ثم توالت هذه السرايا ، على رأس تسعة أشهر . ثم على رأس ثلاثة عشر شهراً . ثم على رأس ستة عشر شهراً . ثم كانت سرية عبد الله بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهراً ، وهي أول غزاة وقع فيها قتل وقتال ، وكان ذلك في الشهر الحَرام ، والتي نزلت فيها آيات البقرة : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا .. } [ البقرة : 217 ] .
ثم كانت غزوة بدر الكبرى في رمضان من هذه السنة .. وهي التي نزلت فيها سورة الأنفال .
ورؤية الموقف من خلال ملابسات الواقع ، لا تدع مجالاً للقول بأن " الدفاع " بمفهومه الضيق كان هو قاعدة الحركة الإسلامية ، كما يقول المهزومون أمام الواقع الحاضر ، وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر !
إن الذين يلجأون إلى تلمس أسباب دفاعية بحتة لحركة المد الإسلامي ، إنما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشراقية ، في وقت لم يعد للمسلمين شوكة ، بل لم يعد للمسلمين إسلام ! - إلا من عصم الله ممن يصرون على تحقيق إعلان الإسلام العام بتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان إلا من سلطان الله ، ليكون الدين كله لله - فيبحثون عن مبررات أدبية للجهاد في الإسلام !
والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبية له أكثر من المبررات التي حملتها النصوص القرآنية :
{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ، وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ، الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } .. [ النساء : 74 - 76 ]
{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [ الأنفال : 38 - 40 ]
{ قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ، اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } ... [ التوبة : 29 - 32 ] .
إنها مبررات تقرير ألوهية الله في الأرض ، وتحقيق منهجه في حياة الناس ، ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين ، وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس ، والناس عبيد لله وحده ، لا يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه ! وهذا يكفي .. مع تقرير مبدأ : " لا إكراه في الدين " .. أي لا إكراه على اعتناق العقيدة ، بعد الخروج من سلطان العبيد ، والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله ، أو أن الدين كله لله ، بهذا الاعتبار .
إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض . بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك .. وهذه وحدها تكفي .. لقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس الغزاة من المسلمين ، فلم يسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول : خرجنا ندافع عن وطننا المهدد ! أو خرجنا نصد عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين ! أو خرجنا نوسع رقعتنا ونستكثر من الغنيمة !
لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر . وحذيفة بن محصن والمغيرة بن شعبة جميعاً لرستم قائد جيش الفرس في القادسية ، وهو يسألهم واحداً بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية ، قبل المعركة : ما الذي جاء بكم ؟ فيكون الجواب : " الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . ومن ضيق الدنيا إلى سعتها . ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .. فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه ، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه ، وتركناه وأرضه . ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر " .(3/107)
إن هناك مبرراً ذاتياً في طبيعة هذا الدين ذاته ، وفي إعلانه العام ، وفي منهجه الواقعي لمقابلة الواقع البشري بوسائل مكافئة لكل جوانبه ، في مراحل محددة ، بوسائل متجددة .. وهذا المبرر الذاتي قائم ابتداء - ولو لم يوجد خطر الاعتداء على الأرض الإسلامية وعلى المسلمين فيها - إنه مبرر في طبيعة المنهج وواقعيته ، وطبيعة المعوقات الفعلية في المجتمعات البشرية .. لا من مجرد ملابسات دفاعية محدودة ، وموقوتة !
وإنه ليكفي لأن يخرج المسلم مجاهداً بنفسه وماله .. " في سبيل الله " .. في سبيل هذه القيم التي لا يناله هو من ورائها مغنم ذاتي ، ولا يخرجه لها مغنم ذاتي ..
إن المسلم قبل أن ينطلق للجهاد في المعركة يكون قد خاض معركة الجهاد الأكبر في نفسه مع الشيطان .. مع هواه وشهواته .. مع مطامعه ورغباته .. مع مصالحه ومصالح عشيرته وقومه .. مع كل شارة غير شارة الإسلام .. ومع كل دافع إلا العبودية لله ، وتحقيق سلطانه في الأرض وطرد سلطان الطواغيت المغتصبين لسلطان الله ..
والذين يبحثون عن مبررات للجهاد الإسلامي في حماية " الوطن الإسلامي " يغضون من شأن " المنهج " ويعتبرونه أقل من " الموطن " وهذه ليست نظرة الإسلام إلى هذه الاعتبارات . إنها نظرة مستحدثة غريبة على الحس الإسلامي ، فالعقيدة والمنهج الذي تتمثل فيه والمجتمع الذي يسود فيه هذا المنهج هي الاعتبارات الوحيدة في الحس الإسلامي . أما الأرض - بذاتها - فلا اعتبار لها ولا وزن ! وكل قيمة للأرض في التصور الإسلامي إنما هي مستمدة من سيادة منهج الله وسلطانه فيها ، وبهذا تكون محضن العقيدة وحقل المنهج و " دار الإسلام " ونقطة الانطلاق لتحرير " الإنسان " .
وحقيقة إن حماية " دار الإسلام " حماية للعقيدة والمنهج والمجتمع الذي يسود فيه المنهج . ولكنها ليست الهدف النهائي ، وليست حمايتها هي الغاية الأخيرة لحركة الجهاد الإسلامي ، إنما حمايتها هي الوسيلة لقيام مملكة الله فيها ، ثم لاتخاذها قاعدة انطلاق إلى الأرض كلها وإلى النوع الإنساني بجملته . فالنوع الإنساني هو موضوع هذا الدين والأرض هي مجاله الكبير !
وكما أسلفنا فإن الانطلاق بالمذهب الإلهي تقوم في وجهه عقبات مادية من سلطة الدولة ، ونظام المجتمع ، وأوضاع البيئة .. وهذه كلها هي التي ينطلق الإسلام ليحطمها بالقوة ، كي يخلو له وجه الأفراد من الناس ، يخاطب ضمائرهم وأفكارهم ، بعد أن يحررها من الأغلال المادية ، ويترك لها بعد ذلك حرية الاختيار .
يجب ألا تخدعنا أو تفزعنا حملات المستشرقين على مبدأ " الجهاد " وألا يثقل على عاتقنا ضغط الواقع وثقله في ميزان القوى العالمية ، فنروح نبحث للجهاد الإسلامي عن مبررات أدبية خارجة عن طبيعة هذا الدين ، في ملابسات دفاعية وقتية ، كان الجهاد سينطلق في طريقه سواء وجدت أم لم توجد !
ويجب ونحن نستعرض الواقع التاريخي ألا نغفل عن الاعتبارات الذاتية في طبيعة هذا الدين وإعلانه العام ومنهجه الواقعي ، وألا نخلط بينها وبين المقتضيات الدفاعية الوقتية ..
حقاً إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له ، لأن مجرد وجوده في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين ، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله ، وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية ، وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية ، لأن الحاكمية فيه لله وحده .. إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله - القائمة على قاعدة العبودية للعباد - أن تحاول سحقه ، دفاعاً عن وجودها ذاته ، ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفاع عن نفسه ..
هذه ملابسة لا بد منها ، تولد مع ميلاد الإسلام ذاته ، وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضاً ، ولا خيار له في خوضها ، وهذا صراع طبيعي بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلاً .. .
هذا كله حق .. ووفق هذه النظرة يكون لا بد للإسلام أن يدافع عن وجوده ، ولا بد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة عليه فرضاً ..
ولكن هناك حقيقة أخرى أشد أصالة من هذه الحقيقة .. إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرك إلى الأمام ابتداء . لإنقاذ " الإنسان " في " الأرض " من العبودية لغير الله ، ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية ، ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية ، تاركاً " الإنسان " .. نوع الإنسان .. في " الأرض " .. كل الأرض .. للشر والفساد والعبودية لغير الله .
إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه ألا تهاجم الإسلام ، إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية ، ورضى أن يدعها وشأنها ولم يمد إليها دعوته وإعلانه التحريري العام ! ولكن الإسلام لا يهادنها ، إلا أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية ، ضماناً لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها .
هذه طبيعة هذا الدين ، وهذه وظيفته ، بحكم أنه إعلان عام لربوبية الله للعالمين ، وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله في الناس أجمعين !
وفرق بين تصور الإسلام على هذه الطبيعة ، وتصوره قابعاً داخل حدود إقليمية أو عنصرية ، لا يحركه إلا خوف الاعتداء ! إنه في هذه الصورة الأخيرة يفقد مبرراته الذاتية في الانطلاق !(3/108)
إن مبررات الانطلاق الإسلامي تبرز بوضوح وعمق عند تذكر أن هذا الدين هو منهج الله للحياة البشرية ، وليس منهج إنسان ، ولا مذهب شيعة من الناس ، ولا نظام جنس من الأجناس ! .. ونحن لا نبحث عن مبررات خارجية إلا حين تفتر في حسنا هذه الحقيقة الهائلة .. حين ننسى أن القضية هي قضية ألوهية الله وعبودية العباد .. إنه لا يمكن أن يستحضر إنسان ما هذه الحقيقة الهائلة ثم يبحث عن مبرر آخر للجهاد الإسلامي !
والمسافة قد لا تبدو كبيرة عند مفرق الطريق ، بين تصور أن الإسلام كان مضطراً لخوض معركة لا اختيار له فيها ، بحكم وجوده الذاتي ووجود المجتمعات الجاهلية الأخرى التي لا بد أن تهاجمه ، وتصور أنه هو بذاته لا بد أن يتحرك ابتداء ، فيدخل في هذه المعركة ..
المسافة عند مفرق الطريق قد لا تبدو كبيرة ، فهو في كلتا الحالتين سيدخل المعركة حتماً ، ولكنها في نهاية الطريق تبدو هائلة شاسعة ، تغير المشاعر والمفهومات الإسلامية تغييراً كبيراً .. خطيراً .
إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام منهجاً إلهياً ، جاء ليقرر ألوهية الله في الأرض ، وعبودية البشر جميعاً لإله واحد ، ويصب هذا التقرير في قالب واقعي ، هو المجتمع الإنساني الذي يتحرر فيه الناس من العبودية للعباد ، بالعبودية لرب العباد ، فلا تحكمهم إلا شريعة الله ، التي يتمثل فيها سلطان الله ، أو بتعبير آخر تتمثل فيها ألوهيته .. فمن حقه إذن أن يزيل العقبات كلها من طريقه ، ليخاطب وجدان الأفراد وعقولهم دون حواجز ولا موانع مصطنعة من نظام الدولة السياسي ، أو أوضاع الناس الاجتماعية .. إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام على هذا النحو ، واعتباره نظاماً محلياً في وطن بعينه فمن حقه فقط أن يدفع الهجوم عليه في داخل حدوده الإقليمية !
هذا تصور .. وذاك تصور .. ولو أن الإسلام في كلتا الحالتين سيجاهد .. ولكن التصور الكلي لبواعث هذا الجهاد وأهدافه ونتائجه ، يختلف اختلافاً بعيداً ، يدخل في صميم الاعتقاد كما يدخل في صميم الخطة والاتجاه .
إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء . فالإسلام ليس نحلة قوم ، ولا نظام وطن ، ولكنه منهج إله ، ونظام عالم .. ومن حقه أن يتحرك ليحطم الحواجز من الأنظمة والأوضاع التي تغل من حرية " الإنسان " في الاختيار . وحسبه أنه لا يهاجم الأفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته ، إنما يهاجم الأنظمة والأوضاع ليحرر الأفراد من التأثيرات الفاسدة ، المفسدة للفطرة ، المقيدة لحرية الاختيار .
من حق الإسلام أن يُخرج " الناس "من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده .. ليحقق إعلانه العام بربوبية الله للعالمين ، وتحرير الناس أجمعين .. وعبادة الله وحده لا تتحقق - في التصور الإسلامي وفي الواقع العملي - إلا في ظل النظام الإسلامي ، فهو وحده النظام الذي يشرع الله فيه للعباد كلهم ، حاكمهم ومحكومهم ، أسودهم وأبيضهم ، قاصيهم ودانيهم ، فقيرهم وغنيهم ، تشريعاً واحداً يخضع له الجميع على السواء .. أما في سائر الأنظمة ، فيعبد الناس العباد ، لأنهم يتلقون التشريع لحياتهم من العباد . وهو من خصائص الألوهية ، فأيما بشر ادعى لنفسه سلطان التشريع للناس من عند نفسه ، فقد ادّعى الألوهية اختصاصاً وعملاً ، سواء ادَّعاها قولاً أم لم يعلن هذا الادعاء . وأيما بشر آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف له بحق الألوهية ، سواء سماها باسمها أم لم يسمها !
والإسلام ليس مجرد عقيدة ، حتى يقنع بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة البيان . إنما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس ، والتجمعات الأخرى لا تمكِّنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو ، ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرير العام ، وهذا - كما قلنا من قبل - معنى أن يكون الدين كله لله ، فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته . كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقم على عبودية العباد للعباد !
إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر ، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة ، لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة . والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيداً أن هذه ليست هي الحقيقة ، ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة .. ومن ثم يقوم المنافحون - المهزومون - عن سمعة الإسلام ، بنفي هذا الاتهام ، فيلجأون إلى تلمس المبررات الدفاعية ! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته ، وحقه في " تحرير الإنسان " ابتداء .
وقد غشى على أفكار الباحثين العصريين - المهزومين - ذلك التصور الغربي لطبيعة " الدين " .. وإنه مجرد " عقيدة " في الضمير ، لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة . ومن ثم يكون الجهاد للدين ، جهاداً لفرض العقيدة على الضمير !
ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام ، فالإسلام منهج الله للحياة البشرية ، وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية - متمثلة في الحاكمية - وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية ! فالجهاد له جهاد لتقرير المنهج وإقامة النظام . أما العقيدة فأمر موكول إلى حرية الاقتناع ، في ظل النظام العام ، بعد رفع جميع المؤثرات .. ومن ثم يختلف الأمر من أساسه ، وتصبح له صورة جديدة كاملة .(3/109)
وحيثما وجد التجمع الإسلامي ، الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي ، فإن الله يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام ، مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان ، فإذا كف الله أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد ، فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ ، مسألة مقتضيات الحركة لا مسألة عقيدة .. وعلى هذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة ، في المراحل التاريخية المتجددة ، ولا نخلط بين دلالتها المرحلية ، والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الثابت الطويل ( معالم في الطريق )
=============
قراءة في كتاب إقرأ وربك الأكرم.
مجلة البيان ـ الأعداد 1 - 100 - (ج 22 / ص 18)
قراءة في كتاب
محمد حامد الأحمري
الكتاب : إقرأ وربك الأكرم.
المؤلف : جودت سعيد.
الناشر : أيمن نويلاتي.
الطبعة الأولى 1408 هـ-1988 م 290 من صفحة القطع الصغير.
يأتي هذا الكتاب بعد عدد من المؤلفات للكاتب الإسلامي المعروف جودت سعيد ، وقد سبقه (حتى يغيروا ما بأنفسهم) و (العمل قدرة وإرادة) و (مذهب ابن آدم الأول) وغيرها ، وقد سلسل هذه الكتب تحت عنوان : (أبحاث في سنن تغيير النفس والمجتمع) كما سلسل أستاذه مالك بن نبي كتبه تحت (مشكلات الحضارة).
يناقش المؤلف في هذا الكتاب قضايا عديدة جداً ، يوحي السياق بكثرتها وتزاحم أفكارها ، تضيق بها حيناً فترفضها ، ويدعوك زخم الفكر والإثارة إلى الغضب والعناد والاستمرار فتقرأ بلا توقف ، أسوق في هذا التعريف نزراً مما أثار الكاتب ، مشيراً إلى أفكار مهمة في الكتاب مقدماً ما يمكن اعتباره مما لا يتفق مع الفكر الإسلامي القويم معقباً بعدها بالإشارة إلى بعض الجوانب الرائدة والمهمة في الكتاب ملمحاً إلى أن الحسنات يذهبن السيئات.
اتجاه إنساني عالمي:
لدى الكاتب هذا الاتجاه الذي نسميه إنسانياً عالمياً مائعاً ، يتعامل مع ((لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ)) و ((لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ)) وما إليها من الأدلة القرآنية ويفسرها تفسيراً خاصاً به. يقول بعد تقرير منهجه الغريب:
(إن التسامح هو حاجة إنسانية عالمية ملحة في هذا العصر ، وظهرت آياته بأنه هو الذي يرث الأرض) [ص246-247] هذا التسامح الذي يلح عليه المؤلف ليس بالمفهوم الإسلامي، إنما هو مفهوم فلسفي بارد يعرض لمشكلات العالم ، ثم يرى حلها بخيالات الفلاسفة، فيرى أن المعرفة والتفكير العلمي سبيل لمجتمع إنساني بلا خلافات، وهذه مسألة تتعارض مع بدهيات الواقع والعقل والشرع، فهذا تاريخ البشر مشهود الآن ومعلوم من الماضي، وذلك واقع البشر منذ (ابني آدم) والعقل يدل على تعارض المصالح وتنافس القوى واختلاف الأهواء ، والشرع بين لنا أمر آدم وإبليس والخير والشر والمؤمن والكافر ، ((ولا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)) ((وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ)) ((ولَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا النَّصَارَى)) ((قَاتلُوا الَذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ)) ، "»بعثت بالسيف«" ... لكأنه يلغي جهاد الدفاع فضلاً عن الطلب والابتداء ، إنه يُغيب الجهاد.
قضية الجهاد والقتل:
تغيب في هذا الكتاب مسألة الجهاد والمواجهة والصراع، وقد جعل الله الجهاد حلاً لصلف الكافرين وإدبارهم وتجبرهم ، والكاتب منذ كتابه (مذهب ابن آدم الأول) قد قرر تشنيع إراقة الدماء في الأرض ، فهو لا يرى لهذه المسألة وجوداً في عالمه الخيالي الفلسفي (الفاضل) وهو متأثر أو موافق لمالك بن نبي إذ جعل - الأخير - من غاندي صاحب الحلول السلمية مثالاً متبوعا في بعض ما كتب. وبلا شك إن الحل السلمي دائما هو المقدم ولكنه ليس الدائم أبداً . وتستولي الأمنيات السلمية والتعاون واللطف والمودة على خيالات الفلاسفة من قديم ، فالمدينة الفاضلة للفارابي ومن قبله ومن بعده فلاسفة اليونان والمزج الغريب عند إخوان الصفا ثم برتراند رسل في العصر الحديث والروحانية المشرقية لدى ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وأتباعهم ، وهذه النزعة الراكدة التي تسمى ركودها تسامحاً تظهر لدى المسلمين الآن وهم بحاجة لمن يوقظهم مع العلم أن قدسية المعرفة وبرودها ينتج على العكس أحياناً فلاسفة عدوانيين كـ (نيتشة) الذي مهد للنازية ، جودت يرى (أن السلام وليد العلم، وأن الإنسان لم ينقذه إلا العلم)[ص17].
أي علم يريد ؟ هل يمكن للكاتب أن يفسر التاريخ وبخاصة الحديث بمعزل عن المعرفة التي قادت للصناعة فالسلاح فالأسواق والاستعمار. ألم يخدم العلم الحربين ويهلك البشرية، ونحن الآن نعيش أقسى درجات الاستعمار الذي هو وليد العلم!! كيف تغفل خطورة الحد الآخر ، وقد ناقش شيئاً من هذا دون تمييز لحامل هذه المعرفة فالأمر عنده عام بلا حدود جادة.
الإغراب بلا داعٍ:
في الكتاب نص مجمل موهم لا يليق وجوده مع ما فيه من تعمية ، إضافة إلى مصطلحات ليست مفهومة لكثير من القراء، قال:(إننا بحاجة إلى ابستمولوجيا جديدة لتحملها انتلجنسيا رائدة ، لنتخلص من الدغمائية الهابطة والمثيولوجيا المتغلغلة أو الثيولوجيا الخانقة، وقد قرر علماؤنا ألا مشاحة في الاصطلاح والمهم أن نفهم المعنى ثم كل واحد يستعمل اللغة التي تساعد على الفهم الميسر والعلم بالبيان وكل ما وصل إلى فهم الحقائق بأيسر السبل فهو الأولى)[ص 257 - 258].
عجباً لهذا الكلام الذي ينقض بعضه بعضاً ، أي يسر وبيان وتوصيل للحقائق بأيسر السبل هنا؟!(3/110)
قد نقول لا بأس ، لكن هذه الكلمات ذات معانٍ لا يليق إطلاقها وبخاصة الثيولوجيا إنها تعنى التوحيد ، علم الكلام وما حولها مما هو ضروري للمسلم والكلمة لا تميز بين مصطلح أهل السنة وغيرهم في مسائل علم الكلام أو التوحيد والكاتب يتعسف بعض التفسيرات حسب هواه أو فهمه كتفسيره: (اقرأ وارق) بأنهما عموم القراءة في أي مجالات القراءة [ص 134] ، وتفسيره للنشأة الآخرة بأنها الأجيال القادمة وليس البعث [ص 215] ثم هو يقدم الأسلوب المنطقي على النصوص [ص266].
مكانة القراءة :
على الجانب الآخر: ناقش المؤلف في المقدمة والمدخل قضية القراءة ، ودلالة كلمات القرآن الأولى التي تلقاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره له أن يقرأ ولأمته أن تولى القراءة اهتمامها ، وذكر أن إنجيل يوحنا بدأ أيضاً بـ (في البدء كانت الكلمة) وعقب بأمثلة وأرقام تؤيد مكانة القراءة لدى - الأمم اليوم: منها أن اليابان تصدر خمسة وثلاثين ألف عنوان سنوياً تقريباً ، وهذا يمثل ضعفي ما ينشر في الولايات المتحدة، يستشهد بقول توينبي على (أن ارتفاع نسبة قراءة الكلمة المطبوعة هو الأساس الحضاري لتصنيف البلدان في العالم إلى دول متخلفة أو نامية أو متقدمة((1) [ص 27].
يرى الأستاذ جودت سعيد أن الذكاء ليس أسمى من القراءة، وأن القراءة هي التي تقعد الأقزام على رقاب العمالقة ، ويشير إلى شهيد العلم الجاحظ الذي سماه شهيد الكتاب والقراءة (!) الذي مات تحت كتبه كأنموذج لحرص الأمة الناجحة على القراءة والعلم.
يؤكد المؤلف على قضية مهمة يفقدها الشباب والقارئ في هذه الأيام ألا وهي الكزازة من كتب وكتّاب والتضييق على النفس في القراءة لنوع محدد من الكتب وعدد محدد من الكتّاب. يقول:
(وإن القراءة المحدودة الضحلة المرعوبة لا تخلص من التقليد والآبائية)[ص 42] ومما ساق: (إن كون النبي -صلى الله عليه وسلم-أمياً معناه أن أحداً من البشر لن يأتي بشيء وهو أمي)[ص 33].
لقد نعى على الأمة إهمالها للقراءة وقال: (إن الأمي غير قابل أن يبلغ الرشد ، وإن صلة الإنسان بالكتاب تغير من سحنة الإنسان وتؤثر في عضلاته وسمات وجهه)[ص 76] وأحياناً يغالي في أهمية القراءة بما يتجاوز المدى [ص77] ثم أنحى باللائمة على سذاجة المسلمين في تحرير المفاهيم فبدلاً من أن يفهموا سر ((ن * والْقَلَمِ ومَا يَسْطُرُونَ)) بدل تعظيم القراءة والمعرفة تحول الأمر إلى جمع قصاصات الأوراق من الطرقات [ص79].
الكتاب في مجمله من الكتب التي تستحق القراءة والتمعن وهو يحتاج إلى مزيد من الرد والتحقيق في كثير مما كتب ، وبعض أفكاره جديرة بالنشر والتأييد.
إنه يصدر في زمن شكا فيه المؤلف من عدم وجود الكاتب الذي يبعث نهم القراءة أي لم يأت بعد ورثة الأنبياء بجدارة [ص254].
ثم يختم الكتاب بتواضع جم بقول: (آه لقد شوهت الفكرة وعرضت أفكاراً في منتهى الأهمية بشكل هزيل)[ص255] ثم كتب تلخيصاً مختصراً جداً لكتابه سماه دليل الأفكار.
إن هذا التقديم مشاركة في قراءة الكتاب وفهمه ونقاشه وليست عائقا ولا حجراً بالمقررات السابقة حرصت على إبراز جوانب مهمة في الكتاب ، ومهمة في خطئها وصوابها .
الهوامش :
1 - هذا النموذج للمقاييس المادية الصرفة دون مراعاة لجوانب أخرى كالتصنيف الذي يقيس نسبة ما يستهلكه الإنسان من الكهرباء والماء أو مستوى الدخول الفردية. وهى كلها نظرات جزئية سطحية مادية لا تراعي روح الفرد ولا سعادته بجانب الوسائل المريحة فهي من التقدم المهم للإنسان.
==============
السلام .. كما جاء في القرآن الكريم ...
ورد لفظ (السلام) ومشتقاته في عدد كبير من آيات القرآن الكريم ، حيث عالج القرآن الكريم مفهوم السلام وفق معنى الإسلام الذي يقوم على ضرورة الخضوع التام والمطلق لخالق الإنسان ، من حيث القبول والتسليم بما يُوجبه الله ، وتكييف السلوك وفق مقتضيات ذلك .
إن أصل مادة (السلام) تأتي من الفعل الثلاثي (سَلَمَ) والمشتقات منه التي تأتي لمعانٍ متعددة ، لكنها جميعاً تدور حول مفهوم : الاستسلام ، والطاعة ، والخضوع ، والصلح ، وترك الحرب والمنازعة ، والسلم ، والأمان ، ولاستجلاء هذه المعاني للفظة (السلام) كما جاء في القرآن الكريم فسوف أستعرض المعاني والدلالات التي ورد فيها لفظ (السلام) على النحو التالي : أولاً : في مجال الحياة الأسرية : ورد أحد مشتقات كلمة (السلام) في سورة البقرة عند معالجة القرآن الكريم لجانب من جوانب الحياة الأسرية ، الذي يتعلق بحماية الطفولة وتحقيق الأمان عند انفصام الروابط التي تجمع بين عنصري الأسرة (الأب ، والأم) في قوله (تعالى) : [ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نُفْسٌ إلاَّ وسْعَهَا .... .(3/111)
وَإنْ أَرَدْتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُم إذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ][البقرة : 233] في هذه الآية ورد لفظ (سَلّمتم) ، وهو أحد مشتقات كلمة (السلام) ، وقد جاء اللفظ ضمن سياق آيات نظّمت وعالجت أموراً تتعلق بالنتائج التي تترتب على الخلاف الذي يقع بين الزوجين ؛ مما قد يؤدي إلى الانفصال النهائي ، وبالتالي : فقد تم تنظيم علاقة الأطفال الذين نتجوا عن تلك العلاقة ، ولقد استخدم القرآن الكريم لفظ (سَلّمْتُم) بدلاً من أي لفظ آخر يفيد المنح والإعطاء ؛ لنكتة بلاغية وتربوية ، وهي : أن السلام في الحياة الأسرية من أهم متطلبات الاستقرار النفسي لأفراد الأمة ، ومن هنا وردت كلمة (سَلّمتم) لتنظم العلاقة بين الزوجين المنفصلين ؛ بإضفاء مفهوم الأمان ، ويورد الزمخشري (رحمه الله) عند تفسيره لهذه الآية معنًى جليلاً لمفهوم (السلام) في الأسرة المسلمة ، فيقول : (إذا سلمتم إلى المراضع ما آتيتم : ما أردتم إيتاءه ، كقوله (تعالى) [ .. إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ .. ] ]المائدة : 6 [ وقرئ ما أتيتم من أتي إليه إحساناً إذا فعله ، ومنه قوله (تعالى) [ .. إنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَاًتِياً ] ]مريم : 61 [ أي مفعولاً ، وروى شيبان عن عاصم : ما أوتيتم أي ما آتاكم الله ، وأجركم عليه من الأجرة ونحوه ، وليس التسليم بشرط للجواز والصحة ، وإنما هو نَدْب إلى الأَولى ، ويجوز أن يكون نعتاً على أن يكون الشيء الذي تعطاه المرضع من أهنأ ما يكون لتكون طيبة النفس راضية ؛ فيعود ذلك إصلاحاً لشأن الصبي واحتياطاً في أمره ، فأمرنا بإتيانه ناجزاً يداً بيد ، كأنه قيل إذا أديتم إليهن يداً بيد ما أعطيتموهن بالمعروف ؛ مستبشري الوجوه ، ناطقين بالقول الجميل مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن ؛ حتى يؤمن تفريطهن بقطع معاذيرهن) [1] ! .
ثانيا : في مجال الحرب والسلم : جاء لفظ (السلام) في القرآن الكريم في مواضع عديدة ، عندما تحدث القرآن عن علاقة المجتمع المسلم مع بقية الجماعات الأخرى التي تدين بغير دين الإسلام ، وأوضح الإطار الذي يحدد مظاهر ونوعية علاقات السلم ، والظروف التي يمكن فيها قبول المهادنة والصلح مع العدو ، ولهذا لابد من فهم هذه الآيات التي تحدثت عن الحرب والسلم وورود لفظ (السلام) فيها كوحدة واحدة ؛ لمعرفه كيفية بناء العلاقات السلمية مع الجماعات والمجتمعات الأخرى على النحو التالي : 1- المناوأة والمضادة للمجتمع المسلم : من أبرز الآيات التي يُسْتَشْهَدُ بها لإجازة السلام مع أعداء الأمة قوله (تعالى) : [ وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا .. ] ]الأنفال : 61 [ وذلك بعد فصلها عن سياقها .
ولفهم هذه الآية لابدّ من فهم الآيات السابقة واللاحقة لها ، فهذه الآية جاءت تعقيباً بعد قوله (تعالى) : [ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم .. ] ]الأنفال : 60 [ وجاء بعدها قوله (تعالى) : [ وَإن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ .. ] ]الأنفال : 62 [ ، وإذا أردنا فهم هذه الآيات أو ربطها ببعضها ، فلابد من الرجوع إلى ما قبلها من الآيات التي حددت الظروف الحربية التي كانت سائدة في زمن الرسول ، فقد وصف القرآن الكريم هذه الظروف بقوله (تعالى) : [ إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ .. ] ]الأنفال : 55 [ ، فقد وصفت هذه الآيات حقيقة الكفر والكافرين فيما يتعلق بمدى التزامهم بمواثيقهم ، ولقد أوضح ابن كثير (رحمه الله) في تفسيره لهذه الآية : ماذا ينبغي أن تمارسه الأمة ، يقول (رحمه الله) : (أخبر (تعالى) أن شر مادة على وجه الأرض هم الذين كفروا ، فهم لا يؤمنون ، وكلما عاهدوا عهداً نقضوه ، وكلما أكدوه بالأيمان نكثوه ، وهم لا يخافون من الله في شيء ارتكبوه من الآثام ، فإن تَغْلِبْهُم وتَظْفَرْ بهم في حرب فنكلْ بهم : قاله ابن عباس ، والحسن البصري ، والضحاك ، والسدي ، وعطاء الخرساني ، وابن عيينة ، ومعناه : غلّظ عقوبتهم وأثخنهم قتلاً ؛ ليخاف مَن سواهم مِنْ الأعداء من العرب وغيرهم ، ويعتبروا أو يصيروا لهم عبرة [ لعلهم يذكرون ]، وقال السدي : يقول : لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيقع بهم مثل ذلك [2] .
إن السلام لا يقوم بدوره لصالح المسلمين إلا عندما يدرك العدو أن المسلمين يمتلكون القدرة على تأديب الأعداء عند عدم احترامهم للمعاهدات ، لهذا لا يمكن تحقيق السلام إلا إذا ذاق اليهود وأعوانهم الهزيمة المرة وأصبحوا تحت سيطرة المسلمين ، وبالتالي : سيوفون بالعهد خوفاً من أن يُنكل بهم ، ولكنهم إذا عرفوا أنهم إذ ينقضون المواثيق يحصلون على أوضاع أفضل مما حصلوا عليه ؛ فإنهم لا يمتنعون عن نقض تلك المواثيق ، وما يحدث من نقض لمواثيق وعهود في البوسنة والهرسك مثلاً لدليل معاصر يؤكد هذه الحقيقة .(3/112)
إن قبول السلم والمهادنة مع الأعداء كما أوضحته الآية يرتبط بالالتزام من قبل الأمة الإسلامية بما جاء في الآية التي سبقت آية [ وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ .. ] [الأنفال : 61] وهي قوله (تعالى) : [ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم .. ][الأنفال : 60] ، فقد أعقب هذه الآية قوله (تعالى) : [ وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ .. ][الأنفال : 61] فشرط قبول السلام أو المهادنة كما أوضحته الآية السابقة يتمثل في أمرين : الأول : عدم جواز عقد الهدنة إلا إذا توفرت للأمة عناصر القوة ، المتاحة وفق ما يتوفر في كل عصر من العصور من أسباب القوة ، وأن على الأمة العمل على توفير هذه القوة بتنمية القدرات العسكرية بشكل مستمر ومتواصل حتى في عهد السلم ، وبالتالي : - فأي مهادنة من قبل أي حاكم مسلم لا تكون سارية إذا أخل بهذا الشرط ، وقد أشارت هذا الآية إلى حقيقة مهمة ، وهي : عملية تنمية القوة العسكرية واعتبار أنها الوسيلة الفعالة لتحقيق السلام الحقيقي ، كما في قوله (تعالى) : [ .. تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ .. ][الأنفال : 60] ، فالاستعداد لا يُقصد به القيام بالحرب ، وإنما هو التخويف به ، أي : تحقيق الردع ؛ ولهذا : وجّه الله (تعالى) الأنظار إلى أن هذا الاستعداد يحتاج إلى الإنفاق ، وأن على أفراد الأمة بذل المال في هذا السبيل ، وأن هذا الإنفاق لغرض تحقيق إرهاب العدو هو إنفاق في سبيل الله ، يجزي الله المنفقين على بذله ، فلا يُبْخسون شيئاً مما أنفقوه في هذا الوجه ، كما أن الاستعداد وتنمية القدرات العسكرية يجب أن يكون بتنمية القدرة على تصنيع هذا السلاح ، والعمل على توفير المناخ الإداري والسياسي والمالي لتوفير القدرة على ذلك ، فشراء السلاح من الأعداء بدون العمل على توفير الإمكانات لصنعه يعتبر تضييعاً لحق الأمة ، وصرفاً لمفهوم قوله ( تعالى ) : [ وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم .. ][الأنفال : 60] .
الأمر الثاني : عدم قبول السلام أو المهادنة من موقف الضعف ؛ فيجب إلغاء أي معاهدة أو هدنة إذا اتضح أن الالتزام بها سوف يؤثر على مصالح الأمة ، وعندئذٍ ، ووفق الأخلاق الإسلامية التي يأمر بها الله ، فإن من الواجب إبلاغ الطرف الذي تمت المعاهدة معه بإلغائها والاستمرار في مناصبة العدو الحرب إلا إذا قبل العدو تعديل المهادنة وفق مصلحة الأمة ، والامتناع عن طلب السلم معهم إلا إذا طلبوا المسالمة وخضعوا لشروط المسلمين ؛ أي إن السلام يكون مطلباً للعدو بعد أن يدرك أن القوة للمسلمين ، وليس أمامه إلا طلب السلام والقبول بما يفرضه المسلمون من شروط ، يقول ابن كثير (رحمه الله) في تفسير قوله ( تعالى ) [ وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ .. ]الآية : (فإذا خفت من قوم خيانة فانبذ لهم عهدهم على سواء ، فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتلهم ، وإن جنحوا ، أي : مالوا ، للسلم ، أي : المسالمة والمصالحة والمهادنة ، فاجنح لها ، أي : فمل إليها واقبل منهم ذلك ؛ ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ، ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم- تسع سنين ، أجابهم إلى ذلك) [3] .
وبجانب ما أشارت إليه هذه الآيات من سورة الأنفال من شروط لقبول السلام والمهادنة مع الأعداء ، فقد أوضحت سورة النساء أوضاعاً أخرى لقبول المهادنة وتحقيق السلم مع الأعداء ، وذلك في حالة أن يكون هناك ضعف داخلي في مجتمع المسلمين ، وأعداء يتربصون بهم ، يتحينون الفرص للانقضاض على الأمة ، يقول (تعالى) : [ فمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِياً وَلا نَصِيراً (89) إلاَّ الَذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَاًمَنُوكُمْ وَيَاًمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إلَى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً ] [النساء : 88- 91] .
السلام الذي تتحدث عنه هذه الآيات ، إنما هو سلم متعلق بوجود ظروف توزع القوة بين معسكر الإسلام ومعسكر الكفر ؛ أي إن القوة متكافئة بين المسلمين والكفار ، ولهذا تعمد فئة بالتظاهر بالإسلام أو بالوقوف على الحياد ، وقد أوضحت هذه الآيات نوع المهادنة والسلم ، والأسلوب الذي يجب انتهاجه .(3/113)
وهذا التوجيه الوارد في هذه الآيات يخص حالة قيام دولة مسلمة في مجتمعات إسلامية ، وفي حالة وقوع معارضة لولي أمر المسلمين من فئات تنازعه الأمر بادعاء شرعي فتطلب المصالحة أو المهادنة ، كما حدث من طلب معاوية (رضي الله عنه) الصلح والتحكيم من علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) الذي كان أميراً للمؤمنين ، ويؤكد هذا المفهوم ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد بسنده إلى علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له : (إنه سيكون اختلاف أو أمر ، فإن استطعت أن يكون السلم فافعل) [4] .
كما توضح الآيات طبيعة السلم والمهادنة في حالة التعامل مع المنافقين الذين يدّعون الإسلام ، أو في ظل مفهوم السلام العالمي ، ويتمثل ذلك في الحقائق التالية : 1- إن طبيعة المنافقين هي خذلان الأمة في أشد المواقف خطورة حيث يمارسون دور التثبيط وزعزعة ثقة الأمة بنفسها ، فهم يعمدون إلى تخويف الأمة من أعدائها ؛ ليغرسوا فيها الوهن حتى لا تقاوم العدو فتستسلم له .
وهذه الطبيعة المتأصلة في نفوسهم إنما تعود إلى اتباعهم الباطل ، ولذا : لا نجد فترة من فترات التاريخ الإسلامي كان المنافقون أصحاب القوة والنفوذ في الأمة إلا ونجد أن الأمة وقعت في قبضة الأعداء ، وإن مجانبة هذا الأمر تكون بمنع المنافقين أن يُوَلّوْا قيادة الأمة ، وعدم موالاتهم أو الاستعانة بهم وطلب النصرة منهم .
2- حددت الآيات نوعية نفاق الجماعات سواء داخل المجتمع المسلم أو خارجه ، وتتمثل هذه الجماعات في دول كافرة ، سواء أكان كفرها متمثلاً في تبني العلمانية منهاجاً يقوم عليه نظام الدولة ، أو دول أو مجموعات بشرية تتظاهر بانتمائها للإسلام ولكن الكفر هو حقيقة هذه الجماعات أو الدول .
لقد أوضحت هذه الآيات كيفية التعامل مع هذه النوعية من الدول أو التجمعات البشرية ؛ وذلك بتصنيف علاقة السلم والحرب إلى نوعين من التعامل : النوع الأول : مسالمة هذه الجماعات أو الدول التي ترتبط مع دول أو مجموعات بينها وبين الدولة الإسلامية مهادنة وترغب أن تقف على الحياد ، وهذا ما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع بني مدلج ، فقد أورد ابن كثير في تفسيره لهذه الآية : عن سراقة بن مالك المدلجي (رضي الله عنه) أنه حدثهم ، قال : (لما ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم- على أهل بدر وأحد ، وأسلم من حولهم ، قال سراقة : بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج فأتيته ، فقلت : أنشدك النعمة ، فقالوا : مه ، فقال النبي : دعوه ، ما تريد ؟ قال : بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي ، وأنا أريد أن توادعهم ، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام ، وإن لم يسلموا لم تخشن لقلوب قومي عليهم ، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيد خالد بن الوليد فقال : اذهب معه فافعل ما يريد ، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ) [5] .
الثاني : يشبهون النوع الأول في الصورة الظاهرة ، ولكن يختلفون في أن نية هؤلاء غير نية النوع الأول ، فهم لا يظهرون المناجزة والمساندة في الظاهر حتى ينالوا المنفعة من المجتمع المسلم ، ولكنهم في الحقيقة مع الأعداء ، يتآمرون ضد مصلحة المسلمين ، بل إنهم يعمدون إلى المخادعة والتضليل ، وقد ذكر ابن كثير عن ابن جرير عن مجاهد أن قوله (تعالى) : [ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَاًمَنُوكُمْ وَيَاًمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إلَى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ .. ] ]النساء : 91 [ قد نزل في قوم من أهل مكة ، كانوا يأتون النبي -صلى الله عليه وسلم- فيسلمون رياءً ، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان ، ويبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا ، فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا) [6] .
إن هذا النوع لا يقتصر على الأفراد المذبذبين ، بل يتعدى ذلك إلى الدول والجماعات التي تمارس الخداع والتضليل ؛ إما من أجل تخدير المجتمع المسلم ونزع روح المبادرة ، أو من أجل نهب خيراته من خلال إظهار مناصرة قضاياه وحمايته من أعدائه بقصد ترويض المجتمع المسلم ، ولهذا : فإن على المجتمع المسلم ألا يسمح لهذا النوع من النفاق الكافر بالوجود ، والعمل على قتالهم ، وإن المهادنة معهم لا يجوز عقدها إلا إذا التزموا بكف الأذى وعدم التدخل في أمور المجتمع المسلم .
لقد أوضح القرآن الكريم أن المهادنة وعقد السلام كما جاء في القرآن الكريم لا يجوز إلا عندما يتم تحقيق ما جاء في آيات سورة محمد ، حيث قال (تعالى) : [ إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ] [محمد : 34 ، 35] .
فقد حددت هذه الآية عدم جواز بدء طلب السلم أو المهادنة إلا إذا تحقق ما يريده الله : من أن المسلمين يكونون هم الأعلون ، وبالتالي : فإنهم لا يطلبون السلام ، ولكن يمنحونه لغيرهم إذا طلبه العدو ، لما فيه من مصلحة الناس ؛ من حيث تمكينهم من سماع كلمة الله حتى تقوم الحجة على الناس ، فلا يكون للناس حجة بعد الرسل ؛ ولهذا : جاء الإسلام ووضع أحكاماً لأهل الذمة من أجل أن يتحقق المبدأ الأساس في الإسلام ، الذي أشار إليه قوله (تعالى) : [ لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِ ][البقرة : 256] .(3/114)
ثالثاً : جاء لفظ (السلام) بمعنى الخضوع والاستسلام لله ، الذي هو المفهوم الحقيقي لدين الإسلام ، فقد ورد لفظ (السلام) ومشتقاته للدلالة على الإسلام ، الذي يعني كمال الخضوع والذلة والاستسلام لله بما شرعه وأمر به ، فقد ورد لفظ (السّلم) بهذا المعنى في قوله (تعالى) : [ يا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ .. ] ]البقرة : 208 [ ، فإذا جاء من يعرف معنى هذه الآية ، ويستشهد بأنها دليل على أن الإسلام يأمر بعقد السلام مع أعداء الله الذين نهبوا الأرض وأخرجوا المسلمين من بلادهم ، وشردوهم في الأرض ، فقد صرف معنى الآية عن مفهومها الذي نزلت به إلى معنى آخر مغاير لما نزلت من أجله .
إن المعنى الحقيقي لهذه الآية كما فسرها علماء المسلمين من المفسرين : هو الأمر بالدخول في الإسلام ، وقبول شريعة الإسلام ، يقول الزمخشري : (السّلم بكسر السين وفتحها وقرأ الأعمش بفتح السين واللام هو الاستسلام والطاعة ، أي : استسلموا لله وأطيعوه (كافة) لا يخرج أحد منكم يده عن طاعته ، وقيل هو الإسلام ، والخطاب لأهل الكتاب ، لأنهم آمنوا بنبيهم وكتابهم ، وللمنافقين لأنهم آمنوا بألسنتهم ، ويجوز أن يكون (كافة) حالاً من السلم ، لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب ...
على أن المؤمنين أمروا بأن يدخلوا في الطاعات كلها ، وأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة ، بل شُعَب الإسلام وشرائعه كلها ، وأن لا يتركوا شيئاً منها ، وعن عبد الله بن سلام أنه استأذن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقيم على السبت وأن يقرأ من التوراة في صلاته من الليل .
[ فإن زللتم ]عن الدخول في السلم من بعد ما جاءتكم البينات ، أي : الحجج والشواهد على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق ، فاعلموا أن الله عزيز غالب لا يعجزه الانتقام منكم) [7] .
ويقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية : (يقول الله (تعالى) آمراً عباده المؤمنين به المصدقين برسوله : أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه والعمل بجميع أوامره ، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك ، فقال العوفي عن ابن عباس ومجاهد وطاووس والضحاك وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد في قوله [ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ .. ]يعني : الإسلام ، وقال الضحاك عن ابن عباس ، وأبو العالية ، والربيع ، عن أنس [ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ .. ]يعني : الطاعة ، ومن المفسرين من يجعل قوله [ كَافَّةً ]حالاً من الداخلين في الإسلام : كلكم ، والصحيح الأول ، وهو : أنهم أمروا كلهم أن يعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام وهي كثيرة جدّاً ما استطاعوا منها ، كما روى ابن أبي حاتم ...
عن ابن عباس [ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ] كذا قرأه بالنصب ، يعني : مؤمني أهل الكتاب ، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمور التوارة والشرائع التي أنزلت فيهم ، فقال الله : [ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ]يقول : ادخلوا في شرائع دين محمد -صلى الله عليه وسلم- ولا تَدَعُوا منها شيئاً ، وحسبكم الإيمان بالتوراة وما فيها ، وقوله : [ فَإن زَلَلْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البَيِّنَاتُ ]أي : عدلتم عن الحق بعدما قامت عليكم الحجج ، فاعلموا أن الله عزيز ، أي : في انتقامه ، ولا يفوته هارب) [8] .
والآيات التي ورد فيها لفظ (السلم) ضمن مفهوم الإسلام المتضمن لمعاني الخضوع والاستسلام مثل قوله (تعالى) : [ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ .. ][البقرة : 112] ، وقوله (تعالى) : [ أفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً .. ] ]آل عمران : 83 [ .
رابعاً : لقد ورد لفظ (السلام) في القرآن بما يفيد ضرورة استخدامه كتحية يتخذها الأفراد ، بقصد بث الأمان النفسي والمادي في المجتمع المسلم ، وقد ورد هذا المعنى في صور ومواقف متعددة ، كحكاية عن واقع لما سيحدث في الدار الأخرى ، ولطمأنة أفراد المجتمع بعضهم لبعض في تعاملهم ، ومن ذلك : ما ورد في سورة هود ، في قوله (تعالى) : [ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ .. ][هود : 69] ، وقوله ( تعالى ) : [ إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ .. ][الذاريات : 25] ، وقوله ( تعالى ) : [ .. قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى ] ]طه : 47 [ ، وقوله (تعالى) : [ .. لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَاًنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا .. ][النور : 27] ، وقوله (تعالى) : [ .. وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً .. ][النساء : 94] ، وغير ذلك من الآيات التي تدور حول مفهوم السلام الذي يعطي الأمان ويبث الاطمئنان في النفوس ويزيل عنها الخوف والوجل .
فهذه الآيات جميعها تشير إلى أن السلام هو الأمان النفسي والمادي ؛ ولهذا يأمر الله عباده المؤمنين أن يمارسوا قول السلام وفعله في الدنيا لتحقيق السلام الاجتماعي ، الذي يمثل الغاية التي يسعى إليها الإسلام ، فالسلام بمختلف معانيه يقود إلى الأمان الذي هو غاية كل إنسان .(3/115)
خامساً : ومن المعاني التي ورد فيها لفظ ( السلام ) أنها اسم من أسماء الجنة ، باعتبار أن السلام الحقيقي الدائم والمستمر هو ما يتحقق في الجنة ، حيث يتحقق للإنسان الأمان النفسي والمادي والخلود الأبدي ، فهو السلام الذي يطمح إليه الإنسان ، يقول الله (تعالى) مخبراً عن ذلك : [ لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ][الأنعام : 127] ، ولأن مانح السلام الحقيقي في الدنيا والآخرة هو الله (سبحانه) ، ولأهمية السلام وعظيم شأنه فقد سمى نفسه بذلك ، فمن أسمائه الحسنى : (السلام) كما جاء في قوله (تعالى) : [ هُوَ اللَّهُ الَذِي لا إلَهَ إلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ .. ][الحشر : 23]
0000000000
(1) الكشاف ، للزمخشري ، ج1 ص 371 372 .
(2) تفسير ابن كثير ، ج2 ص 320 .
(3) السابق ، ج2 ص 322 .
(4) السابق .
(5) المصدر نفسه ، ج1 ص 533 .
(6) السابق .
(7) الكشاف ، ج1 ص 353 .
(8) تفسير ابن كثير ، ج1 ص 347 .
بقلم : د . محمد بن عبد الله الشباني
===============
تأملات في فقه الجهاد
(1/2)
بقلم: د. محمد بن عبد العزيز الشباني
ترتبط قوة المجتمع الإسلامي بمدى تمسكه والتزامه بأسس وقواعد الإيمان الذي يرتكز عليها البناء العقائدي للإسلام ، وممارسته للتشريعات والأحكام التي تمثل المنهج السلوكي لأفراد الأمة ، في مجتمع يقوم تنظيمه السياسي والاجتماعي والاقتصادي على هذه التشريعات والأحكام.
إن ضعف المجتمع الإسلامي وانهزامه يرتبط مباشرة بابتعاده وخروجه عن أحكام الإسلام، سواء أكان منها ما يرتبط بسلوكيات الفرد ، أو بالتنظيمات الاجتماعية التي يجب على المجتمع المسلم الالتزام بها ، لحماية المجتمع المسلم وإبقائه مرتبطاً بمرتكزاته العقائدية والتشريعية المنظمة لأموره؛ فقد وضع الإسلام منهجاً أوجب على كل فرد من أفراد مجتمع المسلمين ممارسته ، كل بحسب طاقته وقدرته وعلمه ، يتمثل هذا المنهج في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال جهاد اليد واللسان والقلب ، فموضوع الجهاد أكبر من أن يقصر على قتال الكفار من النصارى واليهود وغيرهم.
لقد ورد لفظ الجهاد في القرآن الكريم في مواضع كثيرة من القرآن ، تدور كلها حول المفهوم الشامل للمجاهدة والمدافعة ، يقول الإمام الماوردي في تفسيره لقول الله (تعالى): ((إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) [البقرة: 218]: «(وجاهدوا) يعني: قاتلوا ، وأصل المجاهدة: المفاعلة من قولهم: جهد كذا ، إذا أَكَدّه وشق عليه ، فإن كان الفعل من اثنين ، كل واحد منهما يكابد من صاحبه شدة ومشقة ، قيل: فلان يجاهد فلاناً» (1) ، ويشير صاحب تفسير (غرائب القرآن) إلى مفهوم الجهاد ، فيقول: «والمجاهدة من (الجَهد) بالفتح ، الذي هو المشقة ، أو من (الجُهد) بالضم: الطاقة لأنه يبذل الجهد في قتال العدو عند فعل العدو مثل ذلك ، ويجوز أن يكون معناها ضم جهده إلى جهد أخيه في نصرة دين الله ، كالمساعدة: ضم ساعده إلى ساعد أخيه لتحصل القوة»(2) ، ويوضح الحافظ ابن حجر (رحمه الله) في (فتح الباري) مفهوم الجهاد بقوله: «الجِهاد (بكسر الجيم) ، أصله لغةً: المشقة ، يقال: جهدت جهاداً إذا بلغت المشقة ، وشرعاً: بذل الجهد في قتال الكفار ، ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس والشيطان والفساق ، فأما مجاهدة النفس: فعلى تعلم أمور الدين ، ثم على العمل بها ، ثم على تعليمها ، وأما مجاهدة الشيطان: فعلى ذم ما يأتي به من الشبهات ، وما يزينه من الشهوات ، أما مجاهدة الكفار: فتقع باليد والمال واللسان والقلب ، وأما مجاهدة الفساد: فباليد ، ثم اللسان ، ثم القلب»(3).
إن المتتبع لآيات القرآن الكريم التي ذكر فيها لفظ (الجهاد) ـ ضمن المفهوم العام الذي أشار إليه الحافظ ابن حجر ـ يمكنه حصر متعلقاتها بالآتي:
1- مغالبة الكفار ومقاتلتهم ، أي: المواجهة الحربية وقتالهم؛ لإلزامهم بالدخول في الإسلام ، مثل مشركي العرب ، أو بدفع الجزية وفتح المجال أمام من يرغب في الدخول في الإسلام؛ بإزالة الخوف وتحقيق مبدأ «لا إكراه في الدين»، ومن الآيات المؤكدة لهذا المعنى: قوله (تعالى): ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)) [آل عمران: 142] ، وقوله (تعالى): ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاً)) [الأنفال:74]، وقوله (تعالى): ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)) [الصف:10،11].
2- بذل المال للجهاد: وإطلاق لفظ الجهاد على بذل المال ، وقد قدّم المال على النفس في معظم الآيات التي تحدثت عن الجهاد؛ لما له من دور في تحقيق غاية الجهاد ، ومن ذلك قوله (تعالى): ((إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)) [الحجرات: 15] ، وقوله (تعالى): ((الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ)) [التوبة: 20].(3/116)
3- جهاد الكلمة: من خلال الدعوة إلى الله، ورد شبهات المنافقين والكافرين بالحجة والبرهان،والعمل على نشر الحق والخير، ومنع المنكرات الفعلية والقولية من خلال الكلمة الصادقة والحجة القاطعة،يقول الله (تعالى): ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ))[التحريم: 9]، ومعروف أن المنافقين يمارسون حياتهم ضمن المجتمع المسلم، ولكنهم يمارسون الكفر من خلال الكيد للإسلام بقول الكلمة السيئة؛ لصرف الناس عن الحق وتشويه الأفكار والأحكام الإسلامية؛ بقصد بذر بذور الشك ، ولقد صور القرآن الكريم تلك الأساليب من الكيد للإسلام خلال العهد النبوي ـ وذلك: بالتحالف مع اليهود ومشركي العرب بزعامة قريش ـ في عدد من آيات الكتاب الحكيم ، وحيث إن مجابهة المنافقين لا تتم من خلال المواجهة العسكرية ، وإنما من خلال الكلمة ، فقد كان لجهاد الكلمة مكانة رفيعة وبارزة في الدفاع عن الأساس العقدي والتشريعي للمجتمع المسلم ، ولهذا: وجه الله رسوله إلى الاستعانة بالقرآن الكريم للرد عليهم ، يقول (تعالى) مخاطباً رسوله ومن معه ومن بعده من المؤمنين: ((فَلا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً))[الفرقان: 52] ، ويفسر ابن كثير هذه الآية بقوله: «(وجاهدهم) ، أي: بالقرآن، قاله ابن عباس، جهاداً كبيراً، كما قال (تعالى): ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ)) الآية(4) ، وقوله (تعالى): ((وَمَن جَاهَدَ فَإنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ)) [العنكبوت: 6] ، قال الحسن البصري: إن الرجل ليجاهد وما ضرب يوماً من الدهر بسيف»(5).
4- مغالبة النفس وجهادها: بمنعها من الوقوع في الشرك والكفر والفسوق وارتكاب المعاصي واقتراف الذنوب ، ويطلق القرآن على هذه المدافعة النفسية لفظ الجهاد ، يقول (تعالى): ((وَإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ)) [لقمان: 15] فقد نزلت هذه الآية في سعد بن مالك (رضي الله عنه) وموقفه من أمه ، وكان بارّاً بها ، ومع ذلك: لم يتابعها على دينها مع ما يبذله من بر وطاعة وحسن خلق معها ، كما أن من المجاهدة: الصبر على تحمل الأذى في سبيل العقيدة ، والالتزام بما أمر الله به من فعل ، وترك ما نهى الله عنه من فعل، يقول (تعالى): ((وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ)) [العنكبوت: 69] ، وقد ذكر ابن كثير عن ابن أبي حاتم عن أبي أحمد ـ من أهل عكا ـ تفسيراً لمفهوم هذه الآية أنه قال: «الذين يعملون بما يعلمون: يهديهم الله لما لا يعلمون» ، وهذا لا يحصل إلا بمجاهدة النفس.
يرتبط الجهاد ـ حسب المفاهيم السابقة ـ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، من حيث إن الجهاد هو وسيلة القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فبدون ممارسة المجتمع المسلم بمختلف فئاته ـ وفقاً للضوابط الشرعية ـ وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فإن الجهاد ـ الذي هو ذروة سنام الإسلام ـ يفقد دوره الحافظ لقيم ومبادئ وتشريعات الإسلام ، ولهذا: فهناك التلازم فيما رواه مسلم في صحيحه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له حواريون وأصحاب ، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف ، يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»(6).
فهذا الحديث يؤكد التلازم بين الجهاد بالمعنى العام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل واضح؛ حيث يحدد أن الإيمان ـ الذي يمثل الركيزة التي يقوم عليها البناء الاجتماعي للمجتمع المسلم ـ إنما يقوم على مجاهدة أولئك الذين يريدون أن ينحرف المجتمع المسلم عن مساره قولاً وفعلاً ، فمقاومتهم جهاد ، وعليه: يأتي التوجيه النبوي لمجموع أفراد الأمة بوجوب تغيير المنكر ، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري ، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «.. من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»(7).(3/117)
لقد جاءت لفظة (المنكر) في هذا الحديث بصيغة التنكير التي تفيد العموم ، وقد ذكر الحسن بن محمد النيسابوري في كتابه غرائب القرآن ـ عند تفسيره لقوله (تعالى): ((وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ)) [آل عمران:104] ـ مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله: «إن لفظ (الخير) جنس ، تحته نوعان: الترغيب في فعل ما ينبغي من واجبات الشرع ومندوباته ، والكف عما لا ينبغي من محرماته ومكروهاته ، فلا جرم أتبعه النوعين زيادة في البيان ، فقال: ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر [ اي: أتبع كلمة (الخير) المشتملة على النوعين ، الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر] ، واختلفوا في أن كلمة (مِنْ) في قوله (منكم) للتبيين أو للتبعيض ، فذهبت طائفة إلى أنها للتبيين؛ لأنه ما من مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إما بيده أو بلسانه أو بقلبه.. وقال آخرون: إنها للتبعيض ، إما لأن في القوم من لا يقدر على الدعوة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ كالنساء والمرضى والعاجزين ـ ، وإما لأن هذا التكليف مختص بالعلماء الذين يعرفون الخير ما هو والمعروف والمنكر ما هما ، ويعلمون كيف يرتب الأمر في إقامتهما ، وكيف يباشر»(8).
أنواع وأشكال الجهاد:
إن مراتب الجهاد المرتبطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتحدد في ثلاثة أشكال ـ حسبما حددها حديث أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) ـ على النحو التالي:
أولاً: الجهاد العسكري ، وهو جهاد يقصد منه إزالة المنكر الذي يحتاج إلى استخدام القوة لتغييره.. والمنكر الذي يحتاج إلى استخدام القوة من خلال الجهاد العسكري ينقسم بدوره إلى: جهاد لنشر الإسلام ، باعتبار أن أكبر المنكرات هو الصد عن الإسلام من خلال محاربة الإسلام والمسلمين ومنع الناس من أن يعبدوا الله وفق ما شرعه.. وإلى جهاد لصد الكفار من اليهود والنصارى ممن استباح ديار المسلمين واحتلهم واستذلهم وحاربهم وحارب كل من سعى لتطبيق منهج الله وشرعه في ديار الإسلام من خلال التهديد بمختلف صوره قولاً وفعلاً.
هذا الجانب من الجهاد قد ضعف ، بل أصبح من الأمور التي يُتكلم فيها على استحياء ، فنجد المقولة التي يُراد لها أن تتعمق في العقل المسلم: إن الإسلام دين يدعو إلى السلام ، ولو كان السلام يقوم على التمكين لغير شرع الله! ، وبالتالي: فلا يجوز محاربة الكفر وإعلان الجهاد لتبليغ رسالة الإسلام وإزالة الطواغيت التي تصد الناس عن سماع واتباع الحق ، من أجل ذلك: فقد قامت الدعوة إلى عقد الندوات والمؤتمرات الداعية إلى التقارب بين الأديان ونبذ الصراع مع الباطل ومسالمته ، مع أن سنة الله قائمة على استمرار الصراع بين الحق والباطل.(3/118)
إن الجهاد العسكري ضد الدول الكافرة التي تحارب الإسلام؛ فتصد عن سبيل الله ، أو تساعد وتناصر القوى الظالمة والجبابرة من أجل إبقاء المجتمع المسلم تحت عبوديتها ، والعمل على تجذير الفرقة ، والتمكين لأعداء الإسلام من المنافقين والملحدين من استعباد المسلمين.. هذا الجهاد أمر أوجبه الله على المسلمين ، لقد جاءت نصوص القرآن واضحة جلية بهذا الخصوص، فمن ذلك قوله (تعالى): ((فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)) [النساء: 74] ، وقوله (تعالى): ((وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِياً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً (75) الَذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أُوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً)) [النساء: 75 ، 76] ، وقوله (تعالى): ((قَاتِلُوا الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) [ التوبة: 29] ، إن دلالة هذه الآيات صريحة بأمر قتال جميع قوى الكفر ممن يحاربون الإسلام ويمنعون عباد الله من الانضواء تحت شريعة الله ، بل يظاهر بعضهم بعضاً لمحاربة الإسلام ودعاته والمطالبين بتحكيم شرعه ، من هنا: فإن واجب الأمة السعي لتوجيه الجهد والطاقة لإحياء مفهوم الجهاد ومناصرة المستضعفين من المسلمين ، الذين تنتهك حرماتهم ، وتستباح ديارهم ، ويُخرجون من ديارهم لا ذنب لهم إلا أنهم مسلمون ، وقد أوجب الله جهاد هذه الفئة ممن يظاهر ويناصر أعداء المسلمين في قوله (تعالى): ((إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) [الممتحنة: 9] ، ومن مفهوم هذه الآية: فإن أي موالاة ومناصرة وخضوع لتلك القوى الكافرة ـ اقتصاديّاً وإعلاميّاً ـ سيجلب مقت الله وعذابه ، فقد حذرنا رسول الله من الوقوع في ذلك بالحديث الذي جاء فيه: «إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد: سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»(9) ، وهذا الحديث يصور واقع الأمة الإسلامية وما وصلت إليه من ذل ومهانة ، بحيث أصبح بعضها يلجأ لحل مشاكلها ونزاعاتها فيما بينها إلى دول الكفر من النصارى واليهود لحلها ونيل النصرة منها ، مع أن الله (تعالى) قال في كتابه: ((... لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ)) [التوبة: 8] ، وقال (تعالى): ((إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ)) [الممتحنة: 2].
إن التجربة التاريخية المعاصرة توضح هذه الحقيقة التي أشار إليها القرآن عن مدى الحقد والغل الذي يكنّه النصارى واليهود ـ حتى مع استسلام المسلمين وخضوعهم لهم ـ ، وصدق الله: ((وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى)) [البقرة: 120].
من الفتن المظلمة في هذا العصر ـ فيما يتعلق بمفهوم الجهاد ـ: أن أعداء الله من المنافقين الذين ابتليت بهم الأمة عمدوا إلى تحريف العبارات عن مدلولاتها ومعانيها لتوافق أهواءهم وأهواء من باعوا أنفسهم له ، فمن ذلك: استخدام لفظ الجهاد وأدلته لدفع كثير من البسطاء ممن يدفعه الحماس الديني والرغبة في الاستشهاد والانخراط في القتال باسم الجهاد وباسم الاستشهاد؛ لتحقيق أغراض ، الله عليم بها ، وكذلك: إطلاق لفظ الشهيد على أولئك الذين يقتلون تحت راية وطنية أو قومية أو مذهبية أو طائفية؛ بقصد تحقيق مكاسب سياسية تخدم قوى الكفر من النصارى واليهود.
المفهوم الصحيح للجهاد:
المعنى الصحيح للجهاد هو ما فسره الرسول الكريم (عليه الصلاة والسلام) في الحديث الذي رواه البخاري ، عن أبي موسى (رضي الله عنه) قال: «قال أعرابي للنبي: الرجل يقاتل للمغنم ، والرجل يقاتل ليُذكر ، والرجل يقاتل ليُرى مكانه ، من في سبيل الله؟ ، فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»(10) ، ويعلق الإمام ابن حجر على هذا الحديث فيقول: «وفي إجابة النبي -صلى الله عليه وسلم- بما ذكر غاية البلاغة والإيجاز ، وهو من جوامع كلمه ؛ لأنه لو أجابه بأن جميع ما ذكره ليس في سبيل الله لاحتمل أن يكون ما عدا ذلك كله في سبيل الله ، وليس كذلك ، فعدل إلى لفظ جامع عدل به عن الجواب عن ماهية القتال إلى حال المقاتل ، فتضمن الجواب وزيادة»(11).
إن على المسلمين أفراداً أو جماعاتٍ أن يكونوا على حذر من الدعوات التي تطلق باسم الجهاد ، فلا ينخدع المسلم بكل من رفع راية الجهاد ، وزعم أن رايته راية إسلامية ، وعليه أن يتحقق من صحة دعوى الجهاد التي يطلقها الزعماء والقادة وأتباعهم ممن يزعم العلم والصلاح ، وذلك بعدة أمور ، من أهمها ما يلي:(3/119)
1- النظر إلى المنهج الفكري للداعي للجهاد ، وهل هو منهج إسلامي أم غير إسلامي ، وهل من يدعو للجهاد يمارس الإسلام قولاً وسلوكاً وتنظيماً ونظاماً ، أم إن الدعوة جاءت لجذب الأنصار وللتضليل مع أن منهج الداعي في منظمته أو دولته يتعارض مع الإسلام ومبادئه؟ ، لهذا: ينبغي النظر بدقة إلى واقع الداعي ، ومدى التزامه بالإسلام فعليّاً من عدمه.
2- دراسة وتمحيص التاريخ الشخصي للقادة الذين ينادون بالجهاد ومُنظِري ذلك من أتباع القادة من المفكرين الذين يؤطرون لهؤلاء القادة من خلال دراسة مدى سلامة عقيدتهم وسلوكهم قبل وصولهم إلى مراكز القيادة ، وهل كانوا ذوي ارتباطات سابقة مع أعداء الله من ولاء وعمالة وخيانة ونفاق؟ ، وعلى ضوء هذا يتم تحديد صدق دعوة ذلك الزعيم من عدمها؛ فإذا كان القائد الداعي إلى الجهاد معروفاً بعدائه السابق للإسلام وتشريعاته ، بل كان حرباً على التوجهات الإسلامية ، عليه: فلا يمكن الركون إليه ولا إعانته ، حتى ولو أظهر للناس ـ عند الحاجة ـ مظاهر الإسلام لخداعهم.
3- معرفة أهداف القتال ومراميه، الذي من أجله طلب من الناس القيام بواجب الجهاد، فهل هذا القتال من أجل محاربة الكفار وصد عدوانهم على مجتمع يعيش فيه المسلمون ، أو محاربة وجودهم في أرض الإسلام؟، ففي هذه الحالة ينبغي تلبية الداعي ولو كان فاسقاً في نفسه ومنحرفاً في سلوكه ، وإن كان الغرض من القتال هو العمل على إقامة حكم يلتزم بشرع الله ـ وذلك بتحكيم الإسلام في كل أمور الحياة ـ فينبغي عندئذ: وضوح هذا الهدف وأن يكون ذلك سياسة معلنة لا غموض ولا لبس فيها ، وليس من أجل الاستهلاك وخداع الناس وتضليلهم ، ولهذا: لا بد من التأكد من صحة هذه الدعوى من خلال قيام الداعي بالممارسة العملية لتطبيق الشريعة قبل وبعد إعلان الجهاد ، وعدم التسويف حتى تنتهي الأزمة ويتم الانتصار ، ثم يقلب الزعيم ظهر المجن لأولئك البسطاء من الناس ممن خدعهم.
4- التأكد من نوعية القيادة لمختلف مستويات المجموعة أو الدولة التي تعلن الجهاد ، فهل هي نوعية ملتزمة في سلوكها وعقيدتها بالإسلام ، وهل سياساتها وعلاقاتها تجري على ضوء تعاليم الإسلام ، أم إن المسألة دعايات ومظاهر فقط ، وربما تكون وليدة ردود أفعال لمآزق وقعت فيها الأنظمة ، فيكون الهدف حشد الرأي العام في مناصرتها ، فهذا ما يجب معرفته بحق.
فإذا تأكد المسلم من توافر هذه الشروط والأحوال فيمن يدعو لجهاد أعداء الله من الكفار ، وأصبح للداعي تميز مكاني؛ فأصبح للجماعة المنادية للجهاد أرض تمارس فيها حكم الله ، ومن موضعها يتم الانطلاق للجهاد ، فعندئذ يصبح الجهاد فرضاً على كل قادر ، بل إن الهجرة لهذا المكان واجبة على القادرين لمناصرة المسلمين ، وهذا ما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما هاجر إلى المدينة ، وأصبح للمسلمين دار إسلام ودار منعة؛ حيث وُجدت القيادة ، وأصبح للأمة قائد يتولى أمرها ، أما قبل ذلك ، وخلال مرحلة الضعف في مكة: فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منع المسلمين من مقاتلة كفار مكة ، وأوجب عليهم تحمل الأذى.
__________
1) النكت والعيون في تفسير القرآن ، لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي ، جـ1،
2) غرائب القرآن ، للحسن بن محمد النيسابوري ، جـ2 ، ص 228.
3) فتح الباري شرح صحيح البخاري ، للحافظ ابن حجر العسقلاني ، جـ3.
4) تفسير ابن كثير ، جـ3 ، ص 321.
5) تفسير ابن كثير ، جـ3 ، ص 404.
6) أخرجه مسلم ، ك الإيمان ، ح/80.
7) أخرجه مسلم ، ك الإيمان ، ح/78 ، وكذا: الترمذي والنسائي وأحمد بن حنبل.
8) غرائب القرآن ورغائب الفرقان ، للحسن بن محمد النيسابوري ، جـ4 ، ص 28.
9) أخرجه الإمام أحمد في المسند ، 2/84 ، وأبو داود ـ واللفظ له ـ ، ك البيوع ، وصححه الألباني ، ح/11 من السلسلة الصحيحة.
- البيان -
10) أخرجه البخاري ، ك الخمس ، واللفظ له ، ومسلم ، ك الإمارة ، ح/149 ، وأحمد ابن حنبل ، 1/416.
11) فتح الباري ، جـ 6 ، ص 28 ، 29.
===============
القوانين الوضعية هل لها دور في انتشار الردة؟
بقلم: د. علي مقبول
تمهيد:
يُعرّف القانون الجنائي الوضعي بأنه: (مجموعة القواعد التي تنظم سلطة الدولة في توقيع العقاب على المجرمين، وهو يشمل قانون العقوبات وقانون أصول المحاكمات الجزائية أو قانون الإجراءات الجنائية، ولكل من هذين تقنينٌ مستقل)(1).
والقانون الجنائي الإسلامي كان ولا يزال يتعرض لهجوم شديد من قِبَلِ أعداء الإسلام؛ لأنه ـ وللأسف الشديد ـ لا يُدْرَس ولا يطبق منه في البلاد الإسلامية إلا الجزء الخاص بالأحوال الشخصية، وما عدا ذلك فهو مهمل إهمالاً يكاد يكون تامّاً. وقد أدى هذا الإهمال إلى نتيجة لا بد منها وهي أن المجتمعات الإسلامية أصبحت تجهل أحكام هذا القسم جهلاً فاضحاً؛ بدليل أننا لم نسمع أنه قد أقيم حد الردة، أو الرجم، أو نحو ذلك في هذه البلدان.
وكذلك رأينا كيف تعرض القانون الجنائي الإسلامي للتغيير، وكانت بدايةُ ذلك على أيدي حكام الدولة التركية، فكان القانون الجنائي التركي أول قانون اقتُبس من القوانين الفرنسية.
ثم بعد ذلك صدر قانون العقوبات المصري في مصر سنة 1875م، وطبق في المحاكم المختلطة ثم المحاكم الأهلية سنة 1883م، وقد استمده واضعوه من القانون الفرنسي.
وقد استحدث القانون الجنائي المصري عقوبات وإجراءات للتحقيق غريبة عن البلاد، وأدى تطبيقه إلى شيء من الاضطراب، وازدادت الجرائم عقب تطبيقه زيادة لفتت الأنظار.(3/120)
وقد لاحق رجال القانونِ قانونَ العقوبات بالتعديل والتبديل، ولكن لم يُجْدِ ذلك شيئاً فقد استمر تكاثر الجريمة وانتشارها؛ ففي سنة 1904م، صدر تقنين جديد لقانون العقوبات، ولقانون تحقيق الجنايات، وقد أخذه واضعوه من القانون الفرنسي والإيطالي والبلجيكي والإنجليزي والهندي والسوداني، وغُيِّرَ هذا القانون في سنة 1937م، ولم يفد كل هذا، ولو أنصف القوم لأقاموا شريعة الله ـ تعالى ـ وعند ذلك سيرون كيف يعالج الجريمة ويقضي عليها(2).
وبعد هذا التمهيد لنا أن نتساءل: ما هو حكم المرتد في القوانين الوضعية؟
جرت القوانين الوضعية ـ مجتمعة ـ على إغفال النص على عقوبة المرتد؛ والسبب في إغفال ذلك من وجهة نظري ما يلي:
أولاً: الأخذ بمبدأ حرية العقيدة.
ثانياً: الأخذ بمبدأ القاعدة القانونية المشهورة: (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص في القانون).
ثالثاً: التوقيع على مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (مواثيق الأمم المتحدة المتعلقة بحقوق الإنسان).
رابعاً: موقف واضعي القوانين الوضعية من الدين.
وسوف أتناول دراسة هذه الأسباب بشيء من الإيجاز، ثم أبين موقف الشريعة الإسلامية من ذلك.
أولاً: مبدأ حرية العقيدة والديانة:
يقصد بمبدأ حرية العقيدة والديانة: حرية الفرد في أن يعتنق الدين أو المبدأ الذي يريده، وحريته في أن يمارس شعائر ذلك الدين سواء في الخفاء أو العلانية، وحريته في أن لا يعتقد في أي دين، وحريته في أن لا يُفرض عليه دين معين، أو أن يُجبر على مباشرة المظاهر الخارجية أو الاشتراك في الطقوس المختلفة للدين، وحريته في تغيير دينه أو عقيدته، كل ذلك في حدود النظام والآداب(3).
وقد تناول دستور مصر الصادر سنة 1923م هذه الحرية ـ كغيره من الدساتير ـ، فنصت المادة (12) على أن (حرية الاعتقاد مطلقة) كما نصت المادة (13) على أن: (تحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقاً للعادات المرعية في الديار المصرية، على أن لا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافي الآداب(4).
ومما سبق يتضح لنا: أن مجلس الدولة المصري حرص على حماية حرية العقيدة، إلا أنه قرن ذلك بضرورة خضوعها للعادات المرعية، وأن تجد حدها في عدم الإخلال بالنظام العام أو منافاة حرمة الآداب؛ دون إشارة إلى عقائد الإسلام بوجه خاص.
وقد أوضحت لنا محكمة القضاء الإداري (المصري) أن حرية العقيدة وإن كفلها الدستور وفرض على الدولة توفير حمايتها لكل فرد، إلا أنها ليست مطلقة من كل قيد، بل يجب أن تخضع للعادات المرعية، وأن تجد حدها عند عدم الإخلال بالنظام العام أو منافاة حرمة الآداب، فلا يسرف فيها إلى حد المغالاة والتطرف، ولا يتخذ منها وسيلة للطعن في عقيدة أخرى، بما يثير النفوس ويُحفظ الصدور، ولا يُتذرع بها للخروج على المألوف من الأسس الدنيوية والأوضاع الشرعية القائمة، ولا تُستغل بها عواطف البسطاء من الناس باسم الدين لبلبلة أفكارهم وزعزعة عقائدهم(5). ولكن التطبيق العملي لذلك المبدأ القانوني فتح أبواباً من الفوضى العقائدية...
ثانياً: عدم وجود نص على عقوبة المرتد (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص).
استُمدت معظم الدساتير العربية من الدستور المصري، ولهذا أكدت جميع تلك الدساتير على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات(6) ومبدأ قضائية العقوبة كضمان للحريات الفردية من تعسف السلطة أو تجاوزاتها، ومن ذلك ما نصت عليه المادة (66) من الدستور المصري على أن(7): (العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون)(8).
فالدساتير العربية قد نصت على هذا المبدأ، وقد أكد هذا المبدأ ـ أيضاً ـ التشريعات العقابية العربية، ومن بينها على سبيل المثال: قانون العقوبات الاتحادي رقم (3) لسنة 1978م لدولة الإمارات العربية المتحدة المادة (1، 4)، قانون الجزاء الكويتي المادة (1)، قانون عقوبات قطر المادة (2). وكلها تؤكد على أن العقاب على الجنايات والجنح والمخالفات وفق القانون المعمول به وقت ارتكابها. ويعد مبدأ الشرعية الجنائية دستور قانون العقوبات، ويقصد به: التغيير عن القاعدة الجنائية الشهيرة القائلة بأنه: (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص في القانون)(9).
والهدف من هذه القاعدة: هو حماية الفرد من خطر التجريم والعقاب بغير الأداة التشريعية وهو القانون.
فاختصاص السلطة التشريعية وحدها بتحديد الأفعال التي تعد جرائم وبيان أركانها، وتحديد العقوبات المقررة لها سواء من حيث نوعها أم مقدارها، يعد من أهم الضمانات الأساسية لحماية الحرية الفردية(10).
وخلاصة القول: أن مبدأ الشرعية يلزم المحاكم بأن لا تحاكم أي إنسان إلا بموجب القواعد المفروضة على جميع المتقاضين هذا أولاً. وثانياً: يحظر قانون العقوبات القياس خشية امتداد النص الجنائي إلى أفعال لم يحرمها المشرع ولم يقرر لها عقاباً؛ فالقياس يفتح الباب على مصراعيه لتحكم القضاة في أحكامهم مما يؤدي إلى إهدار وانتهاك مساواة المواطنين أمام القانون الجنائي(11).
ثالثاً: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان(12):
أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948م على المساواة القانونية بصفة عامة، فنص في مادته الأولى على أنه: (يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، وهم قد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء).(3/121)
ويدين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التمييز بجميع أشكاله في التمتع بجميع الحقوق والحريات، وذلك فيما سطره في المادة الثانية من أنه: (لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع. ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسياً أو غير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع آخر...).
وكذلك نصت الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان(13) صراحة على حظر جميع أنواع التمييز بين الأفراد، حيث ذكرت المادة (14) من هذه الاتفاقية على أنه: (يكفل التمتع بالحقوق والحريات المقررة في هذه المعاهدة دون تمييز أياً كان أساسه: كالجنس،أو العرق،أو اللون،أو اللغة،أو العقيدة،أو الرأي السياسي،أو غيره أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الانتماء إلى أقلية قومية، أو الثروة، أو الميلاد، أو أي وضع آخر).
وقد يقول قائل: وما دخل هذه الاتفاقيات وحكم المرتد ؟ خاصة وأن هذه الاتفاقات ليس لها قوة ملزمة بالنسبة للدول؟ فمن غير المقبول أن يكون لسلطة الجمعية العامة للأمم المتحدة فرض قواعد ملزمة على دول الأعضاء؛ لذا فإن هذه الإعلانات تأخذ في حقيقة الأمر شكل التوصيات؛ أي أنها إعلانات نوايا مجردة تماماً من كل قيمة قانونية إلزامية(14).
والجواب:
أولاً: أن هناك من رجال القانون العام العرب(15) من يرى أن للقواعد التي تتضمنها إعلانات الحقوق قيمة قانونية تعادل القيمة القانونية للنصوص الدستورية؛ ومن ثم فإن قوتها تعلو القوانين العادية وتكون واجبة الاحترام من السلطة التشريعية.
ثانياً: أن الدول الإسلامية ـ وللأسف الشديد مع ضعفها سياسياً ـ تحسب لهذه القضايا ألف حساب؛ حيث أنها تراعي الديمقراطية الغربية والنمط الغربي، وتخاف من الضغوط الغربية عليها؛ ولذلك نسمع ونشاهد أنه عندما يحكم على أحد المجرمين بالإعدام في البلدان الإسلامية فإن الدنيا تقوم ولا تقعد، وقد يباد شعب من المسلمين بأكمله ولا يتحرك هذا الضمير الغربي المدافع عن حقوق الإنسان؛ والواقع المعاصر أكبر شاهد على ما نقول!
ثالثاً: تختلف القوانين الوضعية عن الشريعة الإسلامية في أنها لا تعاقب على تغيير الدين بالذات، ولكنها تأخذ بنظرية الشريعة وتطبقها على من يخرج على النظام الذي تقوم عليه الجماعة؛ فالدولة الشيوعية تعاقب من رعاياها من يترك المذهب الشيوعي وينادي بالديمقراطية أو الفاشية، والدولة الفاشية تعاقب من يخرج على الفاشية وينادى بالشيوعية أو الديمقراطية، والدول الديمقراطية تحارب الشيوعية والفاشية وتعتبرها جريمة؛ فالخروج على المذهب الذي يقوم عليه النظام الاجتماعي في دائرة القانون يقابل الخروج على الدين الإسلامي الذي يقوم عليه نظام الجماعة في الشريعة الإسلامية.
والخلاف بين الشريعة والقوانين في هذه المسألة خلاف في تطبيق المبدأ وليس خلافاً على ذات المبدأ؛ فالشريعة الإسلامية تجعل الإسلام أساس النظام الاجتماعي، فكان من الطبيعي أن تعاقب على الردة لتحمي النظام الاجتماعي.
والقوانين الوضعية لا تجعل الدين أساساً للنظام الاجتماعي، وإنما تجعل أساسه أحد المذاهب الاجتماعية. فكان من الطبيعي أن لا تحرم تغيير الدين وأن تهتم بتحريم كل مذهب اجتماعي مخالف للمذهب الذي أسس عليه نظام الجماعة(16).
ومما سبق يتبين لنا: أن القوانين الوضعية أغفلت النص على عقوبة المرتد، ولم يكن هذا الموضوع ليشغل بال واضعي القانون؛ وذلك لأن رجال القانون يعتبرون حد الردة وحشية وهمجية ولا يتناسب مع القرن العشرين الذي نعيش فيه!
وإن تعجب فعجبٌ أنّ رجال القانون قد وضعوا عقوبة شديدة جداً قد تصل إلى حد الإعدام لما يسمونه بالخيانة العظمى ـ على ما سيأتي تفصيله ـ وهي تتمثل في إفشاء أسرار الدولة الخارجية والداخلية، أو التعرض لشخص رئيس الدولة، ومن خلال النصوص التي ذكروها يتضح جلياً أن خيانة الدين والردة عنه مسألة فيها نظر؛ أما خيانة الوطن فهي مسألة ذات خطر؛ ولعلِّي ـ عزيزي القارئ ـ أبين لك بعض النصوص القانونية التي توضح ذلك.
تعريف الخيانة العظمى: يطلق رجال القانون اصطلاح الخيانة على عدد من الاعتداءات الخطيرة الواقعة على أمن الدولة الخارجي، وهي جميعها جنائية الوصف، وتنم عن فصم روابط الولاء الذي يشعر به المواطن نحو وطنه وأمته ودولته، وعن استهدافه في خدمة الدولة الأجنبية وتعهده مصالحها على حساب مصلحة دولته التي ينتمي إليها(17).
إذن فيعتبر خيانة عظمى: كل جريمة تمس سلامة الدولة أو أمنها الخارجي أو الداخلي أو نظام الحكم الجمهوري.
عقوبة الخيانة العظمى: يكون معاقباً عليها في القوانين بعقوبات الإعدام، أوالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، أو الاعتقال المؤبد أو المؤقت(18).
مع العلم أن مخالفة الأحكام الأساسية التي يقوم عليها الدستور لا تنضوي تحت مدلول (الخيانة العظمى) وإنما جعل المشرع الوضعي هذه المخالفة (مخالفة الخيانة العظمى) جريمة مستقلة وعاقب عليها بعقوبة خاصة(19).
وكما تلاحظ فإن المشرِّع الوضعي أورد نصاً خاصاً ومستقلاً لجريمة الخيانة العظمى لخطورة هذه المسألة في نظره(20) مع أنه لم يورد نصاً خاصاً أو عاماً عن أحكام الردة؛ لأن هذه مسألة تدخل في نطاق الحرية العقدية والدينية. فإلى الله المشتكى من هوان الدين على أبنائه.(3/122)
وأذكر من باب الفائدة أن بعض القوانين الوضعية تفرق بين الخيانة العظمى وخيانة الوطن، أما الأولى: فتشمل أكثر الجرائم المخلة بأمن الدولة الداخلي كالجنايات الواقعة على الدستور وغيرها، وأما الثانية: أي خيانة الوطن فتقع على أمن الدولة الخارجي، وهي إما أن تكون خيانة عسكرية وتتناول جميع أنواع الخدمات التي يقدمها الفاعل إلى العدو في خلال الحرب، كما تتناول شتى ألوان الدسائس التي يستعملها لدن دولة أجنبية لدفعها إلى مباشرة الاعتداء على الوطن أو لتوفير الوسائل اللازمة لذلك. وإما أن تكون خيانة سياسية أو دبلوماسية وتتناول جميع الأفعال التي تؤول إلى إفشاء أسرار الدولة أو الإضرار بمركزها السياسي. وقد تقع أفعال الخيانة السياسية زمن السلم وزمن الحرب على السواء. ويُجمع شراح الأنظمة، في هذه الحال، على صعوبة التفريق بين أفعال هذه الخيانة وأفعال التجسس(21).
وفي نهاية المطاف وقبل أن أبين موقف الشريعة الإسلامية من هذا الموضوع الخطير أرد على شبهتين أساسيتين هما:
أ - أن عقوبة المرتد تَدَخّل في حرية العقيدة ومُصَادَرَةٌ لها، وإكراه على تبديل الدين، وإجبار الإنسان على اعتناق ما لا يريده ولا يرغب فيه.
وهذه الشبهة مردودة؛ لأنها تنطلق من الجهل بطبيعة هذه العقوبة، والجهل بمعنى الردة، ومعنى الإكراه على اعتناق العقيدة.
وبيان ذلك: أن الردة ـ كما هو معروف ـ رجوع عن الإسلام، والمرتد هو الراجع عن الإسلام. فنحن إذن إزاء مسلم ارتكب جريمة معينة هي الردة، ولسنا أمام يهودي أو نصراني نريد أن نكرهه على تبديل دينه وحمله على اعتناق الإسلام. ومبدأ أن لا إكراه في الدين مبدأ مقرر في الشريعة الإسلامية بنص القرآن ولا يجوز المساس به، بدليل واضح بسيط أن الإسلام شَرَعَ الجزية وعقد الذمة؛ وهذا يعني إبقاء غير المسلم على دينه وتركه وما يدين به.
فلو كان الإكراه على تبديل الدين واعتناق الإسلام بالجبر والإكراه مشروعاً لما شَرَعَ الإسلام عقد الذمة.
ولكن قد يقال: فلماذا، إذن، نعاقب المرتد؟ ألا يعني هذا إكراهه على الاستمرار على دين الإسلام وقد أصبح لا يرضاه؟!
والجواب: أن المسلم بإسلامه التزم أحكام الإسلام وعقيدته، والإخلال بالالتزام لا يجوز، ويعاقب المخل بالتزامه بالعقوبة المناسبة، فعقوبة المرتد إذن وجبت لإخلال المسلم بالتزامه. وبالإضافة إلى هذا الإخلال فإن المرتد بردته يرتكب جملة جرائم أخرى، وهذه الجرائم نتيجة حتمية لردته، وبيان هذه المسألة: أن المرتد لا بد أن يعلن ردته بشكل من أشكال الإعلان؛ لأنه لو كتمها ولم يعلنها لما عرفنا به ولبقي من المنافقين، فإعلانه للردة جريمة أخرى؛ لأن فيها استخفافاً بعقيدة الأمة ونظامها الذي ارتكز على الإسلام، كما أن في ردته تشجيعاً للمنافقين لمتابعته في ردته وإظهار نفاقهم، وتشكيكاً لضعاف العقيدة بعقيدتهم، وهذا كله يؤدي إلى اضطراب في المجتمع واهتزاز في نظامه القائم على الإسلام واستخفاف به؛ وهذه أمور جسيمة يجب منعها عن المجتمع الإسلامي بمعاقبة المرتد. وجعلت عقوبة المرتد القتل؛ لأن جريمته خطيرة؛ ولأن إخلاله بالتزامه إخلال خطير جداً، ويجب أن لا نستغرب ذلك؛ فرب إخلال بالالتزام يترتب عليه قتل المخل ـ مثلما تقدم في عقوبة الخيانة العظمى ـ بهذا، كما لو تعاقد شخص مع الدولة لتز ويد الجيش بالأرزاق، فإذا تعمد هذا المتعاقد عدم التزويد بالأرزاق، والجيش في حاجة إليها، كما لو كان في حالة حرب، مع قدرة المتعاقد على الإيفاء بالتزامه؛ فإن عقوبته قد تصل إلى الإعدام(22).
وأخيراً: فإن الشريعة الإسلامية، مع خطورة جرم المرتد أوجبت إمهاله ثلاثة أيام فإذا رجع عن ردته سقط عنه العقاب، فهل بعد هذا الذي قلناه تبقى لأحد حجة للقول بأن في عقوبة المرتد تدخلاً في حرية العقيدة واكراهاً على تبديل واعتناق الإسلام؟!!
ب - أن في عقوبة المرتد مخالفة للنص الدستوري الذي ينص على أن: (حرية الاعتقاد مطلقة)(23).
وهذه الشبهة ـ أيضاً ـ مردودة؛ لأن الدستور في جميع الدول الإسلامية ينص على: (أن الإسلام دين الدولة)(24). واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع. كما تنص قوانين العقوبات الحالية على أن لا تخل أحكام هذا القانون في أي حال من الأحوال بالحقوق الشخصية المقررة في الشريعة الغراء(25).
وإذا كان الدستور يقضي باتخاذ الشريعة الإسلامية مصدراً رئيساً(*)، للتشريع فإنه يترتب على ذلك أنه لا يجوز لتشريع وضعي لاحق لصدور الدستور، أو حتى كان سابقاً عليه أن يخالف حكماً قطعياً من أحكام الشريعة الإسلامية وإلا كان التشريع مشوباً بعيب مخالفة الدستور.
والكلام السابق هو كلام رجال القانون، حيث بينوا أن أي حكم أو تشريع وضعي لاحق لصدور الدستور يعتبر مخالفاً للنصوص الدستورية الأعلى منه قوة وهو ما يطلق عليه عيب مخالفة الدستور(26).
موقف الشريعة الإسلامية من الردة:
إن الردة تعتبر من الجرائم ذات الخطورة البالغة على المجتمع والدولة والأمة الإسلامية؛ والحس الإسلامي يرفض أن يكون هناك تساهل فيها؛ وقد شرع الإسلام القتل لجرائم أخف ضرراً؛ حيث أمر بقتل الزاني المحصن بأسلوب رادع زاجر؛ لما يترتب على فعله من نشر الفحشاء بين المسلمين، وأمر بالقصاص حفظاً لأمن الجماعة، فلا يعقل أن تكون معالجة جريمة الردة، وعقاب مرتكبها، أخف ضرراً مما سبق؛ لأنه يترتب على الردة انهيار أركان المجتمع بمجمله دون ذلك.
والحق أن المرتد إذا ثبتت ردته، وانطبقت عليه الشروط وانتفت الموانع فإنه يجب على الدولة الإسلامية قتله إذا لم يتب لما ثبت في ذلك من السنة وإجماع أهل العلم(27).(3/123)
وكذلك فإن من أهم مقاصد الشريعة: حفظ الدين من أعدائه أو من أدعيائه؛ وهو في هذه الحالة لا يكون مناقضاً لمبادئه؛ وإنما مؤكداً لها وحامياً في الوقت نفسه.
الهوامش :
(1) انظر د. عمر الأشقر، الشريعة الإلهية لا القوانين الوضعية، دار النفائس، ط3، 1412هـ ـ 1991م، ص 78.
(2) د. عبد المنعم فرج الصدة، أصول القانون، دار النهضة العربية، مصر، طبعة 1978م، ص 57.
(3) انظر د. عمر الأشقر، المرجع السابق، ص 78 ـ 79.
(4) انظر د. فاروق عبد البر، دور مجلس الدولة المصري في حماية الحقوق والحريات العامة، ط 1988، ص 261.
(5) المرجع السابق، ص 261.
(6) د. فاروق عبد البر، المرجع السابق، ص 262.
(7) انظر على سبيل المثال: الدستور المصري المادة (66)، ودستور دولة الإمارات العربية المتحدة لعام 1971م المادة (27)، ودستور الكويت المادة (23)، الدستور السوري المادة (10)، الدستور اللبناني المادة (8)، الدستور العراقي المادة (20).
(8) نص على هذا المبدأ في المادة (6) من الدستور المصري لعام 1923، والمادة (23) من دستور سنة 1956م، والمادة الثامنة من دستور 1958م، والمادة (25) من دستور 1964م.
(9) د. أحمد شوقي أبو خطوة، المساواة في القانون الجنائي، دراسة مقارنة، الناشر، دار النهضة العربية، 1991م، ص 54، وما بعدها.
(10) هذه القاعدة ترجمة للتعبير اللاتيني: Nullum Crimea, nulla Poena Sinelege.
11) انظر: د. مأمون سلامة، قانون العقوبات، القسم العام، دار الفكر العربي، 1990م، ص 24.
(12) د. أحمد شوقي أبو خطوة، المرجع السابق، ص 57 ـ 58.
(13) صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من ديسمبر، 1948م. (انظر: حقوق الإنسان، مج1، الوثائق العالمية والإقليمية، إعداد: د. محمود شريف بسيوني، د. محمد السعيد الدقاق، د. عبد العظيم وزير، دار العلم للملايين، ط1، ص 17)، وراجع: د. علي صادق أبو هيف، القانون الدولي العام، منشأة المعارف، الإسكندرية، ط11، ص 995، وراجع: المادة (2) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
(14) راجع: حقوق الإنسان، مج1، الوثائق العالمية والإقليمية، المراجع السابقة، ص 327.
(15) راجع: د. عبد العزيز محمد سرحان، الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، دار النهضة العربية، 1966م، ص 27.
(16) من أهل هذا الرأي في النظام المصري: د. مصطفى أبو زيد، الدستور المصري ورقابة دستورية القوانين، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1985، ص 198، وغيره كثير.
(17) عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي، مقارناً بالقانون الوضعي، مؤسسة الرسالة، ط10، 1409 هـ ـ 1989م، ج1/536 فقرة (377).
(18) انظر: د. محمد الفاضل، الجرائم الواقعة على أمن الدولة، ج1، الطبعة والناشر بدون، ج1/147.
(19) انظر على سبيل المثال: المادة (5) من قانون محاكمة الوزراء السوري الصادر في 22/6/1958م، والمواد (77 ـ 85) من قانون العقوبات المصري المتعلق بالخيانة العظمى.
(20) د. محمد الفاضل، المرجع السابق، ج1/148.
(21) راجع قانون العقوبات المصري حيث وردت نصوص بشأن الخيانة العظمى، وهي من المواد (77 ـ 85).وراجع: جرائم أمن الدولة وعقوبتها في الفقه الإسلامي، د. يوسف عبد الهادي الشال، المختار الإسلامي، ط1، 1396هـ 1976م.
(22)1 د. محمد الفاضل، المراجع السابقة، ج1/150.
(23) د. عبد الكريم زيدان، مجموعة بحوث فقهية، مؤسسة الرسالة، طبعة، 1407هـ ـ 1986م، ص 415 ـ 416.
(24) انظر على سبيل المثال: المادة (12) من النظام الدستوري المصري.
(25) انظر على سبيل المثال: المادة (2) من دستور جمهورية مصر العربية الصادر سنة 1971م.
(*) هكذا يقولون لكي لا يلتزمون بذلك، إضافة أن هذه العبارة (الشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع) مردودة شرعاً، فإن المتعين أن تكون الشريعة المصدر الوحيد للتشريع فلا يجوز اتخاذ شركاء مع الله ـ تعالى ـ في تشريعه وحكمه.
(26) راجع: قانون العقوبات المصري.
(27) النظرية السياسية الإسلامية في حقوق الإنسان الشرعية ـ دراسة مقارنة ـ للدكتور محمد مفتي، ود. سامي صالح الوكيل، إصدار مجموعة الأمة، طبعة بدون.
==============
حقيقة الجهاد وأطواره
للشيخ عبد القادر شيبة الحمد المدرس بالجامعة
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعهد بنصرة أوليائه وفي ذلك يقول: } وإنّ جندنا لهم الغالبون { , وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله القائل: "إن الجنة تحت ضلال السيوف", صلى الله وسلم وبارك عليه, وعلى آله وصحبه الموصوفين في محكم الكتاب بأنهم } أشداءُ على الكفار رُحماءُ بينهم { , سلكنا الله وإياكم في حزبهم, وهدانا لسلوك دربهم وسبيلهم أما بعد:(3/124)
فإن فريضة من فرائض الإسلام لم تتعرض لما تعرض له الجهاد من طعن أعداء الإسلام فيه، والتشويش عليه، وجعل ذلك سبيلاً للوصول إلى غمز الدين كله، حتى صاروا يوهمون الجاهلين بأن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف، وأنه لو كان حقاً من عند الله لاعتمد على الحجة والبرهان، لا على السيف والسنان، ولم يقف أعداء الإسلام عند ذلك فحسب، بل استطاعوا أن يوجدوا من أبناء المسلمين من يحمل راية الحرب على الجهاد, إما بإبطاله أصلاً, كما فعل الملحد الضال غلام أحمد القادياني والقاديانيون، فقد بذل هذا المارق كل جهده في محاربة فريضة الجهاد في الإسلام، فبعد أن أعلن عام (1902م) أنه نبي مرسل, وأصدر رسالة سماها (تحفة الندوة) قال فيها: "فكلما ذكرت مراراً أن هذا الكلام الذي أتلوه هو كلام الله بطريق القطع واليقين كالقرآن والتوراة، وأنا نبي ظلي وبروزي من أنبياء الله، وتجب على كل مسلم إطاعتي في الأمور الدينية, ويجب على كل مسلم أن يؤمن بأني المسيح الموعود, وكل من بلغته دعوتي فلم يحكمني, ولم يؤمن بأني المسيح الموعود, ولم يؤمن بأن الوحي الذي ينزل عليّ من الله, مسئولٌ ومحاسبٌ في السماء -وإن كان مسلماً-؛ لأنه قد رفض الأمر الذي وجب عليه"، ثم يقول: "وقد شهد لي القرآن وشهد لي الرسول وقد عين الأنبياء زمان بعثتي.."، ثم ادعى أنه نسخ الجهاد الذي شرع الإسلام, وأن الواجب على كل مسلم أن يسالم الإنجليز، وألف لذلك كتاباً سماه (ترياق القلوب) يقول في (ص: 15) منه: "لقد قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الإنجليزية ونصرتها, وقد ألفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أولى الأمر الإنجليز من الكتب والإعلانات والنشرات ما لو جمع بعضها إلى بعض لملأ خمسين خزانة، وقد نشرت جميع هذه الكتب في البلاد العربية ومصر والشام وتركيا، وكان هدفي دائماً أن يصبح المسلمون مخلصين لهذه الحكومة, وتمحى من قلوبهم قصص المهدي السفاك، والمسيح السفاح, والأحكام التي تبعث فيهم عاطفة
الجهاد, وتفسد قلوب الحمقى".
ويقول في رسالة قدمها إلى نائب حاكم المقاطعة: "لقد ظللت منذ حداثة سني وقد ناهزت اليوم الستين أجاهد بلساني وقلمي لأصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية, والنصح لها, والعطف عليها, وألغي فكرة الجهاد التي يدين بها بعض جهالهم, والتي تمنعهم من الإخلاص لهذه الحكومة". وقد بذلت الحكومة الإنجليزية كل مستطاع لإنجاح هذه الدعوة, وأغدقت على دعاتها الأموال الطائلة والمناصب الرفيعة.
ولم يقف أعداء الإسلام في محاربة دعوة الجهاد إلى هذا الحد، بل صاروا يساعدون على نشر أفكار أخرى, منها أن الجهاد في الإسلام ليس من أجل الإسلام، وإنما هو لمجرد الدفاع عن النفس فقط، وقد لقيت هذه الفكرة نجاحاً في أوساط المثقفين من المسلمين بالثقافة الأجنبية حتى رسخت في قلوب عامة المفكرين تقريباً في هذا العصر الحاضر، فصاروا دعاة لها، ونسي هؤلاء أو تناسوا أن الدفاع أمر طبيعي لا ديني، فالحيوانات بل حتى الجمادات والنباتات قد خلقت في الكثير منها خاصية الدفاع ضد أعدائها كما هو معروف في علم النبات، وعلم الحيوان، وسنحاول هنا الإشارة إلى طبيعة الجهاد عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهم الذين يحملون الراية ضد الجهاد في الإسلام, ويشيعون ويذيعون أن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف, ناسين أو متناسين أو جاهلين ما عندهم في التوراة والإنجيل ، وناسين أو متناسين أو جاهلين كذلك أن جنوب شرق آسيا يعيش فيه الآن أكثر من مائة وخمسين مليون من المسلمين, منهم حوالي مائة مليون في أندونيسيالم يذهب إليهم جندي واحد من جيش المسلمين، بل دخلوا في دين الله أفواجاً من تلقاء أنفسهم لما ظهر لهم أنه الدين القيم، كما سنحاول كذلك الإشارة إلى أطوار الجهاد في الإسلام، إن شاء الله.
تعريف الجهاد:
الجهاد في لغة العرب معناه المشقة، يقال: جهدت أي بلغت المشقة.
أما تعريفه شرعاً فهو بذل الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس والشيطان والفساق قال الحافظ في الفتح: "فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور الدين ثم على العمل بها ثم على تعليمها, وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات, وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب, وأما مجاهدة الفساق فباليد ثم اللسان ثم القلب، وأعلى أنواع الجهاد هو الجهاد بالنفس على حد قول الشاعر:
يجود بالنفس أن ظن البخيل به
والجود بالنفس أسمى غاية الجود
تاريخه:
والجهاد مشروع في الأصل في جميع الديانات السماوية، يشير إلى ذلك قوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .(3/125)
وكذلك قوله عز وجل في شأن موسى صلى الله عليه وسلم: } يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ, قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ, قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ, قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ, قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} .
وكقوله عز وجل: } فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ { .
طبيعة الجهاد في الأديان السابقة:
وكان الجهاد في الأديان السابقة يتسم بالعنف على العدو، فيوجب تحريق بلده وإبادته وقتل النساء والأطفال والشيوخ المسنين، ولا يبيح الأسرى إلا لأمد قصير، وإليكم نصوصاً من التوراة والإنجيل أو بتعبير آخر: من العهد القديم والعهد الجديد.
ففي سفر يشوع (الإصحاح السادس) بعد أن ذكر قصة محاصرة يشوع وبني إسرائيل لأريحا, وتواعدهم أن يهجموا على المدينة عند الهتاف وضرب الأبواق، جاء فيه: "20 فهتف الشعب وضربوا الأبواق, وكان حين سمع الشعب صوت البوق أن الشعب هتف هتافاً عظيماً فسقط السور في مكانه, وصعد الشعب إلى المدينة كل رجل مع وجهه, وأخذوا المدينة. 21 وحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف".
ثم يقول السفر:"24 وأحرقوا المدينة بالنار مع كل مابها: إنما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد جعلوها في خزانة بيت الرب يسوع".
وفي الإصحاح الثامن من يشوع في قصة حربهم لمملكة عاي بعد أريحا يقول:"1 فقال الرب ليشوع: لا تخف ولا ترتعب خذ معك جميع رجال الحرب وقم أصعد إلى عاي, انظر قد دفعت بيدك ملك عاي وشعبه ومدينته وأرضه 2 فتفعل بعاي وملكها كما فعلت بأريحا وملكها".
ثم يقول في الفقرة 8 "ويكون عند أخذكم المدينة تضرمون المدينة بالنار، كقول الرب تفعلون, انظروا قد أوصيتكم". ثم يقول: "21 ولما رأى يشوع وجميع إسرائيل أن الكمين قد أخذ المدينة وأن دخان المدينة قد صعد انثنوا وضربوا رجال عاي 22 وهؤلاء خرجوا من المدينة للقائهم فكانوا في وسط اسرائيل, هؤلاء من هنا وأولئك من هناك, وضربوهم حتى لم يبق منهم شارد ولا منفلت. 23و اما ملك عاي فأمسكوه حيا وتقدموا به إلى يشوع 24 وكان لما انتهى إسرائيل من قتل جميع سكان عاي في الحقل في البرية حيث لحتوهم وسقطوا جميعا بحد السيف حتى فنوا أن جميع إسرائيل رجع إلى عاي وضربوها بحد السيف 25 فكان جميع الذين سقطوا في ذلك اليوم من رجال ونساء اثنى عشر ألفاً جميع أهل عاي". ثم يقول "28 وأحرق يشوع عاي وجعلها تلاًّ أبديا خرابا إلى هذا اليوم. 29وملك عاي علقه على الخشبة إلى وقت المساء, وعند غروب الشمس أمر يشوع فأنزلوا جثته عن الخشبة وطرحوها عند مدخل باب المدينة وأقاموا عليها رجمة حجارة عظيمة إلى هذا اليوم". هذه بعض نصوص العهد القديم.
أما العهد الجديد فبالرغم من أن النصارى يزعمون أنهم دعاة سلام وانهم في سلامهم مستمسكون بالإنجيل الذي يقول : "من ضربك على خدك الأيمن أًدِرْ له خدك الأيسر", فبالرغم من هذه الدعوة التي لا يعرفون تطبيقها عندما يحتلون بعض البلاد أقول: وبالرغم من ذلك فقد جاء في إنجيل متى في الإصحاح العاشر منه:" 34 لا تظنوا أني جئت ألقي سلاما على الأرض, ما جئت لألقي سلاما بل سيفا. 35 فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه, والإبنة ضد أمها, والكنة ضد حماتها. 36 واعداء الإنسان أهل بيته. 37 من أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني, ومن أحب إبنا أو إبنة أكثر مني فلا يستحقني".(3/126)
وبهذه النصوص يتبين أن غيرنا من المنتسبين للأديان السماوية كانوا في باب السيف أغلظ منا سلوكا, وأشد مناشدة, وليس مثلهم- وهذه نصوصهم- أقول: ليس مثلهم هو الذي يليق به أن يتهم دين الإسلام, فإن عليهم ينطبق قول القائل: "رمتني بدائها وانسلت", مع أن ما ذكرنا من نصوص كتبهم قد يؤيده القرآن في مثل قوله تعالى مشيرا إلى الأديان السماوية السابقة: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْض} .
أما الذين لا ينتسبون إلى دين سماوي كالشيوعيين وأشباههم فإنهم لا يتورعون عن قتال أوليائهم وأهل مذهبهم, فضلا عن أعدائهم إذا اشتموا منهم ريحا إنفصالية عنهم, كما فعل الروس وحلفاء (وارسو) في تشيكوسلوفاكيا .
الجهاد في الإسلام:
بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله أربعون سنة وستة أشهر وثمانية أيام كما قيل, فمكث بمكة يدعو إلى الله تبارك وتعالى ثلاث عشرة سنة, ويلقى من عنت قريش وأذاهم له ولأصحابه الشيء الكثير, وهم صابرون محتسبون, كلما اشتد بهم الاذى ونزل بهم الكرب من أعدائهم صبرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستمعوا أو تلوا نحو قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فيهون عليهم ما يلقون في جنب الله, وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يوافي الموسم كل عام, ويتبع الحجاج في منازلهم, وياتي عكاظ وغيرها من أسواق العرب يدعوا إلى الله عز وجل, حتى وفق الله جماعة من الخزرج كانوا يسمعون من حلفائهم يهود يثرب أن نبيا يبعث في هذا الزمان فنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد, فلما رأى هؤلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا الناس إلى الله, وتأملوا أحواله, قال بعضهم لبعض: "تعلمون والله ياقوم أن هذا الذي توعدكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه", فاجتمعوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسلموا وكانوا ستة, ثم رجعوا إلى المدينة ودعوا فيها إلى الإسلام فانتشر الإسلام فيها بين الاوس والخزرج, ثم حج من العام الذي يليه اثنا عشر رجلا, منهماثنان من الاوس, والباقي من الخزرج, فاجتمعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه بيعة العقبة الأولى, ثم جاءه في العام الذي يليه أكثر من سبعين شخصا من المدينة, فاجتمعوا به عند العقبة كذلك, وبايعوه على ان يمنعوه مما يمنعون نسائهم وأبنائهم وكانوا سبعين رجلا وامرأتين. ولما علم أهل مكة باجتماع رسول الله صلى الله عليه وسلم باهل المدينة خافوا أن ينتقل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعزموا على قتله, واجتمعوا في دار الندوة يتشاورون في أمره على ما حكى الله تبارك وتعالى في ذلك حبث يقول: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} . أمره الله تبارك وتعالى بالهجرة إلى المدينة, ولما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة, وأيده الله بنصره, وألّف بين قلوبهم بعد العداوة ومنعته أنصار الله من الأسود والأحمر رَمَتْهُم العرب واليهود عن قوس واحدة, وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة. والله يامر رسوله والمؤمنين بالكف والصبر والعفو حتى قويت شوكة المؤمنين وأصبحوا كما قال قيس صرمة رضي الله عنه :
ثوى في قريش بضع عشر حجة يذكر لو يلقى حبيب مواتيا
و يعرض في أهل المواسم نفسه فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا
فلما آتانا واستقر به النوى و أصبح مسروراً بطيبة راضيا
و أصبح لا يخشى ظلامة ظالم بعيد ولا يخشى من الناس باغيا
بذلنا له الأموال من جل مالنا و أنفسنا عند الوغى والتآسيا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم جميعا وإن كان الحبيب المصافيا
و نعلم أن الله لا رب غيره و أن كتاب الله أصبح هاديا
وكما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
قومي هم الذين آووا نبيهم و صدقوه وأهل الأرض كفار
إلا خصائص أقوام هموا تبع في الصالحين مع الأنصار أنصار
مستبشرين بقسم الله قولهموا لما أتاهم كريم الأصل مختار
أهلا وسهلا ففي أمن وفي سعة نعم النبي ونعم القسم والجار
فأنزلوه بدار لا يخاف بها من كان جارهموا, دار هي الدار
و قاسموه بها الاموال إذ قدموا مهاجرين وقسم الجاحد النار
أطوار الجهاد ومراحله:(3/127)
حرّم الله على المسلمين القتال طيلة العهد المكي, ونزل النهي عنه في أكثر من سبعين آية في كتاب الله عز وجل بمكة, وكانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ما بين مضروب ومشجوج فيقول لهم: "اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال" حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقويت شوكة المسلمين, واشتد جناحهم أذن الله لهم في القتال ولم يفرضه لهم فرضا إذ يقول عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ, الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ, الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} , قال بن عباس رضي الله عنه ومجاهد وعروة بن الزبير وقتادة ومقاتل بن حيان : "هذه أول آية نزلت في الجهاد", وقد علّل الله تبارك وتعالى هذا الإذن بأنهم ظُلِموا فلم يكن لهم ذنب يقاتلون عليه فيما بينهم وبين الناس إلا أنهم يعبدون الله عز وجل, وهذا هو الطور الثاني من أطوار الجهاد إذ كان الطور الأول هو تحريمه, وكان هذا الطور الثاني هو الإذن فيه دون الإلزام به.
الطور الثالث من أطوار الجهاد :
وكان الطور الثالث من أطوار الجهاد هو إيجابه لقتال مَن قاتل المسلمين دون من كفّ عنهم بقوله عز وجل: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ونحوها من الآيات, وأمّا قوله تبارك وتعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} , فإنّ جماعة من أهل العلم جعلوها من أدلة هذا الطور من أطوار الجهاد, وهو أن يكون فرضاً لدفاع فقط فلا يقاتل إلا من قاتل فعلا واعتدى على المسلمين ولكن بعض أهل العلم يرى أنها ليست كذلك بل يفسر قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} يعني قاتلوا من من شأنه قتالكم كالرجال الأقوياء المقاتلين أما النساء والصبيان والشيوخ المسنون ونحوهم فإنهم لا يقاتلونهم لأنهم ليسوا من أهل القتال ورغب الإسلام في هذا الطور في الجهاد حتى جعله ذروة سنان الإسلام. وفي هذا الطور ارتفعت راية الإسلام عالية في جزيرة العرب, وألقى الله الرعب في قلوب الكفار, ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرعب مسيرة شهر, وتحقق قول القائل :
دعا المصطفى بمكة دهراً لم يجب و قد لان منه جانب وخطاب
فلمّا دعا والسيف صلت بكفه له أسلموا واستسلموا وأنابوا
وساق الله تعالى ناسا إلى الجنة بالسلاسل, ونفع الله كثيرا من الخلق رغم أنوفهم على حد قوله تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فإنّ العقلاء ينفع فيهم البيان, وأما الجاهلون فدواؤهم السيف والسنان على حد قول الشاعر :
فما هو إلا الوحي أوحد مرهف
تزيل ظباه أخدعى كل مائل
فهذا دواء الداء من كل عاقل
وهذا دواء الداء من كل جاهل
الطور الرابع من أطوار الجهاد :
ثم فرض الله الجهاد لقتال المشركين كافة مع البدء بالأقربين دارا وفي ذلك يقول: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} , وقال عز وجل: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} , وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} . وقال عزّ من قائل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} , وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} , وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله, فإن قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقها", وقال صلى الله عليه وسلم: "الجهاد ماض إلى يوم القيامة", وأنذر الله تبارك وتعالى من ترك الجهاد بأنه يلقي نفسه إلى التهلكة حيث قال: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} , فقد روى أبو داود والترمذي والنسائي وعبد بن حميد في تفسيره وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه والحافظ أبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: "حمل رجلٌ من المهاجرين(3/128)
بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه, ومعنا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فقال ناس : "ألقى بيده إلى التهلكة", فقال أبو أيوب : "نحن أعلم بهذه الآية, إنّما نزلت فينا : صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وشهدنا معه المشاهد, ونصرناه فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحبباً فقلنا : قد أكرمنا بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره حتى فشا الإسلام, وكثر أهله, وكنّا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد, وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما فنزل فينا {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} , فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال, وترك الجهاد".
وكانت فريضة الله في الجهاد ألاّ يفر مؤمن من عشرة كفار حيث بقول الله عزّوجل : {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} , ثم خفّف الله عن المسلمين, وفرض عليهم ألاَّ يفرَّ مؤمن من كافِرَيْنِ, وفي ذلك يقول: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . على أنَّ الإسلام جعل الفرار يوم الزحف من الموبقات فقد روى البجاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات؟ قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : الشرك بالله, والسحر, وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق, وأكل الربا, وأكل مال اليتيم, والتولِّي يوم الزحف, وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". وقد استثنى الله عزّوجل أهل الكتاب؛ فمنع قتالهم إن أدّوا الجزية عن يد وهم صاغرون, كما أمر رسور الله صلى الله عليه وسلم بقبول الجزية من مجوس هجر مع بقائهم على دينهم كذلك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتال النساء والصبيان, حتى قال مالك والأوزاعي - رحمهما الله -: "لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال حتى لو تترس أهل الحرب بهم". غير أن أكثر أهل العلم يقولون :"إن قاتل واحد من هؤلاء أو تترس به الكفار جاز قتله". وأكثر أهل العلم يفسّرون قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يفسرون قوله: {لا إِكْرَاهَ
فِي الدِّينِ} : يعني اليهود والتصارى إن أدَّوْا الجزية, وقالوا: إنّ سبب نزولها أن جماعة من الأنصار كان لهم أبناء من يهوديات فأرادوا إكراههم على الدخول في دين الإسلام فأنزل الله هذه الآية. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "وقد ذهب طائفة من أهل العلم أن هذه الآية محمولة على أهل الكتاب", ثم قال: "وقال آخرون: بل هي منسوخة بآية القتال, وعلى هذا فالآية إما محكمة محمولة على أهل الكتاب أو هي عامة لكنها منسوخة بآية السيف".
وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى أنّ السيف من دين النبيين جميعا حيث يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} , كما أشار إلى أن تهيئة المسلمين للقتال وإعدادهم للجهاد من أعظم ما يمكّن لهم في الأرض حيث يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ } . وقد أجمل الله تبارك وتعالى ثمرة الجهاد في قوله عزوجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ؛ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ, وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} .
جماعة ربانية
"إنّ من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى, قالوا: "يا رسول الله تخبرنا من هم ؟ قال : هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام ولا أموال يتعاطَوْنها, فوالله إنّ وجوههم لنور, وإنّهم لعلى نور, لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس" . أبوداود.
================
المفهوم الصحيح لتفسر آية لا إكراه في الدين
مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - (ج 2 / ص 211)(3/129)
قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ} هذه الآية تدل بظاهرها على أنه لا يكره أحد على الدخول في الدين, ونظيرها قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} , قوله تعالى: {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ} , وقد جاء في آيات كثيرة ما يدل على إكراه الكفار على الدخول في الإسلام بالسيف كقوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} , وقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي الشرك, ويدل لهذا التفسير الحديث الصحيح: "أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله"الحديث, والجواب عن هذا بأمرين:
الأول - وهو الأصح -: أنّ هذه الآية في خصوص أهل الكتاب, والمعنى أنهم قبل نزول قتالهم لا يكرهون على الدين مطلقا, وبعد نزول قتالهم لا يكرهون عليه إذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون, والدليل على خصوصها بهم ما رواه أبو داود وابن أبي حاتم والنسائي وابن حبان وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده, فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: "لا ندع أبناءنا", فأنزل الله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} , المقلاة التي لا يعيش لها ولد, وفي المثل: "أحر من دمع المقلاة", وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه قال "نزلت {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له: (الحصين), كان له ابنان نصرانيان, وكان هو مسلما, فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "ألا استكرههما فإنهما أبيا إلا النصرانية؟ ", فأنزل الله الآية", وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير سأله أبو بشر عن هذه الآية؟ فقال: نزلت في الأنصار, قال: خاصة؟ قال: خاصة", واخرج ابن جرير عن قتادة بإسنادين في قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال: أكره عليه هذا الحي من العرب؛ لأنهم كانوا أمة أمية ليس لهم كتاب يعرفونه فلم يقبل منهم غير الإسلام, ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقرّوا بالجزية أو بالخراج ولم يفتنوا عن دينهم فيخلى سبيلهم"وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان فلم يقبل منهم إلاَّ لا إله إلا الله أو السيف, ثم أمر فيمن سواهم أن يقبلوا منهم الجزية فقال: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} , وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أيضا في قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} , قال: "وذلك لما دخل الناس في الإسلام, وأعطى أهل الكتاب الجزية", فهذه النقول تدل على خصوصها بأهل الكتاب المعطين الجزية, ومن في حكمهم, ولا يرد على هذا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لان التخصيص فيها عرف بنقل عن علماء التفسير لا بمطلق خصوص السبب, ومما يدل للخصوص أنه ثبت في الصحيح: "عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل".
الأمر الثاني : أنها منسوخة بآيات القتال كقوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية, ومعلوم أن سورة البقرة من أول ما نزل بالمدينة, وسورة براءة من آخر ما نزل بها, والقول بالنسخ مروي عن ابن مسعود, وزيد بن أسلم, وعلى كل حال فآيات السيف نزلت بعد نزول السورة التي فيها {لا إِكْرَاهَ} الآية, والمتأخر أولى من المتقدم, والعلم عند الله تعالى.
==============
الجهََاد بين عَقيدةِِِِ المسلِمين وَشُبَه المستشرقين
مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - (ج 32 / ص 134)
الجهََاد بين عَقيدةِِِِ المسلِمين وَشُبَه المستشرقين
للدكتور العوض عبد الهادي العطا
أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف
استمرار الدعوة الإسلامية:
بدأت الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة حين بعث الله رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكانت دعوة دينية خالصة لتوحيد الله ونبذ الشرك وعبادة الأوثان، مستندة إلى قوة الحجة والإقناع والموعظة الحسنة، فاستجاب لهما نفر من قريش، وصدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم وشدوا من أزره وساندوه ونصروه، فنالوا سبق الدخول في الإسلام، وحملوا لواءه وظلوا على ذلك العهد حتى عم الإسلام أرجاء الأرض، ولم يتزحزحوا ولم تؤثر فيهم الأهواء والمغريات حين تأثر بها الناس.
والملاحظ أن أول من أسلم كانوا من الشباب ومن لدات الرسول صلى الله عليه وسلم أو ممن لا يكبرونه في السن كثيراً. أما الشيوخ المسنون فلم يستجيبوا لدعوته، وكان من العار على المسن تغيير ما هو عليه من موروث قبيلته وآبائه وأجداده، فتأثروا بعرفهم وتقليدهم عن رؤية الحق والصواب، ولكن دخل في الإسلام جماعة من المستضعفين من أهل مكة الذين وجدوا الإسلام نصرة لهم، واشتد البلاء وعمت المحن علىِ المسلمين في مكة، ولذلك لم يتمكنوا من إقامة مجتمع إسلامي متكامل، ولكنهم كانوا أفراداً معروفين، آمنوا بالله ورسوله وتكونت فيهم أخلاق الإسلام الصحيحة وملأت نفوسهم قيمه ومثله.
وحين أعز الله رسوله بالهجرة والنصرة تميزت صورة المجتمع في المدينة وصار الناس على ثلاثة أقسام، المؤمنين الذين آمنوا بالله ظاهراً وباطناً والكفار وهم الذين أظهروا الكفر، والمنافقين وهم الذين آمنوا ظاهراً لا باطناً [1](3/130)
وسارت الدعوة إلى الإسلام من خلال ذلك في عدة مراحل، أولها مرحلة النبوة، تقول عائشة رضي الله عنها: "إن أول ما بدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم النبوة حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به، الرؤيا الصادقة، لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا في نومه إلا جاءت كفلق الصبح، وحبب الله إليه الخلوة فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده" [2] . والمرحلة الثانية إنذار عشيرته الأقربين، ثم إنذار قومه صلى الله عليه وسلم من قريش، ثم إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة، ثم إنذار جميع من بلغته الدعوة الإسلامية إلى آخر الدهر [3] .
وفي المدينة المنورة انتشر الإسلام، وتكونت جماعة مؤمنة متجانسة آخذة في النمو من المهاجرين والأنصار كنواة للأمة الإسلامية، وهو إطار عريض يظهر لأول مرة في الجزيرة العربية على غير نظام القبيلة. فقد انصهرت جماعة الأوس والخزرج في طائفة الأنصار ثم انصهر المهاجرون والأنصار في جماعة المسلمين، وبذلك تكونت جماعة كانت الأساس التاريخي للأمة الإسلامية ومهدت بذلك لكل من ينضم إليهم، قال ابن إسحاق في حديثه عن كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار وموادعة يهود: "هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم إنهم أمة واحدة من دون الناس" [4] ومن ثم وضع الأساس الذي ينظم العلاقة بين هذه الأمة ومن سكن معهم من أهل الكتاب، ولأول مرة تردَّ أمور هذه الجماعات إلى نظام يحتكم إليه "وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو إشتجار يُخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" [5] .
وسارت الدعوة الإسلامية في مسارها لتوحيد الجزيرة العربية على دين الإسلام فغزا الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه بضع وعشرين غزوة، أولها غزوة بدر وآخرها غزوة تبوك، وكان القتال في تسع غزوات، فأول غزوات القتال بدر وآخرها حنين والطائف، وأنزل الله فيها ملائكته. وعندما حاصر الطائف لم يقاتله أهلها زحفاً وصفوفاً كما حدث في بدر وحنين وإنما قاتلوه من وراء جدر [6] .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتولى أمور الجهاد ويضعها في اعتباره ويهتم بها ويقود المسلمين ويخرج بهم فوضع بذلك المثل والقدوة في تطبيق مفهوم الجهاد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} الآية [7] وكان لذلك أكبر الأثر في انتشار الإسلام بصورة واضحة بين القبائل العربية منذ صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، وأخذت الوفود تترى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتىٍ عددَّ ابن سعد في الطبقات عند ذكره لوفود العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً وسبعين وفداً [8] وقد جاءوا إما عن رغبة صادقة أو رهبة وخوف، لأن الإيمان هبة من الله يمنحها الصادقين من عباده، فعندما جاءت بنو أسد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله أسلمنا وقاتلتك العرب ولم نقاتلك، فقال رسول الله صلى الله وسلم: "إن فقههم قليل وإن الشيطان ينطلق على ألسنتهم"، ونزلت هذه الآية {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآية [9] .
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم واصل جواده بعد أن ضرب الإسلام بجرانه في الجزيرة العربية، فأرسل الكتب إلى كبار الملوك آنذاك في العالم الحيَّ يعرض عليهم اعتناق الإسلام، فبعث إلى إمبراطور الروم وإلى نجاشي الحبشة وإلى كسرى ملك الفرس، والمقوقس صاحب الإسكندرية (مصر) وإلى أمراء الغساسنة وغيرهم [10] فأجاب بعضهم إجابة مهذبة وثار آخرون وتوعدوا. وتأكيداً لتحقيق تلك المرحلة من مراحل الدعوة [11] حدثت بعض الغزوات، وأعد الرسول صلى الله عليه وسلم بعث أسامه بن زيد، وهو البعث الذي أنفذه الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
ولكن الدعوة الإسلامية واجهت صراعاً متصلاً بين المبادئ الإسلامية الداعية إلى الوحدة والإخاء والمساواة والسلام، وبين الاتجاهات العنصرية الداعية إلى عصبية القبيلة والتفكك والانقسام. واشتد ذاك الصراع عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، فحدث ارتداد العرب عن الإسلام، والذي مثّل مظهراً من مظهراً التصادم بين العقيدة الإسلامية وبين القبلية الجاهلية، فقد انتعشت روح العصبية لدى بعض الزعامات القبلية التقليدية والتي لم يكن قد وقر الإيمان في قلوب بنيها، تلك العصبية التي حار بها الرسول صلى الله عليه وسلم وقضى عليها.
ولكن الخليفة أبا بكر الصديق رضي الله عنه تصدى لكل ذلك في قوة ورباطة جأش وإيمان صادق وعزم أكيد حتى أعاد للإسلام هيبته وللمسلمين وحدتهم، وصارت العقيدة الإسلامية هي الرابطة الوحيدة بين أبناء الأمة الإسلامية.(3/131)
وكان بعث أسامة بن زيد بمثابة مواصلة الجهاد الذي أكده القرآن الكريم ومارسه الرسول صلى الله عليه وسلم والتزم به الخليفة أبو بكر الصديق في خطبته المشهورة عند مبايعته في المسجد "لا يدع أحد منكم الجهاد فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل ...." [12] ثم أخذ يحث المسلمين على الجهاد ويدعوهم إليه. ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي العمل أفضل فقال: "إيمان بالله ورسوله، قيل ثم ماذا قال: جهاد في سبيل الله، قيل ثم ماذا قال: حج مبرور" [13] . وقيل إن الإعراض عن الجهاد من خصال المنافقين، وفي الحديث: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغز ومات على شعبة نفاق" [14] وتتمثل في الجهاد حقيقة الزهد في الحياة الدنيا، كما يتجسد فيه الإخلاص، وقوة الإيمان تمنح المسلم القدرة في مواجهة العدو مهما كانت قوته وكان عدده.
ولم يكن مفهوم الجهاد عند المسلمين يعنى نشر الإسلام عن طريق الحرب والسيف وحسب وإنما بمبادئه السمحة الكريمة ولذلك انتهجوا منهج الإسلام في الدعوة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [15] الآية {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الآية [16] .
وقد وضح هذا المنهج في سياسة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عندما أعلن للمجاهدين حيِن توديع جيش أسامه بن زيد: "لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاًَ كبيراً ولا امرأة ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له وسوف تقدمون على قوم قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فأخفقوهم بالسيف خفقاً، اندفعوا باسم الله" [17] .
ولما كانت الدعوة إلى الإسلام هي الغاية المنشودة لذلك كان المسلمون يعرضون على خصومهم خيارات ثلاثة، إما الإسلام وكانوا يشرحونه ويحسنونِه لهم، وإما أن يقبلوا دفع الجزية، وإذا رفضوا هذين الخيارين فإن الحرب واجبة تأكيداًَ لقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} الآية [18] وقد أخذت الجزية على أسس من الحق والعدل والرحمة، وتؤخذ على الرجل القادر البالغ العامل الحر، ولا تجب على الأعمى والمسكين وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار، وهي واجبة على جميع أهل الذمة [19] .
ومن ثم أصبح كثير من اليهود والنصارى على دينهم ودخلوا في ذمة المسلمين، بل إن بعضهم شارك في الأعمال الإدارية مثل أعمال الحسابات ومسك الدفاتر وظهرت روح التسامح في معاملة المسلمين لغيرهم حتى أحس أهل هذه البلاد بالطمأنينة والحرية والعدالة وحسن المعاملة في أموالهم وأعراضهم وأعمالهم.
وقد عقد المسلمون مع كثير من أهل البلاد العهود والمواثيق، يدفعون بموجبها الجزية للمسلمين، ونظير ذلك يجدون الحرية والأمن، يقول الماوردي: "وأما الجزية فهي موِضوعة على الرؤوس واسمها مشتق من الجِزاء، إما جزاء على كفرهم لأخذها منهم صغاراًَ، وإما جزاء على أماننا لهم لأخذها منهم رفقاً" ويقول: "فيجب على ولي الأمر أن يضع الجزية على رقاب من دخل في الذمة من أهل الكتاب ليقروا بها في دار السلام ويلتزم لهم ببذلها حقان: أحدهما الكف عنهم والثاني الحماية لهم ليكونوا بالكف آمنين وبالحماية محروسين" [20] .
ومع ذلك فالملاحظ أن المسلمين كانوا يقومون بواجب الدعوة وتبليغ أهل تلك البلاد بالإسلام، فعندما بعث الخليفة عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص إلى القادسية، وجد أن الفرس قد أمّروا على الحرب رستم من الفرخزاذ الأرمني، وأمده بالعساكر فكتب سعد إلى عمر بذلك، فكتب إليه عمر بن الخطاب: "لا يكربنك ما يأتيك عنهم ولا ما يأتونك به واستعن بالله وتوكل عليه، وأبعث إليه رجالاً من أهل النظر والرأي والجلد يدعونه فإن الله جاعل دعاءهم توهيناًَ لهم وفلجاً عليهم واكتب إليَّ في كل يوم" [21] .
كما تمثلت في أعمال الجهاد عند المسلمين خصال فريدة، فقد وجه الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه خالد بن الوليد أن يتآلف الناس ويدعوهم إلى الله عز وجل، وأمره ألا يكره أحداًَ على المسير معه وألا يستعن بمن ارتد عن الإِسلام، وإن كان عاد إليه [22] .
القوة والاستعداد وآلات الحرب من وسائل النصر:
لقد توفرت عند المجاهدين المسلمين قوة العقيدة والإيمان وارتفاع الروح المعنوية بأنهم خير أمة أخرجت للناس لها رسالتها في الدعوة، ولذلك كانوا لا يهابون الموت في سبيل ذلك إذ كان الظفر بالشهادة أمنية المجاهد المسلم مما يؤكد زهده في الدنيا مهما كانت مغرياتها.
وقد كانت العقيدة عند المسلم الصادق هي السلاح الرئيسي الذي يعتمدون عليه في كل المعارك، فهي تأتي عندهم في المقام الأول بين العوامل والدوِاعي التي تجعلهم يصمدون ويثبتون حيث يكون الفرار في حساب المقاييس العسكرية أمراً لا مفر منه بل ولا لوم على فاعله.(3/132)
ومع هذه القوة النفسية التي توفرت للمسلمين فقد تهيئوا من حيث العدة والعتاد أيضاً حتى اجتمعت لهم مقومات متكاملة للقتال {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [23] .
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما تلا هذه الآية وهو على المنبر قال: "ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي" [24] .
وقد عرف عن هؤلاء المجاهدين أنهم قد امتازوا بخفة الحركة والمثابرة والصبر وتحمل الشدائد وبذل النفس والثبات في ميدان القتال وإظهار التضامن بينهم، والانضباط، فقد كانوا يقفون صفوفاً متراصة ليس لأحد منهم أن يتقدم من الصف أو يتأخر عنه عملاً بقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [25] وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في غزواته يراعي هذا الأمر ويحثهم عليه دائماً، لأن الانضباط وحسن النظام من دواعي الجيش الممتاز، ففي يوم بدر قام الرسول صلى الله عليه وسلم يسوي الصفوف وفي يده قدْح، فمر بسواد بن غزية وهو مستنتل من الصف، فطعنه في بطنه بالقدح وقال: "استو يا سواد، فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل، قال: فأقدْني، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: استقد، قال فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: ما حملك على هذا يا سواد، قال: يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير" [26] .
وقد يسبق القتال التدريب وتعلم الرمي والمهارة فيه، فقد عرف عن المسلمين إجادتهم الرمي، وقد شكل الرماة عند المسلمين أهمية خاصة، ففي يوم أحد وضعهم الرسول صلى الله عليه وسلم على الجبل كغطاء أساسي لظهر المسلمين، وعند عبور المسلمين إلى المدائن عاصمة الفرس كانوا أمام الجيش يخوضون الماء وكانوا من أمهر الرماة، فإذا رموا أصابوا الهدف. فاهتم المسلمون بالاستعداد التام من كل ناحية لمواجهة العدو، وهو عمل لابد منه ليستحق به المجاهدون نصر الله.
وقد اهتم الخلفاء الراشدون بإعداد الجيش وتنظيمه إقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عمر ابن الخطاب أول من جعل الجند فئة مخصوصة، فأنشأ ديوان الجند للإِشراف عليه وتقييد أسمائهم ومقدار أرزاقهم وإحصاء أعمالهم. وكان ديوان الجند الذي استخدمه عمر بن الخطاب أكبر مساعد له في تحسين نظام الجند وضبطه في الإسلام، مما ساعد في تحسين استعداد المسلمين الكامل عند خروجهم للجهاد [27] .
وفي ضوء ذلك اهتموا بأدوات الحرب والقتال، فاهتموا بالخيل المعدة للجهاد لأن في إعدادها لهذا الغرض فضيلة كبيرة، وتدرب عليها شباب المسلمين ومارسوا الرمي وهم على ظهورها اعتنوا بها عناية فائقة، وفي الحديث "الخيل معقود في نواصيها الخير إلىِ يوم القيامة، الأجر والمغنم" [28] وكان أغلب جيش المسلمين في كثير من الأحيان يتألف أساساً من الفرسان، بل إن جيش سعد بن أبي وقاص يوم المدائن كان كله من الفرسان [29] .
وكان المسلمون يتسلحون بالدروع والسيوف والرماح كما استخدموا أسلحة أخرى كانت ذات أهمية في القتال، قال ابن سعد رحمه الله في حديثه عن غزوة أحد: "فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لبس لامته وأظهر الدرع وحزم وسطها بمنطقة من أدم من حمائل السيف واعتم وتقلد السيف والترس في ظهره" [30] ويعتبر السيف والدرع والرمح من الأسلحة الخفيفة، وكان للسيف أهمية خاصة عندهم.
كذلك عرفت بعض الأسلحة التي استخدمت في كثير من الحالات مثل:-
المجانيق - والدبابات والضبور، ومما يدل على معرفتهم لهذه الأسلحة ما ذكره ابن هشام: "ولم يشهد حنيناً ولا حصار الطائف عروة بن مسعود ولا غيدن بن سلمة كانا بجرش يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور" [31] ، قال السهيلي: "والدبابة آلة من آلات الحرب يدخل فيها الرجال فيدبون بها إلى الأسوار لينقبوها "وقيل:"آلات تصنع من خشب وتغشى بجلود ويدخل فيها الرجال ويتصلون بحائط الحصن". قال ابن إسحاق: "حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف دخل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت دبابة ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف ليحرقوه" [32] وقيل: "أنها من آلات الحرب يدخل المحاربون في جوفها إلى جدار الحصن فينقبونه وهم في داخلها يحميهم سقفها وجوانبها".
والمجانيق من آلات الحصار يرمى بها الحجارة الثقيلة، وقد ذكر ابن هشام أن الرسول صلى الله عليه وسلم أول من رمى بالمنجنيق، رمى أهل الطائف [33] ، وهي أنواع منها ما يرمى بالحجارة ومنها ما يرمى بالزيت المغلي ومنها ما يرمى بالنبال. وقد أقام سعد بن أبي وقاص على بهرسير شهرين يحاصرها ويرميها بالمجانيق ويدب إليها بالدبابات ويقاتلهم بكل عدة، وكان الفرس البادئين بالرمي والعرادات، فاستصنعها سعد، وأقام عليها عشرين منجنيقاً فشغلهم بها [34] .
قال السهيلي: "والضبور جلود يغشى بها خشب يتقى بها في الحرب"، وقيل: استخدمت ليتقى بها النبل الموجه من عل، ويتقى بها في الحرب عند الانصراف، وفي اللسان: الضَّبره - جلد يغشى خشب فيها رجال تقرب إلى الحصون لقتال أهلها، ويجمع على ضبور [35] .
وإلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرجع الفضل في إقامة الحصون والمعسكرات الدائمة لراحة الجند في أثناء الطريق بعد أن كانوا يقطعون المسافات الطويلة على ظهور الإبل، ولا يرتاحون إلا في مظلات مصنوعة من سعف النخل، ومن ثم بنيت العواصم وأقيمت الحاميات لصد هجمات الأعداء المفاجئة [36] .(3/133)
وتطور الدفاع عن بلاد المسلمين والجهاد في سبيل الله بإقامة الربط لحماية الثغور، وأصله أن يربط كل واحد من الفريقين خيله ثم صار لزوم النفر رباط، وأصل الرباط ما تربط فيه الخيول وأن كل ثغر يدفع عمن وراءهم، والمدافع المجاهد يدافع عمن وراءه، والمقيم في الرباط على طاعة الله يدفع بدعائه البلاء عن العباد والبلاد [37] وعند ابن تيمية أن المقام في ثغور المسلمين أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة لأن الرباط من جنس الجهاد، والمجاورة غايتها أن تكون من جنس الحج [38] قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [39] وفي الحديث "رباط يوم وليلة (في سبيل الله) خير من صيام شهر وقيامه" [40] .
ولم يكن المسلمون في أول عهدهم يرغبون في ركوب البحر، ولم يأذن الخليفة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لعماله بذلك، ولكن في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، أنشأ أول أسطول إسلامي، فقد أذن لمعاوية بن أبي سفيان في غزو الروم بحراًَ، على ألا يحمل الناس على ركوب البحر كرهاً، فبرع المسلمون في ركوب البحر، وخاضوا المعارك فيه ورتب معاوية بن أبي سفيان الشواني والصوائف لغزو الروم. وبعث عبد الملك بن مروان لما ولي الخلافة إلى عامله على أفريقية حسان بن النعمان يأمره باتخاذ صناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية [41] وعلل المقريزي امتناع المسلمين من ركوب البحر للغز وفي أول الأمر لبداوتهم ولم يكونوا مهرة من ثقافته وركوبه، وكان الروم والفرنجة قد تمرسوا عليه لكثرة ركوبهم له. وعندما استقر أمر المسلمين تقرب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعتهم، واستخدموا من النواتية في البحرية أمماً وتكررت ممارستهم البحر وثقافته فتاقت أنفسهم إلى الجهاد فيه، وأنشأوا السفن والشواني وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح، واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب إلى هذا البحر على ضفته مثل الشام وأفريقية والمغرب والأندلس [42] وقد كان ميناء جدة ثغراًَ هاماً للمسلمين باعتباره مدخلاً للحرمين الشريفين، وهذا ما حمل المسلمين فيما بعد على تحصينها وإقامة سور قوي حولها لتأمين الأماكن المقدسة في مكة والمدينة من أي غارة وخاصة غارات الصليبين [43] .
وقد برع المسلمون في صناعة السفن حتى صار علمهم في هذا الجانب تقلده أوربا وتنقله عنهم [44] .
المستشرقون والدعوة الإسلامية :-
وقد اهتم المستشرقون بأمر الجهاد الإسلامي وناقشوه كثيراً وأثاروا حوله الافتراضات والشبه، وحاولوا أن يشوهوا روح الجهاد ومغزاه، ورغم أن المسلمين أوضحوا أن غايتهم نشر الإسلام، وأن القتال ليس غاية في حد ذاته وإنما هو وسيلة لإزالة العقبات عن طريق الدعوة، ولكنهم عن قصد أو سوء فهم لأمر الجهاد أثاروا هذه الشبهة، وركز بعضهم مثل كيتاني وأرنولد على أقوال المسلمين، فعندما فرغ الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه من حروب الردة وجه الجيوش إلى الشام لمواصلة الجهاد ولذلك كتب إلى أهل مكة والطائف واليمن وجميع العرب بنجد يستنفرهم للجهاد ويرغبهم فيه وفي غنائم الروم، فسارع الناس إليه بين محتسب وطامع وأتوا المدينة من كل باب [45] فتذرعوا بهذا القول مدعين أن هناك دافعاً مادياً، ولذلك يقول أرنولد: "إن أملهم (المسلمين) الوطيد في الحصول على غنائم كثيرة في جهادهم في سبيل الدين الجديد ثم أملهم في أن يستبدلوا بصحاريهم الصخرية الجرداء التي لم تنتج لهم إلا حياة تقوم على البؤس، تلك الأقطار ذات الترف والنعيم".
ثم يثير شبهة أخرى في أن هذه الفتوح الهائلة التي وضعت أساس الإمبراطورية العربية (كذا) لم تكن ثمرة حرب دينية قامت في سبيل نشر الإسلام، وإنما تلتها حركة ارتداد واسعة عن الديانة المسيحية حتى لقد ظُن أن هذا الارتداد كان الغرض الذي يهدف إليه العرب. ويستنتج بأنه من هنا أخذ المؤرخون المسيحيون ينظرون إلى السيف على أنه أداة للدعوة الإسلامية. وفي ضياء النصر الذي عُزي إليه حجبت مظاهر النشاط الحقيقي للدعوة.
ويتفق أرنولد مع أستاذه كيتاني في أنه يعتبر توسع الجنس العربي على أصح تقدير هو هجرة جماعة نشيطة قوية البأس دفعها الجوع والحرمان إلىِ أن تهجر صحاريها المجدبة وتحتاج بلاداً أكثر خصباً كانت ملكاً لجيران أسعد منهم حظاًَ [46] وأنها آخر هجرة من الهجرات السامية.
ويقول أنه لا ينبغي أن نتلمس أسباب الانتشار السريع للعقيدة الإسلامية في أخبار الجيوش الفاتحة بل الأجدر أن نبحث عن ذلك في الظروف التي كانت تحيط بالشعوب المغلوبة على أمرها.
والمعروف أن نداء الخليفة الذي أورده البلاذري إنما هو حث للقبائل لتسارع للجهاد ونشر الإسلام، فإن تحقق مكسب بعد ذلك فهو أمر لاحق لأصل. ولم يكن القول (بأن جزيرة العرب كانت مجدبة فكان ذلك دافعاً للفتح والحروب)، وذلك لعدة أسباب، من ضمنها أن الجزيرة العربية حينذاك كانت قد تزايدت أموال أهلها بفضل النشاط التجاري الذي انتعش حينذاك، فعير قريش التي انتهت بغزوة بدر قيل أنها كانت مكونة من ألف بعير وأن الدينار ربح ديناراً، وأن ريعها استفادت منه قريش في تعبئة نفسها لغزوة أحد. وأن سرية زيد بن حارثة إلى ذي قرد حصلت من قافلة قريش على كمية من الفضة وزنها ثلاثون ألف درهم [47] وكان موسم الحج من عوامل الانتعاش الاقتصادي، بالإضافة إلى أن الإسلام نظم الحياة الاجتماعية بين المسلمين، فأسلوب المؤاخاة بين المهاجرين والأنصارٍ الذي طبقه الِرسول صلى الله عليه وسلم حقق التكافل الاجتماعي بين المسلمين [48] فكون بذلك مجتمعاً إسلامياً نموذجياًَ.(3/134)
ورغم بذخ الدولتين الروم وفارس، ومظاهر الأبهة والعظمة إلا أن ذلك لازمه استبداد وخلافات دينية وصراع حول الملك، على حين ألف الإسلام بين قلوب المسلمين، فمع مظاهر الزهد والتقشف في حياتهم، ظهر عليهم شدة الإيمان والحرص على الاستشهاد في سبيل الله [49] مما حقق لهم أعظم النتائج في المعارك التي خاضوها.
ويقول جودفروا: "يقود الخليفة الجهاد أي الحرب المقدسة ضد الكفار لحملهم على اعتناق الدين الإسلامي أو استرقاقهم أو قتلهِم أو إجبارهم آخر الأمر على دفع الجزية، ومع أن العلماء المسلمين يعتبرون الجهاد فرضاًَ واجباً على جميع المسلمين إلا أنهم غير متفقين على قيمته الدينية، ولا يجعلونه جميعاً ركناً من أركان الدين الخمسة. وأصول الجهاد توضح هذا التردد، فقد كان الرسول في بداية دعوته في مكة ضعيفاً جداً ولم يزوده القرآن بسلاح سوى الصبر والثقة بالله، ولكن بعد الهجرة إلى المدينة هبط الوحي يحث المسلمينِ على أن يقاوموا بقوة السلاح أولئك الذين طردوهم من ديارهم وأرادوا بهم شراًَ (ق: س 22، 39- 43) وبمناسبة غارة قام بها المسلمون لخرق الهدنة الجاهلية في الأشهر الحرم أمرهم القرآن (س 2: 212) أن يقاتلوا" [50] .
هذا رأي المستشرق والملاحظ أنه يمتلئ بالأخطاء سواء عن قصد أو سوء فهم، من ذلك أنه يحور مفهوم الجهاد من أداة للدعوة ونشر الإسلام كما هو مضمونه الواسع المليء بالتسامح والصبر، إلى وسيلة للقتل والاسترقاق والنهب. ثم يتحدث عن سرية عبد الله ابن جحش على أنها غارة.
رهط من المهاجرين في رجب وكتب لهم كتاباًَ، فإذا فيه "إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم" [51] فالمطلوب من السرية الحصول على معلومات عن قريش، وليس في هذا أمر غريب بين أعداء احتمال الحرب بينهما وارد، ولكن لم يكن أمراً للسرية بالقتال فقوله إنها غارة فيه إجحاف وتجن. وخاصة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم عندما رجعوا: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام"، وظل الأمر معلقاً حتى أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [52] وما قاله هذا المستشرق لم يخرج عما قاله أعداء الإسلام حينذاك عندما قالت قريش قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وغنموا الأموال وأسروا الرجال [53]
وعموماً فإن الدراسات التي أعدت عن المستشرقين وتناولت مناهجهم اتفقت على أنهم يعالجون المسائل الإسلامية من وجهة نظرهم ووفق طرقهم ومناهجهم، فإن تخلوا عن الغرض، فقد تأثروا بالمنهج، وأدخلوا عوامل ومبررات في التوسع المبكر للإسلام، مثل عواقب الصراع بين الإمبراطوريات الساسانية والبيزنطية وعدم الاستقرار الداخلي للقوط في أسبانيا، ولكنهم لم يربطوا بين ذلك الانتشار السريع للإسلام وبين العقيدة الإسلامية نفسها، فهل من الممكن أن يحدث ذلك الانتشار والتوسع بهذه الدرجة من غير الدين الإسلامي؟ [54] .
---------
[1] ابن تيمية، أحمد، مجموع فتاوى شيخ الإسلام، ج 28ص 431 (ط الأولى 1318).
[2] ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، ج 1،2 ص 234 ط 2 (القاهرة 1375 هـ). ولفظ البخاري رحمه الله "أول ما بدئ به الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ….."أنظر ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج1 ص22، ط السلفية (1380 هـ ).
[3] ابن القيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، ج ا ص 38 (القاهرة 1373 هـ).
[4] ابن هشام، المصدر السابق، ج 1، 2 ص 501.
[5] نفس المصدر ص 504.
[6] ابن تيمية، المصدر السابق ج 28 ص 429.
[7] سورة الأحزاب الآية 21.
[8] ابن سعد، محمد، الطبقات الكبرى، ج 1 ص 1 29- 359، (بيروت دار صادر).
[9] سورة الحجرات آية 17 انظر ابن كثير، تفسير القرآن العظيم ج 4 ص 218.
[10] ابن سيد الناس، عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، ج 2 ص 329 ط 3 (بيروت، 1402 هـ).
[11] أنظر هذا البحث ص 2 (مراتب الدعوة).
[12] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، خ 2 ص 332 (بيروت 1399 هـ).
[13] ابن حجر، المصدر السابق، ج ا ص 77. (أنظر صحيح مسلم ج 1 ص 88 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي).
[14] أحمد بن حنبل، المسند ج 2/ 374.
[15] سورة النحل آية 125.
[16] سورة البقرة آية 256.
[17] ابن الأثير المصدر السابق، ج 1 ص 335.
[18] سورة التوبة، آية 29.
[19] القاضي أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم، كتاب الخراج (ضمن موسوعة الخراج) ص 122، (بيروت 1399 هـ).
[20] الماوردي، أبو الحسن علي بن حبيب، الأحكام السلطانية، ص 143 (بيروت 1402 هـ).
[21] ابن الأثير، المصدر السابق ج 2 ص 456.
[22] ابن كثير، البداية والنهاية، ج 5/ 6 ص 342 ط 2 (بيروت- 1977م/ 1397 هـ).
[23] سورة الأنفال، آية 60.
[24] ابن تيمية، المصدر السابق ج 28 ص 9.
[25] سورة الصف، آية 4.
[26] ابن هشام، المصدر السابق، ج 1، 2 ص 626.
[27] علي إبراهيم حسن، التاريخ الإسلامي العام، ص 535 (النهضة المصرية).
[28] ابن حجر، المصدر السابق، ج 6 ص 56. أنظر الترمذي، صحيح الترمذي، باب الجهاد، شرح الإمام بن العربي المالكي، ج7 ص186.
[29] ابن الأثير، المصدر السابق، ج 2 ص 518.
[30] ابن سعد، المصدر السابق ج 2، ص 38.(3/135)
[31] ابن هشام، المصدر السابق، ج 3- 4، ص478 أنظر السهيلي، أبو القاسم عبد الرحمن، الروض الأنف، تحقيق طه عبد الرؤوف ج 4 ص162- 163 (دار الفكر).
[32] ابن هشام، المصدر السابق ج 3 ـ4، ص 483.
[33] نفس المصدر.
[34] ابن الأثير.، المصدر السابق، ج 2 ص 509 .
[35] جمال الدين محمد بن منظور لسان العرب،ج4 (فصل الضاد باب الراء) ص480 (بيروت ، دار صادر).
[36] حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، ج1، ص 478 (النهضة المصرية، ط 7، 1964).
[37] المقريزي، تقي الدين أبى العباس، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، ج 2 ص 427 (بيروت، دار صادر).
[38] ابن تيمية، المصدر السابق، ج 28 ص 5.
[39] سورة التوبة، آية 19.
[40] أحمد بن حنبل، المسند، ج 5/ 440.
[41] المقريزي، المصدر السابق، ج 2 ص 190.
[42] نفس المصدر.
[43] عبد القدوس الأنصاري، تاريخ مدينة جدة، ص 70.
[44] حسن إبراهيم حسن، المصدر السابق، ج 1ص 484.
[45] البلاذري، أبو الحسن، فتوح البلدان، ص 111 (بيروت 1403 هـ).
[46] أرنولد، سيرتوماس، الدعوة الإسلامية (مترجم) ص 64 (القاهرة 1970 م).
[47] ابن سعد، المصدر السابق، ج 2 ص 36.
[48] عماد الدين خليل، دراسة في السيرة، ص 154 (مؤسسة الرسالة 1398 هـ).
[49] حسن إبراهيم حسن، المصدر السابق، ج 1ص 214.
[50] جودفروا، م. كتاب النظم الإسلامية، (باب الخلافة) مترجم، ص135.
[51] ابن هشام، المصدر السابق، ج ا-2، ص 602.
[52] سورة البقرة، آية 217.
[53] ابن هشام، المصدر السابق، ج ا-2، ص 604.
[54] راجع الدراسة التي أعدتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، مكتب التربية العربي لدول الخليج، تحت عنوان (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية) جزآن (الرياض 1405 هـ/ 1985م) .
============
مفهوم الديمقراطية عند (الإسلاميين الديمقراطيين)
دعوة المقاومة الإسلامية العالمية - (ج 4 / ص 142)
مفهوم الديمقراطية عند (الإسلاميين الديمقراطيين) وتجارب الصحوة في ممارسة الديمقراطية ومسارها خلال الربع قرن الأخير:
من المفيد بحث هذه الظاهرة من زاويتين:
1.…من حيث الفكر والمنهج والمعتقد في الديمقراطية.
2.…من حيث التطبيق والتجارب.
أولا: الفكر والمنهج والمعتقد الديمقراطي عند الإسلاميين الديمقراطيين:
من خلال اهتمامي بهذه الظاهرة ودخولي معترك التصدي لها عبر الكتابة والمحاضرة منذ مطلع التسعينيات وإلى اليوم. حيث الزمني ذلك بمتابعة تجاربها وكتابات أصحابها من الإسلاميين أستطيع التمييز بين عدة أنواع من الديمقراطيين الإسلاميين وبصرف النظر عن أسماء الجماعات والأشخاص وهو أسلوب اعتمدته ما أمكن في هذا الكتاب على غير عادتي من أجل الغاية الأساسية لهذا البحث وهي حشد الصفوف من أجل مشروع المقاومة وجدت أن أنواع الديمقراطيين الإسلاميين على الشكل التالي:
1.…إسلاميون ديمقراطيون يعتقدون - بحسب تصريحاتهم وكتاباتهم- أن الديمقراطية لا تناقض الإسلام. وذهب أحد أقطاب هذه المدرسة للقول ( الديمقراطية بضاعتنا ردت إلينا). وذهب آخر للقول ( الديمقراطية هي الشورى الملزمة). واقترح ثالث ( النحناح - الجزائري ) الذي أفضى إلى ما قدم من قريب أن يدعو الإسلاميون منهجهم بـ ( الشورقراطية) ! . وقد عبر ( الغنوشي )أحد منظري هذه المدرسة في كلمة له أثناء جلسة عشاء جمعتني به شخصيا في ( مدريد ) بقوله (نحن ارتضينا بالديمقراطية والصناديق حكما بيننا كإسلاميين وبين خصومنا من الأحزاب العلمانية في تونس. فإذا الشعب اختارنا حكمنا بالإسلام. وسمحنا للكفر بأن تكون له أحزابه وصحفه لأن الإسلام لا يخشى عليه من الحرية. وإذا الشعب اختار الأحزاب العلمانية , رضينا بحكم الكفر لأن الله تعالى قال:(لا إكراه في الدين ).! وسهرتنا تلك مسجلة على كاسيت ! .. وكتابه (الحريات السياسية في الإسلام) أشد صراحة من هذا. وله مقالات كثيرة في هذا المضمار.
وقد انتشر هذا المذهب في أكثر بلدان العالم الإسلامي ولاسيما في السودان وشمال أفريقيا وفي أوساط الصحوة الإسلامية في المهجر في أوربا وأمريكا والعالم الغربي عبر المراكز الإسلامية والصحافة الإسلامية المهاجرة.
2.…إسلاميون ديمقراطيون يطرحون تصورا إسلاميا للديمقراطية ويقولون نأخذ منها ونمارس ما لا يتعارض مع أصول السياسة الشرعية وينهجون منهجا توفيقيا ترقيعيا لإنتاج نظريات( ديمقراطية - إسلامية ) في آن واحد. وأنه يمكن الخروج بما أسموه (فقه برلماني) يشكل نظرية لديمقراطية إسلامية بضوابط معينة . تجعلهم بحسب تصورهم في حل مما تحمله النظرية السياسية والدستورية للديمقراطية الغربية من إلحاد وشرك وكفر أكبر. ولا يرون بأسا من الانتماء للسلطة التشريعية عبر الديمقراطية كمعارضة بحيث لا يوافقون إلا على ما تجيزه الشريعة ( كما هو رأي بعض البرلمانيين الإسلاميين في الأردن ) . وهناك ن هؤلاء من لا يرى بأسا من تسلم الوزارات في السلطة التنفيذية على ما يزعمون من دليل في مذهب يوسف عليه السلام ووزارته لدى الفرعون !!.( كما في الأردن والكويت و الباكستان وتركيا وكثير من البلاد غيرها ) !(3/136)
3.…النوع الثالث يصرحون بأن الديمقراطية بمفهومها الأساسي تناقض الإسلام وأنه ليس هناك إشكالية شرعية في ممارسة المعارضة في (البرلمان) . ولا يجيزون لأنفسهم أن ينتقلوا بالشوط لآخره بدخول السلطة التنفيذية , لأن ذلك سيدخلهم في دائرة الحكم بغير ما انزل الله بحسب القوانين المعول بها في عموم بلاد المسلمين ! ويعتقدون أن الشريعة الإسلامية تسمح بمزاولة الديمقراطية في حدود المعارضة ونيابة البرلمان ! بحيث يوافقون على ما وافق الشريعة ولا يجيزون ما لا يوافقها وأنهم لا ينتقلون إلى ممارسة السلطة إلا إذا كانوا أغلبية وتمكنوا من الحكم بالشريعة . وأنهم في البرلمان لإقامة الحجة وإيصال صوت الحق , وتحقيق بعض المصالح الشرعية للمسلمين . وهذا النوع قلة اليوم في الصحوة .
4.…الفريق الرابع يصرح صراحة بأن الديمقراطية كفر بالله وأن مبادئها تقوم على الشرك به والإلحاد في ألوهيته سبحانه. وأنهم يمارسونها في حدود حالات الاستضعاف التي تمر بها الصحوة. وأنهم لا يدخلون البرلمان إلا كأكثرية حيث سيتولون أول أعمالهم تشكيل حكومة تحكم بالشريعة. وإلغاء العمل بالديمقراطية بمفهومها الغربي. ولعل أوضح وأصرح هذا النموذج جبهة الإنقاذ في الجزائر لاسيما من خلال تصريحات شيخها علي بلحاج فرج الله عنه وأحسن خلاصة . وهذا النوع من الديمقراطية اقل الأنواع انحرافا وأندرها وجودا.
5.…هناك نوع أخير لا يطمح بالوصول للسلطة ولا أمل له فيها بحكم ظروف بلاده ويعتبر المشاركة النيابية نوع من إيصال صوت الحق للناس عبر هذا المنبر. ويعتبر السلطات خارجة عن الشريعة وأن الديمقراطية مفهوم غير إسلامي. وأنه معهم في البرلمان هناك لتحقيق ما يمكن من المصالح للمسلمين وأن ليس بالإمكان أكثر مما كان في مثل حالة الاستضعاف هذه.
والجدير بالذكر أن مواقف (الإسلاميين الديمقراطيين) تتنوع تجاه مفهوم السيادة والحاكمية والمبادئ والمصطلحات الدستورية والمواقف من كفر الحاكم وإسلامه وكذلك الحكم على النظام ومؤسساته وهناك الكثير من الضبابية والتلون والباطنية والمواقف الإعلامية والكلام في الجلسات الخاصة. والتذبذب في المواقف من المسألة بين حوار وآخر وتصريح وآخر بحسب الأجواء والظروف أو الشجاعة الشخصية... الخ ولكن هناك واقعا يجدر ذكره وهو أن جميع الإسلاميين الديمقراطيين بلا استثناء وهم يدخلون في هذا المجال يقرون إما اعتقادا أو موافقة للحال بجملة من الأشياء ويلزمهم بذلك النظام الدستوري النيابي وقوانين الانتخابات ومن ذلك :
1.…الاعتراف بشرعية النظام وشرعية الحاكم سواء كان رئيسا أو ملكا أو أميرا.
2.…الاعتراف بالدستور المعمول به في البلاد والقسم بالشرف والمعتقد على صيانته واحترامه والعمل به.
3.…الاعتراف بالمبادئ الأساسية للدولة والنظام القائم و أسس تكوينه بحسب حالته.
4.…الاعتراف بمبدأ المساواة في الحقوق السياسية من حيث حق الترشيح والانتخاب والتصويت داخل المجلس بصرف النظر عن الدين أو الجنس أو المعتقد أو أي اعتبار آخر.
5.…الاعتراف بمبدأ تداول السلطة وحق الجميع في المنافسة والتمثيل النيابي.
6.…الاعتراف بمبدأ الالتزام بقرارات الأغلبية ونفاذها دستوريا وقانونيا بصرف النظر عن الموقف الخاص أثناء التصويت منها واعتبارها نافذة في الأمة بمجرد صدورها بالأغلبية.
7.…الاعتراف والتوقيع على قانون الإنتخابات المعمول به بحسب كل حالة والتي تفصل فيها السلطات دائما القوانين بحيث تكون النتائج كما تشتهي.
8.…الاحتكام للدستور والمحاكم الرسمية والقوانين المعمول بها حال المنازعات في أي إشكال بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية أو داخل مكونات أي من تلك السلطات.مع العلم المسبق بحق الرئيس أو الملك بحل البرلمان وتعليق الحياة الدستورية من اجلها كما في معظم الحالات. وهناك شروط أخرى يلزم بها المشاركون في العملية الانتخابية في بعض الحالات الخاصة ببعض البلدان كمنع تشكيل الأحزاب على أساس ديني مثلا كما في معظم البلاد العربية والإسلامية كالحالة في مصر. وكالاعتراف بعلمانية الدولة أساسا وبنية كما في تركيا مثلا وكالاعتراف بواقع الاحتلال المباشر كما في حالات مثل فلسطين والعراق اليوم.
ثانيا: الحصاد العملي لتجارب الإسلاميين الديمقراطيين عبر مسار الصحوة:
ليس للتجارب البرلمانية الديمقراطية للإسلاميين ما قبل الربع قرن الأخير أهمية كبيرة. فهي محدودة في بعض البلدان فقط حيث مارس الإسلاميون بعيد الإستقلال نشاطا ديمقراطيا في حكومات الإستقلال الوليدة ولمدة وجيزة ولم تكن الأمور قد تبلورت بعد . ولم تكن الدساتير قد وضعت بتفصيلاتها . ولم تكن تجارب الحكومات الوليدة قد نضجت بعد لحصار الإسلاميين وتكبيلهم بقوانين انتخابات معقدة لشل حركتهم.
ولعل أهم ما في هذا الملف هو مشاركة الإخوان المسلمين وبعض العلماء والإسلاميين في الإنتخابات والمجالس النيابية في كل من مصر وسوريا و الباكستان أو آخر الأربعينيات. وخلال الخمسينيات من القرن الماضي . إذ ما لبثت الانقلابات العسكرية في هذه البلاد أن عصفت بالتجربة وطوت صفحة الديمقراطية التي لم تعد إلا عندما قرر الغرب حصار المد الجهادي أو ما سماه (الإسلام المتطرف) بالمد الإسلامي الديمقراطي أو ما سماه (بالإسلام المعتدل) منذ أواسط الثمانينيات وخلال التسعينيات.(3/137)
حيث قامت تجارب تستأهل العبرة منها و من دراستها للحكم على العملية واقعيا بعد معرفة حكمها الشرعي. لنخرج بعبرة مفادها بأن الحكم من منظوره الشرعي ومنظور الواقع التجريبي لممارسة الإسلاميين للديمقراطية يفيدان نفس النتيجة . وهي تأكيد لقاعدة أن مقتضى صريح العقل لا يتعارض مع مقتضى صريح النقل. وسبحان العليم القدير الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
ولعل من التجارب المهمة خلال هذه الفترة في العالم العربي تجربة الإخوان المسلمين في مصر , والتي افتتحت المسار تقريبا منذ أواخر عهد السادات أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات. ثم تجربة الحركة الإسلامية القومية في السودان بالتحالف مع نميري أواسط الثمانينيات. ثم تجربة الإخوان المسلمين في الأردن أواخر الثمانينيات. وكذلك تجربة الإتجاه الإسلامي في تونس الذي تحول إلى حزب النهضة في نفس الفترة. ثم تجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات. وتجربة بعض الدول الخليجية ولاسيما الكويت مطلع التسعينيات. وتجربة الإخوان المسلمين في اليمن مطلع التسعينيات. بالإضافة للتجارب الهامة للجماعة الإسلامية والإسلاميين وجماعات العلماء في باكستان منذ الاستقلال (1947) وإلى اليوم . وكذلك التجربة الهامة لحزب السلامة بزعامة أربكان في تركيا منذ مطلع الستينات وإلى اليوم. ولا أملك في ظروفي الحالية الوثائق والأرقام والتواريخ والوقائع الخاصة بكل تجربة من تلك التجارب وقد كنت قد جمعت منها شيئا كثيرا . ولا مجال للتفصيل في هذا البحث بطبيعة الحال . واكتفي بذكر عموميات ما عرفته عن تلك التجارب التي تفيد جميعها مؤدى واحد من النتائج كما سنذكره إنشاء الله. ونبتدأ بالتجارب الأقل أهمية لنختم بأهمها وأوضحها دلالة وهيا. التجربتان الجزائرية والتركية. كأفضل نموذجين على الديمقراطية وتطبيق الإسلاميين لها في العالم العربي والإسلامي فهما تمثلان سقف ما وصل إليه وحلم به الإسلاميون عبر هذا المسار.
•…من تجربة الإخوان المسلمين في مصر منذ عهد السادات:
دخل الإخوان المسلمون البرلمان على عهد السادات. وكان أقصى ما حصلوا عليه 8 مقاعد ضمن 52 مقعد للمعارضة فيما كانت بقية مقاعد البرلمان البالغة أكثر من 460 مقعدا الحزب السادات الحاكم. ولم يتجاوزا حجم الأقلية المسحوقة ضمن أقلية معارضه غير فاعلة. وفي عهد مبارك حظر دخولهم بصفة مستقلة على أنهم حزب ديني فدخلوا من خلال التحالف مع الأحزاب العلمانية وحمل هويتها مرة مع حزب الوفد ومرة مع حزب العمل. وخرج فريق من شباب الإخوان فشكل حزب (الوسط) على أنه حزب غير ديني و أدخل فيه بعض النصارى والنساء !! . وتابعت الدولة العنت ووضع الخطوط الحمراء وتنقل الإخوان بين البرلمان والمعتقلات وما زالوا كذلك إلى يومنا هذا . وتابعوا التنازلات والرضوخ حتى رشحوا امرأة من الإخوان على قوائم تحالفاتهم في الإسكندرية مؤخرا ,.. و زداوا في تصريحاتهم انحرافا ولم يفد ذلك شيئا. ورغم أن الإخوان التزموا بكل الاعترافات المطلوبة من النظام إلى الدستور إلى قوانين الانتخابات التي فرضتها الحكومة .. ولكن دون أي فائدة أو جدوى. وما يزال مسلك الإخوان كما عبر عنه أحد قياداتهم رحمه الله في كتابه الذي جعل عنوانه (من السجن إلى الدعوة) ولو عاش لأضافا إليه ومن الدعوة للسجن , وطبعه في مؤسسة ( وهكذا دواليك ) لتكتمل الحلقة المفرغة ..
•…من تجربة الإخوان المسلمين في الأردن:
الإخوان المسلمون حزب رسمي مرخص له مكاتبه المعلنة في عمان وكافة المدن الأردنية ويعمل بصورة مشروعة رسمية. وقد قرر الإخوان دخول الإنتخابات وخوض التجربة منذ أواخر الثمانينيات. وكانت سياسة الملك حسين هي إفساح المجال لهم كلما أحاطت به الملمات إلى أن مات !. فكان عام 1990 ذروة أزمة بالنسبة له بسبب حرب عاصفة الصحراء وموقفه المؤيد للعراق فافسخ لهم المجال. وأعلن الملك عن أنه شكل لجنة من 65 ( مشرع وقانوني ! ) هكذا باللفظ ..! لكتابة (الميثاق الوطني الأردني) وأن الأردن تجاوز مرحلة الضغوط التي حال بها العدو الصهيوني بين الأردن وبين مزاولة الديمقراطية ! !
وخاض الإخوان الإنتخابات البرلمانية وحازوا كتلة برلمانية كبيرة وأصبح رئيس البرلمان عضو الإخوان المسلمين (عبد اللطيف عربيات) وافتتح أولى جلساته بقوله (مولاي الملك حسين المعظم .. لقد أثبت أنك هاشميا أصيلا كما كنت دائما يعربيا أصيلا) .... وشكل الملك حكومة من الإخوان المسلمين فيها خمس وزراء. أذكر أنه كان من بينهم الأستاذ شاعر الدعوة الكبير يوسف العظم وزيرا للشؤون الاجتماعية. وتسلم الدكتور ماجد نجل الأستاذ عبد الرحمن خليفة المراقب العام للإخوان المسلمين وزارة العدل ! (أي وزارة الحكم بالقانون الفرنسي والإنجليزي بغير ما أنزل الله!..).. وانجلت أزمة الملك فأغلق المجال وعاد الإخوان لحجمهم المعهود .. ودخلوا في تحالفات إسلامية عريضة وشكلوا مع إسلاميين آخرين(جبهة العمل الإسلامي) ومنذ ذلك الحين مازالت الجبهة تدخل المحاولات البرلمانية وكان آخرها الإنتخابات التي حصلت أواسط 2003 حيث شرعت الدولة للإنتخابات طريقة الصوت الواحد للدائرة الإنتخابية فخرجت الأغلبية من المؤيدين للملك ولم تحصل الجبهة إلا على 15 مقعد ... وطعنت في مشروعية الإنتخابات ولكن بقيت في المجلس المطعون بهِ !(3/138)
وخلال هذه التجارب كتب عدد من دكاترة الشريعة وعلماء الأردن عددا من الكتب والبحوث التي تؤطر وتنظر للفقه البرلماني المعاصر ! فذهب البعض لجواز دخول البرلمان (الهيئة التشريعية) وحرمة دخول التنفيذية لأنها حكم بغير ما أنزل الله . وذهب البعض لحل دخول الوزارة لأنها وظيفة وحرمة البرلمان لأنه تشريع من دون الله ! وذهب فريق ثالث لحل الوجهين .. وأفتى فريق رابع بحرمة الأمرين ,ولكنه على رأي الجماعة ! وعلى شباب الصحوة أن يصبروا فمن يتصبر يصبره الله! والدين يسر !
•…تجربة الإخوان المسلمين وحزب التجمع اليمني للإصلاح:
ما أذكره أنهم خاضوا أول انتخابات قامت بعد الوحدة سنة 1993 بعد مصادمات كبيرة ومظاهرات من أجل وضع كلمة ( الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع ) في مقدمة الدستور العلماني والقانون الوضعي ! وبعد أن خرج أكثر من مليون مسلح في تظاهرات تحتج على الدستور وساروا إلى القصر الرئاسي . خرج لفيف من قيادات الإخوان والعلماء وعلى رأسهم الشيخ الزنداني وأعادوا الناس إلى بيوتهم درءا ( للفتنة ).! وكانت سياسة علي عبد الله صالح تقريب الإسلاميين من أجل كسر شوكة الاشتراكيين الشيوعيين القادمين من الجنوب مع الوحدة. ففتح الباب للإسلاميين وصار التجمع اليمني للإصلاح ثاني حزب في البلاد من حيث القوة. وكان قد وضع نظام! لحكم اليمن الموحد عبر مجلس رئاسي من 5 أعضاء. يرأسهم علي عبد الله صالح وبعضوية رئيس اليمن الجنوبي (علي سالم البيض) وعضوية ( الشيخ عبد المجيد الزنداني ) !
وأدت سيطرة الإصلاح لحصار الجنوبيين في البرلمان. فبدؤوا يعدون للانفصال بدعم من دول مجلس التعاون الخليجي والسعودية مما أدى للحرب التي أدت إلى خروج الاشتراكيين وسيطرة اليمن الشمالي على الجنوبي حيث قام الإخوان والإسلاميون عموما بالدور الأساسي للمجهود الحربي. فلما تمكن الرئيس صالح بعد الحرب عادت وقضى الرئيس منهم وطرا .. عادت السياسة إلى تقليص دور الإسلاميين فعادوا كتلة برلمانية محدودة . وفي دورة 1996. فاز حزب المؤتمر الذي يرأسه علي عبد الله صالح بأغلبية ساحقة أكثر من 70% وتقلص حجم الإصلاح كثيرا. وفي الدورة الأخيرة 2003 تكرر السيناريو .
•…أما في تونس:
فقد أدى نجاح حزب النهضة بأكثر من 86% من مقاعد الانتخابات التمهيدية أواخر الثمانينيات . إلى حل الحزب ومطاردة شيخه الغنوشي وعودة علي زين العابدين للنظام الديكتاتوري بدعم أمريكي وتحول الإسلاميون إلى مجموعة مطاردين في المهجر. وها هو زين العابدين قوم في إجراء انتخابات رئاسية خلال شهر أوكتوبر 2004 , فاز فيها بطريقة ديمقراطية خالصة بنسبة 95,96 % . فقد غرم به الشعب إثر ولايتين مضتا وها هو يعشقه حتى الموت !
•…وفي الكويت:
دخل الإخوان والسلفيون وبعض المستقلين من الإسلاميين انتخابات مجلس الأمة ودخلوا في صراعات مسائل الفساد وبعض الأمور الداخلية .. , حيث لا يصل نفوذ المجلس إلى الأمور السيادية من السياسات الداخلية والخارجية التي تنحصر بالإرادة الأميرية التابعة للأمريكان و... وأذكر أن الحياة البرلمانية علِّقت في الكويت أكثر من مرة وحل البرلمان ... وفي آخر دورة انتخابية في أغسطس 2003 حصل الإسلاميون من مختلف الفصائل كالإخوان والسلفية على أكثريه في البرلمان .. والتجربة قيد الامتحان في عالم ما بعد سبتمبر واحتلال العراق .لتثبت ما أثبتته دائما .
•…أما في باكستان:
فقد دأبت الجماعة الإسلامية على لعب دور إكمالي في الصراع بين الحزبين العلمانيين الكبيرين في باكستان.. حزب الشعب الذي كانت ترأسه العلمانية الشيوعية الفاجرة (بنزير بوتو) . و حزب الرابطة الإسلامية الذي أسسه ( نواز شريف ) بعد مقتل ضياء الحق الذي كان قد عطل الحياة الدستورية. وقد تبادل الحزبان السلطة عدة مرات كان آخرها حكم نواز شريف للباكستان حيث برمجت أمريكا انقلاب (برويز مشرف) عام 2000 لتعطيل الحياة البرلمانية ثانية ثم أعاد مشرف شكلا من أشكال الحياة البرلمانية وتجمع الإسلاميون من الصوفية والجماعة الإسلامية وبعض علماء الديوبند وبعض الشيعة وغيرهم في (مجلس العمل المتحدMMA). وحازوا المراكز الثالث في الحجم حيث فاز أحد أجنة حزب الرابطة بالأغلبية وفاز بعده حزب بوتو وجاء مجلس العمل في المرتبة الثالثة إلا أنه حاز المركز الأول في ولاية سرحد حيث تتكون باكستان من أربع ولايات ترتبط فدراليا بإسلام أباد وتتمتع حكومات الولايات باستقلالية داخلية.. وما يزال المد والجزر بين مجلس العمل من جهة ومشرف من جهة أخرى و حيث خصفت له الحكومة السياسية. وسرعان ما دخلت في فلك مشرف والسياسة الأمريكية واقتصر دور الإسلاميين على الإصلاح الجزئي في بعض القوانين الإسلامية البسيطة في دائرة سرحد. وعلى الاحتجاج والتظاهر والصياح في المسيرات الغاضبة على سياسات مشرف التي جعلت من باكستان مستعمرة أمريكية بالكامل. ( راجع كتاب باكستان مشرف - المشكلة والحل والفريضة المتعينة - للمؤلف ) .
إلا أن أبلغ العبر كانت في المثال التركي والجزائري الذي كان يجب أن يشكل نهاية للآمال الديمقراطية لدى الإسلاميين ونقطة لإعادة تفكير قيادات الصحوة الإسلامية في جدوى الطريق البرلماني كسبيل لإعادة حكم الشرعية بما أنزل الله ولوضع حلول لمشاركة الأمة وقد عايشت هاتين التجربتين عن قرب وعن كثب ولاسيما في الجزائرية. وإليك الخلاصة:
•…التجربة الديمقراطية للإسلاميين في تركيا:(3/139)
تمكن حزب السلامة الإسلامي التركي بزعامة البرفسور نجم الدين أربكان من الفوز عبر الانتخابات والوصول إلى منصب نائب رئيس حكومة سنة 1969 فيما اذكر.. وقد أدى تمدد الإسلاميين إلى انقلاب عسكري أطاح بالتجربة الديمقراطية في تركيا وعاد بالبلاد إلى حكم العسكر. وبعد مد وجزر عاد السياسيون لتسلم زمام الأمور في السلطة مع الاعتراف بهيمنة العسكر على السياسات العامة. ولكن حظر حزب السلامة الذي غير اسمه وعاد إلى معاودة المحاولة تحت اسم (حزب الرفاه) .. وعلى مدى عقد من الجهود تمكن (حزب الرفاه) من إحراز الأكثرية النسبية في انتخابات 1996 البرلمانية حيث حاز لوحده على نسبة 21% من مجموع الأصوات حيث لم يحرز اكبر الأحزاب العلمانية بعده أكثر من 18%. وقامت الدنيا وما قعدت واعتبرت هذه النتيجة في الغرب ناقوس خطر. وشكل أربكان وزارة ائتلافية برآسة لم تعمر إلا سنة واحدة .. ورغم أنه استجاب لكل الضغوط وحصلت في عهده تنازلات رهيبة مثل التوقيع على التعاون العسكري مع إسرائيل وسوى ذلك , إلا أن ذلك لم يغير من النتيجة فقد تمكن العلمانيون من عمل انقلاب سياسي دبر لأربكان والرفاه خلالها تهما ملفقة حكم بموجبها عليه بإبعاده عن السلطة وحل (حزب الرفاه) ومنع أكبر قياداته من بينهم أربكان من مزاولة العمل السياسي.. وعاود الإسلاميون الكرة وشكل فلول (حزب الرفاه) حزبا جديدا باسم (حزب الفضيلة) الذي خاض الإنتخابات مرة ثالثة وتحول إلى أقلية ثم تعرض للحظر والمضايقات للمرة الثالثة.. ليشكل (رجب طيب أردوغان) أحد أعوان أربكان (حزب العدالة للتنمية) على أسس (علمانية إسلامية) وليخوض الإنتخابات مرة ثالثة ويفوز عام 2002 بأغلبية كبرى 36% من مقاعد البرلمان حيث تمكن من تشكيل حكومة ما تزال تعلن صباح مساء عن علمانيتها وتدخل في مد وجزر مع السياسات الأمريكية التي رسخت أقدامها في المنطقة حيث تحاول الحكومة
التركية (العلمانسلامية) التوفيق بين جذور هويتها ومطالب الشارع الإسلامي وبين الضغوط الأمريكية من الخارج وتهديدات العسكر وضغوط العلمانيين من الداخل.
•…التجربة الديمقراطية للإسلاميين في الجزائر:
في سنة 1989 أعلن الرئيس الجزائري الشاذلي ين جديد بعد (مظاهرات الخبز) الشهيرة سياسة للإصلاح جعل من أولياتها إطلاق حرية الأحزاب وإلغاء سياسة الحزب الواحد .. وسارع الإسلاميون من مختلف التيارات إلى تشكيل ما عرف باسم (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) التي ضمت كامل الطيف الإسلامي تقريبا في حين بقي تجمعان من الإخوان المسلمين يعملان بصفة مستقلة هما (جماعة الإخوان) وجماعة (النهضة الإسلامية) المحلية في حين كان الحزب الحاكم (جبهة التحرير الوطنية) هو القوة الرئيسية في البلاد إلى ذلك الوقت منذ الإستقلال .. وخلال الإنتخابات البلدية اكتسحت جبهة الإنقاذ المجالس البلدية بنسبة أكثر من 85% واستطاعت عبر تماسها بالجماهير وقاعدتها الشعبية التي تجاوزت 3.5 مليون ناخب أن تدخل الإنتخابات البرلمانية بقوة أواخر سنة 1990 وتكتسح الأغلبية الساحقة في الدور الأول. مما أكد فوزها الساحق بالدور الثاني الذي سيتم مطلع 1991 وبالتالي تأهلها لأن تشكل الحكومة بشكل مستقل وأعلن زعيما الجبهة (عباسي مدني وعلي بلحاج) عزمها على إقامة حكومة إسلامية تحكم الشريعة .. استنفر الغرب عموما وفرنسا خصوصا وهدد الرئيس الفرنسي ميتران بالتدخل العسكري إن لزم الأمر للحيلولة دون وصول الإسلاميين للسلطة .. وعلى عجل رتب الغرب انقلابا عسكريا مطلع 1991 قضى على الجبهة الإسلامية وسجن زعماءها واقتاد عشرات الآلاف من أنصارها للمعتقلات الصحراوية. مما فجر حركة جهاد واسعة الانتشار ودخول أطراف كثيرة على خط الصراع وتحول المواجهات إلى أعمال عنف وحرب أهلية دامية راح ضحيتها إلى اليوم أكثر من 150 ألف إنسان.
واليوم يعلن زعماء الغرب في تصريحات مختلفة مبدأ واحدا.. (نريد تطبيق الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي ولكن بلا إسلاميين ولا أصوليين) وتحول هذا الطرح بعد سبتمبر إلى قولهم: ( كل إسلامي هو أصولي متطرف وليس هناك معتدلون) وازدادت شروط العنت حتى أخرجت ما يسمى بديمقراطية وحياة دستورية نيابية عن فحواها من حيث الواقع وما زال بعض الإسلاميين يراها المجال الوحيد لتقديم ما يمكن تقديمه.
( راجع كتاب : ندوة روما في ظلال صليب الفاتيكان - وكتاب : شهادتي على الجهاد في الجزائر 1989- 1996 - للمؤلف ) .
خلاصة ما يستفاد من التجارب العملية للإسلاميين في الديمقراطية:
1.…أن الشعوب الإسلامية تعيش صحوة إسلامية حقيقية رغم مظاهر الفساد والإنحلال وألوان الفسوق التي تفرضها أو تسهلها السلطات لمحو معالم الدين من حياة المسلمين. وقد أثبتت التجارب أن أي بلد عربي أو إسلامي يخوض فيه الإسلاميون انتخابات ديمقراطية حقيقية فإنهم سيفوزون بالأغلبية.
2.…أثبت الغرب ونوابه من الحكام في بلاد العرب والمسلمين أنهم مصممون على وضع العراقيل والخطوط الحمراء على طريق مشاركة الإسلاميين ومنع وصولهم لتحقيق كتل فاعلة في السلطات الثلاثة. كما ثبت أنهم مستعدون فيما لو لم تؤد هذه الموانع إلى تحجم دور الإسلاميين و تهميش وجودهم إلى اللجوء إلى الانقلابات السياسية أو العسكرية أو المؤامرات للحيلولة دون ذلك. وهكذا حالوا بين الإسلاميين و السلطة في الجزائر قبيل وصولهم بقليل وأطاحوا بهم بعد وصولهم بقليل في تركيا ونجحوا في تضييع جهودهم في باقي التجارب.(3/140)
3.…أثبت معظم (الإسلاميون الديمقراطيون) أنهم مستعدون لتقديم التنازلات تلو الأخرى بلا حدود ولا ضوابط . لا من الشرع ولا من المنطق . ولا من الكرامة السياسية المعقولة , إزاء عنت السلطة و تلاعباتها. مقابل ممارسة ما يمكن ممارسته من هذا (العبث الديمقراطي المهين )..
4.…أثبت كثير من الديمقراطيين الإسلاميين استعدادهم لأن يكونوا جزءا من السلطة عبر انتمائهم لأجهزتها التشريعية وجزءا من جهاز الحكم عبر تسلمهم الوزارات بصرف النظر عن مناقضته ذلك لصريح الدين ولوازم ذلك مما لا يسوغه دليل ولا يقوم عليه برهان .
5.…أثبت كثير من (الإسلاميين الديمقراطيين) اشتراكهم إلى جانب حكوماتهم التي صاروا جزءا منها ومن سلطاتها الثلاثة أو بعضها أنهم مستعدون تحت شعار ( مصلحة الدعوة) إلى محاربة التيار المجاهد والنخبة المقاومة للحكام وأعوانهم المستعمرين في الأمة. وذهب بعضهم إلى أمثلة مخزية نعرض عن ذكرها هنا للحفاظ على المنهج الذي اخترناه للكتاب..
6.…حقيقة الأمر أنه وكما كنت قد توصلت إلى ذلك وأعلنته في محاضرة لي بعنوان (المعادلة السياسية للنظام العالمي الجديد) ألقيتها في بيشاور في مركز النور في جمع من المجاهدين العرب صيف 1990 ..فقد أثبت الإسلاميون الديمقراطيون أنهم مستعدون لأن يكونوا جزءا من قوى النظام العالمي الجديد وأن يسيروا في ركاب مخططاته من حيث شعروا وأرادوا أو جهلوا ولم يدركوا ما يفعلون بسبب انخراطهم في هذا الفخ الديمقراطي الخطير.
وفي الختام هنا يجدر بنا أن نعرض لبعض اللفتات السياسية الشرعية في موضوع ممارسة الديمقراطية من قبل الإسلاميين والتي تشكل خلاصة وجهة نظرنا في هذا الموضوع:
ممارسة الإسلاميين للديمقراطية في ميزان السياسة الشرعية الإسلامية.
باختصار ومن خلال ما سبق يمكن القول بأن (الديمقراطية) بصفتها فلسفة ومعتقدات فكرية وبصفها نظام حكم له تفاصيله وقوانينه, تتناقض تناقضا كاملا مع عقيدة الإسلام. وتصادم بشكل واضح جوهر عقيدة توحيد الألوهية كما سبق بيانه. حيث أن عقيدة الإسلام تجعل حق التشريع والتحليل والتحريم والإباحة والمنع لله سبحانه وتعالى. وتجعل له وحده حق الحكم النافذ الملزم الذي تستوجب طاعته الثواب ومخالفته العقاب في الدنيا والآخرة. في حين أن الديمقراطية تنص صراحة على جعل هذا الحق للبشر. وتجعل أحكامهم نافذة واجبة التطبيق بمقتضى إرادة الأغلبية التي تعبر عن إرادة الشعب وممارسة الأمة لحق السيادة المطلقة كما بينا آنفا. سواء وافق هذا شرع الله أم خالفه . فمبادئ الديمقراطية من هذه الوجهة هي إما كفر بالله أو شرك به. وهذه النقطة هي أساس حرمتها و مصادمتها لدين الإسلام وهي التي تفرعت عنها من بعد كل مناحي تناقضاتها مع عقيدة التوحيد.
وأما عن وجوه تناقض الديمقراطية مع دين الإسلام. فمن ذلك:
أولا: تعطي الديمقراطية لكل مواطن حرية الاعتقاد والتفكير . فله أن يعتقد بما شاء ويكفر بما شاء.. وأن يبدل معتقده و قناعاته بحسب هواه وآرائه الشخصية.
وهذا مناقض تماما لمفهوم الحرية في شريعة الله. فالإنسان في دين الإسلام , ليس حرا في أن يكفر بالله ويشرك به.. فالمسلم حكمه إن ارتد عن الإسلام في شريعة الله القتل كما روي عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (من بدل دينه فاقتلوه). ولم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون من بعده من العرب إلا الإسلام أو السيف. وأمر الله تعالى رسوله والمؤمنون أن يقاتلوا الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . وأن يخيروهم بين ثلاث (الإسلام أو الجزية أو الحرب).. فقال تعالى:
? قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ? التوبة/29.
وقال: ? قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً ) الفتح/16.
وليس هنا محل الاستطراد والشواهد كثيرة في نصوص القران والسنة والسيرة وتاريخ صدر الإسلام.
ثانيا: تعطي الديمقراطية للإنسان حق التعبير عما شاء بما شاء كيفما شاء ومتى شاء! .. عبر كافة وسائل التعبير من كتابة وخطابة وإشارة وصحافة وغير ذلك..
في حين تقنن الشريعة الإسلامية وبدقة وتفصيل كبير حق التعبير. هذا فليس للإنسان أن يستعلن بالكفر وليس له مسلما أو ذميا أن يستعلن بالاعتداء على الدين وشعائره ومقدساته.. والتفاصيل كثيرة جدا جدا. ففي دولة الإسلام; من استهزأ بشعائر الإسلام من المسلمين ارتد فيستتاب أو يقتل.. ومن شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل بلا استتابة ومن فعل ذلك وكان ذميا نقضت ذمته وقتل. ولا يبيح الإسلام كما يزعم بعض زنادقة الدعاة من ( الإسلاميين ) كما يسمونهم! تحت دعاوى الحريات السياسية في الإسلام أن تكون للكفر صحفه ودعاته في دولة الإسلام
وليس للإباحيين أن يكون لهم صحف عري ودعارة.. وليس لمحطات التلفاز والصحف أن تستعلين بالغناء والطرب والمجون والاختلاط وعروض الأزياء و..و..و...
فحرية التعبير مصانة في حدود الشريعة وما أحل الله وما حرم ..كما كل صغيرة وكبيرة في دولة الإسلام . ووجه التناقض بين ما تتيحه الديمقراطية وما يسمح به الإسلام لا يمكن استقصاؤه في هذه اللمحات الموجزة ولكنه أوضح من بيانه هنا..(3/141)
ثالثا: تستند الديمقراطية في أساس مبادئها إلى مبدأ (المساواة المطلقة ) بين البشر بصرف النظر عن العرق أو الجنس أو اللون أو الدين أو العلم أو غيرها من الفوارق ..
ولكن المساواة في مفهوم الإسلام هي على أساس التفاضل في الدين , ثم في التقوى والعلم وما خص الله به الرجال على النساء من حقوق وواجبات. وغير ذلك..
فالديمقراطية تسوي في حقوق الترشيح للمناصب أو التصويت عليها أو على أي تشريع بين الناس .. بين الكافر والمسلم .. والمؤمن والملحد والبر والفاجر و الخلوق والفاسق والعالم والجاهل والرجل والمرأة والعدل وساقط العدالة.. إلخ ولكن للإسلام منظورا آخر.. قال تعالى :
?أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ? (القلم:35-36) . وقال تعالى: ? قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ? (الزمر: 9 ) , وقال تعالى : ? وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَاالأُنْثَى ? (آل عمران: 36 ) ..وقال عز من قائل:
? الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ? (النساء: 34). وروي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (من بدل دينه فاقتلوه) .(ما أفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة) .
ونصوص الشريعة لا تبيح الإمامة - أي شكل من الإمامة على المسلمين - لكافر أو مرتد , بل ولا لظالم مبتدع من المسلمين إبتداءا . قال تعالى : ? وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ? (البقرة:124) . كما تنقض إمامته لو طرأ عليه الكفر والردة إجماعا . وبالفسق والظلم بحسبه على خلاف بين العلماء .
كما تكفل الشريعة للذمي الكافر حقوقه الدينية والشخصية . وألا يُعتدى على دمه وماله وعرضه وذمته , ما لم ينقضها بعدوان .
ولكن الشريعة لا تجيز استعمال الكافر في أي من أمور الدولة , ولا تبيح أن يكون في مكان يكون له فيه يد على مسلم . قال تعالى : ? وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ? (النساء:141) . بل إن الشريعة تجرد المسلم الفاسق المجاهر بالمعصية من عدالته , وتنزع منه حتى حق الشهادة ..
وإدارة الدولة في الإسلام لأهل الحل والعقد من أولي الأمر من العلماء والأمراء المسلمين المؤمنين ولا حق فيها لكافر ولا مجاهر بفجور من المسلمين . وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم قوله :( ليليني منكم أولي الأحلام والنهى ).. فالمسؤوليات ليست حتى لعوام المسلمين فضلا عن الفاسقين غير العدول منهم بله الكافرين .
ولما رأى عمر رضي الله عنه اجتماع الناس من القبائل والأعراب على باب سقيفة بني ساعدة , فيما كان سادات المهاجرين والأنصار من الصحابة مجتمعين لبحث خلافته صلى الله عليه وسلم . خرج إليهم رضي الله عنه و سألهم فيم اجتماعهم وعما جاء بهم, فأجابوه بأنهم جاؤوا ليشاركوا في الأمر , أمر الولاية بعده صلى الله عليه وسلم . فقال لهم :( ليعد صاحب المصنع إلى صناعته وصاحب العمل إلى عمله. إنما الأمر للمهاجرين والأنصار من أهل المدينة والناس بعد ذلك لهم تبع ) ...
هذا بعض وجوه تناقض الإسلام والديمقراطية في المساواة ..
رابعا: تعطي الديمقراطية لنواب الأمة في البرلمان حقا زائدا من الحصانة في التعبير والإدلاء بآرائهم وتعفيهم من المتابعة والمقاضاة تبعا لما يصرحون به من آراء.
وعلى هذا نصت معظم دساتير الدول الديمقراطية . وحتى الهمجية الديكتاتورية التي تزعم الديمقراطية في بلاد المسلمين ..
ومن هنا يحق لكل ملحد وعلماني وصليبي ومارق , ما دام عضوا في البرلمان أن يتفوه بما يريد.. ويدعوا للتشريع لما يريد .. ويجحد ما يريد .. ويدعو لقداسة ما يريد , وللتحليل والتحريم برأيه.. وفي هذا ما لا يخفى من جحود الشريعة والاستهزاء بها بصورة مباشرة أو غير مباشرة , والدعوة لتحريم ما أحل الله , وتحليل ما حرم الله , فضلا عن الهزء بشعائر الدين ومقدساته وما إلى ذلك ..
فكيف بالمسلم عضو البرلمان أن يجلس في هذه المجالس والله تعالى يقول: ? وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ? (النساء:140) . لا إله إلا الله .. و سبحان من أحاط علما بالأولين والآخرين وما كان وما سيكون..
خامسا: تنص مبادئ الديمقراطية والفقه الدستوري المنبثق منها على أن التشريع يأخذ مشروعيته من وجود أغلبية مؤيدة وأقلية معارضة.. وينصون على أن لا دستورية لقانون بغير حق معارضة..
ومن هنا يأخذ التشريع قيمته الديمقراطية. إذ لو امتنع حق المعارضة لصار تشريعا ديكتاتوريا ومفروضا لا يستحق أن يأخذ صفته الدستورية لأن الأمة ( صاحبة السيادة والجلالة ) وفق هذه الفلسفة لم يستوف أفرادها حقهم في المعارضة . وعلى هذا فالتشريع انبثق عن تأييد ومعارضة.. أي بمعنى أنه قد شارك في التشريع من أيد بتأييده . وشارك فيه من عارض بمعارضته. فلما غلبت أكثرية المؤيدين أقلية المعارضين أخذ التشريع طريقه للإقرار ومشروعيته من خلال وجود أقلية معارضة.(3/142)
فالمعارض شريك المؤيد في صناعة التشريع.. وهذا ما قاله رئيس البرلمان المصري الهالك ( رفعت المحجوب ) لمندوب عن الاخوان المسلمين في البرلمان المصري عندما صاح الأخير معارضا أحد التشريعات بأنه وحزبه لا علاقة لهم بذاك التشريع المخالف لشريعة الله .. فصفعه رئيس المجلس بهذه القاعدة , وأفهمه أنه شريك بمعارضته في التشريع - ورحم الله من عرف اللغة التي يجب محاورة المحجوب بها فأطاح برأسه وحجب عنه الحياة . إذ تجرأ أن يحجب حكم الله تعالى . فقتله المجاهدون في مصر- فلينظر الإسلاميون إلى دورهم في إقرار ما خالف شرع الله رغم معارضتهم له.
سادسا: وهذه النقطة من أعظم مظاهر حرمة المشاركة في المؤسسات الديمقراطية وعلى رأسها البرلمان.
إذ تنص الديمقراطية على التزام جميع الأعضاء في المؤسسات الديمقراطية وعلى رأسها البرلمان على مبدأ حرية تأييد أو معارضة أي تشريع أو قانون أو قرار مطروح للتصويت. ولكن ...
وضع ما شئت من الخطوط الحمراء تحت هذه الـ ( لكن) :
يقر الجميع سلفا بمبدأ دستورية أو مشروعية أي قرار وأخذه قداسة التشريع حال التصويت عليه بالأغلبية. وإلزام الأمة به بصفته حلالا صوابا واجب الإنقاذ على جميع أفراد الأمة .. بدءا من رأس الدولة ( نظريا ) . وانتهاء بأصغر فرد في الأمة ( فعليا ) مرورا بأعضاء البرلمان أنفسهم بمن فيهم من أيده أوعارضه.
فلو طرح مشروع لتقنين الربا أو أي محرم من المحرمات الصريحة.. أو السياسات المحرمة أو الخيانية مثلا. وهذا مثال قد تكرر كثيرا في جميع برلمانات البلاد العربية والإسلامية .. فقد وقف ( الإسلاميون الديمقراطيون ) بالطبع موقف المعارضة.. وفازت كل تلك التشريعات المحرمة شرعا بالأغلبية نظرا بسبب لأغلبية العلمانية كما هو واقع الحال دائما حتى الآن. وهنا يأخذ التشريع صفته الدستورية من الأغلبية المؤيدة والأقلية المعارضة كما أسلفنا. وقد سلم (الإسلاميون)! كما كانوا قد أقروا سلفا بحكم قوانين اللعبة الديمقراطية, بإلزام الأمة بهذا التشريع. وبالرضا به وبالالتزام به والعمل على إنفاذ في الأمة والحكم به بغير ما أنزل الله..
فمن أين استباح من يسمون أنفسهم (إسلاميون) هذا!. ولكي يزداد الأمر وضوحا نأتي بمثال (شنيع) حتى يحصل الفهم بالصدمة!
فلو اجتمع نفر من الرجال. ليصوتوا - ديمقراطيا - على أن يزني كل واحد بزوجة الآخر وأن يجعلوا ذلك تشريعا يبيح أو يلزم الأمة بذلك!! وكان فيهم (أخيار) و(فجار). واتفقوا على حرية التصويت والاختيار والتعبير. ولكن على أن يلتزم الجميع بفعل ذلك إن خرجت نتيجة التصويت بالأكثرية وبمنعه إن غلب المعارضون..
فما حكم أن ينتسب شريف لمثل هذه الجلسة. مع علمه المسبق بأن أكثرية الحاضرين من (الدواويث)؟!. وهل يكفيه أن يقول: أنا أرى أن مصلحة الدعوة والمساهمة في إخراج تشريعات لعمارة المساجد والأمر بالمعروف من هذا المجلس, تقتضي أن أشهد التصويت على هذا القرار !
فهل يمكن أن يسمى من يقبل مثل هذا ويلتزم بإعارة (زوجته) وتقنين هذه الموبقة وإلزام المسلمين بها كي تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وفقا لرأي الأغلبية , مع الاحتفاظ (بشرف) حق الرفض أثناء التصويت , فهل يسمى من يقبل هذا, إلا ديوثا.. بل شيخ الدواويث المعمم !
وأرجو من القارئ ألا يستغرب المثال ! فهل فظاعة واقعة اغتصاب حق التشريع من الله سبحانه , أو عشرات وقل مئات التشريعات وآلاف القوانين والقرارات التي تصدر عبر البرلمان من تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله وإقرار السياسات الخبيثة والقرارات الخيانية الداخلية والخارجية؟! أقل فظاعة عند واحدهم من فظاعة تقديم عرضه! على مائدة التصويت لأغلبية الدواويث ؟! أما لدين الله وعرض الأمة حرمة تستأهل الغيرة .
فقد أقسم الجميع بشرفهم ومعتقداتهم , وربما على القرآن عندما ترشحوا وعندما فازوا بعضوية الإنتماء إلى البرلمان أو الحكومة على احترام الدستور. وقوانين الأغلبية هذه و إنفاذها.
وأظن أن الأمر واضح. بل بالغ الوضوح. ولكنها كما قال تعالى : ? فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ? الحج/46.
وبالله أقسم غير حانث - إن شاء الله - أن الغالبية العظمى من علماء وفقهاء الديمقراطيين الإسلاميين هؤلاء .. يعلمون هذا الحق الذي أسلفت . وهم الذين علمونا إياه لما التحقنا بصحوتهم الإسلامية قبل عقدين ونصف من الزمن , ولكنهم يخالفونه اليوم للهوى . كما قال تعالى : ? وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ? (النمل:14) .
سابعا : وهذه خاتمتها .. وختامها (زفت) !
تنص الديمقراطية البرلمانية. ومبادئ سيادة الأمة وحكم الشعب والمؤسسة الدستورية ذات (السََلَطَات) الثلاث. التشريعية والتنفيذية والقضائية.
تنص على الاحتكام للدستور. وللسلطة القضائية ومؤسساتها, من المحاكم المتنوعة وعلى رأسها المحكمة الدستورية العليا. حال الاختلاف بين أعضاء السلطة الواحدة أو السلطات المتعددة.
من أجل فض المنازعات والخصومات والطعون المقدمة من النواب بين بعضهم أو بين البرلمان والوزارات أو بين أي مستوى و آخر على مستوى المواطنين والمؤسسات ..
ومن الواضح والمعروف أن الدساتير كلها وضعية والقوانين علمانية لا دينية. وسيكون التحاكم بين الإسلاميين والسلطات حال الإختلاف إلى الدستور إلى تلك القوانين التي فصلت على أيدي الأعداء والخصوم عبر محاكم السلطات ذاتها ووفق قوانينها!!.. ولا أصلح لو صف هذا الحال من قول المتنبي المشهور جدا..
يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكمُ(3/143)
فلا يكفي أنهم قد تحاكموا إلى الطاغوت ! وبغير ما أنزل الله ! ليكتمل البلاء بأنها محاكمة للخصم وإليه !.. وإلى قضائه ودستوره ومحاكمه.. ثم انتظار إحقاق العدالة والوصول كما يحلمون إلى تحكيم الشريعة . من خلال هذه النجاسات المتراكمة ! التي تزكم أنف من كان له أدنى فطرة سليمة .
ومن هنا يتبدى للباحث المنصف عدم مشروعية ولا منطقية مصطلح:
(ديمقراطية إسلامية) أو (إسلاميين ديمقراطيين).
فالديمقراطية عقيدة متكاملة مستقلة. قد صار لها عبر العصور القديمة والحديثة تفاصيلها الدستورية والقانونية في كل مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية وغير ذلك وهي بلا شك (دين معاصر ونظام حياة) يتضمن تفاصيلا وأركانا أوضح بكثير وأشمل من (دين النصرانية) فضلا عن سائر الأديان الوثنية وغيرها..
ويعد معتقدوها في العالم اليوم أكثر من تعداد أي دين آخر .. فقولهم :
( ديمقراطية إسلامية ) هو من حيث المنطق كالقول ( نصرانية إسلامية ) أو ( يهودية إسلامية) أو (بوذية إسلامية) كمصطلح.
وأما إطلاق مصطلح (إسلاميين ديمقراطيين) فكلام لا معنى له , يناقض أوله آخره وآخره أوله. وهو لا يختلف من حيث منطق الدلالة والتناقض على قولنا ( إسلاميين مسيحيين) أو سوى ذلك من الخلط غير الممكن لا منطقا ولا شرعا..
بل إن كلمة (إسلاميين ديمقراطيين) تعني إذا فهمنا المدلول بحسب دلالة ومحتوى كل كلمة تعني (مسلمين مشركين) لأن مدعي هذه الصفة ينتمي إلى الإسلام بشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله ... ثم يشر ك وينتمي من حيث دلالة الشطر الثاني من المصطلح إلى من يشرك البشر مع الله في حق التشريع والتحليل والتحريم بحسب ما مر معنا من تفاصيل.
لأن مقتضى الديمقراطية بحسب فحواها هو انتزاع حق السيادة والتشريع من الله - سبحانه وتعالى عن جحود الجاحدين - وإعطائه للبشر أو إشراكهم معه في هذا الحق الإلهي..
فإن معتقدي هذه العقيدة (الديمقراطية) صاروا عبدة لطواغيت البشر وعبدوا الناس لهم طوعا أو كرها.
وهناك ملاحظة هامة جدا وهي:
إن بعض أقوال الإسلاميين الديمقراطيين وأعمالهم هي من أقوال الكفر و أعمال الكفر يقينا . وأما إسقاط حكم الكفر العيني على آحاد مرتكبي ذلك , فله ضوابط معتبرة لدى أهل السنة والجماعة . من قبيل إقامة الحجة و انتفاء الجهل , وتحقق الشروط و انتفاء الموانع ...
وهذا يكون من قبل من له أهلية القضاء . وليس من قبل عوام الناس ولو كانوا من المجاهدين أو الدعاة الإسلاميين , فضلا عن الجاهلين والمتخوضين بغير علم .
وهذا الحكم الشرعي العام لا يعني كفر كل ديمقراطي إسلامي كفرا عينيا .
هذه هي الحقيقة شرعا ومنطقا بحكم مدلول دين الإسلام ومعتقد الديمقراطية على حقيقتها. مهما تبدوا هذه الحقيقة والصراحة مفجعة. ومهما تصادمت مع أهواء البشر والناس وما تعود تقديسه اليوم.
فلعل كلمة (ديمقراطية) من أكثر الكلمات تداولا اليوم في وسائل الإعلام من بين مصطلحات السياسة وعلى كافة موائد الحوارات ومن أكثر الكلمات والمبادئ قداسة واحتراما..
وهناك تمحكات كثيرة. وشبه متعددة وردود يثيرها هؤلاء الذين يسمون أنفسهم (إسلاميون معتدلون) أو(ديمقراطيون) .. ولا أريد الاستفاضة باستقصائها والرد عليها هنا ..
ولكن أهمها اثنتان واحدة يتخذون منها حجة للإنتماء للبرلمان أي (السلطة التشريعية) التي تنازع رب العزة جل جلاله في حق التشريع. والأخرى يجعلون فيها دليلا للإنتماء إلى (السلطة التنفيذية) وتسلم الوزارات والمناصب الرسمية. فينتمون بها إلى الكيان الحاكم بغير ما أنزل الله.
أما الأولى:
فهي أنهم يجعلون من قوله تعالى :( وشاورهم في الأمر) وقوله تعالى :( وأمرهم شورى بينهم) وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعل الشورى. دليلا على جواز أن يضم البرلمان من هب ودب من المسلمين والعلمانيين والملحدين والمؤمنين والرجال والنساء و الجهال والعلماء والعدول والساقطين.. ليكونوا محل شورى لولي الأمر..بل محل تشريع بالأغلبية!! ورد هذه الشبة السخيفة أوضح من أن يتجشم بيانه.
ولله در العلامة المحدث أحمد شاكر عندما شرح في كتابه عمدة التفاسير بعض ما يتعلق بقوله تعالى : ? وَأَمْرُهُمْ شُورَى بينهم ? (الشورى: 38 ) , وقوله تعالى: ? وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ? ( آل عمران: 59) .
قال ما أستفيد منه كشاهد هنا وأشرحه موضحا بما يلي :
قال بأن الضالين و الجهال , في هذا الزمان قد اتخذوا من هاتين الآيتين هزوا ليثبتوا ما يذهبون إليه من ضلالهم , فاعتبروها دليلا على مشاركة كل بر وفاجر. وكافر وزنديق في عملية الشورى وحق السلطة بدعوى الديمقراطية . وأوضح رحمه الله بأن الآيتين صريحتين بقوله تعالى ( وأمرهم ) , ( بينهم ) , والضمير : (هم ) عائد على المسلمين المؤمنين , الأمرين بالمعروف الناهين عن المنكر , وهي مبينة بقوله صلى الله عليه وسلم : ( ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ) . أي أصحاب الدين والخلق والعقل والرأي السديد الراجح من وجوه القوم . وهي لا تشمل بحال ؛ العصاة و الفساق من المسلمين ناهيك عن الكفار والملحدين والزنادقة من علمانيين وشيوعيين , ( ولا حتى النساء حتى المؤمنات المأمورات بما خصهن الله به من القدر والرفعة والعفاف واعتزال مجامع الرجال ) . ناهيك عن ملحدات النساء من المسترجلات المتزندقات .
فأما الذميون من الكفار فهم رعية منصرفون إلى شؤونهم تحت رقابة الدولة محل العدل معهم لذمتهم , ومحل الذلة والصغار لكفرهم .(3/144)
وأما ملاحدة المسلمين فمكانهم - كما قال الشيخ رحمه الله - محلهم تحت السوط أو السيف . أي لتأديبهم بالسوط كي تشفى أدمغتهم من نزغات شياطين الإنس والجن . أو لقتلهم و إراحة البشرية من شرورهم ودنسهم . وليس محلهم المشاورة في مصالح المسلمين ..
فهذا الذي بينه الشيخ وشرحته بالمزيد ليفهم من عضل فهمه ..هو من بديهيات دين الإسلام وشريعة الرحمن ..وقد صار في هذا الزمان ( البوشي الرامسفيلدي الكونديليسي - العبيكاني السديسي ..) التعيس , صار من غرائب القول ..
هذا ناهيك عن أن المشورة هي في مواضع الفكر والاجتهاد وليس فيما أثبتته نصوص الشريعة والأحكام. فهذه محلها الانقياد لها والقول (سمعنا وأطعنا ) ... وأما هذا الإلحاد الذي يدور في ردهات البرلمانات في بلاد المسلمين . فليس من الشورى وإنما هو من الكفر بالله والإشراك به , وهي جلسات أقل مما يتوجب على المسلم أن يبتعد عنها ويكفر أهلها ويعاديهم.. ? فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ? (البقرة: 256) .
==============
•…مبررات القتال ودوافعه:
دعوة المقاومة الإسلامية العالمية - (ج 5 / ص 403)
عن أبي موسى رضي الله عنه قال, سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل رياء , أي ذلك في سبيل قال: ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) ( أخرجه الخمسة ).
وعن أبي هريرة رضي لله عنه قال: إن رجلا قال يا رسول الله : رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من الدنيا , فقال: ( لا أجر له , فأعادها ثلاثا كل ذلك يقول لا أجر له ) ( رواه أبو داوود ).
الآيات:
1-…? وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ? ( البقرة: 193).
2-…?هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ? ( الصف: 9)
? يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ? (الصف:8)
3-…? وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ?.
4-…? وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ?.
إن هذا الدين جاء إعلانا عاما للبشرية كافة يؤذن المجال عمله هو الإنسان - كل إنسان - في الأرض - كل الأرض - ومن ثم فإن الجهاد ضرورة حتمية تلازمه كلما أردنا أن نبلغه للناس أو ننشره في ربوع العالمين , لأنه سيقف في وجهه العقبات الكبرى التي يقوم عليها كيان الجاهلية.
سيقف في وجهه عقبات كأداء : سياسية واجتماعية واقتصادية وعرقية وجغرافية , ولا يمكن لدين جاء لينقذ البشرية أن يقف مكتوف اليدين يبلغ باللسان ويدع للجاهلية السلاح والسنان , لأن الجاهلية نفسها ستتحرك لتحمي كيانها و تجتث الإسلام من الجذور.. ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ...).
وسواء تحركت الجاهلية أم لم تتحرك فلا بد للإسلام أن ينطلق بحركته الذاتية التي لا بد منها لقانون التدافع ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ).
إن قانون التدافع بين الحق والباطل هو الذي يحفظ الحياة الصالحة , و إلا أسنت الحياة وتعفنت , وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ( إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) , يعني إن لم تحصل الموالاة بين المؤمنين , والجهاد , والهجرة في سبيل الله يعم الشرك الأرض.
وقانون التدافع : هو التفسير الإسلامي للتاريخ والأحداث , إن الإسلام لم يأت ليكون دين الجزيرة العربية فحسب , أو ليكون دين العرب فقط , ثم بعد ذلك يقبع في أرجاء الجزيرة يدافع عن حدودها ويحمي أطرافها, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث للأحمر والأسود.
إن الجهاد ضرورة لحماية الشعائر , وحفظ الفرائض التعبدية وأماكن أدائها ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره...).
فالتمكين في الأرض ضرورة حتمية وفرض لازم لحماية العبادة ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة..).
لقد بلغت الجرأة بأعداء الله أن يعلن أتاتورك تحويل مسجد أياصوفيا إلى متحف , ويمنع الأذان بالعربية , ويمنع الصلاة أمام الناس , ويفرض السفور على كل امرأة تتعامل الدولة أو تدرس في مدارسها!!
ولقد وصل الصلف بعبد الحكيم عامر أن يوزع على خطباء المساجد أن يمتنعوا عن الكلام على فرعون سيدنا موسى!!
وبلغ الغرور بالنصيري حافظ الأسد { رئيس سوريا } أن يعلن الحكم بالإعدام عقوبة على من ثبت أنه من الإخوان المسلمين!!
ووصل الاستهتار والسخرية بالقيم عند أحدهم أن يؤسس نوادي للعراة يسميها ( صفر في الأخلاق! )!!
ويعلن جمال سالم { أحد أعوان الرئيس المصري عبد الناصر } هزأه بالقرآن الكريم , فيطلب من الأستاذ الهضيبي أن يقرأ الفاتحة معكوسة.
ويصرح حمزة البسيوني { رئيس استخبارات عبد الناصر في مصر } قائلا لمن استغاثوا بالله أثناء التعذيب : ( لو جاء الله لوضعته في الزنزانة)!!
إنها مهزلة مضحكة قاتلة أن يقول قائل: إن وظيفة الإسلام أن يقف واعظا لأمثال هؤلاء ينصحهم باللسان ولا شأن له بالسنان , لأنه لا إكراه في الدين!!
لا بد للإسلام من البيان باللسان , وإزالة الحواجز أما دعوته بالسنان.
نعم لا إكراه في الدين بعد تحطيم العقبات التي تحول دون وصول الإسلام إلى الناس , وتمنع دخول الناس في هذا الدين , وتعبدهم لغير رب العالمين . و إن الحق يأبى الحدود الجغرافية , ولا يرضى أن ينحصر في حدود ضيقة اخترعها علماء الجغرافيا , فالحق يتحدى العقول البشرية النزيهة ويقول لها: ما بالكم تقولون إن القضية الفلانية في هذا الجانب من الجبل أو النهر , وهي باطل إذا تعدت هذا الشاطئ الآخر.
إن وظيفة الجهاد الإسلامي تتخلص في ثلاث نقاط:(3/145)
1-…نشر الدعوة الإسلامية - وهذه أهمها وأساسها -.
2-…حماية دار الإسلام التي يقيمها لتكون منطلقا لدعوته و محضنا آمنا لفكرته.
3-…إنقاذ المستضعفين في الأرض.
? ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا? (النساء:75).
إن قيمة الأرض ذاتها ؛ أنها ليس لها قيمة ولا وزن في نظر الإسلام إلا إذا ساد فيها منهج الله , وحكمتها شريعته , وهيمن عليها دينه.
يقول الشهيد سيد: ( إن الأرض تعتبر قيِّمة في المنهج الإسلامي عندما تكون محضنا للعقيدة , وحقلا للمنهج , ودارا للإسلام , ومنطلقا لتحرير الإنسان , وحقيقة أن حماية دار الإسلام حماية للعقيدة والمنهج والمجتمع الذي يسود فيه المنهج , ولكنها ليست الهدف النهائي , وليست حمايتها هي الغاية الأخيرة لحركة الجهاد الإسلامي , وإنما هي الوسيلة لقيام مملكة الله فيها , ثم لاتخاذها قاعدة انطلاق إلى الأرض كلها , وإلى النوع الإنساني هو موضوع هذا الدين , والأرض هي مجاله الكبير.
إن مكة - وهي التي تضم البيت العتيق ويكن حبها في قلبه صلى الله عليه وسلم _ تترك إذا أقفرت من أن تنبت خضرة أو تعطي ثمرة , إن الجهاد في الإسلام لا يمكن أن يكون دفاعا عن بقعة أرض أو عن عرق أو قومية إنه دفاع عن الدعوة والعقيدة التي يجب أن تعم الأرض كلها , وعن الدين الذي يريد الله أن يظهره على كله , إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء , فالإسلام ليس نحلة قوم ولا نظام وطن , ولكنه منهج إله ونظام عالم , ومن حقه أن يتحرك لتحطيم الحواجز بين الأنظمة والأوضاع التي تغل من حرية الإنسان في الاختيار.
إن الإسلام دين واقعي يواجه فساد التصور والمعتقدات بالآيات البينات , ويقابل قوة الجاهلية والسلطان بالقوة والحركة والسنان ).
============
معنى قول الرسول للمشركين " ... لقد جئتكم بالذبح"
كتب ومقالات المقدسي - (ج 138 / ص 1)
[الكاتب؛ أبو محمد المقدسي]
سؤال حول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش : " أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح.." وهل يهدد الرسول صلى الله عليه وسلم كفار قريش بالذبح إن لم يسلموا برغم أنه لا إكراه في الدين ؟؟
الجواب
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أخي الفاضل حفظه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وصلتني رسالتك وصلك الله بحفظه وتوفيقه وتسأل فيها عن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي خاطب فيه قريشا قائلا : "تسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح..الى آخر الحديث"
وتقول : هل يهدد الرسول صلى الله عليه وسلم كفار قريش بالذبح ان لم يسلموا برغم انه لا إكراه في الدين ؟؟
فمعلوم أن هذه الكلمة خرجت منه صلى الله عليه وسلم بعد أن استهزؤوا به ثلاثا وهم جلوس في الحجر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت .. وهذا لفظ الحديث ..
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي قال يعقوب: حدثنا أبي عن ابن إسحاق قال: وحدثني يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهر من عداوته؟ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط سفّه أحلامنا. وشتم آبائنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا، قال: فبينما هم كذلك، إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل يمشي، حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فلما أن مر بهم، غمزوه ببعض ما يقول، قال: فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، فمر بهم الثانية، فغمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، ثم مر بهم الثالثة، فغمزوه بمثلها، فقال: "تسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده، لقد جئتكم بالذبح" فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وصاه قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، انصرف راشداً، فوالله ما كنت جهولاً … إلى آخر الحديث (وهو تحت رقم 7036 من المسند تحقيق أحمد شاكر وقال: إسناده صحيح)
فهذه المقالة وإن كانت ردة فعل على استهزائهم إلا أنها مقالة حق لا مرية فيها وقد تحققت في بدر وغيرها .. وليست هي قطعا من جنس ردود الفعل الغضبية غير المنضبطة بضوابط الشرع .. التي تصدر عن سائر الناس فالنبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى ( إن هو إلا وحي يوحى ) ولذلك فكونه صلى الله عليه وسلم قال ذلك ؛ فهذا قطعا لا يتنافى مع قوله تعالى : ( لا إكراه في الدين ) إذ أن القوم كانوا محاربين له ولدعوته وللمسلمين والمحارب لا يُقابل عند الاستطاعة إلا بالدفع والذبح وهو ما صارحهم ورهّبهم به صلى الله عليه وسلم وقت استهزائهم ، ولا دخل لذلك بموضوع الدعوة والإكراه على الدين فالمسألة على هذا الوجه وعيد متعلق بقتال الدفع أو قتل المحاربين وأئمة الكفر الطاعنين والمستهزئين بالدين كما قال تعالى : ( فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (التوبة: من الآية12 )
هذا وجه ..
ووجه آخر قد يبين هذه المقالة ويوضحها أيضا أن ما استقر عليه دين المسلمين أن الوثنيين لا يُقرون في دولة الإسلام بل ليس أمامهم خيار إلا الذبح أو الإسلام فليس لهم ما لأهل الكتاب من الخيار الثالث وهو الجزية والمواطنة في دولة المسلمين..(3/146)
فكأن في هذا إخبار وإنباء منه صلى الله عليه وسلم بما سيؤول إليه حال كفار قريش من الذبح قطعا إن بقوا على شركهم وعبادتهم للأصنام ..
ووجه ثالث أن تحمل هذه الكلمة على الإخبار عن الغيب الذي أطلع الله تعالى عليه رسوله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتحقق بالفعل وهو ذبح هؤلاء المعينين المستهزئين الطاعنين بالنبي صلى الله عليه وسلم من معشر قريش ..
والله تعالى أعلم ..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
=============
الشبهة الثانية عشر إنما شرع الجهاد للدفاع عن النفس فقط
ادعى قوم ، إنما شرع الجهاد للدفاع عن النفس فقط ، فإذا داهم العدو بيتنا ندافع عنه ، فتركوا جهاد العدو المحتل فوقعوا بشراك أعداء الإسلام وعملاءهم فظلوا يرددون عبارات أن الإسلام دين السماحة والسلام ولا إرهاب فيه ولا استعمال للقوة ولا عنف وكرروا عبارات الصبر والعفو والصفح ، بل تمادوا إلى القول لا قتل ولا قتال ، إنما هو فقط دفع الأذى عن النفس ، ونحن نقول هذا قول باطل من وجوه :
1. إن الجهاد فرض من فرائض الإسلام وعبادة وقربى لله تعالى ، وهو أعلى مراتب الإسلام ولا يقال أن القتال والجهاد في الإسلام هو للدفاع عن النفس أو للهجوم ، فهذه مصطلحات جديدة لا يصح إقحامها على الجهاد في الإسلام ، فالجهاد حكمته في الإسلام من أعظم درجات الترقي والرفعة لإعلاء كلمة الله تعالى ورفع دينه فوق الأرض جميعاً ودفع كل فتنة ومحاولة من عملاء المحتلين وأذنابهم لعرقلة ذلك العز في ظل الجهاد الذي أراده الله تعالى لدينه الحنيف وعباده الصالحين .
2. قال تعالى { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } ، وقال جل شأنه { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } ، لا حجة لهؤلاء المرجفين أصحاب القلوب المريضة ، فإن القرءان يفسر بعضه بعضاً ، وليس لأحد أن يفسر القرءان بهواه ، فالآية الأولى تتحدث عن بيان طريقة الرشاد وبيان طريقة الغي والضلال وكيفية الدخول في الإيمان الصحيح ولم تتكلم عن الجهاد والقتال ، والآية الثانية تتلكم أن الله لا يقبل وقد كرهته النفوس ، إنما يقبل الله ممن رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمّد ص نبياً ورسولاً ، رضاً لا يخالطه حرج في النفس .
3. ليس لأحد أن يجبر الناس أو يكرههم على شيء وإنما هذا بيد الله سبحانه وتعالى ، لأنه خالق كل شيء ومالكه ولله ما في السماوات والأرض ، فحقه سبحانه أن يحكم بما شاء ويقضي بما شاء في عباده ، قال تعالى { ألا له الأمر والخلق } ، وقال عز وجل { إن الله يحكم ما يريد } ، وقال سبحانه { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } ، فيأمر بقتل وجهاد من شاء بحكمته وعدله وينهى عن قتل من شاء برحمته وفضله ، فليس لأحد أن يقول ، لماذا يكره الله تعالى الناس ويجبرهم على إتباع الحق ، فإذا اعترفنا أن الله هو الحق ، وما أنزل هو الحق ، فيجب علينا أن نصدع بأمره سبحانه ونهيه ، أما الذي لا يؤمن بأن الله له الحق في كل شيء يأمر به ويفعله ، فليس بيننا وبينه إلا أن ننفذ أمره وحكمه سبحانه بقتال الكفار كافة وأن كان ذلك كرهاً لنا ، لأن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ، وثمن ذلك الجنة ، يفسر ذلك شارحاً ومبيناً قول الرسول الأكرم صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله )) ، ولفظ الحديث (( أمرت )) يشعر بأنه صدر له أمر صارم لا جدال فيه ولا شك ولم يجتهد فيه الرسول الأكرم صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم ، نص قاطع محكم لا تأويل فيه ، فأين يذهب المتأولون من هذه الأوامر الجازمة ؟ ، وكيف يفرون من قدر الله تعالى وحكمه بهذه الفريضة ؟ ، فنحن يجب علينا تنفيذها ولو مكرهين إرضاءًً لله رب العالمين وإتباعاً لرسوله الأمين صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم .
4. القتال في الإسلام فريضة محكمة مقصودة لغيرها ، وليست مقصودة لذاتها ، قال تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } ، ففي هذه الآية شرع القتال لسببين عظيمين وحكمتين جليلتين في الإسلام :
1) من أجل درء الفتنة ، والفتنة كل ما يدعوا إلى البعد عن الدين والإيقاف والتخفيف منها .
2) من أجل إقامة دين الله في الأرض وإنما يكون ذلك انقضاء الفتنة والقضاء عليها ، فالقتال في الإسلام له أكثر من حكمة وسبب شرعي وليس فقط من أجل لإقامة دولة المسلمين ، فكل قتال وقتل يعتمد على الأصول الشرعية في الإسلام ، وسوف يحقق الحكمة الأولى إن لم يحقق الحكمة الثانية ، فإذا اندحرت الفتنة وعلت كلمة الله في الأرض وطرد المحتل الغاصب فليس هناك ما يدعو للقتال .(3/147)
5. قال تعالى { وكفى الله المؤمنين القتال } ، دليل أن القتال ليس مقصوداً لذاته مثل بعض العبادات ، كالصوم والصلاة والحج والزكاة وذكر الله ... الخ ، فليس المسلمون متشوقون إلى سفك الدماء ولكنه أمر وجب عليهم فعليهم أن ينفذوه ، وقد أخبر القرءان العظيم أن المشركين والمنافقين سوف يبدأون بالقتال وسوف يستمرون في قتالنا جميعاً دون توقف كما يحدث الآن في الفلوجه وسامراء وبعقوبة والموصل وغيرها ، فهؤلاء الفجرة لا عهد لهم ، ونحن نصدق القرآن ونعمل بما أخبرنا به وعلمناه ، فقد قال تعالى { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم } ، وقال تعالى { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } ، وقال جل شأنه { لا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمة وأولئك هم المعتدون } ، فحتى لو ترك المسلمون قتال الكفار فلن يربحوا إلا الذل والهوان وخسران الدين والديار لأن الكفار لن يتوقفوا عن قتل المسلمين وقتالهم حتى يرتد المسلمون عن الإسلام ، قال تعالى { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } ، والتأريخ شاهد عما فعله الكفرة في المسلمين من القتل والتشريد والقهر والإذلال ، كما يحدث الآن في العراق ومدنه الباسلة ، فإذا علمنا ذلك علينا أن نمتثل أمر الله ، قال تعالى { خذوا حذركم فانفروا ثباتاً أو انفروا جميعاً } ، فهذا أمر الله تعالى بأخذ الحذر من هؤلاء الفجرة المحتلين وأعوانهم .
==============
حرية العقيدة وحرية الرأي بين الدقة والوضوح وبين التفلت والغموض
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
اعتاد عدد غير قليل من المسلمين أن يستخدم مصطلحات عامة لا يرافقها تحديد ووضوح ، ثم تتحول هذه المصطلحات إلى شعار لا يحمل الدقة كذلك ، ولا المنهج ، ثم ينتشر بين الناس حين يلامس رغبة في النفوس أو مجالاً للتنفيس عما في نفوسهم من ضغط وحيرة وآمال مضطربة ، فيصبح الواقع كله يعيش في أجواء من الشعارات والتعبيرات العامة خالية من النهج أو تحديد الدرب والمسار ، وتطوى قضايا الأمة في خضم الشعارات دون بلوغ هدف أو تحقيق غاية .
إن انتشار هذه الظاهرة من المصطلحات العامة يوحي بعدم وجود نهج أو خطة واضحة في أذهان مختلف القطاعات .
ويزداد الأمر سوءاً حين تصبح هذه المصطلحات العامة قاعدة لتحديد موقف أو اتخاذ قرار أو إصدار اجتهاد وفتوى ، ويصبح هذا الموقف أو القرار أو الاجتهاد مصدراً لاضطراب أوسع أو خلافات وشقاق .
ومن أبرز الأمثلة على هذه المصطلحات العائمة " حرية العقيدة وحرية الرأي " وقد دأب على استخدام هذه المصطلحات بعض دعاة المسلمين وانتشرت بين الناس على أنها مطلب حضاري ينادون به . ماذا تعني "حرية العقيدة " ، وماذا تعني " حرية الرأي " ، وكيف تُمارس وتُطبق ؟! .
اعتقد أنها مصطلحات وافدة من الغرب العلماني الذي يقوم على تصورات خاصة مغايرة للإسلام ، ولو رجعنا إلى الكتاب والسنة لا نجد مثل هذه التعبيرات. ولو رجعنا إلى أئمة الإسلام في العصور التي كان يحكم فيها الإسلام لا نجد مثل هذه التعبيرات لقد جاء الكتاب والسنة في غاية الدقة والوضوح والتفصيل في استعمال التعبيرات والمصطلحات ، وتعلم أئمة الإسلام هذه الدقة والوضوح فيما يستخدمونه من مصطلحات أو فيما يستحدثونه .
جاء الإسلام ليدعو إلى عقيدة واحدة ودين واحد ، وحمَّل الإنسان مسؤولية اختيار الإيمان والتوحيد والإسلام أو سواه ، ولكل اختيار نتيجة في الدنيا والآخرة ، الإسلام يدعو الناس كافة إلى الإسلام ، وفرض القتال والجهاد من أجل ذلك ، ونفر من الكفر ومن أي دين غير الإسلام ، وأنذر الكافرين بعذاب شديد ، وجعل النار مصير من يموت منهم على الكفر ، مع ابتلاء شديد في الدنيا ، ووعد المؤمنين بالجنة لمن صبر والتزم ، ووعد الصادقين العاملين المجاهدين بالنصر .
هذا الذي يدعو إليه الإسلام ، فهل تعبير حرية العقيدة الذي يطلقونه اليوم يحمل هذه المعاني ، أو هل هذا الذي يدعو إليه الإسلام يماثل " حرية العقيدة " . الإسلام ينظر إلى الكافرين وغير المؤمنين الصادقين أنهم يتساقطون في النار ، في نار جهنم ، هذه حقيقة أكيدة ويقين بالنسبة للإسلام ، فهل يعقل أن يترك الناس ليتهاووا في جهنم ؟! إذن لماذا بعث الله الرسل على مدى الزمان وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولماذا شرع القتال والجهاد في سبيل الله حتى تكون كلمة الله هي العليا .
دين الله :
الإسلام جاء ليجتث الكفر من الأرض ولينشر الإسلام دين الله . دين جميع الرسل والأنبياء ، الدين الذي لا يقبل الله غيره ، فهل يُعقل بعد ذلك أن ينادي الإسلام ويقول يا أيها الناس خذوا أي عقيدة تريدون وأي دين ترغبون فلا بأس في ذلك !! (( إنْ الدين عند الله الإسلام )) [ آل عمران :19] . ! ((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )) [ آل عمران : 85 ] .
هنالك فرق كبير بين أن يُحمّل الله كل إنسان مسؤولية اتخاذ قرار اختيار دينه وعقيدته ، بعد أن يكون رسله قد أبلغوا الرسالة كاملة ، وأنذر من خالف بعذاب الدنيا والآخرة. وبشر الصادقين بخير الدنيا والآخرة. وبين أن يترك الأمر في حرية عائمة مائعة ، تغري الناس بالكفر والفتنة والفساد أكثر مما تغريهم بالإيمان والإسلام .
فارق كبير بين حرية اختيار العقيدة والدين والحرية التي تغري الناس بالكفر والفتنة :
ليست القضية من حيث المبدأ انفلات حرية العقيدة ولا الدعوة لها ولا سن القوانين من أجلها إن القضية بالنسبة للإسلام أعظم من ذلك بكثير وأخطر من ذلك بكثير ، إنها تتمثل في النقاط التالية :
أولاً : إنقاذ الإنسان من هلاك محقق وعذاب في جهنم شديد إذا مات على الكفر .(3/148)
ثانياً : تهيئة الأجواء التي تعين على الإيمان والتوحيد والإسلام ، وترغيب الناس بهذا الحق واليقين ، وإخراجهم من الفتنة والضلال والباطل ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور .
ثالثاً : سد أبواب الفتنة والضلال والكفر ، والفساد والأهواء والشهوات المتفلتة ، واتخاذ الأسباب اللازمة لحماية فطرة الإنسان ، الفطرة التي فطر الله الناس عليها لتكون منطلق الإيمان والتوحيد ، قادرة على استقبال رسالات الأنبياء والدين الواحد .
رابعاً : إن هذه القضية بلغت أهميتها وخطورتها أن أصبحت أساس الأمانة التي حملها الإنسان وأبتها السموات والأرض والجبال . وأشفقن منها ، إنها الأمانة التي يكون الإنسان بها غير ظالم ولا جاهل ، وبتركها يصبح ((ظلوماً جهولاً )) [ الأحزاب 72 ] ! وهي الأمانة التي يقوم عليها معنى العبادة التي خلق الله الإنسان لأجلها والخلافة التي جعلت له ، والعمارة التي أمر بها .
وعلى هذه الأسس تصاغ الشعارات والمصطلحات ، وتسن القوانين ، وتوضع مناهج التربية والبناء ، وتقوم العلاقات بين المؤمنين وغيرهم .
وثيقة الرسول مع يهود :
يذكر بعض المسلمين هذا التعبير على النحو التالي : " لقد تضمنت الوثيقة التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة أوضح صورة للتعايش والتعاون كما يسعى إليه الإسلام ، فقد تضمّنت حرية العقيدة وحرية الرأي … " !
ولو رجعنا إلى نص الوثيقة لوجدناها تختلف عما ذكر اختلافاً واسعاً . فهي أولاً ليست وثيقة كتبها الرسول صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة وحدهم ، إنها مع أهل يثرب وقبائلها كلها ، ولنستمع إلى ما تقوله الوثيقة : " هذا كتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم "! ثم ذكرت الوثيقة المهاجرين من قريش ، ثم قبائل يثرب ثم اليهود ، ثم تذكر الوثيقة العلاقات ، ولنستمع إلى ما تنص عليه الوثيقة في بعض فقراتها :
ألا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه .
وأن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى دسعيه ظلم أو إثماً أو عدواناً أو
فساداً بين المؤمنين ، وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم .
ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ، ولا ينصر كافراً على مؤمن .
وأن ذمة الله واحدة . يجير عليهم أدناهم ، وأن المؤمنين بعضهم موالى بعض دون الناس .
وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه .
وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وأمن بالله واليوم الآخر أم ينصر محدثاً أو يؤويه وأن
من نصره أو أواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة . ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل .
وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد .
ونصوص أخرى تفصّل في العلاقات والمسؤوليات والحقوق لا تجد فيها نصاً مبهماً أو عائماً أو متفلتاً .
جميع النصوص تقوم على القواعد التي ذكرناها ، والتي تبين أهمها ونذكّر به حتى لا تختلط الصورة والتعبيرات :
فالوثيقة تنص بشكل صريح حاسم على أن الحكم في المدينة لدين واحد فقط هو الإسلام ، هو لله ولرسوله .
وتنص كذلك على أن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس ، وأنه لا يقتل مؤمن مؤمناً بكافر ، ولا ينصر كافراً على مؤمن ، وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه ، فالمؤمنون إذن أمة واحدة تربطهم الموالاة التي تجعلهم أمة واحدة من دون الناس . والولاء والموالاة علاقة شرعها الله للمؤمنين ورابطة تقوم عليها أخوة الإيمان .
فالحكم إذن للإسلام ، والإسلام هو أحسن هدي وأقومه ولا يُنصر كافر على مؤمن ولا يقتل مؤمن بكافر ، إنها تعبيرات محددة واضحة مفصلة لا تترك أمراً عائماً .
وعندما جاء النص : " وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم .. " جاء النص مرتبطاً بسائر النصوص مبنياً عليها لا ملغياً لها ، فاليهود أمة والمؤمنون أمة ولكنهم كلهم بحكمهم الإسلام وكل ما اختلف فيه مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وجميع من في يثرب يحمل مسؤولية الدفاع عنها وحمايتها من خلال الشروط والأسس التي ذكرناها .
وشرع الله للمسلمين أن يكون أهل الكتاب أهل ذمة يرتبطون مع المؤمنين بمواثيق وعهود يصبحون بها قوة لتنصر الإسلام والمؤمنين لا لتحاربهم ، لهم دينهم وليس لهم أن يحكم دينهم أو لا أن ترد الأمور إليه ، لهم أن يتبعوا فيما بينهم أحكام دينهم ، وليس لهم أن يدعوا لها وأن ينشروها ، فذلك حق المؤمنين الذين هم على أحسن هدي وأقومه .
وان من يعادي الإسلام ويحاربه فعلى اليهود نصرة المؤمنين . في مثل هذه التفصيلات الأساسية التي ذكرنا بعضها يأخذ أهل الكتاب حرية عقيدتهم ويظل المؤمنون يدعونهم إلى الإسلام لينقذوهم من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة .
أما الكافرون من قريش وغيرهم ، وقريش أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم قربى ونسب ورحم ، لكنهم حاربوا الله ورسوله فانقطعت حمية النسب إلا في أن يدعوا إلى الإيمان والإسلام ، وتعلن الوثيقة قطع الصلات معهم ، وبوادر الحرب معهم وتدعو إلى محاربتهم والتميز عنهم ولا تعطيهم أي حقوق ، ولا تُقرهم على كفر أبداً ولا تعطيهم حق الدعوة إلى كفرهم ولا نشر مذهبهم وأفكارهم وآدابهم .
وكذلك شأن كل محدث والمحدث هو الذي يُحدث شيئاً مخالفاً للإسلام الذي يحكم المدينة كلها ، ويخضع له كل من فيها ، هذا المحدث لا حقوق له ، ولا يحل نصره ولا إيواؤه ، ولا مساعدته ومن يفعل ذلك فعليه لعنة الله .
فهل هذه الشروط كلها توحي بأن نقول إن الإسلام يدعو إلى "حرية العقيدة " بهذا التعبير المتفلّت والمصطلح العائم ؟(3/149)
إذا أردنا أن نبلغ دين الله . الإسلام . فلنبلغه كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وكما كان يبلغه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأبرار .
حين نستعير مصطلحات من الشرق والغرب ، ثم نلصقها بدين الله ، وبأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، نكون قد ارتكبنا خطأ جسيماً ، فالإسلام حين قال : (( لا إكراه في الدين )) ، لم يتركها عائمة وإنما قال معها : ! (( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم * الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )) [ البقرة : 256-257 ]
وقبلها جاءت آية الكرسي : (( الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه لا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض و يؤده حفظهما وهو العلي العظيم ))[ البقرة : 255 ]
دعوة إلى التوحيد :
دعوة إلى الإسلام والتوحيد صريحة جلية حاسمة ، قبل (( لا إكراه في الدين )) ، ودعوة كذلك صريحة جلية حاسمة ، مع إنذار شديد للكافرين وبشرى للمؤمنين بعدها .!
(( لا إكراه في الدين )) تعبير يختلف عن تعبير " حرية العقيدة " يختلف معنى وصياغة وشروطاً ((لا إكراه في الدين )) تعني أن الله لا يقبل من عبد ادعاء الإيمان تحت ضغط الخوف أو المصلحة الدنيوية وهو يبطن خلاف ذلك . إن الله يقبل من عبده إيمانه وإسلامه حين يصدر عن قناعة ويقين وهذا يعني أن الله يريد من المؤمنين أن ينهضوا ليبلغوا رسالة الله وحقيقة الإيمان والتوحيد ودين الإسلام بلاغاً صادقاً واضحاً دقيقاً ، لا أن يبلغ كل إنسان هداه وتصوراته الخاصة ويطوي نصوص الكتب والسنة ، أو يبلغها محرفة أو ناقصة أو غير واضحة ولا يرى الإسلام على أساس ما عرضناه أن للكافر أن يدعو إلى كفره في ظل دولة الإسلام التي يحكمها منهاج الله ، ولا أن لأهل الكتاب أن يدعوا إلى دينهم في قلب دولة الإسلام التي يحكمها منهاج الله .
يعطي أهل الكتب حرية الإقامة في أرض الإسلام على ألا يسعوا إلى أن يسود معتقدهم ، وألا يحملوا السلاح على المسلمين ، وألا يناصروا عدواً للإسلام ، والمسلمين سراً ولا جهراً ، وأن يرضوا بحكم الإسلام ولا يتآمروا عليه .
وعلى المسلمين أو يكونوا يقظين ، فإن وجدوا منهم خيانة يؤخذ الخائن أو الخائنون بذنبهم ويعاقبون ، ويخرجون من أرض الإسلام إذا خُشي استمرار خيانتهم وتأمرهم .
هذا الذي تبينه لنا الآيات والأحاديث وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الأبرار رضي الله عنهم ، فإن ابتلي المسلمون بالوهن والذل وغلب عليهم أعداؤهم ، فلا يحملون الإسلام وشرعه وفقهه نتائج تهاونهم وعجزهم ، ولا يلوون الآيات والأحاديث ليسوغوا المذلة والهوان . فأعداء الله يعرفون الإسلام وحكمه فيهم ، فإن كتمنا حقائق الإسلام نخسر رضاء الله أولاً ونصرته ، ونخسر ما كان يمكن أن نناله من هيبة في أعين الكافرين وأهل الكتاب ، حين يرون أننا غيرنا وبدلنا . وأننا بدأنا نتبع ما تشابه من الأمور شأن من في قلوبهم زيغ .
إن أساس الدعوة الإسلامية هو البلاغ المبين البلاغ الذي يبلغ رسالة الله ليعذر الناس أنفسهم بين يدي الله يوم القيامة . فلا يتغير الدين مع تغير الواقع ، فالدين حق لكل زمان ومكان . ونجد فيه الحلول لكل واقع كما وجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . دون الخروج عن الحق المطلق في الكتاب ولا سنة ودون تحريف النصوص ودون اتباع ما تشابه منه .
لقد أخذ ضغط الواقع المنحرف اليوم يشتد على بعض المسلمين حتى أصبح منهم من يسهل عليه إعطاء رأي ليؤمن مصلحة دنيوية ثم يلصق دعواه بالإسلام .
إن التقوى أهم أسباب النصر وإن خشية الله أهم عنصر في التقوى ، وإن العلم وحده إذا ضعفت فيه التقوى ، فقد قوته الإيمانية في الميدان .
ومصطلح أخر كثر ترداده بين المسلمين اليوم ، ينادي به المنتسبون إلى الإسلام ، فالإسلام أعظم رسالة في الأرض تحض على التفكير وتدعو له ، وأعظم رسالة تحرر عقل الإنسان من أغلال الهوى والشهوات ومصالح الدنيا الآثمة ، إن مصطلح "حرية الرأي " مصطلح عائم متفلت أعطى الفرصة لأعداء الله ليطعنوا الإسلام والمسلمين أكثر مما أعطى المسلمين الفرصة لبيان حقائق دينهم ، إن الإسلام الذي يحض على التفكير ويدعو إليه ليحترم الرأي الذي يصدر عن إيمان ووعي مع الحجة والدليل ، مع صدق النية وإخلاصها لله مبرأ من الهوى ، نابعاً من العلم الحق لا من الظن والتخمين ، فالإسلام لا يستخدم مثل هذا التعبير "حرية الرأي" ولكن يدعو المسلم ليقول رأيه جلياً واضحاً ، ملتزماً بالشروط الإيمانية التي فصلها منهاج الله ، دون أن يعتبر أن رأيه وحده هو الحق إلا إذا كان الرأي نصاً من الكتاب والسنة ، وجاء عرضه مطابقاً لحاجة القضية والواقع ، جامعاً لكل الأدلة التي تنفي الشبهة وتشرق بالصدق والحق ، لا يماري فيه بعد ذلك إلا ممار أو مجادل أو منافق ، إن الحق يحمل معه دائماً إشراقته ، والباطل يحمل عتمته وظلامه والقلب المؤمن يهتدي إلى الحق ويميزه من الباطل .
ــــــ
نشرت في مجلة المجتمع ـ العدد (1387) ـ 4 ذو القعده 1420هـ ـ 8/2/2000م .
==============
قتل المرتد إذا لم يتب
د- عبد الله قادري الأهدل
تمهيد
إذا ثبتت الردة على الشخص ترتب عليها أحكام دنيوية وأحكام أخروية.(3/150)
وأهم الأحكام المتعلقة بالآخرة حبوط العمل والخلود في نار جهنم، أعاذنا الله منها، وقد وردت بذلك نصوص كثيرة وقد جمعت الأمرين معاً آية البقرة..
{ وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }. [البقرة:217].
أما الأحكام المتعلقة بالدنيا فكثيرة نذكر أولا: قتل المرتد إذا لم يتب، ثم نذكر ما تيسر منها في مباحث أخرى.
إن قتل المرتد إذا لم يتب من ردته، حكم ثابت في أحاديث صحيحة لا مطعن فيها، وعمل بها الصحابة رضي الله عنهم في زمن الخلفاء الراشدين، وبعد عهدهم رضي الله عنهم، وأطبق عليها جماهير أهل العلم، ونقلوا عليه الإجماع في المذاهب الإسلامية المعتبرة.
وهو مما يحسم تذب ضعاف الإيمان، ويجعلهم يظهرون لأمتهم ولغيرها الثبات على مبدأ الإسلام العظيم.
وإن الثبات على المبدأ والصبر عليه، يجعل غير أهله يفكرون في شأنه ويبحثون عن سبب الثبات عليه، ويغريهم ذلك بالدخول فيه.
وعلى علماء المسلمين تقع المسئولية العظمى في الثبات على المبدأ وتثبيت أهله عليه، بعدم التنازل عن ثوابته في تعليمهم وإفتائهم وقضائهم ونصحهم لمن بيدهم الأمر في مراعاة أحكام الإسلام وتنفيذها، ففي الثبات على المبدأ والصبر عليه وتثبيت أمته عليه يكمن بقاء هذه الأمة وفلاحها ونجاتها من الامحاق والذوبان.
ولقد ثبت أهل الإيمان على إيمانهم رغم ما لاقوا من محن وأذى.
من أوضح الأدلة على ذلك قصة أصحاب الأخدود، التي كان سببها ذلك الغلام الذي ثبت على دينه، مع شدة ما لقيه من تعذيب الملك الظالم الجبار الذي اتخذ كل وسيلة لقتله، فلم ينجح في ذلك، حتى قال له الغلام: إذا شئت أن تقتلني فاجمع الناس، وقل: بسم الله رب الغلام وارمني بقوسك، ففعل الملك ذلك فمات الغلام، فقال الحاضرون من الناس: آمنا برب الغلام....
والقصة في صحيح مسلم (4/2300) وساقها المفسرون في سورة البروج، عند قوله تعالى: {قتل أصحاب الأخدود...}
وهذا بخلاف المبدأ الذي يضطرب أهله، ولا يثبتون على منهجه، فإن الناس يزهدون فيه وينفرون منه، ويقولون في أنفسهم: لو كان حقا لثبت عليه أهله، ولم يخرجوا عن صراطه.
فهل يليق بالأمة الإسلامية أن تترك أبناءها يحققون لأعدائها هذا الهدف الخطير، بخروج من نشأ منهم مسلما في أسرة مسلمة عن الإسلام، أو من دخل في الإسلام من غير المسلمين مختارا مقرا بأن هذا الدين هو الدين الحق، عالما بكل ما يترتب على إسلامه من أحكام وجزاءات، ثم يخرج منه.
ولقد شكك في قتل المرتد طائفتان
الطائفة الأولى: أعداء الإسلام والجهلة من أبنائه فيه، وزعموا أن للمسلم الحق في تغيير دينه إلى أي دين آخر، ادعاء منهم أن ذلك من أهم حقوق الإنسان التي تمنحه حرية التدين، وبناء على ذلك يرون أن للمسلم أن ينتقل من دين الإسلام إلى أي دين من الأديان من الأديان السماوية المحرفة، كاليهودية والنصرانية، أو العقائد الوثنية كالهندوسية والبوذية وغيرها.
الطائفة الثانية: بعض العلماء المعاصرين الذين تأولوا بعضا من عمومات النصوص، مقدمين لها على نصوص أخرى خاصة صحيحة في نفس الموضوع، وزعموا أن المسلم إذا غيير دينه إلى غيره من الأديان لا يقتل من أجل ذلك، ويمكن عقابه تعزيرا، ومنهم من رأى عدم معاقبته مطلقا على ذلك، ولو بتكرار استتابته، كما قال بعضهم:
"ولا أنكر أن بعض أولئك المنافقين كانت التوبة تبسط لهم فيتوبون، ولكن هذه التوبة المبسوطة لهم كانت توبة اختيارية لا يكرهون عليها بسيف ولا غيره من وسائل الإكراه، وهذا هو ما أذهب إليه في ثبوت الحرية الدينية للمرتد، فلا أريد إلا أن تكون توبته اختيارية كتوبة أولئك المنافقين، فيدعى إلى العودة إلى الإسلام بالتي هي أحسن، ولا يكره عليها بقتل كما يذهب إليه بعضهم، "ولا بحبس أنفسنا عليه باستتابة دائمة كما يذهب إليه القائلون بهذه الاستتابة، لأن فيها شبه إكراه له، ونحن نريدها حرية دينية كاملة غير منقوصة..." وخالصة من الإكراه وشبه الإكراه، ليكون الإسلام وحده دين الحرية، ويمتاز بهذا على غيره من الأديان، وتكون مفخرة له على طول الزمان." [[الحرية الدينية للشيخ عبد المتعال الصعيدي ص: 148دار المعارف بمصر]
ويرى أن في عقابه على خروجه من الإسلام إلى غيره، يعتبر اعتداء على الحرية الدينية التي يرون أن نصوص القرآن كفلت ذلك له، كما كفلتها له مبادئ حقوق الإنسان."
ترجيح وأدلة:
والذي نراه وندين الله به أنه إذا ثبتت الردة على من كان مسلما في الأصل، أو دخل في دين الإسلام حرا مختارا، وفهمه حق الفهم، وفهم ما يترتب على إسلامه، ومن ذلك حد المرتد عن الإسلام، أن هذا الحكم إذا توفرت شروطه ثابت لا مراء فيه.
أما إذا كان حديث عهد بالإسلام، لم يفهم حقيقته وما يترتب على إسلامه فلا يقتل بل ينصح بالبقاء على الإسلام ويبين له ما فيه من المحاسن وما في تركه من المساوي، فإن رجع إلى الإسلام فبها ونعمت وإن أبى خلي سبيله.
ولا يجوز أن نَخضَع لآراء أعداء الإسلام، ولا من حاول اقتحام عقبة الفتوى فيما لا ناقة له ولا جمل من أحكام الإسلام، كما لا نعذر من ادعى أنه طبيب مختص وهو يجهل الطب، وعبث في أجساد البشر فأفسدها.(3/151)
ولكنا نعذر من تأول نصوص القرآن مجتهدا من علماء الإسلام، ونرجو الله أن يغفر له خطأه، معتمدين على قول الباري الرحيم: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة (286)] وقول الله في جواب هذا الدعاء: (قد فعلت) [صحيح مسلم (1/116) وقول رسوله الكريم: (تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) [المستدرك على الصحيحين (2/ 216) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
أدلة قتل المرتد إذا توفرت شروط قتله
سبق أن للمرتد أحكاما في الدنيا وأخرى في الآخرة، والذي يعنينا في هذا الكتاب، هو أحكام الدنيا، أما أحكام الآخرة فهي موكولة إلى الله تعالى، والذي نعلمه من كتابه من حكم الله تعالى على من ارتد عن الإسلام أمران:
الأمر الأول: حبوط العمل.
الثاني: والخلود في نار جهنم، أعاذنا الله منها، وقد وردت بذلك نصوص كثيرة وقد جمعت الأمرين معاً آية البقرة..
{ وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }. [البقرة:217].
ومن أحكام المرتد في الدنيا: قتله بعد استتابته وإصراره على كفره.
ومن الأدلة الصحيحة على هذا الحكم ما يأتي:
الدليل الأول: سنة الرسول صلى الله عليه وسلم:
أولها: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قَال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة) [(صحيح البخاري (6/2521) و صحيح مسلم (3/1302)
ثانيها: حديث: عكرمة أن عليا رضي الله عنه حرق قوما فبلغ بن عباس فقال: "لو كنت أنا لم أحرقهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تعذبوا بعذاب الله) ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) [صحيح البخاري رقم(2854 (3/1098)
ثالثها: ومن أصرح الأدلة في ذلك، التنصيص على قتل الرجل والمرأة المرتدين، كما وقع في بعض الروايات في حديث معاذ عندما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن.. وقال له: ( أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها، فإن عادت وإلا فاضرب عنقها).. ذكر هذه الرواية الحافظ في فتح الباري وحسنها. [فتح الباري (12/272)
رابعها: حديث جابر أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام فإن رجعت وإلا قتلت. [سنن الدارقطني (3/118) وسنن البيهقي الكبرى (8/203)]
خامسها: فعل الصحابيين الجليلين: أبي موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل وقد صرح فيه معاذ بن جبل أنه قضاء الله ورسوله.
كما روى ذلك أبو موسى وفيه: (اذهب أنت يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس إلى اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه ألقى له وسادة قال أنزل وإذا رجل عنده موثق قال ما هذا قال كان يهوديا فأسلم ثم تهود قال اجلس قال لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات فأمر به فقتل) [صحيح البخاري (6/ 2537) وصحيح مسلم (صحيح مسلم (3/1456) قال الحافظ رحمه الله: "وبين أبو داود في روايته أنهما كررا القول أبو موسى يقول اجلس ومعاذ يقول لا أجلس. فتح الباري (12/274)]
وتكرار معاذ لأبي موسى أن هذا الحكم هو قضاء الله ثلاث مرات، يدل على أنه علمه من النبي صلى الله عليه وسلم، وليس مجرد اجتهاد منه.
وذكر الدكتور يوسف القرضاوي عشرة من الصحابة رضي الله عنهم، وهم: ابن عباس وأبو موسى ومعاذ وعلي وعثمان وابن مسعود وعائشة وأنس وأبي هريرة ومعاوية بن حيدة .رووا قتل المرتد، ثم قال: "وحديث قتل المرتد رواه جمع غفير من الصحابة، ذكرنا عددًا منهم، فهو من الأحاديث المستفيضة المشهورة."
الدليل الثالث: إجماع الأمة على قتل المرتد الذي توافرت فيه شروط القتل: سبقت الأدلة الثابتة الصحيحة الصريحة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، على وجوب قتل المرتد بعد استتابته، وقد طبق ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده وبعد وفاته، وأجمع العلماء على ذلك.
قال ابن قدامة رحمه الله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه، وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد وغيرهم، ولم ينكر ذلك فكان إجماعا" [المغني (9/16)]
قال الدكتور يوسف القرضاوي:
"ثانيًا: أن من مصادر التشريع المعتمدة لدى الأمة مصدر الإجماع. وقد أجمع فقهاء الأمة من كل المذاهب، السنية وغير السنية، والفقهاء من خارج المذاهب على عقوبة المرتد وأوشكوا أن يتفقوا على أنها القتل، إلا ما رُوي عن عمر والنخعي والثوري ولكن التجريم في الجملة مجمع عليه."
قلت: وكل من روي عنه عدم القتل روي عنه عكس ذلك، وهو القتل، والذي ري عن عمر رضي الله عنه هو حبسه قبل قتله رجاء أن يتوب، وليس ترك قتله مطلقا، وهذا نص ما نقل عنه رضي الله عنه:
"قدم مجزأة بن ثور أو شقيق بن ثور على عمر يبشره بفتح تستر فقال له عمر هل كانت مغربة يخبرنا بها قال لا إلا أن رجلا من العرب ارتد فضربنا عنقه قال عمر ويحكم فهلا طينتم عليه بابا وفتحتم له كوة فأطعمتموه كل يوم منها رغيفا وسقيتموه كوزا من ماء ثلاثة أيام ثم عرضتم عليه الإسلام في الثالثة فلعله أن يرجع اللهم لم أحضر ولم آمر ولم أعلم" [المحلى 11/191)]
فقوله "ثم عرضتم عليه الثالثة، فلعله أن يرجع" ظاهر في أنه يرى عرض التوبة عليه ثلاثا، لعله يرجع، فإذا لم يرجع بعد استتابته ثلاثا، قتل.(3/152)
وفي رواية عن عمر زيادة: " فإن تاب قبلتم منه وإن أقام كنتم قد أعذرتم إليه" [التمهيد (5/307)] أي قطعتم عذره الذي يستحق بقطعه قتله.
وقد صرح بقتله إذا لم يرجع في رواية أخرى.
قال: "أفلا أدخلتموه بيتا وأغلقتم عليه بابا وأطعمتموه كل يوم رغيفا ثم استتبتموه ثلاثا فإن تاب وإلا قتلتموه ثم قال اللهم لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذ بلغني أو قال حين بلغني" [مصنف ابن أبي شيبة (5/562)
وتؤكد هذا المعنى عن عمر ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال "كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب أن رجلا يبدل بالكفر بعد إيمان فكتب إليه عمر استتبه فإن تاب فاقبل منه وإلا فاضرب عنقه"
وبذلك جزم ابن عبد البر رحمه الله، فقال:
"قال أبو عمر يعني استودعتهم السجن حتى يتوبوا، فان لم يتوبوا قتلوا، هذا لا يجوز غيره لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاضربوا عنقه" [الاستذكار (7/154)]
وأما ما نقل عن الإمام إبراهيم النخعي رحمه الله، فبرد عليهم بروايات عنه تعارض ذلك النقل، بل يرى قتل الرجل المرتد و المرأة المرتدة التي خالف في قتلها الحنفية.
قال ابن عبد البر رحمه الله: "واختلف الفقهاء أيضا في المرتدة، فقال مالك والأوزاعي وعثمان البتي والشافعي والليث بن سعد تقتل المرتدة كما يقتل المرتد سواء وهو قول إبراهيم النخعي وحجتهم ظاهر هذا الحديث لأنه لم يخص ذكرا" [التمهيد (5/312) وممن نسب إلى النخعي قتل المرأة الحافظ ابن حجر رحمه الله فتح الباري 12/268]
وجزم ابن حجر رحمه الله أن الرواية المثبتة عنه لقتل المرتد والمرتدة أقوى من الرواية النافية عنه، بل ضعف الرواية النافية عنه.
قال رحمه الله:
"وأخرج سعيد بن منصور عن هشيم عن عبيدة بن مغيث عن إبراهيم قال إذا أرتد الرجل أو المرأة عن الإسلام استتيبا فان تابا تركا وأن أبيا قتلا وأخرج بن أبي شيبة عن حفص عن عبيدة عن إبراهيم لا يقتل والأول أقوى فان عبيدة ضعيف وقد اختلف نقله عن إبراهيم" [فتح الباري (12/268)]
ولهذا يجب حمل ما روي عنه من أن المرتد يستتاب أبدا أنه إذا تكررت منه الردة، يستتاب في كل مرة، وليس المراد الاستمرار في استتابته من ردة واحدة طول حياته، لأن قوله: يستتاب أبدا، مجمل، والرواية السابقة التي رجحها ابن حجر مُبَيِّنة، ومعروف أن المجمل يحمل على المبين. [مصنف ابن أبي شيبة (6/440)]
وبهذا يظهر ثبوت الإجماع، وأن من روي عنه القول بعدم قتل المرتد، عارضه ما روي عنه من قتله، وترجح الروايات بالقتل على الروايات بعدمه، لموافقتها للسنة الصحيحة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وتطبيق صحابته وغيرهم لما ثبت عنه في حياته وبعد مماته
ثم لو فرضنا ثبوت القول بعدم قتل المرتد عن فرد أو أفراد من العلماء، فلا حجة في ذلك لإطباق غيرهم على القول بقتله، ولثبوت قتله عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل أصحابه في حياته وبعد مماته.
تقتل المرتدة إذا لم تتب كالمرتد
والأحاديث الواردة في قتل المرتد شاملة للذكر والأنثى جميعا، إما بصيغ عمومها، كقوله: (من بدل دينه فاقتلوه) وإما بذكرها نصا مع الرجل كما مضى.
ويدل على استواء المرتد والمرتدة في الحكم، أن الحدود تقام عليهما جميع، فالزانية تحد جلدا ورجما كالزاني وكذا القاتلة عمداً تقتل كما يقتل الرجل، ولا يقال: إن هذا استدلال بدلالة الاقتران والاستدلال بها ضعيف، لأن ضعف دلالة الاقتران عند من يقول به من العلماء، إنما يكون حيث يستدل بها عارية عن أدلة ثابتة غيرها، والأدلة هنا ثابتة كما ترى.
وإذا أنعمت النظر في هذه الأدلة وجدت كل واحد منها صالحاً للاحتجاج به على حدة فكيف بها مجتمعة..؟ وقوله: "من بدل دينه فاقتلوه" يشمل الذكر والأنثى، لأن "من" اسم موصول، وهي من صيغ العموم، كما قال في مراق السعود:
ومَا شُمُولُ "مَنْ" لِلُانثى جَنَفُ.
أي إن شمول من للذكر والأنثى ليس فيه ميل عن جادة الصواب.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة) لفظ "امرئ" يشمل كذلك الذكر والأنثى.
وقد فسر العلماء لفظ "امرئ" بـ"نفس" كما في تفسير ابن كثير:
(4/ص243)
وذهب أبو حنيفة رحمه الله، إلى أن المرأة لا تقتل بل تحبس ويضيق عليها حتى تتوب، و استدل على ذلك بالنهي عن قتل النساء وبأن المرأة لا تقتل بالكفر الأصلي، فلا تقتل بالكفر الطارئ.
وهذا الاستدلال غير ناهض، فالنهي ورد في الكافرة الأصلية كما هو واضح في القصة التي ورد النهي بسببها..
ولو فرضنا العموم لكان الأمر بقتل المرتد معارضاً له بعمومه.. فكيف وقد ورد الأمر بقتل المرتدة بخصوصه؟
ثم إنه يفرق بين الكفر الأصلي والكفر الطارئ من وجوه أهمها:
أن الرجل يقر على كفره الأصلي ولا يقر على الكفر الطارئ. [فتح الباري (12/272) المغني (9/3) المقنع (3/516) فتح القدير (6/71)].
وقال القرطبي رحمه الله: "واختلفوا في المرتدة:
فقال مالك والأوزاعى والشافعى والليث بن سعد: تقتل كما يقتل المرتد سواء، وحجتهم ظاهر الحديث: (من بدل دينه فاقتلوه) و"مَن" يصلح للذكر والأنثى.
وقال الثورى وأبو حنيفة وأصحابه: لا تقتل المرتدة، وهو قول بن شبرمة، وإليه ذهب بن علية وهو قول عطاء والحسن، واحتجوا بأن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من بدل دينه فاقتلوه)
ثم إن بن عباس لم يقتل المرتدة، ومن روى حديثا كان أعلم بتأويله، وروي عن على مثله، ونهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان.(3/153)
واحتج الأولون بقوله عليه السلام (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان) فعم كل من كفر بعد إيمانه وهو أصح" [تفسير القرطبي (3/48)]
وقال ابن الأمير رحمه الله:"ذهب الجمهور إلى أنها تقتل المرأة المرتدة، لأن كلمة "مَن" هنا تعم الذكر والأنثى، ولأنه أخرج بن المنذر عن بن عباس راوي الحديث أنه قال: تقتل المرأة المرتدة، ولما أخرجه هو والدارقطني، أن أبا بكر رضي الله عنه، قتل امرأة مرتدة في خلافته والصحابة متوافرون ولم ينكر عليه أحد، وهو حديث حسن" [سبل السلام (3/265)]
والخلاصة أن المرتد عن الإسلام، رجلا كان أو امرأة يجب قتله إذا استتيب فلم يرجع، والأدلة على ذلك واضحة كما مضى.
آراء شاذة في قتل المرتد:
ومع ثبوت الأدلة الصحيحة وتعددها على قتل المرتد، فقد ظهرت آراء شاذة مخالفة لهذا الحكم، نجمل أدلتها فيما يأتي، مع مناقشة كل دليل منها على حدة بإذن الله.
الرأي الأول: التفريق بين الخروج من الإسلام والخروج عليه، هذا الرأي يعتبر الردة عن الإسلام من الأفراد الذين لا يدعون إلى الدين الذي خرجوا إليه من، لا يقام عليهم حد الردة، وعللوا هذا الرأي بأمرين:
الأمر الأول: أنهم خرجوا من الجماعة ولم يخرجوا عليها، فلم يحدثوا بذلك ضررا على غيرهم، بل أحدثوه على أنفسهم.
الأمر الثاني: العمل بمبدأ الحرية الدينية كما سيأتي الكلام عنه قريبا.
واستدلوا في زعمهم بأدلة:
الدليل الأول: من القرآن الكريم: مثل قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ} [البقرة (256)] ورأوا أن إكراه المرتد على الرجوع إلى الإسلام، هو إكراه له على الدخول في دين لا يرضى الدخول فيه، وفيه مصادرة للحرية الدينية.
والجواب عن هذا الاستدلال من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا نص عام يشمل الكافر الأصلي الذي لم يسبق له الدخول في الإسلام، ويشمل من دخل في الإسلام ثم خرج منه إلى أي دين غيره.
والقاعدة الأصولية أن النص الخاص يُخرج ما دل عليه من النص العام، ويبقى العام دالا ما عدا ما أخرجه النص الخاص، وعلى هذا يكون عدم الإكراه مقصورا على من لم يدخل الإسلام أصلا، ويخص بالقتل من خرج من الإسلام من المسلمين، عملا بالأدلة السابقة من الأحاديث الصحيحة والعمل بها في عهد الرسول والخلفاء الراشدين، ومن تبعهم، وما قام على العمل بها من إجماع الأمة.
الوجه الثاني: أن الحرية الدينية يجب أن تقيد بما قيدته به الشريعة، والشريعة قيدت هذه الحرية بمن لم يدخل في الإسلام أصلا، أما المسلم أصلا، أومن دخل فيه مختارا عالما حقيقته وما تترتب عليه من أحكام، ومنها حكم المرتد الذي بينته الأدلة، فليس له نصيب من هذه الحرية، لأنه دخل في الإسلام مختارا عالما أنه لا يجوز له الخروج منه، وأنه يترتب على خروجه منه قتله إن لم يرجع إليه.
الوجه الثالث: أن الإنسان ليس حرا فيما يضر به نفسه لأن نفسه ليست ملكا له يتصرف فيها كما يشاء، فليس له حق أن يجرح نفسه بدون سبب أو يقتلها، ولا أن يحرق أمواله، ولا يتعاطى ما يذهب عقله، ولو لم يضر غيره بذلك، فتعاطيه لما ضرره عليه أعظم وهو الخروج من الإسلام من باب أولى، وقد شرع الله تعالى عقوبة، لهذه الجريمة، يجب الأخذ بها وتنفيذها.
الوجه الرابع: تعليلهم بأن المرتد لا يقتل لأنه لم يحرج على الإسلام وإنما خرج منه، وأن ردته "ليس فيها استهزاء بالدين، ولا تمثل تهديدا للأمة، أو لكيان الدين، ولا يقصد بها العبث بشعور أو شعائر المسلمين!".
نقول لهم: أي استهزاء بالدين أعظم من أن يخرج منه من دخل فيه باختياره دون إكراه وهو يعلم أحكام شريعته، ومنها قتل المرتد، أو نشأ في بيئة إسلامية وذاق فيها حلاوة الإسلام وخصائصه التي لا توجد في أي دين سواه في الأرض؟
وكيف لا تمثل ردة الأفراد تهديدًا للأمة أو لكيان الدين، ونحن نرى تهديد الأمة وكيان الدين من قوم بين أظهرنا، لا يزالون يدَّعون الإسلام، ويقفون في صف من يحاربون تطبيق الإسلام من أعداء الإسلام، باسم الحداثة والحرية وحقوق الإنسان؟
هل المرتد عن الإسلام سيحمي الإسلام، أو سيقف محايدا لا ينصر أعداء الإسلام؟
وهل سيترك الدعوة إلى دينه الجديد سرا أو جهرا، وبخاصة في هذا العصر الذي يدعم أعداء الإسلام أي فرد أو جماعة تعارض هذا الدين أو شيئا منه، حتى يصح القول: "فيخرج من الإسلام في هدوء وفردية" وأن "فاعل ذلك لا يكون مصيره القتل، بل له حرية ذلك طالما بقي خروجه ليس فيه تهديدٌ لأمن الأمة."
وقد خالف أستاذنا العلامة الدكتور يوسف القرضاوي - مع ميله إلى عدم قتل المرتد الذي لم يقم بالدعوة إلى الدين الذي ارتد إليه كما يأتي - خالف التهوين من شأن الردة الفردية التي يقال عنها: إنها خروج من الدين وليست خروجا عليه، فقال:
"ولا بد من مقاومة الردة الفردية وحصارها، حتى لا تتفاقم ويتطاير شررها، وتغدو ردة جماعية، فمعظم النار من مستصغر الشرر.
ومن ثم أجمع فقهاء الإسلام على عقوبة المرتد، وإن اختلفوا في تحديدها، وجمهورهم على أنها القتل وهو رأي المذاهب الأربعة بل الثمانية......"
ثم قال:
"سر التشديد في عقوبة الردة
وسر التشديد في مواجهة الردة أن المجتمع المسلم يقوم أول ما يقوم على العقيدة والإيمان. فالعقيدة أساس هويته ومحور حياته وروح وجوده.
ولهذا لا يسمح لأحد أن ينال من هذا الأساس أو يمس هذه الهوية، ومن هنا كانت الردة المعلنة كبرى الجرائم في نظر الإسلام؛ لأنها خطر على شخصية المجتمع وكيانه المعنوي، وخطر على الضرورية الأولى من الضروريات الخمس التي حرص الإسلام على صيانتها عبر كل نسقه التشريعي والأخلاقي، وهي: "الدين والنفس والنسل والعقل والمال"، والدين أولها؛ لأن المؤمن يضحي بنفسه ووطنه وماله من أجل دينه.(3/154)
والإسلام لا يكره أحدًا على الدخول فيه، ولا على الخروج من دينه إلى دين ما؛ لأن الإيمان المعتد به هو ما كان عن اختيار واقتناع.
وقد قال الله تعالى في القرآن المكي: "أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس: 99)، وفي القرآن المدني قال تعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" (البقرة: 256).
ولكنه لا يقبل أن يكون الدين ألعوبة يدخل فيها اليوم من يريد الدخول، ثم يخرج منه غدًا على طريقة بعض اليهود الذين قالوا: "آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (آل عمران: 72(. انتهى
[المرجع: الإسلام على الطريق.]
ونحن نقول للذين يرون أن ردة الأفراد لا يكون فيها ضرر على غيرهم، ولا يصدر منهم استهزاء بالدين: كيف سيكون شعور أبوي المرتد عن الإسلام، وشعور إخوانه وأبنائه وزوجه، وأسرته وجيرانه وأصدقائه، وشعور كل مسلم عَلِم بخروج عضو من أعضاء أمته من عقيدتها ودينها؟ هل سيقيمون له احتفالا يحتفون بردته؟ وإذا لم تكن الردة عن الإسلام استهزاء بدين الله، فما هو الاستهزاء؟ هل الإسلام ملعب كرة أو صالة عرض سينمائي، يحق لكل إنسان أن يحمل على صدره بطاقة للدخول فيهما والخروج منهما متى شاء؟
ثم نقول مرة أخرى: إننا لم نر مرتدا عن الإسلام، خرج منه بهدوء كما قال بعض الكتاب، مع استثناء الجهال الذين يضلهم المنصرون في أدغال أفريقيا أو غابات بورنيو، وحتى هؤلاء إذا ارتد منهم كبير الأسرة أو كبير القبيلة لحق به أتباعه.بل إن الذين يعلنون ردتهم وكفرهم بالإسلام، يصبحون مع ردتهم دعاةً إلى ما انتقلوا إليه من دين محرف، أو منحازين إلى مؤسساته مستهزئين بالإسلام وأهله وشعائره وعلمائه، متخذين كل وسيلة متاحة لنشر أفكارهم وهجومهم على هذا الدين.
الدليل الثاني: ومن أدلتهم على عدم قتل المرتد، أن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يقتل أحدا من المنافقين الذين كفروا بعد إسلامهم، مع علمه بكفرهم، وقد وصفه أحدهم بالجور –حاشاه صلى الله عليه وسلم –
كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: لما كان يوم حنين، آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله.
قال فقلت: والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيته فأخبرته بما قال، قَال: فتغير وجهه حتى كان كالصرف ثم قال: (فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله) قال ثم قال: (يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر) [صحيح البخاري (3/1148) و صحيح مسلم (2/739)]
وجه استدلالهم بالحديث أن الرجل وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بالجور، وهو مقتض لكفره، ومع ذلك لم يأمر بقتله، وهو دليل على أن المرتد عن الإسلام لا يقتل، ولو كان قتله واجبا لما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد أجاب عن ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله، بأن ترك قتله كان للتأليف، كما خص بعض حديثي الإسلام بالعطاء تأليفا لهم، وساق حديثين لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أخرج أحدهما الطبراني، و في آخره زيادة : "فغفل عن الرجل فذهب، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه فطُلب فلم يُدرَك" قال الحافظ: "وسنده جيد"
وأخرج الحديث الثاني الإمام أحمد، وفيه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بقتل رجل فوُجد يصلي متخشعا، فكرهوا لذلك أن يقتلوه، فقال: (إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون) وهذا نص ما ذكره الحافظ رحمه الله:
"تنبيه"
جاء عن أبي سعيد الخدري قصة أخرى، تتعلق بالخوارج فيها ما يخالف هذه الرواية، وذلك فيما أخرجه أحمد بسند جيد عن أبي سعيد، قال: جاء أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله: إني مررت بوادي كذا فإذا رجل حسن الهيئة متخشع يصلي فيه.
فقال (اذهب إليه فاقتله) قال فذهب إليه أبو بكر فلما رآه يصلي كره أن يقتله، فرجع.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: (اذهب فاقتله) فذهب فرآه على تلك الحالة، فرجع.
فقال: (يا علي اذهب إليه فاقتله) فذهب علي فلم يره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه فاقتلوهم هم شر البرية) وله شاهد من حديث جابر أخرجه أبو يعلى ورجاله ثقات.
ويمكن الجمع بأن يكون هذا الرجل هو الأول، وكانت قصته هذه الثانية متراخبة عن الأولى، وأذن صلى الله عليه وسلم في قتله بعد أن منع منه لزوال علة المنع، وهي التألف فكأنه استغنى عنه بعد انتشار الإسلام، كما نهى عن الصلاة على من ينسب إلى النفاق بعد أن كان يجري عليهم أحكام الإسلام قبل ذلك.
وكأن أبا بكر وعمر تمسكا بالنهي الأول عن قتل المصلين وحملا الأمر هنا على قيد أن لا يكون لا يصلي، فلذلك عللا عدم القتل بوجود الصلاة أو غلبا جانب النهي.
ثم وجدت في مغازي الأموي من مرسل الشعبي في نحو أصل القصة ثم دعا رجالا فأعطاهم، فقام رجل فقال: انك لتقسم وما نرى عدلا، قال: (إذًا لا يعدل أحد بعدي) ثم دعا أبا بكر فقال: (اذهب فاقتله) فذهب فلم يجده، فقال: (لو قتلته لرجوت أن يكون أولهم وآخرهم) ["فتح الباري" (12/298-2299)](3/155)
الدليل الثالث: من السنة أيضا، وهو أن أعرابيا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأصاب الأعرابي وعكٌ بالمدينة، فجاء الأعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أقلني بيعتي، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبى، ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبى، فخرج الأعرابي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وتنصع طيبها) [صحيح البخاري، برقم (6891) وصحيح مسلم، برقم (1383)]
قال النووي في معنى "ينصع": "هو بفتح الياء والصاد المهملة، أي يصفو ويخلص ويتميز، والناصع الصافي الخالص، ومنه قولهم ناصع اللون أي صافية وخالصة، ومعنى الحديث: أنه يخرج من المدينة من لم يخلص إيمانه، ويبقى فيها من خلص إيمانه"]
وجه الدلالة عند من استدل بالحديث، أن هذا الرجل طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقيله من الإسلام، وهذا الطلب يعتبر ردة، ومع ذلك لم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه خرج عن الإسلام ولم يخرج عليه.
قال المستدل: "دلت النصوص التي سنورد بعضًا منها في النقطة الخامسة على هذا التفريق، فالقتل يكون لمن خرج على الإسلام وقصد الإساءة أو العبث بالدين، أو مسَّ أمن وسلامة الأمة ونظام الدولة، كما أنه يُعدُّ جرمًا ضد نظام الحكم في الدولة، وخروجًا على أحكام الدين الذي تعتنقه الأمة، ويُعتَبر حينذاك مرادفًا لجريمة "الخيانة العظمى" التي تحرمها كل الشرائع والدساتير والقوانين، وهذا العقاب لم يكن مقتصرًا على الدول التي يقوم الحكم فيها على أساس الدين." [المرجع: موقع الإسلام على الطريق
http://www.islamonline.net/Daawa/Arabic/display.asp?hquestionID=5625
وأرى أن هذا استدلال بعيد، لأربعة أمور:
الأمر الأول: الظاهر أن هذا الأعرابي طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم إقالته من البقاء في المدينة، ولم يصبر على ما أصابه فيها من المرض، لضعف إيمانه ولم يطلب الإقالة من الإسلام، وهذا ما فهمه جماهير العلماء، ومنهم شراح الحديث.
قال النووي رحمه الله:
"قال العلماء: إنما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم بيعته، لأنه لا يجوز لمن أسلم أن يترك الإسلام، ولا لمن هاجر إلى النبي صلى الله للمقام عنده أن يترك الهجرة ويذهب إلى وطنه أو غيره.
قالوا: وهذا الأعرابي كان ممن هاجر وبايع النبي صلى الله عليه وسلم على المقام معه.
قال القاضي: ويحتمل أن بيعة هذا الأعرابي كانت بعد فتح مكة، وسقوط الهجرة إليه صلى الله عليه وسلم، وإنما بايع على الإسلام وطلب الإقالة منه، فلم يُقِله، والصحيح الأول ... " [شرح النووي على صحيح مسلم (9/155-156)]
وقال الحافظ في شرح هذا الحديث: "قال بن التين إنما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من إقالته، لأنه لا يعين على معصية، لأن البيعة في أول الأمر كانت على أن لا يخرج من المدينة إلا بإذن، فخروجه عصيان.
قال [أي ابن التين] وكانت الهجرة إلى المدينة فرضا قبل فتح مكة على كل من أسلم، ومن لم يهاجر لم يكن بينه وبين المؤمنين موالاة، لقوله تعالى: {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} فلما فتحت مكة قال صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح)ففي هذا إشعار بان مبايعة الأعرابي المذكور كانت قبل الفتح.
وقال بن المنير: ظاهر الحديث ذم من خرج من المدينة، وهو مشكل، فقد خرج منها جمع كثير من الصحابة وسكنوا غيرها من البلاد، وكذا من بعدهم من الفضلاء. والجواب أن المذموم من خرج عنها كراهة فيها ورغبة عنها كما فعل الأعرابي المذكور.
وأما المشار إليهم فإنما خرجوا لمقاصد صحيحة، كنشر العلم وفتح بلاد الشرك والمرابطة في الثغور وجهاد الأعداء، وهم مع ذلك على اعتقاد فضل المدينة وفضل سكناها..." [فتح الباري 13/200)]
وقال الحافظ في شرح رواية البخاري: (فبايعه على الإسلام، فجاء من الغد محموما فقال: أقلني) ظاهره أنه سأل الإقالة من الإسلام، وبه جزم عياض، وقال غيره: إنما استقاله من الهجرة، وإلا لكان قتله على الردة" [فتح الباري (4/97)]
الأمر الثاني: ما ورد في قصة معاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، عندما بعثهما الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، "فزار معاذ أبا موسى، فإذا رجل موثق، فقال: ما هذا فقال أبو موسى: يهودي أسلم ثم ارتد فقال معاذ لأضربن عنقه" [صحيح البخاري، برقم (4088)]
وفي رواية: "فقال معاذ: لا أجلس حتى أضرب عنقه، قضى الله وقضى رسوله" [مصنف ابن أبي شيبة (5/562)]
وكلمة "قضى" تدل على أن قتل المرتد هو حكم قضائي يجب على ولي الأمر تنفيذه، وليس هو من باب التعزير كما زعم بعض الكتاب المعاصرين.
فهذا يهودي واحد خرج عن الإسلام، ولم يذكر في الحديث ما يدل على صفة أخرى استحق بها القتل غير الردة، ولو كان المرتد لا يقتل إلا إذا ضم إلى خروجه من الإسلام خروجه عليه، لذكر ذلك أبو موسى ومعاذ رضي الله عنهما...
الأمر الثالث: الأحاديث الصحيحة العامة في قتل من كفر بعد إيمانه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) وقوله:
(لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان)
فتبديل المسلم دينه، وهو كفره بعد إيمانه، وصف كاف في استحقاقه القتل، كما سبق...
ولو كان يجب ضم معنى آخر إلى معنى الردة، لنص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يرتب الحكم الذي تزهق به الأرواح على معنى ناقص، يتنزه عنه شرع الله.(3/156)
الأمر الرابع: لو فرضنا أن الأعرابي طلب الإقالة من الإسلام كما جزم به القاضي عياض، فيجب حمله على أنه كان من المنافقين الذين كف الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتلهم، وعاشرهم كما عاشر عامة المسلمين، وبخاصة أن الرجل لم يعلن تركه الإسلام، وإنما اكتفى بخروجه بدون إذن من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد مضى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)[صحيح البخاري (صحيح البخاري، برقم (4622) وصحيح مسلم، برقم (2584)]
الدليل الرابع: دليل عقلي عندهم، وهو أن العلماء أجمعوا على اشتراط الاختيار في صحة الإسلام، فهو شرط في صحة إسلام كل شخص سواء أكان ممن لم يسبق منه إسلام أم كان ممن سبق منه وارتد منه وحينئذٍ لا يصح أخذ المرتد إلى الإسلام بالإكراه كما لم يصح فيما سبق إكراه من لم يسبق منه إسلام على الإسلام، لأنه يكون إسلاماً باطلاً لا فائدة فيه، ولا ينجي صاحبه من عقاب الله تعالى في الآخرة، وحينئذٍ يكون من العبث إكراهه عليه.
والجواب على هذا الاستدلال: أن نقول: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ} [(140) البقرة]
إن بقاء الإنسان في الظاهر على إسلامه، مختلط بأسرته، وبمجتمعه الإسلامي في المساجد والمناسبات الجماعية، وحضور دروسهم ووعظهم وإرشاده، قد يحرك فيه عاطفة سبق أن تلبس بها، وقد يدعوه تفكيره وعقله إلى الموازنة بين الإسلام الذي كان عليه، وبين الدين الذي رجع عنه، فيبدأ إيمانه يقوى حتى يعود إلى الإيمان الحق، فيثبت في قلبه، وقد يفوق في قوة إيمانه غيره من المسلمين.
بخلاف ما إذا انتقل إلى أهل الدين الجديد وخالطهم، فإنه سيلقى منهم الفرح والسرور بردته، وسيشجعونه على الاستمرار على دينهم، وقد يغروته بالمناصب والأموال والشهوات والشبهات التي تجعله يستمر في ردته وتأييده لأهل الملة الجديدة، وهذا ما نشاهده في واقع الحال في أي مرتد يلجأ إلى أهل الدين الجديد.
ونحن نعلم أن غالب أحكام الشريعة، واضحة الحكم والمصالح، وقليل منها قد لا ندرك حكمته، فنقبله مستسلمين لله تعالى في تشريعه، لعلمنا أن الدين كله حق، وما ذكرنا يظهر لنا شيئا من حكمة قتل المرتد وإجباره إلى الرجوع إلى الإسلام، ولو فرضنا أنما ذكرناه غير صحيح وأن الحكمة لم تظهر لنا فيه، فالواجب علينا التسليم المطلق لشرع الله، وقد الذي ثبت بسنة رسوله الصحيحة، وهي وحي كالقرآن إلا أن القرآن يتعبد بتلاوته، بخلاف السنة.
الدليل الرابع : أن الذي يكره على الرجوع إلى الإسلام، سيكون في واقع الأمر باقيا على معتقده، وإظهاره الإسلام يكون من باب النفاق، وهذا يقتضي أن يكثر المنافقون في صف المسلمين، يتتبعون عوراتهم ويتجسسون عليهم لأعدائهم، أفلا يكون وضوح كفرهم أولى ليتمكن المسلمون من الحذر منهم
والجواب على ذلك أنه لا تخلوا الأمة الإسلامية من وجود منافقين في صفوفها من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وسيستمر ذلك، ونحن لا نيأس من هداية الله لمنافق يوجد بين المسلمين كما مضى.
وقد يتوب بعض المنافقين وتحسن توبته وإسلامه، قال أبو عطية الأندلسي رحمه الله:
"وروي أن الجلاس تاب من النفاق فقال إن الله قد ترك لي باب التوبة فاعترف وأخلص وحسنت توبته" [المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (3/61)]
ولو ترك للمسلمين الخروج من دينهم إلى غيره من الأديان، لكثر المرتدون كثرة تضعف بها الأمة تذهب هيبتها وهيبة دينها، لأن كل من ضعف إيمانه قد يعلن ردته.
وبقاء ضعيف الإيمان، أو من تظهر عليه سمات النفاق، بين الجماعة المسلمة، خير له وللأمة من إعلانه ترك دينه، لأنه يرجى له بما معه من إيمان ضعيف أو ما اعتراه من صفات المنافقين، أن يقوى إيمانه المؤمن ويموت على الإسلام، وأن تتغلب عاطفة الإيمان على صفات المنافقين، فينجوان من الخلود في جهنم، ويبقيان مكثرين لسواد المسلمين، مشاركين لهم في تعاونهما معهم على البر والتقوى بمقدار إيمانهما، ولو فرض أنهما لم يتعاونا مع المسلمين، فإنهما بحكم انتمائهما الظاهر إليهم قد يتورعان عن التعاون مع أعدائهم عليهم...
والغالب أن بلدان المسلمين لا تخلو من رعايا غير مسلمين، يجب أن يحتاط المسلمون من كيد من يريد الكيد بهم، والغالب أن المنافقين تظهر على معاشرتهم قرائن تدل على نفاقهم، فليحتاطوا منهم كما احتاطوا من غير المسلمين، والدول غير المسلمة، تجند كثيرا من المسلمين للتجسس لها، وكثير منهم لا يظهرون لعامة الناس إلا بعد انتهاء مهمتهم والكشف عنهم.
وضعاف الإيمان في البلدان الإسلامية إذا عرفوا أن عقوبة المرتد القتل إذا لم يتب سيقَدَّرون لأرجلهم مواضعها قبل أن ينزلقوا في إظهارهم الكفر، والذين يظهرون الكفر اليوم غالبهم ينضمون إلى أهل ملتهم الجديد ويظاهرونهم على أهل بلدانهم علنا، لعلمهم أنهم سيفلتون من العقوبة.
الدليل السادس: أن أحاديث قتل المرتد، أحاديث آحاد، ودليل عدم إكراه المرتد على الدخول في الإٍسلام من القرآن والقرآن متواتر، فيجب ترجيحه على أحاديث الآحاد.
والجواب من أوجه:
الوجه الأول: أننا لا نحتاج إلى ترجيح المتواتر على الآحاد إلا إذا تعارضا تَعارضا لا يمكن فيه الجمع بينهما، وهنا قد أمكن الجمع وهو تقديم الخاص على العام كما مضى، ومضى الكلام على هذه القاعدة في مبحث الخوارج والمعتزلة.
الوجه الثاني: أن غالب الأحكام الشرعية لم تنقل بالتواتر، بل نقلت جمهرتها عن طريق الآحاد، ولو اتبعنا مسلم من يشكك في أخبار الآحاد، لضاع غالب الأحكام الشرعية، فلا يلتفت إلى هذا المسلك إلا عند التعارض المستعصي على الجمع أو النسخ.(3/157)
الوجه الثالث: أن أئمة الإسلام قد ردوا هذا المسلك ردا حاسما، يدحض مذهب من يلجأ إليه لرد كثير من الأحكام الثابتة بدون مسوغ مقبول، ومن هؤلاء الأئمة الإمام الشافعي رحمه الله، حيث قال في كتاب "الرسالة":
وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله من أدلة العمل بخبر الآحاد، حديث ابن سعود رضي الله عنه فقال: "فإن قال قائل: اذكر الحجة في تثبيت خبر الواحد بنص خبر أو دلالة فيه أو إجماع
فقلت له: أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي قال: "نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من روائهم، فلما ندب رسول الله إلى استمع مقالته وحفظها وأدائها امرأ يؤديها والامرء واحد، دل على أنه لا يأمر أن يؤدي عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه، لأنه إنما يؤدي عنه حلال، وحرام يجتنب، وحد يقام، ومال يؤخذ ويعطى ونصيحة في دين ودنيا [الرسالة (1/401) -403]
وقال بعد ذلك "أخبرنا سفيان قال أخبرني سالم أبو النضر انه سمع عبيد الله بن أبي رافع يخبر عن أبيه قَال قال النبي (لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما نهيت عنه أو أمرت به فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) وقد ساق في الرسالة تلك الحجج [من صفحة 369 إلى صفحة 471 أي في "102" من الصفحات] أمثلة كثيرة من القرآن والسنة، ومن مذاهب فقهاء الأمة، تدل على وجوب العمل بخبر الآحاد في عهد الرسول صلى الله، وفي عهد الصحابة وفي عهد التابعين فمن بعدهم إلى عصره رحمه الله. وفي كتابه "الأم" أمثلة كثيرة من تلك الحجج.
ولا زال علماء الأمة من المحدثين والأصوليين وغيرهم يرون وجوب العمل بما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ما تواتر منه ومال لم يتواتر.
وممن أخرج هذا الحديث الحاكم [المستدرك على الصحيحين، وقال: "وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" (1/190) وأبو داود في سننه (4/200) وغيرهم، فيجب التسليم للحديث الصحيح كالتسليم للقرآن، وسلوك مسلك الجمع بين ما قد يظهر فيه التعارض، ومن لم يظهر له الجمع فليدعه لمن يظهر له.
هذا وقد رجح شيخنا العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في "مذكرة أصول الفقه" التي درسناها على يديه في الكلية أن خبر الآحاد ظني من حيث الثبوت أي مطابقة الخبر للواقع في نفس الأمر، قطعي من حيث العمل به.
قال: "الذي يظهر لي أنه هو التحقيق في هذه المسألة والله جل وعلا أعلم، أن خبر الآحاد الذي لم يبلغ حد التواتر، ينظر إليه من جهتين، هو من إحداهما قطعي، ومن الأخر ظني.
ينظر إليه من حيث إن العمل به واجب، وهو من هذه الناحية قطعي، لأن العمل بالبينات مثلا قطعي منصوص في الكتاب والسنة، وقد أجمع عليه المسلمون وهي أخبار الآحاد.
وينظر إليه من ناحية أخرى، وهي: هل ما أخبروا به مطابق للواقع في نفس الأمر.
فلو قتلنا رجلا قصاصا بشهادة رجلين فَقَتْلنا هذا له قطعي شرعا لا شك فيه، وصدق الشاهدين فيما أخبرا به، مظنون في نفس الأمر لا مقطوع به لعدم العصمة.
ويوضح هذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة المتفق عليه: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع.
فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من نار، فليأخذها أو ليتركها"
فعَمَل النبي صلى الله عليه وسلم في قضائه قطعيُّ الصوابِ شرعا، مع أنه صرح بأنه لا يقطع بحقيقة الواقع في نفس لأمر كما ترى. [مذكرة في أصول الفقه 116..]
الدليل السادس: أن القرآن الكريم لم يذكر عقابا للمرتد عن الإسلام في الدنيا، بل ذكر عقابه في الآخرة، مثل قوله تعالى:
{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة (217)] وغيرها من الآيات، ولو كان للمرتد عقاب في الدنيا، لما أغفله القرآن الكريم، فلنسلك بالمرتد مسلك القرآن الكريم، فلا نعاقبه.
ولا أدري هل يريد هؤلاء أن يعطلوا كل حديث صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يتبين لهم الجمع بينه وبين ما ورد في القرآن أولم يذكر في القرآن حكمه، ولا يقبلوا أحكام السنة التي لم ترد أحكامها في القرآن، وما فائدة السنة إذا عطلت أحكامها غير الواردة في القرآن؟
الدليل الثامن: أن باب الاجتهاد مفتوح، ولمن عنده أهلية الاجتهاد أن يخالف من سبقه ولو ادعي فيه الإجماع، بناء على استنباط من كتاب الله وسنة رسوله وإعمال القياس الصحيح.
ونحن لا نحجر على من هو أهل للاجتهاد في أن يجتهد، ولا نقول: لم يترك الأول للآخر شيئا، بل نقول: كم ترك الأول للآخر، ولكن الاجتهاد لا قيمة له إذا عارض نصا صحيحا واضح الدلالة، كما هو الحال في موضوعنا هذا الذي استفاضت فيه الأحاديث الصحيحة وصح العمل به، وأجمعت عليه الأمة؟!
والعقل يجب أن ينتهي حيث انتهى الدليل الشرعي، وإلا ضل وهو لا يدري. [بينت مجال العقل وحدوده له الحق أن يسرح ويمرح فيها في كتابي"السباق إلى العقول" وقد طبع حديثا في دار ابن حزم في بيروت]
ولنعد للإمام الشافعي رحمه الله الذي حرص كل الحرص في جميع كتبه وحواراته على وجوب التمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وعد مخالفتها، على كل من عرفها ثابتة صحيحة، قال:
"وإذا ثبت عن رسول الله الشيء فهو لازم لجميع من عرفه لا يقويه ولا يوهنه شيء غيره بل الفرض الذي على الناس اتباعه ولم يجعل لأحد معه أمرا يخالف أمره" [الرسالة (1/330)(3/158)
ولا شك أن الاجتهاد المخالف للنص باطل، و الأقيسة المخالفة له فاسدة.
الدليل التاسع: ومما استدل به أهل هذا الرأي قوله في الحديث السابق: (والتارك لدينه المفارق للجماعة)
ووجه الدلالة عنده وصف (التارك لدينه) بـ(المفارق للجماعة)
حيث رأى أن المفارق للجماعة هو الخارج على نظامها قاصدا الإضرار بها، وليس مجرد تركه لدينها.
وهو يدعم بهذا الاستدلال قوله قبل ذلك:
" فـ"الخروج من الإسلام" بصورةٍ فرديةٍ ليس فيها الاستهزاء بالدين، ولا تمثل تهديدًا للأمة أو لكيان الدين، ولا يقصد بها العبث بشعور أو شعائر المسلمين، وإنما منبعها الوحيد شعور "المرتد" بعدم الاقتناع بالإسلام والاقتناع بغيره، فيخرج من الإسلام في هدوء وفردية، فاعل ذلك لا يكون مصيره القتل، بل له حرية ذلك طالما بقي خروجه ليس فيه تهديدٌ لأمن الأمة."
قال: "يوحي هذا الحديث بما نقول: (... والتارك لدينه المفارق للجماعة)، فنص "المفارق للجماعة" يوحي بالانسلاخ من الكيان وإرادة الضرر به، فكان ترك الدين وحده ليس سببًا لحِلِّ الدم، بل يجب مفارقة الجماعة أيضًا، وقد نقل الإمام ابن حجر في "فتح الباري" عن الإمام القرطبيِّ قوله: "ظاهر قوله: (المفارق للجماعة) أنه نعتٌ للتارك لدينه"، أي تارك دينه الموصوف بأنه فارق الجماعة، وليس مجرد تارك دينه فقط." انتهى
والصحيح أن هذا الوصف: (التارك لدينه) وصف كاشف، أي مفسر للتارك لدينه، وليس وصفا مستقلا، وهو الذي رجحه المحققون من العلماء.
فقد قال ابن دقيق العيد: رحمه الله مبينا هذا المعنى ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله، إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) وكذلك المفارق للجماعة كالتفسير لقوله التارك لدينه والمراد بالجماعة جماعة المسلمين وإنما فراقهم بالردة عن الدين وهو سبب لإباحة دمه بالإجماع في حق الرجل..." [إحكام الأحكام (4/83- 84)]
قال الحافظ رحمه الله: "والمراد بالجماعة جماعة المسلمين، أي فارقهم أو تركهم بالارتداد، فهي صفة للتارك أو المفارق لا صفة مستقلة، وإلا لكانت الخصال أربعا، وهو كقوله قبل ذلك: (مسلم يشهد أن لا إله إلا الله) فإنها صفة مفسرة لقوله: مسلم وليست قيدا فيه، إذ لا يكون مسلما إلا بذلك.
ويؤيد ما قلته أنه وقع في حديث عثمان: (أو يكفر بعد إسلامه) أخرجه النسائي بسند صحيح، وفي لفظ له صحيح أيضا: (ارتد بعد إسلامه) وله من طريق عمرو بن غالب عن عائشة: (أو كفر بعد ما أسلم)
وفي حديث بن عباس عند النسائي: (مرتد بعد إيمان)
قال بن دقيق العيد: "الردة سبب لإباحة دم المسلم بالإجماع في الرجل..." [فتح الباري [12/201 -202]
وقال أبو العلاء المبارك فوري رحمه الله: (والتارك لدينه المفارق للجماعة): "أي تَركُ التاركِ، والمفارق للجماعة صفة مولدة للتارك لدينه، أي الذي ترك جماعة المسلمين وخرج من جملتهم، وانفرد عن أمرهم بالردة، التي هي قطع الإسلام قولا أو فعلا أو اعتقادا فيجب قتله إن لم يتب" [تحفة الأحوذي (4/547)]
وقال شمس الحق العظيم آبادي رحمه الله: (المفارق للجماعة): "أي الذي ترك جماعة المسلمين وخرج من جملتهم وانفرد عن أمرهم بالردة" [عون المعبود (12/5)]
وقال البجيرمي الفقيه الشافعي رحمه الله:
"وقوله: (المفارق) صفة مؤكدة للتارك، والمراد بالجماعة جماعة المسلمين، فالتارك لدينه هو المفارق للجماعة".
وقيل هو من باب التأسيس لأن التارك لدينه قد لا يفارق الجماعة، كاليهودي والنصراني إذا أسلم، فهو تارك لدينه غير مفارق بل هو موافق لهم داخل فيهم، والحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد "شوبري" وهو بعيد لأن فرض الحديث في المسلم فلا يشمل غيره" [حاشية البجيرمي على كتاب الإقناع للماوردي (4/129)]
ومن العلماء المعاصرين الذين رجحوا أنه وصف كاشف، الدكتور يوسف القرضاوي، حيث قال:
"وكلمة المفارق للجماعة وصف كاشف لا منشئ؛ فكل مرتد عن دينه مفارق للجماعة".
[المرجع: الإسلام على الطريق:
http://www.islamonline.net/Arabic/contemporary/2002/02/article2a.shtml ]
وإذا كان علماء المسلمين، قد نقل عنهم الإجماع قديما وحديثا على قتل المرتد، إلا من شذ – وفي صحة نسبة الخلاف إليه شك كما سيأتي – فكلهم على هذا الرأي، وهو أن "المفارق للجماعة" صفة مؤكدة أو كاشفة، وليست تأسيسية، لأنهم لو فهموا أنها تأسيسية لما أجمعوا على الاكتفاء بالردة في قتل المرتد، بل لا بد أن يجتمع الوصفان في من يستحق عقوبة القتل...
الدليل العاشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقتل أحدا من المرتدين، ومنهم من عرفوا بالنفاق، مثل كبيرهم عبد الله بن أبي.
والجواب من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: يفينا أمره الصريح بقتل التارك لدينه، وقد سبقت الأحاديث المفيدة لذلك.
الوجه الثاني: أمره بفتل أم مروان عندما ارتدت، إذا لم تتب، كما في حديث جابر أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام فإن رجعت وإلا قتلت.
الوجه الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم، كان يتألف الناس من أجل دخولهم في الإسلام، ويخشى إذا تسامع الناس بأن يقتل المنافقين ، وهم يظهرون الإسلام، أن ينفر من يريد الدخول في الإسلام، بسبب ذلك، ولهذا عندما كلن يستأذنه بعض أصحابه أن يقتل من ظهر منهم النفاق ومنهم عمر رضي الله عنه، الذي استأذنه في قتل رأس المنافقين "عبد الله بن أبي" لم يأذن له بل قال له: (دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) والصحبة هنا هي الصحبة الظاهرية التي يعاشر بها المنافق معاشرة سائر المسلمين.(3/159)
ومعلوم أن المنافقين لا يصرحون بأنهم ارتدوا عن الإسلام، وإنما كانت تظهر منهم قرائن، تدل على نفاقهم، فلم يكن يأخذ بتلك القرائن، مع ما يظهرونه من الإسلام الذي لم يكن إظهارهم له إلا ليتقوا به ما قد ينزل بهم من معاملة الكفار، كما قال تعالى عنهم: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً...} [المنافقون (1، 2)]
وقد سبق الكلام على معاشرته صلى الله عليه وسلم المنافقين بالتفصيل.
ما دخوله في الإسلام عقد لازم يجب لله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود} [المائدة (1)]
الوفاء به، لقول ال
من يرى عدم قتل المرتد مطلقا ووجه استدلاله
هذا وقد وجد في هذا العصر من أراد تعطيل قتل المرتد، بل يرى عدم عقابه مطلقا،
ثم يقولون: إن ذلك مخالف لما تضمنه القرآن الكريم، من النهي عن الإكراه في الدين، كما قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ} [البقرة (256)]
يضاف إلى ذلك ما هو معلوم من أن منع من أراد تغيير دينه إلى غيره من الأديان، وإلزامه بالبقاء على دينه الذي لم يعد يطمئن إليه، يبعث على نفاق وكثرة المنافقين بين المسلمين...
ونحن نرد على هؤلاء المشككين بالأمور الآتية:
الأمر الأول: أن الحرية الحقيقية، لا توجد إلا في الإسلام، الذي حدد للمسلم معبودا واحدا، وهو الله مالك الملك الذي أراد من الإنسان أن يتحرر من كل معبود سواه، وأن تكون حياته كلها وتصرفاته ومآله إلى الله لا إلى سواه، كما قال تعالى:
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ...} [الأنعام (164)]
والمسلم الذي يعبد الإله الواحد الحق، له منهج يهديه إلى ما ينفعه في دنياه وأخراه، ويمنعه من الظلم والإضرار بمن سواه...
أما الذي يخرج من دين يعبد فيه ربا واحدا، إلى دين يعبد فيه آلهة شتى، لا يمكن أن يكون حرا، بل هو عبد تتنازعه تلك الآلهة، فهو يعبد مخلوقات الله من أشجار وأحجار وحيوان، وملائكة وأنبياء، بدلا من عبادة خالق تلك المخلوقات.
كما يعبد هواه الذي لا يقف به عند حد من المتناقضات التي تحرمه الحياة المطمئنة، لأنه كلما تعاطى شيئا من الشهوات التي دفعه إلى تعاطيها هواه، تاقت نفسه لغيره فتتعدد شهواته بتعدد ما يميل إليه هواه، فلا يقنع بطعام ولا شراب ولا مسكن ولا مركب، ولا حلال ولا حرام.
وليس له منهج يعبد الله به، يمنعه من ظلم غيره من البشر والحيوانات والإفساد في الأرض، ولا يغنيه جاه ولا منصب ولا وظيفة.
ولقد نبه الله تعالى على خطر الهوى الذي يتبعه صاحبه على غير هدى من الله، فسماه بسبب اتباعه إياه إلها يعبده من دون الله، كما قال تعالى: ((أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً)) [الفرقان:43].
فأيهما الحر الذي يعبد إلها واحدا، يأمره بالخير الذي يجمع له بين مصالح الدنيا والآخرة، و ينهاه عن الشر الذي يدفع عنه مفاسد الدنيا والآخرة و مضارهما، أم الذي يعبد آلهة شتى تتعدد أوامرها المتناقضة له، كما تتعدد نواهيها المتضادة كذلك، فتضطرب حياته في الدنيا، وينال أشد العذاب في الآخرة؟
أيهما الحر الذي يستغل خيرات الدنيا في طاعة ربه، دون أن تسترقه وتستعبده، أم الذي يكون عبدا لدنياه؟
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أُعطيَ رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثَ رأسُه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع له) [البخاري(3/1057)]
لقد ضرب الله لحرية من يعبد إلها واحدا، وعبودية من يعبد آلهة متعددة بهذا المثل الواضح البين:
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر (29)]
وكم من ناس نالوا من الدنيا ما نالوا من مال وسلطان وجاه وملك، وهم في حقيقة أمرهم عبيد أسرى، وكم من ناس حرموا ذلك بل قد يقعون أسرى مستعبدين تحت قهر الأعداء، وهم أعزة أحرار؟!
ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله:
(.. فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استُعبِد بدنه واستُرِق، لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب-الذي هو الملك-رقيقا مستعبدا لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض...فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب.....-إلى أن قال-: وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض، قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم ... فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم..) [مجموع الفتاوى: (10/186-189)]
الأمر الثاني: أن منع المسلم من تغيير دينه إلى دين آخر، ليس إكراها له على الدخول في دين الإسلام، بل هو إعانة له على بقائه على الحق ومنعه من الانضمام إلى أهل الباطل، وفي ذلك تحقيق أعظم مصلحة له في الدنيا والآخرة، وحفظ له من خسارة محققة، وأي خسارة أعظم من خسارة المسلم دينه الذي لا يوجد في الأرض دين يقبله الله ويرضاه غيره:(3/160)
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران (19)]
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران (85)]
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [سورة العصر]
إن الذي ينعم الله تعالى عليه بالإسلام، فيتمتع بما فيه من خير وحرية وعدل ومساواة وطمأنينة قلب وراحة بال، ثم يكفر بتلك النعمة التي لا تعقبها إلا خسارة الدارين، إنما هو أشد ممن يحجر عليه بسبب سفهه الذي يبذر بسببه أمواله تبذيرا لا تجيزه الأديان ولا العقول السليمة.
قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ...} [النساء (5،6)]
فأيهما أولى بالحجر والمنع الصغير والسفيه اللذان يبذران أموالهما، وكذلك الحجر الذي تطبقه الحكومات على أملاك المفلسين من الأفراد والشركات، أهؤلاء أولى بالحجر أم الذين يتبدلون الكفر بالإيمان: {وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة (108)]
وسبحان الله الذي وصف من رغب عن ملة الإسلام بسفه النفس، فقال تعالى:
{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ} (130)
قال ابن كثير رحمه الله "قال تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه}: أي ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره، بتركه الحق إلى الضلال، حيث خالف طريق من اصطُفي في الدنيا للهداية والرشاد، من حداثة سنه إلى أن اتخذه الله خليلا، وهو في الآخرة من الصالحين السعداء، فمن ترك طريقه هذا ومسلكه وملته، واتبع طرق الضلالة والغي، فأي سفه أعظم من هذا أم أي ظلم أكبر من هذا، كما قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم}" [تفسير القرآن العظيم تفسير (1/ص186)]
الأمر الثالث: أن ما قد يخشى من بعث حكم الردة على النفاق، فسيكون عدد الواقعين في النفاق قليلا جدا، لأن عامة المسلمين راضون بدينهم مطمئنون، لا يبغون به بديلا، وكونه قد يوجد عدد قليل يظهر الإيمان ويبطن الكفر، أهون من إظهار الكفر بعد إظهار الإيمان.
ولو ترك للمسلمين الخروج من دينهم إلى غيره من الأديان، لكثر المرتدون كثرة تضعف بها الأمة تذهب هيبتها وهيبة دينها، لأن كل من ضعف إيمانه قد يعلن ردته.
وبقاء ضعيف الإيمان على إيمانه، خير له وللأمة من تركه دينه، لأنه يرجى له بما معه من الإيمان أن يقوى إيمانه ويموت على الإسلام، فينجو من الخلود في جهنم، ويبقى مكثرا لسواد المسلمين، مشاركا لهم في تعاونه معهم على البر والتقوى بمقدار إيمانه، ولو فرض أنه لم يتعاون مع المسلمين، فإنه بحكم انتمائه إليهم يتورع عن التعاون مع أعدائهم عليهم.
والذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر وهو المنافق، يبقى ملتزما أمام قانون الشرع بالشرع، ومما يجب عليه التزامه النصح للمسلمين، وعدم التعاون مع عدوهم ضدهم ولو في الظاهر، ويؤاخذ على مخالفته شرعا...
وقد وجد المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاملهم معاملة من سواهم من المسلمين، بناء على الظاهر كما مضى...
وعندما استأذن منه بعض أصحابه أن يقتل من ظهر منهم النفاق ومنهم عمر رضي الله عنه، الذي استأذنه في قتل رأس المنافقين "عبد الله بن أبي" لم يأذن له بل قال له: (دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) والصحبة هنا هي الصحبة الظاهرية التي يعاشر بها المنافق معاشرة سائر المسلمين.
وما أظهروا الإسلام إلا ليتقوا به ما قد ينزل بهم من معاملة الكفار، كما قال تعالى عنهم: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً...} [المنافقون (1، 2)]
حماية الأفراد والأسر والأمة من خطر الردة
إن أول ما يتعرض لخطر الردة، نظام الأمة العام، ثم أسرة المرتد، من زوج وأولاد، وأقارب، ثم استشراء ذلك في ضعاف الإيمان من الأمة...
ومن هنا نعلم شيئا من حكمة الله تعالى في منع المسلم من الارتداد عن دينه إلى دين آخر، لأن في ترك المسلمين لدينهم هدما لهذا الدين الحق الذي يجب أن يحفظ، وتوهينا لأهله الذين يجب أن يعتصموا بحبل الله، ليكونوا قدوة للعالمين في سلوك صراط الله المستقيم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} [آل عمران(110)]
قال ابن تيمية رحمه الله: "وأما المرتد فالمبيح عنده - أي المبيح للقتل عند الإمام أحمد - هو الكفر بعد الإيمان، وهو نوع من الكفر، فإنه لو لم يقتل ذلك لكان الداخل في الدين يخرج منه، فقتله حفظ لأهل الدين وللدين، فإن ذلك يمنعهم من النقص ويمنعهم من الخروج بخلاف من لم يدخل فيه". [مجموع الفتاوى (20/9-103)، (28/413) راجع أيضاً المبسوط (10/98)، وبدائع الصنائع (59/438)].
وقال أحمد فتحي بهنسي:(3/161)
"جريمة الردة في الفقه الإسلامي فيها شيء من المماثلة لجريمة تغيير النظام الاجتماعي في الفقه الغربي.. كالفوضوية.. وغيرها من المذاهب الهدامة". [المسؤولية الجنائية (18)].
وقال سيد سابق رحمه الله:
"الإسلام منهج كامل للحياة فهو..
دين ودولة..
وعبادة وقيادة..
ومصحف وسيف..
وروح ومادة..
ودنيا وآخرة..
وهو مبني على العقل والمنطق..
وقائم على الدليل والبرهان..
وليس في عقيدته ولا شريعته ما يصادم فطرة الإنسان، أو يقف حائلاً دون الوصول إلى كماله المادي والأدبي..
ومن دخل فيه وعرف حقيقته، وذاق حلاوته، فإذا خرج منه وارتد عنه بعد دخوله فيه وإدراكه له، كان في الواقع خارجاً على الحق والمنطق ومنكرا للدليل والبرهان وحائداً عن الحق السليم والفطرة المستقيمة.
والإنسان حين يصل إلى هذا المستوى، يكون قد ارتد إلى أقصى دركات الانحطاط.
ومثل هذا الإنسان لا ينبغي الحفاظ على حياته، ولا الحرص على بقائه لأن حياته ليست لها غاية كريمة ولا مقصد نبيل؟.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الإسلام وهو منهج عام للحياة ونظام شامل للسلوك الإنساني لا غنى له من سياج يحميه، ودرع يقيه..
فإن أي نظام لا قيام له إلا بالحماية والوقاية والحفاظ عليه من كل ما يهز أركانه ويزعزع بنيانه، ولا شيء أقوى في حماية النظام ووقايته من منع الخارجين عليه، لأن الخروج عليه يهدد كيانه، ويعرضه للسقوط والتداعي..
إن الخروج على الإسلام والارتداد عنه، إنما هو ثورة عليه والثورة عليه ليس لها من جزاء إلا الجزاء الذي اتفقت عليه القوانين الوضعية فيمن خرج على نظام الدولة وأوضاعها المقررة.
إن أي إنسان سواء كان في الدول الشيوعية أم الدول الرأسمالية، إذا خرج على نظام الدولة، فإنه يتهم بالخيانة العظمى لبلاده والخيانة العظمى جزاؤها الإعدام.
فالإسلام في تقرير عقوبة الإعدام للمرتدين منطقي مع نفسه ومتلاق مع غيره من النظم". [فقه السنة (2/457)].
راجع أيضا [كتاب الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي (2/101، 188)]
وخلاصة القول أن الارتداد عن الإسلام تمرد على النظام، وإضعاف للجماعة، وتكثير لسواد الأعداء وإفشاء لأسرار المسلمين الخطيرة، وغير ذلك مما لا يتسع له المقام..
شبهة من جعل المرتد كالكافر الأصلي في حرية الاعتقاد
وما زعمه بعض المعاصرين، من المساواة بين المسلم المرتد والكافر الأصلي، في أن لكل منهما حرية الاعتقاد، ودخولهما في النهي عن الإكراه في الدين، الوارد في كتاب الله، مثل قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيّ} [آل عمران: (256)]هو زعم باطل، من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: ما سبق من المفاسد المترتبة على ارتداد المسلمين، وتأثيره الخطير على الأمة ودينها...
الوجه الثاني: أن النهي عن الإكراه في الدين، حكم عام أريد به الخاص، وهو الكافر الأصلي الذي لم يدخل في الإسلام، بدليل ما ورد من السنة في حكم المرتد، ولو فرض أن المرتد يدخل في عموم النهي عن الإكراه في الدين، فإنه يجب تخصيصه بما ورد في السنة من حكم المرتد، لأن الخاص مقدم على العام.
الوجه الثالث: إجماع علماء الأمة على القول بحكم المرتد الذي ورد في السنة الصحيحة، وكذلك عمل الصحابة وغيرهم من ولاة الأمور به.
ولا يجوز أن يساوى بين المسلم المرتد عن الإسلام، والكافر الأصلي، لأن الداخل في الإسلام، لا يخلو من أحد شخصين: شخص نشأ مسلما في أسرة مسلمة وشعب مسلم، وهذا لعمر الله جدير بشكر نعمة الله عليه، حيث هيأ الله تعالى له بيئة لم تتلوث برجس الكفر الذي لا يتمكن كثير من أهله من الاهتداء إلى هذا الدين والدخول فيه.
وشخص آخر لم يكن مسلما، ولكنه دخل في الإسلام مختارا حرا لم يكرهه على الدخول فيه أحد، بل دخله بسبب قيام حججه وبراهينه التي تضطر العقل على الاعتراف بأنه الدين الحق الذي لم يعد في الأرض دين حق سواه.
وهو يعلم كذلك أنه لا يجوز لمن دخل في الإسلام الخروج منه إلى غيره
ويعلم أنه بنطقه بالشهادتين، قد أسلم وجهه لله، وأصبح بذلك خاضعا لشرعه الكامل وحكمه العادل الذي إذا ثبت أي حكم من أحكامه، وجب تطبيقه عليه رضيه أو كرهه.
تشكيك يجب رفضه
ومع هذه الأدلة الصحيحة الصريحة في قتل المرتد، والعمل بها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعهد خلفائه الراشدين، وعهود أخرى تلت ذلك، ومع ما نقل من انعقاد إجماع العلماء على العمل بها، نجد من يشكك في تطبيق هذا الحكم في هذا العصر.
وهؤلاء قسمان:
القسم الأول: بعض المنتسبين إلى الإسلام من تلاميذ المستشرقين الذين انبروا لمهاجمة أصول هذا الدين وفروعه، وغالب هؤلاء التلاميذ يفقدون الفقه في دين الله، مع فقدهم الولاء الصادق لله ولرسوله وللمؤمنين.
ولهذا تأثروا بآراء أساتذتهم وقلدوهم في الحق وفي الباطل على غير هدى من الله، ونصبوا أنفسهم وكلاء لهم في البلدان الإسلامية، ناشرين أفكارهم مدافعين عنها، مشككين في كتاب الله وسنة رسوله، وفي صلاحية تطبيق شرع الله في هذه العصور.
القسم الثاني: بعض العلماء الأفاضل وبعض الكتاب، هالتهم الهجمات الشديدة، التي يشنها أعداء الإسلام الذين لم يزالوا ولا زالوا ولن يزالوا، يحاربون أصول الإسلام و فروعه، حربا شاملة لكتابه وسنة رسوله، ومناهجه وشريعته ودعاته وعلمائه، ووسائل انتشاره، من مال واقتصاد وتعليم وإعلام وغير ذلك مما لا يخفى على أحد اليوم.
حاربوا هذا الدين بكل وسيلة أتيحت لهم، وعلى رأس هذه الوسائل القوة العسكرية التي احتلوا بها بعض بلدان المسلمين، وهددوا بها بعضها الآخر، متذرعين بحقوق الإنسان التي تحوي موادها حرية الاعتقاد الشاملة للخروج من دين إلى دين آخر، سواء كان الخارج فردا أو جماعة.(3/162)
ومما لا شك فيه أن إخراج المسلمين من دينهم هو الهدف الأساسي عند اليهود والصليبيين والوثنيين، ولم نر هجوما شنوه في الماضي، ويشنونه في الحاضر، وسيشنونه في المستقبل، على أي دين وجد في الأرض مثل هجومهم على دين الإسلام، فهو هدفهم الرئيس من حملاتهم الظالمة اليوم وقبل اليوم وبعد اليوم، كما قال تعالى:
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة (120)]
وقال تعالى:
{وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة (217) البقرة]
ولقد تدخل أعداء الله في كل شأن من شئون هذا الدين، وبخاصة في أصول ديننا وشريعتنا، وهاهي مؤسساتهم التي تدعمها الدول الغربية، تلح على الأمم المتحدة - التي تسيرها الدولة المعتدية على أمتنا - لحماية المرتدين عن الإسلام مما تسميه اضطهادا - هذا مع العلم أن كثيرا من المرتدين لا يقام عليهم حكم الشرع، في غالب حكومات الشعوب الإسلامية:
"هيئة تنصيرية تطالب بحرية الردة "
وجهت منظمة تنصيرية إنجليزية نداءً للأمم المتحدة يوم الأربعاء 29 يوليو؛ كي تتصدى لاضطهاد المرتدين عن الدين في البلدان الإسلامية على حد زعمهم.
وجاء ذلك في الوقت الذي أشادت فيه جماعات حقوقية بما ورد في تقرير التنمية البشرية لعام 2004 الصادر عن الأمم المتحدة من التأكيد على أن "الأفراد يجب أن يكونوا أحراراً لا في انتقاد الدين الذي ولدوا عليه فحسب، بل وفي التحول عنه أيضاً إلى دين آخر أو البقاء بلا دين".
وجاء نداء الأربعاء طبقاً لموقع الإسلام اليوم في شكل التماس أعدته جماعة نصرانية بريطانية اسمها صندوق برنابا "Barnaba Fund" دعت فيه مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة والحكومات والهيئات الدولية، إلى رفع أصواتها وإثارة هذه القضية "كأمر ملح" مع التجمعات الإسلامية.
وقال مدير الدعاية بالصندوق بول كوك الذي رحب بما ورد في تقرير التنمية البشرية باعتباره "تأكيداً مشجعاً جدّاً" على "حق الردة" إن جهود جماعته من أجل الدخول في حوار مع الهيئات الإسلامية بشأن هذا الأمر قوبلت بالصمت..
يذكر أن حد الردة غير مطبق في معظم الدول الإسلامية خاصة أن أحكام الشريعة الإسلامية كلها معطلة."
[مجلة المجتمع، عدد: 1613، تاريخ 7/8/2004م المجتمع الإسلامي]
أقول: إن هذا الهجوم الشديد وهذه الحملات الظالمة التي ما فتئ أعداء الإسلام يشنونها عليه، جعلت بعض العلماء الأفاضل الغيورين وبعض الكتاب في هذا العصر، يتحفزون لرد الشبهات التي أُطْلِقت سهامها إلى صميم هذا الدين واتهام نصوصه بالتعارض والتناقض، ومن ذلك ما زعموه من تعارض بين قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة (256)] وما ورد من النصوص في قتل المرتد.
ومن هؤلاء العلماء والكتاب من نفى قتل المرتد مطلقا، ومنهم من نفى قتل بعض المرتدين دون بعض.
ألسنا نرى ونسمع بعض المرتدين عن الإسلام يجاهرون في وسائل الإعلام كلها: الفضائيات والإذاعات، والصحف والمجلات، والشبكة العالمية للمعلومات "الإنترنت" وينصبون أنفسهم مفتين يهاجمون ما علم من الدين بالضرورة؟
أما تعليل إسقاط عقوبة المرتد بأنه "لا يقصد بها العبث بشعور أو شعائر المسلمين!".
فنقول: إن مناط عقوبة الردة هو وقوعها مستوفية شروطها، فإذا خرج من دخل في الإسلام منه، فقد استحق هذه العقوبة الشرعية، ولسنا مكلفين بالتنقيب عن قصده من ردته...
ثم نقول كيف سيكون شعور أبوي المرتد عن الإسلام، وشعور إخوانه وأبنائه وزوجه، وأسرته وجيرانه وأصدقائه، وشعور كل مسلم عَلِم بخروج عضو من أعضاء أمته من عقيدتها ودينها؟ هل سيقيمون له احتفالا يحتفون بردته؟
وإذا لم تكن الردة عن الإسلام استهزاء بدين الله، فما هو الاستهزاء؟ هل الإسلام ملعب كرة أو صالة عرض سينمائي، يحق لكل إنسان أن يحمل على صدره بطاقة للدخول فيهما والخروج منهما متى شاء؟
ثم نقول مرة أخرى: إننا لم نر مرتدا عن الإسلام، خرج منه بهدوء كما قال الكاتب، مع استثناء الجهال الذين يضلهم المنصرون في أدغال أفريقيا أو غابات بورنيو، وحتى هؤلاء إذا ارتد منهم كبير الأسرة أو كبير القبيلة لحق به أتباعه.
بل إن الذين يعلنون ردتهم وكفرهم بالإسلام، يصبحون مع ردتهم دعاةً إلى ما انتقلوا إليه من دين محرف، أو منحازين إلى مؤسساته مستهزئين بالإسلام وأهله وشعائره وعلمائه، متخذين كل وسيلة متاحة لنشر أفكارهم وهجومهم على هذا الدين.
===============
. ثانياً: تقوم الديمقراطية على مبدأ حرية التدين والاعتقاد،
فللمرء - في ظل الأنظمة الديمقراطية - أن يعتقد ما يشاء، ويتدين بالدين الذي يشاء، ويرتد إلى أي دين وقت يشاء، وإن كان هذا الارتداد مؤداه إلى الارتداد عن دين الله تعالى إلى الإلحاد وعبادة غير الله عز وجل ..!
... وهذا أمر لا شك في بطلانه وفساده، ومغايرته لكثير من النصوص الشرعية، إذ أن المسلم لو ارتد عن دينه إلى الكفر، فحكمه في الإسلام القتل، كما في الحديث الذي يرويه البخاري وغيره: " من بدل دينه فاقتلوه " وليس فاتركوه .. فالمرتد لا يصح أن يُعقد له عهد ولا أمان، ولا جوار، وليس له في دين الله إلا الاستتابة فإن أبى فالقتل والسيف(1) .(3/163)
وسيرة الصحابة - رضوان الله عليهم - مع المرتدين في حروب الردة وغيرها معروفة لدى الجميع .
ومعلوم كذلك أن الإسلام انتهى حكمه في أهل الكتاب، ومعهم المجوس كما هو الراجح، إلى إحدى ثلاث: إما الإسلام - والإسلام يجب ما قبله - وإما الجزية وهم صاغرون، وإما القتل والقتال .
... أما الملحدون الذين يقولون: لا إله في الوجود والحياة مادة، ومعهم عبدة الأوثان والأصنام من العرب وغيرهم فليس لهؤلاء في دين الله إلا الإسلام أو القتل والقتال ..
... قال تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} الأنفال:39 .
... وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين أنه قال: " أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله " .
... وفي رواية عند مسلم:" من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله، حَرُمَ ماله ودمه وحسابه على الله " .
... وقال صلى الله عليه وسلم :" بعثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم "(1) .
... وكذلك يوم نزول عيسى عليه السلام - كما دلت على ذلك السنة - فإنه يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويُسقط الجزية، ولا يقبل من مخالفيه _ بما فيهم أهل الكتاب - إلا الإسلام، أو القتل والقتال ..
ـــــــــــــــــ
(1) رواه أحمد، والطبراني، وأبو يعلى، صحيح الجامع الصغير:2831 .
أما الملحدون الذين يقولون: لا إله في الوجود والحياة مادة، ومعهم عبدة الأوثان والأصنام من العرب وغيرهم فليس لهؤلاء في دين الله إلا الإسلام أو القتل والقتال
…قال تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} الأنفال:39
…وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين أنه قال: " أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله " .
…وفي رواية عند مسلم:" من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله، حَرُمَ ماله ودمه وحسابه على الله " .
…وقال صلى الله عليه وسلم :" بعثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم "(1) .
…وكذلك يوم نزول عيسى عليه السلام - كما دلت على ذلك السنة - فإنه يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويُسقط الجزية، ولا يقبل من مخالفيه _ بما فيهم أهل الكتاب - إلا الإسلام، أو القتل والقتال ..
ـــــــــــــــــ
(1) رواه أحمد، والطبراني، وأبو يعلى، صحيح الجامع الصغير:2831 .
أقول: على ضوء هذه الحقائق والنصوص، وغيرها من النصوص الشرعية ذات العلاقة بالمسألة يجب أن يُفهم قوله تعالى: { لا إكراه في الدين} ، وليس كما يفعل لصوص العلم من خدَمَة الطواغيت حيث يقتطعون هذه الآية من مجموع النصوص ذات العلاقة بالموضوع، ليسوغوا وجود وحرية حركات الردة والإلحاد والزندقة الواسعة الانتشار في زماننا المعاصر ..
…ثم أن الديمقراطية - كما يمارسها الديمقراطيون - إذ تقبل بحرية الاعتقاد والتدين، والانتقال من دين إلى دين، فهي لا تقبل ولا تسمح أن يرتد نظام أو شعب من دين الديمقراطية إلى أي دين أو نظام آخر، ولو حصل مثل هذا المكروه سرعان ما يعلنون الحرب والعداء، ويعملون الحصارات الاقتصادية وغيرها التي قد تبيد شعباً وجيلاً بأكمله، كل هذا من أجل عيون الديمقراطية، وحماية الديمقراطية ..!
أرأيت التناقض والتغاير، فما يجوز لهم لا يجوز لغيرهم، والممنوع عن غيرهم جائز لهم ..؟! مقالات وكتب أبو بصير - (ج 35 / ص 21)
=============
الرد على شبهة بعضهم لا يفكر المسلم أن يجمع الناس بالقهر والقوة على دينٍ واحد
مقالات وكتب أبو بصير - (ج 35 / ص 161)
5- قوله: ولذلك لا يفكر المسلم أن يجمع الناس بالقهر والقوة على دينٍ واحد، هذا ضد إرادة الله .. الخ !
هو قول باطل ومردود لأن مفاده تعطيل الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورد مئات النصوص الشرعية التي تأمر بالجهاد في سبيل الله تعالى لإعلاء كلمته في الأرض، وأطر العباد على الدخول في دين الله، وطاعة سلطانه .
فالناس - في نظر الإسلام - ليس لهم إلا أن يدخلوا في الطاعة؛ إما طاعة عبادة وتوحيد لله - عز وجل - فيكونون بذلك مسلمين موحدين، وإما طاعة انصياع ورضوخ لسلطان الإسلام وحكمه بعد أن يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، كما قال تعالى: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون} التوبة:29.
... وقال تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} الأنفال:39. أي تكون الطاعة كلها لله؛ إما طاعة عبادة وتوحيد، وإما طاعة خضوع وانقياد مع بقائهم على الكفر إن آثروا البقاء على الكفر .
... وفي الحديث، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة { كنتم خير أمة أخرجت للناس} قال: خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم، حتى يدخلوا في الإسلام .
... وقال صلى الله عليه وسلم :" عجب اللهُ من قومٍ يدخلون الجنة في السلاسل " البخاري. وفي رواية عند أحمد:" قوم يُساقون إلى الجنة مقرنين في السلاسل ".(3/164)
وهم الذين يدخلون في الإسلام من أسرى الحرب وهم له في أول أمرهم كارهين، ثم ما إن يدخلوا الإسلام ويتعرفوا على حقيقته وعظمته إلا وتنشرح صدورهم لدين الله، وينقلب كرههم وبغضهم حباً وإيماناً.
... وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين:" أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله ".
... وقال صلى الله عليه وسلم :" جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم "(1).
... وغيرها كثير من النصوص الشرعية التي تبطل زعم وتحريف الدكتور للحقيقة الآنفة الذكر، فإن قيل كيف يُفهم ويُفسر قوله تعالى: { لا إكراه في الدين} البقرة:256.
... أقول: لا تعارض ولا تناقض بين نصوص الشريعة ولله الحمد، والتوفيق بين هذا النص وبين ما تقدم من نصوص، يكون كالتالي:
... أ- أن من دخل في دين الله تعالى وصار من المسلمين لا يجوز ولا يُسمح له أن يرتد عن دينه إلى أي دينٍ أو مذهب مكفر آخر، لقوله صلى الله عليه وسلم :" من بدل دينه فاقتلوه ". وكذلك قتال أبي بكر - رضي الله عنه - للمرتدين، وأطرهم عل الحق وإلى الدين ثانية أمر معروف للجميع، والمسألة محطة إجماع جميع أهل العلم بلا مخالف . ...
وعليه لا حرية للمسلمين أن يرتدوا عن دينهم الإسلام إلى دين الكفر والشرك ثانية، وكل دين غير دين الإسلام هو دين الكفر والشرك، وقوله تعالى: { لا إكراه في الدين} لا يعنيهم في شيء، وليس لهم فيه أدنى حظٍ أو نصيب .
... وكان ينبغي للشيخ الدكتور أن يشير إلى هذا الأمر وبخاصة أن كلامه كان موجهاً إلى المسلمين وإلى مجتمعاتهم، التي يرتد فيها كثير من ــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد، وأبو دواد، والنسائي وغيرهم، صحيح الجامع:3090.
المسلمين عن دينهم الحنيف، ويتدينون بدين الأحزاب العلمانية الكافرة كالشيوعية، والبعثية، والناصرية وغيرها من الأحزاب الباطلة التي ابتليت بها الأمة، تحت عنوان الحرية، وعنوان { لا إكراه في الدين}!
... ب- أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومعهم المجوس من عبدة النار، يجب جهادهم وقتالهم إلى أن يدخلوا في الإسلام، أو يدخلوا في طاعة سلطانه وحكمه بعد أن يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، فحينها لا يجوز حملهم على الدخول في الإسلام أو إكراههم على ترك دينهم وتغيير معتقداتهم، وقوله تعالى: { لا إكراه في الدين} يُحمل على هذه المساحة والحالة فقط (1).
... ج- ما سوى ذلك من الملل والنحل من الملحدين والشيوعيين واللادينين، وكذلك الأرواحيين من عبدة الشياطين والأوثان، الراجح فيهم أن الجزية لا تُقبل منهم، وأنه ليس لهم في دين الله تعالى إلا الإسلام، أو القتل والقتال .. والله تعالى أعلم .
... د- في زمن نزول عيسى عليه السلام يسقط خيار الجزية، ولم يعد للناس في دين الله - بما فيهم أهل الكتاب والمجوس - إلا الإسلام أو القتل والقتال؛ أي أن الآية الكريمة { لا إكراه في الدين} يتوقف العمل بها في زمن عيسى عليه السلام حيث يضع الجزية عن جميع الملل، ولا يقبل منهم إلا ـــــــــــــــــ
(1) ممن تُحمل عليهم الآية الكريمة كذلك الذين يدخلون في عهد وأمانٍ أو صلح مع المسلمين ..
الإسلام أو السيف كما دلت على ذلك السنة .
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ليس بيني وبينه نبي - يعني عيسى عليه السلام - وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه: رجل مربوعٌ إلى الحمرة والبياض، بين ممصَّرتين - ثياب فيها صفرة خفيفة - كأن رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويُهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويُهلك المسيح الدجال، فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يُتوفى فيصلي عليه المسلمون "(1).
أقول: على ضوء هذا التقسيم والتفصيل ينبغي أن يُفهم قوله تعالى: { لا إكراه في الدين}، وليس كما يفعل علماء السوء والسلاطين حيث يحملون الآية على كل متمردٍ وزنديقٍ ومرتد ..!!
قال الدكتور القرضاوي: وجدنا القرآن يعبر عنه في آياتٍ كثيرة ويسميه باختلاف الألوان، اختلاف التنوع، القرآن يقول: { ألم ترَ أن الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانه ومن الجبال جُدَد بيض وحُمْرٌ مختلف ألوانها وغرابيب سود . ومن الناس والدواب والأنعام مختلفٌ ألوانه كذلك} فاطر:27-28.
فاختلاف الألوان أو اختلاف الأنواع هذا أمر يقوم عليه الكون كله، اختلاف التنوع وهذا لا بد أن يوجد في الحياة السياسية، بل الحياة السياسية قابلة للتنوع أكثر من غيرها !
(1) صحيح سنن أبي داود:3635 .
================
هل الإسلام دين دعوة فقط ؟
مقالات وكتب سفر الحوالي - (ج 6 / ص 308)
ولكن اقتضت حكمة الله تَعَالَى أن يكون في النَّاس أهل حق واستقامة وهدى، وأهل باطل وغواية وضلالة كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:118-119] وهذا أمر فوق السؤال، فلا يقال: لماذا؟ فكلمة الله تمت بذلك، وقضى به وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا أي: ولو شئنا لوفقناها وآمنت واستقامت عَلَى الحق، أما قوله: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ .(3/165)
فالمقصود هنا: هداية الدلالة والإرشاد، أي: دللناه وأرشدناه وبينا له معالم الطريق، وعليه أن يختار بعد ذلك إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً وهذا راجع إِلَى إرادته، أما الذين أعطاهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هداية التوفيق فهم المؤمنون الذين آمنوا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا أي: الأمر كله راجع إِلَى مشيئتنا، فلو شئنا لكان النَّاس أمة واحدة عَلَى الهدى والحق، ولكن حق القول مني، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً [الأنعام:115].
فهذه الكلمات هي الكلمات الكونية، وليست الكلمات الشرعية، فالقرآن كلام الله عزوجل هو كلماته الدينية الشرعية، أما كلماته الكونية فهي أوامره التي خلق بها الأشياء .
ويقول الله تَعَالَى في سورة يونس : وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99] فمن كفر فإنما كفر بمشيئة الله، ومن آمن فإنما آمن بمشيئة الله هذا وجه الدلالة، ولا إشكال فيه، وقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وموضع الآية هنا واضح إذا فهمنا مدلول الآية كلها.
نجد أن كثيراً من المهزومين أو المخدوعين يقولون: إن هذا الدين دين دعوة فقط لا جهاد ولا قتال فيه، وإنما يدعو النَّاس إِلَى أن يؤمنوا به بطواعيتهم وباختيارهم، ويستدلون بقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ويقول: قال تَعَالَى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة:256].
إذاً: ليس في الإسلام قتال من أجل الدين ولا جهاد، فإن قلنا: فهذه الفتوحات الإسلامية، والغزوات النبوية قرابة ثلاثين غزوة وقرابة المائة سرية، والصحابة من بعده وصلوا إِلَى نهاية العالم من جهة الغرب إِلَى المحيط الأطلسي ، ولم يكن معروفاً في ذلك الوقت أن وراء هذا المحيط عالماً آخر.
وتوغلوا من جهة الشرق حتى وقَّع لهم ملك الصين على دفع الجزية، ولم يبق شيء من العالم إلا أوروبا وهي قبائل همجية في الشمال وأجزاء قليلة في الجنوب، كيف يكون هذا المجد وهذا الكسب؟ قالوا: هذه حروب دفاعية فقط، فقريش أرادت أن تعتدي عَلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقاومها وحاربها ويستدلون بقوله تعالى:وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190].
فيأخذون هذه الآية مع الآيتين السابقتين ويشكلون منها قواعد وأحكام يقررونها، وهي أن هذا الدين لا جهاد فيه فيُقَالُ لهم: إن معنى قوله تعالى:لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أنه قد كتب أزلاً وقدراً أن أناساً سيموتون عَلَى الكفر، وستمتلئ منهم جهنم، أما قوله:أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فمعناها: أنهم لن يؤمنوا مهما بذلت وحاولت، وقد اختاروا الكفر بإرادتهم واختيارهم، وهذا مطابق لما قد كتب عليهم كوناً وقدراً.
وليس المقصود من هذا أنك لا تجاهدهم، بل معناها: حتى وإن جاهدتهم فلن يؤمنوا، سواء دعوتهم سراً أو جهراً بالحكمة أو السيف؛ لأنك لا تستطيع أن تكره النَّاس حتى يكونوا مؤمنين، فقد اختاروا ذلك اختياراً، ولن يرجعوا عن ذلك، ولا يمكن واقعاً أن يتحول النَّاس إِلَى أمة واحدة، فاقتضت حكمة الله تعالى وتمت بذلك كلمته أن يكون النَّاس أمة خير وأمة ضلال، وقد جعل الله لكل نبي عدواً من المجرمين لحكمة .
إذاً: لا تستغرب أيها النبي لأن لك أعداءً، وأنت تحرص عَلَى هدايتهم ومع ذلك لن يهتدي أحد أبداً.
ولاعلاقة لهم في كونك تجاهدهم أو لا تجاهدهم، فأمر الآية يتحدث عن أوامر كونية أزلية، وليس عن أوامر أو أحكام شرعية تعبدية؛ فحتى مع الجهاد -وهو مشروع بلا ريب لكي يدخلوا في الدين- لن يؤمن إلا من كتب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى له الإيمان، لكن يجب عليك أن تقاتل كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ [التوبة:73] أي: جاهدهم، لكن ليس في حولك ولا في قوتك أن تدخل الإيمان إِلَى قلوبهم، ولم يكلفك الله به، ولكن كلفك أن تدعوهم وأن تجاهدهم، إذاً لا تعارض ولا تناقض بين هذا وذاك.
================
هل انتشر الإسلام بالسيف؟
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالسيف بين يدي الساعة ليخرج الناس من الظلمات الى النور وبعد:
1-أهداف الفاتحين
"الله ابتعثنا لنحرج من شاء من عبادة العباد الى عبادة الله عز وجل و حدة ومن جور الاديان الى عدل الاسلام ومن ضيق الدنيا الى سعة الدنيا و الاخرة"
كلمات عظيمات واضحات بينات صدع بها ربعي بن عامر في وجه عظيم فارس ، صارت مناراً لكل مجاهد بعده و بياناً لهدف الجهاد.
إن الله قد بعثنا لإزالة كل طاغوت على وجه يستعبد الناس، سواءاً كان هذا الطاغوت حجراً أو بشراً او فكرةً او خمراً، ثم بعد ذلك يهدي الله من يشاء ، هو لا نحن ، فليس الجهاد لإكراه الناس على الاسلام فـ(لا إكراه في الدين) و لكنَّ المسلم " يقاتل في سبيل الله , لا ليكره الناس على عقيدته هذه وعلى تصوره ; ولكن ليتبين الرشد من الغي . وتنتفي عوامل الفتنة والضلالة . ثم ليكن من أمر الناس بعد ذلك ما يكون:(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي . فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها , والله سميع عليم)"(في ظلال القران).
2- منزلة هذا النوع من الجهاد في الاسلام:
وهذا النوع من الجهاد شأنه عظيم عند الله عز وجل:(3/166)
قال ابن القيم في كتابه الفروسية " وجهاد الطلب وهو طلب العدو في دياره لا يقدم عليه إلا سادات المؤمنين ".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (فإذا كان ابتداء , فهو فرض على الكفاية , إذا قام به البعض سقط الفرض عن الباقين , وكان الفضل لمن قام به كما قال الله تعالى { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله }) (الفتاوى 28/359).
وقال الإمام ابن حزم في المحلي (7/291) ( والجهاد فرض عين على المسلمين فإذا قام به من يدافع العدو ويغزوهم في عقر دارهم ويحمي ثغور المسلمين سقط فرضه عن الباقين , وإلا فلا ) (النصوص الثلاثة اعلاه منقولة من صهيل الجياد)
3- مقارنة
قال تعالى" وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)" سورة النساء.
"والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت , لتحقيق مناهج شتى - غير منهج الله - وإقرار شرائع شتى - غير شريعة الله - وإقامة قيم شتى - غير التي أذن بها الله - ونصب موازين شتى غير ميزان الله !
ويقف الذين آمنوا مستندين الى ولاية الله وحمايته ورعايته .
ويقف الذين كفروا مستندين إلى ولاية الشيطان بشتى راياتهم , وشتى مناهجهم , وشتى شرائعهم , وشتى طرائقهم , وشتى قيمهم , وشتى موازينهم . . فكلهم أولياء الشيطان .
ويأمر الله الذين أمنوا أن يقاتلوا أولياء الشيطان ; ولا يخشوا مكرهم ولا مكر الشيطان:
فقاتلوا أولياء الشيطان , إن كيد الشيطان كان ضعيفًا .
وهكذا يقف المسلمون على أرض صلبة , مسندين ظهورهم إلى ركن شديد . مقتنعي الوجدان بأنهم يخوضون معركة لله , ليس لأنفسهم منها نصيب , ولا لذواتهم منها حظ . وليست لقومهم , ولا لجنسهم , ولا لقرابتهم وعشيرتهم منها شيء . . إنما هي لله وحده , ولمنهجه وشريعته . وأنهم يواجهون قوما أهل باطل ; يقاتلون لتغليب الباطل على الحق . لأنهم يقاتلون لتغليب مناهج البشر الجاهلية - وكل مناهج البشر جاهلية - على شريعة منهج الله ; ولتغليب شرائع البشر الجاهلية - وكل شرائع البشر جاهلية - على الله ; ولتغليب ظلم البشر - وكل حكم للبشر من دون الله ظلم - على عدل الله , الذي هم مأمورون أن يحكموا به بين الناس . . كذلك يخوضون المعركة , وهم يوقنون أن الله وليهم فيها . وأنهم يواجهون قوما , الشيطان وليهم فهم إذن ضعاف . .إن كيد الشيطان كان ضعيفا . . "(الظلال)
فمن لم يسمع بدعوة السلام عرضنا عليه دعوتنا، فان أبى رضينا منه الدخول تحت طاعتنا ودفع الجزية ، وهذا أمر مهم يذل الطواغيت ويفتح اعين الشعوب لمعرفة هذا الدين الذي اذل طاغوتهم فان أبوا قاتلناهم حتى تكون كلمة الله هي العليا و كلمة الطاغوت هي السفلى، فإن تمكنا منهم و استقرت الارض بيد أهل الاسلام؛ تركنا الناس يختارون عقيدتهم من غير إكراه، و لكن النظام كله قد تغير و البيئة قد تغيرت فقد صارت نقية اسلامية يستطيع فيها الكافر ان يميز بين الحق و الباطل.
4-موجز تاريخي مبسط
ويذكر ابن كثير موجزاً لطيفاً لتاريخ الجهاد فيقول:" يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين"
أمر اللّه تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام، ولهذا بدأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلما فرغ منهم وفتح اللّه عليه مكة والمدينة والطائف وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب، ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين اللّه أفواجاً شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم لأنهم أهل الكتاب، فبلغ تبوك، ثم رجع لأجل جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال، وذلك سنة تسع من هجرته عليه السلام. ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجة الوداع، ثم عاجلته المنية صلوات اللّه وسلامه عليه بعد حجته بأحد وثمانين يوماً، فاختاره اللّه لما عنده، وقام بالأمر بعده وزيره وخليفته أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه، فأدى عن الرسول ما حمله، ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبدة الصلبان، وإلى الفُرس عبدة النيران، ففتح اللّه ببركة سفارته البلاد، وأرغم أنف كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد، وأنفق كنوزهما في سبيل اللّه، كما أخبر بذلك رسول اللّه، وكان تمام الأمر على يدي وصيه من بعده، وولي عهده الفاروق عمر بن الخطاب، رضي اللّه عنه، فأرغم اللّه به أنوف الكفرة الملحدين، واستولى على الممالك شرقاً وغرباً، ثم لما مات أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار على خلافة عثمان بن عفان رضي اللّه عنه شهيد الدار، فكسى الإسلام حلة سابغة، وأمدت في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجة اللّه البالغة فظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. وعلت كلمة اللّه وظهر دينه، وبلغت الملة الحنيفة من أعداء اللّه غاية مآربها، وكلما علوا أمة انتقلوا إلى من بعدهم ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار امتثالاً لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار}.(تفسير ابن كثير-سورة التوبة:123)
ولماّ ضعف المسلمون كر عليهم الكفار فأخذوا من أيديهم الاندلس و غيرها فماذا كان الحال؟(3/167)
إستعبد الكفار اهل تلك الارض من جديد و اظهروا الفساد و واجبروهم على ترك دينهم، وما محاكم التفتيش منا ببعيد؛ فقد أجبر المسلمون على اعتناق النصرانية و تغيير اسمائهم و استبيحت مساجدهم وحولت الى كنائس في الوقت الذي كان فيه النصارى يتمتعون بالامن و الامان في ربوع دولة الاسلام في الشرق و الغرب. يقول المقري: "وكان الإفرنج ـ لعنهم الله ـ لما استولوا على أهل المدينة يفتضون البِكر بحضرة أبيها، والثيب بعين زوجها وأهلها، وجرى في هذه الأحوال ما لم يشهد المسلمون مثله قط". (نفح الطيب:4/450)
ويقول ابن عذاري: "وجد الطاغية في حرق من خرج من المدينة إلى الحملة، فهان على الناس الإحراق بالنار، فعيث بهم بالقتل، وعلقت جثثهم في صوامع الأرباض وبواسق الأشجار". (البيان المغرب :4/38.)
ولما دخل النصارى مدينة مرسية بالصلح عام (664هـ) صنعوا فيها الأفاعيل، يقول ابن عذاري متحدثاً عن أهلها: "وخرجوا منها بأمان إلى الرشاقة، فسكنوا بها مدة في عشرة أعوام إلى أن كان من أمرهم ما كان، حين أخرجوهم سنة ثلاث وسبعين وغدروهم في الطريق أجمعين، وذلك بموضع يعرف بوركال، فسبوا النساء والأطفال، وقتلوا جميع الرجال، وقد كانوا أخرجوهم بالأمان دون سلاح، فتحكّموا فيهم كيف شاؤوا بالسيوف والرماح". (البيان المغرب 3/438)
والحديث عن شنائع هؤلاء يطول، و يكفينا ما نراه من أحفادهم اليوم.
ومع هذا الضعف و الإنهزام إلاّ أن قوافل الدعاة فتحت اندونيسيا وماليزيا و اجزاء كبيرة من الهند من غير قتال، الامر الذي أثار توينبي و غيره من مؤرخي الغرب و عجبوا منه، وما ذاك الا لقوة هذه العقيدة و صفائها ووضوحها.
واليوم نشهد أسوأ مجازر التاريخ ترتكب في فلسطين و العراق و افغانستان و الشيشان و أندونوسيا و الصين الشرقية و غيرها من أرض الاسلام وهذا ديدن الطواغيت على مر الزمن لا يرضون باقل من تعبيد الناس لهم و سلب خيرات ارضهم ونشر ثقافتهم الفاجرة التي تعمي و تصم.
5-هل يمكن أن يكون الطاغوت عادلاً؟
وقد يقول قائل ألا توجبون جهاد الكافر و لو كانوا ملتزمين بمبادئ الديمقراطية و العدل و المساوة؟!
فنقول له :اي نعم و الله.
• وهل الديمقراطية الا طاغوت من الطواغيت يعبد الناس من خلالها بعضهم البعض؟
• وهل الحرية المطلقة إلاّ غشاوة عظيمة تعمي البصائر و تضل عن سواء السبيل؟
ألا ترى أنَّ غالب أهل البلاد الديمقراطية لا يفكرون بإله ولا يعيرون لذلك بالاً فقد شغلهم الجنس و الكأس عن كل ذلك؟
آلاف من الناس يعيشون و يموتون لا يدرون من اين جاؤا و الى اين ساروا، اهذا خير؟!!
هل كان الاولى ترك اهل الهند يعبدون البقر و الحجر ؟
سل إخواننا المسلمين في الهند!!
• اطفال صغار مغلوبون على امرهم تتولى المدارس تربيتهم صباح مساء في الغرب الكافر، لا يرجع الطفل الى بيته الا بعد الخامسة مساءا بعد ان حضر دروس العلوم التي تؤكد على مبادئ الالحاد كحقيقة علمية و دروس التاريخ المزور و دروس الثقافة الجنسية ،و سرعان ما يخرج ليطبق ما شاهد من افلام مع زميلاته في الصف!
قل لي بربك ماذا تتوقع من هذا المراهق؟
هل من الخير ترك هؤلاء للضياع؟!!
• حانات و خمارات في كل ركن وزاوية يدخلها الصغار و الكبار، النساء و الرجال ليفقدوا عقولهم فضلا -عن صحتهم- برهة من الزمن ، حتى صارت ثقافة الحانة جزءاً اصيلاً من ثقافة الغربي اليوم.
• مجموعة من حثالى السياسيين يتحكمون في عقول الامم و يقودنهم حسب رغباتهم و نزواتهم يزينون للناس الباطل و يرغبونهم فيه ، قد اخذوا أجورهم من الشركات الكبرى التي تمول حملاتهم الإنتخابية الديمقراطية.
فالحرب على الانسانية شعواء قد سعر نارها طواغيت الفكر و السياسة و العلم و الجنس والمال، وصدق سيد قطب اذ يقول "إن الذين يحاربون حقيقة الإيمان أن تستقر في القلوب ; ويحاربون منهج الإيمان أن يستقر في الحياة ; ويحاربون شريعة الإيمان أن تستقر في المجتمع . . إنما هم أعدى أعداء البشرية وأظلم الظالمين لها . ومن واجب البشرية - لو رشدت - أن تطاردهم حتى يصبحوا عاجزين عن هذا الظلم الذي يزاولونه ; وأن ترصد لحربهم كل ما تملك من الأنفس والأموال . . وهذا هو واجب الجماعة المسلمة الذي يندبها إليه"(الظلال)
إنَّ عامة المجتمعات الكافرة قد وضع بينها و بين الاسلام حواجز منيعة فلا يمكن لها أن ترى الحق حتى تهدم هذه السدود عن بكرة ابيها،و لنا في التاريخ خير شاهد، فالمسلمون لما فتحوا البلاد وأزاحوا الطاغوت بكل اشكاله دخل الناس في دين الله أفواجا في الشام و العراق و مصر و ايران و الهند و الاندلس، اما اليوم فرغم دخول الناس في دين الله باعداد متزايدة إلاّ أن نسبة الداخلين اليوم في الدين مقارنة الى ايام الفتح هي نسبة تكاد تكون ملغاة وذلك ان الداعية يواجه في دعوته انظمة جبارة هي اكبر من طاقته كفرد او جماعة صغيرة.إننا ملزمون بامر ربنا الذي بعث نبينا رحمة للعالمين ان نقاتل لنخرج هؤلاء المساكين من الظلمات الى النور، من عبادة بوش و بلير و البرلمان و الاصنام الى عبادة الله عز وجل ومن جور الاديان: الديمقراطية و الشيوعية و الراسمالية و البوذية..الخ الى عدل الاسلام ومن ضيق دنيا الحانة و المكتب و الجنس الى سعة دنيا الاسلام والاخرة.
ملاحظة : أن ما ذكرناه اعلاه عن حال الطواغيت لا يعفي هذه الشعوب و الامم من المسؤلية بل ينالها من الالم و الخوف والقتل بقدر موالاتها لقادتها، فلم يكن التجاهل و الاعراض عن دعوة اهل الحق عذرا لأهل الباطل .
6-ملخص القول:(3/168)
إنَّ وجود اي نظام(عادل(بظن أصحابه) أو ظالم) يحكم الناس بغير الاسلام، هو طاغوت يعمل على دينونة البشر لغير الله عز وجل و لن يكون بإمكان هذه الشعوب التفكير بجد في مسائل الالوهية و الوجود و الحياة و الموت في ظل انظمةٍ قد وضفت المدرسة و التلفاز و الحانة لمحاربة الله عز وجل و لذا شرع لما الجهاد من اجل رفع الغشاوة عن اعين الناس و ارشادهم الى الهدى فمن اسلم فلنفسه و من كفر فان الله غني حميد.
7- هل انتشر الاسلام بالسيف:
الجواب:
قد و ظَّف الاسلام السيف ليدك معاقل الطواغيت وانظمتهم العفنة، وما وظفه أبداً ليجبر الناس على الدخول في دين الله فليس الاسلام بحاجة الى السيف ليدخل القلوب و العقول وصدق ذلك الكافر - على غير العادة - اذ يقول : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة.
وكتب
أبو مارية القرشي
====================(3/169)
الفهرس العام
المفصل في شرح آية لا إكراه في الدين (3)…1
عجز العقل العلماني…1
حرية الاعتقاد…158
المسلمون والذميون:…160
الشروط الواجب توافرها في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر:…166
الجمع بين حديث من بدل دينه فاقتلوه وبين آية لا إكراه في الدين…170
فضل الجهاد والمجاهدين…172
ليس الجهاد للدفاع فقط…185
لا إكراه في قبول الإسلام…206
هل للولد حرية اختيار الدين ؟…207
الرد على شبهة إن عقوبة الردة بقتل المرتد تدخل في حرية العقيدة ومصادرة لها واكراه للانسان على اعتقاده ما لا يريد،…208
الجِهَادُ في سَبِيْل الله…209
قراءة في كتاب إقرأ وربك الأكرم.…230
السلام .. كما جاء في القرآن الكريم ...…235
تأملات في فقه الجهاد…245
القوانين الوضعية هل لها دور في انتشار الردة؟…254
حقيقة الجهاد وأطواره…266
المفهوم الصحيح لتفسر آية لا إكراه في الدين…277
الجهََاد بين عَقيدةِِِِ المسلِمين وَشُبَه المستشرقين…278
مفهوم الديمقراطية عند (الإسلاميين الديمقراطيين)…294
•…مبررات القتال ودوافعه:…317
معنى قول الرسول للمشركين " ... لقد جئتكم بالذبح"…321
الشبهة الثانية عشر إنما شرع الجهاد للدفاع عن النفس فقط…323
حرية العقيدة وحرية الرأي بين الدقة والوضوح وبين التفلت والغموض…326
قتل المرتد إذا لم يتب…333
. ثانياً: تقوم الديمقراطية على مبدأ حرية التدين والاعتقاد،…370
الرد على شبهة بعضهم لا يفكر المسلم أن يجمع الناس بالقهر والقوة على دينٍ واحد…373
هل الإسلام دين دعوة فقط ؟…376
هل انتشر الإسلام بالسيف؟…378(3/169)