم ، واختلاف الشرائع . (1)
سورة البقرة أطول سورة في القرآن الكريم ، فقد استغرقت جزءين ونصف جزء تقريبا من ثلاثين جزءا قسم إليها القرآن. وتبلغ آياتها ستا وثمانين ومائتي آية. وقيل سبع وثمانون ومائتا آية.
وسميت بذلك لأنها انفردت بذكر قصة البقرة التي كلف قوم موسى بذبحها بعد أن قتل فيهم قتيل ولم يعرفوا قاتله.
وهي مدنية بإجماع الآراء ، وقد ابتدأ نزولها بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، وقد نزل معظمها في السنوات الأولى من الهجرة ، واستمر نزولها إلى قبيل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بفترة قليلة.
وكانت آخر آية من القرآن نزولا منها ، هي قوله - تعالى - : وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (1 / 201)(1/122)
مناسبتها لسورة الفاتحة : هناك مناسبة ظاهرة بين السورتين ، لأن سورة الفاتحة قد اشتملت على أحكام الألوهية والعبودية وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم اشتمالا إجماليا ، فجاءت سورة البقرة ففصلت تلك المقاصد ، ووضحت ما اشتملت عليه سورة الفاتحة من هدايات وتوجيهات.
فضلها : وقد ورد في فضل سورة البقرة أحاديث متعددة ، وآثار متنوعة منها ما جاء في مسند أحمد وصحيح مسلّم والترمذي والنسائي عن أبى هريرة أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تجعلوا بيوتكم قبورا ، فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان.
وروى ابن حبان في صحيحه عن سهل بن سعد قال : قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - (إن لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة ، وإن من قرأها في بيته لم يدخله الشيطان ثلاث ليال ، ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام).
وروى الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبى هريرة قال : (بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثا ، وهم ذوو عدد فاستقرأ كل واحد منهم عما معه من القرآن ، فأتى على رجل من أحدثهم سنا فقال : ما معك يا فلان؟ فقال : معى كذا وكذا وسورة البقرة. فقال : أمعك سورة البقرة؟ قال : نعم. قال. اذهب فأنت أميرهم. فقال رجل من أشرافهم : واللّه ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا أنى خشيت ألا أقوم بها. فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - اقرءوا القرآن وتعلموه ، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب أوكى أى أغلق - على مسك.
قال القرطبي : وهذه السورة فضلها عظيم ، وثوابها جسيم ، ويقال لها فسطاط القرآن ، وذلك لعظمها وبهائها وكثرة أحكامها ومواعظها .
مقاصدها : عند ما نفتح كتاب اللّه فنطالع فيه سورة البقرة بتدبر وعناية ، نراها في مطلعها تنوه بشأن القرآن الكريم ، وتصرح بأنه حق لا ريب فيه ، وتبين لنا أن الناس أمام هدايته على ثلاثة أقسام :
قسم آمن به وانتفع بهداياته فكانت عاقبته السعادة والفلاح.
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وقسم جحد واستكبر واستحب العمى على الهدى ، فأصبح لا يرجى منه خير ولا إيمان ، فكانت عاقبته الحرمان والخسران.
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
ثم فصلت السورة الحديث عن قسم ثالث هو شر ما تبتلى به الأمم وهم المنافقون الذين يظهرون خلاف ما يبطنون. وقد تحدثت السورة عنهم في ثلاث عشرة آية ، كشفت فيها عن خداعهم ، وجبنهم ، ومرض قلوبهم ، وبينت ما أعده اللّه لهم من سوء المصير ، ثم زادت في فضيحتهم وهتك سرائرهم فضربت مثلين لحيرتهم واضطرابهم ، قال - تعالى - :(1/123)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ.
إلى أن يقول : وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ثم وجهت السورة نداء إلى الناس جميعا دعتهم فيه إلى عبادة اللّه وحده وأقامت لهم الأدلة الساطعة على صدق هذه القضية ، وتحدتهم - إن كانوا في ريب من القرآن - أن يأتوا بسورة من مثله. وبينت لهم أنهم لن يستطيعوا ذلك لا في الحاضر ولا في المستقبل.
ثم ختم الربع الأول منها ببشارة الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ، جمعت لذائذ المادة والروح ، وهم فيها خالدون. ثم قررت السورة الكريمة أن اللّه - تعالى - لا يمتنع عن ضرب الأمثال بما يوضح ويبين دون نظر إلى قيمة الممثل به في ذاته أو عند الناس ، كما قررت أن المؤمنين يقابلون هذه الأمثال بالإيمان والإذعان ، أما الكافرون فيقابلونها بالاستهزاء والإنكار.
وقد وبخت السورة بعد ذلك أولئك الكافرين على كفرهم ، مع وضوح الدلائل على وحدانية اللّه في أنفسهم وفي الآفاق فقالت : كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
ثم ذكرت السورة بعد ذلك جانبا من قصة آدم ، وقد حدثتنا فيه عن خلافة آدم في الأرض ، وعما كان من الملائكة من استفسار بشأنه - وعن سكن آدم وزوجه الجنة ، ثم عن خروجهما منها بسبب أكلهما من الشجرة المحرمة.
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ، قالُوا : أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ، قالَ : إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ .. إلخ الآيات الكريمة.
هذا ، وقد عرفنا قبل ذلك أن سورة البقرة نزلت بالمدينة بعد أن هاجر المسلمون إليها ، وأصبحت لهم بها دولة فتية ، وكان يجاورهم فيها عدد كبير من اليهود الذين كان أحبارهم يبشرون. بمبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - . فأخذت السورة الكريمة تتحدث عنهم - في أكثر من مائة آية - حديثا طويلا متشعبا ..
فنراها في أواخر الربع الثاني توجه إليهم نداء محببا إلى نفوسهم ، تدعوهم فيه إلى الوفاء بعهودهم ، وإلى الإيمان بنبي اللّه محمد - صلى الله عليه وسلم - فتقول : يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ ، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ.(1/124)
ثم تذكرهم في الربع الثالث بنعم اللّه عليهم ، وبموقفهم الجحودى من هذه النعم ، تذكرهم بنعمة تفضيلهم على عالمي زمانهم ، وبنعمة إنجائهم من عدوهم ، وبنعمة فرق البحر بهم ، وبنعمة عفو اللّه عنهم مع تكاثر ذنوبهم ، وبنعمة بعثهم من بعد موتهم ، وبنعمة تظليلهم بالغمام ، وبنعمة إنزال المن والسلوى عليهم. إلخ.
ولقد كان موقف بنى إسرائيل من هذه النعم يمثل الجحود والعناد والبطر ، فكانت نتيجة ذلك أن ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ، وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ.
ثم تحدثت السورة بعد ذلك حديثا مستفيضا عن رذائلهم وقبائحهم ودعواهم الباطلة ، والعقوبات التي حلت بهم جزاء كفرهم وجحودهم.
فنراها في الربع الرابع تذكر لنا تنطعهم في الدين وإلحافهم في المسألة عند ما قال لهم نبيهم موسى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً. ثم تذكر قسوة قلوبهم فتقول على سبيل التوبيخ لهم : ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ، وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ. وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
ونراها في الربع الخامس تحدثنا عن تحريفهم للكلم عن مواضعه عن تعمد وإصرار ، وتتوعدهم على ذلك بسوء المصير :
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا ، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ.
ثم تحدثنا عن قولهم الباطل : لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً.
وترد عليهم بما يبطل حجتهم ، وعن نقضهم لعهودهم ومواثيقهم مع اللّه ومع الناس ومع أنفسهم ، وعن عدائهم لرسول اللّه ، وعن جحودهم للحق بدافع الحسد والعناد فتقول :
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً ، أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ.
ثم نراها في الربع السادس تحكى لنا نماذج من مزاعمهم الباطلة ، ومن ذلك زعمهم أن الجنة خالصة لهم من دون الناس ، ثم ترد عليهم بما يخرس ألسنتهم ، وبصور جبنهم وحرصهم المشين على أية حياة حتى لو كانت ملطخة بالذل والهوان.
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى ذلك بأسلوبه البليغ فيقول : قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ(1/125)
بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ ، وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ، وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ .
ثم تسوق لنا نماذج من سوء أدبهم مع اللّه ، وعداوتهم لملائكته ونبذهم كتاب اللّه ، واتباعهم للسحر والأوهام.
ثم نراها في الربع السابع تقص علينا بعض الصور من المجادلات الدينية ، والمخاصمات الكلامية ، التي استعملوها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لحرب الدعوة الاسلامية ، كجدالهم في قضية النسخ ، وفي كون الجنة لن يدخلها لا من كان هودا أو نصارى ، وفي كون القرآن ليس معجزة - في زعمهم - وإنما هم يريدون معجزة كونية .. إلخ.
وقد رد القرآن عليهم بما يزهق باطلهم ، ويزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم.
وكما ابتدأ القرآن الحديث معهم ابتداء محببا إلى نفوسهم يا بَنِي إِسْرائِيلَ ، فقد اختتمه - أيضا - بالنداء نفسه ، لكي يستحثهم على الإيمان فقال :
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ، وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ ، وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ
.
ثم أخذت السورة بعد ذلك في الربع الثامن منها تحدثنا عن الكلمات التي اختبر اللّه بها نبيه إبراهيم ، وعن قصة بناء البيت الحرام ، وعن تلك الدعوات الخاشعات التي كان إبراهيم وإسماعيل يتضرعان بها إلى خالقهما وهما يقومان بهذا العمل الجليل.
رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ، وَأَرِنا مَناسِكَنا ، وَتُبْ عَلَيْنا ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
ثم أخذت تقيم الحجج الباهرة ، والأدلة الساطعة على أن إبراهيم ما كان يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ، وعلى أن يعقوب قد وصى ذريته من بعده أن يعبدوا اللّه وحده ولا يشركوا به شيئا.
ثم ختمت تلك المحاورات والمجادلات التي أبطلت بها دعاوى أهل الكتاب الباطلة ، ببيان سنة من سنن اللّه في خلقه ، هذه السنة تتلخص في بيان أن كل إنسان سيجازى بحسب عمله يوم القيامة ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وأن اتكال اليهود - أو غيرهم - على أنهم من نسل الأنبياء أو الصالحين دون أن يعملوا بعملهم لن ينفعهم شيئا. فقال - تعالى - : تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ، لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ ، وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.(1/126)
ثم عادت السورة في الربع التاسع منها إلى الحديث عن الشبهات التي أثارها اليهود عند تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ، وقد رد القرآن عليهم بما يدحض هذه الشبهات ، ويهوى باليهود ومن حذا حذوهم في مكان سحيق ، قال - تعالى - :
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ، قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إلى أن يقول : وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ، إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ، وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد فصلت الحديث عن بنى إسرائيل تفصيلا يحمل المسلمين على العظة والاعتبار ، ويعرفهم طبيعة أولئك القوم الذين خسروا أنفسهم حتى يأخذوا حذرهم منهم ، وينفروا من التشبه بهم.
أما المقدار الباقي من السورة الكريمة - وهو أكثر من نصفها بقليل - فعند ما نراجعه بتفكر وتدبر ، نراه زاخرا بالتشريعات الحكيمة ، والآداب العالية ، والتوجيهات السامية.
نرى السورة الكريمة في هذا المقدار منها تحدثنا في الربع العاشر منها عن بعض شعائر اللّه التي تتعلق بالحج ، وعن الأدلة على وحدانية اللّه.
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ ، وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
.
ثم بعد أن تصور لنا بأسلوب بليغ مؤثر حسرة المشركين يوم القيامة وهم يتبادلون التهم ، ويتبرأ بعضهم من بعض ، بعد كل ذلك توجه نداء عاما إلى الناس ، تأمرهم فيه أن يقيدوا أنفسهم بما أحل اللّه .. وأن يبتعدوا عن محارمه فتقول :
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ.
فإذا ما وصلنا إلى الربع الحادي عشر منها ، رأيناها تسوق لنا في مطلعه آية جامعة لألوان البر ، وأمهات المسائل الاعتقادية والعملية وهي قوله - تعالى - : لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ. إلخ.(1/127)
ثم أتبعت ذلك بالحديث عن القصاص ، وعن الوصية ، وعن الصيام وحكمته ، وعن الدعاء وآدابه ، ونهت المسلمين في ختامها عن مقارفة الحرام في شتى صوره وألوانه فقالت :
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ ، لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
وفي مطلع الربع الثاني عشر حكت بعض الأسئلة التي كان المسلمون يوجهونها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأجابت عنها بطريقة حكيمة تدعوهم إلى التدبر والاتعاظ ، ثم حضت المسلمين على الجهاد في سبيل اللّه ، ونهتهم عن البغي والاعتداء. استمع إلى القرآن وهو يحرض المؤمنين على القتال ويرسم لهم حدوده وآدابه فيقول :
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ، وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ. كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ. فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ.
ثم فصلت السورة الحديث عن الحج ، فتحدثت عن جانب من آدابه وأحكامه ، وحضت المسلمين على الإكثار من ذكر اللّه ، وأن يتجنبوا التفاخر بالأحساب والأنساب ، وأن يرددوا في دعائهم قوله - تعالى - :
رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ.
وفي الربع الثالث عشر نراها تبين لنا ألوان الناس في هذه الحياة ، وأن منهم من يسعى في الإفساد وإهلاك الحرث والنسل ، فإذا ما نصح أخذته العزة بالإثم ، وتمادى في طغيانه وإفساده ، وأن منهم من يبيع نفسه عن طواعية واختيار ابتغاء مرضاة اللّه.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ ، وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ.
ثم تبين لنا بأن الناس جميعا كانوا أمة واحدة ، وأن هذه الحياة مليئة بالمصائب والمحن والفتن ، وأن العاقل هو الذي يقابل كل ذلك بإيمان عميق ، وصبر جميل ، حتى يفوز برضى اللّه يوم القيامة ، ويظفر بنصره في الحياة الدنيا : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ : مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.
ثم تحدثنا السورة الكريمة في الربعين الرابع عشر والخامس عشر حديثا جامعا عن النكاح وما يتعلق به من أحكام ، فحدثتنا عن الإيلاء وعن الطلاق. وعن الرضاع ، وعن العدة ، وعن الخطبة ، وعن غير ذلك مما يتعلق بهذا الشأن ، ثم ختمت حديثها بهذه الآية الكريمة :(1/128)
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
ثم عادت السورة في الربع السادس عشر منها إلى الحديث عن الملأ من بنى إسرائيل :
.. قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ : ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
فساقت لنا قصتهم بأسلوب زاخر بالعظات والعبر ، التي من أهمها أن الدين هو أساس العزة والمنعة ، وأن الشدائد من شأنها أن تصهر النفوس فتجعلها تتجه إلى معالى الأمور ، وأن الأمير يجب أن يكون له من قوة العقل وقوة الجسم وسعة العلم ، وكمال التجربة - ما يقود به أمته إلى صالح الأمور ، وأن العاقل هو الذي يسلك الوسائل السليمة لبلوغ غايته الشريفة ، ثم يفوض الأمور بعد ذلك إلى اللّه.
وفي الربع السابع عشر منها أفاضت في الحديث عن مظاهر قدرة اللّه ووحدانيته ، وأقامت على ذلك من الأدلة ما يشفى الصدور ، ويطمئن القلوب ، ويزيد المؤمنين إيمانا ، استمع إلى آية الكرسي وهي تصور عظمة اللّه وقدرته فنقول.
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ ، وَما فِي الْأَرْضِ ، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ، وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ.
وبعد هذا الحديث عن مظاهر قدرة اللّه ساقت السورة في أواخرها أنماطا من التوجيهات التي تسعد المجتمع ، وتنزع الأحقاد من قلوب الأفراد ، فقد حضت المسلمين في جملة من آياتها على الإنفاق والإحسان ، وضربت لذلك أروع الأمثال ونهتهم عن المن والأذى ، وصرحت بأن الكلمة الطيبة للسائل خير من العطاء الذي تتبعه الإساءة: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ.
ثم بعد أن عقدت مقارنه مؤثرة بين من ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة اللّه ، وبين من ينفقونها رئاء الناس ، بعد كل ذلك مدحت الفقراء الذين يتعففون عن السؤال ، ولا يلجئون إليه إلا عند الضرورة القصوى فقالت : لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ ، وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ. لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ، تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ.
ثم حذرت السورة بعد ذلك المؤمنين من التعامل بالربا ، ووصفت آكليه بصفات تنفر منها القلوب ، وتعافها النفوس ، ووجهت إلى المؤمنين نداء أمرتهم فيه بتقوى اللّه ، وأنذرتهم بحرب من اللّه لهم إن لم يتوبوا عن التعامل بالربا فقالت :(1/129)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ.
ثم تحدثت بعد ذلك عن الديون والرهون ، فصاغت للمؤمنين دستورا هو أدق الدساتير المدنية في حفظ الحقوق وضبطها وتوثيقها بمختلف الوسائل ، ثم ختمت السورة حديثها الجامع عن العقائد والشرائع والآداب والمعاملات ، بذلك الدعاء الخاشع :
رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا ، أَنْتَ مَوْلانا ، فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
تلك هي سورة البقرة ، أرأيت وحدتها في كثرتها؟ أعرفت اتجاه خطوطها في لوحتها؟ أرأيت كيف التحمت لبناتها وارتفعت سماؤها بغير عمد تسندها؟ أرأيت كيف ينادى كل عضو فيها بأنه قد أخذ مكانه المقسوم وفقا لخط جامع مرسوم ، رسمه مربى النفوس ومزكيها ، ومنور العقول وهاديها ومرشد الأرواح وحاديها. فتاللّه لو أن هذه السورة رتبت بعد تمام نزولها ، لكان جمع أشتاتها على هذه الصورة معجزة ، فكيف وكل نجم منها كان يوضع في رتبته من فور نزوله ، وكان يحفظ لغيره مكانه انتظارا لحلوله. وهكذا كان ما ينزل منها معروف الرتبة ، محدد الموقع قبل أن ينزل.
لعمري لئن كانت للقرآن في بلاغة تعبيره معجزات ، وفي أساليب ترتيبه معجزات ، وفي نبوءاته الصادقة معجزات ، وفي تشريعاته الخالدة معجزات ، وفي كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية والكونية معجزات لعمري إنه في ترتيب آياته على هذا الوجه لهو معجزة المعجزات .
وبعد : فهذا عرض سريع لأهم مقاصد سورة البقرة ، قدمناه بين يديها لنعطى القارئ الكريم صورة متميزة عنها. ومن هذا العرض نرى أنها بجانب احتوائها على أصول العقائد ، وعلى كثير من أدلة التوحيد ، قد وجهت عنايتها إلى أمرين اقتضتهما حالة المسلمين ، بعد أن أصبحت لهم دولة بالمدينة يجاورهم فيها عدد كبير من اليهود.
أما الأمر الأول فهو توجيه الدعوة إلى بنى إسرائيل ، ومناقشتهم فيما كانوا يثيرونه حول الرسالة الإسلامية من مؤامرات. وإماطة اللثام عن تاريخهم المظلم ، وأخلاقهم المرذولة حتى يحذرهم المسلمون.
وأما الأمر الثاني فهو التشريع للدولة الإسلامية الفتية ، وقد رأينا أن سورة البقرة في النصف الثاني منها قد تحدثت عن تلك الجوانب التشريعية حديثا مفصلا منوعا تناول أحكام القصاص ، والوصية ، والصيام والاعتكاف والحج ، والعمرة ، والقتال ، والنكاح ، والإنفاق في سبيل اللّه.(1/130)
والمعاملات المالية. إلى غير ذلك من التشريعات التي سبق الحديث عنها. (1)
في هذه السورة مواضيع عديدة وفصول ومواقف ومشاهد متنوعة ، منها الحجاجية ومنها التنديدية ومنها التشريعية ومنها التعليمية ومنها التذكيرية ومنها الإيمانية ومنها الكونية. وفيها قصة خلق آدم وسجود الملائكة وكفر إبليس.
وسلسلة طويلة في بني إسرائيل ومواقفهم من الدعوة المحمدية وأخلاقهم وربط ذلك بتاريخهم القديم. وبعض صور من تاريخهم بعد موسى وإشارة إلى المنافقين وتآمر اليهود معهم ضد الدعوة. وفيها تشريعات في القبلة والوصية والصيام والقتال في سبيل اللّه والحج والحيض والأنكحة والطلاق وعدة الزوجة المتوفى عنها زوجها والربا وتسجيل الأعمال التجارية والديون والحث على الإنفاق في سبيل اللّه. وقد تخللتها عظات وتلقينات وتعليمات إيمانية وأخلاقية واجتماعية ، وانطوى فيها صور عديدة من العهد المدني وظروف المسلمين فيه.
وهي أطول سور القرآن عدد آيات وسعة حيز ، وطابع العهد المدني بارز على فصولها وأسلوبها ، وبعض فصولها منسجمة مع بعض بحيث يصح أن يقال إنها نزلت معا أو متتابعة. وبعض فصولها غير منسجمة ظرفا ولكنها منسجمة موضوعا مع بعض بحيث يصح أن يقال إنها نزلت في ظروف متباعدة. ولا يستبعد أن يكون بعضها نزل متأخرا وبعد نزول سور أو مجموعات قرآنية من سور أخرى ثم وضع بعضها وراء بعض بسبب التساوق الموضوعي. ولا يستبعد أن يكون بعضها أخر في الترتيب مع تبكيره في النزول وبعضها قدم في الترتيب مع تأخره في النزول حتى إن منه ما نزل قبيل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - مما تلهمه المضامين وتسوغه المقارنات. وكل هذا يسوغ القول إن فصول هذه السورة نزلت في فترات متفاوتة وإنها ألفت على الوجه الذي رتبت آياتها أو فصولها عليه تأليفا بعد أن نزلت جميع فصولها بل وربما بعد أن نزل كثير من السور والفصول المدنية الأخرى. (2)
ووجه مناسبتها لسورة الفاتحة أن الفاتحة مشتملة على بيان الربوبية أولا والعبودية ثانيا وطلب الهداية في المقاصد الدينية والمطالب اليقينية ثالثا ، وكذا سورة البقرة مشتملة على بيان معرفة الرب أولا كما في يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة : 3] وأمثاله وعلى العبادات وما يتعلق بها ثانيا وعلى طلب ما يحتاج إليه في العاجل والآجل آخرا وأيضا في آخر الفاتحة طلب الهداية وفي أول البقرة إيماء إلى ذلك بقوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (1 / 27)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (6 / 123)(1/131)
[البقرة : 2] ولما افتتح سبحانه الفاتحة بالأمر الظاهر وكان وراء كل ظاهر باطن افتتح هذه السورة بما بطن سره وخفي إلا على من شاء اللّه تعالى أمره . (1)
مدنيّة إلا آية 281 فنزلت بمنى في حجّة الوداع وآياتها مائتان وست وثمانون وهي أول سورة نزلت بالمدينة
ما اشتملت عليه السورة :
سورة البقرة أطول سورة في القرآن ، وهي مدنية ، قال عكرمة : «أول سورة أنزلت بالمدينة : سورة البقرة» . وتعنى كغيرها من السور المدنية بالتشريع المنظم لحياة المسلمين في المجتمع الجديد بالمدينة ، مجتمع الدين والدولة معا ، فلا ينفصل أحدهما عن الآخر ، وإنما هما متلازمان تلازم الجسد والروح ، لذا كان التشريع المدني قائما على تأصيل العقيدة الإسلامية ، ومبدؤها الإيمان باللّه ، وبالغيب ، وبأن مصدر القرآن هو اللّه عز وجل ، والاعتقاد الجازم بما أنزل اللّه على رسوله وعلى الأنبياء السابقين ، وبأن العمل الصالح ترجمان ذلك الإيمان ، ويتمثل العمل بعقد صلة الإنسان مع ربه بواسطة الصلاة ، وبتحقيق أصول التكافل الاجتماعي بواسطة الإنفاق في سبيل اللّه.
ويقتضي تقرير العقيدة التحدث عن صفات المؤمنين والكافرين والمنافقين ، لعقد مقارنة بين أهل النجاة وبين أهل الدمار والهلاك. كما يقتضي التحدث عن قدرة اللّه عز وجل ، ببدء الخليقة وتكريم آدم أبي البشر بسجود الملائكة له ، وترتيب المولى ما حدث معه وزوجه في الجنة ، ثم الهبوط إلى الأرض.
واستوجب التحذير الإلهي للمؤمنين التحدث في هذه السورة بما يزيد عن ثلثها عن جرائم بني إسرائيل ، من الآية 47 - 123 ، فهم كفروا بنعمة اللّه ، ولم يقدّروا نجاتهم من فرعون ، وعبدوا العجل ، وطالبوا موسى عليه السّلام بطلبات على سبيل العناد والمكابرة والتحدي ، وبالرغم من تحقيق مطالبهم المادية كفروا بآيات اللّه ، وقتلوا الأنبياء بغير حق ، ونقضوا العهود والمواثيق ، فاستحقوا إنزال اللعنة وغضب اللّه عليهم ، وجعلهم اللّه أذلاء منبوذين مطرودين من رحمته.
ثم انتقلت السورة من خطاب أهل الكتاب إلى خطاب أهل القرآن ، بالتذكير بما هو مشترك بين قوم موسى وقوم محمد عليهما السلام من نسب إبراهيم والاتفاق على فضله ، واستئصال كل مزاعم الخلاف على القبلة ، وبيان الأساس الأعظم للدين وهو توحيد الألوهية ، بتخصيص الخالق بالعبودية ، وشكر الإله على ما أنعم به من إباحة الاستمتاع بطيبات الرزق وإباحة المحرّمات حال الضرورة ، وبيان أصول البرّ في آية : لَيْسَ الْبِرَّ [في البقرة 2/ 177].
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (1 / 101)(1/132)
ثم أوضحت السورة أصول التشريع الإسلامي للمؤمنين به ، في نطاق العبادات والمعاملات ، من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت والجهاد في سبيل اللّه وتنظيم أحكام القتال ، واعتماد الأشهر القمرية في التوقيت الديني ، والإنفاق في سبيل اللّه ، لأنه وسيلة للوقاية من الهلاك ، والوصية للوالدين والأقربين ، وبيان مستحقي النفقات ، ومعاملة اليتامى ومخالطتهم في المعيشة ، وتنظيم شؤون الأسرة في الزواج والطلاق والرضاع والعدة ، والإيلاء من النساء ، وعدم المؤاخذة بيمين اللغو ، وتحريم السحر ، والقتل بغير حق وإيجاب القصاص في القتلى ، وتحريم أكل أموال الناس بالباطل ، وتحريم الخمر والميسر والربا ، وإتيان النساء في المحيض وفي غير مكان الحرث وإنجاب النسل ، أي في الدبر.
وتضمنت السورة آية عظيمة في العقيدة والأسرار الإلهية ، وهي آية الكرسي ، وحذرت من يوم القيامة الرهيب في آخر ما نزل من القرآن ، وهي آية وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة 2/ 281].
وتضمنت هذه السورة أطول آية في القرآن هي آية الدّين ، التي أبانت أحكام الدّين من كتابة وإشهاد وشهادة وحكم النساء والرجال فيها ، والرهان ، ووجوب أداء الأمانة ، وتحريم كتمان الشهادة.
وختمت السورة بالتذكير بالتوبة والإنابة إلى اللّه ، وبالدعاء العظيم المشتمل على طلب اليسر والسماحة ، ورفع الحرج والأغلال والآصار ، وطلب النصرة على الكفار.
فالسورة كلها منهاج قويم للمؤمنين ، ببيان أوصافهم ، وأوصاف معارضيهم ومعاديهم من الكفار والمنافقين ، وتوضيح مناهج التشريع في الحياة الخاصة والعامة ، واللجوء في الخاتمة إلى اللّه والدعاء المستمر له في التثبيت على الإيمان ، والإمداد بالإحسان والفضل الإلهي ، وتحقيق النصر على أعداء اللّه والإنسانية.
ومن توجيهات السورة أن مناط السعادة في الدنيا والآخرة هو اتباع الدين ، وأصول الدين ثلاثة : هي الإيمان باللّه ورسوله ، والإيمان باليوم الآخر ، والعمل الصالح. والولاية العامة يجب أن تكون لأهل الإيمان والاستقامة ، لكن الإكراه على الدين ممنوع.
سبب التسمية :
سميت هذه السورة «سورة البقرة» لاشتمالها على قصة البقرة ، التي أمر اللّه بني إسرائيل بذبحها ، لاكتشاف قاتل إنسان ، بأن يضربوا الميت بجزء منها ، فيحيا بإذن اللّه ، ويخبرهم عن القاتل ، والقصة تبدأ بالآية [ (67) من سورة البقرة] وهي قصة مثيرة فعلا ، يعجب منها السامع ، ويحرص على طلبها.
فضلها :
فضل هذه السورة عظيم ، وثوابها جسيم ، ويقال لها : «فسطاط القرآن» لعظمها وبهائها ، وكثرة أحكامها ومواعظها ،(1/133)
قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «لا تجعلوا بيوتكم مقابر ، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة»
وقال أيضا : «اقرؤوا سورة البقرة ، فإن أخذها بركة ، وتركها حسرة ، ولا يستطيعها البطلة» أي السحرة. وفي صحيح البستي عن سهل بن سعد ، قال : قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «إن لكل شيء سناما ، وإن سنام القرآن سورة البقرة ، ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال ، ومن قرأها نهارا لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام». (1)
سورة البقرة جميعها مدنية بلا خلاف ، وهى من أوائل ما نزل ، وآياتها مائتان وثمانون وسبع آيات .
بين يدي السورة
- سورة البقرة أطول سور القرآن على الإطلاق ، وهي من السور المدنية التي تعني بجانب التشريع ، شأنها كشأن سائر السور المدنية ، التى تعالج النظم والقوانين التشريعية ، التى يحتاج إليها المسلمون فى حياتهم الاجتماعية.
- اشتملت هذه السورة الكريمة على معظم الأحكام التشريعية : فى العقائد ، والعبادات ، والمعاملات ، والأخلاق ، وفى أمور الزواج ، والطلاق ، والعدة ، وغيرها من الأحكام الشرعية.
- وقد تناولت الآيات فى البدء الحديث عن (صفات المؤمنين) ، و(الكافرين) ، و(المنافقين) ، فوضحت حقيقة الإيمان ، وحقيقة الكفر والنفاق ، للمقارنة بين أهل السعادة وأهل الشقاء.
- ثم تحدثت عن بدء الخليقة فذكرت قصة أبي البشر " آدم " عليه السلام ، وما جرى عند خلقه وتكوينه ، من الأحداث والمفاجآت العجيبة ، التى تدل على تكريم الله جل وعلا للنوع البشري.
- ثم تناولت السورة الحديث بالإسهاب عن أهل الكتاب ، وبوجه خاص بني إسرائيل " اليهود " لأنهم كانوا مجاورين للمسلمين فى المدينة المنورة ، فنبهت المؤمنين إلى خبثهم ومكرهم ، وما تنطوي عليه نفوسهم الشريرة من اللؤم ، والغدر ، والخيانة ، ونقض العهود والمواثيق ، إلى غير ما هنالك من القبائح والجرائم التى ارتكبها هؤلاء المفسدون ، مما يوضح عظيم خطرهم ، وكبير ضررهم على البشرية ، وقد تناول الحديث عنهم ما يزيد على نصف السورة الكريمة ، بدءاً من قوله تعالى : [ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ] إلى قوله تعالى : [ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ] .
- أما بقية السورة الكريمة فقد تناولت جانب التشريع ، لأن المسلمين كانوا فى بداية تكوين (الدولة الإسلامية) وهم فى أمس الحاجة إلى المنهاج الرباني ، والتشريع السماوي ، الذى يسيرون عليه فى حياتهم
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (1 / 68)(1/134)
، سواء ما كان منها فى العبادات أو المعاملات ، ولذا فإن جماع السورة يتناول الجانب التشريعي ، وهو باختصار كما يلي :
" أحكام الصوم " مفصله بعض التفصيل ، أحكام الحج والعمرة ، أحكام الجهاد في سبيل الله ، شؤون الأسرة ، وما يتعلق بها ، من (الزواج ، والطلاق ، والرضاعه ، والعدة) ، تحريم نكاح المشركات ، والتحذير من معاشرة النساء فى حالة الحيض ، إلى غير ما هنالك من أحكام تتعلق بالأسرة ، لأنها النواة الأولى للمجتمع الأكبر ، وفى صلاح الأسرة صلاح المجتمع !!.
- ثم تحدثت السورة الكريمة عن " جريمة الربا " التى تهدد كيان المجتمع وتقوض بنيانه ، وحملت حملة عنيفة شديدة على المرابين ، بإعلان الحرب السافرة من الله ورسوله ، على كل من يتعامل بالربا أو يقدم عليه [ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين - فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ] .
- وأعقبت آيات الربا بالتحذير من ذلك اليوم الرهيب ، الذى يجازى فيه الإنسان على عمله إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر [ واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ] وهي آخر ما نزل من القرآن الكريم ، وآخر وحي تنزل من السماء إلى الأرض ، وبنزول هذه الآية انقطع الوحي ، وانتقل الرسول الأعظم ( - صلى الله عليه وسلم - ) إلى جوار ربه ، بعد أن أدى الرسالة وبلغ الأمانة ونصح الأمة ، وجاهد فى الله حق جهاده ، حتى أتاه اليقين!.
- وختمت السورة الكريمة بتوجيه المؤمنين إلى التوبة والإنابة ، والتضرع إلى الله جل وعلا برفع الأغلال والآصار ، وطلب النصرة على الكفار ، والدعاء لما فيه سعادة الدارين [ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، واعف عنا ، واغفر لنا ، وارحمنا ، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ] وهكذا بدأت السورة بأوصاف المؤمنين ، وختمت بدعاء المؤمنين ليتناسق البدء مع الختام ، ويلتئم شمل السورة أفضل التئام!!. (1)
هذه السورة من أوائل ما نزل من السور بعد الهجرة. وهي أطول سور القرآن على الإطلاق. والمرجح أن آياتها لم تنزل متوالية كلها حتى اكتملت قبل نزول آيات من سور أخرى فمراجعة أسباب نزول بعض آياتها وبعض الآيات من السور المدنية الأخرى - وإن تكن هذه الأسباب ليست قطعية الثبوت - تفيد أن السور المدنية الطوال لم تنزل آياتها كلها متوالية إنما كان يحدث أن تنزل آيات من سورة لاحقة قبل استكمال سورة سابقة نزلت مقدماتها وأن المعول عليه في ترتيب السور من حيث النزول هو سبق نزول
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (1 / 12)(1/135)
أوائلها - لا جميعها - وفي هذه السورة آيات في أواخر ما نزل من القرآن كآيات الربا ، في حين أن الراجح أن مقدماتها كانت من أول ما نزل من القرآن في المدينة.
فأما تجميع آيات كل سورة في السورة ، وترتيب هذه الآيات ، فهو توقيفي موحى به .. روى الترمذي - بإسناده - عن ابن عباس - رضي اللّه عنهما - قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين ، وقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، ووضعتموها في السبع الطوال؟ وما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان : كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب ، فيقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا. وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، وخشيت أنها منها وقبض رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولم يبين لنا أنها منها. فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، ووضعتها في السبع الطوال.
فهذه الرواية تبين أن ترتيب الآيات في كل سورة كان بتوقيف من رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وقد روى الشيخان عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن ، وفي رواية فيدارسه القرآن ، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة. ومن الثابت أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وقد قرأ القرآن كله على جبريل - عليه السلام - كما أن جبريل قد قرأه عليه .. ومعنى هذا أنهما قرآن مرتبة آياته في سوره.
ومن ثم يلحظ من يعيش في ظلال القرآن أن لكل سورة من سوره شخصية مميزة! شخصية لها روح يعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح والسمات والأنفاس! ولها موضوع رئيسي أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلى محور خاص. ولها جو خاص يظلل موضوعاتها كلها ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة ، تحقق التناسق بينها وفق هذا الجو. ولها إيقاع موسيقي خاص - إذا تغير في ثنايا السياق فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة «1» .. وهذا طابع عام في سور القرآن جميعا.
ولا يشذ عن هذه القاعدة طوال السور كهذه السورة.
هذه السورة تضم عدة موضوعات. ولكن المحور الذي يجمعها كلها محور واحد مزدوج يترابط الخطان الرئيسيان فيه ترابطا شديدا .. فهي من ناحية تدور حول موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية في المدينة ، واستقبالهم لها ، ومواجهتهم لرسولها - صلى الله عليه وسلم - وللجماعة المسلمة الناشئة على أساسها ...(1/136)
وسائر ما يتعلق بهذا الموقف بما فيه تلك العلاقة القوية بين اليهود والمنافقين من جهة ، وبين اليهود والمشركين من جهة أخرى .. وهي من الناحية الأخرى تدور حول موقف الجماعة المسلمة في أول نشأتها وإعدادها لحمل أمانة الدعوة والخلافة في الأرض ، بعد أن تعلن السورة نكول بني إسرائيل عن حملها ، ونقضهم لعهد اللّه بخصوصها ، وتجريدهم من شرف الانتساب الحقيقي لإبراهيم - عليه السلام - صاحب الحنيفية الأولى ، وتبصير الجماعة المسلمة وتحذيرها من العثرات التي سببت تجريد بني إسرائيل من هذا الشرف العظيم ..
وكل موضوعات السورة تدور حول هذا المحور المزدوج بخطيه الرئيسيين ، كما سيجيء في استعراضها التفصيلي.
ولكي يتضح مدى الارتباط بين محور السورة وموضوعاتها من جهة ، وبين خط سير الدعوة أول العهد بالمدينة ، وحياة الجماعة المسلمة وملابساتها من الجهة الأخرى .. يحسن أن نلقي ضوءا على مجمل هذه الملابسات التي نزلت آيات السورة لمواجهتها ابتداء. مع التنبيه الدائم إلى أن هذه الملابسات في عمومها هي الملابسات التي ظلت الدعوة الإسلامية وأصحابها يواجهونها - مع اختلاف يسير - على مر العصور وكر الدهور من أعدائها وأوليائها على السواء. مما يجعل هذه التوجيهات القرآنية هي دستور هذه الدعوة الخالد ويبث في هذه النصوص حياة تتجدد لمواجهة كل عصر وكل طور ويرفعها معالم للطريق أمام الأمة المسلمة تهتدي بها في طريقها الطويل الشاق ، بين العداوات المتعددة المظاهر المتوحدة الطبيعة .. وهذا هو الإعجاز يتبدى جانب من جوانبه في هذه السمة الثابتة المميزة في كل نص قرآني.
لقد تمت هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بعد تمهيد ثابت وإعداد محكم. تمت تحت تأثير ظروف حتمت هذه الهجرة وجعلتها إجراء ضروريا لسير هذه الدعوة في الخط المرسوم الذي قدره اللّه لها بتدبيره .. كان موقف قريش العنيد من الدعوة في مكة - وبخاصة بعد وفاة خديجة - رضي اللّه عنها - وموت أبي طالب كافل النبي وحاميه .. كان هذا الموقف قد انتهى إلى تجميد الدعوة تقريبا في مكة وما حولها. ومع استمرار دخول أفراد في الإسلام على الرغم من جميع الاضطهادات والتدبيرات فإن الدعوة كانت تعتبر قد تجمدت فعلا في مكة وما حولها ، بموقف قريش منها ، وتحالفهم على حربها بشتى الوسائل ، مما جعل بقية العرب تقف موقف التحرز والانتظار ، في ارتقاب نتيجة المعركة بين الرسول وعشيرته الأقربين ، وعلى رأسهم أبو لهب وعمرو بن هشام وأبو سفيان بن حرب وغير هم ممن يمتون بصلة القرابة القوية لصاحب الدعوة. وما كان هناك ما يشجع العرب في بيئة قبلية لعلاقات القرابة عندها وزن كبير ، على الدخول في عقيدة رجل تقف منه عشيرته هذا الموقف. وبخاصة أن عشيرته هذه هي التي تقوم بسدانة الكعبة ، وهي التي تمثل الناحية الدينية في الجزيرة! ومن ثم كان بحث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن قاعدة أخرى(1/137)
غير مكة ، قاعدة تحمي هذه العقيدة وتكفل لها الحرية ، ويتاح لها فيها أن تخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة. حيث تظفر بحرية الدعوة وبحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة .. وهذا في تقديري كان هو السبب الأول والأهم للهجرة.
ولقد سبق الاتجاه إلى يثرب ، لتكون قاعدة للدعوة الجديدة ، عدة اتجاهات .. سبقها الاتجاه إلى الحبشة ، حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل. والقول بأنهم هاجروا إليها لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند إلى قرائن قوية. فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس جاها وقوة ومنعة من المسلمين. غير أن الأمر كان على الضد من هذا ، فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة لم يهاجروا. إنما هاجر رجال ذوو عصبيات ، لهم من عصبيتهم - في بيئة قبلية - ما يعصمهم من الأذى ، ويحميهم من الفتنة وكان عدد القرشيين يؤلف غالبية المهاجرين ، منهم جعفر بن أبي طالب - وأبوه وفتيان بني هاشم معه هم الذين كانوا يحمون النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهم جعفر بن أبي طالب - وأبوه وفتيان بني هاشم معه هم الذين كانوا يحمون النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهم الزبير بن العوام ، وعبد الرحمن ابن عوف ، وأبو سلمة المخزومي ، وعثمان بن عفان الأموي .... وغيرهم. وهاجرت نساء كذلك من أشرف بيوتات مكة ما كان الأذى لينالهن أبدا .. وربما كان وراء هذه الهجرة أسباب أخرى كإثارة هزة في أوساط البيوت الكبيرة في قريش وأبناؤها الكرام المكرمون يهاجرون بعقيدتهم ، فرارا من الجاهلية ، تاركين وراءهم كل وشائج القربى ، في بيئة قبلية تهزها هذه الهجرة على هذا النحو هزا عنيفا وبخاصة حين يكون من بين المهاجرين مثل أم حبيبة ، بنت أبي سفيان ، زعيم الجاهلية ، وأكبر المتصدين لحرب العقيدة الجديدة وصاحبها .. ولكن مثل هذه الأسباب لا ينفي احتمال أن تكون الهجرة إلى الحبشة أحد الاتجاهات المتكررة في البحث عن قاعدة حرة ، أو آمنة على الأقل للدعوة الجديدة. وبخاصة حين نضيف إلى هذا الاستنتاج ما ورد عن إسلام نجاشي الحبشة. ذلك الإسلام الذي لم يمنعه من إشهاره نهائيا إلا ثورة البطارقة عليه ، كما ورد في روايات صحيحة.
كذلك يبدو اتجاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف محاولة أخرى لإيجاد قاعدة حرة أو آمنة على الأقل للدعوة .. وهي محاولة لم تكلل بالنجاح لأن كبراء ثقيف استقبلوا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أسوأ استقبال ، وسلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم يرجمونه بالحجارة ، حتى أدموا قدميه الشريفتين ، ولم يتركوه حتى آوى إلى حائط (أي حديقة) لعتبة وشيبة ابني ربيعة .. وهناك انطلق لسانه بذلك الدعاء الخالص العميق : «اللهم أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى عدو ملكته أمري! أم بعيد يتجهمني؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي. ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات ، وصلح عليه أمر(1/138)
الدنيا والآخرة ، أن تنزل بي غضبك ، أو تحل علي سخطك. لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلّا بك».
بعد ذلك فتح اللّه على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى الدعوة من حيث لا يحتسب ، فكانت بيعة العقبة الأولى ، ثم بيعة العقبة الثانية. وهما ذواتا صلة قوية بالموضوع الذي نعالجه في مقدمة هذه السورة ، وبالملابسات التي وجدت حول الدعوة في المدينة.
وقصة ذلك في اختصار : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - التقى قبل الهجرة إلى يثرب بسنتين بجماعة من الخزرج في موسم الحج ، حيث كان يعرض نفسه ودعوته على الوافدين للحج ويطلب حاميا يحميه حتى يبلغ دعوة ربه. وكان سكان يثرب من العرب - الأوس والخزرج - يسمعون من اليهود المقيمين معهم ، أن هنالك نبيا قد أطل زمانه وكانت يهود تستفتح به على العرب ، أي تطلب أن يفتح لهم على يديه ، وأن يكون معهم على كل من عداهم. فلما سمع وفد الخزرج دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعضهم لبعض : تعلمنّ واللّه إنه للنبي الذي توعدكم به يهود ، فلا تسبقنكم إليه .. وأجابوه لما دعاهم. وقالوا له :إننا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم. فعسى اللّه أن يجمعهم بك .. ولما عادوا إلى قومهم ، وعرضوا الأمر عليهم ، ارتاحوا له ، ووافقوا عليه.
فلما كان العام التالي وافى الموسم جماعة من الأوس والخزرج ، فالتقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبايعوه على الإسلام. وقد أرسل معهم من يعلمهم أمر دينهم.
وفي الموسم التالي وفد عليه جماعة كبيرة من الأوس والخزرج كذلك ، فطلبوا أن يبايعوه ، وتمت البيعة بحضور العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم. وتسمى هذه البيعة الثانية بيعة العقبة الكبرى .. ومما وردت به الروايات في هذه البيعة ما قاله محمد بن كعب القرظي :
قال عبد اللّه بن رواحة - رضي اللّه عنه - لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يعني ليلة العقبة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال : «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم». قال : فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال : «الجنة». قالوا : ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل! وهكذا أخذوا الأمر بقوة .. ومن ثم فشا الإسلام في المدينة ، حتى لم يبق فيها بيت لم يدخله الإسلام.
وأخذ المسلمون في مكة يهاجرون إلى المدينة تباعا ، تاركين وراءهم كل شي ء ، ناجين بعقيدتهم وحدها ، حيث لقوا من إخوانهم الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ، من الإيثار والإخاء ما لم تعرف له الإنسانية نظيرا قط. ثم هاجر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه الصديق. هاجر إلى القاعدة الحرة القوية الآمنة(1/139)
التي بحث عنها من قبل طويلا .. وقامت الدولة الإسلامية في هذه القاعدة منذ اليوم الأول لهجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
من أولئك السابقين من المهاجرين والأنصار تكونت طبقة ممتازة من المسلمين نوه القرآن بها في مواضع كثيرة. وهنا نجد السورة تفتتح بتقرير مقوّمات الإيمان ، وهي تمثل صفة المؤمنين الصادقين إطلاقا. ولكنها أولا تصف ذلك الفريق من المسلمين الذي كان قائما بالمدينة حينذاك : «الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ، هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ، وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ..
ثم نجد بعدها مباشرة في السياق وصفا للكفار وهو يمثل مقومات الكفر على الإطلاق. ولكنه أولا وصف مباشر للكفار الذين كانت الدعوة تواجههم حينذاك ، سواء في مكة أو فيما حول المدينة ذاتها من طوائف الكفار : «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ..
كذلك كانت هناك طائفة المنافقين. ووجود هذه الطائفة نشأ مباشرة من الأوضاع التي أنشأتها الهجرة النبوية إلى المدينة في ظروفها التي تمت فيها ، والتي أشرنا إليها من قبل ولم يكن لها وجود بمكة. فالإسلام في مكة لم تكن له دولة ولم تكن له قوة ، بل لم تكن له عصبة يخشاها أهل مكة فينافقونها. على الضد من ذلك كان الإسلام مضطهدا ، وكانت الدعوة مطاردة ، وكان الذين يغامرون بالانضمام إلى الصف الإسلامي هم المخلصون في عقيدتهم ، الذين يؤثرونها على كل شيء ويحتملون في سبيلها كل شيء. فأما في يثرب التي أصبحت منذ اليوم تعرف باسم المدينة - أي مدينة الرسول - فقد أصبح الإسلام قوة يحسب حسابها كل أحد ويضطر لمضانعتها كثيرا أو قليلا - وبخاصة بعد غزوة بدر وانتصار المسلمين فيها انتصارا عظيما - وفي مقدمة من كان مضطرا لمصانعتها نفر من الكبراء ، دخل أهلهم وشيعتهم في الإسلام وأصبحوا هم ولا بد لهم لكي يحتفظوا بمقامهم الموروث بينهم وبمصالحهم كذلك أن يتظاهروا باعتناق الدين الذي اعتنقه أهلهم وأشياعهم.
ومن هؤلاء عبد اللّه بن أبي بن سلول الذي كان قومه ينظمون له الخرز ليتوجوه ملكا عليهم قبيل مقدم الإسلام على المدينة ..
وسنجد في أول السورة وصفا مطولا لهؤلاء المنافقين ، ندرك من بعض فقراته أن المعنيّ بهم في الغالب هم أولئك الكبراء الذين أرغموا على التظاهر بالإسلام ، ولم ينسوا بعد ترفعهم على جماهير الناس ، وتسمية هذه الجماهير بالسفهاء على طريقة العلية المتكبرين! : «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما(1/140)
هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ، وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا : إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا : أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ؟ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ. وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا : آمَنَّا ، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا : إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ ، وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ. أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ، يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ، وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ.يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
وفي ثنايا هذه الحملة على المنافقين - الذين في قلوبهم مرض - نجد إشارة إلى «شَياطِينِهِمْ». والظاهر من سياق السورة ومن سياق الأحداث في السيرة أنها تعني اليهود ، الذين تضمنت السورة حملات شديدة عليهم فيما بعد. أما قصتهم مع الدعوة فنلخصها في هذه السطور القليلة :
لقد كان اليهود هم أول من اصطدم بالدعوة في المدينة وكان لهذا الاصطدام أسبابه الكثيرة .. كان لليهود في يثرب مركز ممتاز بسبب أنهم أهل كتاب بين الأميين من العرب - الأوس والخزرج - ومع أن مشركي العرب لم يظهروا ميلا لاعتناق ديانة أهل الكتاب هؤلاء ، إلا أنهم كانوا يعدونهم أعلم منهم وأحكم بسبب ما لديهم من كتاب. ثم كان هنالك ظرف موات لليهود فيما بين الأوس والخزرج من فرقة وخصام - وهي البيئة التي يجد اليهود دائما لهم فيها عملا! - فلما أن جاء الإسلام سلبهم هذه المزايا جميعا .. فلقد جاء بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه. ثم إنه أزال الفرقة التي كانوا ينفذون من خلالها للدس والكيد وجر المغانم ، ووحد الصف الإسلامي الذي ضم الأوس والخزرج ، وقد أصبحوا منذ اليوم يعرفون بالأنصار ، إلى المهاجرين ، وألف منهم جميعا ذلك المجتمع المسلم المتضام المتراص الذي لم تعهد له البشرية من قبل ولا من بعد نظيرا على الإطلاق.
ولقد كان اليهود يزعمون أنهم شعب اللّه المختار ، وأن فيهم الرسالة والكتاب. فكانوا يتطلعون أن يكون الرسول الأخير فيهم كما توقعوا دائما. فلما أن جاء من العرب ظلوا يتوقعون أن يعتبرهم خارج نطاق دعوته ، وأن يقصر الدعوة على الأميين من العرب! فلما وجدوه يدعوهم - أول من يدعو - إلى كتاب اللّه ، بحكم أنهم أعرف به من المشركين ، وأجدر بالاستجابة له من المشركين .. أخذتهم العزة بالإثم ، وعدوا توجيه الدعوة إليهم إهانة واستطالة! ثم إنهم حسدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - حسدا شديدا. حسدوه مرتين(1/141)
: مرة لأن اللّه اختاره وأنزل عليه الكتاب - وهم لم يكونوا يشكون في صحته - وحسدوه لما لقيه من نجاح سريع شامل في محيط المدينة.
على أنه كان هناك سبب آخر لحنقهم ولموقفهم من الإسلام موقف العداء والهجوم منذ الأيام الأولى : ذلك هو شعورهم بالخطر من عزلهم عن المجتمع المدني الذي كانوا يزاولون فيه القيادة العقلية والتجارة الرابحة والربا المضعف! هذا أو يستجيبوا للدعوة الجديدة. ويذوبوا في المجتمع الإسلامي. وهما أمران - في تقديرهم - أحلاهما مر! لهذا كله وقف اليهود من الدعوة الإسلامية هذا الموقف الذي تصفه سورة البقرة ، (و سور غيرها كثيرة) في تفصيل دقيق ، نقتطف هنا بعض الآيات التي تشير إليه .. جاء في مقدمة الحديث عن بني إسرائيل هذا النداء العلوي لهم : «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ. وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ ، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا ، وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ. أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ؟ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ؟ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» .. وبعد تذكير هم طويلا بمواقفهم مع نبيهم موسى - عليه السلام - وجحودهم لنعم اللّه عليهم ، وفسوقهم عن كتابهم وشريعتهم ..
ونكثهم لعهد اللّه معهم .. جاء في سياق الخطاب لتحذير المسلمين منهم : «أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام اللّه ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون؟ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : أتحدثونهم بما فتح اللّه عليكم ليحاجوكم به عند ربكم؟ أفلا تعقلون؟» ..«وَقالُوا : لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً. قُلْ : أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ؟ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟» .. «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» ... «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. قالُوا : نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا ، وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ» ... «وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ... «ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ» ...
«وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» ...
«وَقالُوا : لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى . تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ» ... «وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» ... إلخ إلخ.(1/142)
وكانت معجزة القرآن الخالدة أن صفتهم التي دمغهم بها هي الصفة الملازمة لهم في كل أجيالهم من قبل الإسلام ومن بعده إلى يومنا هذا. مما جعل القرآن يخاطبهم - في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما لو كانوا هم أنفسهم الذين كانوا على عهد موسى - عليه السلام - وعلى عهود خلفائه من أنبيائهم باعتبار هم جبلة واحدة. سماتهم هي هي ، ودورهم هو هو ، وموقفهم من الحق والخلق موقفهم على مدار الزمان! ومن ثم يكثر الالتفات في السياق من خطاب قوم موسى ، إلى خطاب اليهود في المدينة ، إلى خطاب أجيال بين هذين الجيلين. ومن ثم تبقى كلمات القرآن حية كأنما تواجه موقف الأمة المسلمة اليوم وموقف اليهود منها. وتتحدث عن استقبال يهود لهذه العقيدة ولهذه الدعوة اليوم وغدا كما استقبلتها بالأمس تماما!
وكأن هذه الكلمات الخالدة هي التنبيه الحاضر والتحذير الدائم للأمة المسلمة ، تجاه أعدائها الذين واجهوا أسلافها بما يواجهونها اليوم به من دس وكيد ، وحرب منوعة المظاهر ، متحدة الحقيقة! وهذه السورة التي تضمنت هذا الوصف ، وهذا التنبيه ، وهذا التحذير ، تضمنت كذلك بناء الجماعة المسلمة وإعدادها لحمل أمانة العقيدة في الأرض بعد نكول بني إسرائيل عن حملها قديما ، ووقوفهم في وجهها هذه الوقفة أخيرا ..
تبدأ السورة - كما أسلفنا - بوصف تلك الطوائف التي كانت تواجه الدعوة أول العهد بالهجرة - بما في ذلك تلك الإشارة إلى الشياطين اليهود الذين يرد ذكر هم فيما بعد مطولا - وتلك الطوائف هي التي تواجه هذه الدعوة على مدار التاريخ بعد ذلك. ثم تمضي السورة على محورها بخطيه الأساسيين إلى نهايتها. في وحدة ملحوظة ، تمثل الشخصية الخاصة للسورة ، مع تعدد الموضوعات التي تتناولها وتنوعها.
فبعد استعراض النماذج الثلاثة الأولى : المتقين. والكافرين. والمنافقين. وبعد الإشارة الضمنية لليهود الشياطين .. نجد دعوة للناس جميعا إلى عبادة اللّه والإيمان بالكتاب المنزل على عبده. وتحدي المرتابين فيه أن يأتوا بسورة من مثله. وتهديد الكافرين بالنار وتبشير المؤمنين بالجنة .. ثم نجد التعجيب من أمر الذين يكفرون باللّه : «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ! هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
وعند هذا المقطع الذي يشير إلى خلق ما في الأرض جميعا للناس تجيء قصة استخلاف آدم في الأرض : «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ : إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» .. وتمضي القصة تصف المعركة الخالدة بين آدم والشيطان حتى تنتهي بعهد الاستخلاف - وهو عهد الإيمان - : «قُلْنَا : اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ(1/143)
مِنِّي هُدىً ، فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
بعد هذا يبدأ السياق جولة واسعة طويلة مع بني إسرائيل - أشرنا إلى فقرات منها فيما سبق - تتخللها دعوتهم للدخول في دين اللّه وما أنزله اللّه مصدقا لما معهم مع تذكيرهم بعثراتهم وخطاياهم والتوائهم وتلبيسهم منذ أيام موسى - عليه السلام - وتستغرق هذه الجولة كل هذا الجزء الأول من السورة.
ومن خلال هذه الجولة ترتسم صورة واضحة لاستقبال بني إسرائيل للإسلام ورسوله وكتابه .. لقد كانوا أول كافربه. وكانوا يلبسون الحق بالباطل. وكانوا يأمرون الناس بالبر - وهو الإيمان - وينسون أنفسهم. وكانوا يسمعون كلام اللّه ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه. وكانوا يخادعون الذين آمنوا بإظهار الإيمان وإذا خلا بعضهم إلى بعض حذر بعضهم بعضا من إطلاع المسلمين على ما يعلمونه من أمر النبي وصحة رسالته! وكانوا يريدون أن يردوا المسلمين كفارا. وكانوا يدعون من أجل هذا أن المهتدين هم اليهود وحدهم - كما كان النصارى يدعون هذا أيضا - وكانوا يعلنون عداءهم لجبريل - عليه السلام - بما أنه هو الذي حمل الوحي إلى محمد دونهم!
وكانوا يكرهون كل خير للمسلمين ويتربصون بهم السوء. وكانوا ينتهزون كل فرصة للتشكيك في صحة الأوامر النبوية ومجيئها من عند اللّه تعالى - كما فعلوا عند تحويل القبلة - وكانوا مصدر إيحاء وتوجيه للمنافقين. كما كانوا مصدر تشجيع للمشركين.
ومن ثم تتضمن السورة حملة قوية على أفاعيلهم هذه وتذكرهم بمواقفهم المماثلة من نبيهم موسى - عليه السلام - ومن شرائعهم وأنبيائهم على مدار أجيالهم. وتخاطبهم في هذا كأنهم جيل واحد متصل ، وجبلة واحدة لا تتغير ولا تتبدل.
وتنتهي هذه الحملة بتيئيس المسلمين من الطمع في إيمانهم لهم ، وهم على هذه الجبلة الملتوية القصد ، المؤوفة الطبع. كما تنتهي بفصل الخطاب في دعواهم أنهم وحدهم المهتدون ، بما أنهم ورثة إبراهيم.
وتبين أن ورثة إبراهيم الحقيقيين هم الذين يمضون على سنته ، ويتقيدون بعهده مع ربه وأن وراثة إبراهيم قد انتهت إذن إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين به ، بعد ما انحرف اليهود وبدلوا ونكلوا عن حمل أمانة العقيدة ، والخلافة في الأرض بمنهج اللّه ونهض بهذا الأمر محمد والذين معه. وأن هذا كان استجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وهما يرفعان القواعد من البيت : «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ، وَأَرِنا مَناسِكَنا ، وَتُبْ عَلَيْنا ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».(1/144)
وعند هذا الحد يبدأ سياق السورة يتجه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى الجماعة المسلمة من حوله حيث يأخذ في وضع الأسس التي تقوم عليها حياة هذا الجماعة المستخلفة على دعوة اللّه في الأرض ، وفي تمييز هذه الجماعة بطابع خاص ، وبمنهج في التصور وفي الحياة خاص.
ويبدأ في هذا بتعيين القبلة التي تتجه إليها هذه الجماعة. وهي البيت المحرم الذي عهد اللّه لإبراهيم وإسماعيل أن يقيماه ويطهراه ليعبد فيه اللّه وحده ، هذه القبلة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرغب ولا يصرح في الاتجاه إليها : «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» ..
ثم تمضي السورة في بيان المنهج الرباني لهذه الجماعة المسلمة. منهج التصور والعبادة ، ومنهج السلوك والمعاملة ، تبين لها أن الذين يقتلون في سبيل اللّه ليسوا أمواتا بل أحياء. وأن الإصابة بالخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات ليس شرا يراد بها ، إنما هو ابتلاء ، ينال الصابرون عليه صلوات اللّه ورحمته وهداه. وأن الشيطان يعد الناس الفقر ويأمرهم بالفحشاء واللّه يعدهم مغفرة منه وفضلا. وأن اللّه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ..
وتبين لهم بعض الحلال والحرام في المطاعم والمشارب. وتبين لهم حقيقة البر لا مظاهره وأشكاله. وتبين لهم أحكام القصاص في القتلى. وأحكام الوصية. وأحكام الصوم. وأحكام الجهاد. وأحكام الحج. وأحكام الزواج والطلاق مع التوسع في دستور الأسرة بصفة خاصة. وأحكام الصدقة وأحكام الربا .. وأحكام الدّين والتجارة ...
وفي مناسبات معينة يرجع السياق إلى الحديث عن بني إسرائيل من بعد موسى. وعن حلقات من قصة إبراهيم. ولكن جسم السورة - بعد الجزء الأول منها - ينصرف إلى بناء الجماعة المسلمة ، وإعدادها لحمل أمانة العقيدة ، والخلافة في الأرض بمنهج اللّه وشريعته. وتمييزها بتصورها الخاص للوجود ، وارتباطها بربها الذي اختارها لحمل هذه الأمانة الكبرى.
وفي النهاية نرى ختام السورة ينعطف على افتتاحها ، فيبين طبيعة التصور الإيماني ، وإيمان الأمة المسلمة بالأنبياء كلهم ، وبالكتب كلها وبالغيب وما وراءه ، مع السمع والطاعة : «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ، وَقالُوا : سَمِعْنا وَأَطَعْنا ، غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ، لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ، رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ(1/145)
قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا ، وَارْحَمْنا ، أَنْتَ مَوْلانا ، فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» ..
ومن ثم يتناسق البدء والختام ، وتتجمع موضوعات السورة بين صفتين من صفات المؤمنين وخصائص الإيمان. (1)
مقصودها إقامة الدليل على أن الكتاب هدى ليتبع يفي كل ما قال ، وأعظم ما يهدي إليه الإيمالن بالغيب ، ومجمعه الإيمان بالآخرة ، فمداره الإيمان بالبعث الذي أعربت عنه قصة البقرة التي مجارها الإيمان بالغيب فلذلك سميت بها السورة وكانت بذلك أحق من قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنها في نوع البشر ومما تقدمها في قصة بني إسرائيل من الأحياء بعد الإماتة بالصعق وكذلك ما شاكلها ، لأن الأحياء في في قصة البقرة عن سبب ضعيف في الظاهر بمباشرة من كان من آحاد الناس فهي أدل على القدرة ولا سيما وقد اتبعت بوصف القلوب والحجارة بما عم اللمهتدين بالكتاب والضالين فوصفها بالقسوة الموجبة للشقوة ووصفت الحجارة بالخشية الناشئة في الجملة عن التقوى المانحة للمدد المتعدي نفعه إلى عباد الله ، وفيها إشارة إلى أن هذا الكتاب فينا كما لو كان فينا خليفة من أولي العزم من الرسل يرشدنا في كل أمر إلى صواب المخرج منه فمن أعرض خاب ، ومن تردد كاد ، ومن أجاب اتقى وأجاد .
وسميت الزهراء لإنارتها طريق الهداية والكفاية في الدنيا والآخرة ، ولأيجابها إسفار الوجوه يفي يوم الجزاء لمن آمن بالغيب ولم يكن في شك مريب فيحال بينه وبين ما يشتهي ، بالسنام لأنه ليس في الإيمان بالغيب بعد التوحيد الذي هو الأساس الذي يتبني عليه كل خير والمنتهى الذي هو غاية السير والعالي على كل غير بأعلى ولا أجمع من الإيمان بالآخرة ، ولأن السنام أعلى ما في بطن المطية الحاملة والكتاب الذي هي سورته هو أعلى ما في الحامل للأمر وهو الشرع الذي أتاهم به رسولهم ( - صلى الله عليه وسلم - ) . (2)
خلاصة ما في هذه السورة من أمهات الشريعة
(1) دعوة الناس جميعا إلى عبادة ربهم.
(2) عدم اتخاذ أنداد له.
(3) ذكر الوحى والرسالة ، والحجاج على ذلك بهذا الكتاب المنزل على عبده ، وتحدى الناس كافة بالإتيان بمثله (4) ذكر أسّ الدين وهو توحيد اللّه.
(5) إباحة الأكل من جميع الطيبات.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 27)
(2) نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (1 / 24)(1/146)
(6) ذكر الأحكام العملية من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأحكام الصيام ، والحج والعمرة ، وأحكام القتال والقصاص.
(7) الأمر بإنفاق المال في سبيل اللّه.
(8) تحريم الخمر والميسر.
(9) معاملة اليتامى ومخالطتهم في المعيشة.
(10) أحكام الزوجية من طلاق ورضاعة وعدة.
(11) تحريم الربا والأمر بأخذ ما بقي منه.
(12) أحكام الدّين من كتابة وإشهاد وشهادة وحكم النساء والرجال في ذلك.
(13) وجوب أداء الأمانة.
(14) تحريم كتمان الشهادة.
(15) خاتمة ذلك كله ، الدعاء الذي طلب إلينا أن ندعوه به.
وعلى الجملة فقد فصلت فيها الأحكام ، وضربت الأمثال ، وأقيمت الحجج ، ولم تشتمل سورة على مثل ما اشتملت عليه ، ومن ثم سميت فسطاط القرآن. (1)
=================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (3 / 89)(1/147)
(3) سورة آل عمران
سمّيت هذه السورة في كلام النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وكلام الصحابة : سورة آل عمران ، ففي ( صحيح مسلم ) ، عن أبي أمامة : قال سمعت رسول الله يقول : ( اقرأوا الزهراوين : البقرة وآل عمران ) وفيه عن النَّوّاس بن سِمْعَان : قال سمعت النبي يقول : ( يؤتَى بالقرآن يوم القيامة تقدمُه سورة البقرة وآل عمران ) وروى الدارمي في ( مسنده ) : أنّ عثمان بن عَفان قال : ( من قرأ سورة آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة ) وسمّاها ابن عباس . في حديثه في ( الصحيح ) . قال : ( بِتّ في بيت رسول الله فنام رسول الله حتى إذا كان نصفُ الليل أو قبلَه بقليل أو بعدَه بقليل استيقظ رسول الله فقرأ الآيات من آخر سورة آل عمران ) . ووجه تسميتها بسورة آل عمران أنَّها ذُكرت فيها فضائل آل عمران وهو عمران بن ماتان أبو مريم وءاله هم زوجه حنة وأختها زوجة زكرياء النبي . وزكرياء كافل مريم إذ كان أبوها عمران توفي وتركها حمْلا فكفلها زوج خالتها .
ووصفها رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) بالزّهراء في حديث أبي أمامة المتقدّم .
وذكر الألوسي أنّها تسمّى : الأمان ، والكَنز ، والمُجادِلة ، وسورَة الاستغفار . ولم أره لِغيره ، ولعلّه اقتبس ذلك من أوصاف وُصفت بها هذه السورة ممّا ساقه القرطبي ، في المسألة الثالثة والرابعة ، من تفسير أول السورة .
وهذه السورة نزلت بالمدينة بالاتّفاق ، بعد سورة البقرة ، فقيل : إنّها ثانية لسورة البقرة على أنّ البقرة أولُ سورة نزلت بالمدينة ، وقيل : نزلت بالمدينة سورة المطفّفين أولاً ، ثم البقرة ، ثم نزلت سورة آل عمران ، ثم نزلت الأنفال في وقعة بدر ، وهذا يقتضي : أنّ سورة آل عمران نزلت قبل وقعة بدر ، للاتّفاق على أن الأنفال نزلت في وقعة بدر ، ويُبعد ذلك أنّ سورة آل عمران اشتملت على التذكير بنصر المسلمين يومَ بدر ، وأنّ فيها ذكْر يوم أحد ، ويجوز أن يكون بعضها نزل متأخّراً . وذَكَر الواحدي في أسباب النزول ، عن المفسّرين : أنّ أول هذه السورة إلى قوله : ( ونحن له مسلمون ( ( آل عمران : 84 ) نزل بسبب وقد نجران ، هو وفد السيد والعاقب ، أي سنة اثنتين من الهجرة ، ومن العلماء من قالوا : نزلت سورة آل عمران بعد سورة الأنفال ، وكان نزولها في وقعة أحد ، أي شوال سنة ثلاث ، وهذا وأقرب ، فقد اتفق المفسّرون على أنّ قوله تعالى : ( وإذ غدوت من أهلك تُبَوِّىءُ المؤمنون مقاعد للقتال ( ( آل عمران : 121 ) أنّه قتال يوم أحُد . وكذلك قوله : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ( ( آل عمران : 144 ) فإنّه مشير إلى الإرجاف يومَ أحد بقتل النبي ( - صلى الله عليه وسلم - )(1/148)
ويجوز أن يكون أولها نزل بعد البقرة إلى نهاية ما يشير إلى حديث وفد نجران ، وذلك مقدار ثمانين آية من أولها إلى قوله : ( وإذ غدوت من أهلك ( ( آل عمران : 121 ) قاله القرطبي في أول السورة ، وفي تفسير قوله : ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب ( ( آل عمران : 79 ) الآية . وقد تقدم القول في صدر سورة الفاتحة : إنّنا بينا إمكان تقارن نزول سور عدّة في مدة واحدة ، فليس معنى قولهم : نزلت سورة كذا بعد سورة كذا ، مراداً منه أنّ المعدودة نازلة بعد أخرى أنّها ابْتدىء نزولها بعد انتهاء الأخرى ، بل المراد أنّها ابتُدىءَ نزولها بعد ابتداءِ نزول التي سبقتها .
وقد عدت هذه السورة الثامِنة والأربعين في عداد نزول سور القرآن .
وعدد آيها مائتان في عَدّ الجمهور وعددها عند أهل العدد بالشام مائة وتسع وتسعون .
واشتملت هذه السورة ، من الأغراض : على الابتداء بالتنويه بالقرآن ، ومحمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) وتقسيم آيات القرآن ، ومراتب الأفهام في تلقّيها ، والتنويه بفضيلة الإسلام وأنّه لا يعدِلُه دين ، وأنّه لا يقبل دين عند الله ، بعد ظهور الإسلام ، غير الإسلام ، والتنويه بالتوراة والإنجيل ، والإيماء إلى أنّهما أنزلا قبل القرآن ، تمهيداً لهذا الدين فلا يحقّ للناس ، أن يكفروا به ، وعلى التعريف بدلائل إلاهية الله تعالى ، وانفراده ، وإبطال ضلالة الذين اتّخذوا آلهة من دون الله : مَن جعلوا له شركاء ، أو اتّخذوا له أبناء ، وتَهديد المشركين بأنّ أمرهم إلى زوال ، وألاّ يغرّهم ما هم فيه من البذخ ، وأنّ ما أعدّ للمؤمنين خير من ذلك ، وتهديدهم بزوال سلطانهم ، ثم الثناء على عيسى عليه السلام وآل بيته ، وذكر معجزة ظهوره ، وأنّه مخلوق لله ، وذكر الذين آمنوا به حقاً . وإبطال إلاهية عيسى ، ومن ثَمّ أفضى إلى قضية وفد نجران ولجاجتهم ، ثم محاجّة أهل الكتابين في حقيقة الحنيفية وأنّهم بعداء عنها ، وما أخذ الله من العهد على الرسل كلّهم : أن يؤمنوا بالرسول الخاتم ، وأنّ الله جعل الكعبة أول بيت وضع للناس ، وقد أعاد إليه الدين الحنيف كما ابتدأه فيه ، وأوجب حجّه على المؤمنين ، وأظهر ضلالات اليهود ، وسوء مقالتهم ، وافترائِهم في دينهم وكتمانهم ما أنزل إليهم . وذكَّر المسلمين بنعمته عليهم بدين الإسلام ، وأمرهم بالاتّحاد والوفاق ، وذكَّرهم بسابق سوء حالهم في الجاهلية ، وهوّن عليهم تظاهر معانديهم من أهل الكتاب والمشركين ، وذكَّرهم بالحذر من كيدهم وكيد الذين أظهروا الإسلام ثم عادوا إلى الكفر فكانوا مثلاً لتمييز الخبيث من الطيب ، وأمرهم بالاعتزاز بأنفسهم ، والصبر على تلقّي الشدائد ، والبلاء ، وأذى العدوِّ ، ووعدهم على ذلك بالنَّصر والتأييد وإلقاء الرعب منهم في نفوس عدوّهم ، ثم ذكّرهم بيوم أحُد ، ويوم بدر ، وضرب لهم الأمثال بما حصل فيهما ، ونوّه ، بشأن الشهداء من المسلمين ، وأمر المسلمين(1/149)
بفضائل الأعمال : من بذل المال في مواساة الأمة ، والإحسان ، وفضائل الأعمال ، وترك البخل ، ومذّمة الربا وختمت السورة بآيات التفكير في ملكوت الله . (1)
سورة آل عمران هي السورة الثالثة في ترتيب المصحف إذ تسبقها في الترتيب سورتا الفاتحة والبقرة.
وتبلغ آياتها مائتي آية. وهي مدنية باتفاق العلماء.
وسميت بسورة آل عمران ، لورود قصة آل عمران بها بصورة فيها شيء من التفصيل الذي لا يوجد في غيرها.
والمراد بآل عمران عيسى ، ويحيى ومريم ، وأمها. والمراد بعمران والد مريم أم عيسى - عليه السّلام - .
وقد ذكر العلماء أسماء أخرى لهذه السورة منها : أنها تسمى بسورة الزهراء ، لأنها كشفت عما التبس على أهل الكتاب من شأن عيسى - عليه السّلام - .
وتسمى بسورة الأمان ، من تمسك بها أمن الغلط في شأنه.
وتسمى بسورة الكنز لتضمنها الأسرار التي تتعلق بعيسى عليه السّلام.
وتسمى بسورة المجادلة ، لنزول أكثر من ثمانين آية منها في شأن مجادلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لوفدى نصارى نجران.
وتسمى بسورة طيبة ، لجمعها الكثير من أصناف الطيبين في قوله - تعالى - الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ.
قال القرطبي ما ملخصه : وهذه السورة ورد في فضلها آثار وأخبار. فمن ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان الكلابي قال : سمعت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقول : « يؤتى بالقرآن يوم القيامة وبأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران - وضرب لهما رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال : كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق - أى ضوء ، أو كأنهما فرقان - أى قطعتان من طير صواف - تحاجان عن صاحبهما ».
ثم قال : وصدر هذه السورة نزل بسبب وفد نجران ، وكانوا قد وفدوا على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إثر صلاة العصر ، عليهم ثياب الحبرات .
فقال بعض الصحابة : ما رأينا وفدا مثلهم جمالا وجلالة.
وحانت صلاتهم فقاموا فصلوا في المسجد إلى المشرق. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : دعوهم. ثم أقاموا بها أياما يناظرون رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في شأن عيسى ورسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يرد عليهم بالبراهين الساطعة ونزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية ، إلى أن آل أمرهم إلى أن دعاهم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إلى المباهلة
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (3 / 143)(1/150)
أما النصف الثاني من سورة آل عمران فقد كان نزول ما يقرب من ستين آية منه « 3 » في أعقاب غزوة أحد.
هذا ونرى من الخير قبل أن نبدأ في تفسير هذه السورة الكريمة بالتفصيل أن نذكر على سبيل الإجمال ما اشتملت عليه من توجيهات سامية ، وآداب عالية ، وأحكام جليلة ، وتشريعات قويمة.
إنك عند ما تفتح كتاب اللّه - تعالى - وتطالع سورة آل عمران تراها في مفتتحها تثبت أن المستحق للعبادة إنما هو اللّه وحده ، وتقيم البراهين الساطعة على ذلك.
الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ ، وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ.
ثم بعد أن مدحت أصحاب العقول السليمة لقوة إيمانهم ، وشدة إخلاصهم وكثرة تضرعهم إلى خالقهم - سبحانه - وبشرتهم بحسن العاقبة .. بعد أن فعلت ذلك ذمت الكافرين وتوعدتهم بسوء المصير فقالت : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ، وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ.قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ.
ثم تحدثت عن الشهوات التي زينت للناس ، وبينت ما هو خير منها ، وصرحت بأن الدين الحق الذي ارتضاه اللّه لعباده هو دين الإسلام ، وأن أهل الكتاب ما تركوا الحق الذي جاءهم به محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا بسبب ما استولى على قلوبهم من بغى وجحود ، وأنهم بسبب ما ارتكبوه من كفر وجرائم في الدنيا ، سيكون حالهم يوم القيامة أسوأ حال وسيكون مصيرهم أشنع مصير ، فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
ثم نهت السورة الكريمة المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصدقاء يلقون إليهم بالمودة ، وذكرتهم بأن اللّه - تعالى - لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا السماء ، وأنه - سبحانه - سيحاسب كل نفس بما كسبت يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً.
فإذا ما طالعت - أيها القارئ الكريم - الربعين : الثالث والرابع منها ، وجدت فيهما حديثا حكيما عن آل عمران.
قد تحدثت السورة الكريمة عما قالته امرأة عمران - أم مريم - عند ما أحست بالحمل في بطنها ، وعما قالته عند ما وضعت حملها.
قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى ، وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ.
وتحدثت عن الدعوات الخاشعات التي تضرع بها زكريا إلى ربه ، سائلا إياه الذرية الطيبة ، وكيف أن اللّه - تعالى - أجاب له دعاءه فبشره بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ.(1/151)
وتحدثت عن اصطفاء اللّه - تعالى - لمريم وتبشيرها بعيسى - عليه السّلام - وتعجبها من أن يكون لها ولد دون أن يمسها بشر وكيف أن اللّه - تعالى - قد رد عليها بما يزيل عجبها.
قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
وتحدثت عن الصفات الكريمة ، والمعجزات الباهرة التي منحها اللّه - تعالى - لعيسى - عليه السّلام - وعن دعوته للناس إلى عبادة اللّه وحده وعن موقف أعدائه منه وعن صيانة اللّه له من مكرهم وعن تشابه عيسى وآدم في شأن خلقهما بدون أب .. وكيف أن اللّه - تعالى - أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتحدى كل من يجادله بالباطل في شأن عيسى فقال :
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ : إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ، إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ، وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. ثم وجهت السورة الكريمة أربع نداءات إلى أهل الكتاب ، دعتهم فيها إلى عبادة اللّه وحده ، وإلى ترك الجدال بالباطل في شأن أنبيائه ، ووبختهم على كفرهم وعلى خلطهم الحق بالباطل.
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ، أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ.
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ.
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
ثم واصلت السورة الكريمة في الربعين : الخامس والسادس منها حديثها عن أهل الكتاب ، فمدحت القلة المؤمنة منهم ، وذمت من يستحق الذم منهم - وهم الأكثرون - وحكت بعض الرذائل التي عرفت عن أشرارهم وفريق من علمائهم.
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ ، وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
ثم بينت أن اللّه - تعالى - قد أخذ الميثاق على أنبيائه بأن يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأنهم قد أقروا بذلك وأمرت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يجابه مخالفيه بكلمة الحق التي جاء بها من عند اللّه ، وأن يخبرهم بأن من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه.(1/152)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ.
ثم ساقت السورة الكريمة بعض الشبهات التي أثارها اليهود حول ما أحله اللّه وحرمه عليهم من الأطعمة ، وردت عليهم بما يفضحهم ويثبت كذبهم ، ووبختهم على كفرهم وعلى صدهم الناس عن طريق الحق. وحذرت المؤمنين من مسالكهم الخبيثة التي يريدون من ورائها تفريق كلمتهم وفصم عرى أخوتهم واعتصامهم بحبل اللّه. وذكرتهم بنعمة الإيمان التي بسببها نالوا ما نالوا من الخير وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ، إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً ، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها.
ثم بشرت السورة الكريمة المؤمنين بأنهم خير أمة أخرجت للناس ، وإنهم هم الغالبون ماداموا معتصمين بدينهم .. وذكرت بعض العقوبات التي عاقب اللّه - تعالى - بها اليهود بسبب كفرهم بآياته ، وقتلهم أنبياءه ، وعصيانهم أوامره .. وأثنت على من يستحق الثناء من أهل الكتاب فقالت : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ، وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ ، وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ، وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. لَيْسُوا سَواءً.
وبعد أن أقامت السورة الكريمة - في عشرات الآيات منها - الأدلة الواضحة ، وساقت الحجج الساطعة على صحة دين الإسلام .. انتقلت إلى الحديث عن معارك السيف والسنان التي دارت بين أهل الحق وأهل الباطل.
فتحدثت في الربع السابع والثامن والتاسع والعاشر منها عن غزوة أحد.
وكان حديثها عن هذه الغزوة زاخرا بالتوجيهات الحكيمة والتربية القويمة ، والوصايا الحميدة ، والعظات الجليلة والتشريعات السامية ، والآداب العالية.
كان حديثها عنها هاديا للمسلمين في كل زمان ومكان إلى الطريق الذي يوصلهم إلى النصر ليسلكوه ، موضحا لهم طريق الفشل ليجتنبوه. كان حديثها عنها يدعو المسلمين كافة إلى الاعتبار بأحداث الحياة « وكيف أنها تسير على سنن وقوانين علينا أن نطلبها ونسلك السبيل إلى تعلمها ، وأن أحداث الحياة ليست مجموعة من المصادفات المتوالية ، أو التدفق العشوائى ، وإنما للنصر قوانين ، وللهزيمة قوانين. ومن(1/153)
الممكن أن ينهزم المسلمون في حرب ولو كان فيهم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إذا ما خالفوا عن أمره ، وسلكوا غير سبيل النصر ، وأن لهم النصر على عدوهم وإن فاقهم عددا وعدة إذا ما استطاعوا أن يرتفعوا إلى ما فوق فاعلية عدوهم إيمانا وعلما وتنظيما » .
لقد بدأت سورة آل عمران حديثها عن غزوة أحد بتذكير المؤمنين بما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل بدء المعركة من إعداد وتنظيم للصفوف ، وبما هم به بعضهم من فشل ، وبما تم لهم من نصر على أعدائهم في غزوة بدر .. استمع إلى القرآن وهو يحكى كل ذلك فيقول : وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
وفي هذا الربط بين الغزوتين تذكير للمؤمنين بأسباب انتصارهم في بدر وأسباب هزيمتهم في أحد : حتى يسلكوا في مستقبل حياتهم السبيل التي توصلهم إلى الظفر ، ويهجروا الطريق التي تقودهم إلى الفشل.
ثم وجهت السورة نداء إلى المؤمنين نهتهم فيه عن التعامل بالربا ، وحثتهم على المسارعة إلى الأعمال الصالحة التي توصلهم إلى رضوان اللّه ، لأنه إذا كان أعداؤهم يجمعون المال من كل طريق لحربهم ، فعليهم هم أن يتحروا الحلال في جمعهم للمال ، وأن يتبعوا الوسائل الشريفة التي تبلغهم إلى غايتهم النبيلة ، ثم حضتهم على الاعتبار بسنن اللّه في خلقه ، وأمرتهم بالتجلد والصبر ، ونهتهم عن الوهن والضعف ، وبشرتهم بأنهم هم الأعلون ، وشجعتهم على مواصلة الجهاد في سبيل اللّه فإن العاقبة لهم ، وأخبرتهم بأن ما أصابهم من آلام وجراح في أحد ، قد أصيب أعداؤهم بمثلها ، وأن الأيام دول ، وأن هزيمتهم في أحد من ثمارها أنها ميزت قوى الإيمان من ضعيفه ، لأن المصائب كثيرا ما تكشف عن معادن النفوس ، وخفايا الصدور.
قال - تعالى - قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ. وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ.
ثم بينت السورة الكريمة أن الآجال بيد اللّه وحده ، وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسول قد خلت من قبله الرسل ، وسيدركه الموت كما أدركهم. وأن الأخيار من أتباع الرسل السابقين كانوا يقاتلون معهم بثبات وصبر من أجل إعلاء كلمة اللّه .. فعلى المؤمنين في كل زمان ومكان أن يقدموا على الجهاد في سبيل اللّه بعزيمة صادقة ، وبنفوس مخلصة لأن الإقدام لا ينقص شيئا من الحياة ، كما أن الإحجام لا يؤخرها ، وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا.(1/154)
ثم حذرت السورة الكريمة المؤمنين من طاعة الكافرين لأن طاعتهم تفضى بهم إلى الخسران ، وبشرتهم بأن اللّه - تعالى - سيلقى الرعب في قلوب أعدائهم ، وأخبرتهم بأنه - سبحانه - قد صدق وعده معهم ، حيث مكنهم في أول معركة أحد من الانتصار على خصومهم وأنهم - أى المؤمنين - ما أصيبوا بما أصيبوا به في أحد إلا بسبب فشلهم وتنازعهم وتطلعهم إلى الغنائم ، ومخالفتهم لوصايا رسولهم - صلى الله عليه وسلم - .
قال - تعالى - وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ، حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ، وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. ولقد ذكرت السورة الكريمة المؤمنين بما حدث من بعضهم من فرار عن المعركة حتى لا يعودوا إلى ذلك مرة أخرى فقالت :
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ وبينت لهم كيف أن اللّه - تعالى - قد شملهم برحمته ، حيث أنزل عليهم النعاس في أعقاب المعركة ليكون أمانا لهم من الخوف ، وراحة لهم من الآلام التي أصابتهم ... وكيف أنه - سبحانه - قد فضح المنافقين ، ورد على أقوالهم وأراجيفهم بما يدحضها ويبطلها.
قال - تعالى - ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ. يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ، يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ ، يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا ، قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ ثم وجهت السورة الكريمة حديثها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوصفته بأكرم الصفات وأفضلها ، ونزهته عن كل قول أو فعل يتنافى مع منزلته الرفيعة .. وأمرته باللين مع أتباعه وبالعفو عنهم وبالاستغفار لهم ، وبمشاورتهم في الأمر.
ثم عادت السورة الكريمة فأكدت للمؤمنين أن ما أصابهم في أحد كان سببه من عند أنفسهم ، فهم الذين خالفوا ما أمرهم به نبيهم - صلى الله عليه وسلم - .
قال - تعالى - أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا ، قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ.
ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن غزوة أحد ببيان فضل الشهداء ، وما أعده اللّه لهم من ثواب جزيل ، وبالثناء على المؤمنين الصادقين الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ والذين لم يرهبهم قول المرجفين : إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ بل إن هذا القول زادهم إيمانا على إيمانهم ، وجعلهم يفوضون أمورهم إلى اللّه ويقولون : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
ولقد ذكر - سبحانه - أن حكمته قد اقتضت أن يحدث ما حدث في أحد حتى يتميز الخبيث من الطيب فقال - تعالى : ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ، وَما كانَ اللَّهُ(1/155)
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
وبعد هذا الحديث الحكيم المستفيض عن غزوة أحد ، عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن أهل الكتاب فذكرت جانبا من رذائل اليهود ، الذين حكى اللّه - تعالى - عنهم أنهم قالوا :
إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ وأنهم قالوا : أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ.
وأنهم قد نقضوا عهودهم مع اللّه وباعوا دينهم بدنياهم الفانية.
وقد توعدهم اللّه - تعالى - على ارتكابهم لهذه الرذائل والمنكرات بالعذاب المهين ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ .
ثم تحدثت السورة الكريمة في أواخرها عن صفات أولى الألباب ، وحكت عنهم ما كانوا يتضرعون به إلى اللّه من دعوات خاشعات ، وابتهالات طيبات ، وكيف أنه - سبحانه - قد أجاب لهم دعاءهم ببركة قوة إيمانهم ، وصفاء نفوسهم ، وطهارة قلوبهم.
وكانت الآية الخاتمة فيها تدعو المؤمنين إلى الصبر والمصابرة والمرابطة وتقوى اللّه ، لأن المؤمن الذي تتوفر فيه هذه الصفات يكون أهلا للفلاح في الدنيا والآخرة. قال - تعالى :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا ، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
هذا ونستطيع بعد هذا العرض الإجمالى لأهم المقاصد التي اشتملت عليها سورة آل عمران أن نستخلص ما يأتى :
أولا : أن السورة الكريمة قد اهتمت بإثبات وحدانية اللّه - تعالى - وإقامة الأدلة الساطعة على ذلك ، وإثبات أن الدين الحق الذي ارتضاه اللّه تعالى - لعباده هو دين الإسلام ، الذي أرسل به نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - .
وقد ساقت السورة الكريمة لإثبات هذه الحقائق آيات كثيرة منها قوله تعالى : اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.
وقوله - تعالى : شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ.
وقوله - تعالى : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ.
ثانيا : أن السورة الكريمة قد فصلت الحديث عن أحوال أهل الكتاب ، بأسلوب مقنع حكيم يحق الحق ويبطل الباطل.
فأنت إذا طالعتها بتدبر تراها تارة تتحدث عن الكفر الذي ارتكسوا فيه بسبب اختلافهم وبغيهم. وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.(1/156)
وتارة تتحدث عن نبذهم لكتاب اللّه وتحاكمهم إلى غيره. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ.
وتارة توبخهم على كفرهم بآيات اللّه. وعلى مجادلتهم بالباطل ، وعلى سوء أدبهم مع اللّه - تعالى - وعلى نقضهم لعهودهم ومواثيقهم ، وعلى كتمانهم لما أمرهم اللّه بإظهاره من حقائق.
وقد توعدتهم السورة الكريمة بسوء العذاب بسبب هذه الرذائل والمنكرات وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ.
وتارة تحذر المؤمنين من شرورهم فتقول : لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.
ولا تغفل السورة الكريمة عن مدح من يستحق المدح منهم ، لأن القرآن الكريم لا يذم إلا من يستحق الذم ، فقد قال - تعالى - لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ.
وقال - تعالى - وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً.
وقال - تعالى - : مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ.
هذا جانب من حديث سورة آل عمران عن أهل الكتاب ، وهو حديث يكشف عن حقيقتهم حتى يكون المؤمنون على بينة من أمرهم.
وقد تحدثت السورة. أيضا عن المشركين وعن المنافقين إلا أن حديثها عن أهل الكتاب كان أكثر وأشمل.
ثالثا : أن السورة الكريمة قد اهتمت اهتماما بارزا بتربية المؤمنين بتربية ينالون باتباعها النصر والسعادة في الدنيا والفوز والفلاح في الآخرة.
فقد وجهت إليهم سبعة نداءات أمرتهم فيها بتقوى اللّه ، وبالصبر والمصابرة والمرابطة ، ونهتهم عن طاعة الكافرين ، وعن التشبه بهم ، وعن اتخاذهم أولياء كما نهتم عن تعاطى الربا وعن كل ما يتنافى مع آداب دينهم وتعاليمه.
وهذه النداءات السبعة تراها في قوله تعالى :
1 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ 2 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ 3 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا 4 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً.
5 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ.(1/157)
6 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا 7 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا.
وبجانب هذه النداءات التي اشتملت على أسمى ألوان التربية الفاضلة ، والتوجيه القويم .. نرى السورة الكريمة تسوق للمؤمنين في آيات كثيرة منها ما يهدى بهم إلى الخير والرشاد ويبعدهم عن الشر والفساد. فهي تحكى لهم ألوانا من الدعوات التي يتضرع بها الأخيار من الناس لكي يتأسوا بهم. وتبين لهم أن حب الشهوات طبيعة في الناس إلا أن العقلاء منهم يجعلون حبهم لما يرضى اللّه فوق أى شيء آخر. وتحرضهم على الاعتصام بحبل اللّه وتحثهم على المسارعة إلى الأعمال الصالحة التي توصلهم إلى رضا اللّه.
إلى غير ذلك من التوجيهات الحكيمة التي زخرت بها سورة آل عمران والتي من شأنها أن تزيد المؤمنين إيمانا مع إيمانهم ، وأن تهديهم إلى الصراط المستقيم.
رابعا : أن السورة الكريمة عرضت أحداث غزوة أحد عرضا حكيما زاخرا بالعظات والعبر وفصلت الحديث عنها تفصيلا لا يوجد في غيرها من السور ، وساقت ما دار فيها بأسلوب بليغ مؤثر يخاطب العقول والعواطف ، ويكشف عن خفايا القلوب ونوازعها ، وطوايا النفوس وخواطرها ، ويعالج الأخطاء التي وقع فيها بعض المسلمين حتى لا يعودوا لمثلها ويشجعهم على المضي في طريق الجهاد حتى لا يؤثر في عزيمتهم ما حدث لهم في أحد ، ويبشرهم بأن اللّه - تعالى - قد عفا عمن فر منهم ، ويذكرهم بمظاهر فضل اللّه عليهم خلال المعركة وبعدها ، ويبصرهم بسنن اللّه التي لا تتخلف ، وبقوانينه التي لا تتبدل ، وبتعاليمه التي من سار عليها أفلح وانتصر ، ومن أعرض عنها خاب وخسر فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا. (1)
في هذه السورة ثلاثة فصول طويلة : الأول في صدد مناظرة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل الكتاب. والثاني في صدد مواقف اليهود ومكائدهم. والثالث في صدد وقعة حربية بين النبي والمسلمين والمشركين. وقد تخلل كل فصل ما يناسب موضوعه من محاجّات وتنديدات وتنويهات ومواعظ ومعالجات وتلقينات ومبادئ جليلة.
وجمهور المفسرين وكتّاب السيرة متفقون على أن المناظرة التي جاء الفصل الأول في صددها كانت مع وفد نصارى نجران. ولكنهم لا يذكرون متى قدم هذا الوفد إلى المدينة. وفي سياق لابن سعد في الجزء الثاني من طبقاته وللإمام أبي يوسف في كتابه الخراج نصّ عهد نبوي لهم من شهوده أبو سفيان بن حرب. وهذا قد يعني إن صحّ أن العهد كتب بعد فتح مكة بما لا يقل عن سنة. ويؤيد هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتاب العهد الذي كتبه لهم أمّنهم على أنفسهم وملّتهم وأرضهم وأموالهم وبيعهم وأن لا يغير أسقف
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (2 / 5)(1/158)
عن أسقفيته وفرض عليهم جزية سنوية مقدارها ألفا حلة وآذنهم فيه أن ذمته بريئة ممن أكل الربا منهم ...إلخ. لأن هذا لا يمكن أن يكون وقع إلّا بعد أن صار للنبي سلطان على اليمن.
وهذا إنما تمّ بعد فتح مكة. وقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد من نصارى نجران على النبي في سلسلة أخبار وقعت أحداثها قبل فتح مكة بمدة طويلة بل وقبل خبر وقعة أحد التي كانت في السنة الهجرية الثالثة. ولم يذكر تاريخا ولا كتاب عهد مع ذكره أن الشطر الأول من السورة قد نزل في مناسبة قدومه وأنهم تناظروا معه في أمر المسيح وأنه اقترح عليهم المباهلة وجعل لعنة اللّه على الكاذبين امتنعوا وقالوا له نوادعك ونبقى على ديننا .
وإجماع الروايات على أن الفصل الأول هو في صدد هذا الوفد ومجيء السورة في الترتيبات المرويّة بعد سورة الأنفال يسوغان القول إن وفد نجران قد قدم في وقت مبكر جدا من العهد المدني وقبل فتح مكة. ويكون خبر نزول سورة آل عمران بعد سورة الأنفال بسبب الفصل الذي فيه خبر المناظرة مع الوفد واردا صحيحا. وحينئذ يكون الخبر الذي رواه ابن سعد وأبو يوسف عن قدوم الوفد بعد فتح مكة وكتابة النبي - صلى الله عليه وسلم - عهدا له حادثا ثانيا.
وجمهور المفسرين متفقون كذلك على أن الوقعة الحربية التي جاء الفصل الثالث من فصول السورة في صددها هي وقعة أحد التي جرت بين المسلمين وبين جيش كفار قريش عند جبل أحد قرب المدينة بعد خمسة عشر شهرا من وقعة بدر حيث زحف صناديد قريش على رأس جيش كبير من مكة على يثرب لأخذ ثأرهم من يوم بدر. وورود هذا الفصل في السورة يؤيد وجاهة كون السورة نزلت بعد سورة الأنفال التي دار معظمها على وقعة بدر. ولقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد نجران قبل خبر وقعة أحد. وقد يؤيد كون وفد نجران جاء قبل وقعة أحد ورود فصل المناظرة في السورة قبل فصل أحد. ولعل انتصار النبي والمسلمين في بدر على أهل مكة كان ذا دويّ عظيم في أنحاء الجزيرة - وهذا مما لا يتحمل ريبا - حفّز نصارى نجران على إرسال وفدهم لاستطلاع النبأ النبوي العظيم وسهل قدومه. واللّه تعالى أعلم.
ومن المحتمل أن تكون مواقف اليهود التي جاء الفصل الثاني في صددها قد كانت في ظروف قدوم وفد نجران فوضعت فصلا ثانيا. وفي كتب التفسير روايات تذكر أن اليهود كانوا طرفا ثالثا في ما كان يجري من مناظرة بين النبي ووفد نجران. وفي هذا الفصل خطاب موجّه إلى أهل الكتاب عامة حينا وإلى النصارى واليهود حينا مما فيه تأييد لذلك. ولقد ذكرت روايات المفسرين اسم بني النضير في سياق تفصيل المواقف اليهودية التي حكاها الفصل. وبنو النضير إنما أجلوا عن المدينة بعد وقعة أحد. وفي هذا تأييد آخر. وقد يدل هذا أن وقعة أحد قد كانت بعد ذلك فوضع فصلها بعد الفصلين. ومع كل ما تقدم(1/159)
فنحن نرجح أن فصول السورة وآياتها قد رتبت بعد استكمال نزولها كما هو شأن سورة البقرة. واللّه أعلم. (1)
هذه السورة مدنية ، وعدد آياتها مائتان باتفاق العادّين.
ووجه اتصالها بما قبلها أمور :
(1) إن كلا منهما بدئ بذكر الكتاب وحال الناس في الاهتداء به - فقد ذكر فى الأولى من آمن به ومن لم يؤمن به والمذبذبين بين ذلك ، وفي الثانية طائفة الزائغين الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة ، وطائفة الراسخين في العلم الذين يؤمنون بمحكمه ومتشابهه ، ويقولون كل من عند ربنا.
(2) إن في الأولى تذكيرا بخلق آدم ، وفي الثانية تذكيرا بخلق عيسى ، وتشبيه الثاني بالأول في أنه جرى على غير سنة سابقة في الخلق.
(3) إن في كل منهما محاجة لأهل الكتاب ، لكن في الأولى إسهاب في محاجة اليهود واختصار في محاجة النصارى ، وفي الثانية عكس هذا ، لأن النصارى متأخرون فى الوجود عن اليهود ، فليكن الحديث معهم تاليا في المرتبة للحديث الأول.
(4) إن في آخر كل منهما دعاء ، إلا أن الدعاء في الأولى ينحو نحو طلب النصر على جاحدى الدعوة ومحاربى أهلها ، ورفع التكليف بما لا يطاق ، وهذا مما يناسب بداءة الدين ، والدعاء في الثانية يرمى إلى قبول دعوة الدين وطلب الجزاء على ذلك في الآخرة.
(5) إن الثانية ختمت بما يناسب بدء الأولى كأنها متممة لها ، فبدئت الأولى بإثبات الفلاح للمتقين ، وختمت هذه بقوله : « وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » (2) .
تمهيد بين يدي السورة
1 - سورة النساء هي الرابعة في ترتيب المصحف. فقد سبقتها سورة الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران.
ويبلغ عدد آياتها خمسا وسبعين ومائة آية عند علماء الحجاز والبصريين ، ويرى الكوفيون أن عدد آياتها ست وسبعون ومائة آية ، لأنهم عدوا قوله - تعالى - أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ آية.
ويرى الشاميون أن عدد آياتها سبع وسبعون ومائة آية ، لأنهم عدوا قوله - تعالى - وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً آية.
كما أنهم وافقوا الكوفيين في أن قوله - تعالى - أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ آية.
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (7 / 105)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (3 / 90)(1/160)
أما علماء الحجاز والبصريون فيرون أن ما ذكره الكوفيون والشاميون إنما هو جزء من آية وليس آية كاملة.
2 - وسورة النساء من السور المدنية. وكان نزولها بعد سورة الممتحنة ويؤيد أنها مدنية ما رواه البخاري عن عائشة - رضى اللّه عنها - قالت : « ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عند رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ».
ومن المتفق عليه عند العلماء أن دخوله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة كان بعد الهجرة. وروى العوفى عن ابن عباس أنه قال : نزلت سورة النساء بالمدينة. وكذا روى ابن مردويه عن عبد اللّه بن الزبير وزيد بن ثابت.
قال الآلوسى : « وزعم بعض الناس أنها مكية. مستندا إلى أن قوله - تعالى - : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ... نزلت بمكة في شأن مفتاح الكعبة. وتعقبه السيوطي بأن ذلك مستند واه ، لأنه لا يلزم من نزول آية أو آيات بمكة ، من سورة طويلة ، نزل معظمها بالمدينة ، أن تكون مكية. خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة فهو مدني. ومن راجع أسباب نزولها عرف الرد عليه ».
والحق ، أن الذي يقرأ سورة النساء من أولها إلى آخرها بتدبر وإمعان ، يرى في أسلوبها وموضوعاتها سمات القرآن المدني. فهي زاخرة بالحديث عن الأحكام الشرعية : من عبادات ومعاملات وحدود. وعن علاقة المسلمين ببعضهم وبغيرهم. وعن أحوال أهل الكتاب والمنافقين ، وعن الجهاد في سبيل اللّه. إلى غير ذلك من الموضوعات التي يكثر ورودها في القرآن المدني.
ومن هنا قال القرطبي : « ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها » « 1 ».
3 - سورة النساء سميت بهذا الاسم لأن ما نزل منها في أحكام النساء أكثر مما نزل في غيرها.
وكثيرا ما يطلق عليها اسم « سورة النساء الكبرى » تمييزا لها عن سورة أخرى عرضت لبعض شئون النساء وهي « سورة الطلاق » التي كثيرا ما يطلق عليها اسم « سورة النساء الصغرى ».
4 - ومن وجوه المناسبة بين هذه السورة وبين سورة آل عمران التي قبلها : أن سورة آل عمران اختتمت بالأمر بالتقوى في قوله - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وسورة النساء افتتحت بالأمر بالتقوى. قال - تعالى - :
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ.
قال الآلوسى : « وذلك من آكد وجوه المناسبات في ترتيب السور. وهو نوع من أنواع البديع يسمى في الشعر : تشابه الأطراف. وقوم يسمونه بالتسبيغ. وذلك كقول ليلى الأخيلية :
إذا نزل الحجاج أرضا مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة رواها
رواها فأرواها بشرب سجالها دماء رجال حيث نال حشاها(1/161)
ومنها أن في سورة آل عمران تفصيلا لغزوة أحد. وفي سورة النساء حديث موجز عنها في قوله - تعالى - : فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا.
وكما في قوله - تعالى - : وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ.
ومنها : أن في كلتا السورتين محاجة لأهل الكتاب ، وبيانا لأحوال المنافقين ، وتفصيلا لأحكام القتال.
ومن أمعن نظره - كما يقول الآلوسى - وجد كثيرا مما ذكر في هذه السورة مفصلا لما ذكر فيما قبلها. فحينئذ يظهر مزيد الارتباط وغاية الاحتباك ».
5 - ومن الآثار التي وردت في فضل سورة النساء ، ما رواه قتادة عن ابن عباس أنه قال :
ثماني آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت.
أولهن : يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ.
والثانية : وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ. وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً.
والثالثة : يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً.
والرابعة : إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها.
والخامسة : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ.
والسادسة : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
والسابعة : وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ.
والثامنة : وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً.
وكأن ابن عباس - رضى اللّه عنهما - قد نظر إلى ما تدل عليه هذه الآيات الكريمة من فضل اللّه على عباده. ورحمة بهم ، وفتح لباب التوبة والمغفرة في وجوههم ، وإلا فإن القرآن كله بكل سوره وآياته خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت.
6 - هذا ، وسورة النساء تعتبر أطول سورة مدنية بعد سورة البقرة. وإنك لتقرؤها بتدبر وتفهم فتراها قد اشتملت على مقاصد عالية ، وآداب سامية. وتوجيهات حكيمة ، وتشريعات جليلة.
تراها تنظم المجتمع الإسلامى تنظيمة دقيقا قويما ، يؤدى اتباعه إلى سعادة المجتمع واستقراره داخليا وخارجيا.
فأنت تراها في مطلعها تحض الناس على تقوى اللّه والخشية منه ، وتبين الارتباط الإنسانى الجامع الذي تلتقي عنده البشرية جميعا.قال - تعالى - يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً.(1/162)
وإذا كان الناس جميعا ينتهون إلى أصل واحد ، فإن هذا الاتحاد يقتضى منهم أن يكونوا متراحمين متعاطفين ، ومن أبرز مظاهر التراحم ، الأخذ بيد الضعفاء ومعاونتهم في كل ما يحتاجون إليه.
لذا نجد السورة الكريمة بعد أن تفتتح بأمر الناس بتقوى اللّه ، تتبع ذلك بالأمر بالإحسان إلى اليتامى - الذين هم أوضح الضعفاء مظهرا - في خمس آيات في الربع الأول منها.
وهذه الآيات هي قوله - تعالى - : وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ.
وقوله - تعالى - : وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ.
وقوله - تعالى - : وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ.
وقوله - تعالى - : وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ.
وقوله - تعالى - : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً.
ولم تكتف السورة الكريمة في أوائلها بالحض على الإحسان إلى اليتامى ، بل حضت - أيضا - على الإحسان إلى النساء ، وإعطائهن حقوقهن كاملة.
ثم تراها بعد ذلك في الربع الثاني منها تتحدث عن التوزيع المالى للأسرة عند ما يموت واحد منها ، وتضع لهذا التوزيع أحكم الأسس وأعدلها وأضبطها وتبين أن هذا التوزيع حد من حدود اللّه التي يجب التزامها وعدم مخالفتها.قال - تعالى - : تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ.
ثم تحدثت السورة الكريمة عن حكم النسوة اللاتي يأتين الفاحشة ، وعن التوبة التي يقبلها اللّه - تعالى - ، والتوبة التي لا يقبلها. ووجهت نداء إلى المؤمنين نهتهم فيه عن أخذ شيء من حقوق النساء ، وأمرتهم بحسن معاشرتهن ، كما نهتهم عن نكاح أنواع معينة منهن ، لأن نكاحهن يتنافى مع شريعة الإسلام وآدابه.قال - تعالى - : وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ ، إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا.
ثم تراها في الربع الثالث منها تتحدث عن المحصنات من النساء وعن حقوقهن ، وبينت للناس أن اللّه - تعالى - ما شرع هذه الأحكام القويمة إلا لمصلحتهم ومنفعتهم.
استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى هذا المعنى فتقول : يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً.(1/163)
ثم صرحت السورة الكريمة بأن للرجال القوامة على النساء ، وذكرت ضروب التأديب التي يملكها الرجل على زوجته ، وكلها من غير قسوة ولا شذوذ ولا طغيان ، ودعت أهل الخير إلى الإصلاح بين الزوجين إذا ما نشب بينهما نزاع أو شقاق.قال - تعالى - : وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ، إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً.
وبعد أن فصلت السورة الكريمة الحديث عما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الزوجين ، وبين أفراد الأسرة ، انتقلت في الربع الرابع منها إلى بيان العلاقة بين العبد وخالقه ، وأنها يجب أن تقوم على إخلاص العبادة له - سبحانه - كما يجب على المسلم أن يجعل علاقته مع والديه ومع أقاربه ومع اليتامى والمساكين. وغيرهم ، قائمة على الإحسان وعلى التعاطف والتراحم.
ثم توعدت السورة الكريمة من يشرك باللّه ، ويخالف أوامره بالعذاب الأليم. وبينت أن الكافرين سيندمون أشد الندم على كفرهم يوم القيامة ولكن ندمهم لن ينفعهم ، لأنه جاء بعد فوات الأوان.قال - تعالى - يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ ، لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً.
ثم شنت السورة الكريمة حملة عنيفة على اليهود الذين كانوا يجاورون المؤمنين بالمدينة ، والذين كانوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا والذين كانوا ينطقون بالباطل ويشهدون الزور عن تعمد وإصرار ، وقد بينت السورة الكريمة أن حسدهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي دفعهم إلى افتراء الكذب على اللّه - تعالى - وأنهم قد طردوا من رحمة اللّه بسبب كفرهم وعنادهم وإيذائهم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - الذي يعرفون صدقه كما يعرفون أبناءهم.قال - تعالى - : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ، فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً.
ثم بينت السورة الكريمة بعد ذلك في الربع الخامس منها : الأساس الذي يقوم عليه الحكم في الإسلام ، فذكرت أن العدل والأمانة هما الدعامتان الراسختان اللتان يقوم عليهما الحكم في الإسلام. ووجهت إلى المؤمنين نداء أمرتهم فيه بطاعة اللّه وطاعة رسوله وأولى الأمر منهم ، كما أمرتهم بأن يردوا كل تنازع يحصل بينهم إلى ما يقضى به كتاب اللّه وسنة رسوله ، لأن التحاكم إلى غيرهما لا يليق بمؤمن.
ثم أخذت السورة الكريمة في توبيخ المنافقين الذين يزعمون أنهم مؤمنون ومع ذلك يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ. وأمرت النبي - صلى الله عليه وسلم - بزجرهم وبالإعراض عنهم ، وأخبرته بأنهم لا إيمان لهم ما داموا لم يرتضوا حكمه.(1/164)
قال - تعالى - : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.
وبعد هذا التهديد والتوبيخ للمنافقين ، ساقت السورة الكريمة البشارات السارة للمؤمنين الصادقين فقالت : وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ ، وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً. ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً.
ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن الجهاد في سبيل اللّه ، لأن الحق يجب أن يكون هو السائد في الأرض ولأن المؤمن لا يليق به أن يستسلم للأعداء ، بل عليه أن يجاهدهم وأن يغلظ عليهم حتى تكون كلمة اللّه هي العليا.
لذا نجد السورة الكريمة توجه إلى المؤمنين نداء تأمرهم فيه بالحذر وأخذ الأهبة لقتال أعدائهم ، وتحرضهم على هذا القتال للأعداء ، بأقوى ألوان التحريض وأحكمها.
فأنت تراها في الربع السادس منها تأمر المؤمنين بالقتال في سبيل اللّه ، وتبشر هؤلاء المقاتلين بأنهم لن يصيبهم إلا إحدى الحسنيين ، وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.
وتستبعد أن يقصر المؤمنون في أداء هذا الواجب ، لأن تقصيرهم يتنافى مع إيمانهم ، وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ وتبين لهم أن قتالهم إنما هو من أجل إعلاء كلمة اللّه ، وقتال أعدائهم لهم إنما هو من أجل إعلاء كلمة الطاغوت.الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ، فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً.
وتضرب لهم الأمثال بسوء عاقبة الذين جبنوا عن القتال حين كتب عليهم وقالوا : رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ.
وتخبرهم بأن الموت سيدرك المقدام كما يدرك الجبان فعليهم أن يكونوا من الذين يقدمون على الموت بدون جبن أو وجل مادام الجبن لا يؤخر الحياة كما أن الإقدام لا ينقصها.قال - تعالى - أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ.
وهكذا تحرض السورة الكريمة المؤمنين على القتال في سبيل اللّه بأسمى ألوان التحريض وأشدها وأنفعها.
ثم عادت السورة الكريمة إلى تحذير المؤمنين من المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، والذين يعوقون أهل الحق عن قتال أعدائهم ، وأمرت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يمضى هو ومن معه في طريق القتال من أجل إعلاء كلمة اللّه دون أن يلتفت إلى هؤلاء المنافقين ، لأنهم لا يريدون بهم إلا الشر.قال -(1/165)
تعالى - : فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ، وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا.
ثم واصلت السورة في الربع السابع منها حديثها عن المنافقين ، فذكرت ما ينبغي أن يعاملوا به ، وكشفت عن طبائعهم الذميمة ، وأخلاقهم القبيحة ، ونهت المؤمنين عن اتخاذهم أولياء أو نصراء ، وأمرتهم أن يضيقوا عليهم ويقتلوهم إذا ما استمروا في نفاقهم وشقاقهم وارتكاسهم في الفتنة.قال - تعالى - : فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ، وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً ، فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً.
ثم تحدثت السورة عن حكم القتل الخطأ. وتوعدت من يقتل مؤمنا متعمدا بغضب اللّه عليه ، ولعنه له ، وإنزال العذاب العظيم به.
ثم أمرت المؤمنين بأن يجعلوا قتالهم من أجل إعلاء كلمة اللّه ، لا من أجل المغانم والأسلاب ، وألا يقاتلوا إلا من يقاتلهم. وبشرت المجاهدين في سبيل اللّه بما أعده اللّه لهم من درجات عالية يتميزون بها عن غيرهم من القاعدين ، وتوعدت الذين يرضون الذلة لأنفسهم بسوء المصير ، وذلك لأن الحق لا تعلو رايته في الأرض إلا إذا كان أتباعه أقوياء. يأبون الذل والخضوع لغير سلطان اللّه - تعالى - . قال - سبحانه - : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ، قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا : كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ، قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها؟ فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ ، لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ، وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً.
ثم بشرت السورة الكريمة في مطلع الربع الثامن منها الذين يهاجرون في سبيل اللّه ، بالخير الوفير والأجر الجزيل فقالت.وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ، وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
ثم أرشدت المؤمنين إلى الطريقة التي يؤدون بها فريضة الصلاة في حال جهادهم ، لأن الصلاة فريضة محكمة لا يسقطها الجهاد ، بل هي تقوى دوافعه ، وتحسن ثماره ونتائجه.
كما أمرتهم بالإكثار من ذكر اللّه في كل أحوالهم ، وبمواصلة جهاد أعدائهم بدون كلل أو ملل حتى تكون كلمة اللّه هي العليا.قال - تعالى - : فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ ، فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً. وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ.(1/166)
ثم بينت السورة الكريمة أن اللّه - تعالى - قد أنزل القرآن على نبيه - صلى الله عليه وسلم - لكي يحكم بين الناس بالعدل الذي أراه اللّه إياه ، ونهت الأمة في شخصه - صلى الله عليه وسلم - عن الخيانة والميل مع الهوى ووبخت المنافقين الذين « يستخفون من الناس ولا يستخفون من اللّه ، كما وبخت الذين يدافعون عنهم أو يسيرون في ركابهم. وذكرت جانبا من مظاهر عدله - سبحانه - ، ورحمته الشاملة.
أما عدله فمن مظاهره أنه جعل الجزاء من جنس العمل وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ .
وأما شمول رحمته فمن مظاهرها أنه - سبحانه - فتح باب التوبة لعباده وأكرمهم بقبولها متى صدقوا فيها : وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً.
ثم بينت السورة الكريمة في مطلع الربع التاسع منها أن الاستخفاء بالأقوال والأفعال عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكثره لا خير فيه فقالت : لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ.
ثم تحدثت عن الذين يؤذون رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فتوعدتهم بسوء المصير ، ووبختهم على جهالاتهم وضلالاتهم وسيرهم في ركاب الشيطان الذي يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً. أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً.
ثم بينت أن اللّه - تعالى - لا تنفع عنده الأمانى والأنساب ، وإنما الذي ينفع عنده هو الإيمان والعمل الصالح.قال - تعالى - : لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً.
ثم تحدثت السورة الكريمة عن بعض الأحكام التي تتعلق بالنساء وأمرت بالإصلاح بين الزوجين ، وبينت أن العدل التام بين النساء من كل الوجوه غير مستطاع ، فعلى الرجال أن يكونوا متوسطين في حبهم وبغضهم ، وعليهم كذلك أن يعاشروا النساء بالمعروف وأن يفارقوهن كذلك بالمعروف وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً.
ثم وجهت السورة الكريمة في الربع العاشر منها نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بأن يلتزموا الحق في كل شئونهم ، وأن يجهروا به ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين ، لأن العدالة المطلقة التي أتى بها الإسلام لا تعرف التفرقة بين الناس.
ثم بينت السورة الكريمة حقيقة النفاق والمنافقين وكررت تحذيرها للمؤمنين من شرورهم.
وإن أدق وصف لهؤلاء المنافقين هو قوله - تعالى - في شأنهم : مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ ، وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا.
وقد توعدهم اللّه بسبب نفاقهم وخداعهم بأشد ألوان العذاب فقال - سبحانه - :(1/167)
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً.
ثم حكت السورة الكريمة في الربع الحادي عشر منها ما أدب اللّه به عباده ، وما أرشدهم إليه من خلق كريم وهو منع الجهر بالسوء من القول ، ولكنه - سبحانه - رخص للمظلوم أن يتكلم في شأن ظالمه بالكلام الحق. لأنه - تعالى - لا تخفى عليه خافية. قال - تعالى لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً. إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً.
ثم تحدثت عن بعض رذائل اليهود. وعن العقوبات التي عاقبهم اللّه بها بسبب ظلمهم وفسوقهم. قال - تعالى - : فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً. وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ، وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
أما في الربع الثاني عشر والأخير منها فقد تحدثت السورة الكريمة عن وحدة الرسالة الإلهية.
وبينت أن اللّه - تعالى - قد أوحى إلى نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - كما أوحى إلى النبيين من قبله ، وأن حكمته - سبحانه - قد اقتضت أن يرسل رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.
ثم وجهت في أواخرها نداء عاما إلى الناس تأمرهم فيه بالإيمان بما جاءهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - . كما وجهت نداء آخر إلى أهل الكتاب تنهاهم فيه عن السير في طريق الضلالة ، وعن الأقوال الباطلة التي قالوها في شأن عيسى ، فإن عيسى كغيره من البشر من عباد اللّه - تعالى - ، ولن يستنكف أن يكون عبدا للّه - تعالى - : ْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ ، وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ، وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ ، فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً.
وكما تحدثت السورة الكريمة في أوائلها عن بعض أحكام الأسرة ، فقد اختتمت بالحديث عن ذلك ، لكي تبين للناس أن الأسرة هي عماد المجتمع ، وهي أساسه الذي لا صلاح له إلا بصلاحها.قال - تعالى - : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ، إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ، وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ، فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ ، وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
هذا عرض إجمالى لبعض المقاصد السامية ، والآداب العالية ، والتشريعات الحكيمة ، والتوجيهات القويمة التي اشتملت عليها السورة الكريمة.
ومن هذا العرض نرى أن سورة النساء - كما يقول بعض العلماء - : « قد عالجت أحوال المسلمين فيما يتعلق بتنظيم شئونهم الداخلية ، عن طريق إصلاح الأسرة وإصلاح المال في ظل تشريع قوى عادل ، مبنى على مراعاة مقتضيات الطبيعة الإنسانية ، مجرد من تحكيم الأهواء والشهوات.(1/168)
وذلك إنما يكون إذا كان صادرا عن حكيم خبير بنزعات النفوس واتجاهاتها وميولها.
كما عالجت أحوالهم فيما يختص بحفظ كيانهم الخارجي ، عن طريق التشريعات والتوجيهات التي اشتملت عليها السورة الكريمة ، والتي من شأنها أن تحفظ للأمة كيانها وشخصيتها متى تمسكت بها ، وأن تجعلها قادرة على دفع الشر الذي يطرأ عليها من أعدائها.
بل إن السورة الكريمة لم تقف عند حد التنبيه على عناصر المقاومة المادية ، وإنما نبهت على ما يجب أن تحفظ به عقيدة الأمة ومبادئها من التأثر بما يلقى في شأنها من الشكوك والشبه. وفي هذا إيحاء يجب على المسلمين أن يلتفتوا إليه ، وهو أن يحتفظوا بمبادئهم كما يحتفظون بأوطانهم.
وأن يحصنوا أنفسهم من شر حرب أشد خطرا ، وأبعد في النفوس أثرا من حرب السلاح المادي : تلك هي حرب التحويل من مبدأ إلى مبدأ ، ومن دين إلى دين ، مع البقاء في الأوطان والإقامة في الديار والأموال.
ألا وإن شخصية الأمة ليتطلب بقاؤها الاحتفاظ بالجانبين : جانب الوطن والسلطان.
وجانب العقيدة والإيمان. وعلى هذا درج سلفنا الصالح فعاشوا في أوطانهم آمنين. وبمبادئهم وعقائدهم متمسكين » . (1)
«وهي مائتا آية» أخرج ابن الضريس ، والنحاس ، والبيهقي من طرق عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنها نزلت بالمدينة ، واسمها في التوراة - كما روى سعيد بن منصور - طيبة ، وفي صحيح مسلم تسميتها والبقرة الزهراوين - وتسمى الأمان ، والكنز ، والمعنية ، والمجادلة ، وسورة الاستغفار ، ووجه مناسبتها لتلك السورة أن كثيرا من مجملاتها تشرح بما في هذه السورة وأن سورة البقرة بمنزلة إقامة الحجة وهذه بمنزلة إزالة الشبهة ولهذا تكرر فيها ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقيقة الكتاب من إنزال الكتاب وتصديقه للكتب قبله والهدى إلى الصراط المستقيم ، وتكررت آية قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ [البقرة : 136] بكمالها ولذلك ذكر في هذه ما هو تال لما ذكر في تلك أو لازم له ، فذكر هناك خلق الناس ، وذكر هنا تصويرهم في الأرحام ، وذكر هناك مبدأ خلق آدم ، وذكر هنا مبدأ خلق أولاده وألطف من ذلك أنه افتتح البقرة بقصة آدم وخلقه من تراب ولا أم ، وذكر في هذه نظيره في الخلق من غير أب وهو عيسى ، ولذلك ضرب له المثل بآدم ، واختصت البقرة بآدم لأنها أول السور وهو أول في الوجود وسابق ، ولأنها الأصل وهذه كالفرع والتتمة لها فاختصت بالأغرب ، ولأنها خطاب لليهود الذين قالوا في مريم ما قالوا وأنكروا وجود ولد بلا أب ففوتحوا بقصة آدم لتثبت في أذهانهم فلا تأتي قصة
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (3 / 7)(1/169)
عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشهد لها من جنسها ، ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم والمقيس عليه لا بد وأن يكون معلوما لتتم الحجة بالقياس فكانت قصة آدم - والسورة التي هي فيها - جديرة بالتقديم.
وقد ذكر بعض المحققين من وجوه التلازم بين الصورتين أنه قال في البقرة في صفة النار : أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [البقرة : 24] مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معا ، وقال في آخر هذه : وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران : 133] فكأن السورتين بمنزلة سورة واحدة ، مما يقوي المناسبة والتلازم بينهما أن خاتمة هذه مناسبة لفاتحة تلك لأن الأولى افتتحت بذكر المتقين وأنهم المفلحون وختمت هذه بقوله تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران : 130 ، 220] وافتتحت الأولى بقوله سبحانه : الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة : 4] وختمت آل عمران بقوله تعالى : وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ [آل عمران : 199] وقد ورد أن اليهود قالوا لما نزل مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ [البقرة : 245 ، الحديد : 11] الآية : يا محمد افتقر ربك يسأل عباده القرض فنزل لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران : 181] وهذا مما يقوي التلازم أيضا ، ومثله أنه وقع في البقرة حكاية قول إبراهيم : رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة : 129] الآية وهنا لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران : 164] الآية إلى غير ذلك. (1)
مدى صلتها بسورة البقرة :
هناك أوجه اتّصال وشبه ومقارنة بين السورتين : البقرة وآل عمران ، وهي ما يأتي :
1 - موقف الناس من القرآن : بدئت السورتان بذكر القرآن (أو الكتاب) وحدد موقف الناس منه ، ففي البقرة : ذكر حال المؤمنين وغير المؤمنين به ، وفي آل عمران : ذكر موقف الزائغين الذين يتصيّدون ما تشابه منه ، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وموقف الرّاسخين في العلم الذين يؤمنون بمحكمه ومتشابهه ، قائلين : كلّ من عند ربّنا.
2 - عقد التّشابه بين خلق آدم وخلق عيسى : ففي البقرة تذكير بخلق آدم ، وفي آل عمران تذكير بخلق عيسى ، وتشبيه الثاني بالأول في خلق غير معتاد.
3 - محاجّة أهل الكتاب : في السورة الأولى : إفاضة في محاجّة اليهود وبيان عيوبهم ونقائصهم ونقضهم العهود ، وفي الثانية : إيجاز في محاجّة النصارى ، لتأخرهم في الوجود عن اليهود.
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (2 / 71)(1/170)
4 - تعليم صيغة الدّعاء في ختام كلّ منهما : في الأولى دعاء يناسب بدء الدّين ويمسّ أصل التّشريع وبيان خصائصه في قلّة التّكاليف ودفع الحرج والأخذ باليسر والسماحة ، وفي الثانية : دعاء بالتّثبيت على الدّين وقبول دعوة اللّه إلى الإيمان ، وطلب الثواب عليه في الآخرة.
5 - إثبات الفلاح للمؤمنين : ختمت السورة الثانية بقوله تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وهو ما بدئت به السّورة الأولى بقوله تعالى واصفا المؤمنين :
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
ما اشتملت عليه السورة :
تضمّنت هذه السّورة الكلام على جانبي العقيدة والتّشريع ، أما العقيدة :
فقد أثبتت الآيات وحدانية اللّه ، والنّبوة ، وصدق القرآن ، وإبطال شبهات أهل الكتاب حول القرآن والنّبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وإعلان كون الدّين المقبول عند اللّه هو الإسلام ، ومناقشة النصارى في شأن المسيح وألوهيته والتكذيب برسالة الإسلام ، واستغرقت المناقشة قرابة نصف السورة ، كما استغرقت سورة البقرة ما يزيد عن ثلثها في مناقشة اليهود وتعداد قبائحهم وجرائمهم ، بالإضافة إلى ما تضمنته هذه السّورة من تقريعاتهم ، والتحذير من مكائد أهل الكتاب.
وأما التّشريع : فقد أبانت الآيات بعض أحكام الشرع مثل فرضية الحج والجهاد وتحريم الرّبا وجزاء مانع الزّكاة ، وبعض الدروس والعبر والعظات من غزوتي بدر وأحد ، والتّنديد بمواقف أهل النّفاق.
ثم ختمت السورة بما يناسب الجانبين ، فطالبت بالتّفكير والتّدبّر في خلق السّموات والأرض وما فيهما من عجائب وأسرار ، وأوصت بالصبر على الجهاد والمرابطة في سبيل اللّه ، ليحظى الإنسان برتبة الفلاح : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
سبب التّسمية :
سميت السورة سورة آل عمران لإيراد قصة أسرة عمران والد مريم أم عيسى فيها ، وإعداد مريم التي نذرتها أمها للعبادة ، وتسخير اللّه الرّزق لها في المحراب واصطفائها وتفضيلها على نساء عالمي زمانها ، وتبشيرها بإنجاب عيسى صاحب المعجزات «1» وسميت آل عمران والبقرة بالزّهراوين لأنّهما النّيّرتان الهاديتان قارئهما للحقّ بما فيهما من أنوار ، أي معان ، أو لما يترتب على قراءتهما من النور التام يوم القيامة ، أو لأنهما اشتركتا فيما تضمنه اسم اللّه الأعظم ،روى أبو داود وابن ماجه وغيرهما عن أسماء بن(1/171)
يزيد أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : «إن اسم اللّه الأعظم في هاتين الآيتين : وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ، والتي في آل عمران : اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ». . (1)
المقاصد التي سيقت لها هذه السورة إثبات الوحدانية لله سبحانه وتعالى , والإخبار بأن رئاسة الدنيا بالأموال والأولاد وغيرهما مما آثره الكفار على الإسلام غير مغنية عنهم شيئاً في الدنيا ولا في الآخرة , وأن ما أعد للمتقين من الجنة والرضوان هو الذي ينبغي الأقبال عليه والمسارعة اليه وفي وصف المتقين بالإيمان والدعاء والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار ما يتعطف عليه كثير من أفانين أساليب هذه السورة ـ هذا ما كان ظهر لي أولاً , وأحسن منه أن نخص القصد الأول وهو التوحيد بالقصد فيها فإن الأمرين الآخرين يرجعان إليه , وذلك لأن الوصف بالقيومية يقتضي القيام بالاستقامة , فالقيام يكون على كل نفس , والاستقامه العدل كما قال : {قائماً بالقسط} [آل عمران : 18] أي بعقاب العاصي وثواب الطائع بما يقتضي للموقف ترك العصيان ولزوم الطاعة ؛ وهذا الوجه أوفق الترتيب , لأن الفاتحة لما كانت جامعة للدين إجمالاً جاء به التفصيل محاذياً لذلك , فابتدىء بسورة الكتاب المحيط بأمْر الدين , ثم بسورة التوحيد الذي هو سر حرف الحمد وأول حروف الفاتحة , لأن التوحيد هو الأمر الذي لا يقوم بناء إلا عليه , ولما صح الطريق وثبت الأساس جاءت التي بعدها داعية إلىالاجتماع على ذلك ؛ وأيضاً فلما ثبت بالبقرة أمر الكتاب في أنه هدى وقامت به دعائم الإسلام الخمس جاءت هذه لإثبات الدعوة الجامعة في قوله سبحانه وتعالى : {يأيها الناس اعبدوا ربكم} [ البقرة : 21] فأثبت الوحدانيه له بأبطال إلهيه غيره بإثبات أن عيسى عليه السلام الذي كان يحيي الموتى عبده فغيره بطريق الأولى , فلما ثبت أن الكل عبيده دعت سورة النساء إلى إقبالهم أليه واجتماعهم عليه ؛ ومما يدل على أن القصد بها هو التوحيد تسميتها بآل عمران , فإن لم يعرب عنه في هذه السورة ما أعرب عنه ما ساقه سبحانه وتعالى فيها من لإخبارهم بما فيها من الأدلة على القدرة التامة الموجبة للتوحيد الذي ليس في درج الإيمان أعلى منه , فهو التاج الذي هو خاصة الملك المحسوسة , كما أن التوحيد خاصته المعقولة , والتوحيد موجب لزهرة المتحلي به فلذلك سميت الزهراء. (2)
هذا القرآن هو كتاب هذه الدعوة. هو روحها وباعثها. وهو قوامها وكيانها. وهو حارسها وراعيها.
وهو بيانها وترجمانها. وهو دستورها ومنهجها. وهو في النهاية المرجع الذي تستمد منه الدعوة - كما يستمد منه الدعاة - وسائل العمل ، ومناهج الحركة ، وزاد الطريق ..
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (3 / 140) وصفوة التفاسير ـ للصابونى - (1 / 115)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (2 / 3)(1/172)
ولكن ستظل هنالك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل في حسنا ، ونستحضر في تصورنا أن هذا القرآن خوطبت به أمة حية ، ذات وجود حقيقي ووجهت به أحداث واقعية في حياة هذه الأمة ووجهت به حياة إنسانية حقيقية في هذه الأرض وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية وفي رقعة من الأرض كذلك. معركة تموج بالتطورات والانفعالات والاستجابات.
وسيظل هنالك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن. طالما نحن نتلوه أو نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهوّمة ، لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية اليومية التي تواجه هذا الخلق المسمى بالإنسان ، والتي تواجه هذه الأمة المسماة بالمسلمين! بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسا ووقائع وأحداثا حية ، ذات كينونة واقعية حية ووجهت بالفعل تلك النفوس والوقائع والأحداث توجيها واقعيا حيا ، نشأ عنه وجود ، ذو خصائص في حياة «الإنسان» بصفة عامة ، وفي حياة الأمة المسلمة بوجه خاص.
ومعجزة القرآن البارزة تكمن في أنه نزل لمواجهة واقع معين في حياة أمة معينة ، في فترة من فترات التاريخ محددة ، وخاض بهذه الأمة معركة كبرى حولت تاريخها وتاريخ البشرية كله معها ، ولكنه - مع هذا - يعايش ويواجه ويملك أن يوجه الحياة الحاضرة ، وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهة الجماعة المسلمة في شؤونها الجارية ، وفي صراعها الراهن مع الجاهلية من حولها ، وفي معركتها كذلك في داخل النفس ، وفي عالم الضمير ، بنفس الحيوية ، ونفس الواقعية التي كانت له هناك يومذاك.
ولكي نحصل نحن من القرآن على قوته الفاعلة ، وندرك حقيقة ما فيه من الحيوية الكامنة ، ونتلقى منه التوجيه المدخر للجماعة المسلمة في كل جيل .. ينبغي أن نستحضر في تصورنا كينونة الجماعة المسلمة الأولى التي خوطبت بهذا القرآن أول مرة .. كينونتها وهي تتحرك في واقع الحياة ، وتواجه الأحداث في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها وتتعامل مع أعدائها وأصدقائها وتتصارع مع شهواتها وأهوائها ويتنزل القرآن حينئذ ليواجه هذا كله ، ويوجه خطاها في أرض المعركة الكبيرة : مع نفسها التي بين جنبيها ، ومع أعدائها المتربصين بها في المدينة وفي مكة وفيما حولهما .. وفيما وراءهما كذلك ..
أجل .. يجب أن نعيش مع تلك الجماعة الأولى ونتمثلها في بشريتها الحقيقية ، وفي حياتها الواقعية ، وفي مشكلاتها الإنسانية ونتأمل قيادة القرآن لها قيادة مباشرة في شؤونها اليومية وفي أهدافها الكلية على السواء ونرى كيف يأخذ القرآن بيدها خطوة خطوة. وهي تعثر وتنهض. وتحيد وتستقيم. وتضعف وتقاوم. وتتألم وتحتمل. وترقى الدرج الصاعد في بطء ومشقة ، وفي صبر ومجاهدة ، تتجلى فيها كل خصائص الإنسان ، وكل ضعف الإنسان ، وكل طاقات الإنسان.
ومن ثم نشعر أننا نحن أيضا مخاطبون بالقرآن في مثل ما خوطبت به الجماعة الأولى. وأن بشريتنا التي نراها ونعرفها ونحسها بكل خصائصها ، تملك الاستجابة للقرآن ، والانتفاع بقيادته في ذات الطريق.(1/173)
إننا بهذه النظرة سنرى القرآن حيا يعمل في حياة الجماعة المسلمة الأولى ويملك أن يعمل في حياتنا نحن أيضا. وسنحس أنه معنا اليوم وغدا. وأنه ليس مجرد تراتيل تعبدية مهوّمة بعيدة عن واقعنا المحدد ، كما أنه ليس تاريخا مضى وانقضى وبطلت فاعليته وتفاعله مع الحياة البشرية.
إن القرآن حقيقة ذات كينونة مستمرة كهذا الكون ذاته. الكون كتاب اللّه المنظور. والقرآن كتاب اللّه المقروء. وكلاهما شهادة ودليل على صاحبه المبدع كما أن كليهما كائن ليعمل .. والكون بنواميسه ما زال يتحرك ويؤدي دوره الذي قدره له بارئه. الشمس ما زالت تجري في فلكها وتؤدي دورها ، والقمر والأرض ، وسائر النجوم والكواكب لا يمنعها تطاول الزمان من أداء دورها ، وجدة هذا الدور في المحيط الكوني ..
والقرآن كذلك أدى دوره للبشرية ، وما يزال هو هو. فالإنسان ما يزال هو هو كذلك. ما يزال هو هو في حقيقته وفي أصل فطرته. وهذا القرآن هو خطاب اللّه لهذا الإنسان - فيمن خاطبهم اللّه به. خطاب لا يتغير ، لأن الإنسان ذاته لم يتبدل خلقا آخر ، مهما تكن الظروف والملابسات قد تبدلت من حوله ، ومهما يكن هو قد تأثر وأثر في هذه الظروف والملابسات .. والقرآن يخاطبه في أصل فطرته وفي أصل حقيقته التي لا تبديل فيها ولا تغيير ويملك أن يوجه حياته اليوم وغدا لأنه معد لهذا ، بما أنه خطاب اللّه الأخير وبما أن طبيعته كطبيعة هذا الكون ثابتة متحركة بدون تبديل.
وإذا كان من المضحك أن يقول قائل عن الشمس مثلا : هذا نجم قديم «رجعي؟» يحسن أن يستبدل به نجم جديد «تقدمي!» أو أن هذا «الإنسان» مخلوق قديم «رجعي» يحسن أن يستبدل به كائن آخر «تقدمي» لعمارة هذه الأرض!!!
إذا كان من المضحك أن يقال هذا أو ذاك ، فأولى أن يكون هذا هو الشأن في القرآن. خطاب اللّه الأخير للإنسان.
وهذه السورة تمثل قطاعا حيا من حياة الجماعة المسلمة في المدينة من بعد «غزوة بدر» - في السنة الثانية من الهجرة - إلى ما بعد «غزوة أحد» في السنة الثالثة. وما أحاط بهذه الحياة من ملابسات شتى في خلال هذه الفترة الزمنية. وفعل القرآن - إلى جانب الأحداث - في هذه الحياة ، وتفاعله معها في شتى الجوانب.
والنصوص من القوة والحيوية بحيث تستحضر صورة هذه الفترة وصورة الحياة التي عاشتها الجماعة المسلمة وصورة الاشتباكات والملابسات التي أحاطت بهذه الحياة. مع استبطان السرائر والضمائر ، وما يدب فيها من الخواطر ، وما يشتجر فيها من المشاعر ، حتي لكأن قارئها يعيش هذه الأحداث ، ويعايش الأمة التي كانت تخوضها وتتفاعل وإياها. ولو أغمض الإنسان عينيه فلربما تراءت له - كما تراءت لي -(1/174)
شخوص الجماعة المسلمة رائحة غادية ، بسماتها الظاهرة على الوجوه ، ومشاعرها المستكنة في الضمائر. ومن حولها أعداؤها يتربصون بها ، ويبيتون لها ، ويلقون بينها بالفرية والشبهة ، ويتحاقدون عليها ، ويجمعون لها ، ويلقونها في الميدان ، وينهزمون أمامها - في أحد - ثم يكرون عليها فيوقعون بها .. وكل ما يجري في المعركة من حركة وكل ما يصاحب حركاتها من انفعال باطن وسمة ظاهرة .. والقرآن يتنزل ليواجه الكيد والدس ، ويبطل الفرية والشبهة ، ويثبت القلوب والاقدام ، ويوجه الأرواح والأفكار ، ويعقب على الحادث ويبرز منه العبرة ، ويبني التصور ويزيل عنه الغبش ، ويحذر الجماعة المسلمة من العدو الغادر والكيد الماكر ، ويقود خطاها بين الأشواك والمصايد والأحابيل ، قيادة الخبير بالفطرة العليم بما تكن الصدور ..
ومن وراء هذا كله تبقى التوجيهات والتلقينات التي احتوتها السورة خالصة طليقة من قيد الزمان والمكان ، وقيد الظروف والملابسات ، تواجه النفس البشرية ، وتواجه الجماعة المسلمة - اليوم وغدا - وتواجه الإنسانية كلها ، وكأنها تتنزل اللحظة لها ، وتخاطبها في شأنها الحاضر ، وتواجهها في واقعها الراهن. ذلك أنها تتناول أمورا وأحداثا ومشاعر وجدانية وحالات نفسية كأنما كانت ملحوظة في سياق السورة .. بل هي ملحوظة قطعا في تقدير العليم الخبير بالنفوس والأشياء والأمور.
ومن ثم يتجلى أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة في أي مكان وفي أي زمان. وهو دستور هذه الأمة في أي جيل ومن أي قبيل. وهو حادي الطريق وهادي السبيل على توالي القرون .. ذلك أنه خطاب اللّه الأخير لهذا الإنسان في جميع العصور ..
في هذه الفترة كانت الجماعة المسلمة في المدينة قد استقرت بعض الاستقرار في موطنها الجديد في مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومضت خطوة وراء الموقف الذي صورناه من قبل في هذه الظلال في مطلع استعراض «سورة البقرة».
كانت غزوة بدر الكبرى قد وقعت وكتب اللّه فيها النصر للمسلمين على قريش. وكان هذا النصر بظروفه التي تم فيها والملابسات التي أحاطت به تبدو فيه رائحة المعجزة الخارقة .. ومن ثم اضطر رجل كعبد اللّه بن أبي بن سلول من عظماء الخزرج أن ينزل عن كبريائه وكراهته لهذا الدين ونبيه - صلى الله عليه وسلم - وأن يكبت حقده وحسده للرسول الكريم وأن ينضم - منافقا - للجماعة المسلمة ، وهو يقول : «هذا أمر قد توجه» .. أي ظهرت له وجهة هو ماض فيها لا يردّه عنها راد!
بذلك وجدت بذرة النفاق في المدينة - أو تمت وأفرخت ، فقد كان هناك قبل بدر من اضطروا لمنافقة أهلهم الذين دخلوا في الإسلام - وأصبحت مجموعة من الرجال ، ومن ذوي المكانة فيهم ، مضطرة إلى التظاهر بالإسلام ، والانضمام إلى المجتمع المسلم ، بينما في أنفسها الحقد والعداء للإسلام والمسلمين(1/175)
وتتربص بهم الدوائر وتتلمس الثغرات في الصف وتترقب الأحداث التي تضعضع قوى المسلمين أو تزعزع الصف المسلم ، ليظهروا كوامن صدورهم ، أو ليضربوا ضربة الإجهاز إذا كان ذلك في مكنتهم! وقد وجد هؤلاء المنافقون حلفاء طبيعيين لهم في اليهود ، الذين كانوا يجدون في أنفسهم من الحقد على الإسلام والمسلمين ، وعلى نبي الإسلام - عليه الصلاة والسلام - مثل ما يجد المنافقون بل أشد. وقد هدّدهم الإسلام تهديدا قويا في مكانتهم بين «الْأُمِّيِّينَ» من العرب في المدينة وسدّ عليهم الثغرة التي كانوا ينفذون منها للعب بين الأوس والخزرج ، بعد ما أصبحوا بنعمة اللّه إخوانا ، وفي ظل الإسلام صفا واحدا مرصوصا.
وقد غص اليهود وشرقوا بانتصار المسلمين في بدر ، وارتفع غليان حقدهم على الجماعة المسلمة ، وانطلقوا بكل ما يملكون من دس وكيد وتآمر يحاولون تفتيت الصف الإسلامي ، وإلقاء الحيرة في قلوب المسلمين ، ونشر الشبهات والشكوك ، في عقيدتهم وفي أنفسهم على السواء!
وفي هذه الفترة وقع حادث بني قينقاع فوضح العداء وسفر .. على الرغم مما كان بين اليهود والنبي - صلى الله عليه وسلم - من مواثيق أبرمها معهم عقب مقدمه إلى المدينة.
كذلك كان المشركون موتورين من هزيمتهم في بدر ، يحسبون ألف حساب لانتصار محمد - صلى الله عليه وسلم - ومعسكر المدينة ، وللخطر الذي يتمثل إذن على تجارتهم وعلى مكانتهم وعلى وجودهم كذلك! ومن ثم يتهيأون لدفع هذا الخطر الماحق قبل أن يصبح القضاء عليه مستحيلا.
وبينما كان أعداء المعسكر الإسلامي في عنفوان قوتهم وفي عنفوان حقدهم كذلك! كان الصف المسلم ما يزال في أوائل نشأته بالمدينة. غير متناسق تماما. فيه الصفوة المختارة من السابقين من المهاجرين والأنصار ولكن فيه كذلك نفوس وشخصيات لم تنضج بعد. والجماعة كلها على العموم لم تنل من التجارب الواقعية ما يسوي النتوءات ، ويوضح حقيقة الدعوة وحقيقة الظروف الملابسة لها ، وحقيقة منهجها العملي وتكاليفه.
كان للمنافقين - وعلى رأسهم عبد اللّه بن أبي - مكانتهم في المجتمع ، وروابطهم العائلية والقبلية لم تنفصم بعد ولم ينضج في نفوس المسلمين الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي أسرتهم وهي قبيلتهم وهي وشيجتهم التي لا وشيجة معها. ومن ثم كانت هناك خلخلة في الصف الإسلامي بسبب وجود مثل هذه العناصر مندمجة في الصف ، مؤثرة في مقاديره. (كما يتجلى ذلك في أحداث غزوة أحد عند استعراض النصوص الخاصة بها في السورة).
وكان لليهود مكانتهم كذلك في المدينة ، وارتباطاتهم الاقتصادية والتعهدية مع أهلها. ولم يتبين عداؤهم سافرا. ولم ينضج في نفوس المسلمين كذلك الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي العهد وهي الوطن وهي(1/176)
أصل التعامل والتعاقد ، وأنه لا بقاء لصلة ولا وشيجة إذا هي تعارضت مع العقيدة! ومن ثم كانت لليهود فرصة للتوجيه والتشكيك والبلبلة. وكان هناك من يسمع لقولهم في الجماعة المسلمة ويتأثر به. وكان هناك من يدفع عنهم ما يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل بهم من إجراءات لدفع كيدهم عن الصف المسلم (كما حدث في شفاعة عبد اللّه بن أبي في بني قينقاع ، وإغلاظه في هذا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ).
ومن ناحية أخرى كان المسلمون قد انتصروا في بدر ذلك النصر الكامل الباهر بأيسر الجهد والبذل. فقد خرج ذلك العدد القليل من المسلمين ، غير مزودين بعدة ولا عتاد - إلا اليسير - فلاقوا ذلك الجحفل الضخم من قريش في عدتهم وعتادهم. ثم لم تلبث المعركة أن انجلت عن ذلك النصر المؤزر الباهر.
وكان هذا النصر في الوقعة الأولى التي يلتقي فيها جند اللّه بجند الشرك قدرا من قدر اللّه. ندرك اليوم طرفا من حكمته. ولعله كان لتثبيت الدعوة الناشئة وتمكينها. بل لإثبات وجودها الفعلي على محك المعركة ، لتأخذ بعد ذلك طريقها.
فأما المسلمون فلعلهم قد وقع في نفوسهم - من هذا النصر - أنه الشأن الطبيعي الذي لا شأن غيره. وأنه لا بد ملازمهم على أي حال في كل مراحل الطريق! أليسوا بالمسلمين؟ أليس أعداؤهم بالكافرين؟ وإذن فهو النصر لا محالة حيثما التقى المسلمون بالكافرين! غير أن سنة اللّه في النصر والهزيمة ليست بهذه الدرجة من البساطة والسذاجة ، فلهذه السنة مقتضياتها في تكوين النفوس ، وتكوين الصفوف ، وإعداد العدة ، واتباع المنهج ، والتزام الطاعة والنظام ، واليقظة لخوالج النفس ولحركات الميدان .. وهذا ما أراد اللّه أن يعلمهم إياه بالهزيمة في «غزوة أحد» على النحو الذي تعرضه السورة عرضا حيا مؤثرا عميقا ، وتعرض أسبابه من تصرفات بعض المسلمين وتوجه في ظله العظات البناءة للنفس وللصف على السواء.
وحين نراجع غزوة أحد نجد أن تعليم المسلمين هذا الدرس قد كلفهم أهوالا وجراحات وشهداء من أعز الشهداء - على رأسهم حمزة رضي اللّه عنه وأرضاه - وكلفهم ما هو أشق من ذلك كله على نفوسهم .. كلفهم أن يروا رسولهم الحبيب تشج جبهته وتكسر سنه ، ويسقط في الحفرة ، ويغوص حلق المغفر في وجنته - صلى الله عليه وسلم - الأمر الذي لا يقوم بوزنه شيء في نفوس المسلمين! ويسبق استعراض «غزوة أحد» وأحداثها في السورة قطاع كبير تستغرقه كله توجيهات متشعبة لتصفية التصور الإسلامي من كل شائبة ولتقرير حقيقة التوحيد جلية ناصعة ، والرد على الشبهات التي يلقيها أهل الكتاب ، سواء منها ما هو ناشئ من انحرافاتهم هم في معتقداتهم ، وما يتعمدون إلقاءه في الصف المسلم من شبهات ماكرة لخلخلة العقيدة وخلخلة الصف من وراء خلخلة العقيدة.
وتذكر عدة روايات أن الآيات من 1 - 83 نزلت في الحوار مع وفد نصارى نجران اليمن الذي قدم المدينة في السنة التاسعة للهجرة. ونحن نستبعد أن تكون السنة التاسعة هي زمن نزول هذه الآيات.(1/177)
فواضح من طبيعتها وجوها أنها نزلت في الفترة الأولى من الهجرة ، حيث كانت الجماعة المسلمة بعد ناشئة. وكان لدسائس اليهود وغيرهم أثر شديد في كيانها وفي سلوكها.
وسواء صحت رواية أن الآيات نزلت في وفد نجران أم لم تصح فإنه واضح من الموضوع الذي تعالجه أنها تواجه شبهات النصارى وبخاصة ما يتعلق منها بعيسى عليه السلام ، وتدور حول عقيدة التوحيد الخالص كما جاء به الإسلام. وتصحح لهم ما أصاب عقائدهم من انحراف وخلط وتشويه. وتدعوهم إلى الحق الواحد الذي تضمنته كتبهم الصحيحة التي جاء القرآن بصدقها.
ولكن هذا الفصل يتضمن كذلك إشارات وتقريعات لليهود وتحذيرات للمسلمين من دسائس أهل الكتاب.
وما كان يجاورهم في المدينة من أهل الكتاب ممن يمثل مثل هذا الخطر إلا اليهود.
وعلى أية حال فإن هذا الفصل الذي يستغرق حوالي نصف السورة يصور جانبا من جوانب الصراع بين العقيدة الإسلامية والعقائد المنحرفة في الجزيرة كلها .. وهو ليس صراعا نظريا إنما هو الجانب النظري من المعركة الكبيرة الشاملة بين الجماعة المسلمة الناشئة وكل أعدائها الذين كانوا يتربصون بها ، ويتحفزون من حولها ، ويستخدمون في حربها كل الأسلحة وكل الوسائل. وفي أولها زعزعة العقيدة!
وهي في صميمها المعركة التي ما تزال ناشبة إلى هذه اللحظة بين الأمة المسلمة وأعدائها .. إنهم هم هم : الملحدون المنكرون ، والصهيونية العالمية ، والصليبية العالمية!!!
ومن مراجعة نصوص السورة يتبين أن الوسائل هي الوسائل كذلك والأهداف هي الأهداف. ويتجلى أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة ، ومرجع هذه الأمة - اليوم وغدا - كما كان قرآنها ومرجعها بالأمس في نشأتها الأولى. وأنه لا يعرض عن استنصاح هذا الناصح واستشارة هذا المرجع في المعركة الناشبة اليوم إلا مدخول يعرض عن سلاح النصر في المعركة ويخدع نفسه أو يخدع الأمة ، لخدمة أعدائها القدامى المحدثين في غفلة بلهاء أو في خبث لئيم! ومن خلال المناقشات والجدل والاستعراض والتوجيه في هذا المقطع الأول يتبين موقف أهل الكتاب المنحرفين عن كتابهم ، من الجماعة المسلمة والعقيدة الجديدة ، ممثلا في أمثال هذه النصوص :
«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ، ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ...» ..
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ؟» ..
« يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ...؟» ..(1/178)
«وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ..» ..
«يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ؟» ..
«يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟» ..
«وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ : آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ! ..» ..
«وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا : لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ! وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» ..
«وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ - وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ - وَيَقُولُونَ : هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» ..
«قُلْ : يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ» ..
«قُلْ : يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ؟».
«ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ. وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا : آمَنَّا. وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ» ..
« إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها» ..
وكانت هذه التوجيهات تتمثل في أمثال هذه النصوص :
«اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ ، وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ. إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ» ..
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ. كَدَأْبِ آلِ» فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم اللّه بذنوبهم واللّه شديد العقاب. قل للذين كفروا : ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد. قد كان لكم آية في فئتين التقتا : فئة تقاتل في سبيل اللّه وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين. واللّه يؤيد بنصره من يشاء. إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار»
«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ ، وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» ..
«وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» ..
«قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..(1/179)
«لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ، وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» ..
«إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» ..
«أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ؟» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ؟ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً. وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها ، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ...» ..
«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ. لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً ، وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا. وَدُّوا ما عَنِتُّمْ. قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ ، وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ. وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا : آمَنَّا ، وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ. قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها. وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً. إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ».
ومن هذه الحملة الطويلة التي اقتطفنا منها هذه الآيات ، وتنوع توجيهاتها وتلقيناتها تتبين عدة أمور :
أولها : ضخامة الجهد الذي كان يبذله أهل الكتاب في المدينة وغيرها ، وعمق الكيد وتنوع أساليبه ، واستخدام جميع الوسائل لزعزعة العقيدة وخلخلة الصف المسلم من ورائها.
وثانيها : ضخامة الآثار التي كان هذا الجهد يتركها في النفوس وفي حياة الجماعة المسلمة ، مما اقتضى هذا البيان الطويل المفصل المنوع المقاطع والأساليب.
وثالثها : هو ما نلمحه اليوم من وراء القرون الطويلة. من أن هؤلاء الأعداء هم الذين يلاحقون هذه الدعوة وأصحابها في الأرض كلها وهم الذين تواجههم هذه العقيدة وأهلها. ومن ثم اقتضت إرادة الحكيم الخبير أن يقيم هذا المشعل الهادي الضخم البعيد المطارح لتراه الأجيال المسلمة قويا واضحا عميق التركيز(1/180)
على كشف الأعداء التقليديين لهذه الأمة ولهذا الدين! أما القطاع الثاني في السورة فهو خاص بغزوة أحد. وهو يشتمل كذلك على تقريرات في حقائق التصور الإسلامي والعقيدة الإيمانية. وعلى توجيهات في بناء الجماعة المسلمة على أساس تلك الحقائق. إلى جانب استعراض الأحداث والوقائع ، والخواطر والمشاعر ، استعراضا يتبين منه بجلاء حالة الجماعة المسلمة يومها وقطاعاتها المختلفة التي أشرنا إليها في أول هذا التمهيد.
وعلاقة هذا المقطع بالمقطع الأول في السورة ظاهرة. فهو يتولى عملية بناء التصور الإسلامي وتجليته - في مجال المعركة والحديد ساخن! - كما يتولى عملية تثبيت هذه الجماعة على التكاليف المفروضة على أصحاب دعوة الحق في الأرض. مع تعليمهم سنة اللّه في النصر والهزيمة. ويربيهم بالتوجيهات القرآنية كما يربيهم بالأحداث الواقعية.
وإنه ليصعب استيفاء الحديث هنا عن طبيعة هذا المقطع ومحتوياته وقيمته في بناء العقيدة وبناء الجماعة ..
ولما كان هذا المقطع يقع بجملته في الجزء الرابع (من الظلال) فلنرجئ الحديث عنه إلى هذا الجزء (إن شاء اللّه) ..
ونمضي إلى ختام السورة - بعد فصل غزوة أحد - فإذا هو تلخيص لموضوعاتها الأساسية ، يبدأ بإشارة موحية إلى دلالة هذا الكون (كتاب اللّه المنظور) وإيحاءاته للقلوب المؤمنة .. ويأخذ في دعاء رخي ندي من هذه القلوب ، على مشهد الآيات في كتاب الكون المفتوح : «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا ، سُبْحانَكَ! فَقِنا عَذابَ النَّارِ. رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ. وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ. رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا. رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ. رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ. إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ ...» ..
وهو يمثل نصاعة التصور ووضوحه. وخشوع القلب وتقواه.
ثم تجيء الاستجابة من اللّه - سبحانه - فيذكر فيها الهجرة والجهاد والإيذاء في سبيل اللّه :
«فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ. فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ، وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي ، وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا ، لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ ...» .. وفيه إشارة وعلاقة بغزوة أحد وأحداثها وآثارها.(1/181)
ثم يذكر أهل الكتاب - الذين استغرق الحديث عنهم مقطع السورة الأول - ليقول للمسلمين إن الحق الذي بأيديهم لا يجحده أهل الكتاب كلهم. فإن منهم من يؤمن به ويشهد بأحقيته : «وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ ، خاشِعِينَ لِلَّهِ ،لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا »
وتختم السورة بدعوة المسلمين - بإيمانهم - إلى الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» .. وهو ختام يناسب جو السورة وموضوعاتها جميعا
ولا يتم التعريف المجمل بهذه السورة حتى نلم بثلاثة خطوط عريضة فيها ، تتناثر نقطها في السورة كلها ، وتتجمع وتتركز في مجموعها ، حتى ترسم هذه الخطوط العريضة بوضوح وتوكيد ..
أول هذه الخطوط بيان معنى «الدِّينَ» ومعنى «الْإِسْلامُ» .. فليس الدين - كما يحدده اللّه - سبحانه - ويريده ويرضاه - هو كل اعتقاد في اللّه .. إنما هي صورة واحدة من صور الاعتقاد فيه - سبحانه - صورة التوحيد المطلق الناصع القاطع : توحيد الألوهية التي يتوجه إليها البشر كما تتوجه إليها سائر الخلائق في الكون بالعبودية.
وتوحيد القوامة على البشر وعلى الكون كله. فلا يقوم شيء لا باللّه تعالى ، ولا يقوم على الخلائق إلا اللّه تعالى.
ومن ثم يكون الدين الذي يقبله اللّه من عباده هو «الإسلام» وهو في هذه الحالة : الاستسلام المطلق للقوامة الإلهية ، والتلقي من هذا المصدر وحده في كل شأن من شؤون الحياة ، والتحاكم إلى كتاب اللّه المنزل من هذا المصدر ، واتباع الرسل الذين نزل عليهم الكتاب. وهو في صميمه كتاب واحد ، وهو في صميمه دين واحد .. الإسلام .. بهذا المعنى الواقعي في ضمائر الناس وواقعهم العملي على السواء. والذي يتلقي عليه كل المؤمنين أتباع الرسل .. كل في زمانه .. متى كان معنى إسلامه هو الاعتقاد بوحدة الألوهية والقوامة والطاعة والاتباع في منهج الحياة كله بلا استثناء.
ويتكئ سياق السورة على هذا الخط ويوضحه في أكثر من ثلاثين موضعا من السورة بشكل ظاهر ملحوظ ..
نضرب له بعض الأمثلة في هذا التعريف المجمل :«اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» .. «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» .. «فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ. وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ : أَأَسْلَمْتُمْ؟ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا ..» .. «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ» .. «قُلْ : إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ..» .. «قُلْ : أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» ..(1/182)
«قالَ الْحَوارِيُّونَ : نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ ، آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» .. «قُلْ : يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا : اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» .. «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .. «أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ؟» .. «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» .. وغيرها كثير ..
فأما الخط الثاني الذي يركز عليه سياق السورة فهو تصوير حال المسلمين مع ربهم واستسلامهم له ، وتلقيهم لكل ما يأتيهم منه بالقبول والطاعة والاتباع الدقيق .. ونضرب له كذلك بعض الأمثلة في هذا التعريف بالسورة حتى نواجهه مفصلا عند استعراض النصوص بالتفصيل :«وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا - وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ - رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ» .. «الَّذِينَ يَقُولُونَ : رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ. الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ» .. «قالَ الْحَوارِيُّونَ : نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. رَبَّنا» «آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» .. «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» .. «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ».
« وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ، فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ، وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» .. «الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ : إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ، فَزادَهُمْ إِيماناً ، وَقالُوا : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» .. «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ! فَقِنا عَذابَ النَّارِ. رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ. رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا. رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ. رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ، وَلا ت
وغيرها كثير ..(1/183)
والخط الثبل ولكنه يحتاج إلى إبراز هنا بقدر ما هو بارز وأساسي في سياق السورة ، وهذه نماذج من هذا الخط العريض : « لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ - إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً - وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ. قُلْ. إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .. «وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ» ..
« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ...» إلخ .. «لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا ...» إلخ .. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا. وَدُّوا ما عَنِتُّمْ ، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ...» إلخ .. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ. سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ، وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ» .. «لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ، مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ» .. وغيرها كثير ..
وهذه الخطوط الثلاثة العريضة متناسقة فيما بينها متكاملة ، في تقرير التصور الإسلامي ، وتوضيح حقيقة التوحيد ومقتضاه في حياة البشر وفي شعورهم باللّه ، وأثر ذلك في موقفهم من أعداء اللّه الذي لا موقف لهم سواه.
والنصوص في مواضعها من السياق أكثر حيوية وأعمق إيحاء .. لقد نزلت في معمعان المعركة. معركة العقيدة ، ومعركة الميدان. المعركة في داخل النفوس ، والمعركة في واقع الحياة .. ومن ثم تضمنت ذلك الرصيد الحي العجيب ، من الحركة والتأثير والإيحاء .. (1)
=================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 348)(1/184)
(4) سورة النساء
سمِّيت هذه السورة في كلام السلف سورةَ النِّساء ؛ ففي ( صحيح البخاري ) عن عائشة قالت : ( ما نزلت سورة البقرة وسورةُ النِّساء إلاّ وأنا عنده ) . وكذلك سمِّيت في المصاحف وفي كتب السنّة وكتب التفسير ، ولا يعرف لها اسم آخر ، لكن يؤخذ ممّا روي في ( صحيح البخاري ) عن ابن مسعود من قوله : ( لَنَزَلَتْ سورةُ النساء القُصْرى ) يعنى سورة الطلاق أنَّها شاركت هذه السورة في التسمية بسورة النساء ، وأنّ هذه السورة تُميّز عن سورة الطلاق باسم سورة النِّساء الطّولى ، ولم أقف عليه صريحاً . ووقع في كتاب ( بصائر ذوي التمييز ) للفيروزآبادي أنّ هذه السورة تسمّى سورة النساء الكبرى ، واسم سورة الطلاق سورة النساء الصغرى . ولم أره لغيره .
ووجه تسميتها بإضافة إلى النساء أنّها افتتحت بأحكام صلة الرحم ، ثم بأحكام تخصّ النِّساء ، وأنّ فيها أحكاماً كثيرة من أحكام النساء : الأزواج ، والبنات ، وختمت بأحكام تخصّ النساء .
وكان ابتداء نزولها بالمدينة ، لما صحّ عن عائشة أنَّها قالت : ما نزلتْ سورة البقرة وسورة النساء إلاّ وأنا عنده . وقد علم أنّ النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) بنى بعائشة في المدينة في شوال ، لثمان أشهر خلت من الهجرة ، واتّفق العلماء على أنّ سورة النساء نزلت بعد البقرة ، فتعيّن أن يكون نزولها متأخّراً عن الهجرة بمدّة طويلة . والجمهور قالوا : نزلت بعد آل عمران ، ومعلوم أنّ آل عمران نزلت في خلال سنة ثلاث أي بعد وقعة أُحُد ، فيتعيَّن أن تكون سورة النساء نزلت بعدها . وعن ابن عباس : أنّ أول ما نزل بالمدينة سورة البقرة ، ثم الأنفال ثم آل عمران ، ثم سورة الأحزاب ، ثم الممتحنةُ ، ثم النساءُ ، فإذا كان كذلك تكون سورة النساء نازلة بعد وقعة الأحزاب التي هي في أواخر سنة أربع أو أوّل سنة خمس من الهجرة ، وبعد صلح الحديبية الذي هو في سنة ستّ حيث تضمّنت سورة الممتحنة شرط إرجاع من يأتي المشركين هارباً إلى المسلمين عدا النساء ، وهي آية : ( إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ( ( الممتحنة : 10 ) الآية . وقد قيل : إنّ آية : ( وءاتوا اليتامى أموالهم ( ( النساء : 2 ) نزلت في رجل من غطفان له ابن أخ له يتيم ، وغطفان أسلموا بعد وقعة الأحزاب ، إذ هم من جملة الأحزاب ، أي بعد سنة خمس . ومن العلماء من قال : نزلت سورة النساء عند الهجرة . وهو بعيد . وأغرب منه من قال : إنّها نزلت بمكَّة لأنَّها افتتحت بيأيُّها الناس ، وما كان فيه يأيها النَّاس فهو مكِّي ، ولعلَّه يعني أنَّها نزلت بمكّة أيامَ الفتح لا قبل الهجرة لأنّهم يطلقون المكّي بإطلاقين . وقال بعضهم : نزل صدرها بمكّة وسائرها بالمدينة . والحقّ أنّ الخطاب بيأيُّها الناس لا يدلّ إلاّ على إرادة دخول أهل مكّة في الخطاب ، ولا يلزم أن يكون ذلك بمكّة ، ولا قبل الهجرة ، فإنّ كثيراً ممّا فيه يأيها الناس مدني بالاتّفاق . ولا شكّ في أنّها نزلت بعد آل عمران لأنّ في(1/185)
سورة النساء من تفاصيل الأحكام ما شأنه أن يكون بعد استقرار المسلمين بالمدينة ، وانتظام أحوالهم وأمنهم من أعدائهم . وفيها آية التيمّم ، والتيمّم شرع يوم غزاة المريسيع سنة خمس ، وقيل : سنة ستّ . فالذي يظهر أنّ نزول سورة النساء كان في حدود سنة سبع وطالت مدّة نزولها ، ويؤيّد ذلك أنّ كثيراً من الأحكام التي جاءت فيها مفصّلة تقدّمت مجملة في سورة البقرة من أحكام الأيتام والنساء والمواريث ، فمعظم ما في سورة النساء شرائع تفصيلية في معظم نواحي حياة المسلمين الاجتماعية من نظم الأموال والمعاشرة والحُكم وغير ذلك ، على أنّه قد قيل : إنّ آخر آية منها ، وهي آية الكلالة ، هي آخر آية نزلت من القرآن ، على أنّه يجوز أن يكون بين نزول سائر سورة النساء وبين نزول آية الكلالة ، التي في آخرها مدّة طويلة ، وأنّه لمّا نزلت آية الكلالة الأخيرة أُمروا بإلحاقها بسورة النساء التي فيها الآية الأولى . ووردت في السنّة تسمية آية الكلالة الأولى آية الشتاء ، وآية الكلالة الأخيرة آية الصيف . ويتعيّن ابتداء نزولها قبل فتح مكّة لقوله تعالى : ( وما لكم لا تقاتلون في سبيل اللَّه والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ( ( النساء : 75 ) يعني مكّة . وفيها آية : ( إن اللَّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ( ( النساء : 58 ) نزلت يوم فتح مكّة في قصة عثمان بن طلحة الشيبي ، صاحب مفتاح الكعبة ، وليس فيها جدال مع المشركين سوى تحقير دينهم ، نحو قوله : ( ومن يشرك باللَّه فقد افترى إثماً عظيماً فقد ضلّ ضلالاً بعيداً ) إلخ ، وسوى التهديد بالقتال ، وقطع معذرة المتقاعدين عن الهجرة ، وتوهين بأسهم عن المسلمين ، ممّا يدلّ على أنّ أمر المشركين قد صار إلى وهن ، وصار المسلمون في قوة عليهم ، وأنّ معظمها ، بعْد التشريع ، جدال كثير مع اليهود وتشويه لأحوال المنافقين ، وجدال مع النصارى ليس بكثير ، ولكنّه أوسع ممّا في سورة آل عمران ، ممّا يدلّ على أنّ مخالطة المسلمين للنصارى أخذت تظهر بسبب تفشّي الإسلام في تخوم الحجاز الشامية لفتح معظم الحجاز وتهامة .
وقد عُدّت الثالثة والتسعين من السور . نزلت بعد سورة الممتحنة وقبل سورة : ( إذا زلزلت الأرض ( ( الزلزلة : 1 ) .
وعدد آيها مائة وخمس وسبعون في عدد أهل المدينة ومكّة والبصرة ، ومائة وسِت وسبعون في عدد أهل الكوفة ، ومائة وسبع وسبعون في عدد أهل الشام .
وقد اشتملت على أغراض وأحكام كثيرة أكثرها تشريع معاملات الأقرباء وحقوقهم ، فكانت فاتحتها مناسبة لذلك بالتذكير بنعمة خلق الله ، وأنّهم محقوقون بأن يشكروا ربّهم على ذلك ، وأن يراعوا حقوق النوع الذي خلقوا منه ، بأن يصلوا أرحامهم القريبة والبعيدة ، وبالرفق بضعفاء النوع من اليتامى ، ويراعوا حقوق صنف النساء من نوعهم بإقامة العدل في معاملاتهنّ ، والإشارة إلى عقود النكاح والصداق(1/186)
، وشرع قوانين المعاملة مع النساء في حالتي الاستقامة والانحراف من كلا الزوجين ، ومعاشرتهنّ والمصالحة معهنّ ، وبيان ما يحلّ للتزوّج منهنّ ، والمحرّمات بالقرابة أو الصهر ، وأحكام الجواري بملك اليمين . وكذلك حقوق مصير المال إلى القرابة ، وتقسيم ذلك ، وحقوق حفظ اليتامى في أموالهم وحفظها لهم والوصاية عليهم .
ثم أحكام المعاملات بين جماعة المسلمين في الأموال والدماء وأحكام القتل عمداً وخطأ ، وتأصيل الحكم الشرعي بين المسلمين في الحقوق والدفاع عن المعتدى عليه ، والأمر بإقامة العدل بدون مصانعة ، والتحذير من اتّباع الهوى ، والأمر بالبرّ ، والمواساة ، وأداء الأمانات ، والتمهيد لتحريم شرب الخمر .
وطائفة من أحكام الصلاة ، والطهارة ، وصلاة الخوف . ثم أحوال اليهود ، لكثرتهم بالمدينة ، وأحوال المنافقين وفضائحهم ، وأحكام الجهاد لدفع شوكة المشركين . وأحكام معاملة المشركين ومساويهم ، ووجوب هجرة المؤمنين من مكّة ، وإبطال مآثر الجاهلية .
وقد تخلّل ذلك مواعظ ، وترغيب ، ونهي عن الحسد ، وعن تمنّي ما للغير من المزايا التي حرم منها من حُرم بحكم الشرع ، أو بحكم الفِطرة . والترغيب في التوسّط في الخير والإصلاح . وبثّ المحبّة بين المسلمين . (1)
تمهيد بين يدي السورة
1 - سورة النساء هي الرابعة في ترتيب المصحف. فقد سبقتها سورة الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران.
ويبلغ عدد آياتها خمسا وسبعين ومائة آية عند علماء الحجاز والبصريين ، ويرى الكوفيون أن عدد آياتها ست وسبعون ومائة آية ، لأنهم عدوا قوله - تعالى - أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ آية.
ويرى الشاميون أن عدد آياتها سبع وسبعون ومائة آية ، لأنهم عدوا قوله - تعالى - وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً آية.
كما أنهم وافقوا الكوفيين في أن قوله - تعالى - أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ آية.
أما علماء الحجاز والبصريون فيرون أن ما ذكره الكوفيون والشاميون إنما هو جزء من آية وليس آية كاملة.
2 - وسورة النساء من السور المدنية. وكان نزولها بعد سورة الممتحنة ويؤيد أنها مدنية ما رواه البخاري عن عائشة - رضى اللّه عنها - قالت : « ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عند رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ».
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (4 / 211)(1/187)
ومن المتفق عليه عند العلماء أن دخوله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة كان بعد الهجرة. وروى العوفى عن ابن عباس أنه قال : نزلت سورة النساء بالمدينة. وكذا روى ابن مردويه عن عبد اللّه بن الزبير وزيد بن ثابت.
قال الآلوسى : « وزعم بعض الناس أنها مكية. مستندا إلى أن قوله - تعالى - : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ... نزلت بمكة في شأن مفتاح الكعبة. وتعقبه السيوطي بأن ذلك مستند واه ، لأنه لا يلزم من نزول آية أو آيات بمكة ، من سورة طويلة ، نزل معظمها بالمدينة ، أن تكون مكية. خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة فهو مدني. ومن راجع أسباب نزولها عرف الرد عليه » .
والحق ، أن الذي يقرأ سورة النساء من أولها إلى آخرها بتدبر وإمعان ، يرى في أسلوبها وموضوعاتها سمات القرآن المدني. فهي زاخرة بالحديث عن الأحكام الشرعية : من عبادات ومعاملات وحدود. وعن علاقة المسلمين ببعضهم وبغيرهم. وعن أحوال أهل الكتاب والمنافقين ، وعن الجهاد في سبيل اللّه. إلى غير ذلك من الموضوعات التي يكثر ورودها في القرآن المدني.
ومن هنا قال القرطبي : « ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها » .
3 - سورة النساء سميت بهذا الاسم لأن ما نزل منها في أحكام النساء أكثر مما نزل في غيرها.
وكثيرا ما يطلق عليها اسم « سورة النساء الكبرى » تمييزا لها عن سورة أخرى عرضت لبعض شئون النساء وهي « سورة الطلاق » التي كثيرا ما يطلق عليها اسم « سورة النساء الصغرى ».
4 - ومن وجوه المناسبة بين هذه السورة وبين سورة آل عمران التي قبلها : أن سورة آل عمران اختتمت بالأمر بالتقوى في قوله - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وسورة النساء افتتحت بالأمر بالتقوى. قال - تعالى - :
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ.
قال الآلوسى : « وذلك من آكد وجوه المناسبات في ترتيب السور. وهو نوع من أنواع البديع يسمى في الشعر : تشابه الأطراف. وقوم يسمونه بالتسبيغ. وذلك كقول ليلى الأخيلية :
إذا نزل الحجاج أرضا مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة رواها
رواها فأرواها بشرب سجالها دماء رجال حيث نال حشاها
ومنها أن في سورة آل عمران تفصيلا لغزوة أحد. وفي سورة النساء حديث موجز عنها في قوله - تعالى - : فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا.
وكما في قوله - تعالى - : وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ.
ومنها : أن في كلتا السورتين محاجة لأهل الكتاب ، وبيانا لأحوال المنافقين ، وتفصيلا لأحكام القتال.(1/188)
ومن أمعن نظره - كما يقول الآلوسى - وجد كثيرا مما ذكر في هذه السورة مفصلا لما ذكر فيما قبلها. فحينئذ يظهر مزيد الارتباط وغاية الاحتباك ».
5 - ومن الآثار التي وردت في فضل سورة النساء ، ما رواه قتادة عن ابن عباس أنه قال :
ثماني آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت.
أولهن : يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ.
والثانية : وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ. وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً.
والثالثة : يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً.
والرابعة : إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها.
والخامسة : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ.
والسادسة : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
والسابعة : وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ.
والثامنة : وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً.
وكأن ابن عباس - رضى اللّه عنهما - قد نظر إلى ما تدل عليه هذه الآيات الكريمة من فضل اللّه على عباده. ورحمة بهم ، وفتح لباب التوبة والمغفرة في وجوههم ، وإلا فإن القرآن كله بكل سوره وآياته خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت.
6 - هذا ، وسورة النساء تعتبر أطول سورة مدنية بعد سورة البقرة. وإنك لتقرؤها بتدبر وتفهم فتراها قد اشتملت على مقاصد عالية ، وآداب سامية. وتوجيهات حكيمة ، وتشريعات جليلة.
تراها تنظم المجتمع الإسلامى تنظيمة دقيقا قويما ، يؤدى اتباعه إلى سعادة المجتمع واستقراره داخليا وخارجيا.
فأنت تراها في مطلعها تحض الناس على تقوى اللّه والخشية منه ، وتبين الارتباط الإنسانى الجامع الذي تلتقي عنده البشرية جميعا.قال - تعالى - يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً.
وإذا كان الناس جميعا ينتهون إلى أصل واحد ، فإن هذا الاتحاد يقتضى منهم أن يكونوا متراحمين متعاطفين ، ومن أبرز مظاهر التراحم ، الأخذ بيد الضعفاء ومعاونتهم في كل ما يحتاجون إليه.
لذا نجد السورة الكريمة بعد أن تفتتح بأمر الناس بتقوى اللّه ، تتبع ذلك بالأمر بالإحسان إلى اليتامى - الذين هم أوضح الضعفاء مظهرا - في خمس آيات في الربع الأول منها.
وهذه الآيات هي قوله - تعالى - : وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ.(1/189)
وقوله - تعالى - : وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ.
وقوله - تعالى - : وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ.
وقوله - تعالى - : وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ.
وقوله - تعالى - : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً.
ولم تكتف السورة الكريمة في أوائلها بالحض على الإحسان إلى اليتامى ، بل حضت - أيضا - على الإحسان إلى النساء ، وإعطائهن حقوقهن كاملة.
ثم تراها بعد ذلك في الربع الثاني منها تتحدث عن التوزيع المالى للأسرة عند ما يموت واحد منها ، وتضع لهذا التوزيع أحكم الأسس وأعدلها وأضبطها وتبين أن هذا التوزيع حد من حدود اللّه التي يجب التزامها وعدم مخالفتها.قال - تعالى - : تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ.
ثم تحدثت السورة الكريمة عن حكم النسوة اللاتي يأتين الفاحشة ، وعن التوبة التي يقبلها اللّه - تعالى - ، والتوبة التي لا يقبلها. ووجهت نداء إلى المؤمنين نهتهم فيه عن أخذ شيء من حقوق النساء ، وأمرتهم بحسن معاشرتهن ، كما نهتهم عن نكاح أنواع معينة منهن ، لأن نكاحهن يتنافى مع شريعة الإسلام وآدابه.قال - تعالى - : وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ ، إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا.
ثم تراها في الربع الثالث منها تتحدث عن المحصنات من النساء وعن حقوقهن ، وبينت للناس أن اللّه - تعالى - ما شرع هذه الأحكام القويمة إلا لمصلحتهم ومنفعتهم. استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى هذا المعنى فتقول : يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً.
ثم صرحت السورة الكريمة بأن للرجال القوامة على النساء ، وذكرت ضروب التأديب التي يملكها الرجل على زوجته ، وكلها من غير قسوة ولا شذوذ ولا طغيان ، ودعت أهل الخير إلى الإصلاح بين الزوجين إذا ما نشب بينهما نزاع أو شقاق.قال - تعالى - : وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ، إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً.(1/190)
وبعد أن فصلت السورة الكريمة الحديث عما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الزوجين ، وبين أفراد الأسرة ، انتقلت في الربع الرابع منها إلى بيان العلاقة بين العبد وخالقه ، وأنها يجب أن تقوم على إخلاص العبادة له - سبحانه - كما يجب على المسلم أن يجعل علاقته مع والديه ومع أقاربه ومع اليتامى والمساكين. وغيرهم ، قائمة على الإحسان وعلى التعاطف والتراحم.
ثم توعدت السورة الكريمة من يشرك باللّه ، ويخالف أوامره بالعذاب الأليم. وبينت أن الكافرين سيندمون أشد الندم على كفرهم يوم القيامة ولكن ندمهم لن ينفعهم ، لأنه جاء بعد فوات الأوان.قال - تعالى - يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ ، لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً.
ثم شنت السورة الكريمة حملة عنيفة على اليهود الذين كانوا يجاورون المؤمنين بالمدينة ، والذين كانوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا والذين كانوا ينطقون بالباطل ويشهدون الزور عن تعمد وإصرار ، وقد بينت السورة الكريمة أن حسدهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي دفعهم إلى افتراء الكذب على اللّه - تعالى - وأنهم قد طردوا من رحمة اللّه بسبب كفرهم وعنادهم وإيذائهم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - الذي يعرفون صدقه كما يعرفون أبناءهم.قال - تعالى - : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ، فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً.
ثم بينت السورة الكريمة بعد ذلك في الربع الخامس منها : الأساس الذي يقوم عليه الحكم في الإسلام ، فذكرت أن العدل والأمانة هما الدعامتان الراسختان اللتان يقوم عليهما الحكم في الإسلام. ووجهت إلى المؤمنين نداء أمرتهم فيه بطاعة اللّه وطاعة رسوله وأولى الأمر منهم ، كما أمرتهم بأن يردوا كل تنازع يحصل بينهم إلى ما يقضى به كتاب اللّه وسنة رسوله ، لأن التحاكم إلى غيرهما لا يليق بمؤمن.
ثم أخذت السورة الكريمة في توبيخ المنافقين الذين يزعمون أنهم مؤمنون ومع ذلك يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ. وأمرت النبي - صلى الله عليه وسلم - بزجرهم وبالإعراض عنهم ، وأخبرته بأنهم لا إيمان لهم ما داموا لم يرتضوا حكمه.قال - تعالى - : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.
وبعد هذا التهديد والتوبيخ للمنافقين ، ساقت السورة الكريمة البشارات السارة للمؤمنين الصادقين فقالت : وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ ، وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً. ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً.(1/191)
ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن الجهاد في سبيل اللّه ، لأن الحق يجب أن يكون هو السائد في الأرض ولأن المؤمن لا يليق به أن يستسلم للأعداء ، بل عليه أن يجاهدهم وأن يغلظ عليهم حتى تكون كلمة اللّه هي العليا.
لذا نجد السورة الكريمة توجه إلى المؤمنين نداء تأمرهم فيه بالحذر وأخذ الأهبة لقتال أعدائهم ، وتحرضهم على هذا القتال للأعداء ، بأقوى ألوان التحريض وأحكمها.
فأنت تراها في الربع السادس منها تأمر المؤمنين بالقتال في سبيل اللّه ، وتبشر هؤلاء المقاتلين بأنهم لن يصيبهم إلا إحدى الحسنيين ، وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.
وتستبعد أن يقصر المؤمنون في أداء هذا الواجب ، لأن تقصيرهم يتنافى مع إيمانهم ، وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ وتبين لهم أن قتالهم إنما هو من أجل إعلاء كلمة اللّه ، وقتال أعدائهم لهم إنما هو من أجل إعلاء كلمة الطاغوت.الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ، فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً.
وتضرب لهم الأمثال بسوء عاقبة الذين جبنوا عن القتال حين كتب عليهم وقالوا : رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ.
وتخبرهم بأن الموت سيدرك المقدام كما يدرك الجبان فعليهم أن يكونوا من الذين يقدمون على الموت بدون جبن أو وجل مادام الجبن لا يؤخر الحياة كما أن الإقدام لا ينقصها.قال - تعالى - أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ.
وهكذا تحرض السورة الكريمة المؤمنين على القتال في سبيل اللّه بأسمى ألوان التحريض وأشدها وأنفعها.
ثم عادت السورة الكريمة إلى تحذير المؤمنين من المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، والذين يعوقون أهل الحق عن قتال أعدائهم ، وأمرت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يمضى هو ومن معه في طريق القتال من أجل إعلاء كلمة اللّه دون أن يلتفت إلى هؤلاء المنافقين ، لأنهم لا يريدون بهم إلا الشر.قال - تعالى - : فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ، وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا.
ثم واصلت السورة في الربع السابع منها حديثها عن المنافقين ، فذكرت ما ينبغي أن يعاملوا به ، وكشفت عن طبائعهم الذميمة ، وأخلاقهم القبيحة ، ونهت المؤمنين عن اتخاذهم أولياء أو نصراء ، وأمرتهم أن يضيقوا عليهم ويقتلوهم إذا ما استمروا في نفاقهم وشقاقهم وارتكاسهم في الفتنة. قال - تعالى - : فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ، وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ،(1/192)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً ، فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً.
ثم تحدثت السورة عن حكم القتل الخطأ. وتوعدت من يقتل مؤمنا متعمدا بغضب اللّه عليه ، ولعنه له ، وإنزال العذاب العظيم به.
ثم أمرت المؤمنين بأن يجعلوا قتالهم من أجل إعلاء كلمة اللّه ، لا من أجل المغانم والأسلاب ، وألا يقاتلوا إلا من يقاتلهم. وبشرت المجاهدين في سبيل اللّه بما أعده اللّه لهم من درجات عالية يتميزون بها عن غيرهم من القاعدين ، وتوعدت الذين يرضون الذلة لأنفسهم بسوء المصير ، وذلك لأن الحق لا تعلو رايته في الأرض إلا إذا كان أتباعه أقوياء. يأبون الذل والخضوع لغير سلطان اللّه - تعالى - . قال - سبحانه - : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ، قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا : كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ، قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها؟ فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ ، لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ، وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً.
ثم بشرت السورة الكريمة في مطلع الربع الثامن منها الذين يهاجرون في سبيل اللّه ، بالخير الوفير والأجر الجزيل فقالت: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ، وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
ثم أرشدت المؤمنين إلى الطريقة التي يؤدون بها فريضة الصلاة في حال جهادهم ، لأن الصلاة فريضة محكمة لا يسقطها الجهاد ، بل هي تقوى دوافعه ، وتحسن ثماره ونتائجه.
كما أمرتهم بالإكثار من ذكر اللّه في كل أحوالهم ، وبمواصلة جهاد أعدائهم بدون كلل أو ملل حتى تكون كلمة اللّه هي العليا.قال - تعالى - : فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ ، فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً. وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ.
ثم بينت السورة الكريمة أن اللّه - تعالى - قد أنزل القرآن على نبيه - صلى الله عليه وسلم - لكي يحكم بين الناس بالعدل الذي أراه اللّه إياه ، ونهت الأمة في شخصه - صلى الله عليه وسلم - عن الخيانة والميل مع الهوى ووبخت المنافقين الذين « يستخفون من الناس ولا يستخفون من اللّه ، كما وبخت الذين يدافعون عنهم أو يسيرون في ركابهم. وذكرت جانبا من مظاهر عدله - سبحانه - ، ورحمته الشاملة.
أما عدله فمن مظاهره أنه جعل الجزاء من جنس العمل وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ.(1/193)
وأما شمول رحمته فمن مظاهرها أنه - سبحانه - فتح باب التوبة لعباده وأكرمهم بقبولها متى صدقوا فيها : وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً.
ثم بينت السورة الكريمة في مطلع الربع التاسع منها أن الاستخفاء بالأقوال والأفعال عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكثره لا خير فيه فقالت : لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ.
ثم تحدثت عن الذين يؤذون رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فتوعدتهم بسوء المصير ، ووبختهم على جهالاتهم وضلالاتهم وسيرهم في ركاب الشيطان الذي يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً. أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً.
ثم بينت أن اللّه - تعالى - لا تنفع عنده الأمانى والأنساب ، وإنما الذي ينفع عنده هو الإيمان والعمل الصالح.قال - تعالى - : لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً.
ثم تحدثت السورة الكريمة عن بعض الأحكام التي تتعلق بالنساء وأمرت بالإصلاح بين الزوجين ، وبينت أن العدل التام بين النساء من كل الوجوه غير مستطاع ، فعلى الرجال أن يكونوا متوسطين في حبهم وبغضهم ، وعليهم كذلك أن يعاشروا النساء بالمعروف وأن يفارقوهن كذلك بالمعروف وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً.
ثم وجهت السورة الكريمة في الربع العاشر منها نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بأن يلتزموا الحق في كل شئونهم ، وأن يجهروا به ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين ، لأن العدالة المطلقة التي أتى بها الإسلام لا تعرف التفرقة بين الناس.
ثم بينت السورة الكريمة حقيقة النفاق والمنافقين وكررت تحذيرها للمؤمنين من شرورهم.
وإن أدق وصف لهؤلاء المنافقين هو قوله - تعالى - في شأنهم : مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ ، وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا.
وقد توعدهم اللّه بسبب نفاقهم وخداعهم بأشد ألوان العذاب فقال - سبحانه - : إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً.
ثم حكت السورة الكريمة في الربع الحادي عشر منها ما أدب اللّه به عباده ، وما أرشدهم إليه من خلق كريم وهو منع الجهر بالسوء من القول ، ولكنه - سبحانه - رخص للمظلوم أن يتكلم في شأن ظالمه(1/194)
بالكلام الحق. لأنه - تعالى - لا تخفى عليه خافية. قال - تعالى لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً. إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً.
ثم تحدثت عن بعض رذائل اليهود. وعن العقوبات التي عاقبهم اللّه بها بسبب ظلمهم وفسوقهم. قال - تعالى - : فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً. وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ، وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
أما في الربع الثاني عشر والأخير منها فقد تحدثت السورة الكريمة عن وحدة الرسالة الإلهية.
وبينت أن اللّه - تعالى - قد أوحى إلى نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - كما أوحى إلى النبيين من قبله ، وأن حكمته - سبحانه - قد اقتضت أن يرسل رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.
ثم وجهت في أواخرها نداء عاما إلى الناس تأمرهم فيه بالإيمان بما جاءهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - . كما وجهت نداء آخر إلى أهل الكتاب تنهاهم فيه عن السير في طريق الضلالة ، وعن الأقوال الباطلة التي قالوها في شأن عيسى ، فإن عيسى كغيره من البشر من عباد اللّه - تعالى - ، ولن يستنكف أن يكون عبدا للّه - تعالى - : ْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ ، وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ، وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ ، فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً.
وكما تحدثت السورة الكريمة في أوائلها عن بعض أحكام الأسرة ، فقد اختتمت بالحديث عن ذلك ، لكي تبين للناس أن الأسرة هي عماد المجتمع ، وهي أساسه الذي لا صلاح له إلا بصلاحها.قال - تعالى - : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ، إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ، وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ، فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ ، وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
هذا عرض إجمالى لبعض المقاصد السامية ، والآداب العالية ، والتشريعات الحكيمة ، والتوجيهات القويمة التي اشتملت عليها السورة الكريمة.
ومن هذا العرض نرى أن سورة النساء - كما يقول بعض العلماء - : « قد عالجت أحوال المسلمين فيما يتعلق بتنظيم شئونهم الداخلية ، عن طريق إصلاح الأسرة وإصلاح المال في ظل تشريع قوى عادل ، مبنى على مراعاة مقتضيات الطبيعة الإنسانية ، مجرد من تحكيم الأهواء والشهوات.
وذلك إنما يكون إذا كان صادرا عن حكيم خبير بنزعات النفوس واتجاهاتها وميولها.
كما عالجت أحوالهم فيما يختص بحفظ كيانهم الخارجي ، عن طريق التشريعات والتوجيهات التي اشتملت عليها السورة الكريمة ، والتي من شأنها أن تحفظ للأمة كيانها وشخصيتها متى تمسكت بها ، وأن تجعلها قادرة على دفع الشر الذي يطرأ عليها من أعدائها.(1/195)
بل إن السورة الكريمة لم تقف عند حد التنبيه على عناصر المقاومة المادية ، وإنما نبهت على ما يجب أن تحفظ به عقيدة الأمة ومبادئها من التأثر بما يلقى في شأنها من الشكوك والشبه. وفي هذا إيحاء يجب على المسلمين أن يلتفتوا إليه ، وهو أن يحتفظوا بمبادئهم كما يحتفظون بأوطانهم.
وأن يحصنوا أنفسهم من شر حرب أشد خطرا ، وأبعد في النفوس أثرا من حرب السلاح المادي : تلك هي حرب التحويل من مبدأ إلى مبدأ ، ومن دين إلى دين ، مع البقاء في الأوطان والإقامة في الديار والأموال.
ألا وإن شخصية الأمة ليتطلب بقاؤها الاحتفاظ بالجانبين : جانب الوطن والسلطان.
وجانب العقيدة والإيمان. وعلى هذا درج سلفنا الصالح فعاشوا في أوطانهم آمنين. وبمبادئهم وعقائدهم متمسكين » . (1)
في هذه السورة فصول عديدة ومتنوعة. تحتوي أحكاما وتشريعات وتوكيدات ووصايا في اليتامى وحقوقهم. وحلال الأنكحة ومحرماتها. والمواريث والعلاقة الزوجية وحق كل من الزوجين وحماية المرأة وتوطيد شخصيتها وحقوقها. وواجبات الناس في احترام حقوق بعضهم. ورعاية حقوق الضعفاء ومعاونتهم. والتيمم وأحكام الجنابة والنهي عن الصلاة في حالة السكر. وتوطيد سلطان النبي وأولي الأمر من المسلمين. وتوطيد أحكام القرآن والسنة النبوية لتكون أصولا في مختلف الشؤون ومرجعا. وتوطيد صلاحية الاستنباط والاجتهاد في الفروع والأشكال وما لا يكون فيه نصوص صريحة من قرآن وسنة لذي العلم والخبرة والأمر. وواجب الحذر والاستعداد للعدو. والنضال والجهاد ضد الظلم وفي سبيل المستضعفين. وواجب تضامن المسلمين وتكتلهم مع بعضهم وعدم قبول دعوى الإسلام بدون ذلك ، وتنظيم العلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين من حياديين ومعاهدين ومحاربين. وأحكام القتل الخطأ والعمد.
ووجوب قبول ظواهر الناس وعدم اتخاذ الجهاد وسيلة للغنائم وصلاة الخوف.
وواجبات القاضي وآداب القضاء وتحري الحق والعدل بقطع النظر عن أي اعتبار.
وحملات شديدة على المنافقين ومواقفهم. وتوطيد الإيمان بجميع الرسل والأنبياء. وبيان حكمة اللّه في إرسال الرسل. وبيان حقيقة أمر عيسى وردود على اليهود والنصارى في شأنه. وهتاف بالناس جميعا من كتابيين ومشركين للاستجابة إلى دعوة الحق والسير في طريق اللّه القويم. وقد تخلل فصول السورة صور كثيرة عن السيرة النبوية. ومواعظ ومعالجات وتلقينات بليغة مستمرة المدى.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (3 / 7)(1/196)
ومضامين فصول السورة وسياقها يلهم أن منها ما نزل مبكرا ومنها ما نزل متأخرا. ومنها ما له ارتباط ببعضه ظرفا أو موضوعا. ومنها المستقل. ومنها ما نزل قبل سور أو فصول من سور متقدمة عليها في الترتيب. ومنها ما نزل بعد سور أو فصول من سور متأخرة عنها. وكل هذا يسوغ القول إن هذه السورة ألّفت تأليفا بعد استكمال نزول فصولها.
وأكثر روايات ترتيب النزول تجعل هذه السورة سادسة السور المدنية نزولا ومنها ما يجعلها ثامنة . ولعلّ ذلك بسبب تبكير مطلعها الذي يبرز عليه طابع المطلع.
ولقد جاءت آخر آية منها في أحكام إرث الكلالة لا يمكن تعليل وضعها في مكانها إلّا بكونها نزلت بعد تأليف فصول السورة فألحقت بها لأنها متصلة بأحكام المواريث التي احتوتها السورة. وفي ذلك عندنا دليل حاسم على أن تأليف السورة قد تمّ في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإرشاده وفي زمن متأخر من العهد المدني. واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
هذا ولقد أورد السيوطي في الإتقان حديثا أخرجه الحاكم في مستدركه والبيهقي في الدلائل والبزار في مسنده عن عبد اللّه بن مسعود قال «ما كان يا أيها الذين آمنوا أنزل بالمدينة وما كان يا أيها الناس ففي مكة» وأخرج الإمام أبو عبيد هذا الحديث في الفضائل مرسلا. وفي الآية الأولى لهذه السورة التي لا خلاف في مدنيتها نقض ما لهذا القول على إطلاقه كما هو ظاهر. وقد لا حظ ذلك غير واحد من العلماء ونبهوا عليه على ما جاء في الإتقان أيضا . وليست هذه الآية هي الوحيدة المحقق مدنيتها والتي فيها خطاب يا أيها الناس. ففي بعض السور المدنية مثل ذلك أيضا. واللّه تعالى أعلم. (1)
سورة النساء مدنية وهي مائة وست وسبعون آية ، وهي السورة الرابعة من القرآن الكريم.
مدنيتها : روى البخاري عن عائشة قال : «ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ». وبدأت حياتها مع النبي في شوال من السنة الأولى للهجرة.
فضلها :
روى الحاكم في مستدركه عن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن مسعود قال : إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها : إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ الآية ، وإِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ الآية ، وإِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ولَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ الآية. ثم قال الحاكم : هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه ، فقد اختلف في ذلك. ويؤيده ما رواه عبد الرزاق وابن جرير الطبري عن ابن مسعود بعبارة مقاربة.
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (8 / 7)(1/197)
مناسبتها لآل عمران :
هناك أوجه شبه ووشائج صلة تربط بين السورتين أهمها :
1 - اختتام آل عمران بالأمر بالتقوى للمؤمنين ، وافتتاح هذه السورة بذلك للناس جميعا.
2 - نزول آية فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ .. بمناسبة غزوة أحد ، مع نزول ستين آية في الغزوة في آل عمران.
3 - نزول آية وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ بمناسبة غزوة حمراء الأسد بعد نزول آيات الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ في تلك الغزوة في آل عمران (172 - 175).
لتسمية :
سميت «سورة النساء الكبرى» لكثرة ما فيها من أحكام تتعلق بالنساء ، وسميت سورة الطلاق في مقابلها «سورة النساء القصرى».
ما اشتملت عليه السورة :
تضمنت السورة الكلام عن أحكام الأسرة الصغرى - الخلية الاجتماعية الأولى ، والأسرة الكبرى - المجتمع الإسلامي وعلاقته بالمجتمع الإنساني ، فأبانت بنحو رائع وحدة الأصل والمنشأ الإنساني بكون الناس جميعا من نفس واحدة ، ووضعت رقيبا على العلاقة الاجتماعية العامة بالأمر بتقوى اللّه في النفس والغير وفي السر والعلن.
وتحدثت السورة بنحو مطول عن أحكام المرأة بنتا وزوجة ، وأوضحت كمال أهلية المرأة واستقلالها بذمتها المالية عن الرجل ولو كان زوجا ، وحقوقها الزوجية في الأسرة من مهر ونفقة وحسن عشرة وميراث من تركة أبيها أو زوجها ، وأحكام الزواج وتقديس العلاقة الزوجية ، ورابطة القرابة المحرمية والمصاهرة ، وكيفية فض النزاع بين الزوجين والحرص على عقدة النكاح ، وسبب «قوامة الرجل» وأنها ليست سلطة استبدادية ، وإنما هي غرم ومسئولية وتبعة ولتسيير شؤون هذه المؤسسة الصغيرة.
ثم أوضحت السورة ميزان الروابط الاجتماعية وأنها قائمة على أساس التناصح والتكافل ، والتراحم والتعاون ، لتقوية بنية الأمة.
وتكاملت أنماط وصور علاقة هذا المجتمع بالمجتمعات الأخرى ، سواء مع الجماعات أو الدول ، فحددت السورة قواعد الأخلاق والمعاملات الدولية ، وبعض أحكام السلم والحرب ، ونواحي محاجة أهل الكتاب ومناقشتهم ، وما يستتبع ذلك من الحملة المركزة على المنافقين. وذلك كله من أجل إقامة المجتمع الفاضل في دار الإسلام وتطهيره من زيغ العقيدة وانحرافها عن «عقيدة التوحيد» العقلية الصافية إلى فكرة التثليث(1/198)
النصرانية المعقدة البعيدة عن حيّز الإقناع العقلي والاطمئنان النفسي ، كما قال تعالى : وَلا تَقُولُوا : ثَلاثَةٌ ، انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ ، إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ [النساء 4/ 171]. (1)
ما حوته السورة من الموضوعات
(1) الأمر بتقوى اللّه فى السر والعلن.
(2) تذكير المخاطبين بأنهم من نفس واحدة.
(3) أحكام القرابة والمصاهرة.
(4) أحكام الأنكحة والمواريث.
(5) أحكام القتال.
(6) الحجاج مع أهل الكتاب
(7) بعض أخبار المنافقين.
(8) الكلام مع أهل الكتاب إلى ثلاث آيات فى آخرها. (2)
سورة النّساء مدنية على الصحيح ، وزعم النحاس أنها مكية مستندا إلى أن قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ [النساء : 58].
الآية نزلت بمكة اتفاقا في شأن مفتاح الكعبة ، وتعقبه العلامة السيوطي ، بأن ذلك مستند واه لأنه لا يلزم من نزول آية ، أو آيات بمكة من سورة طويلة نزل معظمها بالمدينة أن تكون مكية خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة مدني ومن راجع أسباب نزول آياتها عرف الرد عليه ، ومما يردّ عليه أيضا ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده صلى اللّه تعالى عليه وسلم ، وبناؤه عليها صلى اللّه تعالى عليه وسلم كان بعد الهجرة اتفاقا ، وقيل : إنها نزلت عند الهجرة ، وعدة آياتها عند الشاميين مائة وسبع وسبعون ، وعند الكوفيين ست وسبعون ، وعند الباقين خمس وسبعون ، والمختلف فيه منها آيتان : إحداهما أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ [النساء : 44] وثانيتهما فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً [النساء : 173] فالكوفيون يثبتون الأولى آية فقط ، والشاميون يثبتون الثانية أيضا ، والباقون يقولون هما بعضا آية ، ووجه مناسبتها لآل عمران أمور ، منها أن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى ، وافتتحت هذه السورة به ، وذلك من آكد وجوه المناسبات في ترتيب السور ، وهو نوع من أنواع البديع يسمى في الشعر تشابه الأطراف وقوم يسمونه بالتسبيغ ، وذلك كقول ليلى الأخيلية :
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (4 / 219)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (4 / 173)(1/199)
إذا نزل الحجاج أرضا مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة رواها
رواها فأرواها بشرب سجالها دماء رجال حيث نال حشاها
ومنها أن في آل عمران ذكر قصة أحد مستوفاة ، وفي هذه السورة ذكر ذيلها ، وهو قوله تعالى : فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء : 88] فإنه نزل فيما يتعلق بتلك الغزوة على ما ستسمعه إن شاء اللّه تعالى مرويا عن البخاري ومسلم وغيرهما ، ومنها أن في آل عمران ذكر الغزوة التي بعد أحد كما أشرنا إليه في قوله تعالى : الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [آل عمران : 172] إلخ ، وأشير إليها هاهنا بقوله سبحانه : وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ [النساء : 104] الآية ، وبهذين الوجهين يعرف أن تأخير النساء عن آل عمران أنسب من تقديمها عليها كما في مصحف ابن مسعود لأن المذكور هنا ذيل لما ذكر هناك وتابع فكان الأنسب فيه التأخير ، ومن أمعن نظره وجد كثيرا مما ذكر في هذه السورة مفصلا لما ذكر فيما قبلها فحينئذ يظهر مزيد الارتباط وغاية الاحتباك. (1)
سورة النساء إحدى السور المدنية الطويلة ، وهي سورة مليئة بالأحكام الشرعية ، التي تنظم الشؤون الداخلية والخارجية للمسلمين ، وهي تعنى بجانب التشريع كما هو الحال فى السور المدنية ، وقد تحدثت السورة الكريمة عن أمور هامة تتعلق بالمرأة ، والبيت والأسرة ، والدولة ، والمجتمع ، ولكن معظم الأحكام التي وردت فيها كانت تبحث حول موضوع النساء ولهذا سميت " سورة النساء " !!
تحدثت السورة الكريمة عن حقوق النساء والأيتام - وبخاصة اليتيمات - في حجور الأولياء والأوصياء ، فقررت حقوقهن فى الميراث والكسب والزواج واستنقذتهن من عسف الجاهلية وتقاليدها الظالمة المهينة.
وتعرضت لموضوع المرأة فصانت كرامتها ، وحفظت كيانها ، ودعت إلى إنصافها بإعطائها حقوقها التي فرضها الله تعالى لها كالمهر ، والميراث ، وإحسان العشرة.
كما تعرضت بالتفصيل الى " احكام المواريث " على الوجه الدقيق العادل ، الذى يكفل العداله ويحقق المساواه ، وتحدثت عن المحرمات من النساء (بالنسب ، والرضاع ، والمصاهره .
وتناولت السورة الكريمة تنظيم العلاقات الزوجية وبينت أنها ليست علاقة جسد وإنما علاقة إنسانية ، وأن المهر ليس أجرا ولا ثمنا ، وإنما هو عطاء يوثق المحبة ، ويديم العشرة ، ويربط القلوب.
ثم تناولت حق الزوج على زوجته ، وحق الزوجة على زوجها ، وأرشدت إلى الخطوات التي ينبغي أن يسلكها الرجل لإصلاح (الحياة الزوجية) ، عندما يبدأ الشقاق والخلاف بين الزوجين ، وبينت معني "
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (2 / 389)(1/200)
قوامه الرجل " وأنها ليست قوامه استعباد وتسخير ، وإنما هي قوامة نصح وتأديب ، كالتي تكون بين الراعي ورعيته.
ثم انتقلت من دائرة الأسرة إلي " دائرة المجتمع " فأمرت بالإحساس في كل شيء ، وبينت أن أساس الإحسان التكافل والتراحم ، والتناصح والتسامح ، والأمانة والعدل ، حتي يكون المجتمع راسخ البنيان قوي الأركان.
ومن الإصلاح الداخلي انتقلت الآيات إلى الاستعداد للأمن الخارجي الذي يحفظ على الأمة استقرارها وهدوءها ، فأمرت بأخذ العدة لمكافحة الأعداء ، كفرة كانوا أم منافقين!
ثم وضعت بعض قواعد المعاملات الدولية بين المسلمين والدول الأخرى المحايدة أو المعادية.
واستتبع الأمر بالجهاد حملة ضخمة على المنافقين ، فهم نابتة السوء وجرثومة الشر التي ينبغي الحذر منها ، وقد تحدثت السورة الكريمة عن مكايدهم وخطرهم.
كما نبهت إلى خطر أهل الكتاب وبخاصة اليهود وموقفهم من رسل الله الكرام.
ثم ختمت السورة الكريمة ببيان ضلالات النصارى في أمر المسيح (عيسى ابن مريم) حيث غالوا فيه حتى عبدوه ثم صلبوه (( اي زعموا أنه صلب وقد أحسن من قال : إذا صلب الإله بفعل عبد يهودي فما هذا الإله ؟)) مع اعتقادهم بألوهيته ، واخترعوا فكرة (التثليث)فأصبحوا كالمشركين الوثنيين ، وقد دعتهم الآيات إلى الرجوع عن تلك الضلالات ، إلى العقيدة السمحة الصافية (عقيدة التوحيد) وصدق الله حيث يقول : [ ولا تقولوا ثلاثه انتهوا خيرا لكم انما الله اله واحد ]
التسمية
سميت سورة النساء لكثرة ما ورد فيها من الاحكام التى تتعلق بهن ، بدرجة لم توجد فى غيرها من السور ، ولذلك اطلق عليها " سورة النساء الكبرى " فى مقابلة " سورة النساء الصغرى " التى عرفت فى القران بسورة الطلاق [ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن.. ] الآية.
قال الله تعالى : [ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقم من نفس واحدة.. إلى.. إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ] من آية (1) إلى آية (10) . (1)
مقصودها الاجتماع على التوحيد الذي هدت إليه آل عمران ، والكتاب الذي حدت عليه البقرة لأجل الدين الذي جمعته الفاتحة تحذيرا مما أراده شأس بن قيس وأنظاره من الفرقة ، وذه السورة من أواخر ما نزل ، روى البخاري في فضائل القرآ ، " عن يوسف بن ماهك أن عراقيا سأل أم المؤمنين عائشة رضي
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (1 / 165)(1/201)
الله عنها أن تريه مصحفها ، فقالت : لم ؟ قال لعلي : أؤلف القرآن عليه ، فإنه يقرأ غير مؤلف ، قالت : وما يضرك أيه قرأت قبل ، إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل ، فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل احلال والحرام ، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر ، لقالوا : لا ندع الخمر أبدا ، ولو نزل لا تزنوا لقالوا : لا تدع الزنى أبدا ، لقد نزل بمكة على محمد وإني لجارية ألعب ) بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) [ القمر : 46 ] وما نزلت سورة البقرة والنساء إلأا وأنا عنده ، قال : فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السورة انتهي. وقد عنت بهذا رضي الله عنعا أن القرآن حاز أعلى البلاغة في إنزاله مطابقا لما تقتضيه الأحوال بحسب الأزمان ، ثم رتب على أعلى وجوه البلاغة بحسب ما تقتضيه المفاهيم من المقال ، كما تشاهده من هذا الكتاب البديع البعيد المنال (1)
هذه السورة مدنية ، وهي أطول سور القرآن - بعد سورة البقرة - وترتيبها في النزول بعد سورة الممتحنة ، التي تقول الروايات : إن بعضها نزل في غزوة الفتح في السنة الثامنة للهجرة ، وبعضها نزل في غزوة الحديبية قبلها في السنة السادسة.
ولكن الأمر في ترتيب السور حسب النزول - كما بينا في مطالع الكلام على سورة البقرة في الجزء الأول - ليس قطعيا. كما أن السورة لم تكن تنزل كلها دفعة واحدة في زمن واحد. فقد كانت الآيات تتنزل من سور متعددة ثم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بوضع كل منها في موضعه من سورة بذاتها ، والسورة الواحدة - على هذا - كانت تظل «مفتوحة» فترة من الزمان تطول أو تقصر. وقد تمتد عدة سنوات. وفي سورة البقرة كانت هناك آيات من أوائل ما نزل في المدينة ، وآيات من أواخر ما نزل من القرآن.
وكذلك الشأن في هذه السورة. فمنها ما نزل بعد سورة الممتحنة في السنة السادسة وفي السنة الثامنة كذلك.
ولكن منها الكثير نزل في أوائل العهد بالهجرة. والمنتظر - على كل حال - أن يكون نزول آيات هذه السورة قد امتد من بعد غزوة أحد في السنة الثالثة الهجرية ، إلى ما بعد السنة الثامنة ، حين نزلت مقدمة سورة الممتحنة.
ونذكر على سبيل المثال الآية الواردة في هذه السورة عن حكم الزانيات : «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ ، حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» .. فمن المقطوع به أن هذه الآية نزلت قبل آية سورة النور التي بينت حد الزنا : «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ، وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ، إِنْ كُنْتُمْ
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (2 / 204)(1/202)
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» .. وهذه الآية الأخيرة نزلت بعد حديث الإفك في السنة الخامسة (أو في السنة الرابعة على رواية) فقد قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حين نزلت : «خذوا عني. خذوا عني.قد جعل اللّه لهن سبيلا ...» إلخ. وكان السبيل هو هذا الحكم الذي تضمنته آية النور.
وفي السورة نماذج كثيرة كهذا النموذج ، تدل على تواريخ نزولها على وجه التقريب. على النحو الذي بيناه في مطالع الكلام عن سورة البقرة ..
هذه السورة تمثل جانبا من الجهد الذي أنفقه الإسلام في بناء الجماعة المسلمة ، وإنشاء المجتمع الإسلامي وفي حماية تلك الجماعة ، وصيانة هذا المجتمع. وتعرض نموذجا من فعل القرآن في المجتمع الجديد ، الذي انبثق أصلا من خلال نصوصه ، والذي نشأ ابتداء من خلال المنهج الرباني. وتصور بهذا وذلك طبيعة هذا المنهج في تعامله مع الكائن الإنساني كما تصور طبيعة هذا الكائن وتفاعله مع المنهج الرباني .. تفاعله معه وهو يقود خطاه في المرتقى الصاعد ، من السفح الهابط ، إلى القمة السامقة .. خطوة خطوة ، ومرحلة مرحلة .. بين تيارات المطامع والشهوات والمخاوف والرغائب وبين أشواك الطريق التي لا تخلو منها خطوة واحدة وبين الأعداء المتربصين على طول الطريق الشائك! وكما رأينا من قبل - في سورة البقرة وسورة آل عمران - مواجهة القرآن لكل الملابسات المحيطة بنشأة الجماعة المسلمة في المدينة وبيان طبيعة المنهج الرباني الذي تنشأ الجماعة على أساسه وتقرير الحقائق الأساسية التي يقوم عليها التصور الإسلامي ، والقيم والموازين التي تنبثق من هذا التصور وإبراز التكاليف التي يقتضيها النهوض بهذه الأمانة في الأرض وتصوير طبيعة أعداء هذا المنهج وأعداء هذه الجماعة التي تقوم عليه في الأرض ، وتحذيرها من وسائل أولئك الأعداء ودسائسهم وبيان ما في عقائدهم من زيف وانحراف ، وما في وسائلهم من خسة والتواء ... إلخ ... فكذلك نرى القرآن - في هذه السورة - يواجه جملة هذه الملابسات والحقائق ..
إلا أن لكل سورة من سور القرآن شخصيتها الخاصة ، وملامحها المميزة ، ومحورها الذي تشد إليه موضوعاتها جميعا .. ومن مقتضيات الشخصية الخاصة أن تتجمع الموضوعات في كل سورة وتتناسق حول محورها في نظام خاص بها ، تبرز فيه ملامحها ، وتتميز به شخصيتها. كالكائن الحي المميز السمات والملامح ، وهو - مع هذا - واحد من جنسه على العموم! ونحن نرى في هذه السورة - ونكاد نحس - أنها كائن حي ، يستهدف غرضا معينا ، ويجهد له ، ويتوخى تحقيقه بشتى الوسائل .. والفقرات والآيات والكلمات في السورة ، هي الوسائل التي تبلغ بها ما تريد! ومن ثم نستشعر تجاهها - كما نستشعر تجاه كل سورة من سور هذا القرآن - إحساس التعاطف والتجاوب مع الكائن الحي ، المعروف السمات ، المميز الملامح ، صاحب القصد والوجهة ، وصاحب الحياة والحركة ، وصاحب الحس والشعور! إن(1/203)
السورة تعمل بجد وجهد في محو ملامح المجتمع الجاهلي - الذي منه التقطت المجموعة المسلمة - ونبذ رواسبه وفي تكييف ملامح المجتمع المسلم ، وتطهيره من رواسب الجاهلية فيه ، وجلاء شخصيته الخاصة.
كما تعمل بجد وجهد في استجاشته للدفاع عن كينونته المميزة ، وذلك ببيان طبيعة المنهج الذي منه انبثقت هذه الكينونة المميزة ، والتعريف بأعدائه الراصدين له من حوله - من المشركين وأهل الكتاب وبخاصة اليهود - وأعدائه المتميعين فيه - من ضعاف الإيمان والمنافقين - وكشف وسائلهم وحبلهم ومكايدهم ، وبيان فساد تصوراتهم ومناهجهم وطرائقهم. مع وضع الأنظمة والتشريعات التي تنظم هذا كله وتحدده ، وتصبه في القالب التنفيذي المضبوط.
وفي الوقت ذاته نلمح رواسب الجاهلية ، وهي تتصارع مع المنهج الجديد ، والقيم الجديدة ، والاعتبارات الجديدة. ونرى ملامح الجاهلية وهي تحاول طمس الملامح الجديدة الوضيئة الجميلة. ونشهد المعركة التي يخوضها المنهج الرباني بهذا القرآن في هذا الميدان. وهي معركة لا تقل شدة ولا عمقا ولا سعة ، عن المعركة التي يخوضها في الميدان الآخر ، مع الأعداء الراصدين له والأعداء المتميعين فيه! وحين ندقق النظر في الرواسب التي حملها المجتمع المسلم من المجتمع الجاهلي الذي منه جاء ، والتي تعالج هذه السورة جوانب منها - كما تعالج سور كثيرة جوانب أخرى - قد ينالنا الدهش لعمق هذه الرواسب ، حتى لتظل تغالب طوال هذه الفترة التي رجحنا أن آيات السورة كانت تتنزل فيها .. ومن العجب أن تظل لهذه الرواسب صلابتها حتى ذلك الوقت المتأخر .. ثم ينالنا الدهش كذلك للنقلة البعيدة السامقة الرفيعة التي انتهى إليها هذا المنهج العجيب الفريد ، بالجماعة المسلمة. وقد التقطها من ذلك السفح الهابط ، الذي تمثله تلك الرواسب ، فارتقى بها في ذلك المرتقى الصاعد إلى تلك القمة السامقة .. القمة التي لم ترتق إليها البشرية قط ، إلا على حداء ذلك المنهج العجيب الفريد. المنهج الذي يملك وحده أن يلتقط الكينونة البشرية من ذلك السفح ، فيرتقي بها إلى تلك القمة ، رويدا رويدا ، في يسر ورفق ، وفي ثبات وصبر ، وفي خطو متناسق موزون! والذي يدقق النظر في هذه الظاهرة الفريدة في تاريخ البشرية ، يتجلى له جانب من حكمة اللّه في اختيار «الأميين» في الجزيرة العربية ، في ذلك الحين ، لهذه الرسالة العظيمة .. حيث يمثلون سفح الجاهلية الكاملة ، بكل مقوماتها. الاعتقادية والتصورية ، والعقلية والفكرية ، والأخلاقية والاجتماعية ، والاقتصادية والسياسية ، ليعرف فيهم أثر هذا المنهج ، وليتبين فيهم كيف تتم المعجزة الخارقة ، التي لا يملك أن يأتي بها منهج آخر ، في كل ما عرفت الأرض من مناهج ، وليرتسم فيهم خط هذا المنهج ، بكل مراحله - من السفح إلى القمة - وبكل ظواهره ، وبكل تجاربه ، ولترى البشرية - في عمرها كله - أين تجد المنهج الذي يأخذ بيدها إلى القمة السامقة ، أيا كان موقفها في المرتقى الصاعد.(1/204)
سواء كانت في درجة من درجاته ، أم كانت في سفحه الذي التقط منه «الأميين»! إن هذا المنهج ثابت في أصوله ومقوماته ، لأنه يتعامل مع «الإنسان». وللإنسان كينونة ثابتة ، فهو لا يتبدل منها كينونة أخرى. وكل التحورات والتطورات التي تلابس حياته لا تغير من طبيعته ، ولا تبدل من كينونته ، ولا تحوّله خلقا آخر. إنما هي تغيرات وتطورات سطحية ، كالأمواج في الخضم ، لا تغير من طبيعته المائية ، بل لا تؤثر في تياراته التحتية الدائمة ، المحكومة بعوامل طبيعية ثابتة! ومن ثم تواجه النصوص القرآنية الثابتة ، تلك الكينونة البشرية الثابتة. ولأنها من صنع المصدر الذي صنع الإنسان ، فإنها تواجه حياته بظروفها المتغيرة ، وأطوارها المتجددة ، بنفس المرونة التي يواجه بها «الإنسان» ظروف الحياة المتغيرة ، وأطوارها المتجددة ، وهو محافظ على مقوماته الأساسية .. مقوّمات الإنسان ..
وفي «الإنسان» هذا الاستعداد ، وهذه المرونة ، وإلا ما استطاع أن يواجه ظروف الحياة وأطوارها ، وهي ليست ثابتة من حوله. وفي المنهج الرباني الموضوع لهذا الإنسان ، ذات الخصائص ، بحكم أنه صادر من المصدر الذي صدر منه الإنسان ، ومودع خصائصه ذاتها ، ومعدّ للعمل معه إلى آخر الزمان.
وهكذا يستطيع ذلك المنهج ، وتستطيع هذه النصوص ، أن تلتقط الفرد الإنساني ، وأن تلتقط المجموعة الإنسانية ، من أي مستوى ، ومن أية درجة من درجات المرتقى الصاعد ، فينتهي به وبها إلى القمة السامقة ..
إنه لا يرده ولا يردها أبدا إلى الوراء ، ولا يهبط به أو بها أبدا إلى درجة أسفل في المرتقى. كما أنه لا يضيق به ولا بها ، ولا يعجز عن رفعه ورفعها ، أيا كان مكانه أو مكانها من السفح السحيق! المجتمع البدائي المتخلف كالمجتمع العربي في الجاهلية القديمة ، والمجتمع الصناعي المتحضر ، كالمجتمع الأوربي والأمريكي في الجاهلية الحديثة .. كلاهما يجد في المنهج الرباني والنصوص القرآنية مكانه ، ويجد من يأخذ بيده من هذا المكان ، فيرقى به في المرتقى الصاعد ، إلى القمة السامقة ، التي حققها الإسلام ، في فترة حية من فترات التاريخ الإنساني ..
إن الجاهلية ليست فترة ماضية من فترات التاريخ. إنما الجاهلية كل منهج تتمثل فيه عبودية البشر للبشر.
وهذه الخاصية تتمثل اليوم في كل مناهج الأرض بلا استثناء. ففي كل المناهج التي تعتنقها البشرية اليوم ، يأخذ البشر عن بشر مثلهم : التصورات والمبادئ ، والموازين والقيم ، والشرائع والقوانين ، والأوضاع والتقاليد.
وهذه هي الجاهلية بكل مقوماتها. الجاهلية التي تتمثل فيها عبودية البشر للبشر ، حيث يتعبد بعضهم بعضا من دون اللّه.(1/205)
والإسلام هو منهج الحياة الوحيد ، الذي يتحرر فيه البشر من عبودية البشر. لأنهم يتلقون التصورات والمبادئ ، والموازين والقيم ، والشرائع والقوانين ، والأوضاع والتقاليد ، من يد اللّه - سبحانه - فإذا أحنوا رءوسهم فإنما يحنونها للّه وحده ، وإذا أطاعوا الشرائع فإنما يطيعون اللّه وحده ، وإذا خضعوا للنظام فإنما يخضعون للّه وحده. ومن ثم يتحررون حقا من عبودية العبيد للعبيد ، حين يصبحون كلهم عبيدا للّه بلا شريك.
وهذا هو مفرق الطريق بين الجاهلية - في كل صورة من صورها - وبين الإسلام. وهذه السورة تتولى رسم مفرق الطريق بالدقة وبالوضوح الذي لا تبقى معه ريبة لمستريب.
ومفهوم أن كل أمر أو نهي أو توجيه ورد في القرآن الكريم ، كان يواجه حالة واقعة في المجتمع الجاهلي ، وكان يتوخى إما إنشاء حالة غير قائمة ، وإما إبطال حالة قائمة .. وذلك دون إخلال بالقاعدة الأصولية العامة : «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» .. ومع ملاحظة أن النصوص القرآنية جاءت لتعمل في كل جيل وفي كل بيئة كما أسلفنا. وفي هذا تمكن المعجزة. فهذه النصوص التي جاءت لتواجه أحوالا بعينها ، هي ذاتها التي تواجه الجماعة الإنسانية ، في أي طور من أطوارها. والمنهج الذي التقط المجموعة المسلمة من سفح الجاهلية ، هو ذاته الذي يلتقط أية مجموعة - أيا كان موقفها على الدرج الصاعد - ثم يبلغ بها إلى القمة السامقة ، التي بلغ إليها بالمجموعة الأولى ، يوم التقطها من ذلك السفح السحيق!
ومن ثم فنحن حين نقرأ القرآن نستطيع أن نتبين منه ملامح المجتمع الجاهلي ، من خلال أوامره ونواهيه وتوجيهاته كما نستطيع أن نتبين الملامح الجديدة التي يريد أن ينشئها ، وأن يثبتها في المجتمع الجديد ..
فماذا نحن واجدون - في هذه السورة - من ملامح المجتمع الجاهلي التي ظلت راسبة في الجماعة المسلمة ، منذ أن التقطها المنهج الرباني من سفح الجاهلية؟ وماذا نحن واجدون من الملامح الجديدة التي يراد إنشاؤها في المجتمع الإسلامي الجديد وتثبيتها! إننا نجد مجتمعا تؤكل فيه حقوق الأيتام - وبخاصة اليتمات - في حجور الأهل والأولياء والأوصياء ، ويستبدل الخبيث منها بالطيب ، ويعمل فيها بالإسراف والطمع ، خيفة أن يكبر اليتامى فيستردوها! وتحبس فيه الصغيرات من ذوات المال ، ليتخذهن الأولياء زوجات ، طمعا في مالهن لا رغبة فيهن! أو يعطين لأطفال الأولياء للغرض ذاته! ونجد مجتمعا يجار فيه على الصغار والضعاف والنساء فلا يسلم لهم فيه بنصيبهم الحقيقي من الميراث. إنما يستأثر فيه بمعظم التركة الرجال الأقوياء ، القادرون على حمل السلاح ولا ينال الضعاف فيه إلا الفتات.
وهذا الفتات الذي تناله اليتيمات الصغيرات والنسوة الكبيرات ، هو الذي يحتجزن من أجله ، ويحبسن على الأطفال من الذكور أو على الشيوخ من الأولياء. كي لا يخرج المال بعيدا ولا يذهب في الغرباء! ونجد مجتمعا يضع المرأة موضعا غير كريم ، ويعاملها بالعسف والجور. في كل أدوار حياتها. يحرمها الميراث(1/206)
- كما قلنا - أو يحبسها لما ينالها منع ، ويورّثها للرجل كما يورثه المتاع! فإذا مات زوجها جاء وليه ، فألقي عليها ثوبه ، فيعرف أنها محجوزة له. إن شاء نكحها بغير مهر ، وإن شاء زوجها وأخذ مهرها! ويعضلها زوجها إذا طلقها ، فيدعها لا هي زوجة ، ولا هي مطلقة ، حتى تفتدي نفسها منه وتفك أسرها! ونجد مجتمعا تضطرب فيه قواعد الأسرة بسبب هبوط مركز المرأة فيه ، علاوة على اضطراب قواعد التبني والولاء ، واصطدامها مع قواعد القرابة والنسب ، فوق ما فيه من فوضى في العلاقات الجنسية والعائلية. حيث تروج اتصالات السفاح والمخادنة.
ونجد مجتمعا تؤكل فيه الأموال بالباطل في المعاملات الربوية. وتغتصب فيه الحقوق. وتجحد فيه الأمانات.
وتكثر فيه الغارات على الأموال والأرواح. ويقل فيه العدل فلا يناله إلا الأقوياء. كما لا تنفق فيه الأموال إلا رئاء الناس ، اجتلابا للمفاخر ، ولا ينال الضعاف المحاويج فيه من هذا الإنفاق ما ينال الأقوياء الأغنياء! وليست هذه سوى بعض ملامح الجاهلية - وهي التي تصدت لها هذه السورة - ووراءها ما صورته السور الأخرى ، وما تحفل به أخبار هذه الجاهلية في العرب ، وفيمن حولهم من الأمم»..
إنه لم يكن - قطعا - مجتمعا بلا فضائل. فقد كانت له فضائله ، التي تهيأ بها لاستقبال هذه الرسالة الكبرى.
ولكن هذه الفضائل إنما استنقذها الإسلام استنقاذا ، ووجهها الوجهة البناءة. وكانت - لولا الإسلام - مضيعة تحت ركام هذه الرذائل ، مفرقة غير متجمعة ، وضائعة غير موجهة. وما كانت هذه الأمة لتقدم للبشرية شيئا ذا قيمة ، لولا هذا المنهج ، الذي جعل يمحو ملامح الجاهلية الشائهة ، وينشئ أو يثبت ملامح الإسلام الوضيئة ، ويستنقذ فضائل هذه الأمة المضيعة المطمورة المفرقة المبددة ، شأنها في هذا شأن سائر أمم الجاهلية التي عاصرتها ، والتي اندثرت كلها ، لأنها لم تدركها رسالة ولم تنشئها عقيدة! من تلك الجاهلية ، التي هذه بعض ملامحها ، التقط الإسلام المجموعة التي قسم اللّه لها الخير ، وقدّر أن يسلمها قيادة البشر ، فكون منها الجماعة المسلمة ، وأنشأ بها المجتمع المسلم. ذلك المجتمع الذي بلغ إلى القمة التي لم تبلغها البشرية قط ، والتي ما تزال أملا للبشرية ، يمكن أن تحاوله ، حين يصح منها العزم على انتهاج الطريق.
وفي هذه السورة نجد بعض الملامح التي يتوخى المنهج الإسلامي إنشاءها وتثبيتها في المجتمع المسلم ، بعد تطهيره من رواسب الجاهلية ، وإنشاء الأوضاع والتشريعات التنفيذية ، التي تكفل حماية هذه الملامح وتثبيتها في الواقع الاجتماعي.
نجد في مستهلها تقريرا لحقيقة الربوبية ووحدانيتها ، ولحقيقة الإنسانية ووحدة أصلها الذي أنشأها منه ربها ، ولحقيقة قيامها على قاعدة الأسرة ، واتصالها بوشيجة الرحم ، مع استجاشة هذه الروابط كلها في(1/207)
الضمير البشري ، واتخاذها ركيزة لتنظيم المجتمع الإسلامي على أساسها ، وحماية الضعفاء فيه عن طريق التكافل بين الأسرة الواحدة ، ذات الخالق الواحد ، وحماية هذا المجتمع من الفاحشة والظلم والفتنة وتنظيم الأسرة المسلمة والمجتمع المسلم ، والمجتمع الإنساني كله ، على أساس وحدة الربوبية ووحدة البشرية : «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها ، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً ، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» .. وهذه الحقيقة الكبيرة التي تتضمنها آية الافتتاح تمثل قاعدة أصيلة في التصور الإسلامي ، تقوم عليها الحياة الجماعية. نرجو أن نعرض لها بالتفصيل في مكانها من سياق السورة.
ونجد التشريعات العملية لتحقيق البناء التكافلي للجماعة مستندة إلى تلك الركيزة :
في حماية اليتامى نجد التوجيه الموحي ، والتحذير المخيف ، والتشريع المحدد الأصول : «وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ، وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (آية 2) ..
وَابْتَلُوا الْيَتامى ، حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً ، وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا. وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ. فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ. وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً» (آية 6) .. «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ. فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ ، وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً. إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ، وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» (9 - 10) ..
وفي حماية الإناث خاصة - يتيمات صغيرات ونساء مستضعفات - وحفظ حقهن جميعا في الميراث ، وفي الكسب ، وفي حقهن في أنفسهن ، واستنقاذهن من عسف الجاهلية ، وتقاليدها الظالمة المهينة .. نجد أمثال هذه التوجيهات والتشريعات المنوعة الكثيرة : «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ، مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ، أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ، ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا «1». وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ، فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» .. (3 - 4) .. «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ، وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ. مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» (آية 7) .. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ، وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ - إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ - وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً ، وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً. وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ ، وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً. أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً؟ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ ، وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً؟» .. (19 - 21) .. «وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ.قُلِ : اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ، وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ ، وَتَرْغَبُونَ(1/208)
أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ ، وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً» .. (آية 127) ..
وفي تنظيم الأسرة ، وإقامتها على أساس ثابت من موحيات الفطرة ، وتوفير الحماية لها من تأثير الملابسات العارضة في جو الحياة الزوجية والحياة الاجتماعية .. ترد مثل هذه التوجيهات والتوجيهات والتنظيمات - بالإضافة إلى ما ورد منها في ثنايا الحديث عن اليتيمات والمطلقات - : «وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ. إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ، وَبَناتُكُمْ ، وَأَخَواتُكُمْ ، وَعَمَّاتُكُمْ ، وَخالاتُكُمْ ، وَبَناتُ الْأَخِ ، وَبَناتُ الْأُخْتِ ، وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ، وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ، وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ، وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ - فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ - وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ، وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ - إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ - إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ - كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. وَأُحِلَّ لَكُمْ - ما وَراءَ ذلِكُمْ - أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ. فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» (22 - 24) .. «الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ، بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ. فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ ، وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ ، وَاضْرِبُوهُنَّ. فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً. وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ، إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً» .. (34 - 35) .. «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً ، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ، وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ، وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً.
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ، فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ، وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً» .. (128 - 130) ..
وفي تنظيم علاقات الميراث والتكافل بين أفراد الأسرة الواحدة وبين الموالي والأولياء الذين كانوا متعاقدين قبل نزول تشريعات النسب ، وإبطال التبني ، ترد هذه المبادئ الجامعة وهذه التشريعات المحددة ، ذات الأهداف الاجتماعية البعيدة : «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ، وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ، مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (آية 7) .. «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ : لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ ، وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ. وَلِأَبَوَيْهِ(1/209)
لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ - إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ - فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ. فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ - مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ - آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ - إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ - فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ - مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ - وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ - إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ - فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ - مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ - وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً ، أَوِ امْرَأَةٌ ، وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ ، فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ.
فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ - مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ - وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ» .. (11 - 12) .. «يَسْتَفْتُونَكَ. قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ : إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ، وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ. وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ. فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ. وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .. (آية 176) .. «وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ، وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً» .. (آية 33) ..
وفي حماية المجتمع من الفاحشة ، وتوفير أسباب الإحصان والوقاية .. نجد مثل هذه التنظيمات : «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ ، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا. وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ، فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما ، إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً» .. (15 - 16) .. «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ ، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ. فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ، وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ. فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ. ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ. وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ، وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».. (25 - 26) ..
وفي تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع المسلم كله وإقامتها على التكافل والتراحم والتناصح ، والأمانة ، والعدل ، والسماحة والمودة ، والإحسان .. ترد توجيهات وتشريعات شتى - إلى جانب ما ذكرنا من قبل - نذكر منها هنا على سبيل المثال بضعة نماذج ولا نستقصيها فستأتي كلها في مكانها من سياق السورة : «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً ، وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» (آية 5) ..(1/210)
«وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» .. (آية 8) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ - إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ - وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ، إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» .. (29 - 30) .. «وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ. لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ. وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» .. (آية 32) .. «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ، وَبِذِي الْقُرْبى ، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ ، وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى ، وَالْجارِ الْجُنُبِ ، وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ ، وَابْنِ السَّبِيلِ ، وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ، وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ، وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ ، وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً» .. (36 -38) .. «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ، وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً» .. (آية 58) .. «مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً. وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً» .. (85 - 86) .. «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ..»
«وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ، وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً» .. (92 -93) .. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ، شُهَداءَ لِلَّهِ ، وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ. إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما. فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا. وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» .. (آية 135) .. «لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ. وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً. إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ ، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً» .. (148 - 149) ..
إلى جانب ذلك الهدف الكبير في تنظيم المجتمع المسلم على أساس التكافل والتراحم والتناصح والتسامح ، والأمانة والعدل والمودة والطهارة ومحو الرواسب المتخلفة فيه من الجاهلية وإنشاء وتثبيت الملامح الجديدة الوضيئة .. نجد هدفا آخر لا يقل عنه عمقا ولا أثرا في حياة المجتمع المسلم - إن لم يكن هو الأساس الذي يقوم عليه الهدف الأول - ذلك هو تحديد معنى الدين ، وحد الإيمان ، وشرط الإسلام ، وربط كل الأنظمة والتشريعات التي تحكم حياة الفرد وحياة المجتمع بذلك المعنى المحدد للدين ، وهذا التعريف المضبوط للإيمان والإسلام.(1/211)
إن الدين هو النظام الذي قرره اللّه للحياة البشرية بجملتها ، والمنهج الذي يسير عليه نشاط الحياة برمتها واللّه وحده هو صاحب الحق في وضع هذا المنهج بلا شريك. والدين هو الاتباع والطاعة للقيادة الربانية التي لها وحدها حق الطاعة والاتباع ، ومنها وحدها يكون التلقي ، ولها وحدها يكون الاستسلام .. فالمجتمع المسلم مجتمع له قيادة خاصة - كما له عقيدة خاصة وتصور خاص - قيادة ربانية متمثلة في رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وفيما يبلغه عن ربه مما هو باق بعده من شريعة اللّه ومنهجه. وتبعية هذا المجتمع لهذه القيادة هي التي تمنحه صفة الإسلام وتجعل منه «مجتمعا مسلما». وبغير هذه التبعية المطلقة لا يكون «مسلما» بحال. وشرط هذه التبعية هو التحاكم إلى اللّه والرسول ، ورد الأمر كله إلى اللّه ، والرضى بحكم رسوله وتنفيذه مع القبول والتسليم.
وتبلغ نصوص السورة في بيان هذه الحقيقة ، وتقرير هذا الأصل ، مبلغا حاسما جازما ، لا سبيل للجدال فيه ، أو الاحتيال عليه ، أو تمويهه وتلبيسه ، لأنها من القوة والوضوح والحسم بحيث لا تقبل الجدال! وتقرير هذا المبدأ الأساسي يتمثل في نصوص كثيرة كثرة واضحة في السورة. وسيجيء استعراضها التفصيلي في مكانها من السياق. فنكتفي هنا بذكر بعضها إجمالا :
يتمثل على وجه الإجمال في آية الافتتاح في السورة : «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ..» .. كما يتمثل في مثل هذه الآيات : «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ...» (آية 36) .. «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» .. (آية 48) ..
ويتمثل على وجه التخصيص والتحديد في مثل قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ، فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ - وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ - وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً» .. (59 - 61) .. «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» .. (آية 64) .. «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» .. (آية 65) .. «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ ، وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» .. (آية 80) .. «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ - مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى - وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ، نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى ، وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» .. (آية 115) ..
وهكذا يتحدد معنى الدين ، وحد الإيمان ، وشرط الإسلام ، ونظام المجتمع المسلم ، ومنهجه في الحياة.(1/212)
وهكذا لا يعود الإيمان مجرد مشاعر وتصورات ولا يعود الإسلام مجرد كلمات وشعارات ، ولا مجرد شعائر تعبدية وصلوات .. إنما هو إلى جانب هذا وذلك ، وقبل هذا وذلك. نظام يحكم ، ومنهج يتحكم ، وقيادة تطاع ، ووضع يستند إلى نظام معين ، ومنهج معين ، وقيادة معينة. وبغير هذا كله لا يكون إيمان ، ولا يكون إسلام ، ولا يكون مجتمع ينسب نفسه إلى الإسلام.
وتترتب على إقرار هذا المبدأ الأساسي توجيهات كثيرة في السورة.كلها تفريعات على هذا الأصل الكبير:
1 - يترتب عليه أن تكون التنظيمات الاجتماعية كلها في المجتمع - شأنها شأن الشعائر التعبدية - مرتكنة إلى هذا الأصل الكبير ، مستندة إلى معنى الدين ، وحد الإيمان ، وشرط الإسلام ، على هذا النحو الذي قررته تلك النماذج التي أسلفنا. فهي ليست مجرد تنظيمات وتشريعات. إنما هي مقتضى الإيمان باللّه والاعتراف بألوهيته ، وإفراده بالألوهية ، والتلقي من القيادة التي يحددها .. ومن ثم نرى كل التشريعات والتنظيمات التي أشرنا إليها تستند إلى هذه الجهة ، وينص في أعقابها نصا على هذه الحقيقة :
آية الافتتاح التي تقرر وحدة البشرية ، وتدعو الناس إلى رعاية وشيجة الرحم ، وتعد مقدمة لسائر التنظيمات التي تلتها في السورة .. تبدأ بدعوة الناس إلى تقوى ربهم الذي خلقهم من نفس واحدة : «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» .. وتنتهي إلى تقواه ، وتحذيرهم من رقابته : «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» ..
والآيات التي تحض على رعاية أموال اليتامى ، وتبين طريقة التصرف في أموالهم تنتهي بالتذكير باللّه وحسابه :«وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً» ..
وتوزيع أنصبة الميراث في الأسرة يجيء وصية من اللّه : «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ...» «فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ» .. وتنتهي تشريعات الإرث بهذا التعقيب : «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ، وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ» ..
وفي تشريعات الأسرة وتنظيم المهور والطلاق وما إليها ترد مثل هذه التعقيبات : «وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» .. «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ .. كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ..» .. «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .. «فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً» ..
«وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» .. تسبق في الآية الوصية بالإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين .. إلخ وهكذا ترتبط سائر التنظيمات والتشريعات باللّه ، وتستمد من شريعته ، وترجع الأمور كلها إلى هذه القيادة التي لها وحدها حق الطاعة والاتباع.(1/213)
2 - ويترتب على إقرار ذلك الأصل الكبير أن يكون ولاء المؤمنين لقيادتهم ولجماعتهم المؤمنة. فلا يتولوا أحدا لا يؤمن إيمانهم ، ولا يتبع منهجهم ، ولا يخضع لنظامهم ، ولا يتلقى من قيادتهم. كائنة ما كانت العلاقة التي تربطهم بهذا الأحد. علاقة قرابة. أو جنس. أو أرض أو مصلحة. وإلا فهو الشرك أو النفاق ، وهو الخروج من الصف المسلم على كل حال : «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ - مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى - وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى ، وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ، وَساءَتْ مَصِيراً. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً» .. (115 - 116) .. «بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. أيبتغون عندهم العزة ? فإن العزة لله جميعا). . [ آية 139 ] . . (يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين . أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ? إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار , ولن تجد لهم نصيرا . إلا الذين تابوا وأصلحوا , واعتصموا بالله , وأخلصوا دينهم لله . فأولئك مع المؤمنين , وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما). . [ 144 - 146 ] . .
3 - ويترتب عليه وجوب هجرة المسلمين من دار الحرب - وهي كل دار لا تقوم فيها شريعة الإسلام ولا تدين للقيادة السملمة - ليلحقوا بالجماعة المسلمة متى قامت في الأرض وأصبح لها قيادة وسلطان - وليستظلوا برايه القيادة المسلمة ولا يخضعوا لراية الكفر - وهي كل راية غير راية الإسلام - وإلا فهو النفاق أو الكفر ; وهو الخروج من الصف المسلم على كل حال: (فما لكم في المنافقين فئتين ? والله أركسهم بما كسبوا , أتريدون أن تهدوا من أضل الله ? ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا . ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ; فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم , ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا). . [ 88 - 89 ] . . (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا:فيم كنتم ? قالوا:كنا مستضعفين في الأرض . قالوا:ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ? فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا . إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم , وكان الله عفوا غفورا . ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة , ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله , ثم يدركه الموت , فقد وقع أجره على الله . وكان الله غفورا رحيما). . [ 97 - 100 ] . .
4 - ويترتب عليه أن يقاتل المسلمون لاستنقاذ الضعاف من إخوانهم المسلمين , الذين لا يستطيعون الهجرة من دار الحرب وراية الكفر , وضمهم إلى الجماعة المسلمة في دار الإسلام , كي لا يفتنوا عن دينهم , ولا يستظلوا براية غير راية الإسلام , ولا يخضعوا لنظام غير نظامه . ثم لكي يتمتعوا بالنظام(1/214)
الإسلامي الرفيع , وبالحياة في المجتمع الإسلامي النظيف . وهو حق كل مسلم , والحرمان منه حرمان من أكبر نعم الله في الأرض , ومن أفضل طيبات الحياة:(وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون:ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها , واجعل لنا من لدنك وليا , واجعل لنا من لدنك نصيرا). . [ آية 75 ] . .
ويستتبع هذا الأمر حملة ضخمة للحض على الجهاد بالنفس والمال , والتنديد بالمعوقين والمبطئين والقاعدين . وهي حملة تستغرق قطاعا كبيرا من السورة , يرتفع عندها نبض السورة الهادئة الأنفاس ! ويشتد إيقاعها , وتحمى لذعاتها في التوجيه والتنديد !
ولا نملك هنا استعراض هذا القطاع بترتيبه في السياق - ولهذا الترتيب أهمية خاصة وإيحاء معين - فندع هذا إلى مكانه من السياق . ونكتفي بمقتطفات من هذا القطاع:
(يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم , فانفروا ثبات أو انفروا جميعا . وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال:قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا . ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن - كأن لم تكن بينكم وبينه مودة - يا ليتني كنت معهم , فأفوز فوزا عظيما . فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ; ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب , فسوف نؤتيه أجرا عظيما . وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان , الذين يقولون:ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها , واجعل لنا من لدنك وليا , واجعل لنا من لدنك نصيرا , الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله , والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت , فقاتلوا أولياء الشيطان , إن كيد الشيطان كان ضعيفا) . . [ 71 - 76 ] . . (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك , وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا , والله أشد بأسا وأشد تنكيلا). . [ آية 84 ] . . (لا يستوي القاعدون من المؤمنين - غير أولي الضرر - والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم , فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة , وكلا وعد الله الحسنى . وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما . درجات منه ومغفرة ورحمة . وكان الله غفورا رحيما). . [ 95 -96 ] . .
(ولا تهنوا في ابتغاء القوم . إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون , وترجون من الله ما لا يرجون , وكان الله عليما حكيما . .)[ آية:105 ] . .
وفي ثنايا هذه الحملة للحض على الجهاد توضع بعض قواعد المعاملات الدولية بين "دار الإسلام" والمعسكرات المتعددة التي تدور معها المعاملات , والخلافات:
في التعقيب على انقسام المسلمين فئتين ورأيين في أمر المنافقين , الذين يدخلون المدينة للتجارة والمنافع والاتصال مع أهلها , حتى إذا خرجوا منها عادوا موالين لمعسكرات الأعداء , يقول: (فلا تتخذوا منهم(1/215)
أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله ; فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم , ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ) . (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق , أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم . ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم , وألقوا إليكم السلم , فما جعل الله لكم عليهم سبيلا . ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم , كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها . فإن لم يعتزلوكم , ويلقوا إليكم السلم , ويكفوا أيديهم , فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم ; وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا . . [ 89 - 91 ] . . (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا , ولا تقولوا لمن القى إليكم السلام:لست مؤمنا , تبتغون عرض الحياة الدنيا , فعند الله مغانم كثيرة . كذلك كنتم من قبل , فمن الله عليكم , فتبينوا , إن الله كان بما تعملون خبيرا). . [ آية 94 ] . .
وكذلك تجيء في ثنايا الحديث عن الجهاد بعض الأحكام الخاصة بالصلاة في حالة الخوف وحالة الأمن ; مع توصيات الله للمؤمنين وتحذيرهم من أعدائهم المتربصين: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة - إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا - إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا . وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة , فلتقم طائفة منهم معك , وليأخذوا أسلحتهم , فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم , ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك , وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم . ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ! ولا جناح عليكم - إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى - أن تضعوا أسلحتكم ; وخذوا حذركم , إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا . فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم , فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة . إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا). . [ 101 - 103 ] . .
وتدل هذه الآيات على مكان الصلاة من الحياة الإسلامية ; حتى لتذكر في مقام الخوف , وتبين كيفياتها في هذا المقام ; كما تدل على تكامل هذا المنهج , في مواجهة الحياة الإنسانية في كل حالاتها ; ومتابعة الفرد المسلم والجماعة المسلمة في كل لحظة وفي كل حال . .
ويستتبع الأمر بالجهاد كذلك حملة ضخمة على المنافقين وعلى موالاتهم لليهود في المدينة بينما هم يكيدون لدين الله , وللجماعة المسلمة , وللقيادة المسلمة كيدا شديدا . وعلى ألاعيبهم في الصف المسلم , وتمييعهم للقيم والنظم . وفي الآيات التي اقتطفناها من قطاع الجهاد طرف من الحملة على المنافقين , نضم إليه هذا القطاع المصور لحالهم وصفاتهم , الكاشف لطبيعتهم ووسائلهم:
(ويقولون طاعة . فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول , والله يكتب ما يبيتون . فأعرض عنهم , وتوكل على الله , وكفى بالله وكيلا . أفلا يتدبرون القرآن َ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ(1/216)
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ. وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا»..81 - 83) .. «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا. ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ، ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا. بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ؟ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً. وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها ، فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ. إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً. الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ، فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا : أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا : أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَاللَّهُ ، يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا. إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ ، وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ ، وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ ، لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً؟ إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ، وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً» .. (137 - 145) ..
وفي قطاع الجهاد - وفي غيره من القطاعات الأخرى في السورة - نلتقي بالحرب المشبوبة على الجماعة المسلمة ، وعلى العقيدة الإسلامية ، والقيادة الإسلامية كذلك ، من أهل الكتاب - وبخاصة اليهود - وحلفائهم من المنافقين في المدينة ، والمشركين في مكة ، وما حولهما .. وهي الحرب التي التقينا بها في سورة البقرة ، وفي سورة آل عمران ، من قبل .. ونلتقي كذلك بالمنهج الرباني. وهو يأخذ بيد الجماعة المسلمة السائرة بين الأشواك الخبيثة ، والأحابيل الماكرة ، يقودها ، ويوجهها ، ويحذرها ، ويكشف لها طبيعة أعدائها ، وطبيعة المعركة التي تخوضها ، وطبيعة الأرض التي تدور فيها المعركة ، وزواياها وجوانبها الخبيثة.
ومن علامات الإعجاز في هذا القرآن ، أن هذه النصوص التي نزلت لتواجه معركة معينة ، ما تزال هي بذاتها تصور طبيعة المعركة الدائمة المتجددة بين الجماعة المسلمة في كل مكان ، وعلى توالي الأجيال ، وبين أعدائها التقليديين الذين ما يزالون هم هم ، وما تزال حوافزهم هي هي في أصلها ، وإن اختلفت أشكالها وظواهرها وأسبابها القريبة ، وما تزال أهدافهم هي هي في طبيعتها وإن اختلفت أدواتها ووسائلها ، وما تزال زلزلة العقيدة ، وزعزعة الصف ، والتشكيك في القيادة الربانية ، هي الأهداف التي تصوب إليها طلقاتهم الماكرة ، للوصول من ورائها إلى الاستيلاء على مقاليد الجماعة المسلمة ، والتصرف في(1/217)
مقاديرها ، واستغلال أرضها وجهدها وغلاتها وقواها وطاقاتها ، كما كانت يهود تستغل الأوس والخزرج في المدينة ، قبل أن يعزهم اللّه ويجمعهم بالإسلام ، وبالقيادة المسلمة ، وبالمنهج الرباني.
وقد حفلت هذه السورة كما حفلت سورتا البقرة وآل عمران بالحديث عن تلك المؤامرات التي لا تنقطع من اليهود ضد الجماعة المسلمة ، بالاتفاق مع المنافقين ومع المشركين. وستجيء هذه النصوص مشروحة عند استعراضها في مكانها في السياق. فنكتفي هنا بإثبات طرف من هذه الحملة العنيفة :
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ ، وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ ، وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً. مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ، وَيَقُولُونَ : سَمِعْنا وَعَصَيْنا ، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ، وَراعِنا - لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ - وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا : سَمِعْنا وَأَطَعْنا ، وَاسْمَعْ ، وَانْظُرْنا ، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ. وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا. يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ ، مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها ، أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ ، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ، بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ ، وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ، وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا : هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً؟ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ؟ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ ، وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ..» .. (44 - 55) ..
«إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ ، وَيَقُولُونَ : نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا ، وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً» ..(150 - 151) ..
«يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ. فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ ، فَقالُوا : أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ، ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ ، فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ ، وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً. وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ ، وَقُلْنا لَهُمُ : ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ ، وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً. فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ ، وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ ، وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ. بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» ... «فَبِظُلْمٍ مِنَ(1/218)
الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ، وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً. وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ، وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ، وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً» .. (153 - 161).
ومن هذه المقتطفات تتبين بعض أفاعيل اليهود ، التي يتصدى لها القرآن بالكشف والتنديد وبالتكذيب والتفنيد .. وهذه الحملة ، وتسمية اليهود فيها بالكافرين ، ووصفهم بأنهم «أعداء» ، تشي بشدة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من هذه الأفاعيل ، وبضرورة التعرض لها بالتفنيد والتكذيب ، وكشف ما ورائها من أهداف خبيثة ، وبواعث خبيثة ، من هذه الجبلة الخبيثة التي لم تستسلم أبدا للهدى في تاريخها الطويل ، ولم تستقم على الهدى إلا ريثما تنحرف وتقتل أنبياءها بغير الحق. والتي كان يدفعها الحقد والحسد للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن آتاه اللّه الرسالة - وهو من غيرهم - وللمسلمين أن جمعهم اللّه على الهدى فتكيد لهم هذا الكيد الذي لم ينقطع منذ أن اقتحم الإسلام المدينة عليهم ، إلى يومنا هذا. والذي ما يزال هو هو اليوم وغدا يتلقى كل تجمع إسلامي ، وكل حركة إسلامية ، وكل بعث إسلامي ، على مدار القرون! ولقد كان التشكيك في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ورسالته ، هو الهدف الأول لحملات اليهود الذي يسهل بعد بلوغه تحويل المسلمين عن قيادتهم الأمينة - بعد تحويلهم عن عقيدتهم القويمة. ومن ثم يسهل تفتيت الصف المسلم ، وإيهان تماسكه. فهذا التماسك حول العقيدة القويمة والقيادة الأمينة ، هو الذي يتعب اليهود وأعداء الجماعة المسلمة - في كل زمان - وهو الذي يكلفهم الجهد والمشقة. ومن ثم تتجه جهودهم أولا لتحطيمه. وتسليم مقادة المسلمين إلى الهوى والجاهلية من جديد! ومن ثم نجد في السورة بيانا للحقيقة البسيطة في رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي ليست بدعا من الرسالات ولا غريبة من الغرائب ، التي لا عهد للأرض بها أو لا عهد بها لبني إسرائيل أنفسهم. إنما هي حلقة من سلسلة الحجة التي يأخذها اللّه على العباد قبل الحساب. فقد أوحى إليه كما أوحى إلى الرسل من قبله.
وقد آتاه اللّه النبوة والحكم ، كما آتى أنبياء بني إسرائيل! فلا غرابة في رسالته ، ولا غرابة في قيادته ، ولا غرابة في حاكميته. وكلها مألوف في عالم الرسالات. وكل تعلات بني إسرائيل في هذا الأمر كاذبة ، وكل شبهاتهم كذلك باطلة. ولهم سوابق مثلها مع نبيهم الأكبر موسى عليه السلام ، ومع أنبيائهم من بعده ، وبخاصة مع عيسى عليه السلام ، ومن ثم لا يجوز أن يلقي باله إليها أحد من المسلمين.
وتتولى آيات كثيرة في السورة بيان هذه الحقيقة. نقتطف بعضها في هذا المجمل حتى تجيء كلها مشروحة في مكانها من السياق :
«إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ. وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ ، وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً. وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ، وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً. رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ، لِئَلَّا(1/219)
يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ ، أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ. وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» .. (163 - 166) ..
«يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ ، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا : أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً» .. «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ ، وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ» .. «وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً. وَقَوْلِهِمْ : إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - رَسُولَ اللَّهِ - وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ..»(153 - 157).
«أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ؟ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ ..» .. (54 - 55) ..
وكما تتولى السورة نصيبها من تنظيم المجتمع المسلم وتطهيره من رواسب الجاهلية وبيان معنى الدين ، وحد الإيمان ، وشرط الإسلام وترتب على هذا البيان مقتضياته من المبادئ والتوجيهات التي أسلفنا بيانها بصفة عامة وتتولى دفع شبهات اليهود وكيدهم - وبخاصة فيما يتعلق بصحة الرسالة - فهي كذلك تتولى بيان بعض مقومات التصور الإسلامي الأساسية ، وتجلو عنها الغبش. وتبين ما في عقيدة أهل الكتاب - من النصارى - من غلو ، بعد دفع المقولات اليهودية الكاذبة عن عيسى عليه السلام وأمه الطاهرة ، وتقرر وحدة الألوهية وحقيقة العبودية ، وتبين حقيقة قدر اللّه وعلاقته بخلقه ، وحقيقة الأجل وعلاقته بقدر اللّه ، وحدود ما يغفره اللّه من الذنوب ، وحدود التوبة وحقيقتها ، وقواعد العمل والجزاء ... إلى آخر هذه المقومات الاعتقادية الأصيلة.
وذلك في مثل هذه النصوص :
«إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ. فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ، حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ : إِنِّي تُبْتُ الْآنَ! وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ. أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» .. (17 - 18).
«يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ، وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ، وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ، وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً».. (26 - 28) ..
«إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً» .. (آية 31) ..
«إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» .. (40) ..
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ، وَقالُوا : رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى(1/220)
أَجَلٍ قَرِيبٍ! قُلْ : مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى ، وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ - وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ - وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا : هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا : هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ! قُلْ : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً. ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ، وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» .. (77 - 79) ..
«إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً» (116) ..
«لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ. مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى - وَهُوَ مُؤْمِنٌ - فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً» ..(123 - 124) ..
«ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ؟ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً» .. (147) ..
«إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ ، وَيَقُولُونَ : نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا ، وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ، أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» ..(150 - 152) ..
«يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ، وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ، إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ ، وَرُوحٌ مِنْهُ ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ، وَلا تَقُولُوا : ثَلاثَةٌ. انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ. إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ. سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ! لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً ، وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» .. (171 - 173) ..
ثم الأسس الأخلاقية الرفيعة ، التي يقام عليها بناء المجتمع المسلم .. والسورة تعرض من هذه الأسس جمهرة صالحة. سبقت الإشارة إلى بعضها. فالعنصر الأخلاقي أصيل وعميق في كيان التصور الإسلامي ، وفي كيان المجتمع المسلم بحيث لا يخلو منه جانب من جوانب الحياة ونشاطها كله .. ونحن نكتفي هنا بالإشارة السريعة المجملة إلى بعض الأسس المستمدة من هذا العنصر الأصيل في حياة الجماعة المسلمة بالإضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه من محتويات السورة ..(1/221)
إنه مجتمع يقوم على العبودية للّه وحده فهو مجتمع متحرر إذن من كل عبودية للعبيد ، في آية صورة من صور العبودية ، المتحققة في كل نظام على وجه الأرض ، ما عدا النظام الإسلامي الذي تتوحد فيه الألوهية وتتمحض للّه فلا تخلع خاصية من خواصها على أحد من عباده ولا يدين بها الناس لأحد من عبيده .. ومن هذه الحرية تنطلق الفضائل كلها ، وتنطلق الأخلاقيات كلها ، لأن مرجعها جميعا إلى ابتغاء رضوان اللّه ، ومرتقاها ممتد إلى التحلي بأخلاق اللّه ، وهي مبرأة إذن من النفاق والرياء ، والتطلع إلى غير وجه اللّه .. وهذا هو الأصل الكبير في أخلاقية الإسلام ، وفي فضائل المجتمع المسلم ..
ثم ترد بعض مفردات العنصر الأخلاقي - إلى جانب ذلك الأصل الكبير - في السورة .. فهو مجتمع يقوم على الأمانة. والعدل. وعدم أكل الأموال بالباطل. وعدم النجوى والتآمر إلا في معروف. وعدم الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم. والشفاعة الحسنة. والتحية الحسنة. ومنع الفاحشة. وتحريم السفاح والمخادنة.
وعدم الاختيال والفخر ، والرياء والبخل ، والحسد والغل .. كما يقوم على التكافل والتعاون والتناصح والتسامح ، والنخوة والنجدة ، وطاعة القيادة التي لها وحدها حق الطاعة .. إلخ.
وقد سبق ذكر معظم النصوص التي تشير إلى هذه الأسس .. وسيرد تفصيلها عند استعراضها في موضعها من السياق .. فنكتفي هنا بالإشارة إلى الحادث الفذ ، الذي يشير إلى القمة السامقة ، التي تتطلع إليها أنظار الإنسانية ، وتظل تتطلع ، ولا تبلغ إليها أبدا - كما لم تبلغ إليها قط - إلا في ظل هذا المنهج الفريد العجيب :
.. في الوقت الذي كانت يهود تكيد ذلك الكيد الجاهد للإسلام ونبيه ، وللصف المسلم وقيادته .. كان القرآن يصنع الأمة المسلمة على عين اللّه ، فيرتفع بتصوراتها وأخلاقها ، ونظامها وإجراءاتها إلى القمة السامقة ..
وكان يعالج حادثا يتعلق بيهودي فرد ، هذا العلاج الذي سنذكره ..
كان اللّه يأمر الأمة المسلمة بالأمانة المطلقة ، وبالعدل المطلق «بَيْنَ النَّاسِ» .. الناس على اختلاف أجناسهم وعقائدهم ، وقومياتهم وأوطانهم .. كان يقول لهم : «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ، وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ! إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً» .. (آية 58) ..
وكان يقول لهم : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ ، وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ، إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما. فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا ، وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» ..(1/222)
ثم .. كانت الآيات ذوات العدد من القرآن تتنزل لإنصاف يهودي .. فرد .. من اتهام ظالم ، وجهته إليه عصبة من المسلمين من الأنصار ، ممن لم ترسخ في قلوبهم هذه المبادئ السامقة بعد ، ولم تخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية كل الخلوص. فدفعتهم عصبية الدم والعشيرة إلى تبرئة أحدهم باتهام هذا اليهودي! والتواطؤ على اتهامه ، والشهادة ضده - في حادث سرقة درع - أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى كاد أن يقضي عليه بحد السرقة ، ويبرئ الفاعل الأصلي! تنزلت هذه الآيات ذوات العدد ، فيها عتاب شديد للنبي - صلى الله عليه وسلم - وفيها إنحاء باللائمة على العصبة من أهل المدينة الذين آووا النبي - صلى الله عليه وسلم - وعزروه ونصروه .. إنصافا ليهودي ، من تلك الفئة التي تؤذي رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أشد الإيذاء ، وتنصب لدعوته ، وتكيد له وللمسلمين هذا الكيد اللئيم! وفيها تهديد وإنذار لمن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرمي به بريئا. وفيها - من ثم - تلك النقلة العجيبة ، إلى تلك القمة السامقة ، وتلك الإشارة الوضيئة إلى ذلك المرتقى الصاعد.
لقد تنزلت هذه الآيات كلها في حادث ذلك اليهودي .. من يهود ..
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ ، وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً . وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ ، إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ - وَهُوَ مَعَهُمْ - إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ ، وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا؟ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ، ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً ، فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ ، وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ، وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ، وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً.
فماذا ? ماذا يملك الإنسان أن يقول ? ألا أنه المنهج الفريد , الذي يملك - وحده - أن يلتقط الجماعة البشرية , من سفح الجاهلية ذاك ; فيرتقي بها في ذلك المرتقى الصاعد ; فيبلغ بها إلى تلك القمة السامقة , في مثل هذا الزمن القصير ?! (1)
=================
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 554)(1/223)
(5) سورة المائدة
هذه السورة سمّيت في كتب التفسير ، وكتب السنّة ، بسورة المائدة : لأنّ فيها قصّة المائدة التي سألها الحواريون من عيسى عليه السلام ، وقد اختصّت بذكرها . وفي ( مسند ) أحمد بن حنبل وغيره وقعت تسميتها سورة المائدة في كلام عبد الله بن عُمر ، وعائشة أمّ المؤمنين ، وأسماء بنت يزيد ، وغيرهم . فهذا أشهر أسمائها .
وتسمّى أيضاً سورة العقود : إذ وقع هذا اللفظ في أوّلها . وتسمّى أيضاً المنقذة . ففي ( أحكام ابن الفَرَس ) : روي عن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قال : ( سورة المائدة تدعى في ملكوت السموا ت المنقذة ) . قال : أي أنّها تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب .
وفي كتاب كنايات الأدباء لأحمد الجرجاني ( يقال : فلان لا يقرأ سورة الأخيار ، أي لا يفي بالعهد ، وذلك أنّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسمّون سورة المائدة سورة الأخيار . قال جرير :
إنّ البعيث وعبد آل متاعس لا يقرآن بسورة الأخيار
وهي مدنيّة باتّفاق ، روي أنّها نزلتْ مُنْصَرَفَ رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) من الحديبية ، بعد سورة الممتحنة ، فيكون نزولها بعد الحديبية بمدّة ؛ لأنّ سورة الممتحنة نزلت بعد رجوع رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) إلى المدينة من صلح الحديبية ، وقد جاءته المؤمنات مهاجرات ، وطلب منه المشركون إرجاعهنّ إليهم عملاً بشروط الصلح ، فأذن الله للمؤمنين بعدم إرجاعهنّ بعد امتحانهِنّ .
روى ابن أبي حاتم عن مقاتل أنّ آية ) يأيّها الذين آمنوا ليبلونّكم الله بشيء من الصيد إلى عذاب أليم ( ( المائدة : 94 ) نزلت عام الحديبية فلعلّ ذلك الباعثُ للذين قالوا : إنّ سورة العقود نزلت عام الحديبية . وليس وجود تلك الآية في هذه السورة بمقتضضٍ أن يكون ابتداء نزول السورة سابقاً على نزول الآية إذ قد تلحق الآية بسورة نزلت متأخّرة عنها .
وفي ( الإتقان ) : إنَّها نزلت قبل سورة النساء ، ولكن صحّ أنّ آية ) اليوم أكملت لكم دينكم ( ( المائدة : 3 ) نزلت يوم عرفة في عام حجّة الوداع . ولذلك اختلفوا في أنّ هذه السورة نزلت متتابعة أو متفرّقة ، ولا ينبغي الترَدّد في أنَّها نزلت منجَّمة .
وقد روي عن عبد الله بن عَمْرو وعائشة أنَّها آخر سورة نزلت ، وقد قيل : إنَّها نزلت بعد النساء ، وما نزل بعدها إلاّ سورة براءة ، بناء على أنّ براءة آخر سورة نزلت ، وهو قول البراء بن عازب في ( صحيح البخاري ) . وفي ( مسند أحمد ) عن عبد الله بن عمرو ، وأسماء بنت يزيد : أنَّها نزلت ورسول الله في(1/224)
سفر ، وهو على ناقته العَضباء ، وأنَّها نزلت عليه كُلّها . قال الربيع بن أنس : نزلت سورة المائدة في مسير رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) إلى حجّة الوداع .
وفي ( شعب الإيمان ) ، عن أسماء بنت يزيد : أنَّها نزلت بمنى . وعن محمد بن كعب : أنَّها نزلت في حجَّة الوداع بين مكة والمدينة . وعن أبي هريرة : نزلت مرجع رسول الله من حجّة الوداع في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة . وضعّف هذا الحديث . وقد قيل : إنّ قوله تعالى : ( ولا يجرمنّكم شنئان قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام ( ( المائدة : 2 ) أنزل يوم فتح مكة .
ومن الناس من روى عن عمر بن الخطاب : أنّ سورة المائدة نزلت بالمدينة في يوم اثنين . وهنالك روايات كثيرة أنَّها نزلت عام حجّة الوداع ؛ فيكون ابتداء نزولها بالمدينة قبل الخروج إلى حجّة الوداع . وقد روي عن مجاهد : أنَّه قال : ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم إلى غفور رحيم ( ( المائدة : 3 ) نزل يوم فتح مكة . ومثله عن الضحّاك ، فيقتضي قولهما أن تكون هذه السورة نزلت في فتح مكة وما بعده .
وعن محمد بن كعب القُرَظِيّ : أن أوّل ما نزل من هذه السورة قوله تعالى : ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً ممَّا كنتم تخفون من الكتاب إلى قوله صراط مستقيم ( ( المائدة : 15 ، 16 ) ثم نزلت بقيَّة السورة في عرفة في حجّة الوداع .
ويظهر عندي أنّ هذه السورة نزل بعضها بعد بعض سورة النساء ، وفي ذلك ما يدلّ على أنّ رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) قد استقام له أمر العرب وأمر المنافقين ولم يبق في عناد الإسلام إلاّ اليهود والنصارى . أمَّا اليهود فلأنَّهم مختلطون بالمسلمين في المدينة وما حولها ، وأمّا النصارى فلأنّ فتوح الإسلام قد بلغت تخوم ملكهم في حدود الشام . وفي حديث عمر في ( صحيح البخاري ) : وكان مَن حَوْلَ رسول الله قد استقام له ولم يبق إلاّ مَلِك غسان بالشام كنّا نخاف أن يأتينا .
وقد امتازت هذه السورة باتِّساع نطاق المجادلة مع النصارى ، واختصار المجادلة مع اليهود ، عمَّا في سورة النساء ، ممّا يدلّ على أنّ أمر اليهود أخذ في تراجع ووهن ، وأنّ الاختلاط مع النصارى أصبح أشدّ منه من ذي قبل .
وفي سورة النساء تحريم السّكر عند الصلوات خاصّة ، وفي سورة المائدة تحريمه بتاتاً ، فهذا متأخِّر عن بعض سورة النساء لا محالة . وليس يلزم أنّ لا تنزل سورة حتّى ينتهي نزول أخرى بل يجوز أن تنزل سورتان في مدّة واحدة . وهي ، أيضاً ، متأخّرة عن سورة براءة : لأنّ براءة تشتمل على كثير من أحوال المنافقين وسورة المائدة لا تذكر من أحوالهم إلاّ مرّة ، وذلك يؤذن بأنّ النفاق حين نزولها قد انقطع ، أو خضّدت شوكة أصحابه ، وإذ قد كانت سورة براءة نزلت في عام حجّ أبي بكر بالناس ، أعني سنة تسع من الهجرة .(1/225)
فلا جرم أنّ بعض سورة المائدة نزلت في عام حجّة الوداع ، وحسبك دليلاً اشتمالها على آية ) اليومَ أكملت لكم دينكم ( ( المائدة : 3 ) التي اتّفق أهل الأثر على أنَّها نزلت يومَ عرفة ، عام حجّة الوداع ، كما في خبر عن عمر بن الخطاب . وفي سورة المائدة ( 3 ) قوله تعالى : ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم . وفي خطبة حجّة الوداع يقول رسول الله : إنّ الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا ولكنَّه قد رضي بما دون ذلك ممّا تحقرون من أعمالكم .
وقد عدّت السورة الحادية والتسعين في عدد السور على ترتيب النزول . عن جابر بن زيد ، نزلت بعد سورة الأحزاب وقبل سورة الممتحنة . وعدد آيها : مائة واثنتان وعشرون في عدد الجمهور ، ومائة وثلاث وعشرون في عدّ البصرييين ، ومائة وعشرون عند الكوفيين .
وجعلت هذه السورة في المصحف قبل سورة الأنعام مع أنّ سورة الأنعام أكثر منها عدد آيات : لعلّ ذلك لمراعاة اشتمال هذه السورة على أغراض تشبه ما اشتملت عليه سورة النساء عَوناً على تبيين إحداهما للأخرى في تلك الأغراض .
وقد احتوت هذه السورة على تشريعات كثيرة تنبيء بأنّها أنزلت لاستكمال شرائع الإسلام ، ولذلك افتتحت بالوصاية بالوفاء بالعقود ، أي بما عاقدوا الله عليه حين دخولهم في الإسلام من التزام ما يؤمرون به ، فقد كان النبي يأخذ البيعة على الصلاة والزكاة والنصح لكلّ مسلم ، كما في حديث جابر بن عبد الله في الصحيح . وأخذَ البيعة على الناس بما في سورة الممتحنة ، كما روى عبادة بن الصامت . ووقع في أوّلها قوله تعالى : إنّ الله يحكم ما يريد ( ( المائدة : 1 ) . فكانت طالعتها براعة استهلال .
وذكر القرطبي أنّ فيها تسع عشرة فريضة ليست في غيرها ، وهي سبع في قوله : ( والمنخنقة ، والموقوذة ، والمتردّية ، والنطيحة . وما أكل السبع . . . وما ذبح على النصب ، وأن تستقسموا بالأزلام ( ( المائدة : 3 ) ، ) وما عَلَّمتم من الجوارح مكلّبين ( ( المائدة : 4 ) ، ) وطعامُ الذين أوتوا الكتاب . . . والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ( ( المائدة : 5 ) ، وتمام الطهور ) إذا قمتم إلى الصلاة ( ( المائدة : 6 ) ، ( أي إتمام ما لم يذكر في سورة النساء ) ) والسارق والسارقة ( ( المائدة : 38 ) . و ) لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم إلى قوله عزيز ذو انتقام ( ( المائدة : 95 ) ، و ) ما جعل الله من بحيرة ولا سائية ولا وصيلة ولا حام ( ( المائدة : 103 ) ، وقوله تعالى : ( شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ( ( المائدة : 106 ) الآية وقوله : ( وإذا ناديتم إلى الصلاة ( ( المائدة : 58 ) ليس في القرآن ذكر للأذان للصلوات إلاّ في هذه السورة . اه .
وقد احتوت على تمييز الحلال من الحرام في المأكولات ، وعلى حفظ شعائر الله في الحجّ والشهر الحرام ، والنهي عن بعض المحرّمات من عوائد الجاهلية مثل الأزلام ، وفيها شرائع الوضوء ، والغسل ، والتيمّم ،(1/226)
والأمر بالعدل في الحكم ، والأمر بالصدق في الشهادة ، وأحكام القصاص في الأنفس والأعضاء ، وأحكام الحِرابة ، وتسلية الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) عن نفاق المنافقين ، وتحريم الخمر والميسر ، والأيمان وكفارتها ، والحكم بين أهل الكتاب ، وأصول المعاملة بين المسلمين ، وبين أهل الكتاب ، وبين المشركين والمنافقين ، والخشية من وَلايتهم أن تفضي إلى ارتداد المسلم عن دينه ، وإبطال العقائد الضالّة لأهل الكتابين ، وذكر مساو من أعمال اليهود ، وإنصاف النصارى فيما لهم من حسن الأدب وأنَّهم أرجى للإسلام وذكر قضية التيه ، وأحوال المنافقين ، والأمر بتخلّق المسلمين بما يناقض أخلاق الضالّين في تحريم ما أحل لهم ، والتنويه بالكعبة وفضائلها وبركاتها على الناس ، وما تخلّل ذلك أو تقدّمه من العبر ، والتذكير للمسلمين بنعم الله تعالى ، والتعريض بما وقع فيه أهل الكتاب من نبذ ما أمروا به والتهاون فيه . واستدعاؤهم للإيمان بالرسول الموعود به .
وختمت بالتذكير بيوم القيامة ، وشهادة الرسل على أممهم ، وشهادة عيسى على النصارى ، وتمجيد الله تعالى . (1)
تمهيد بين يدي السورة
1 - سورة المائدة هي السورة الخامسة من سور القرآن الكريم في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء.
2 - وهي مدنية باتفاق العلماء. بناء على القول الذي رجحه العلماء من أن القرآن المدني هو الذي نزل على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة ولو كان نزوله في غير المدينة.
3 - وعدد آياتها عشرون ومائة آية عند الكوفيين ويرى الحجازيون والشاميون أن عدد آياتها اثنتان وعشرون ومائة آية ، ويرى البصريون أن عدد آياتها ثلاث وعشرون ومائة آية.
4 - ولهذه السورة الكريمة أسماء أشهرها : المائدة.
وسميت بهذا الاسم ، لأنها انفردت بذكر قصة المائدة التي طلب الحواريون من عيسى - عليه السلام - نزولها من السماء. وقد حكى اللّه - تعالى - ذلك في آخر السورة في قوله - تعالى - : إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ (الآيات من 112 : 115) وتسمى أيضا بسورة العقود ، لأنها السورة الوحيدة التي افتتحت بطلب الإيفاء بالعقود. قال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وتسمى - أيضا - المنقذة.
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (6 / 69)(1/227)
قال القرطبي : وروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « سورة المائدة تدعى في ملكوت اللّه المنقذة. تنقذ صاحبها من أيدى ملائكة العذاب ».
5 - ووجه اتصالها بسورة النساء - كما يقول الآلوسى - « أن سورة النساء قد اشتملت على عدة عقود : صريحا وضمنا. فالصريح : عقود الأنكحة وعقد الصداق. وعقد الحلف. وعقد المعاهدة والأمان. والضمنى : عقد الوصية والوديعة. والوكالة. والعارية. والإجارة. وغير ذلك مما يدخل في قوله - تعالى - إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها.
فناسب أن تعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود. فكأنه قيل : يا أيها الناس أوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت ، وإن كان في هذه السورة - أيضا - عقود.
ووجه تقديم النساء وتأخير المائدة. أن أول تلك يا أَيُّهَا النَّاسُ وفيها الخطاب بذلك في مواضع ، وهي أشبه بتنزيل المكي. وأول هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب المدني. وتقديم العام وشبه المكي أنسب.
6 - وقد وردت روايات تفيد أن سورة المائدة نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - دفعة واحدة. ومن هذه الروايات ما أخرجه الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد قالت : إنى لآخذة بزمام ناقة رسول اللّه العضباء ، إذ نزلت عليه المائدة كلها. فكادت من ثقلها تدق عنق الناقة .
وروى الإمام أحمد - أيضا - عن عبد اللّه بن عمرو قال : أنزلت على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - سورة المائدة وهو راكب على راحلته ، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها .
وهناك روايات أخرى تحدثت عن زمان ومكان نزولها ، ومن هذه الروايات ما أخرجه أبو عبيد عن محمد القرظي قال : نزلت سورة المائدة على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة .
وقال القرطبي : وروى أنها نزلت عند منصرف رسول اللّه من الحديبية .
وهناك روايات تحدثت عن زمان ومكان نزول بعض آياتها.
قال السيوطي في كتابه « الإتقان » - عند حديثه عن معرفة الحضري والسفرى - : وللسفرى أمثلة منها : قوله - تعالى - الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ففي الصحيح عن عمر بن الخطاب : أنها نزلت عشية عرفة يوم الجمعة ، عام حجة الوداع.
ومنها : آية التيمم. ففي الصحيح عن عائشة ، أنها نزلت بالبيداء وهم داخلون المدينة - بعد انتهائهم من غزوة المريسيع كما جاء في بعض الروايات.
ومنها : قوله - تعالى - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فقد نزلت ببطن نخل.(1/228)
ومنها : قوله - تعالى - وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فقد نزلت في غزوة ذات الرقاع.
وهذه الآيات جميعها من سورة المائدة » .
والذي تطمئن إليه النفس عند تلاوة سورة المائدة بتدبر وإمعان فكر ، وعند مراجعة الروايات التي وردت في سبب نزول بعض آياتها ، يرى أن هذه السورة الكريمة لم تنزل دفعة واحدة ، وإنما نزلت متفرقة وفي أوقات مختلفة.
ومما يشهد لذلك ما جاء في كتب الحديث وفي كتب السيرة أن المقداد بن الأسود قد قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - قبيل التحام المسلمين مع المشركين في غزوة بدر : يا رسول اللّه امض لما أمرك اللّه. فو اللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى. اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.
فقد أخرج البخاري عن عبد اللّه بن مسعود قال : شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا ، لأن أكون صاحبه أحب إلى مما عدل به. أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو على المشركين - في بدر - فقال : لا نقول كما قال قوم موسى : اذهب أنت وربك فقاتلا .. ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك » .
فهذا النص يفيد أن الصحابة كانوا على علم قبل غزوة بدر بهذه الآيات التي وردت في سورة المائدة ، والتي تحكى موقف بنى إسرائيل من نبيهم موسى عند ما دعاهم إلى دخول الأرض المقدسة .
كذلك مما يشهد بأن سورة المائدة قد نزلت منجمة ولم تنزل دفعة واحدة ما نقلناه منذ قليل عن السيوطي من أن بعض آياتها قد نزلت في أزمنة وأمكنة مختلفة.
وأيضا مما يشهد لذلك ، أن المتأمل في بعض آياتها يراها تحكى لنا ألوانا من تعنت اليهود مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن تحاكمهم إليه لا من أجل الوصول إلى الحق وإنما من أجل إظهاره بمظهر الجاهل بأحكام التوراة.قال - تعالى - وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا.
وفعلهم هذا يدل على أنهم كانت لهم قوة ونفوذ في المدينة عند نزول هذه الآيات.
ومن المعروف تاريخيا أن نفوذ اليهود بالمدينة قد تلاشى بعد غزوة بنى قريظة في السنة الخامسة من الهجرة. وأن قوتهم قد زالت بعد فتح خيبر في أوائل السنة السابعة من الهجرة.
ومن كل هذا نستخلص أن بعض آيات هذه السورة يغلب على ظننا أنها نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنوات التي سبقت صلح الحديبية وأن الروايات التي نقلناها قبل ذلك عن بعض المفسرين ، والتي يستفاد منها أن سورة المائدة قد نزلت دفعة واحدة ، أو أنها نزلت عند منصرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية ، أو فتح مكة أو في حجة الوداع ، أو عند رجوعه منها .. كل هذه الروايات فيها مقال - لأنها بجانب - تفرد بعض(1/229)
المحدثين بها فإنها تخالف ما جاء في كتب السنة الصحيحة من أن بعض آياتها قد نزل في حجة الوداع ، وبعضها قد نزل بعد غزوة المريسيع ، وبعضها كان معروفا للصحابة قبل اشتراكهم في غزوة بدر.
ولأن بعض آيات هذه السورة تحكى لنا أحداثا ومجادلات قد حصلت بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين اليهود ، وهذه الأحداث وتلك المجادلات من المستبعد أن تكون قد حدثت بعد غزوة بنى قريظة في السنة الخامسة من الهجرة ، لأنه - كما سبق أن أشرنا - لم يبق لليهود نفوذ في المدينة بعد غزوة بنى قريظة ، حتى يستطيعوا أن يواجهوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بما واجهوه من مجادلات ومن تحاكم اليه بقصد إحراجه - كما سنفصل ذلك عند تفسيرنا للآيات المتعلقة بهذا الموضوع.
ومع كل هذا فنحن نرجح أن جانبا كبيرا من آيات سورة المائدة قد نزل متأخرا عن صلح الحديبية ، بل عن فتح مكة ، لأن بعض آياتها تقرر أن المشركين قد صاروا في يأس من التغلب على المسلمين بعد أن فتح المسلمون مكة بعد أن أتم اللّه لهم دينهم. قال - تعالى - الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً.
ولأن هناك آثارا تشهد بأن سورة المائدة - في مجموعها - من آخر ما نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - من قرآن.
قال القرطبي : وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال : « يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر ما نزل فأحلوا حلالها وحرموا حرامها ».
ونحوه عن عائشة - رضى اللّه عنها - موقوفا. قال جبير بن نفير : دخلت على عائشة فقالت : هل تقرأ سورة المائدة؟ فقلت : نعم. فقالت : فإنها من آخر ما أنزل اللّه. فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه ».
والخلاصة ، أن الذي يغلب على ظننا أن سورة المائدة لم تنزل دفعة واحدة في وقت معين أو في زمان معين ، وإنما نزل بعضها في السنوات التي سبقت صلح الحديبية ، ونزل معظمها بعد هذا الوقت ، للأسباب التي سبق أن بيناها ، وأن الروايات التي تقول بنزولها دفعة واحدة أو في وقت معين وزمان معين من الممكن أن تحمل على أن المراد بها مجموع السورة لا جميعها.
7 - هذا وعند ما نستعرض سورة المائدة استعراضا إجماليا نراها في مطلعها تأمر المؤمنين بالوفاء بالعهود ، وبالتزام التكاليف التي كلفهم اللّه بها ، ثم أردفت ذلك ببيان الحلال من الذبائح والحرام منها ، ثم بيان حكم طعام أهل الكتاب ، وحكم الزواج بالكتابيات.
وبعد أن تكلمت عن المباحات التي يحتاج إليها الجسد أتبعت ذلك بالحديث عن الصلاة التي هي غذاء الروح ، فأمرت المؤمنين بأن يدخلوها متطهرين ، ووضحت لهم أنه - سبحانه - لا يريد من وراء ما يشرعه لهم الضيق أو الحرج وإنما يريد لهم الخير والطهر وإتمام النعمة :(1/230)
ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
ثم أمرت المؤمنين بالتزام العدل مع الأصدقاء. ومع الأعداء ، ووعدت المطيعين للّه - تعالى - بالمغفرة والأجر العظيم ، وتوعدت الكافرين بآيات اللّه بعذاب الجحيم ، ثم ذكرت المؤمنين بجانب من مظاهر فضل اللّه عليهم ورحمته بهم ، حيث كف أيدى المعتدين عنهم.
وحماهم من مكرهم. قال - تعالى - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ، فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ، وَاتَّقُوا اللَّهَ ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ .
- ثم نراها في الربع الثاني منها تحكى لنا جانبا من رذائل أهل الكتاب. فتبين كيف أن اللّه - تعالى - أخذ عليهم العهد والميثاق بأن يؤمنوا به ويطيعوه ولكنهم نقضوا عهودهم ، فكانت نتيجة ذلك أن لعنهم اللّه ، وأن أدام بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
ثم وجهت نداء إلى أهل الكتاب أرشدتهم فيه إلى طريق الحق ، وأمرتهم باتباعه. ووبخت الذين قالوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. وحكت جانبا من الدعاوى الباطلة التي ادعاها اليهود والنصارى ، حيث قالوا : نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ.
ثم وجهت نداء ثانيا إلى أهل الكتاب أمرتهم فيه باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنهم بسبب عدم اتباعه سيكون مصيرهم إلى النار ، ولن يقبل اللّه منهم عذرا بعد أن أرسل إليهم - سبحانه - من يبشرهم وينذرهم.قال تعالى : يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ثم حكت السورة الكريمة قصة من قصص موسى - عليه السلام - مع بنى إسرائيل.
فقد ساقت بأسلوبها البليغ إغراءه لهم بدخول الأرض المقدسة ، ولكنهم جبنوا واتخذوا عصيانه سبيلهم. فكانت نتيجة ذلك أن عاقبهم اللّه - تعالى - بالتيه. قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ.
- ثم نراها بعد ذلك في الربع الثالث تحكى لنا قصة ابني آدم بأسلوب مؤثر : تحكى لنا قصة أول جريمة وقعت على ظهر الأرض بسبب الحسد. وتحكى لنا تلك المحاورات التي دارت بين الأخوين : القاتل والقتيل.
وكيف أن القاتل قد تحير في مواراة جثة أخيه ، إلى أن تعلم كيفية مواراتها من غراب أخذ يبحث في الأرض ليواري جثة غراب مثله.(1/231)
وإذا كان الحسد حتى في العبادات يؤدى إلى القتل وسفك الدماء ، فقد شرع اللّه القصاص لحماية الأنفس والأموال والأعراض. فقد ذكر - سبحانه - بعد ذلك جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادا. وجزاء السارق والسارقة. وجزاء الذين كفروا بالحق بعد أن جاءهم من عند اللّه.
وخلال ذلك أمر - سبحانه - عباده المؤمنين بتقوى اللّه. وبالتقرب إليه بالعمل الصالح ، وبمداومة الجهاد في سبيل اللّه ، حتى ينالوا الفلاح في الدنيا والآخرة.
- وبعد هذه التشريعات الحكيمة ، نراها في الربع الرابع « 2 » تحكى لنا بعض الوسائل الخبيثة التي اتبعها اليهود في محاربتهم للدعوة الإسلامية فذكرت بعض أقوالهم التي كانوا يقولونها عند ما يأتون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتحاكموا إليه في منازعاتهم يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ووصفتهم بأنهم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ.
وأرشدت الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى طريقة التعامل معهم فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ. وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً. وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
ثم بعد أن مدحت التوراة ، ووصفت الذين لم يحكموا بما أنزل اللّه بالكفر. والظلم. بعد كل ذلك نوهت بشأن عيسى - عليه السلام - وبشأن الإنجيل ، وأمرت أهله بأن يحكموا بما أنزل اللّه فيه. قال : تعالى - وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ.
ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى الحديث عن القرآن الكريم ، فوصفته بأنه هو الكتاب المصدق لما بين يديه من الكتب ، وهو المهيمن عليها ، وهو الذي إليه المرجع في الأحكام ، وأن الذين يبغون التحاكم إلى غيره ضالون ظالمون.
قال - تعالى - أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
- ثم وجهت السورة الكريمة في مطلع الربع الخامس منها نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بأن يجعلوا ولايتهم للّه ولرسوله ولإخوانهم في العقيدة ، ونهتهم عن موالاة الذين يخالفونهم في الدين. ووصفت الذين يتولون من غضب اللّه عليهم بالنفاق ومرض القلب ، وبشرت المطيعين للّه بالنصر والظفر قال - تعالى : وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ.
ثم أمرت السورة الكريمة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوبخ أهل الكتاب بسبب كراهيتهم لأهل الحق ، وأن يخبرهم بأن المستحقين للكراهية هم أولئك الذين لعنهم اللّه وغضب عليهم ، لكفرهم ، ومسارعتهم في الإثم والعدوان. ولافترائهم على اللّه - تعالى - الكذب ، حيث وصفوه - سبحانه - بالبخل والشح.
قال - تعالى - : وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا. بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ. وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً. وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى(1/232)
يَوْمِ الْقِيامَةِ ، كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.
وبعد أن بينت السورة الكريمة لأهل الكتاب أنهم لو آمنوا بالحق الذي جاءهم به محمد - صلى الله عليه وسلم - لكفر اللّه عنهم سيئاتهم ، ولأدخلهم جنات النعيم ، ولرزقهم من فضله الرزق الجزيل. بعد أن بينت كل ذلك ، وجهت في مطلع الربع السادس منها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - نداء أمرته فيه بتبليغ ما أمره اللّه بتبليغه بدون خشية أو تردد ، ووعدته بعصمة اللّه - تعالى - له من الناس كما أمرته بمصارحة أهل الكتاب بما هم فيه من باطل وضلال.
ثم ساقت جملة من الرذائل التي انغمس فيها أهل الكتاب ، فحكت نقضهم للعهود والمواثيق ، وتكذيبهم للرسل تارة وقتلهم إياهم تارة أخرى ، كما حكت قولهم الباطل : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. وقولهم : إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ.
وقد هددتهم بالعذاب الأليم إذا ما تمادوا في ضلالهم وطغيانهم ، وحثتهم على التوبة والاستغفار ، وأقامت لهم الأدلة على بطلان عقائدهم ، وبينت لهم القول الحق في شأن عيسى وأمه مريم حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم.
قال - تعالى - : مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ثم كشفت السورة عن الأسباب التي أدت إلى طرد الكافرين من بنى إسرائيل من رحمة اللّه ، فذكرت أنهم قد استحقوا ذلك بسبب عصيانهم ، واعتدائهم وعدم تناهيهم عن منكر فعلوه ، وولايتهم لأهل الكفر وعداوتهم لأهل الإيمان.
قال - تعالى - تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ ، وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ ، وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ.
ثم وضحت السورة الكريمة في مطلع الربع السابع منها مراتب أعداء المؤمنين ، فصرحت بأن أشد الناس عداوة للمؤمنين هم اليهود والذين أشركوا. وأن أقربهم مودة إلى المؤمنين أولئك الذين قالوا إنا نصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ.
ثم وجهت نداء المؤمنين نهتهم فيه عن تحريم الطيبات التي أحلها اللّه لهم وأرشدتهم إلى ما يجب عليهم فعله إذا ما حنثوا في أيمانهم. وأمرتهم بحفظ هذه الأيمان ، وعدم اللجوء إليها إلا عند وجود المقتضى لها.(1/233)
ثم أخبرتهم بأنه إذا كان اللّه - تعالى - قد أحل لهم الطيبات ، فإنه في الوقت نفسه قد حرم عليهم الخبائث ، وعلى رأس هذه الخبائث : الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ، فعليهم أن يجتنبوا هذه الأرجاس لينالوا رضا اللّه في عاجلتهم وآجلتهم.
ثم ساقت السورة الكريمة ألوانا من مظاهر نعم اللّه على عباده ورحمته بهم حيث أباح لهم أن يتمتعوا بما أحله اللّه لهم مع مراقبته وخشيته في كل ما يأتون وما يذرون ، ومع التزامهم بتعاليم شريعة اللّه في الحل وفي الحرم.
وبعد هذا الحديث المستفيض عما أحله اللّه وعما حرمه ، أخذت السورة في مطلع الربع الثامن منها في التنويه بشأن الكعبة وبشأن البيت الحرام ، ووظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ثم نهت المؤمنين عن الأسئلة التي لا منفعة من ورائها ، فإن هذا يتنافى مع ما يقتضيه إيمانهم من أدب في القول ، ومن تطلع إلى ما ينفع ويفيد ، قال - تعالى - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ، وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها ، وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ. قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ.
ثم حكت السورة أنواعا من الأوهام التي تعلق بها أهل الجاهلية ، حيث حرموا على أنفسهم بعض المطاعم التي أحلها اللّه ، مستندين في تحريمهم ما حرموه إلى عادات جاهلية اعتنقوها ، وهذه العادات أبعد ما تكون عن شرع اللّه وعما تقتضيه العقول السليمة.
وفي وسط هذا الحديث عما أحله اللّه وحرمه ، ساقت السورة توجيها حكيما للمؤمنين ، حيث بينت لهم أن الداعي إلى اللّه متى قام بواجبه نحو ربه ، ونحو نفسه ، ونحو غيره ، فإنه لا يكون بعد ذلك مسئولا عن ضلال من يضل.
قال - تعالى - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ، إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
وبعد أن بينت بعض الأحكام التي تتعلق بالوصية ووسائل إثباتها ، نوهت السورة الكريمة في الربع الأخير منها بشأن عيسى - عليه السلام - وحكت بعض المعجزات التي أيده اللّه بها في رسالته ، وقصت ما طلبه الحواريون منه حيث قالوا له - كما حكى القرآن عنهم :
هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ وساقت ما دار بينهم وبين عيسى - عليه السلام - من محاورات في هذه المسألة.
ثم ختمت السورة حديثها عن عيسى بتلك الآيات التي تحكى براءته من كل ما افتراه المفترون عليه ، وأنه - عليه السلام - لم يأمر قومه إلا بعبادة اللّه وحده ، وأنه لم يكن إلا رسولا من رسل اللّه الذين أخلصوا(1/234)
له - سبحانه - العبادة والطاعة. استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى هذا المعنى بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول :
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قالَ : سُبْحانَكَ. ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ. إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ، تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ، وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
8 - هذا عرض مجمل للتشريعات والقصص والآداب والتوجيهات التي اشتملت عليها سورة المائدة. ومن هذا العرض نستطيع أن نستخلص بعض الحقائق البارزة في هذه السورة بصورة أظهر منها في غيرها. ومن تلك الحقائق ما يأتى :
1 - أن السورة الكريمة زاخرة بالأحكام الشرعية المتنوعة ، فأنت تقرؤها بتدبر وخشوع فتراها قد بينت أحكاما شرعية منها ما يتعلق بالحلال والحرام من الذبائح ومن الصيد ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام في فترة الإحرام وفي المسجد الحرام. ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام من النكاح ، ومنها ما يتعلق بالطهارة والصلاة والتيمم ، ومنها ما يتعلق بوجوب التزام العدل في القضاء وفي الشهادة وفي غيرهما. ومنها ما يتعلق بالحدود في السرقة وفي قطع الطريق والإفساد في الأرض. ومنها ما يتعلق بأهل الكتاب إذا ما تحاكموا إلينا. ومنها ما يتعلق بكفارات الايمان وكفارات قتل الصيد في حالة الإحرام. ومنها ما يتعلق بالخمر والميسر والأنصاب والأزلام.
ومنها ما يتعلق بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامى من الأنعام. ومنها ما يتعلق بالوصية عند الموت .. إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية التي أفاضت في الحديث عنها هذه السورة الكريمة.
قال القرطبي : قال أبو ميسرة : المائدة من آخر ما نزل ليس فيها منسوخ. وفيها ثماني عشرة فريضة ليست في غيرها ، وهي : الْمُنْخَنِقَةُ ، وَالْمَوْقُوذَةُ ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ ، وَالنَّطِيحَةُ ، وَما أَكَلَ السَّبُعُ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ، وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وتمام الطهور : إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أى : إتمام ما لم يذكر في سورة النساء - وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ولا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إلى قوله : عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ. ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ ، وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ. وقوله - تعالى - شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ الآية.(1/235)
ثم قال القرطبي : قلت : وفريضة تاسعة عشرة وهي قوله - تعالى - : وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إذ ليس للآذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة أما ما جاء في سورة الجمعة فمخصوص بالجمعة. وهو في هذه السورة عام لجميع الصلوات » .
2 - إن الذي يقرأ سورة المائدة يراها قد وجهت جملة من النداءات إلى المؤمنين وقد تجاوزت هذه النداءات في كثرتها ، تلك النداءات التي وردت في أطول سورة في القرآن وهي سورة البقرة.
فقد وجهت سورة المائدة إلى المؤمنين ستة عشر نداء. وقد تضمن كل نداء تشريعا من التشريعات ، أو أمرا من الأوامر : أو نهيا من النواهي ، أو توجيها من التوجيهات مما يدل على أن هذه السورة قد اهتمت اهتماما ملحوظا بتربية المؤمنين على المنهج الذي اختاره اللّه لهم.
ولا سيما بعد أن أكمل - سبحانه - لهم دينهم ، وأتم عليهم نعمته.
وهذه هي النداءات التي وجهها اللّه - تعالى - إلى المؤمنين نسوقها مرتبة كما وردت في السورة.
1 - قال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الآية 1
2 - وقال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ الآية 2
3 - وقال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا الآية 6
4 - وقال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ الآية 8
5 - وقال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ الآية 11
6 - وقال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ الآية 35
7 - وقال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ الآية 51
8 - وقال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الآية 54
9- وقال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً الآية 57
10 - وقال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ الآية 87 11 - وقال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ الآية 90
12 - وقال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ الآية 94
13- وقال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ الآية 95
14 - وقال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ الآية 101
15 - وقال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ الآية 105
16 - وقال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ الآية 106 هذه هي النداءات التي وجهها - سبحانه - إلى المؤمنين في سورة المائدة ، وأنت إذا تأملت فيها ترى كل نداء(1/236)
منها يعتبر قانونا منظما لناحية من نواحي الحياة عند المسلمين فيما يختص بأنفسهم ، أو فيما يختص بعلاقتهم بغيرهم.
وسنفصل القول في هذه الآيات المشتملة على تلك النداءات عند تفسيرنا لها - إن شاء اللّه - .
3 - أن السورة الكريمة حافلة بالحديث عن أحوال أهل الكتاب ، فقد تحدثت عن عقائدهم الفاسدة ، وردت عليهم بما يبطل معتقداتهم بأسلوب منطقي رصين : ولم تكتف بهذا بل أرشدتهم في كثير من آياتها إلى طريق الحق حتى يسلكوه ، وحتى لا يكون لهم عذر يوم القيامة.
وأمرت النبي - صلى الله عليه وسلم - في كثير من آياتها - أيضا - أن يكشف لهم عن ضلالهم وفسوقهم عن أمر ربهم.
ومن ذلك قوله - تعالى - : قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ.
وقوله - تعالى - : قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ.
وقوله - تعالى - : قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ، وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ ، وَأَضَلُّوا كَثِيراً ، وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ.
وقد ذكرت السورة الكريمة - كما سبق أن أشرنا - ألوانا من مسالك اليهود الخبيثة لكيد الدعوة الإسلامية ، كتحاكمهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بقصد الوصول إلى الحق ، وإنما بقصد إظهاره بمظهر الجاهل بأحكام التوراة ولكن اللّه - تعالى - خيب سعيهم ، وأبطل مكرهم ، وكاستهزائهم بالدين الإسلامى وشعائره :
قال - تعالى - : وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ.
كما ذكرت - أيضا - أنواعا من رذائلهم التي من أشنعها : نقضهم للعهود والمواثيق ، ومسارعتهم في الإثم والعدوان ، وأكلهم أموال الناس بالباطل ، وتكذيبهم للرسل تارة ، وقتلهم لهم تارة أخرى.
أما فيما يتعلق بالنصارى فقد تميزت سورة المائدة بالإفاضة في الحديث عنهم بصورة لا تكاد توجد في غيرها بهذه السعة.
فقد تحدثت عن عقائدهم الباطلة ، وعن أقوالهم الكاذبة في شأن عيسى عليه السلام - وفي شأن أمه مريم ، وردت عليهم بما يدحض حجتهم ، وبما يرشدهم إلى الصراط المستقيم.
وقد أنصفت السورة من يستحق الإنصاف منهم ، وبشرت أولئك الذين اتبعوا الحق منهم بالثواب الجزيل من اللّه - تعالى.(1/237)
4 - أن الذي ينظر في الأحكام والتشريعات والتوجيهات التي اشتملت عليها سورة المائدة يراها تمتاز بأنها أحكام نهائية لا تقبل النسخ.
وخذ على سبيل المثال ما ورد في هذه السورة بشأن تحريم الخمر ، فإنك تراه قاطعا وحاسما في التحريم.
فلقد مر تحريم الخمر بمراحل كان أولها قوله - تعالى - في سورة البقرة : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ (الآية 219).
وكان ثانيها قوله - تعالى - في سورة النساء : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ (الآية 43).
وكان آخرها قوله - تعالى - هنا في سورة المائدة : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.
والسر في أن الأحكام الشرعية التي وردت في هذه السورة تعتبر نهائية ولا تقبل النسخ. أن معظم آياتها - كما سبق أن ذكرنا - كان من آخر ما نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - من قرآن ، وكان نزول كثير من آياتها بعد أن انزوى الشرك في مخابئه ، وصار المسلمون في قوة ومنعة ، كانوا بها أصحاب السلطان في مكة وفي بيت اللّه الحرام ، دون أن يتعرض لهم متعرض ، أو ينازعهم منازع ، فقد تم فتح مكة ودخل الناس في دين اللّه أفواجا.
ولهذا فأنت لا ترى السورة الكريمة تتحدث عن الشرك أو عن المشركين ، أو عن الجهاد في سبيل اللّه وما يتعلق به من حض عليه ومن أحكام تختص به.
وإنما سورة المائدة تتحدث عن قضايا أخرى كان المسلمون في حاجة إليها عند نزولها. ومن أهم هذه القضايا : حث المؤمنين على التزام العهود والمواثيق وتحذيرهم من الإخلال بشيء منها ، وإنزال التشريعات التي هم في حاجة إليها بعد أن تم لهم النصر على أعدائهم ، وإرشادهم إلى طرق المحاجة والمناقشة التي يردون بها على ما يثيره أهل الكتاب من شبهات حول تعاليم الإسلام وآدابه وتشريعاته. وبيان وجه الحق فيما حكته السورة عن أهل الكتاب من أقوال باطلة ، ومن معتقدات فاسدة.
أما فيما يتعلق بالشرك والمشركين أو بالجهاد في سبيل اللّه ، فلم يكن مقتضى حال المسلمين يستدعى الكلام في ذلك ، لأن نزول معظمها كان بعد أن تم للمسلمين النصر على أعدائهم ، وبعد أن أصبحت كلمتهم هي العليا ، وكلمة المشركين هي السفلى.(1/238)
وقد تكفلت السور المدنية الأخرى التي نزلت قبل سورة المائدة بالحديث المستفيض عن الشرك وعن المشركين ، وعن الحض على الجهاد في سبيل اللّه ، وعن غير ذلك من القضايا التي تقتضيها حالة المسلمين. (1)
في السورة فصول عديدة تضمنت أحكاما وتشريعات تعبدية واجتماعية وأخلاقية وسياسية ومعاشية وشخصية ، مثل وجوب احترام العهود وتقاليد الحج وأمن الحجاج دون تأثر بعداء أو بغضاء ، والأمر بالتعاون على البرّ والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان بسبب ذلك والحالات التي يحرم فيها أكل لحوم الأنعام. وحلّ صيد الجوارح. وحل طعام الكتابيين للمسلمين والتزوج بنسائهم وحلّ طعام المسلمين لهم. وأركان الوضوء والطهارة ورخصة التيمم. وتوكيد العدل شهادة وحكما دون تأثر بعداء أو بغضاء. والنهي عن تحريم الطيبات وتشريع حدّ الفساد في الأرض والسرقة وتحلّة اليمين. والنهي عن الخمر والميسر وذبائح القمار والأنصاب. والنهي عن صيد البرّ في الحج وتشريع كفارته مع تحليل صيد البحر. وتسفيه بعض العادات الجاهلية المتصلة بالأنعام. والتنويه بتقاليد الحج والكعبة ومنافعها. وتشريع الإشهاد على التركات وتحقيق صحة الشهادة.
وفيها كذلك فصول عديدة في النصارى واليهود. احتوت دعوتهم إلى الإسلام. وإيذانهم برسالة النبي إليهم. وكون القرآن جاء مصدقا لما قبله من الكتب ومهيمنا عليها. وتنديدا بأعمال ودسائس اليهود ومكرهم وربط حاضر أخلاقهم ومواقفهم بماضي أخلاق آبائهم ومواقفهم وحكاية تعجيزهم لموسى في صدد دخول الأرض المقدسة. وحكاية قتل أحد ابني آدم لأخيه وما احتوته شريعة اليهود من أحكام الجرائم. وحكمة اختلاف الشرائع عن بعضها. وتقرير كون اليهود والمشركين أشد الناس عداوة للمسلمين وتحذيرا منهم. ونهيا عن موالاة اليهود و النصارى الذين يعادون المسلمين ويسخرون من دينهم. ووجوب حصر الولاء فيما بين المسلمين. وتنديدا بعقيدة النصارى بالمسيح وأمّه وتقريرا ببطلانها لذاتها وعلى لسان السيد المسيح. ومشهدا من مشاهد إيمان بعض النصارى الذين منهم قسيسون ورهبان بما أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وثناء محببا عليهم. وتقرير كون النصارى هم أقرب الناس مودة للمسلمين. وفصلا عن رسالة المسيح لبني إسرائيل والمعجزات التي جاء بها ومواقفهم تجاهها. وإيمان الحواريين به واستنزال مائدة من السماء بناء على طلبهم. وقد سميت السورة باسمها بسبب ذلك.
وقد تخلل هذه الفصول وتلك أمثال ومواعظ استطرادية وتذكيرية وتدعيمية وتعقيبية أيضا.
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (4 / 7)(1/239)
ولقد أورد ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد قالت «إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إذ نزلت عليه المائدة كلها وكادت من ثقلها تدقّ عضد الناقة» وحديثا أخرجه ابن مردويه عن أم عمرو عن عمها «أنه كان في مسير مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فنزلت عليه سورة المائدة فاندقّ عنق الراحلة من ثقلها» وحديثا أخرجه الإمام أحمد أيضا عن عبد اللّه بن عمرو قال : «أنزلت على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - سورة المائدة وهو راكب على راحلته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها» وأورد حديثا أخرجه الترمذي عن عبد اللّه بن عمرو أيضا قال «آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح» وحديثا أخرجه الحاكم عن جبير بن نفير قال «حججت فدخلت على عائشة فقالت لي يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت نعم فقالت أما أنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه وما وجدتم من حرام فحرّموه». ولم ينفرد ابن كثير في إيراد هذه الأحاديث حيث أوردها مفسرون آخرون أقدم منه ، مثل الطبري والبغوي والزمخشري ، منهم من أوردها جميعها ومنهم من أورد بعضها. ومنهم من زاد عليها حيث روى الطبري عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال «نزلت سورة المائدة يوم عرفة ووافق يوم الجمعة». وفي تفسير القاسمي حديث عن محمد بن كعب قال «نزلت سورة المائدة في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة».
وهذه الأحاديث تثير العجب. فالسورة تحتوي فصولا متعددة ومتنوعة.
وفحواها يلهم بقوة أنها نزلت في فترات مختلفة متفاوتة. وفحوى بعضها يلهم بقوة كذلك أن منها ما نزل قبل فصول أخرى في سور متقدمة عليها في الترتيب مثل فصول اليهود التي يمكن القول بقوة إنها نزلت في ظرف كان اليهود كتلة كبيرة وقوية في المدينة وعلى الأقل إنها نزلت قبل فصول وقعتي الأحزاب وبني قريظة في سورة الأحزاب أي قبل التنكيل ببني قريظة آخر من بقي من جماعات اليهود في المدينة ، ومثل الفصل الذي يندد بالمنافقين لموالاتهم اليهود وقولهم إننا نخاف دائرة تدور علينا. وفحوى بعضها يلهم بقوة أيضا أنه نزل عقب صلح الحديبية وقبل فتح مكة على كل حال وقبل نزول سورة التوبة التي تأمر بقتال المشركين أنّى وجدوا وتأمر بمنعهم من الاقتراب من المسجد الحرام لأنهم نجس حيث أمر فصل من فصولها بالوفاء بالعهود والعقود ونهى عن صدّ حجاج بيت اللّه عن الذهاب إلى مكة للحج انتقاما من أهلها الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام. بل إن دلالات هذه الفصول على ذلك تكاد تكون قطعية.
وكل هذا يجعلنا نتوقف في الأحاديث التي تقول إنها نزلت دفعة واحدة أو إنها آخر ما نزل من القرآن ، ونقول إن فصولها ألّفت تأليفا بعد تكامل نزول ما اقتضت حكمة التنزيل أن تحتويه من فصول. وكل ما يحتمل أن يكون أن بعض فصولها قد تأخر في النزول إلى أواخر عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن تأليفها تأخر بناء على ذلك إلى أواخر هذا العهد. ومن الجدير بالذكر أنه ليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الكتب الخمسة.(1/240)
والمصحف الذي اعتمدناه يروي ترتيبها بعد سورة الفتح. وتروي هذا رواية أخرى. في حين أن هناك روايات ترتيب تجعلها بعد عدة سور بعد سورة الفتح . وقد جارينا المصحف الذي اعتمدناه. والمتبادر أن رواية ترتيبها بعد سورة الفتح هي بسبب مطلع السورة الذي نرجح أنه نزل بعد صلح الحديبية بوقت قصير. واللّه تعالى أعلم. (1)
سورة المائدة مدنية وهي مائة وعشرون آية ، وهي السورة الخامسة من القرآن الكريم.
تسميتها :
تسمى هذه السورة سورة المائدة لاشتمالها على قصة نزول المائدة من السماء بعد أن طلبها الحواريون من عيسى عليه السلام ، لتدل على صدق نبوته ، وتكون لهم عيدا. وتسمى أيضا سورة العقود ، وسورة المنقذة ،
قال - صلى الله عليه وسلم - : «سورة المائدة تدعى في ملكوت اللّه : المنقذة ، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب».
تاريخ نزولها :
هي سورة مدنية نزلت بعد الهجرة ولو في مكة بعد الانصراف من الحديبية ، وثبت في الصحيحين عن عمر : «أن قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ نزلت عشية عرفة ، يوم الجمعة ، عام حجة الوداع».
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال : «يا أيها الناس ، إن سورة المائدة آخر ما نزل ، فأحلوا حلالها ، وحرموا حرامها»
وروى أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن عبد اللّه بن عمر قال : «آخر سورة نزلت :
المائدة والفتح» وروى أحمد والنسائي والحاكم وصححه ، والبيهقي عن عائشة قالت : المائدة آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه».
مناسبتها لما قبلها :
هناك أوجه تشابه بينها وبين سورة النساء ، لاشتمال كل منهما على عدة عهود وعقود وأحكام ومناقشة أهل الكتاب والمشركين والمنافقين ، ففي سورة النساء الكلام على عقود الزواج والأمان والحلف والمعاهدة ، والوصايا والودائع والوكالات والإجارات ، وابتدأت سورة المائدة بالأمر بالوفاء بالعقود. ومهدت سورة النساء لتحريم الخمر ، وحرمتها سورة المائدة بنحو قاطع ، وتضمنت السورتان مناقشة أهل الكتاب والمشركين والمنافقين في عقائدهم ومواقفهم من الرسالة المحمدية.
ما اشتملت عليه :
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (9 / 7)(1/241)
اشتملت سورة المائدة على أحكام تشريعية وثلاث قصص. أما الأحكام :
فهي بيان أحكام العقود ونكاح الكتابيات والوصية عند الموت ، والمطعومات من ذبائح وصيود ، وصيد الإحرام وجزائه ، والطهارة من وضوء وغسل وتيمم ، وتحريم الخمر والميسر وجزاء الردة ، وحد السرقة وحد الحرابة (قطع الطريق) وكفارة اليمين ، وشريعة الجاهلية بتحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وحكم تارك العمل بما أنزل اللّه ، ونحو ذلك في أثناء مناقشة ومجادلة النصارى واليهود والمشركين والمنافقين.
قال العلماء : فيها ثمان عشرة فريضة ليست في غيرها وهي : الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ ، وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وتمام الطهور : إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ، لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إلى قوله : عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ وما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وقوله تعالى : شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ الآية.
وذكر القرطبي فريضة تاسعة عشرة وهي قوله عز وجل : وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ : ليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة ، أما ما جاء في سورة الجمعة فمخصوص بالجمعة ، وهو في هذه السورة عام لجميع الصلوات.
وفي الجملة انفردت سورة المائدة ببيان أصول مهمة في الإسلام هي :
1 - إكمال الدين ، وأن دين اللّه واحد ، وإن اختلفت شرائع الأنبياء ومناهجهم.
2 - بيان عموم بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره بالتبليغ العام ، وانحصار مهمته بالتبليغ فقط.
3 - أوجب اللّه على المؤمنين إصلاح نفوسهم ، وأنه لا يضرهم إن استقاموا ضلال غيرهم ، وطريق الإصلاح الوفاء بالعقود ، وتحريم الاعتداء على الآخرين ، والتعاون على البر والتقوى وتحريم التعاون على الإثم والعدوان ، وتحريم موالاة الكفار ، ووجوب الشهادة بالعدل ، والحكم بالقسط والمساواة بين المسلمين وغيرهم.
4 - بيان أحكام المطعومات ، وتحريم الخمر والميسر (القمار) والأنصاب والأزلام.
5 - تفويض أمر الجزاء في الآخرة إلى اللّه وحده ، وأن النافع في ذلك اليوم الصدق.
وأما القصص الثلاث الواردة للعبرة والعظة فهي : الأولى - قصة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام إذ قالوا له : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ. والثانية - قصة ابني آدم ، حيث قتل قابيل هابيل(1/242)
، وهي أول جريمة في الأرض. والثالثة - قصة المائدة التي كانت معجزة خارقة لعيسى عليه السلام أمام صحبه الحواريين. (1)
أهم الأصول التي انفردت بها هذه السورة :
(1) بيان أن اللّه أكمل هذا الدين الذي ارتضى لهم ، وأن دين اللّه واحد وإن اختلفت شرائع الأنبياء ومناهجهم ، وأن هذا الدين مبنى على العلم اليقيني فى الاعتقاد والهداية فى الأخلاق والأعمال ، وأن التقليد فيه باطل لا يقبله اللّه ، وأن أصول الدين الإلهى على ألسنة الرسل كلهم هى الإيمان با للّه واليوم الآخر والعمل الصالح ، فمن أقامها كما أمرت الرسل من أي ملة كاليهود والنصارى والصابئين فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
(2) بيان عموم بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره بالتبليغ العام ، وأنه لا يكلف إلا التبليغ فقط ، ومن حجج رسالته أنه بيّن لأهل الكتاب كثيرا مما كانوا يخفون من كتبهم مما ضاع قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومما كانوا يكتمونه من الأحكام اتباعا لأهوائهم ، وأن هذا الرسول قد عصمه اللّه وحفظه من أن يضره أحد أو يصده عن تبليغ رسالة ربه ، وأننا نهينا عن سؤاله عن أشياء من شأنها أن تسوء المؤمنين إذا أبديت لهم لما فيها من زيادة لتكاليف.
(3) بيان أن اللّه أوجب على المؤمنين إصلاح أنفسهم أفراد وجماعات ، وأنه لا يضرهم من ضل إذا هم استقاموا على صراط الهداية ، فهو لا يضرهم لا فى دنيا ولا دين ، ومن ذلك الوفاء بالعقود التي يتعاقدون عليها فى جميع المعاملات الدنيوية ، وتحريم الاعتداء على قوم بسبب بغضهم وعداوتهم ، والتعاون على البر والتقوى كتأليف الجماعات العلمية والخيرية وتحريم التعاون على الإثم والعدوان ، وتحريم موالاة المؤمنين للكافرين وبيان أن ذلك من آيات النفاق.
(4) تفصيل أحكام الطعام حلاله وحرامه ، وبيان أن التحريم منه إما ذاتى كالميتة وما فى معناها ، وإما لسبب دينى كالذى يذبح للأصنام ، وبيان أن الضرورات تبيح المحظورات.
(5) تحريم الخمر وكل مسكر ، والميسر وهو القمار وما فى حكمه (كالمضاربات فى البورصة).
(6) وجوب الشهادة بالقسط والحكم بالعدل والمساواة بين غير المسلمين والمسلمين ولو للأعداء على الأصدقاء وتأكيد وجوب ذلك فى سائر الأحكام.
(7) بيان تفويض أمر الجزاء فى الآخرة إلى اللّه وحده ، وأن النافع فى ذلك اليوم هو الصدق.
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (6 / 60) و تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (6 / 41)(1/243)
وكان مسك ختامها ذكر الجزاء فى الآخرة بما يناسب أحكامها كلها ، وقد روى أحمد والنسائي والحاكم وصححه ، والبيهقي عن جبير بن نفير قال : حججت فدخلت على عائشة فقالت يا جبير تقرأ المائدة ؟ قلت نعم ، فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه. وروى أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن عبد اللّه بن عمر قال : آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح. (1)
وتسمى أيضا العقود والمنقذة ، قال ابن الفرس : لأنها تنقذ صاحبها من ملائكة العذاب وهي مدنية في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وقال أبو جعفر بن بشر والشعبي : إنها مدنية إلا قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة : 3] فإنه نزل بمكة.
وأخرج أبو عبيد عن محمد القرظي قال : «نزلت سورة المائدة على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة وهو على ناقته فانصدعت كتفها فنزل عنها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وذلك من ثقل الوحي»
وأخرج غير واحد عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : المائدة آخر سورة نزلت ، وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عمر أن آخر سورة المائدة والفتح ، وقد تقدم آنفا عن البراء أن آخر سورة نزلت براءة ، ولعل كلا ذكر ما عنده ، وليس في ذلك شيء مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، نعم
أخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا : «قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : المائدة من آخر القرآن تنزيلا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها»
وهو غير واف بالمقصود لمكان «من».
واستدل قوم بهذا الخبر على أنه لم ينسخ من هذه السورة شيء ، وممن صرح بعدم النسخ عمرو بن شرحبيل والحسن رضي اللّه تعالى عنهما ، كما أخرج ذلك عنهما أبو داود ، وأخرج عن الشعبي أنه لم ينسخ منها إلا قوله تعالى :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ [المائدة : 2] ، وأخرج ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه قال : نسخ من هذه السورة آيتان آية القلائد وقوله سبحانه : فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة : 42] وادعى بعضهم أن فيها تسع آيات منسوخات ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء اللّه تعالى.
وعدة آيها مائة وعشرون عند الكوفيين ، وثلاث وعشرون عند البصريين ، واثنان وعشرون عند غيرهم ، ووجه اعتلاقها بسورة النساء - على ما ذكره الجلال السيوطي عليه الرحمة - أن سورة النساء قد
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (7 / 67)(1/244)
اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا ، فالصريح عقود الأنكحة وعقد الصداق وعقد الحلف وعقد المعاهدة والأمان ، والضمني عقد الوصية والوديعة والوكالة والعارية والإجارة ، وغير ذلك الداخل في عموم قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء : 58] فناسب أن تعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود فكأنه قيل : يا أيها الناس أوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت ، وإن كان في هذه السورة أيضا عقود ، ووجه أيضا تقديم النساء وتأخير المائدة بأن أول تلك يا أَيُّهَا النَّاسُ [النساء : 1] وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بتنزيل المكي ، وأول هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة : 1] وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب المدني ، وتقديم العام وشبه المكي أنسب.
ثم إن هاتين السورتين في التلازم والاتحاد نظير البقرة وآل عمران ، فتانك اتحدا في تقرير الأصول من الوحدانية والنبوة ونحوهما ، وهاتان في تقرير الفروع الحكمية.
وقد ختمت المائدة في صفة القدرة كما افتتحت النساء بذلك ، وافتتحت النساء ببدء الخلق ، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء ، فكأنهما سورة واحدة اشتملت على الأحكام من المبدأ إلى المنتهى ، ولهذه السورة أيضا اعتلاق بالفاتحة والزهراوين كما لا يخفى على المتأمل. (1)
* سورة المائدة من السورة المدنية الطويلة ، وقد تناولت كسائر السور المدنية جانب التشريع بإسهاب ، مثل سورة البقرة ، والنساء ، والأنفال ، إلى جانب موضوع العقيدة ، وقصص أهل الكتاب ، قال أبو ميسرة : المائدة من آخر ما نزل من القرآن ، ليس فيها منسوخ وفيها ثمان عشرة فريضة.
* نزلت هذه السورة منصرف رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) من الحديبية ، وجماعها يتناول الأحكام الشرعية ، لأن الدولة الإسلامية كانت في بداية تكوينها ، وهي بحاجة إلى (المنهج الرباني) الذي يعصمها من الزلل ، ويرسم لها طريق البناء والاستقرار.
* أما الأحكام التى تناولتها السورة فنلخصها فيما يلي : (أحكام العقود ، الذبائح ، الصيد ، الإحرام ، نكاح الكتابيات ، الردة ، أحكام الطهارة ، حد السرقة ، حد البغي ، والإفساد في الأرض ، أحكام الخمر والميسر ، كفارة اليمين ، قتل الصيد في الإحرام ، الوصية عند الموت ، البحيرة والسائبة ، الحكم على من ترك العمل بشريعة الله) إلى آخر ما هنالك من الأحكام التشريعية.
* وإلى جانب التشريع قص تعالى علينا في هذه السورة ، بعض القصص للعظة والعبرة ، فذكر قصة بني إسرائيل مع موسى ، وهى قصة ترمز إلى التمرد والطغيان ، ممثلة في هذه الشرذمة الباغية من " اليهود "
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (3 / 221)(1/245)
حين قالوا لرسولهم [ اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ] وما حصل لهم من التشرد والضياع ، إذ وقعوا في أرض التيه أربعين سنة [ قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض.. ]
* ثم قصة ابني آدم وهي قصة ترمز إلى الصراع العنيف بين قوتي الخير والشر ، ممثلة في قصة (قابيل وهابيل) حيث قتل قابيل أخاه هابيل ، وكانت أول جريمة نكراء تحدث في الأرض ، أريق فيها الدم البريء الطاهر ، والقصة تعرض لنموذجين من نماذج البشرية : نموذج النفس الشريرة الأثيمة ، ونموذج النفس الخيرة الكريمة [ فسولت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ] .
* كما ذكرت السورة قصة " المائدة " التي كانت معجزة لعيسى ابن مريم ظهرت على يديه أمام الحواريين ، والسورة الكريمة تعرض أيضا لمناقشة " اليهود والنصارى " في عقائدهم الزائفة ، حيث نسبوا إلى الله ما لا يليق من الذرية والبنين ، ونقضوا العهود والمواثيق ، وحرفوا التوراة والإنجيل ، وكفروا برسالة محمد عليه السلام ، إلى آخر ما هنالك من ضلالات وأباطيل ، وقد ختمت السورة الكريمة بالموقف الرهيب يوم الحشر الأكبر حيث يدعى السيد المسيح " عيسى ابن مريم " على رءوس الأشهاد ، ويسأله ربه تبكيتاً للنصارى الذين عبدوه من دون الله [ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ] ويا له من موقف مخز لأعداء الله ، تشيب لهوله الرءوس ، وتتفطر من فزعه النفوس!!. (1)
مقصودها الوفاء بما هدى إليه الكتاب ، ودل عليه ميثاق العقل من توحيد الخالق ورحمة الخلائق شكراً لنعمه واستدفاعاً لنقمة ، وقصة المائدة أدل ما فهيا على ذلك ، فإن مضمونها أن من زاغ عن الطمأنينة بعد الكشف الشافي والإنعام الوافي نوقش الحساب فأخذه العذاب ، وتسميتها بالعقود أوضح دليل على ما ذكرت من مقصودها وكذا الأحبار . (2)
نزل هذا القرآن الكريم على قلب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لينشىء به أمة وليقيم به دولة ولينظم به مجتمعا وليربي به ضمائر وأخلاقا وعقولا وليحدد به روابط ذلك المجتمع فيما بينه وروابط تلك الدولة مع سائر الدول وعلاقات تلك الأمة بشتى الأمم .. وليربط ذلك كله برباط قوي واحد ، يجمع متفرقه ، ويؤلف أجزاءه ، ويشدها كلها إلى مصدر واحد ، وإلى سلطان واحد ، وإلى جهة واحدة .. وذلك هو الدين ، كما هو في حقيقته عند اللّه وكما عرفه المسلمون. أيام أن كانوا «مسلمين»! ومن ثم نجد في هذه السورة - كما وجدنا في السور الثلاث الطوال قبلها - موضوعات شتى الرابط بينها جميعا هو هذا الهدف
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (1 / 211)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (2 / 384)(1/246)
الأصيل الذي جاء القرآن كله لتحقيقه : إنشاء أمة ، وإقامة دولة ، وتنظيم مجتمع على أساس من عقيدة خاصة ، وتصور معين ، وبناء جديد .. الأصل فيه إفراد اللّه - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان وتلقي منهج الحياة وشريعتها ونظامها وموازينها وقيمها منه وحده بلا شريك ..
وكذلك نجد بناء التصور الاعتقادي وتوضيحه وتخليصه من أساطير الوثنية ، وانحرافات أهل الكتاب وتحريفاتهم .. إلى جانب تبصير الجماعة المسلمة بحقيقة ذاتها وحقيقة دورها ، وطبيعة طريقها وما في هذا الطريق من مزالق وأشواك ، وشباك يرصدها لها أعداؤها وأعداء هذا الدين .. إلى جانب أحكام الشعائر التعبدية التي تطهر روح الفرد المسلم وروح الجماعة المسلمة وتربطها بربها. إلى جانب التشريعات الاجتماعية التي تنظم روابط مجتمعها والتشريعات الدولية التي تنظم علاقاتها بغيرها .. إلى جانب التشريعات التي تحلل وتحرم ألوانا من المآكل والمشارب والمناكح أو ألوانا من الأعمال والمسالك .. كل ذلك حزمة واحدة في السورة الواحدة يمثل معنى «الدين» كما أراده اللّه وكما فهمه المسلمون. أيام أن كانوا مسلمين.
على أن السياق القرآني - كما يبدو في هذه السورة وكما رأيناه في سورتي آل عمران والنساء من قبل لا يكتفي بهذا المعنى الضمني المستفاد من سوق هذه الموضوعات كلها في اطار سورة واحدة وسوقها كذلك في شتى سور القرآن المتفرقة التي تؤلف هذا الكتاب وتمثل المنهج الرباني الذي يتضمنه .. لا يكتفي السياق القرآني هنا بهذا المعنى الضمني إنما ينص عليه نصا ويؤكده تأكيدا ويتكىء عليه اتكاء شديدا وهو ينص على أن هذا كله هو «الدين» وأن الإقرار به كله هو «الإيمان» وأن الحكم به كله «هو الإسلام» .. وأن الذين لا يحكمون بما أنزل اللّه هم الكافرون. الظالمون. الفاسقون .. وأنهم - إذن - يبتغون حكم الجاهلية ولا يبتغي حكم الجاهلية المؤمنون المسلمون.
وهذا الأصل الكبير هو الذي يبرز في هذه السورة بروزا واضحا مقررا منصوصا عليه نصا. إلى جانب تصحيح التصور الاعتقادي الذي يقوم عليه هذا الأصل الكبير ..
ويحسن أن نصور من سياق النصوص القرآنية في السورة كيف برز هذان الأصلان الكبيران في سياقها كله ، وكيف يقوم هذا على ذاك قياما طبيعيا ومنطقيا.
إن السياق القرآني يستند في تقرير أن الحكم بما أنزل اللّه هو «الإسلام» وأن ما شرعه اللّه للناس من حلال أو حرام هو «الدين» إلى أن اللّه هو «الإله الواحد» لا شريك له في ألوهيته وإلى أن اللّه هو الخالق الواحد لا شريك له في خلقه. وإلى أن اللّه هو المالك الواحد لا شريك له في ملكه .. ومن ثم يبدو حتميا ومنطقيا ألا يقضى شيء إلا بشرعه وإذنه. فالخالق لكل شي ء ، المالك لكل شي ء ، هو صاحب الحق ، وصاحب السلطان في تقرير المنهج الذي يرتضيه لملكه ولخلقه .. هو الذي يشرع فيما يملك وهو الذي(1/247)
يطاع شرعه وينفذ حكمه وإلا فهو الخروج والمعصية والكفر .. إنه هو الذي يقرر الاعتقاد الصحيح للقلب كما يقرر النظام الصحيح للحياة سواء بسواء. والمؤمنون به هم الذين يؤمنون بالعقيدة التي يقررها ويتبعون النظام الذي يرتضيه. هذه كتلك سواء بسواء. وهم يعبدونه بإقامة الشعائر ، ويعبدونه باتباع الشرائع ، بلا تفرقة بين الشعيرة والشريعة فكلتاهما من عند اللّه ، الذي لا سلطان لأحد في ملكه وعباده معه. بما أنه هو الإله الواحد. المالك الواحد.
العليم بما في السموات والأرض جميعا .. ومن ثم فإن الحكم بشريعة اللّه هو دين كل نبي لأنه هو دين اللّه ، ولا دين سواه.
ومن ثم تتوارد النصوص هكذا في ثنايا السورة في تقرير الألوهية الواحدة ونفي كل شرك أو تثليث أو خلط بين ذات اللّه - سبحانه - وبين غيره. أو بين خصائص الألوهية ، وخصائص العبودية على الإطلاق :
«يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ. قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ. وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ. وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. قُلْ. فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً؟ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ، يَخْلُقُ ما يَشاءُ. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى : نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ! قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ. يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ، أَنْ تَقُولُوا : ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ. فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
«لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. وَقالَ الْمَسِيحُ : يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ. إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ، وَمَأْواهُ النَّارُ ، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ. وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ...»
ولأن اللّه هو وحده الإله ، وهو وحده الخالق ، وهو وحده المالك .. فهو وحده الذي يشرع ، هو وحده الذي يحلل ويحرم ، وهو وحده الذي يطاع فيما يشرع وفيما يحرم أو يحلل. كما أنه هو وحده الذي يعبد ، وهو وحده الذي يتوجه إليه العباد بالشعائر. وقد أخذ الميثاق على عباده بهذا كله فهو(1/248)
يطالب الذين آمنوا أن يفوا بميثاقهم وتعاقدهم معه ويحذرهم عواقب نقض الميثاق وخلف العقود كما وقع من بني إسرائيل قبلهم :
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ...»
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ ، وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ، وَلَا الْهَدْيَ ، وَلَا الْقَلائِدَ ، وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً ...»
«وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ ، إِذْ قُلْتُمْ : سَمِعْنا وَأَطَعْنا ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا. اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ، وَاتَّقُوا اللَّهَ. إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ».
«وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ، وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ : إِنِّي مَعَكُمْ ، لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ ، وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ ، وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي ، وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ، لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ، وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ. وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ - إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ - فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ ، فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ».
ويتضمن سياق السورة أحكاما شرعية منوعة : منها ما يتعلق بالحلال والحرام من الذبائح ومن الصيد.
ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام في فترة الإحرام وفي المسجد الحرام. ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام من النكاح. ومنها ما يتعلق بالطهارة والصلاة. ومنها ما يتعلق بالقضاء وإقامة العدل فيه. ومنها ما يتعلق بالحدود في السرقة وفي الخروج على الجماعة المسلمة. ومنها ما يتعلق بالخمر والميسر والأنصاب والأزلام. ومنها ما يتعلق بالكفارات في قتل الصيد مع الإحرام وفي اليمين. ومنها ما يتعلق بالوصية عند الموت. ومنها ما يتعلق بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي من الأنعام ، ومنها ما يتعلق بشريعة القصاص في التوراة مما جعله اللّه كذلك شريعة للمسلمين .. وهكذا تلتقي الشرائع بالشعائر في سياق السورة بلا حاجز ولا فاصل! وإلى جوار هذه الأحكام الشرعية المنوعة يجيء الأمر بالطاعة والتقيد بما شرعه اللّه وما أمر به والنهي عن التحريم والتحليل إلا بإذنه ويجيء النص على أن هذا هو الدين الذي ارتضاه اللّه للأمة المؤمنة بعد أن أكمله وأتم به نعمته :
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ ، وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ، وَلَا الْهَدْيَ ، وَلَا الْقَلائِدَ ، وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً ..» ..(1/249)
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا ...» ..
«وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ..» ..
«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» ..
ولا يدع السياق أمر الطاعة والاتباع في التحليل والتحريم مجملا. إنما هو ينص نصا على وجوب الحكم بما أنزل اللّه - دون سواه - وإلا فهو الكفر والظلم والفسق .. وتتوارد النصوص القرآنية في هذا الأمر حاسمة جازمة على هذا النسق :
«يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ، مِنَ الَّذِينَ قالُوا : آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ، وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا ، سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ، سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ : إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا - وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً - أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ، لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ. فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ. وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً. وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ، ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ. وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ. إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ، يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ، لِلَّذِينَ هادُوا ، وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ. فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا .. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ .. وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ، وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ، وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ. فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ .. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ .. وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ ، وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ ، فِيهِ هُدىً وَنُورٌ ، وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ ، وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ. وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ .. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ..
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ .. فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ .. لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ، إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ .. وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ، وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ .. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ .. أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ؟ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ؟»..(1/250)
وهكذا تتبين القضية .. إله واحد. وخالق واحد. ومالك واحد .. وإذن فحاكم واحد. ومشرع واحد.
ومتصرف واحد .. وإذن فشريعة واحدة ، ومنهج واحد ، وقانون واحد .. وإذن فطاعة واتباع وحكم بما أنزل اللّه ، فهو إيمان وإسلام. أو معصية وخروج وحكم بغير ما أنزل اللّه ، فهو كفر وظلم وفسوق .. وهذا هو الدين كما أخذ اللّه ميثاق العباد جميعا عليه ، وكما جاء به كل الرسل من عنده .. أمة محمد والأمم قبلها على السواء ..
ولم يكن بد أن يكون «دين اللّه» هو الحكم بما أنزل اللّه دون سواه. فهذا هو مظهر سلطان اللّه. مظهر حاكمية اللّه. مظهر أن لا إله إلا اللّه.
وهذه الحتمية : حتمية هذا التلازم بين «دين اللّه» و«الحكم بما أنزل اللّه» لا تنشأ فحسب من أن ما أنزل اللّه خير مما يصنع البشر لأنفسهم من مناهج وشرائع وأنظمة وأوضاع. فهذا سبب واحد من أسباب هذه الحتمية.
وليس هو السبب الأول ولا الرئيسي. إنما السبب الأول والرئيسي ، والقاعدة الأولى والأساس في حتمية هذا التلازم هي أن الحكم بما أنزل اللّه إقرار بألوهية اللّه ، ونفي لهذه الألوهية وخصائصها عمن عداه. وهذا هو «الإسلام» بمعناه اللغوي : «الاستسلام» وبمعناه الاصطلاحي كما جاءت به الأديان .. الإسلام للّه .. والتجرد عن ادعاء الألوهية معه وادعاء أخص خصائص الألوهية ، وهي السلطان والحاكمية ، وحق تطويع العباد وتعبيدهم بالشريعة والقانون.
ولا يكفي إذن أن يتخذ البشر لأنفسهم شرائع تشابه شريعة اللّه. أو حتى شريعة اللّه نفسها بنصها ، إذا هم نسبوها إلى أنفسهم ، ووضعوا عليها شاراتهم ولم يردوها للّه ولم يطبقوها باسم اللّه ، إذعانا لسلطانه ، واعترافا بألوهيته وبتفرده بهذه الألوهية. التفرد الذي يجرد العباد من حق السلطان والحاكمية ، إلا تطبيقا لشريعة اللّه ، وتقريرا لسلطانه في الأرض.
ومن هذه الحتمية ينشأ الحكم الذي تقرره الآيات في سياق السورة : «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» .. «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» .. «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» .. ذلك أن الذين لا يحكمون بما أنزل اللّه يعلنون رفضهم لألوهية اللّه - سبحانه - ورفضهم لإفراد اللّه - سبحانه - بهذه الألوهية. يعلنون هذا الرفض بعملهم وواقعهم ولو لم يعلنوه بأفواههم وألسنتهم. ولغة العمل والواقع أقوى وأكبر من لغة الفم واللسان. ومن ثم يصمهم القرآن بالكفر والظلم والفسق ، أخذا من رفضهم لألوهية اللّه - حين يرفضون حاكميته المطلقة وحين يجعلون لأنفسهم خاصة الألوهية الأولى فيشرعون للناس من عند أنفسهم ما لم يأذن به اللّه.
وعلى هذا المعنى يتكىء سياق السورة ونصوصها الواضحة الصريحة كذلك.(1/251)
شأن آخر يتناوله سياق السورة غير بناء التصور الاعتقادي الصحيح ، وبيان الانحرافات التي تتلبس به عند أهل الكتاب وأهل الجاهلية وغير بيان معنى «الدين» وأنه الاعتقاد الصحيح والطاعة والتلقي من اللّه وحده في التحريم والتحليل ، والحكم بما أنزل اللّه وحده دون تعديل أو تحريف أو تبديل.
ذلك هو شأن هذه الأمة المسلمة دورها الحقيقي في هذه الأرض وموقفها تجاه أعدائها وكشف هؤلاء الأعداء ، وكيدهم لهذه الأمة ولهذا الدين وبيان ما هم عليه من الضلالة والانحراف في عقيدتهم وما هم عليه كذلك من العداء للجماعة المسلمة وإجماع الكيد لها .. إنها المعركة التي يخوضها القرآن الكريم بالجماعة المسلمة والتي سبق الحديث عنها في السور الثلاث الطوال السابقة ..
إن كتاب هذه الأمة هو كتاب اللّه الأخير للبشر وهو يصدق ما بين يديه من الكتاب في أصل الاعتقاد والتصور ولكنه - بما أنه هو الكتاب الأخير - يهيمن على كل ما سبقه وإليه تنتهي شريعة اللّه التي ارتضاها لعباده إلى يوم الدين فما أقره من شرائع أهل الكتاب قبله فهو من شرع اللّه وما نسخه فقد فقد صفته هذه وإن كان واردا في كتاب من الكتب المنزلة :
«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» ..
«وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» ..
ومن ثم فإن دور هذه الأمة هو أن تكون الوصية على البشرية تقيم العدل في الأرض ، غير متأثرة بمودة أو شنآن ، وغير ناظرة في إقامة العدل إلى ما أصابها أو يصيبها من الناس فهذه هي تكاليف القوامة والوصاية والهيمنة .. وغير متأثرة كذلك بانحرافات الآخرين وأهوائهم وشهواتهم فلا تنحرف فيه شعرة عن منهجها وشريعتها وطريقها القويم لاسترضاء أحد أو لتأليف قلب وغير ناظرة إلا إلى اللّه وتقواه :
«وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ، وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ ، شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا. اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ، وَاتَّقُوا اللَّهَ ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ».
«وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ» .. «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ، وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ».
ومن مقتضيات أن هذه الأمة هي وارثة الرسالات وصاحبة الرسالة الأخيرة ، والدين الأخير وصاحبة الوصاية والقوامة على البشرية بهذا الدين الأخير .. ألا تتولى من يكفرون بهذا الدين ومن يتخذون فرائضه(1/252)
وشعائره هزوا ولعبا. إنما تتولى اللّه ورسوله ، ولا تركن إلى ولاية غير المؤمنين باللّه ورسوله. فإنما هي أمة بعقيدتها لا بجنسها ، ولا بأرضها ، ولا بموروثاتها الجاهلية. إنما هي «أمة» بهذه العقيدة الجديدة ، وبهذا المنهج الرباني ، وبهذه الرسالة الأخيرة .. وهذه هي آصرة التجمع الوحيدة :
«الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ..
«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ. وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ، لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» ..
أما أعداء هذه الأمة فهم أعداء الهدى ، وأعداء منهج اللّه الصحيح دائما. وهم لا يريدون رؤية الحق كما أنهم لا يريدون ترك العداء المستحكم في قلوبهم لهذا الحق من قبل ومن بعد. وعلى الأمة المسلمة أن تعرفهم على حقيقتهم ، من تاريخهم القديم مع رسل اللّه ومن موقفهم الجديد منها ومن رسولها ودينها القويم :
«وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ : إِنِّي مَعَكُمْ. لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ ، وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ ، وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي ، وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ، وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ، لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ ، وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ، وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ. وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ .. وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ ، فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ».
«وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ : يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ، إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ ، وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ، وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ. يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. قالُوا : يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ ، وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا(1/253)
مِنْها ، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ. قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا : ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ ، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قالُوا : يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها. فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا ، إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ. قالَ : رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ. قالَ : فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» .. «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً .. وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ، ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ» ..
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ، مِنَ الَّذِينَ قالُوا : آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا. سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ، سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ ، يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ ، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا. وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً. أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ، لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ... إلخ» ..
«قُلْ : يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا ، وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ؟ قُلْ : هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ؟ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ ، وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ .. أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ ..».
«وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا ، وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ. وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ، وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ. لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ! لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ! لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ! وَقالَتِ الْيَهُودُ : يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ، وَلُعِنُوا بِما قالُوا! بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ. وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ».
«قُلْ : يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً ، فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» ..
«لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ. وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا. ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا .. كَثِيرٌ مِنْهُمْ .. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ».(1/254)
«لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ. لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ. تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ : أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ. وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ. وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ» ..
«لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا. وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا : إِنَّا نَصارى . ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» .. إلخ.
وهذه الحملة الكاشفة على أعداء الجماعة المسلمة والتركيز فيها على اليهود والمشركين بصفة خاصة مع إشارات إلى المنافقين والنصارى أحيانا ، تؤدي بنا إلى شأن آخر مما تعالجه هذه السورة :
إنها تعالج موقفا حاضرا في حياة الجماعة المسلمة في المدينة يومذاك .. كما تعالج موقف الأمة المسلمة ، في تاريخها كله تجاه المعسكرات المعادية لها .. وإنها لهي هي .. على مدار الزمان! ففي أية فترة تاريخية من حياة الجماعة المسلمة في المدينة تنزلت هذه السورة؟
في روايات كثيرة أن هذه السورة نزلت بعد سورة الفتح .. وسورة الفتح معروف أنها نزلت في الحديبية في العام السادس من الهجرة .. وفي بعض هذه الروايات أنها نزلت مرة واحدة فيما عدا الآية الثالثة ، التي فيها : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...» فإنها نزلت في حجة الوداع في السنة العاشرة ..
ولكن المراجعة الموضوعية للسورة مع أحداث السيرة تكاد تنفي هذه الرواية التي تقول : إن السورة نزلت بكاملها بعد «الفتح» فضلا على أن هناك حادثة من حوادث السيرة في غزوة بدر ، تقطع بأن الآيات الخاصة بموقف بني إسرائيل مع موسى - عليه السلام - من دخول الأرض المقدسة ، كانت معروفة للمسلمين قبل غزوة بدر في السنة الثانية الهجرية. وقد وردت إشارة إليها على لسان سعد بن معاذ الأنصاري - رضي اللّه عنه - في رواية ، وعلى لسان المقداد بن عمرو في رواية ، وهو يقول لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «إذن واللّه لا نقول لك يا رسول اللّه كما قال قوم موسى لموسى : «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ..»
ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون ... إلخ» ..
أما المراجعة الموضوعية فتصور الموقف بأنه كانت لليهود - في ذلك الوقت الذي نزلت فيه الآيات الخاصة بهم - قوة ونفوذ وعمل في المدينة ، وفي الصف المسلم مما اقتضى هذه الحملة لكشف موقفهم وإبطال كيدهم.
وهذه القوة وهذا النفوذ كانا قد تضاء لا بعد وقعة بني قريظة ، عقب غزوة الخندق ، وقد تطهرت الأرض من القبائل الثلاث اليهودية القوية : بني قينقاع ، وبني النضير وبني قريظة. فلم يكن لهم بعد(1/255)
الحديبية ما يدعو إلى العناية بشأنهم إلى هذا الحد. ثم لقد كانت فترة المهادنة معهم والخطة السلمية قد انتهت ولم يعد لها موضع بعد الذي بدا منهم. فقول اللّه تعالى لنبيه الكريم : «وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ - إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ - فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ..» لا بد سابق على هذه الفترة. وكذلك أمره بالحكم بينهم أو الإعراض عنهم ..
ومن هذه الملاحظات يترجح لدينا أن مطالع السورة وبعض مقاطعها هي التي نزلت بعد سورة الفتح بينما نزلت مقاطع منها قبل ذلك ، كما أن الآية التي فيها قول اللّه تعالى : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» لا بد أن تكون قد نزلت بعد ذلك. فقد كانت آخر ما نزل من القرآن على أرجح الأقوال. وأن السورة لم تنزل كلها مرة واحدة كما جاء في إحدى الروايات.
وكما قلنا من قبل في تقديم سورة البقرة ، وتقديم سورة آل عمران ، وتقديم سورة النساء ، نقول هنا عن المعركة التي كان القرآن يخوضها ، بالجماعة المسلمة ، مع أعداء هذه الجماعة ، وأعداء دينها ، وفي مقدمتهم اليهود والمشركون والمنافقون ، وذلك مع بناء التصور الإسلامي في نفوس المؤمنين ومع تنظيم المجتمع الإسلامي بالتوجيهات والتشريعات .. كل ذلك في وقت واحد وفي منهج واحد وفي نفس واحد! وأهم قواعد البناء : تخليص عقيدة التوحيد من كل غبش. وبيان معنى «الدين» وأنه هو منهج الحياة وأن الحكم بما أنزل اللّه وحده ، والتلقي في شئون الحياة كلها من اللّه وحده هو الإيمان ، وهو الإسلام وبغير هذا لا يكون هناك توحيد للّه. فتوحيد اللّه هو إفراده - سبحانه - بالألوهية وبخصائص الألوهية بحيث لا يكون له فيها شريك. والحاكمية والتشريع للناس من خصائص الألوهية ، كتعبيدهم بالعبادة الشعائرية سواء بسواء .. وهذه السورة أشد تركيزا على هذه النقطة كما أسلفنا ..
ومع تقارب الموضوعات التي تعالجها السور الطوال الثلاث السابقة مع الموضوعات التي تعالجها هذه السورة - كما يبدو من هذا الاستعراض السريع - فإنه تبقى لكل سورة «شخصيتها» وجوها وظلالها وأسلوبها الخاص في معالجة هذه الموضوعات ، والزوايا التي تعالجها منها ، والأضواء التي تسلطها عليها ونوع المؤثرات الموحية المصاحبة للعرض بحيث تتميز «شخصية» كل سورة تماما ويبرز طابعها الخاص.
والطابع البارز لهذه السورة هو طابع التقرير والحسم في التعبير .. سواء في ذلك الأحكام الشرعية التي تقتضي بطبيعتها التقرير والحسم في القرآن كله أو المبادئ والتوجيهات ، التي قد تتخذ في غير هذه السورة صورا أخرى ولكنها في هذه السورة تقرر في حسم وصرامة في أسلوب التقرير الدقيق ، وهو الطابع العام المميز لشخصية السورة .. من بدئها إلى منتهاها.(1/256)
وقبل أن ننهي هذا التقديم للسورة لا يسعنا إلا أن نبرز الحقيقة التي تتضمنها الآية الثالثة منها .. فإن قول اللّه سبحانه لهذه الأمة : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» ..
يتضمن توحيد المصدر الذي تتلقى منه هذه الأمة منهج حياتها ونظام مجتمعها ، وشرائع ارتباطاتها ومصالحها إلى يوم القيامة ، كما يتضمن استقرار هذا الدين بكل جزئياته الاعتقادية والتعبدية والتشريعية فلا تعديل فيها ولا تغيير فقد اكتمل هذا الدين وتم وانتهى أمره. وتعديل شيء فيه كإنكاره كله لأنه إنكار لما قرره اللّه من تمامه وكماله وهذا الإنكار هو الكفر الذي لا جدال فيه .. أما العدول عنه كله إلى منهج آخر ، ونظام آخر ، وشريعة أخرى فلا يحتاج منا إلى وصف ، فقد وصفه اللّه - سبحانه - في السورة. ولا زيادة بعد وصف اللّه - سبحانه - لمستزيد ..
إن هذه الآية تقرر - بما لا مجال للجدال فيه - أنه دين خالد ، وشريعة خالدة. وأن هذه الصورة التي رضيها اللّه للمسلمين دينا هي الصورة الأخيرة .. إنها شريعة ذلك الزمان وشريعة كل زمان وليس لكل زمان شريعة ، ولا لكل عصر دين .. إنما هي الرسالة الأخيرة للبشر ، قد اكتملت وتمت ، ورضيها اللّه للناس دينا.
فمن شاء أن يبدل ، أو يحور أو يغير ، أو يطور! إلى آخر هذه التعبيرات التي تلاك في هذا الزمان ، فليبتغ غير الإسلام دينا .. «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ».
إن هذا المنهج الإلهي المشتمل على التصور الاعتقادي ، والشعائر التعبدية ، والشرائع المنظمة لنشاط الحياة كله يحكم ويصرف ويهيمن على نشاط الحياة كله وهو يسمح للحياة بأن تنمو في إطاره وترتقي وتتطور دون خروج على أصل فيه ولا فرع ، لأنه لهذا جاء ، ولهذا كان آخر رسالة للبشر أجمعين ..
إن تطور الحياة في ظل هذا المنهج لا يعني مجافاتها أو إهمالها لأصل فيه ولا فرع ولكن يعني أن طبيعة المنهج تحتوي كل الإمكانيات التي تسع ذلك التطور بلا خروج على أصل أو فرع. ويعني أن كل تطور في الحياة كان محسوبا حسابه في ذلك المنهج لأن اللّه - سبحانه - لم يكن يخفى عليه - وهو يضع هذا المنهج في صورته الأخيرة ، ويعلن إكماله وارتضاءه للناس دينا - أن هناك تطورات ستقع ، وأن هناك حاجات ستبرز ، وأن هناك مقتضيات ستتطلبها هذه التطورات والحاجات. فلا بد إذن أن يكون هذا المنهج قد احتوى هذه المقتضيات جميعا ..
وما قدر اللّه حق قدره من يظن غير هذا في أمر من هذه الأمور .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 825)(1/257)
أهم الأصول التي انفردت بها هذه السورة :
(1) بيان أن اللّه أكمل هذا الدين الذي ارتضى لهم ، وأن دين اللّه واحد وإن اختلفت شرائع الأنبياء ومناهجهم ، وأن هذا الدين مبنى على العلم اليقيني فى الاعتقاد والهداية فى الأخلاق والأعمال ، وأن التقليد فيه باطل لا يقبله اللّه ، وأن أصول الدين الإلهى على ألسنة الرسل كلهم هى الإيمان با للّه واليوم الآخر والعمل الصالح ، فمن أقامها كما أمرت الرسل من أي ملة كاليهود والنصارى والصابئين فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
(2) بيان عموم بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره بالتبليغ العام ، وأنه لا يكلف إلا التبليغ فقط ، ومن حجج رسالته أنه بيّن لأهل الكتاب كثيرا مما كانوا يخفون من كتبهم مما ضاع قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومما كانوا يكتمونه من الأحكام اتباعا لأهوائهم ، وأن هذا الرسول قد عصمه اللّه وحفظه من أن يضره أحد أو يصده عن تبليغ رسالة ربه ، وأننا نهينا عن سؤاله عن أشياء من شأنها أن تسوء المؤمنين إذا أبديت لهم لما فيها من زيادة لتكاليف.
(3) بيان أن اللّه أوجب على المؤمنين إصلاح أنفسهم أفراد وجماعات ، وأنه لا يضرهم من ضل إذا هم استقاموا على صراط الهداية ، فهو لا يضرهم لا فى دنيا ولا دين ، ومن ذلك الوفاء بالعقود التي يتعاقدون عليها فى جميع المعاملات الدنيوية ، وتحريم الاعتداء على قوم بسبب بغضهم وعداوتهم ، والتعاون على البر والتقوى كتأليف الجماعات العلمية والخيرية وتحريم التعاون على الإثم والعدوان ، وتحريم موالاة المؤمنين للكافرين وبيان أن ذلك من آيات النفاق.
(4) تفصيل أحكام الطعام حلاله وحرامه ، وبيان أن التحريم منه إما ذاتى كالميتة وما فى معناها ، وإما لسبب دينى كالذى يذبح للأصنام ، وبيان أن الضرورات تبيح المحظورات.
(5) تحريم الخمر وكل مسكر ، والميسر وهو القمار وما فى حكمه (كالمضاربات فى البورصة).
(6) وجوب الشهادة بالقسط والحكم بالعدل والمساواة بين غير المسلمين والمسلمين ولو للأعداء على الأصدقاء وتأكيد وجوب ذلك فى سائر الأحكام.
(7) بيان تفويض أمر الجزاء فى الآخرة إلى اللّه وحده ، وأن النافع فى ذلك اليوم هو الصدق.
وكان مسك ختامها ذكر الجزاء فى الآخرة بما يناسب أحكامها كلها ، وقد روى أحمد والنسائي والحاكم وصححه ، والبيهقي عن جبير بن نفير قال : حججت فدخلت على عائشة فقالت يا جبير تقرأ المائدة ؟ قلت نعم ، فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه ، وما وجدتم فيها(1/258)
من حرام فحرّموه. وروى أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن عبد اللّه بن عمر قال : آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح. (1)
================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (7 / 67)(1/259)
(6) سورة الأنعام
ليس لهذه السورة إلاّ هذا الاسمُ من عهد رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) روى الطبراني بسنده إلى عبد الله بن عمر : قال رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) نزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة وشيّعها سبعون ألفاً من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد . وورد عن عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وأنس بن مالك ، وجابر بن عبد الله ، وأسماء بنت يزيد بن السَّكن ، تسميتها في كلامهم سورة الأنعام . وكذلك ثبتت تسميتها في المصاحف وكتب التفسير والسنّة .
وسمّيت سورةَ الأنعام لما تكرّر فيها من ذكر لفظ الأنعام ستّ مرات من قوله : ( وجعلوا لله ممّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً إلى قوله إذ وصّاكم الله بهذا ( ( الأنعام : 136 144 ) .
وهي مكيّة بالاتّفاق فعن ابن عبّاس : أنّها نزلت بمكّة ليلاً جملة واحدة ، كما رواه عنه عطاء ، وعكرمة ، والعوفي ، وهو الموافق لحديث ابن عمر عن رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) المتقدّم آنفاً . وروي أنّ قوله تعالى : ( ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي ( ( الأنعام : 52 ) الآية نزل في مدة حياة أبي طالب ، أي قبل سنة عشر من البعثة ، فإذا صحّ كان ضابطاً لسنة نزول هذه السورة . وروى الكلبي عن ابن عباس : أنّ ستّ آيات منها نزلت بالمدينة ، ثلاثاً من قوله : ( وما قدروا لله حقّ قدره ( ( الأنعام : 91 ) إلى منتهى ثلاث آيات ، وثلاثاً من قوله : ( قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم إلى قوله ذلكم وصّاكم به لعلّكم تذّكّرون ( ( الأنعام : 151 ، 152 ) . وعن أبي جحيفة أنّ آية ) ولو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة ( ( الأنعام : 111 ) مدنية .
وقيل نزلت آية ) ومن أظلم ممّن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليّ ( ( الأنعام : 93 ) الآية بالمدينة ، بناء على ما ذكر من سبب نزولها الآتي . وقيل : نزلت آية ) الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه ( ( الأنعام : 20 ) الآية ، وآية ) فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ( ( العنكبوت : 47 ) الآية ، كلتاهما بالمدينة بناء على ما ذكر من أسباب نزولهما كما سيأتي . وقال ابن العربي في ( أحكام القرآن ) عند قوله تعالى : ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرّماً ( ( المائدة : 145 ) الآية أنّها في قول الأكثر نزلت يوم نزول قوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم ( ( المائدة : 3 ) الآية ، أي سنة عشر ، فتكون هذه الآيات مستثناة من مكية السورة ألحقت بها . وقال ابن عطية في تفسير قوله تعالى : ( وما قدروا الله حقّ قدره الآية من هذه السورة ( 91 ) . إن النّقّاش حكى أنّ سورة الأنعام كلّها مدنيّة . ولكن قال ابن الحصّار : لا يصحّ نقل في شيء نزل من الأنعام في المدينة . وهذا هو الأظهر وهو الذي رواه أبو عبيد ، والبيهقي ، وابن مردويه(1/260)
، والطبراني ، عن ابن عبّاس ؛ وأبو الشيخ عن أبَيّ بن كعب . وعن ابن عبّاس أنّها نزلت بمكّة جملة واحدة ودعا رسول الله الكُتّاب فكتبوها من ليلتهم .
وروى سفيان الثوري ، وشريك عن أسماء بنت يزيد الأنصارية : نزلت سورة الأنعام على رسول الله جملة وهو في مسير وأنا آخذة بزمام ناقته إن كادت من ثقلها لتكْسِر عظام الناقة . ولم يعيّنوا هذا المسير ولا زمنه غير أنّ أسماء هذه لا يعرف لها مجيء إلى رسول الله قبل هجرته ولا هي معدودة فيمن بايع في العقبة الثانية حتى يقال : إنها لقيته قبل الهجرة ، وإنّما المعدودة أسماء بنت عمرو بن عدي . فحالُ هذا الحديث غير بيّن . ولعلّه التبس فيه قراءة السورة في ذلك السفر بأنّها نزلت حينئذٍ .
قالوا : ولم تنزل من السور الطوال سورة جملة واحدة غيرها . وقد وقع مثل ذلك في رواية شريك عن أسماء بنت يزيد كما علمته آنفاً ، فلعلّ حكمة إنزالها جملة واحدة قطعُ تعلّل المشركين في قولهم لولا نُزّل عليه القرآن جملة واحدة ( ( الفرقان : 32 ) . توهّماً منهم أنّ تنجيم نزوله يناكد كونه كتاباً ، فأنزل الله سورة الأنعام . وهي في مقدار كتاب من كتبهم التي يعرفونها كالإنجيل والزبور ، ليعلموا أنّ الله قادر على ذلك ، إلاّ أنّ حكمة تنجيم النزول أولى بالمراعاة . وأيضاً ليحصل الإعجاز بمختلف أساليب الكلام من قصر وطول وتوسّط ، فإنّ طول الكلام قد يقتضيه المقام ، كما قال قيس بن خارجة يفخر بما عنده من الفضائل : ( وخطبةٌ من لدُن تطْلُعُ الشمس إلى أن تغرب الخ ) . . .
وقال أبو دؤاد بن جرير الأيادي يمدح خطباء إياد :
يرمون بالخطب الطوال وتارة وحْيُ الملاحظ خيفة الرقباء
واعلم أنّ نزول هذه السورة جملة واحدة على الصحيح لا يناكد ما يذكر لبعض آياتها من أسباب نزولها ، لأنّ أسباب نزول تلك الآيات إن كان لحوادث قبل الهجرة فقد تتجمّع أسباب كثيرة في مدة قصيرة قبل نزول هذه السورة ، فيكون نزول تلك الآيات مسبّباً على تلك الحوادث ، وإن كان بعد الهجرة جاز أن تكون تلك الآيات مدنيّة ألحقت بسورة الأنعام لمناسبات . على أنّ أسباب النزول لا يلزم أن تكون مقارنة لنزول آيات أحكامها فقد يقع السبب ويتأخّر تشريع حكمه .
وعلى القول الأصحّ أنّها مكيّة فقد عدّت هذه السورة الخامسة والخمسين في عدّ نزول السور . نزلت بعد سورة الحجر وقبل سورة الصافات .
وعدد آياتها مائة وسبع وستّون في العدد المدني والمكّي ، ومائة وخمس وستّون في العدد الكوفي ، ومائة وأربع وستون في الشامي والبصري .
أغراض هذه السورة(1/261)
ابتدأت بإشعار الناس بأن حقّ الحمد ليس إلاّ لله لأنّه مبدع العوالم جواهر وأعراضاً فعلم أنّه المتفرّد بالإلهية . وإبطال تأثير الشركاء من الأصنام والجنّ بإثبات أنّه المتفرّد بخلق العالم جواهره وأعراضه ، وخلق الإنسان ونظام حياته وموته بحكمته تعالى وعلمه ، ولا تملك آلهتهم تصرّفاً ولا علماً . وتنزيهُ الله عن الولد والصاحبة . قال أبو إسحاق الإسفرائيني في سورة الأنعام كلّ قواعد التوحيد .
وموعظة المعْرضين عن آيات القرآن والمكذّبين بالدين الحقّ ، وتهديدهم بأن يحلّ بهم ما حلّ بالقرون المكذّبين من قبلهم والكافرين بنعم الله تعالى ، وأنّهم ما يضرّون بالإنكار إلاّ أنفسهم . ووعيدهم بما سيلقون عند نزع أرواحهم ، ثم عند البعث .
وتسفيه المشركين فيما اقترحوه على النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) من طلب إظهار الخوارق تهكّماً .
وإبطال اعتقادهم أنّ الله لقّنهم على عقيدة الإشراك قصداً منهم لإفحام الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) وبيان حقيقة مشيئة الله . وإثبات صدق القرآن بأنّ أهل الكتاب يعرفون أنّه الحقّ .
والإنحاء على المشركين تكذيبهم بالبعث ، وتحقيق أنّه واقع ، وأنّهم يشهدون بعده العذاب ، وتتبرّأ منهم آلهتهم التي عبدوها ، وسيندمون على ذلك ، كما أنّها لا تغني عنهم شيئاً في الحياة الدنيا ، فإنّهم لا يدعون إلاّ الله عند النوائب .
وتثبيت النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وأنّه لا يؤاخذ بإعراض قومه ، وأمرُه بالإعراض عنهم .
وبيان حكمة إرسال الله الرسل ، وأنّها الإنذار والتبشير وليست وظيفة الرسل إخبار الناس بما يتطلّبون علمه من المغيّبات .
وأنّ تفاضل الناس بالتقوى والانتساب إلى دين الله . وإبطال ما شرعه أهل الشرك من شرائع الضلال .
وبيان أنّ التقوى الحقّ ليست مجرّد حرمان النفس من الطيّبات بل هي حرمان النفس من الشهوات التي تحول بين النفس وبين الكمال والتزكية .
وضرب المثل للنبيء مع قومه بمثل إبراهيم مع أبيه وقومه ؛ وكان الأنبياء والرسل على ذلك المثل من تقدّم منهم ومن تأخّر .
والمنّة على الأمة بما أنزل الله من القرآن هدى لهم كما أنزل الكتاب على موسى ، وبأن جعلها الله خاتمة الأمم الصالحة .
وبيان فضيلة القرآن ودين الإسلام وما منح الله لأهله من مضاعفة الحسنات .
وتخلّلت ذلك قوارع للمشركين ، وتنويه بالمؤمنين ، وامتنان بنعم اشتملت عليها مخلوقات الله ، وذكر مفاتح الغيب .(1/262)
قال فخر الدّين : قال الأصوليّون ( أي علماء أصول الدين ) : السبب في إنزالها دفعة واحدة أنّها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوءة والمعاد وإبطال مذاهب المعطّلين والملحدين فإنزال ما يدلّ على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله على قدر حاجاتهم وبحسب الحوادث ، وأمّا ما يدلّ على علم الأصول فقد أنزله الله جملة واحدة .
وهي أجمع سور القرآن لأحوال العرب في الجاهلية ، وأشدّها مقارعة جدال لهم واحتجاج على سفاهة أحوالهم من قوله : ( وجعلوا لله ممّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ( ( الأنعام : 136 ) ، وفيما حرّموه على أنفسهم ممّا رزقهم الله .
وفي ( صحيح البخاري ) أنّ ابن عبّاس قال : إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام ( 140 ) ) قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرّموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلّوا وما كانوا مهتدين . (1)
تمهيد بين يدي السورة
1 - متى نزلت سورة الأنعام؟
سورة الأنعام عدد آياتها خمس وستون ومائة آية وهي أول سورة مكية من طوال المفصل بالنسبة لترتيب المصحف ، وتعتبر بالنسبة لهذا الترتيب السورة السادسة ، فقد سبقتها سور :
الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، وهي سور مدنية باستثناء سورة الفاتحة.
أما ترتيبها في النزول فقد قال العلماء : إنها السورة السادسة والخمسون ، وإن نزولها كان بعد نزول سورة « الحجر ».
ويغلب على الظن أن نزول سورة الأنعام كان في السنة الرابعة من البعثة النبوية الشريفة ، وذلك لأن سورة الحجر التي نزلت قبلها فيها آية تأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يجهر بدعوته وهي قوله - تعالى - فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ .
ومن المعروف تاريخيا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكث يدعو الناس سرا إلى عبادة اللّه زهاء ثلاث سنين ، ثم بدأت مرحلة الجهر بالدعوة في السنة الرابعة من البعثة بعد أن أمره اللّه بأن يصدع بما يؤمر به ، أى : يجهر بما يكلف بتبليغه للناس ، مأخوذ من صدع بالحجة إذا جهر بها.
قال ابن إسحاق عند حديثه عن مرحلة الجهر بالدعوة الإسلامية : « ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به ، ثم إن اللّه - تعالى - أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يصدع
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (7 / 121)(1/263)
بما جاءه منه ، وأن يبادى الناس بأمره ، وأن يدعو إليه ، وكان بين ما أخفى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أمره واستتر به إلى أن أمره اللّه - تعالى - بإظهار دينه ثلاث سنين - فيما بلغني - من مبعثه ، ثم قال اللّه - تعالى - له : فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ .
2 - طبيعة الفترة التي نزلت فيها سورة الأنعام :
قلنا إن سورة الأنعام نزلت - غالبا في السنة الرابعة من البعثة النبوية ، وهذه الفترة من تاريخ الدعوة الإسلامية كانت فترة نضال فكرى عنيف بين الإسلام والشرك ، ففيها بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - يجهر بدعوته ويصارح قريشا برسالته ، ويدعوهم بأعلى صوته إلى الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ويبين لهم بجرأة ووضوح بطلان عقائدهم ، وسخافة تفكيرهم واعوجاجهم عن الطريق المستقيم.
وأخذ المشركون يدافعون عن معتقداتهم بكل وسيلة بعد أن رأوا الدعوة الإسلامية يزداد نورها يوما بعد يوم ، ورأوا أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيدون ولا ينقصون ، ويجهرون بتعاليم دينهم بعد أن كانوا يخفونها ويتحملون في سبيل نشرها الكثير من ألوان التعذيب والترهيب.
وقد صور بعض العلماء طبيعة هذه الفترة التي كانت تجتازها الدعوة الإسلامية عند نزول سورة الأنعام فقال :
« وهذه الفترة من فترات الدعوة الإسلامية كانت فترة عنيفة أشد العنف ، مملوءة بالمقاومة من الجانبين كأعظم ما تكون المقاومة ، فالمشركون مأخوذون بهذا النجاح الذي صارت إليه الدعوة حتى استطاعت أن تستعلن بعد الخفاء ، وأن تتحدى في صوت عال ، ونداء جهير ، بعد ما كان المؤمنون بها يلجئون إلى الشعاب والأماكن البعيدة ليؤدوا صلاتهم ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - ماض فيما أمره به ربه من الصدع بدعوة الحق ، يتلو عليهم ما أنزله اللّه عليه من كتابه ، وفيه إنذار لهم وتفنيد لمعتقداتهم ، وتسفيه لآرائهم ، وإنكار لآلهتهم ، وتهكم بأوثانهم وتقاليدهم البالية.
يومئذ واجهت دعوة الحق أعداءها مسفرة واضحة متحدية ، ووقف هؤلاء الأعداء مشدوهين مضطربين يشعرون في أعمال نفوسهم بصدقها وكذبهم ، ويترقبون يوما قريبا لانتصارها وانهزامهم ، ولا يجدون لهم حيلة إلا المكابرة والمعارضة المستميتة بما درجوا عليه من العقائد الباطلة ، بادعائهم كذب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبزعمهم أن إرسال الرسل من البشر أمر لم يقع من قبل ، وأن اللّه لو شاء إبلاغ عباده شيئا لأنزل إليهم ملائكة ، وإنكارهم البعث والدار الآخرة ، واستماتوا في الدفاع عن عقائدهم وآلهتهم ، ونسوا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - عاش فيهم عمرا طويلا لم يقل فيه يوما قولة كاذبة ، ولم يخن فيه يوما أمانة أؤتمن عليها ، وأنهم لذلك كانوا يلقبونه بالصادق الأمين.(1/264)
لم يذكروا شيئا من ذلك ولم يفكروا فيه ، ولكنهم فكروا فقط في أن الدعوة الجديدة التي استعلنت بعد استخفاء ، وتحدت بعد ما ظنوه بها من الاستخذاء ، يجب أن تموت في مهدها ويجب أن تكتم أنفاسها قبل أن تنبعث حرارة هذه الأنفاس إلى البلاد والقبائل والشعوب.
ورحبت الدعوة الإسلامية بهذا النضال ، وتحملت أعباءه وأثقاله ، وكان ذلك أول النصر ، لأن النور لا يظهر إلا بعد الاحتكاك.
وأخذت سور القرآن في هذه المرحلة تتلاحق ، وأخذت آياتها تتعاون وتتآزر ، وكانت أغراضها متشابهة إلى حد بعيد ، وكان أولها وأحفلها بما نزلت له من أغراض بعد أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإعلان الدعوة والصدع بها ، هو سورة « الأنعام » فقد جمعت كل العقائد الصحيحة ، وعنيت بالاحتجاج لأصول الدين ، وتفنيد شبه الملحدين ، وإبطال العقائد الفاسدة ، وتركيز مبادئ الأخلاق الفاصلة .
وبذلك يتبين لنا أن ما اشتملت عليه سورة الأنعام من مقاصد وأهداف وأحكام ومعتقدات يوافق كل الموافقة طبيعة المرحلة التي كانت تجتازها الدعوة الإسلامية في ذلك الوقت.
3 - أين نزلت سورة الأنعام :
يرى جمهور العلماء أن سورة الأنعام كلها مكية ، ويرى فريق منهم أنها كلها نزلت بمكة ما عدا الآيات 20 ، 23 ، 91 ، 93 ، 104 ، 141 ، 151 ، 152 ، 153.
ولعل الذي حمل أصحاب هذا الرأى على القول بأن هذه الآيات التسع مدنية ورود بعض الروايات بذلك ، وأنها آيات نزلت في بيان أحكام تتعلق بالحلال والحرام من التكاليف العملية ، وهي لهذا كانت أنسب بالمدينة.
والذي تطمئن إليه النفس وعليه المحققون من المفسرين أن سورة الأنعام قد نزلت كلها بمكة جملة واحدة ، ويشهد لما ذهبنا إليه ما يأتى :
(أ) كثرة الآثار التي صرحت بنزولها بمكة دفعة واحدة ، ومن هذه الآثار ما ورد عن ابن عباس أنه قال : لقد نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة وحولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح.
وعن ابن عمر قال : قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : نزلت على سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفا من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد .
(ب) المحققون من المفسرين عند ما بدءوا في تفسير سورة الأنعام صرحوا بأنها جميعها مكية ، وأنها قد نزلت جملة واحدة ، وتجاهلوا قول القائل إن فيها آيات مدنية.
فهذا - مثلا - الإمام ابن كثير ساق في مطلع تفسيره لهذه السورة الروايات التي تثبت أنها مكية ، ولم يذكر رواية واحدة تثبت أن فيها آية أو آيات قد نزلت بالمدينة.(1/265)
وابن كثير - كما نعرف - من الحفاظ النقاد الذين يعرفون كيف يتخيرون الروايات ، وكيف يميزون بين صحيحها وضعيفها.
(ج) الروايات التي اعتمد عليها القائلون بأن تلك الآيات التسع مدنية روايات فيها مقال ، ولم يعتمدها المحققون من العلماء ، فقد نقل السيوطي عن ابن الحصار قوله :
استثنى من سورة الأنعام تسع آيات - مدنية - ولا يصح به نقل ، خصوصا وأنه قد ورد أنها نزلت جملة .
(د) الذي يقرأ سورة الأنعام بتدبر يجد فيها سمات القرآن المكي واضحة جلية ، فهي تتحدث باستفاضة عن وحدانية اللّه ، وعن مظاهر قدرته ، وعن صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته ، وعن الأدلة الدامغة التي تؤيد صحة البعث والثواب والعقاب يوم القيامة ، إلى غير ذلك من المقاصد التي كثر الحديث عنها في القرآن المكي.
ومن هنا كانت سورة الأنعام بين السور المكية ذات شأن كبير في تركيز الدعوة الإسلامية ، تقرر حقائقها ، وتفند شبه المعارضين لها ، واقتضت لذلك الحكمة الإلهية أن تنزل - مع طولها وتنوع آياتها - جملة واحدة ، وأن تكون ذات امتياز خاص لا يعرف لسواها كما قرره جمهور العلماء.
ومن ذلك يتبين أنه لا مجال للقول بأن بعضها من قبيل المدني ، ولا بأن آية كذا نزلت في حادثة كذا ، فكلها جملة واحدة نزلت بمكة لغاية واحدة ، هو تركيز الدعوة بتقرير أصولها والدفاع عنها.
هذه بعض الأدلة التي تجعلنا نرجح أن سورة الأنعام كلها مكية ، وأنها نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة واحدة.
4 - لما ذا سميت بسورة الأنعام؟
الأنعام لغة تطلق على ذوات الخف والحافر من الحيوان ، وهي - الإبل والبقر والغنم - وقد سميت سورة الأنعام بهذا الإسم ، لأنها فصلت الحديث عن هذه الأنواع بطريقة متعددة الجوانب ، متنوعة الأهداف.
وقد تكرر لفظ الأنعام في تلك السورة ست مرات في أربع آيات.
أما الآية الأولى فقد حكى القرآن فيها ما كانوا يفعلونه من قسمتهم الحرث والأنعام إلى قسمين : قسم جعلوه للّه يتقربون به إليه عن طريق إكرام الضيف ومساعدة المحتاج.
وقسم جعلوه لآلهتهم فذبحوه على الأنصاب ، وأنفقوا منها على سدنتها وخدمها ، ثم هم بعد ذلك العمل الباطل لا يعدلون في القسمة ، يجورون أحيانا على القسم الذي جعلوه للّه بينما يتحرزون عن الجور على القسم الذي جعلوه لشركائهم.قال تعالى : وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً ، فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا ، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ .(1/266)
وأما الآية الثانية فقد ورد فيها لفظ « الأنعام » ثلاث مرات ، وقد كشف القرآن فيها عن بعض أعمال المشركين المنكرة ، وهي أنهم جعلوا الأنعام ثلاثة أقسام :
قسما لا يأكل منه عند ذبحه إلا سدنة الأوثان والرجال دون النساء. وقسما يحرم ركوبه كالبحيرة والسائبة والحامى ، وقسما لا يذكرون اسم اللّه عليه عند الذبح وإنما يذكرون أسماء آلهتهم.قال تعالى : وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ ، وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها ، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ ، سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ .
وفي الآية الثالثة تحدث القرآن عن لون من ألوان ظلمهم وجهلهم ، فقد كانوا يجعلون بعض ما في بطون أنعامهم إذا نزل حيّا كان خاصّا بالرجال دون النساء ، وإذا نزل ميّتا فالرجال والنساء فيه شركاء.قال تعالى : وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ ، سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ .
أما الآية الرابعة ، فقد بين القرآن فيها جانبا من نعم اللّه على عباده ، إذ جعل لهم من الأنعام أنواعا تذبح لينتفعوا بلحومها وشحومها وجلودها وأنواعا تحمل أثقالهم إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس.قال تعالى : وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً ، كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ » .
وهناك آيات أخرى سوى هذه الآيات السابقة تناول الحديث فيها أحكاما أخرى تتعلق بالأنعام ، وسنفصل القول فيها عند تفسيرنا لها - بعون اللّه - تعالى - .
5 - مناسبتها لما قبلها :
وقد جرت عادة بعض المفسرين أن يعقدوا مناسبة بين السورة وبين سابقتها ، ولعل أكثرهم توسعا في ذلك الإمام الآلوسى فقد قال : « ووجه مناسبتها لآخر المائدة أنها افتتحت بالحمد والمائدة اختتمت بفصل القضاء وهما متلازمان ، كما قال - سبحانه - وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ .
وقال الجلال السيوطي في وجه المناسبة : « إنه - تعالى - لما ذكر في آخر المائدة لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ على سبيل الإجمال ، افتتح - جل شأنه - هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله ، فبدأ - سبحانه - بذكر خلق السموات والأرض ، وضم - تعالى - إليه أنه جعل الظلمات والنور ، وهو بعض ما تضمنه ما فيهن ، ثم ذكر أنه خلق النوع الإنسان وقضى له أجلا وجعل له أجلا آخر للبعث ، وأنه - جل جلاله - منشئ القرون قرنا بعد قرن ، ثم قال - تعالى - قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلخ.(1/267)
فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرف المكان. ثم قال وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ فأثبت أنه ملك جميع المظروفات لظرف الزمان ، ثم ذكر - سبحانه - خلق سائر الحيوان من الدواب والطير ، ثم خلق النوم واليقظة والموت ، ثم أكثر في أثناء السورة من ذكر الإنشاء والخلق لما فيهن من النيرين والنجوم وفلق الإصباح وفلق الحب والنوى ، وإنزال الماء وإخراج النبات والثمار بأنواعها ، وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات إلى غير ذلك مما فيه تفصيل ما فيهن ».
هذا ، وقد عقد فضيلة الشيخ محمود شلتوت - رحمه اللّه - مقارنة ضافية بين سورة الأنعام وبين ما سبقها من سور مدنية فقال ما ملخصه :
وأما السور الأربع المدنية التالية لسورة الفاتحة - والسابقة لسورة الأنعام - وهي سور :
البقرة ، آل عمران ، النساء ، المائدة ، فهي بحكم مدنيتها تشترك كلها في هدف واحد وهو تنظيم شئون المسلمين بالتشريع لهم باعتبارهم أمة مستقلة ، وبإرشادهم إلى مناقشة أهل جوارهم فيما يتصل بالعقيدة والأحكام ، وإلى الأساس الذي يرجعون إليه ويحكمونه في التعامل معهم في حالتي السلم والحرب ، وقلما تعرض هذه السور المدنية إلى شيء من شئون الشرك ومناقشة المشركين.
وهذه السور مع اشتراكها في أصل الهدف العام ، تختلف قلة وكثرة فيما تتناوله من التشريع الداخلى الخاص بالمسلمين ، والتشريع الخارجي الذي يرتبط بهم مع من يخالفهم في الدين.
إن سورة البقرة قد نزلت في أوائل الهجرة ، وقد صار للمسلمين بالهجرة كيان خاص وجوار خاص ، وبذلك كان أمامها هدفان :
الأول : نظم يأخذ بها المسلمون أنفسهم في عباداتهم ومعاملاتهم : شخصية ومدنية وجنائية.
والهدف الآخر : إرشاد إلى طريق المناقشة فيما كان مجاوروهم يثيرونه حول الدين والدعوة من شبه وتشكيكات ، وقد تجلى هذان الهدفان بصورة واضحة في سورة البقرة ، برز أحد الهدفين في نصفها الأول ، وبرز الهدف الثاني في نصفها الأخير ، واقرأ في الأول على وجه عام من قوله - تعالى - يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (الآية 40) إلى قوله - تعالى - : ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (الآية 176).
واقرأ في الهدف الثاني قوله - تعالى - : لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ (الآية 177) إلى نهاية الآية 283 : وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ.
وقد عرضت في هذا السبح الطويل بعد أن أجملت أوصاف الصادقين في إيمانهم المتقين في أعمالهم لجملة من الأحكام التي تسوس الأمة فيما بينها.(1/268)
عرضت القصاص ، والوصية ، والصيام ، والقتال ، وبعض أحكام الحج. إلخ.
ثم تجيء سورة آل عمران ، فتصرف عناية خاصة إلى مناقشة النصارى في قضية الألوهية ، وإلى كشف بعض صور التزييف التي كان يصطنعها أهل الكتاب إخفاء لحق الإسلام ودعوته.
ثم ترشد المسلمين إلى ما يحفظ عليهم شخصيتهم ، ويقيهم شر الوقوع في مخالب الأعداء وترسم لهم في ذلك الطرق الحكيمة التي تجعل منهم قوة الجهاد في تأييد الحق وهزيمة الباطل.
وعلى أساس من مشاركة سورة النساء لزميلاتها المدنيات في أصل الهدف تناولت الأمرين :
تنظيم جماعة المسلمين ، ومناقشة أهل الكتاب في موضوع الألوهية والرسالة ، غير أن عنايتها بجانب التنظيم كانت أشد من عنايتها بجانب المناقشة.
ثم تجيء سورة المائدة فتأخذ سبيل أخواتها أيضا ، فتشرع للمسلمين في خاصة أنفسهم ، وفي معاملة من يخالطون من أهل الكتاب ، مع الإرشاد إلى طرق محاجتهم والتنبيه على أخطائهم وتحريفهم للكلم عن مواضعه. وتذكيرهم بسيئاتهم مع أنبيائهم. وقد استغرق ذلك معظم السورة.
أما سورة الأنعام فإنها لم تعرض لهدف من الأهداف الأصلية التي تميزت بها السور الأربع المدنية قبلها.
فهي أولا : لم تعرض لشيء من الأحكام التنظيمية لجماعة المسلمين ، كالصوم والحج في العبادات ، والعقوبات في الجنايات ، والمداينة والربا في الأموال ، وأحكام الأسرة في الأحوال الشخصية.
وهي ثانيا : لم تذكر في قليل ولا كثير شيئا يتعلق بالقتال ومحاربة الخارجين عن دعوة الإسلام.
وهي ثالثا : لم تتحدث في شيء ما عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى وكذلك لم تتحدث عن طوائف المنافقين ولا عن أخلاقهم السيئة ومسالكهم المظلمة.
وهي رابعا : لا نجد فيها مع ذلك كله نداء واحدا للمؤمنين باعتبارهم جماعة تنتظمها وحدة الإيمان ، لا نجد فيها شيئا من هذا كله كما وجدناه جميعا في السور الأربع السابقة ، وإنما نجد الحديث فيها يدور بشدة وقوة حول العناصر الأولى للدعوة ، ونجد سلاحها في ذلك ، الحجة المتكررة ، والآيات المصرفة ، والتنويع العجيب في طرق الإلزام والإقناع : تذكر توحيد اللّه في الخلق وفي الإيجاد ، وفي العبادة والتشريع ، وتذكر موقف المكذبين وتقص عليهم ما حاق بأمثالهم السابقين ، وتذكر شبههم في الرسالة ، وتذكر يوم البعث والجزاء.
ولعلنا بعد هذا نلمس الفرق الجلى الواضح بين منهج سورة الأنعام ، ومنهج السور الأربع المدنية قبلها » .
6 - عرض عام لسورة الأنعام :(1/269)
عند ما نفتح كتاب اللّه لنتدبر ما اشتملت عليه سورة الأنعام من مقاصد حكيمة ، وتوجيهات نافعة ، نراها في مطلعها قد ابتدأت بحمد اللّه والثناء عليه وبيان استحقاقه لذلك ، لأنه - سبحانه - هو الخالق للسموات والأرض وما بينهما ، وهو العليم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
قال تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا ، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ. ثم تحدثت السورة الكريمة عن طبائع المعاندين ، وأنذرتهم بسوء المصير إذا ما استمروا في عتوهم وجحودهم ، وساقت لهم - ليعتبروا ، ما حل بالمكذبين الذين سبقوهم والذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا ، فعليهم أن يفيئوا إلى رشدهم حتى لا يصيبهم ما أصاب المكذبين من قبلهم.استمع إلى القرآن وهو يصور هذه المعاني بأسلوبه البليغ المؤثر ، فيقول تعالى : وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ ، فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ، ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ.
ثم تأخذ السورة بعد ذلك في تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - فترسم صورة عجيبة لمكابرة المشركين وأنهم قد غدوا - لانطماس بصيرتهم واستيلاء الجحود على قلوبهم - لا يجدي معهم توجيه أو دليل ، حتى أنهم لو نزل عليهم كتاب من السماء فلمسوه بأيديهم ، وقرءوه بأعينهم ، وعرفوا منه صدق نبوتك يا محمد ، لقالوا بعد كل ذلك إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ.
قال تعالى : وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
فإذا ما وصلنا إلى الربع الثاني من سورة الأنعام ، ألفيناها تسوق حشودا من البراهين الدالة على وحدانية اللّه وقدرته بطريقة تحمل الترغيب تارة والترهيب أخرى ، وبأسلوب يسكب في القلوب السكينة والطمأنينة ، ويقنع العقول السليمة بأن المستحق للعبادة والخضوع إنما هو اللّه وحده.قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، قُلْ لِلَّهِ ، كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ(1/270)
الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى . قُلْ لا أَشْهَدُ. قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ.
ثم ذكرت السورة بعد ذلك حال المكذبين بيوم القيامة. فوضحت أنهم في هذا اليوم الهائل الشديد ينكرون أنهم كانوا مشركين ولكن هذا الإنكار لن ينفعهم شيئا لأن الذي يخاطبهم هو العليم الخبير.
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا : وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.
ثم تمضى الآيات في الحديث عن مشاهد يوم القيامة ، فتصور حسرتهم وندمهم عند ما يقفون على النار التي كانوا يكذبون بها في الدنيا ، وعند ما يقفون أمام ربهم الذي كانوا يشركون معه آلهة أخرى فتقول : وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ ، قالَ : أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ.
ثم بعد هذا التصوير المؤثر لأحوال المشركين يوم القيامة ، يتركهم القرآن مؤقتا ليوجه خطابه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مسليا له ، ومثبتا لقلبه ، وداعيا إياه إلى الصبر على تحمل الرسالة بدون كلل أو ملل ، وإلى التأسى بمن سبقوه من أولى العزم من الرسل.
قال تعالى : قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ، فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ، وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ. وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ.
أما الربع الثالث من السورة الكريمة فقد افتتح ببيان أن الذين يستجيبون لدعوة الحق إنما هم الذين يسمعون ويتعظون وهم الأحياء حقا ، أما من ماتت قلوبهم فصارت لا تتفتح للحق ، ولا تتقبل الهداية فإن مصيرهم إلى اللّه ، فهو - سبحانه وتعالى - سيجازيهم بسبب جحودهم وعنادهم ومطالبتهم لنبيهم بالمطالب المتعنتة التي لا فائدة من ورائها.قال تعالى : نَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ، وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ،(1/271)
ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وَقالُوا : لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ. قُلْ : إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
ثم تدعوهم السورة بعد ذلك بأسلوب تلقيني إنذارى إلى التفكر والتدبر في مظاهر قدرة اللّه وتبين لهم بطريقة منطقية مقنعة أن اللّه وحده هو القادر على سلب أسماعهم وأبصارهم ، وهو القادر على إنزال العذاب بهم أو رفعه عنهم. استمع إلى القرآن الكريم وهو يسوق هذه المعاني بأسلوبه الفريد فيقول : قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ ، أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ، فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ.
ثم يقول : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ.
ثم وضحت السورة أن وظيفة الرسل إنما هي التبشير للمتقين والإنذار للمكذبين وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل لهم إنى أملك خزائن الأرض ، أو إنى أعلم الغيب ، أو إنى ملك من الملائكة. وإنما قال لهم : إنى بشر مثلكم أتبع ما يوحى إلى من ربي ، والناس مختلفون بعد ذلك في تلقى نور الوحى ، وجزاؤهم على حسب حالهم وعملهم ، فلا يستوي المحسن والمسيء كما لا يستوي الأعمى والبصير : قال تعالى : قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ ، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ.
ثم تمضى السورة في سرد توجيهاتها وحكمها فتسوق البشارة للمؤمنين الذين اقترفوا بعض السيئات ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ، كما تسوق الإنذار الحاسم للمشركين الذين لم يتبعوا الطريق القويم فتقول : وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ، كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ، أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ.
ثم يمضى السياق مع المكذبين المستعجلين بالعذاب فيطلعهم ويطلع غيرهم في الربع الرابع من السورة على صورة شاملة لعلم اللّه الواسع ، وقدرته النافذة ، وحكمته الحكيمة ، ويطوف بهم في مجاهل الغيب الذي لا يعلمه إلا هو ، وفي عالم البر والبحر الذي لا يخرج منه شيء عن إرادته ، وفي ظلمات الأرض المخبوءة التي لا يحيط بها إلا علمه ، ثم يريهم كيف أنهم محكومون بإرادته. وأن حركاتهم وسكناتهم مردها إليه ، وأنهم في ساعة الشدة والكرب لا يلوذون إلا بحماه.(1/272)
تدبر كتاب اللّه وهو يحكى كل ذلك بطريقته المقنعة للعقل والعاطفة فيقول : وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها ، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ، ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ، وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ، حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ، لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ، انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ.
وبعد هذا البيان الذي تعددت مظاهر عظاته وعبره ، وتنوعت ألوان هداياته وإرشاداته اتجه القرآن بالخطاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقول له مسليا ومثبتا : إن قومك قد كذبوك مع أن ما معك هو الحق المبين قل لهم :
لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.
ثم يأمره ويأمر كل من يتأتى له الخطاب بالإعراض عن الجاهلين الذين يخوضون في آيات اللّه بغير علم فيقول : وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
ثم تبدأ السورة في الرابع الخامس منها جولة جديدة لتثبيت العقيدة السليمة فتسلك طريق القصة ، وتتخذ من إبراهيم أبى الأنبياء نموذجا لاستقامة الفطرة ، وسلامة التفكير وحسن الإدراك ويقظة العقل ، فقد رأى إبراهيم - عليه السلام - بفطرته النقية أن الأصنام لا يعقل أن تكون آلهة. وخاطب أباه وقومه بذلك ، واعتبرهم بهذا الإشراك في ضلال مبين ، ثم اتجه إلى التعرف على الإله الحق فتخيله في كوكب ، ولكنه حين أفل وزال قال : لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ لأن الإله الحق لا يغيب ولا يزول. ثم ظن الألوهية في ذلك القمر الذي ينسكب نوره في الوجود فيضيء الليل البهيم ، ولكنه رأى القمر - أيضا - يأفل ويغيب فأعرض عن اتخاذه إلها والتمس من الإله الحق أن يهديه إلى الصراط المستقيم.
فلما أصبح الصباح ورأى الشمس وقد أشرقت وعم ضوؤها الآفاق قال : هذا رَبِّي لأنها أكبر مصادر الضوء ، فلما غابت الشمس أدرك بفطرته السليمة أن الإله لا يغيب ولا يكون شيئا محسوسا ، فقرر البراءة من الشرك ، واتجه إلى الخالق الحق الذي تدل آثاره على وجوده وعلى مخالفته لمخلوقاته فقال : إِنِّي(1/273)
وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. ثم أخذ بعد ذلك يجادل قومه ويرشدهم إلى الصراط المستقيم ، ويقيم لهم الأدلة على بطلان معتقداتهم.
تأمل معى - أيها القارئ الكريم - تلك الآيات الكريمة التي تحكى كل هذه المعاني بأسلوبها البديع فتقول : وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً ، إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي ، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي ، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ ، فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
ثم مضت السورة الكريمة في الحديث عن رسل اللّه الذين آتاهم اللّه الحجة على أقوامهم ، وختمت الحديث عنهم بالثناء عليهم ووجوب الاقتداء بهم في هديهم وسلوكهم.
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ، فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ.
وبعد هذا القصص المذكر ، والتوجيه المنبه ، والتدليل الواضح على وحدانية اللّه وقدرته ساقت لنا السورة في الربع السادس منها حشودا متنوعة من مظاهر قدرة اللّه ومن نعمه التي لا تحصى على عباده. إنها هنا توقفنا أمام هذا الكون الرائع البديع لتقول لنا : انظروا ماذا في السموات والأرض ، ثم اتجهوا بالعبادة والخضوع إلى اللّه رب العالمين ، فهو الذي فلق الحب فكان منه النبات ، وفلق النوى فكان منه الشجر ، وهو الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، وهو الذي يأتيكم بالضياء بعد الليل المظلم لكي تبتغوا من فضله ، ويأتيكم بالليل بعد النهار لكي تسكنوا فيه بعد طول الكدح والعناء ، وهو الذي يسير الشمس والقمر بتقدير دقيق وحساب لا يتخلف ، وهو الذي زين السماء بالنجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ، وهو الذي أوجدكم جميعا من نفس واحدة لها مستقر في أصلاب الرجال ومستودع في أرحام النساء ، وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرج به نبات كل شيء. لأن الماء قوام الحياة.
استمع إلى القرآن وهو يحكى كل هذه النعم الدالة على قدرة اللّه وفضله فيقول : إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى ، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ، ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ(1/274)
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ ، انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ، إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
وبعد أن ساق القرآن كل هذه النعم التي أسبغها اللّه على الناس ، والتي من شأنها أن تجعلهم يخصونه بالعبادة والاستعانة ، بعد كل ذلك صرح بأنه - مع كل هذه النعم - أضحى الكثيرون من خلقه يشركون معه آلهة أخرى ، ويزعمون أن له بنين وبنات.
ولقد رد القرآن على هؤلاء الجاحدين بالحجة البالغة التي تدمغ باطلهم وتخرس ألسنتهم ، وتنزه الخالق - عز وجل - عما قالوه وافتروه بغير علم فقال : وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.
ثم تتابع في الربع السادس منها حديثها عن المكابرين الذين لم يكتفوا بالقرآن معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل طلبوا منه - على سبيل التعنت - معجزات أخرى حسية ، فتحكى السورة أقوالهم وترد عليهم بما يفضح أكاذيبهم ، لأنهم لعنادهم وجحودهم لو أن اللّه - تعالى - أجاب لهم مطالبهم ما كانوا ليؤمنوا ، إذ هم لا تنقصهم الآيات الدالة على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما الذي ينقصهم هو القلب المنفتح للحق ، والنفس المتقبلة للهداية.قال تعالى : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها ، قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ ، وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ.
ثم تستطرد السورة الكريمة فتحكى بعض رذائل المشركين في مآكلهم وذبائحهم ، وتنهى المؤمنين عن الأكل من الذبائح التي لم يذكر اسم اللّه عليها إلا في حالة الاضطرار ، ثم تغرس فيهم خلق الحياء من اللّه فتأمرهم أن يتركوا الفواحش ما ظهر وما بطن ، ثم تبين لهم أن المشركين سيثيرون الشكوك والشبهات حول عقيدتهم فعليهم أن يهملوا مجادلاتهم وأن يتركوهم في طغيانهم يعمهون : قال تعالى : فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ، وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ ، إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ، وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ ، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ.(1/275)
ثم تضرب السورة الأمثال للكفر والإيمان ، فتشبه الكفر بالموت وتشبه الإيمان بالحياة ، فكما أنه لا يتساوى الميت مع الحي ، فكذلك لا يتساوى الضال الذي هو كالميت مع المؤمن الذي يحيا حياة طيبة وله نور يمشى به في الناس ، ثم تبين أنه من دأب الجاحدين والحاقدين محاربة الحق ، وأنه ليس بغريب أن يحارب زعماء قريش الدعوة الإسلامية لأنهم يحسدون صاحبها على ما آتاه اللّه من فضله ، ويطلبون أن تكون النبوة فيهم مع أن النبوة هبة من اللّه يهبها لمن يشاء من عباده ، وأنهم بسبب هذا الحقد سيصيبهم عذاب شديد من اللّه - عز وجل -.
قال تعالى : أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ، كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها ، وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ ، كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ.
فإذا ما وصلنا إلى الربع الثامن من سورة الأنعام ، رأيناها تعرض مشهدا من مشاهد يوم القيامة ، تعرض مشهد الحشر للجن والإنس وهم يتناقشون ويتلاومون ويتحسرون ، ولكن ذلك لن يفيدهم لأنهم قد وسوس بعضهم إلى بعض زخارف من الأباطيل والأكاذيب. تعرض مشهدهم عند ما يقفون أمام ربهم فيسألهم : لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
؟ وهنا لا يملكون ، إلا الشهادة على أنفسهم بأن الرسل الكرام قد بشروهم وأنذروهم ، ولكن الشيطان هو الذي استحوذ عليهم فجعلهم يستحبون العمى على الهدى.
استمع إلى القرآن الكريم وهو يصور هذا المشهد بأسلوبه الرائع فيقول : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ ، وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ.
ومع أن السورة الكريمة قد تعرضت - فيما سبق منها - بصورة موجزة للأباطيل التي كان يتبعها المشركون في ذبائحهم ومآكلهم ومشاربهم ، إلا أنها هنا - في أواخر الربع الثامن وفي معظم الربع التاسع(1/276)
- قد أفاضت القول في استعراض رذائل المشركين التي تتعلق بنذورهم ومطاعمهم وذبائحهم وما أحلوه وما حرموه ، وذلك لأن السورة الكريمة تريد أن تنقى العقيدة الإسلامية من كل ما كان سائدا في الجاهلية من معتقدات باطلة ، وأفعال قبيحة ، وتقاليد وثنية موروثة ، وعادات جاهلية مرذولة ، فتحدثت عن أوهامهم التي منها أنهم جعلوا للّه مما خلق نصيبا وجعلوا لآلهتهم نصيبا آخر ، ثم هم بعد ذلك لا يعدلون في قسمتهم مع بطلانها ، بل تارة يأخذون من نصيب اللّه الذي هو للفقراء فيجعلونه لسدنة أصنامهم وخدامها. ومنها أن يعضهم كانوا يقتلون أولادهم سفها بغير علم لأن الشياطين زينت لهم ذلك. ومنها أنهم شرعوا لأنفسهم أحكاما ما أنزل اللّه بها من سلطان.
ولقد حكى القرآن بعض هذه الرذائل التي كانت متفشية فيهم ، ووبخهم عليها ونهى المؤمنين عن سلوك مسلكهم فقال : وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا ، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ.
ثم قال : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ.
ثم انتقلت السورة بعد ذلك - في الربع التاسع منها - إلى الحديث عن الطيبات التي أحلها اللّه لعباده في مأكلهم ومشربهم ، فذكرت ألوانا من النعم التي خلقها اللّه وأنشأها لعباده ، فقد أنشأ - سبحانه - الجنات المعروشات أى المرفوعات على ما يحملها كالأعناب وما يشبهها ، وأنشأ الجنات غير المعروشات كالبرتقال وغيره ، كما أنشأ الزروع والأشجار المختلفة الأنواع والثمار.
وذلك كله لكي يقبل الناس على عبادة خالقهم ، ويشكروه على نعمه التي لا تحصى.
قال تعالى : وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ ، كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.
ثم أخذت السورة تناقش المشركين فيما أحلوه وحرموه من الأنعام بأسلوب منطقي رصين ، يقيم عليهم الحجة ، ويكشف عن سخافة تفكيرهم وتفاهة عقولهم ، واتباعهم خطوات الشيطان في تحريم بعضها وتحليل البعض الآخر ، فهذه الأنعام ثمانية أزواج ، من الضأن اثنان ، ومن المعز اثنان ، ومن الإبل اثنان ، ومن البقر اثنان ، فلما ذا حرم المشركون على أنفسهم بعضها دون بعض؟ إن كان التحريم للأنوثه فعليهم(1/277)
أن يحرموا جميع الإناث ، وإن كان للذكورة فعليهم أن يحرموها ، إذا فتحريمهم لبعض الذكور دون بعض يدل على ضلال في التفكير ، وجهالة في الأحكام ، وافتراء على اللّه بغير علم.
استمع إلى القرآن وهو يحكى أوهامهم ثم يرد عليها بما يدمغها فيقول : ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ، قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ ، نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ ، وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، ثم صرحت السورة الكريمة أن ما حرمه اللّه على اليهود من المطاعم كان بسبب بغيهم ، وقساوة قلوبهم ، وأنهم وأمثالهم - الذين يتنصلون من تبعة الضلال ويحيلونها على مشيئة اللّه - كاذبون فيما يزعمون ، وأنهم يهرفون بما لا يعرفون ، وإلا فأين دليلهم على هذا التنصل؟ وأين حجتهم على أن اللّه قد حرم هذا وأحل هذا؟
لقد حكى القرآن مزاعمهم ثم فندها بالبراهين الدامغة ، والحجة البالغة فقال : وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ ، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا ، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ. قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا ، فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.
فإذا ما انتهينا إلى الربع العاشر - والأخير - من سورة الأنعام رأيناها تخاطب أولئك الذين أحلوا لأنفسهم ما حرمه اللّه وحرموا عليها ما لم يأذن به فتقول لهم ولغيرهم « تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم » ثم تسوق عشر وصايا رسمت للإنسان طريق علاقته بربه ، ووضعت الأساس المكين الذي يبنى عليه صرح الأسرة الفاضلة التي منها تتكون الأمة القوية الناجحة في الحياة ، وأوصدت منافذ الشرور والآثام التي تصيب المسلم في نفسه أو ماله أو عرضه ثم ذكرت أهم المبادئ التي تسمو بالمحافظة عليها الحياة الاجتماعية الكريمة ، وختمت هذه الوصايا ببيان أنها هي الصراط المستقيم الذي يجب على كل إنسان أن يتبع هداه حتى لا يزل أو يضل.
استمع إلى القرآن وهو يسوق هذه الوصايا الحكيمة فيقول : قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ، وَلا تَقْرَبُوا(1/278)
الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ، وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ، وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
وبعد أن ساقت السورة الكريمة هذه الوصايا الحكيمة اتجهت في ختامها إلى دعوة الناس للعمل بكتاب اللّه الذي أنزله ليكون هداية ورحمة لهم ، وأنذرت الذين يعرضون عن هديه الحكيم بسوء العذاب ، وحثت كل عاقل على المبادرة إلى الإيمان باللّه من قبل أن يأتى يوم لا ينفع فيه الإيمان ، ولا تنفع فيه الأعمال ، لأنه يوم جزاء وحساب ، وأمرت في ختامها كل مسلم بأن يخلص عمله للّه ، وأن يحمده على هدايته إياه إلى طريق الحق والرشاد ، وبينت منزلة الإنسان في هذا الوجود وحضته على أن يكون بقوله وعمله أهلا لهذه المنزلة السامية حتى ينال رضا اللّه.
وقد ساقت السورة في ختامها كل هذه المعاني بأسلوب ساحر يخلب الألباب ، ويرقق القلوب ، ويصفى النفوس ، ويشيع في وجدان المؤمن الأنس والبهجة والخوف والرجاء.
قال تعالى : مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ، إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
هذه هي أهم المقاصد التي اشتملت عليها سورة الأنعام ، ومنها نستخلص أن الأغراض الرئيسية التي استهدفتها السورة الكريمة تتركز فيما يلي :
(أ) إقامة الأدلة على وحدانية اللّه وقدرته ، وأنه سبحانه - هو المستحق للعبادة والخضوع ، وأن شريعته وحدها هي التي يجب أن تكون مرجعنا في كل ما يتعلق بعبادتنا ومعاملاتنا وسائر شئوننا.
(ب) إقامة الأدلة على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته ، مع بيان وظيفته وتسليته عما يلاقيه من أعدائه.
(ج) إقامة الأدلة على أن يوم القيامة حق ، وعلى أن الناس سيحاسبون فيه على أعمالهم ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.(1/279)
(د) تفنيد الشبهات التي أثارها المشركون حول هذه الأمور الثلاثة السابقة بأسلوب يقنع العقول ، ويهدى القلوب ، ويرضى العواطف ، ويحمل العقلاء على المسارعة إلى الدخول في هذا الدين عن طواعية واختيار.
7 - من فضائل سورة الأنعام ومزاياها :
تكاثرت الروايات في بيان فضائل سورة الأنعام وأنها قد نزلت مشيعة بالملإ العظيم من الملائكة ، كما تكلم العلماء عن المميزات التي تميزت بها هذه السورة في عرضها للحقائق التي اشتملت عليها.
وفي ذلك يقول الإمام الرازي : هذه السورة اختصت بنوعين من الفضيلة.
أحدهما : أنها نزلت دفعة واحدة.
والثاني : أنها شيعها سبعون ألفا من الملائكة ، والسبب في ذلك أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين » .
ويقول الإمام القرطبي : (هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ، ومن كذب بالبعث والنشور ، وهذا يقتضى إنزالها جملة واحدة ، لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة ، وعليها بنى المتكلمون أصول الدين ..).
ويقول فضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت :
ويجدر بنا أن نلفت النظر إلى أن سورة الأنعام قد عرضت ما عرضت في أسلوبين بارزين لا نكاد نجدهما بتلك الكثرة في غيرها من السور :
أما الأسلوب الأول فهو أسلوب التقرير ، فهي تورد الأدلة المتعلقة بتوحيد اللّه وتفرده بالملك والتصرف ، والقدرة والقهر ، في صورة الشأن المسلم الذي لا يقبل الإنكار أو الجدل ، وتضع لذلك ضمائر الغائب عن الحس الحاضر في القلب ، وتجرى عليه أفعاله وآثار قدرته ونعمته البارزة للعيان ، والتي لا يمارى قلب سليم في أنه مصدرها ومفيضها وصاحب الشأن فيها :
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا ، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ.
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ.
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ.
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ .. ألخ هذا هو أحد الأسلوبين.
أما الأسلوب الثاني فهو أسلوب تلقين الحجة ، والأمر بقذفها في وجه الخصم حتى تأخذ عليه سمعه ، وتملك عليه قلبه ، وتحيط به من جميع جوانبه فلا يستطيع التفلت منها ، ولا يجد بدا من الاستسلام لها.(1/280)
ففي حجج التوحيد والقدرة يقول : قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ ، كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ؟ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ.
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ.
وفي حجج الوحى وبيان مهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن الرسالة لا تنافى البشرية وفي إيمان الرسول بدعوته واعتماده فيها على اللّه ، وعدم اكتراثه بهم ، أو انتظار الأجر منهم يقول.
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ.
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
وفي وعيدهم على التكذيب يقول : قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.
هذان الأسلوبان : (هو كذا) و(قل كذا) قد تناوبا معظم ما تضمنته هذه السورة من الحجج وقضايا التبليغ ، وهما وإن جاءا في غيرها من سور القرآن إلا أنهما وخاصة الأسلوب الثاني وهو أسلوب (قل كذا) لم يوجد في غيرها بهذه الكثرة التي نراها في هذه السورة ، وهما بعد ذلك :
أسلوبان من أساليب الحجة القوية التي تدل على قوة المعارضين وإسرافهم في المعارضة ، وأنهم بحالة تستوجب تلك الشدة التي تستخرج الحق من نفوسهم ..
ويدل الأسلوبان من جهة أخرى على أنهما صدرا في موقف واحد ، وفي مقصد واحد ، لخصم واحد بلغ من الشدة والعتو مبلغا استدعى من القوى القاهر تزويد المهاجم بعدة قوية تتضافر أسلحتها في حملة شديدة يقذف بها في معسكر الأعداء فتزلزل عمده ، وتهد من بنيانه فيخضع للتسليم بالحق الذي يدعى إليه.
ومن هنا كانت سورة الأنعام بين السور المكية ، ذات شأن كبير في تركيز الدعوة الإسلامية ، تقرر حقائقها ، وتفند شبه المعارضين لها ، واقتضت لذلك الحكمة الإلهية أن تنزل - مع طولها وتنوع آياتها - جملة واحدة وأن تكون ذات امتياز خاص لا يعرف لسواها كما قرره جمهور العلماء اهـ . (1)
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (5 / 5)(1/281)
في السورة فصول ومشاهد متنوعة عما كان يقع بين النبي - صلى الله عليه وسلم - والكفار من مناظرات. وقد حكي فيها تعجيزهم وما كان يلهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من همّ وغمّ من جرّائها. وفيها تنديدات وإنذارات قاصمة للكفار وبخاصة لزعمائهم على مواقف المكابرة والعناد التي يقفونها والأدوار الخبيثة التي يقومون بها. واستشهاد بالذين أوتوا الكتاب على صحة رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلة القرآن باللّه وشهادتهم بذلك. وفيها تقريرات عديدة عن عظمة اللّه تعالى وقدرته وشمول حكمه وبديع نواميس كونه.
وفيها فصول وصور عن عقائد العرب ونذورهم وتقاليدهم في الأنعام والحرث وقتل الأولاد والذبائح ، وحجاج في صددها بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين الكفار وفيها مجموعة رائعة من الوصايا في التوحيد ومكارم الأخلاق وحملة على الذين يتبعون الأهواء.
والسورة من أمهات السور الجامعة الرائعة ، وقد روى ابن كثير بخاصة وغيره من المفسرين مثل البغوي والطبرسي والخازن والزمخشري أحاديث عن أصحاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في صدد خطورة هذه السورة ونزولها منها عن ابن عباس قال :
«نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح» وعن أسماء بنت يزيد قالت : «نزلت سورة الأنعام على النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة واحدة وأنا آخذة بزمام ناقته ، إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة». وليس شيء من هذه الأحاديث واردا في كتب الصحاح بل ولم يرو الطبري الذي كان أقدم وأكثر المفسرين استيعابا للمأثور منها شيئا. ومع ذلك فيتبادر لنا أنها تدل على ما كان من ذكريات خطورة شأن السورة حين نزولها. وفصول السورة منسجمة متلاحقة وهذا يلهم بحد ذاته أن تكون نزلت متتابعة إن لم تكن نزلت دفعة واحدة.
والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن الآيات [20 و22 و91 و93 و114 و141 و152 و153] مدنيات. وروى البغوي عن ابن عباس أن الآيات [91 و92 و93 و151 و152 و153] مدنيات. وسياق هذه الآيات وفحواها وانسجامها مع ما قبلها وبعدها على ما سوف ننبه عليه في مناسباتها يسوغ الشك في هذه الروايات وترجيح مكية الآيات واللّه أعلم. (1)
سورة الأنعام مكية وهي مائة وخمس وستون آية ، وهي السورة السادسة من القرآن الكريم.
تسميتها :
تسمى سورة الأنعام ، لورود ذكر الأنعام فيها : وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً .. وَقالُوا : هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ .. [الآيتان : 138 ، 139].
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (4 / 63)(1/282)
نزولها وفضلها :
نزلت جملة واحدة لاشتمالها على أصول الاعتقاد ، قال ابن عباس : «نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة ، حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح»
وروى ابن عمر رضي اللّه عنه أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : «نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة ، وشيّعها سبعون ألفا من الملائكة ، لهم زجل بالتسبيح والتحميد»
والسبب فيه أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد ، وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين. ولكن لا مانع من أن يكون بعض آياتها مدنيا ، ثم أمر النّبي - صلى الله عليه وسلم - بوضعه في موضعه من السورة.
مناسبتها لما قبلها :
تضمنت كل من سورتي المائدة والأنعام محاجة أهل الكتاب في مواقفهم وعقائدهم ، كما ذكر فيهما أحكام المطعومات المحرّمة والذبائح ، والرد على أهل الجاهلية بتحريم بعض الأنعام تقرّبا إلى الأوثان.
ما اشتملت عليه :
قال العلماء : هذه السورة أصل في محاجّة المشركين ، وغيرهم من المبتدعين ، ومن كذب بالبعث والنّشور ، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجّة ، وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة ، وعليها بنى المتكلّمون أصول الدّين لأن فيها آيات بيّنات تردّ على القدريّة «1».
هذه السّورة شأنها كشأن السّور المكيّة عنيت بأصول العقيدة والإيمان : وهي إثبات الألوهية ، والوحي والرّسالة ، والبعث والجزاء.
وتعتمد في ترسيخ العقيدة بهذه الأصول على أسلوبي التّقرير والتّلقين.
أما أسلوب التّقرير : فهو يعرض أدلة وجود اللّه وتوحيده في صورة المسلّمات البديهية ، بالاعتماد على التصريح بالخلق للّه تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ .. أو بضمير الغائب : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ...
وأما أسلوب التلقين : فهو إيراد الحجج بتعليمها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتلقينها إياه لعرضها على الخصوم ، وذلك بطريق السؤال والجواب ، مثل : قُلْ : لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، قُلْ : لِلَّهِ ، كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ قُلْ : أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ : اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ وَقالُوا : لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ، قُلْ : إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً ...
ومجمل ما اشتملت عليه هذه السورة هو ما يأتي :(1/283)
1 - إثبات أصول الاعتقاد عن طريق الإقناع والتأثير والمناظرة والجدل ، والجواب عن سؤال ، كوجود اللّه وتوحيده وصفاته وآياته في الأنفس والآفاق ، وتأثير العقيدة في العمل.
2 - إثبات النبوة والرسالة والوحي والرد على شبهات المشركين بالأدلة العقلية والعلمية والحسية.
3 - إثبات البعث والحساب والجزاء على الأعمال يوم القيامة ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
4 - تبيان أصول الدين والأخلاق والآداب الاجتماعية أو الوصايا العشر المقررة في كل رسالة إلهية.
5 - الدين من عهد آدم إلى محمد عليهما السلام واحد في أصله ووسائله وغاياته ، فتجزئته ، والإيمان ببعضه وترك بعضه ، وتفرقته بالمذاهب والآراء الشخصية مصادم لأصل الدين.
6 - السعادة والشقاوة والجزاء الأخروي على الحسنات والسيئات منوطة بالأعمال البشرية.
7 - الناس ضمن السنن الإلهية والأقدار عاملون بالإرادة والاختيار ، فلا جبر ولا إكراه ، ولا تعارض بين إرادة اللّه وما يكسبه الإنسان لأن قدر اللّه معناه ربط المسببات بالأسباب ، على وفق علمه وحكمته.
8 - العدل الإلهي يقتضي التفاوت بين الأمم والأفراد ، فيهلك اللّه الظالمين ، وينعم على الطائعين ، ويمكّن للأصلح في إرث الحياة.
9 - اللّه مصدر التشريع والتحليل والتحريم ، فلا يحق لإنسان الافئتات على حق اللّه في ذلك.
10 - على الإنسان الاعتبار والاتعاظ بأحوال الأمم الغابرة التي كذبت الرسل ، وعليه النظر في الكون للاستدلال بآياته الكثيرة على قدرة اللّه وعلمه وعظمته.
11 - الناس في الحياة في تسابق وتنافس واختبار ، ليعلم المفسد من المصلح ، والجزاء ينتظر الجميع ، واللّه يمهل ولا يهمل ليتوب الإنسان ويصلح شأنه ، ورحمة اللّه وسعت كل شيء. (1)
أخرج أبو عبيد والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وروى ابن مردويه ، والطبراني عنه أنها نزلت بمكة ليلا جملة واحدة. وروى خبر الجملة أبو الشيخ عن أبي بن كعب مرفوعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا ثلاث آيات منها فإنها نزلت بالمدينة قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ [الأنعام : 151] إلى تمام الآيات الثلاث. وأخرج ابن راهويه في مسنده وغيره عن شهر بن حوشب أنها مكية إلا آيتين أتل تَعالَوْا أَتْلُ [الأنعام : 151] والتي بعدها. وأخرج أبو الشيخ أيضا عن الكلبي وسفيان قالا : نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا آيتين نزلتا بالمدينة في رجل من اليهود وهو الذي قال : ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام : 91] الآية. وأخرج ابن المنذر عن أبي جحيفة نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ [الأنعام : 111] فإنها مدنية ، وقال غير واحد : كلها
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (7 / 126) وتفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (7 / 69)(1/284)
مكية إلا ست آيات وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام : 91] إلى تمام ثلاث آيات قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ إلى آخر الثلاث. وعدة آياتها عند الكوفيين مائة وخمس وستون. وعند البصريين والشاميين ست وستون. وعند الحجازيين سبع وستون. وقد كثرت الأخبار بفضلها
فقد أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب والإسماعيلي في معجمه عن جابر قال : لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال عليه الصلاة والسلام : «لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق»
وخبر تشييع الملائكة لها رواه جمع من المحدثين إلا أن منهم من روى أن المشيعين سبعون ألفا ومنهم من روى أنهم كانوا أقل ومنهم من روى أنهم كانوا أكثر. وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من صلى الفجر بجماعة وقعد في مصلاه ، وقرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام وكل الله تعالى به سبعين ملكا يسبحون الله تعالى ويستغفرون له إلى يوم القيامة».
وأخرج أبو الشيخ عن حبيب بن محمد العابد قال : من قرأ ثلاث آيات من أول الأنعام إلى قوله تعالى تَكْسِبُونَ بعث الله تعالى له سبعين ألف ملك يدعون له إلى يوم القيامة وله مثل أعمالهم فإذا كان يوم القيامة أدخله الجنة وسقاه من السلسبيل وغسله من الكوثر وقال : أنا ربك حقا وأنت عبدي
إلى غير ذلك من الأخبار ، وغالبها في هذا المطلب ضعيف وبعضها موضوع كما لا يخفى على من نقر عنها. ولعل الأخبار بنزول هذه السورة جملة أيضا كذلك. وحكى الإمام اتفاق الناس على القول بنزولها جملة ثم استشكل ذلك بأنه كيف يمكن أن يقال حينئذ في كل واحدة من آياتها إن سبب نزولها الأمر الفلاني مع أنهم يقولونه. والقول بأن مراد القائل بذلك عدم تخلل نزول شيء من آيات سورة أخرى بين أوقات نزول آياتها مما لا تساعده الظواهر بل في الأخبار ما هو صريح فيما يأباه. والقول بأنها نزلت مرتين دفعة وتدريجا خلاف الظاهر ولا دليل عليه.
ويؤيد ما أشرنا إليه من ضعف الأخبار بالنزول جملة ما قاله ابن الصلاح في فتاويه الحديث الوارد في أنها نزلت جملة رويناه من طريق أبي بن كعب ولم نر له سندا صحيحا ، وقد روي ما يخالفه انتهى. ومن هذا يعلم ما في دعوى الإمام اتفاق الناس على القول بنزولها جملة فتدبر. ووجه مناسبتها لآخر المائدة على - ما قال بعض الفضلاء - إنها افتتحت بالحمد وتلك اختتمت بفصل القضاء وهما متلازمان كما قال سبحانه : وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الزمر : 75].
وقال الجلال السيوطي في وجه المناسبة : إنه تعالى لما ذكر في آخر المائدة لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ [المائدة : 120] على سبيل الإجمال افتتح جل شأنه هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله فبدأ سبحانه بذكر خلق السماوات والأرض وضم تعالى إليه أنه جعل الظلمات والنور وهو بعض ما تضمنه ما فيهن(1/285)
ثم ذكر عز اسمه أنه خلق النوع الإنساني وقضى له أجلا وجعل له أجلا آخر للبعث وأنه جل جلاله منشىء القرون قرنا بعد قرن ثم قال تعالى : قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ [الأنعام : 12] إلخ فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرف المكان. ثم قال عز من قائل : وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الأنعام : 13] فأثبت أنه جل وعلا ملك جميع المظروفات لظرف الزمان. ثم ذكر سبحانه خلق سائر الحيوان من الدواب والطير ثم خلق النوم واليقظة والموت.
ثم أكثر عز وجل في أثناء السورة من الإنشاء والخلق لما فيهن من النيرين والنجوم وفلق الإصباح وفلق الحب والنوى وإنزال الماء وإخراج النبات والثمار بأنواعها وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات إلى غير ذلك مما فيه تفصيل ما فيهن ، وذكر عليه الرحمة وجها آخر في المناسبة أيضا وهو أنه سبحانه لما ذكر في سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة : 87] إلخ ، وذكر جل شأنه بعده ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ [المائدة : 103] إلخ فأخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله تعالى افتراء على الله عز شأنه وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا من ذلك فيشابهوا الكفار في صنعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز ساق جل جلاله هذه السورة لبيان حال الكفار في صنعهم فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل ثم جادلهم فيه وأقام الدلائل على بطلانه وعارضهم وناقضهم إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة فكانت هذه السورة شرحا لما تضمنته تلك السورة من ذلك على سبيل الإجمال وتفصيلا وبسطا وإتماما وإطنابا ، وافتتحت بذكر الخلق والملك لأن الخالق المالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته إباحة ومنعا وتحريما وتحليلا فيجب أن لا يعترض عليه سبحانه بالتصرف في ملكه ، ولهذه السورة أيضا اعتلاق من وجه بالفاتحة لشرحها إجمال قوله تعالى : رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة : 2] وبالبقرة لشرحها إجمال قوله سبحانه : الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة : 21] وقوله عز اسمه الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة : 29] وبآل عمران من جهة تفصيلها لقوله جل وعلا : وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران : 14] وقوله تعالى : كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران : 185 ، الأنبياء : 35 ، العنكبوت : 57] إلخ وبالنساء من جهة ما فيها من
بدء الخلق والتقبيح لما حرموه على أزواجهم وقتل البنات وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها. وقد يقال : إنه لما كان قطب هذه السورة دائرا على إثبات الصانع ودلائل التوحيد حتى قال أبو إسحاق الأسفراييني : إن في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد ناسبت تلك السورة من حيث إن فيها إبطال ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام وتوبيخ الكفرة على اعتقادهم الفاسد وافترائهم الباطل هذا ، ثم إنه لما كانت نعمه سبحانه وتعالى مما تفوت الحصر ولا يحيط بها نطاق العد إلا أنها ترجع إجمالا إلى إيجاد وإبقاء في النشأة الأولى وإيجاد وإبقاء في النشأة الآخرة وأشير في الفاتحة التي هي أم الكتاب إلى الجميع ،(1/286)
وفي الأنعام إلى الإيجاد الأول ، وفي الكهف إلى الإبقاء الأول وفي سبأ إلى الإيجاد الثاني وفي فاطر إلى الإبقاء الثاني ابتدئت هذه الخمس بالتحميد. ومن اللطائف أنه سبحانه وتعالى جعل في كل ربع من كتابه الكريم المجيد سورة مفتتحة بالتحميد (1)
سورة الأنعام إحدى السور المكية الطويلة التي يدور محورها حول العقيدة وأصول الايمان وهي تختلف في أهدافها ومقاصدها عن السور المدنية التي سبق الحديث عنها كالبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، فهي لم تعرض لشيء من الاحكام التنظيمية لجماعة المسلمين ، كالصوم ، والحج والعقوبات ، وأحكام الاسرة ، ولم تذكر أمور القتال ومحاربة الخارجين على دعوة الاسلام ، كما لم تتحدث عن أهل الكتاب من إليه ود والنصارى ولا على المنافقين ، وإنما تناولت القضايا الكبرى الأساسية لأصول العقيدة والايمان ، وهذه القضايا يمكن تلخيصها فيما يلى :
1 - قضية الألوهية
2 - قضية الوحى والرسالة
3 - قضية البعث والجزاء .
* نجد الحديث في هذه السورة مستفيضا يدور بشدة حول هذه الأصول الأساسية للدعوة الاسلامية ، ونجد سلاحها في ذلك الحجة الدامغة ، والدلائل الباهرة ، والبرهان القاطع في طريق الإلزام والاقناع ، لأن السورة نزلت في مكة على قوم مشركين . ومما يلفت النظر في السورة الكريمة أنها عرضت لأسلوبين بارزين لا نكاد نجدهما بهذه الكثرة فى غيرها من السور هما :
1 - اسلوب التقرير
2 - اسلوب التلقين .
* أما الأول : " اسلوب التقرير " فإن القرآن يعرض الأدلة المتعلقة بتوحيد الله ، والدلائل المنصوبة على وجوده وقدرته ، وسلطانه وقهره ، في صورة الشأن المسلم ، ويضع لذلك ضمير الغائب عن الحسن الحاضر في القلب الذي لا يماري فيه قلب سليم ، ولا عقل راشد ، في انه تعالى المبدع للكائنات ، صاحب الفضل والإنعام ، فيأتى بعبارة (هو " الدالة على الخالق المدبر الحكيم ، استمع قوله تعالى [ هو الذي خلقكم من طين ] . . [ وهو الله في السموات والأرض ] . . [ وهو الذي يتوفاكم بالليل ] . . [ وهو القاهر فوق عباده ] . . [ وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق . . . ] الخ .
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (4 / 72)(1/287)
* أما الثانى : " اسلوب التلقين " فإنه يظهر جليا في تعليم الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) تلقين الحجة ، ليقذف بها في وجه الخصم بحيث يأخذ عليه سمعه ، ويملك عليه قلبه فلا يستطيع التخلص أو التفلت منها ، ويأتى هذا الاسلوب بطريق السؤال والجواب ، يسألهم ثم يجيب ، استمع إلى الآيات الكريمة [ قل لمن ما في السموات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ] . . [ قل أى شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بينى وبينكم ] . . [ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من اله غير الله يأتيكم به ] . [ وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل ان الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون ] وهكذا تعرض السورة الكريمة لمناقشة المشركين ، وإفحامهم بالحجج الساطعة والبراهين القاطعة ، التي تقصم ظهر الباطل . ومن هنا كانت سورة الأنعام بين السور المكية ذات شأن في تركيز الدعوة الإسلامية ((يقول الامام الرازي : " امتازت هذه السورة بنوعين من الفضيلة : أحدهما أنها نزلت دفعة واحدة ، وثانيهما أنه شيعها سبعون ألفا من الملائكة ، والسبب في هذا الامتياز أنها مشتملة على دلائل التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والمعاد ، وابطال مذاهب المبطلين والملحدين " ويقول الإمام القرطبي : إن هذه السورة اصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ، ومن كذب بالبعث والنشور ، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة )) ، تقرر حقائقها ، وتثبت دعائمها ، وتفند شبه المعارضين لها ، بطريق التنويع العجيب في المناظرة والمجادلة ، فهي تذكر توحيد الله جل وعلا في الخلق والإيجاد ، وفي التشريع والعبادة ، وتذكر موقف المكذبين للرسل ، وتقص عليهم ما حاق بأمثالهم السابقين ، وتذكر شبههم في الوحي والرسالة ، وتذكر يوم البعث والجزاء ، وتبسط كل هذا بالتنبيه إلى الدلائل في الأنفس والأفاق ، وفي الطبائع البشرية وقت الشدة والرخاء . وتذكر أبا الأنبياء إبراهيم وجملة من أبنائه الرسل ، وترشد الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) إلى اتباع هداهم وسلوك طريقهم ، في احتمال المشاق وفي الصبر عليها ، وتعرض لتصوير حال المكذبين يوم الحشر ، وتفيض في هذا بألوان مختلفة . ثم تعرض لكثير من تصرفات الجاهلية التي دفعهم إليها شركهم فيما يختص بالتحليل والتحريم وتقضي عليه بالتفنيد والإبطال ، ثم تختم السورة بعد ذلك - في ربع كامل - بالوصايا العشر التي نزلت في كل الكتب السابقة ، ودعا إليها جميع الأنبياء السابقين [ قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم . . ] الآية . وتنتهي بآية فذة تكشف للإنسان عن مركزه عند ربه في هذه الحياة ، وهو أنه خليفة في الأرض ، وأن الله سبحانه جعل عمارة الكون ، تحت يد الإنسان تتعاقب عليها أجياله ، ويقوم اللاحق منها مقام السابق ، وأن الله سبحانه قد فاوت في المواهب بين أفراد الإنسان لغاية سامية وحكمة عظيمة وهي " الابتلاء والاختبار " في القيام بتبعات هذه الحياة ، وذلك شأن يرجع إليه كما له المقصود من هذا الخلق وذلك النظام [ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سربع العقاب وإنه لغفور رحيم ](1/288)
التسمية :
سميت ب " سورة الأنعام " لورود ذكر الأنعام فيها [ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا . . ] ولأن أكثر أحكامها الموضحة لجهالات المشركين مذكورة فيها ... . (1)
مقصودها الاستدلال على ما دعا إليه الكتابُ في السورة الماضية من التوحيد بأنه الحاوي لجميع الكمالات من الإيجاد والإعدام والقدرة عل البعث وغيره ، وأنسب الأشياء المذكورة فيها لهذا المقصد الأنعام ، لأن الإذن فيها - كما يأتي - مسبب عما ثبت له من الفلق والتفرد بالخلق ، تضمن باقي ذكرها إبطال ما اتخذوه من أمرها ديناً ، لأنه لم يأذن فيه ولا أذن لأحد معه ، لأنه المتوحد بالإلهية ، لا شريك له ، وحصر المحرمات من المطاعم التي هي جُلُّها في هذا الدين وغيره ، فدل ذلك على إحاطة علمه ، وسيأتي في سورة طه البرهان الظاهر على أن إحاطة العلم ملزومة لشمول القدرة وسائر الكمالات ، وذلك عين مقصود السورة ، وقد ورد من عدة طرق - كما بينتُ ذلك في كتابي ( مصاعد النظر ) أنها نزلت جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك ، لهم زجل بالتسبيح ، وفي رواية : إن نزولها كان ليلاً ، وإن الأرض كانت ترتج لنزولها .
وهي كلها في حجاج المشركين وغيرهم من المبتدعة والقدرية وأهل الملل الزائغة ، وعليها مبنى أصول الدين لاشتمالها على التوحيد والعدل ولنبوة والمعاد وإبطال مذاهب الملحدين ، وإنزالها على الصورة المذكورة يدل على أن أصول الدين في غاية الجلالة ، وأن تعلّمه واجب على الفور لنزولها جملة ، بخلاف الأحكام فإنها تفرق بحسب المصالح ، ولنزولها ليلاً دليلٌ على غاية البركة لأنه محل الأنس بنزوله تعالى إلى سماء الدنيا ، وعلى أن هذا العلم لا يقف على أسراره إلا البصراء الأيقاظ من سنة الغفلات ، أولو الألباب أهل الخلوات ، والأرواح الغالبة على الأبدان وهم قليل . (2)
هذه السورة مكية .. من القرآن المكي .. القرآن الذي ظل يتنزل على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة عشر عاما كاملة ، يحدثه فيها عن قضية واحدة. قضية واحدة لا تتغير ، ولكن طريقة عرضها لا تكاد تتكرر. ذلك أن الأسلوب القرآني يدعها في كل عرض جديدة ، حتى لكأنما يطرقها للمرة الأولى!
لقد كان يعالج القضية الأولى ، والقضية الكبرى ، والقضية الأساسية ، في هذا الدين الجديد ، «قضية العقيدة» ممثلة في قاعدتها الرئيسية .. الألوهية والعبودية ، وما بينهما من علاقة.
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (1 / 247)
(2) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (2 / 578)(1/289)
لقد كان يخاطب بهذه القضية «الإنسان». الإنسان بما أنه إنسان .. وفي هذا المجال يستوي الإنسان العربي في ذلك الزمان والإنسان العربي في كل زمان. كما يستوي الإنسان العربي وكل إنسان. في ذلك الزمان وفي كل زمان! إنها قضية «الإنسان» التي لا تتغير ، لأنها قضية وجوده في هذا الكون وقضية مصيره. قضية علاقته بهذا الكون وبهؤلاء الأحياء ، وقضية علاقته بخالق هذا الكون وخالق هذه الأحياء .. وهي قضية لا تتغير ، لأنها قضية الوجود والإنسان! لقد كان هذا القرآن المكي يفسر للإنسان سر وجوده ووجود هذا الكون من حوله .. كان يقول له : من هو؟ ومن أين جاء وكيف جاء ولما ذا جاء؟ وإلى أين يذهب في نهاية المطاف؟ من ذا الذي جاء به من العدم والمجهول؟ ومن ذا الذي يذهب به وما مصيره هناك؟ .. وكان يقول له : ما هذا الوجود الذي يحسه ويراه ، والذي يحس أن وراءه غيبا يستشرفه ولا يراه؟ من أنشأ هذا الوجود المليء بالأسرار؟ من ذا يدبره ومن ذا يحوره؟ ومن ذا يجدد فيه ويغير على النحو الذي يراه؟ .. وكان يقول له كذلك : كيف يتعامل مع خالق هذا الكون ، ومع الكون أيضا ، وكيف يتعامل العباد مع خالق العباد.
وكانت هذه هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجود «الإنسان». وستظل هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجوده ، على توالي الأزمان ..
وهكذا انقضت ثلاثة عشر عاما كاملة في تقرير هذه القضية الكبرى. القضية التي ليس وراءها شيء في حياة الإنسان إلا ما يقوم عليها من المقتضيات والتفريعات ..
ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة ، إلا بعد أن علم اللّه أنها قد استوفت ما تستحقه من البيان ، وأنها استقرت استقرارا مكينا ثابتا في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان ، التي قدر اللّه لها أن يقوم هذا الدين عليها وأن تتولى هي إنشاء النظام الواقعي الذي يتمثل فيه هذا الدين.
وأصحاب الدعوة إلى دين اللّه ، وإقامة النظام الذي يتمثل فيه هذا الدين في واقع الحياة خليقون أن يقفوا طويلا أمام هذه الظاهرة الكبيرة .. ظاهرة تصدي القرآن المكي خلال ثلاثة عشر عاما .. لتقرير هذه العقيدة ثم وقوفه عندها لا يتجاوزها إلى شيء من تفصيلات النظام الذي يقوم عليها ، والتشريعات التي تحكم المجتمع المسلم الذي يعتنقها ..
لقد شاءت حكمة اللّه أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها منذ اليوم الأول للرسالة.
وأن يبدأ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أولى خطواته في الدعوة ، بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن يمضي في دعوته يعرّف الناس بربهم الحق ، ويعبدهم له دون سواه.(1/290)
ولم تكن هذه - في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب - هي أيسر السبل إلى قلوب العرب! فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى : «إله» ومعنى : «لا إله إلا الله» .. كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا .. وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد اللّه - سبحانه - بها ، معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام ، ورده كله إلى اللّه .. السلطان على الضمائر ، والسلطان على الشعائر ، والسلطان على واقعيات الحياة .. السلطان في المال ، والسلطان في القضاء ، والسلطان في الأرواح والأبدان ..
كانوا يعلمون أن : «لا إله إلا اللّه» ثورة على السلطان الأرضي ، الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية ، وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها اللّه .. ولم يكن يغيب عن العرب - وهم يعرفون لغتهم جيدا ، ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة :
«لا إله إلا اللّه» - ماذا تعنيه هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ورياساتهم وسلطانهم .. ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة - أو هذه الثورة - ذلك الاستقبال العنيف ، وحاربوها تلك الحرب التي يعرفها الخاص والعام ..
فلم كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة؟ ولم اقتضت حكمة اللّه أن تبدأ بكل هذا العناء؟
لقد بعث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بهذا الدين ، وأخصب بلاد العرب وأغناها ليست في أيدي العرب إنما هي في يد غيرهم من الأجناس! بلاد الشام كلها في الشمال خاضعة للروم ، يحكمها أمراء من العرب من قبل الرومان. وبلاد اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس يحكمها أمراء من العرب من قبل الفرس .. وليس في أيدي العرب إلا الحجاز ونجد وما إليهما من الصحاري القاحلة ، التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا وهناك! وكان في استطاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق الأمين الذي حكمه أشراف قريش قبل ذلك في وضع الحجر الأسود ، وارتضوا حكمه ، منذ خمسة عشر عاما والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسبا .. كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب ، التي أكلتها الثارات ، ومزقتها النزاعات ، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة الرومان في الشمال والفرس في الجنوب وإعلاء راية العربية والعروبة وإنشاء وحدة قوية في كل أرجاء الجزيرة ..
ولو دعا يومها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - هذه الدعوة لاستجابت له العرب قاطبة - على الأرجح - بدلا من أن يعاني ثلاثة عشر عاما في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة!(1/291)
وربما قيل : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان خليقا بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة وبعد أن يولوه فيهم القيادة والسيادة وبعد استجماع السلطان في يديه والمجد فوق مفرقه .. أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه ، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه!
ولكن اللّه - سبحانه - وهو العليم الحكيم ، لم يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - هذا التوجيه!
إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا اللّه : وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء! لماذا؟ إن اللّه - سبحانه - لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه .. إنما هو - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق .. ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي .. إلى يد طاغوت عربي ..
فالطاغوت كله طاغوت! .. إن الأرض للّه ، ويجب أن تخلص للّه. ولا تخلص للّه إلّا أن ترتفع عليها راية : «لا إله إلا اللّه» .. وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو طاغوت فارسي ..
إلى طاغوت عربي .. فالطاغوت كله طاغوت! إن الناس عبيد للّه وحده ، ولا يكونون عبيدا للّه وحده إلا أن ترتفع راية : «لا إله إلا اللّه» .. «لا إله إلا اللّه» كما كان يدركها العربي العارف بمدلولات لغته : لا حاكمية إلا للّه ، ولا شريعة إلا من اللّه ، ولا سلطان لأحد على أحد ، لأن السلطان كله للّه .. ولأن الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة ، التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية اللّه.
وهذا هو الطريق ..
وبعث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بهذا الدين ، والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا للثروة والعدالة .. قلة قليلة تملك المال والتجارة وتتعامل بالربا فتضاعف تجارتها ومالها. وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع .. والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة وجماهير كثيفة ضائعة من المال والمجد جميعا! وكان في استطاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يرفعها راية اجتماعية وأن يثيرها حربا على طبقة الأشراف وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع ورد أموال الأغنياء على الفقراء! ولو دعا يومها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - هذه الدعوة ، لا نقسم المجتمع العربي صفين : الكثرة الغالبة فيه مع الدعوة الجديدة ، في وجه طغيان المال والشرف. بدلا من أن يقف المجتمع كله صفا في وجه : «لا إله إلا اللّه» التي لم يرتفع إلى أفقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس.
وربما قيل : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان خليقا بعد أن تستجيب له الكثرة وتوليه قيادها فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها .. أن يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه ، وفي(1/292)
تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه! ولكن اللّه - سبحانه - وهو العليم الحكيم ، لم يوجهه هذا التوجيه ..
لقد كان اللّه - سبحانه - يعلم أن هذا ليس هو الطريق .. كان يعلم أن العدالة الاجتماعية لا بد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل يرد الأمر كله للّه ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به اللّه من عدالة في التوزيع ، ومن تكافل بين الجميع ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه أنه ينفذ نظاما يرضاه اللّه ويرجو على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء. فلا تمتلئ قلوب بالطمع ، ولا تمتلئ قلوب بالحقد ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا وبالتخويف والإرهاب! ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح كما يقع في الأوضاع التي نراها قد قامت على غير : «لا إله إلا الله» ..
وبعث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - والمستوي الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى - إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية.
كان التظالم فاشيا في المجتمع ، تعبر عنه حكمة الشاعر : زهير بن أبي سلمى :
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ، ومن لا يظلم الناس يظلم
ويعبر عنه القول المتعارف : «انصر أخاك ظالما أو مظلوما».
وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية ومن مفاخره كذلك! يعبر عن هذه الخصلة الشعر الجاهلي بجملته .. كالذي يقوله طرفة بن العبد :
فلولا ثلاث هن من زينة الفتى وجدك لم أحفل متى قام عوّدي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبد! ... إلخ وكانت الدعارة - في صور شتى - من معالم هذا المجتمع .. كالذي روته عائشة رضي اللّه عنها : «إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء : فنكاح منها نكاح الناس اليوم : يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته ، فيصدقها ثم ينكحها .. والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته - إذا طهرت من طمثها - أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه. ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه. فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع .. ونكاح آخر : يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة ، كلهم يصيبها. فإذا حملت ووضعت ، ومر عليها ليال ، بعد أن تضع حملها ، أرسلت إليهم ، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع ، حتى يجتمعوا عندها ، تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم ، وقد ولدت ، فهو ابنك يا فلان ، تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها ، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل. والنكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها - وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علما ، فمن(1/293)
أرادهن دخل عليهن - فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها ، جمعوا لها ودعوا القافة ، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه ، ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك» ... (أخرجه البخاري في كتاب النكاح).
وكان في استطاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يعلنها دعوة إصلاحية ، تتناول تقويم الأخلاق ، وتطهير المجتمع ، وتزكية النفوس ، وتعديل القيم والموازين ..
وكان واجدا وقتها - كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة - نفوسا طيبة ، يؤذيها هذا الدنس وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير ..
وربما قال قائل : إنه لو صنع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ذلك فاستجابت له - في أول الأمر - جمهرة صالحة تتطهر أخلاقها ، وتزكو أرواحها ، فتصبح أقرب إلى قبول العقيدة وحملها .. بدلا من أن تثير دعوة أن لا إله إلا اللّه المعارضة القوية منذ أول الطريق!
ولكن اللّه - سبحانه - وهو العليم الحكيم ، لم يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى مثل هذا الطريق ..
لقد كان اللّه - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق! كان يعلم أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة ، تضع الموازين ، وتقرر القيم وتقرر السلطة التي ترتكن إليها هذه الموازين والقيم كما تقرر الجزاء الذي تملكه هذه السلطة وتوقعه على الملتزمين والمخالفين. وأنه قبل تقرير تلك العقيدة تظل القيم كلها متأرجحة وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك بلا ضابط ، وبلا سلطان ، وبلا جزاء! فلما تقررت العقيدة - بعد الجهد الشاق - وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة .. لما عرف الناس ربهم وعبدوه وحده .. لما تحرر الناس من سلطان العبيد ، ومن سلطان الشهوات سواء .. لما تقررت في القلوب : «لا إله إلا الله» .. صنع اللّه بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون ..
تطهرت الأرض من الرومان والفرس .. لا ليتقرر فيها سلطان العرب .. ولكن ليتقرر فيها سلطان اللّه ..
لقد تطهرت من الطاغوت كله : رومانيا وفارسيا وعربيا على السواء.
وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته. وقام النظام الإسلامي يعدل بعدل اللّه ، ويزن بميزان اللّه ، ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم اللّه وحده؟ ويسميها راية الإسلام ، لا يقرن إليها اسما آخر ويكتب عليها : «لا إله إلا اللّه»! وتطهرت النفوس والأخلاق ، وزكت القلوب والأرواح دون أن يحتاج الأمر إلى الحدود والتعازير التي شرعها اللّه - إلا في الندرة النادرة - لأن الرقابة قامت هنالك في الضمائر ولأن الطمع في رضى اللّه وثوابه ، والحياء والخوف من غضبه وعقابه قد قامت كلها مقام الرقابة ومقام العقوبات ..
وارتفعت البشرية في نظامها ، وفي أخلاقها ، وفي حياتها كلها ، إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام ..(1/294)
ولقد تم هذا كله لأن الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام وشرائع وأحكام كانوا قد أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم ، في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك. وكانوا قد وعدوا على إقامة هذا الدين وعدا واحدا ، لا يدخل فيه الغلب والسلطان .. ولا حتى لهذا الدين على أيديهم .. وعدا واحدا لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا .. وعدا واحدا هو الجنة .. هذا كل ما وعدوه على الجهاد المضني ، والابتلاء الشاق ، والمضي في الدعوة ، ومواجهة الجاهلية بالأمر الذي يكرهه أصحاب السلطان ، في كل زمان وفي كل مكان ، وهو : «لا إله إلا اللّه»! فلما أن ابتلاهم اللّه فصبروا ولما أن فرغت نفوسهم من حظ نفوسهم ولما أن علم اللّه منهم أنهم لا ينتظرون جزاء في هذه الأرض - كائنا ما كان هذا الجزاء ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم ، وقيام هذا الدين في الأرض بجهدهم - ولما لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجنس ولا قوم ، ولا اعتزاز بوطن ولا أرض. ولا اعتزاز بعشيرة ولا بيت ..
لما أن علم اللّه منهم ذلك كله ، علم أنهم قد أصبحوا - إذن - أمناء على هذه الأمانة الكبرى. أمناء على العقيدة التي يتفرد فيها اللّه سبحانه بالحاكمية في القلوب والضمائر وفي السلوك والشعائر ، وفي الأرواح والأموال ، وفي الأوضاع والأحوال .. وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم ليقوموا به على شريعة اللّه ينفذونها ، وعلى عدل اللّه يقيمونه ، دون أن يكون لهم من ذلك السلطان شيء لأنفسهم ولا لعشيرتهم ولا لقومهم ولا لجنسهم إنما يكون السلطان الذي في أيديهم للّه ولدينه وشريعته ، لأنهم يعلمون أنه من اللّه ، هو الذي آتاهم إياه.
ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوي الرفيع ، إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء ، وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها .. راية لا إله إلا اللّه .. ولا ترفع معها سواها .. وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره المبارك الميسر في حقيقته.
وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص للّه ، لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى دعوة قومية ، أو دعوة اجتماعية ، أو دعوة أخلاقية .. أو رفعت أي شعار إلى جانب شعارها الواحد : «لا إله إلا اللّه» ..
ذلك شأن تصدي القرآن المكي كله لتقرير : «لا إله إلا اللّه» في القلوب والعقول ، واختيار هذا الطريق - على مشقته في الظاهر - وعدم اختيار السبل الجانبية الأخرى والإصرار على هذا الطريق ..
فأما شأن هذا القرآن في تناول قضية الاعتقاد وحدها ، دون التطرق إلى تفصيلات النظام الذي يقوم عليها ، والشرائع التي تنظم المعاملات فيها .. فذلك كذلك مما ينبغي أن يقف أمامه أصحاب الدعوة لهذا الدين وقفة واعية ..
إن طبيعة هذا الدين هي التي قضت بهذا .. فهو دين يقوم كله على قاعدة الألوهية الواحدة .. كل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الأصل الكبير .. وكما أن الشجرة الضخمة الباسقة الوارفة المديدة(1/295)
الظلال المتشابكة الأغصان ، الضاربة في الهواء .. لا بد لها أن تضرب بجذورها في التربة على أعماق بعيدة ، وفي مساحات واسعة تناسب ضخامتها وامتدادها في الهواء .. فكذلك هذا الدين .. إن نظامه يتناول الحياة كلها ويتولى شؤون البشرية كبيرها وصغيرها وينظم حياة الإنسان لا في هذه الحياة الدنيا وحدها ، ولكن كذلك في الدار الآخرة ولا في عالم الشهادة وحده ولكن كذلك في عالم الغيب المكنون عنها ولا في المعاملات الظاهرة المادية ، ولكن في أعماق الضمير ودنيا السرائر والنوايا .. فهو مؤسسة ضخمة هائلة شاسعة مترامية ..
ولا بد له إذن من جذور وأعماق بهذه السعة والضخامة والعمق والانتشار أيضا ..
هذا جانب من سر هذا الدين وطبيعته يحدد منهجه في بناء نفسه وفي امتداده ويجعل بناء العقيدة وتمكينها ، وشمول هذه العقيدة واستغراقها لشعاب النفس كلها .. ضرورة من ضرورات النشأة الصحيحة ، وضمانا من ضمانات الاحتمال والتناسق بين الظاهر من الشجرة في الهواء ، والضارب من جذورها في الأعماق ..
ومتى استقرت عقيدة : «لا إله إلا اللّه» في أعماقها الغائرة البعيدة ، استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه : «لا إله إلا اللّه» وتعين أنه النظام الوحيد الذي ترتضيه النفوس التي استقرت فيها العقيدة ..
واستسلمت هذه النفوس ابتداء لهذا النظام حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته ، وقبل أن تعرض عليها تشريعاته.
فالاستسلام ابتداء هو مقتضى الإيمان .. وبمثل هذا الاستسلام تلقت النفوس تنظيمات الإسلام وتشريعاته بالرضى والقبول ، لا تعترض على شيء منه فور صدوره إليها ولا تتلكأ في تنفيذه بمجرد تلقيها له. وهكذا أبطلت الخمر ، وأبطل الربا ، وأبطل الميسر ، وأبطلت العادات الجاهلية كلها ، أبطلت بآيات من القرآن ، أو كلمات من رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بينما الحكومات الأرضية تجهد في شيء من هذا كله بقوانينها وتشريعاتها ونظمها وأوضاعها ، وجندها وسلطانها ، ودعايتها وإعلامها .. فلا تبلغ إلا أن تضبط الظاهر من المخالفات بينما المجتمع يعج بالمنهيات والمنكرات !
وجانب آخر من طبيعة هذا الدين يتجلى في هذا المنهج القويم .. إن هذا الدين منهج عملي حركي جاد ..
جاء ليحكم الحياة في واقعها ويواجه هذا الواقع ليقضي فيه بأمره .. يقره أو يعدله أو يغيره من أساسه ..
ومن ثم فهو لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلا ، في مجتمع يعترف ابتداء بحاكمية اللّه وحده.
إنه ليس نظرية تتعامل مع الفروض! إنه منهج يتعامل مع الواقع!(1/296)
فلا بد أولا أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقر عقيدة أن لا إله إلا اللّه ، وأن الحاكمية ليست إلا للّه ويرفض أن يقر بالحاكمية لأحد من دون اللّه ويرفض شرعية أي وضع لا يقوم على هذه القاعدة ..
وحين يقوم هذا المجتمع فعلا ، تكون له حياة واقعية ، تحتاج إلى تنظيم وإلى تشريع .. وعندئذ فقط يبدأ هذا الدين في تقرير النظم وفي سن الشرائع .. لقوم مستسلمين أصلا للنظم والشرائع ، رافضين ابتداء لغيرها من النظم والشرائع ..
ولا بد أن يكون للمؤمنين بهذه العقيدة من السلطان على أنفسهم وعلى مجتمعهم ما يكفل تنفيذ النظام والشرائع في هذا المجتمع حتى تكون للنظام هيبته ويكون للشريعة جديتها .. فوق ما يكون لحياة هذا المجتمع من الواقعية ما يقتضي الأنظمة والشرائع من فورها ..
والمسلمون في مكة لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ولا على مجتمعهم. وما كانت لهم حياة واقعية مستقلة هم الذين ينظمونها بشريعة اللّه .. ومن ثم لم ينزل اللّه في هذه الفترة تنظيمات وشرائع وإنما نزل لهم عقيدة ، وخلقا منبثقا من العقيدة بعد استقرارها في الأعماق البعيدة .. فلما صارت لهم دولة في المدينة ذات سلطان تنزلت عليهم الشرائع وتقرر لهم النظام الذي يواجه حاجات المجتمع المسلم الواقعية والذي تكفل له الدولة بسلطانها الجدية والنفاذ ..
ولم يشأ اللّه أن ينزل عليهم النظام والشرائع في مكة ، ليختزنوها جاهزة ، حتى تطبق بمجرد قيام الدولة في المدينة! إن هذه ليست طبيعة هذا الدين! إنه أشد واقعية من هذا وأكثر جدية! إنه لا يفترض المشكلات ليفترض لها حلولا .. إنما هو يواجه الواقع بحجمه وشكله وملابساته لصوغه في قالبه الخاص ، وفق حجمه وشكله وملابساته ..
والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ قوالب نظام ، وأن يصوغ تشريعات حياة .. بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة اللّه وحدها ، ورفض كل شريعة سواها ، مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه .. الذين يريدون من الإسلام ذلك لا يدركون طبيعة هذا الدين ، ولا كيف يعمل في الحياة كما يريد له اللّه ..
إنهم يريدون منه أن يغير طبيعته ومنهجه وتاريخه ليشابه أنظمة بشرية ، ومناهج بشرية. ويحاولون أن يستعجلوه عن طريقه وخطواته ليلبي رغبات وقتية في نفوسهم إنما تنشئها الهزيمة الداخلية في أرواحهم تجاه أنظمة بشرية صغيرة .. إنهم يريدون منه أن يصوغ نفسه في قالب فروض ، تواجه مستقبلا غير موجود ..
واللّه يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده .. عقيدة تملأ القلب ، وتفرض سلطانها على الضمير. عقيدة مقتضاها ألا يخضع الناس إلا للّه ، ولا يتلقوا الشرائع إلا من اللّه. وبعد أن يوجد الناس الذين هذه(1/297)
عقيدتهم ، ويصبح لهم السلطان في مجتمعهم ، تبدأ التشريعات لمواجهة حاجاتهم الواقعية ، وتنظيم حياتهم الواقعية كذلك.
كذلك يجب أن يكون مفهوما لأصحاب الدعوة الإسلامية ، أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين ، يجب أن يدعوهم أولا إلى اعتناق العقيدة - حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين!
وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون - يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو أولا إقرار عقيدة : لا إله إلا اللّه بمدلولها الحقيقي وهو رد الحاكمية للّه في أمرهم كله ، وطرد المعتدين على سلطان اللّه بادعاء هذا الحق لأنفسهم .. إقرارها في ضمائرهم وشعائرهم ، وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم ..
ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى الإسلام كما كانت هي أساس دعوتهم إلى الإسلام أول مرة .. هذه الدعوة التي تكفل بها القرآن المكي طوال ثلاثة عشر عاما كاملة ..
فإذا دخل في هذا الدين - بمفهومه هذا الأصيل - عصبة من الناس ، فهذه العصبة هي التي تصلح لمزاولة النظام الإسلامي في حياتها الاجتماعية لأنها قررت بينها وبين نفسها أن تقوم حياتها على هذا الأساس وألا تحكم في حياتها كلها إلا اللّه.
وحين يقوم هذا المجتمع بالفعل يبدأ عرض أسس النظام الإسلامي عليه كما يأخذ هذا المجتمع نفسه في سن التشريعات التي تقتضيها حياته الواقعية ، في اطار الأسس العامة للنظام الإسلامي .. فهذا هو الترتيب الصحيح لخطوات المنهج الإسلامي الواقعي العملي الجاد ..
ولقد يخيل إلى بعض المخلصين المتعجلين ، ممن لا يتدبرون طبيعة هذا الدين ، وطبيعة منهجه الرباني القويم ، المؤسس على حكمة العليم الحكيم ، وعلمه بطبائع البشر وحاجات الحياة .. نقول لقد يخيل لبعض هؤلاء أن عرض أسس النظام الإسلامي - بل التشريعات الإسلامية كذلك - على الناس مما ييسر لهم طريق الدعوة ، ويحبب الناس في هذا الدين! وهذا وهم تنشئه العجلة! وهم كالذي كان يقترحه المقترحون : أن تقوم دعوة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في أولها تحت راية قومية ، أو اجتماعية ، أو أخلاقية ، تيسيرا للطريق! إن النفوس يجب أن تخلص أولا للّه ، وتعلن عبوديتها له ، بقبول شرعه وحده ورفض كل شرع غيره ..
من ناحية المبدأ .. قبل أن تخاطب بأي تفصيل عن ذلك الشرع يرغبها فيه! إن الرغبة يجب أن تنبثق من الرغبة في إخلاص العبودية للّه ، والتحرر من سلطان سواه .. لا من أن النظام المعروض عليها .. في ذاته .. خير مما لديها في كذا وكذا على وجه التفصيل.
إن نظام اللّه خير في ذاته ، لأنه من شرع اللّه. ولن يكون شرع العبيد يوما كشرع اللّه .. ولكن هذه ليست قاعدة الدعوة .. إن قاعدة الدعوة أن قبول شرع اللّه وحده ورفض كل شرع غيره هو ذاته(1/298)
الإسلام. وليس للإسلام مدلول سواه. فمن رغب في الإسلام فقد فصل في هذه القضية ولم يعد بحاجة إلى ترغيبه بجمال النظام وأفضليته .. فهذه إحدى بديهيات الإيمان! وبعد فلا بد أن نقول كيف عالج القرآن المكي قضية العقيدة في خلال الثلاثة عشر عاما .. إنه لم يعرضها في صورة «نظرية»! ولم يعرضها في صورة «لاهوت» ولم يعرضها في صورة جدل كلامي كالذي زاوله فيما بعد ما سمي ب «علم التوحيد» أو «علم الكلام»! كلا .. لقد كان القرآن الكريم يخاطب فطرة «الإنسان» بما في وجوده هو وبما في الوجود من حوله من دلائل وإيحاءات .. كان يستنقذ فطرته من الركام ويخلص أجهزة الاستقبال الفطرية مما ران عليها وعطل وظائفها ويفتح منافذ الفطرة لتتلقى الموحيات المؤثرة وتستجيب لها .. والسورة التي بين أيدينا نموذج كامل من هذا المنهج المتفرد وسنتحدث عن خصائصها بعد قليل ..
هذا بصفة عامة. وبصفة خاصة كان القرآن يخوض بهذه العقيدة معركة حية واقعية .. كان يخوض بها معركة مع الركام المعطل للفطرة .. في نفوس آدمية حاضرة واقعة .. ومن ثم لم يكن شكل «النظرية» هو الشكل الذي يناسب هذا الواقع الحاضر. إنما كان هو شكل المواجهة الحية للعقابيل والسدود والحواجز والمعوقات النفسية والواقعية في النفوس الحاضرة الحية .. ولم يكن الجدل الذهني الذي انتهجه - في العصور المتأخرة - علم التوحيد ، هو الشكل المناسب كذلك .. فلقد كان القرآن يواجه واقعا بشريا كاملا بكل ملابساته الحية ويخاطب الكينونة البشرية بجملتها في خضم هذا الواقع .. وكذلك لم يكن «اللاهوت» هو الشكل المناسب.
فإن العقيدة الإسلامية ولو أنها عقيدة ، إلا أنها عقيدة تمثل منهج حياة واقعية للتطبيق العملي ولا تقبع في الزاوية الضيقة التي تقبع فيها الأبحاث اللاهوتية النظرية! كان القرآن وهو يبني العقيدة في ضمائر الجماعة المسلمة يخوض بهذه الجماعة المسلمة معركة ضخمة مع الجاهلية من حولها كما يخوض بها معركة ضخمة مع رواسب الجاهلية في ضميرها وأخلاقها وواقعها ..
ومن هذه الملابسات ظهر بناء العقيدة ، لا في صورة نظرية ، ولا في صورة لاهوت ولا في صورة جدل كلامي .. ولكن في صورة تكوين تنظيمي مباشر للحياة ، ممثل في الجماعة المسلمة ذاتها. وكان نمو الجماعة المسلمة في تصورها الاعتقادي ، وفي سلوكها الواقعي وفق هذا التصور ، وفي دربتها على مواجهة الجاهلية كمنظمة محاربة لها .. كان هذا النمو ذاته ممثلا تماما لنمو البناء العقيدي ، وترجمة حية له .. وهذا هو منهج الإسلام الذي يمثل طبيعته كذلك ..
وإنه لمن الضروري لأصحاب الدعوة الإسلامية أن يدركوا طبيعة هذا الدين ومنهجه في الحركة على هذا النحو الذي بيناه .. ذلك ليعلموا أن مرحلة بناء العقيدة التي طالت في العهد المكي على هذا النحو ، لم تكن منعزلة عن مرحلة التكوين العملي للحركة الإسلامية ، والبناء الواقعي للجماعة المسلمة .. لم تكن(1/299)
مرحلة تلقي «النظرية» ودراستها! ولكنها كانت مرحلة البناء القاعدي للعقيدة وللجماعة وللحركة وللوجود الفعلي معا ..
وهكذا ينبغي أن تكون كلما أريد إعادة هذا البناء مرة أخرى ..
هكذا ينبغي أن تطول مرحلة بناء العقيدة وأن تتم خطواتها على مهل وفي عمق وتثبت .. وهكذا ينبغي ألا تكون مرحلة بناء العقيدة مرحلة دراسة نظرية للعقيدة ولكن مرحلة ترجمة لهذه العقيدة في صورة حية ، متمثلة في ضمائر متكيفة بهذه العقيدة ومتمثلة في بناء جماعي يعبر نموه عن نمو العقيدة ذاتها ومتمثلة في حركة واقعية تواجه الجاهلية وتخوض معها المعركة في الضمير وفي الواقع كذلك لتتمثل العقيدة حية وتنمو نموا حيا في خضم المعركة.
وخطأ أي خطأ - بالقياس إلى الإسلام - أن تتبلور النظرية في صورة نظرية مجردة للدراسة النظرية .. المعرفية الثقافية .. بل خطر أي خطر كذلك ..
إن القرآن لم يقض ثلاثة عشر عاما كاملة في بناء العقيدة بسبب أنه كان يتنزل للمرة الأولى .. كلا!
فلو أراد اللّه لأنزل هذا القرآن جملة واحدة ثم ترك أصحابه يدرسونه ثلاثة عشر عاما أو أكثر أو أقل ، حتى يستوعبوا «النظرية الإسلامية»! ولكن اللّه - سبحانه - كان يريد أمرا آخر. كان يريد منهجا معينا متفردا. كان يريد بناء الجماعة وبناء الحركة وبناء العقيدة في وقت واحد. كان يريد أن يبني الجماعة والحركة بالعقيدة ، وأن يبني العقيدة بالجماعة والحركة! كان يريد أن تكون العقيدة هي واقع الجماعة الفعلي ، وأن يكون واقع الجماعة الحركي الفعلي هو صورة العقيدة .. وكان اللّه - سبحانه - يعلم أن بناء النفوس والجماعات لا يتم بين يوم وليلة .. فلم يكن بد أن يستغرق بناء العقيدة المدى الذي يستغرقه بناء النفوس والجماعة .. حتى إذا نضج التكوين العقيدي كانت الجماعة هي المظهر الواقعي لهذا النضوج ..
هذه هي طبيعة هذا الدين - كما تستخلص من منهج القرآن المكي - ولا بد أن نعرف طبيعته هذه ولا نحاول أن نغيرها تلبية لرغبات معجلة مهزومة أمام أشكال النظريات البشرية! فهو بهذه الطبيعة صنع الأمة المسلمة أول مرة ، وبها يصنع الأمة المسلمة في كل مرة يراد أن يعاد إخراج الأمة المسلمة للوجود ، كما أخرجها اللّه أول مرة ..
يجب أن ندرك خطأ المحاولة ، وخطرها معا ، في تحويل العقيدة الإسلامية الحية التي يجب أن تتمثل في واقع تام حي متحرك ، إلى «نظرية» للدراسة والمعرفة الثقافية لمجرد أننا نريد أن نواجه «النظريات» البشرية الهزيلة بنظرية إسلامية! إن العقيدة الإسلامية يجب أن تتمثل في نفوس حية ، وفي تنظيم واقعي ، وفي حركة تتفاعل مع الجاهلية من حولها ، كما تتفاعل مع الجاهلية الراسبة في نفوس أصحابها - بوصفهم(1/300)
كانوا من أهل الجاهلية قبل أن تدخل العقيدة إلى نفوسهم وتنتزعها من الوسط الجاهلي. وهي في صورتها هذه تشغل من القلوب والعقول ومن الحياة أيضا مساحة أضخم وأوسع وأعمق مما تشغله «النظرية» وتشمل - فيما تشمل - مساحة النظرية ومادتها. ولكنها لا تقتصر عليها.
إن التصور الإسلامي للألوهية وللوجود الكوني وللحياة وللإنسان ، تصور شامل كامل. ولكنه كذلك تصور واقعي إيجابي. وهو يكره - بطبيعته - أن يتمثل في مجرد تصور ذهني معرفي. لأن هذا يخالف طبيعته وغايته. ويجب أن يتمثل في أناسي ، وفي تنظيم حي ، وفي حركة واقعية .. وطريقته في التكون أن ينمو من خلال الأناسي والتنظيم الحي والحركة الواقعية حتى يكتمل نظريا في نفس الوقت الذي يكتمل فيه واقعيا ولا ينفصل في صورة نظرية بل يظل ممثلا في الصورة الواقعية ..
وكل نمو نظري يسبق النمو الحركي الواقعي ، ولا يتمثل من خلاله ، هو خطأ وخطر كذلك بالقياس إلى طبيعة هذا الدين ، وغايته ، وطريقة تركيبه الذاتي.
واللّه سبحانه يقول : «وَقُرْآناً فَرَقْناهُ ، لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ، وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا» ..
فالفرق مقصود. والمكث مقصود كذلك .. ليتم البناء التكويني المؤلف من عقيدة في صورة «منظمة حية» لا في صورة «نظرية معرفية»! يجب أن يعرف أصحاب هذا الدين جيدا ، أنه كما أن هذا الدين دين رباني ، فإن منهجه في العمل منهج رباني كذلك ، متواف مع طبيعته. وأنه لا يمكن فصل حقيقة هذا الدين عن منهجه في العمل.
ويجب أن يعرفوا كذلك أن هذا الدين كما أنه جاء ليغير التصور الاعتقادي - ومن ثم يغير الواقع الحيوي - فكذلك هو قد جاء ليغير المنهج الفكري والحركي الذي يبني به التصور الاعتقادي ويغير به الواقع الحيوي ..
جاء ليبني عقيدة وهو يبني أمة .. ثم لينشئ منهج تفكير خاصا به بنفس الدرجة التي ينشئ بها تصورا اعتقاديا وواقعا حيويا. ولا انفصال بين منهج تفكيره الخاص وتصوره الاعتقادي وبنائه الحيوي ، فكلها حزمة واحدة.
فإذا عرفنا منهجه في العمل على النحو الذي بيناه ، فلنعرف أن هذا المنهج أصيل وليس منهج مرحلة ولا بيئة ولا ظروف خاصة بنشأة الجماعة المسلمة الأولى. إنما هو المنهج الذي لا يقوم بناء هذا الدين إلا به.
إنه لم تكن وظيفة الإسلام أن يغير عقيدة الناس وواقعهم فحسب. ولكن كانت وظيفته أن يغير طريقة تفكيرهم ، وتناولهم للتصور وللواقع. ذلك أنه منهج رباني مخالف في طبيعته كلها لمناهج البشر القاصرة الهزيلة.(1/301)
ونحن لا نملك أن نصل إلى التصور الرباني والحياة الربانية إلا عن طريق منهج تفكير رباني كذلك. منهج أراد اللّه أن يقيم منهج الناس في التفكير على أساسه ليصح تصورهم وتكوينهم الحيوي.
ونحن حين نريد من الإسلام أن يجعل من نفسه نظرية للدراسة نخرج عن طبيعة المنهج الرباني للتكوين وعن طبيعة المنهج الرباني للتفكير. ونخضع الإسلام لطرائق التفكير البشرية! كأنما المنهج الرباني أدنى من المناهج البشرية! وكأنما نريد لنرتقي بمنهج اللّه في التصور والحركة ليوازي مناهج العبيد! والأمر من هذه الناحية يكون خطيرا. والهزيمة تكون قاتلة! إن وظيفة المنهج الرباني أن يعطينا - نحن أصحاب الدعوة الإسلامية - منهجا خاصا للتفكير نبرأ به من رواسب مناهج التفكير الجاهلية السائدة في الأرض والتي تضغط على عقولنا وتترسب في ثقافتنا .. فإذا نحن أردنا أن نتناول هذا الدين بمنهج تفكير غريب عن طبيعته من مناهج التفكير الجاهلية الغالبة ، كنا قد أبطلنا وظيفته التي جاء ليؤديها للبشرية وحرمنا أنفسنا فرصة الخلاص من ضغط المنهج الجاهلي السائد في عصرنا ، وفرصة الخلاص من رواسبه في عقولنا وتكويننا.
والأمر من هذه الناحية كذلك يكون خطيرا ، والخسارة تكون قاتلة ..
إن منهج التفكير والحركة في بناء الإسلام ، لا يقل قيمة ولا ضرورة عن منهج التصور الاعتقادي والنظام الحيوي ولا ينفصل عنه كذلك .. ومهما يخطر لنا أن نقدم ذلك التصور وهذا النظام في صورة تعبيرية ، فيجب ألا يغيب عن بالنا أن هذا لا ينشئ «الإسلام» في الأرض في صورة حركة واقعية ، بل يجب ألا يغيب عن بالنا أنه لن يفيد من تقديمنا الإسلام في هذه الصورة إلا المشتغلون فعلا بحركة إسلامية واقعية. وأن قصارى ما يفيده هؤلاء من تقديم الإسلام لهم في هذه الصورة هو أن يتفاعلوا معها بالقدر الذي وصلوا إليه هم فعلا في أثناء الحركة! ومرة أخرى أكرر أن التصور الاعتقادي يجب أن يتمثل من فوره في تجمع حركي وأن يكون التجمع الحركي في الوقت ذاته تمثيلا صحيحا وترجمة حقيقية للتصور الاعتقادي.
ومرة أخرى أكرر كذلك أن هذا هو المنهج الطبيعي للإسلام الرباني ، وأنه منهج أعلى وأقوم وأشد فاعلية وأكثر انطباقا على الفطرة البشرية من منهج صياغة النظريات كاملة مستقلة وتقديمها في الصورة الذهنية الباردة للناس ، قبل أن يكون هؤلاء الناس مشتغلين بالفعل بحركة واقعية وقبل أن يكونوا هم أنفسهم ترجمة تنمو خطوة خطوة لتمثيل ذلك المفهوم النظري.
وإذا صح هذا في أصل النظرية فهو أصح - بطبيعة الحال - فيما يختص بتقديم أسس النظام الذي يتمثل فيه التصور الإسلامي ، أو تقديم التشريعات المفصلة لهذا النظام.
إن الجاهلية التي حولنا كما أنها تضغط على أعصاب بعض المخلصين من أصحاب الدعوة الإسلامية فتجعلهم يستعجلون خطوات المنهج الإسلامي ، كذلك هي تتعمد أحيانا أن تحرجهم فتسألهم : أين(1/302)
تفصيلات نظامكم الذي تدعون إليه؟ وماذا أعددتم لتنفيذه من بحوث ومن تفصيلات ومن مشروعات؟ وهي في هذا تتعمد أن تعجلهم عن منهجهم ، وأن تجعلهم يتجاوزون مرحلة بناء العقيدة وأن يحولوا منهجهم الرباني عن طبيعته ، التي تتبلور فيها النظرية من خلال الحركة ، ويتحدد فيها النظام من خلال الممارسة ، وتسن فيها التشريعات في ثنايا مواجهة الحياة الواقعية بمشكلاتها الحقيقية ..
ومن واجب أصحاب الدعوة الإسلامية ألا يستجيبوا للمناورة! من واجبهم أن يرفضوا إملاء منهج غريب على حركتهم وعلى دينهم! من واجبهم ألا يستخفهم من لا يوقنون! ومن واجبهم أن يكشفوا مناورة الإحراج وأن يستعلوا عليها وأن يتحركوا بدينهم وفق منهج هذا الدين في الحركة. فهذا من أسرار قوته ، وهذا هو مصدر قوتهم كذلك.
إن المنهج في الإسلام يساوي الحقيقة ولا انفصام بينهما .. وكل منهج غريب لا يمكن أن يحقق الإسلام في النهاية. والمناهج الغربية الغريبة يمكن أن تحقق أنظمتها البشرية ولكنها لا يمكن أن تحقق نظامنا الرباني ..
فالتزام المنهج ضروري كالتزام العقيدة وكالتزام النظام في كل حركة إسلامية. لا في الحركة الإسلامية الأولى كما يظن بعض الناس! هذه هي كلمتي الأخيرة .. وإنني لأرجو أن أكون بهذا البيان لطبيعة القرآن المكي ، ولطبيعة المنهج الرباني المتمثل فيه ، قد بلغت وأن يعرف أصحاب الدعوة الإسلامية طبيعة منهجهم ، ويثقوا به ، ويطمئنوا إليه ويعلموا أن ما عندهم خير ، وأنهم هم الأعلون .. «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» .. صدق اللّه العظيم ..
ونمضي بعد ذلك لمواجهة السورة.
هذه السورة - وهي أولى السور المكية التي نتعرض لها هنا في سياق هذه الظلال - نموذج كامل للقرآن المكي الذي تحدثنا عن طبيعته وخصائصه ومنهجه في الصفحات السابقة وهي تمثل طبيعة هذا القرآن وخصائصه ومنهجه ، في موضوعها الأساسي ، وفي منهج التناول ، وفي طريقة العرض سواء .. ذلك مع احتفاظها «بشخصيتها» الخاصة وفق الظاهرة الملحوظة في كل سور القرآن والتي لا تخطئها الملاحظة البصيرة في أية سورة ..
فلكل سورة شخصيتها ، وملامحها ، ومحورها ، وطريقة عرضها لموضوعها الرئيسي والمؤثرات الموحية المصاحبة للعرض والصور والظلال والجو الذي يظللها والعبارات الخاصة التي تتكرر فيها وتكون أشبه باللوازم المطردة فيها ... حتى وهي تتناول موضوعا واحدا أو موضوعات متقاربة. فليس الموضوع هو الذي يرسم شخصية السورة ولكنه هذه الملامح والسمات الخاصة بها!(1/303)
وهذه السورة - مع ذلك - تعالج موضوعها الأساسي بصورة فريدة .. إنها في كل لمحة منها وفي كل موقف ، وفي كل مشهد ، تمثل «الروعة الباهرة» .. الروعة التي تبده النفس ، وتشده الحس ، وتبهر النّفس أيضا وهو يلاحق مشاهدها وإيقاعها وموحياتها مبهورا! نعم! هذه حقيقة! حقيقة أجدها في نفسي وحسي وأنا أتابع سياق السورة ومشاهدها وإيقاعاتها .. وما أظن بشرا ذا قلب لا يجد منها لونا من هذا الذي أجد .. إن الروعة فيها تبلغ فعلا حد البهر. حتى لا يملك القلب أن يتابعها إلا مبهورا مبدوها! إنها - في جملتها - تعرض «حقيقة الألوهية» .. تعرضها في مجال الكون والحياة ، كما تعرضها في مجال النفس والضمير ، وتعرضها في مجاهيل هذا الكون المشهود ، كما تعرضها في مجاهيل ذلك الغيب المكنون ..
وتعرضها في مشاهد النشأة الكونية والنشأة الحيوية والنشأة الإنسانية ، كما تعرضها في مصارع الغابرين واستخلاف المستخلفين .. وتعرضها في مشاهد الفطرة وهي تواجه الكون ، وتواجه الأحداث ، وتواجه النعماء والضراء ، كما تعرضها في مظاهر القدرة الإلهية والهيمنة في حياة البشر الظاهرة والمستكنة ، وفي أحوالهم الواقعة والمتوقعة .. وأخيرا تعرضها في مشاهد القيامة ، ومواقف الخلائق وهي موقوفة على ربها الخالق ..
إن موضوعها الذي تعالجه من مبدئها إلى منتهاها هو موضوع العقيدة ، بكل مقوماتها وبكل مكوناتها.
وهي تأخذ بمجامع النفس البشرية ، وتطوّف بها في الوجود كله ، وراء ينابيع العقيدة وموحياتها المستسرة والظاهرة في هذا الوجود الكبير .. إنها تطوف بالنفس البشرية في ملكوت السماوات والأرض ، تلحظ فيها الظلمات والنور ، وترقب الشمس والقمر والنجوم. وتسرح في الجنات المعروشات وغير المعروشات ، والمياه الهاطلة عليها والجارية فيها وتقف بها على مصارع الأمم الخالية ، وآثارها البائدة والباقية. ثم تسبح بها في ظلمات البر والبحر ، وأسرار الغيب والنفس ، والحي يخرج من الميت والميت يخرج من الحي ، والحبة المستكنة في ظلمات الأرض ، والنطفة المستكنة في ظلمات الرحم. ثم تموج بالجن والإنس ، والطير والوحش ، والأولين والآخرين ، والموتى والأحياء ، والحفظة على النفس بالليل والنهار ..
إنه الحشد الكوني الذي يزحم أقطار النفس ، وأقطار الحس .. ثم إنها اللمسات المبدعة المحيية ، التي تنتفض بعدها المشاهد والمعاني أحياء في الحس والخيال .. وإذا كل مكرور مألوف من المشاهد والمشاعر ، جديد نابض ، كأنما تتلقاه النفس أول مرة وكأنما لم يطلع عليه من قبل ضمير إنسان! وهي تشبه في سياقها المتدافع بهذه المشاهد والمواقف والموحيات والإيقاعات والصور والظلال مجرى النهر المتدافع بالأمواج المتلاحقة. ما تكاد الموجة تصل إلى قرارها حتى تبدو الموجة التالية ملاحقة لها ، متشابكة معها في المجرى المتصل المتدفق! وهي في كل موجة من هذه الموجات المتدافعة المتلاحقة المتشابكة ، تبلغ حد «الروعة(1/304)
الباهرة» التي وصفنا - مع تناسق منهج العرض في شتى المشاهد كما سنبين - وتأخذ على النفس أقطارها بالروعة الباهرة ، وبالحيوية الدافقة ، وبالإيقاع التصويري والتعبيري والموسيقي وبالتجمع والاحتشاد ومواجهة النفس من كل درب ومن كل نافذة! ونحن - سلفا - على يقين أننا لسنا ببالغين شيئا في نقل إيقاعات هذه السورة إلى أي قلب إلا بأن ندع السورة ذاتها تنطلق بسياقها الذاتي ، وإيقاعها الذاتي ، إلى هذا القلب .. لسنا ببالغين شيئا بالوصف البشري والأسلوب البشري .. ولكنها مجرد المحاولة لإقامة القنطرة بين المعزولين عن هذا القرآن - بحكم بعدهم عن الحياة في جو القرآن - وبين هذا القرآن! والحياة في جو القرآن لا تعني مدارسة القرآن وقراءته والاطلاع على علومه .. إن هذا ليس «جو القرآن» الذي نعنيه .. إن الذي نعنيه بالحياة في جو القرآن : هو أن يعيش الإنسان في جو ، وفي ظروف ، وفي حركة ، وفي معاناة ، وفي صراع ، وفي اهتمامات .. كالتي كان يتنزل فيها هذا القرآن .. أن يعيش الإنسان في مواجهة هذه الجاهلية التي تعم وجه الأرض اليوم ، وفي قلبه ، وفي همه ، وفي حركته ، أن «ينشئ» الإسلام في نفسه وفي نفوس الناس ، وفي حياته وفي حياة الناس ، مرة أخرى في مواجهة هذه الجاهلية. بكل تصوراتها ، وكل اهتماماتها وكل تقاليدها ، وكل واقعها العملي وكل ضغطها كذلك عليه ، وحربها له ، ومناهضتها لعقيدته الربانية ، ومنهجه الرباني وكل استجاباتها كذلك لهذا المنهج ولهذه العقيدة بعد الكفاح والجهاد والإصرار ..
هذا هو الجو القرآني الذي يمكن أن يعيش فيه الإنسان فيتذوق هذا القرآن .. فهو في مثل هذا الجو نزل ، وفي مثل هذا الخضم عمل .. والذين لا يعيشون في مثل هذا الجو معزولون عن القرآن مهما استغرقوا في مدارسته وقراءته والاطلاع على علومه ..
والمحاولة التي نبذلها لإقامة القنطرة بين المخلصين من هؤلاء وبين القرآن ، ليست بالغة شيئا ، إلا بعد أن يجتاز هؤلاء القنطرة ويصلوا إلى المنطقة الأخرى ويحاولوا أن يعيشوا في «جو القرآن» حقا بالعمل والحركة.
وعندئذ فقط سيتذوقون هذا القرآن ويتمتعون بهذه النعمة التي ينعم اللّه بها على من يشاء ..
هذه السورة تعالج قضية العقيدة الأساسية .. قضية الألوهية والعبودية .. تعالجها بتعريف العباد برب العباد ..
من هو؟ ما مصدر هذا الوجود؟ ماذا وراءه من أسرار؟ من هم العباد؟ من ذا الذي جاء بهم إلى هذا الوجود؟
من أنشأهم؟ من يطعمهم؟ من يكفلهم؟ من يدبر أمرهم؟ من يقلب أفئدتهم وأبصارهم؟ من يقلب ليلهم ونهارهم؟ من يبدئهم ثم يعيدهم؟ لأي شيء خلقهم؟ ولأي أجل أجلهم؟ ولأي مصير يسلمهم؟ .. هذه(1/305)
الحياة المنبثقة هنا وهناك .. من بثها في هذا الموات؟ .. هذا الماء الهاطل. هذا البرعم النابغ. هذا الحب المتراكب.
هذا النجم الثاقب. هذا الصبح البازغ. هذا الليل السادل. هذا الفلك الدوار .. هذا كله من وراءه؟ وماذا وراءه من أسرار ، ومن أخبار؟ .. هذه الأمم ، وهذه القرون ، التي تذهب وتجي ء ، وتهلك وتستخلف ..
من ذا يستخلفها؟ ومن ذا يهلكها؟ لماذا تستخلف؟ ولما ذا يدركها البوار؟ وماذا بعد الاستخلاف والابتلاء والوفاة من مصير وحساب وجزاء؟؟؟
هكذا تطوّف السورة بالقلب البشري في هذه الآماد والآفاق ، وفي هذه الأغوار والأعماق .. ولكنها تمضي في هذا كله على منهج القرآن المكي .. الذي أسلفنا الحديث عنه في الصفحات السابقة - وعلى منهج القرآن كله .. إنها لا تهدف إلى تصوير نظرية في العقيدة ولا إلى جدل لاهوتي يشغل الأذهان والأفكار .. إنما تهدف إلى تعريف الناس بربهم الحق لتصل من هذا التعريف إلى تعبيد الناس لربهم الحق. تعبيد ضمائرهم وأرواحهم ، وتعبيد سعيهم وحركتهم ، وتعبيد تقاليدهم وشعائرهم ، وتعبيد واقعهم كله لهذا السلطان المتفرد ..
سلطان اللّه الذي لا سلطان لغيره في الأرض ولا في السماء ..
ويكاد اتجاه السورة كله يمضي إلى هذا الهدف المحدد .. من أولها إلى آخرها .. فاللّه هو الخالق. واللّه هو الرازق. واللّه هو المالك. واللّه هو صاحب القدرة والقهر والسلطان. واللّه هو العليم بالغيوب والأسرار.
واللّه هو الذي يقلب القلوب والأبصار كما يقلب الليل والنهار .. وكذلك يجب أن يكون اللّه هو الحاكم في حياة العباد وألا يكون لغيره نهي ولا أمر ، ولا شرع ولا حكم ، ولا تحليل ولا تحريم. فهذا كله من خصائص الألوهية ، ولا يجوز أن يزاوله في حياة الناس أحد من دون اللّه ، لا يخلق ، ولا يرزق ، ولا يحيي ولا يميت ، ولا يضر ولا ينفع ، ولا يمنح ولا يمنع ، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا في الدنيا ولا في الآخرة ..
وسياق السورة يسوق على هذه القضية أدلته في تلك المشاهد والمواقف والإيقاعات البالغة حد الروعة الباهرة والتي تواجه القلب بالحشود الحاشدة من المؤثرات الموحية ، من كل درب ومن كل باب!
والقضية الكبيرة التي تعالجها السورة هي قضية الألوهية والعبودية في السماوات والأرض. في محيطها الواسع ، وفي مجالها الشامل .. ولكن المناسبة الحاضرة في حياة الجماعة المسلمة حينذاك ، المناسبة التطبيقية لهذه القاعدة الكبيرة الشاملة ، هي ما تزاوله الجاهلية من حق التحليل والتحريم في الذبائح والمطاعم ، ومن حق تقرير بعض الشعائر في النذور من الذبائح والثمار والأولاد .. وهي المناسبة التي تتحدث عنها هذه(1/306)
الآيات في أواخر السورة : «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ. وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ، وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ. وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ ، إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ. وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ ، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ» ..(118 - 121).
«وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً ، فَقالُوا : هذا لِلَّهِ - بِزَعْمِهِمْ - وَهذا لِشُرَكائِنا. فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ! وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ ، فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ. وَقالُوا : هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ، لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ - بِزَعْمِهِمْ - وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها ، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا - افْتِراءً عَلَيْهِ - سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ. وَقالُوا : ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا ، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ. سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ - افْتِراءً عَلَى اللَّهِ - قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» ..
(136 - 140) هذه هي المناسبة الحاضرة في حياة الأمة المسلمة - والجاهلية حولها - التي تتمثل فيها تلك القضية الكبيرة ..
قضية التشريع .. ومن ورائها القضية الكبرى .. قضية الألوهية والعبودية التي تعالجها السورة كلها ، ويعالجها القرآن المكي كله ، كما يعالجها القرآن المدني أيضا كلما جاء ذكر النظام فيه وذكر التشريع.
والحشد الذي يتدفق به سياق السورة من التقريرات والمؤثرات ، وهو يواجه الجاهلية وأهلها في أمر هذه الأنعام والذبائح والنذور - وهي المناسبة التي تتمثل فيها قضية حق التشريع - وربطها بقضية العقيدة كلها - قضية الألوهية والعبودية - وجعلها مسألة إيمان أو كفر ، ومسألة إسلام أو جاهلية .. هذا الحشد - على النحو الذي سنحاول أن نستعرض نماذج منه في هذا التعريف المختصر بالسورة ، والذي سيتجلى على حقيقته في المواجهة التفصيلية للنصوص في السياق بعد ذلك - يوقع في النفس تلك الحقيقة الأصيلة في طبيعة هذا الدين.
وهي أن كل جزئية صغيرة في الحياة الإنسانية يجب أن تخضع خضوعا مطلقا لحاكمية اللّه المباشرة ، الممثلة في شريعته. وإلا فهو الخروج من هذا الدين جملة من أجل الخروج على حاكمية اللّه المطلقة في تلك الجزئية الصغيرة.(1/307)
كذلك يدل ذلك الحشد على مدى الأهمية التي ينوطها هذا الدين بتخليص مظهر الحياة كله من ظلال حاكمية البشر في أي شأن من شؤون البشر - جل أم حقر ، كبر أم صغر - وربط أي شأن من هذه الشؤون بالأصل الكبير الذي يتمثل فيه هذا الدين .. وهو حاكمية اللّه المطلقة التي تتمثل فيها ألوهيته في الأرض ، كما تتمثل ألوهيته في الكون كله بتصرف أمر هذا الكون كله بلا شريك.
إن سياق السورة يعقب على تلك الشعائر الجاهلية في شأن الأنعام والثمار ، والنذور منها ومن الأولاد تعقيبات منوعة. بعضها مباشر ، لتصوير مدى السخف والتناقض في هذه الشعائر ، وبعضها للربط بين مزاولة البشر لحق التحريم والتحليل وقضية العقيدة الكبرى ، ولبيان أن اتباع أمر اللّه فيها هو صراطه المستقيم ، الذي يخرج من لا يتبعه عن هذا الدين .. على النحو التالي بعد ذكر تلك الشعائر في الآيات السابقة :
«وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ ، وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ ، وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ. كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ، وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً ، كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ. قُلْ : آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ؟ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ؟ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ. قُلْ : آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ؟ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ؟ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا؟ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قُلْ : لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ، أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ - فَإِنَّهُ رِجْسٌ - أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما - إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ - ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ.
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ : رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ. سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا : لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا ، وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ. كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا. قُلْ : هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا؟ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ، وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ. قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ. قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا ، فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ. قُلْ : تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ : أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً. وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ، وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ - إِلَّا(1/308)
بِالْحَقِّ - ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ - إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ - حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ - لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها - وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا - وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى - وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» .. (141 - 153)
وكذلك نرى أن هذه المسألة الجزئية الخاصة بالتحريم والتحليل في الأنعام والنذور في الأنعام والثمار ، وفي الأولاد - على ما كان متبعا في الجاهلية - يربطها السياق بتلك القضايا الكبيرة : بالهدى والضلال. واتباع منهج اللّه أو اتباع خطوات الشيطان ، وبرحمة اللّه أو بأسه وبالشهادة بوحدانية اللّه أو عدل غيرها به. وباتباع صراطه مستقيما أو التفرق عنه. ويستخدم نفس التعبيرات التي استخدمها وهو بصدد القضية الكبرى في محيطها الشامل ..
كما نراه يحشد لها من المؤثرات والموحيات - في هذا الموضع وحده - مشهد الخلق والإحياء في الجنات المعروشات وغير المعروشات. ومشهد النخل والزرع مختلفا ألوانه والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه.
وموقف الإشهاد والمفاصلة. وموقف البأس والتدمير على المشركين ..
وهي ذات المشاهد التي حشدها السياق في السورة كلها من قبل ، وهو يتناول قضية العقيدة بجملتها ، قبل أن يتعرض لهذه المناسبة الخاصة التي تتمثل فيها. ولكل هذا دلالته التي لا تخطئ على طبيعة هذا الدين ، ونظرته لقضية الحاكمية والتشريع في الكثير والقليل ..
ولعلنا قد سبقنا سياق السورة ونحن نبين منهجها الموضوعي وهي تتناول قضية العقيدة بجملتها ، في مواجهة مناسبة جزئية تتعلق بأمر التشريع والحاكمية. وهي المناسبة التي لا نقول : إنها اقتضت ذلك الحشد المجتمع المتدفق من التقريرات والتأثيرات في سياق السورة كله ، وهذا البيان الرائع الباهر لحقيقة الألوهية في مجالها الواسع الشامل. ولكننا نقول : إنها المناسبة التي ربطت في سياق السورة بهذا كله فدل هذا الربط على طبيعة هذا الدين ونظرته لقضية التشريع والحاكمية في الكبير والصغير ، وفي الجليل والحقير من شؤون هذه الحياة الدنيا .. كما أسلفنا ..
فالآن نمضي في التعريف المجمل بالسورة وخصائصها وملامحها ، على النحو الذي ألفناه في هذه الظلال ، قبل الدخول في الاستعراض المفصل للسياق :
في روايات عن ابن عباس ، وعن أسماء بنت يزيد ، وعن جابر ، وعن أنس بن مالك وعن عبد اللّه بن مسعود - رضي اللّه عنهم جميعا - أن هذه السورة مكية ، وأنها نزلت كلها جملة واحدة.
وليس في هذه الروايات ما يعين تاريخ نزول السورة ، وليس في موضوعها كذلك ما يحدد زمن نزولها من العهد المكي .. وهي حسب الترتيب الراجح لسور القرآن يجيء ترتيبها بعد سورة الحجر وتكون هي(1/309)
السورة الخامسة والخمسين .. ولكننا - كما بينا من قبل في التعريف بسورة البقرة - لا نستطيع بمثل هذه المعلومات أن نجزم بشيء عن تاريخ محدد لنزول السور. فالمعول عليه عندهم - في الغالب - في ترتيب السور على هذا النحو هو تاريخ نزول أوائلها - لا جملتها - وقد تكون هناك أجزاء من سورة متقدمة نزلت بعد أجزاء من سورة متأخرة. إذ المعول في الترتيب على أوائل السورة .. أما في سورة الأنعام فقد نزلت كلها جملة.
ولكننا لا نملك تحديد تاريخ نزولها. غير أننا نرجح أنها كانت بعد السنوات الأولى من الرسالة .. ربما الخامسة أو السادسة .. ولا نعتمد في هذا الترجيح على أكثر من رقم الترتيب ثم على سعة الموضوعات التي تناولتها ، والتوسع في عرضها على هذا النحو ، الذي يشي بأن الدعوة والجدل مع المشركين ، وطول الإعراض منهم والتكذيب لرسول اللّه ، أصبح يقتضي التوسع في عرض القضايا العقيدية على هذا النحو كما يقتضي تسلية رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عن طول الصد والإعراض والتكذيب ..
وفي رواية عن ابن عباس وقتادة : أن السورة مكية كلها إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة. قوله تعالى : «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ. قُلْ : مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ ، تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً ، وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ ، قُلِ : اللَّهُ ، ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ» .. وهي الآية : 91. نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين. وقوله تعالى : «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ ، وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ ، كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ ، وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ، وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» ..
وهي الآية 141 ، نزلت في ثابت بن قيس شماس الأنصاري .. وقال ابن جريج والماوردي : نزلت في معاذ ابن جبل.
والرواية عن الآية الأولى محتملة بسبب أن فيها ذكرا للكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ، ومواجهة لليهود في قوله تعالى : «تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها» .. وإن كان هناك روايات أخرى عن مجاهد ، وعن ابن عباس أن الذين قالوا : ما أنزل اللّه على بشر من شيء هم مشركو مكة وأن الآية مكية. وهناك قراءة : «قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا» ...
فهي على هذه القراءة خبر عن اليهود وليست خطابا لهم. وسياق الآية كله عن المشركين. وقد رجح ابن جرير هذه الرواية واستحسن هذه القراءة .. وعلى هذا تكون الآية مكية ..(1/310)
وأما الآية الثانية فالسياق لا يحتمل أن تكون مدنية. لأن السياق بدونها ينقطع ما قبلها فيه عما بعدها في المعنى وفي العبارة. والحديث متصل عن إنشاء اللّه للجنات المعروشات ، وعن جعله حمولة وفرشا من الأنعام في الآية التي تليها : «وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» ..
ثم يمضي السياق في تكملة الحديث عن الأنعام ، الذي كان قد بدأه قبل آية الثمار .. يجمعها كلها موضوع واحد ، هو الذي تحدثنا عنه في الفقرة السابقة الخاصة بقضية التحريم والتحليل والنذور.
وإنما الذي جعل بعضهم يعتبرها مدنية هو ما جاء فيها من قوله تعالى : «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ» .. واعتبارهم هذا الأمر يعني الزكاة. والزكاة لم تتقرر بأنصبتها المحددة في الزروع والثمار إلا في المدينة .. ولكن هذا المعنى ليس متعينا في الآية. إذ أن هناك أقوالا مأثورة في تفسيرها بأنها تعني الصدقات ، أو بأنها تعني الإطعام منها لمن يمر بهم يوم الحصاد أو جني الثمار أو لقرابتهم .. وأن الزكاة حددت فيما بعد بالعشر ونصف العشر .. وعلى هذا تكون الآية مكية.
وقال الثعلبي : سورة الأنعام مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة : «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» .. إلى آخر ثلاث آيات. و«قُلْ : تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» .. إلى آخر ثلاث آيات ..
والآيات الأولى بينا مكيتها ، إذ ينطبق على الآيتين الثانية والثالثة من هذه المجموعة ما ينطبق على الآية الأولى منها ..
أما المجموعة الثانية فليس هناك - فيما وصل إليه اطلاعي - رواية عن صحابي ولا تابعي عن كونها مدنية وليس في موضوعها ما يدعو إلى اعتبارها مدنية. وهي تتحدث عن تصورات جاهلية وهي متصلة بموضوع التحريم والتحليل في الذبائح والنذور الذي سبق الحديث عنه ، اتصالا وثيقا .. لذلك نميل إلى اعتبارها مكية كذلك ..
وفي المصحف الأميري أن الآيات (20 ، 23 ، 91 ، 92 ، 114 ، 141 ، 151 ، 152 ، 153) مدنية. وقد تحدثنا عن الآيات (91 ، 92) و(141) و(151 - 153) وليس في الآيات (20 ، 23 ، 114) ما يدعو إلى الظن بأنها مدنية إلا ذكر أهل الكتاب فيها. وهذا ليس دليلا فقد ورد مثل هذه في الآيات المكية ..
لهذا كله نحن نميل إلى اعتبار الروايات المطلقة ، التي تنص على أن السورة نزلت بجملتها في مكة في ليلة واحدة. وقد وردت عن ابن عباس وعن أسماء بنت يزيد ، وفي الرواية عن أسماء تحديد للرواية بحادث مصاحب على النحو التالي :(1/311)
«قال سفيان الثوري عن ليث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت : «نزلت سورة الأنعام على النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة وأنا آخذة بزمام ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة».
أما الرواية عن ابن عباس فقد رواها الطبراني قال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : «نزلت الأنعام بمكة ليلة جملة واحدة ، حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح» ..
وهاتان الروايتان أوثق من الأقوال التي جاء فيها أن بعض الآيات مدنية. وذلك بالإضافة إلى التحليل الموضوعي الذي أسلفنا.
والواقع أن سياق السورة في تماسكه وفي تدافعه وفي تدفقه يوقع في القلب أن هذه السورة نهر يتدفق ، أو سيل يتدفع ، بلا حواجز ولا فواصل وإن بناءها ذاته ليصدق تماما هذه الروايات ، أو على الأقل يرجحها ترجيحا قويا.
أما موضوع السورة الأساسي وشخصيتها العامة فقد أجملنا الإشارة إليهما في مطلع الحديث عنها. ولكن لا بد من شيء من التفصيل في هذا التعريف ..
روى أبو بكر بن مردويه - بإسناده - عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - «نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة سدّ ما بين الخافقين ، لهم زجل بالتسبيح ، والأرض بهم ترتج».
ورسول اللّه يقول : «سبحان اللّه العظيم. سبحان اللّه العظيم ..».
هذا الموكب ، وهذا الارتجاج ، واضح ظلهما في السورة! .. إنها هي ذاتها موكب. موكب ترتج له النفس ، ويرتج له الكون! ..
إنها زحمة من المواقف والمشاهد والموحيات والإيقاعات! ..
وهي - كما قلنا من قبل - تشبه في سياقها المتدافع بهذه المشاهد والمواقف والموحيات والإيقاعات مجرى النهر المتدافع بالأمواج المتلاحقة. ما تكاد الموجة تصل إلى قرارها حتى تبدو الموجة التالية ملاحقة لها ، ومتشابكة معها ، في المجرى المتصل المتدفق!
والموضوع الرئيسي الذي تعالجه متصل فلا يمكن تجزئة السورة إلى مقاطع ، كل مقطع منها يعالج جانبا من الموضوع .. إنما هي موجات .. وكل موجة تتفق مع التي قبلها وتكملها. (1)
خلاصة ما اشتملت عليه السورة من العقائد والأحكام
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 1004)(1/312)
(1) العقائد وأدلتها بالأسلوب الجامع بين الإقناع والتأثير كبيان صفات اللّه بذكر أفعاله وسننه فى الخلق وآياته فى الأنفس والآفاق ، وتأثير العقائد فى الأعمال ، مع إيراد الحقائق بطريق المناظرة والجدل ، أو ورودها جوابا بعد سؤال وفى أثناء ذلك يرد شبهات المشركين ويهدم هياكل الشرك ويقوّض أركانه.
(2) الرسالة والوحى وتفنيد شبهات المشركين على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلزامهم الحجة بآية اللّه الكبرى ، وهى القرآن المشتمل على الأدلة العقلية والبراهين العلمية ، وقد كان كثير من الكفار مشركين وغير مشركين يكفرون بالرسل ويستبعدون إنزال الوحى عليهم.
(3) البعث والجزاء والوعد والوعيد بذكر ما يقع يوم القيامة من العذاب للمجرمين ، والبشارة للمتقين بالفوز والنعيم ، مع ذكر عالم الغيب من الملائكة والجن والشياطين والجنة والنار ، وقد كانت العرب كغيرها من الأمم تؤمن بالملائكة وبوجود الجن ويعتقدون بأنهم يظهرون لهم أحيانا بصورة الغيلان ويسمعون أصواتهم وعزفهم ، وأنهم يلقون الشعر فى هواجس الشعراء.
(4) أصول الدين ووصاياه الجامعة فى الفضائل والآداب والنهى عن الرذائل ، وإذا نحن فصلنا القول فيها نرجعها إلى الأصول الآتية :
(ا) إن دين اللّه واحد ، فتفريقه بالمذاهب والأهواء وجعل أهله فرقا وشيعا خروج عن هدى الرسول الذي جاء به وموجب لبراءته من فاعليه.
(ب) إن سعادة الناس وشقاوتهم منوطتان بأعمالهم النفسية والبدنية ، وأن الجزاء على الأعمال يكون بحسب تأثيرها فى الأنفس ، وأن الجزاء على السيئة بمثلها ، وعلى الحسنة بعشر أمثالها فضلا من اللّه ونعمة ، وجزاء السيئات على الإنسان وحده ، وجزاء الحسنات له وحده فلا يحمل أحد وزر غيره.
(ح) إن الناس عاملون بالإرادة والاختيار ، ولكنهم خاضعون للسنن والأقدار ، فلا جبر ولا اضطرار ، ولا تعارض بين عملهم باختيارهم ومشيئة الخالق سبحانه ، إذ المراد من خلقه الأشياء بقدر وتقدير أنه تعالى خلقها على وجه جعل فيه المسببات على قدر الأسباب بناء على علم وحكمة ، فهو لم يخلق شيئا جزافا بغير تقدير ولا نظام يجرى عليه.
(د) إن للّه سننا فى حياة الأمم وموتها ، وسعادتها وشقائها ، وإهلاكها بمعاندة الرسل والظلم والفساد فى الأرض ، وتربيتها بالنعم تارة والنقم أخرى.
(ه) إن التحليل والتحريم وسائر الشعائر التعبدية من حق اللّه تعالى ، فمن وضع حكما لا يستند إلى شرع اللّه فقد افترى إثما عظيما.
(و) الأمر بالسير فى الأرض ، وقد تكرر ذلك فى الكتاب الكريم للنظر فى أحوال الأمم وعواقب الأقوام التي كذبت الرسل.(1/313)
(ز) الترغيب فى معرفة ما فى الكون والإرشاد إلى معرفة سنن اللّه فيه ، وآياته الكثيرة الدالة على علمه وقدرته.
(ح) إن التوبة الصحيحة مع ما يلزمها من العمل الصالح موجبة لمغفرة الذنوب.
(ط) ابتلاء الناس بعضهم ببعض ، ليتنافسوا فى العلوم والأعمال النافعة ، وإعلاء كلمة الحق والدين ورفعة شأنه وإعزاز أهله. (1)
================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (8 / 94)(1/314)
(7) سورة الأعراف
هذا هو الاسم الذي عُرفت به هذه السّورة ، من عهد النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) أخرج النّسائي ، من حديث ابن أبي مُليكة ، عن عروة عن زيد بن ثابت : أنّه قال لمروان بن الحكم : ( ما لي أراك تقرأ في المغرب بقصار السّور وقد رأيت رسول الله عليه الصّلاة والصّلام يقرأ فيها بأطْول الطِوليين ) . قال مروان قلت : ( يا أبَا عبدِ اللَّه مَا أطولُ الطُولَيَنْ ) ، قال : ( الأعراف ) . وكذلك حديثُ أمّ سلمة رضي الله عنها أنّ رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) كان يقرأ في المغرب بطولي الطُوليين . والمراد بالطوليين سورة الأعرافُ وسورة الأنعام ، فإنّ سورة الأعراف أطول من سورة الأنعام ، باعتبار عدد الآيات . ويُفسِر ذلك حديثُ عائشة رضي الله عنها . أخرج النّسائي ، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها : أنّ رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف فَرّقَها في ركعتين .
ووجه تسميتها أنّها ذُكر فيها لفظ الأعراف بقوله تعالى : ( وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال ( ( الأعراف : 46 ) الآية . ولم يُذكر في غيرها من سور القرآن ، ولأنّها ذُكر فيها شأن أهل الأعراف في الآخرة ، ولم يذكر في غيرها من السّور بهذا اللّفظ ، ولكنّه ذكر بلفظ ( سُور ) في قوله : ( فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب في سورة الحديد ( 13 ) .
وربّما تُدعى بأسماء الحروف المقطَّعة التي في أوّلها وهي : ألِفْ لاَمْ مِيمْ صَادْ أخرج النّسائي من حديث أبي الأسود ، عن عروة ، عن زيد بن ثابت : أنّه قال لمروان : لقد رأيت رسول الله يقرأ في المغرب بأطول الطُوليين : ألِفْ ، لاَمْ ، مِيمْ ، صَادْ . وهو يجيء على القول بأنّ الحروف المقطّعة التي في أوائل بعض السّور هي أسماء للسّور الواقعة فيها ، وهو ضعيف ، فلا يكون ( المص ) اسماً للسّورة ، وإطلاقه عليها إنّما هو على تقدير التّعريف بالإضافة إلى السّورة ذات ألمص ، وكذلك سمّاها الشّيخ ابن أبي زيد في الرّسالة ( في باب سجود القرآن . ولم يعُدّوا هذه السّورة في السور ذات الأسماء المتعدّدة . وأمّا ما في حديث زيد مِن أنّها تدعى طُولى الطَّولَيين فعلى إرادة الوصف دون التّلقيب . وذكر الفيروز بادي في كتاب ( بصائر ذوي التّمييز ) أنّ هذه السّورة تسمى سورة الميقات لاشتمالها على ذكر ميقات موسى في قوله : ( ولما جاء موسى لميقاتنا ( ( الأعراف : 143 ) . وأنّها تسمى سورة الميثاق لاشتمالها على حديث الميثاق في قوله : ( ألست بربكم قالوا بلى ( ( الأعراف : 172 ) .
وهي مكّية بلا خلاف . ثمّ قيل جميعُها مكّي ، وهو ظاهر رواية مجاهد وعطاء الخراساني عن ابن عبّاس ، وكذلك نقل عن ابن الزّبير ، وقيل نزل بعضها بالمدينة ، قال قتادة آية : ( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ( ( الأعراف : 163 ) نزلت بالمدينة ، وقال مقاتِل من قوله : ( واسألهم عن القرية ( إلى(1/315)
قوله وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم ( الأعراف : 172 ) نزلتْ بالمدينة ، فإذا صحّ هذا احتمل أن تكون السورة نزلت بمكّة ثم ألحق بها الآيَتان المذكورتان ، واحتمل أنّها نزلت بمكّة وأكمل منها بقيتها تانك الآيتان .
ولم أقف على ما يُضبط به تاريخ نزولها ؛ وعن جابر بن زيد أنّها نزلت بعد سورة ) ص ( وقبل سورة ) قل أوحي ( ( الجن : 1 ) ، وظاهر حديث ابن عبّاس في ( صحيح البخاري ) أنّ سورة ) قل أوحي ( أنزلت في أوّل الإسلام حين ظهور دعوةِ محمّد ( - صلى الله عليه وسلم - ) وذلك في أيّام الحجّ ، ورسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) متوجّه بأصحابه إلى سُوق عكاظ ، فلعلّ ذلك في السنة الثّانية من البعثة ، ولا أحسب أن تكون سورة الأعراف قد نزلت في تلك المدّة لأنّ السّور الطوال يظهر أنّها لم تنزل في أوّل البعثة . ولم أقف على هاتين التّسميتين في كلام غيره .
وهي من السّبع الطّوال التي جعلت في أوّل القرآن لطولها وهي سُور : البقرة ، وآل عمران ، والنّساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، وبراءة ، وقُدم المدني منها وهي سور : البقرة ، وآل عمران ، والنّساء ، والمائدة ، ثمّ ذكر المكي وهو : الأنعام ، والأعراف على ترتيب المصحف العثماني اعتباراً بأنّ سورة الأنعام أنزلت بمكّة بعد سورة الأعراف فهي أقرب إلى المدني من السّور الطّوال .
وهي معدودة التّاسعة والثّلاثين في ترتيب نزول السّور عند جابر بن زيد عن ابن عبّاس ، نزلت بعد سورة ) ص وقبل سورة الجن ، كما تقدّم ، قالوا جعلها ابن مسعود في مصحفه عقب سورة البقرة وجعل بعدها سورة النّساء ، ثمّ آل عمران ، ووقع في مصحف أُبيّ بعد آل عمران الأنعامُ ثمّ الأعراف ، وسورة النّساء هي التي تلي سورة البقرة في الطّول وسورة الأعراف تلي سورة النّساء في الطّول .
وعد آي سورة الأعراف مائتان وستّ آيات في عَدّ أهل المدينة والكوفة ، ومائتان وخمس في عدّ أهل الشّام والبصرة ، قال في الإتقان ( وقيل مائتان وسبع .
أغراضها
افتتحت هذه السّورة بالتّنويه بالقرآن والوعد بتيسيره على النّبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ليبلغه وكان افتتاحها كلاماً جامعاً وهو مناسب لما اشتملت عليه السّورة من المقاصد فهو افتتاح وارد على أحسن وجوه البيان وأكملها شأن سور القرآن .
وتدور مقاصد هذه السّورة على محور مقاصد ؛ منها :
النّهي عن اتّخاذ الشّركاء من دون الله .
وإنذارُ المشركين عن سوء عاقبة الشّرك في الدّنيا والآخرة .(1/316)
ووصف مَا حَلّ بالمشركين والذين كذبّوا الرّسل : من سوء العذاب في الدّنيا ، وما سيحلّ بهم في الآخرة .
تذكير النّاس بنعمة خلق الأرض ، وتمكينُ النّوع الإنساني من خيرات الأرض ، وبنعمة الله على هذا النّوع بخلق أصله وتفضيله .
وما نشأ من عداوة جنس الشيطان لنوع الإنسان .
وتحذير النّاس من التلبّس ببقايا مكر الشّيطان من تسويله إياهم حرمَان أنفسهم الطيّبات ، ومن الوقوع فيما يزجّ بهم في العذاب في الآخرة .
ووصف أهوال يوم الجزاء للمجرمين وكراماته للمتّقين .
والتّذكير بالبعث وتقريب دليله .
والنّهي عن الفساد في الأرض التي أصلحها الله لفائدة الإنسان .
والتّذكير ببديع ما أوجده الله لاصلاحها وإحيائها .
والتّذكير بما أودع الله في فطرة الإنسان من وقت تكوين أصله أن يقبلوا دعوة رسل الله إلى التّقوى والإصلاح .
وأفاض في أحوال الرّسل مع أقوامهم المشركين ، وما لاقَوه من عنادهم وأذاهم ، وأنذر بعدم الاغترار بإمهال الله النّاسَ قبل أن ينزل بهم العذاب ، إعذاراً لهم أن يقلعوا عن كفرهم وعنادهم ، فإنّ العذاب يأتيهم بغتة بعد ذلك الإمهال .
وأطال القول في قصّة موسى عليه السّلام مع فرعون ، وفي تصرّفات بني إسرائيل مع موسى عليه السّلام .
وتخلّل قصّتَه بشارةُ الله ببعثة محمّد ( - صلى الله عليه وسلم - ) وصفة أمّته وفضل دينه .
ثمّ تخلّص إلى موعظة المشركين كيف بدّلوا الحنيفية وتقلّدوا الشّرك ، وضرب لهم مَثلا بمن آتاه الله الآيات فوسوس له الشّيطان فانسلخ عن الهدى .
ووصف حال أهل الضّلالة ووصف تكذيبهم بما جاء به الرّسول ووصف آلهتهم بما ينافي الإلاهيّة وأنّ لله الصّفات الحسنى صفات الكمال .
ثمّ أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام والمسلمين بسعة الصّدر والمداومة على الدّعوة وحذرهم من مداخل الشّيطان بمراقبة الله بذكره سرّاً وجهراً والاقبال على عبادته . (1)
تمهيد بين يدي السورة
__________
(1) - التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (8 / 5)(1/317)
1 - سورة الأعراف هي السورة السابعة في الترتيب المصحفى ، وهي أطول سورة مكية في القرآن الكريم ، وعدد آياتها ست ومائتا آية.
والرأى الراجح عند العلماء أنها جميعها مكية ، وقيل إن الآيات من 163 - 170 مدنية ، وكان نزولها بعد سورة « ص ».
2 - ومناسبتها لسورة الأنعام التي قبلها أن سورة الأعراف تعتبر كالتفصيل لها ، فإن سورة الأنعام قد تكلمت عن أصول العقائد وكليات الدين كلاما إجماليا ، ثم جاءت سورة الأعراف فكانت كالشرح والتفصيل لذلك الإجمال ، خصوصا فيما يتعلق بقصص الأنبياء مع أقوامهم وبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
3 - مقاصدها ومميزاتها : وقد اشتملت سورة الأعراف على المقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها السور المكية ، كإقامة الأدلة على وحدانية اللّه ، وعلى صدق رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى أن يوم القيامة حق .. إلخ.
والذي يتأمل هذه السورة الكريمة يراها تهتم بعرض الحقائق في أسلوبين بارزين فيها ، أحدهما أسلوب التذكير بالنعم ، والآخر أسلوب التخويف من العذاب والنقم.
أما أسلوب التذكير بالنعم فتراه واضحا في لفتها لأنظار الناس إلى ما يلمسونه ويحسونه من نعمة تمكينهم في الأرض ، ونعمة خلقهم وتصويرهم في أحسن تقويم ، ونعمة تمتع الإنسان بما في هذا الكون من خيرات سخرها اللّه له.
وأما أسلوب التخويف بالعذاب فالسورة الكريمة زاخرة به ، تلمس ذلك في قصص نوح ، وهود ، وصالح. ولوط ، وشعيب ، وموسى - عليهم السلام - مع أقوامهم.
وقد استغرق هذا القصص أكثر من نصفها ، وقد ساقت لنا السورة الكريمة ما دار بين الأنبياء وبين أقوامهم ، وما آل إليه أمر أولئك الأقوام الذين لم يستجيبوا لنصائح المرسلين إليهم.
4 - عرض إجمالى لها : ونحن عند ما نستعرض سورة الأعراف نراها في الربع الأول منها تطالعنا بالحديث عن عظمة القرآن وتأمرنا باتباعه ، وتحذرنا من مخالفته ، وتحثنا على المسارعة إلى العمل الصالح الذي تثقل به موازيننا يوم القيامة. قال تعالى : كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ.
ثم ساقت لنا بأسلوب منطقي بليغ قصة آدم مع إبليس ، وكيف أن إبليس قد خدعه بأن أغراه بالأكل من الشجرة المحرمة ، فلما أكل منها هو وزوجه.
بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ.
ثم وجهت إلى بنى آدم نداء في أواخر هذا الربع نهتهم فيه عن الاستجابة لوسوسة الشيطان.(1/318)
قال تعالى : يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما ، إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ.
وفي الربع الثاني منها نراها تأمرنا بأن نأخذ زينتنا عند كل مسجد ، وتخبرنا بأن اللّه - تعالى - ، قد أباح لنا أن نتمتع بالطيبات التي أحلها لنا ، وتبشرنا بحسن العاقبة متى اتبعنا الرسل الذين أرسلهم اللّه لهدايتنا ، ثم تسوق لنا في بضع آيات عاقبة المكذبين لرسل اللّه ، وكيف أن كل أمة من أمم الكفر عند ما تقف بين يدي اللّه للحساب تلعن أختها.قال تعالى : كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها ، حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ، قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ.
ثم تبين السورة بعد ذلك عاقبة المؤمنين فتقول : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
وفي أواخر هذا الربع وفي أوائل الربع الثالث منها نراها تسوق لنا تلك المحاورات التي تدور بين أصحاب الجنة وأصحاب النار ، وتحكى لنا ما يحصل بينهم من نداءات ومجادلات ، تنتهي بأن يقول أصحاب النار لأصحاب الجنة على سبيل التذلل والتوسل : أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ.فيجيبهم أصحاب الجنة : إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ. الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا.
ثم تسوق لنا السورة بعد ذلك جانبا من مظاهر نعم اللّه على خلقه ، وتدعونا إلى شكره عليها لكي يزيدنا من فضله. وفي الربع الرابع منها وكذلك في أواخر الثالث ، تحدثنا السورة الكريمة عن قصة نوح مع قومه ، ثم عن قصة هود مع قومه ، ثم عن قصة صالح مع قومه ، ثم عن قصة لوط مع قومه ، ثم عن قصة شعيب مع قومه. ولقد ساقت لنا خلال حديثها عن هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم من العبر والعظات ما يهدى القلوب ، ويشفى الصدور ويحمل العقلاء على الاستجابة لهدى الأنبياء والمرسلين.
أما في الربع الخامس منها فقد بينت لنا سنن اللّه في خلقه ، ومن مظاهر هذه - السنن أنه - سبحانه - لا يعاقب قوما إلا بعد الابتلاء والاختبار ، وأن الناس لو آمنوا لفتح - سبحانه - عليهم بركات من السماء والأرض وأن الذين يأمنون مكر خالقهم هم القوم الخاسرون.
قال تعالى : تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ، كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ، وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ.
ثم عقب على ذلك ببيان أن اللّه - تعالى - قد ساق قصص السابقين للعظة والاعتبار.(1/319)
ثم أسهبت السورة في الحديث عن قصة موسى - عليه السلام - فقصت علينا في زهاء سبعين آية - استغرقت الربع السادس والسابع والثامن - ما دار بينه وبين فرعون من محاورات ومناقشات ، وما حصل بينه وبين السحرة من مجادلات ومساجلات انتهت بأن قال السحرة : آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ.
ثم حكت لنا ما لقيه موسى من قومه بنى إسرائيل من تكذيب وجهالات ، مما يدل على أصالتهم في التمرد والعصيان ، وعراقتهم في الكفر والطغيان.
وفي الربع التاسع منها حدثتنا عن العهد الذي أخذه اللّه على البشر بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، ثم حضتنا على التفكر والتدبر في ملكوت السموات والأرض ، وبينت لنا أن موعد قيام الساعة لا يعلمه سوى علام الغيوب ، وأن الرسل الكرام وظيفتهم تبليغ رسالات اللّه ، ثم هم بعد ذلك لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.
أما في الربع العاشر والأخير فقد اهتمت السورة الكريمة بإقامة الأدلة على وحدانية اللّه ، ووبخت المشركين على شركهم ، ودعت الناس إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وأمرتهم بأن يكثروا من التضرع والدعاء.وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ. (1)
في السورة صور عما كان عليه العرب من أفكار وعادات وعبادات وتقاليد.
وعن مواقف العناد والمكابرة التي كان يقفها الجاحدون المكذبون من النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وفيها حملات على المشركين وتفنيد لتقاليدهم وعقائدهم. وتصوير لمصائر المؤمنين والكفار الأخروية تصويرا فيه الحثّ والتشويق والإرهاب والوعيد.
وفيها تقريرات عن مشاهد قدرة اللّه في كونه ، للبرهنة على البعث وربوبية اللّه ووحدانيته. وفيها قصة آدم وإبليس بتوسع أكثر مما جاء في السورة السابقة ، كما فيها قصص عن الأنبياء والأمم السابقة ، وعن رسالة موسى لفرعون وبني إسرائيل بإسهاب أكثر مما مرّ في السور السابقة. وقد تخللها مواعظ ومبادئ وتلقينات جليلة.
وهي أولى السور التي تبتدئ بأكثر من حرف منفرد واحد. وهي أطول السور المكية بل هي ثالثة السور القرآنية طولا. والسلسلة القصصية فيها أطول السلاسل القصصية في السور الأخرى ، مما ينطوي فيه
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (5 / 237)(1/320)
صورة من صور التطور الذي اقتضته حكمة التنزيل. وقد ينطوي فيه كذلك قرينة على صحة نزولها بعد السورة السابقة. وفصول السورة متساوقة منسجمة تلهم أنها نزلت فصولا متلاحقة ، والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن الآيات [163 - 170] مدنية وجمهور المفسرين يؤيدون ذلك. وأسلوب الآيات ومضمونها يلهمان صحة الرواية.
وسياقها السابق واللاحق متساوق معها حيث يبدو في ذلك حكمة إضافتها إلى هذه السورة وفيه كذلك صورة من صور تأليف السور القرآنية. (1)
سورة الأعراف مكية وهي مائتان وست آيات.
تسميتها :
سميت بسورة الأعراف لورود اسم الأعراف فيها ، وهو سور بين الجنة والنار ، قال ابن جرير الطبري : الأعراف جمع عرف ، وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفا ، وإنما قيل لعرف الديك عرفا لارتفاعه. روى ابن جرير الطبري عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف ، فقال : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة ، وخلفت بهم حسناتهم عن النار ، فوقفوا هناك على السور حتى يقضي اللّه فيهم.
صفة نزولها :
هي مكية ، إلا ثمان آيات ، وهي قوله تعالى : وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ إلى قوله : وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ.
موضوعها :
نزلت هذه السورة لتفصيل قصص الأنبياء وبيان أصول العقيدة ، وهي كسورة الأنعام بل كالبيان لها ، لإثبات توحيد اللّه عزّ وجلّ ، وتقرير البعث والجزاء ، وإثبات الوحي والرسالة ، ولا سيما عموم بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ما اشتملت عليه السورة :
تضمنت سورة الأعراف التي هي من أطول السور المكية ما يلي من مبادئ العقيدة الإسلامية :
1 - القرآن كلام اللّه : افتتحت السورة بالتنويه بالقرآن العظيم معجزة الرسول الخالدة ، وأنه نعمة من اللّه ، وأنه يجب اتباع تعاليمه.
__________
(1) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (2 / 361)(1/321)
2 - أبوّة آدم عليه السلام : الناس جميعا من أب واحد ، أمر اللّه الملائكة بالسجود له سجود تعظيم وتحية ، لا سجود عبادة وتقديس ، والشيطان عدو الإنسان.
وقد أعيد التذكير بقصة آدم مع إبليس ، وخروجه من الجنة ، وهبوطه إلى الأرض ، بسبب وسوسة الشيطان رمز الشر والباطل وصراعه مع الإنسان الذي يدعو إلى عبادة اللّه وإلى الخير والحق ، تأكيدا لما ذكر في سورة البقرة.
3 - إثبات التوحيد : وهو الإقرار بوحدانية اللّه ، وعبادته وحده ، وإخلاص الدين له ، والاعتراف بحقه وحده في التشريع والتحليل والتحريم :
اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ، وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ.
4 - الوحي والرسالة : الوحي ثابت يتضمن هنا إنزال القرآن على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وجوهره التكليف بالرسالة الإلهية ، وبعثة الرسل إلى الناس :
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي.
5 - تقرير البعث والجزاء في عالم الآخرة : تضمنت السورة الكلام عن البعث والإعادة يوم القيامة : كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ والجزاء والحساب وانقسام الناس بسببه إلى فرق ثلاث : فرقة المؤمنين الناجين أهل الجنة ، وفرقة الكافرين الهالكين أهل النار ، وأصحاب الأعراف وهو سور بين الجنة والنار.
6 - أدلة وجود اللّه : أقام اللّه تعالى الأدلة الكثيرة على وجوده مثل خلق السموات والأرض في ستة أيام ، وتعاقب الليل والنهار ، وتسخير الشمس والقمر والنجوم بأمر اللّه ، وإخراج الثمرات من الأرض
7 - التهديد بالإهلاك : أهلك اللّه الأمم الظالمة عبرة لغيرها ، وأنذر الناس بإنزال العذاب المماثل ، ورغب بالإيمان والعمل الصالح لإفاضته الخيرات والبركات من السماء والأرض على الأمة : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف 7/ 96] وكذا لإرث الأرض والاستخلاف على الآخرين : قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ : اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ ، يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف 7/ 128].
8 - قصص الأنبياء : أورد اللّه تعالى مجموعة من قصص الأنبياء : نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، وموسى ، للتذكير بأحوال المكذبين أنبياءهم ، وللعظة والعبرة ، ومن أدلّها قصة موسى مع الطاغية فرعون ، وعقاب بني إسرائيل بالمسخ قردة وخنازير لما خالفوا أمر اللّه. وتشبيه عالم السوء بالكلب : وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها ، وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ ، إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ ، أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف 7/ 176].(1/322)
9 - التنديد بعبادة الأصنام ، والتهكم بمن عبد ما لا يضر ولا ينفع ، ولا يبصر ولا يسمع ، من أحجار وهياكل ، وذلك كله لتقرير مبدأ التوحيد الذي ختمت به لسورة كما بدئت به. (1)
سورة الأعراف آيها خمس ومائتان ، وهى مكية ، وقد روى أنها نزلت قبل سورة الأنعام ، وأنها نزلت مثلها دفعة واحدة ، لكن سورة الأنعام أجمع لما اشتركت فيه السورتان ، وهو :
أصول العقائد وكليات الدين التي قدمنا القول فيها ، وهى كالشرح والبيان لما أوجز فى الأنعام ، ولا سيما عموم بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقصص الرسل قبله وأحوال أقوامهم ، وقد اشتملت سورة الأنعام على بيان الخلق كما قال : « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ » وبيان القرون كما قال : « كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ » وعلى ذكر المرسلين وتعداد الكثير منهم ، وجاءت هذه مفصلة لذلك ، فبسطت فيها قصة آدم ، وفصلت قصص المرسلين وأممهم وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل. (2)
ومناسبتها لما قبلها على ما قاله الجلال السيوطي عليه الرحمة أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق وفيها هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام : 2] وقال سبحانه في بيان القرون كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الأنعام : 6 ، ص : 3] وأشير إلى ذكر المرسلين وتعداد الكثير منهم وكان ما ذكر على وجه الإجمال جيء بهذه السورة بعدها مشتملة على شرحه وتفصيله فبسط فيها قصة آدم وفصلت قصص المرسلين وأممهم وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل ويصلح هذا أن يكون تفصيلا لقوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ [الأنعام :
165] ولهذا صدر السورة بخلق آدم الذي جعله في الأرض خليفة ، وقال سبحانه في قصة عاد : جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف : 69] وفي قصة ثمود جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ [الأعراف : 74] وأيضا فقد قال سبحانه فيما تقدم كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام : 12] وهو كلام موجز وبسطه سبحانه هنا بقوله تعالى : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف : 156] إلخ ، وأما وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر الأولى فهو أنه قد تقدم وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام : 153] وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام : 155] وافتتح هذه بالأمر باتباع الكتاب ، وأيضا لما تقدم ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الأنعام : 108] قال جل شأنه في مفتتح هذه : فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ [الأعراف : 6] إلخ وذلك من شرح التنبئة المذكورة. وأيضا لما قال سبحانه مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ [الأنعام :
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (8 / 133)
(2) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (8 / 97)(1/323)
160] الآية وذلك لا يظهر إلا في الميزان افتتح هذه بذكر الوزن فقال عز من قائل : وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الأعراف : 8] ثم من ثقلت موازينه وهو من زادت حسناته على سيئاته ثم من خفت وهو على العكس ثم ذكر سبحانه بعد أصحاب الأعراف وهم في أحد الأقوال من استوت حسناتهم وسيئاته. (1)
سورة الأعراف من أطول السور المكية ، وهي أول سورة عرضت للتفصيل في قصص الأنبياء ، ومهمتها كمهمة السور المكية ، تقرير (أصول الدعوة) الإسلامية من توحيد الله جل وعلا ، وتقرير البعث والجزاء ، وتقرير الوحي والرسالة . - ، فعرضت السورة الكريمة في بدء آياتها للقرآن العظيم " معجزة محمد " الخالدة ، وقررت أن هذا القرآن نعمة من الرحمن ، على الإنسانية جمعاء ، فعليهم أن يستمسكوا بتوجيهاته وإرشاداته ، ليفوزوا بسعادة الدارين .
* ولفتت الأنظار إلى نعمة خلقهم من أب واحد ، وإلى تكريم الله لهذا النوع الإنساني ، ممثلا في أب البشر آدم عليه السلام ، الذي أمر الله الملائكة بالسجود له ، ثم حذرت من كيد (الشيطان ) ذلك العدو المتربص ، الذي قعد على طريق الناس ، ليصدهم عن الهدى ويبعدهم عن خالقهم .
* وقد ذكرتعالى قصة (آدم ) مع إبليس وخروجه من الجنة ، وهبوطه إلى الأرض ، كنموذج للصراع بين الخير والشر ، والحق والباطل ، وبيان لكيد إبليس لآدم وذريته ، ولهذا وجه الله إلى أبناء آدم - بعد أن بين لهم عداوة إبليس لأبيهم - أربعة نداءات متتالية ، بوصف البنوة لآدم [ يا بني آدم ] وهو نداء خاص بهذه السورة ، يحذرهم بها من عدوهم ، الذي نشأ على عداوتهم من قديم الزمن ، حين وسوس لأبيهم آدم ، حتى أوقعه في الزلة والمخالفة لأمر الله [ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما . . ] . ، كما تعرضت السورة الكريمة لمشهد من المشاهد الواقعة يوم القيامة ، مشهد الفرق الثلاثة وما يدور بينهم من محاورة ومناظرة : فرقة المؤمنين (أصحاب الجنة) وفرقة الكافرين (أصحاب النار) وفرقة ثالثة لم يتحدث عنها القرآن إلا في هذه السورة ، وهي الفرقة التي سميت ب (أصحاب الأعراف ) وسميت باسمها السورة (سورة الأعراف ) مشهد سوف يشهده العالم يوم البعث والجزاء ، على الحقيقة دون تمثيل ولا تخييل ، تبين ما يكون فيه من شماتة أهل الحق (أصحاب الجنة) بالمبطلين (أصحاب النار) ، وينطلق صوت علوي يسجل عليهم اللعنة والطرد والحرمان ، وقد ضرب بين الفريقين بحجاب ، ووقف عليه رجال يعرفون كلا بسيماهم ، يعرفون أهل الجنة ببياض الوجوه ونضرتها ، ويعرفون أهل النار بسواد الوجوه وقترتها .
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (4 / 315)(1/324)
* وتناولت السورة قصص الأنبياء بإسهاب (نوح ، هود ، صالح ، لوط ، شعيب ، موسى " وقد ابتدأت بشيخ الأنبياء " نوح " عليه السلام ، وما لاقاه من قومه من جحود وعناد ، وتكذيب وإعراض ، وقد ذكرت بالتفصيل قصة الكليم موسى عليه السلام مع فرعون الطاغية ، وتحدثت عما نال بني إسرائيل من بلاء وشدة ، ثم من أمن ورخاء ، وكيف لما بدلوا نعمة الله ، وخالفوا أمره ، عاقبهم الله تعالى بالمسخ إلى قردة وخنازير .
* وتناولت السورة كذلك المثل المخزي لعلماء السوء ، وصورتهم بأشنع وأقبح ما يمكن للخيال ان يتصوره ، صورة الكلب اللاهث الذي لا يكف عن اللهث ، ولا ينفك عن التمرغ في الطين والأوحال [ ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ] وتلك لعمر الحق اقبح صورة مزرية ، لمن رزقه الله العلم النافع فاستعمله لجمع الحطام الفاني ، وكان العلم خزيا ووبالا عليه ، لأنه لم ينتفع بهذا العلم ، ولم يستقم على طريق الإيمان وانسلخ من النعمة ، وأتبعه الشيطان فكان من الغاوين .
* وقد ختمت السورة الكريمة بإثبات التوحيد ، والتهكم بمن عبدوا ما لا يضر ولا ينفع ، ولا يبصر ولا يسمع ، من أحجار وأصنام اتخذوها شركاء مع الله ، وهو جل وعلا وحده الذي خلقهم وصورهم ، ويعلم متقلبهم ومثواهم ، وهكذا ختمت السورة الكريمة بالتوحيد كما بدأت بالتوحيد ، فكانت الدعوة إلى الإيمان بوحدانية الرب المعبود في البدء والختام .
التسمية :
سميت هذه السورة بسورة الأعراف لورود ذكر اسم (الأعراف ) فيها ، وهو سور مضروب بين الجنة والنار يحول بين أهلهما ، روى ابن جرير عن حذيفة انه سئل عن أصحاب الأعراف فقال : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فقعدت بهم سيئاتهم عن دخول الجنة ، وتخلفت بهم حسناتهم عن دخول النار ، فوقفوا هنالك على السور ، حتى يقضي الله فيهم بحكمه العادل . (1)
مقصودها إنذار من أعراض عما إليه الكتاب في السورة الماضية من التوحيد والاجتماع على الخير والوفاء لما قام على وجوبه من الدليل في الأنعام ، وتحذيره بقوارع الدرارين ، وهذا أحسن مما كان ظهر لي وذكرته عند ( والوزن يومئذ الحق ) وأدل ما فيها على هذا المقصد أمر الأعراف فإن اعتقاده يتضمن
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (1 / 287)(1/325)
الإشراف على الجنة والنار والوقوف على حقيقة ما فيها وما أعد لأهلها الداعي إلى امتثال كل خير واجتناب كل شر والاتعاظ بكل مرقق ) (1)
هذه سورة مكية - كسورة الأنعام - موضوعها الأساسي هو موضوع القرآن المكي .. العقيدة .. ولكن ما أشد اختلاف المجالين اللذين تتحرك فيهما السورتان في معالجة هذا الموضوع الواحد ، وهذه القضية الكبيرة! إن كل سورة من سور القرآن ذات شخصية متفردة ، وذات ملامح متميزة ، وذات منهج خاص ، وذات أسلوب معين ، وذات مجال متخصص في علاج هذا الموضوع الواحد ، وهذه القضية الكبيرة.
إنها كلها تتجمع على الموضوع والغاية ، ثم تأخذ بعد ذلك سماتها المستقلة ، وطرائقها المتميزة ومجالها المتخصص في علاج هذا الموضوع ، وتحقيق هذه الغاية.
إن الشأن في سور القرآن - من هذه الوجهة - كالشأن في نماذج البشر التي جعلها اللّه متميزة .. كلهم إنسان ، وكلهم له خصائص الإنسانية ، وكلهم له التكوين العضوي والوظيفي الإنساني .. ولكنهم بعد ذلك نماذج منوعة أشد التنويع. نماذج فيها الأشباه القريبة الملامح ، وفيها الأغيار التي لا تجمعها إلا الخصائص الإنسانية العامة! هكذا عدت أتصور سور القرآن. وهكذا عدت أحسها ، وهكذا عدت أتعامل معها. بعد طول الصحبة ، وطول الألفة ، وطول التعامل مع كل منها وفق طباعه واتجاهاته ، وملامحه وسماته! وأنا أجد في سور القرآن - تبعا لهذا - وفرة بسبب تنوع النماذج ، وأنسا بسبب التعامل الشخصي الوثيق ، ومتاعا بسبب اختلاف الملامح والطباع ، والاتجاهات والمطالع! إنها أصدقاء .. كلها صديق .. وكلها أليف .. وكلها حبيب .. وكلها ممتع .. وكلها يجد القلب عنده ألوانا من الاهتمامات طريفة ، وألوانا من المتاع جديدة ، وألوانا من الإيقاعات ، وألوانا من المؤثرات ، تجعل لها مذاقا خاصا ، وجوا متفردا.
ومصاحبة السورة من أولها إلى آخرها رحلة .. رحلة في عوالم ومشاهد ، ورؤى وحقائق ، وتقريرات وموحيات ، وغوص في أعماق النفوس ، واستجلاء لمشاهد الوجود .. ولكنها كذلك رحلة متميزة المعالم في كل سورة ومع كل سورة.
إن موضوع سورة الأنعام هو العقيدة. وموضوع سورة الأعراف هو العقيدة .. ولكن بينما سورة الأنعام تعالج العقيدة في ذاتها وتعرض موضوع العقيدة وحقيقتها وتواجه الجاهلية العربية في حينها - وكل جاهلية أخرى كذلك - مواجهة صاحب الحق الذي يصدع بالحق وتستصحب معها في هذه المواجهة
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (3 / 3)(1/326)
تلك المؤثرات العميقة العنيفة الكثيرة الموفورة التي تحدثنا عنها إجمالا وتفصيلا ونحن نقدم السورة ونستعرضها - في الجزء السابع وفي هذا الجزء أيضا - ووقفنا أمامها ما شاء اللّه أن نقف .. بينما سورة الأنعام تتخذ هذا المنهج ، وتسلك ذلك الطريق .. نجد سورة الأعراف - وهي تعالج موضوع العقيدة كذلك - تأخذ طريقا آخر ، وتعرض موضوعها في مجال آخر .. إنها تعرضه في مجال التاريخ البشري .. في مجال رحلة البشرية كلها مبتدئة بالجنة والملأ الأعلى ، وعائدة إلى النقطة التي انطلقت منها .. وفي هذا المدى المتطاول تعرض «موكب الإيمان» من لدن آدم - عليه السلام - إلى محمد - عليه الصلاة والسلام - تعرض هذا الموكب الكريم يحمل هذه العقيدة ويمضي بها على مدار التاريخ. يواجه بها البشرية جيلا بعد جيل ، وقبيلا بعد قبيل ..
ويرسم سياق السورة في تتابعه : كيف استقبلت البشرية هذا الموكب وما معه من الهدى؟ كيف خاطبها هذا الموكب وكيف جاوبته؟ كيف وقف الملأ منها لهذا الموكب بالمرصاد وكيف تخطى هذا الموكب أرصادها ومضى في طريقه إلى اللّه؟ وكيف كانت عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة ..
إنها رحلة طويلة طويلة .. ولكن السورة تقطعها مرحلة مرحلة ، وتقف منها عند معظم المعالم البارزة ، في الطريق المرسوم. ملامحه واضحة ، ومعالمه قائمة ، ومبدؤه معلوم ، ونهايته مرسومة .. والبشرية تخطو فيه بجموعها الحاشدة. ثم تقطعه راجعة .. إلى حيث بدأت رحلتها في الملأ الأعلى ..
لقد انطلقت هذه البشرية من نقطة البدء ، ممثلة في شخصين اثنين .. آدم وزوجه .. أبوي البشر .. وانطلق معهما الشيطان. مأذونا من اللّه في غوايتهما وغواية ذراريهما ومأخوذا عليهما عهد اللّه وعلى ذراريهما كذلك.
ومبتلي كلاهما وذراريهما معهما بقدر من الاختيار ليأخذوا عهد اللّه بقوة أو ليركنوا إلى الشيطان عدوهم وعدو أبويهم الذي أخرجهما من الجنة وليسمعوا الآيات التي يحملها إليهم ذلك الرهط الكريم من الرسل على مدار التاريخ ، أو يسمعوا غواية الشيطان الذي لا يني يجلب عليهم بخيله ورجله ، ويأتيهم عن أيمانهم وعن شمائلهم! انطلقت البشرية من هناك .. من عند ربها سبحانه .. انطلقت إلى الأرض. تعمل وتسعى ، وتكد وتشقى ، وتصلح وتفسد ، وتعمر وتخرب ، وتتنافس وتتقاتل ، وتكدح الكدح الذي لا ينجو منه شقي ولا سعيد .. ثم ها هي ذي تؤوب! ها هي ذي راجعة إلى ربها الذي أطلقها في هذا المجال .. ها هي ذي تحمل ما كسبت طوال الرحلة المرسومة .. من ورد وشوك. ومن غال ورخيص ، ومن ثمين وزهيد ، ومن خير وشر ، ومن حسنات وسيئات. ها هي ذي تعود في أصيل اليوم .. فقد انطلقت في مطلعه! ..(1/327)
وها نحن أولاء نلمحها من خلال السياق في السورة موقورة الظهور بالأحمال - أيا كانت هذه الأحمال - ها هي ذي عائدة إلى ربها بما معها .. تظلع في الطريق ، وقد بلغ منها الجهد وأضناها المسير. حتى إذا عادت إلى نقطة المنطلق وضع كل منها حمله أمام الميزان ، ووقف يرتقب في خشية ووجل .. إن كل فرد قد عاد بحصيلته فردا .. وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى! وكل فرد على حدة يلاقي حسابه ، ويلقى جزاءه .. ويظل سياق السورة يتابع أفواج البشرية ، فوجا فوجا. إلى جنة أو إلى نار. حتى تغلق الأبواب التي فتحت لاستقبال المغتربين العائدين. فقد كانوا هنا لك في هذه الأرض مغتربين : «كما بدأكم تعودون. فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ، إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون اللّه ، ويحسبون أنهم مهتدون» ..
وبين الغدو والرواح تعرض معارك الحق والباطل. معارك الهدى والضلال. معارك الرهط الكريم من الرسل والموكب الكريم من المؤمنين ، مع الملأ المستكبرين والأتباع المستخفين. ويعرض الصراع المتكرر والمصائر المتشابهة. وتتجلى صحائف الإيمان في إشراقها ووضاءتها وصحائف الضلال في انطماسها وعتامتها. وتعرض مصارع المكذبين بين الحين والحين. حيث يقف السياق عليها للتذكير والتحذير .. وهذه الوقفات تجيء وفق نظام ملحوظ في سياق السورة. فبعد كل مرحلة هامة يبدو كما لو كان السياق يتوقف عندها ليقول كلمة! كلمة تعقيب. للإنذار والتذكير .. ثم يمضي.
إنها قصة البشرية بجملتها في رحلتها ذهابا وإيابا. تتمثل فيها حركة هذه العقيدة في تاريخ البشرية ، ونتائج هذه الحركة في مداها المتطاول .. حتى تنتهي إلى غايتها الأخيرة في نقطة المنطلق الأولى .. وهي وجهة أخرى في عرض موضوع العقيدة غير وجهة سورة الأنعام - وإن تلاقت السورتان أحيانا في عرض مشاهد المكذبين وعرض مشاهد القيامة ومشاهد الوجود - وهو مجال آخر للعرض غير مجال الأنعام ، واضح التميز ، مختلف الحدود.
ذلك إلى طبيعة التعبير في السورتين. فالتعبير في كل سورة يناسب منهجها في عرض الموضوع. وبينما يمضي السياق في الأنعام في موجات متدافعة وبينما تبلغ المشاهد دائما درجة اللألاء والتوهج والالتماع ، وتبلغ الإيقاعات درجة الرنين والسرعة القاصفة والاندفاع .. إذا السياق في الأعراف يمضي هادئ الخطو ، سهل الإيقاع ، تقريري الأسلوب. وكأنما هو الوصف المصاحب للقافلة في سيرها المديد ، خطوة خطوة ، ومرحلة مرحلة ، حتى تؤوب! وقد يشتد الإيقاع أحيانا في مواقف التعقيب ولكنه سرعان ما يعود إلى الخطو الوئيد الرتيب! .. وهما - بعد - سورتان مكيتان من القرآن ..!!!
ولعله يحسن هنا أن نستعرض منهج السورة في معالجة موضوع العقيدة في صورة حركة لهذه العقيدة في تيار التاريخ البشري ..(1/328)
إن السورة لا تعرض قصة هذه العقيدة في التاريخ البشري ، ولا تعرض رحلة البشرية منذ نشأتها الأولى إلى عودتها الأخيرة .. مجرد عرض في أسلوب قصصي .. إنما هي تعرضها في صورة معركة مع الجاهلية ..
ومن ثم فإنها تعرضها في مشاهد ومواقف وتواجه بهذه المشاهد والمواقف ناسا أحياء كانوا يواجهون هذا القرآن فيواجههم هذا القرآن بتلك القصة الطويلة ويخاطبهم بما فيها من عبر مذكرا ومنذرا ويخوض معهم معركة حقيقية حية .. ومن ثم تجيء التعقيبات في السياق عقب كل مرحلة أساسية موجهة لأولئك الأحياء الذين كان القرآن يخوض معهم المعركة وموجهة كذلك إلى أمثالهم ممن يتخذون موقفهم على مدار التاريخ.
إن القرآن لا يقص قصة إلا ليواجه بها حالة. ولا يقرر حقيقة إلا ليغير بها باطلا .. إنه يتحرك حركة واقعية حية في وسط واقعي حي. إنه لا يقرر حقائقه للنظر المجرد ، ولا يقص قصصه لمجرد المتاع الفني!
ويركز السياق على التذكير والإنذار في وقفاته للتعقيب. كما يركز على نقطة الانطلاق ، وعلى نقطة المآب.
وبينهما يمر بقصص قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم شعيب. ثم يركز تركيزا شديدا على قصة قوم موسى.
وفي هذه التقدمة للسورة لا نملك إلا أن نعرض نماذج مجملة لمواضع التركيز في السورة :
تبدأ السورة على هذا النحو : «المص. كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ، لِتُنْذِرَ بِهِ ، وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ. قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» ..
فهي منذ اللحظة الأولى خطاب لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وخطاب لقومه الذين يجاهدهم بهذا القرآن .. وكل ما يجيء في السورة بعد ذلك من قصص ، ومن وصف لرحلة البشرية الطويلة ، وعودتها من الرحلة المرسومة ، وكل ما يعرض من مشاهد في صفحة الكون وفي يوم القيامة .. إنما هو خطاب غير مباشر ، - وأحيانا مباشر - للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقومه للإنذار والتذكير ، كما يشير هذا المطلع القصير.
وقول اللّه - سبحانه - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ» ..
يصور حالة واقعية لا يمكن أن يدركها اليوم إلا الذي يعيش في جاهلية وهو يدعو إلى الإسلام ويعلم أنه إنما يستهدف أمرا هائلا ثقيلا ، دونه صعاب جسام .. يستهدف إنشاء عقيدة وتصور ، وقيم وموازين ، وأوضاع وأحوال مغايرة تمام المغايرة لما هو كائن في دنيا الناس. ويجد من رواسب الجاهلية في النفوس ، ومن تصورات الجاهلية في العقول ، ومن قيم الجاهلية في الحياة ، ومن ضغوطها في الأوضاع والأعصاب ، ما يحس معه أن كلمة الحقيقة التي يحملها ، غريبة على البيئة ، ثقيلة على النفوس مستنكرة في القلوب ..(1/329)
كلمة ذات تكاليف بقدر ما تعنيه من الانقلاب الكامل لكل ما يعهده الناس في جاهليتهم من التصورات والأفكار ، والقيم والموازين ، والشرائع والقوانين ، والعادات والتقاليد ، والأوضاع والارتباطات .. ومن ثم يجد في صدره هذا الحرج من مواجهة الناس بذلك الحق الثقيل ، الحرج الذي يدعو اللّه - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - ألا يكون في صدره من هذا الكتاب شيء منه وأن يمضي به ينذر ويذكر ولا يحفل ما تواجهه كلمة الحق من دهشة واستنكار ، ومن مقاومة كذلك وحرب وعناء ..
ولأن الأمر كذلك من الثقل ومن الغرابة ومن النفرة ومن المقاومة لهذا التغيير الكامل الشامل الذي تستهدفه هذه العقيدة في حياة الناس وتصوراتهم ، فإن السياق يباكر القوم بالتهديد القاصم ، ويذكرهم بمصائر المكذبين ، ويعرض عليهم مصارع الغابرين .. جملة قبل أن يأخذ في القصص المفصل عنهم في مواضعه من السياق : «وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها ، فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ. فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا : إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ. فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ. وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ» ..
وبعد هذه المقدمة تبدأ القصة .. تبدأ بالحديث عن التمكين للجنس البشري في الأرض .. وذلك بما أودع اللّه هذا الكون من خصائص وموافقات تسمح بحياة هذا الجنس وتمكينه في الأرض. وبما أودع اللّه هذا الجنس من خصائص وموافقات متوافقة مع الكون ومن قدرة على التعرف إلى نواميسه واستخدامها والانتفاع بطاقاته ومقدراته ومدخراته وأقواته :
«وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ ، وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ. قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» ..
وليس هذا إلا التمهيد لعرض قصة النشأة الأولى ، وتصوير نقطة الانطلاق التي بدأت منها البشرية رحلتها المرسومة. والسياق يركز في هذه السورة على هذه النقطة ويعرض قصة النشأة ، ويتخذها كذلك نقطة تعقيب للإنذار والتذكير ، المستمدين مما في مشاهدها وأحداثها من عظات موحية ، ومؤثرات عميقة : «ولقد خلقناكم ثم صورناكم ، ثم قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم ، فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين. قال : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟ قال : أنا خير منه ، خلقتني من نار وخلقته من طين. قال :
فاهبط منها ، فما يكون لك أن تتكبر فيها ، فاخرج إنك من الصاغرين. قال : أنظرني إلى يوم يبعثون.
قال : إنك من المنظرين. قال : فيما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، ولا تجد أكثرهم شاكرين. قال : اخرج منها مذؤوما مدحورا ، لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين .. ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، فكلا من حيث شئتما ،(1/330)
ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين .. فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما ، وقال :
ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما : إني لكما لمن الناصحين. فدلاهما بغرور ، فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما ، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، وناداهما ربهما : ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ، وأقل لكما : إن الشيطان لكما عدو مبين؟ قالا : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. قال : اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين. قال : فيها تحيون ، وفيها تموتون ، ومنها تخرجون» ..
وبهذا المشهد في نقطة الانطلاق يتحدد مصير الرحلة كلها ، ومصائر المرتحلين جميعا .. وتلوح طلائع المعركة الكبرى التي لا تهدأ لحظة طوال الرحلة ، بين هذا العدو الجاهر بالعداوة ، وبني آدم جميعا. كما تلوح نقط الضعف في الكائن الإنساني جملة ، ومنافذ الشيطان إليه منها.
ومن ثم يتخذ السياق من المشهد مناسبة للتعقيب الطويل ، بالإنذار والتحذير .. تحذير بني آدم مما جرى لأبويهم من هذا العدو العنيد .. وفي ظل هذا المشهد الذي يقف فيه الشيطان وجها لوجه مع آدم وزوجه أبوي البشر. وفي ظل النتيجة التي انتهى إليها الشوط الأول في المعركة يتوجه السياق بالخطاب إلى بني آدم ، يذكرهم وينذرهم ، ويحذرهم مصيرا كهذا المصير : «يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً ، وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ، ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ .. يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ، يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما ، إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ، إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» ..
«يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
ولا بد أن نلحظ أن مشهد العري بعد ارتكاب المحظور ، والخصف من ورق الجنة ثم هذا التعقيب بتذكير بني آدم بنعمة اللّه في إنزال اللباس الذي يواري سوآتهم والرياش الذي يتزينون به ، وتحذيرهم من فتنة الشيطان لهم لينزع عنهم لباسهم وريشهم كما نزعه عن أبويهم .. لا بد أن نلحظ أن ذكر هذه الحلقة من القصة والتعقيب عليها على هذا النحو إنما يواجه حالة واقعة في المجتمع الجاهلي العربي المشرك حيث كانوا تحت تأثير أساطير وتقاليد معينة يطوفون بالبيت عرايا ، ويحرمون أنواعا من الثياب ، وأنواعا من الطعام في فترة الحج. ويزعمون أن هذا من شرع اللّه ، وأن اللّه قد حرم عليهم هذا الذي يحرمونه على أنفسهم ..(1/331)
ومن ثم يجيء في استعراض قصة البشرية ، وفي التعقيب عليها ما يناسب ويواجه هذه الحالة الواقعية في الجاهلية .. وفي كل جاهلية في الحقيقة .. أليست سمة كل جاهلية هي التعري والكشف وقلة الحياء من اللّه وقلة التقوى؟
وهذا يدلنا على سمة من سمات المنهج القرآني جديرة بالتأمل .. إنه حتى القصص في القرآن لا يسرد إلا لمواجهة حالة واقعة بالفعل. ولأنه يواجه - في كل مرة - حالة معينة ، فإن الحقيقة التي تذكر منه والحلقة التي تعرض في موضع من المواضع ، تعرض بقدر الحالة الواقعة التي يواجهها النص حينذاك وفي جوها ..
وهذا بالإضافة إلى ما قلناه عن المنهج القرآني في التعريف بسورة الأنعام يكون قاعدة هامة .. هي أن المنهج القرآني لا يعرض شيئا لا تستدعيه حالة واقعة .. إنه لا يعرف اختزان المعلومات والأحكام - ولا حتى القصص - إلى أن يجيء وقت الحاجة الواقعة إليها ..
والآن - وقبل أن تنطلق القافلة في طريقها ، وقبل أن يواجهها الرسل بالهدى ، وقبل أن يفصل السياق كيف تحركت العقيدة مع التاريخ البشري بعد آدم وزوجه وتجربتهما الأولى .. الآن يبادر بتصوير مشهد النهاية ، نهاية المرحلة الكبرى ، وذلك على طريقة القرآن الغالبة في عرض الرحلة بشطريها في دار الابتلاء وفي دار الجزاء ، كأنما هي رحلة متصلة ممدودة.
وهنا نجد أطول مشهد من مشاهد القيامة ، وأكثرها تفصيلا ، وأحفلها بالمناظر المتتابعة والحوار المتنوع ..
وموقعه في السورة تعقيبا على قصة آدم وخروجه من الجنة بإغواء إبليس له ولزوجه وتحذير اللّه لأبنائه أن يفتنهم الشيطان كما أخرج أبويهم من الجنة وإخبارهم بأنه سيرسل إليهم رسلا يقصون عليهم آياته ..
موقعه كذلك يجعله مصداقا لما ينبئ به أولئك الرسل. فإذا الذين أطاعوا الشيطان قد حرموا العودة إلى الجنة ، وفتنوا عنها كما أخرج الشيطان أبويهم منها وإذا الذين خالفوا الشيطان وأطاعوا اللّه قد ردوا إلى الجنة ، ونودوا : «أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. فعاد المغتربون إلى دار النعيم!!! والمشهد طويل لا نملك إثباته هنا في هذا التعريف المجمل وسنواجهه فيما بعد بالتفصيل.
والسياق يتخذ من هذا المشهد مناسبة للتعقيب بالإنذار والتذكير ، وتحذير الذين يواجهون القرآن بالتكذيب ، ويطلبون الخوارق لتصديقه ، من سوء المصير : «وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ ، هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ؟ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ : قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ. فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا ، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ؟ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» ..
وبعد تلك الرحلة الواسعة الآماد ، من المنشأ إلى المعاد ، يقف السياق ليعقب عليها ، مقررا «حقيقة الألوهية» و«حقيقة الربوبية» في مشاهد كونية تشهد بهذه الحقيقة على طريقة القرآن في جعل هذا الكون(1/332)
كله مجالا تتجلى فيه هذه الحقيقة بآثارها المبدعة ، العميقة الإيحاء للقلب البشري حين يستقبلها بالحس المفتوح والبصيرة المستنيرة. وهدف هذه الرحلة الأساسي في مشاهد الكون وأسراره هو تجلية الحقيقة الاعتقادية الأساسية : وهي أن هذا الكون بجملته يدين بالعبودية للّه وحده ، فاللّه هو ربه وحاكمه. فأولى بالإنسان أن لا يكون نشازا في لحن الوجود المؤمن وألا يشذ عن العبودية لرب هذا الكون الذي له الخلق والأمر ..وهو رب العالمين ..«إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ. أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ، وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ. كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ، وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً. كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ».
والآن تمضي الرحلة ، وتجري القصة ، ويبرز الموكب الإيماني الجليل ، يهتف بالبشرية الضالة ، يذكرها وينذرها ، ويحذرها سوء المصير. والبشرية الضالة تلوي وتعاند ، وتواجه الدعوة الخيرة بالعناد والتمرد ثم بالطغيان والبطش .. ويتولى اللّه سبحانه المعركة بعد أن يؤدي الرسل واجبهم من التذكير والإنذار ، فيقابلوا من قومهم بالتكذيب والإعراض ، ثم بالبطش والإيذاء. وبعد ان يفاصلوا قومهم على العقيدة ، ويختاروا اللّه وحده ويدعوا له الأمر كله.
ويعرض السياق قصة نوح ، وقصة هود ، وقصة صالح ، وقصة لوط ، وقصة شعيب .. مع أقوامهم ، وهم يعرضون عليهم حقيقة واحدة لا تتبدل : «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .. ويجادلهم قومهم في إفراد اللّه سبحانه بالألوهية ، ويستنكرون أن تكون للّه وحده الربوبية. كما يجادلونهم في إرسال اللّه بشرا من الناس بالرسالة! ويجادل بعضهم في أن يتعرض الدين لشؤون الحياة الدنيا ، ويتحكم في التعاملات المالية والتجارية! - وذلك كما يحاول اليوم ناس من الجاهلية الحاضرة في هذه القضية بعينها بعد عشرات القرون ، ويسمون هذا الجدل الجاهلي القديم تحررا «وتقدمية»! - ويعرض السياق مصارع المكذبين في نهاية كل قصة.
ويلحظ المتتبع لسياق القصص كله في السورة أن كل رسول يقول لقومه قولة واحدة : «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ». ويتقدم لهم بالحقيقة التي استحفظه عليها ربه تقدم الناصح المخلص ، المشفق على قومه مما يراه من العاقبة التي تتربص بهم وهم عنها غافلون. ولكنهم لا يقدورن نصح رسولهم لهم ولا(1/333)
يتدبرون عاقبة أمرهم ، ولا يستشعرون عمق الإخلاص الذي يحمله قلب الرسول ، وعمق التجرد من كل مصلحة ، وعمق الإحساس بضخامة التبعة ..
ويكفي أن نثبت هنا ما ورد عن قصة نوح - أول القصص - وما ورد عن قصة شعيب ، آخر هذه الجملة من القصص ، التي يقف السياق بعدها للتعقيب : «لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ، فَقالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. قالَ : يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ ، وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي ، وَأَنْصَحُ لَكُمْ ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ، وَلِتَتَّقُوا ، وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ؟ فَكَذَّبُوهُ ، فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ، وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ»...
«وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ. قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ، فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ، وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ ، وَتَبْغُونَها عِوَجاً ، وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ، وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ. وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا ، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ، قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ : لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا. قالَ : أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها ، وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها - إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا ، وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً - عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا. رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ. وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ : لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ. الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا. الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ.
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ : يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي ، وَنَصَحْتُ لَكُمْ ، فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ؟» ..
ويمثل هذان النموذجان بقية القصص بينهما. سواء في تصوير حقيقة العقيدة الواحدة التي أرسل اللّه بها رسله جميعا لأبناء آدم - كل في قومه - أو في تلقي الملأ المستكبرين والأتباع المستضعفين لهذه الحقيقة. أو في وضوح هذه العقيدة وحسمها في نفوس الرسل وأتباعهم. أو في روح النصح والرغبة في هداية قومهم ..(1/334)
ثم في مفاصلتهم لأقوامهم عند ما يتبين لهم عنادهم وإصرارهم الأخير ثم في إدارة اللّه - سبحانه - للمعركة ، وأخذ المكذبين بعد مفاصلة رسلهم لهم ، والانتهاء من إنذارهم وتذكيرهم. وعتو المكذبين وإصرارهم على ما هم فيه.
وهنا يقف السياق وقفة للتعقيب. يبين فيها سنة اللّه في تعامل قدر اللّه مع الناس حين تجيئهم الرسالة فيكذبون.
إذ يأخذهم أولا بالضراء والبأساء ، لعل هذا يهز قلوبهم الغافية فتستيقظ وتستجيب. فإذا لم تهزهم يد البأس وكلهم إلى الرخاء - وهو أشد فتنة من البأس - حتى تلتبس عليهم سنة اللّه ، ولا ينتبهوا لها. ثم يأخذهم بعد ذلك بغتة وهم لا يشعرون! ..
وبعد بيان هذه السنة يهز قلوبهم بالخطر الذي يتهددهم في غفلاتهم. فمن يدريهم أن قدر اللّه يتربص بهم ، ليجري فيهم سنته تلك؟ أفلا تهديهم مصارع الغابرين ، وهم في ديارهم يسكنون؟
« وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ. ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا ، وَقالُوا : قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ! فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ؟ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ؟ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ؟ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ. أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ، وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ .. تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها ، وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ، كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ. وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ، وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ» ..
بعد ذلك يعرض السياق قصة موسى مع فرعون وملئه ، ومع قومه بني إسرائيل : وتستغرق القصة أكبر مساحة استغرقتها في سورة قرآنية وتعرض منها حلقات شتى ويقف السياق عند بعض الحلقات للتعقيب كما يقف في نهايتها لتعقيب طويل حتى نهاية السورة.
ولقد وردت حلقات من قصة موسى - عليه السلام - قبل ذلك - حسب ترتيب النزول - في سور : المزمل ، والفجر ، وق ، والقمر .. وكلها إشارات قصيرة. وهذه أول سورة بعد تلك السور تجيء فيها هذه الحلقات الطويلة ، في هذه المساحة العريضة ..
وقد شملت حلقة مواجهة فرعون بحقيقة العقيدة. وحلقة التحدي والسحرة - وهما كثيرتا الورود في السور الأخرى - وحلقة أخذ آل فرعون بالسنين والآفات وإرسال الطوفان والجراد والقمل والضفادع(1/335)
والدم - التي لم تفصل إلا في هذه السورة - وحلقة إغراق فرعون والملأ من قومه .. ثم استمر السياق مع بني إسرائيل.
وطلبهم من موسى أن يجعل لهم إلها - صنما - كالقوم الذين مروا عليهم بعد نجاتهم من فرعون وتجاوزهم للبحر! وحلقة ميقاته مع ربه وطلبه رؤيته ودك الجبل وصعقه وتنزيل الألواح عليه. وحلقة اتخاذ قومه للعجل في غيبته. وحلقة الميقات الثاني مع السبعين من قوم موسى وأخذ الصاعقة لهم حين قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة. وحلقة عصيانهم في دخول القرية وفي صيد السمك يوم السبت! وحلقة نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة .. وكلها معروضة بتفصيل واسع ، مما جعل القصة تستغرق حزبا كاملا من السورة.
وفي موقف من مواقف القصة يدخل السياق الرسالة النبوية الأخيرة ويصف طبيعتها وحقيقتها. وذلك عند ما دعا موسى - عليه السلام - ربه في شأن من صعقوا من قومه واستنزل رحمته - سبحانه - على هذا النحو الذي يتداخل فيه القصص لتأدية غرض المعركة التي يخوضها القرآن فعلا : «وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا ، فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ، قالَ : رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ ، أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا؟ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ ، أَنْتَ وَلِيُّنا ، فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ. وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ ، إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ. قالَ : عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ ، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ ، فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ. فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ ، وَنَصَرُوهُ ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ، أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».
وفي ظل هذا النبأ الصادق من اللّه ، والوعد السابق برسالة النبي الأمي ، يأمر اللّه النبي أن يعلن طبيعة رسالته ، وحقيقة دعوته ، وحقيقة ربه الذي أرسله ، والأصل الاعتقادي الواحد الذي جاء به الرسل جميعا من قبله : «قُلْ : يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ ، وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» ..
ثم تواصل القصة سيرها بعد هذه الوقفة ، إلى موقف العهد ونتق الجبل وأخذ الميثاق. وفي ظل مشهد الميثاق والعهد على بني إسرائيل يذكر العهد المأخوذ على فطرة البشر أجمعين : «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا : بَلى شَهِدْنا! أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ(1/336)
الْقِيامَةِ : إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا : إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ، أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ؟»..
ويمضي السياق بعد ذلك في تعقيبات منوعة ، يعرض في أحدها بعد مشهد العهد الفطري مباشرة ، مشهد الذي آتاه اللّه آياته ثم انسلخ منها - كبني إسرائيل وككل من يؤتيه اللّه آياته ثم ينسلخ منها! - وهو مشهد يذكرنا بصوره وحركته وإيقاعه والتعقيب عليه بمشاهد سورة الأنعام وجوها كذلك : «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها ، فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ. وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها ، وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ : إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ ، أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ! ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها ، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» ..
ثم يمضي السياق يتحدث عن مسائل العقيدة حديثا مباشرا. ويعرض مع الحديث بعض المؤثرات من المشاهد الكونية ومن التحذير من بأس اللّه وأخذه ومن لمس قلوبهم ليتفكروا ويتدبروا في شأن الرسول ورسالته ...
« وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ، وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ ، سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ ، إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ. أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا؟ ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ ، وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ؟ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ ، وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» ..
ثم يأمر اللّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمهم طبيعة الرسالة وحدود الرسول فيها. وذلك بمناسبة سؤالهم له عن تحديد موعد القيامة التي يخوفهم بها! «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها؟! قُلْ : إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ، لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً. يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها! قُلْ : إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. قُلْ : لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا - إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ - وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
ثم يصور لهم كيف تنحرف النفس - التي أخذ اللّه عليها العهد الذي أسلفنا - عن التوحيد الذي أقرت به فطرتها ويستنكر تصورات الشرك ومعبوداته ويوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - في نهاية هذه الفقرة إلى تحديهم وتحدي(1/337)
آلهتهم العاجزة : «قُلِ : ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ. إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ.
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ. وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا ، وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ»..
ومن هنا إلى ختام السورة يتجه السياق إلى خطاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كما كان افتتاحها خطابا له - كيف يعامل الناس؟ كيف يمضي بهذه الدعوة؟ كيف يستعين على متاعب الطريق؟ كيف يكظم غضبه وهو يعاني من نفوس الناس وكيدهم؟ كيف يستمع هو والمؤمنون معه لهذا القرآن؟ كيف يذكر ربه ويبقى موصولا به؟ كما يذكره من عنده في الملأ الأعلى - سبحانه - : «خُذِ الْعَفْوَ ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ، إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ. وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ. وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا : لَوْلا اجْتَبَيْتَها! قُلْ : إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي. هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ .. إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ، وَيُسَبِّحُونَهُ ، وَلَهُ يَسْجُدُونَ» ..
ولعل هذا التلخيص ، وهذه المقتطفات الكثيرة من السورة ، أن تصور ملامحها الخاصة وتميزها عن أختها سورة الأنعام في هذه الملامح. وفي منهج العرض. مع معالجة موضوع واحد .. موضوع العقيدة .. (1)
خلاصة ما اشتملت عليه السورة من الأغراض والمقاصد
يمكن إجمال القول فى الأغراض التي اشتملت عليها هذه السورة الكريمة فيما يلى :
(1) التوحيد : وهو يتضمن دعاء اللّه وحده وإخلاص الدين له وتخصيصه بالعبادة ، فإنه شارع الدين فيجب اتباع ما أنزله ولا يجوز اتباع الأولياء من دونه فى العقائد والعبادات ولا التحليل والتحريم الديني كما قال « اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ » .
وإن القول عليه بغير علم بتشريع أو غيره لا يجوز لأحد كما قال : « أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ؟ »
وإن جميع ما يشرعه لعباده حسن وما سواه قبيح : « قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ » ونحن مأمورون بذكره تضرعا وخفية سرا وجهرا.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1243)(1/338)
(2) الوحى والكتب ، ويتضمن ذلك إنزال القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - للإنذار به ، والأمر باستماعه والإنصات له رجاء الرحمة بسماعه والاهتداء به وأمر المؤمنين باتباع المنزل عليهم من ربهم.
(3) الرسالة والرسل ، ويشمل ذلك بعثة الرسل إلى جميع بنى آدم كما قال : « يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي » وسؤالهم يوم القيامة عن التبليغ وسؤال الأمم عن الإجابة - ومجىء الرسل بالبينات من اللّه تعالى تأييدا منه لهم - وعقاب الأمم على تكذيب الرسل كما ذكر فى قصص نوح وهود وصالح وشعيب.
(4) عالم الآخرة : ويتضمن ذلك البعث والإعادة فى الآخرة كما قال : « كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ » ووزن الأعمال يوم القيامة وترتيب الجزاء على ثقل الموازين وخفتها وأن الجزاء بالعمل ، وإقامة أهل الجنة الحجة على أهل النار ، والحجاب بين أهل الجنة وأهل النار ونداء أصحاب النار أصحاب الجنة ، واعتراف أهل النار فى الآخرة بصدق الرسل ، وصفة أهل النار ، وقيام الساعة وكونها تأتى بغتة.
(5) أصول التشريع : ويتضمن هذا وجوب اتباع الدين على أنه قربة يثاب فاعلها عليها ويعاقب تاركها فى الآخرة ، وتحريم التقليد فيه ، والأخذ بآراء البشر وتعظيم شأن النظر العقلي ، والتفكر لتحصيل العلم بما يجب الإيمان به ومعرفة آيات اللّه وسننه فى خلقه والأمر بالعدل فى الأحكام والأعمال كما قال « قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ » وحصر أنواع المحرمات الدينية العامة فى قوله « قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ » إلخ ، وبيان أصول الفضائل الأدبية والتشريعية فى قوله « خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ » .
(6) آيات اللّه وسننه فى الكون - ويتضمن ذلك خلق السموات والأرض فى ستة أيام واستواءه على العرش ونظام الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر والنجوم بأمره - وخلق الرياح والمطر وإحياء الأرض به وإخراجه الثمرات من الأرض - خلق الناس من نفس واحدة وخلق زوجها منها ليسكن إليها وإعداد الزوجين للتناسل - وتفضيل الإنسان على من فى الأرض جميعا - خلق بنى آدم مستعدين لمعرفة اللّه وإشهاد الرب إياهم على أنفسهم أنه ربهم وشهادتهم بذلك بمقتضى فطرتهم بما منحوه من العقل وحجته تعالى عليهم بذلك - خلقهم مستعدين للشرك وما يتبعه من الخرافات - ضرب الأمثال لاختلاف الاستعداد لكل من الخير والشر وعلامة كل منهما فيهم يكون بما يرى من ثماره - وفى ذلك تعليم لنا بطلب معرفة الشيء بأثره ومعرفة الأثر بمصدره - عداوة إبليس والشياطين من نسله لبنى آدم وإغوائهم بالفساد مع ذكر حكمة ذلك ، بيان أن الشياطين أولياء للمجرمين الذين لا يؤمنون - منّة اللّه على البشر بتسهيل أسباب المعاش لهم - آيات اللّه تعالى ونعمه على بنى إسرائيل إلى نحو أولئك مما فيه سعادة البشر فى دينهم ودنياهم.(1/339)
(7) سننه تعالى فى الاجتماع والعمران البشرى - ويتضمن ذلك إهلاك اللّه الأمم بظلمها لنفسها ولغيرها وأن للأمم آجالا لا تتقدم ولا تتأخر عنها بما اقتضته السنن الإلهية العامة - ابتلاء اللّه الأمم بالبأساء والضراء تارة وبالرخاء والنعماء أخرى - وأن الإيمان بما دعا إليه والتقوى فى العمل بشرعه فعلا وتركا سبب لكثرة بركات السماء والأرض وخيراتها على الأمة كما قال تعالى : « وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ » وأن للّه فى إرث الأرض واستخلاف الأمم والسيادة على الشعوب سننا لا تتبدل كما قال : « قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » أي إن الأرض ليست رهن تصرف الملوك والدول بقدرتهم الذاتية فتدوم لهم وإنما هى للّه ، وللّه سنن فى سلبها من قوم وجعلها إرثا لقوم آخرين - وقد جعل العاقبة للمتقين الذين يتقون أسباب الضعف والتخاذل والفساد فى الأرض ويتصفون بضدها وبسائر ما تقوى به الأمم من الأخلاق والأعمال كالصبر على المكاره والاستعانة باللّه الذي بيده ملكوت كل شىء.
وإنا نرى أن بعض الشعوب الإسلامية المستضعفة فى هذا العصر باستعمار الدول الأوربية لها يائسة من استقلالها وعزتها لما ترى من رجحان ذوى السيادة عليها فى القوى المادية جهلا منهم بسنة اللّه التي بينها للناس فإن رجحان فرعون وقومه على بنى إسرائيل كان فوق رجحان قوى السائدين وقهرهم إياهم.
وقد كان ينبغى للمسلمين أن يتقوه تعالى باتقاء كل ما قصه عليهم من ذنوب الأمم التي هلك بها من كان قبلهم حتى دالت دولتهم وزال ملكهم وللّه الأمر من قبل ومن بعد. (1)
=================
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (9 / 158)(1/340)
(8) سورة الأنفال
عرفت بهذا الاسم من عهد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : روى الواحدي في "أسباب النزول" عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاصي فأخذت سيفه فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اذهب القيض" بفتحتين الموضع الذي تجمع فيه الغنائم" فرجعت في ما لا يعلمه إلا الله قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت قريبا حتى نزلت سورة الأنفال.
وأخرج البخاري، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس سورة الأنفال قال نزلت في بدر" فباسم الأنفال عرفت بين المسلمين وبه كتبت تسميتها في المصحف حين كتبت أسماء السور في زمن الحجاج، ولم يثبت في تسميتها حديث، وتسميتها سورة الأنفال من أنها افتتحت بآية فيها اسم الأنفال، ومن أجل أنها ذكر فيها حكم الأنفال كما سيأتي.
وتسمى أيضا سورة بدر ففي "الإتقان" أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: "سورة الأنفال" قال "تلك سورة بدر".
وقد اتفق رجال الأثر كلهم على أنها نزلت في غزوة بدر: قال ابن إسحاق أنزلت في أمر بدر سورة الأنفال بأسرها، وكانت غزوة بدر في رمضان من العام الثاني للهجرة بعد عام ونصف من يوم الهجرة، وذلك بعد تحويل القبلة بشهرين، وكان ابتداء نزولها قبل الانصراف من بدر فإن الآية الأولى منها نزلت والمسلمون في بدر قبل قسمة مغانمها، كما دل عليه حديث سعد بن أبي وقاص والظاهر أنها استمر نزولها إلى ما بعد الانصراف من بدر.
وفي كلام أهل أسباب النزول ما يقتضي أن آية {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} إلى {مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] نزلت بعد نزول السورة بمدة طويلة، كما روي عن ابن عباس، وسيأتي تحقيقه هنالك.
وقال جماعة من المفسرين إن آيات {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} - إلى - {لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 64, 65] نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل ابتداء القتال، فتكون تلك الآية نزلت قبل نزول أول السورة.
نزلت هذه السورة بعد سورة البقرة، ثم قيل هي الثانية نزولا بالمدينة، وقيل نزلت البقرة ثم آل عمران ثم الأنفال، والأصح أنها ثانية السور بالمدينة نزولا بعد سورة البقرة.
وقد بينت في المقدمات أن نزول سورة بعد أخرى لا يفهم منه أن التالية تنزل بعد انقضاء نزول التي قبلها، بل قد يبتدأ نزول سورة قبل انتهاء السورة التي ابتدئ نزولها قبل، ولعل سورة الأنفال قد انتهت قبل انتهاء نزول سورة البقرة، لأن الأحكام التي تضمنتها سورة الأنفال من جنس واحد وهي أحكام(1/341)
المغانم والقتال، وتفننت إحكام سورة البقرة أفانين كثيرة: من أحكام المعاملات الاجتماعية، ومن الجائز أن تكون البقرة نزلت بعد نزولها بقليل سورة آل عمران، وبعد نزول آل عمران بقليل نزلت الأنفال، فكان ابتداء نزول الأنفال قبل انتهاء نزول البقرة وآل عمران.
وفي "تفسير ابن عطية "عند قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} من هذه السورة[33] قالت فرقة نزلت هذه الآية كلها بمكة قال ابن أبزى نزل قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} بمكة إثر قولهم: {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] ونزل قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] عند خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون ونزل قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 34] بعد بدر.
وقد عدت السورة التاسعة والثمانين في عداد نزول سور القرآن في رواية جابر بن زيد عن ابن عباس، وإنها نزلت بعد سورة آل عمران وقبل سورة الأحزاب.
وعدد آيها، في عد أهل المدينة. وأهل مكة وأهل البصرة: ست وسبعون، وفي عد أهل الشام سبع وسبعون، وفي عد أهل الكوفة خمس وسبعون.
ونزولها بسبب اختلاف أهل بدر في غنائم يوم بدر وأنفاله، وقيل بسبب ما سأله بعض الغزاة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعطيهم من الأنفال، كما سيأتي عند تفسير أول آية منها.
أغراض هذه السورة
ابتدأت ببيان أحكام الأنفال وهي الغنائم وقسمتها ومصارفها.
والأمر بتقوى الله في ذلك وغيره.
والأمر بطاعة الله ورسوله، في أمر الغنائم وغيرها.
وأمر المسلمين بإصلاح ذات بينهم، وان ذلك من مقومات معنى الإيمان الكامل.
وذكر الخروج إلى غزوة بدر وبخوفهم من قوة عددهم وما لقوا فيها من نصر. وتأييد من الله ولطفه بهم.
وامتنان الله عليهم بان جعلهم أقوياء.
ووعدهم بالنصر والهواية أن اتقوا بالثبات للعدو، والصبر.
والأمر بالاستعداد لحرب الأعداء.
والأمر باجتماع الكلمة والنهي عن التنازع.
والأمر بان يكون قصد النصرة للدين نصب أعينهم.
ووصف السبب الذي أخرج المسلمين إلى بدر.
وذكر مواقع الجيشين، وصفات ما جرى من القتال.(1/342)
وتذكير النبي - صلى الله عليه وسلم - بنعمة الله عليه إذ أنجاه من مكر المشركين به بمكة وخلصه من عنادهم، وان مقامه بمكة كان أمانا لأهلها فلما فارقهم فقد حق عليهم عذاب الدنيا بما اقترفوا من الصد عن المسجد الحرام.
ودعوة المشركين للانتهاء عن مناوأة الإسلام وإيذانهم بالقتال.
والتحذير من المنافقين.
وضرب المثل بالأمم الماضية التي عاندت رسل الله ولم يشكروا نعمة الله.
وأحكام العهد بين المسلمين والكفار وما يترتب على نقضهم العهد، ومتى يحسن السلم.
وأحكام الأسرى.
وأحكام المسلمين الذين تخلفوا في مكة بعد الهجرة. وولايتهم وما يترتب على تلك الولاية. (1)
تمهيد بين يدي تفسير السورة
1 - سورة الأنفال هي السورة الثامنة في ترتيب المصحف ، فقد تقدمتها سورة الفاتحة وهي مكية ، ثم جاءت بعد سورة الفاتحة أربع سور مدنية ، هن أطول السور المدنية في القرآن الكريم ، وهن سور : البقرة ، آل عمران ، النساء ، المائدة. ثم جاءت بعد هذه السور الأربع سورتان مكيتان ، وهما أطول السور المكية في القرآن ، سورتا : الأنعام والأعراف.
ثم جاءت سورة الأنفال بعد ذلك ، فكانت الثامنة في ترتيب سور المصحف.
2 - وعدد آياتها خمس وسبعون آية في المصحف الكوفي ، وست وسبعون في الحجازي ، وسبع وسبعون في الشامي.
3 - وقد سميت سورة الأنفال بهذا الإسم ، لحديثها عن الأنفال أى الغنائم في أكثر من موضع.
وقد أطلق عليها بعض الصحابة سورة بدر ، فقد أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أن ابن عباس سئل عنها فقال : تلك سورة بدر « 1 ».
4 - وسورة الأنفال كلها مدنية ، وممن قال بذلك : زيد بن ثابت ، وعبد اللّه بن الزبير ، وعطاء بن أبي رباح والحسن ، وعكرمة.
قال صاحب المنار : وقيل إنها مدنية إلا آية « 64 » وهي قوله - تعالى - : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فقد روى البزار عن ابن عباس أنها نزلت لما أسلم عمر بن الخطاب ، فعلى هذا وضعت في سورة الأنفال وقرئت مع آياتها التي نزلت في التحريض على القتال في غزوة بدر لمناسبتها للمقام ، وروى عن مقاتل استثناء قوله - تعالى - وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ ... «
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (9 / 5)(1/343)
الآية « 30 » لأن موضوعها ائتمار قريش بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قبيل الهجرة ، بل في الليلة التي خرج فيها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مع صاحبه أبى بكر بقصد الهجرة وباتا في الغار ، وهذا استنباط من المعنى ، وهو استنباط يرده ما صح عن ابن عباس من أن الآية نفسها نزلت في المدينة.
وزاد بعضهم استثناء خمس آيات أخرى بعد هذه الآية ، وهي قوله - تعالى - : وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا .. إلى قوله : بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ « الآيات من 31 - 35 » لأن موضوعها حال كفار قريش في مكة ، وهذا لا يقتضى نزولها في مكة ، بل ذكّر اللّه بها رسوله بعد الهجرة ، وكل ما نزل بعد الهجرة فهو مدني » « 1 ».
والذي ترتاح إليه النفس أن سورة الأنفال جميعها مدنية ، وأن ما في بعض آياتها من أوصاف لأحوال المشركين في مكة قبل الهجرة لا يعنى كون هذه الآيات مكية لأن هذه الآيات إنما هي من باب تذكير الرسول وأصحابه بما كان عليه أولئك القوم من عناد ومكابرة وانحراف عن الطريق القويم ، أدى بهم إلى الهزيمة في بدر وفي غيرها من المعارك التي كان النصر فيها للمؤمنين.
5 - وقد ذكر بعض المفسرين - ومنهم الزمخشري - أن سورة الأنفال نزلت بعد سورة البقرة ، ولعل مرادهم بذلك أن نزولها كان بعد نزول بعض الآيات من سورة البقرة ، لأنه من المعروف أن سورة البقرة لم تنزل دفعة واحدة ، وإنما ابتدأ نزولها بعد الهجرة ، ثم امتد هذا النزول لآياتها إلى قبيل وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمدة قصيرة.
6 - قال الآلوسى : ووجه مناسبتها لسورة الأعراف أن سورة الأعراف فيها خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ... وفي هذه - أى الأنفال - كثير من أفراد المأمور به ، وفي الأعراف ذكر قصص الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - مع أقوامهم ، وفي هذه ذكره - صلى الله عليه وسلم - وذكر ما جرى بينه وبين قومه.
وقد فصل - سبحانه - في تلك - قصص آل فرعون وأضرابهم وما حل بهم وأجمل في هذه ذلك فقال : كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ...
وأشار هناك إلى سوء زعم الكفرة في القرآن بقوله - تعالى - : وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها ... وصرح بذلك هنا إذ يقول .. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا ... إلى غير ذلك من المناسبات.
ثم قال الآلوسى : « والظاهر أن وضعها هنا توقيفي ، وكذا وضع براءة بعدها ، وإلى ذلك ذهب غير واحد ... » .(1/344)
والحق أنه بمطالعتنا لما يقوله الآلوسى وغيره من المفسرين في بيان وجه مناسبة السورة للتي قبلها ، نرى أن هذه الأقوال لا تخلو من تكلف ، وأن كثيرا مما ذكروه من مناسبات بين سورتين معينتين لا يختص بهما ، بل هو موجود فيهما وفي غيرهما.
فالآلوسى - مثلا - يجعل من وجوه مناسبة الأنفال للأعراف أن الأعراف فيها وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ. وأن الأنفال فيها كثير من أفراد المأمور به ..
وهذا المعنى نراه في كثير من السور المتتالية ، فسورة آل عمران - مثلا - من بين آياتها قوله - تعالى - : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ .. « 1 ».
وسورة النساء - التي بعدها - فيها - أيضا - كثير من أفراد المأمور به لأن الأمر بالمعروف من الدعائم التي يقوم عليها المجتمع الإسلامى.
والذي تميل إليه النفس أن ترتيب السور توقيفي ، وأن كل سورة لها موضوعاتها التي نراها بارزة بصورة تميزها عن غيرها.
7 - وسورة الأنفال عند ما نتأمل ما اشتملت عليه من آيات ، نراها تحدثنا - في مجموعها - عن غزوة بدر ، فتعرض أحداثها الظاهرة ، كما تعرض بشارات النصر فيها ، وتكشف عن قدرة اللّه وتدبيره في وقائع هذه الغزوة الحاسمة ، وتبين كثيرا من الإرشادات والتشريعات الحربية التي يجب على المؤمنين اتباعها حتى ينالوا النجاح والفلاح.
أخرج البخاري عن ابن عباس أن سورة الأنفال نزلت في بدر « 2 » :
(أ) لقد افتتحت السورة الكريمة ببيان أن قسمة الأنفال أى - الغنائم - مردها إلى اللّه ورسوله ، وأن على المؤمنين أن يذعنوا لما يفعله فيها رسولهم - صلى الله عليه وسلم - ثم وصفت المؤمنين الصادقين أكمل وصف ، وبشرتهم بأسمى المنازل ، وأرفع الدرجات.
قال - تعالى - : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ، لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.
(ب) وبعد هذا الحديث الطيب عن أوصاف المؤمنين الصادقين ، تبدأ السورة في الحديث عن حال بعض الذين اشتركوا في غزوة بدر ، وكيف أنهم كرهوا القتال في أول الأمر ، لأنهم لم يخرجوا من أجله وإنما خرجوا من أجل الحصول على التجارة التي قدم بها مشركو قريش من بلاد الشام لكن اللّه - تعالى -(1/345)
أراد أن يعلمهم وغيرهم أن الخير فيما قدره ، لا فيما يقدرون ويريدون. استمع إلى السورة الكريمة بتأمل وتدبر وهي تصور هذه المعاني بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول.
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ. يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ.
(ج) ثم تسوق السورة بعد ذلك ألوانا من البشارات التي تشعر المؤمنين بأن اللّه - تعالى - قد أجاب لهم دعاءهم ، وأنه - سبحانه - سيجعل النصر في هذه المعركة حليفا لهم.
ومن مظاهر هذه البشارات أن اللّه - تعالى - أمدهم بألف من الملائكة مردفين ، وأمدهم بالنعاس ليكون مصدر طمأنينة لقلوبهم ، وأمدهم بمياه الأمطار ليتطهروا بها ، ولتثبت الأرض من تحتهم ، وأمدهم قبل ذلك وبعده بعونه الذي جعلهم يقبلون على قتال أعدائهم بقلوب ملؤها الإقدام والشجاعة.
قال - تعالى - : إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ، وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ.
(د) ثم وجهت السورة الكريمة خمسة نداءات إلى المؤمنين ، أرشدتهم في كل واحد منها إلى ما فيه خيرهم وفلاحهم.
فقد أمرتهم في النداء الأول بالثبات في وجوه أعدائهم ، ونهتهم عن الفرار منهم ، وهددت من يوليهم دبره بسوء المصير ، وأخبرتهم بأن اللّه معهم ما داموا معتمدين عليه ، ومستجيبين لما يدعوهم إليه.
وأمرتهم في النداء الثاني بطاعة اللّه ورسوله ، وحذرتهم من المعصية ، ومن التشبه بالكافرين الذين « قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ».
وأمرتهم في النداء الثالث بالمسارعة إلى أداء ما كلفوا به من تكاليف فيها سعادتهم وفلاحهم ، وخوفتهم من ارتكاب ذنوب لا يحيق شرها بالذين ارتكبوها وحدهم ، وإنما يعمهم وغيرهم ممن رأوا المنكر فلم يعملوا على تغييره.
ونهتهم في النداء الرابع عن خيانة اللّه ورسوله ، أى : عن ترك فرائض اللّه ، وعن هجر سنة رسوله .. وحذرتهم من أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن طاعة اللّه وعن أداء واجباته.(1/346)
ثم بشرتهم في النداء الخامس بأنهم إذا ما اتقوا اللّه حق تقاته ، فإنه - سبحانه - سيرزقهم الهداية والنصر والنجاة من كل مكروه.
تدبر معى - أخى القارئ - هذه النداءات ، وما اشتملت عليه من توجيهات سامية وإرشادات عالية ، حيث يقول - سبحانه - :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ ..
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ..
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ..
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ..
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ..
(ه) ثم أخذت السورة بعد ذلك في تذكير المؤمنين بنعم اللّه عليهم ليزدادوا له شكرا ، وفي تصوير ما عليه الكافرون من جهل وعناد وخسران.
فحكت ما قالوه في شأن القرآن من كذب ومكابرة.
وحكت استهزاءهم بالدين ، وإمعانهم في الجحود ، وتعجلهم للعذاب ..
وحكت ما كانوا يقومون به من تصفيق ولغو عند قراءة القرآن ، حتى يشغلوا الناس عن سماعه ..
وحكت مسارعتهم إلى إنفاق أموالهم ، لا في وجوه الخير ، ولكن في وجوه الشر التي ستكون عاقبتها الخسران وسوء المصير.
وبعد أن حكت كل هذه الرذائل عن الكافرين ، أمرت الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغهم أنهم إذا ما انتهوا عن كفرهم وعنادهم ، فإن اللّه - تعالى - سيغفر لهم ما سلف من ذنوبهم.
أما إذا استمروا في طغيانهم وجحودهم ، فستدور الدائرة عليهم.
قال - تعالى - : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا ، لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا ، إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
(و) وبعد أن افتتحت السورة الكريمة بالحديث المجمل عن الغنائم وساقت في أعقابه ما ساقت من توجيه وإرشاد وترغيب وترهيب.
بعد كل ذلك عادت السورة إلى الحديث عن الغنائم ، ففصلت ما أجملته في مطلعها ، وذكّرت المؤمنين بنعم أخرى منحهم اللّه إياها في بدر.(1/347)
ومن ذلك : أنّه - سبحانه - هيأ لهم المكان المناسب لقتال أعدائهم ، وجعل اللقاء الحاسم بين الفريقين بدون موعد سابق .. وقلل كل فريق في عين الآخر ليقضى - سبحانه - قضاءه النافذ ..
قال - تعالى - : وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى ، وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ.
(ز) ثم يأتى بعد ذلك النداء السادس والأخير للمؤمنين ، فيأمرهم - سبحانه - فيه بالثبات عند لقائهم لأعدائهم ، وبالإكثار من ذكره ، وبالطاعة التامة له ولرسوله ، وبالابتعاد عن التنازع والاختلاف.
ثم ينهاهم عن التشبه بالمرائين ، والمتكبرين ، والمغرورين ، الذين زين لهم الشيطان سوء أعمالهم - ولكنه عند ما تراءى الجمعان نكص على عقبيه - والذين سيكون مصيرهم الهزيمة في الدنيا ، والعذاب المهين في الآخرة بسبب كفرهم بآيات اللّه ، وإيثارهم الضلالة على الهداية.
قال - تعالى - : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ ، فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ ، إِنِّي أَخافُ اللَّهَ ، وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ.
(ح) ثم تمضى السورة الكريمة في تصوير رذائل الكافرين ، وفي تشجيع المؤمنين على قتالهم ، وإعداد العدة لدحرهم وتشريدهم ما داموا مستمرين على كفرهم وخيانتهم .. ، فإن جنحوا للسلم. ومالوا إلى المصالحة والمهادنة فاقبل منهم ذلك - أيها الرسول الكريم ، واحترس من خداعهم وغدرهم ، وحرض أتباعك على قتالهم بصبر وجلد.
قال - تعالى - : إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ. فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ. وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ. وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.(1/348)
(ط) ثم انتقلت السورة إلى الحديث عن أسرى غزوة بدر من المشركين فبينت ما كان يجب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين في شأنهم ، وعاتبتهم لإيثارهم أخذ الفداء على ما عند اللّه من ثواب عظيم ، وأباحت لهم أن يأكلوا مما غنموه ، فإنه حلال طيب ، وأمرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الأسرى إلى الدين الحق ، وأن يخبرهم بأنهم متى آمنوا ظفروا بخير الدنيا والآخرة ..
تأمل معى - أخى القارئ - هذه الآيات الكريمة التي ساقتها السورة في هذا المعنى.
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
(ى) وإذا كانت السورة قد تحدثت في أوائلها عن صفات المؤمنين .. الصادقين ، وعن حال الذين كرهوا الخروج إلى القتال في بدر .. فإنها قد تحدثت في ختامها - أيضا - عن أصناف المؤمنين .. فمدحت المهاجرين السابقين ، ومدحت الأنصار الذين آووا ونصروا ، لأنهم قد اشتركوا جميعا في بذل أموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمة اللّه .. ثم بينت ما يجب عليهم نحو غيرهم من المؤمنين الذين لم يهاجروا ، بل ظلوا في أرض الشرك. ثم مدحت المؤمنين الذين تأخرت هجرتهم عن صلح الحديبية - وإن كانوا أقل في الدرجات من المهاجرين السابقين.
قال - تعالى - : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا ، وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ ، وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
.
8 - هذا عرض مجمل لما اشتملت عليه سورة الأنفال من توجيهات سامية ، وآداب عالية ، وتشريعات حكيمة ...
ومن هذا العرض نرى أن السورة الكريمة قد اهتمت بأمور من أبرزها ما يلي :(1/349)
(ا) تربية المؤمنين على العقيدة السليمة ، وعلى الطاعة للّه ولرسوله. وإصلاح ذات بينهم ، والثبات في وجه أعدائهم ، والإكثار من التقرب إلى خالقهم ، والمداومة على مراقبته وخشيته وشكره ، فهو الذي هداهم للإيمان ، وهو الذي آواهم وأيدهم بنصره ورزقهم من الطيبات .. بعد أن كانوا ضالين ومستضعفين في الأرض.
ولقد أفاضت السورة في غرس هذه المعاني في نفوس المؤمنين لأنها نزلت كما سبق أن بينا - في أعقاب اللقاء الأول بينهم وبين أعدائهم - فكان من المناسب أن تكرر غرس هذه المعاني في القلوب حتى تستمر على طاعة اللّه ورسوله ، تلك الطاعة التي من ثمارها الظفر الدائم والخير الباقي ..
(ب) تذكير المؤمنين بما عليه أعداؤهم من جحود وعناد ، وبما كان منهم من مكر برسولهم - صلى الله عليه وسلم - ومن استهزائهم بدينهم وقرآنهم ومن عداوة شديدة للحق وأهله ، ومن صفات ذميمة جعلتهم أهلا لاستحواذ الشيطان عليهم ...
وهذا التذكير قد تكرر كثيرا في سورتنا هذه ، لكي يستمر المؤمنون على حسن استعدادهم ، ولكي لا تنسيهم نشوة النصر في بدر ما يضمره لهم أعداؤهم من كراهية وبغضاء ، وما يبيتونه لهم من سوء وشر.
(ج) إرشاد المؤمنين إلى المنهاج الذي يجب أن يسيروا عليه في حالتي حربهم وسلمهم ، لأنه متى ساروا عليه حالفهم النصر ، وصاحبهم التوفيق.
ففي حالة الحرب : أمرتهم السورة الكريمة بأن يعدوا لأعدائهم كل ما يستطيعون من قوة.
وأن يبذلوا أموالهم بسخاء من أجل نصرة الحق .. وأن يقاتلوا خصومهم بشجاعة وإقدام ، وأن يكثروا من التقرب إلى اللّه بصالح الأقوال والأعمال - خصوصا في مواطن القتال - .. وأن يجعلوا غايتهم في قتالهم إحقاق الحق وإبطال الباطل حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ....
وأن يؤثروا السلم على الحرب متى وجد السبيل إليه ، فإن السلم هو الأصل أما الحرب فهي أمر لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة التي تقتضيها .. أما في حالة سلمهم : فقد أمرتهم السورة الكريمة بالتآخى والتناصر والتواد والتراحم والتصالح .. ونبذ التنازع والتخاصم والاختلاف والبطر.
كما أمرتهم بتقوى اللّه وبإيثار ما عنده من ثواب وأجر على الأموال والأولاد.
قال - تعالى - : وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
.
وهناك موضوعات أخرى تعرضت لها السورة :
كحديثها عن الغنائم ، وعن الأسرى ، وعن المعاهدات ، وعن أحداث غزوة بدر ، وعن المشاعر التي تحركت في نفوس بعض المشتركين فيها قبل أن تبدأ المعركة وخلالها وبعدها.(1/350)
وقد ساقت السورة الكريمة كل ذلك بأسلوب يهدى القلوب ، ويشرح الصدور ، ويرشد الناس إلى مواطن عزهم وسعادتهم. (1)
في هذه السورة إشارات على سبيل الموعظة والعتاب والتذكير إلى وقعة بدر وظروفها ومشاهدها وما كان لها من آثار في المسلمين والكفار. وفيها تشديد وتوطيد لسلطان النبي - صلى الله عليه وسلم - وطاعته. وتوطيد للوحدة الإسلامية والإخلاص للمصلحة العامة وعدم التأثّر بأي اعتبار شخصي أو أسروي في سبيل ذلك. وإنذار شديد للمخالفين والكفار والغادرين والخائنين. وحثّ على الاستعداد للعدو وقتاله والثبات أمامه إلى أن يرعوي وتتوطد كلمة اللّه وحرية دينه مع الدعوة المكررة إلى الإسلام والارعواء ومقابلة الميول السلمية بمثلها. وفيها تشريع لخمس الغنائم الحربية وتخصيصه للمصالح الإسلامية العامة والمحتاجين.
وفصول السورة منسجمة متسلسلة السياق مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متتابعة عقب وقعة بدر.
وقد روي أن الآيات [30 - 36] مكية ، ونحن نشك في هذه الرواية لأن الآيات منسجمة في سياقها موضوعا وسبكا. وقد شكّ في ذلك مفسرون آخرون أيضا.
وبعض رواة ترتيب نزول السور المدنية يذكرون هذه السورة ثانية السور نزولا وبعضهم يذكرونها ثالثة بل بعضهم يذكرونها رابعة . وعلى كل حال فإن نزولها عقب وقعة بدر يكاد يكون يقينيا وتلهمه فحوى آياتها بقوة وهو المتفق عليه. وهذه الوقعة كانت بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بسنة وشهور قليلة مختلف على عددها. ولما كانت آيات البقرة [217 - 218] نزلت في صدد سرية عبد اللّه بن جحش على ما ذكرناه في سياقها في الجزء السابق وهي آخر سرية سيّرها النبي قبل وقعة بدر فيكون ترتيبها كثانية السور نزولا مقاربا وإن لم يمكن أن يقال إنه صحيح كل الصحة. وهذا التحفظ بسبب آيات في سورة آل عمران وهي قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) التي يكاد يجمع الرواة على أنها في صدد إنذار يهود بني قينقاع التي احتوت سورة الأنفال آيات يجمع الرواة كذلك على أنها في صدد حصار هؤلاء اليهود وإجلائهم ثم بسبب احتمال نزول فصول عديدة من سورة البقرة بعد سورة الأنفال حيث احتوت سورة البقرة فصولا عديدة متأخرة في النزول كثيرا على ما نبهنا عليه في مقدمتها واللّه أعلم. (2)
__________
(1) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم لطنطاوي - (6 / 7)
(2) - التفسير الحديث لدروزة- موافق للمطبوع - (7 / 7)(1/351)
سورة الأنفال :سورة مدنيّة تتحدّث عن أحكام تشريع الجهاد في سبيل الله ، وقواعد القتال ، والإعداد له ، وإيثار السّلم على الحرب إذا جنح لها العدوّ في دياره ، وآثار الحرب في الأشخاص (الأسرى) والأموال (الغنائم).
وسبب تسميتها بالأنفال واضح ، لسؤال الناس عن أحكامها ، والمراد بها الغنائم الحربية ، فقد ابتدئت السورة بقوله تعالى : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ.
وقد نزلت عقب غزوة بدر الكبرى ، أول الغزوات المجيدة التي حقّقت النصر للمسلمين مع قلّتهم على المشركين مع كثرتهم ، لذا سمّيت (يوم الفرقان) لأنها فرقت بين الحقّ والباطل.
ومناسبتها لسورة الأعراف :
أنها في بيان حال الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلم مع قومه ، وسورة الأعراف مبيّنة لأحوال أشهر الرّسل مع أقوامهم.
ما اشتملت عليه هذه السّورة :
تضمّنت سورة الأنفال أحكاما عديدة في الجهاد والغزوات ، أهمّها ما يأتي :
1 - أمر قسمة الغنائم متروك للرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، والأحكام مرجعها إلى اللّه تعالى ورسوله لا إلى غيرهما.
2 - إرادة تحقيق النّصر الإلهي للمؤمنين في معركة بدر ، لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، وبيان علّة ذلك الحكم في قوله تعالى : وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ، وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ.
3 - الإمداد الفعلي بالملائكة للمؤمنين يقاتلون معهم : إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ....
ويفهم من هذين الحكمين أن أحكام اللّه معللة بمراعاة مصالح الناس.
4 - النّصر الحقيقي من عند الله تعالى : وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
5 - تعليم المؤمنين قواعد القتال الحربية ، وخطابهم لترسيخ المعلومات ستّ مرات بوصف الإيمان : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في بداية الأمر بكل قاعدة أثناء سرد أحداث بدر ، وهي تحريم الفرار من المعركة ، وطاعة اللّه والرّسول ، والاستجابة لله وللرسول إذا دعا إلى ما فيه عزّة الحياة والسعادة ، وتحريم الخيانة بنقل أسرار الأمة للأعداء ، والأمر بالتقوى التي هي أساس الخير كله ، والثبات أمام الأعداء ، والصبر عند اللقاء ، وذكر الله كثيرا. ومن تلك القواعد كراهة مجادلة الرّسول في الحقّ بعد ما تبيّن ، أما قبل تبيّن الحق في المصلحة الحربية فالمجادلة محمودة ، إذ بها تتمّ المشاورة المطلوبة في القرآن بين المؤمنين ومع الرّسول.(1/352)
ومن القواعد الحربية الامتناع من التنازع والاختلاف حال القتال : وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ.
6 - عصمة الرّسول بالهجرة من أذى قريش وتآمرهم على حبسه أو نفيه أو قتله : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ....
7 - رفع البلاء العام عن الناس قاطبة ما دام الرّسول فيهم : وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ.
8 - التّوكّل على اللّه بعد اتّخاذ الأسباب المطلوبة في كلّ شيء ، وبخاصة الإعداد للقتال.
9 - الظّلم مؤذن بالخراب ، ومعجّل بالفناء ، ويعمّ أثره الأمّة كلها :
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً.
10 - إن تغيّر أحوال الأمم من الذّل إلى العزّة ، ومن الضّعف إلى القوّة ، منوط بتغيير ما في النّفوس من عقائد فاسدة وأخلاق مرذولة.
11 - الافتتان بالأموال والأولاد مدعاة للفساد : وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
.
12 - إعداد مختلف القوى الماديّة والمعنويّة لقتال الأعداء : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ.
13 - إيثار السّلم على الحرب إذا مال لها العدوّ : وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها.
14 - وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق ، حتى ولو مسّ ذلك مصلحة بعض المسلمين : وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ.
15 - وجوب تأديب ناقضي العهد ومعاملتهم بالشّدّة : فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ، لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ.
16 - غاية القتال في الإسلام صون حريّة الدّين ومنع الفتنة في الدّين :وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ.
17 - المسلمون أمّة واحدة والولاية والتّناصر بينهم واجب ، والكافرون أمّة واحدة ، ولا ولاية بين المؤمنين والكافرين : وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ.
السّور المكيّة والمدنيّة :
سبق في مقدّمة الجزء الأول بيان خواص السّور المكيّة والمدنيّة ، وللتّذكير بتلك الخواص بمناسبة تفسير نماذج من النّوعين أشير إلى بعض هذه الخواص ، علما بأن سورا ثلاثا مما ذكر مكيّة وهي : (الفاتحة والأنعام والأعراف) وأربعا هي مدنيّة وهي : (البقرة وآل عمران والنساء والمائدة) وكذا سورة الأنفال مدنيّة إلا الآيات (30 - 36) فمكيّة.(1/353)
أما السّور المكيّة :
فموضوعاتها العقيدة والأخلاق ، ببيان أصول الإيمان من إثبات التّوحيد والنّبوة والبعث ، وقصص الرّسل مع أقوامهم في هذا المضمار ، وتقرير أصول الآداب والأخلاق ، ومحاجّة المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بتلك الأصول.
وأما السّور المدنيّة :
فتعنى ببيان أحكام التّشريع المفصّلة ، ومحاجّة أهل الكتاب بسبب الانحراف عن هداية كتبهم ، ففي سورة البقرة محاجة اليهود ، وفي سورة آل عمران محاجّة النّصارى ، وفي سورة المائدة محاجّة الفريقين ، وفي سورتي النّساء والتوبة مجادلة المنافقين وأحكامهم ، بعد إعلان البراءة من المشركين في سورة التوبة.
وأمّا سورة الأنفال :
فهي تنظيم لقواعد السّلم والحرب بالنّسبة للمسلمين ، وسرد أحداث معركة بدر الكبرى ، ثمّ بيان إحباط مكائد المشركين ومؤامراتهم على قتل النّبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم أو حبسه أو إخراجه من مكّة. (1)
وجه مناسبتها لسورة [الأعراف : 199] أن فيها وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وفي هذه كثير من أفراد المأمور به.
وفي تلك ذكر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم وفي هذه ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر ما جرى بينه وبين قومه ، وقد فصل سبحانه وتعالى في تلك قصص آل فرعون وأضرابهم وما حل بهم وأجمل في هذه ذلك فقال سبحانه وتعالى : كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ [الأنفال : 52] وأشار هناك إلى سوء زعم الكفرة في القرآن بقوله تعالى : وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها [الأعراف : 203] وصرح سبحانه وتعالى بذلك هنا بقوله جل وعلا : وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنفال : 21] وبين جل شأنه فيما تقدم أن القرآن هدى ورحمة لقوم يؤمنون وأردف سبحانه وتعالى ذلك بالأمر بالاستماع له والأمر بذكره تعالى وهنا بين جل وعلا حال المؤمنين عند تلاوته وحالهم إذا ذكر اللّه تبارك اسمه بقوله عز من قائل : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال : 2] إلى غير ذلك من المناسبات ، والظاهر أن وضعها هنا توقيفي وكذا وضع براءة بعدها وهما من هذه الحيثية كسائر السور وإلى ذلك ذهب غير واحد كما مر في المقدمات.
__________
(1) - التفسير المنير ـ موافقا للمطبوع - (9 / 236)(1/354)
وذكر الجلال السيوطي أن ذكر هذه السورة هنا ليس بتوقيف من الرسول - صلى الله عليه وسلم - للصحابة رضي اللّه تعالى عنهم كما هو المرجح في سائر السور بل باجتهاد من عثمان رضي اللّه تعالى عنه ، وقد كان يظهر في بادي الرأي أن المناسب إيلاء الأعراف بيونس وهود لاشتراك في كل في اشتمالها على قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنها مكية النزول خصوصا أن الحديث ورد في فضل السبع الطول وعدوا السابعة يونس وكانت تسمى بذلك كما أخرجه البيهقي في الدلائل ففي فصلها من الأعراف بسورتين فصل للنظير من سائر نظائره هذا مع قصر سورة الأنفال بالنسبة إلى الأعراف وبراءة ، وقد استشكل ذلك قديما حبر الأمة رضي اللّه تعالى عنه فقال لعثمان رضي اللّه تعالى عنه : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا البسملة بينهما ووضعتموهما في السبع الطول؟ ثم ذكر جواب عثمان رضي اللّه تعالى عنه ، وقد أسلفنا الخبر بطوله سؤالا وجوابا ، ثم قال : وأقول : يتم مقصد عثمان رضي اللّه تعالى عنه في ذلك بأمور فتح اللّه تعالى بها. الأول أنه جعل الأنفال قبل براءة مع قصرها لكونها مشتملة على البسملة فقدمها لتكون كقطعة منها ومفتتحها وتكون براءة لخلوها من البسملة كتتمتها وبقيتها.
ولهذا قال جماعة من السلف : إنهما سورة واحدة. الثاني أنه وضع براءة هنا لمناسبة الطول فانه ليس بعد الست السابقة سورة أطول منها وذلك كاف في المناسبة. الثالث أنه خلل بالسورتين أثناء السبع الطول المعلوم ترتيبها في العصر الأول للإشارة إلى أن ذلك أمر صادر لا عن توقيف وإلى أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قبض قبل أن يبين كلتيهما فوضعا هنا كالوضع المستعار بخلاف ما لو وضعا بعد السبع الطول فإنه كان يوهم أن ذلك محلهما بتوقيف ولا يتوهم هذا على هذا الوضع للعلم بترتب السبع.
فانظر إلى هذه الدقيقة التي فتح اللّه تعالى بها ولا يغوص عليها الأغواص. الرابع أنه لو أخرهما وقدم يونس وأتى بعد براءة بهود كما في مصحف أبي لمراعاة مناسبة السبع وإيلاء بعضها بعضا لفات مع ما أشرنا إليه أمر آخر آكد في المناسبة فإن الأولى بسورة يونس أن يؤتى بالسور الخمسة التي بعدها لما اشتركت فيه من المناسبات من القصص والافتتاح ب (الر) وبذكر الكتاب ومن كونها مكيات ومن تناسب ما عدا الحجر في المقدار ومن التسمية باسم نبي والرعد اسم ملك وهو مناسب لأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فهذه عدة مناسبات للاتصال بين يونس وما بعدها وهي آكد من هذا الوجه الواحد في تقديم يونس بعد الأعراف ، ولبعض هذه الأمور قدمت سورة الحجر على النحل مع كونها أقصر منها ، ولو أخرت براءة عن هذه السورة الست لبعدت المناسبة جدا لطولها بعد عدة سور أقصر منها بخلاف وضع سورة النحل بعد الحجر فانها ليست كبراءة في الطول.(1/355)
ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع ما ذكرناه من تقديم الحجر على النحل لمناسبة (الر) قبلها ، وما تقدم من تقديم آل عمران على النساء وإن كانت أقصر منها لمناسبتها البقرة في الافتتاح (بالم) وتوالى الطواسين والحواميم وتوالى العنكبوت والروم ولقمان والسجدة لافتتاح كل (بألم) ، ولهذا قدمت السجدة على الأحزاب التي هي أطول منها ، هذا ما فتح اللّه تعالى به عليّ ، ثم ذكر أن ابن مسعود رضي اللّه تعالى قدم في مصحفه البقرة والنساء وآل عمران والأعراف والأنعام والمائدة ويونس راعى السبع الطول فقدم الأطول فالأطول منها فالأطول ثم ثنى بالمئين فقدم براءة ثم النحل ثم هود ثم يوسف ثم الكهف وهكذا الأطول وجعل الأنفال بعد النور.
ووجه المناسبة أن كلّا مدنية ومشتملة على أحكام وأن في [النور : 55] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ الآية. وفي [الأنفال : 26] وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ إلخ. ولا يخفى ما بين الآيتين من المناسبة فإن الأولى مشتملة على الوعد بما حصل وذكر به في الثانية فتأمل ا ه.
وأقول : قد من اللّه تعالى على هذا العبد الحقير بما لم يمن به على هذا المولى الجليل والحمد للّه تعالى على ذلك حيث أوقفني سبحانه على وجه مناسبة هذه السورة لما قبلها وهو لم يبين ذلك. ثم ما ذكره من عدم التوقيف في هذا الوضع في غاية البعد كما يفهم مما قدمناه في المقدمات ، وسؤال الحبر وجواب عثمان رضي اللّه تعالى عنهما ليسا نصا في ذلك ، وما ذكره عليه الرحمة في أول الأمور التي فتح اللّه تعالى بها عليه غير ملائم بظاهره ظاهر سؤال الحبر رضي اللّه تعالى عنه حيث أفاد أن إسقاط البسملة من براءة اجتهادي أيضا ويستفاد مما ذكره خلافه ، وما ادعاه من أن يونس سابعة السبع الطول ليس أمرا مجمعا عليه بل هو قول مجاهد وابن جبير ورواية عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ، وفي رواية عند الحاكم أنها الكهف ، وذهب جماعة كما قال في إتقانه : إلى أن السبع الطول أولها البقرة وآخرها براءة ، واقتصر ابن الأثير في النهاية على هذا ، وعن بعضهم أن السابعة الأنفال وبراءة بناء على القول بأنهما سورة واحدة ، وقد ذكر ذلك الفيروزآبادىّ في قاموسه ، وما ذكره في الأمر الثاني يغني عنه ما علل به عثمان رضي اللّه تعالى عنه. فقد أخرج النحاس في ناسخه عنه أنه قال : كانت الأنفال وبراءة يدعيان في زمن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - القرينتين فلذلك جعلتهما في السبع الطول ، وما ذكره من مراعاة الفواتح في المناسبة غير مطرد فإن الجن والكافرون والإخلاص مفتتحات بقل مع الفصل بعدة سور بين الأولى والثانية والفصل بسورتين بين الثانية والثالثة ، وبعد هذا كله لا يخلو ما ذكره عن نظر كما لا يخفى على المتأمل فتأمل. (1)
__________
(1) - روح المعانى ـ نسخة محققة - (5 / 147)(1/356)
سورة الأنفال إحدى السور المدنية التي عنيت بجانب التشريع ، وبخاصة فيما يتعلق بالغزوات والجهاد في سبيل الله ، فقد عالجت بعض النواحي الحربية التي ظهرت عقب بعض الغزوات ، وتضمنت كثيرا من التشريعات الحربية ، والإرشادات الإلهية التي يجب على المؤمنين إتباعها في قتالهم لأعداء الله ، وتناولت جانب السلم والحرب ، وأحكام الأسرى والغنائم .
" نزلت هذه السورة الكريمة في أعقاب (غزوة بدر) التي كانت فاتحة الغزوات في تاريخ الإسلام المجيد ، وبداية النصر لجند الرحمن ، حتى سماها بعض الصحابة " سورة بدر " لأنها تناولت أحداث هذه الموقعة بإسهاب ، ورسمت الخطة التفصيلية للقتال ، وبينت ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن من (البطولة والشهامة) والوقوف في وجه الباطل ، بكل شجاعة وجرأة ، وحزم وصمود . ومن المعلوم من تاريخ الغزوات التي خاضها المسلمون أن غزوة بدر كانت في " رمضان " من السنة الثانية للهجرة ، وكانت هي الجولة الأولى من جولات الحق مع الباطل ، ورد البغي والطغيان ، وإنقاذ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ، الذين قعد بهم الضعف في مكة ، وأخذوا في الضراعة إلى الله أن يخرجهم من القرية الظالم أهلها ، وقد إستجاب الله ضراعتهم فهيأ لهم ظروف تلك الغزوة ، وبها عرف أنصار الباطل انه مهما طال أمده ، وقويت شوكته ، وامتد سلطانه ، فلا بد له من يوم يخر فيه صريعا أمام جلال الحق وقوة الإيمان ، وهكذا كانت غزوة بدر نصرا للمؤمنين ، وهزيمة للمشركين . " وفي ثنايا سرد أحداث بدر جاءت النداءات الإلهية للمؤمنين ست مرات بوصف الإيمان [ يا أيها الذين آمنوا ] كحافز لهم على الصبر والثبات في مجاهدتهم لأعداء الله ، وكتذكير لهم بأن هذه التكاليف التي أمروا بها من مقتضيات الإيمان الذي تحلوا به ، وأن النصر الذي حازوا عليه ، كان بسبب الإيمان لا بكثرة السلاح والرجال .
أما النداء الاول : فقد جاء فيه التحذير من الفرار من المعركة [ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ] وقد توعدت الآيات المنهزمين أمام الأعداء بأشد العذاب .
وأما النداء الثاني : فقد جاء فيه الأمر بالسمع والطاعة ، لأمر الله وأمر رسوله [ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ] كما صورت الآيات الكافرين بالأنعام السارحة ، التي لا تسمع ولا تعي ، ولا تستجيب لدعوة الحق .
وأما النداء الثالث : فقد بين فيه تعالى أن ما يدعوهم إليه الرسول ، فيه حياتهم وعزتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة [ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم . . ] فالدين حياة ، والكفر موت .
وأما النداء الرابع : فقد نبههم فيه إلى أن إفشاء سر الأمة للأعداء خيانة لله ولرسوله ، وخيانة للأمة ايضا [ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ] .(1/357)
وأما النداء الخامس : فقد لفت نظرهم فيه إلى ثمرة التقوى ، وذكرهم بأنها أساس الخير كله ، وأن من أعظم ثمرات التقوى ذلك النور الرباني ، الذي يقذفه الله في قلب المؤمن ، وبه يفرق بين الرشد والغي ، والهدى والضلال [ يا ايها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم ، والله ذو الفضل العظيم ] .
وأما النداء السادس : وهو النداء الأخير فقد وضح الله لهم فيه طريق العزة ، وأسس النصر ، وذلك بالثبات أمام الأعداء ، والصبر عند اللقاء ، وإستحضار عظمة الله التي لا تحد ، وقوته التى لا تقهر ، والإعتصام بالمدد الروحي الذي يعينهم على الثبات ، ألا وهو ذكر الله كثيرا [ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ] .
وختمت السورة الكريمة ببيان الولاية الكاملة بين المؤمنين ، وأنه مهما تناءت ديارهم ، واختلفت أجناسهم ، فهم أمة واحدة ، وعليهم نصر الذين يستنصرونهم في الدين ، كما أن ملة الكفر أيضا واحدة ، وبين الكافرين ولاية قائمة على أسس البغي والضلال ، وأنه لا ولاية بين المؤمنين والكافرين [ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ] . " هذه خلاصة ما أشارت اليه السورة الكريمة من أهداف ، وما أرشدت اليه من دروس وعبر ، نسأله تعالى أن يجعلنا من أهل الفهم والبصر . (1)
ومقصد هذه السورة تبرؤ العباد من الحول والقوة ، وحثهم على التسليم لأمر الله المثمر لاجتماع الكلمة المثمر لنصر الدين وإذلال المفسدين المنتج لكل خير ، والجامع لذلك كله أنه لما ثبت بالسور الماضية وجوب اتباع أمر الإله والاجتماع عليه لما ثبت من تفرده واقتداره ، كان مقصود هذه إيجاب اتباع الداعي إليه بغاية الإذغان والتسليم والرضى والتبرؤ من كل حول وقوة إلى من انعم بذلك ولو شاء سلبه وأدل ما فيها على هذا قصة الأنفال التي اختلفوا في امرها وتنازعوا قسمها فمنعهم الله منها وكف عنهم حظوظ الأنفس وألزمهم الإخبات والتواضع ، وأعطاها نبيه ( - صلى الله عليه وسلم - ) لأنه الذي هزمهم بما رمى من الخصبات التي خرق الله فيها العادة بأن بثها في أعين جميعهم وبما أرسل من جنوده ، فكأن الأمر له وحده ، يمنحه من يشاء ، ثم لما صار له النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، رده فيهم منة منه عليهم وإحساناً إليهم ، واسمها الجهاد كذلك لأن الكفار دائماً أضعاف المسلمين ، وما جاهد قوم من أهل الإسلام قط إلا أكثر منهم ، وتجب مصابرة الضعف ، فلو كان النظر إلى غير قوته سبحانه ماأطيق ذلك ، ولهذه المقاصد سنت قراءتها في الجهاد لتنشيط المؤمنين للجلاد ، وإن كثرت من الأعادي الجموع والأعداد ، وتوالت إليهم زمر الأمداد
__________
(1) - صفوة التفاسير ـ للصابونى - (1 / 326)(1/358)
من سائر العباد ، كما ذكره الحافظ أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي المغربي في فتوح البلاد من كتابه الاكتفاء في سيرة المصطفى وأصحابه الثلاثة الخلفاء ، وكذا شيخةالخطيب أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن حبيش في كتابه الذي جمعه في الفتوح ، قالا وقعه اليرموك من فتوح الشام عن حديث سيف بن عمر وهذا لفظ ابن سالم : قال : وكان القارئ يوم ذاك المقداد ، قالوا : ومن السنة التي سن رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) بعد بدر أن نقرأ سورة الجهاد عند اللقاء ، وهي سورة الأنفال ، ولم يزل الناس بعد على ذلك ؛ قالا في وقعه القادسية من فتوح فارس واللفظ لابن سالم أيضاً قالوا : ولما صلى سعد - يعني ابن أبي وقاص - رضي الله عنه الظهر أمر غلاماً كان عمر رضي الله عنه ألزمه إياه وكان من القراء يقرأ سورة الجهاد ، وكان المسلمون كلهم إذ ذاك يتعلمونها فقرأها على الكتبية التي تليه ، وقرئت في كل كتيبة ، فهشت قلوب الناس وعرفوا السكينة مع قراءتها ، قال مصعب بن سعيد : وكانت قراءتها سنة يقرأها رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) عند الزخرف ويستقرئها ، فعمل الناس بذلك - انتهى .
ومناسبتها للأعراف انه لما ذكر تعالى - كما تقدم - قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم في تلك ، ناسب أن يذكر قصة هذا النبي الكريم صلى عليه وسلم مع قومه ، وتقدم أنه لما أطنب سبحانه في قصة موسى عليه السلام كان ذلك ربما أوهم تفضيله على الجميع ، فأتى بقصة المخاطب بهذا القرىن في سورتين كاملتين ، الأنفال في أول أمره وأثانه ، وبراءة في ختام أمره وانتهائه ، وفرق بين القصتين ، وذلك أن قوم مةوسى عليه السلام كانوا في سوء العذاب ، وكانوا يعلمون عن اسلافهم أن الله سيذكرهم وينجيهم من أيدي القبط ، فلما أتاهم موسى عليه السلام وبين لهم الآيات التي أمره الله بها لم يشكوا في انه الموعود به من رحمة الله لهم ، وإتيانه نفع لهم عاجل مع ما فيه من النفع الآجل ، فأطبقوا على أتباعه ، وكانوا أكثر من ستمائة الف مقاتل ، ومع ذلك فقد كانوا يخالفون عليه في كل قليل ، ولا يجدون قلوباً يواجهون بها القبط في الإباء عن امتثال أوامرهم ، وأما محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) فاتى قومه ولا حس عندهم من نبوة ولا علم لهم بها ، ولم يكونوا تحت ذل أحد ، بل كانوا ملوك العرب ، فعندهم أنه جاء يسلبهم عزهم ويصيرهم له تبعاً فخالفوا اشد المخالفة ولم يدعوا كيداً حتى باشروه في رده عما جاء به ، ومع ذلك فنصره الله عليهم ولم يزل يؤيده حتى دخل الناس هم وغيرهم في دين الله افواجاً ، واظهر دينه على الدين كله كماوعده سبحانه ، ثم أيد أمره من بعده ولم يزل اتباعه ظاهرين ولا يزالون إلى يوم الدين ، فبين القصتين فرقان لأولى الإبصار والإيقان ، وأما مناسبة أولها لآخر تلك فقد تبين أن آخر الأعراف آخر قصة موسى عليه السلام المختتمة بقصة بلعام وأن ما بعد ذلك إنما هو تتمات لما تقدم لا بد منها وتتمات للتتمات حتى كان آخر ذلك مدح من أهلهم لعنديته سبحانه بالإذعان وتمام الخضوع ، فلما أضيفوا إلى تلك الحضرة العالية ، اقتضى ذلك سؤالاً عن حال الذين عند المخاطب ( - صلى الله عليه وسلم - ) فأجيب بقوله(1/359)
تعالى : ( يسألونك ) أي الذين عند ربك هم الذين هزموا الكفار في الحقيقة كما علمتم ذلك - وسيأتي بيانه ، فهم المستحقون للأنفال وليس لهم إليها التفات وإنما همهم العبادة ، والذين عندك إنما جعلنهم آلة ظاهرة ومع ذلك فهم يسألون ) عن الأنفال ( التي توليتهم إياها بأيدي جنودي سؤال منازعة ينبغي الاستعادة بالله منها - كما نبه عليه آخر الأعراف - لأن ذلك يفضي إلى افتراق الكلمة والضعف عن مقاومة الأعداد ، وهو جمع نفل - بالتحريك ، وهو ما يعطاه الغازي زيادة على سهمه ، والمراد بها هنا الغنيمة ، وهي المال المأخوذ من أهل الحرب قهراً ، سميت هنا بذلك لأن اصلها في اللغة الزيادة ، وقد فضل المسلمون بها على سائر الأمم ولما كان السؤال عن حكمها ، كا كأنه قيل : فماذا يفعل ؟ فقال دالاً على انهم سألوا عن مصرفها وحكمها - ليطابق الجواب السؤال : ( قل ) أي لهم في جواب سؤالهم ) الأنفال لله ) أي الذي ليس النصر غلا من عنده لما له من صفات الكمال ) الرسول ) أي الذي كان جازماً بأمر الله مسلماً لقضائه ماضياً فيما أرسله به غير متخوف من مخالطة الردى بموافقة العدى ؛ قال أبو حيان : ولا خلاف أن الآية نزلت في يو بدر وغنائمه ، وقال ابن زيد : لا نسخ ، إنما أخبر أن الغنائم لله من حيث إنها ملكه ورزقه ، وللرسول عليه السلام من حيث إنها ملكه ورزقه ، وللرسول عليه السلام من حيث هو مبين لحكم الله والصادع فيها بأمره ليقع التسليم من الناس ، وحكم القسمة نازل خلال ذلك - انتهى . (1)
نعود الآن إلى القرآن المدني - بعد سورتي الأنعام والأعراف المكيتين - وقد سبقت منه في هذه الظلال - التي نسير فيها وفق ترتيب المصحف لا وفق ترتيب النزول - سور : البقرة ، وآل عمران ، والنساء والمائدة ..
ذلك أن الترتيب الزمني للنزول لا يمكن القطع فيه الآن بشي ء - اللهم إلا من ناحية أن هذا قرآن مكي وهذا قرآن مدني على وجه الإجمال ، على ما في هذا من خلافات قليلة - فأما الترتيب الزمني المقطوع به من ناحية زمن نزول كل آية أو كل مجموعة من الآيات أو كل سورة ، فيكاد يكون متعذرا ولا يكاد يجد الإنسان فيه اليوم شيئا مستيقنا - إلا في آيات معدودات تتوافر بشأنها الروايات أو تقطع بشأنها بعض الروايات ..
وعلى كل ما في محاولة تتبع آيات القرآن وسوره وفق الترتيب الزمني للنزول من قيمة ، ومن مساعدة على تصور منهج الحركة الإسلامية ومراحلها وخطواتها ، فإن قلة اليقين في هذا الترتيب تجعل الأمر شاقا كما أنها تجعل النتائج التي يتوصل إليها تقريبية ظنية ، وليست نهائية يقينية .. وقد تترتب على هذه النتائج
__________
(1) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (3 / 181)(1/360)
الظنية التقريبية نتائج أخرى خطيرة .. لذلك آثرت في هذه الظلال أن أعرض القرآن بترتيب سوره في المصحف العثماني مع محاولة الإلمام بالملابسات التاريخية لكل سورة - على وجه الإجمال والترجيح - والاستئناس بهذا في إيضاح الجو والملابسات المحيطة بالنص - على وجه الإجمال والترجيح أيضا - على النحو الذي سبق في التعريف بالسور الماضية في هذه الطبعة الجديدة من الظلال .. وعلى هذا النحو نمضي - بعون اللّه - في هذه السورة ..
نزلت سورة الأنفال التي نعرض لها هنا بعد سورة البقرة .. نزلت في غزوة بدر الكبرى في شهر رمضان من العام الثاني للهجرة بعد تسعة عشر شهرا من الهجرة على الأرجح .. ولكن القول بأن هذه السورة نزلت بعد سورة البقرة لا يمثل حقيقة نهائية. فسورة البقرة لم تنزل دفعة واحدة بل إن منها ما نزل في أوائل العهد بالمدينة ، ومنها ما نزل في أواخر هذا العهد. وبين هذه الأوائل وهذه الأواخر نحو تسع سنوات! ومن المؤكد أن سورة الأنفال نزلت بين هذين الموعدين وأن سورة البقرة قبلها وبعدها ظلت مفتوحة تنزل الآيات ذوات العدد منها بين هذين الموعدين وتضم إليها وفق الأمر النبوي التوقيفي. ولكن المعول عليه في قولهم : إن هذه السورة نزلت بعد هذه السورة ، هو نزول أوائل السور. كما ذكرنا ذلك في التعريف بسورة البقرة .
وفي بعض الروايات أن الآيات من 30 إلى غاية 36 من سورة الأنفال مكية .. وهي هذه الآيات : «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا : قَدْ سَمِعْنا. لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَإِذْ قالُوا : اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ ، إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً ، فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ» ..
ولعل الذي دعا أصحاب هذه الروايات إلى القول بمكية هذه الآيات أنها تتحدث عن أمور كانت في مكة قبل الهجرة .. ولكن هذا ليس بسبب .. فإن هناك كثيرا من الآيات المدنية تتحدث عن أمور كانت في مكة قبل الهجرة. وفي هذه السورة نفسها آية : 26 قبل هذه الآيات تتحدث عن مثل هذا الشأن : «وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ ، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ، فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ..(1/361)
كما أن الآية : 36 وهي الأخيرة من تلك الآيات تتحدث عن أمر كان بعد بدر ، خاص بإنفاق المشركين أموالهم للتجهيز لغزوة أحد :
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ، ثُمَّ يُغْلَبُونَ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ» ..
والروايات التي تذكر أن هذه الآيات مكية ذكرت في سبب النزول مناسبة هي محل اعتراض. فقد جاء فيها : أن أبا طالب قال لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ما يأتمر به قومك؟ قال : يريدون أن يسحروني ويقتلوني ويخرجوني! فقال : من أخبرك بهذا؟ قال : ربي. قال : نعم الرب ربك. فاستوص به خيرا! فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : أنا استوصي به! بل هو يستوصي بي خيرا! فنزلت : «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ» .. الآية ..
وقد ذكر ابن كثير هذه الرواية واعترض عليها بقوله : «وذكر أبي طالب في هذا غريب جدا ، بل منكر. لأن هذه الآية مدنية. ثم إن هذه القصة ، واجتماع قريش على هذا الائتمار ، والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل ، إنما كانت ليلة الهجرة سواء. وذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين. لما تمكنوا منه واجترءوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب ، الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه» ..
وقد ذكر ابن إسحاق. عن عبد اللّه ابن أبي نجيح. عن مجاهد. عن ابن عباس - وعنه كذلك من طريق آخر - حديثا طويلا عن تبييت قريش ومكرهم هذا ، جاء في نهايته قوله : «.. وأذن اللّه له عند ذلك بالخروج ، وأنزل عليه - بعد قدومه المدينة - «الأنفال» يذكره نعمه عليه ، وبلاءه عنده : «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ. وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» ..
وهذه الرواية عن ابن عباس - رضي اللّه عنهما - هي التي تتفق مع السياق القرآني قبل هذه الآيات وبعدها.
من تذكير اللّه سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين بما أسلف إليهم من فضله في معرض تحريضهم على الجهاد في سبيل اللّه والاستجابة لما يدعوهم إليه منه والثبات يوم الزحف .. إلى آخر ما تعالجه السورة من هذا الأمر كما سنبين .. والقول بأن هذه الآيات مدنية كالسورة كلها هو الأولى ..
وبعد ، فإنه من أجل مثل هذه الملابسات في الروايات الواردة عن أسباب النزول ، آثرنا المنهج الذي جرينا عليه في عرض القرآن الكريم كما هو ترتيب السور في مصحف عثمان - رضي اللّه عنه - لا وفق ترتيب النزول الذي لا سبيل اليوم فيه إلى يقين .. مع محاولة الاستئناس بأسباب النزول وملابساته قدر ما يستطاع.
واللّه المستعان ..(1/362)
هذه السورة نزلت في غزوة بدر الكبرى .. وغزوة بدر - بملابساتها وبما ترتب عليها في تاريخ الحركة الإسلامية وفي التاريخ البشري جملة - تقوم معلما ضخما في طريق تلك الحركة وفي طريق هذا التاريخ.
وقد سمى اللّه - سبحانه - يومها «يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» .. كما أنه جعلها مفرق الطريق بين الناس في الآخرة كذلك لا في هذه الأرض وحدها ولا في التاريخ البشري على هذه الأرض في الحياة الدنيا وحدها.فقال سبحانه : «هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ : فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ ، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ. وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ. كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها - مِنْ غَمٍّ - أُعِيدُوا فِيها ، وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ .. إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ. وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ ..» .. (الحج : 19 - 24) وقد ورد أن هذه الآيات نزلت في الفريقين اللذين التقيا يوم بدر .. يوم الفرقان .. لا في الدنيا وحدها ، ولا في التاريخ البشري على الأرض وحدها ولكن كذلك في الآخرة وفي الأبد الطويل .. وتكفي هذه الشهادة من الجليل - سبحانه - لتصوير ذلك اليوم وتقديره ..
وسنعرف شيئا من قيمة هذا اليوم ، حين نستعرض الوقعة وملابساتها ونتائجها ..
ومع كل عظمة هذه الغزوة ، فإن قيمتها لا تتضح أبعادها الحقيقية إلا حين نعرف طبيعتها وحين نراها حلقة من حلقات «الجهاد في الإسلام» ، وحين ندرك بواعث هذا الجهاد وأهدافه. كذلك نحن لا ندرك طبيعة «الجهاد في الإسلام» وبواعثه وأهدافه ، قبل أن نعرف طبيعة هذا الدين ذاته ..
لقد لخص الإمام ابن القيم سياق الجهاد في الإسلام في «زاد المعاد» ، في الفصل الذي عقده باسم : «فصل في ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي اللّه عز وجل : أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى : أن يقرأ باسم ربه الذي خلق. وذلك أول نبوته. فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ. ثم أنزل عليه : «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ» فنبأه بقوله : «اقْرَأْ» وأرسله ب «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ». ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين. ثم أنذر قومه. ثم أنذر من حولهم من العرب. ثم أنذر العرب قاطبة. ثم أنذر العالمين.
فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ويؤمر بالكف والصبر والصفح. ثم أذن له في الهجرة ، وأذن له في القتال. ثم أمره أن يقاتل من قاتله ، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله. ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله للّه .. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة.(1/363)
وأهل حرب. وأهل ذمة .. فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد. وأمر أن يقاتل من نقض عهده ..
ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها : فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام. وأمره فيها يجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم. فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، و المنافقين بالحجة واللسان. وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم .. وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام : قسما أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ، ولم يستقيموا له ، فحاربهم وظهر عليهم. وقسما لهم عهد موقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه ، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم. وقسما لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه أو كان لهم عهد مطلق ، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر فإذا انسلخت قاتلهم ..
فقتل الناقض لعهده ، وأجل من لا عهد له ، عهد مطلق ، أربعة أشهر. وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم. وضرب على أهل الذمة الجزية .. فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة .. ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين : محاربين وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه. فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به. ومسالم له آمن. وخائف محارب .. وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائر هم إلى اللّه وأن يجاهدهم بالعلم والحجة وأمر أن يعرض عنهم ، ويغلظ عليهم ، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ، ونهي أن يصلي عليهم ، وأن يقوم على قبورهم ، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر اللّه لهم .. فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين» ..
ومن هذا التلخيص الجيد لمراحل الجهاد في الإسلام تتجلى سمات أصيلة وعميقة في المنهج الحركي لهذا الدين ، جديرة بالوقوف أمامها طويلا. ولكننا في هذه الظلال لا نملك إلا أن نشير إليها إشارات مجملة :
السمة الأولى : هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين .. فهو حركة تواجه واقعا بشريا .. وتواجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي .. إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية تقوم عليها أنظمة واقعية عملية تسندها سلطات ذات قوة مادية .. ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كله بما يكافئه .. تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات وتخضعهم بالقهر والتضليل وتعبدهم لغير ربهم الجليل .. إنها حركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي. كما أنها لا(1/364)
تستخدم القهر المادي لضمائر الأفراد .. وهذه كتلك سواء في منهج هذا الدين وهو يتحرك لإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية للّه وحده كما سيجيء ..
والسمة الثانية في منهج هذا الدين .. هي الواقعية الحركية. فهو حركة ذات مراحل. كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية. وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها .. فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة. كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة .. والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد ، ولا يراعون هذه السمة فيه ، ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج ، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها .. الذين يصنعون هذا يخلطون خلطا شديدا ويلبسون منهج هذا الدين لبسا مضللا ، ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية.
ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصا نهائيا يمثل القواعد النهائية في هذا الدين. ويقولون - وهم مهزومون روحيا وعقليا تحت ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان - : إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع! ويحسبون أنهم يسدون إلى هذا الدين جميلا بتخلية عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعا ، وتعبيد الناس للّه وحده ، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته. ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة .. بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة ، أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها ..
والسمة الثالثة : هي أن هذه الحركة الدائبة ، والوسائل المتجددة ، لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة ، ولا عن أهدافه المرسومة. فهو منذ اليوم الأول - سواء وهو يخاطب العشيرة الأقربين ، أو يخاطب قريشا ، أو يخاطب العرب أجمعين ، أو يخاطب العالمين ، إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد .. هو إخلاص العبودية للّه ، والخروج من العبودية للعباد .. لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين.
ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد ، في خطة مرسومة ذات مراحل محددة لكل مرحلة وسائلها المتجددة.
على نحو ما أسلفنا في الفقرة السابقة.
والسمة الرابعة : هي ذلك الضبط التشريعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى - على النحو الملحوظ في ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن «زاد المعاد». وقيام ذلك الضبط على أساس أن الإسلام للّه هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه أو أن تسالمه بجملتها فلا تقف لدعوته(1/365)
بأي حائل من نظام سياسي ، أو قوة مادية. وأن تخلي بينه وبين كل فرد ، يختاره أو لا يختاره بمطلق إرادته. ولكن لا يقاومه ولا يحاربه! فإن فعل ذلك أحد كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله أو حتى يعلن استسلامه! والمهزومون روحيا وعقليا ممن يكتبون عن «الجهاد في الإسلام» ليدفعوا عن الإسلام هذا «الاتهام!» ..
يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة ، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه والتي تعبد الناس للناس وتمنعهم من العبودية للّه .. وهما أمر ان لا علاقة بينهما ولا مجال للالتباس فيهما .. ومن أجل هذا التخليط - وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة! - يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم : «الحرب الدفاعية» .. والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم ، ولا بواعثها ، ولا تكييفها كذلك .. إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة «الإسلام» ذاته ، ودوره في هذه الأرض ، وأهدافه العليا التي قررها اللّه وذكر اللّه أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة ، وجعله خاتم النبيين وجعلها خاتمة الرسالات ..
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضا وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية اللّه وحده - سبحانه - وربوبيته للعالمين .. إن إعلان ربوبية اللّه وحده للعالمين معناها : الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور .. أو بتعبير آخر مرادف :
الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور .. ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر ، ومصدر السلطات فيه هم البشر ، هو تأليه للبشر ، يجعل بعضهم لبعض أربابا من دون اللّه .. إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان اللّه المغتصب ورده إلى اللّه وطرد المغتصبين له الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم فيقومون منهم مقام الأرباب ويقوم الناس منهم مقام العبيد .. إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة اللّه في الأرض ..
أو بالتعبير القرآني الكريم : «وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ» ..
«إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ .. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ..» ..
«قُلْ : يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ : أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا : اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» ..
ومملكة اللّه في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم - هم رجال الدين كما كان الأمر في سلطان الكنيسة ، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة ، كما كان الحال في ما يعرف باسم(1/366)
«الثيوقراطية» أو الحكم الإلهي المقدس!!! - ولكنها تقوم بأن تكون شريعة اللّه هي الحاكمة وأن يكون مرد الأمر إلى اللّه وفق ما قرره من شريعة مبينة.
وقيام مملكة اللّه في الأرض ، وإزالة مملكة البشر. وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى اللّه وحده. وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية .. كل أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان.
لأن المتسلطين على رقاب العباد ، المغتصبين لسلطان اللّه في الأرض ، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان. وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين اللّه في الأرض! وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل - صلوات اللّه وسلامه عليهم - وتاريخ هذا الدين على ممر الأجيال! إن هذا الإعلان العام لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من كل سلطان غير سلطان اللّه ، بإعلان ألوهية اللّه وحده وربوبيته للعالمين ، لم يكن إعلانا نظريا فلسفيا سلبيا .. إنما كان إعلانا حركيا واقعيا إيجابيا .. إعلانا يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة اللّه ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية للّه وحده بلا شريك .. ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل «الحركة» إلى جانب شكل «البيان» .. ذلك ليواجه «الواقع» البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه.
والواقع الإنساني ، أمس واليوم وغدا ، يواجه هذا الدين - بوصفه إعلانا عاما لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من كل سلطان غير سلطان اللّه - بعقبات اعتقادية تصورية. وعقبات مادية واقعية .. عقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية ، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة .. وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة التعقيد ..
وإذا كان «البيان» يواجه العقائد والتصورات ، فإن «الحركة» تواجه العقبات المادية الأخرى - وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية ، والعنصرية والطبقية ، والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة .. وهما معا - البيان والحركة - يواجهان «الواقع البشري» بجملته ، بوسائل مكافئة لكل مكوناته .. وهما معا لا بد منهما لانطلاق حركة التحرير للإنسان في الأرض .. «الإنسان» كله في «الأرض» كلها .. وهذه نقطة هامة لا بد من تقريرها مرة أخرى!
إن هذا الدين ليس إعلانا لتحرير الإنسان العربي!
وليس رسالة خاصة بالعرب! ..
إن موضوعه هو «الإنسان» .. نوع «الإنسان» .. ومجاله هو «الأرض» .. كل الأرض. إن اللّه - سبحانه - ليس ربا للعرب وحدهم ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم .. إن اللّه هو «رب العالمين» .. وهذا الدين يريد أن يرد «العالمين» إلى ربهم وأن ينتزعهم من العبودية لغيره. والعبودية(1/367)
الكبرى - في نظر الإسلام - هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر .. وهذه هي «العبادة» التي يقرر أنها لا تكون إلا للّه. وأن من يتوجه بها لغير اللّه يخرج من دين اللّه مهما ادعى أنه في هذا الدين. ولقد نص رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على أن «الاتباع» في الشريعة والحكم هو «العبادة» التي صار بها اليهود والنصارى «مشركين» مخالفين لما أمروا به من «عبادة» اللّه وحده .. أخرج الترمذي - بإسناده - عن عدى بن حاتم - رضي اللّه عنه - أنه لما بلغته دعوة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فر إلى الشام. وكان قد تنصر في الجاهلية. فأسرت أخته وجماعة من قومه. ثم منّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على أخته وأعطاها. فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام ، وفي القدوم على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فتحدث الناس بقدومه. فدخل على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقه (أي عدي) صليب من فضة وهو (أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ) يقرأ هذه الآية : «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» .. قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم. فقال : «بلى! إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام. فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم» ...
وتفسير رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لقول اللّه سبحانه ، نص قاطع على أن الاتباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي تخرج من الدين ، وأنها هي اتخاذ بعض الناس أربابا لبعض .. الأمر الذي جاء هذا الدين ليلغيه ، ويعلن تحرير «الإنسان» ، في «الأرض» من العبودية لغير اللّه ..
ومن ثم لم يكن بد للإسلام أن ينطلق في «الأرض» لإزالة «الواقع» المخالف لذلك الإعلان العام .. بالبيان وبالحركة مجتمعين .. وأن يوجه الضربات للقوى السياسية التي تعبد الناس لغير اللّه - أي تحكمهم بغير شريعة اللّه وسلطانه - والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى «البيان» واعتناق «العقيدة» بحرية لا يتعرض لها السلطان.
ثم لكي يقيم نظاما اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا يسمح لحركة التحرر بالانطلاق الفعلي - بعد إزالة القوة المسيطرة - سواء كانت سياسية بحتة ، أو متلبسة بالعنصرية أو الطبقية داخل العنصر الواحد!
إنه لم يكن من قصد الإسلام قط أن يكره الناس على اعتناق عقيدته .. ولكن الإسلام ليس مجرد «عقيدة» ..
إن الإسلام كما قلنا إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد. فهو يهدف ابتداء إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر وعبودية الإنسان للإنسان .. ثم يطلق الأفراد بعد ذلك أحرارا - بالفعل - في اختيار العقيدة التي يريدونها بمحض اختيارهم - بعد رفع الضغط السياسي عنهم وبعد البيان المنير لأرواحهم وعقولهم - ولكن هذه الحرية ليس معناها أن يجعلوا إلههم هواهم أو أن يختاروا بأنفسهم أن يكونوا عبيدا للعباد! وأن يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون اللّه! .. إن النظام الذي يحكم البشر في الأرض يجب أن تكون قاعدته العبودية للّه وحده وذلك بتلقي الشرائع منه وحده. ثم(1/368)
ليعتنق كل فرد - في ظل هذا النظام العام - ما يعتنقه من عقيدة! وبهذا يكون «الدين» كله للّه. أي تكون الدينونة والخضوع والاتباع والعبودية كلها للّه .. إن مدلول «الدين» أشمل من مدلول «العقيدة» .. إن الدين هو المنهج والنظام الذي يحكم الحياة وهو في الإسلام يعتمد على العقيدة. ولكنه في عمومه أشمل من العقيدة .. وفي الإسلام يمكن أن تخضع جماعات متنوعة لمنهجه العام الذي يقوم على أساس العبودية للّه وحده ولو لم يعتنق بعض هذه الجماعات عقيدة الإسلام ..
والذي يدرك طبيعة هذا الدين - على النحو المتقدم - يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف - إلى جانب الجهاد بالبيان - ويدرك أن ذلك لم يكن حركة دفاعية - بالمعنى الضيق الذي يفهم اليوم من اصطلاح «الحرب الدفاعية» - كما يريد المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام هجوم المستشرقين الماكر أن يصوروا حركة الجهاد في الإسلام - إنما كان حركة اندفاع وانطلاق لتحرير «الإنسان» في «الأرض» .. بوسائل مكافئة لكل جوانب الواقع البشري وفي مراحل محددة لكل مرحلة منها وسائلها المتجددة.
وإذا لم يكن بد من أن نسمي حركة الإسلام الجهادية حركة دفاعية ، فلا بد أن نغير مفهوم كلمة «دفاع». ونعتبره «دفاعا عن الإنسان» ذاته ، ضد جميع العوامل التي تقيد حريته وتعوق تحرره .. هذه العوامل التي تتمثل في المعتقدات والتصورات كما تتمثل في الأنظمة السياسية ، القائمة على الحواجز الاقتصادية والطبقية والعنصرية ، التي كانت سائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام والتي ما تزال أشكال منها سائدة في الجاهلية الحاضرة في هذا الزمان! وبهذا التوسع في مفهوم كلمة «الدفاع» نستطيع أن نواجه حقيقة بواعث الانطلاق الإسلامي في «الأرض» بالجهاد ونواجه طبيعة الإسلام ذاتها ، وهي أنه إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد ، وتقرير ألوهية اللّه وحده وربوبيته للعالمين وتحطيم مملكة الهوى البشري في الأرض ، وإقامة مملكة الشريعة الإلهية في عالم الإنسان ..
أما محاولة إيجاد مبررات دفاعية للجهاد الإسلامي بالمعنى الضيق للمفهوم العصري للحرب الدفاعية ومحاولة البحث عن أسانيد لإثبات أن وقائع الجهاد الإسلامي كانت لمجرد صد العدوان من القوى المجاورة على «الوطن الإسلامي!» - وهو في عرف بعضهم جزيرة العرب - فهي محاولة تنم عن قلة إدراك لطبيعة هذا الدين ، ولطبيعة الدور الذي جاء ليقوم به في الأرض. كما أنها تشي بالهزيمة أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي! ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان - رضي اللّه عنهم - قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض؟ وكيف كانوا يدفعون هذا المد ، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية - من أنظمة الدولة السياسية وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية ، والاقتصادية الناشئة من الاعتبارات العنصرية والطبقية ، والتي(1/369)
تحميها القوة المادية للدولة كذلك؟! إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير «الإنسان» .. نوع الإنسان .. في «الأرض» .. كل الأرض .. ثم تقف أمام هذه العقبات تجاهدها باللسان والبيان! .. إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد ، تخاطبهم بحرية ، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات .. فهنا «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» ..
أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية ، فلا بد من إزالتها أولا بالقوة ، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله وهو طليق من هذه الأغلال! إن الجهاد ضرورة للدعوة. إذا كانت أهدافها هي إعلان تحرير الإنسان إعلانا جادا يواجه الواقع الفعلي بوسائل مكافئة له في كل جوانبه ولا يكتفي بالبيان الفلسفي النظري السلبي! سواء كان الوطن الإسلامي - وبالتعبير الإسلامي الصحيح : دار الإسلام - آمنا أم مهددا من جيرانه. فالإسلام حين يسعى إلى السلم ، لا يقصد تلك السلم الرخيصة وهي مجرد أن يأمن على الرقعة الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة الإسلامية. إنما هو يريد السلم التي يكون الدين فيها كله للّه. أي تكون عبودية الناس كلهم فيها للّه والتي لا يتخذ فيها الناس بعضهم بعضا أربابا من دون اللّه. والعبرة بنهاية المراحل التي وصلت إليها الحركة الجهادية في الإسلام - بأمر من اللّه - لا بأوائل أيام الدعوة ولا بأوسطها .. ولقد انتهت هذه المراحل كما يقول الإمام ابن القيم : «فاستقر أمر الكفار معه - بعد نزول براءة - على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة .. ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام .. فصاروا معه قسمين : محاربين ، وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه ..
فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به. ومسالم له آمن (و هم أهل الذمة كما يفهم من الجملة السابقة) وخائف محارب» .. وهذه هي المواقف المنطقية مع طبيعة هذا الدين وأهدافه. لا كما يفهم المهزومون أمام الواقع الحاضر ، وأمام هجوم المستشرقين الماكر!
ولقد كف اللّه المسلمين عن القتال في مكة وفي أول العهد بالهجرة إلى المدينة .. وقيل للمسلمين : «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» .. ثم أذن لهم فيه ، فقيل لهم : «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ - إِلَّا أَنْ يَقُولُوا : رَبُّنَا اللَّهُ. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً ، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» .. ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقيل لهم : «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ» .. ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة فقيل لهم : «وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً» .. وقيل لهم : «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ(1/370)
وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ، حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» ..
فكان القتال - كما يقول الإمام ابن القيم - «محرما ، ثم مأذونا به ، ثم مأمورا به لمن بدأهم بالقتال ، ثم مأمورا به لجميع المشركين» ..
إن جدية النصوص القرآنية الواردة في الجهاد وجدية الأحاديث النبوية التي تحض عليه وجدية الوقائع الجهادية في صدر الإسلام ، وعلى مدى طويل من تاريخه .. إن هذه الجدية الواضحة تمنع أن يجول في النفس ذلك التفسير الذي يحاوله المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي! ومن ذا الذي يسمع قول اللّه سبحانه في هذا الشأن وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويتابع وقائع الجهاد الإسلامي ثم يظنه شأنا عارضا مقيدا بملابسات تذهب وتجيء ويقف عند حدود الدفاع لتأمين الحدود؟! لقد بين اللّه للمؤمنين في أول ما نزل من الآيات التي أذن لهم فيها بالقتال أن الشأن الدائم الأصيل في طبيعة هذه الحياة الدنيا أن يدفع الناس بعضهم ببعض ، لدفع الفساد عن الأرض : «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً» .. وإذن فهو الشأن الدائم لا الحالة العارضة. الشأن الدائم أن لا يتعايش الحق والباطل في هذه الأرض. وأنه متى قام الإسلام بإعلانه العام لإقامة ربوبية اللّه للعالمين ، وتحرير الإنسان من العبودية للعباد ، رماه المغتصبون لسلطان اللّه في الأرض ولم يسالموه قط وانطلق هو كذلك يدمر عليهم ليخرج الناس من سلطانهم ويدفع عن «الإنسان» في «الأرض» ذلك السلطان الغاصب .. حال دائمة لا يكف معها الانطلاق الجهادي التحريري حتى يكون الدين كله للّه.
إن الكف عن القتال في مكة لم يكن إلا مجرد مرحلة في خطة طويلة. كذلك كان الأمر أول العهد بالهجرة.
والذي بعث الجماعة المسلمة في المدينة بعد الفترة الأولى للانطلاق لم يكن مجرد تأمين المدينة .. هذا هدف أولي لا بد منه .. ولكنه ليس الهدف الأخير .. إنه هدف يضمن وسيلة الانطلاق ويؤمن قاعدة الانطلاق ..
الانطلاق لتحرير «الإنسان» ، ولإزالة العقبات التي تمنع «الإنسان» ذاته من الانطلاق! وكف أيدي المسلمين في مكة عن الجهاد بالسيف مفهوم. لأنه كان مكفولا للدعوة في مكة حرية البلاغ ..
كان صاحبها - صلى الله عليه وسلم - يملك بحماية سيوف بني هاشم ، أن يصدع بالدعوة ويخاطب بها الآذان والعقول والقلوب ويواجه بها الأفراد .. لم تكن هناك سلطة سياسية منظمة تمنعه من إبلاغ الدعوة ، أو تمنع الأفراد(1/371)
من سماعه! فلا ضرورة - في هذه المرحلة - لاستخدام القوة. وذلك إلى أسباب أخرى لعلها كانت قائمة في هذه المرحلة. وقد لخصناها عند تفسير قوله تعالى : «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ...» من سورة النساء. ولا نرى بأسا في إثبات بعض هذا التلخيص هنا مرة أخرى :
«ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد ، في بيئة معينة ، لقوم معينين ، وسط ظروف معينة. ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات ، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم على شخصه أو على من يلوذون به. ليخلص من شخصه ، ويتجرد من ذاته ، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به محور الحياة في نظره ودافع الحركة في حياته. وتربيته كذلك على ضبط أعصابه ، فلا يندفع لأول مؤثر - كما هي طبيعته - ولا يهتاج لأول مهيج ، ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته.
وتربيته على أن يتبع مجتمعا منظما له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته ، ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره به - مهما يكن مخالفا لمألوفه وعادته - وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي ، لإنشاء «المجتمع المسلم» الخاضع لقيادة موجهة ، المترقي المتحضر ، غير الهمجي أو القبلي! «وربما كان ذلك أيضا ، لأن الدعوة السلمية كانت أشد أثرا وأنفذ ، في مثل بيئة قريش ، ذات العنجهية والشرف والتي قد يدفعها القتال معها - في مثل هذه المرحلة - إلى زيادة العناد ، وإلى نشأة ثارات دموية جديدة كثارات العرب المعروفة التي أثارت حرب داحس والغبراء ، وحرب البسوس ، أعواما طويلة ، تفانت فيها قبائل برمتها. وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام. فلا تهدأ بعد ذلك أبدا. ويتحول الإسلام من دعوة إلى ثارات وذحول تنسى معها وجهته الأساسية ، وهو في مبدئه ، فلا تذكر أبدا! «وربما كان ذلك أيضا ، اجتنابا لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت. فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة ، هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم. إنما كان ذلك موكولا إلى أولياء كل فرد ، يعذبونه ويفتنونه «ويؤدبونه!» ومعنى الإذن بالقتال - في مثل هذه البيئة - أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت .. ثم يقال :
هذا هو الإسلام! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال! فقد كانت دعاية قريش في الموسم ، في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة : إن محمدا يفرق بين الوالد وولده ، فوق تفريقه لقومه وعشيرته! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد ، والمولى بقتل الولي .. في كل بيت وفي كل محلة؟
«وربما كان ذلك أيضا لما يعلمه اللّه من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم ، ويعذبونهم ويؤذونهم ، هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص ، بل من قادته .. ألم يكن عمر(1/372)
بن الخطاب من بين هؤلاء؟! «وربما كان ذلك أيضا ، لأن النخوة العربية ، في بيئة قبلية ، من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى ، ولا يتراجع! وبخاصة إذا كان الأذى واقعا على كرام الناس فيهم .. وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة - في هذه البيئة - فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من مكة ، ورأى في ذلك عارا على العرب! وعرض عليه جواره وحمايته .. وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب ، بعد ما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة .. بينما في بيئة أخرى من بيئات «الحضارة» القديمة التي مردت على الذل ، قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة ، وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي!
«وربما كان ذلك ، أيضا ، لقلة عدد المسلمين حينذاك ، وانحصارهم في مكة ، حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة. أو بلغت أخبارها متناثرة ، حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها ، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف. ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة ، إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك ، وتنمحي الجماعة المسلمة ، ولم يقم في الأرض للإسلام نظام ، ولا وجد له كيان واقعي .. وهو دين جاء ليكون منهاج حياة ، وليكون نظاما واقعيا عمليا للحياة.«... إلخ» ...
فأما في المدينة - في أول العهد بالهجرة - فقد كانت المعاهدة التي عقدها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود من أهلها ومن بقي على الشرك من العرب فيها وفيما حولها ، ملابسة تقتضيها طبيعة المرحلة كذلك ..
أولا : لأن هناك مجالا للتبليغ والبيان ، لا تقف له سلطة سياسية تمنعه وتحول بين الناس وبينه ، فقد اعترف الجميع بالدولة المسلمة الجديدة وبقيادة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في تصريف شؤونها السياسية. فنصت المعاهدة على ألا يعقد أحد منهم صلحا ولا يثير حربا ، ولا ينشىء علاقة خارجية إلا بإذن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وكان واضحا أن السلطة الحقيقية في المدينة في يد القيادة المسلمة. فالمجال أمام الدعوة مفتوح ، والتخلية بين الناس وحرية الاعتقاد قائمة.
ثانيا : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يريد التفرغ - في هذه المرحلة - لقريش التي تقوم معارضتها لهذا الدين حجر عثرة في وجه القبائل الأخرى الواقفة في حالة انتظار لما ينتهي إليه الأمر بين قريش وبعض بنيها! لذلك بادر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بإرسال «السرايا» وكان أول لواء عقده لحمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة.
ثم توالت هذه السرايا ، على رأس تسعة أشهر. ثم على رأس ثلاثة عشر شهرا. ثم على رأس ستة عشر شهرا.(1/373)
ثم كانت سرية عبد اللّه بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهرا. وهي أول غزاة وقع فيها قتل وقتال.
وكان ذلك في الشهر الحرام. والتي نزلت فيها آيات البقرة : «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ! قُلْ : قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ، وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ، وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ. وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا ...» .
ثم كانت غزوة بدر الكبرى في رمضان من هذه السنة .. وهي التي نزلت فيها هذه السورة التي نحن بصددها.
ورؤية الموقف من خلال ملابسات الواقع ، لا تدع مجالا للقول بأن «الدفاع» بمفهومه الضيق كان هو قاعدة الحركة الإسلامية. كما يقول المهزومون أمام الواقع الحاضر ، وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر! إن الذين يلجأون إلى تلمس أسباب دفاعية بحتة لحركة المد الإسلامي ، إنما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشراقية ، في وقت لم تعد للمسلمين شوكة بل لم يعد للمسلمين إسلام! - إلا من عصم اللّه ممن يصرون على تحقيق إعلان الإسلام العام بتحرير «الإنسان» في «الأرض» من كل سلطان إلا سلطان اللّه ، ليكون الدين كله للّه - فيبحثون عن مبررات أدبية للجهاد في الإسلام!
والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبية له أكثر من المبررات التي حملتها النصوص القرآنية : «فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ. وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها ، وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً؟ الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ، فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ ، إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً» ... (النساء : 74 - 76).
«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ، وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ. وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ ، نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» ... (الأنفال : 38 - 40) ..
«قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ. وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ، وَقالَتِ النَّصارى : الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ. ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ، قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ! اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ، وَما أُمِرُوا إِلَّا(1/374)
لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» .. (التوبة : 29 - 32).
إنها مبررات تقرير ألوهية اللّه في الأرض وتحقيق منهجه في حياة الناس. ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس ، والناس عبيد اللّه وحده ، لا يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه! وهذا يكفي .. مع تقرير مبدأ : «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» ..
أي لا إكراه على اعتناق العقيدة ، بعد الخروج من سلطان العبيد والإقرار بمبدأ أن السلطان كله للّه. أو أن الدين كله للّه. بهذا الاعتبار.
إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض. بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية للّه وحده بلا شريك .. وهذه وحدها تكفي .. ولقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس الغزاة من المسلمين فلم يسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول : خرجنا ندافع عن وطننا المهدد! أو خرجنا نصد عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين! أو خرجنا نوسع رقعتنا ونستكثر من الغنيمة! لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر ، وحذيفة بن محصن ، والمغيرة بن شعبة ، جميعا لرستم قائد جيش الفرس في القادسية ، وهو يسألهم واحدا بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية ، قبل المعركة : ما الذي جاء بكم؟ فيكون الجواب : اللّه ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده. ومن ضيق الدنيا إلى سعتها. ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .. فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه ، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه ، وتركناه وأرضه. ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر».
إن هناك مبررا ذاتيا في طبيعة هذا الدين ذاته وفي إعلانه العام ، وفي منهجه الواقعي لمقابلة الواقع البشري بوسائل مكافئة لكل جوانبه ، في مراحل محددة ، بوسائل متجددة .. وهذا المبرر الذاتي قائم ابتداء - ولو لم يوجد خطر الاعتداء على الأرض الإسلامية وعلى المسلمين فيها - إنه مبرر في طبيعة المنهج وواقعيته ، وطبيعة المعوقات الفعلية في المجتمعات البشرية .. لا من مجرد ملابسات دفاعية محدودة ، وموقوتة!
وإنه ليكفي أن يخرج المسلم مجاهدا بنفسه وماله .. «فِي سَبِيلِ اللَّهِ». في سبيل هذه القيم التي لا يناله هو من ورائها مغنم ذاتي ولا يخرجه لها مغنم ذاتي ..
إن المسلم قبل أن يتطلق للجهاد في المعركة يكون قد خاض معركة الجهاد الأكبر في نفسه مع الشيطان .. مع هواه وشهواته .. مع مطامعه ورغباته .. مع مصالحه ومصالح عشيرته وقومه .. مع كل شارة غير شارة الإسلام .. ومع كل دافع إلا العبودية للّه ، وتحقيق سلطانه في الأرض وطرد سلطان الطواغيت المغتصبين لسلطان اللّه ..(1/375)
والذين يبحثون عن مبررات للجهاد الإسلامي في حماية «الوطن الإسلامي» يغضون من شأن «المنهج» ويعتبرونه أقل من «الموطن»! وهذه ليست نظرة الإسلام إلى هذه الاعتبارات .. إنها نظرة مستحدثة غريبة على الحس الإسلامي ، فالعقيدة والمنهج الذي تتمثل فيه والمجتمع الذي يسود فيه هذا المنهج هي الاعتبارات الوحيدة في الحس الإسلامي. أما الأرض - بذاتها - فلا اعتبار لها ولا وزن! وكل قيمة للأرض في التصور الإسلامي إنما هي مستمدة من سيادة منهج اللّه وسلطانه فيها. وبهذا تكون محضن العقيدة وحقل المنهج و«دار الإسلام» ونقطة الانطلاق لتحرير «الإنسان» ..
وحقيقة أن حماية «دار الإسلام» حماية للعقيدة والمنهج والمجتمع الذي يسود فيه المنهج. ولكنها هي ليست الهدف النهائي. وليست حمايتها هي الغاية الأخيرة لحركة الجهاد الإسلامي. إنما حمايتها هي الوسيلة لقيام مملكة اللّه فيها. ثم لاتخاذها قاعدة انطلاق إلى الأرض كلها ، وإلى النوع الإنساني بجملته. فالنوع الإنساني هو موضوع هذا الدين ، والأرض هي مجاله الكبير! وكما أسلفنا فإن الانطلاق بالمنهج الإلهي تقوم في وجهه عقبات مادية من سلطة الدولة ، ونظام المجتمع ، وأوضاع البيئة .. وهذه كلها هي التي ينطلق الإسلام ليحطمها بالقوة. كي يخلو له وجه الأفراد من الناس ، يخاطب ضمائرهم وأفكارهم ، بعد أن يحررها من الأغلال المادية ويترك لها بعد ذلك حرية الاختيار ..
يجب ألا تخدعنا أو تفزعنا حملات المستشرقين على مبدأ «الجهاد» ، وألا يثقل على عاتقنا ضغط الواقع وثقله في ميزان القوى العالمية ، فنروح نبحث للجهاد الإسلامي عن مبررات أدبية خارجة عن طبيعة هذا الدين ، في ملابسات دفاعية وقتية ، كان الجهاد سينطلق في طريقه سواء وجدت هذه الملابسات أم لم توجد! ويجب ونحن نستعرض الواقع التاريخي ألا نغفل عن الاعتبارات الذاتية في طبيعة هذا الدين وإعلانه العام ومنهجه الواقعي .. وألا نخلط بينها وبين المقتضيات الدفاعية الوقتية ..
حقا إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له. لأن مجرد وجوده ، في صورة إعلان عام لربوبية اللّه للعالمين ، وتحرير الإنسان من العبودية لغير اللّه ، وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية ، وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية ، لأن الحاكمية فيه للّه وحده .. إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله ، القائمة على قاعدة العبودية للعباد ، أن تحاول سحقه ، دفاعا عن وجودها ذاته. ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفاع عن نفسه ..
هذه ملابسة لا بد منها. تولد مع ميلاد الإسلام ذاته. وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضا ، ولا خيار له في خوضها. وهذا صراع طبيعي بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلا ..(1/376)
هذا كله حق .. ووفق هذه النظرة يكون لا بد للإسلام أن يدافع عن وجوده. ولا بد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة عليه فرضا ..
ولكن هناك حقيقة أخرى أشد أصالة من هذه الحقيقة .. إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرك إلى الأمام ابتداء لإنقاذ «الإنسان» في «الأرض» من العبودية لغير اللّه. ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية تاركا «الإنسان» .. نوع الإنسان .. في «الأرض» ..كل الأرض .. للشر والفساد والعبودية لغير اللّه.
إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه ألا تهاجم الإسلام ، إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية ورضي أن يدعها وشأنها ولم يمد إليها دعوته وإعلانه التحريري العام! .. ولكن الإسلام لا يهادنها ، إلا أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية ، ضمانا لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها.
هذه طبيعة هذا الدين ، وهذه وظيفته بحكم أنه إعلان عام لربوبية اللّه للعالمين وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير اللّه في الناس أجمعين! وفرق بين تصور الإسلام على هذه الطبيعة ، وتصوره قابعا داخل حدود إقليمية أو عنصرية ، لا يحركه إلا خوف الاعتداء! إنه في هذه الصورة الأخيرة يفقد مبرراته الذاتية في الانطلاق! إن مبررات الانطلاق الإسلامي تبرز بوضوح وعمق عند تذكر أن هذا الدين هو منهج اللّه للحياة البشرية ، وليس منهج إنسان ، ولا مذهب شيعة من الناس ، ولا نظام جنس من الأجناس! .. ونحن لا نبحث عن مبررات خارجية إلا حين تفتر في حسنا هذه الحقيقة الهائلة .. حين ننسى أن القضية هي قضية ألوهية اللّه وعبودية العباد .. إنه لا يمكن أن يستحضر إنسان ما هذه الحقيقة الهائلة ثم يبحث عن مبرر آخر للجهاد الإسلامي! والمسافة قد لا تبدو كبيرة عند مفرق الطريق ، بين تصور أن الإسلام كان مضطرا لخوض معركة لا اختيار له فيها ، بحكم وجوده الذاتي ووجود المجتمعات الجاهلية الأخرى التي لا بد أن تهاجمه. وتصور أنه هو بذاته لا بد أن يتحرك ابتداء ، فيدخل في هذه المعركة ..
المسافة عند مفرق الطريق قد لا تبدو كبيرة. فهو في كلتا الحالتين سيدخل المعركة حتما. ولكنها في نهاية الطريق تبدو هائلة شاسعة ، تغير المشاعر والمفهومات الإسلامية تغييرا كبيرا .. خطيرا ..
إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام منهجا إلهيا ، جاء ليقرر ألوهية اللّه في الأرض ، وعبودية البشر جميعا لإله واحد ، ويصب هذا التقرير في قالب واقعي ، هو المجتمع الإنساني الذي يتحرر فيه الناس من العبودية للعباد ، بالعبودية لرب العباد ، فلا تحكمهم إلا شريعة اللّه ، التي يتمثل فيها سلطان اللّه ، أو بتعبير آخر تتمثل فيها ألوهيته .. فمن حقه إذن أن يزيل العقبات كلها من طريقه ، ليخاطب وجدان الأفراد وعقولهم دون حواجز ولا موانع مصطنعة من نظام الدولة السياسي ، أو أوضاع الناس الاجتماعية(1/377)
.. إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام على هذا النحو ، واعتباره نظاما محليا في وطن بعينه. فمن حقه فقط أن يدفع الهجوم عليه في داخل حدوده الإقليمية! هذا تصور .. وذاك تصور .. ولو أن الإسلام في كلتا الحالتين سيجاهد .. ولكن التصور الكلي لبواعث هذا الجهاد وأهدافه ونتائجه ، يختلف اختلافا بعيدا ، يدخل في صميم الاعتقاد كما يدخل في صميم الخطة والاتجاه.
إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء. فالإسلام ليس نحلة قوم ، ولا نظام وطن ، ولكنه منهج إله ، ونظام عالم .. ومن حقه أن يتحرك ليحطم الحواجز من الأنظمة والأوضاع التي تغل من حرية «الإنسان» في الاختيار.
وحسبه أنه لا يهاجم الأفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته. إنما يهاجم الأنظمة والأوضاع ليحرر الأفراد من التأثيرات الفاسدة ، المفسدة للفطرة ، المقيدة لحرية الاختيار.
من حق الإسلام أن يخرج «الناس» من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده .. ليحقق إعلانه العام بربوبية اللّه للعالمين ، وتحرير الناس أجمعين .. وعبادة اللّه وحده لا تتحقق - في التصور الإسلامي وفي الواقع العملي - إلا في ظل النظام الإسلامي. فهو وحده النظام الذي يشرع اللّه فيه للعباد كلهم. حاكمهم ومحكومهم.أسودهم وأبيضهم. قاصيهم ودانيهم. فقيرهم وغنيهم تشريعا واحدا يخضع له الجميع على السواء .. أما في سائر الأنظمة ، فيعبد الناس العباد ، لأنهم يتلقون التشريع لحياتهم من العباد. وهو من خصائص الألوهية.
فأيما بشر ادعى لنفسه سلطان التشريع للناس من عند نفسه فقد ادعى الألوهية اختصاصا وعملا ، سواء ادعاها قولا أم لم يعلن هذا الادعاء! وأيما بشر آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف له بحق الألوهية ، سواء سماها باسمها أم لم يسمها! والإسلام ليس مجرد عقيدة. حتى يقنع بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة البيان. إنما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس. والتجمعات الأخرى لا تمكنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو.
ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرر العام. وهذا - كما قلنا من قبل - معنى أن يكون الدين كله للّه. فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته ، كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقوم على عبودية العباد للعباد! إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر ، وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر ، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة. لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة. والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيدا أن هذه ليست هي الحقيقة. ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة .. ومن ثم يقوم(1/378)
المنافحون - المهزومون - عن سمعة الإسلام ، بنفي هذا الاتهام! فيلجأون إلى تلمس المبررات الدفاعية! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته ، وحقه في «تحرير الإنسان» ابتداء.
وقد غشى على أفكار الباحثين العصريين - المهزومين - ذلك التصور الغربي لطبيعة «الدين» .. وأنه مجرد «عقيدة» في الضمير لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة .. ومن ثم يكون الجهاد للدين ، جهادا لفرض العقيدة على الضمير! ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام. فالإسلام منهج اللّه للحياة البشرية. وهو منهج يقوم على إفراد اللّه وحده بالألوهية - متمثلة في الحاكمية - وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية! فالجهاد له جهاد لتقرير المنهج وإقامة النظام. أما العقيدة فأمرها موكول إلى حرية الاقتناع ، في ظل النظام العام ، بعد رفع جميع المؤثرات .. ومن ثم يختلف الأمر من أساسه ، وتصبح له صورة جديدة كاملة.
وحيثما وجد التجمع الإسلامي ، الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي ، فإن اللّه يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام. مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان .. فإذا كف اللّه أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد ، فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ. مسألة مقتضيات حركة لا مسألة مقررات عقيدة. وعلى هذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة ، في المراحل التاريخية المتجددة. ولا نخلط بين دلالالتها المرحلية ، والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الثابت الطويل.
وبعد ، فإن هناك بقية في بيان طبيعة «الجهاد في الإسلام» و«طبيعة هذا الدين» يمدنا بها المبحث المجمل القيم الذي أمدنا به المسلم العظيم السيد أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان ، بعنوان «الجهاد في سبيل اللّه» .. وسنحتاج أن نقتبس منه فقرات طويلة لا غنى عنها لقارىء يريد رؤية واضحة دقيقة لهذا الموضوع الخطير العميق في بناء الحركة الإسلامية :
«لقد جرت عادة الإفرنج أن يعبروا عن كلمة «الجهاد» «بالحرب المقدسة» () إذا أرادوا ترجمتها بلغاتهم. وقد فسروها تفسيرا منكرا. وتفننوا فيها ، وألبسوها ثوبا فضفاضا من المعاني المموهة الملفقة.
وقد بلغ الأمر في ذلك أن أصبحت كلمة الجهاد عندهم عبارة عن شراسة الطبع والخلق والهمجية وسفك الدماء. وقد كان من لباقتهم ، وسحر بيانهم ، وتشويههم لوجوه الحقائق الناصعة ، أنه كلما قرع سمع الناس صوت هذه الكلمة .. الجهاد .. تمثلت أمام أعينهم صورة مواكب من الهمج المحتشدة ، مصلتة سيوفها ، متقدة صدورها بنار التعصب والغضب ، متطايرا من عيونها شرار الفتك والنهب ، عالية أصواتها بهتاف :
«اللّه أكبر» ، زاحفة إلى الأمام ، ما إن رأت كافرا حتى أمسكت بخناقه ، وجعلته بين أمرين : إما أن يقول كلمة : «لا إله إلا اللّه» فينجو بنفسه ، وإما أن يضرب عنقه ، فتشخب أو داجه دما! «ولقد رسم(1/379)
الدهان هذه «الصورة» بلباقة فائقة ، وتفننوا فيها بريشة المتفنن المبدع وكان من دهائهم ولباقتهم في هذا الفن أن صبغوها بصبغ من النجيع الأحمر ، وكتبوا تحتها :
«هذه الصورة مرآة لما كان بسلف هذه الأمة من شره إلى سفك الدماء ، وجشع إلى الفتك بالأبرياء»! «والعجب كل العجب ، أن الذين عملوا على هذه الصورة وقاموا بما كان لهم من حظ موفور في إبرازها وعرضها على الأنظار ، هم هم الذين مضت عليهم قرون وأجيال يتقاتلون ويتناحرون فيما بينهم إرضاء لشهواتهم الدنيئة وإطفاء لأوار مطامعهم الأشعبية ، وتلك هي حربهم الملعونة غير المقدسة () التي أثاروها على الأمم المستضعفة في مشارق الأرض ومغاربها ، وجاسوا خلال ديارهم يبحثون عن أسواق لبضائعهم وأراض لمستعمراتهم التي يريدون أن يستعمروها ، ويستبدوا بمنابع ثروتها دون أصحابها الشرعيين ، ويفتشون عن المناجم والمعادن ، وعما تغله أرض اللّه الواسعة من الحاصلات التي يمكن أن تكون غذاء لبطون مصانعهم ومعاملهم. يبحثون عن كل ذلك وقلوبهم كلها جشع وشره إلى المال والجاه. وبين أيديهم الدبابات المدججة ، وفوق رؤوسهم الطائرات المحلقة في جو السماء ، ووراء ظهورهم مئات الألوف من العساكر المدربة يقطعون على البلاد سبل رزقها ، وعلى أهاليها الوادعين طريقهم إلى الحياة الكريمة ، يريدون بذلك أن يهيئوا وقودا لنيران مطامعهم الفاحشة التي لا تزيدها الأيام إلا التهابا واضطرابا. فلم تكن حروبهم في «سبيل اللّه» ، وإنما كانت في سبل شهواتهم الدنيئة ، وأهوائهم الذميمة ...
«هذه هي حال الذين يصموننا بالغزو والقتال ، الذي سبق لنا من أعمال الفتوح والحروب قد مضت عليه أحقاب طويلة. أما أعمالهم المخزية هذه فلا يزالون يقترفونها ليل نهار بمرأى ومسمع من العالم «المتحضر المتمدن!». وأي بلاد اللّه ، يا ترى ، قد سلمت من عدوانهم ، وما تخضبت أراضيها بدماء أبنائها الزكية؟
وأية هذه القارات العظيمة من آسيا وإفريقية وأمريكا ما ذاقت وبال حروبهم الملعونة؟ .. لكن هؤلاء الدهاة رسموا صورتنا بلباقة منكرة ، وأبدأوا وأعادوا في عرضها بشكل هائل بشع ، وقد سحب ذيل النسيان على صورتهم الدميمة ، حتى لا يكاد يذكرها أحد بجنب الصورة المنكرة التي صوروا بها تاريخنا ومآثر أسلافنا.
فما أعظم دهاءهم! وما أبرعهم في التزوير والتمويه! «أما سذاجتنا وبله رجالنا ، فحدث عن البحر ولا حرج! وأي بله أعظم من اغترارنا بالصورة المنكرة التي صوروا بها مآثرنا حتى كدنا نؤمن بصحتها ومطابقتها للحقيقة؟ وما دار بخلدنا أن ننظر إلى الأيدي الأثيمة التي عملت عملها في رسم هذه الصورة المزورة ، وأن نبحث عن الأقلام الخفية التي تفننت في تمويهها وزخرفتها.(1/380)
وقد بلغ من اغترارنا بتزويرهم ، وانخداعنا بتلك الصورة المموهة أن اعترانا الخجل والندامة ، وعدنا نعتذر إلى القوم ، نبدل كلام اللّه ، ونحرف الكلم عن مواضعه ، ونقول لهم : «ما لنا وللقتال ، أيها السادة ، إنما نحن دعاة مبشرون ، ندعو إلى دين اللّه ، دين الأمن والسلام والدعة بالحكمة والموعظة الحسنة ، نبلغ كلام اللّه تبليغ الرهبان والدراويش والصوفية ، ونجادل من يعارضنا بالتي هي أحسن ، بالخطب والرسائل والمقالات حتى يؤمن من يؤمن بدعوتنا عن بينة! هذه هي دعوتنا لا تزيد ولا تنقص! أما السيف والقتال به فمعاذ اللّه أن نمت إليه بصلة. اللهم إلا أن يقال : إننا ربما دافعنا عن أنفسنا حينما اعتدى علينا أحد! ذلك أيضا قد مضت عليه سنون وأعوام طويلة. أما اليوم فقد أظهرنا براءتنا من ذلك أيضا! ومن أجل ذلك نسخنا الجهاد «رسميا»! ذلك الجهاد الممقوت الذي يعمل فيه السيف عمله! حتى لا يقلق بالكم ولا يقض عليكم المضجع! فما الجهاد اليوم إلا مواصلة الجهود باللسان والقلم وليس لنا إلا أن نلعب بمرهفات الألسنة وأسنة الأقلام! أما المدافع والدبابات والرشاشات وغيرها من آلات الحرب واستخدامها ، فأنتم أحق بها وأهلها!».
«هذه مكايدهم السياسية التي كشفنا لك القناع عن بعضها فيما تقدم. لكنا إذا أنعمنا النظر في المسألة من الوجهة العلمية ، ودققنا النظر في الأسباب التي أشكل لأجلها استجلاء حقيقة «الجهاد في سبيل اللّه» ، واستكناه سرها على المسلمين أنفسهم فضلا عن غير المسلمين ، لاح لنا أن مرجع هذا الخطأ إلى أمرين مهمين لم يسبروا غورهما ، ولم يدركوا مغزاهما على وجه الحقيقة :
«فالأول : أنهم ظنوا الإسلام نحلة () بالمعنى الذي تطلق عليه كلمة «النحلة» () عامة ..
«والثاني : أنهم حسبوا المسلمين أمة (1) () بالمعنى الذي تستعمل فيه هذه الكلمة في عامة الأحوال.
«فالحقيقة أن خطأ القوم في فهم هذين الأمرين المهمين ، وعدم استجلائهم لوجه الحق في هاتين المسألتين الأساسيتين هو الذي شوه وجه الحقيقة الناصعة في هذا الشأن ، وعاقهم عن إدراك مغزى الجهاد الإسلامي.
بل الحق - والحق أحق أن يتبع - أن هذا الخطأ الأساسي في فهم هاتين المسألتين قد أرخى سدوله على حقيقة الدين الإسلامي بأسره ، وقلب الأمر ظهرا لبطن ، وجعل موقف المسلمين من العالم ومسائله المتجددة ومشاكله المتشعبة حرجا ضيقا ، لا يرضاه الإسلام وتعاليمه الخالدة :
__________
(1) - يعني أمة قومية وهي التي تطلق عليها لفظة وإلا فالمسلمون «أمة» بالمصطلح الإسلامي وهي الجماعة من الناس المتجمعة على عقيدة الإسلام ، المنتظمة في تجمع قائم على هذا الأساس ، الخاضعة لقيادة تنفذ شريعة اللّه.(1/381)
«فالنحلة () على حسب الاصطلاح الشائع عندهم ، لا يراد بها إلا مجموعة من العقائد والعبادات والشعائر. ولا جرم أن «النحلة» بهذا المعنى لا تعدو أن تكون مسألة شخصية. فأنت حر فيما تختاره من العقيدة ولك الخيار في أن تعبد بأي طريق شئت من رضيت به ربا لنفسك. وإن أبت نفسك إلا التحمس لهذه النحلة والانتصار لعقيدتها فلك أن تخترق الأرض ، وتجوب بلاد اللّه الشاسعة ، داعيا إلى عقيدتها ، مدافعا عن كيانها بالحجج والبراهين ، مجادلا من يخالفونك فيها بمرهفات الألسنة وأسنة الأقلام. أما السيف وآلات الحرب والقتال ، فما لك وما لها في هذا الشأن؟ أتريد أن تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين بعقيدتك؟! وإن كان الإسلام نحلة () كنحل العالم ، على حسب الاصطلاح الشائع عندهم كما يزعمون ، فالظاهر أنه لا شأن فيها للسيف وأدوات الحرب ، كما قالوا. ولو كان موقف الإسلام في نفس الأمر كما زعموا ووصفوا لما كان فيه مساغ للجهاد ، ولم يكن من الإسلام في ورد ولا صدر لكن الأمر على خلاف ذلك ، كما سوف تعرفه فيما يأتي من البيان. وكذلك كلمة «الأمة» ()فما هي إلا عبارة عن طائفة من الناس متوافقة فيما بينها (..) اجتمعت وتألفت وامتازت من بين طوائف أخرى لاشتراكها في بعض الأمور الجوهرية. فالطائفة التي تكون «أمة» ، بهذا المعنى ، لا يبعثها على استخدام السيف إلا أمران : إما أن يعتدي عليها أحد ، ويريد أن يسلبها حقوقها المعروفة وإما أن تحمل هي بنفسها على طائفة أخرى لتنتزع من يدها حقوقها المعروفة. ففي الصورة الأولى منهما ، لها سعة في الأمر ، وهي لا تخلو من وازع خلقي يلجئها إلى استخدام السيف والبطش بمن اعتدى عليها. وإن كان بعض المتشدقين بالأمن والسلام لا يبيح ذلك أيضا! - أما الصورة الثانية - أي الاعتداء على حقوق غيرها والإغارة على الشعوب والأمم من غير ما سبب - فلا يبيحها غير الجبابرة المسيطرين () حتى إن ساسة الدول الكبرى كبريطانيا وأمريكا أيضا لا يقدرون أن يجترئوا على القول بجوازها! «فإن كان الإسلام «نحلة» كالنحل الأخرى ، والمسلمون «أمة» كغيرهم من أمم العالم ، فلا جرم أن «الجهاد» الإسلامي يفقد بذلك جميع المزايا والخصائص التي جعلته رأس العبادات ودرة تاجها ..
لكن الحقيقة أن الإسلام ليس بنحلة كالنحل الرائجة ، وأن المسلمين ليسو بأمة كأمم العالم .. بل الأمر أن الإسلام فكرة انقلابية () ومنهاج انقلابي يريد أن يهدم نظام العالم الاجتماعي بأسره ويأتي بنيانه من القواعد ، ويؤسس بنيانه من جديد حسب فكرته ومنهاجه العملي .. ومن هناك تعرف أن لفظ «المسلم» وصف للحزب الانقلابي العالمي (..) الذي يكونه الإسلام ، وينظم صفوفه ، ليكون أداة في إحداث ذلك البرنامج الانقلابي الذي يرمي إليه الإسلام ، ويطمح إليه ببصره. والجهاد عبارة عن الكفاح الانقلابي (.) عن تلك الحركة الدائبة المستمرة التي يقام بها للوصول إلى هذه الغاية ، وإدراك هذا المبتغى.(1/382)
«والإسلام يتجنب الكلمات الشائعة في دعوته وبيان منهجه العملي - شأن غيره من الدعوات الفكرية والمناهج الانقلابية - بل يؤثر لذلك لغة من المصطلحات () خاصة ، لئلا يقع الالتباس بين دعوته وما إليها من الأفكار والتصورات ، وبين الأفكار والتصورات الشائعة الرائجة. «فالجهاد» أيضا من الكلمات التي اصطلح عليها الإسلام لأداء مهمته وتبيين تفاصيل دعوته. فأنت ترى أن الإسلام قد تجنب لفظة (الحرب) وغيرها من الكلمات التي تؤدي معنى القتال () في اللغة العربية ، واستبدل بها كلمة () في اللغة الانجليزية. غير أن لفظة (الجهاد) أبلغ منها تأثيرا ، وأكثر منها إحاطة بالمعنى المقصود. فما الذي أفضى بالإسلام إلى أن يختار هذه الكلمة الجديدة ، صارفا بوجهه عن الكلمات القديمة الرائجة؟ الذي أراه وأجزم به أنه ليس لذلك إلا سبب واحد : وهو أن لفظة «الحرب» () كانت ولا تزال تطلق على القتال الذي يشب لهيبه وتستعر ناره بين الرجال والأحزاب والشعوب لمآرب شخصية وأغراض ذاتية.
والغايات التي ترمي إليها أمثال هذه الحروب لا تعدو أن تكون مجرد أغراض شخصية أو اجتماعية ، لا تكون فيها رائحة لفكرة أو انتصار لمبدأ. وبما أن القتال المشروع في الإسلام ليس من قبيل هذه الحروب ، لم يكن له بد من ترك هذه اللفظة (الحرب) البتة. فإن الإسلام لا ينظر إلى مصلح أمة دون أمة ، ولا يقصد إلى النهوض بشعب دون شعب وكذلك لا يهمه في قليل ولا كثير أن تملك الأرض وتستولي عليها هذه المملكة أو تلك وإنما تهمه سعادة البشر وفلاحهم. وله فكرة خاصة ومنهاج عملي مختار لسعادة المجتمع البشري والصعود به إلى معارج الفلاح. فكل حكومة مؤسسة على فكرة غير هذه الفكرة ، ومنهاج غير هذا المنهاج ، يقاومها الإسلام ، ويريد أن يقضي عليها قضاء مبرما ولا يعنيه في شيء بهذا الصدد أمر البلاد التي قامت فيها تلك الحكومة غير المرضية ، أو الأمة التي ينتمي إليها القائمون بأمرها. فإن غايته استعلاء فكرته ، وتعميم منهاجه ، وإقامة الحكومات وتوطيد دعائمها على أساس هذه الفكرة وهذا المنهاج ، بصرف النظر عمن يحمل لواء الحق والعدل بيده ومن تنتكس راية عدوانه وفساده! والإسلام يتطلب «الأرض» ، ولا يقنع بقطعة أو جزء منها وإنما يتطلب ويستدعي المعمورة الأرضية كلها. ولا يتطلبها لتستولي عليها وتستبد بمنابع ثروتها أمة بعينها بعد ما تنتزع من أمة أو أمم شتى ، بل يتطلبها الإسلام ويستدعيها ليتمتع الجنس البشري بأجمعه بفكرة السعادة البشرية ومنهاجها العملي اللذين أكرمه اللّه بهما ، وفضله بهما على سائر الأديان والشرائع. وتحقيقا لهذه الغاية السامية يريد الإسلام أن يستخدم جميع القوى والوسائل التي يمكن استخدامها لإحداث انقلاب علمي شامل ويبذل الجهد المستطاع للوصول إلى هذه الغاية العظمى ويسمي هذا الكفاح المستمر ، واستنفاد القوى البالغ واستخدام شتى الوسائل المستطاعة «بالجهاد». فالجهاد كلمة جامعة تشتمل جميع أنواع السعي وبذل الجهد.(1/383)
وإذا عرفت هذا فلا تعجب إذا قلت : إن تغيير وجهات أنظار الناس وتبديل ميولهم ونزعاتهم ، وإحداث انقلاب عقلي وفكري بواسطة مرهفات الأقلام نوع من أنواع الجهاد ، كما أن القضاء على نظم الحياة العتيقة الجائرة بحد السيوف ، وتأسيس نظام جديد على قواعد العدل والنصفة أيضا من أصناف الجهاد. وكذلك بذل الأموال ، وتحمل المشاق ، ومكابدة الشدائد أيضا فصول وأبواب مهمة من كتاب «الجهاد» العظيم.
«لكن الجهاد الإسلامي ليس بجهاد لا غاية له وإنما هو الجهاد في سبيل اللّه وقد لزمه هذا الشرط لا ينفك عنه أبدا. وذلك أيضا من الكلمات التي اصطلح عليها الإسلام لتبيين فكرته وإيضاح تعاليمه ، كما أشرت إليه آنفا. وقد انخدع كثير من الناس بمدلوله اللغوي الظاهر ، وحسبوا أن إخضاع الناس لعقيدة الإسلام وإكراههم على قبولها هو «الجهاد في سبيل اللّه» وذلك أن ضيق صدورهم وعدم اتساع مجال تفكيرهم يعوقهم أن يسموا بأنفسهم فوق ذلك ويحلقوا في سماء أوسع من سمائهم. لكن الحق أن «سبيل اللّه» في المصطلح الإسلامي أرحب وأوسع بكثير مما يتصورون ، وأسمى غاية وأبعد مراما مما يظنون ويزعمون ..
«فالذي يتطلبه الإسلام أنه إذا قام رجل ، أو جماعة من المسلمين ، تبذل جهودها ، وتستنفد مساعيها للقضاء على النظم البالية الباطلة ، وتكوين نظام جديد حسب الفكرة الإسلامية ، فعليها أن تكون مجردة عن كل غرض ، مبرأة من كل هوى أو نزعة شخصية ، لا تقصد من وراء جهودها ، وما تبذل في سبيل غايتها من النفوس والنفائس إلا تأسيس نظام عادل يقوم بالقسط والحق بين الناس ، ولا تبتغي بها بدلا في هذه الحياة الفانية ، ولا يكون من هم الإنسان خلال هذا الكفاح المستمر والجهاد المتواصل لإعلاء كلمة اللّه أن ينال جاها وشرفا أو سمعة وحسن أحدوثة ، ولا يخطرن بباله أثناء هذه الجهود البالغة والمساعي الغالية أن يسمو بنفسه وعشيرته ، ويستبد بزمام الأمر ، ويتبوأ منصب الطواغيت الفجرة ، بعد ما يعزل غيره من الجبابرة المستكبرين عن مناصبهم. وها هو ذا القرآن الكريم ينادي بملء صوته :
«الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ» ... (النساء : 76) ... «وقد تضمنت الآية الكريمة : «يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» ... (البقرة : 21) «لباب هذه الدعوة ، دعوة الإسلام الانقلابية ، وجوهرها. فإنه لا يخاطب سكان هذه الكرة باسم العمال ، أو الفلاحين ، أو الملاكين ، أو المتمولين من أصحاب المعامل والمصانع ، ولا يسميهم بأسماء أحزابهم وطبقاتهم.
وإنما يخاطب الإسلام بني آدم كافة. ولا يناديهم كذلك إلا بصفة كونهم أفراد الجنس البشري ، فهو يأمرهم أن يعبدوا اللّه وحده ولا يشركوا به شيئا ، ولا يتخذوا إلها ولا ربا غيره. وكذلك يدعوهم ألا(1/384)
يعتوا عن أمر ربهم ، ولا يستنكفوا عن عبادته ، ولا يتكبروا في أرض اللّه بغير الحق ، فإن الحكم والأمر للّه وحده ، وبيده مقاليد السماوات والأرض فلا يجوز لأحد من خلقه ، كائنا من كان ، أن يعلو في الأرض ويتكبر ، ويقهر الناس حتى يخضعوا له ويذعنوا لأمره وينقادوا لجبروته. ودعوته لهم جميعا أن يخلصوا دينهم للّه وحده فيكونوا سواء في هذه العبودية الشاملة ، كما ورد في التنزيل :
«تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ : أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» ... (آل عمران : 64).
«فهذه دعوة إلى انقلاب عالمي شامل ، لا غموض فيها ولا إبهام. فإنه قد نادى بملء صوته :
«إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ، أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» .. (يوسف : 40) «فليس لأحد من بني آدم أن ينصب نفسه ملكا على الناس ومسيطرا عليهم ، يأمرهم بما يشاء وينهاهم عما يريد. ولا جرم أن استقلال فرد من أفراد البشر بالأمر والنهي من غير أن يكون له سلطان من الملك الأعلى ، هو تكبر في الأرض على اللّه بغير الحق ، وعتو عن أمره ، وطموح إلى مقام الألوهية (1) . والذين يرضون أمثال هؤلاء الطواغيت لهم ملوكا وأمراء إنما يشركون باللّه ، وذلك مبعث الفساد في الأرض ، ومنه تنفجر ينابيع الشر والطغيان.
«إن دعوة الإسلام إلى التوحيد ، وعبادة اللّه الواحد ، لم تكن قضية كلامية. أو عقيدة لا هوتية فحسب. شأن غيره من النحل والملل بل الأمر أنها كانت دعوة إلى انقلاب اجتماعي (.)
أرادت في أول ما أرادت أن تقطع دابر الذين تسنموا ذروة الألوهية واستعبدوا الناس بحيلهم ومكايدهم المختلفة. فمنهم من تبوأ مناصب السدنة والكهان ومنهم من استأثر بالملك والإمرة ، وتحكم في رقاب الناس ومنهم من استبد بمنابع الثروة وخيرات الأرض وجعل الناس عالة عليهم يتكففون ولا يجدون ما يتبلغون به .. فأرادت دعوة الإسلام أن تقطع دابرهم جميعا وتستأصل شأفتهم استئصالا .. وهؤلاء تارة تسنموا قمة الألوهية جهرا وعلانية وأرادوا أن يقهروا من حولهم من الناس على أن يذعنوا لأمرهم وينقادوا لجبروتهم مستندين إلى حقوقهم التي ورثوها عن آبائهم أو استأثرت بها الطبقة التي ينتمون إليها فقالوا :
«ما علمت لكم من إله غيري» .. و«أنا ربكم الأعلى» .. و«أنا أحيي وأميت» .. و«من أشد منا قوة؟» ..
__________
(1) - ولا يختلف الحال لو كانت هيئة ، أو كان «الشعب» هو الذي ينشىء شرائعه من غير سلطان من الملك الأعلى ... فالعبرة هي بهذا القيد .. سواء كان المشرّع فردا أم جماعة أم شعبا!(1/385)
إلى غيرها من كلمات الاستكبار ودعاوى الألوهية التي تفوهوا بها وتجاسروا عليها بغيا وعدوانا. وطورا استغلوا جهل الدهماء وسفههم ، فاتخذوا من الأصنام والتماثيل والهياكل آلهة ، يدعون الناس ويريدونهم على أداء مظاهر العبودية أمام هذه التماثيل والهياكل متوارين بأنفسهم من ورائها ، يلعبون بعقول الناس ، ويستعبدونهم لأغراضهم وشهواتهم وهم لا يشعرون (1) !
فيتبين من ذلك أن دعوة الإسلام إلى التوحيد ، وإخلاص العبادة للّه الواحد الأحد ، وتنديده بالكفر والشرك باللّه ، واجتناب الأوثان والطواغيت .. كل ذلك يتنافى ويتعارض مع الحكومة والعاملين عليها المتصرفين في أمورها ، والذين يجدون فيها سندا لهم ، وعونا على قضاء حاجاتهم وأغراضهم .. ومن ثم ترى أنه كلما قام نبي من الأنبياء يجاهر الناس بالدعوة ، وخاطبهم قائلا : «يا قوم اعبدوا اللّه ما لكم من إله غيره» .. قامت في وجهه الحكومات المتمكنة في عصره ، وثار عليه جميع من كانوا يستغلون خيرات البلاد ويستثمرونها ظلما وعدوانا .. خرجت تقاومه ، وتضع في سبيل الدعوة العقبات.
وذلك أن هذه الدعوة لم تكن مجرد بيان لعقيدة كلامية ، أو شرح لمسألة من مسائل الإلهيات () وإنما كانت نداء لانقلاب اجتماعي عالمي ، ما كانت بوادره لتخفى على المستأثرين بمناصب العز والجاه ، المستبدين بمنابع الثراء ، ممن يشمون رائحة الاضطراب السياسي قبل حدوثه بأعوام! «إن الإسلام ليس بمجرد مجموعة من العقيدة الكلامية ، وجملة من المناسك والشعائر ، كما يفهم من معنى الدين في هذه الأيام. بل الحق أنه نظام شامل ، يريد أن يقضي على سائر النظم الباطلة الجائرة الجارية في العالم ، ويقطع دابرها ، ويستبدل بها نظاما صالحا ، ومنهاجا معتدلا ، يرى أنه خير للإنسانية من النظم الأخرى ، وأن فيه نجاة للجنس البشري من أدواء الشر والطغيان ، وسعادة له وفلاحا في العاجلة والآجلة معا.
«ودعوته في هذه السبيل ، سبيل الإصلاح والتجديد والهدم والبناء ، عامة للجنس البشري كافة ، لا تختص بأمة دون أمة ، أو طائفة دون طائفة. فهو يدعو بني آدم جميعا إلى كلمته حتى إنه يهيب بالطبقات الجائرة نفسها ممن اعتدوا حدود اللّه في أرضه ، واستأثروا بخيرات الأرض دون سائر الناس .. يهيب بالملوك والأمراء أنفسهم ويناديهم قائلا : لا تطغوا في الأرض ، وادخلوا في كنف حدود اللّه التي حدها لكم ، وكفوا أيديكم عما نهاكم اللّه عنه وحذركم إياه. فإن أسلمتم لأمر اللّه ، ودنتم لنظام الحق والعدل الذي أقامه للناس خيرا وبركة ، فلكم الأمن والدعة والسلامة فإن الحق لا يعادي أحدا وإنما
__________
(1) - أما في الجاهليات الحاضرة فإن شكل الأصنام والهيا كل فقط هو الذي تغير. وهي تقيم للمغفلين من الناس والمستخفين أصناما وهياكل معنوية من نوع آخر ينطق سدنتها باسمها ويقولون : إنها تريد كذا وكذا ، فيستجيب المغفلون والمستخفون!!!(1/386)
يعادي الحق الجور ، والفساد والفحشاء ، وأن يتعدى الرجل حدوده الفطرية ، ويبتغي ما وراء ذلك ، مما لا حظ له فيه حسب سنن الكون ، وفطرة اللّه التي فطر الناس عليها.
«فكل من آمن بهذه الدعوة وتقبلها بقبول حسن ، يصير عضوا في «الجماعة الإسلامية» أو «الحزب الإسلامي» لا فرق في ذلك بين الأحمر منهم والأسود ، أو بين الغني منهم والفقير. كلهم سواسية كأسنان المشط. لا فضل لأمة على أمة. أو لطبقة على أخرى. وبذلك يتكون ذلك الحزب العالمي أو الأممي ، الذي سمي «حزب اللّه» بلسان الوحي.
«وما إن يتكون هذا الحزب حتى يبدأ بالجهاد في سبيل الغاية التي أنشئ لأجلها. فمن طبيعته ، وما يستدعيه وجوده ، أن لا يألو جهدا في القضاء على نظم الحكم التي أسس بنيانها على غير قواعد الإسلام ، واستئصال شأفتها ، وأن يستنفد مجهوده في أن يستبدل بها نظاما للعمران والاجتماع معتدلا ، مؤسسا على قواعد ذلك القانون الوسط العدل الذي يسميه القرآن الكريم : «كلمة اللّه». فإن لم يبذل هذا الحزب الجهد المستطاع ، ولم يسع سعيه وراء تغيير نظم الحكم وإقامة نظام الحق .. نظام الحكم المؤسس على قواعد الإسلام .. ولم يجاهد حق جهاده في هذه السبيل ، فاتته غايته. وقصر عن تحقيق البغية التي أنشئ لأجلها. فإنه ما أنشئ إلا لإدراك هذه الغاية ، وتحقيق هذه البغية .. بغية إقامة نظام الحق والعدل .. ولا غاية له ولا عمل إلا الجهاد في هذه السبيل. وهذه الغاية الوحيدة التي بينها اللّه تعالى في كتابه العزيز بقوله :«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» .. (آل عمران : 110) «ولا يظن أحد أن هذا الحزب .. «حزب اللّه» بلسان الوحي .. مجرد جماعة من الوعاظ المبشرين ، يعظون الناس في المساجد ، ويدعونهم إلى مذاهبهم ومسالكهم بالخطب والمقالات ليس إلا! ليس الأمر كذلك! وإنما هو حزب أنشأه اللّه ليحمل لواء الحق والعدل بيده ، ويكون شهيدا على الناس ومن مهمته التي ألقيت على كاهله من أول يوم أن يقضي على منابع الشر والعدوان ، ويقطع دابر الجور والفساد في الأرض والاستغلال الممقوت وأن يكبح جماح الآلهة الكاذبة ، الذين تكبروا في أرض اللّه بغير الحق وجعلوا أنفسهم أربابا من دون اللّه ويستأصل شأفة ألوهيتهم. ويقيم نظاما للحكم والعمران صالحا يتفيأ ظلاله القاصي والداني والغني والفقير .. وإلى هذا المعنى أشار اللّه تعالى في غير واحدة من آي الذكر الحكيم :«وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» .. (الأنفال : 38).
«إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» .. (الأنفال : 73).
«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» .. (التوبة : 33) «فتبين من كل ذلك أن هذا الحزب لا بد له من امتلاك ناصية الأمر ولا مندوحة له من القبض على زمام الحكم لأن نظام العمران الفاسد لا يقوم إلا على أساس حكومة مؤسسة على قواعد العدوان(1/387)
والفساد في الأرض وكذلك ليس من الممكن أن يقوم نظام للحكم صالح ، ويؤتي أكله ، إلا بعد ما ينتزع زمام الأمر من أيدي الطغاة المفسدين. ويأخذه بأيديهم رجال يؤمنون باللّه واليوم الآخر ولا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا.
«وأضف إلى ذلك أن هذا الحزب بصرف النظر عما يرمي إليه من إصلاح العالم وبث الخير والفضيلة في أنحاء الأرض كافة ، لا يقدر أن يبقى ثابتا على خطته ، متمسكا بمنهاجه ، عاملا وفق مقتضياته ما دام نظام الحكم قائما على أساس آخر ، سائرا على منهاج غير منهاجه. وذلك أن حزبا مؤمنا بمبدأ ونظام للحياة والحكم خاص ، لا يمكن أن يعيش متمسكا بمبدئه عاملا حسب مقتضاه في ظل نظام للحكم مؤسس على مبادئ وغايات غير المبادئ والغايات التي يؤمن بها ، ويريد السير على منهاجها. فإن رجلا يؤمن بمبادىء الشيوعية ، إن أراد أن يعيش في بريطانيا أو ألمانيا ، متمسكا بمبدئه ، سائرا في حياته على البر نامج الذي تقرره الشيوعية ، فلن يتمكن من ذلك أبدا ، لأن النظم التي تقررها الرأسمالية أو الناتسية (1) تكون مهيمنة عليه ، قاهرة بما أوتيت من سلطان ، فلا يمكنه أن يتخلص من براثنها أصلا .. وكذلك إن أراد المسلم أن يقضي حياته مستظلا بنظام للحكم مناقض لمبادىء الإسلام الخالدة (2) وبوده أن يبقى مستمسكا بمبادىء الإسلام ، سائرا وفق مقتضاه في أعماله اليومية ، فلن يتسنى له ذلك ، ولا يمكنه أن ينجح في بغيته هذه أبدا. لأن القوانين التي يراها باطلة ، والضرائب التي يعتقدها غرما ونهبا لأموال الناس ، والقضايا التي يحسبها جائرة عن الحق وافتئاتا على العدل ، والنظم التي يعرف أنها مبعث الفساد في الأرض ، ومناهج التعليم التي يجزم بوخامة عاقبتها وسوء نتائجها ، ويرى فيها هلاكا للأمة .. يجد كل هذه مهيمنة عليه ، ومسيطرة على بيئته وأهله وأولاده ، بحيث لا يمكنه أن يتخلص من قيودها وينجو بنفسه وأهله من أثرها ونفوذها. فالذي يؤمن بعقيدة ونظام - فردا كان أو جماعة - مضطر بطبيعة عقيدته وإيمانه بها أن يسعى سعيه في القضاء على نظم الحكم القائمة على فكرة غير فكرته ، ويبذل الجهد المستطاع في إقامة نظام للحكم مستند إلى الفكرة التي يؤمن بها ويعتقد أن فيها سعادة للبشر. لأنه لا يتسنى له العمل بموجب عقيدته والسير على منهاجه إلا بهذا الطريق. وإذا رأيت رجلا لا يسعى وراء غايته ، أو يغفل عن هذا الواجب ، فاعلم أنه كاذب في دعواه. ولما يدخل الإيمان في قلبه. وبهذا المعنى ورد في التنزيل : «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ؟ لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ .. إِنَّما
__________
(1) - كتب هذا البحث سنة 1938 والنظام النازي قائم في ألمانيا.
(2) - وكل حكم لا تتمحض فيه العبودية للّه ، بسيطرة شريعة اللّه كلها على الحياة كلها هو حكم مناقض للإسلام(1/388)
يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ» ... (التوبة : 43 - 45).
«وأي شهادة أصدق وأي حجة أنصع من شهادة القرآن وحجته ففي هذه الآيات من سورة براءة قد نص القرآن الكريم على أن الذي لا يلبي نداء الجهاد ولا يجاهد بماله ونفسه في سبيل إعلاء كلمة اللّه ، وإقامة الدين الذي ارتضاه لنفسه ، وتوطيد نظام الحكم المبني على قواعده ، فهو في عداد الذين لا يؤمنون باللّه واليوم الآخر ، وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ...
«لعلك تبينت مما أسلفنا آنفا أن غاية () الجهاد في الإسلام ، هي هدم بنيان النظم المناقضة لمبادئه ، وإقامة حكومة مؤسسة على قواعد الإسلام في مكانها واستبدالها بها. وهذه المهمة .. مهمة إحداث انقلاب إسلامي عام. غير منحصرة في قطر دون قطر. بل مما يريده الإسلام ، ويضعه نصب عينيه أن يحدث هذا الانقلاب الشامل في جميع أنحاء المعمورة .. هذه غايته العليا ، ومقصده الأسمى الذي يطمح إليه ببصره.
إلا أنه لا مندوحة للمسلمين ، أو أعضاء «الحزب الإسلامي» عن الشروع في مهمتهم بإحداث الانقلاب المنشود ، والسعي وراء تغيير نظم الحكم في بلادهم التي يسكنونها. أما غايتهم العليا وهدفهم الأسمى فهو الانقلاب العالمي الشامل (.) المحيط بجميع أنحاء الأرض. وذلك أن فكرة انقلابية لا تؤمن بالقومية ، بل تدعو الناس جميعا إلى سعادة البشر وفلاح الناس أجمعين ، لا يمكنها أصلا أن تضيق دائرة عملها في نطاق محدود من أمة أو قطر. بل الحق أنها مضطرة بسجيتها وجبلتها أن تجعل الانقلاب العالمي غايتها التي تضعها نصب عينها ، ولا تغفل عنها طرفة عين. فإن الحق يأبى الحدود الجغرافية ، ولا يرضى أن ينحصر في حدود ضيقة اخترعها علماء الجغرافية واصطلحوا عليها. فالحق يتحدى العقول البشرية النزيهة.
ويقول لها مطالبا بحقه : ما بالكم تقولون : إن القضية الفلانية «حق» في هذا الجانب من ذاك الجبل أو النهر مثلا ، ثم تعود القضية نفسها «باطلا» - بزعمكم - إذا جاوزنا ذاك الجبل أو النهر بأذرع؟! الحق حق في كل حال وفي كل مكان! وأي تأثير للجبال والأنهار في تغيير حقيقته المعنوية؟! الحق ظله وارف ، وخيره عام شامل ، لا يختص ببيئة دون بيئة ، ولا قطر دون قطر. فأينما وجد «الإنسان» مقهورا فالحق من واجبه أن يدركه ويأخذ بحقه وينتصر له. ومهما أصيبت «الإنسانية» في أبنائها المستضعفين ، فعلى العدل ومبادئه والحاملين للوائه أن يلبوا نداءها ، ويأخذوا بناصرهم حتى ينتصروا لهم من أعدائهم الجائرين ، ويستردوا لهم حقوقهم المغصوبة التي استبد بها الطغاة بغيا وعدوانا. وبهذا المعنى نطق لسان الوحي ، حيث ورد في التنزيل : «وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ ، الَّذِينَ يَقُولُونَ : رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها» ... (النساء : 75) «وزد على ذلك أن الأواصر البشرية والعلاقات الإنسانية - على ما أثرت فيها الفوارق القومية والوطنية ، وأحدثت فيها من(1/389)
نزعات الشتات والاختلاف - قد تشتمل على تلاؤم شامل ، وتجانس عام بين أجزائها ، ربما يتعذر معه أن تسير مملكة في قطر بعينه بحسب مبادئها وخططها المرسومة المستبينة ، ما دامت الأقطار المجاورة لها لا توافقها على مبادئها وخطتها ، ولا ترضى بالسير وفق منهاجها وبرنامجها (1) .
من أجل ذلك وجب على الحزب المسلم ، حفظا لكيانه ، وابتغاء للإصلاح المنشود ، ألا يقنع بإقامة نظام الحكم الإسلامي في قطر واحد بعينه. بل من واجبه الذي لا مناص له منه بحال من الأحوال ، ألا يدخر جهدا في توسيع نطاق هذا النظام وبسط نفوذه في مختلف أرجاء الأرض. ذلك بأن يسعى الحزب الإسلامي ، في جانب ، وراء نشر الفكرة الإسلامية ، وتعميم نظرياتها الكاملة ونشرها في أقصى الأرض وأدناها ويدعو سكان المعمورة - على اختلاف بلادهم وأجناسهم وطبقاتهم أن يتلقوا هذه الدعوة بالقبول ، ويدينوا بهذا المنهاج الذي يضمن لهم السعادتين ، سعادتي الدنيا والآخرة .. وبجانب آخر ، يشمر عن ساق الجد ، ويقاوم النظم الجائرة المناقضة لقواعد الحق والعدل بالقوة ، إذا استطاع ذلك وأعد له عدته ، ويقيم مكانها نظام العدل والنصفة ، المؤسس على قواعد الإسلام ومبادئه الخالدة التي لا تبلى ، ولن تبلى جدتها على مرور الأيام والليالي.
«هذه هي الخطة التي سلكها. وهذا هو المنهاج الذي انتهجه النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن جاء بعده ، وسار بسيرته من الخلفاء الراشدين ، فإنهم بدأوا ببلاد العرب. ثم أشرقت شمس الإسلام من آفاقها. وأخضعوها أولا لحكم الإسلام ، وأدخلوها في كنف المملكة الإسلامية الجديدة. ثم دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الملوك والأمراء والرؤساء في مختلف بقاع الأرض إلى دين الحق والإذعان لأمر اللّه. فالذين آمنوا بهذه الدعوة انضموا إلى هذه المملكة الإسلامية وأصبحوا من أهلها ، والذين لم يلبوا دعوتها ولم يتقبلوها بقبول حسن شرع في قتالهم وجهادهم .. ولما استخلف أبوبكر رضي اللّه عنه ، بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - والتحاقه بالرفيق الأعلى ، حمل على المملكتين المجاورتين للمملكة الإسلامية .. مملكتي الروم والفرس. اللتين بلغ من عتوهما وتماديهما في الغي والاستكبار في الأرض ما طبقت شهرته الآفاق. وبلغت هذه الحملات التي بدأ بها الصديق - رضي اللّه عنه - غايتها في عصر الفاروق الذي يرجع إليه الفضل العظيم في توطيد دعائم المملكة الإسلامية الأولى ، حتى شمل ظلها الوارف تلك الأقطار جميعا (2) » ... (انتهت المقتطفات).
__________
(1) - وبخاصة إذا كانت هذه المبادئ والخطط هي مبادئ الإسلام وخططه التي تنتزع السلطان من كل متسلط وترده إلى اللّه وحده. ومن ثم تتجمع في وجهها جميع الأنظمة ، وجميع الحكومات ، وجميع المعسكرات التي تقوم على أساس عبودية البشر للبشر .. القاعدة التي تشترك فيها جميع أنظمة البشر!
(2) - ولم تكن تلك الفتوحات التي بدأت على عهد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وسارت في طريقها في عهد الخليفتين الراشدين بعده ..مجرد عدوى من الروح الامبراطورية السائدة في الأرض في ذلك الزمان كما يزعم بعض المستشرقين والمتأثرين بمزاعمهم! فما كان هذا الدين الذي جاء ليبدل واقع الأرض وتصوراتها ليأخذ «العدوى» من واقع الأرض وتصوراتها! وما كان رسول اللّه ليخدع عن حقيقة دين اللّه بهذه العدوى!(1/390)
على ضوء هذا البيان لطبيعة هذا الدين وحقيقته ، ولطبيعة الجهاد فيه وقيمته ، ولمنهج هذا الدين وخطته الحركية في الجهاد ومراحله .. نستطيع أن نمضي في تقييم غزوة بدر الكبرى ، التي قال اللّه سبحانه عن يومها إنه «يوم الفرقان» .. وأن نمضي كذلك في التعرف إلى سورة الأنفال ، التي نزلت في هذه الغزوة ، على وجه الإجمال.
لم تكن غزوة بدر الكبرى هي أولى حركات الجهاد الإسلامي - كما بينا من قبل - فقد سبقتها عدة سرايا ، لم يقع قتال إلا في واحدة منها ، هي سرية عبد اللّه بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من هجرة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة .. وكانت كلها تمشيا مع القاعدة التي يقوم عليها الجهاد في الإسلام.
والتي أسلفت الحديث عنها من قبل .. نعم إنها كلها كانت موجهة إلى قريش التي أخرجت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين الكرام ولم تحفظ حرمة البيت الحرام المحرمة في الجاهلية وفي الإسلام! ولكن هذا ليس الأصل في انطلاقة الجهاد الإسلامي. إنما الأصل هو إعلان الإسلام العام بتحرير الإنسان من العبودية لغير اللّه وبتقرير ألوهية اللّه في الأرض وتحطيم الطواغيت التي تعبد الناس ، وإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية للّه وحده .. وقريش كانت هي الطاغوت المباشر الذي يحول بين الناس في الجزيرة وبين التوجه إلى عبادة اللّه وحده والدخول في سلطانه وحده. فلم يكن بد أن يناجز الإسلام هذا الطاغوت ، تمشيا مع خطته العامة وانتصافا في الوقت ذاته من الظلم والطغيان اللذين وقعا بالفعل على المسلمين الكرام ووقاية كذلك لدار الإسلام في المدينة من الغزو والعدوان .. وإن كان ينبغي دائما ونحن نقرر هذه الأسباب المحلية القريبة أن نتذكر - ولا ننسى - طبيعة هذا الدين نفسه وخطته التي تحتمها طبيعته هذه. وهي ألا يترك في الأرض طاغوتا يغتصب سلطان اللّه ويعبد الناس لغير ألوهيته وشرعه بحال من الأحوال! أما أحداث هذه الغزوة الكبرى فنجملها هنا قبل استعراض سورة الأنفال التي نزلت فيها ، ذلك لنتنسم الجو الذي نزلت فيه السورة وندرك مرامي النصوص فيها وواقعيتها في مواجهة الأحداث من ناحية وتوجيهها للأحداث من الناحية الأخرى .. ذلك أن النصوص القرآنية لا تدرك حق إدراكها بالتعامل مع مدلولاتها البيانية واللغوية فحسب!! إنما تدرك أولا وقبل كل شيء بالحياة في جوها التاريخي الحركي وفي واقعيتها الإيجابية وتعاملها مع الواقع الحي. وهي - وإن كانت أبعد مدى وأبقى أثرا من الواقع التاريخي الذي جاءت تواجهه - لا تتكشف عن هذا المدى البعيد إلا في ضوء ذلك الواقع التاريخي ..(1/391)
ثم يبقى لها إيحاؤها الدائم ، وفاعليتها المستمرة ، ولكن بالنسبة للذين يتحركون بهذا الدين وحدهم ويزاولون منه شبه ما كان يزاوله الذين تنزلت هذه النصوص عليهم أول مرة ويواجهون من الظروف والأحوال شبه ما كان هؤلاء يواجهون! ولن تتكشف أسرار هذا القرآن قط للقاعدين ، الذين يعالجون نصوصه في ضوء مدلولاتها اللغوية والبيانية فحسب .. وهم قاعدون! ..
قال ابن إسحاق : ثم إن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة ، فيها أموال لقريش ، وتجارة من تجاراتهم. وفيها ثلاثون رجلا من قريش أو أربعون ..
قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن مسلم الزهري ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وعبد اللّه بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير. وغيرهم من علمائنا ، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما .. كل قد حدثني بعض الحديث ، فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر ، قالوا : لما سمع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين إليهم ، وقال : «هذه عير قريش فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها لعل اللّه ينفلكموها» فانتدب الناس ، فخف بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يلقى حربا (و في زاد المعاد وإمتاع الأسماع أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر من كان ظهره - أي ما يركبه - حاضرا بالنهوض ، ولم يحتفل لها احتفالا كبيرا) .. وقال ابن القيم : «وجملة من حضر بدرا من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا : من المهاجرين ستة وثمانون.
ومن الأوس واحد وستون. ومن الخزرج مائة وسبعون. وإنما قل عدد الأوس عن الخزرج ، وإن كانوا أشد منهم وأقوى شوكة وأصبر عند اللقاء ، لأن منازلهم كانت في عوالي المدينة ، وجاء النفير بغتة ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتبعنا إلا من كان ظهره حاضرا. فاستأذنه رجال ظهورهم كانت في علو المدينة أن يستأني بهم حتى يذهبوا إلى ظهورهم ، فأبى. ولم يكن عزمهم على اللقاء ، ولا أعدوا له عدة ، ولا تأهبوا له أهبة. ولكن جمع اللّه بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد».
وكان أبو سفيان - حين دنا من الحجاز - يتحسس الأخبار ، ويسأل من لقي من الركبان ، تخوفا على أمر الناس (أي على أموالهم التي معه في القافلة) حتى أصاب خبرا من بعض الركبان : أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك. فحذر عند ذلك. فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى مكة ، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لنا في أصحابه. فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة.
قال المقريزي في «إمتاع الأسماع» : فلم يرع أهل مكة إلا وضمضم يقول : يا معشر قريش ، يا آل لؤي ابن غالب ، اللطيمة (و هي العير التي تحمل الطيب والمسك والثياب وليس فيما تحمله طعام يؤكل) قد(1/392)
عرض لها محمد في أصحابه. الغوث الغوث. واللّه ما أرى أن تدركوها! وقد جدّع أذني بعيره ، وشق قميصه وحول رحله.
فلم تملك قريش من أمرها شيئا حتى نفروا على الصعب والذلول ، وتجهزوا في ثلاثة أيام. وقيل في يومين.
وأعان قويهم ضعيفهم. وقام سهيل بن عمرو ، وزمعة بن الأسود ، وطعيمة بن عدي ، وحنظلة بن أبي سفيان ، وعمرو بن أبي سفيان ، يحضون الناس على الخروج. فقال سهيل : يا آل غالب ، أتاركون أنتم محمدا والصباة (أي المرتدين ، يقصد المسلمين!) من أهل يثرب يأخذون عيراتكم وأموالكم؟ من أراد مالا فهذا مال ، ومن أراد قوة فهذه قوة. فمدحه أمية بن أبي الصلت بأبيات! ومشى نوفل بن معاوية الديلي إلى أهل القوة من قريش فكلمهم في بذل النفقة والحملان (أي ما يحمل عليه من الدواب ، يقال فيما يكون هبة خاصة) لمن خرج. فقال عبد اللّه بن أبي ربيعة : هذه خمسمائة دينار فضعها حيث رأيت. وأخذ من حويطب بن عبد العزى مائتي دينار وثلاث مائة دينار قوى بها في السلاح والظهر ، وحمل طعيمة بن عدي على عشرين بعيرا ، وقواهم وخلفهم في أهلهم بمعونة. وكان لا يتخلف أحدا من قريش إلا بعث مكانه بعيثا. ومشوا إلى أبي لهب فأبى أن يخرج أو يبعث أحدا ، ويقال : إنه بعث مكانه العاصي ، ابن هشام بن المغيرة - وكان له عليه دين - فقال : اخرج ، وديني لك. فخرج عنه! ... وأخذ عداس (و هو الغلام النصراني الذي أرسله عتبة وشيبة ابنا ربيعة بقطف من العنب لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يوم خرج إلى الطائف فرده أهله ردا قبيحا ، وأتبعوه السفهاء والصبية يرمونه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين ، فلجأ منهم إلى بستان عتبة وشيبة. وقد وقع في نفس عداس ما وقع من أمر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ، فأكب على يديه وقدميه يقبلهما!) يخذل شيبة وعتبة ابني ربيعة عن الخروج ، والعاص بن منبه بن الحجاج. وأبى أمية بن خلف أن يخرج ، فأتاه عقبة بن أبي معيط وأبو جهل فعنفاه. فقال ابتاعوا لي أفضل بعير في الوادي! فابتاعوا له جملا بثلاث مائة درهم من نعم بني قشير ، فغنمه المسلمون! .. وما كان أحد منهم أكره للخروج من الحارث بن عامر. ورأى ضمضم بن عمرو أن وادي مكة يسيل دما من أسفله وأعلاه. ورأت عاتكة بنت عبد المطلب رؤياها (و فيها نذير لقريش بالقتل والدم في كل بيت) ... فكره أهل الرأي المسير ، ومشى بعضهم إلى بعض ، فكان من أبطئهم عن ذلك الحارث بن عامر ، وأمية بن خلف ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وحكيم بن حزام ، وأبو البختري (ابن هشام) وعلى بن أمية بن خلف ، والعاص بن منبه حتى بكتهم أبو جهل ، وأعانه عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث بن كلدة ، فاجمعوا المسير .. وخرجت قريش بالقيان والدفاف يغنين في كل منهل ، وينحرون الجزر ، وهم تسعمائة وخمسون مقاتلا .. وقادوا مائة فرس ، عليها مائة دارع سوى دروع المشاة. وكانت إبلهم سبعمائة بعير.(1/393)
وهم كما ذكر اللّه تعالى عنهم بقوله : «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» .. (الأنفال : 47).
وأقبلوا في تجمل عظيم وحنق زائد على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، لما يريدون من أخذ عيرهم ، وقد أصابوا من قبل عمرو بن الحضرمي والعير التي كانت معه (في سرية عبد اللّه بن جحش) ..
وأقبل أبو سفيان بالعيرو معها سبعون رجلا (في رواية ابن إسحاق ثلاثون رجلا) منهم مخرمة بن نوفل ، وعمرو ابن العاص ، فكانت عيرهم ألف بعير تحمل المال. وقد خافوا خوفا شديدا حين دنوا من المدينة ، واستبطأوا ضمضم بن عمرو والنفير (الذين نفروا من قريش ليمنعوا عيرهم) .. فأصبح أبو سفيان ببدر وقد تقدم العير وهو خائف من الرصد. فضرب وجه عيره ، فساحل بها (أي اتجه إلى ساحل البحر بعيدا عن طريق المدينة) وترك بدرا يسارا ، وانطلق سريعا .. وأقبلت قريش من مكة ينزلون كل منهل. يطعمون الطعام من أتاهم وينحرون الجزر .. وأتاهم قيس بن امرئ القيس من أبي سفيان يأمرهم بالرجوع ، ويخبرهم أن قد نجت عيرهم. فلا تجزروا أنفسكم أهل يثرب (يعني لا تعرضوا أنفسكم لأن يذبحكم أهل يثرب) فلا حاجة لكم فيما وراء ذلك.
إنما خرجتم لتمنعوا العير وأموالكم ، وقد نجاها اللّه! فعالج قريشا فأبت الرجوع (من الجحفة). وقال أبو جهل : لا واللّه لا نرجع حتى نرد بدرا ، فنقيم ثلاثا ، ننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونشرب الخمر ، وتعزف القيان علينا فلن تزال العرب تهابنا أبدا .. وعاد قيس إلى أبي سفيان ، فأخبره بمضى قريش. فقال : وا قوماه! هذا عمل عمرو بن هشام (يعني أبا جهل) كره أن يرجع لأنه ترأس على الناس فبغى ، والبغي منقصة وشؤم.
إن أصاب محمد النفير ذللنا ..
قال ابن إسحاق : وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ، وكان حليفا لبني زهرة ، وهم بالجحفة يا بني زهرة قد نجى اللّه لكم أموالكم ، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل. وإنما نفرتم لتمنعوه وماله فاجعلوا بي جبنها ، وارجعوا ، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة. لا ما يقول هذا (يعني أبا جهل) فرجعوا ، فلم يشهدها زهري واحد .. ولم يكن بقي من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس ، إلا بني عدي ابن كعب ، لم يخرج منهم رجل واحد (في إمتاع الأسماع أن طعمة بن عدي حمل على عشرين بعيرا ، وقواهم وخلفهم في أهلهم بمعونة) .. وكان بين طالب بن أبي طالب - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة.
فقالوا : واللّه لقد عرفنا يا بني هاشم ، وإن خرجتم معنا ، إن هواكم لمع محمد. فرجع طالب إلى مكة مع من رجع!(1/394)
قال ابن إسحاق : وخرج رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه.
وكانت إبل أصحاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يومئذ سبعين بعيرا فاعتقبوها (أي كانو يركبونها بالتعاقب) فكان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وعلي بن أبي طالب ، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرا. وكان حمزة بن عبد المطلب ، وزيد بن حارثة ، وأبو كبشة وأنسة موليا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يعتقبون بعيرا. وكان أبوبكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيرا ..
قال المقريزي في إمتاع الأسماع :
ومضى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان دون بدر أتاه الخبر بمسير قريش. فاستشار الناس ، فقام أبو بكر - رضي اللّه عنه - فقال فأحسن. ثم قام عمر فقال فأحسن. ثم قال : يا رسول اللّه ، إنها واللّه قريش وعزها ، واللّه ما ذلت منذ عزت ، واللّه ما آمنت منذ كفرت ، واللّه لا تسلم عزها أبدا ، ولتقاتلنك ، فأتهب لذلك أهبته ، وأعد لذلك عدته. ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول اللّه ، امض لأمر اللّه ، فنحن معك ، واللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها : «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ».
ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا معكما مقاتلون. والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا» (و برك الغماد موضع بأقصى اليمن) فقال له رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - خيرا ودعا له بخير .. ثم قال : «أشيروا علي أيها الناس». وإنما يريد الأنصار .. وكان يظنهم لا ينصرونه إلا في الدار ، لأنهم شرطوا له أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأولادهم (و ذلك في بيعة العقبة الثانية التي هاجر على أساسها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة) فقام سعد بن معاذ - رضي اللّه عنه - فقال : أنا أجيب عن الأنصار ، كأنك يا رسول اللّه تريدنا! قال : «أجل». قال : إنك عسى أن تكون قد خرجت عن أمر قد أوحي إليك في غيره (يعني كما يبدو أنك ربما تكون قد خرجت لأمر ثم أوحي إليك في غيره إذ كان قد خرج للعير ثم عرض النفير) ، فإنا قد آمنا بك ، وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به حق ، فأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة. فامض يا نبي اللّه لما أردت. فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما بقي منا رجل. وصل من شئت ، واقطع من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت وما أخذت من أموالنا أحب إلينا مما تركت. والذي نفسي بيده ما سلكت هذا الطريق قط ، وما لي بها من علم وما نكره أن نلقى عدونا غدا ، وإنا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء ، لعل اللّه يريك منا بعض ما تقر به عيناك ..
وفي رواية أن سعد بن معاذ قال : إنا خلفنا من قومنا قوما ما نحن بأشد حبا لك منهم ، ولا أطوع لك منهم ولكن إنما ظنوا أنها العير. نبني لك عريشا فتكون فيه ، ونعد عندك رواحلك ، ثم نلقى عدونا ، فإن(1/395)
أعزنا اللّه وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببناه ، وإن تكن الأخرى جلست على رواحلك فلحقت من وراءنا ..
فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - خيرا. وقال : «أو يقضي اللّه خيرا من ذلك يا سعد». فلما فرغ سعد من المشورة قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «سيروا على بركة اللّه ، فإن اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين.
واللّه لكأني أنظر إلى مصارع القوم» .. فعلم القوم أنهم إنما يلاقون القتال وأن العير تفلت ورجوا النصر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن يومئذ عقد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - الألوية. وهي ثلاثة ، لواء يحمله مصعب بن عمير. ورايتان سوداوان. إحداهما مع علي ، والأخرى مع رجل من الأنصار (هو سعد بن معاذ) وأظهر السلاح .. وكان خرج من المدينة على غير لواء معقود.
... ونزل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أدنى بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشر مضت من رمضان ، فبعث عليا والزبير وسعد بن أبي وقاص وبسبس بن عمرو رضي اللّه عنهم يتحسسون على الماء. وأشار لهم إلى ظريب (تصغير ظرب وهو الجبل الصغير المنبسط في حجارة دقاق) وقال : أرجو أن تجدوا الخبر عند هذا القليب الذي يلي الظرب. فوجدوا على تلك القليب روايا قريش فيها سقاؤهم (الروايا من الإبل حوامل الماء وسقاء جمع سقاء) فأفلت عامتهم - وفيهم عجير - فجاء قريشا ، فقال : يا آل غالب ، هذا ابن أبي كبشة (يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ) وأصحابه قد أخذوا سقاءكم. فماج العسكر وكرهوا ذلك ، والسماء تمطر عليهم. وأخذ تلك الليلة أبو يسار غلام عبيدة بن سعيد بن العاص ، وأسلم غلام منبه بن الحجاج ، وأبو رافع غلام أمية بن خلف ، فأتي بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي. فقالوا : نحن سقاء قريش بعثونا نسقيهم من الماء. فكره القوم خبرهم فضربوهم. فقالوا : نحن لأبي سفيان ، ونحن في العير! فأمسكوا عنهم! فسلم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وقال : «إن صدقوكم ضربتموهم ، وإن كذبوكم تركتموهم!» ثم أقبل عليهم يسألهم ، فأخبروه أن قريشا خلف هذا الكثيب ، وأنهم ينحرون يوما عشرا ويوما تسعا ، وأعلموه بمن خرج من مكة. فقال - صلى الله عليه وسلم - : القوم ما بين الألف والتسعمائة. وقال : «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها».
واستشار أصحابه في المنزل ، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح .. انطلق بنا إلى أدنى بئر إلى القوم.
فإني عالم بها وبقلبها. بها قليب (أي بئر قديمة لا يعلم من حفرها) قد عرفت عذوبة مائه ، وماء كثير لا ينزح.
ثم نبني عليها حوضا ، ونقذف فيه الآنية فنشرب ونقاتل ونعور ما سواها من القلب. فقال : يا حباب أشرت بالرأي (و في رواية ابن هشام عن ابن إسحاق أن الحباب بن المنذر قال : يا رسول اللّه ، هذا المنزل أمنزلا أنزلكه اللّه ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال : «بل هو(1/396)
الرأي والحرب والمكيدة» قال : يا رسول اللّه ، هذا ليس بمنزل .. ثم أشار بما أشار) ونهض رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فنزل على القليب ببدر. وبات تلك الليلة يصلي إلى جذم شجرة (أي ما بقي من جذعها بعد قطع أعلاه).
وكانت ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان. وفعل ما أشار به الحباب .. وبعث اللّه السماء ، فأصاب المسلمين ما لبد الأرض ولم يمنع من السير. وأصاب قريشا من ذلك ما لم يقدروا أن يرتحلوا منه. وإنما بينهم قوز من رمل. وكان مجيء المطر نعمة وقوة للمؤمنين ، وبلاء ونقمة على المشركين. وأصاب المسلمين تلك الليلة نعاس ألقي عليهم. فناموا ، حتى إن أحدهم تكون ذقنه بين ثدييه وما يشعر حتى يقع على جنبه. واحتلم رفاعة ابن رافع بن مالك حتى اغتسل آخر الليل .. وبعث - صلى الله عليه وسلم - عمار بن ياسر وعبد اللّه بن مسعود - رضي اللّه عنهما - فأطافا بالقوم ، ثم رجعا فأخبراه أن القوم مذعورون ، وأن السماء تسح عليهم.
وبني لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لما نزل على القليب - عريش من جريد. وقام سعد بن معاذ على بابه متوشح السيف. ومشى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على موضع الوقعة ، وعرض على أصحابه مصارع رؤوس الكفر من قريش مصرعا مصرعا ، يقول : هذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان .. فما عدا واحد منهم مضجعه الذي حدّ له الرسول. وعدل - صلى الله عليه وسلم - الصفوف. ورجع إلى العريش فدخل - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر رضي اللّه عنه.
قال ابن إسحاق : وقد ارتحلت قريش حتى أصبحت فأقبلت. فلما رآها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - تصوّب من العقنقل (و هو الكثيب الذي جاءوا منه) إلى الوادي ، قال : «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك ، وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم أحنهم الغداة». وقد قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر ، فقال : «إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر ، إن يطيعوه يرشدوا».
«وقد كان خفاف بن أيماء بن رحضة الغفاري - أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري - بعث إلى قريش - حين مروا به - ابنا له بجزائر (أي ذبائح) أهداها لهم. وقال : إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا.
قال : فأرسلوا إليه مع ابنه أن وصلتك رحم. قد قضيت الذي عليك. فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم ، ولئن كنا إنما نقاتل اللّه ، كما يزعم محمد ، فما لأحد باللّه من طاقة.
فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فيهم حكيم ابن حزام. فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - «دعوهم». فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل. إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل. ثم أسلم بعد ذلك فحسن إسلامه. فكان إذا اجتهد في يمينه قال : لا والذي نجاني من يوم بدر! قال ابن إسحاق : وحدثني أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم ، عن أشياخ من الأنصار قالوا : لما(1/397)
اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي ، فقالوا : احزر لنا أصحاب محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) قال : فاستجال بفرسه حول العسكر! ثم رجع إليهم ، فقال : ثلاث مائة رجل ، يزيدون قليلا أو ينقصون.
ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد. قال : فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا ، فرجع إليهم ، فقال : ما وجدت شيئا ، ولكني قد رأيت يا معشر قريش ، البلايا تحمل المنايا. نواضح يثرب تحمل الموت الناقع. قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم ، واللّه ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم ، فإذا أصابوا منكم أعدادهم ، فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم! فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس ، فأتى عتبة بن ربيعة ، فقال : يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها ، هل لك إلى ألا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال : وما ذاك يا حكيم؟ قال : ترجع بالناس ، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي. قال : قد فعلت ، أنت عليّ بذلك ، إنما هو حليفي فعليّ عقله (أي دية أخيه الذي قتل في سرية عبد اللّه بن جحش كما سبق) وما أصيب من ماله. فأت ابن الحنظلية فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره. يعني أبا جهل بن هشام. ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبا فقال :
يا معشر قريش ، إنكم واللّه ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا. واللّه لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه ، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته. فارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب ، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم ، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرّضوا منه ما تريدون.
قال حكيم : فانطلقت حتى جئت أبا جهل ، فوجدته قد نثل درعا له من جرابها فهو يهيئها. فقلت له : يا أبا الحكم ، إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا ، للذي قال ، فقال : انتفخ واللّه سحره (يعني انتفخت رئته من الخوف!) حين رأى محمدا وأصحابه. كلا! واللّه لا نرجع حتى يحكم اللّه بيننا وبين محمد ، وما بعتبة ما قال ، ولكنه قد رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور ، وفيهم ابنه (يعني أبا حذيفة رضي اللّه عنه وكان مسلما مع المسلمين) فقد تخوفكم عليه! ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي ، فقال : هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس. وقد رأيت ثأرك بعينك ، فقم فانشد خفرتك (أي عهدك) ومقتل أخيك! فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ، ثم صرخ : وا عمراه! فحميت الحرب ، وحقب أمر الناس (أي اشتد) واستوسقوا على ما هم عليه من الشر. فأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة. فلما بلغ عتبة قول أبي جهل : انتفخ واللّه سحره. قال : سيعلم مصفر استه (يريد أن يشبهه في الجبن كالرجل الذي يتأنث!) من انتفخ سحره؟ أنا أم هو! قال ابن إسحاق : وقد خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي ، وكان رجلا شرسا سيئ الخلق ، فقال : أعاهد اللّه لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه. فلما خرج خرج إليه(1/398)
حمزة بن عبد المطلب - رضي اللّه عنه - فلما التقيا ضربه حمزة فأطنّ قدمه (أي أطارها) بنصف ساقه. وهو دون الحوض. فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد - زعم - أن يبر يمينه ، واتبعه حمزة ، فضربه حتى قتله في الحوض! ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة ، بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة ، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة ، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة ، وهم عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء ، ورجل آخر يقال : هو عبد اللّه بن رواحة. فقالوا من أنتم؟ فقالوا : رهط من الأنصار ، قالوا : ما لنا بكم من حاجة (و قال ابن إسحاق : إن عتبة قال للفتية من الأنصار حين انتسبوا إليه : أكفاء كرام ، إنما نريد قومنا) ثم نادى مناديهم : يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - . «قم يا عبيدة ابن الحارث ، قم يا حمزة ، قم يا علي». فلما قاموا ودنوا منهم قالوا : من أنتم؟ قال عبيدة : عبيدة؟
وقال حمزة : حمزة! وقال علي : علي! قالوا. نعم أكفاء كرام! فبارز عبيدة ، وكان أسن القوم ، عتبة ابن ربيعة ، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة ، وبارز علي الوليد بن عتبة. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله ، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله. واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه (أي جرحه جرحا لا يملك معه الحركة) وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه (أي أجهزا عليه) واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه.
قال ابن إسحاق : ثم تزاحف الناس ، ودنا بعضهم من بعض. وقد أمر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ألا يحملوا حتى يأمرهم. قال : «إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل» .. ثم عدل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - الصفوف ورجع إلى العريش ، فدخله ومعه فيه أبوبكر ليس معه فيه غيره. ورسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يناشد ربه ما وعده من النصر ، ويقول فيما يقول : «اللهم إن نهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد» وأبوبكر يقول : يا نبي اللّه بعض مناشدتك ربك ، فإن اللّه منجز لك ما وعدك.
وفي إمتاع الأسماع للمقريزي : أن عبد اللّه بن رواحة قال لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يا رسول اللّه إني أشير عليك - ورسول اللّه أعظم وأعلم من أن يشار عليه - إن اللّه أجل وأعظم من أن ينشد وعده! فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يا ابن رواحة ، ألا أنشد اللّه وعده؟ إن اللّه لا يخلف الميعاد».
قال ابن إسحاق : وقد خفق رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - خفقة وهو في العريش ، ثم انتبه ، فقال : «أبشر يا أبابكر ، أتاك نصر اللّه. هذا جبريل آخذا بعنان فرس يقوده ، على ثناياه النقع» (يعني الغبار).
وقد رمي مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل ، فكان أول قتيل من المسلمين رحمة اللّه. ثم رمي حارثة بن سراقة أحد بني عدي بن النجار - وهو يشرب من الحوض - بسهم ، فأصاب نحره ، فقتل رحمة اللّه.(1/399)
ثم خرج رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس فحرضهم وقال : «والذي نفس محمد بيده ، لا يقاتلهم اليوم رجل ، فيقتل ، صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر ، إلا أدخله اللّه الجنة». فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة ، وفي يده تمرات يأكلهن : بخ بخ (كلمة تقال للإعجاب) أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟ ثم قذف التمرات من يده ، وأخذ سيفه ، فقاتل القوم حتى قتل رحمه اللّه تعالى.
قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، أن عوف بن الحارث - وهو ابن عفراء - قال : يا رسول اللّه ، ما يضحك الرب من عبده؟ قال : «غمسه يده في العدو حاسرا» فنزع درعا كانت عليه ، فقذفها ، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رحمه اللّه.
قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عبد اللّه بن ثعلبة بن صعير العذري ، حليف بني زهرة ، أنه حدثه ، أنه لما التقى الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، قال أبو جهل بن هشام : اللهم ، أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف ، فأحنه الغداة! فكان هو المستفتح.
قال ابن إسحاق : ثم إن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا ، ثم قال : «شاهت الوجوه!» ثم نفحهم بها. وأمر أصحابه فقال : «شدوا» فكانت الهزيمة. فقتل اللّه تعالى من قتل من صناديد قريش ، وأسر من أسر من أشرافهم ..
فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ، ورسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في العريش ، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - متوشحا السيف ، في نفر من الأنصار يحرسون رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يخافون عليه كرّة العدو ورأى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس فقال له رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «واللّه لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم!» قال : أجل واللّه يا رسول اللّه كانت أول وقعة أوقعها اللّه بأهل الشرك.
فكان الإثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال! قال ابن إسحاق : وحدثني العباس بن عبد اللّه بن معبد عن بعض أهله عن ابن عباس رضي اللّه عنهما. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه يومئذ : «إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا ، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ، ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله ، ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فلا يقتله ، فإنه إنما أخرج مستكرها» قال : فقال أبو حذيفة (ابن عتبة بن ربيعة) : أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس؟! واللّه لئن لقيته لألحمنه السيف! قال : فبلغت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقال لعمر بن الخطاب : «يا أبا حفص» قال عمر : واللّه إنه لأول يوم كناني فيه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بأبي حفص - «أيضرب وجه عم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بالسيف؟» فقال عمر : يا رسول اللّه دعني فلأضرب عنقه بالسيف! فو اللّه لقد نافق! فكان أبو حذيفة يقول : ما أنا بآمن(1/400)
من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة - فقتل يوم اليمامة (في حروب الردة) شهيدا.
قال ابن هشام : وإنما نهى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عن قتل أبي البختري لأنه كان أكف القوم عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة ، وكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه ، وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب ... (و قد قتل لأنه رفض أن يستأسر) ...
قال ابن إسحاق : حدثني يحيى بن عباد بن عبد اللّه بن الزبير عن أبيه قال : كان أمية بن خلف لي صديقا بمكة. وكان اسمي عبد عمرو ، فتسميت حين أسلمت «عبد الرحمن» ونحن بمكة. فكان يلقاني إذ نحن بمكة فيقول : يا عبد عمرو ، أرغبت عن اسم سماكه أبواك؟ فأقول : نعم! فيقول : فإني لا أعرف الرحمن ،فاجعل بيني وبينك شيئا أدعوك به ، أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول ، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف! قال فكان إذا دعاني يا عبد عمرو لم أجبه. قال : فقلت له : يا أبا علي ، اجعل ما شئت. قال : فأنت عبد الإله.
قال : قلت : نعم. قال : فكنت إذا مررت به قال : يا عبد الإله ، فأجيبه ، فأتحدث معه. حتى إذا كان يوم بدر مررت به وهو واقف مع ابنه علي ابن أمية آخذ بيده ومعي أدراع لي قد استلبتها فأنا أحملها.
فلما رآني قال لي : يا عبد عمرو ، فلم أجبه. فقال : يا عبد الإله ، فقلت : نعم ، قال : هل لك فيّ؟ فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك! : قال : قلت : نعم! ها اللّه إذن. قال : فطرحت الأدراع من يدي ، وأخذت بيده ويد ابنه (يعني أسيرين) وهو يقول : ما رأيت كاليوم قط! أما لكم حاجة في اللبن؟ (يعني أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن!) ثم خرجت أمشي بهما.
قال ابن إسحاق : حدثني عبد الواحد بن أبي عون ، عن سعيد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن ابن عوف - رضي اللّه عنه - قال : قال لي أمية بن خلف ، وأنا بينه وبين ابنه ، آخذ بأيديهما : يا عبد الإله ، من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره؟ قال. قلت : حمزة بن عبد المطلب. قال : ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل .. قال عبد الرحمن : فو اللّه إني لأقودهما إذ رآه بلال معي ، وكان هو الذي يعذب بلالا بمكة على ترك الإسلام ، فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت ، فيضجعه على ظهره ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول : لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد ، فيقول بلال : أحد. أحد. قال : فلما رآه قال : رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا! قال : قلت : أي بلال ، أبأسيري؟ قال : لا نجوت إن نجا! قال : قلت : أتسمع يا ابن السوداء؟ قال : لا نجوت إن نجا! قال : ثم صرخ بأعلى صوته : يا أنصار اللّه ، رأس الكفر أمية ابن خلف ، لا نجوت إن نجا! قالوا : فأحاطوا بنا ، حتى جعلونا في مثل المسكة (أي السوار من عاج) وأنا أذب عنه قال : فأخلف رجل السيف فضرب(1/401)
رجل ابنه فوقع ، وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط. قال : فقلت : انج بنفسك ولا نجاء بك. فو اللّه ما أغني عنك شيئا. قال : فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما .. فكان عبد الرحمن يقول : يرحم اللّه بلالا ، ذهبت أدراعي. وفجعني بأسيري! قال ابن إسحاق : فلما فرغ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من عدوه أمر بابي جهل بن هشام أن يلتمس في القتلى ، وكان أول من لقي أبا جهل - كما حدثني ثور بن زيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، وعبد اللّه بن أبي بكر أيضا قد حدثني ذلك - قالا : قال معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة :
سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة (أي الشجر الملتف) وهم يقولون : أبو الحكم لا يخلص إليه ، قال : فلما سمعتها جعلته من شأني ، فصمدت نحوه ، فلما أمكنني حملت عليه ، فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه ، فو اللّه ما شبهتها - حين طاحت - إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها. قال :
وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي. فتعلقت بجلدة من جنبي ، وأجهضني القتال عنه ، فلقد قاتلت عامة يومي ، وإني لأسحبها خلفي ، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها.
ثم مر بأبي جهل ، وهو عقير ، معوذ ابن عفراء ، فضربه حتى أثبته فتركه وبه رمق ، وقاتل معوذ حتى قتل ، فمر عبد اللّه بن مسعود بأبي جهل - حين أمر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن يلتمس في القتلى - وقد قال لهم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني : «انظروا إن خفي عليكم في القتلى إلى أثر جرح في ركبته ، فإني ازدحمت يوما أنا وهو على مأدبة لعبد اللّه بن جدعان ، ونحن غلامان ، وكنت أشف منه بيسير ، فدفعته ، فوقع على ركبتيه ، فجحش في إحداهما جحشا لم يزل أثره به» قال عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه. فوجدته بآخر رمق ، فعرفته فوضعت رجلي على عنقه ، قال وقد كان خبث بي مرة بمكة فآذاني ولكزني (أي قبض عليّ ولزمني) ثم قلت له : هل أخزاك اللّه يا عدو اللّه؟ قال : وبماذا أخزاني؟ أأعمد من رجل قتلتموه (يريد أكبر من رجل قتلتموه؟) أخبرني لمن الدائرة اليوم؟ قال. قلت للّه ورسوله.
قال ابن إسحاق : وزعم رجال من بني مخزوم أن ابن مسعود كان يقول : قال لي : لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم. قال : ثم احتززت رأسه ثم جئت به رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول اللّه ، هذا رأس عدو اللّه أبي جهل. قال : فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «اللّه الذي لا إله غيره» ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فحمد اللّه.
قال ابن هشام : وحدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم بالمغازي ، أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال لسعيد بن العاص - ومر به - إني أراك كأن في نفسك شيئا. أراك تظن أني قتلت أباك! إني لو قتلته(1/402)
لم أعتذر إليك من قتله ولكني قتلت خالي العاص بن هشام ابن المغيرة. فأما أبوك فإني مررت به ، وهو يبحث بحث الثور بروقه (أي بقرنه) فحدت عنه. وقصد له بن عمه علي فقتله! قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي اللّه عنها. قالت : لما أمر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بالقتلى أن يطرحوا في القليب طرحوا فيه ، إلا ما كان من أمية بن خلف. فإنه انتفخ في درعه فملأها ، فذهبوا ليحركوه. فتزايل لحمه ، فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة ، فلما ألقاهم في القليب ، وقف عليهم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقال : «يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا» قالت : فقال له أصحابه : يا رسول اللّه ، أتكلم قوما موتي؟ فقال لهم : «لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق» قالت عائشة : والناس يقولون : «لقد سمعوا ما قلت لهم» وإنما قال لهم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : «لقد علموا».
قال ابن إسحاق : ولما أمر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بهم أن يلقوا في القليب ، أخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب ، فنظر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - في وجه أبي حذيفة بن عتبة ، فإذا هو كئيب قد تغير. فقال : «يا أبا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شي ء» أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - فقال : لا واللّه يا رسول اللّه ، ما شككت في أبي ولا في مصرعه ، ولكني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا ، فكنت أرجو أن يهديهه ذلك إلى الإسلام ، فلما رأيت ما أصابه ، وذكرت مامات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له ، أحزنني ذلك. فدعا له رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بخير ، وقال له خيرا ..
ثم إن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع ، فاختلف المسلمون فيه.
فقال من جمعه : هو لنا. وقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه : واللّه لولا نحن ما أصبتموه ، لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم. وقال الذين كانوا يحرسون رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مخافة أن يخالف إليه العدو : واللّه ما أنتم بأحق به منا ، لقد رأينا المتاع حين لم يكن دونه ما يمنعه ، ولكنا خفنا على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كرة العدو ، فقمنا دونه ، فما أنتم بأحق به منا.
قال ابن إسحاق : وحدثني عبد الرحمن بن الحارث وغيره من أصحابنا عن سليمان بن موسى ، عن مكحول ، عن أبي أمامة الباهلي ، قال سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال. فقال فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه اللّه من أيدينا ، فجعله إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقسمه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بين المسلمين عن بواء ، يقول : على السواء.
قال ابن إسحاق : وحدثني نبيه بن وهب أخو بني عبد الدار أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حين أقبل بالأسارى ، فرقهم في أصحابه ، وقال : استوصوا بالأسارى خيرا». فكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم ، أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه ، في الأسارى. قال : فقال أبو عزيز : مربي أخي مصعب بن عمير ، ورجل(1/403)
من الأنصار يأسرني ، فقال : شد يدك به ، فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك. قال : وكنت في رهط من الأنصار - حين أقبلوا بي من بدر - فكانوا إذا قدموا غداءهم أو عشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر ، لوصية رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إياهم بنا ، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها.قال : فأستحيي فأردها على أحدهم ، فيردها علي ما يمسها.
قال ابن هشام : وكان أبو عزيز صاحب لواء المشركين ببدر ، بعد النضر بن الحارث ، فلما قال أخوه مصعب ابن عمير لأبي اليسر - وهو الذي أسره - ما قال ، قال له أبو عزيز : يا أخي ، هذه وصاتك بي؟ فقال له مصعب : إنه أخي دونك .. فسألت أمه عن أغلى ما فدي به قرشي ، فقيل لها : أربعة آلاف درهم ، فبعثت بأربعة آلاف درهم ، ففدته بها.
قال ابن إسحاق : ثم بعثت قريش في فداء الأسرى.
في هذه الغزوة التي أجملنا عرضها بقدر المستطاع ، نزلت سورة الأنفال .. نزلت تعرض وقائع الغزوة الظاهرة ، وتعرض وراءها فعل القدرة المدبرة ، وتكشف عن قدر اللّه وتدبيره في وقائع الغزوة ، وفيما وراءها من خط سير التاريخ البشري كله وتحدث عن هذا كله بلغة القرآن الفريدة وبأسلوب القرآن المعجز ..
وسيأتي تفصيل هذه المعاني في ثنايا استعراض النصوص القرآنية .. فأما الآن فنكتفي باستعراض الخطوط الأساسية في السورة :
إن هنالك حادثا بعينه في الغزوة يلقي ضوءا على خط سيرها. ذلك هو ما رواه ابن إسحاق - عن عبادة ابن الصامت - رضي اللّه عنه ، قال :
«فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه اللّه من أيدينا ، فجعله إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقسمه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عن بواء (يقول : على السواء).
هذا الحادث يلقي ضوءا على افتتاح السورة وعلى خط سيرها كذلك :
لقد اختلفوا على الغنائم القليلة في الواقعة التي جعلها اللّه فرقانا في مجرى التاريخ البشري إلى يوم القيامة! ولقد أراد اللّه - سبحانه - أن يعلمهم ، وأن يعلم البشر كلهم من بعدهم أمورا عظاما ...
أراد أن يعلمهم ابتداء أن أمر هذه الوقعة أكبر كثيرا من أمر الغنائم التي يختلفون عليها. فسمى يومها : «يَوْمَ الْفُرْقانِ ، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» ..
وأراد أن يعلمهم أن هذا الأمر العظيم إنما تم بتدبير اللّه وقدره ، في كل خطوة وفي كل حركة ، ليقضي من ورائه أمرا أراده ، فلم يكن لهم في هذا النصر وما وراءه من عظائم الأمور يد ولا تدبير ، وسواء غنائمه الصغيرة وآثاره الكبيرة ، فكلها من فعل اللّه وتدبيره. إنما أبلاهم فيه بلاء حسنا من فضله! وأراد(1/404)
أن يريهم مدى الفرق بين ما أرادوه هم لأنفسهم من الظفر بالعير وما أراده اللّه لهم ، وللبشرية كلها من ورائهم من إفلات العير ، ولقاء النفير. ليروا على مد البصر مدى ما بين إرادتهم بأنفسهم وإرادة اللّه بهم ولهم من فرق كبير! لقد بدأت السورة بتسجيل سؤالهم عن الأنفال وبيان حكم اللّه فيها وردها إلى اللّه والرسول ودعوتهم إلى تقوى اللّه ، وإصلاح ذات بينهم - بعد ما ساءت أخلاقهم في النفل كما يقول عبادة بن الصامت - ودعوتهم إلى طاعة اللّه وطاعة الرسول ، وتذكيرهم بإيمانهم وهذا مقتضاه. ورسم للمؤمنين صورة موحية تجف لها القلوب : «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ. قُلِ : الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. فَاتَّقُوا اللَّهَ ، وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ، لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» ..
ثم جعل يذكرهم بأمرهم وتدبيرهم لأنفسهم وتدبير اللّه لهم ، ومدى ما يرونه من واقع الأرض ومدى قدرة اللّه من ورائه ومن ورائهم : «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ. يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ ، كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» ..
ثم ذكرهم بما أمدهم به من العون ، وما يسره لهم من النصر ، وما قدره لهم بفضله من الأجر : «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى ، وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ، وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ. إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ ، فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ ، وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ ، وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ».
وهكذا يمضي سياق السورة في هذا المجال يسجل أن المعركة بجملتها من صنع اللّه وتدبيره بقيادته وتوجيهه.
بعونه ومدده. بفعله وقدره. له وفي سبيله .. ومن ثم تجريد المقاتلين ابتداء من الأنفال وتقرير أنها للّه وللرسول ، حتى إذا ردها اللّه عليهم كان ذلك منا منه وفضلا. وكذلك يجردهم من كل مطمع فيها ومن كل مغنم ، ليكون جهادهم في سبيله خالصا له وحده .. فترد أمثال هذه النصوص : «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ(1/405)
وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ، وَما رَمَيْتَ - إِذْ رَمَيْتَ - وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى ، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ».
«وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ، فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ..
«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى ، وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ ، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا. لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا ، وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ، وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا ، وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ، لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ»..
ولأن المعركة - كل معركة يخوضها المؤمنون - من صنع اللّه وتدبيره. بقيادته وتوجيهه. بعونه ومدده.
بفعله وقدره. له وفي سبيله. تتكرر الدعوة في السورة إلى الثبات فيها ، والمضي معها ، والاستعداد لها ، والاطمئنان إلى تولي اللّه فيها ، والحذر من المعوقات عنها من فتنة الأموال والأولاد ، والاستمساك بآدابها ، وعدم الخروج لها بطرا ورئاء الناس. ويؤمر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بتحريض المؤمنين عليها .. وترد أمثال هذه النصوص في بيان هذه المعاني : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ - إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ - فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ، وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ، وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ، وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ».
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ، وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» ..
«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ، وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ» ..(1/406)
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ..» ..
وفي ذات الوقت الذي تتكرر الأوامر بالتثبيت في المعركة يتجه السياق إلى توضيح معالم العقيدة وتعميقها ورد كل أمر وكل حكم وكل توجيه إليها. فلا تبقى الأوامر معلقة في الفراغ ، إنما ترتكز على ذلك الأصل الواضح الثابت العميق :
«أ» في مسألة الأنفال يردون إلى تقوى اللّه ، والوجل عند ذكره ، وتعلق الإيمان بطاعة اللّه وطاعة رسوله : «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ. قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» ... «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ، لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ».
«ب» وفي خطة المعركة يردون إلى قدر اللّه وتدبيره ، وتصريفه لمراحلها جميعا : «إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى ، وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ ، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا ..».
«ج» وفي أحداثها ونتائجها يردون إلى قيادة اللّه لها ، ومدده وعونه فيها : «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ، وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ، وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى ، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً ...» ..
«د» وفي الأمر بالثبات فيها يردون إلى ما يريده اللّه لهم بها من حياة ، وإلى قدرته على الحيلولة بينهم وبين قلوبهم ، وإلى تكفله بنصر من يتوكل عليه : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ، وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» .. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ..
وفي تحديد الهدف من وراء المعركة يقرر : «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» ..
«ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» .. «وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» ..
«و» وفي تنظيم العلاقات في المجتمع المسلم وبينه وبين غيره من المجتمعات الأخرى تبرز العقيدة قاعدة للتجمع وللتميز ، وتجعل القيم العقيدية هي التي تقدم في الصف أو تؤخر : «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا ، وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ(1/407)
النَّصْرُ - إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
ويبرز في سياق السورة بصفة خاصة - إلى جانب خط العقيدة - خط آخر هو خط الجهاد ، وبيان قيمته الإيمانية والحركية. وتجريده كذلك من كل شائبة شخصية وإعطاؤه مبرراته الذاتية العليا التي ينطلق بها المجاهدون في ثقة وطمأنينة واستعلاء إلى آخر الزمان .. والسورة بجملتها تتضمن هذا الإيحاء. فنكتفي ببعض النصوص في هذا التعريف ، وندع تفصيلها إلى موضعه عند مواجهة النصوص :
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ، وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».
«إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ، وَهُمْ لا يَتَّقُونَ. فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ».
«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ، وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ، وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ» ..
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» ..
«ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» ..
وأخيرا فإن السورة تنظم ارتباطات الجماعة المسلمة على أساس العقيدة كما أسلفنا وبيان الأحكام التي تتعامل بها مع غيرها من الجماعات الأخرى في الحرب والسلم - إلى هذه الفترة التي نزلت فيها السورة - وأحكام الغنائم والمعاهدات وتضع خطوطا أصيلة في تنظيم تلك الروابط وهذه الأحكام في مثل هذه النصوص الواضحة المحددة :
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ .. قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ، وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ..(1/408)
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا : سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ، وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ».
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ..
«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ، وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ. وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»..
«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ، وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» ..
«إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ. فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا ، إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ. وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ، وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ. وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ...» ...
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» ..
«ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى : إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ(1/409)
خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا ، وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ - إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ - وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا ، أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ ، وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
هذا مجمل لخطوط السورة الرئيسية .. فإذا كانت السورة بجملتها إنما نزلت في غزوة بدر ، وفي التعقيب عليها ، فإننا ندرك من هذا طرفا من منهج القرآن في تربية الجماعة المسلمة ، وإعدادها لقيادة البشرية وجانبا من نظرة هذا الدين إلى حقيقة ما يجري في الأرض وفي حياة البشر مما يقوم منه تصور صحيح لهذه الحقيقة :
لقد كانت هذه الغزوة هي أول وقعة كبيرة لقي فيها المسلمون أعداءهم من المشركين فهزموهم تلك الهزيمة الكبيرة .. ولكن المسلمين لم يكونوا قد خرجوا لهذه الغاية .. لقد كانوا إنما خرجوا ليأخذوا الطريق على قافلة قريش الذين أخرجوا المهاجرين من ديارهم وأموالهم! فأراد اللّه للعصبة المسلمة غير ما أرادت لنفسها من الغنيمة .. أراد لها أن تنفلت منها القافلة وأن تلقى عدوها من عتاة قريش الذين جمدوا الدعوة في مكة ومكروا مكرهم لقتل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بعد ما بلغوا بأصحابه الذين تابعوه على الهدى غاية التعذيب والتنكيل والأذى ..
لقد أراد اللّه سبحانه أن تكون هذه الوقعة فرقانا بين الحق والباطل وفرقانا في خط سير التاريخ الإسلامي.
ومن ثم فرقانا في خط سير التاريخ الإنساني .. وأراد أن يظهر فيها الآماد البعيدة بين تدبير البشر لأنفسهم فيما يحسبونه الخير لهم. وتدبير رب البشر لهم ولو كرهوه في أول الأمر. كما أراد أن تتعلم العصبة المؤمنة عوامل النصر وعوامل الهزيمة وتتلقاها مباشرة من يد ربّها ووليها ، وهي في ميدان المعركة وأمام مشاهدها.
وتضمنت السورة التوجيهات الموحية إلى هذه المعاني الكبيرة وإلى هذه الحقائق الضخمة الخطيرة.
كما تضمنت الكثير من دستور السلم والحرب ، والغنائم والأسرى ، والمعاهدات والمواثيق ، وعوامل النصر وعوامل الهزيمة. كلها مصوغة في أسلوب التوجيه المربي ، الذي ينشئ التصور الاعتقادي ، ويجعله(1/410)
هو المحرك الأول والأكبر في النشاط الإنساني .. وهذه هي سمة المنهج القرآني في عرض الأحداث وتوجيهها.
ثم إنها تضمنت مشاهد من الموقعة ، ومشاهد من حركات النفوس قبل المعركة وفي ثناياها وبعدها .. مشاهد حية تعيد إلى المشاعر وقع المعركة وصورها وسماتها كأن قارئ القرآن يراها فيتجاوب معها تجاوبا عميقا.
واستطرد السياق أحيانا إلى صور من حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحياة أصحابه في مكة ، وهم قلة مستضعفون في الأرض ، يخافون أن يتخطفهم الناس. ذلك ليذكروا فضل اللّه عليهم في ساعة النصر ، ويعلموا أنهم إنما سينصرون بنصر اللّه ، وبهذا الدين الذي آثروه على المال والحياة. وإلى صور من حياة المشركين قبل هجرة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وبعدها. وإلى أمثلة من مصائر الكافرين من قبل كدأب آل فرعون والذين من قبلهم ، لتقرير سنة اللّه التي لا تتخلف في الانتصار لأوليائه والتدمير على أعدائه. (1)
موضوعات السور المكية والمدنية
تقدم أن قلنا فى آخر سورة البقرة : إن أمهات المسائل التي ذكرت فى السور المكية هى :
أصول الإيمان من الاعتقاد بوحدانية اللّه والتصديق بالوحى والرسالة والبعث والجزاء ، وقصص الرسل مع أقوامهم ، ثم أصول التشريع العامة والآداب والفضائل الثابتة ، وجاء فى أثناء ذلك محاجة المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بتلك الأصول ودحض شبهاتهم وإبطال ضلالاتهم والنعي على خرافاتهم.
وأمهات ما جاء فى السور المدنية - قواعد التشريع التفصيلية ، ومحاجّة أهل الكتاب ببيان ما ضلوا فيه من هداية كتبهم ورسلهم ، فكثر فى سورة البقرة محاجة اليهود ، وكثر فى سورة آل عمران محاجة النصارى ، وكثر فى سورة المائدة محاجة الفريقين ، وكثر فى سورة النساء الأحكام المتعلقة بالمنافقين ، وكثر فى سورة التوبة فضائح المنافقين.
أهم ما تشتمل عليه سورة الأنفال من الأحكام
(1) تعليل أفعاله وأحكامه بمصالح الخلق كقوله : « وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ » وقوله : « وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ » .
(2) كفاية. اللّه تعالى رسوله مكر مشركى قريش فى مكة حين ائتمارهم على حبسه طيلة حياته أو نفيه من بلده أو قتله كما قال سبحانه : « وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1429)(1/411)
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ » (3) امتناع تعذيب المشركين ما دام الرسول فيهم كما قال : « وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ » .
(4) استغاثة الرسول ربه وإمداده بالملائكة كما قال : « إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ » (5) كراهة مجادلة الرسول فيما يأمر به ويرغّب فيه من أمور الدين ومصالح المسلمين بعد أن تبين لهم أنه الحق كما قال « يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ » .
أما المجادلة والمراجعة فى المصالح الحربية والسياسية قبل أن يتبين الحق فيها فمحمودة ، إذ بها تتم المشاورة التي عمل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فى مواطن كثيرة.
(6) إن من شأن صادق الإيمان أن يتوكل على اللّه ، أي يكل إليه أموره وحده ، فلا يتكل على مخلوق مربوب لخالق مثله ، فكل المخلوقات سواء فى الخضوع لسننه ، ومن شأن المؤمن المتوكل أن يطلب كل شىء من سببه خضوعا لسننه فى نظام خلقه ، فإذا جهل الأسباب أو عجز عنها وكل أمره فيها إلى ربه داعيا أن يعلمه ما جهل منها ، وأن يسخر له ما عجز عنه من جماد وحيوان أو إنسان كما قال : « وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » وبين فائدة ذلك بقوله : « وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » .
(7) إن الظلم فى الأمم يقتضى عقابها فى الدنيا بالضعف والانحلال الذي قد يفضى إلى الزوال أو فقد الاستقلال ، وإن هذا العقاب يقع على الأمة بأسرها لا على مقترفى الظلم وحدهم كما قال : « وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً » .
(8) إن الافتتان بالأموال والأولاد مدعاة لضروب من الفساد ، فإن حب المال والولد من الغرائز التي يعرض للناس فيها الإسراف إذا لم تهذب بهدى الدين وحسن التربية والتعليم كما قال : « وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ».
(9) إن تقوى اللّه فى الأعمال العامة والخاصة تكسب صاحبها ملكة يفرق بها بين الحق والباطل والخير والشر كما قال : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً » .
(10) إن تغير أحوال الأمم وتنقلها فى الأطوار من نعم إلى نقم أو بالعكس أثر طبيعى لتغييرها ما بأنفسها من العقائد والأخلاق والآداب « ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ » .
(11) وجوب إعداد الأمة بكل ما تستطيع من قوة لقتال أعدائها ، وذلك يشمل السلاح ، وهو يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة ، وقد كثرت أنواعه من برى وبحرى وهوائى ، ومرابطة الفرسان فى ثغور(1/412)
البلاد لإرهاب الأعداء وإخافتهم من عاقبة التعدي على الأمة ومصالحها أو على أفرادها « وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ » .
(12) تفضيل السلم على الحرب إذا جنح لها العدو لأن الحرب ضرورة من ضرورات الاجتماع تقدر بقدرها « وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ » .
(13) المحافظة على الوفاء بالعهد والميثاق فى الحرب والسلم ، وتحريم الخيانة سرا وجهرا : « وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ » .
(14) وجوب معاملة ناقضى العهد بالشدة التي يكونون بها عبرة ونكالا لغيرهم تمنعهم من الجرأة والإقدام على العودة لمثل ذلك « فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ » .
(15) جعل الغاية من القتال الديني حرية الدين ومنع الفتنة فيه حتى لا يرجع المشركون أحدا عن دينه « وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » .
(16) اتقاء التنازع والتفرق حال القتال لأنه سبب الفشل وذهاب القوة ، « وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ » وقد جرت على ذلك الدول فى العصر الحديث ، فإنها تبطل تنازع الأحزاب زمن الحرب وتكتفى بالشورى العسكرية التي شرعها الإسلام وعمل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فى غزوة بدر ،وفرضت عليه فى غزوة أحد « وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ».
(17) منع اتخاذ الأسرى ومفاداتهم بالمال فى حال الضعف ، وجواز ذلك حين الإثخان فى الأرض بالقوة والعزة والسيادة ، مع ترغيب الأسرى فى الإيمان وإنذارهم أن يخونوا المسلمين بعد إطلاقهم بمن أو فداء. (1)
===============
__________
(1) - تفسير الشيخ المراغى ـ موافقا للمطبوع - (10 / 46)(1/413)
(9) سورة التوبة
سميت هذه السورة، في أكثر المصاحف، وفي كلام السلف: سورة براءة ففي الصحيح عن أبي هريرة، في قصة حج أبي بكر بالناس، قال أبو هريرة: "فأذن معنا علي بن أبي طالب في أهل منى ببراءة". وفي "صحيح البخاري"، عن زيد بن ثابت قال: "آخر سورة نزلت سورة براءة"، وبذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه". وهي تسمية لها بأول كلمة منها.
وتسمى "سورة التوبة" في كلام بعض السلف في مصاحف كثيرة، فعن ابن عباس "سورة التوبة هي "الفاضحة"، وترجم لها الترمذي في "جامعه" باسم التوبة. ووجه التسمية: أنها وردت فيها توبة الله تعالى عن الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وهو حدث عظيم.
ووقع هذان الاسمان معا في حديث زيد بن ثابت، في "صحيح البخاري"، في باب جمع القرآن، قال زيد: "فتتبعت القرآن حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ، حتى خاتمة سورة البراءة" [128].
وهذان الاسمان هما الموجودان في المصاحف التي رأيناها.
ولهذه السورة أسماء أخر، وقعت في كلام السلف، من الصحابة والتابعين، فروي عن ابن عمر، عن ابن عباس: كنا ندعوها (أي سورة براءة) "المقشقشة" (بصيغة اسم الفاعل وتاء التأنيث من قشقشة إذا أبراه من المرض)، كان هذا لقبا لها ولسورة "الكافرون" لأنهما تخلصان من آمن بما فيهما من النفاق والشرك، لما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص، ولما فيهما من وصف أحوال المنافقين.وكان ابن عباس يدعوها "الفاضحة" : قال ما زال ينزل فيها "ومنهم - ومنهم" حتى ظننا أنه لا يبقى أحد إلا ذكر فيها.
وأحسب أن ما تحكيه من أحوال المنافقين يعرف به المتصفون بها أنهم المراد، فعرف المؤمنون كثيرا من أولئك مثل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49] فقد قالها بعضهم وسمعت منهم، وقوله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:61]فهؤلاء نقلت مقالتهم بين المسلمين. وقوله: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [ التوبة:42].
وعن حذيفة: أنه سماها "سورة العذاب" لأنها نزلت بعذاب الكفار، أي عذاب القتل والأخذ حين يثقفون.(1/414)
وعن عبيد بن عمير أنه سماها "المنقرة" (بكسر القاف مشددة) لأنها نقرت عما في قلوب المشركين (لعله يعني من نوايا الغدر بالمسلمين والتمالي على نقض العهد وهو من نقر الطائر إذا أنفى بمنقاره موضعا من الحصى ونحوه ليبيض فيه).
وعن المقداد بن الأسود، وأبي أيوب الأنصاري: تسميتها "البحوث" - بباء موحدة مفتوحة في أوله وبمثلثة في آخره بوزن فعول - بمعنى الباحثة، وهو مثل تسميتها "المنقرة".
وعن الحسن البصري أنه دعاها "الحافرة" كأنها حفرت عما في قلوب المنافقين من النفاق، فأظهرته للمسلمين.
وعن قتادة: أنها تسمى "المثيرة" لأنها أثارت عورات المنافقين وأظهرتها. وعن ابن عباس أنه سماها "المبعثرة" لأنها بعثرت عن أسرار المنافقين، أي أخرجتها من مكانها.
وفي "الإتقان": أنها تسمى "المخزية" بالخاء - والزاي المعجمة وتحتية بعد الزاي وأحسب أن ذلك لقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} . [التوبة:2].
وفي "الإتقان" أنها تسمى "المنكلة"، أي بتشديد الكاف وفيه أنها تسمى "المشددة".
وعن سفيان أنها تسمى "المدمدمة" - بصيغة اسم الفاعل من دمدم إذا أهلك لأنها كانت سبب هلاك المشركين. فهذه أربعة عشر اسما.
وهي مدنية بالاتفاق.قال في "الإتقان": واستثنى بعضهم قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة:113] الآية ففي "صحيح البخاري" أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله" فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب". فكان آخر قول أبي طالب: أنه على ملة عبد المطلب، فقال النبي: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" . وتوفي أبو طالب فنزلت {كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:113].
وشذ ما روي عن مقاتل: أن آيتين من آخرها مكيتان، وهما {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة:112] إلى آخر السورة. وسيأتي ما روي أن قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} [التوبة:19]. الآية. نزل في العباس إذ أسر يوم بدر فعيره علي بن أبي طالب بالكفر وقطيعة الرحم، فقال: نحن نحجب الكعبة الخ.
وهذه السورة آخر السور نزولا عند الجميع، نزلت بعد سورة الفتح، في قول جابر بن زيد، فهي السورة الرابعة عشر بعد المائة في عداد نزول سور القرآن. وروي: أنها نزلت في أول شوال سنة تسع، وقيل آخر(1/415)
ذي القعدة سنة تسع، بعد خروج أبي بكر الصديق من المدينة للحجة التي أمره عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل: قبيل خروجه.
والجمهور على أنها نزلت دفعة واحدة، فتكون مثل سورة الأنعام بين السور الطوال.
وفسر كثير من المفسرين بعض آيات هذه السورة بما يقتضي أنها نزلت أوزاعا في أوقات متباعدة، كما سيأتي، ولعل مراد من قال إنها نزلت غير متفرقة: أنه يعني إنها لم يتخللها ابتداء نزول سورة أخرى.
والذي يغلب على الظن أن ثلاث عشرة آية من أولها إلى قوله تعالى: {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:13] نزلت متتابعة، كما سيأتي في خبر بعث علي بن أبي طالب ليؤذن بها في الموسم. وهذا ما اتفقت عليه الروايات. وقد قيل: إن ثلاثين آية منها، من أولها إلى قوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30] أذن بها يوم الموسم، وقيل: أربعين آية: من أولها إلى قوله: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِي الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40] أذن به في الموسم، كما سيأتي أيضا في مختلف الروايات، فالجمع بينها يغلب الظن بأن أربعين آية نزلت متتابعة، على أن نزول جميع السورة دفعة واحدة ليس ببعيد عن الصحة.
وعدد آيها، في عد أهل المدينة ومكة والشام والبصرة: مائة وثلاثون آية،وفي عدّ أهل الكوفة مائة وتسع وعشرون آية.
اتفقت الروايات على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قفل من غزوة تبوك، في رمضان سنة تسع، عقد العزم على أن يحج في شهر ذي الحجة من عامه ولكنه كره (عن اجتهاد أو بوحي من الله مخالطة المشركين في الحج معه، وسماع تلبيتهم التي تتضمن الإشراك، أي قولهم في التلبية "لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك". وطوافهم عراة، وكان بينه وبين المشركين عهد لم يزل عاملا لم ينقض- والمعنى أن مقام الرسالة يربأ عن أن يسمع منكرا من الكفر ولا يغيره بيده لأن ذلك أقوى الإيمان -. فأمسك عن الحج تلك السنة، وأمر أبا بكر الصديق على أن يحج بالمسلمين، وأمره أن يخبر المشركين بأن لا يحج بعد عامه ذلك مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، وأكثر الأقوال على أن براءة نزلت قبل خروج أبي بكر من المدينة، فكان ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صادرا عن وحي لقوله تعالى في هذه السورة {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} - إلى قوله- {أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [بالتوبة: 17, 18] - وقوله - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} الآية. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صالح قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض فدخلت خزاعة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودخل بنو بكر في عهد قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة بسبب دم كان لنبي بكر عند خزاعة قبل البعثة بمدة. واقتتلوا فكان ذلك نقضا للصلح. واستصرخت خزاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فوعدهم بالنصر وتجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفتح مكة ثم حنين ثم الطائف، وحج بالمسلمين(1/416)
تلك السنة سنة ثمان عتاب بن أسيد، ثم كانت غزوة تبوك في رجب سنة تسع فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . من تبوك أمر أبا بكر الصديق على الحج وبعث معه بأربعين آية من صدر سورة براءة ليقرأها على الناس ثم أردفه بعلي بن أبي طالب ليقرأ على الناس ذلك.
وقد يقع خلط في الأخبار بين قضية بعث أبي بكر الصديق ليحج بالمسلمين عوضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين قضية بعث علي بن أبي طالب ليؤذن في الناس بسورة براءة في تلك الحجة اشتبه به الغرضان على من أراد أن يتلبس وعلى من لبس عليه الأمر فأردنا إيقاظ البصائر لذلك. فهذا سبب نزولها، وذكره أول أغراضها.
فافتتحت السورة بتحديد مدة العهود التي بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين وما يتبع ذلك من حالة حرب وأمن وفي خلال مدة الحرب مدة تمكينهم من تلقي دعوة الدين وسماع القرآن.
وأتبع بأحكام الوفاء والنكث وموالاتهم.
ومنع المشركين من دخول المسجد الحرام وحضور مناسك الحج.
وإبطال مناصب الجاهلية التي كانوا يعتزون بأنهم أهلها.
وإعلان حالة الحرب بين المسلمين وبينهم.
وإعلان الحرب على أهل الكتاب من العرب حتى يعطوا الجزية، وأنهم ليسوا بعيدا من أهل الشرك وأن الجميع لا تنفعهم قوتهم ولا أموالهم.
وحرمة الأشهر الحرام.
وضبط السنة الشرعية وإبطال النسيء الذي كان عند الجاهلية.
وتحريض المسلمين على المبادرة بالإجابة إلى النفير للقتال في سبيل الله ونصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الله ناصر نبيه وناصر الذين ينصرونه. وتذكيرهم بنصر الله رسوله يوم حنين، وبنصره إذ أنجاه من كيد المشركين بما هيأ له من الهجرة إلى المدينة. والإشارة إلى التجهيز بغزوة تبوك.
وذم المنافقين المتثاقلين والمعتذرين والمستأذنين في التخلف بلا عذر. وصفات أهل النفاق من جبن وبخل وحرص على أخذ الصدقات مع أنهم ليسوا بمستحقيها.
وذكر أذاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقول. وأيمانهم الكاذبة وأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف وكذبهم في عهودهم وسخريتهم بضعفاء المؤمنين.
والأمر بضرب الجزية على أهل الكتاب. ومذمة ما أدخله الأحبار والرهبان في دينهم من العقائد الباطلة، ومن التكالب على الأموال.
وأمر الله بجهاد الكفار والمنافقين.(1/417)
ونهي المؤمنين عن الاستعانة بهم في جهادهم والاستغفار لهم.
ونهي نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على موتاهم.
وضرب المثل بالأمم الماضية.
وذكر الذين اتخذوا مسجد الضرار عن سوء نية، وفضل مسجد قباء ومسجد الرسول بالمدينة.
وانتقل إلى وصف حالة الأعراب من محسنهم ومسيئهم ومهاجرهم ومتخلفهم. وقوبلت صفات أهل الكفر والنفاق بأضدادها صفات المسلمين وذكر ما أعد لهم من الخير.
وذكر في خلال ذلك فضل أبي بكر. وفضل المهاجرين والأنصار.
والتحريض على الصدقة والتوبة والعمل الصالح.
والجهاد وأنه فرض على الكفاية. والتذكير بنصر الله المؤمنين يوم حنين بعد يأسهم.
والتنويه بغزوة تبوك وجيشها.
والذين تاب الله عليهم من المتخلفين عنها.
والامتنان على المسلمين بأن أرسل فيهم رسولا منهم جبله على صفات فيها كل خير لهم.
وشرع الزكاة ومصارفها والأمر بالفقه في الدين ونشر دعوة الدين. اعلم أنه قد ترك الصحابة الذين كتبوا المصحف كتابة البسملة قبل سورة براءة كما نبهت عليه عند الكلام على سورة الفاتحة. فجعلوا سورة براءة عقب سورة الأنفال بدون بسملة بينهما، وتردد العلماء في توجيه ذلك. وأوضح الأقوال ما رواه الترمذي والنسائي، عن ابن عباس، قال: قلت لعثمان: "ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمان الرحيم. فقال عثمان: إن رسول الله كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول ضعوا هذه في السورة التي فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وبراءة من آخر القرآن وكانت قصتها شبيها بقصتها وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمان الرحيم".
ونشأ من هذا قول آخر: وهو أن كتبة المصاحف في زمن عثمان اختلفوا في الأنفال. وبراءة، هل هما سورة واحدة أو هما سورتان، فتركوا فرجة فصلا بينهما مراعاة لقول من عدهما سورتين، ولم يكتبوا البسملة بينهما مراعاة لقول من جعلهما سورة واحدة، وروى أبو الشيخ، عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب: أنهم إنما تركوا البسملة في أولها، لأن البسملة أمان وبشارة، وسورة براءة نزلت بنبذ العهود والسيف، فلذلك لم تبدأ بشعار الأمان، وهذا إنما يجري على قول من يجعلون البسملة آية من أول كل سورة عدا سورة براءة، ففي هذا رعي لبلاغة مقام الخطاب كما أن الخاطب المغضب يبدأ خطبته بأما بعد(1/418)
دون استفتاح. وشأن العرب وإذا كان بينهم عهد فأرادوا نقضه، كتبوا إلى القوم الذين ينبذون إليهم بالعهد كتابا ولم يفتتحوه بكلمة "باسمك اللهم" فلما نزلت براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين بعث عليا إلى الموسم فقرأ صدر براءة ولم يبسمل جريا على عادتهم في رسائل نقض العهود. وقال ابن العربي في "الأحكام": قال مالك فيما روى عنه ابن وهب، وابن القاسم، وابن عبد الحكم: إنه لما سقط أولها، أي سورة براءة سقط بسم الله الرحمان الرحيم معه. ويفسر كلامه ما قاله ابن عطية: روي عن مالك أنه قال: بلغنا أن سورة براءة كانت نحو سورة البقرة ثم نسخ ورفع كثير منها وفيه البسملة فلم يروا بعد أن يضعوه في غير موضعه. وما نسبه ابن عطية إلى مالك عزاه ابن العربي إلى ابن عجلان فلعل في "نسخة تفسير ابن عطية" نقصا.
والذي وقفنا عليه من كلام مالك في ترك البسملة من سورة الأنفال وسورة براءة: هو ما في سماع ابن القاسم في أوائل كتاب الجامع الأول من "العتبية" "قال مالك في أول براءة إنما ترك من مضى أن يكتبوا في أول براءة بسم الله الرحمان الرحيم، كأنه رآه من وجه الاتباع في ذلك، كانت في آخر ما نزل من القرآن. وساق حديث ابن شهاب في سبب كتابة المصحف في زمن أبي بكر وكيف أخذ عثمان الصحف من حفصة أم المؤمنين وأرجعها إليها. قال ابن رشد في "البيان والتحصيل" "ما تأوله مالك من أنه إنما ترك من مضى أن يكتبوا في أول براءة بسم الله الرحمان الرحيم من وجه الاتباع، المعنى فيه والله أعلم أنه إنما ترك عثمان بن عفان ومن كان بحضرته من الصحابة المجتمعين على جمع القرآن البسملة بين سورة الأنفال وبراءة، وإن كانتا سورتين بدليل أن براءة كانت آخر ما أنزل الله من القرآن، وأن الأنفال أنزلت في بدر سنة أربع، اتباعا لما وجدوه في الصحف التي جمعت على عهد أبي بكر وكانت عند حفصة". ولم يذكر ابن رشد عن مالك قولا غير هذا. (1)
تمهيد بين يدي تفسير سورة التوبة
نقصد بهذا التمهيد - كما سبق أن بينا في تفسير السور السابقة - إعطاء القارئ صورة واضحة عن السورة التي سنفسرها قبل أن نبدأ في تفسيرها آية آية. فنقول :
1 - سورة التوبة هي السورة التاسعة في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها سور الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال.
2 - وعدد آياتها مائة وتسعة وعشرون آية عند الكوفيين. ومائة وثلاثون آية عند جمهور العلماء.
3 - أسماؤها :
__________
(1) - التحرير والتنوير لابن عاشور - (10 / 5)(1/419)
عرفت هذه السورة منذ العهد النبوي بجملة من الأسماء منها :
(ا) التوبة : وسميت بهذا الاسم لتكرار الحديث فيها عن التوبة والتائبين ومن ذلك قوله - تعالى - : فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ... .
وقوله - تعالى - : فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ .
وقوله - تعالى - : ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
وقوله - تعالى - : وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ... .
وقوله - تعالى - : وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ... .
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تكررت في هذه السورة عن التوبة والتائبين.
(ب) براءة : وسميت بذلك لافتتاحها بقوله - سبحانه - : بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ....
وهذان الاسمان - التوبة وبراءة - هما أشهر أسماء هذه السورة الكريمة.
(ج) الفاضحة : وسميت بهذا الاسم لحديثها المستفيض عن المنافقين وصفاتهم وأحوالهم .. وفضيحتهم على رءوس الأشهاد.
أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة التوبة قال : التوبة هي الفاضحة. ما زالت تنزل : ومنهم ومنهم ، حتى ظنوا أنها لن تبقى أحدا منهم إلا ذكر فيها .
(د) المنقرة : وسميت بذلك ، لأنها نقرت عما في قلوب المنافقين والمشركين فكشفت عنه ، وأظهرته للناس.
(ه) المثيرة : وسميت بهذا الاسم ، لأنها أثارت مثالبهم وعوراتهم. أى : أخرجتها من الخفاء إلى الظهور.
(و) المبعثرة : لأنها بعثرت أسرارهم. أى بينتها وعرفتها للمؤمنين.
(ز) المدمرة : أى المهلكة لهم.
إلى غير ذلك من الأسماء التي اشتهرت بها هذه السورة الكريمة .
هذا ، وليس في سور القرآن الكريم أكثر أسماء منها ومن سورة الفاتحة.
4 - زمان ومكان نزولها :
قال ابن كثير : هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كما قال البخاري ... » .(1/420)
وقال صاحب المنار : هي مدنية بالاتفاق. وقيل : إلا قوله - تعالى - ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى ... الآية وذلك لما روى في الحديث المتفق عليه من نزولها في النهى عن استغفاره - صلى الله عليه وسلم - لعمه أبى طالب - كما سيأتى تفصيله عند تفسيرها.
ويجاب عنه بجواز أن يكون نزولها تأخر عن ذلك ، وبما يقوله العلماء في مثل هذا المقام من جواز نزول الآية مرتين : مرة منفردة ومرة في أثناء السورة.
واستثنى ابن الفرس قوله - تعالى - لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... إلى آخر الآيتين اللتين في آخرها فزعموا أنهما مكيتان.
ويرده ما رواه الحاكم وأبو الشيخ في تفسيره عن ابن عباس من أن هاتين الآيتين من آخر ما نزل من القرآن ، كما يرده أيضا قول الكثيرين من أن هذه السورة نزلت تامة.
وما يعارض هذا مما ورد في أسباب نزول بعض الآيات ، يجاب عنه بأن أكثر ما روى في أسباب النزول ، كان يراد به أن الآية نزلت في حكم كذا. أعنى أن الرواة كانوا يذكرونها كثيرا في مقام الاستدلال. وهذا لا يدل على نزولها وحدها ، ولا على كون النزول كان عند حدوث ما استدل بها عليه ، كما قلنا آنفا في احتمال نزول آية استنكار الاستغفار للمشركين في المدينة ، وإن كان ما ذكروه من سببها حدث بمكة قبل الهجرة ».
وقال بعض العلماء : ومن مراجعة نصوص السورة مراجعة موضوعية ، ومراجعة ما جاء في الروايات المأثورة عن أسباب النزول وملابساته ، ومراجعة أحداث السيرة النبوية كذلك ..
يتبين أن السورة بجملتها نزلت في العام التاسع من الهجرة. ولكنها لم تنزل دفعة واحدة.
ومع أننا لا نملك الجزم بالمواقيت الدقيقة التي نزلت فيها مقاطع السورة في خلال العام التاسع ، إلا أنه يمكن الترجيح بأنها نزلت في ثلاث مراحل :
المرحلة الأولى منها : كانت قبل غزوة تبوك في شهر رجب من هذا العام.
والمرحلة الثانية : كانت في أثناء الاستعداد لهذه الغزوة ثم في ثناياها.
والمرحلة الثالثة : كانت بعد العودة منها.
أما مقدمات السورة من أولها إلى نهاية الآية الثامنة والعشرين منها ، فقد نزلت متأخرة في نهاية السنة التاسعة قبيل موسم الحج من ذي القعدة أو في ذي الحجة.
وهذا - على الإجمال - هو كل ما يمكن ترجيحه والاطمئنان إليه .(1/421)
والذي نراه أن هذا القول هو الذي تسكن إليه النفس في الحديث عن زمان ومكان نزول السورة الكريمة لأن الذي يستعرض آياتها يراها - في مجموعها - ترسم للمؤمنين ما يجب أن تكون عليه علاقاتهم مع المشركين ، ومع أهل الكتاب ومع المنافقين ومع غيرهم من الطوائف.
كما يراها ترسم لهم الطريق الذي يجب عليهم أن يتخذوه أساسا لدولتهم. ومنهاجا لحياتهم ، حتى تستمر عزتهم ، وتبقى كلمتهم عالية قوية بعد أن فتح اللّه لهم مكة وأذل الشرك وأهله.
كما يراها - أيضا - تتحدث باستفاضة عن أحداث قد وقعت خلال غزوة تبوك أو قبلها أو بعدها. وغزوة تبوك قد كانت في السنة التاسعة من الهجرة.
5 - لما ذا لم تذكر البسملة في أول سورة التوبة؟.
للإجابة على هذا السؤال ذكر العلماء أقوالا متعددة لخصها القرطبي تلخيصا حسنا فقال :
واختلف العلماء في سبب سقوط البسملة من أول هذه السورة على أقوال خمسة :
الأول : - أنه قيل كان من شأن العرب في زمانها في الجاهلية ، إذا كان بينهم وبين قوم عهد وأرادوا نقضه ، كتبوا إليهم كتابا ولم يكتبوا فيه بسملة فلما نزلت سورة براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - والمشركين ، بعث بها النبي - صلى الله عليه وسلم - على بن أبى طالب فقرأها عليهم في الموسم ، ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادتهم في نقض العهود من ترك البسملة.
وقول ثان : - روى النسائي قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا محمد بن المثنى عن يحيى بن سعيد قال : حدثنا عوف ، قال : حدثنا يزيد الرقاشي - وفي صحيح الترمذي يزيد الفارسي - قال : قال لنا ابن عباس : قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى « الأنفال » وهي من المثاني ، وإلى « براءة » وهي من المئين فقرنتم بينهما ، ولم تكتبوا سطر بسم اللّه الرحمن الرحيم ، ووضعتموها في السبع الطوال فما حملكم على ذلك؟
قال عثمان : إن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول : « ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا » وكانت « الأنفال » من أوائل ما أنزل - أى بعد الهجرة ، و« براءة » من آخر القرآن نزولا ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها. وقبض رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها ، فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم اللّه الرحمن الرحيم.
وقول ثالث : روى عن عثمان أيضا. وقال مالك فيما رواه ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم : إنه لما سقط أولها سقط بسم اللّه الرحمن الرّحيم معه.
وروى ذلك عن ابن عجلان أنه بلغه أن سورة « براءة » كانت تعدل البقرة أو قربها فذهب منها : فلذلك لم يكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم.(1/422)
وقال سعيد بن جبير : كانت مثل سورة البقرة.
وقول رابع : - قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما. قالوا : لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلف أصحاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم : براءة والأنفال سورة واحدة ، وقال بعضهم : هما سورتان ، فتركت بينهما فرجة لقول من قال إنهما سورتان وتركت بسم اللّه الرحمن الرحيم لقول من قال هما سورة واحدة ، فرضي الفريقان معا ، وثبت حجتاهما في المصحف.
وقول خامس : قال عبد اللّه بن عباس : سألت على بن أبى طالب لما ذا لم يكتب في براءة بسم اللّه الرّحمن الرحيم؟ قال : لأن بسم اللّه الرحمن الرحيم أمان ، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان.
- وكذا قال المبرد : إن التسمية افتتاح للخير ، وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود ، فلذلك لم تفتتح بالتسمية.
ثم قال القرطبي والصحيح أن التسمية لم تكتب ، لأن جبريل - عليه السلام - ما نزل بها في هذه السورة .. » .
هذا ، وقول القرطبي : والصحيح أن التسمية لم تكتب ... إلخ ، هو القول الذي نعتمده ، وتطمئن إليه قلوبنا ، وقد رجحه المحققون من العلماء.
فقد قال الفخر الرازي - وقد ذكر ستة أوجه في سبب إسقاط التسمية من أولها - :
الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع هذه السورة بعد سورة الأنفال وحيا ، وأنه حذف بسم اللّه الرحمن الرحيم من أول هذه السورة وحيا .
وقال الجلال : ولم تكتب فيها البسملة لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بذلك ، كما يؤكد من حديث رواه الحاكم.
أى أنه - كما يقول الجمل - لا مدخل لرأى أحد في الإثبات والترك ، وإنما المتبع في ذلك هو الوحى والتوقيف وحيث لم يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك تعين ترك التسمية ، لأن عدم البيان من الشارع في موضع البيان بيان للعدم » .
وقال بعض العلماء : ولم تكتب في أولها البسملة لعدم أمره - صلى الله عليه وسلم - بكتابتها ، إذ لم ينزل بها جبريل - عليه السلام - والأصل في ذلك التوقيف ».
أما الأقوال الخمسة التي نقلناها عن القرطبي - منذ قليل - في سبب سقوط البسملة من أول سورة التوبة ، فإننا لا نرى واحدا منها يعتمد عليه في هذا الأمر. لأن القول الأول الذي حكاه بقوله : قيل كان من شأن العرب ... إلخ. إنما هو تعليل عقلي على سبيل الاجتهاد لبيان الحكمة في عدم كتابة البسملة في أولها. ومثل هذا التعليل يقال في القول الخامس الذي حكاه ابن عباس ، عن على بن أبى طالب.(1/423)
وأما القول الثاني - وهو الحديث الذي رواه النسائي والترمذي - فقد علق عليه أحد العلماء المحققين بقوله : « في إسناده نظر كثير ، بل هو عندي ضعيف جدا ، بل هو حديث لا أصل له. يدور إسناده في كل رواياته على « يزيد الفارسي » .. ويزيد الفارسي هذا اختلف فيه : أهو يزيد بن هرمز أم غيره.
قال البخاري في التاريخ الكبير : « قال لي على : قال عبد الرحمن : يزيد الفارسي هو ابن هرمز. قال : فذكرته ليحيى فلم يعرفه ، قال : « وكان يكون مع الأمراء ». وفي التهذيب :
« قال ابن أبى حاتم : اختلفوا هل هو يعنى ابن هرمز يزيد الفارسي أو غيره ...
فهذا يزيد الفارسي الذي انفرد برواية هذا الحديث يكاد يكون مجهولا ، حتى شبه على مثل ابن مهدى وأحمد والبخاري أن يكون هو ابن هرمز أو غيره.
ويذكره البخاري في الضعفاء ، فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به ، وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي ، قراءة وسماعا وكتابة في المصاحف. وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور ، كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه ، وحاشاه من ذلك.
فلا علينا إذا قلنا إنه « حديث لا أصل له » تطبيقا للقواعد الصحيحة التي لا خلاف فيها بين أئمة الحديث.
قال السيوطي في تدريب الراوي في الكلام على أمارات الحديث الموضوع : أن « يكون منافيا لدلالة الكتاب القطعية ، أو السنة المتواترة ، أو الإجماع القطعي » ... .
وأما القول الثالث الذي يقول « إنه لما سقط أولها سقط معه بسم اللّه الرحمن الرحيم ... »
فهو قول ساقط لا يعتد به ، لأنه لا دليل عليه ولا سند له ، ويؤدى الالتفات إليه إلى المساس بقداسة القرآن الكريم ، حيث إن بعض سوره كانت طويلة ثم سقط منها ما سقط.
وأما القول الرابع الذي يزعم قائلوه أن بعض الصحابة قال : « براءة والأنفال سورة واحدة ... » فهو قول ضعيف ولا يعتد به - أيضا - كسابقه ، لأنه قد عرف واشتهر بأنهما سورتان مستقلتان منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا.
ولأن الذي يقرأ السورتين بإمعان وتدبر ، يرى أن لكل منهما موضوعاتها الخاصة بها ، والتي اهتمت بها أكثر من غيرها ، فسورة الأنفال تحدثت باستفاضة عن غزوة بدر وما يتعلق بها ..
بينما سورة التوبة قد تحدثت باستفاضة عن غزوة تبوك أى في السنة التاسعة.
قال الحاكم : استفاض النقل أنهما سورتان.
وقال أبو السعود : اشتهارها - أى سورة التوبة - بهذه الأسماء المتقدمة - براءة والفاضحة ... إلخ - يقضى بأنها سورة مستقلة ، وليست بعضا من سورة الأنفال ... » :(1/424)
وقال بعض العلماء : وهذه الأسماء وغيرها مما ثبت إطلاقه على السورة - أى سورة التوبة - من الصدر الأول ، لم يعرف إطلاق واحد منها على السورة التي قبلها وهي سورة الأنفال ، كما لم يعرف أنه أطلق اسم سورة الأنفال على هذه السورة. وبذلك احتفظت كل من السورتين منذ العهد الأول بما لها من اسم لم تشاركها فيه صاحبتها.
وكما احتفظت كل من السورتين بما لها من اسم ، احتفظت كل منهما بوقت نزولها ، فسورة الأنفال نزلت بعد غزوة بدر. أى : في السنة الثانية من الهجرة. وسورة التوبة نزلت بعد غزوة تبوك ، وبعد خروج أبى بكر على رأس المسلمين إلى الحج. أى : في أواخر السنة التاسعة.
وكما احتفظت كل منهما بهذا وذاك ، احتفظت كل منهما - أيضا - بهدفها الخاص.
فسورة التوبة عالجت شئونا حدثت بعد زمن طويل من نزول سورة الأنفال ، ومعرفتها باسم سورة الأنفال. وسورة الأنفال عالجت شئونا حدثت قبل نزول سورة التوبة ولم يرد لها ذكر فيها.
ولا شك أن كل هذه الاعتبارات الواضحة المبينة والمحققة في السورتين من الصدر الأول ، تدل دلالة واضحة على أنهما سورتان منفصلتان ، وأن عدهما سورة واحدة رأى لا قيمة له ، كما لا قيمة للاشتباه في استقلال كل منهما حتى يقال : تركت البسملة بينهما نظرا لاحتمال وحدتهما ، وتركت بينهما فرجة نظرا لاحتمال انفصالهما.
وقد عرف مع ترك التسمية بينهما أنهما سورتان مستقلتان من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا.
وقد جاءتا كذلك في المصاحف الأولى : مصحف عثمان ، وعلى ، وابن عباس ، فلا معنى بعد هذا كله لإثارة شبهة قد تمس من قرب أو بعد قداسة تنظيم كتاب اللّه وترتيبه بناء على روايات ضعيفة أو موضوعة .
والخلاصة أن القول بأنهما سورة واحدة ، قول لا وزن له ، ولا يعول عليه للأسباب التي ذكرناها آنفا.
6 - مناسبتها لسورة الأنفال :
قال الآلوسى : ووجه مناسبتها للأنفال أن في الأولى قسمة الغنائم وجعل خمسها لخمسة أصناف على ما علمت ، وفي هذه قسمة الصدقات وجعلها لثمانية أصناف على ما ستعلم إن شاء اللّه.
وفي الأولى - أيضا - ذكر العهود وهنا نبذها. وأنه - سبحانه - أمر في الأولى بالإعداد فقال : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ونعى هنا على المنافقين عدم الإعداد بقوله : وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً.
وأنه - سبحانه - ختم الأولى بإيجاب أن يوالى المؤمنون بعضهم بعضا وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية ، وصرح - جل شأنه - في هذه بهذا المعنى فقال : بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ...(1/425)
إلى غير ذلك من وجوه المناسبة .
وقال صاحب المنار : وأما التناسب بينها وبين ما قبلها فإنه أظهر من التناسب بين سائر السور بعضها مع بعض ، فهي - أى التوبة - كالمتممة لسورة الأنفال في معظم ما فيهما من أصول الدين وفروعه والسنن الإلهية والتشريع وأحكام المعاهدات .. فما بدئ به في الأولى أتم في الثانية ، مثال ذلك.
1 - أن العهود ذكرت في سورة الأنفال ، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها ، ولا سيما نبذها الذي قيد في الأولى بخوف خيانة الأعداء.
2 - تفصيل الكلام في قتال المشركين وأهل الكتاب في كل منهما.
3 - ذكر في الأولى صد المشركين عن المسجد الحرام وأنهم ليسوا بأوليائه ، وجاء في الثانية ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ ....
4 - ذكر في أول الأولى صفات المؤمنين الكاملين ، وذكر بعد ذلك بعض صفات الكافرين ، ثم ذكر في آخرها حكم الولاية بين كل من الفريقين. وجاء في الثانية مثل هذا في مواضع أيضا .
والحق أن الذي يقرأ السورتين بتأمل وتدبر يراهما تعطيانه ما يشبه أن يكون صورة تاريخية مجملة لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وجهاده إلى أن أتم اللّه له نعمة النصر.
فمثلا عند ما نقرأ سورة الأنفال نراها تتحدث عن حالة المسلمين قبل الهجرة كما في قوله - تعالى - وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ... الآية 26.
كما تتحدث عن المكر السيئ الذي صدر عن المشركين والذي كان من أسباب الهجرة ، كما في قوله - تعالى - وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ الآية 30.
ثم نراها تفيض في الحديث عن غزوة بدر ، وتشير إلى ما ظهر من المنافقين فيها إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ. الآية 49. وإلى ما حدث من اليهود من نقض للعهود وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ الآية 58.
أما سورة التوبة فنراها تذكر المسلمين بالنصر الذي منحه اللّه لهم في مواطن كثيرة قال - تعالى - لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ... « الآية 25 » كما تصف بالتفصيل مواقف المنافقين في غزوة تبوك وغيرها.
ولعل قيام السورتين الكريمتين بإعطاء القارئ ما يشبه أن يكون صورة تاريخية مجملة للدعوة الإسلامية هو الحكمة في وضعهما مقترنتين وفي تسميتهما بالقرينتين.(1/426)
قال القرطبي : كانتا تدعيان القرينتين فوجب أن تجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى للوصف الذي لزمهما من الاقتران ورسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حي..
7 - المقاصد الإجمالية لسورة التوبة :
عند ما نقرأ سورة التوبة بتأمل وتدبر نراها في مطلعها تحدد تحديدا حاسما المنهاج الذي يجب أن يسلكه المؤمنون في علاقتهم مع المشركين ، وتبين بوضوح وجلاء الأسباب التي تدعو المؤمنين إلى التزام هذا المنهاج.
فهي في أولها تعلن براءة اللّه ورسوله من المشركين بسبب خيانتهم ، وتمنحهم الأمان لمدة أربعة أشهر لكي يدبروا فيها أمر أنفسهم ، وتعلن للناس عامة يوم الحج الأكبر أن اللّه ورسوله قد برئا من عهود المشركين ، وأنها قد نبذت إليهم ، وتستثني من هؤلاء المشركين أولئك الذين لم ينقضوا ، فتأمر المؤمنين بأن يتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ، فإذا ما انتهت مدة الأمان فعلى المؤمنين أن يقتلوا المشركين الناكثين حيث وجدوهم ، وأن يؤمنوا من يطلب الأمان منهم حتى يسمع القرآن ويتدبره ، ويطلع على حقيقة الإسلام. وبذلك لا يبقى له عذر.
استمع إلى السورة الكريمة وهي تصور كل هذه المعاني بأسلوبها البليغ الحاسم فتقول :
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
ثم تسوق السورة بعد ذلك الأسباب التي دعت إلى البراءة من المشركين. والتي أوجبت على المؤمنين قتالهم ، وحرضتهم على ذلك بأنواع من المشجعات فقالت : أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
ثم توجه السورة الكريمة خطابها إلى الذين شق عليهم القتال من المؤمنين ، وتبين أن الحكمة في الأمر به ، إنما هي الامتحان والتمحيص فتقول : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ ، وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ.
ثم تصرح السورة الكريمة بعد ذلك بأن المؤمنين وحدهم هم الذين من حقهم أن يعمروا مساجد اللّه ... أما المشركون فليس من حقهم ذلك بسبب كفرهم ونجاستهم.قال تعالى : ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا(1/427)
مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ.
فإذا ما وصلنا إلى الرابع الثاني من سورة التوبة رأيناها في أوائله توجه إلى المؤمنين نداء تأمرهم فيه أن يؤثروا محبة اللّه ورسوله على محبة الآباء والأبناء والأموال .. وتهدد من يخالف ذلك فتقول : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ، وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ ، فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ.
ثم أخذت السورة الكريمة في تذكير المؤمنين بألوان من نعم اللّه عليهم ، حيث نصرهم.
سبحانه : على أعدائهم في مواطن كثيرة ، وحيث أيدهم بعونه بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.قال تعالى : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً ، وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها ، وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ.
ثم وجهت إليهم نداء ثانيا نهتهم فيه عن تمكين المشركين من قربان المسجد الحرام ، وبشرتهم بأن اللّه - تعالى - سيغنيهم من فضله متى تابوا إليه وأطاعوه.قال تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (الآية 28).
وإلى هنا نرى السورة الكريمة قد حددت تحديدا حاسما المنهاج الذي يجب أن يسلكه المؤمنون في علاقاتهم مع المشركين ، وأبرزت بصورة واضحة ومقنعة الأسباب المتنوعة التي أوجبت سلوك هذا المنهاج.
وتلك عادة القرآن الكريم في تشريعاته ، لا تكاد تجد تشريعا من تشريعاته إلا وقد صاحبته الحكمة التي كان لأجلها هذا التشريع ، والتي من شأنها أن تدفع الناس إلى المسارعة في التنفيذ والامتثال.
ثم بدأت السورة بعد ذلك في تحديد المنهاج الذي يجب أن يسلكه المؤمنون في علاقاتهم مع المنحرفين من أهل الكتاب ، وأبرزت ، أيضا : الأسباب التي تدعو إلى التزام هذا المنهاج ، فأمرت باستمرار قتالهم ، وذكرت ما هم عليه من صفات سيئة تحمل المؤمنين على تأديبهم ، وأرشدت إلى ما كان عليه رؤساؤهم من أكل لأموال الناس بالباطل ، ومن صد عن سبيل اللّه ، استمع إلى الآيات الكريمة وهي تحكى كل ذلك فتقول : قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا(1/428)
يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ، ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ
.
ثم وجهت السورة نداء رابعا إلى المؤمنين ، نعت فيه على المتثاقلين الذين دعوا إلى الجهاد فتكاسلوا عنه .. وحذرتهم من سوء عاقبة هذا التكاسل وذكرتهم بما كان من نصر اللّه - تعالى لنبيه وقت أن أحاط به المشركون وهو في الغار ، وأمرتهم بالخروج للجهاد في حالتي اليسر والعسر والمنشط والمكره.قال تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ، أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ، فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وبعد هذه الدعوة الحارة للمؤمنين إلى الجهاد في سبيل اللّه بالنفس والأموال بدأت السورة الكريمة في الحديث عن المنافقين ، فكشفت عن أصنافهم وأوصافهم ، ورسمت أحوالهم النفسية والعملية ، وفضحت مواقفهم في غزوة تبوك وما كان منهم قبلها وبعدها وأثناءها ، وأظهرت حقيقة نواياهم وحيلهم ومعاذيرهم عن القتال ، وأزاحت الستار عن أساليب نفاقهم وألوان فتنهم وتخذيلهم للمؤمنين ، وحكت ما كانوا ينطقون به من سوء في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي حق أصحابه.
وقد استغرق الحديث عن المنافقين زهاء نصف سورة التوبة - أى من أواخر الربع الثالث منها إلى نهاية الربع السابع.
وقد تركتهم السورة الكريمة - بعد هذا الكشف السافر لأحوالهم : عراة من الخير أمام المؤمنين ، منبوذين من جماعة المسلمين ، مميزين بصفاتهم القبيحة التي فصلها القرآن تفصيلا يجعل العقلاء يعرفونهم ويحذرونهم.
فمن صفاتهم الذميمة ومسالكهم الخبيثة التي تحدثت السورة عنها :
(أ) الفرار من مواطن الجد والجهاد ، والتعلل بالأعذار الكاذبة ، والتستر بالأيمان الفاجرة ، وقد حكت السورة عنهم ذلك في مواضع كثيرة منها.قال تعالى : لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ، وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ :(1/429)