( 3- وأما القياس ، فإن الدكتور الترابي لا يريد به قياس الفقهاء والأصوليين الذي له ضوابط وشروط ، وإنما يريد قياساً حراً فطرياً عفوياً ، ليس له أية ضوابط أو قيود ، لأن هذه الضوابط والقيود ـ في زعمه ـ من وضع مناطقه الإغريق ، ثم اقتبسها عنهم الفقهاء ) .
( 4- وأما الاستصحاب ، فإنه وان كان لا يأخذ به فقهاء المسلمين ، ولا يعتبرونه أصلا ً من الأصول يبنون عليه الأحكام الفقهيه ، إلا أن الدكتور الترابي يعتبره أصلاً مهماً ، لكن لا يريده استصحاباً عادياً ، وإنما يريده " استصحابا واسعا " فيقول : تحت عنوان " الاستصحاب الواسع " : " وإذا جمعنا أصل الاستصحاب مع أصل المصالح المرسلة تتهيأ لنا أصول واسعة لفقه الحياة العامة في الإسلام " . فالدكتور الترابي يركز على التوسع في مفهوم الأصول التي أصلها العلماء والأئمة الأقدمون ، ويصر على تسمية كل أصل بذلك . فيقول : " الاستصحاب الواسع " و" القياس الواسع " و" الأصول الواسعة " . وهكذا
وهذا أمر خطير ، إذ يجعل هذه المسميات غير محددة المفهوم ، تتسع لكل تصور ، ولكل ما يخطر بالبال أنه مصلحة ، مع أن المصلحة هي التي اعتبر الشارع أنها مصلحة . وإلا لصار الدين دين مصالح مبنية على اعتبار العقول البشرية ، لا على النصوص السماوية ، وصارت أحكامه أشبه بالقوانين الوضعية التي لا يلحظ فيها الأجانب المصلحة المتبادرة ، ولو كانت مفسدة في الحقيقة والنتيجة ) .
( - وأخيراً لا بأس بذكر بعض الأمثلة من فتاوى تجديدية تمخضت عنها الحركة التجديدية وأفتى بها الدكتور الترابي وهي :
1 - عدم معاقبة المرتد عن دين الإسلام ، وأنه ليس في الردة شيئ .
2- عدم رجم الزاني المحصن .
3- ليس على شارب الخمر حد معين ، وإنما عليه تعزير يعود لرأي الإمام .
4- يجوز للمرأة المسلمة أن تتزوج باليهودي والنصراني !
وغيرها من الفتاوى التجديدية المعاصرة ، وأكثرها النص فيها صريح والإجماع منعقد على خلافها ).
5 - رد أحمد بن مالك :
رد عليه بكتاب " الصارم المسلول على الترابي شاتم الرسول " صلى الله عليه وسلم . وانتقده في عدة أمور ؛ هي :
( 1- تنقصه للأنبياء وافتراؤه عليهم - عليهم السلام - .
2- تنقصه للصحابة - رضي الله عنهم - .
3 - إجازته التوارث بين المسلم والكافر !
4 - انكاره حد الردة ، وحد الرجم للزاني المحصن .
5 - دعوته للرقص !! وقوله بأنه : " تعبير جميل يصور معنى خاصًا لما تنطوي عليه النفس البشرية من شعور .." !
6 - دعوته للاختلاط . ) .
6 - رد الأستاذ فريد الثبيت :
رد عليه ضمن كتابه " دعوة الإخوان المسلمين في ميزان الإسلام " . وقد لخص بعض انحرافاته من رد الطحان ، وكتاب " الصارم المسلول .. " .
7 - رد الأستاذ عبدالفتاح محجوب ابراهيم :
رد عليه بكتاب عنوانه " الدكتور حسن الترابي وفساد نظرية تطوير الدين " .وهو عبارة عن مناقشة ما جاء في كتابيه " تجديد الفكر الإسلامي " و " المرأة بين تعايم الدين .. " . وميزة هذا الرد أنه ذكر في ملحقه خطاب الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - الذي وجهه للترابي يسأله عن صحة ما نسب إليه من انحرافات ، ورد الترابي ( المراوغ ! ) عليه .
وقد ذكر الأستاذ عبدالفتاح أن اثنين من السودانيين ردا عليه أيضا بكتابين ؛ هما :
8 - " نقض ديني لدعوة الترابي التجديدية " لمحمد أحمد حامد . و :
9 - " القضيب المصقول " لعلي زين العابدين . ولم أطلع على الكتابين .
10 - رد الشيخ علي حسن عبدالحميد :
تعرض الشيخ علي الحلبي للترابي في كتابه " العقلانيون أفراخ المعتزلة العصريون " ، حيث قال :
- ( إني أستغرب من ( بعض ) من له منزلة في نفوسنا ممن ( ما يزال ) يصف الترابي بـ ( المفكر ) و ... ( الداعية )!!
فهل ( هؤلاء ) يجهلون حقيقة الترابي وفكره ؟! أم أنهم ( يعرفون ) ، لكنهم يرجحون المصلحة التي توهمتها عقولهم في ذلك بالسكوت عن بيان حقيقته ؟!
فإلى هؤلاء وغيرهم أسوق بعضاً من كلمات الترابي الدالة علي حقيقة فكره ، وأصل منهجه :
يقول ـ هداه الله ـ في كتابه : " تجديد الفكر الإسلامي " ( ص : 26 ) : " أما المصدر الذي يتعين علينا أن نعيد إليه اعتباره كأصل له مكانته فهو العقل ... " !!
ولقد أداه نظره ( العقلاني ) هذا إلى اعتبار الاكتفاء بالكتاب والسنة ( وهماً شائعاً ) فتراه يقول في الكتاب نفسه ( ص : 25 ) : " ومن المعوقات : هناك من يقول : بأن عندنا ما يكفينا من الكتاب والسنة وهذا وهم شائع ، إذ لا بد أن ينهض علماء فقهاء ، فنحن بحاجة إلى فقه جديد لهذا الواقع الجديد " !!
ما هو هذا الفقه الجديد ؟!
هل هو خارج عن الكتاب والسنة غير متصل بهما ؟!
أم صادر عنهما منبعث منهما ؟!
إن كان الأول ـ وهو ما يريده ـ فهو مردود مرفوض ! بل هو من أبواب الردة ، ـ نسأل الله العافية .(1/490)
وإن كان الثاني ـ وهو ما وهمه ـ فهو إبطال لكلامه من أساسه ! بل انظر إلى تلك الباقعة العظيمة التي تقيأها هذا الترابي حيث يقول في محاضرة عنوانها " تحكيم الشريعة " ( مبيحاً ) الردة عن الإسلام : " وأود أن أقول : إنه في إطار الدولة الواحدة ، والعهد الواحد : يجوز للمسلم ـ كما يجوز للمسيحي ـ أن يبدل دينه " !! والعياذ بالله تعالى! ولقد أنكر الترابي ـ فيما أنكر بأسلوبه العقلاني الوافد ـ حد الرجم ، كما نقله عنه الدكتور محمود الطحان في كتابه " مفهوم التجديد بين السنة النبوية وأدعياء التجديد المعاصرين " ( ص : 31 ) وكذا صاحب كتاب " الصارم المسلول " ( ص : 12 ) ثم تراه ينتقد ( منهج السلف ) والمنتسبين إليه إعلاء لمنهجه ( العقلاني ) ( التجديدي ) بقوله : " ولكن يتسمي بالسلفية آخرون يرون الدين متمثلاً في تاريخ المتدينين (!) فهم بحسن نية يتعصبون لذلك التاريخ ، وينسون أن مغزاه في وجهته لا في صورته ! ويقلدون السلف (!) لا في مناهجهم (!) وسننهم الأصولية (!) بل في شكل كسبهم المعين (!) ، ويعتبرون بالصحابة والتابعين حرف (!) أقوالهم وأعمالهم ، ويرون الاتباع لا في المضي على المنهج السالك قدماً (!) إلى الله بل في الموقف عند حد الأولين ومبلغهم ... " !!
كذا قال ! وهو كلام لا يسوى فتلة عقال !!
ولو أردت نقد ـ بل نقض ـ هذه الكلمة البتراء لخرج كتابنا عما وضع له ، لكني أكتفي بإيرادها ليعرف حقيقة هذا الترابي ( العقلاء ) حقاً ! بل انظر إلى قوله بعد ذلك مباشرة : " والغالب في الذين يرجعون إلى الصور السالفة في تطبيق الشريعة لا إلى مغزى أحكامها أنهم أهل ثقافة صاغها الانغلاق على القديم .. " !! لذلك ... أجاز ـ بانفتاحه على الحديث والجديد ـ الكفر بالردة عن الإسلام ـ كما سبق ـ !! وأنكر حد الرجم !! وجعل حد شارب الخمر " لا يتعدى الجلد بين عشرين وأربعين (!!) ولا يتعدى السجن نحو شهر أو أكثر من ذلك بقليل (!) وغرامة قليلة (!!) ) .
11 - رد الشيخ محمد سرور زين العابدين :
رد الشيخ محمد سرور على الترابي في كتابه " دراسات في السيرة النبوية " ، وفي مجلة السنة . فقال في كتابه السابق :
- ( حسن الترابي ونزول المسيح :
أنكر أستاذ الحقوق الدستورية في الجامعات السودانية الدكتور حسن عبد الله الترابي نزول المسيح عليه السلام في آخر الزمان ، فقلت له في مجلس ضمنا قبل أكثر من إحدى عشرة سنة : كيف تنكر حديثاً متواتراً ؟! قال : أنا لا أناقش الحديث من حيث سنده وإنما أراه يتعارض من العقل ، ويقدم العقل على النقل عند التعارض .
وقال أيضاً : هناك أحاديث قالها الرسول صلي الله عليه وسلم بصفته البشرية ، وهي ليست حجة رغم صحة أسانيدها ، وتوسع في ذكر نماذج من هذه الأحاديث .
ونادى بوجوب تجديد بعض كتب الأصول ، وفي محاضرة له في مؤتمر للطلبة المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية سئل عن الاجتهاد والتقليد فقال :
" هذه الشروط - أي شروط الاجتهاد - ليست منضبطة كشروط الدكتوراه والماجستير هنا في الولايات المتحدة الأمريكية " !
وتأكد لي أن الدكتور حسن الترابي لم يتراجع عن هذه الآراء، بل مازال يدعو لها ولما هو أشد خطورة منها . لقد سئل في المحاضرة التي أشرت إليها قبل قليل عن السنة والشيعة ، وعن الأسباب التي دعته إلى تأييد ثورة الخميني في إيران ؟ فكان مما قاله :
" ليس صحيحاً أن التراث السني والشيعي متباينان هذا التباين ، فكتاب الشوكاني دليل لنا رغم أنه شيعي زيدي ، وما يجمع المسلمين أكثر مما يفرقهم ، فما يجمعهم 95 % وما يفرقهم 5 % !
وسئل : هل أنت على المذهب الشيعي ؟ فأجب : أنا لا أسمي نفسي شيعياً ولا سنياً .
سني وشيعي لا تعني أنه يتبع سنة الرسول أو لا يتبعها . معناها حزب سياسي ، ومرشح لكل حزب ، وأنا لا أصوت لهذا ولا لهذا .
وقال :
أما القرآن فكلنا نتفق عليه ، أما أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فنتفق على معظمها سنة وشيعة ، أما التراث السني والشيعي ففيه من الترهات والخرافات عند أهل السنة والشيعة ، وفيه فوائد .
ومضى الدكتور الترابي ـ في محاضرته ـ يتحدث في قضايا حساسة يحتاج طرحها إلى بحث شاق ، وعلم جم ، وإحاطة فعلية بأصول الإسلام وفروعه .
ولي على آرائه في هذه المحاضرة وغيرها ملاحظات أعرضها فيما يلي بشيئ من الإيجاز :
1- موقفه من نزول المسيح عليه السلام لا يختلف عن موقف الإصلاحيين ، وقد أشرت إلى فداحة خطئهم في الصفحات الماضية .
2- أما الأحاديث التي قالها الرسول صلي الله عليه وسلم بصفته البشرية ـ على حد زعم الترابي ومن سبقه إلى مثل هذا القول ـ فالعبرة فيها بكمال النهاية لا بنقص البداية ، وكمال النهاية في حديث تأبير النخل قوله صلي الله عليه وسلم :
" أنتم أعلم بأمر دنياكم " ، ويكون هذا الحديث ناسخاً للحديث الأول .
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله :
" الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون به عن الله تعالى وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة . وأما العصمة في غير ما يتعلق بالتبليغ فللناس فيه نزاع : والقول الذي عليه جمهور الناس ـ وهو الموافق للمنقول عن السلف ـ إثبات العصمة من الإقرار على الخطأ والذنوب مطلقاً "
والمشكلة عند أصحاب هذا الرأي أنهم يعدون كل حديث يخالف أهواءهم من الأحاديث التي قالها صلي الله عليه وسلم بصفته البشرية .
3- لا أدري كيف تكون شروط الاجتهاد غير منضبطة عند علماء الأصول ، وتكون شروط الدكتوراه والماجستير منضبطة في الولايات المتحدة الأمريكية ؟!
إن الذين يعرفون جامعات الولايات المتحدة يعلمون أن شهادات معظمها مزورة ، ولم تعد مقبولة حتى في بعض الدول المتخلفة
4- قال الترابي عن الشوكاني رحمه الله :(1/491)
" فكتاب الشوكاني دليل لنا رغم أنه شيعي زيدي " ، وجوابنا على ذلك : كان الشوكاني زيدياً ، ثم اعتنق مذهب أهل السنة ، وتخلي عن مذهب الزيدية وعاش بقية عمره في صراع مع بني قومه ، وكتابه الذي فات المحاضر ذكر اسمه هو نيل الأوطار وهو من كتب أهل السنة ومراجعهم المهمة .
ومن جهة أخرى فهناك بون شاسع بين الزيدية ، والاثني عشرية الأمامية التي يدين بها زعيم الثورة الإيرانية [ آية الله الخميني ] ، ولا أدري كيف اختلطت الأمور على الدكتور الترابي ووقع بمثل هذا الخطأ المؤسف ؟!
5- زعم الترابي أن السنة والشيعة يتفقون على 95 % من أصول الإسلام وفروعه ... ليته أخبرنا كيف توصل إلى هذه الإحصائية التي تشبه إلى حد كبير نتائج انتخابات الرؤساء العسكريين في دول العالم الثالث !!
ويبدو أن حسن الترابي ـ هداه الله ـ سمع ذكر هذه النسبة من دعاة التضليل الشيعة الذين يسمون أنفسهم دعاة التقريب بين المذاهب ، أو أن الأمور التبست عليه فظن أنه ليس هناك من فروق تستحق الذكر بين الزيدية والإمامية الاثني عشرية .
وكان من أبسط الواجبات عليه قبل أن ينتهي إلى هذه النتائج المؤسفة أن يعود إلى أمهات الكتب الشيعة الأمامية الإثني عشرية أمثال :
الكافي للكليني ، وفصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب للطبرسي ، و وسائل الشيعة للحر العاملي ، وروضات الجنات في أحوال العلماء والسادات للموسوي الخونساري ، وتفسير الصافي للكاشاني ، والخصال للصدوق ، وتنقيح المقال للمامقاني ، والاستبصار فيما اختلف من الأخبار للطوسي .
ومن أهم كتبهم الحديثة : المراجعات للمدعو عبد الحسين شرف الدين ، وعقائد الإمامية للدكتور محمد رضا مظفر ، وواقع الشيعة لمحمد المهدي الشيرازي ، و أبو هريرة لعبد الحسين شرف الدين .
بل من أبسط الواجبات على المحاضر أن يعود إلى كتب زعيم الثورة الإيرانية الخميني ومن أشهرها : تحرير الوسيلة ، والحكومة الإسلامية . لو عاد المحاضر إلى هذه المراجع المهمة عند الشيعة الإمامية لعلم علم اليقين أننا نختلف معهم اختلافاً لا لقاء بعده . ومن أهم الأمور التي نختلف معهم فيها :
- القرآن الكريم : فهم يعتقدون أن لهم قرآنا غير قرآننا يسمى مصحف فاطمة ، وليس فيه من قرآننا حرف واحد
- السنة : فالرافضة لا يؤمنون بصحة أي حديث عند أهل السنة ولو كان متواتراً إلا إذا رواه أئمتهم . وليس أئمتهم من آل البيت وإنما من الآيات والمراجع الذين أشربوا حب الكذب وأسموه تقية .
- يعتقد الرافضة كفر أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم إلا خمسة أو سبعة
- يؤمن الرافضة بعصمة أئمتهم الإثني عشر من الخطأ والزلل ... ومثل هذا الاعتقاد يتعارض مع المفاهيم الديمقراطية التي ينادي يها الترابي ويزعم أنها مفاهيم إسلامية !
- ومن الأمور الخطيرة التي يعتقدها أهل الرفض : التقية ، والرجعة ، وتعظيم المشاهد والقبور ، والقول بكفر أهل السنة ... وليس هذا اعتقاد فئة منهم وإنما هو اعتقاد جميع آيات ومراجع الإمامية الإثني عشرية .
فأين آل 95 % التي تجمع بيننا وبين الرافضة ؟!
فإن قال الترابي : إن بين أهل السنة خرافيون يعظمون المشاهد والقبور ، قلت : ليس بين الشيعة من لا يعظم المشاهد والقبور ويحج إليها ، أما الخرافيون من المنتسبين لأهل السنة فأعمالهم تتعارض مع الأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ، وليس عند الشيعة أدلة تتعارض مع تعظيم المشاهد والقبور .
6- من حق الترابي أن يكون شيعياً أو سنياً أو حيادياً كما يصور له عقله ، ولكن ليس من حقه القول : إن السنة لا تعني الالتزام بسنة المصطفي صلي الله عليه وسلم ، وهو لا يملك دليلاً يدعم فيه قوله وهيهات له ذلك .
أما تصويره للسنه والشيعة بحزبين متنافسين وهو لا يريد أن يصوت لهذا الحزب أو لذالك ... فأمر مؤسف !! كيف لا يعترف الدكتور بجهله التام في عقائد الشيعة وأصولهم وتاريخهم ؟!
أهذا هو الاجتهاد الذي يتحدث عنه في محاضراته الآنفة الذكر ، وغيرها من المحاضرات السابقة واللاحقة ؟!
أهذه هي مفاهيم التجديد في أصول الفقه وغيره التي ينادي بها أستاذ الحقوق الدستورية الدكتور حسن الترابي ؟!
إنها جرأة والله لا يحسد عليها .
وبعد : هذه ملاحظات عن الدكتور الترابي وجدت نفسي مضطراً لذكرها خلال حديثي عن موقف الإصلاحيين من نزول عيسي عليه السلام في آخر الزمان ، وكم أتمني أن يشرح الله صدر الترابي للحق ويتراجع عن مثل هذه البدع التي يدعو لها وما ذلك علي الله بعزيز ).
وقال محمد سرور في مجلة السنة تحت عنوان " فكر الترابي " :
( كنت أعلم أن للترابي أفكاراً منحرفة عن النهج الذي كان عليه رسول الله وأصحابه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وقد أشرت بالنقد إلى شيء منها في كتابي: "دراسات في السيرة النبوية" الذي صدر في طبعته الأولى [عام 1407 ه الموافق عام 1986 م].
وما كنت أجد فيما كان يقوله الرجل - رغم خطورته - شيئاً قد انفرد به، فمن قبله كان الشيخ محمد عبده وتلامذته ينكرون نزول المسيح عليه السلام، ويردون حديث الذبابة وغير ذلك من الأمور التي لا تستسيغها عقولهم، ومن هنا جاء اعتراضي في يوم من الأيام على من اتهم حسن الترابي بالزندقة، وكنت أرى أن في هذا الاتهام نوعاً من المجازفة التي لا ينبغي أن تصدر عن شيخ فاضل يقف على قدم راسخة من العلم والفضل والورع - ولا أزكي على الله أحداً -.(1/492)
صرفتني المشاغل عن الترابي وأفكاره، وكان خلال هذه الفترة يتردد علي من يأتيني بكتاب له [رغم ندرة مؤلفاته] أو بخبر محاضرة من محاضراته وما ورد فيها من غرائب وتناقضات، وكنت أحاول سماع الشريط أو قراءة الكتاب، فلا أستطيع المضي معه أكثر من عشرات الدقائق لأنني لا أجد فيما يقول إلا فلسفة خالية من العلم الشرعي - وحتى من الوضوح - أو من التنظير السياسي الذي يستحق الاحترام والتقدير، ولا أريد أن أضيّع وقتي بشيء لا فائدة منه.
ثم بدأت أسمع أخبار معارك بين الترابي من جهة وبعض رفاق دربه من جهة أخرى، فلم أعرها أي اهتمام لأنها وإن أخذت في ظاهرها شكلاً منهجياً عقدياً، كانت في حقيقتها صراعاً حزبياً داخل الجماعة الواحدة، وهجمة شرسة من القيادة ضد كل من يتمرد على أنظمتها وتعليماتها، ولو كان محقاً من الوجهة الشرعية في المسألة التي يتمرد عليها.
وفي عام 1989 قاد بعض العسكريين انقلاباً في السودان، وتضاربت الأقوال في تحديد هوية الانقلابيين، فمن قائل إنه إسلامي، ومن قائل إنه كأي انقلاب عسكري، ولو كان إسلامياً لما أقدم على سجن شخصية إسلامية في حجم الدكتور حسن عبد الله الترابي. من جهتي لم أكن من المتحمسين لهذا الانقلاب، لا في بدايته عندما كان أمره غامضاً، ولا عندما خرج الترابي من السجن، وأكثر من القول في مجالسه الخاصة إنه انقلابنا وقادته أبناؤنا، وما كان سجني إلا بقصد التمويه.. لم أكن من المتحمسين لهذا الانقلاب، لأنني كنت أراه صدمة أخرى للذين يتطلعون ويتشوقون إلى عودة الأمة الإسلامية إلى كنف ربها، بعد الصدمة الأولى التي طبل لها الإسلاميون وزمروا، ثم كان من أمرها ما كان مما لم يعد يجهله أحد، ومما كان يزيد من قناعتي ويرسخها أن الذين يسوقون للصدمة الثانية هم أنفسهم الذين كانوا يسوقون للصدمة الأولى.
ثمة أسباب دفعتني إلى الاهتمام بثورة الإنقاذ في السودان:
منها: أن بعض من نحترم آراءهم، ونثق بمواقفهم كتبوا لمجلة "السنة" معترضين على صمتها، وعدم إعطاء حكم الإنقاذ حقه من التأييد والنصح.
ومنها: زيارات متكررة من إخوة سودانيين لنا، وبعضهم من الذين يشاركون في الحكم، وقدموا لنا صورة ناصعة البياض عن النظام الإسلامي في السودان.
ومنها: أن أحد الدعاة السلفيين الذين كانوا يعملون في صفوف القوات المسلحة في السودان - أيام نميري - حدثني عن عمر البشير قائد ثورة الإنقاذ، وذكر لي أمثلة عن تواضعه وصدقه وسلامة اعتقاده.
ومنها: تكالب قوى الكفر العالمية ضد السودان ونظامه الجديد، وهذا الذي تحدثت عنه في حلقتين من مجلة السنة تحت عنوان: "مؤامرة أمريكية صهيونية على السودان".
هذه الأسباب مجتمعة جعلتني أتعاطف مع ثورة الإنقاذ، وأعيد النظر بمواقفي السلبية السابقة.. وبعد السؤال والبحث الجاد وجدت أن الدكتور حسن الترابي هو هذه الثورة: فكراً، وإدارة، وتخطيطاً، وسياسة، فرئيس الدولة ووزراؤه، ووكلاؤه لابد أن يعودوا إليه ويتلقوا التعليمات منه، وليس بينهم من يستطيع تجاوزه.. وهذا عندي يعني فتح ملف الترابي:
هل تراجع عن أفكاره ومعتقداته المنحرفة أم لا يزال متمسكاً بها؟، وهل يقدر أهمية قيام مثل هذه الدولة ووجوب التعاون والاستفادة من كافة الطاقات الإسلامية؟.
أوصلني فتح هذا الملف إلى نتائج أذهلتني، لاسيما وأن بعض المهتمين بالشأن الإسلامي وضعوا بين يدي ملفات نادرة عن فكر الرجل قديماً وحديثاً.
كان أحدهم يقول لي: إن الترابي يعتقد بأن اليهود والنصارى مؤمنون، ولا يصح القول بكفرهم، فكنت أستغرب ما أسمعه، وأتلقاه بحذر خشية أن يكون وراء ذلك صراع حزبي أو موقف شخصي، ولكن محدثي يسارع إلى تقديم الدليل بعد أن يلمح على وجهي علامات الشك والريبة فيما يقوله، وأمام الدليل القاطع تراني أبحث عما بقي لي من أمل فأقول:
لعل هذا الاعتقاد موقف شخصي، ولا علاقة لحكومة الإنقاذ به، فيأتيني الرد الذي لابد أن يكون المتحدث قد توقعه، وأعد الجواب عليه:
يا أخي: قول الترابي هو قول الحكم، ثم يحدثني عن المؤتمرات التي يعقدها النظام مع النصارى، وما يحدث فيها من شركيات لا تحتمل، حتى أن شيخاً من شيوخ الصوفية نهض في أحد هذه المؤتمرات، وصرخ بوجه محمد الأمين خليفة رئيس المجلس الوطني الانتقالي الذي كان يديره: كفى مروقاً عن الدين، ثم غادر قاعة المؤتمر، وقد تملكه الغضب.
وعندما ابتلعت هذه المسألة التي من الصعوبة بمكان ابتلاعها، لم يترك لي المتحدث الآخر فسحة من الوقت للتفكير بأمر هذه الدولة، وبأمر هذا الرجل الذي استطاع بذلاقة لسانه تضليل هذا العدد الكبير من الناس.. نعم لم يترك لي المتحدث الآخر فسحة من الوقت لالتقاط الأنفاس، فقال:
وصاحبك يؤمن بأن الإنسان من حقه أن يختار الدين الذي يريده، وتطمئن إليه نفسه، وينكر إقامة حد الردة.
فأجبته: كنت أسمع بهذا أيام حكم نميري.
فقال: هو صاحب هذا القول في نظام نميري، وفي نظام الإنقاذ، وهو الذي تولى سن هذا القانون وإقراره من قبل النظامين.
وما زال أصحابي يحدثونني عن البدع الكفرية التي ابتدعها هذا الرجل حتى وجدتني أمام رجل خطير مراوغ، يتلاعب بدين الله كما يحلو له، ولا يبالي بمخالفة صريح مدلول القرآن وصحيح السنة، وإجماع الأمة.(1/493)
عندما وجدت متسعاً من الوقت عكفت على دراسة الملفات التي قدمها لي الإخوة الغيورون على دينهم، والملفات التي نملكها في محفوظات المركز، فوجدت أموراً لا يجوز لي السكوت عنها، وهذا هو الوقت المناسب - فيما أرى - للحديث عن فكر الرجل وعقيدته، وسيعلم القارئ الكريم بعد أن يفرغ من قراءة هذه الحلقات أنني لا أكتب انتصاراً للتلامذة على شيخهم، ولا أبغي الانتقاص من قدر الشيخ بسبب قضايا قابلة للاجتهاد في المفهوم الشرعي، وليس العلماني الذي يريده الترابي ومن نحا نحوه من المتنورين.
هذا، وقد عرضت في هذه الحلقة والتي تليها أهم أفكار الرجل، وأعرضت عن ذكر بعضها بسبب ضيق المجال، إلا أن الذي عرضته يكفي للحكم عليه، ثم علقت على كل واحدة منها متوخياً الاختصار، ومن الجدير ذكره أنني ما ذكرت قولاً من أقواله إلا وذكرت المصدر الذي اعتمدت عليه.
أولاً: إنكاره لحد الردة:
ينكر الترابي حد الردة، ويرى أن من حق أي مواطن في دولة الإسلام تغيير دينه إذا اقتنع بغيره، يقول في مقابلة له مع جريدة المحرر [العدد: 263، آب 1994]:
"نريد الحوار مع الغرب، لا نريد حرباً معه، نريد أن نحتكم معاً إلى ديموقراطية عالمية، أما في بلدي، فالأولى بي وأنا أدعو للحوار في مواجهة الآخر، أن أتحاور مع كل من حولي، مسلماً كان أم غير مسلم، وعربياً كان أم غير عربي، أتحاور معه وأترك له حرية أن يقول ما يشاء، ويسود بنتيجة الحوار هذا الرأي أو ذاك، وأزيد على كل هذا رأياً هو رأيي الشخصي:
حتى إذا ارتد المسلم تماماً وخرج من الإسلام ويريد أن يبقى حيث هو، فليبق حيث هو. لا إكراه في الدين.. لا إكراه في الدين.. وأنا لا أقول إنه ارتد أو لم يرتد فله حريته في أن يقول ما يشاء، شريطة أن لا يفسد ما هو مشترك بيننا من نظام".
ويقول أيضاً:
"وأود أن أقول: إنه في إطار الدولة الواحدة والعهد الواحد يجوز للمسلم كما يجوز للمسيحي أن يبدل دينه.. أما الردة الفكرية البحتة التي لا تستصحب ثورة على الجماعة ولا انضماماً إلى الصف الذي يقاتل الجماعة كما كان يحدث عندما ورد الحديث المشهور عن الرسول r، فليس بذلك بأس يذكر، ولقد كان الناس يؤمنون ويكفرون، ثم يؤمنون ويكفرون، ولم يطبق عليهم الرسول r حد الردة".
وفي مقابلة له مع صحيفة "المستقلة" قال:
"إذا كان الله سبحانه وتعالى وهب الإنسان الحرية [من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر]، ولو شاء الله لطبعنا تماماً على الإيمان كالجماد، كالحجر، كالسموات والأرض والجبال اللائي أشفقن من حمل أمانة الحرية، أشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً، فما دام الله قد حمّل الإنسان أمانة الحرية يصبح الأمر بديهة من بديهيات الدين، تشهد بها آيات القرآن [لا إكراه في الدين] وحتى في أيام الرسول r تحدث القرآن الكريم عن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا.. كان الناس يرتدون ويعودون ويخرجون وهكذا.
حديث المرتد حديث قصير جاء في سياق العلاقات الحربية، كان المسلمون يشفقون من المسلم إذا ارتد ورأوه في صف المقاتلين هنالك هل يعصمه إسلامه السابق من قتله إذا قدروا عليه في ميدان القتال، فقال لهم الرسول r من بدل دينه وفارق الجماعة فاقتلوه. ولكن الناس انتزعوا هذا الحديث من أسبابه الخاصة، ونسخوا به أصلاً من أصول الدين هو حرية العقيدة. كيف لعاقل أن يتصور أن الله سبحانه الذي لم يكره أحداً يبيح لنا أن نكره أحداً على الإيمان؟.
وآيات حظر الإكراه شتى في القرآن وفي غالب سنن الرسول r، لذلك أنا لا أوافق على الرأي الشائع في حكم المرتد أبداً.
وفي إشارة منه على عدم احترامه للمصادر الشرعية يقول:
".. وهذه لا تحتاج إلى الرجوع إلى قول فلان ورد فلان على فلان. حرية العقيدة أصل من أصول القرآن، لكن أكثر المسلمين انقطعوا عن أصولهم تماماً، وبدأوا يأخذون عمن أخذ عمن أخذ عمن أخذ من الأصول!! وهذه واحدة من ظواهر التخلف عن دواعي الدين.
ويدرك الترابي [وما زلنا ننقل فقرات من مقابلته مع صحيفة المستقلة] أنه في شذوذاته هذه كمن يناطح قلعة شاهقة فيقول:
"فقد لا أكون أعلم الناس وأكثرهم زاداً من العلم، وقد لا يثق الناس باجتهادي بل يحسبون أن أهوائي قد تؤثر علي. ذلك أمر للناس، وهم يحكمون عليّ وعليك بمعاييرهم" (1).
تعليق:
قتل المرتد من المعلوم بالدين بالضرورة، ومما أجمع عليه أهل العلم، يقول ابن قدامة رحمه الله: "وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتدين، وروي ذلك عن أبي بكر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد رضي الله عنهم، وغيرهم، ولم يُنْكَرْ ذلك، فكان إجماعاً" وقال أيضاً: "ومن اعتقد حِلَّ شيءٍ أُجمع على تحريمه وظهر حكمه بين المسلمين، وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه، كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه، كفر" (2).
وهؤلاء هم الذين قصدهم الترابي بقوله: "لكن الناس انتزعوا هذا الحديث من أسبابه الخاصة، ونسخوا به أصلاً من أصول الدين هو حرية العقيدة".. أي أن الصحابة والتابعين وأئمة خير القرون المفضلة، وعلماء الإسلام في كل عصر ومصر انتزعوا الحديث من أسبابه ونسخوا به أصلاً من أصول الدين، ولم يكتشف هذه الحقيقة على مر العصور إلا رجل من الخرطوم اسمه حسن عبد الله الترابي!!.
إن ما ذكره الترابي في مسألة قتل المرتد ظاهر بطلانه عند المبتدئين من طلاب العلم فضلاً عن العلماء، وما هو إلا خليط من أقوال المستشرقين والمستغربين وكل الحاقدين على هذا الدين، وأحسب أن كبار هؤلاء ودهاتهم يترفعون فيما يكتبونه عن استهتار الترابي في كثير من كتاباته ومحاضراته عن الإسلام، ومن الأمثلة قوله في إحدى محاضراته: "لا إكراه في الدين" Full stop!!.(1/494)
أهكذا يفسر القرآن؟، وهل من الأدب الشرعي وهو يخاطب عرب السودان في جامعة الخرطوم أن ينطق بهذه الكلمة الإنكليزية التي تعني بالعربية: نقطة انتهى.
انتهى!! لا تحاولوا ربط الآية بمثيلاتها، ولا تتطرقوا لأسباب النزول وأقوال علماء التفسير، والأحاديث النبوية الصحيحة الواردة في هذا المعنى.
انتهى!! هذه هي تعليمات الشيخ، وهكذا يتلقى المريد، وعلى هذا الأساس تقوم دولة ويسمونها إسلامية!!.
الدستور السوداني الذي اعتبرته حكومة الإنقاذ فتحاً عظيماً، أقر ما قاله الترابي - بطريقة لا تخلو من المراوغة - في هذا الشأن، ونص على حرية الاعتقاد، ومن باب أولى فقد ألغى حد الردة.. لهذا ولغيره فقد كان موضع انتقاد كثير من الدعاة في البلدان العربية، ولم يجدوا فيه ما كانوا ينتظرونه من حكومة الإنقاذ.
ثانياً: عقيدته في اليهود والنصارى:
قال الترابي:
"إن قيام جبهة المؤمنين هو مطلب الساعة، وينبغي ألا تحول دونه المخاوف والتوجسات التاريخية، فنحن نعلم جميعاً أن الكثير من الحروبات التي شنت باسم الدين والاضطهاد الذي وقع باسم الدين كان الدين منه براء، لأن الأديان السماوية لا تدعو لنشر رسالتها - رسالة الفضيلة والسلام - بحد السيف أو بالقنابل والمدافع، ونحن نقرأ تاريخ الحروب الصليبية التي شنت على الشرق فنراها حملات استعمارية، استخدم فيها بعض ملوك أوربا شعار الصليب واسم المسيحية ليحققوا توسعاً استعمارياً تتعبأ فيها جماهيرهم المؤمنة، ويمدهم بالموارد وبكنوز الشرق التي كانوا يسمعون بها، وكذلك جاءت الموجة المتأخرة من الاستعمار واستخدمت اسم الدين ودعاوى التبشير لتبسط نفوذها على الأرض والناس تتخذهم سلعة لتجارة الرقيق وسخرياً لتحقيق مآربها الدنيوية المفارقة لهدي الأديان جميعاً، ولقد جاءت الموجة الاستعمارية بعرقيتها وعنصريتها مخالفة لهدي الإخاء المسيحي الذي لا يرى فرقاً بين أبيض وأسود إلا بالتقوى" (3).
وقال: "إن البعد عن عصبية الدين، والتحرر من التعصب المذهبي، هو الباب المفضي إلى حوار حقيقي بين الأديان، فإذا ترك أهل الأديان التعصب كل لمذهبه وملته، وأقبل على دراسة الأديان بعقل متفتح، كان أحرى أن ينكشف له الأصل الواحد لهذه الأديان، واشتراكها في القيم الأساسية التي تدعو لها. وهذه هي دعوتنا اليوم: أن تقوم جبهة أهل الكتاب، والكتاب عندنا يطلق في القرآن يقصد به كل كتاب جاء من عند الله".
وإذن: يدعو الترابي إلى قيام جبهة أهل الإيمان (المسلمون، والنصارى، واليهود) على أساس الملة الإبراهيمية، وكان منذ القديم يطرح هذه الأفكار في منتدياته، يقول في مقابله له مع مجلة المجتمع (العدد: 736، تاريخ 8/10/1985):
"إن الوحدة الوطنية تشكل واحدة من أكبر همومنا، وإننا في الجبهة الإسلامية نتوصل إليها بالإسلام على أصول الملة الإبراهيمية التي تجمعنا مع المسيحيين بتراث التاريخ المشترك وبرصيد تاريخي من المعتقدات والأخلاق، إننا لا نريد الدين عصبية عداء، ولكن وشيجة إخاء في الله الواحد".
وفي مقابلة له مع المحرر [العدد 263، آب 1994] يقول:
"إنني لأعتقد أن النصراني أقرب إلي ممن ينافقني ويدعي الإسلام، ابتغاء مكسب، فالمنافق ديناً في الدرك الأسفل من النار، وفي الدرك الأسفل عندي من الانحطاط، أنا لا أريد أن أكره نصرانياً ولا حتى إفريقياً على أن يدخل في الإسلام بالإكراه. إنني أخسر بهذا ولا أربح شيئاً. بل إنني أنفتح على دعوته لي إذا شاء إلى النصرانية أو الإفريقية وأنا مطمئن إلى من تكون له عاقبة الدعوة والدار".
النفاق العملي والاعتقادي:
قوله: "ينافقني": أي يتودد إليه ويتقرب منه، ويظهر له خلاف ما يبطن، والترابي كان في الوقت الذي أجرى فيه هذه المقابلة مع "المحرر" الرجل الأول في النظام، وكان لابد من عودة رئيس الدولة - عمر البشير - إليه لعرض أموره عليه وأخذ التعليمات منه، وطلابه يعرفون كيف بطش بزملاء وأساتذة لهم من قبل، وسيكون مصيرهم كمصير مَنْ سلفهم إن لم يسترضوا شيخهم ويتوددون إليه بعبارات يعلمون أنه لا يستحقها، وهذا النوع من النفاق، اسمه "نفاق عملي"، وهو ليس أكثر من معصية وصاحبه لا يكفر، أما النفاق الذي يقود صاحبه إلى الدرك الأسفل من النار فهو "نفاق اعتقادي" ولا يعلم حقيقته إلا الله سبحانه وتعالى، لأن محله القلب، ونحن نحكم على ظاهر أفعال المرء، ولسنا مكلفين بالبحث عما تكنه صدور الناس، وفي بعض الحالات قد نحكم على أنواع معينة من الناس - ومن خلال الظاهر - بالنفاق الأكبر، ومن الأمثلة على ذلك العلماني الذي يدعو إلى مذهبه ويؤذي الدعاة إلى الله ثم نراه يصلي في المناسبات العامة لتلتقط له الصور.
فهل كان الترابي يجهل الفارق بين هذين النوعين من النفاق: الاعتقادي والعملي؟ أم كان يخلط خلطاً متعمداً، ويستغفل عقلية المخاطبين بمقابلته مع صحيفة المحرر؟!.
أمر آخر لابد من الإشارة إليه ما دمنا في صدد الحديث عن النفاق، وذلك أن النفاق عند النصارى في بلادنا أظهر منه عند غيرهم لأنهم يكرهون ديننا، ويفضلون علينا إخوانهم نصارى أوربا وأمريكا، ولا يستطيعون البوح بذلك فيظهرون لنا خلاف ما يبطنون.(1/495)
أما دعوة الترابي إلى الإخاء الديني وإلى تكوين جبهة أهل الإيمان [اليهود، والنصارى، والمسلمون] فقديمة مثل كثير من انحرافاته، وقد كان يلقى أعقاب كل محاضرة يلقيها من يحاول نصحه وإقامة الحجة عليه، فما يزيده ذلك إلا إصراراً وتمسكاً بما يدعو إليه، فإذا قيل له: ألم يقل الله جلَّ وعلا عن اليهود كذا وكذا - يذكرون له الآيات التي أنزلها الله بحقهم - أجاب: يهود اليوم ليسوا هم اليهود الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم (عن مجلة الطالب السوداني)، وفي محاضرة له في جامعة الخرطوم أجاب: اليهود الذين أتحدث عنهم ليسوا صهاينة.
وإذا قيل له: لقد أخبرنا الحق جلَّ وعلا في محكم كتابه بأن اليهود والنصارى كفار، أجاب: كلمة الكفر لا تعني الخروج عن الملة، وإنها بمعنى تغطية بعض الحق مثل المسلم الذي يقارف معصية، ثم يتوب منها.. ثم يمضي الترابي قائلاً: "بل سماهم الله في القرآن أهل الكتاب، فهم مؤمنون"، ولأنهم مؤمنون يشاركهم المسؤولون السودانيون - في دولة الترابي - في أعيادهم، ويسمحون لهم ببناء الكنائس وغير ذلك من الأنشطة دون حدود أو قيود.
وكتعليق عابر نقول: إن المسلمين الذين نالوا الحد الأدنى من ا لعلوم الشرعية يعلمون أن الترابي فيما يدعيه ويدعو إليه يُكذِّبُ قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح بن مريم} [المائدة:17]. وقوله:{لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة:73]، وقوله: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه}[المائدة:18] ، وقوله: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل، قاتلهم الله أنى يؤفكون، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيحُ ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}[التوبة:30 - 31].
وإذن: لقد كفر اليهود والنصارى لأنهم كانوا يعتقدون بأن لله ولداً، وأنه ثالث ثلاثة، وهذا هو الكفر الأكبر.
وكفر اليهود والنصارى لأنهم زعموا بأن القرآن الكريم ليس كلام الله، وأنه سبحانه وتعالى لم يرسل محمداً r بشيراً ونذيراً، ولهذا فقد أجمع علماء الملة على كفر اليهود والنصارى، وكفر من لم يكفرهم أو شك في كفرهم ما لم يكن معذوراً بجهله. والعذر بالجهل يزول بعد إقامة الحجة عليه، وليس من المعذورين بجهلهم من يدعو إلى هذه الضلالة من خلال المنتديات التي يحاضر بها أو المقابلات الصحفية التي يعقدها، ويسمع في هذه وتلك ردود العلماء فما تزيده إلا إصراراً على بدعته ودأباً في الدعوة إليها.
والمثير للدهشة أن هذا الذي ينادي إلى قيام جبهة أهل الإيمان على أساس الملة الإبراهيمية، هو نفسه الذي أوعز للقيادة العسكرية بحل التنظيمات الحزبية، وعندما كان زملاؤه في الجبهة القومية الإسلامية يطالبونه بعودة التنظيم لأنه هو الذي دبر الانقلاب العسكري، وليس الترابي وحده، كان يتهرب من الجواب، وعندما يضطر كان يقول لهم: هكذا يريد العسكريون، وإرادة العسكريين لا تخرج عن إرادته "رمتني بدائها وانسلت".
وهو نفسه الذي لم تصدر عنه أية مبادرة لإقامة جبهة إسلامية في بلده تشمل: أنصار السنة، والإخوان المسلمين بقسميهم، وبقية الجماعات الأخرى، مع أنه هو ودولته بحاجة ملحة إلى قيام هذه الجبهة، وإلى توحيد كافة الطاقات الإسلامية لتأخذ دورها المنشود في مواجهة أعداء الله على كافة الجبهات والمواقع. فكيف نصدق أن هذا الذي بطش بزملائه وإخوانه الدعاة واحداً بعد الآخر، ومن كان عنده أدنى شك فليذهب إلى قادة الجبهة القومية الإسلامية وليسألهم.. نعم كيف نصدق بأن هذا الذي لم يتسع صدره لجماعته يريد أن يوحد اليهود والنصارى والإسلام؟!.
وإذا قيل: إنها سياسة لكسب ود النصارى في السودان، والفاتيكان وأوربا وأمريكا. فالجواب: إن كسب ود هؤلاء لا يكون بقول يخرج قائله من ملة الإسلام.. ومن ثم فها هو لم يكسب ود أحد.
ثالثاً : إنكار نزول المسيح عليه السلام:
جاء في كتابه "قضايا التجديد.. نحو منهج أصولي":
"وفي بعض التقاليد الدينية تصور عقدي بأن خط التاريخ الديني بعد عهد التأسيس الأول ينحدر بأمر الدين انحطاطاً مضطرداً لا يرسم نمطاً روحياً. وفي ظل هذا الاعتقاد تتركز آمال الإصلاح أو التجديد نحو حدث أو عهد واحد بعينه مرجو في المستقبل يرد أمر الدين إلى حالته المثلى من جديد. وهذه عقيدة نشأت عند اليهود واعترت النصارى، وقوامها انتظار المسيح يأتي أو يعود عندما يبلغ الانحطاط ذروته بعهد الدجال قبل أن ينقلب الحال صاعداً بذلك الظهور، ولعلها تحريف للبشريات التي جاءت في الوحي القديم بمبعث عيسى ثم بمبعث محمد عليهما السلام.
وقد انتقلت هذه العقيدة بأثر من دفع الإسرائيليات إلى المسلمين. وما يزال جمهور من عامة المسلمين يعولون عليها في تجديد دينهم، وفشوها هو الذي أغرى كثيرين من أدعياء المهدية والعيسوية، وبعضهم تحركه نية صادقة للإصلاح والتجديد لكنه بتربيته الثقافية التقليدية وبتربية العامة الذين يخاطبهم لا يجد وجهاً لشرعية الخروج على القديم إلا بحجة المهدية النهائية، ولعل تلك العقيدة هي ألهت المسلمين عن القيام بعبء الإصلاح وأقعدتهم في كثير من حالات الانحطاط المستفز مرجئة ينتظرون مجيء صاحب الوقت".
تعليق:(1/496)
عقيدة نزول المسيح عليه السلام آخر الزمن ثابتة في القرآن الكريم، وفي الأحاديث الصحيحة، ومنها صحيحا البخاري ومسلم، وعدّها كثير من أئمة الحديث من الأحاديث المتواترة، فابن حجر العسقلاني تتبع طرقها واحداً واحداً وأثبت بأنها متواترة، وذكر الشوكاني في توضيحه تسعة وعشرين حديثاً ما بين صحيح وحسن وضعيف منجبر، منها ما هو مذكور في أحاديث الدجال، ومنها ما هو مذكور في أحاديث المهدي المنتظر، وتنضم إلى ذلك أيضاً الآثار الواردة عن الصحابة فلها حكم الرفع إذ لا مجال للاجتهاد في ذلك (4).
الترابي لم يسلك سبيل من سلفه ممن أنكر نزول المسيح، أعني لم يتعب نفسه في مناقشة الآيات والأحاديث النبوية وأقوال العلماء، ثم يقول رأيه فيها من الوجهة الشرعية، ومن جهة أخرى لم يستخدم ألفاظاً ومصطلحات شرعية، وإنما عبارات فلسفية وإنشائية، ومن الأمثلة على ذلك قوله: "وفي بعض التقاليد الدينية" فهذه التي يسميها تقاليد أحاديث نبوية صحيحة. وقوله فيما سماه إسرائيليات: "وفشوها هو الذي أغرى كثيرين من أدعياء المهدية والعيسوية"! فهل المتبع للقرآن والسنة المتواترة دعي أم الدعي من يتبع أهواء المستشرقين والمارقين؟!.
ومن جهة ثالثة ليس صحيحاً خلطه ما بين عقيدة المسلمين في نزول المسيح واليأس الذي يعتري بعضهم، فيقعدون عن العمل الدعوي منتظرين نزول المسيح، لا، ليس الأمر كذلك لأن المسلمين مأمورون شرعاً بالدعوة والجهاد من أجل أن يكون الدين كله لله، ومن ثم فهم لا يدرون متى ينزل المسيح والمهدي والدجال، بل المطلوب منهم محاربة كل دجال في جميع الأزمنة والأمكنة.
رابعاً : الاتحاد والفناء في ذات الله بالفن:
يقول الترابي: "والدين التوحيدي هو الذي يوحد الحرية من الذات إلى النظام مع الآخرين، فيحرر المؤمن من كل ما يستعبده في النفس والمجتمع ويخلصه لربه فيلتزم من تلقاء نفسه بأمر الله. ويتحد به ويفنى فيه، ولا يستشعر مجانبة ولا حرجاً. فالدين وحده هو الذي يجعل الفنان ملتزماً وهو صادق لا يلقى عليه الإلزام من خارج نفسه، فيكبته ولا يسمح لفنه بأن يتنفس ويعيش ويثمر أو يجعله منافقاً يعالج الصور الفنية تكلفاً متقطعاً من الإبداع الأصيل في ذات نفسه". ويقول عن الصوفية:
"فقامت الحركة الصوفية وهي تربية تثير الوجدان المؤمن، وتلتمس لطائف التعبير عن لطائف الأحوال، فأخذت من مادة الحياة الثقافية الواسعة كلمات تعبر به عن معانيها وما يعينها عن شعائر الذكر والعبادة، فكثر السماع عن الصوفية وراج الشعر الجميل ودخل التواجد في الذكر فكان الرقص وما يصاحبه من شعائر التصوف، لاسيما على الصعيد الشعبي إذ يغلب الشعور الإيماني على التصورات العلمية النظرية، ويحقق المؤمن من العوام ذاته المتدينة في حلقة ذكر راقص أو إنشاد شعر أو جلسة سماع بينما ينشغل الخاصة ويشبعون أنفسهم بالعلم والتفقه". وأضاف:
"المشكل الأكبر الذي يواجهنا اليوم في شأن الفنون هو التوجه بها إلى الدين، وهي شكل يضاهي شأننا مع السياسة والاقتصاد والعلم وكثير من مقاصد الحياة التي انقطعت عن الوجهة الدينية، ومرقت على الأطر الشرعية وشكلت قطاع حياة بجانب الدين ويجعل وجودنا في الدنيا مؤسساً على ثنائية إشراك غير مقبول: بعض شأننا لله وبعضه لسواه".
ويمضي في الحديث عن الأسباب التي تمنع من التوجه بالفنون إلى الدين، فيقول:
"منها أن فقه العقيدة الموروث الذي نشأنا عليه لا يجعل الفن شعبة من شعاب إيماننا وتوحيدنا ولا يهيئنا لأن نتذكر الله بالجمال وصنعه ولا نعبده من خلاله. وذلك يستدعي تربية إيمانية تأصيلية في المجال الفني تجند له شروح العقيدة بوجه يدخل الفن فيها ومنهاجاً للسلوك الإيماني يحقق ذلك في واقع التدين، ولا تنفصل العقيدة الإيمانية عن صور التعبير الشرعي عنها".
وتحت عنوان: "الدين للفن" يقول:
"إن دين التوحيد الذي يسلم به الفن لله منهاج يسلك طريق العبادة بالفن من حيث يسقط اللا متدينون في الفتنة. فبالتوحيد يتخذ الإنسان الفن وسيلة إلى الله يأخذه بذات خصائصه دون كبت أو تعطيل ويسخره للعبادة، بل يرقى بطبيعته تلك ليرقى به قدر العبادة.. فلا بد إذن من اتخاذ الفن مادة لعبادة الله. فمن تلقائه يضل كثير من الضالين وبه يمكن أن يهتدي المهتدون، فمن أهمله ترك باباً واسعاً للفتنة الملهية عن الله والداعية إلى معاصيه، ومن أخذه بما ينبغي فتح باباً واسعاً للدعوة إلى الله بدفع جاذبية الجمال ولعبادته أجمل وجوه العبادة. فالغالب من الناس يقبلون على الفنون والجماليات ويمكن أن توافيهم داعية الدين، وسواء عظيم منهم آتاهم الله ملكة الإبداع الفني، ورباهم فيهم مجتمع مولع بالفنون، ولن تكتمل لهم حياة موحدة إلا إذا جعلوا نشاطهم الفني بعض تدينهم، ولم يشققوا حياتهم ويحيلوا الفن هامشاً لغواً فيها، أو يحيلوا الدين إلى زاوية معزولة" (5).
وعن الرقص يقول:
"الرقص كذلك تعبير جميل يصور معنى خاصاً بما تنطوي عليه النفس البشرية.. إلى أن قال: ولا ننكر أن في الغرب رقصاً يعبر عن معانٍ أخرى كريمة" (6).
وفي المجال التطبيقي لهذه القناعة في الغناء والرقص أسس الترابي في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات فرقة غنائية موسيقية مكونة من فتيان وفتيات سماها "نمارق"، وأحيت نمارق الترابي حفلات غنائية مختلطة، وفي مثل هذه الأجواء لابد من اختلاء الشباب مع الشابات، وهذا الاختلاء يقود حتماً إلى مفاسد كثيرة، وإثم ذلك كله في ذمة المفتي الدكتور في الحقوق الدستورية من جامعة السوربون حسن الترابي.(1/497)
بين يدي وأنا أعد هذا البحث تقرير رفعه أحد الطلبة النشيطين في جامعة الخرطوم للمسؤولين عن تنظيمه في الجامعة يبيّن فيه أسباب استقالته من الجماعة الإسلامية التي يتزعمها الترابي، وكان مما جاء فيه:
"13 - (7) الدعوة الخبيثة لاقتحام مجال الفن وتسخيره لعبادة الله، مستغلاً جهل الناس بعلوم دينهم مزيناً دعواه بالفهوم الخاطئة والروايات الموضوعة عن الغناء والرقص والتمثيل.. مما أدى لظهور الذين يجيدون الغناء وقراءة النوتة الموسيقية أكثر من قراءة القرآن".
وفي موضع آخر من تقريره يقول:
"أصبحت قضية الغناء هي المشكلة التي تواجه الدولة الإسلامية المرتقبة، فكثر المتخصصون في الحديث عنه، وتكونت شعبة الموسيقى والمسرح لتعليم الفتيات النوتة الموسيقية قبل علوم الدين الأساسية، وتعددت الرسائل التي تناقش قضايا الفن والغناء والرقص في الوقت الذي يجهل فيه الناس علوم دينهم." (8). ولنا عودة إلى هذا التقرير مرة أخرى إن شاء الله.
تعليق:
1 - أُرْجِئ الحديث عما قاله الترابي عن الاتحاد والفناء في ذات الله إلى موضع آخر.
2 - عندما سمعت لأول مرة الحديث عن اهتمام الترابي بالفن، وأنه يعتبره قسماً من أقسام التوحيد والعقيدة الإسلامية، ظننت أن هذا القول صورة من صور التشنيع على الرجل، وذَكَّرْتُ المتحدث بالله، وعندما أصرَّ على قوله. قلت له:
ما علاقة الفن والرقص بالعقيدة، أوَ يقول ذلك عاقل؟!، وإن قاله كيف يقبل المسلمون الذين يتبعونه هذا القول؟، ثم يبقى قائله زعيماً ومنظراً لنظام إسلامي - كما يدعون - ، وأخيراً اقتنعت بما قاله محدثي، وعش رجباً ترى عجباً.
3 - اشتراكية الإسلام.. ديمقراطية الإسلام، هذا ما قيل قبل ستة عقود، ويقول الترابي اليوم: الفن الإسلامي.. الرقص الإسلامي.. ماذا سُيقال غداً: هل يقال علمانية الإسلام؟، أجل، لقد قال الترابي شيئاً من هذا كما سيأتي الحديث.
4 - إنني أعترف بأنه استفزني بقوله: "فقه العقيدة الموروث الذي نشأنا عليه لا يجعل الفن شعبة من شعاب إيماننا وتوحيدنا"، ولهذا فهو يطالب بتربية إيمانية تأصيلية تعمل على إدخال الفن في صلب العقيدة!!، ترى من يخاطب هذا الرجل؟ لا أشك أنه سيندحر ويندحر معه رقصه وموسيقاه والوتر الذي تاب - حسب قوله - وتبقى لنا عقيدتنا سالمة من التغيير والتشويه والتبديل.
خامساً : الترابي: لست سنياً ولا شيعياً:
وعن موقفه من السنة والشيعة يقول:
"كنت أتحدث في مؤتمر مع مسلمين وعرب في المؤتمر العربي والإسلامي. قلت لهم: .. أنا لست سنياً ولا أدرك ما معنى السني والشيعي. إذا اختلفنا على مرشحين اثنين للخلافة الراشدة الثالثة، فصوت بعضهم لهذا وصوت آخرون لذلك. فتلك أمة قد مضت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، فهل نشق التاريخ الإسلامي إلى يوم القيامة.
كذلك المذاهب، ما أحسب أن مالكاً أو أبا حنيفة أو الصادق قد قدروا أنهم أسسوا مذهباً يستمر إلى يوم القيامة. لقد اجتهدوا ليومهم وربما حسبوا أن اجتهادهم لا يزيد على أن يستمر لسنوات، ثم يأتي مجتهدون جدد يجددون الدين ويواجهون مشكلات جديدة. لكنا بقينا أسرى اجتهادهم. حتى أهل الصوفية أرادوا أن يدخلوا معاني داخلية للدين لا معاني ظاهرية فقط، فاتخذناها طرقاً إلى يوم القيامة: كالقادرية، والنقشبندية، و … الخ. لهؤلاء جميعاً أقول: تعالوا نتوحد".
هذا ما قاله الترابي لصحيفة المحرر [في 1/8/94]، أما ما قاله في أحد مؤتمرات الطلبة العرب المسلمين في أمريكا:
"ليس صحيحاً أن التراث السني والشيعي متباينان هذا التباين، فكتاب الشوكاني دليل لنا رغم أنه شيعي زيدي، وما يجمع المسلمين أكثر مما يفرقهم، فما يجمعهم 95% وما يفرقهم 5%.
وسئل: هل أنت على المذهب الشيعي؟ فأجاب: أنا لا أسمي نفسي شيعياً ولا سنياً، سني وشيعي لا تعني أنه يتبع سنة الرسول أو لا يتبعها. معناها حزب سياسي، ومرشح لكل حزب، وأنا لا أصوت لهذا ولا لهذا، وقال: وأما القرآن فكلنا نتفق عليه، أما أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فنتفق على معظمها سنة وشيعة، أما التراث السني والشيعي ففيه من الترهات والخرافات عند أهل السنة والشيعة، وفيه فوائد" (9).
لمَ لا نحسن الظن بالرجل، ونصدق قوله: ".. ولا أدري ما معنى السني والشيعي"، وهذا الذي قاله ينم عن جهل واضح وفاضح.
فالناس يسألونه عن الشيعة الاثني عشرية، مذهب الخميني ورافضة إيران، وهو يجيبهم عن الزيدية، مما يدل على أنه لا يعرف الفرق بينهما.
وكتاب الشوكاني الذي يبدو أنه سمع به ثم نسي اسمه هو: "نيل الأوطار"، ويعتبر مرجعاً من مراجع أهل السنة، والشوكاني كان شيعياً زيدياً، ثم أصبح سنياً وعاش بقية عمره ثم مات على عقيدة أهل السنة والجماعة ومنهجهم.
قوله إن الشيعة والسنة متفقون على 95% من الإسلام، لا يقبله أي سني يفهم دينه وعقيدته، وقل مثل ذلك في أي شيعي، ولا يقبله أيضاً أي مستشرق يحترم عقله وعقول الذين يخاطبهم فيما يكتب، وذلك لأن الشيعة يقولون أن عندهم قرآناً غير قرآننا ويسمونه مصحف فاطمة، وهو مثل القرآن ثلاث مرات. وسيظهره مهديهم، ولا يعتقدون صحة حديث إلا إذا رواه أئمتهم ومراجعهم، ولو كان هذا الحديث متواتراً عند أهل السنة، وفضلاً عن ذلك فهم يعتقدون عصمة أئمتهم، والترابي يشكك حتى بعصمة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يعتقدون عقائد أخرى باطلة: كالرجعة، والتقية، وكفر الصحابة وردتهم لا يستثنون إلا خمسة منهم، فأين هذا الاتفاق على 95% من الدين؟.
وإذا كان الترابي قد اعترف بجهله في هذه المسألة الخطيرة فكيف يخوض ويفتي بها؟.(1/498)
ومن جهة أخرى فإن حديثه مع "المحرر" جاء بعد عشرة أعوام، وهي فترة كافية ليتعلم، لاسيما وأنه يتعرض لمثل هذه الأسئلة في محاضراته ومجالسه العامة.. مع ذلك وبكل استهتار يكرر "للمحرر" إقراره بالجهل ويعيد الفتوى السابقة نفسها.
سادساً : الترابي والمرأة:
للترابي كتيب سماه "المرأة في تعاليم الإسلام" عرض فيه نصوصاً من الكتاب والسنة، ثم فهمها حسب طريقته التجديدية التي لا تخضع لضوابط شرعية، فليس لك أن تحاججه بالفقه وأصوله، ولا بعلم التفسير وأقوال أئمة التفسير. وهذا خلاصة ما انتهى إليه:
للمرأة أن تتخذ عقيدتها بغير إكراه، وهذا ما يدندن حوله كثيراً، وأرجو أن لا أكون قد أخطأت في فهم كلامه عندما أقول: من حق المرأة أن تتحول من الإسلام إلى النصرانية أو إلى غير ذلك من الأديان والمذاهب، وليس من حق زوجها أن يكرهها على العودة إلى الإسلام.
للمرأة أن تشهد مجتمعات المسلمين وندواتهم العامة، ولها أن تحاضر فيها.
وإذا كان من حق المرأة مثلها مثل الرجل أن تعتنق الدين الذين تقتنع به، فمن باب أولى من حقها أن تلبس ما تشاء في دولته الإسلامية، وسئل في إحدى محاضراته: ومتى تتدخل الدولة؟ فأجاب: إذا خرجت المرأة عارية.
يؤكد في مواضع متعددة من كتابه على جواز الاختلاط، فللمرأة أن تستقبل ضيوف الأسرة وتخدمهم، ولا عزل بين الجنسين في مجال العلم، ويجوز اعتزال الرجل [الأجنبي] والمرأة على مرأى وملأ من الناس، ولكن ينبغي كف البصر، عما يلتمس به المرء أو يجد الفتنة من المرأة، وليس كل النظر إلى المرأة محظوراً.
ويقول في موضع آخر من حديثه عن الاختلاط:
".. لكن الحياة الإسلامية موجهة إلى الله تعالى، ولئن أبيح فيها اتصال الرجال بالنساء، فإنما ذلك ابتلاء ينبغي للمسلم أن يتخذه مجالاً لعبادة الله وشكره، وأقل التقدير أن يأخذه بشكله المباح المشروع، ولا يجوز في الدين أن تتخذ علاقة الرجال والنساء سبباً لمتاع جنسي يلهي عن الله".
كيف يفتي بالاختلاط بين الجنسين على مختلف أعمارهم: في الجامعات، والندوات، وفرق الغناء والموسيقى، والاجتماعات الحزبية، ثم يطالب هؤلاء جميعاً باتخاذ الاختلاط مجالاً لعبادة الله وشكره؟!.
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له * إياك إياك أن تبتل بالماء
للمرأة أن تختار الزوج، وترفض من تُكْرَه عليه وأن تفارق الزوج وهو راغم.
للمرأة أن تشارك في العمل السياسي والإداري على كافة المستويات، ومن ذلك مشاركتها في تنصيب القائمين بأمر الدولة انتخاباً ونصحاً.
لا سلطان للرجال على النساء إلا في إطار الزوجية، وهي علاقة تنشأ وتنحل برضى المرأة، وتقوم في الأصل على الشورى والإحسان، وليس للرجل فيها إلا قوامة الإنفاق، والأمر والتأديب بالمعروف، أما سلطان الوالدين فهو سواء على الأبناء والبنات.
يجوز للمرأة أن تعمل تاجرة في الأسواق العامة، حتى لو تعرضت لإيذاءات من الرجال السفهاء، بل ويجوز لها أن تتولى أمر السوق من قبل السلطة: كالإشراف، والإدارة، وغير ذلك.
الحجاب خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، لأن حكمهن ليس كحكم أحد من النساء، ولا يجوز زواجهن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فإن آية الحجاب نزلت في السنة الخامسة للهجرة، ولم يتأثر بها وضع سائر المسلمات.
زعم أن خروج بعض الصحابيات في حروب الرسول صلى الله عليه وسلم، دليل على وجوب تدريب النساء تدريباً عسكرياً، واستيعابهن في سلك الجندية [الدفاع الشعبي].
ولقد انبرى للرد عليه قاضي محكمة استئناف كردفان الخواض الشيخ العقاد، فعرض في رسالته القيمة النصوص الشرعية من الكتاب والسنة الدالة على عدم وجوب القتال على النساء، ثم عرض في الفصل الثاني الأحكام الفقهية ومذاهب الفقهاء في هذه المسألة، ونكتفي فيما يلي بعرض أقوال مقتضبة من هذه الرسالة، يقول الكاتب:
"وهذا الموضوع المعني هو المتمثل في ظاهرة اهتمام الأوساط الرسمية بالبلاد، والشعبية الشبه رسمية - في هذه الأيام - بتدريب النساء تدريباً عسكرياً، وبذل الجهود المتواصلة لاستيعاب الفتيات في سلك الجندية - دفاع شعبي -، ومن ثمرات هذا الاهتمام ما نشاهده يومياً من استعراض الطوابير النسائية في الساحات العامة، أو في المعسكرات الخاصة، وسواء كان ذلك بالمشاهدة المباشرة، أو عبر شاشة التلفاز".
وبعد أن يؤكد بأن عدد الصحابة الذين شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ألف ويزيدون يقول:
".. ثم نجد أن النساء اللواتي خرجن مع الغزاة في ذلك الحين لأغراض السقاية والرفادة والتطبيب، عشرة أو نحو العشرة من جملة هذا العدد الكبير، ولم يقاتل من بينهن إلا نزر يسير - اثنتان، أو ثلاث، بل قل أربعاً - فأين هذه المساواة في التكليف بحراسة الكيان العام للدين بالنسبة للنساء، مع الرجال، والتي ذهب يقررها الأستاذ الترابي في كلامه المتقدم؟..".
ويشير الشيخ العقاد بأنه لو حمي وطيس الحرب واشتعل أوارها لما خرجت هؤلاء الفتيات إليها "لكنها لم تزل مقصورة على المارشات العسكرية وارتداء الأزياء المحببة إليهن لما فيها من عنصر الحداثة والتجديد الذي تميل إليه نفوس كثيرة، ونفوس الفتيات إلى مثل ذلك أميل، بل وأحياناً تصل أسباب التشويق إلى امتطائهن صهوات الجياد، الأمر الذي لم يحدث لدى الصحابيات من قبل".
ويعود إلى التذكير بأن الصحابيات اللائي خرجن لشهود القتال مع النبي صلى الله عليه وسلم، خرجن في بوتقة أسرية وفي معية المحارم والأزواج، ولم يكن بينهن فتاة ناهد بكر غير ذات زوج على الإطلاق، ولم يخرجن كزميلات سلاح لا يربطهن بفصائل الجيش والجنود إلا هذه الصفة".
سابعاً : زندقة مكشوفة:(1/499)
1 - في [17/4/1995] أجرت مجلة "دير شبيغل" الألمانية مقابلة مع د. الترابي، وقرأتها باهتمام بعد أن ترجمها لي أحد الإخوة علني أجد فيها الحنكة والدهاء في مخاطبة الغربيين - كما يقول المعجبون به -، ولكن الترابي في نسخته الأعجمية هو نفسه الترابي في نسخته العربية، ونقدم فيما يلي أحد الأسئلة التي وجهتها إليه المجلة وجوابه عليها:
السؤال: ".. لكن لا يوجد تفسير موحد للشريعة، هل يجب قطع يدي ورجلي السارق؟، وهل جزاء المرتدين عن الدين القتل؟".
الأمانة تقتضي أن يبيّن لهم الحكم الشرعي ثم يستخدم عبقريته ومواهبه في إبراز عدل هذا الحكم وأحقيته وتفوقه على القوانين والأحكام الغربية، لكنه آثر إرضاء الكافرين على إرضاء رب العالمين، فقال:
"هذه الحدود لا تقام اليوم في السودان، لأن تفسيرنا للشريعة متطور أكثر مما هو عليه الحال في البلاد الإسلامية الأخرى. لا يوجد أحد قط في مؤتمرنا الشعبي الإسلامي يُحرِّم المرأة من حق توليها مناصب عامة في الدولة، أو ينكر لها الحق في تولي منصب رئاسة الدولة أو رئاسة الوزراء".
وفي مقابلة أخرى له مع صحيفة القدس العربي اللندنية [26 محرم 1421 الموافق 1/5/2000] قلل من شأن إقامة الحدود، وزعم أن "عامة المسلمين وعامة الفقهاء الذين يسمون أنفسهم علماء لا يحملون إلا التراث محفوظاً في أذهانهم، ظنوا أن الحدود هي الشريعة، فأول تطبيق كان لإشهار تطبيق الإسلام للناس ليفرحوا بذلك، ولم يكن ذلك صواباً.. ليس من الدين.. الكلمة نفسها وموقع هذه العقوبة.. الأحكام الجنائية الإسلامية ضئيل جداً فالناس تركوا غالب هذه الأحكام وتحدثوا في أربعة أو خمسة حدود أو دون ذلك".
ثم يشير إلى خوفه من ردة الفعل العالمية لو أقيمت الحدود فيقول:
"الآن لما قام القانون الجنائي الذي كان معداً أيام الحكم السابق في الجمعية التأسيسية، لكنه الآن نفذ من الواقع للإعلام العالمي والضغط العالمي.. الضغط العالمي شديد في مسألة الحدود هذه خاصة بعد قطع أو جلد زان أو مختمر إلا في البلاد التي يوازن الضغط أيضاً رخاء في الثروة عندها، كالبلاد الإسلامية التي تجاورنا شرقياً [يقصد السعودية].. فلأنهم يطمعون في ثرواتها يسكتون، حتى لو رأوا بأعينهم الحدود وكرهوها. أما هنا فإذا وجدوا فينا مشهداً من تلك المشاهد فيمكن أن يقيموا الدنيا كلها والقرارات العالمية كلها".
حديث الترابي مع "ديرشبيغل" ذكرني بمقابلة أجراها أحد الذين يهرفون بما لا يعرفون مع إحدى الفضائيات الأوربية، وكان موضوعها: مكانة المرأة وحقوقها في الإسلام، وأرهق المتحدث نفسه وهو يحشد ما يظنه أدلة يثبت من خلالها أن المرأة في الإسلام مثل الرجل سواء بسواء، ولعله كان يتوقع بأن المستمعين سيعجبون بطرحه، وفوجئ عندما أنهت المذيعة المقابلة وهي تقول: الحكم الشرعي في هذه المسألة معروف ومشهور، ولن تستطيع أنت ولا عشرات من أمثالك تغييره. وهكذا حال ومآل من أراد إرضاء الناس بسخط الله.
الأنكى من ذلك كله أننا أمام دولة ترفع شعار الإسلام: عقيدة [طبعاً الفن من العقيدة]، وشريعة ونظام حياة.. ثم لا تقيم الحدود، وها قد مضى على قيامها عشر سنين دون أن تظهر منها أية بادرة تعرب فيها عن نيتها في إقامتها، مع أن الجبهة القومية أثناء الحكم الذي سبق انقلاب 1989، كانوا يتهمون بعض الأحزاب الحاكمة بالكفر لأنها كانت تراوغ في مسألة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ومنها إقامة الحدود.
وهاهو شيخ هذا النظام ومنظره يقول لمجلة "ديرشبيغل" الألمانية: إننا لا نقيم الحدود لأن تفسيرنا للشريعة متطور [وسيأتي الحديث عن هذا التطور]، وليس في قوله هذا أي اعتذار، ولا أي وعد بأنهم سيستدركون هذا النقص.
وفي مقابلته مع جريدة القدس يقلل من شأن إقامة الحدود. ويهاجم العلماء لأنهم لا يحملون إلا التراث محفوظاً في أذهانهم، ويعتقد أن بعض الأحكام مثل "الربا" تحتاج إلى اجتهاد جديد، والاجتهاد عنده مغاير للاجتهاد الشرعي، وقد رأينا من قبل إلغاءه لحد الردة.
ويستغرب الترابي كيف ترك الناس الاهتمام بأحكام الشريعة، وتحدثوا في أربعة أو خمسة حدود أو دون ذلك.
الناس الذين يقصدهم الترابي يهتمون بالإسلام كله، ويعلمون بأن الإسلام جاء ليحكم، وليكون الدين كله لله، قال تعالى: ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)) [المائدة: 44].
وقال: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في صدورهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)) [النساء: 65].
أما الغرب الذي يخشاه فلقد حرك دول الجوار وبالأخص: أرتيريا، وأثيوبيا، وأوغندا، وقوات قرنق، وقدم لهم كل أنواع الدعم المادية والمعنوية، ومع ذلك كله فقد عجزوا عن تحقيق هدفهم في إسقاط نظام الإنقاذ، ترى أين عقيدة التوكل على الله؟ قال سبحانه وتعالى: ((الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله. والله ذو فضل عظيم)).
وقال تعالى: ((أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين)).
وسواء كانت الحدود التي ألغاها الترابي حداً واحداً أو أكثر.. وسواء كانت الحدود التي أعرض عن تطبيقها رغبة أو رهبة حداً واحداً أو أكثر فيجب قتال هذا النظام إذا توفرت الاستطاعة كما قاتل أبو بكر الصديق صنفاً من أصناف المرتدين امتنعوا عن دفع الزكاة دون غيرها من أحكام الإسلام، وهذا ما أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم بعد أن استبان لهم الدليل.
يقول الشيخ رشيد رضا ما موجزه:(1/500)
"من المسائل المجمع عليها قولاً واعتقاداً أن إباحة المجمع على تحريمه: كالزنا، والسكر، واستباحة الحدود، وشرع ما لم يأذن به الله كفر وردة". [تفسير المنار: 6/367].
2- نعود إلى حديث الترابي عن الاتحاد والفناء في ذات الله بالفن، وكان مما قاله فيما مضى من هذا البحث:
"والدين التوحيدي هو الذي يحرر المؤمن من كل ما يستعبده في النفس والمجتمع ويخلصه لربه فيلتزم من تلقاء نفسه بأمر الله، ويتحد ويفنى فيه. ولا يستشعر مجانبة ولا حرجاً" اه.
أصحاب هذا الاعتقاد يقولون: إن وجود المحدثات المخلوقات هو عين وجود الخالق، ليس غيره ولا سواه، والاتحاد نوعان: اتحاد عام وهم الذين يعتقدون أن الكائنات المخلوقة متحدة في ذات الخالق، واتحاد خاص وهم الذين يقولون: إن الله هو المسيح بن مريم. قال تعالى: (( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم))[المائدة:17].
ودعاة الاتحاد العام أشد كفراً وزندقة من دعاة الاتحاد الخاص، يقول ابن القيم في نونيته:
حاشا النصارى أن يكونوا مثله * وهم الحمير وعابدوا الصلبان
هم خصصوه بالمسيح وأمه * وأولاء ما صانوه عن الحيوان
هل كان الترابي يفهم معنى الاتحاد والفناء في ذات الله، أم كان يلقي الكلام على عواهنه؟ هذا ما سوف نشير إليه بعد الانتهاء من عرض "فكر الترابي" إن شاء الله.
3 - يدعي الترابي أن في الإسلام جوانب كثيرة علمانية، قال في جريدة الراية القطرية [19/10/1986]:
"إن للإسلام جوانب علمانية كثيرة.. وإن العلمانية لا دينية سياسية.. ليس لأنها ضد الدين، ولكنها ليست من الدين في شيء.. كما أنها لا تريد أن تلغي دور الدين أو تهمله في الحياة عامة.. فلا شأن لها بذلك.. ولكنها نظرية أو مذهب أو عقيدة سياسية يحسن أن نسميها اللادينية السياسية".
4 - وعن الجهاد يقول:
"القتال حكم ماض، هذا قول تجاوزه الفكر الإسلامي الحديث، في الواقع الحديث، ولا أقول إن الحكم قد تغير، ولكن أقول إن الواقع قد تغير، هذا الحكم عندما ساد كان في واقع معين، وكان العالم كله قائماً على علاقة العدوان، لا يعرف المسالمة، ولا الموادعة، كانت امبراطوريات، إما أن تعدو عليها أو تعدو عليك. ولذلك كان الأمر كله قتالاً في قتال، أو دفاعاً في دفاع - إن شئت -" (10).
قوله هذا مخالف للقرآن والسنة والإجماع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن السبب الذي ذكره حجة عليه وليس له لأن هذه الامبراطوريات - الدول الكبرى - ما زالت تعدو علينا، وتحرض حلفاءها في المنطقة ضدنا، وما أمر حرب الخليج الأولى والثانية عنا ببعيد، كما أن إسرائيل ما زالت تحتل فلسطيننا منذ أكثر من نصف قرن، وفي عام 1967 ابتلعت القدس ومعها أراض عربية تتجاوز ضعف المساحة التي ابتلعتها عام 1948.
وهو (الترابي) لا يجهل وجود هذه الامبراطوريات القوي في الدول الإفريقية المحيطة بالسودان، وسعيها الحثيث بالتعاون مع الأمريكان من أجل الإطاحة بنظام الإنقاذ.
ومن جهة ثالثة فقوله هذا يتعارض مع:
خروجه المسلح - ومعه المعارضة - على نظام جعفر نميري عام 1976، وكان يعتبر خروجه جهاداً في سبيل الله مع أن الجنود السودانيين الذين كان يقاتلهم مسلمون، ولم يكن هذا القتال من أجل تحكيم شريعة الله.
انقلابه العسكري عام 1989 الذي جاء بحكومة الإنقاذ.
قواته الشعبية المسلحة التي تقاتل المعارضة السودانية في جنوب البلاد وشرقها، ويشرف بنفسه على هذه القوات، وعلى الاحتفالات التي يسمونها "عرس الشهيد" فما بال الرجل يوقع نفسه في تناقضات ليس لها حدود؟.
5 - تطاوله على الأنبياء:
يقول عن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: "ده شخص راق لكن ما تقولوا: معصوم ما يعمل حاجة غلط".
وعن إبراهيم عليه السلام قال:
"كان شاكاً في ربه عابداً للكواكب قبل البعثة".
وأن يونس عليه السلام غاضب ربه وظن أنه لن يقدر عليه، وأنه شرد من قومه.
وأن موسى عليه السلام اعترف بجريمته، وفي محاضرة أخرى قال: اعترف بخطيئته.
وفي موضع آخر زعم بأن الله سبحانه وتعالى لم يعصم رسولنا صلى الله عليه وسلم إلا من الناس مستدلاً بقوله تعالى: ((والله يعصمك من الناس))[المائدة: 67].
ويقول أيضاً:
"هسع كلمة العصمة دي، الصحابة كانوا بيعرفوها، هسع لو جابوا الصحابة كلهم قعدوهم بيعرفوا عصمة النبي؟ وما عصمة النبي؟ يقولوا لهم النبي كذاب. يقولوا: كلا حاشا ما نبي كذاب، لكن ما بيعرفوا كلمة العصمة، دي كلمة عملوها المتكلمين".
6 - تطاوله عل أعلام الإسلام:
رأينا فيما مضى كيف أنكر عصمة الأنبياء، وسلك في إنكاره سبيلاً ملتوياً، وفي محاضراته الكثيرة يحوم دائماً حول إنكار عدالة الصحابة - رضوان الله عليهم -، يقول عن طائفة منهم:
"ابن عباس عندما زروه [ضبطوه] قال أخبرني الفضل بن عباس يطلع غلطان في إخباره أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، وحاطب بن بلتعة (!) ارتكب خيانة عظمى، وعائشة كانت تقول: كذبوا [يعني نفراً من الصحابة] على رسول الله".
وفي موضع آخر يتهم الصحابة باتباع الهوى، يقول في هذا الشأن:
"إذا رأينا نأخذ كل الصحابة أو لا نأخذ، قد نجيء بعمل تنقيح جديد. نقول الصحابي إذا روى حديثاً عنده فيه مصلحة نتحفظ فيه، نعمل روايته درجة ضعيفة جداً. وإذا روى حديثاً ما عنده فيه مصلحة نأخذ حديثه بقوة أكثر ويمكن تصنيف الصحابة مستويات معينة في صدق الرواية".
وزعم في موضع ثالث أن الاختلاط لم يكن مستنكراً ولا مستغرباً في حياة الصحابة، قال في محاضرة الديوم الشرقية:
"الصحابة كانوا يتعارفوا كلهم، زي ما بتعرف يقول ليك زينب أي الزيانب؟ في كم زينب يعرفوها، ما في مشكلة، .. لفت وشها برضو يعرفوها.. يغضوا النظر لمن البصر يعمل فتنة".
وفي محاضرة بعنوان (قضايا أصولية وفكرية) بالديوم الشرقية:(2/1)
"الضوابط العملوها لتصحيح السنة إيش، جابوها من فين الضوابط العملها البخاري، من هو البخاري؟ بشر يخطئ ويصيب، وضوابطه قد تكون مقبولة أو غير مقبولة. فقد نجد معايير عملها البخاري ما صحيحة، لا تؤدي إلى الحقيقة، وقد نجد معايير أضيق من اللزوم، اللي بيدعي أنه صحيح في ضعيف فيه، حتى الليلة إذا وصل الناس أنه في خمسين حديثاً في البخاري ضعيف، إيه الفتنة الدينية اللي بتحصل لنا".
وقال في موطن آخر من المحاضرة نفسها مشككاً بعدالة الصحابة وبصحيح البخاري:
"لازم لمن تجي تقوم تمتحن ضوابطه [أي البخاري] لمن تجي وأنت مؤتمن البخاري.. المسلمين.. آه .. آه.. آه خلاص ما في شيء.. من وثقه فهو كذا.. ومن جرحه فهو مجروح.. ومن عدله فهو عدل.. كل الصحابة عدول ليه؟ ما شرك يشترك ذلك في كثير أو قليل. يمكن لنا اليوم عندنا وسائل كثيرة جداً، البخاري ما كان يعرفها!!" (11).
الأنبياء ليسوا معصومين، ولما كانوا كذلك فلا بأس من رد أقوالهم إذا كانت تخالف عقل الترابي ومن يرى رأيه.
والصحابة ليسوا عدولاً، ولا يختلفون عن غيرهم من الناس فيما يقولونه أو ينقلونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومصطلح الحديث يجب أن يجدد، وفي ظل هذا التجديد يصبح الترابي وأصحابه رقباء على الصحابة رضوان الله عليهم "فإذا روى الصحابي حديثاً عنده فيه مصلحة نتحفظ عليه، نعمل روايته درجة ضعيفة جداً".
أما البخاري فيقول: من هو البخاري؟ وكأنه أراد أن يقول: إنه لا يختلف عني في شيء، ولا ينبغي أن يتفق أهل السنة على قبول كل ما ورد في صحيحه.
إن الترابي ينسف بهذه الأقوال الخطيرة الإسلام من أساسه لأن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لها قوة القرآن الكريم، والصحابة - رضوان الله عليهم - نقلوا إلينا القرآن الكريم والأحاديث النبوية، فإذا كان بينهم الكذاب والخائن وكذا وكذا - حسب قول الترابي - فديننا كله موضع شك والعياذ بالله.. لا أدري لماذا لا يمنح أعداء الإسلام هذا الرجل جائزة نوبل؟.
7 - ألقى الترابي محاضرة بجامعة الخرطوم [في: 30/4/1995]، وقد احتوت على أهم آرائه في علم التفسير والمفسرين، وكان مما قاله: إن كتب التفسير عبارة عن حكايات وقصص وآراء شخصية لمؤلفيها، وسخر من بعض ما ورد فيها وخاصة في تفسير القرطبي، وأضاف بكل استهتار:
"الرسول بشر مثلنا يوحى إليه - ماحَيْفَسر القرآن لهذا اليوم، لأنه لا يعرف هذا اليوم".
ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرف هذا اليوم والترابي يعرفه إذن لابد من وضع تفسير بذلك، وقد وعد فيلسوف آخر الزمان بإنجاز هذه المهمة.
كانت هذه المحاضرة موضع استياء طلاب العلم، وأصر الشيخ محمد عبد الكريم على وضع الحق في نصابه، وبيان جهل هذا المدعي وخبثه، فرد عليه في محاضرة ألقاها بجامعة الخرطوم نفسها، وكانت أحد أسباب سجن الشيخ الفاضل لمدة سنتين، دون أن توجه إليه أية تهمة، ودون أن يحقق معه، مع أن النظام كان يدعي في تلك الفترة أنه ليس للترابي أية مسؤولية.
وعلمت من عدد من الدعاة السودانيين يستحيل تواطؤهم على الكذب أن الترابي ألقى محاضرة [بعد الإجراءات التي اتخذها رئيس الدولة ضده] أمام طالبات الجامعة، وقال فيها ما موجزه: تحدث المفسرون في كتبهم عن الحور العين فهل تصدقن ما زعموه، والذي أعتقده بأنكن الحور العين!!.
اللهم إنا نسألك السلامة في الدين والدنيا والآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثامناً : الاجتهاد:
كلما سئل أو تحدث الترابي عن الاجتهاد في مفهومه الشرعي، كرر الأقاويل التي يرددها العلمانيون الذين يرون من حقهم الخوض في أخص معاني الدين والاعتقاد دون حسيب أو رقيب، وليس من حق أحد أن يحاسبهم على اجتهاد اجتهدوه!!
في مقابلة للترابي مع جريدة المحرر [1/8/1994] قال:
"وحين أذكر الاجتهاد فإنني أعتقد أنه واجب على كل فرد، وليس على العالم المزعوم أنه عالم. الكل مطالب بأن يتعاون ويتناصر في الاجتهاد، ويفتح باب حرية الرأي.." وهنا سأل رئيس تحرير الصحيفة:
هل أفهم من كلامكم هنا أن الحرية تعني الاجتهاد، كما يعني الاجتهاد الحرية؟ فأجاب: "نعم. نعم. والاجتهاد الحر ليس للعلماء فقط وبشروط معينة، بل لكل أحد لكل فرد. لابد من أن نجتهد معاً وجميعاً فيما هو محقق لمصلحة الجماعة.
إن نهضة الثقافة الإسلامية لا تنشأ من جهد علماء خمسة و عشرة. ولكن من نهضة الأمة كلها وصحوتها ومشاركتها. صحيح إن البعض يتقدم عادة فيعبر عن المجموع ومشاعره ومصالحه، ولكن المجموع يشارك".
هذا الاجتهاد الذي يراه الترابي حقاً للخاصة والعامة دون قيد أو شرط، هو سبب هذه الطامات الكبرى في عالمنا الإسلامي، فللزعماء حرمات لا يجوز الاقتراب منها، وللدساتير الأرضية قداسة لا ينبغي تجاوزها حتى في الدول الأوربية، أما الدين الإسلامي فليس له أية حرمة، والاعتداء عليه والطعن به حق مشاع لكل زنديق هدام، وعندما يعترض دعاة أخيار على ما يكتبه هذا الأديب أو ذاك الفيلسوف من موضوعات تطعن بأنبياء الله أو بركن من أركان ديننا الحنيف، يرتفع صوت العلمانيين ويشتد صخبهم منادين بإسكات هؤلاء الذين يريدون أن يعودوا بالبشرية إلى العصور الحجرية، وينهض ناس من أمثال الترابي مستنكرين مواقف الجامدين المقلدين الذين يريدون منع الناس من ممارسة حرياتهم في التعبير عن آرائهم ومواقفهم.
هؤلاء جميعاً - ومنهم الترابي - لا يجيزون لعامة الناس ممارسة مهنة ليس لهم أي علم بها كالطب والهندسة وغير ذلك، أما العبث في الدين فنعم، وأضيف ما قلته فيما مضى: إن ضحايا الترابي من إخوانه الذين مارسوا اجتهاداً يخالف اجتهاده أكثر من أن يحصيهم العد.
تاسعاً : الكرة جهاد في سبيل الله:(2/2)
"أشاد الدكتور حسن عبد الله الترابي الأمين العام للمؤتمر الشعبي الإسلامي بما حققه فريقنا القومي للشباب والكبار وذلك من خلال اللقاء الذي جرى بين سعادته والأستاذ عدلان يوسف رئيس التحرير. وقال د. الترابي: إن الله غالب على أمره، ونحمد الله أن صفوف الكرة قد استوت مع صفوف الصلاة فكان النصر المؤزر، وقال د. الترابي: مما يُسرُّ له أنني سمعت بأن المعسكرات كانت على قدر عالٍ من الانضباط والتربية الروحية والدينية، وأن الكرة لم تعد الآن لعباً ولهواً، فهي جهاد في سبيل الله". [جريدة "الكورة" السبت 14 يناير 1995، الموافق 13 شعبان 1415 ه].
تعليق: زعم فيما مضى بأن قول الفقهاء: القتال حكم ماض. قد تجاوزه فكر الترابي وأصحابه أما لعب الكرة فهو جهاد في سبيل الله!!!، والفن [الرقص والغناء والموسيقى] من عقيدة التوحيد الإسلامية، وكل يوم وهو في زيادة.
عاشراً : حديث الذبابة:
قال صلى الله عليه وسلم: "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينتزعه فإن في إحدى جناحيه داء وفي الأخرى شفاء".
ورد من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك.
1 - حديث أبي هريرة أخرجه البخاري 2/329، 4/2271، الدارمي 2/99، ابن ماجة (3505)، أحمد 2/398.
وفي رواية البخاري (فليغمسه كله).
2 - حديث أبي سعيد الخدري لفظه: "إن أحد جناحي الذباب سم، والآخر شفاء، فإن وقع في الطعام فامقلوه (12)، فإنه يقدم السم، ويؤخر الشفاء"، رواه أحمد 3/67، ابن ماجة (3504)، الطيالسي في مسنده (2188)، النسائي 2/193، وابن حبان في صحيحه (1244)، وصححه الألباني في الصحيحة 1/95، صحيح الجامع 1/205.
3 - حديث أنس بن مالك رواه البزار 3/329، 2866، الكشف، الطبراني في الأوسط 1/154. قال الشوكاني: قال الحافظ وإسناده صحيح، نيل الأوطار 1/66، وانظر الصحيحة 1/96.
تعرض الترابي لهذا الحديث في محاضرة له بجامعة الخرطوم بتاريخ 12/8/1982، فكان مما قاله: "في الأمور العلمية يمكن أن آخذ برأي الكافر، وأترك رأي النبي، ولا أجد في ذلك حرجاً البتة، ولا أسأل فيه أيضاً عالم الدين".
فهو في هذه المسألة لا يهتم بتخريج الحديث، وبيان صحته من ضعفه، ويكتفي برده لأنه لا يستقيم مع عقله وتفكيره، ومن جهة أخرى فالرسول صلى الله عليه وسلم حسبما يعتقد غير معصوم، ورأي الكافر عنده أصوب من رأي [وليس من حديث] رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وكان يغنيه - لو تأدب بآداب الشرع - القول: إن نفسي تعاف الشراب إذا وقع فيه الذباب.
الحادي عشر : تطور الأصول والأحكام الشرعية:
يؤمن الترابي بفلسفة التطور في أصول الدين وأحكامه، يقول في كتابه قضايا التجديد:
"ما دام الدين - من حيث هو خطاب للإنسان وكسب منه - واقعاً في الإطار الظرفي، فلابد أن يعتريه شيء من أحوال الحركة الكونية. ولكنه - من حيث هو صلة وسبب للآخرة متعلق بالأزل الثابت - إنما يؤسس على أصول وسنن لا تتحول ولا تتبدل. وهو بهذا أو ذاك قائم على رد الشأن الظرفي المتحول إلى محور الحق الثابت، ورد العقل الزماني إلى المقصد اللانهائي، فحركة التحول الدائبة في ظرف الحياة توشك أن تحول الإنسان عن الحق المطلق، فيلزم ديناً من ثم أن تقع له أو منه حركة دائبة محاولة تصحيح وجهته وتقويم سيره لئلا ينحرف بتدينه الواقع عن سنة الله الواجبة".
ويقول أيضاً [مجلة المجتمع الكويتية، العدد: 573]:
"والدعوة للتجديد ليست دعوة للخروج على أصول الدين، إنما هي دعوة للتحري بمقتضى الدين في كل ظرف جديد للتعبير عن الدين وأحكامه وقيمه.. ولابد من منهج جديد.. وكذلك الفقه وتطور المجتمعات تستوجب فقهاً جديداً والدعوة سبقت إلى تجديد أصول الفقه. فلابد أن تتغير النظرة إلى الأصول، وإذا كانت الأصول الإغريقية في المنطق قد تغيرت كثيراً وقد كملتها أصول في المنهج العلمي الطبيعي والمنهج الاجتماعي، فعلى المسلمين أن يستعينوا بهذا ليسخروها في عبادة الله في مسائل الاجتهاد".
وهاهنا يبرز منهج الترابي العلماني بشكل ليس فيه أدنى لبس أو غموض، وذلك لأنه يتبنى نظرية التطور التي تقوم على استعمال المنهج العلمي [وما هو بعلمي] التجريبي، ويرى أن كل شيء في الدين قابل للتجديد والتطوير، ويستثني من ذلك كل ما له صلة باليوم الآخر، ومن هذا المنطلق جاءت دعوته إلى تجديد أصول الدين، وأصول الفقه، وأصول الحديث في كتيبات ألفها، ومحاضرات نشط في إلقائها في أماكن مختلفة.
ومن هذا المنطلق نفهم قوله الدائم لكل حكم شرعي يرده: كان هذا في عصر الرسول والصحابة والتابعين، وقد تغيرت الأحوال فلابد من تغير الحكم.
والترابي ليس أول الداعين لهذه البدعة، فقد سبقه كثيرون، ولكن معظمهم لم يكن بمثل صراحته.
ومما ينبغي التأكيد عليه أن أقوال الترابي في الاجتهاد وتطور الأحكام وتغيرها، لا تلتقي بحال من الأحوال مع الاجتهاد وفق ضوابطه الشرعية، ولا مع القواعد الأصولية، مثل قاعدة: "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان"، وقاعدة: "لا ضرر ولا ضرار"، ولا اجتهادات عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
12 - رد الدكتور محمد عبدالقادر أبوفارس :
يعد الدكتور أبوفارس أحد أبرز قيادات جماعة الإخوان المسلمين في الأردن . وقد ساءه مسلك الترابي التجديدي الذي انحرف بالحركة الإسلامية عن منهج أهل السنة والجماعة ، فاضطر الدكتور للرد عليه ومواجهته بصراحة قلما نجدها في جماعة الإخوان المسلمين . فقال في كتابه " نظرات إسلامية في مصطلحات وأسماء شائعة " ( ص 60 - 64 ) :
( الترابي والترابيون :(2/3)
الترابي والترابيون : هم جماعة فتنوا بأفكار حسن أحمد عبد الله الترابي . وهو سوداني النشأة والحياة ، درس القانون وتخرج من الجامعة الفرنسية ( السوربون ) حاصلاً منها على درجة الدكتوراه في القانون . والترابيون هم الذين فتنوا به وأعجبوا به من السودان ومن غير السودان ، فله معجبون في الأردن وفي اليمن وفي الجزائر وفي سوريا وفي لبنان وفي تونس ، ومن أكثر البلاد تأثراً به نفر من الإخوان المسلمين الأردنيين ، إذ كانوا يستقبلون رسله في بيوتهم من شباب وشابات قطعن هذه المسافات الشاسعة بدون محارم ، بل كان شباب الإخوان الأردنيون يسألونهم عن ذلك السفر الطويل وحكمه بلا محرم ، فكانوا يقولون : " الفقه الشرعي يمنع ذلك أما الفقه التنظيمي فيجيز ذلك ، ونحن نتبع الفقه التنظيمي " !! وكانوا يجمعونهم في بيوتهم مع بعض الشباب والشابات من طلاب الجامعة الأردنية !
وكان إذا جاء أحد الترابيين احتفلوا به احتفاءً بالغاً وأكرموا وفادته ، وكانوا يدافعون عن الترابي وتصرفاته وتصرفات جماعته ، حتى ولو كانت تلاوة الإنجيل عند افتتاح مجلس الشعب !! ، وطرد المجاهدين الإريتريين من السودان أو الطلب منهم إلقاء السلاح وترك الجهاد إن أرادوا أن يبقوا على أرض السودان . وفي نفس الوقت يلقون قادة الإخوان في مصر بألسنة حداد ، وقد بلغ بأحد الإخوان الأردنيين المعجبين بالترابي والترابية وهو أول مدير مكتب نواب الحركة الإسلامية السيد عزام التميمي أن يدعو شباب الإخوان المسلمين في الأردن وغير الأردن لمبايعة الترابي ، فهو صنو الإمام حسن البنا . جاء هذا الكلام والرد عليه في جريدة الإخوان المسلمين (الرباط ) ، وفي جريدة ( اللواء ) بالبنط العريض الكبير : حسن الترابي صنو حسن البنا ، ليخرج شباب الإخوان من شرنقتهم ويبايعوا الترابي ، ولما اعترض كاتب هذه الأسطر وغيره ، أمام أحد أعضاء المكتب التنفيذي للإخوان المسلمين في الأردن على هذا الكلام دافع عنه عضو المكتب بقوله : هذا رأي ولا ننكره على صاحبه ولا نمنعه ، ولما رد عليهم الدكتور الفاضل صلاح الخالدي شكلت له محكمة وحوكم على رده على الترابي المذكور .
وممن كان معجباً بالترابي كثير من إخوان اليمن وعلى رأسهم الشخص الذي كان مديراً للمخابرات اليمنية في عهد علي عبد الله صالح ، وكان حريصاً على أن تتغلغل جماعة الترابي في صف الإخوان المسلمين وتسيرهم على سياسة الترابي ، هذا ما سمعته منه ، أقول هذا للتاريخ وللحقيقة ، حتى يحيى من حي علي بينة .
وممن كان معجباً بالترابي أو مدافعًا عنه وعن أخطائه وانحرافاته الأستاذ راشد الغنوشي ، لأنه يشاغب على قيادة الإخوان المسلمين في مصر ويريد إيجاد تنظيم عالمي ودولي غير تنظيم الإخوان المسلمين ، وقد جاء بصحبة الترابي عام 1991 ليدعو الإخوان المسلمين إلى التخلي عن قيادة الإخوان الذي أكل الدهر عليها وشرب ، وهذا مسجل بالصوت والصورة لفضيلة الأستاذ راشد الغنوشي . فهل أدرك راشد الغنوشي خطأه وخطأ مسعاه ؟ آمل أن يكون قد تخلص من هواه وصلح مسعاه .
والترابي جريئ في غير حق على السنة النبوية وعلى الصحابة ، رضوان الله عليهم ، وعلى مخالفة إجماع المسلمين ، وجريئ على أهل السنة والجماعة ، وجاء بفكرة تجديد الدين ، والتجديد في أصول الفقه وفي علم الرجال ، ولم يحترم هذه الأمة ولا القواعد التي اتفقوا عليها ولا قواعد التعديل والتجريح كذلك . مع أنه خريج جامعة السوربون الفرنسية في الحقوق وشهادته الدكتوراة منها ، كما أن صهره الصادق المهدي يحمل شهادته الدكتوراه من جامعة اكسفورد البريطانية .
وأخذت تصدر عنه فتاوى وتصريحات تخرج عن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع سنته الصحيحة ، من ذلك حديث الذبابة الذي رواه مسلم فقد قال : لو أخبرني طبيب كافر بأن الذبابة ليس في أحد جناحيها داء وفي الآخر شفاء لصدقت هذا الطبيب الكافر وتركت حديث النبي صلي الله عليه وسلم ، وأجاز أن يستمر زواج المسلمة من غير المسلم مع أن الله تعالى يقول : ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) [الممتحنة] ، فمن كانت مسلمة متزوجة غير مسلم أمر الله بتركها إياه وأمر المسلمين بالتعويض له عما فقد من زوجة مسلمة فارقته .
وفي إجابته على أسئلة مجلة ( دير شبيغل ) الألمانية حول تطبيق حد السرقة وحد الزنا ، قال : إن هذه الاحكام أصبحت تاريخية لا تناسب عصرنا ، ولن نقطع يد السارق ولن نعاقب الزاني العقوبة الواردة في القرآن ، هذا وقد رد عليه العلماء من السعودية والشام ومن غيرها . وكان يومها الرجل الأول فعلياً في نظام دولة الإنقاذ ، وكان الرجل في تنظيم جماعة الإخوان المسلمين في السودان هو وأتباعه ، ولقد استطاع أن يكون على رأس الهرم في الجماعة السودانية ، وأخذ ينحرف بها عن خط الجماعة حتى فاصله مجموعة من الإخوان على راسهم الأستاذ السيد الصادق عبد الماجد والدكتور الحبر يوسف أستاذ في الجامعة للغة العربية والدكتور عصام البشير .
وتدرج في الأمر حتى حل تنظيم الجماعة الذي كان يترأسه وشكل جبهة عريضة أوسع منه ، هي جبهة الميثاق ، ثم الجبهة القومية السودانية للإنقاذ وبموجب لوائحها وتنظيماتها ينضم إليها كل سوداني دون النظر إلى دينه ، مسلماً كان أو نصرانياً أو وثنياً .
وقام الضابط السوداني عمر البشير في مجموعة من الضباط وكلهم صرحوا بأنهم تلاميذ وأتباع حسن الترابي بانقلاب بمعرفة الترابي وموافقته ضد الديمقراطية التي أيدوها في السودان ، وسموها جميعاً ثورة الإنقاذ الوطني ، وحكومتها حكومة إنقاذ السودان . وأخيراً شكل مع البشير حزباً وحيداً هو حزب المؤتمر الشعبي الذي انتخب عمر البشير رئيساً له ، الأمين العام .(2/4)
وقد قامت الثورة بزعامة الترابي الفكرية وتوجيهاته بإلغاء جميع الصحف وجميع الأحزاب وتأسيس جبهة الإنقاذ وهي الحكومة الوحيد المسموح به . وقام الترابي بسن دستور جديد للسودان ، ولم يعتبر الإسلام المصدر الوحيد للتشريع في السودان ، بل فرق بين جنوب السودان وشمال السودان . ونص الدستور على أن من مصادر التشريع في السودان العرف السوداني الجنوبي ، وهو عرف وثني وغالبية أهله الساحقة وثنيون وغير مسلمين . والحكم الشرعي أن أحكام الإسلام تطبق على جميع رعايا الدولة . وهناك في الإسلام أحكام تتعلق بالكفار تطبق عليهم ، وأحكام تتعلق بالمسلمين وتطبق عليهم ، ونظام الإسلام العام يطبق على الجميع ولا يحكم غير الإسلام أبداً .
وتولى الترابي رئاسة المجلس التشريعي . وسن من مشروعات القوانين . وأتباعه الذين يشكلون الأغلبية في المجلس ما يضيق على رئيس الدولة عمر البشير ، وما يوصل الترابي إلى رئاسة الدولة ، وهذا ما لا يرضي قائد الثورة البشير ، فحصل خلاف بين الترابي والبشير . فالخلاف بينهما كان على السلطة ولم يكن لله ولا لتطبيق شرع الله وأحكامه ، فأصدر البشير كرئيس للدولة حل المجلس وأبعد الترابي عن كل المسؤوليات هو وأتباعه .
وقد شكل الترابي حزباً جديداً سماه حزب المؤتمر الوطني الشعبي ، وأصبح هذا الحزب معارضاً للبشير وحكومته . وقد قام الترابي في يوم الثلاثاء الموافق : 20/2/2001 م بتوقيع مذكرة تفاهم مع قائد المتمردين جون قرن الذي كان الترابي يطلق عليه قائد المتمردين ، وعدو الإسلام والمسلمين ، ويعبئ الشباب على الجهاد لقتاله وقتال جيشه ، وقدم السودان مئات الشهداء من هذا الشباب المجاهد ، ولا يزال القتال مستمراً في جنوب السودان بين أتباع قرنق الكفار وبين الشباب السوداني المسلم المجاهد .
علماً بأن مذكرة التفاهم بين الكافر قرنق وحزب الترابي كانت ضد حكم البشير والتعاون لإسقاط حكمه .
وأذيعت بصوته وصوت قادة الحزب تصريحات تزكي جون قر نق وتقول : إن جون قر نق ليس عدواً للإسلام ، علماً بأنه صليبي حاقد على الإسلام و المسلمين ، وسمى جيشه الذي يقاتل به المسلمين الجيش الشعبي لتحرير السودان . واعترض بوضوح على التوجه نحو تطبيق الإسلام ورفض ذلك ، ويظهر جلياً من اسم جيشه : الجيش الشعبي لتحرير السودان بأن جيشه هدفه تحرير السودان وليس تحرير الجنوب . وفي ظرف مضى وصلت قواته قريباًَ من الخرطوم عاصمة السودان وهددت الدولة بالسقوط .
ولكن الله تعالى تدارك برحمته وفضلة فسخر شباباً مجاهداً يصد قرنق وجيشه ويدحره بعد أن سقط منهم شهداء كثيرون .
كما صرحوا بأن هناك ظلماً لجنوب السودان وتمييزاً لأهل الشمال في السودان على أهل الجنوب وطالبوا بإنصاف أهل الجنوب والانتفاع بخيرات السودان كأهل الشمال .
علماً بأن الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا تقوم بدعم هذا الجيش وتزويده بالمساعدات المالية وغير المالية ، وهي التي ضربت السودان ومصنع الدواء المقام على أرضه .
يعلم الله أنني عرفت هذا الرجل والتقيته مرات عديدة ، وحاورته وحاورت أتباعه في أكثر من مكان وخرجت منذ تسعة عشر عاماً ونيفاً برأي ، وهو أن الرجل خطير وبراغماتي والأنانية عنده كبيرة وكثيرة ، وأن حب الزعامة والسيطرة قد تغلغلت إلى شغاف قلبه فأودت به وبجماعته إلى أحضان أعدائه ، وجعلته يعادي أقرب أتباعه ونصرائه في الجيش وفي الحكومة حتى رأس الدولة ، علماً بأني لا أقف مع فريق دون فريق آخر ، لأني لا أؤمن بالحكم العسكري ، وأيقنت بل كنت أصرح بوضوح في أكثر من مكان أن الرجل ليس بداعية إسلامي وليس صادقاً في دعوته إلى تطبيق الإسلام قبل أن يصل إلى الحكم ، وإنما يرفعه كشعار ليس إلا ، مما كان يغضب كثيراً من السذج ويناصبوني العداء لأني أقول رأيي واعتقادي في هذا الرجل الذي افتتن بنفسه وفتن غيره .
وان كنت أنسى فلا أنسى قدوم الدكتور حسن الترابي والأستاذ راشد الغنوشي إلى المركز العام للإخوان المسلمين في عام 1991م ضمن وفد إصلاح في حرب الخليج قبل أن تبدأ ، وقد تكلم الاثنان فأساءا ولم يحسنا وأخطأا ولم يصيبا في بعض القضايا الحاسمة المتعلقة بالعمل الإسلامي وقيادة الإخوان المسلمين العالمية ، فاستأذنت المسؤول عن الجلسة لأناقش السيدين الترابي والغنوشي فيما أبديا من آراء فأذن لي وكان الأخ أبو ماجد المراقب العام للإخوان المسلمين ، فوقفت لأتكلم فوقف أحد الترابيين وهو نائب شعبة من الشعب وقال : لا تتكلم لا نريد أن نسمع منك ، عقليتك عقلية مخمجة ، وقام دكتور في الجامعة الأردنية أصبح وزيراً فيما بعد في أكثر من وزارة وأول وزارة شارك فيها الوزارة التي عقدت مع العدو اليهودي اتفاقية وادي عربة ، وكنت نقيبه لمدة سنوات ، وقال لي : اسكت لا تتكلم ، ووقف ثالث ورابع وخامس من الترابيين من إخوان الأردن يمنعني من الكلام ، فانقسم الإخوان إلى قسمين : قسم يطالب بإصرار أن أتكلم وقلة لا تريد أن أبين عوار آراء الترابي والغنوشي ، وقطعت الكهرباء عن المذياع ، وأمام هذا قلت درءاً للفتنه : أمتنع عن الكلام .
ومما يجدر ذكره أن أحد المعترضين على حقي في الكلام والمنافسة كانت حجته أننا جئنا بهما ليقولا ما قالا من آراء فإذا تكلم الدكتور أبو فارس خمس دقائق يمسح آراءهما ولا يبقي لها أثر في نفوس السامعين !! ) .
13 - رد الأستاذ محمد المليفي : وهو بعنوان " قصة الترابي الحقيقية " منشور على شبكة الأنترنت :
(1)
هل هذا هو النموذج الإسلامي الذي تريدوننا أن ننتهجه؟
هل هذه هي الدولة الإسلامية التي تريدون إقامتها؟
وإلى متى نقدم لشعوبنا الإسلامية تجارب فاشلة تريق ماء وجوهنا أمام العالم أجمع؟(2/5)
كثيرة هي الأسئلة سواء من المشفقين أو المخذلين أو العلمانيين أو حتى من عوام الإسلاميين؟ وأغلبية هؤلاء تكمن الإشكالية لديهم وتتمحور في عدم تفريقهم بين التطبيق الخاطئ للإسلام وبين عظمة نظام الإسلام وشريعته وحدوده وروحه ونفسه00 وكم هي مشكلة يا معاشر السادة القراء عندما ينسب الفشل إلى الإسلام وليس إلى المسلمين!
قبل أيام اجتمع الدكتور حسن الترابي مع أنصاره بمنزله في الخرطوم وقال " إن عمر البشير يسعى لاسترضاء الغرب لتعطيل دين الله00 " وفي ختام حديثه قال إن الحركة الإسلامية اليوم مفصولة عن السلطة بسبب عملاء الغرب " وتصريح الترابي هذا يعني بعبارة أخرى أن البشير باع الدين من أجل الغرب وهي تهمة تحمل بين طياتها التكفير الصريح للرئيس عمر البشير!
وأما عن تصريحه القائل بفصل الحركة الإسلامية عن السلطة فهي تعني باختصار أن الحركة الإسلامية المفصولة هي أنا حسن الترابي وتفسيري هذا ليس اجتهاداً شخصياً مني بل هو تجسيد لعقلية ونفسيه الدكتور حسن ومشكلة الترابي ثقته المفرطة في نفسه فهو يرى من نفسه صاحب العقل الموسوعي الذي يتحدث ويعرف ويعمل كل شئ، فهو في عام 1977 كان المدعي العام الإشتراكي في حكومة النميري وترقى لكي يصبح الأمين العام للاتحاد الإشتراكي ، وهو قبل هذا التاريخ عدو لدود للنميري وكان لا يسيمه إلا الطاغوت العسكري الذي لا يطبق الشريعة00
والعجيب أنه كان من أقطاب الإخوان المسلمين في السودان وبعقله الموسوعي جرهم وراءه ليصبحوا جزءاً هامشياً من النظام العسكري الذي خرجوا عليه بسبب مروق النميري من الدين واعتباره طاغوتاً ولأنه يصلح لكل شئ فهو كما ترأس الاشتراكية كذلك ترأس الحركة الإسلامية بل وصار فقيهها ومفتيها ومنظرها العقائدي وينافس شيخ الختمية على المشيخة وينافس إمام المهدية السيد الميرغني على المهدية!
وبلمحة سريعة على شخصية الترابي وارتباطها بما آل إليه الأمر الآن يمكنني أن أترجم له سيرته الضبابية كالتالي:
بعد أخذ الترابي الدكتوراه في الحقوق الدستورية من جامعة السوربون بباريس 1962 لم يكن لديه في تلك الآونة أي علاقة بأي جماعة إسلامية وبدأت صلته مع الجماعات الإسلامية ومع الإخوان المسلمين بالذات في عام 1964 واللافت للنظر أن علاقته ظهرت مباشرة ومن غير مقدمات من خلال مشاركته في قيادة ثورة أكتوبر الشعبية ضد الحكم العسكري لإبراهيم عبود والتي انتهت بسقوط النظام العسكري وقيام حكم برلماني بديل، ومع أن الإخوان المسلمين كانوا قد بدءوا نشاطهم بالسودان منذ عام 1954 ولديهم من القيادات والرجال ممن هم أكبر سناً وخبرة من الترابي إلا أن الترابي تصدر طلائعهم وصار من قيادييهم وليست هي من عبقرية الترابي حتماً ولكن حمله لشهادة الدكتوراه في تلك المرحلة بالذات جعلت له من الوجاهة والألقاب العلمية التي فتنت أفراد الجماعة به0
وشخصية الدكتور الترابي كما أشرت في أول المقال بتشكيل هالة له بأنه الرجل الموسوعي والمرجعي جعلته يبدأ صراعاً داخل هيكل الإخوان المسلمون من جهة وحسن الترابي من جهة أخرى0
حيث أنه كان يعمل في كل حركاته وسكناته على مفهوم التجديد الذي جعله عكازة له في كل عبثه واختراقاته سواء أكان على مستوى الجماعة واستخدام أفرادها ليكونوا تبعاً لفكره المنحرف وحكايا عقله دون منهج مدرسة الأخوان أو كان على مستوى العقائد والفقه والأصول كما فعل في كتابه تجديد أصول الفقه وهو كتاب بمجرد أن تتصفحه تدرك أنه تمييع وتحريف لأصول الفقه بل واقل انحراف فيه هو مهاجمته لأصلي القياس والإجماعي ودعوته الخرقاء لفتح باب الاجتهاد لكل مسلم0
كان الترابي في العام 1965 إلى 1969 زعيماً للإخوان المسلمين وهو ليس مقتنعاً بفكرهم! وأدل شئ على هذا تلك الحواجز التي صنعها مع التنظيم الدولي للجماعة وتأكيده على إقليمية القرار حيث أنه أدرى بالشأن الداخلي والأصلح لإخوان السودان من قيادات الخارج حتى تفجر الصراع بين تياري الإخوان هناك مما أفرز قطبين داخل الجماعة تيار العقل المفتوح " السياسيين " وتيار " التربويين " وقد أطلق عليهم الترابي لقب الإنكماشيين وهي حركة ذكية منه لينكمش أفراد الإخوان منهم فينكمشون إلى غير رجعة! ولقد تحدث الدكتور عبد الوهاب أفندي عن هذا الصراع في كتابه " ثورة الترابي " وكيف أنه حسن الصراع لصالحه بعد أن اقنع تيار السياسيين بضرورة دخول المعترك السياسي بكل تعقيداته مع القفز على المنهج التربوي وبناء الفرد الذي سيؤخرهم للوصول للسلطة وفعلاً نجح الترابي وتفلت الأفراد من قبضة التربويين من دون أن يستكمل بناؤهم وأصيب التربويون بالإحباط فبرزت إلى السطح ظاهرة الانسحاب إلى الظل متمثلة في استقالة أكثر من زعيم للحركة من رموز تيار التربويين وبذلك حسم الترابي الصراع لصالحه بعد استيلائه على أكبر كمية من عقول الأفراد وتطميعهم بكراسي السلطة0
ومن أمثلة استهتار الترابي بالتربويين هي دعوته للأوائل منهم الذي التحقوا بالحركة الإسلامية منذ الخمسينات إلى عشاء دسم في بيته بعد أن نجحت حركة الإنقاذ بالاستيلاء على السلطة عام 1989 وبعد انتهاء الوجبة قام بإهداء مصحف لكل واحد منهم وقال لهم لقد تعبتم كثيراً وكم هو جميل أن تتفرغوا الآن لقراءة القرآن!!
(2)
وما زالت جموع من المشفقين أو المخذلين يتساءلون هل هذا هو النموذج الإسلامي الذي تريدوننا أن ننتهجه؟ هل هذه الدولة الإسلامية التي تريدون؟ لنجيبهم بصوت جهوري من قال لكم إنه قد قامت دولة إسلامية أصلاً في السودان بعد؟
كل ما قام هناك وتشكل إنما هي دولة ترابية قامت على أفكار وأنقاض حسن الترابي.(2/6)
وعودة إلى منهج الترابي الذي يرتكز على الغاية تبرر الوسيلة. فلقد أسس الترابي في العام (1965-1969) بالتعاون مع بعض المنتمين للتيارات إسلامية حزباً سموه (جبهة الميثاق الإسلامي) ولست الآن في معرض تفصيل أنشطة هذا الحزب ولكني أنوه على أن فكرة الترابي التي قامت على إنشاء هذا الحزب هي استيعاب كل المؤيدين لأطروحات حسن الترابي سواء من الجماعات الإسلامية أو من غيرها وبغض النظر عن توجهات وسلوكيات المنتمين للجبهة ليتحقق له أكبر عدد من المؤيدين وهو التجميع السلبي الذي يسمى في الدروس الحركية بالتجميع الكمي.
ولقد انتبه أحد قادة الأخوان آنذاك وهو الشيخ محمد صالح عمر لانحراف الترابي وانحراف هذه الجبهة التي أقامها فقام بإصدار بيان يعلن فيه انسحابه من هذه الجبهة التي يقود انحرافها الترابي! وعودة من جديد إلى تاريخ الترابي فلقد حدث انقلاب عسكري بقيادة الجنرال جعفر النميري عام 1969 وتولى الإمام المهدي وأنصاره من الطائفة المهدية مع الحركة الإسلامية مقاومة حكم النميري بإعلانهم الخروج على النظام الحاكم ولكن النظام العسكري قابل هذا التمرد بمنتهى العنف فقتل تلك المقاومة شر قتلة بقصفهم بالمدافع! وعلى أثر هذه المذبحة تشكلت في العام 1974 جبهة وطنية تضم حزب الأمة والحركة الإسلامية وجماعة الهندي وكان من بينهم صاحبنا حسن الترابي وفي عام 1976 غزت قوات هذه الجبهة الخرطوم بقصد الإطاحة بنظام النميري وبعد قتال استمر عدة أيام هزمت قوات النميري الجبهة وبسحق هذه القوات استقر حكم النميري ولم يعد خصومه قادرين على القيام بأي محاولة عسكرية. والذي يعنينا من هذا العرض أنه تمكن أحد الوسطاء السودانيين من إجراء مصالحة بين النميري وكل من صادق المهدي وحسن الترابي فلم يستمر المهدي بالمصالحة ولكن الترابي اندمج كلية في النظام بل واصبح وزيراً في البلاط النميري، وهو أمر ليس بمستغرب على الترابي لأنه سبق وقلنا أن منهجه باختصار الغاية تبرر الوسيلة وما دامت الغاية هي الوصول للسلطة فالأولى أن أسمى الجنرال جعفر النميري بفضيلة الشيخ جعفر النميري، ولعل البعض ممن هو على شاكلة الترابي يقول (اشعرفه هذا المليفي بالتكتيكات السياسية والتخطيط والرسم لبعيد) فأقول وما الذي ميّع الدين إلا أمثالكم ممن جعلتم المصلحة هي التي تحكم الدين، وحتى صار عندنا إسلامي اشتراكي وإسلامي ديموقراطي وإسلامي متنور وآخر متحرر وإسلامي منفتح وآخر منشكح!!
وعموماً يجب أن يعرف الجميع أن النميري ليس بذاك الغباء كي يجعل من نوعية الترابي وزيراً عنده لأن النميري لم يضم الترابي إلى بلاطه إلا عندما وجد من طينته سلاسة في إعادة التشكيل حيث أن للنميري تجربة سابقة مع نموذج - نوعاً ما - يشابه الترابي وهو الرشيد طاهر بكر فلقد كان يعتبر من أحد كبار جماعة الإخوان المسلمين إذ كان فيما مضى المراقب العام لهم في السودان ولكنه أصبح فيما بعد من أعضاء الاتحاد الإشتراكي المؤيد للرئيس جمال عبد الناصر، فعلاً إنه نموذج صارخ للحديث النبوي الشريف ( يصبح مؤمناً ويمسي كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ) ولقد سبق أن نوهت في الجزء الأول من المقال أن قد الترابي صنع من نفسه تياراً داخل الإخون المسلمين لأنه الإخوان كانوا ممن صالحوا النميري آنذاك مصالحة شكلية مع بقاءهم في صف المعارضة ولكن الترابي تجاوزهم كلية في المصالحة مع النميري وأبرم لوحده اتفاقاً مع النظام وقد قبض ثمن هذا الاتفاق بتعيينه الأمين العام للاتحاد الإشتراكي!!! وهو - فعلاً - منصب يتوافق مع مشيخته وقيادته للحركة الإسلامية!!!
وعموماً إن دل هذا فإنما يدل على مدى انتهازية هذا الرجل وتناقضه الصارخ وحقيقته التي نكشفها للمخدوعين فيه! وانوه بشدة أن دخوله في الإتحاد الإشتراكي للنميري جاء في بداية سنة 1979 أي بعد سنتين فقط من المذبحة التي نفذها النميري في الإخوان المسلمين عندما شاركوا في انقلاب العقيد محمد نور في نهاية عام 1976 فتأملوا يا معاشر السادة القراء.
(3)
استعرضنا في المقالين الأولين تاريخ حسن الترابي السياسي الملئ بالتسلق والوصولية والدهاء ورغم أن ارشيفه عندنا حافل بالاعوجاج إلا أنى اشهد له انه يعتبر ظاهرة حركية لا يستهان بها ولديه من القدرات والمهارات ما يؤهله للقيادة ولكن ليس للحركة الإسلامية طبعاً وخصوصاً وأنها (مليانه) من القيادات المنحرفة!!
وبنهاية هذه الحلقات سوف استعرض لكم أهم وأخطر ما في هذه السلسلة التي أنهكت وأرهقت في كتابتها وقبل أن أبدأ بكشف انحراف حسن الترابي الفكري والعقدي استكمل ما بدأته باختصار من تاريخ الترابي.
استمر الترابي يتنقل ويتمرغ في أحضان السلطة النميرية من عام 1979 إلى عام 1985 والظريف حقاً هو ما يردده بعض المغفلين من أن للترابي حسنات في دخوله تحت بلاط النميري وهي سعيه لتشكيل لجنة لتعديل القوانين الإشتراكية كيّ تتماشى مع الشريعة الإسلامية ولقد هرعت لأتحقق من هذه اللجنة المزعومة التي لم يحركها إلا مظاهرات الإخوان المسلمين من أجل تطبيق الشريعة هناك فوجدت في كتاب التاريخ الإسلامي المعاصر لمحمود شاكر في المجلد ( 13) أن اللجنة التي شكلها ـ فضيلة الشيخ ـ النميري ! لإقامة الشريعة كانت على النحو التالي:
1- جعفر النميري رئيساً للجنة.
2- وجميع وزرائه في الدولة كوزير المواصلات والتجارة ووزير التعديل والزراعة وطبعاً كان الترابي من ضمن الجوقة لأنه وزير العدل ولكن من غير الأوقاف!(2/7)
3- والمشكلة ليست في هؤلاء الوزراء الذين شكلهم النميري لكي تقام الشريعة الإسلامية النميرية ولكن المصيبة في باقي الجوقة الكريمة لأنه كان من بين الأعضاء أيضاً أخونا في الله (!!) جوزيف كوال وزير المالية والتخطيط ويبدو أنه سيتخصص في إقامة فرض الزكاة! وكذلك من بين الأعضاء صموئيل كيتوت، وكذلك وزير التربية الإقليمي فيليب أويوي، وصموئيل ريتري وزير القوى العاملة، ولا عجب لأن الشريعة التي ستخرج من تحت عمامة النميري لا يهم أن يكون أعضائها من هيئة كبار النصارى ! وعموماً يقال أن تعاطف النميري النسبي مع التيار الإسلامي آنذاك بسبب محاولات الشيوعيين الفاشلة للإطاحة به أعطى بحبوبة للإسلاميين للتوغل في النظام العسكري السوداني وكان من ثمراته خروج عدد كبير من الضباط الذي نفذوا انقلاب 1989 (جبهة الإنقاذ الوطني) ولكن قبل هذا الانقلاب طارت حلاوة الكرسي في 1985 من حسن الترابي بعد الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بالنميري وترأس الحكومة بعدها عبد الرحمن سوار الذهب وبقي الترابي بعدهم يرسم للوصول للسلطة من جديد خاصة بعد أن ذاق (عسيلتها) ولم يعد قادراً على الدخول بها مجدداً!! في العام 1989 قاد بعض العسكريين انقلاباً في السودان بقيادة الفريق عمر البشير وأوهموا الناس أن دكتور الحركة الإسلامية حسن الترابي لا علاقة له بهذا الانقلاب وزجوه بتمثيلية مضحكة في سجن (كوبر) مع بعض السياسيين ليخرج بعد أيام فقط ويعلن ويعترف أنه هو الذي خطط لانقلاب عمر البشير معللاً ذلك باتفاق بينهما على أن يذهب البشير للقصر الجمهوري وأن يذهب هو إلى السجن حتى لا يتم الكشف بأن الحركة الإسلامية هي وراء الانقلاب ليفاجأ الناس بعد أن يستتب الأمر لهؤلاء العسكريين بأن الذي يحكم السودان الآن هي الحركة الإسلامية أو بالأصح هو الدكتور حسن عبد الله الترابي.
وبتسلم الترابي القيادة الفعلية من قادة الانقلاب بترؤسه المؤتمر الوطني انطبع في السودان نظاماً سياسياً ذا رأسين في تكوين القرار ومع أن الرئيس البشير قد خرج من رحم الترابي إلا أنهما ما لبثا أن تحولا إلى طرفي نقيض وكانت تلك الثنائية سبباً مباشراً في شل إصدار قرارات صحيحة في وقت صحيح، ومن المعلوم بديهياً وتاريخياً أن كل التجارب القيادية التي تقوم على الثنائية في القرار تنتهي إلى زوال أحد القطبين وكما يقول إخواننا المصريون (سفينة بربانين تغرق) .
ولست الآن بمعرض التفصيل ولكني أنوه بشدة وأقول ؛ لن يغير الله سنته في أرضه إرضاء لأحد ولن يكون أحد عند الله أكرم من نبيه صلى الله عليه وسلم وهو أحب من خلق إليه ومع هذا ؛ شُج وجهه الكريم وكسرت رباعيته بأمي هو وأمي ولم يقم دين الله على أرضه إلا بإقامة الجهاد ومن دون أن يتنازل نبي الهدى عن قطرة واحدة من منهجه وصراط الله العظيم وحاشاه عليه السلام ذلك، إذن لن تقوم الدولة الإسلامية الحقة عن طريق الانقلاب، ولا عن طريق البرلمانات الوضعية، ولا عن طريق الديموقراطية كما حدث في نكبة إسلاميي الجزائر الذين أرادوا أن تقام الدولة الإسلامية عن طريق صناديق الإقتراع وهيهات أن يغير الله سنته ! ولا عن طريق المؤتمرات والبوفيهات المفتوحة والحوارات المدفوعة الثمن وبطاقات الدعوة المذهبة للمشاركة داخل قاعات الفنادق الفخمة وبرعاية الدولة أيضا!
إن محنة الحركة الإسلامية الرئيسية في السودان إنها جاءت إلى السلطة عن طريق الانقلاب العسكري والمصيبة ليست في الانقلاب فحسب ولكن في الهم الأول للمشاركين فيه وهو تأمين موقعهم في السلطة.
في الحلقة القادمة بإذن الله سأبين لكم آخر انحرافات الترابي الدعوية والحركية مع تعرية منهجه العقدي والفكري ليعلم الجميع حقيقة هذا الرجل.
(4)
قصة الترابي الحقيقية وفضيحة معتقده!!
اليوم سأبين لكم نموذجاً واحداً فقط من تخبط الترابي الدعوى والحركي ومن ثم سأعري لكم معتقده الفاسد: بعد أن استتب الأمر للترابي في انقلاب 1989 أكثر الدكتور الترابي بقوله في مجالسه الخاصة والعامة وعبر القنوات الإعلامية أن هذا الانقلاب هو انقلابنا وأن قادته العكسريين هم أبناؤنا وتلاميذنا وما كان سجني إلا بقصد التمويه وأن قادة الانقلاب ما هم إلا ثمرة جهودنا وتربيتنا، وها هو الآن وبعد عشر سنوات عجاف من الانقلاب يصرح ويردد أن عمر البشير ما هو إلا خائن ومارق ومرتد ومن أزلام الغرب!!
ولكن هل فكر الترابي ملياً قبل أن يتهم صفوة تلاميذه بالخيانة والردة والسقوط تحت أرجل الغرب أن من يصفهم بهذه الأوصاف البشعة هم صفوة تلاميذه وثمرة تربيته؟!
ألا يدري أن هذه اللغة التي يتحدث بها تعني أنه رجل فاشل ولا يحسن اختيار مساعديه وأعوانه بل ويجهل أبسط معالم التربية والإعداد؟ علماً بأن الترابي ما فتئ يردد بين الحين ولآخر بأن الجماعات الإسلامية ومن دون استثناء وعلى رأسهم الإخوان قد فشلوا في إعداد وتربية أفرادهم، وتهمته هذه يلوكها منذ أكثر من ثلث قرن، ويأتي اليوم ليجسد للعالم أجمع نموذجه الترابي في الإعداد؟!
نعم يا معشر السادة لا تستغربوا إن قلت لكم أن نائب الرئيس عمر البشير والمسمى (علي عثمان طه) هو نفسه نائب الترابي في الجبهة الإسلامية! وكذلك رفيق دربه في العمل الإسلامي!
بل أن رفيقه هذا مع تلميذه البشير صار يسميها الآن هم وأنصارهم من أبناء الحركة الإسلامية مرتدين وخونة وعملاء للغرب! هكذا وبكل بساطة خلعهم من الإسلام فقط لأنهم اختلفوا معه ولا يريدون قيادته، وهل يوجد عاقل يقبل أن يقوده حسن الترابي؟(2/8)
إن الترابي هذا الذي يظن بعض البسطاء أن له يداً في محاولة تطبيق الشريعة بالسودان هو نفسه الذي كان له اليد الطولى بتعديل الدستور السوداني وجعله دستوراً علمانياً بعد أن كان دستوراً إسلامياً! وهو نفسه الآن يعطي أوامره للمقاتلين ضد قوات قارانق ليفرغ مواقعهم كي يربك مجموعة البشير العسكرية وهو لا يهمه أن ينتصر قارانق على المسلمين ولكن الذي يهمه الآن وبالدرجة الأولى مصلحته الشخصية وإحكام سيطرته على الدولة ودحر ومسح كل من يخالف نهجه وانحرافه، وأقسم أن مثل هذا الرجل لا يهمه إسلام ولا دين ولكن ما يهمه حقاً هو أن تقوم إمبراطورية الترابي العظمى ولو على أنقاض السودان وجماجم أهلها!!
فضيحة العقيدة الترابية!!
بدأ انحرافه العقدي منذ أن برز على الساحة الإسلامية كظاهرة حركية تستحق الدراسة، وأول انحراف بدأ به هو ترديده لانحرافات الشيخ محمد عبده وتلامذته من إنكار نزول سيدنا المسيح عليه السلام علماً بأن نزول المسيح على الأرض والذي يسبقه ظهور المهدي المنتظر ( عجل الله ولادته! ) يعتبر من ثوابت العقيدة عند المسلمين قاطبة بل وحتى بعض المسيحيين، لكن الترابي لا يقبل بهذا المعتقد بل هو يرد كل حديث صحيح لا يوافق عقله كحديث الذبابة الصحيح الذي رواه البخاري في باب الأطعمة وأصحاب السنن وليت انحرافه كان مقتصراً في هذه الجزئية، إذن لهان الأمر ـ مع أن إنكار نزول المسيح عليه السلام ـ ليس بهين ولكن مصيبتنا في الدين الجديد الذي اخترعه الترابي ونسبه للإسلام زوراً وبهتاناً ومن ذلك:
1- دعوته إلى قيام دين عالمي جديد!! ففي حوار مع جريدة الرأي العام من عددها الأول لها بعد شرائها من المساعيد أجرى الشيخ محمد العوضي حواراً مطولاً مع الترابي قال فيه " إنني أدعو إلى قيام الملة الإبراهيمية والتي ينطوي تحت لوائها كل الأديان السماوية " وقال كذلك في مؤتمر الأديان الذي عقد بالخرطوم بتاريخ 8/10/1994 " إنني أدعو اليوم إلى قيام جبهة أهل الكتاب وهذا الكتاب هو كل كتاب جاء من عند الله ".
2- إنكار الترابي لحد الردة في الإسلام! علماً يا معاشر القراء أن حد الردة هو مما علم من الدين بالضرورة ومن أنكره فقد كفر بمأنزل على محمد، فها هو يقول وينطق لسانه بجريدة المحرر العدد 263 بتاريخ 8/1994 ( في بلدي وأنا أدعو إلى حرية الحوار فإنني أترك للطرف الآخر أن يقول ما يشاء بل إنني أقول أنه حتى لو ارتد المسلم تماماً وخرج من الإسلام ويريد أن يبقى حيث هو فليبق حيث هو لأنه " لا إكراه في الدين "!! وأنا أقول ارتد أو لا ترتد فلك حريتك في أن تقول ما تشاء بشرط أن لا تفسد ما هو مشترك بيننا من نظام "!! ثم يقول " في إطار دولتنا الواحدة فإنه يجوز للمسلم كما يجوز للمسيحي أن يبدل دينه "!! نعم يا اخوة شرط الترابي هو أن لا تفسد عليه نظامه أما حق الله فلا وجود له في قاموسه !
وصدق الله تعالى ( ما لكم لا ترجون لله وقارا ) .
3- وبإيرادي لهاتين الطامتين في معتقده الملئ بالانحراف يكفي ولكني أضيف وعلى السريع أن عقيدته باليهود والنصارى أنهم ليسواكفاراً وهو أيضاً يرى كما يرى منحرفي الصوفية بعقيدة الاتحاد والفناء بذات الله "0 وأما تحليله للغناء والرقص فهو متواتر عنه ومعلوم بل هو يرى أن الرقص والغناء لهما علاقة وطيدة بالعقيدة وعبادة الله حيث أن الغناء والرقص من وسائل التقرب إلى الله إذا نوى العبد ذلك لله!! ومن أراد التأكد فليقرأ كتاب " حوار الدين والفن " للترابي ص19 وأنوه أيضاً أن حسن الترابي في عام 1992 أنشأ الفرقتين الغنائيتين " نمارق " وفرقة " عقد الجلاد " فتأملوا يا سادة إسهامات زعيم الحركة الإسلامية في عالم الفن والطرب!!! ولكن عتبنا على الترابي شديد لأنه لم يساهم بعد في الفيديو كليب!!
4- وأما عن تحليله سفر المرأة من غير محرم وتجويزه تدريب الرجال للنساء والتحاقها بالعسكرية والتحاقها بالفرق الغنائية المختلطة واستخفافه بعلماء المسلمين القدامى وتجرئه على الفتيا فهذه كلها من آثار دعوته الجديدة وهو تجرأ كذلك على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وعلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى السنة النبوية المطهرة، انظروا إلى كتاب مناقشة هادئة لبعض أفكار الترابي لمؤلفه الأمين الحاج في الصفحات 79و125و146 وما هذا الذي أوردته بإيجاز إلا غيض من فيض وسطر من قمطر وقطرة من بحر ضلاله!
وما يهمني الآن هو إخواننا المسلمين بالسودان والحركة الإسلامية هناك بأن يعيدوا توحيد صفوفهم مجدداً والكل يعلم أن هنالك صراعاً محموماً على القارة الأفريقية بين الدول التي كانت تستعمرها من جهة وأمريكا التي تريد أن تجعل لها نفوذاً من جهة أخرى، وكل هذا الصراع إنما هو على ثروات هذه البلاد الأفريقية.
فيا أيها المسلمون هناك ؛ تريثوا في التعامل مع ما يحدث الآن لينتصر الإسلام ويتطهر ممن يدعي الإسلام! ) .
14 - محاضرة " العلمانية في ثياب إسلامية " للدكتور جعفر شيخ إدريس : وقد لخصها الأمين الحاج في كتابه " الرد القويم .. " - كما سبق - .
15- صادق عبدالله عبدالماجد : في مقالة بمجلة المجتمع ( العدد 590) .
16- د . الحبر يوسف نور الدايم : في مجلة المجتمع ( العدد 591 ) .
نقولات عن الترابي : تشهد لما سبق :
هذه مجموعة نقولات مرت بي أثناء إعداد هذا البحث من كلام الترابي ؛ تشهد لما ذكره الرادون عليه :(2/9)
يقول عن ثورة الرافضة في إيران : ( وحركة الإسلام شهدت تجارب شتي في التجديد بالمجادلة بالحسنى ، وفي التعرض للعدوان والفتنة من جراء ذلك . وهي اليوم تشهد تجارب جديدة في ثورة إيمان في النفوس تنقلب ثورة قوة في الواقع . ولعل أروع نماذجها في الثورة الإيرانية الإسلامية ) . ( الحركة الإسلامية والتحديث ، ص 76 ).
ويقول : ( الثورة الإسلامية في إيران هي الحدث الأكبر في التاريخ السياسي الإسلامي المعاصر ) ( الحركة الإسلامية في السودان ، التطور والمنهج والكسب ، ص 278 ) .
- ويقول : ( بادرت الحركة تظاهر الثورة - أي الإيرانية - بتأييدها ) ( السابق ،ص295) .
ويقول : ( الثورة الإيرانية هو ذلك الحدث الذي استطاعت فيه قوى الإسلام رغم ضعفها البادي لكل المراقبين أن تغلب بإذن الله الفئة الكثيرة القوية ) ( مجلة المجتمع ، العدد 580 ) .
ويسميها : ( الثورة الإسلامية الظافرة في إيران ) . ( الحركة الإسلامية في السودان ، ص 130 ).
ويقول عن الخلاف بين السنة والشيعة :( هو في الأصول ليس ببعيد جداً ، سواء بعض النظريات والمعتقدات السياسية التي أحسب أن مسيرة التاريخ الإسلامي ستتجاوزه ) ( مجلة الإرشاد اليمنية ، محرم وصفر 1408هـ ).
ويقول عن دعوته : ( إن قيادة الحركة الإسلامية في السودان _ أقصد طبقة القيادة في السودان - خرجت من القطاع الحديث المستنير ، واستعدت لمواقف فكرية متحررة ومتجددة واجتهادية ) . ( الحركة الإسلامية في السودان ، ص 48 ).
- ( إن طبيعة الحركة وتربيتها تهيؤها للجرأة والإقدام في كل الأمور ) ، ( فلاغرو أن كانت مهيأة بتلك الروح لأن تكون متوكلة جريئة في الاجتهاد بغير تحفظ مفرط ، وفي ارتياد المذاهب الفقهية الحديثة ) ، ( الحركة الإسلامية في السودان ، التطور والمنهج والكسب ، ص 245 ).
( تجاوزت بفكرها الأطر المعروفة للتفقه والآثار المنقولة في الفقه ، وتجاوزت بحركتها الحدود المألوفة للإسلام ). ( السابق ، ص 246 )
- ولما سئل : ( قرأنا آراء نسبت لك اعتبرها البعض تطرفاً ، فهل تراجعتم عنها ؟ أم مازلتم متمسكين بها ؟ )
قال - معجبًا بنفسه !! - : ( أنا أجتهد كثيراً ... وكل المفكرين يجتهدون أيضاً ، فأنا واحد منهم .. إنني أشعر بأن المسلمين قد تخلفوا قروناً ، لذلك أشعر بتبعة وتكاليف التجديد الإسلامي الذي يقتضيه ذلك التخلف ) ( مجلة الإرشاد اليمنية ، محرم وصفر 1408 ) .
- ويقول عن الصحابة :( إن الاستعمال القرآني والسني للصحابة هو الصحبة الطويلة التي تمتعت بها فئة محدودة .. ) ( السابق ) .
ويقول عن المرأة : ( غالب المواقف التي يتذرع بها المحافظون ليست إلا أعرافاً إسلامية منحطة ) (السابق ) .
( أمر الزواج بين المسلمين وأهل الكتاب : فيعتبر جائزاً بنص الكتاب المسلم من الكتابية . وعكسه : غالب الفقهاء على غيره ، خشية الفتنة على المسلمة ، واعتبارات أخرى تقديرية استنبطت من النصوص ، لكن لا يوجد قطعي صريح ) !! (السابق ).
( إن واقع المرأة التقليدي لا يمثل الإسلام ) . ( مجلة المجتمع عدد 580 ) .
ويقول لامزًا دعوة الإخوان !! :( إنه النظر المتوكل المنفتح على إخوانه المسلمين ، يتجادل معهم ، ولا يتعلق على مدرسة دون أخرى ، ويظن أن الحق كله قد اكتشفه فلان أو فلان ، ومات به ، فانسد باب الحق بعد موته !) ( السابق )
( يقول مستخفاً بجماعة أنصار السنة في السودان : ( إنهم يهتمون بالأمور العقائدية وشرك القبور ، ولا يهتمون بالشرك السياسي ، فلنترك هؤلاء القبوريين يطوفون حول قبورهم حتى نصل إلى قبة البرلمان ) ( مجلة الاستقامة ، ربيع الأول ، 1408هـ ) ( عن : الطريق إلى الجماعة الأم ، ص 13 )
- ويقول عن جماعته : ( انشغل همهم الآن بالشرك الأخطر والأجرح والأصرح : الشرك السياسي الذي لا يؤمن بالله مالكاً ، بل يأتي بالقوانين الوضعية من الخارج ، والشرك الاقتصادي الذي لا يجعل المال لله ونحن فيه خلفاء ) ( جريدة السودان الحديث ، 16/يوليو/1994 م ).
أخيرًا يقول مادحًا تجديده !! وحركته !! :( قضى الله عز وجل أن يبتلى المسلمون حيناً بعد حين بالتقادم والجمود ، فيقيض لهم حيناً بعد حين مرحلة من مراحل التجديد .. وما من حركة تجدي دية إلا وقد واجهتها التقاليد الإسلامية التي هي صادقة في تدينها بموقف متصلب جداً يبلغ حد التكفير والتضليل ) ( المسلمون ، العدد 170 ) ثم شبه نفسه بابن تيميه والشيخ محمد بن عبد الوهاب !
- قلت : هذه أهم الردود التي رد بها العلماء والدعاة على أخطاء وانحرافات حسن الترابي ؛ جمعتها في مكان واحد لتكون ميسرة لمن يريد معرفة فكر هذا الرجل " الحركي " الذي لا يهدأ ؛ عسى أن تكون موعظة لغيره من دعاة الإسلام أن يتساهلوا كتساهله فيقعوا فيما وقع فيه .
==================
الإسلام والآخر الحوار هو الحل
بقلم
حمدى شفيق
رئيس تحرير جريدة النور الإسلامية المصرية
بسم الله الرحمن الرحيم
]يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى
وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
إن الله عليم خبير[
صدق الله العظيم
(الحجرات : 13)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . وبعد ..
فإن علاقة المسلمين بالآخر هى من أهم الموضوعات المطروحة الآن على الساحة ، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م فى الولايات المتحدة الأمريكية ، وما تلاها من احتلال القوات الأمريكية لأفغانستان ثم العراق ، وكذلك استمرار المذابح المروعة التى يرتكبها الاحتلال الصهيونى فى فلسطين ، وتعرض المسلمين للمظالم والفتك والتشريد فىكشمير والشيشان وغيرهما ..(2/10)
ويُثار الكثير من الأسئلة فى ظل الحملات الإعلامية المسعورة ضدنا فى وسائل الإعلام الغربية : ما هو مضمون علاقة المسلم بالآخر ؟ أهو الحوار والتفاهم والتبادل الحضارى ، أم هو الصراع والتربص والقتال الضارى حتى يهلك الأعجل من الفريقين ؟! وماذا يقول التاريخ عنا وعنهم ؟ وما هو وضع الأقليات الإسلامية فى الخارج فى ظل هذه الظروف ؟ وما هى الأحكام المنظمة لأوضاع غير المسلمين فى المجتمعات الإسلامية ؟ وما هى الوسائل التى يمكن من خلالها أن يسمع الآخر صوت الإسلام والمسلمين لعله يتذكر أو يخشى ؟ .
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها يأتى هذا الكتاب ، وهو جهد متواضع نسأل الله أن يتقبله بكرمه وجوده وإحسانه ، وأن يغفر لنا ما كان من زلل أو تقصير، إنه سبحانه نعم المولى ونعم النصير .
حمدى شفيق
الفصل الأول
نظرية صراع الحضارات
لم يكن صمويل هنتنجتون هو أول من زعم وجود صراع بين الحضارات، فالحملة على الإسلام والمسلمين تعود إلى قرون ، بل بدأت مع ظهور الدعوة الإسلامية المباركة منذ 14 قرناً من الزمان .. وتبلورت أكثر فى أوقات الحروب الصليبية وحملة الإبادة الجماعية لمسلمى الأندلس ، ثم رسخت جذور العنصرية الغربية أكثر فى حقبة الاستعمار الأوروبى لمعظم بلاد العالم الإسلامى .. ثم وجد الغرب نفسه بحاجة إلى ملء الفراغ الذى سببه انهيار الشيوعية وزوال خطرها باختلاق خطر آخر ؛ لأنه من الصعب بعث الحياة فى فكرة أوروبا الموحدة إن لم يكن هناك خطر خارجى .. وبطبيعة الحال تستثمر الدوائر الصهيونية فى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا مثل هذه الأوضاع لسكب مزيد من البنزين على نار التعصب ضد العرب والمسلمين ، والإلحاح باستمرار وعبر وسائل الإعلام الخاضعة لنفوذهم على مقولة صراع الحضارات .. وتجدر الإشارة هنا إلى أن صمويل هنتنجتون صاحب النظرية الأشهر بهذا الصدد يهودى الديانة ، فضلاً عن علاقاته الوثيقة بدوائر المخابرات الأمريكية ، ولهذا دلالته التى لا تخفى على أحد .. كما أنه نقل النظرية عن أستاذه برنارد لويس وهو يهودى أيضًا ..
وقد سبق هنتنجتون فى حكاية الصراع هذه الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون الذى أكد صراحة فى كتابه (الفرصة السانحة) أو (انتهزوا الفرصة) أن العالم الإسلامى هو العدو المستقبلى للغرب بعد انهيار الاتحاد السوفيتى .. وكرر ذات المقولة أمين عام سابق لحلف شمال الأطلنطى .. ثم تلاه فرانسيس فوكوياما الأمريكى من أصل يابانى الذى تحدث عن قرب نهاية التاريخ وانتصار الحضارة الغربية على العالم الإسلامى .. وهناك أيضًا الحملات المسعورة التي يقودها كبار المنصرين أمثال جراهام بل وبات روبرتسون وجيمى سواجارات ، والتى تلح على ضرورة ضرب الإسلام تمهيدًا لحرب (هرمجدون) المزعومة التى يقود فيها السيد المسيح اليهود والنصارى للقضاء على المسلمين والوثنيين ، ولهذا .. لابد - من وجهة نظر هؤلاء - من دعم إسرائيل واستمرارها، لأن قيامها وبقاءها شرطان لازمان لوقوع (هرمجدون) المزعومة !!(2/11)
و (هرمجدون) كلمة عبرية تعنى إما : تل مجيدون شمال فلسطين وهو موجود هناك ويعرفه الأهالى باسم: تل المجيدية، أو أن معناها جبل مجيدو وهو موجود بفلسطين أيضاً . وأهم كتاب دينى أمريكى يكشف خلفية الأمريكان المؤمنين بحكاية هرمجدون هذه فى حربهم المقبلة مع المسلمين وعقيدتهم الشيطانية هو كتاب (Forcing of God's Hand) - ترجمة حسام تمام - وهو أهم ما صدر فى الشأن الدينى الأمريكي فى العام الماضي . وربما كان من أهم الكتب التى عالجت باقتدار قضية التوظيف السياسي - الذى يصل إلى حد الابتزاز - للنبوءات الدينية فى العقد الأخير من القرن العشرين. والمؤلفة هى الكاتبة الأمريكية المعروفة جريس هالسل التى عملت محررة لخطابات الرئيس الأمريكي الأسبق ليندون جونسون، وهى صحفية مشهورة ومرموقة صدرت لها عدة كتب، أهمها وأكثرها شهرة (النبوءة والسياسة) .. والكتاب عبارة عن إجابات عن أسئلة جمعتها المؤلفة من سلسلة مقابلات شخصية مع مسئولين من مراجع كنسية أمريكية مختلفة ، وتتصدى فيه جريس هالسل - ربما لأول مرة - لظاهرة المنصرين التوراتيين التلفزيونيين، الذين يمثلون اليمين المسيحي المتطرف فى الولايات المتحدة الأمريكية، والذى يعرف إعلاميا بـ (الصهيونية المسيحية). وهى الظاهرة التى تجسد أغرب وأسوأ أشكال الدجل السياسي الدينى فى العقد الأخير، ربما على مستوى العالم كله، والتى صنعها عدد من المنصرين التوراتيين الذين احترفوا تقديم برامج تليفزيونية عن النبوءات التوراتية التى تبشر بقرب نزول المسيح المخلص ونهاية العالم فيما يعرف بمعركة (الهرمجدون)، واستطاعوا من خلال نشاطهم - الذى يعد أكبر وأهم حركة تنصير فى تاريخ المسيحية - إقامة ما يعرف بـ (حزام التوراة)، والذى يتكون من مجموعة ولايات الجنوب والوسط الأمريكي، والتى تكونت فيها قطاعات واسعة من المسيحيين المتشددين دينياً والمؤمنين بنبوءة (الهرمجدون)، أو نهاية العالم الوشيكة والمرتبطة بنزول المسيح المخلص من الشر والخطيئة. ويعتمد خطاب المنصرين التوراتيين على رؤية سهلة للحياة، مفادها أن العالم أصبح تملؤه الشرور والخطايا، وهو ما سيعجل بظهور (المسيح الدجال) وجيوش الشر . ولن يصبح هناك حل لإنقاذ البشرية والخلاص من الشرور إلا عودة المسيح المخلص لانتزاع المسيحيين المؤمنين من هذا العالم الملئ بالخطيئة والشر، وهذا الخلاص - عندهم - رهين بعودة المسيح فقط . أما المطلوب عمله من هؤلاء المؤمنين فهو السعى لتحقيق هذه النبوءة أو الإسراع بإجبار يد الله على تحقيق (النبوءة)!. وتحقق النبوءة عندهم رهن بقيام إسرائيل الكبرى وتجميع كل يهود العالم بها، ومن ثم فلابد من تقديم وحشد كل التأييد المادى والمعنوى، المطلق وغير المحدود أو المشروط للكيان الصهيوني؛ لأن ذلك هو شرط نزول المسيح المخلص .
والطريف أن هذا التأييد لا يعنى الإيمان باليهود أو حتى مبادلتهم مشاعر الحب أو التعاطف معهم، لأن هؤلاء التوراتيين يعتقدون أن المسيح المخلص سيقضى على كل اليهود أتباع المسيح الدجال الذين سيرفضون الإيمان به، أى أنهم يدعمون الكيان الصهيونى باعتباره وسيلة تحقق النبوءة فقط . هذه العقيدة تلقفها كبار القادة اليهود فى أمريكا والكيان الصهيونى، وخاصة من اليمين الديني المتطرف الذى يسيطر على مجريات ومقاليد اللعبة السياسية، واستغلوها جيداً للحصول على كافة أشكال الدعم والتأييد . وهم لا يعنيهم محبة اليمين المسيحي المتطرف فى أمريكا أو إيمانه بهم بقدر ما يعنيهم ما يدره عليهم الإيمان بهذه النبوءة من أموال ودعم سياسي واقتصادي غير محدود. فبفضلها تتدفق الرحلات السياحية الأمريكية على الكيان الصهيوني، وتنظم مظاهرات التأييد وحملات جمع التبرعات، وتسخر الإدارة والسياسة الأمريكية لخدمة المصالح الصهيونية، خاصة مع تزايد إيمان الشعب الأمريكي بهذه النبوءة والاعتقاد بها، حتى أن استطلاعا أجرته مجلة (تايم) الأمريكية سنة 1998 أكد أن 51% من الشعب الأمريكي يؤمن بهذه النبوءة ، ومن هؤلاء عدد كبير من أعضاء النخبة الحاكمة فى الولايات المتحدة، بعضهم وزراء وأعضاء فى الكونجرس وحكام ولايات . بل ويؤكد الكتاب أن جورج بوش، وجيمي كارتر، ورونالد ريجان كانوا من المؤمنين بهذه النبوءة ، والأخير كان يتخذ معظم قراراته السياسية أثناء توليه الرئاسة الأمريكية على أساس النبوءات التوراتية .
وتكشف جريس هالسل فى كتابها عن أن هناك اقتصاديات ضخمة تقوم على هذه النبوءة التى تدر مليارات الدولارات سنوياً على نجوم التنصير التوراتي، الذين يمتلكون عشرات المحطات التلفزيونية والإذاعية فى أمريكا وأنحاء العالم، وأبرزهم بات روبرتسون الذى يطلق عليه لقب (الرجل الأخطر فى أمريكا).. فقد أسس وحده شبكة البث المسيحية (CBN)، وشبكة المحطة العائلية إحدى كبريات الشبكات الأمريكية، كما أسس التحالف المسيحي الذى يعد الأوسع نفوذاً وتأثيراً فى الانتخابات الأمريكية بفضل ملايين الدولارات التى يحصل عليها كتبرعات من أتباعه ومشاهدى نبوءاته التلفزيونية، وكذلك بات بيوكاتن الذى كان مرشحاً لانتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة عن حزب الإصلاح .(2/12)
وتعد برامج هؤلاء المنصرين التوراتيين من أمثال هالويل، وجيري فالويل، وتشارلز تايلور، وبول كرواسي ، وتشال سميث ، وروبرتسون ، وبيوكاتن ، من أكثر البرامج جماهيرية فى الولايات المتحدة كما تشهد أشرطة الفيديو والكاسيت التى تحمل هذه البرامج رواجاً هائلاً فى أوساط الطبقة المتوسطة الأمريكية (ومعظم المؤمنين بهذه النبوءة منها وهم بالملايين)، وكذلك الكتب الخاصة بها والتى صارت تباع كالخبز؛ حتى أن كتاب (الكرة الأرضية العظيمة المأسوف عليها) للمنصر التوراتى هول ليفدسى بيعت منه أكثر من 25 مليون نسخة بعد أيام من طرحه فى الأسواق. وينتشر المنصرون التوراتيون فى معظم أنحاء الولايات المتحدة فى عدة آلاف من الكنائس التى يعملون فى كهانتها، عبر مؤسسة الزمالة الدولية لكنائس الكتاب المقدس. ويؤمن أتباع هذه النبوءة بأنهم شعب نهاية الزمن، وأنهم يعيشون اللحظة التى كتب عليهم فيها تدمير الإنسانية، ويؤكدون قرب نهاية العالم بمعركة الهرمجدون التى بشرت بها التوراة، والتى سيسبقها اندلاع حرب نووية تذهب بأرواح أكثر من 3 مليارات إنسان! وتبدأ شرارتها من جبل الهرمجدون الذى يبعد مسافة 55 ميلاً عن تل أبيب بمسافة 15 ميلاً من شاطئ البحر المتوسط، وهو المكان الذى أخذ أكبر حيز من اهتمام المسيحيين بعد الجنة والنار!.
وتحلل جريس هالسل كيف أفرزت هذه الحركة المسيحية أكثر من ألف ومائتى حركة دينية متطرفة، يؤمن أعضاؤها بنبوءة نهاية العالم الوشيكة فى الهرمجدون، وترصد سلوك وأفكار هذه الحركات الغريبة التى دفعت ببعضها الى القيام بانتحارات جماعية من أجل التعجيل بعودة المسيح المخلص وقيام القيامة، ومنها جماعة (كوكلوكس كلان) العنصرية، والنازيون الجدد وحليقو الرؤوس، وجماعة (دان كورش) الشهيرة والتى قاد فيها (كورش) أتباعه لانتحار جماعى قبل عدة سنوات بمدينة (أكوا) بولاية تكساس من أجل الإسراع بنهاية العالم، وكذلك القس (جونز) الذى قاد انتحاراً جماعياً لأتباعه أيضاً فى (جواينا) لنفس السبب، وقد كان (ماك تيموثى) الذى دبر انفجار (أوكلاهوما) الشهير من المنتمين لهذه الجماعات .
ويكشف الكتاب عن العلاقة العنصرية الغريبة التى تربط بين اليمين المسيحي المتطرف فى أمريكا ونظيره اليهودى فى الكيان الصهيونى ، على الرغم من التناقض العقائدى بينهما. العلاقة التى تقوم على استمرار الدعم والتأييد المطلق رغم الكراهية المتبادلة! فتؤكد هالسل أن اللاسامية نوعان: نوع يكره اليهود ويريد التخلص منهم وإبعادهم بكل الوسائل، ونوع آخر يكرههم، ولكن يريد تجميعهم فى فلسطين مهبط المسيح فى مجيئه الثانى المنتظر.
وتشرح هالسل كيف يستفيد الكيان الصهيونى من هذه النبوءة التى تمنع المسيحي الأمريكي المؤمن بها من التعامل الراشد مع الواقع، وتجبره على رؤية الواقع والمستقبل فى إطار محدد ومعروف سلفاً، وهو ما يؤدى إلى الوقوع فى انتهاكات أخلاقية فاضحة تأتى من تأييد المشروع الصهيوني العنصرى الذى يقوم على الاستيطان، وتهجير الآخرين، وطردهم من أرضهم، والاستيلاء عليها، بل والقيام بمذابح جماعية ضدهم، وهو ما يظهر فى التعاطف الذى يبديه المسيحيون التوراتيون مع السفاحين اليهود إلى حد المشاركة فى المجازر التى يرتكبونها ضد الفلسطينيين، كما فعل بات روبرتسون الذى شارك فى غزو لبنان مع إريل شارون والمذابح الوحشية التى ارتكبها وشارك معه متطوعون من المسيحيين التوراتيين الذين حاربوا مع الجيش الصهيوني، وهى المعلومات التى حرصت هالسل على ذكرها رغم الحظر المفروض عليها إعلامياً فى الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. كما تكشف هالسل عن أن معظم المحاولات التى جرت لحرق المسجد الأقصى أو هدمه وبقية المقدسات الإسلامية فى القدس من أجل إقامة الهيكل موَّلها وخطط لها مسيحيون توراتيون من المؤمنين بنبوءة الهرمجدون وإن لم يشاركوا فيها !!. وفى فكر المنصرين التوراتيين تغيب كل معانى المحبة والتسامح المقترنة بالمسيحية، ويبدو المسيح فى أحاديثهم فى صورة جنرال بخمسة نجوم يمتطي جواداً، ويقود جيوش العالم كلها، مسلحاً برؤوس نووية ليقتل مليارات البشر فى معركة الهرمجدون(1) .
ولا ننسى تصريحات العجوز الشمطاء مارجريت ثاتشر رئيس وزراء انجلترا الأسبق - فى عدة مناسبات - المعادية للإسلام والمسلمين ، وأيضًا بيرلسكونى رئيس وزراء إيطاليا حليف عصابات المافيا الدولية ، رغم اضطراره إلى الاعتذار عنها فيما بعد ، ثم السقطة المدوية للرئيس الأمريكى جورج بوش الابن الذى وصف حربه العدوانية ضد العراق بأنها (حملة صليبية) جديدة !! ولا يجدى طبعًا فى محو أثر هذه العبارة بالغة الخطورة ، الادعاء بأنها كانت (زلة لسان) ، أو قيام بوش بعد ذلك بزيارة المركز الإسلامى فى واشنطن لتهدئة مشاعر المسلمين ، لأن بوش من أتباع الكنيسة المتطرفة التى تؤمن كما أشرنا بضرورة قيام ودعم دولة إسرائيل تمهيدًا لمعركة (هرمجدون) المزعومة لسحق المسلمين والوثنيين وبدء الألف عام السعيدة لهم على الأرض بعد تخلصهم من غير المسيحيين !!! طبعًا لو قلنا نحن هذا لقامت الدنيا ولم تقعد احتجاجًا على وحشية المسلمين وأفكارهم التصفوية التى تعمل على إبادة الآخرين واستئصالهم ، ولكن لأن هذه هى نظرية كثير من السادة الأمريكان فلا وجود لأية ردود أفعال تذكر!!!
ولأن نظرية هنتنجتون هى الأشهر فسوف نعرضها فيما يلى بإيجاز ثم يأتى الرد عليها تفصيليًا :(2/13)
تحدث صمويل هنتنجتون عن صراع الحضارات لأول مرة فى مقال نشره عام 1993 فى مجلة (فورن أفيرز) ثم فى كتاب كامل وقال : إنه بعد انتهاء الحرب الباردة سوف تسيطر الصراعات بين الحضارات . وأن (الإسلام تحيط به حدود دموية ، ويبدو أن ما يحدث فى تيمور الشرقية والشيشان وكوسوفا والعراق وكشمير يؤكد هذه الملاحظة . وسواء اعتقد المرء ذلك أم لم يعتقد فإن اللوم يقع على الإسلام !!
وفى عام 1996 قدم هنتنجتون وجهة نظره فى كتاب بعنوان : (صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمى) وصفه هنرى كيسنجر بأنه يقدم إطارًا جريئاً لفهم السياسات العالمية فى القرن الحادى والعشرين ، وقال كيسنجر : إن تحليلات هنتنجتون تثبت صحتها ودقتها إلى درجة تنذر بالخطر . وتتلخص نظريته فى أن الحضارات الرئيسية المعاصرة هي الحضارات الصينية، واليابانية ، والهندوسية ، والإسلامية ، والأرثوذكسية ، والغربية (أوروبا وأمريكا) وحضارة أمريكا اللاتينية . والحضارات الأربع الكبرى فى العالم هى الحضارات الصينية ، والهندوسية ، والإسلامية ، والحضارة الغربية ، وكل من هذه الحضارات تضم حوالى مليار نسمة ، وكل حضارة منها لها دين مؤسس لها تشكلت وتبلورت حوله ، وهذه الديانات هى: الإسلام، والمسيحية، والكونفوشية ، والهندوسية ، وتعتبر كل من الصين والهند قلبًا أو محورًا لحضارة كل منهما ، أما الغرب فينظر إليه على أنه منقسم إلى محورين رئيسيين هما : الولايات المتحدة وأوروبا . وبالنسبة للإسلام فليست هناك دولة تمثل قلب أو محور حضارته ، وهذا ما يجعل من الصعوبة فهم الإسلام وحضارته بالنسبة لمن هم خارج هذه الحضارة ، ويقول هنتنجتون أيضًا : إن صراع الإسلام والغرب يثير مشكلات ضخمة للعالم بطريقة أو بأخرى .
إن الغرب يطالب بسيطرة فريدة على العالم ، والمبرر لذلك أنه يمثل القوة العالمية القائمة على أساسين هما : تفوق التكنولوجيا الأمريكية ، وتفوق الأيديولوجية العالمية القائمة علىالليبرالية وحقوق الإنسان . وتنظر الحضارات الأخرى إلى الغرب على أنه يمتلك قوة عسكرية واقتصادية خطيرة ، ولكنه منهار من الناحية الاجتماعية . ويتمثل هذا الانهيار الاجتماعى فى التفكك الأسرى ، وعدم التمسك بالمعتقدات الدينية , وانتشار الجريمة ، والمخدرات ، وارتفاع نسبة المسنين , وانتشار البطالة.. أما الغرب فإنه ينظر إلى نفسه على أنه نموذج لحضارة القرن الحادى والعشرين ، وتنظر إليه الحضارات الأخرى على أنه نموذج سيىء يحسن تجنبه وليس محاكاته .
ويضيف هنتنجتون : إن الغرب يسيطر على العالم الآن سيطرة كاملة، وسيظل مسيطرًا ومتفوقًا فى القوة خلال القرن الحادى والعشرين ، إلا أن التغييرات التدريجية والحتمية الأساسية تؤثر أيضًا على توازن القوى بين الحضارات، وستأخذ قوة الغرب فى الاضمحلال . فخلال خمسة وسبعين عامًا من 1920 حتى 1995 تراجعت السيطرة السياسية للغرب على المناطق العالمية بنسبة 50% , وتراجعت نسبة من يسيطر عليهم الغرب من سكان العالم 80%، وتراجعت سيطرة الغرب على الصناعة العالمية بنسبة 35% ، أما سيطرة الغرب على القوة العسكرية فقد تراجعت بنسبة 60% . وفى العالم 45 دولة مستقلة تنضوى تحت راية الإسلام ، وهو أقوى الديانات العالمية من حيث سيطرته الثقافية على المؤمنين به ، كما أنه دين له ميزة اقتصادية كبرى ، هى أنه يسيطر على معظم احتياطى البترول العالمى ، ولن ينضب هذا البترول إلا بعد سنوات طويلة جدًا , ولايزال الإسلام يمر بمرحلة النمو السكانى السريع ، ومن المتوقع أن يشكل المسلمون 30% من سكان العالم فى عام 2025 ، وقد تسببت الهجرة من الدول الإسلامية إلى دول أوروبا فى ردود فعل شديدة فى أوروبا ، حتى إن نصف عدد الأطفال فى بروكسل - مقر الاتحاد الأوروبى - يولدون من أمهات عربيات ، ويشكل الشباب المسلم الساخط العاطل عن العمل تهديدًا لأوطانهم الأصلية ولدول الغرب التى هاجروا إليها .. أما الصحوة الإسلاميةلاملام الجديدة فقد منحت المسلمين الثقة فى شخصيتهم المميزة ، وفى الإحساس بأهمية حضارتهم ، وفى القيم الإسلامية بالمقارنة بالقيم والحضارة الغربية فى العالم ، ويقول أيضًا : إن الخطر يكمن فى التفاعل بين هذه الصحوة والثقة الإسلامية التى تدعمها الزيادة السكانية المستمرة وبين مخاوف الحضارات المجاورة ، وهذه الحضارات المجاورة لحضارة الإسلام لديها شعور كامل بالخوف من التهديد الإسلامى .. الغرب قلق بسبب البترول وهواجس الانتشار النووى فى الدول الإسلامية , والهجرة من الدول الإسلامية، كما يشعر الغرب بالقلق على إسرائيل ، والانتقاص من حقوق الإنسان فى الدول الإسلامية . وكذلك فإن روسيا تشعر بالتهديد الإسلامى بصورة مباشرة ، ويتمثل فى انفصال الدول الإسلامية والمطالبة المسلحة للشيشان بالاستقلال ، وكذلك يخشى الصرب من قيام (ألبانيا العظمى) . وتخشى الهند من باكستان ، ومن جاذبية الإسلام لنحو مائتى مليون مسلم فى الهند واحتمال انسلاخهم منها، والصين أيضًا تشعر بالقلق تجاه المسلمين فى آسيا الوسطى ومن مطالبة المسلمين فى إقليم سنكيانج الصينى بالانفصال ، والصينيين فى أندونيسيا ، بل إن سكان أفريقيا جنوب الصحراء من غير المسلمين لديهم مخاوف أيضًا تجاه الإسلام .(2/14)
أما عن مستقبل العلاقة بين الحضارات الأربع : الحضارة الغربية وحضارة الصين وحضارة الهند والحضارة الإسلامية ، فإن هنتنجتون يرى أن الصراع بينها حتمى ، ويرى أن الإسلام يمثل مشكلة ليس لها حل ، وليس أمام الغرب إلا أن يظهر تفهمًا أكبر للصحوة الإسلامية ، لأن هذه الصحوة سوف تتطور فى المستقبل أكثر مما هى عليه الآن ، وعلى الغرب أن يغير ردود فعله تجاه هذه الصحوة الإسلامية ، لأن موقف العجرفة والشعور بالتفوق الثقافى ومشاعر العداء الصريحة من جانب الغرب تجاه الإسلام هى أسوأ ردود فعل ممكنة , وإن كان هنتنجتون يصل أخيرًا إلى التنبؤ بأن الدول المجاورة للإسلام ستفعل كما حدث فى صربيا وتتصدى للصحوة الإسلامية , وكما كان الخوف من الألبان المسلمين هو الذى أتى بميلوسيفيتش عام 1987 إلى السلطة على أمل أن يقضى بالمذابح على المسلمين ، ولكن لن يجد العالم الأمر سهلاً حين يسعى إلى تحجيم (الحدود الدموية) للإسلام وعدم اتساعها .
وهكذا فإن الخوف من الإسلام واعتباره هو (العدو) للحضارة الغربية وللحضارات الأخرى أصبح قائمًا على أساس نظرية متكاملة ، لها جذور تاريخية قديمة ، اكتملت وتبلورت على يد صمويل هنتنجتون أستاذ الدراسات الدولية فى جامعة هارفارد .. النظرية إذن نظرية أمريكية .. وهى فى حقيقتها ليست إلا تبريرًا فلسفيًا للحرب ضد الإسلام .. وقد ينكر بعض الأمريكيين أنهم يعتقدون صحة هذه النظرية .. ولكن ما تفعله أمريكا ليس إلا التطبيق العملى لها ، فالمفهوم الغربى فى هذا القرن - كما عبّر عنه هنتنجتون ، وكما نرى فى كتابات المفكرين والمحللين وتصريحات السياسيين ، ومواقف الدول الغربية ، وكما نرى على أرض الواقع - هو حوار بالصواريخ والطائرات والقنابل الذكية وآلة الحرب الهائلة التى تتحرك لتدمير دول إسلامية .
والدليل على نظرية هنتنجتون عن حتمية الصراع بين الإسلام والحضارة الغربية ما نراه فى مناهج تدريس التاريخ للتلاميذ فى أمريكا والدول الغربية من تصوير المسلمين وفقًا لأنماط ذهنية ثابتة stereotypes فى الوعى الأمريكى والأوروبى ، تعكس التحيز وفقدان الموضوعية عند الحديث عن الإسلام والمسلمين .
وفى دراسة للدكتورة فوزية العشماوى للكتب المدرسية فى المناهج الأمريكية والأوروبية أكدت أن ما يدرسه التلاميذ عن الإسلام والعالم الإسلامى لا يزيد عن 3% من المقرر الدراسى ، و 97% من المقرر مخصصة لتاريخ أوروبا وأمريكا , وفى الغالب يكون الجزء المخصص للعالم الإسلامى فى إطار بلاد العالم الثالث سواء من الناحية الجغرافية أم التاريخية ، أم فى إطار توزيع الثروات الطبيعية فى العالم وخاصة البترول ، بينما تجعل المناهج من أوروبا وأمريكا المحور الذى تدور حوله الأحداث التاريخية المهمة ، وكأن الدول الإسلامية هوامش أو زوائد . ويتبين ذلك من إغفال الأحداث التاريخية المهمة التى تعتبر علامات ثابتة فى التاريخ العربى والإسلامى ، ويتم التركيز فقط على الأحداث التى تبرز تفوق الغرب وانتصاره على المسلمين ، مما يؤكد حرص واضعى المناهج الدراسية على غرس الاتجاه لرفض (الآخر) العربى والمسلم ، على أساس أنه مختلف عن الإنسان الغربى ، وعدم تفهم دوره فى التاريخ وقيمة هذا الدور . وتشير الدكتورة فوزية العشماوى إلى دراسة قامت بها تحت إشراف اليونسكو عن صورة المسلم فى الكتب المدرسية فى فرنسا وأسبانيا واليونان وخاصة كتب التاريخ فى نهاية المرحلة الابتدائية ، وكانت نتيجة البحث أن التاريخ الذى يتم تدريسه للتلاميذ الأوروبيين الصغار يعلمهم أشياء مختلفة تمامًا عما يتم تدريسه للتلاميذ العرب والمسلمين ، وتقدم للتلاميذ الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم بمعلومات تجرح شعور المسلمين ، فتجد نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم يتم تقديمه أحيانًا على أنه شاعر يرى رؤى خارقة ، ويشار إليه بألفاظ توحى بالشك فى مصداقيته ، وفى أغلب الأحيان يبدأ تدريس الإسلام بذكر الانتشار السريع المخيف للإسلام بالغزوات فى صدر الإسلام ثم بالفتوحات فى القرنين السابع والثامن الميلاديين ، وكيف أن جيوش المسلمين زحفت إلى أوروبا واكتسحت تلك البلاد واستولت عليها بقوة السيف، ونهبت أموالهم وثرواتهم إلى أن تمت هزيمة المسلمين على يد (شارل مارتال) القائد الفرنسى الذى أوقف الغزو الإسلامى فى معركة (بواتييه) فى جنوب فرنسا عام 732 ميلادية .(2/15)
كذلك يتم تصوير العرب فى حروبهم على أنهم يتعاملون بوحشية ، وتؤدى هذه الكتابات إلى أن تثبت فى أذهان الغربيين صورة المسلمين على أنهم الغزاة المتوحشون الذين يثيرون الرعب ، ويمثلون تهديدًا لجيرانهم . وفى الفصل الخاص بالحروب الصليبية تصور المناهج هذه الحروب على أنها كانت بهدف (تحرير بيت المقدس من أيدى الكفار) المسلمين الذين كانوا يحتلونها ويسيئون معاملة الحجاج المسيحيين القادمين من أوروبا لزيارة الأماكن المسيحية المقدسة فى القدس . ويدل على ذلك أن الأوروبيين مازالوا يرددون حتى اليوم الوصف الذى كان يطلق على المسلمين فى أوروبا فى القرون الوسطى ، وهو أنهم كفار دون محاولة من مؤلف الكتاب المدرسى لتصحيح هذا المفهوم الخاطىء.. وفى نفس الوقت تغفل المناهج الدراسية الإشارة إلى وحشية جيوش الصليبيين وعدم تسامحهم مع المسلمين سكان القدس حين انتزعوها من أيدى المسلمين عام 1099م , (بينما تعترف الموسوعات العلمية الكبرى بأن الصليبيين ذبحوا أكثر من 70 ألفًا من أهالى القدس المدنيين دون تمييز بين النساء والأطفال والشيوخ ، أو بين مسلمين ويهود ، وحتى بين المسيحيين من أهالى المدينة العزل ، ولا تشير المناهج إلى تسامح المسلمين حين استعادوا القدس عام 1187 على يد صلاح الدين الأيوبى الذى أصدر العفو عن كل الذين أساءوا إلى أهل المدينة) ، وهذه الواقعة سجلها التاريخ ، ولا يعلمها الغربيون لأنهم لم يدرسوها فى مدارسهم ، وتغفل المناهج الدراسية فضل العلماء والفلاسفة العرب المسلمين على النهضة الأوروبية فى القرن الخامس عشر الميلادى ، ونادرًا ما يذكر ابن رشد وابن المقفع والخوارزمى وابن سينا وابن النفيس الذين كانوا أساتذة ومعلمين لأوروبا بأسرها منذ القرن التاسع الميلادى ، ولهم اكتشافات علمية واختراعات ونظريات علمية وفلسفية كانت الأساس للنهضة الأوروبية حيت ترجمت أعمالهم إلى اللاتينية ثم إلى اللغات الأوروبية , وكثير من علماء عصر النهضة نسبوا لأنفسهم أفكارًا واكتشافات ونظريات المسلمين إلى أن بدأ بعض المستشرقين الغربيين يعترفون بفضل العرب والمسلمين على النهضة الأوروبية .
هكذا يعلمون تلاميذهم فى الغرب عن الإسلام والمسلمين ما يغرس الكراهية والعداء منذ الصغر ، فلا غرابة أن يعبروا عن هذه الروح العدائية عندما يكبرون ، ولا غرابة أن يظهر عندهم نظرية صراع الحضارات وحتمية الحرب العالمية الثالثة ضد الإسلام هذه المرة !(2) .
المراجع
(1) حمدى شفيق - العلماء يردون على أسطورة هرمجدون - الفصل الأول .
(2) رجب البنا - صناعة العداء للإسلام - دار المعارف - مصر .
الفصل الثانى
نقد نظرية الصراع
تنطوى الرؤية الهنتنجتونية هذه للعالم المعاصر على قدر هائل من التلفيق العلمى و (لَىِّ) عنق التاريخ , ولعل التلفيق الأكبر يكمن فى تجاهله للدول والمؤسسات السياسية ، رغم الدور المحورى الذى تلعبه الدولة - سواء امبراطوريات الأسر القديمة أو الدولة القومية الحديثة - فى قيام أية حضارة ، فالغرب عنده هو كتلة واحدة متجانسة ، رغم الاختلافات الشديدة بين أمريكا من جهة والدول الغربية من جهة أخرى . والحضارة الإسلامية كذلك كتلة واحدة وليست دولاً وشعوبًا وقوميات مختلفة ، سواء كان ذلك فى ذورة قوتها ومجدها (عندما كانت حضارة عربية) إبان العصرين الأموى والعباسي ، أو كان ذلك فى ظل الخلافة العثمانية التى فرضت هيمنتها على جزء كبير من العالم القديم ، أو حتى فى العصر الراهن ، الذى تعانى فيه الدول الإسلامية من أقصى درجات الفقر والضعف الاقتصادى والسياسى والعسكرى والعلمى ، ناهيك عن التفكك فيما بينها .
ومن المعروف أنه لا يمكن لأى حضارة أن تقوم دون وجود مركز - الدولة - قوى اقتصاديًا وعلميًا وعسكريًا يقوم بدور الحاضن لها . ووفقًا لهذه الرؤية ، كانت الدولة العثمانية آخر مركز قوى - على الأقل عسكريًا - للحضارة الإسلامية . وفى ظل الوضع العالمى الراهن والتوازنات الإقليمية والدولية السياسية والاقتصادية والعسكرية ، لا يمكن لأية دولة إسلامية كبيرة نسبيًا (إيران ، مصر ، أندونيسيا ، باكستان ، تركيا) ، أن تقوم بدور (الدولة المركز) التى يمكن لها أن تقود هذه الحضارة الإسلامية المعاصرة - المزعومة - فى مواجهتها للحضارة الغربية - المزعومة أيضًا - أو أية حضارة هامشية أخرى .
أما التلفيق الأكبر الذى لجأ إليه هنتنجتون فهو رؤيته للحضارة الغربية ذاتها التى يصنفها استنادًا إلى معيارى الجغرافيا والدين فقط .
هذا التلفيق الهنتنجتونى يتعلق بجوهر الحضارة الغربية ذاته .
فالحضارة الغربية هى الحضارة الوحيدة غير الدينية، أو بتعبير أدق هى الحضارة الأولى الما بعد دينية . وهى ليست نتاج ثورة أو طفرة نوعية ، وإنما هى محصلة لتراكمات هائلة وسلسلة ممتدة ، على طول امتداد التاريخ البشرى، من التحولات والحركات الثقافية والاجتماعية والمكتشفات العلمية والسياسية الكبرى . فمنذ ثلاثة قرون ، أو أكثر قليلاً ، لم يكن هناك من يتحدث عن حضارة غربية ، فالمصطلح الذى كان سائدًا آنذاك هو (العالم المسيحى) ومع عصر الاكتشافات الجغرافية والثورة الصناعية التى تلته ، وانتشار أفكار عصر التنوير وصعود الطبقة التجارية البرجوازية ، تغلغلت العلمانية بين قطاعات واسعة من السكان , وكفت أوروبا عن حروبها الدينية ولم تعد (العالم المسيحى)، ولم يظهر مصطلح (الحضارة الغربية) إلا فى أوائل القرن العشرين . وهو مصطلح ينطوى ضمناً على الوعى بأن هذه الحضارة ، على النقيض من الحضارات المهيمنة السابقة ، لا تضع الدين فى مكانة محورية بالنسبة لها .(2/16)
والمفارقة أنه فى الوقت الذي يروج فيه هنتنجتون وأتباعه لمفهومه التلفيقى عن (الحضارة الغربية) فإن النخبة الثقافية والسياسية لم تعد تنظر إلى أمريكا باعتبارها جزءًا من - أو حتى ناقلة لـ - الحضارة الغربية ، بل ينظرون إليها باعتبارها مجتمعًا متميزًا يجسد التعددية الثقافية والعرقية ، ثقافته محصلة تفاعل ثقافى بين الثقافات الأوروبية ، والإفريقية ، والإسلامية ، والآسيوية ، والسلافية ... إلخ . وتضرب هذه الثقافات بجذورها فى الحضارات الإفريقية والأمريكية اللاتينية والكونفوشيوسية والإسلامية ، وليس الأوروبية فقط . وهكذا تبشر أمريكا بنموذجها الثقافى باعتباره النموذج الوحيد لعصر العولمة . وبعد أن قادت العالم قسرًا إلى تحقيق التجانس الاقتصادى والتجارى والقانونى على الصعيد الكونى ، فإنها تحاول تحقيق تجانس كونى مماثل على الصعيد الثقافى .
ونحن لا نرى فى أطروحة هنتنجتون حول صراع الحضارات سوى فكرة تعبوية ذات رائحة عنصرية لا تستند إلى أية حقائق علمية أو مبررات أخلاقية، هدفها فقط تبرير الصدامات العنيفة التى يشهدها العالم نتيجة لرفض أناس كثيرين لمنطق (الهيمنة والابتلاع) وليس لمنطق العولمة .
وإذا كان هنتنجتون يقصد بفكرته حول (صراع الحضارات) أن (الحضارة الغربية تواجه الحضارات الأخرى) فإن معناها الحقيقى هو (أمريكا فى مواجهة العالم)(1) .
ويرى المفكر السويدى إنجمار كارلسون أن نظرية الصراع بها عدة نقاط ضعف :
• فـ (هنتنجتون) يقسم العالم إلى سبع أو ثمانى حضارات كبرى : (الغربية وتحتوى على حضارة غرب أوروبا وأمريكا الشمالية ، والحضارة الكونفوشيوسية، واليابانية ، والإسلامية ، والهندوسية ، والسلافية – الأرثوذكسية ، وحضارة أمريكا اللاتينية ، وربما الحضارة الأفريقية) . غير أنه لا يعزى أية مكانة مميزة للديانة اليهودية ، وهو فى هذا المقال يصف إسرائيل بأنها (صناعة الغرب) (تعمد هنتنجتون ذلك لأنه يهودى) .
• وتقسيم هنتنجتون لا يسير على نسق واحد ، فبعض الحضارات تعرف على أساس معايير دينية وثقافية ، غير أن العامل الرئيس فى حالات أخرى هو الجغرافيا . وما الذى يميز حضارة أمريكا الشمالية عن حضارة أمريكا اللاتينية؟ إن كلاً من أمريكا الشمالية والجنوبية يقطنها المهاجرون الأوروبيون الذين حملوا معهم قيمًا لازالوا يتمسكون بها حتى الآن ، ومن الصحيح أن عنصر الهنود الحمر هو أكبر بكثير فى دول معينة من أمريكا اللاتينية كالمكسيك وجواتيمالا وبيرو والإكوادور عما هو عليه فى الولايات المتحدة ، غير أنه من الصحيح أيضًا أن تشيلى والأرجنتين وكوستاريكا هى أكثر أوروبية من الولايات المتحدة الأمريكية التى تتحول سريعًا إلى حضارة إسبانية ، وفى الواقع فكل من أمريكا الشمالية واللاتينية يمكن تمييزهما كحضارات غربية تمتزج بكل منها عناصر حضارية أخرى بدرجات متفاوتة.
وهل الفيليبينيون الكاثوليك غربيون أم آسيويون ؟ إن (هنتنجتون) يتحدث عن الحضارة البوذية , لكن ما الذى يجمع بين التايلانديين وأهل التبت والمغول والقلموقيين الذين يعيشون فى اتحاد الجمهوريات الروسية ؟
وأين يوجد العالم الكونفوشيوسى الذى يتحدث عنه (هنتنجتون) ؟ فعلى الرغم من الموروث الكونفوشيوسى المشترك ، فإن الصين وفيتنام كانتا دومًا أعداء, فـ (فيتنام) تساورها شكوك كبيرة بشأن نوايا الصين بغض النظر عمن تولى السلطة فى هانوى وبكين ، وبالمثل فجهود بكين للتأكيد على الموروث الكونفوشيوسى المشترك كتمهيد للاتحاد مجددًا بتايلاند كانت تقابل بنظرة احتقار من التايلانديين(2) .
• ويرسم (هنتنجتون) خطوطًا مستقيمة عبر الخرائط التى تبين بدايات ونهايات الحضارات المختلفة ، ويعترف بأن مجال الحضارة الإسلامية ينقسم إلى العرب والأتراك والمالايويين ، ولكن لسبب ما يغفل عن الرافد الإسلامى الكبير فى إفريقيا ، ولا يتطرق حتى إلى الفروق الكبيرة بين المسلمين فى الأرخبيل الإندونيسى ، والمسلمين فى غرب أفريقيا ، والمسلمين فى قلب العالم العربى . و (هنتنجتون) يغفل أيضًا حقيقة أن الوحدة الإسلامية يكاد ينعدم أثرها بعد خمسين عامًا . وفى الحقيقة فقد ساد الانقسام العالم الإسلامى منذ وفاة رابع الخلفاء الراشدين عام 661 ميلاديًا ، وهذا لم يحدث بين السنة والشيعة فحسب ، ولكن على مستويات أخرى أيضًا .
• ويعرّف (هنتنجتون) حرب الخليج بأنها حرب بين الحضارات ، وفى الواقع لم يظهر أى صراع آخر بمثل هذا الوضوح ، كيف أن مصالح الدولة لها الغلبة على المناخ الدينى. فصدّام لم يبرر هجومه على الكويت بأسباب دينية ، فهو لم يلجأ إلى مثل هذا التبرير إلا حينما أرغم على الانسحاب فى مواجهة التحالف الذى تألف من المملكة العربية السعودية وتركيا ومصر وسوريا، فضلاً عن القوات الأمريكية والفرنسية والبريطانية ، بل إن الأسرة المالكة السعودية نجحت فى تحريك المراجع الإسلامية التى أصدرت فتوى مفادها أن دفاع الجنود الأمريكيين غير المسلمين عن مكة لا يتعارض مع تعاليم القرآن .
أما إيران فلا زالت تتحين الفرص ، وعلى الرغم من نبرة العداء لأمريكا ، فليس هناك ما تأخذه على (الشيطان الأكبر) إذا كان ما يفعله فى صالح أنصار آية الله .
• وإحدى النقاط المهمة التى يثيرها (هنتنجتون) هى أننا نشهد الآن ظهور المحور الإسلامى الكونفوشيوسى أو (الرابطة) : فبؤرة الصراع الأساسية فى المستقبل القريب ستكون بين الغرب والدول الإسلامية الكونفوشيوسية العديدة).(2/17)
إن الدليل المادى الوحيد الذى يقدمه (هنتنجتون) لتأييد نظريته هو صادرات السلاح التى تقدمها كوريا الشمالية والصين إلى ليبيا ، وإيران ، والعراق ، وسوريا . وهذه الاتصالات بين النظامين الديكتاتوريين الشيوعيين وليبيا - التي تخضع لحكم القذافى الذى يسير على نهج (نظريات الكتاب الأخضر) التى يعتبرها جميع رجال الدين الإسلامى بدعًا – وكذلك مع نظامى حزب البعث المتنافسين فى دمشق وبغداد ، من الواضح تمامًا أنها لاتعبر عن أى تقارب أيديولوجى ، أو عن مؤامرة إسلامية كونفوشيوسية ، فالأمر لايتعلق سوى بالمادة ، وفضلاً عن ذلك فإحدى المشاكل الداخلية الكبرى التى تواجهها الحكومة الصينية هى الخوف من امتداد الصحوة الإسلامية لتصل إلى شعب يويجور فى سينكيانج ، عن طريق بنى جلدتهم من الأتراك فى وسط آسيا ، وهذا هو سبب تأييد الصين للهجمات على أفغانستان .
وإلا فيمكننا بالمثل القول بأن مبيعات الأسلحة الأمريكية والفرنسية إلى المملكة العربية السعودية تدل على إقامة تحالف إسلامى مسيحى .
وعلى هذا ، فما أوحى به (هنتنجتون) من الصدام بين الحضارات على المستوى الواسع لا يستند إلى أساس سليم ، ويبدو أنه يستند إلى حجة أقوى عندما يزعم أن الصراعات على المستوى الجزئى تتبع (الشروخ) بين مواطن الحضارات ، ويبدو أن الحرب الأهلية فى طاجيكستان والصراعات فى القوقاز تؤيد هذه النظرية ، بل والأكثر منها الحروب الأهلية فى جمهورية يوغسلافيا السابقة ، حيث اتبعت الخطوط الأمامية إلى حد كبير الخط التقليدى الفاصل بين الإمبراطوريات الرومانية الشرقية والغربية ، وبين الإمبراطورية العثمانية وإمبراطورية هابسبورج .
غير أن هذه الحجج ذاتها لم تتحر قدرًا كبيرًا من التمحيص ، فلم تنشب حرب واحدة خلال القرن الماضى بسبب الصدام بين الحضارات أيّاً كان تعريفها.
وفى عام 1914م ، تحالفت برلين البروتستانية مع فيينا الكاثوليكية واستانبول المسلمة ضد موسكو الأرثوذكسية وباريس الكاثوليكية ولندن البروتستانتية ، وقد دخلت صربيا الأرثوذكسية بالفعل الحرب ضد فيينا الكاثوليكية ، غير أنها كانت فى حالة حرب أيضًا مع بلغاريا الأرثوذكسية ، كما أن الدول البادئة بالعدو فى الحرب العالمية الثانية وهى ألمانيا وإيطاليا والاتحاد السوفييتى نجحت فى التعاون فيما بينها ، رغم أنها تنتمى إلى أقاليم ثقافية مختلفة ، وحينما هاجم (هتلر) (ستالين) لم يسأل (تشرشل) و (روزفلت) ما إذا كان حليفهما الجديد مسيحيًّا أو أرثوذكسيًّا أو شيوعيًّا .
والحربان العالميتان قتل فيهما أكثر من ستين مليونًا من البشر وكانتا بين المسيحيين ، ومعظم الحروب التى وقعت بعد عام 1945م كانت حروبًا داخل حضارات : حروب كوريا ، وفيتنام , وكمبوديا ، والصومال ، والعراق ، وإيران ، والكويت . فأطول الصراعات وأكثرها دموية فى الشرق الأوسط لم تنشب بين العرب واليهود ، ولكن بين المسلمين ، وهى الحرب بين العراق وإيران ، كما استخدم العرب العراقيون الغاز السام ضد الأكراد وليس ضد غير ذوى الملة .
وعلى النقيض من نظرية (هنتنجتون) فالحروب التى اشتعلت فى يوغسلافيا السابقة بما فيها من تطهير عرقى لم تكن جهادًا ولكن حروبًا على السلطة والأرض بين الأرثوذكس والكاثوليك من غير ذوى الملة من جهة ، وبين المسلمين من جهة أخرى من خلال تحالفات غير دينية . أما صبغة الدين التى اصطبغت بها القومية فقد نمت بشكل واع إلى جوار العداوات والقلاقل الاجتماعية ، والصراعات التى شهدتها يوغسلافيا السابقة تبين كيف أنه من اليسير توظيف القومية كأداة ، غير أنها لا يمكن أن تقوم كدليل يؤيد نظرية الحرب بين الحضارات .
وفى البوسنة زعم الصرب أنهم يقاتلون الإسلام من أجل المسيحية ، ومن الصحيح أن الحروب التى نشبت فى يوغسلافيا السابقة اتبعت التخوم الثقافية بين الإمبراطوريات الرومانية الشرقية والغربية ، وتطورت فيما بعد إلى حرب بين الأرثوذكسية والكاثوليكية ، وبين الأرثوذكسية والكاثوليكية من جهة والإسلام من جهة أخرى . ولكن هذا يرجع فى المقام الأول إلى اقتران القومية الصربية بإصرار قادة الحزب الشيوعى على عدم التخلى عن سلطتهم . أما الهجوم الصربى الذى كان يهدف إلى إقامة صربيا العظمى فقد كان موجهًا منذ البداية إلى الجارتين المسيحيتين سلوفينيا وكرواتيا . وفى البوسنة دافع المسلمون عن مجتمع متحضر ، بينما أظهر الصرب الأرثوذكس تعصبًا وضيق أفق لا يقل عما هو خليق بأشد المتعصبين من أية ديانة أخرى , وفى البوسنة وكوسوفا أيضًا تدخلت قوات من الحضارة الغربية لنصرة المسلمين .
إن الحضارات لا تسيطر على الدول ، بل على العكس من ذلك تسيطر الدول على الحضارات ، وهى لا تتدخل للدفاع عن حضاراتها إلا إذا كان هذا فى مصلحة الدولة .
وفى الحرب بين أذربيجان وأرمينيا ، حاولت إيران أن تقوم بدور الوساطة وجنحت إلى تأييد مسيحيى أرمينيا لا مسلمى أذربيجان ؛ خشية أن يؤدى انتصار أذربيجان إلى تقوية النزاعات الانفصالية بين الأقلية الأذربيجانية الكبيرة العدد .
• فما يعطى الانطباع لأول وهلة بوجود صدام بين الحضارات يتبين عند تناوله بالتحليل أنه خصومة بين الدول على الموارد والأرض ؛ سعيًا وراء المزايا الاستراتيجية والسطوة السياسية . فالحرب ضد صدام حسين لم تكن حربًا بين الحضارات - فالحضارات لا تصنع الحروب - ولكنها قتال من أجل البترول والتوازن الاستراتيجى فى الشرق الأوسط ، والعداء بين بكين وواشنطن حول تايوان ، أو قرصنة نسخ أسطوانات الكمبيوتر ، أو صادرات السلاح ليس حربًا بين الكونفوشيوسية وتوماس جيفرسون ، لكنه صراع بين قوتين عظميين .(2/18)
إن (هنتنجتون) يعرّف الحضارة بأنها : (أوسع مستويات الهوية التى يمكن للمرء أن ينتمى إليها) . وقليل جدّاً من الأشخاص هم الذين بإمكانهم أن ينتموا بأجسادهم إلى مفهوم واسع كمفهوم الحضارة ، فهم ينشدون بدلاً من هذا هويات ضيقة كالأمم أو الجماعات العرقية أو الدينية . وعلى الرغم من الإلحاح الدائم على الهوية الأوروبية فى هذه الآونة ، إلا أن التحقيقات التى قامت بها المفوضية الأوروبية تبين أن ما يزيد على 70% من سكان جميع الدول الأوروبية ينظرون إلى أنفسهم فى المقام الأول فى ضوء انتمائهم إلى أمم ، بينما تأتى الهوية الأوروبية فى مرتبة تالية .
• إن الحضارات التي يتحدث عنها (هنتنجتون) ليست شرائح متماثلة ومتنافرة يفنى بعضها الآخر ، ولكنها تتواءم مع بعضها البعض ، ليس فقط فى الأقاليم الحدودية ولكن فى مراكزها أيضًا ، بل إن الإسلاميين يستخدمون التقنيات الغربية كما ظهر جليًا فى أحداث 11 سبتمبر ، وهم بذلك يظهرون أيضًا أسلوبًا للتفكير غريبًا عن ثقافتهم ، ولنضرب مثالاً آخر : فى عام 1957م كان يوجد 1.7 مليون مسيحى فى كوريا الجنوبية ، وفى الوقت الحاضر يتراوح عددهم ما بين 14 و 17 مليونًا ، أى ما نسبته 40% من عدد السكان ، ويقال : إن الضربات المتوالية كانت موجهة إلى القيم الكونفوشيوسية التى تعد الأساس الذى قامت عليه المعجزة الاقتصادية الكورية والتى أفل نجمها الآن .
• إن نظرية (هنتنجتون) أحادية السبب تمامًا ، فهو لا يأخذ فى الحسبان الآثار التى تركها اقتصاد السوق الحر على الأنظمة السياسية ، وكذلك القوى التى حررت قيودها عمليات التكامل الاقتصادية ؛ ولهذا السبب فافتراض أن الصراعات المستقبلية سوف ترتبط بتوزيع الثروة بين الدول يستند إلى قدر أكبر من االمصداقية . ونسق العالم ذو القطبية الثنائية لم يحل محله (الصدام بين الحضارات) الذى ذكره (هنتنجتون) ، ولكن جاء بدلاً منه على حد قول (جيرجين هيبرمان) : (عدم القدرة على التنبؤ مجددًا) . وعلى الرغم من ذلك يمكننا أن نؤكد أن المستقبل لن يأتى معه بنهاية التاريخ ، أو بالصدام بين الحضارات .
أما الصدام الحقيقى اليوم فليس بين الحضارات ، ولكن فى داخلها بين ذوى النظرة الحديثة التقدمية وبين من يتمسكون منهم بنظرة العصور الوسطى . وكمثال على ذلك : فبعد الهجوم على مركز التجارة العالمى قام (جيري فالويل) بمخاطبة مشاهدى التليفريون قائلاً : إن أمريكا تستحق العقاب ! فمن وجهة نظره أن من يجرون عمليات الإجهاض ، والمناصرين لحقوق الشواذ، وكذلك المحاكم الفيدرالية التى منعت الصلاة فى المدارس ، قد أثارت غضب الرب .
وعلى حد قول (هنتنجتون) ، فللإسلام حدود مخضبة بالدماء ، وهذه المقولة ليست فقط رمزية تاريخية ، ولكن لها خطورتها أيضًا ، فالإسلام والمسيحية عاشا جنبًا إلى جنب لمدة 1400 عام تقريبًا ، دومًا كجيران ، وفى معظم الوقت كخصوم ، وفى الواقع من الجائز اعتبارهما شركاء ؛ حيث إنهما يشتركان فى نفس الموروث اليهودى الهيلينى الشرقى ، وهما فى آن واحد تجمعهما معرفة قديمة .
والحضارة الإسلامية ليست غريبة كما تبدو غالبًا فى ضوء التحاملات والتصورات الغربية المسبقة . ومن أكثر الأساطير شيوعًا أسطورة تشارلز مارتل الذى أنقذ الغرب من الدمار بانتصاره على العرب فى بواتييه فى عام 732م، فقد أجبر العرب على الانسحاب من جبال البرانس حتى عادوا إلى جنوب أسبانيا ؛ حيث استمرت الدولة الإسلامية التى قامت هناك فى الازدهار لما يناهز 800 سنة، وهذا التواجد الإسلامى فى القارة الأوروبية لم يتسبب فى انهيار الحضارة الغربية ، بل أسفر عن تآلف متفرد ومثمر بين الإسلام والمسيحية واليهودية ، مما أدى إلى ازدهار ليس له مثيل فى العلم والفلسفة والثقافة والأدب .
• • •
إن الصراع بين بنى الإنسان لا يكون بالضرورة بين حضارات مختلفة . فالحضارة الحقيقية تعنى فى جوهرها التقدم المادى والروحى للأفراد والجماعات، أى أنها ترتقى بالإنسان ماديًا وروحيًا ، وتهذب من أخلاقه ، وتحد من نزعاته العدوانية ، وإنما يكون الصراع بين البشر من أجل مصالح ومطامع وأيديولوجيات متباينة وأهداف دينية أو سياسية ، فهو إذن صراع قُوَى تهدف به إلى فرض سيطرتها وتسلطها على قوى أخرى . أما الحضارات فإنها تدفع بالأحرى إلى الحوار لا إلى الصدام .
وقد شهدت البشرية هذا وذاك . فالمسلمون مثلاً قد اضطروا فى عصور الإسلام الأولى إلى الدخول فى صدام مسلح مع الروم - الذين كانت تمثلهم فى ذلك الوقت الدولة الرومانية الشرقية - ولكن مع ذلك لم يمنعهم على المستوى الحضارى من إجراء حوار حضارى مع الروم ، وإن كان حوارًا صامتًا - إذا جاز هذا التعبير - وقد تمثل ذلك فى ترجمة العلوم المختلفة لليونان إلى العربية، وتم ذلك أيضًا بالنسبة للفرس والهند ... إلخ .
وفى المقابل خاضت أوروبا بجحافلها القادمة من مختلف البلاد الأوروبية حربًا ضد المسلمين - سميت بالحروب الصليبية - استمرت ما يقرب من قرنين من الزمان ، ولكن ذلك لم يمنع أوروبا من القيام بحوار - على المستوى الحضارى - مع المسلمين تمثل فى حركة ترجمة نشطة لعلوم المسلمين إلى اللغة اللاتينية . وقد بلغت هذه الحركة ذروتها فى الفترة من القرن الحادى عشر حتى نهاية القرن الثالث عشر الميلادى .
وقد كان من الطريف فى هذا الصدد أن أوروبا أول ما عرفت الفلسفة اليونانية - وهى فلسفة أوروبية - عرفتها عن طريق النقل من العربية ، ولم تبدأ فى نقلها من اليونانية مباشرة إلا بعد سقوط القسطنطينية فى يد الأتراك العثمانيين , وهجرة العلماء اليونانيين على أثر ذلك إلى إيطاليا .(2/19)
وفى العصر الحاضر بدأ العالم الإسلامى يترجم ما أنتجته الحضارة الغربية الحديثة من منجزات علمية ، ويرسل البعوث إلى جامعات الغرب للاغتراف من علومها وفنونها . وقد فعلت أوروبا الشىء نفسه فى الماضى بإرسال بعثات إلى الأندلس حينما كان للمسلمين فى الأندلس حضارة مزدهرة .
ومن ذلك يتضح أن الصراع الحضارى لم يكن هو القاعدة فى علاقة أوروبا بالإسلام ، بل كان التفاعل الثقافى يفرض نفسه دائمًا ، ويترك آثاره البعيدة والفعالة بعد زوال أسباب الصراعات الأخرى .
ونحن نزعم أن القرن الجديد لن يشهد صدامًا بين الحضارات وإن كانت هناك محاولات من جانب العولمة للترويج لنظم وقيم معينة تثير استفزاز الآخرين .
والذى يدعونا إلى القول بأن القرن الجديد لن يكون قرن صراع حضارى وإنما قرن حوار حضارى هو ما يلى :
أولاً : صراعات الماضى تختلف عن صراعات الحاضر اختلافًا أساسيًا . فنحن فى عصر ثورة المعلومات والاتصالات والثورة التكنولوجية قد أصبحنا نعيش فى عالم يمثل قرية كونية كبيرة ، والأخطار التى تهدد عالمنا المعاصر قد أصبحت أخطارًا عالمية تهدد الجميع ، وتتطلب جهودًا دولية لمواجهتها مثل قضايا البيئة والمخدرات والإرهاب الدولى والجريمة المنظمة وأسلحة الدمار الشامل وأمراض العصر ، وعلى رأسها أمراض نقص المناعة أو (الإيدز) ،وغيرها من القضايا التى تتطلب تكاتف الجهود الدولية . ولعل ذلك هو الذى شجع الأمم المتحدة على الإعداد لتنظيم منتدى للحوار بين الحضارات عُقد عام 2001م دعمًا للتفاهم بين الثقافات والحضارات المختلفة .
ثانيًا : إذا كانت الأصوات التى تروج لصدام الحضارات قد وجدت أصداء واسعة فى الشرق وفى الغرب ، فإن هناك جهودًا وأصواتًا مضادة فى الغرب ترفض بشدة مقولة هنتنجتون حول صدام الحضارات ، وبصفة خاصة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية .
ومن الأمثلة على ذلك ما شهده العقد الأخير من القرن العشرين من رفض واضح فى بعض الدوائر الغربية لنظرية صدام الحضارات - إذا جاز أن تسمى هذه الدعوة بالنظرية - . ومن بين تلك الأصوات العاقلة فى الغرب (الأمير تشارلز) ولى عهد بريطانيا الذى ألقى محاضرة مهمة فى 27 أكتوبر 1993(3) فى مسرح شيلدونيان بأكسفورد بمناسبة زيارته إلى مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية ، وأكد فيها أن (الذى يربط العالمين الغربى والإسلامى أقوى بكثير مما يقسمهما ؛ فالمسلمون والمسيحيون واليهود جميعهم (أصحاب كتاب) . والإسلام والمسيحية يشتركان فى النظرة الوحدانية : الإيمان بإله واحد ، وبأن الحياة الدنيا فانية ، وبالمسئولية عن أفعالنا ، والإيمان بالآخرة . إننا نشترك فى كثير من القيم) .
وأشار إلى أن حكم الغرب على الإسلام قد عانى من التحريف الجسيم نتيجة الاعتبار بأن التطرف هو القاعدة وقال :(إن التطرف ليس حكرًا على الإسلام ، بل ينسحب على ديانات أخرى بما فيها الديانة المسيحية . والغالبية العظمى من المسلمين يتسمون بالاعتدال . ودينهم هو دين الاعتدال) .
وأشار كذلك إلى أن هناك الكثير مما يمكن أن نتعلمه من الإسلام (وأن العالمَين الإسلامى والغربى يمكن أن يتعلما كثيرًا من بعضهما البعض) .
ورفض مقولة صدام الحضارات قائلاً : (أنا لا أوفق على مقولة أنهما (العالم الإسلامى والغربى) يتجهان نحو صدام فى عهد جديد من الخصومة والعداء ، بل إننى على قناعة تامة بأن لدى عالمَينا الكثير لكى يقدماه إلى بعضهما البعض) .
كما أشار أيضًا إلى أن الكثير من المزايا التى تفخر بها أوروبا العصرية قد جاءت أصلاً من إسبانيا أثناء الحكم الإسلامى . وخلص إلى القول : (إن الإسلام جزء من ماضينا وحاضرنا فى جميع مجالات البحث الإنسانى . وقد ساهم فى إنشاء أوروبا المعاصرة . إنه جزء من تراثنا وليس شيئاً منفصلاً عنه) .
وفى نفس الإطار نجد أن وزير الخارجية البريطانية (روبين كوك) يشير فى محاضرته فى المركز الإسماعيلى فى لندن فى 8 أكتوبر 1998م(4) إلى أن جذور الثقافة الغربية ليست يونانية أو رومانية الأصل فحسب ، بل هى إسلامية أيضًا . ويبين أن التحديات التى نواجهها تحديات عالمية . ويرفض مقولة صراع الحضارات ، وأن الإسلام هو العدو الجديد للغرب ويقول : (إن البعض يقول : إن الغرب بحاجة إلى عدو ، وبما أن الحرب الباردة قد ولت إلى غير رجعة ، فإن الإسلام سيأخذ مكان الاتحاد السوفييتى القديم كعدو . ويقولون: إن صراع الحضارات قادم وأنه لا مفر منه . وأنا أقول : إنهم مخطئون، بل ومخطئون خطأ فادحًا . فنحن لسنا بحاجة إلى الإسلام كعدو ، بل نحن بحاجة إلى الإسلام كصديق) .
ويشير إلى أن (الغرب مدين للإسلام بالشىء الكثير ، فالإسلام قد وضع الأسس الفكرية لمجالات عديدة مهمة وكبيرة فى الحضارة الغربية . إن ثقافتينا قد تشابكتا مع بعضهما البعض عبر التاريخ والأجيال ، وهى تتشابك أيضًا فى وقتنا الحاضر) .
ويبرز كوك أهمية الحوار بين الجانبين ويقول : (اليوم أريد أن أقترح بأن نبدأ حوارًا جديدًا جديًا بين أوروبا والعالم الإسلامى . فقد حان الوقت لكى يبدأ الاتحاد الأوروبى ومنظمة المؤتمر الإسلامى بالحديث مع بعضهما البعض على أعلى مستوى ممكن) .
فإذا اتجهنا شطر أكبر دولة فى أوروبا ، ونعنى بها ألمانيا ، فإننا نجد اتجاهًا مماثلاً رافضًا تمامًا لفكرة صراع الحضارات ، ومتبنيًا أسلوب الحوار الحضارى . وقد ذهب الرئيس الألمانى (رومان هيرتسوج) خطوة أبعد فى هذا المجال بالدعوة إلى عقد مؤتمر فى العاصمة الألمانية برلين للحوار بين الحضارتين الإسلامية والغربية .(2/20)
وقد وجه الدعوة إلى رؤساء خمس من الدول الإسلامية هى مصر والمغرب والأردن وأندونيسيا وماليزيا ، ورؤساء خمس من الدول الأوروبية هى إيطاليا وإسبانيا والنمسا والنرويج وفنلندا ، بالإضافة إلى ألمانيا الدولة المضيفة . وتم اللقاء فى 23 أبريل 1999م على مستوى المراكز البحثية المتخصصة .
وقد اشترك فى المؤتمر أيضًا ممثلون لدول أخرى مثل إنجلترا وفرنسا وسويسرا والسويد ولبنان . وصدر عن المؤتمر (بيان برلين) الذى يمثل خطة للعمل المستقبلى . وقد تضمن البيان العديد من التوصيات التى تدعم الحوار الحضارى بين الشرق والغرب ، وتستشرف مستقبل العلاقات بين المجتمعات الإسلامية والغربية .
وبالإضافة إلى ذلك صدر فى شهر مايو 1999م - كتاب للرئيس الألمانى بعنوان (الحيلولة دون صدام الحضارات - استراتيجية السلام للقرن الحادى والعشرين) . وقد تضمن هذا الكتاب آراء الرئيس الألمانى التى أعلنها حول هذا الموضوع فى الفترة من 1995م حتى 1999م ، كما تضمن أيضًا تعقيبات لأربعة من المفكرين المعروفين .
ويؤكد الرئيس الألمانى رفضه المطلق للزعم بأن الشرق والغرب يستعدان لمواجهة مزعومة بين الإسلام والمسيحية . ويحذر من خطورة الترويج لمثل هذه الأفكار ، ويؤكد على ضرورة التركيز على القواسم المشتركة بين الحضارات .
ويشير الرئيس الألمانى إلى ضرورة بناء جسور الثقة بين الجانبين لمواجهة تحديات المستقبل التى تعد تحديات لنا جميعًا ، وتتطلب حلولاً دولية وتعاونًا مشتركًا بين الجميع ، كما يدعو إلى ضرورة تعرف الشعوب والحضارات على بعضها البعض على نحو أفضل للوصول إلى فهم مشترك ، واحترام متبادل وثقة متبادلة أيضًا . ويرى أن الحوار بين الحضارات والأديان يُعد أهم الواجبات الملقاة على عصرنا . وبصفة خاصة الحوار بين الإسلام والمسيحية .
ومن خلال هذه التوجهات الصادرة فى أوروبا من شخصيات لها وزنها يتضح لنا أن هناك تيارًا أوروبيًا قويًا رافضًا فكرة صدام الحضارات ، وهو تيار أقوى كثيرًا من تيار صمويل هنتنجتون ومن يشايعه . ولكن الشىء المؤسف أنه قد تم تسليط الضوء على نحو مريب على أفكار هنتنجتون السلبية ، وتم تضخيمها إعلاميًا ، وفى الوقت نفسه غابت عن الساحة الإعلامية تلك الأفكار الإيجابية والأصوات العاقلة التى ترفض صدام الحضارات وتتبنى حوار الحضارات(5) .
المراجع
(1) مجلة (العربى) - العدد 518 - يناير 2002 .
(2) انجمار كارلسون - (الإسلام وأوروبا) - ترجمة سمير بوتانى - مكتبة الشروق الدولية.
(3) نشر مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية هذه المحاضرة تحت عنوان: (الإسلام والغرب) عام 1993م .
(4) مجلة منبر الإسلام - العدد الصادر فى شعبان 1419هـ الموافق ديسمبر 1998م ص 55-58 .
(5) جريدة الأهرام 13/8/1999م .
الفصل الثالث
الحوار هو الحل
فى مواجهة مزاعم الصراع طرح علماء المسلمين خيار الحوار مع الآخر كمنهج إسلامى أصيل ، صرح به القرآن الكريم وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده .. يقول الدكتور بكر مصباح تنيرة(1) :
الحوار فى معناه اللغوى ، يفيد المحادثة والمناقشة والمناظرة التى تدور بين طرفين أو أكثر ، وتشمل موضوعات متعددة ومتباينة ، بعضها عام وبعضها خاص ، كما تتعرض للمشكلات التى تهم هذه الأطراف ، وهى تسعى وراء الحوار فيما بينها إلى معرفة الحقائق ، وتبادل الآراء والأفكار والخبرات حول الموضوعات المشتركة(2) . وتحديد المواقف من المشكلات القائمة، وطرح حلول لها ، والحوار بذلك يساعد على تنظيم العلاقات الإنسانية بما يوفر لكل طرف حاجاته التى يتطلع إليها ، ويحقق له غاياته المشروعة دون أن يكون ذلك على حساب حقوق الآخرين أو يسبب لهم أضرارًا تلحق بهم .
والحوار بهذا المعنى أسلوب من أساليب التفاهم بين الأفراد والجماعات والدول والحضارات ، وهو يرمى إلى تحقيق التعارف والتعايش والتعاون بين الناس جميعًا على أساس حرية الرأى واحترام الآخرين ، وتبادل المنافع .
والإسلام بحضارته الخالدة وتجربته الإنسانية العميقة ، والحافلة بأشكال تطبيق الحوار فى شؤون الدين الدنيا بين جميع البشر ؛ دون تمييز أو تحيز لأى سبب له دوره الرئيس الذى ينبغى أن يقوم به فى هذه المرحلة التاريخية المعاصرة .
وليس هذا بجديد ، فقد ازدهر الحوار فى ظل الحضارة الإسلامية ، وهذا لكون الحوار يمثل منهجًا من مناهج الدعوة الإسلامية إلى الناس كافة لعبادة الله الواحد الأحد وتحقيق الإصلاح وتطهير المجتمع الإنسانى من الفساد وتنمية العلاقات الأخلاقية بين الجماعات والديانات والدول(3) .
وأوجز الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فى بيان جوهر رسالة الإسلام فى كلمات جامعة بليغة فقال : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) رواه الإمام أحمد والحاكم .
والحوار منهج من مناهج الدعوة الإسلامية دعا إليه القرآن فى قوله سبحانه وتعالى : (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) النحل:125 .
وقد أرسى الإسلام فى أصوله الثابتة الطاهرة ، القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة ، وإجماع السلف الصالح مبادىء الحوار ، وقد حفلت به مظاهر الحياة فى الحضارة الإسلامية فى جميع مراحل تطورها التاريخى منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً .
مبادىء الحوار فى الإسلام(2/21)
لقد انفرد الإسلام بتفعيل وتحديد المبادىء الثابتة التى ينبغى أن يقوم عليها أى حوار ناجح ، يؤدى إلى تحقيق الأهداف المطلوبة منه ، ولاسيما الحوار السياسى الذى يختص بشؤون المجتمع والدولة ويشمل أمور الدين والدنيا ، وقد سبق الإسلام وحضارته بذلك الديانات والحضارات الماضية ، فالمبادىء الواضحة هى فى الحقيقة بمثابة القواعدالتى ينبغى أن يلتزم بها جميع أطراف الحوار ؛ كى يبلغ كل طرف الغايات التى يسعى إليها ، ومن أبرز المبادىء التى فصلها الإسلام للحوار الإيجابى والبنَّاء ما يلى :
1- العلم الذى يستند إلى الحقائق الثابتة والمعلومات الدقيقة والصحيحة والخبرة العملية ؛ ولاسيما إذا كانت موضوعات الحوار تتناول القضايا العامة فى المجتمع والدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من شؤون الحكم . وينبغى أن يشارك المتخصصون فى مثل هذه المحاورات حتى تأتى النتائج والأحكام مفيدة تخدم أغراض الحوار ، وتعود بالنفع على أفراد المجتمع ورجال الحكم . وفى الدول الحديثة يتم تطبيق هذا المبدأ قبل إجراء أى حوار أو مناقشة، فيتم إعداد البحوث والدراسات التى تتناول الموضوعات من جميع جوانبها .
2- حرية الرأى التى تُعطى كل طرف من أطراف الحوار الحق فى أن يقبل أو يرفض ما يُعرض عليه من آراء وأفكار وعقائد وموضوعات شتى , وعلى الآخرين أن يحترموا هذه الحرية . والقاعدة الشرعية فى الفقه الإسلامى تقول: (إن كل عمل أو اتفاق يتم تحت الضغط والإكراه فهو باطل) ، كما يقول فقهاء الإسلام (يمين المكره باطلة وما بنى على باطل فهو باطل) ، يقول الله تعالى : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس:99 .
ويؤكد الحق عز وجل هذا المبدأ وضرورة تطبيقه حتى مع الكافرين ، يقول تعالى : (وإن أحدٌُ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) التوبة:6 .
وقد حمى الإسلام هذه العناصر فمنع الإكراه والإغراء لتحرر الفكر ويمنع التقليد ، بل دعا الناس إلى النظر الحر فى الكون وما شمل من أسرار، فالحرية فى الإسلام مبدأ مقدس حتى فى اختيارالعقيدة لقوله تعالى : (لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى) البقرة:256 .
3- العدالة بمعناها الواضح والشامل مبدأ إنسانى أقره الإسلام وجعله قاعدة من قواعد الحكم بين الناس ، وهو يقوم على إعطاء كل ذى حق حقه، والعدالة الإسلامية تحمى المسلمين وغير المسلمين ، وتفرض على أولى الأمر حماية حقوق الإنسان دون تمييز أو تحيز ، وهذا يقوى ثقة الإنسان بنفسه وفى النظام السياسى الذى يعيش فى كنفه ، وهذا يدفعه إلى المطالبة بحقوقه وممارستها من دون حرج أو خوف ، يقول تعالى فى محكم آياته : (يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) المائدة:8 .
ويدعو الله رسوله الكريم إلى الحكم بالعدل حتى مع المخالفين لدين الإسلام، فيقول تعالى : (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حُجّة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) الشورى:15 .
يقول فضيلة الشيخ محمد أبو زهرة فى ذلك : (ألا فليعلم الناس اليوم أنه لا يصلح العالم إلا إذا كانت العدالة ميزان العلاقات الإنسانية فى كل أحوالها، فلا يبغى قوى على ضعيف ولا يضيع حق ...)(4) .
4- المساواة وهى فى الإسلام تعنى إلغاء الفروق بين بنى الإنسان بسبب اللون أو الجنس أو الدين أو اللغة أو المال أو العلم، وإنما يكون التمايز بين الناس بالعمل الصالح الذى يعود عليهم جميعًا بالفائدة ، ولكل أجره على ذلك . والمساواة بهذا المعنى تبث الثقة بين الناس وتدفعهم إلى التعايش والتعاون، يقول الله سبحانه وتعالى : (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) آل عمران:195 .
وأيضًا (من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) النحل:97 .
ثم ينهى الله جل شأنه عباده عن أن يسخر بعضهم من بعض ، ويحقر بعضهم بعضًا ، أو يفخر بعضهم على بعض لأن مثل هذا السلوك يفسد العلاقات الإنسانية ، يقول تعالى : (يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) الحجرات:11 .
وإذا قامت المساواة فى المجتمع استقامت العلاقات بين أعضائه وتحقق التعاون فيما بينهم لحل المشكلات ومواجهة الصعوبات .
5- التسامح وهو خُلق إنسانى أصيل دعا إليه الإسلام ؛ لأنه يرفع الحرج فى العلاقات بين الناس ويجعل الإنسان يترفع عن الكره والبغضاء وروح الثأر والانتقام ، وهى صفات تفسد وتدمر الحياة البشرية على الأرض ، وتقطع سبل التفاهم والتعاون بين الناس .
وفى مقابل ذلك يدعو سبحانه وتعالى إلى العفو والتسامح ونسيان الأحقاد والعمل بالحسنى ، فيقول تعالى : (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم , وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) فصلت:34-35 .(2/22)
وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى فى التسامح مع أعدائه الذين حاربوا دعوته وأخرجوه من بلده وآذوه وحاولوا قتله ، وعندما نصره الله عليهم يوم فتح مكة المكرمة قال لقريش فى حوار نموذجى بين المنتصر والمهزوم : (ما تظنون أنى فاعل بكم)؟ قالوا : خيرًا ، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال عليه الصلاة والسلام : (أقول لكم كما قال أخى يوسف لإخوته : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ، اذهبوا فأنتم الطلقاء) .
هذه هى المبادىء السامية التى وضعها الإسلام لتقوم عليها العلاقات الإنسانية ، ويدور فى ضوئها الحوار أياً كان نوعه وموضوعه وغايته ، وإذا أخذت الجماعات والدول بهذه المبادىء فى المحاورات فيما بينها تكون قد خطت الخطوة الصحيحة فى حل المشكلات ، وتحقيق التعاون فيما بينها مصداقًا لقول الله جل شأنه : (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب) المائدة:2 .
تفاعل مع الآخر
ويرى الدكتور حسن عزوزى أن التقاء الحضارات معلم من معالم التاريخ الحضارى للإنسانية ، وهو قدر لا سبيل إلى مغالبته أو تجنبه ، وقد تمّ دائمًا وأبدًا وفق هذا القانون الحاكم (التمييز بين ما هو مشترك إنسانى عام وبين ما هو خصوصية حضارية) .
ولا شك أن الخيار البديل لصدام الحضارات هو أن تتفاعل الحضارات الإنسانية مع بعضها بعضًا ، بما يعود على الإنسان والبشرية جمعاء بالخير والفائدة ، فالتفاعل عملية صراعية ولكنها متجهة نحو البناء والاستجابة الحضارية لتحديات الراهن ، عكس نظرية (صدام الحضارات) التى هى مقولة صراعية تدفع الغرب بإمكاناته العلمية والمادية لممارسة الهيمنة ونفى الآخر، والسيطرة على مقدراته وثرواته تحت دعوى وتبرير أن نزاعات العالم المقبلة سيتحكم فيها العامل الحضارى .
والإسلام كدين وحضارة عندما يدعو إلى التفاعل بين الحضارات ينكر (المركزية الحضارية) التى تريد العالم حضارة واحدة مهيمنة ومتحكمة فى الأنماط والتكتلات الحضارية الأخرى ، فالإسلام يريد العالم (منتدى حضارات) متعدد الأطراف ،ولكنه مع ذلك لا يريد للحضارات المتعددة أن تستبدل التعصب بالمركزية الحضارية القسرية، إنما يريد الإسلام لهذه الحضارات المتعددة أن تتفاعل وتتساند فى كل ما هو مشترك إنسانى عام .
وإذا كان الإسلام ديناً عالمياً وخاتم الأديان ، فإنه فى روح دعوته وجوهر رسالته لا يرمى إلى تسنم (المركزية الدينية) التى تجبر العالم على التمسك بدين واحد ، إنه ينكر هذا القسر عندما يرى فى تعددية الشرائع الدينية سنة من سنن الله تعالى فى الكون ، قال تعالى : (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات) المائدة:84، وقال أيضًا : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود:118 - 119 .
إن دعوة الإسلام إلى التفاعل مع باقى الديانات والحضارات تنبع من رؤيته للتعامل مع غير المسلمين الذين يؤمنون برسالاتهم السماوية ، فعقيدة المسلم لا تكتمل إلا إذا آمن بالرسل جميعًا : (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) البقرة:285، بيد أنه لا يجوز أن يُفهم هذا التسامح الإنسانى الذى جعله الإسلام أساسًا راسخًا لعلاقة المسلم مع غير المسلم على أنه انفلات أو استعداد للذوبان فى أى كيان من الكيانات التى لا تتفق مع جوهر هذا الدين . فهذا التسامح لا يلغى الفارق والاختلاف ، ولكنه يؤسس للعلاقات الإنسانية التى يريد الإسلام أن تسود حياة الناس، فالتأكيد على الخصوصيات العقائدية والحضارية والثقافية، لا سبيل إلى إلغائه، ولكن الإسلام لا يريد لهذه الخصوصيات أن تمنع التفاعل الحضارى بين الأمم والشعوب والتعاون فيما بينها .
وفى سياق التفاعل الحضارى المنشود يمكن القول : إن احتمال أن تتقدم حضارة على أخرى بهذا الجانب المنشود أو ذاك وارد ، كما هو الشأن بالنسبة للحضارة الغربية فى عالم اليوم، ولكن القول بأفضلية حضارة على أخرى هو قول متهالك، فمن يستطيع إثبات أن هذه الحضارة أفضل من تلك أو أغزر ثقافة وحكمة وإنسانية وتسامحًا، ولا يوجد فى الواقع أى مقياس أو معيار نقيس به هذه الأفضلية فى كل الجوانب ؟
إن شرط ازدهار هذه القيم فى أى حضارة يرتبط أساسًا بمدى قدرتها على التفاعل مع معطيات الحضارات الأخرى ومكوناتها ، وبالتالى الاعتراف بهذه الحضارات ومحاورتها وقبول تعددية الثقافات وتفهم مفاهيم وتقاليد الآخرين، واعتبار الحضارة الإنسانية نتاجًا لتلاقح وتفاعل هذه الحضارات لا صراعها فيما بينها ، أو استعلاء بعضها على البعض الآخر . والحضارة الإسلامية منذ نشوئها وتكونها لم تخرج عن هذا الإطار التواق إلى التفاعل مع الحضارات الأخرى أخذاً وعطاءً، تأثرًا وتأثيرًا. لقد حمل العرب قيم الإسلام العليا ومثله السامية وأخذوا فى نشرها وتعميمها فى كل أرجاء الدنيا، وبدأت عملية التفاعل بينها وبين الحضارات الفارسية والهندية والمصرية والحضارة الأوروبية الغربية فيما بعد، ومع مرور الزمن وانصرام القرون نتجت حضارة إسلامية جديدة أسهمت فى إنضاجها مكونات حضارات الشعوب والأمم التى دخلت فى الإسلام، فاغتنت الحضارة الإسلامية بكل ذلك عن طريق التلاقح والتفاعل، وكانت هى بدورها فيما بعد عندما استيقظت أوروبا من سباتها وأخذت تستعد للنهوض مكوناً حضاريًا ذا بال أمدّ الحضارة الأوروبية الغربية بما تزخر به من علوم وقيم وعطاء حضارى متنوع .(2/23)
ويمكن قول الشىء عينه عن الحضارة الغربية التي لم تظهر فجأة ، بل تكونت خلال قرون كثيرة حتى بلغت أوجها فى عصرنا الحاضر ، وذلك نتيجة التفاعل الحضارى مع حضارات أخرى هيلينية ورومانية وغيرها، وبفعل التراكم التاريخى وعمليات متفاعلة من التأثر والتأثير خلال التاريخ الإنسانى الحديث. إن أكبر دليل على أن الحضارة الإسلامية لم تسع فى أى وقت من الأوقات إلى التصادم مع الحضارة الغربية كما ينذر بذلك أصحاب نظرية الصدام الحضارى هو أن العرب والمسلمين لم يضعوا فى أى زمن من الأزمان صوب أهدافهم القضاء على خصوصيات الحضارة الغربية وهويتها الحضارية ، كما نجد الفكر العربى والإسلامى قد اتجه بانفتاح وقوة صوب التراث الغربى للاستفادة منه وتطويره، لقد كان هنالك فعلاً استجابة سريعة للحضارة العربية الإسلامية فى تفاعلها مع الحضارة الغربية، وهذا ما لا نلمسه فى الحضارة الغربية التى لا تسعى إلى الاستفادة من تراث ومعطيات الحضارات الأخرى(5).
تدافع الحضارات
ويميل بعض الكتّاب الإسلاميين إلى تسمية العلاقة بين الحضارات المختلفة بـ (التدافع بين الحضارات) بدلاً من (الصراع) .. ويستند هؤلاء في ذلك إلى قوله تعالى : (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) البقرة:251 .. فغاية التدافع هى عمارة الأرض والإبقاء على الأنفع والأحسن والأكثر فائدة للبشرية، فالبقاء للأصلح وليس للأقوى، ولا للظلم كما يريد هنتنجتون وأمثاله .. فنحن فى إطار التدافع لا نستهدف القضاء على الآخر ولا مصارعته بل تبادل المنافع وتحقيق المصالح المشتركة لبنى الإنسان .. ويميل فريق آخر إلى تعبير (مصالح الحضارات) لما يجسده من قيم إنسانية تسهم فى بناء مجتمعات تقوم على مبدأ (التبادل الخلاق بين كل الثقافات) ، وهو ما لا يمكن تحقيقه عن طريق حضارة واحدة هى الحضارة الغربية ، بل لابد من مشاركة لحل الحضارات العالمية الموجودة على الساحة .. والتبادل ليس للسلع الاستهلاكية وحدها ، وإنما يشمل ما هو أسمى وأبقى ، ألا وهو الندية والاحترام المتبادل والحوار الفكرى العالمى(6) .
نظرية التعارف
كما أسلفنا تبنى الكثير من المفكرين والمثقفين مقولة (حوار الحضارات)، وهى الرؤية التى دعا إليها فى وقت مبكر المفكر الفرنسى المسلم (روجيه جارودى)، وأكدها السيد (محمد خاتمى) فى خطابه الشهير الذى ألقاه سنة 1998م، فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، مما حدا بها لاختيار سنة 2001م عامًا للحوار بين الحضارات . وأصبحت هذه المقولة المقابل الأبرز لمصطلح الصدام . وبين هاتين المقولتين هناك نظرية ثالثة تُعرف بـ (تعارف الحضارات)، وهى أطروحة أطلقها المفكر الإسلامى زكى الميلاد ، فى رؤية مغايرة للنظريتين السابقتين ، وهى نظرية مستوحاة - كما لا يخفى - من القرآن الكريم .
وقد بدأ التعريف بهذه النظرية فى 1418هـ/1997م ضمن العدد(16) من مجلة (الكلمة) الفصلية التى يرأس تحريرها، ثم العددين 35 و 36 من ذات المجلة ، كما طرحها أيضًا فى مجلة الحج والعمرة عدد ربيع الأول عام 1424هـ/ 2003م ..
يقول زكى الميلاد شارحًا نظرية التعارف :
نظرية حوار الحضارات : هى نظرية أراد منها جارودى أن تكون خطاباً نقديًا وعلاجياً لأزمة الغرب الحضارية - كما يصفها - ولأنماط علاقاته بالعالم والحضارات غير الأوروبية. كما أراد منها أيضًا أن تكون خطابًا موجهاً إلى الغرب بصورة أساسية. لذلك فهى تنتمى وتصنف على النظريات الغربية التى تنطلق من نقد التجربة الغربية والفكر الغربى . ومن حيث نسقها المعرفى فهى تنتمى إلى المجال الثقافى وتحدد به لأنها تركز على الأبعاد الثقافية والفكرية والأخلاقية .
وأما حوار الحضارات فى رؤية السيد محمد خاتمى فقد جاءت استجابة لبعض المعطيات والضرورات السياسية فى الدرجة الأولى، ومن أجل أن تكون خطاباً نقدياً بديلاً لخطاب صدام الحضارات. وقد ظلت تتحدد فى هذا النطاق، ولم تحول إلى نظرية واضحة ومتماسكة, ومازال العالم العربى والإسلامى يفتقر إلى نظرية تعبر عن رؤيته فى كيفية التقدم والتحضر، وعن أنماط علاقاته بالعالم.
فإذا اعتبرنا (صدام) الحضارات بوصفها نظرية تفسيرية، و (حوار الحضارات) بوصفها نظرية نقدية أو علاجية ، فإن تعارف الحضارات هى نظرية إنشائية بمعنى أن القاعدة فيها هى الإنشاء وليس الإخبار، فقد جاءت لإنشاء شكل العلاقات المفترض بين الناس كافة حينما انقسموا إلى شعوب وقبائل ، كما نصت الآية الكريمة التى أطلق عليها بآية التعارف ، رقم 13 فى سورة الحجرات : (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) .
فالتعارف هو المفهوم العام والكلى والجامع والشامل الذى اختارته هذه الآية فى تحديد النمط العام لعلاقات الناس كافة ، مهما تعددت وتنوعت أعراقهم وسلالاتهم، لغاتهم وألسنتهم، دياناتهم ومذاهبهم، تاريخهم وجغرافياتهم. ولأن خطاب الآية إلى الناس كافة ، ولأن الحديث عن شعوب وقبائل وليس عن أفراد، أى أنه حديث عن أمم ومجتمعات وتجمعات لذلك فقد جاز لنا تطبيق هذا المفهوم على مستوى الحضارات، ومن هنا تحدد مفهوم تعارف الحضارات. فهى نظرية مستنبطة من القرآن الكريم، وهو الكتاب الذى بإمكانه تحديد وصياغة العناوين أو المفاهيم الكلية والعامة والجامعة والشاملة ، إذا جاءت فى سياق يقتضى هذا الشأن - كما هو الحال فى آية التعارف - علمًا بأن جملة (شعوبًا وقبائل) لم ترد فى القرآن الكريم إلا فى هذه الآية . لهذا فإن تعارف الحضارات فيها من المقومات والركائز والشرائط بالشكل الذى يجعلنا نطلق عليها مصطلح النظرية .
ويضيف زكى الميلاد :(2/24)
إن نظرية تعارف الحضارات هى أكثر من كونها مرحلة وسيطة أو انتقالية، فهى وسيطة بمعنى أن على أساسها تتحدد مستويات ودرجات واتجاهات العلاقات ونظام التواصلات بين الناس، وبين المجموعات البشرية، وبين الحضارات، وهكذا أنماط وأشكال وصور هذه العلاقات والتواصلات. فالتعارف هو الذى يؤسس لأشكال الحوار ومستوياته ودرجاته، وإلى أشكال ومستويات ودرجات أخرى من العلاقات والتواصلات أيضًا ، كالتعاون والتحالف والتبادل والإنماء والاندماج والتكامل .. إلى غير ذلك من صور وأشكال وأنماط العلاقات . وبقدر ما يتطور التعارف تتطور تلك الصور والأنماط من العلاقات والتواصلات ، وهذا يعنى أن التعارف يسبق الحوار ويؤسس له أرضياته ومناخاته , ويشكل له بواعثه وحوافزه ، ويطور له صوره وأنماطه ، ويرتقى بدرجاته ومستوياته ، ولهذا فإن التعارف هو القاعدة وليس الحوار .
كما أن التعارف له من الفاعلية ما بإمكانه أن يجنب الحضارات مصير الصدام ، لأن الناس - كما قال الإمام على (رضى الله عنه) - أعداء ما جهلوا . وفى هذا المجال نستحضر من التاريخ الإسلامى الوسيط تجربة التحول العظيم الذى حصل عند المغول الذين بدؤوا بغزو كان من نتائجه تدمير الحضارة الإسلامية والإطاحة بها , وممارسة أعلى درجات البربرية وهو السلوك الذى كان يتصف بالقسوة والعنف والتخريب . ولكنهم وبعد زمن من السيطرة والتواجد فى المنطقة الإسلامية وبين المسلمين ، انتهوا إلى اعتناق الإسلام . والتعارف هو الذى أحدث هذا المستوى من التحول فى ذهنيات المغول . فالجهل قادهم إلى الحرب والتدمير ، والتعارف قادهم إلى السلم والإيمان .
وهناك أيضًا نموذج آخر هو التحول الذى حصل عند الأوروبيين بعد الحروب الصليبية التى قادتهم إلى قناعة جديدة ، هى ضرورة التعرف على الحضارة الإسلامية وعلى الشرق عمومًا ، الذى كان أكثر تقدمًا وتحضرًا ومدنية من الغرب . القناعة التى حرضت الغرب على أن ينهض بأكبر وأعظم جهد بحثى فى دراسة الإسلام والحضارة والشرق ، وهو الجهد الذى عرف بحركة الاستشراق ، وكان من المفترض لهذا الجهد أن يقود أوروبا إلى نوع من التفاهم وبناء علاقات جديدة بينها وبين الإسلام والعالم الإسلامى . لكن الذى حصل هو عكس الاتجاه تمامًا ، لأن المعرفة التى نهض بها الغرب ارتبطت بدوافع وخلفيات ومصالح استعمارية وإمبريالية ، وهذا يعنى أن التعارف لم يكن أخلاقيًا ، وإنما كان توظيفيًا ويخدم مصالح استعمارية .
وينتقد زكى الميلاد تعبير (حوار الحضارات) قائلاً :
قد وجدت بعد فحص مقولة حوار الحضارات أن هذه المقولة تفتقر إلى الدقة والوضوح والإحكام والتماسك . وأول ما يعترض هذه المقول هو : هل أن الحضارات تتحاور فعلاً ؟ وكيف نتصور هذا التحاور ونبرهن عليه ؟ علمًا بأن الدارسين والباحثين والمؤرخين فى ميادين التاريخ والاجتماع والانثربولوجيا والحضارة والثقافة ، الذين درسوا صور وأشكال وأنماط العلاقات بين الحضارات لم يتحدثوا عن ظاهرة الحوار بين الحضارات ، وإنما تحدثوا عن ظواهر أخرى كالتفاعل والتعاقب والتبادل والاحتكاك ، إلى جانب الصراع والصدام . وقد شرحوا هذه الظواهر وعرفوا بها وعن صورها وأشكالها وأنماطها . ولعل فى أكثر الأحيان يكون المقصود من حوار الحضارات تلك الظواهر المذكورة، لكن هذا لا يعفى من سلب الدقة عن هذه المقولة . وفى الأدبيات العربية المعاصرة هناك لفتات متزايدة ومقنعة لحد ما فى نقد هذه المقولة بعد أن دخلت فى دائرة التداول والاهتمام . وهناك من يصنفها مثل الدكتور الجابرى بأنها مفعمة بالغموض والالتباس ، وحسب رأيه أن الذين يطرحون هذه المقولة يتوقفون عند منطوقها حيث ينطوى موقفهم على نوع من الغفلة ، لأن الحوار بين الحضارات إما أن يكون عفويًا تلقائيًا نتيجة الاحتكاك الطبيعى فيكون عبارة عن تبادل التأثير عن أخذ وعطاء بفعل الصيرورة التاريخية، وهذا النوع من تلاقح الحضارات لا يحتاج إلى دعوة ، ولا يكون بتخطيط مسبق بل هو عملية تاريخية تلقائية .
ومن جهة أخرى فى نقد هذه المقولة : أنها غير ممكنة فعلاً من جهة التطبيق ، لأن الغرب الذى يفترض فيه أن يكون طرفًا أساسيًا فى أى حوار على مستوى الحضارات ، فإنه ليس على استعداد فى أنها ينخرط فى هذا الحوار مع حضارات يعتبرها غير متكافئة معه ، وهو الذى يمثل الحضارة الغالبة والمسيطرة على العالم والمتحكمة فى ثرواته . كما أن تاريخ علاقات الغرب بالحضارات الأخرى قد لا يشجعه على هذا الحوار ، وهو الذى دخل فى صدام وتدمير مع بقية الحضارات الأخرى وسلب منها ثرواتها وأوصلها إلى درجة الإفقار والتخلف .
يضاف إلى ذلك أننا على مستوى العالم العربى والإسلامى لا نمتلك نظرية واضحة حول حوار الحضارات ، ولا نفهمها أو نتعامل معها إلا بطريقة تغلب عليها العمومية والإطلاقية التى تفتقد إلى التحديد والتقييد والتبيين . لكنها مع ذلك تبقى من المقولات التى يمكن اعتبارها دعوة أخلاقية نبيلة .(2/25)
وهذا ما دفعنى إلى التمسك بمقولة (تعارف الحضارات) التى يمكن فهمها وتحديدها والبرهنة عليها , وحتى الاتفاق عليها . ويلاحظ زكى الميلاد أنه بعد 11 سبتمبر 2001م تنامت فى المجتمعات الغربية ظاهرة لفتت إليها الكثيرين فى داخل هذه المجتمعات ، وفى خارجها ، وهى ظاهرة تزايد واتساع الاهتمام نحو الاطلاع والتعرف والتساؤل عن الإسلام من جديد ، لدرجة أصبحت المؤلفات والكتابات فى هذا المجال هى الأكثر انتشارًا وتداولاً وطلبًا ، وبدأت المراكز والمعاهد والجمعيات الإسلامية هناك تستقبل اتصالات لم تشهد مثيلاً لها من قبل ، وتدور هذه الاتصالات حول الإسلام والقضايا الإسلامية والمجتمعات الإسلامية . ووصل الحال ببعض المعاهد والكليات والجامعات الأوروبية والأمريكية - التى وجدت من الضرورى تخصيص برامج دراسية حول الإسلام - أن تستجيب لحاجات طلابها فى تكوين المعرفة بالإسلام والثقافة الإسلامية ، ويمكن وصف هذه الظواهر بأنها تأتى فى سياق تأكيد الحاجة إلى تعارف الحضارات .
من جهة أخرى إن هذه الأحداث كشفت عن اختلالات عميقة فى طبيعة الرؤية المتشكلة حول العالم عند بعض الفئات والجماعات الإسلامية التى تحاول أن تصادم العالم وتنقطع عنه وترفض الاندماج فيه , وتعتبر أنها فى حالة حرب ومواجهة مع الذين يختلفون معها فى الدين والعقيدة . وهذه الحالة فى جوهرها تعبر عن أزمة فكرية ناشئة من عدم القدرة على تكوين المعرفة بالآخر المختلف . فىحين أن الذى ينبغى إعادة النظر فيه هو أن حقيقة مشكلتنا نحن فى العالم الإسلامى هى مع تخلفنا بالدرجة الأولى وليس مع الغرب أو الحضارات الأخرى . وبالتالى فإن القضية هى كيف نتغلب على هذا التخلف ونسلك طريق التحضر ، ومتى ما قطعنا هذه الخطوات أو بعضها سوف يتغير موقعنا فى العالم ، كما سوف تتغير نظرة العالم والحضارات الأخرى إلينا. لذلك فإننا ندرك وبعمق حاجتنا لأن ننهض بمشروع يكون بمستوى التعارف مع الحضارات على قاعدة أن نكتشف لأنفسنا الطريق الذى نستقل به فى سعينا نحو التمدن والتحضر .
كان يفترض فى أحداث 11 سبتمبر 2001م ، أن تهيىء اللحظة التاريخية لانطلاقة فكرة أو نظرية حول تعارف الحضارات ، لكى يتحصن العالم من النزاعات والصدامات والحروب ، ولكى لا تتكرر مثل هذه الأحداث مرة أخرى فى أى مكان من العالم . وهذا يتطلب صياغة رؤية جديدة للعالم يشترك الجميع بكل تنوعاتهم الدينية والثقافية ، العرقية والقومية ، اللغوية واللسانية ، فى صياغتها وبلورتها وتكاملها ، وفى التضامن حولها ، والدفاع عنها . الرؤية التى تنطلق من مراجعة شاملة ونقد جذرى لطبيعة النظام العالمى السائد بكل مكوناته وعناصره وشرائطه ، ويصل إلى جوهره وحقيقته . لأن هذا النظام العالمى يرسخ العنصرية والطبقية وبكل صورها وأنماطها ، ولا يضمن كرامة الجميع ولا يحفظ حقوق الجميع . وهذه الوضعيات هى التى تحرض على انتشار ظواهر العنف ، وتسبب النزاعات ، وتشعل الحروب ، وهى التى تجعل مثل أحداث أيلول/سبتمبر ممكنة الحدوث . والأفدح من ذلك محاولة الغرب أن يحتكر الحضارة والمدنية لنفسه ، ويرسخ فى العالم الانقسام بين أمم متحضرة وأمم متخلفة ، هذا الاختلال هو ما ينبغى أن يتغير .
وفكرة تعارف الحضارات تأتى فى سياق نقد هذا الاختلال والعمل على إنهاض وبناء وعمران الحضارات المختلفة ، لأنها - أى تعارف الحضارات - تنطلق من نزعة إنسانية عميقة هى التأكيد على وحدة الأصل الإنسانى ، والغاية من تأكيد وحدة الأصل الإنسانى فى هذه الآية هو أن ينظر الناس من أمم ومجتمعات وحضارات إلى أنفسهم كما لو أنهم أسرة واحدة ، لكنها منتشرة على مساحات هذه الأرض . وهذه النظرة الإنسانية والأخلاقية بحاجة إلى تنظيم قواعد السلوك على المستوى الدولى . يضاف إلى ذلك أن هناك اعتقادًا بدأ يتأكد بين الحضارات ، هو أن هذه الحضارات لا تعرف بعضها بعضًا كما ينبغى ، وتفتقد إلى جسور التواصل فى عالم تطورت فيه تقنيات الاتصال وأنظمة المواصلات التى باتت تربط العالم ، وتجعل منه أشبه ما يكون بقرية صغيرة. لهذا يمكن الاستفادة من العولمة فى تطوير وتعميم فكرة التعارف بين الحضارات، وتقليص المسافات التى تفصل بينها وإزالة جميع صور الجهل أو عدم الفهم أو غير ذلك فيما بين هذه الحضارات .
رأى المؤلف
نظن أن الاختلاف فى تحديد اسم العلاقة مع الآخر ، وهل هو (حوار) أم (تعارف) أم (تدافع) لا يهم .. المهم فى نظرنا أن يكون جوهر العلاقة مع الآخرين هو : التفاهم والتواصل والتبادل الحضارى ؛ أى تبادل المنافع والخيرات والخبرات ، كما نلاحظ أن المعانى متقاربة للغاية ، وكل منها يقره الإسلام بل يدعو إليه ..كذلك فإن التحاور هو الوسيلة إلى التعارف ، كما أن التدافع يعنى التفاعل الإيجابى، وأن يفيد كل طرف بما هو نافع وحسن لدى الآخر وينبذ الباقى .. وتبادل المنافع والثقافات والخيرات مرحلة تتبع الحوار والتعارف ثم التواصل والتآلف .. وبناء على ذلك ينبغى على علمائنا عدم التوقف كثيرًا عند المسميات ، وإثارة الخلافات النظرية حولها ، بل ننصرف سريعًا إلى المضمون والجوهر ، فمازلنا فى بداية الطريق ، والعبرة بالتطبيق وسرعة تحويل الأفكار والنظريات إلى واقع ملموس على الأرض .(2/26)
• والمطلوب الآن ترسيخ ثقافة الحوار مع الآخر ، وبث مفاهيم التواصل والتبادل الحضارى على الجانبين ، وحشد أنصار جدد لها للتصدى للمعسكر الآخر الداعى إلى الصراع والصدام ، واستخدام كل السبل والوسائل المتاحة - وعلى رأسها وسائل الإعلام العالمية - للرد على جميع مزاعم هنتنجتون وأمثاله وتفنيد آرائهم الهدَّامة ، وإقناع الجميع بخطورة التسليم بها، وضرورة شيوع ثقافة الحوار والتفاهم والتبادل الحضارى، فهى الحل الوحيد لإنقاذ البشرية كلها من ويلات ومخاطر لا تُبقى ولا تذر .
ضوابط الحوار :
ويحدد الدكتور يوسف القرضاوى ضوابط الحوار فيما يلى :
• الحوار بالحسنى : فالقرآن الكريم يأمرنا صراحة (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن) النحل:125 . فالموافقون لك فى الدين تدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة ، والآخرون تجادلهم بالتى هى أحسن ، وهناك طريقتان للحوار : طريقة حسنة ، وطريقة أحسن منها وأجود ، فالمسلم مأمور أن يستخدم الطريقة التى هى أحسن وأمثل. وقد اكتفى القرآن مع الموافقين بأن تكون الموعظة حسنة ، ولم يرض مع المخالفين إلا أن يكون الجدال بالتى هى أحسن .
وقد نص القرآن على ذلك فى خصوص أهل الكتاب ، فقال تعالى : (ولاتجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم) العنكبوت:46 .
ومن أجل ذلك أفضل أن يكون عنوان الدعوة (الحوار بين الأديان) وليس (التقريب)؛ لأنها تفهم خطأ .
• التركيز على القواسم المشتركة بيننا وبين أهل الكتاب ؛ ولهذا جاء فى تتمة الآية السابقة فى مجادلة أهل الكتاب : (وقولوا آمنا بالذى أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) العنكبوت:46 .
ففى مجال التقريب والحوار بالتى هى أحسن : ينبغى ذكر نقاط الاتفاق، لا نقاط التمايز والاختلاف .
وهناك من المسلمين المتشددين من يزعم أنه لا توجد بيننا وبين اليهود والنصارى أية جوامع مشتركة، ما دمنا نحكم عليهم بالكفر، وأنهم حرفوا وبدلوا كلام الله .
وهذا فهم خاطىء للموقف الإسلامى من القوم . فلماذا أباح الله تعالى مؤاكلتهم ومصاهرتهم؟ وكيف أجاز للمسلم أن تكون زوجته وربة بيته وأم أولاده كتابية ؟ ومقتضى هذا : أن يكون أجداد أولاده وجداتهم، وأخوالهم وخالاتهم وأولادهم من أهل الكتاب، وهؤلاء جميعًا لهم حقوق ذوى الرحم وأولى القربى .
ولماذا حزن المسلمون حين انتصر الفرس - وهم مجوس يعبدون النار - على الروم ، وهم نصارى أهل الكتاب ؟ حتى أنزل الله قرآنًا يبشر المسلمين بأن الروم سينتصرون فى المستقبل القريب (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) الروم:4 ، 5 ، كما جاء فى أول سورة الروم .
وهذا يدل على أن أهل الكتاب - وإن كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم - أقرب إلى المسلمين من غيرهم من الجاحدين أو الوثنيين .
• الوقوف معًا لمواجهة أعداء الإيمان ، ودعاة الإلحاد فى العقيدة، والإباحية فى السلوك ، من أنصار المادية ، ودعاة العرى، والتحلل الجنسى والإجهاض والشذوذ الجنسى ، وزواج الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء .
فلا مانع أن نقف مع أهل الكتاب فى جبهة واحدة ، ضد هؤلاء الذين يريدون دمار البشرية بدعاواهم المضللة ، وسلوكياتهم الغاوية، وأن يهبطوا بها من نقاء الإنسانية إلى درك الحيوانية : (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً ، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) الفرقان : 43 ، 44 .
وقد رأينا الأزهر ورابطة العالم الإسلامى والفاتيكان يقفون فى (مؤتمر السكان) فى القاهرة سنة 1994م، وفى مؤتمر المرأة فى بكين سنة 1995م فى صف واحد، لمواجهة دعاة الإباحية .
• الوقوف معًا لنصرة قضايا العدل، وتأييد المستضعفين والمظلومين فى العالم، مثل قضية فلسطين والبوسنة والهرسك، وكوسوفا ، وكشمير ، واضطهاد السود والملونين فى أمريكا وفى غيرها، ومساندة الشعوب المقهورة ضد الظالمين والمستكبرين فى الأرض بغير الحق، الذين يريدون أن يتخذوا عباد الله عبادًا لهم .
فالإسلام يقاوم الظلم، ويناصر المظلومين، من أى شعب ، ومن أى جنس، ومن أى دين .
والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر حلف الفضول الذى شارك فيه فى شبابه فى الجاهلية ، وكان حلفًا لنصرة المظلومين ، والمطالبة بحقوقهم، ولو كانت عند أشراف القوم وسراتهم .
وقال عليه الصلاة والسلام: (لو دعيت إلى مثله فى الإسلام لأجبت)(6).
• ومما ينبغى أن تتضمنه هذه الدعوة : إشاعة روح السماحة والرحمة والرفق فى التعامل بين أهل الأديان ، لا روح التعصب والقسوة والعنف .
فقد خاطب الله تعالى رسوله محمدًا بقوله : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء:107 .
وقال عليه الصلاة والسلام عن نفسه : (إنما أنا رحمة مهداة)(7) .
وذم الله بنى إسرائيل بقوله : (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية) المائدة:13 ، وفى موضع آخر قال فى مخاطبتهم : (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشد قسوة) البقرة:74 .
وقال النبى لزوجه عائشة : (إن الله يحب الرفق فى الأمر كله)(8) ، (ما دخل الرفق فى شىء إلا زانه وما نزع من شىء إلا شانه) ، (إن الله يحب الرفق، ويعطى عليه ما لا يعطى على العنف)(9) .
ولا تتنافى روح التسامح والرحمة والرفق فى معاملة أهل الكتاب مع ما يعتقده المسلم من كفرهم بدين الإسلام، وأنهم على ضلال، فهناك عناصر أخرى تخفف من هذا الأمر فى فكر المسلم وضميره :
1- فهو يعتقد أن اختلاف البشر فى أديانهم واقع بمشيئة الله تعالى، المرتبطة بحكمته . كما قال تعالى : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود:119،118، أى خلقهم ليختلفوا مادام قد منحهم العقل وحرية الإرادة .(2/27)
2- وأن الحساب على ضلال الضالين، وكفر الكافرين ليس فى هذه الدنيا، ولكن فى الآخرة, وليس موكولاً إلينا ، ولكن إلى الله الحكم العدل، واللطيف الخبير . كما قال تعالى لرسوله : (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولاتتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأُمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) الشورى:15 .
3- اعتقاد المسلم بكرامة الإنسان من حيث هو إنسان . وفى هذا روى البخارى عن جابر : أن النبى صلى الله عليه وسلم مروا عليه بجنازة، فقام لها واقفًا، فقالوا : يا رسول الله ، إنها جنازة يهودى! فقال : (أليست نفسًا؟) بلى فما أعظم الموقف، وما أروع التعليل !!
4- إيمان المسلم بأن عدل الله لجميع عباد الله، مسلمين وغير مسلمين، كما قال تعالى : (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) المائدة:8، وبهذا لا يتحيز المسلم الحق لمن يحب، ولا يحيف على من يكره. بل يؤدى الحق لأهله، مسلمًا أو غير مسلم، صديقًا أم عدوًا(10) .
المراجع
(1) مجلة الوعى الإسلامى - العدد 455 رجب 1424 هـ .
(2) المعجم الوسيط - مجمع اللغة العربية - القاهرة - دار المعارف ص 205 .
(3) الشيخ محمد الخضيرى - تاريخ التشريع الإسلامى - المكتبة التجارية - مصر .
(4) محمد أبو زهرة - العلاقات الدولية فى الإسلام - الدار القومية - القاهرة - 1964هـ ص 29 .
(5) موقع البلاغ www.balagh.com .
(6) الدكتور أحمد عبد العزيز المزينى - مجلة الوعى الإسلامى - العدد 455 .
(7) رواه ابن إسحاق فى السيرة كما فى ابن هشام (1/29) من الطبعة الجمالية، قال ابن زيد بن المهاجر قنفذ التيمى أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهرى يقول : قال رسول الله : فذكره، قلت : وهذا سند صحيح لولا أنه مرسل . ولكن له شواهد تقويه ، فرواه الحميدى بإسناد آخر مرسلاً أيضًا كما فى (البداية) 2/29. وأخرجه الإمام أحمد (رقم 1655/ 1676) من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعًا دون قوله : (ولو دُعيت به فى الإسلام لأجبت) وسنده صحيح .
(8) الحاكم : عن أبى هريرة :1/35 صححه الحاكم ووافقه الذهبى، تفسير ابن كثير 3/202،201.
(9) متفق عليه : اللؤلؤ والمرجان عن عائشة (1400) .
(10) د. يوسف عبد الله - فى فقه الأقليات المسلمة - دار الشروق - مصر .
الفصل الرابع
هل انتشر الإسلام بالسيف ؟
من المزاعم التىتخيف الآخرين وتعرقل الحوار والتعارف ، تلك الأكذوبة التى يتداولها كثير من المستشرقين، وخلاصتها : أن الإسلام قد انتشر بالسيف.. ويمكننا الرد على هذه الفرية بكل سهولة وإيجاز فيما يلى :
• لقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم قرابة 13 عامًا فى مكة يدعو إلى الله سراً وعلانيةً .. وتعرض هو وكل أصحابه لأذى المشركين واضطهادهم بكل الوسائل والأساليب ، فما رفع أحدهم سيفًا على مشرك .. وقد يقول قائل : هذا لأنهم كانوا مستضعفين فى ذلك الوقت .. ونرد فورًا بأن النبى صلى الله عليه وسلم عفا عمن آذوه وعذبوا أصحابه وقتلوا بعضهم عندما أمكنه الله منهم بفتح مكة ، وقال لهم قولته الشهيرة : (اذهبوا فأنتم الطلقاء)(1) .
• إن استمرار وجود ملايين من غير المسلمين فى معظم دول العالم الإسلامى حتى الآن بكنائسهم ومعابدهم هو الدليل القاطع على تسامح المسلمين وعدلهم ، وحمايتهم للآخر ، وعدم إكراه أحد على الإسلام بعد أن فتحوا تلك البلدان . (قارن هذا التسامح بالإبادة الجماعية للمسلمين فى إسبانيا بعد انتهاء الحكم الإسلامى بها ، وإبادة الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين على أيدى البيض الذين قدموا من شتى أنحاء أوروبا واحتلوا الأمريكتين بقوة السلاح) .
• فى عصرنا الحديث اعتنق الملايين من الأوروبيين والأمريكان الإسلام .. ومازال عشرات الألوف يدخلون فى دين الله أفواجًا يوميًا بعد اقتناع ودراسة متأنية .. أى سيف الآن أجبر هؤلاء على الإسلام ؟! لقد اعترف الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون بأن الإسلام هو أسرع الأديان انتشارًا الآن فى الولايات المتحدة الأمريكية (أقوى دولة فى العالم والتى تحتل الآن دولاً إسلامية مثل العراق وأفغانستان) فهل نقدر الآن - كمسلمين - على ممارسة أى ضغط أو إجبار على أحد من الأمريكان أو الأوروبيين لاعتناق الإسلام ؟ هل أرغم أحد المفكر العالمى الفرنسى رجاء جارودى على اعتناق الإسلام ؟ هل هدد أحد النجم العالمى كات ستيفن ليصبح مسلماً ؟ وهل أجبر أحد الملاكم العالمى محمد على كلاى وزميله مايك تايسون على الإسلام ؟ وماذا عن مئات القساوسة فى الغرب الذين أسلموا بعد مقارنة للأديان ؟(2) .
• دخل الإسلام معظم أنحاء آسيا وأفريقيا عن طريق التجار المسلمين العزل من أى سلاح - سوى العقيدة الراسخة - الذين جذبوا أنظار السكان الأصليين بالأمانة والصدق ومكارم الأخلاق ، ونجحوا فى دعوتهم إلى الإسلام بالقدوة الحسنة .(2/28)
• نصوص القرآن قاطعة فى النص على حرية العقيدة .. يقول الإمام محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا فى تفسير قوله تعالى : (لا إكراه فى الدين) البقرة:256 . أخرج ابن جرير من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس قال : (لا إكراه فى الدين) هذه الآية فى رجل من الأنصار من بنى سالم بن عوف يقال له الحصين ، كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو مسلماً ، فقال للنبى صلى الله عليه وسلم : ألا أستكرههما ؛ فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ، فأنزل الله الآية . وفى بعض التفاسير أنه حاول إكراههما ، فاختصموا إلى النبى صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله ، أيدخل بعضى النار وأنا أنظر ! ولابن جرير عدة روايات فى نذر النساء فى الجاهلية تهويد أولادهم ليعيشوا ، وإن المسلمين بعد الإسلام أرادوا إكراه من لهم من الأولاد على دين أهل الكتاب على الإسلام ، فنزلت الآية ، فكانت فصل ما بينهم ، وفى رواية له عن سعيد بن جبير أن النبى صلى الله عليه وسلم قال عندما أنزلت : (قد خيَّرَ الله أصحابكم ، فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فهم منهم) .
قال الشيخ رشيد رضا فى تفسير الآية(3) : هذا حكم الدين الذى يزعم الكثيرون من أعدائه - وفيهم من يظن أنه من أوليائه - أنه قام بالسيف والقوة، فكان يعرض على الناس والقوة عن يمينه ، فمن قبله نجا ، ومن رفضه حكم السيف فيه حكمه ، فهل كان السيف يعمل عمله فى إكراه الناس على الإسلام فى مكة أيام كان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى مستخفياً ، وأيام كان المشركون يفتنون المسلم بأنواع من التعذيب ولا يجدون رادعاً ، حتى اضطر النبى وأصحابه إلى الهجرة ؟ أم يقولون إن ذلك الإكراه وقع فى المدينة بعد أن اعتز الإسلام ، وهذه الآية قد نزلت فى غرة هذا الاعتزاز ؟ فإن غزوة بنى النضير كانت فى ربيع الأول من السنة الرابعة ، وقال البخارى : إنها كانت قبل غزوة أحد التى لا خلاف فى أنها كانت فى شوال سنة ثلاث ، وكان كفار مكة لا يزالون يقصدون المسلمين بالحرب . نقض بنو النضير عهد النبى صلى الله عليه وسلم ، فكادوا له وهمَّوا باغتياله مرتين ، وهم بجواره فى ضواحى المدينة ، فلم يكن بُدّ من إجلائهم عن المدينة ، فحاصرهم حتى أجلاهم ، فخرجوا مغلوبين على أمرهم ، ولم يأذن لمن استأذنه من أصحابه بإكراه أولادهم المتهودين على الإسلام ومنعهم من الخروج مع اليهود، فذلك أول يوم خطر فيه على بال بعض المسلمين الإكراه على الإسلام ، وهو اليوم الذى نزل فيه (لا إكراه فى الدين) .
ثم نقل عن الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله أنه قال : كان معهودًا عند بعض الملل لاسيما النصارى حمل الناس على الدخول فى دينهم بالإكراه ، وهذه المسألة ألصق بالسياسة منها بالدين، لأن الإيمان - وهو أصل الدين وجوهره - عبارة عن إذعان النفس ، ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه ، وإنما يكون بالبيان والبرهان ، ولذلك قال تعالى بعد نفى الإكراه : (قد تبين الرشد من الغى) البقرة:256 ، أى قد ظهر أن فى هذا الدين الرشد والهدى والفلاح والسير فى الجادة على نور، وأن ما خالفه من الملل والنحلل على غى وضلال .
ثم قال : ورد بمعنى هذه الآية (يونس:99) قوله تعالى : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) وتؤيدهما الآيات الكثيرة الناطقة بأن الدين هداية اختيارية للناس ، تعرض عليهم مؤيدة بالآيات والبينات ، وأن الرسل لم يبعثوا جبارين ولا مسيطرين ، وإنما بعثوا مبشرين ومنذرين . ولكن يُرد علينا أنا أمرنا بالقتال ، وقد تقدم بيان حكمة ذلك ، بلى أقول : إن الآية التى نفسرها نزلت فى غزوة بنى النضير، إذ أراد بعض الصحابة إجبار أولادهم المتهودين أن يسلموا ولا يكونوا مع بنى النضير فى جلائهم كما مر ، فبين الله لهم أن الإكراه ممنوع ، وأن العمدة فى دعوة الدين بيانه حتي يبين الرشد من الغى، وأن الناس مخيرون بعد ذلك فى قبوله أو تركه . ثم قال : شرع القتال لتأمين الدعوة، ولكف شر الكافرين عن المؤمنين، لكيلا يزعزعوا ضعيفهم قبل أن تتمكن الهداية من قلبه، ويقهروا قويهم بفتنته عن دينه، كما كانوا يفعلون ذلك فى مكة جهرًا، ولذلك قال : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) البقرة:193 ، أى حتى يكون الإيمان فى قلب المؤمن آمنا من زلزلة المعاندين له بإيذاء صاحبه، فيكون دينه خالصاً لله غير مزعزع ولا مضطرب، فالدين لا يكون خالصاً لله إلا إذا كفت الفتن عنه وقوى سلطانه، حتى لا يجرؤ على أهله أحد.
ثم نقل عن الأستاذ الإمام محمد عبده أن الفتن إنما تكف بأحد أمرين :
الأول : إظهار المعاندين للإسلام ولو باللسان، لأن من فعل ذلك لا يكون من خصومنا، ولا يبارزنا بالعداء، وبذلك تكون كلمتنا بالنسبة إليه هى العليا، ويكون الدين لله، ولا يفتن صاحبه فيه، ولا يمنع من الدعوة إليه .
والثانى : - وهو أدل على عدم الإكراه - قبول الجزية، وهى شىء من المال يعطوننا إياه جزاء حمايتنا لهم بعد خضوعهم لنا، وبهذا الخضوع نكتفى شرهم، وتكون كلمة الله هى العليا .(2/29)
فقوله تعالى : (لا إكراه فى الدين) قاعدة كبرى من قواعد دين الإسلام، وركن عظيم من أركان سياسته، فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه، ولايسمح لأحد أن يكره أحداً من أهله على الخروج منه . وإنما نكون متمكنين من إقامة هذا الركن وحفظ هذه القاعدة إذا كنا أصحاب قوة ومنعة نحمى بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتنتنا فى ديننا اعتداء علينا بما هو آمن أن نعتدى بمثله عليه ، إذ أمرنا أن ندعو إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نجادل المخالفين بالتى هى أحسن ، معتمدين على أن تَبَيُّن الرشد من الغى هو الطريق المستقيم إلى الإيمان، مع حرية الدعوة، وأمن الفتنة . فالجهاد من الدين بهذا الاعتبار، أى أنه ليس من جوهره ومقاصده، وإنما هو سياج له وجُنَّة، فهو أمر سياسى لازم له للضرورة، ولا التفات لما يهذى به العوام ومعلموهم الطغام، إذ يزعمون أن الدين قام بالسيف، وأن الجهاد مطلوب لذاته، فالقرآن فى جملته وتفصيله حجة عليهم .
وذكر أيضًا فى تفسير قوله تعالى : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) أن هذه أول آية نزلت فى أن الدين لا يكون بالإكراه، أى لا يمكن للبشر ولا يُستطاع، ثم نزل عند التنفيذ (لا إكراه فى الدين) (البقرة:256) أى لا يجوز ولا يصح به، لأن علماء المسلمين أجمعوا على أن إيمان المُكْره باطل لا يصح، لكن نصارى أوروبا ومقلديهم من أهل الشرق لا يستحون من افتراء الكذب على الإسلام والمسلمين، ومنه رميهم بأنهم كانوا يكرهون الناس على الإسلام ، ويُخَيِّرونهم بينه وبين السيف يقطع رقابهم، على حد المثل : (رمتنى بدائها وانسلت) .
فهذا ما يقوله الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا فى تفسير تلك الآية, وهما اللذان كان لهما ولأستاذهما جمال الدين الأفغانى الفضل فى تطهير الإسلام مما لصق به من آثار الجمود، حتى أعادوه إلى طهارته وروعته الأولى، فأمكنه أن يقف كالصخرة العاتية أمام سيل الشبهات التى توجه إليه فى هذا العصر، ولولا هذا لتزعزعت أركانه ، ولاختفى فى ظلمات الجمود التى كانت تخيم عليه، وتساعد أعداء الإسلام فيما يوجهونه من طعنات إليه، كما يساعدونهم فى جمودهم على تفسير تلك الآية بما يفيد أن الإسلام لم ينتشر إلا بالإكراه .
شهادة مفكر مسيحى
وهناك أيضًا شهادات المنصفين من غير المسلمين ، ونختار منها شهادة ذلك المفكر المصرى المسيحى الدكتور نبيل لوقا بباوي(4) الذى أصدر مؤخرًا دراسة تحت عنوان : (انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والافتراء) رد فيها على الذين يتهمون الإسلام بأنه انتشر بحد السيف وأجبر الناس على الدخول فيه واعتناقه بالقوة .
وناقشت الدراسة هذه التهمة الكاذبة بموضوعية علمية وتاريخية أوضحت خلالها أن الإسلام، بوصفه دينًا سماويًا، لم ينفرد وحده بوجود بفئة من أتباعه لاتلتزم بأحكامه وشرائعه ومبادئه التى ترفض الإكراه فى الدين، وتحرم الاعتداء على النفس البشرية، وأن سلوك وأفعال وفتاوى هذه الفئة القليلة من الولاة والحكام والمسلمين غير الملتزمين لا تمت إلى تعاليم الإسلام بصلة .
فقد حدث فى المسيحية أيضاً التناقض بين تعاليمها ومبادئها التى تدعو إلى المحبة والتسامح والسلام بين البشر وعدم الاعتداء على الغير ، وبين ما فعله بعض أتباعها فى البعض الآخر من قتل وسفك دماء واضطهاد وتعذيب، مما ترفضه المسيحية ولا تقره مبادئها، مشيرة إلى الاضطهاد والتعذيب والتنكيل والمذابح التى وقت على المسيحيين الكاثوليك، لاسيما فى عهد الإمبراطور دقلديانوس الذى تولى الحكم فى عام 248م، فكان فى عهده يتم تعذيب المسيحيين الأرثوذكس فى مصر بإلقائهم فى النار أحياء ، أو تعليقهم على الصليب حتى يهلكوا جوعًا، ثم تترك جثثهم لتأكلها الغربان، أو كانوا يوثقون فى فروع الأشجار، بعد أن يتم تقريبها بآلات خاصة ، ثم تترك لتعود لوضعها الطبيعى فتتمزق الأعضاء الجسدية للمسيحيين إرباً إرباً .
وأضاف بباوي : أن أعداد المسيحيين الذين قتلوا بالتعذيب في عهد الإمبراطور دقلديانوس يقدر بأكثر من مليون مسيحى ، إضافة إلى المغالاة فى الضرائب التى كانت تفرض على كل شىء حتى على دفن الموتى ، لذلك قررت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى مصر اعتبار ذلك العهد عصر الشهداء، وأرخوا به التقويم القبطى تذكيرًا بالتطرف المسيحى. وأشار الباحث إلى الحروب الدموية التى حدثت بين الكاثوليك والبروتستانت فى أوروبا، وما لاقاه البروتستانت من العذاب والقتل والتشريد والحبس في غياهب السجون إثر ظهور المذهب البروتستانتى الذى أسسه الراهب مارتن لوثر الذى ضاق ذرعاً بمتاجرة الكهنة بصكوك الغفران ، فتصدوا له ولأتباعه وذبحوا الملايين منهم .
وهدفت الدراسة من عرض هذا الصراع المسيحى إلى :(2/30)
أولاً : عقد مقارنة بين هذا الاضطهاد الدينى الذى وقع على المسيحيين الأرثوذكس من قبل الدولة الرومانية ، ومن المسيحيين الكاثوليك ، وبين التسامح الدينى الذى حققته الدولة الإسلامية في مصر، وحرية العقيدة الدينية التى أقرها الإسلام لغير المسلمين ، وتركهم أحراراً في ممارسة شعائرهم الدينية داخل كنائسهم، وتطبيق شرائع ملتهم في الأحوال الشخصية، مصداقًا لقوله تعالى في سورة البقرة : (لا إكراه في الدين) البقرة:256، وتحقيق العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين وغير المسلمين في الدولة الإسلامية إعمالاً للقاعدة الإسلامية (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، وهذا يثبت أن الإسلام لم ينتشر بالسيف والقوة لأنه تم تخيير غير المسلمين بين قبول الإسلام أو البقاء على دينهم مع دفع الجزية (ضريبة الدفاع عنهم وحمايتهم وتمتعهم بالخدمات)، فمن اختار البقاء على دينه فهو حر، وقد كان في قدرة الدولة الإسلامية أن تجبر المسيحيين على الدخول في الإسلام بقوتها، أو أن تقضى عليهم بالقتل إذا لم يدخلوا قهرًا، ولكن الدولة الإسلامية لم تفعل ذلك تنفيذاً لتعاليم الإسلام ومبادئه، فأين دعوى انتشار الإسلام بالسيف ؟
ثانيًا : إثبات أن الجزية التى فرضت على غير المسلمين فى الدولة الإسلامية بموجب عقود الأمان التى وقعت معهم، إنما هى ضريبة دفاع عنهم فى مقابل حمايتهم والدفاع عنهم من أى اعتداء خارجى، لإعفائهم من الاشتراك فى الجيش الإسلامى حتى لا يدخلوا حربًا يدافعون فيها عن دين لا يؤمنون به، ومع ذلك فإذا اختار غير المسلم أن ينضم إلى الجيش الإسلامى برضاه فإنه يعفى من دفع الجزية .
وتقول الدراسة : إن الجزية كانت تأتى أيضًا نظير التمتع بالخدمات العامة التى تقدمها الدولة للمواطنين مسلمين وغير مسلمين، والتى تنفق من أموال الزكاة التى يدفعها المسلمون بصفتها ركناً من أركان الإسلام، وهذه الجزية لا تمثل إلا قدرًا ضئيلاً متواضعًا لو قورنت بالضرائب الباهظة التى كانت تفرضها الدولة الرومانية على المسيحيين فى مصر، ولا يعفى منها أحد، فى حين أن أكثر من 70% من الأقباط الأرثوذكس كانوا يعفون من دفع هذه الجزية، فقد كان يعفى من دفعها : القُصّر والنساء والشيوخ والعجزة وأصحاب الأمراض والرهبان والفقراء أيضًا كانوا يعفون .
ثالثاً : إثبات أن تجاوز بعض الولاة المسلمين ، أو بعض الأفراد أو بعض الجماعات من المسلمين فى معاملاتهم لغير المسلمين إنما هى تصرفات فردية شخصية لا تمت لتعاليم الإسلام بصلة، ولا علاقة لها بمبادىء الدين الإسلامى وأحكامه، فإنصافاً للحقيقة يجب ألا ينسب هذا التجاوز للدين الإسلامى، وإنما ينسب إلى من تجاوز، وهذا الضبط يتساوى مع رفض المسيحية للتجاوزات التى حدثت من الدولة الرومانية ، ومن المسيحيين الكاثوليك ضد المسيحيين الأرثوذكس، ويتساءل قائلاً : لماذا إذن يغمض بعض المؤرخين عيونهم عن التجاوز الذى حدث فى جانب المسيحية ولا يتحدثون عنه بينما يضخمون الذى حدث فى جانب الإسلام، ويتحدثون عنه ؟ ولماذا الكيل بمكيالين ؟ والوزن بميزانين؟!
• ونشير فى هذا الصدد إلى الواقعة المشهورة التى ترويها كتب التاريخ (سيرة عمر بن الخطاب للإمام الجوزى) التى اقتص فيها الفاروق عمر من ابن والى مصر عمرو بن العاص الذى ضرب قبطيًا ظلمًا ، وقال الفاروق كلمته المشهورة : (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ؟!) .
المراجع
(1) راجع سيرة ابن هشام – السيرة النبوية لابن كثير – فقه السيرة للشيخ محمد الغزالى .
(2) انظر قصص إسلام هؤلاء فى : www.thetruereligion.org/converts ، وموقع www.saaid.net ، www.islamway.com .
(3) تفسير المنار - سورة البقرة - الآية 256 . وقارن تفسير هذه الآية فى الجامع لأحكام القرآن للقرطبى - تفسير ابن كثير - تفسير النسفى - تفسير البيضاوى - تفسير الطبرى - فى ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب .
(4) نبيل لوقا بباوى - انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والافتراء - دار بباوى للنشر - القاهرة 2003م .
الفصل الخامس
الأقليات فى المجتمع الإسلامى
لكى ندرك عظمة التشريع الإسلامى فى الاعتراف (بالآخر) وحفظ حقوقه فى إطار من التعايش السلمى للمجتمع بجميع طوائفه وفئاته، علينا أن نشير إلى ما كانت عليه الأمم الأخرى قبل ظهور الإسلام ..
• فالرومان كانوا يحتكرون (السيادة والشرف) للجنس الرومانى، ويرون فى الأخرين والأغيار (برابرة) لا يستحقون حتى أن يطبق عليهم القانون الرومانى! .. ولا حق لهم فى التدين بغير دين السادة الرومان - وثنّيا كان هذا الدين أو نصرانيًا - ولقد صبوا جام اضطهادهم، فى حقبة الوثنية، على اليهود وعلى النصارى، وفى حقبة تنصرهم، على النصرانية الشرقية - المخالفة لهم فى المذهب - فى مصر والشام .
• واليهودية التلمودية، قد تحولت إلى (وثنية) جعلت الله، سبحانه وتعالى، إله بنى إسرائيل وحدهم، وللشعوب الأخرى آلهتها، وذلك بدلاً من الإيمان بأنه، سبحانه، هو إله العالمين .. ولقد صبوا جام اضطهادهم على المسيح عيسى ابن مريم، عليه السلام، وعلى حوارييه والذين آمنوا به واتبعوه.(2/31)
والنصرانية - هى الأخرى - بادلت الآخرين إنكارًا بإنكار، واضطهادًا باضطهاد.. فبمجرد أن أفاقت - فى مصر مثلاً - من الاضطهاد الوثنى الرومانى، وفور تدين الدولة الرومانية بالنصرانية، على عهد الإمبراطور (قسطنطين) (274 - 337م) صبت هذه النصرانية جام اضطهادها على الوثنية المصرية، فدمرت معابدها، وأحرقت مكتباتها، وسحلت وقتلت ومزقت وأحرقت فلاسفتها .. وسجل التاريخ كيف قاد بطرك الكنيسة المصرية (تيوفيلوس) (385 - 412م) (حملة اضطهاد عنيفة ضد الوثنيين، واتجه للقضاء على مدرسة الإسكندرية، وتدمير مكتبتها وإشعال النار فيها .. وطالت هذه الإبادة مكتبات المعابد .. وتم السحل والتمزيق والحرق لفيلسوفة الأفلاطونية الحديثة، وعالمة الفلك والرياضيات (إناتيه) (370 - 415م) وذلك فضلاً عن تحطيم التماثيل .. والعبث بالآثار ..)(1).
ثم عادت النصرانية اليعقوبية إلى موقع الضحية والمضطهد من النصرانية الملكانية الرومانية، بعد الاختلاف حول طبيعة المسيح، عليه السلام ..
ثم جاء الإسلام فأحدث (الإصلاح الثورى) فى العلاقة بالآخرين، وبلغ فى العمق والسمو الحد الذى جعل فيه الآخر جزءًا من الذات ، وكما يقول المفكر الإسلامى الدكتور محمد عمارة : فقد وضع الإسلام هذه المبادئ كمواد فى دستور دولته الأولى - دولة النبوة والخلافة الراشدة - .. وصياغات دستورية فى المواثيق والمعاهدات والعهود التى عقدتها الدولة الإسلامية مع (الآخرين) الذين قامت بينهم وبين دولة الإسلام علاقات ومصالح وارتباطات، ثم تجسد كل ذلك فى الواقع والحضارة والتاريخ ..
ففى دستور دولة المدينة - (الصحيفة .. الكتاب) - الذى وضعه رسوله الله صلى الله عليه وسلم عند قيام هذه الدولة، عقب الهجرة، لينظم الحقوق والواجبات بين مكونات الأمة، فى الوطن .. نص هذا الدستور على أن القطاعات العربية المتهودة من قبائل المدينة، ومن لحق بهم وعاهدوه، قد أصبحوا جزءًا أصيلاً فى الأمة الواحدة والرعية المتحدة لهذه الدولة الإسلامية.. فنص هذا الدستور على أن (يهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم .. ومن تبعنا من يهود فإن لهم النصر والأسوة، غير مظلومين ولا مُتَنَاصر عليهم .. وأن بطانة يهود ومواليهم كأنفسهم .. وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر المحض من أهل هذه الصحيفة دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه)(1) .
وهكذا تجسد التحام (الآخر اليهودى) فى الأمة الواحدة والرعية المتحدة للدولة، فى ظل المرجعية الإسلامية، ومن خلال سعتها التى نص عليها هذا الدستور عندما قال: (.. وأنه ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده ، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله ..)(3) .
كذلك تجسد هذا الالتحام (بالآخر)، وتحققت هذه المساواة وإياه فى العلاقة التى أدخلت النصارى - نصارى (نجران) وكل المتدينين بالنصرانية - فى صلب الأمة الواحدة، وفى رعية الدولة المتحدة، فنص ميثاق العهد الذى كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصارى (نجران) على مجموعة من المبادئ الدستورية التى وضعت مبادئ علاقة الإسلام بالآخرين فى الممارسة والتطبيق .. فجاء هذا الميثاق :
(.. ولنجران وحاشيتها، ولأهل ملتها ، ولجميع من ينتحل دعوة النصرانية .. جوار الله وذمة محمد رسول الله على أموالهم، وأنفسهم، وملتهم، وغائبهم وشاهدهم، وعشيرتهم، وبِيَعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير .. أن أحمى جانبهم، وأذُب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم، ومواضع الرهبان، ومواطن السياح، حيث كانوا من بر أو بحر، شرقًا وغربًا، بما أحفظ به نفسى وأهل الإسلام من ملتى) ..
ولم يقف هذا الميثاق، فقط ، عند ضمان حرية الاختلاف فى المعتقد الدينى، وحرية إقامة هذا المعتقد المخالف للإسلام ..وإنما نص على احترام (الوجودالمؤسسى) لهذا التنوع والاختلاف .. (..فلا يُغَيَّر أسقف، ولا راهب من رهبانيته ..) .
ولأن الجزية هى (بدل جندية)، لا تُؤخذ إلا من القادرين ماليًا، الذين يستطيعون حمل السلاح وأداء ضريبة القتال دفاعًا عن الوطن، وليست (بدلاً من الإيمان بالإسلام) وإلا لفرضت على الرهبان ورجال الدين .. وبدليل أن الذين اختاروا أداء ضريبة أداء الجندية فى صفوف المسلمين، ضد الفرس والروم، وهم على دياناتهم غير الإسلامية - فى الشام .. والعراق .. ومصر - لم تفرض عليهم الجزية، وإنما اقتسموا مع المسلمين الغنائم على قدم المساواة.. لأن هذا هو موقع (الجزية) فى علاقة الدولة الإسلامية بالآخرين، جاء فى ميثاق نصارى (نجران) : (..ولايُحشرون) أى لا يكلفون التعبئة العامة للقتال، ولا يكلف أحد من أهل الذمة منهم الخروج مع المسلمين إلى عدوهم، لملاقاة الحروب ومكاشفة الأقران، فإنه ليس على أهل الذمة مباشرة القتال، وإنما أُعطوا الذمة على أن لا يُكلفوا ذلك، وأن يكون المسلمون مدافعين عنهم، وجوارًا دونهم ولا يكرهون على تجهيز أحد من المسلمين للحرب ، بقوة وسلاح وخيل، إلا أن يتبرعوا من تلقاء أنفسهم، فيكون من فعل ذلك منهم وتبرع به حُمد عليه، وعُرف له وكُوفئ به ..) .(2/32)
كما نص هذا الميثاق على أن العدل فى القضاء والمساواة فى تحمل الأعباء المالية إنما هى فريضة إلهية شاملة لكل الأمة، على اختلاف معتقداتها الدينية (.. فلا خراج ولا جزية إلا على من يكون فى يده ميراث من ميراث الأرض، ممن يجب عليه فيه للسلطان حق، فيؤدى ذلك على ما يؤديه مثله، لا يُجار عليه، ولا يُحمل منه إلا قدر طاقته وقوته على عمل الأرض وعمارتها وإقبال ثمراتها، ولا يُكلف شططا ولا يُتجاوز به حد أصحاب الخراج من نظرائه .. ولا يُدخل شئ من بنائهم فى شئ من أبنية المساجد ولا منازل المسلمين .. ومن سأل منهم حقًا فبينهم النَّصَف غير ظالمين ولا مظلومين ..) .
وإمعانا من الإسلام فى توفير عوامل التلاحم للأمة الواحدة، التى جعل الإسلام وحدتها فريضة نص عليها القرآن الكريم : (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) الأنبياء : 92 . فلقد حققت التطبيقات الإسلامية فى الواقع الإجتماعى عددًا من الإنجازات التى سلكت الجميع فى الأمة الواحدة.. فالموالى - الذين كانوا أرقاء ثم حررهم الإسلام - دمجهم النظام الإسلامى فى قبائلهم، التى كانوا أرقاء فيها، ولحمهم فيها بلحمة (الولاء)، الذى جعله كالنسب سواء بسواء، يكسب هؤلاء الموالى شرف هذه القبائل وحسبها ونسبها .. ونصت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن (مولى القوم منهم) - رواه البخارى - وعلى (أن الولاء لحمة كلحمة النسب) - رواه الدارمى وأبو داود - حتى لقد أصبح بلال الحبشى (سيدًا) يقول عنه عمر بن الخطاب، وعن أبى بكر، الذى اشتراه وأعتقه : (سيدنا أعتق سيدنا!) .. وحتى لقد تمنى عمر أن يكون أحد الموالى - (سالم مولى أبى حذيفة) (12هـ - 633م) - حيا ليجعله خليفة على المسلمين! ..
والقبائل والعشائر، التى اندمج فيها الموالى، قد تحولت إلى لبنات فى بناء الأمة الواحدة ..
كذلك سلكت التطبيقات الإسلامية باب المصاهرة والزواج بين المسلمين وبين الكتابيات المحصنات؛ لتحقيق أعلى درجات التلاحم بين غير المسلمين وبين المسلمين فى بناء الأمة الواحدة .. فزواج المسلم من الكتابية يدخل ذويها من غير المسلمين فى دائرة (أولى الأرحام) عند المسلمين، وتلك قمة التلاحم والاندماج .. وعنها يقول الإمام محمد عبده : (أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج الكتابية، نصرانية أو يهودية، وجعل من حقوق الزوجة الكتابية على زوجها المسلم أن تتمتع بالبقاء على عقيدتها، والقيام بفروض عبادتها، والذهاب إلى كنيستها أو بيعتها، وهى منه بمنزلة البعض من الكل، وألزم له من الظل، وصاحبته فى العز والذل، والترحال والحل،بهجة قلبه، وريحانة نفسه، وأميرة بيته، وأم بناته وبنيه، تتصرف فيهم كما تتصرف فيه .. لم يفرق الدين فى حقوق الزوجية بين الزوجة المسلمة والزوجة الكتابية ، ولم تخرج الزوجة الكتابية، بإختلافها فى العقيدة مع زوجها، من حكم قوله تعالى : (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الروم:21 ، فلها حظها من المودة ونصيبها من الرحمة وهى كما هى.. وهو يسكن إليها كما تسكن إليه، وهو لباس لها كما أنها لباس له . أين أنت من صلة المصاهرة التى تحدث بين أقارب الزوج وأقارب الزوجة، وما يكون بين الفريقين من الموالاة والمناصرة، على ما عهد فى طبيعة البشر؟ وما أجلى ما يظهر من ذلك بين الأولاد وأخوالهم وذوى القربى لوالدتهم. أيغيب عنك ما يستحكم من روابط الألفة بين المسلم وغير المسلم بأمثال هذا التسامح الذى لم يُعهد عند من سبق ولا فيمن لحق من أهل الدينين السابقين عليه؟ ..)(4).
ولذلك وحتى يكون هذا الزواج سبيلاً لهذا التلاحم، حرص عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نصارى (نجران) على أن يتوافر لهذا الزواج عنصر الرضا والقبول.. فالمرأة لابد، فى زواجها، من (ولى) ، وأولياء الكتابية كتابيون، فلا بد أن يكون هذا الزواج عن محبة ورضا وقبول واختيار .. وعن هذا المبدأ الإسلامى جاء فى هذا الميثاق : (ولا يُحمِّلوا من النكاح - (الزواج) - شططا لايريدونه، ولا يُكره أهل البنت على تزويج المسلمين، ولا يُضاروا فى ذلك إن منعوا خاطبًا وأبوا تزويجًا، لأن ذلك لا يكون إلا بطيبة قلوبهم، ومسامحة أهوائهم، إن أحبوه ورضوا به ..) .
ولأن هذا التلاحم، بواسطة المصاهرة، لا يتحقق إلا فى ظل الاعتراف الإسلامى (بالآخر الدينى) ، وبحق هذا الآخر فى المغايرة الدينية - وهو ما تميز به الإسلام عن كل الآخرين، وبسببه جاز زواج المسلم من (الأخرى)، لأنه يعترف بدينها، ومُكلَّف باحترام عقيدتها وتدينها - على عكس موقف الآخرين من الإسلام، ومن عقيدة المسلمة - . لهذا التميز الإسلامى، كان زواج المسلم من الكتابية بابا للتلاحم، ولإدخال غير المسلمين فى دائرة (أولى الأرحام)، ولم يكن هذا الزواج سببًا من أسباب الشقاق الاجتماعى ، فنص العهد مع نصارى (نجران) على أنه (إذا صارت النصرانية عند المسلم - (زوجة) - فعليه أن يرضى بنصرانيتها . فمن خالف ذلك وأكرهها على شئ من أمر دينها فقد خالف عهد الله وعصى ميثاق رسول الله، وهو عند الله من الكاذبين..).(2/33)
وإذا كانت تطبيقات الدولة الإسلامية لهذه المبادئ الإسلامية، قد بلغت، وحققت - قبل أربعة عشر قرنًا - الحد الذى يدهش له الكثيرون فى عصرنا الحاضر .. من مثل تحرير جيش الفتح الإسلامى لمصر كنائس نصارى مصر من الاحتلال والاغتصاب الرومانى، لا ليحولها إلى مساجد للمسلمين، وإنما ليردها للنصارى اليعاقبة يتعبدون فيها .. فإن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نصارى (نجران) قد بلغ الذروة - فى تعامل الدولة الإسلامية مع دور العبادة هذه - إلى الحد الذى نص فيه على أن مساعدة الدولة الإسلامية لغير المسلمين فى ترميم دور عباداتهم هى جزء من واجبات هذه الدولة .. ولأن غير المسلمين هم جزء أصيل فى الأمة الواحدة، والرعية المتحدة لهذه الدولة، فجاء فى هذا الميثاق مع نصارى (نجران) : (.. ولهم إن احتاجوا فى مرمة بيعهم وصوامعهم أو شئ من مصالح أمور دينهم، إلى رفد - (مساعدة) - من المسلمين وتقوية لهم على مرمتها، أن يُرفدوا على ذلك ويُعاونوا، ولا يكون ذلك دَيْنًا عليهم بل تقوية لهم على مصلحة دينهم، ووفاء بعهد رسول الله، وموهبة لهم، ومنة لله ورسوله عليهم) .
ثم يتوج هذا الميثاق بنود هذه الحقوق بالنص على كامل المساواة بين المختلفين فى الدين والمتحدين فى الأمة الواحدة، والملتحمين فى الرعية المتحدة للدولة الإسلامية، بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (.. لأنى أعطيتهم عهد الله أن لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم.. حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم ..) .
ولأن وحدة الأمة لا تتحقق إلا بولاء كل أبنائها لها، وانتماء جميعهم لدولتها ولمقومات هويتها وأمنها الوطنى والقومى والحضارى، اشترط هذا العهد على نصارى (نجران) أن يكون الولاء خالصًا والانتماء كاملاً لهذه الأمة الواحدة ، ولهذه الدولة الإسلامية .. فالولاء - كل الولاء - لها وحدها، والبراء - كل البراء - من جميع أعدائها .. ولذلك، جاء فى هذا الميثاق : (.. واشترط عليه أمورًا يجب عليهم فى دينهم التمسك بها والوفاء بما عاهدهم عليه، منها: ألا يكون أحد منهم عينًا ولا رقيبًا لأحد من أهل الحرب على أحد من المسلمين فى سره وعلانيته ، ولا يأوى منازلهم عدو للمسلمين، يريدون به أخذ الفرصة وانتهاز الوثبة، ولا ينزلوا أوطانهم ولا ضياعهم ولا فى شئ من مساكن عباداتهم ولا غيرهم من أهل الملة، ولا يرفدوا - (يساعدوا) - أحدًا من أهل الحرب على المسلمين، بتقوية لهم بسلاح ولا خيل ولا رجال ولا غيرهم، ولا يصانعوهم.. وإن احتيج إلى إخفاء أحد من المسلمين عندهم، وعند منازلهم، ومواطن عباداتهم، أن يؤووهم ويرفدوهم ويواسوهم فيما يعيشون به ما كانوا مجتمعين، وأن يكتموا عليهم، ولا يظهروا العدو على عوراتهم، ولا يخلوا شيئًا من الواجب عليهم)(5).
ويزيد من سمو هذا الإنجاز الإسلامى، تعميم التطبيقات الإسلامية لهذا المنهاج وهذه المبادئ على الديانات الوضعية أيضًا .. فلم يقف المسلمون بهذه (الثورة الإصلاحية)، فى العلاقة بالآخر، عند اليهود - أهل التوراة - والنصارى - أهل الإنجيل - فقط، وإنما عمموها لتشمل (المجوس) و(الهندوس) و(البوذيين) .. وعندما فتح المسلمون فارس - وأهلها مجوس يعبدون النار، ويقولون بإلهين أحدهما للخير والنور وثانيهما للشر والظلمة - عرض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (40ق - 32هـ - 584 - 644م) رضى الله عنه، هذا الأمر و (الواقع المستجد) على مجلس الشورى - فى مسجد المدينة - وقال :
- (كيف أصنع بالمجوس؟
- فوثب عبد الرحمن بن عوف (44ق هـ - 32هـ - 580 - 652م) رضى الله عنه، فقال :
- أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (سُنوا فيهم سنة أهل الكتاب ..)(6)
فطبقت الخلافة الراشدة هذه السنة النبوية، وساد هذا التطبيق على امتداد تاريخ الإسلام فى بلاد الديانات الوضعية - من فارس إلى الهند إلى الصين - حتى لقد تمتع أهل هذه الديانات، لا بحرية الاعتقاد فقط وإنما - أيضًا - بحرية مناظرة علماء الإسلام، فى مجالس الخلفاء، إبان مجد وقوة وعظمة الخلافة الإسلامية .. ولقد أورد (السير توماس أرنولد) (1864 - 1930م) - بإعجاب - كيف أن زعيم المانوية(7) المجوس - فى فارس - (يزدانبخت) قد أتى بغداد، وناظر المتكلمين المسلمين، فى حضرة الخليفة (المأمون) (170-218هـ 786-833م)، فلما أفحمه علماء الإسلام، تاق (المأمون) إلى أن يسلم (يزدانبخت)، ففاتحه فى ذلك، لكنه رفض فى أدب، وقال للخليفة :
- نصيحتك، يا أمير المؤمنين، مسموعة، وقولك مقبول، ولكنك ممن لا يُجبر الناس على ترك مذهبهم .
فتركه المأمون وشأنه .. بل وطلب حمايته من العامة حتى يبلغ مأمنه بين أتباعه وأنصار مذهبه من المجوس (8) .
وهكذا بلغ الإسلام القمة، عندما لم يكتف بالوصايا والمنظومة الفكرية والفلسفية، التى تعترف بالآخر - الذى لا يعترف بالإسلام! - وإنما تجاوز (الفكر) إلى (الممارسة والتطبيق)، فى الدولة.. والأمة.. والاجتماع.. وعندما تجاوز (الاعتراف بالأخر) إلى حيث دمج هذا (الآخر) فى (الذات)، مع الحرص على التعددية الدينية، التى سلكها فى إطار (وحدة الدين) الإلهى الواحد.. لا باعتبارها مجرد حق من حقوق الضمير الإنسانى، وإنما باعتبارها سنة من سنن الله التى لا تبديل لها ولا تحويل.. فحقق الإسلام بهذا (الإصلاح الثورى) مستوى غير مسبوق فى التاريخ الإنسانى، سواء على المستوى الفكرى أو فى الممارسة والتطبيق(9) .(2/34)
أهل الذمة : الذمة فى اللغة تعنى العهد والأمان والضمان . وفى الشرع تعنى عقدًا مؤبدًا يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم وتمتعهم بأمان الجماعة الإسلامية وضمانها بشرط بذلهم الجزية وقبولهم أحكام دار الإسلام فى غير شؤونهم الدينية .وهذا العقد يعطى لكل طرف حقوقًا ويفرض عليه واجبات، وليست عبارة أهل الذمة عبارة تنقيص أو ذم ، بل هو شرف لهم أن يكونوا فى ذمة الله ورسوله ، وهى عبارة توحى بضرورة وأهمية حفظ العهد والوفاء تدينًا وامتثالاً للشرع، وإن كان بعضهم يتأذى منها فيمكن تغييرها لأن الله لم يتعبدنا بها . وقد غير سيدنا عمر بن الخطاب لفظ الجزية الذى ورد فى القرآن استجابة لعرب بنى تغلب من النصارى الذين أنفوا من الاسم وطلبوا أن يأخذ منهم ما يُؤخذ وإن كان مضاعفًا تحت مسمى آخر فوافقهم عمر وقال: (هؤلاء قوم حمقى رضوا المعنى وأبوا الاسم) .
ومما يلاحظ كما يقول الدكتور عصام أحمد البشير(10) أن فكرة عقد الذمة ليست فكرة إسلامية مبتدأة، وإنما هى مما وجده الإسلام بين الناس عند بعثة النبى صلى الله عليه وسلم فأكسبه مشروعية، وأضاف إليه تحصينًا جديدًا بأن حول الذمة من ذمة العاقد أو ذمة المجير إلى ذمة الله ورسوله أى ذمة الدولة الإسلامية نفسها. وبأن جعل العقد مؤبدًا لا يقبل الفسخ حماية للداخلين فيه من غير المسلمين . انتهى
عقد الأمان
أما الذين يأتون إلى ديار الإسلام لفترة مؤقتة - مثل السياح والدارسين والدبلوماسين الأجانب - فهؤلاء يشملهم عقد الأمان، وهو عقد يكفل حماية غير المسلم إذا قدم إلى بلادنا لأغراض سلمية - وليس للتخريب أو التجسس - فهذا يحرم الاعتداء على حياته أو ماله أو عرضه ، وعلى جميع المسلمين حمايته وتأمينه حتى يخرج من بلادنا سالمًا بعد إنتهاء الغرض الذى قدم لأجله .
وأساس عقد الأمان قوله تعالى : (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون) التوبة:6. كما أجار النبى صلى الله عليه وسلم من أجارت ابنته زينب وهو زوجها العاص بن الربيع وكان لم يزل مشركًا حينها ، وأجار النبى كذلك من أجارت أم هانىء ابنة عمه أبى طالب، وأكد عليه السلام أنه يجير على المسلمين أدناهم، ولو كان طفلاً أو امرأة أو عبدًا ، فيجب على جميع المسلمين احترام هذا الجوار وتأمين المشرك الذى يتمتع به حتى يبلغ مأمنه .
الجزية
وهى ضريبة سنوية على الرؤوس تتمثل فى مقدار زهيد من المال - دينار أو دينارين سنوياً - على الرجال البالغين القادرين ، حسب ثرواتهم ، والجزية ليست ملازمة لعقد الذمة فى كل حال كما يظن بعضهم، بل استفاضت أقوال الفقهاء فى تعيينها وقالوا : إنها بدل عن اشتراك الذمى فى الدفاع عن دار الإسلام ، لذلك أسقطها الصحابة والتابعون عمن قبل منهم الاشتراك فى الدفاع عنها ،فعل ذلك المسلمون مع أهل أرمينية سنة 522 ، وحبيب بن مسلمة الفهرى مع أهل إنطاكية ، وأبرمه مندوب أبى عبيدة بن الجراح وأقره عليه مَنْ معه من الصحابة ، وصالح المسلمون أهل النوبة على عهد الصحابى عبد الله بن أبى السرح على غير جزية بل هدايا فى كل عام، وصالحوا أهل قبرص فى زمن معاوية على خراج وحياد بين المسلمين والروم .
• غير المسلمين من المواطنين الذين يؤدون واجب الجندية ، ويسهمون فى حماية دار الإسلام لا تجب عليهم الجزية ، والنص الوارد فى آية التوبة يقصد به خضوعهم لحكم القانون وسلطان الدولة .وهناك من رد إلى النصارى، الجزية عند مظنة العجز عن حمايتهم، فعلها أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه عندما تجمع الروم لقتاله فخاف ألا يمكنه الدفاع عن مدن الشام وسكانها النصارى ، فكتب يرد إليهم أموالهم على أن يرجعوا إلى سابق العهد إذا انتصر المسلمون على الروم .
• أهل الكتاب ارتضوا أن يعيشوا تحت رعاية الدولة المسلمة فلهم بذلك من الحقوق مثل ما للمسلمين وعليهم من الواجبات ما على المسلمين إلا ما استثنى بنص، قال الإمام على كرم الله وجهه : (إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا ..) .
حقوق وواجبات أهل الكتاب
لأهل الكتاب جملة من الحقوق منها :
1- حق الحماية من الاعتداء الخارجى والحماية من الظلم الداخلى (من آذى ذميًا فقد أذانى ومن أذانى فقد أذى الله) فلا يلحقهم أذى فى أبدانهم ولا أموالهم ولا أعراضهم .
2- حق التأمين عند العجز والشيخوخة والفقر، قال سيدنا عمر بن الخطاب : (ما أنصفناه إذا أخذنا منه الجزية فى شبيبته ثم نتركه فى هرمه) وقد أمر رضى الله عنه - وكذلك الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز - بصرف معاشات من بيت مال المسلمين للعجزة والمسنين من أهل الكتاب .
3- حرية التدين (لاإكراه فى الدين) ومن ذلك ممارسة شعائرهم الدينية فى دور عبادتهم وعدم جواز منعهم من ذلك . أما واجبات غير المسلمين فهى:
• على غير المسلمين أن يراعوا مشاعر المسلمين وحرمة دينهم فلا يظهروا شعائرهم وصلبانهم فى الأمصار الإسلامية ولا يحدثوا كنيسة فى مدينة إسلامية لم تكن فيها كنيسة من قبل ذلك، لما فى الإظهار والإحداث من تحدى الشعور الإسلامى الذى يؤدى إلى فتنة واضطراب لكن يتعين حماية ماهو قائم منها بالفعل وعدم هدمه ، والدليل قوله سبحانه وتعالى :(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله) يدل على أن من أساليب الإذن بالقتال حماية حرية العبادة(2/35)
كما أن العهود التى أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع اليهود والنصارى تضمنت الحفاظ على دور عبادتهم، وكذلك عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل نجران أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وبيعهم. وأيضاً فإن عهد سيدنا عمر لأهل إيلياء فيه نص على كنائسهم، فلا تسكن ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من صليبها. وهناك أيضاً عهد سيدنا خالد بن الوليد لأهل عانات أن يضربوا نواقيسهم فى أى وقت شاؤوا من ليل أو نهار .
كما يقول الدكتور عصام البشير : أن واقع حال المسلمين يدل على جواز بقاء الكنائس فى ظل الدولة المسلمة. روى المقريزى أن جميع كنائس مصر محدثة فى الإسلام بلا خلاف ، ولهم حرية العمل والكسب وحرية تولى وظائف الدولة ونحو ذلك إلا ما اسثنى بنص لعدم جواز تولى الكتابيين للوظائف الدينية أو تغلب عليها الصيغة الدينية كالإمامة التى هى رئاسة الدين والدنيا وخلافة النبى صلى الله عليه وسلم ، ولا يعقل أن يقوم بإمامة المسلمين وقيادة الجيش وإمرة الجهاد الذى هو ذروة سنام الاسلام، والقضاء بين المسلمين الذى يقتضى العلم بشريعة الاسلام،إلا مسلم عالم بدينه وشريعته.
ضمانات الوفاء بحقوق أهل الكتاب
إن الضمانات لتنفيذ هذه الحقوق وكفالة تلك الحريات تتمثل فى:
ضمان العقيدة:فالمسلمون يحرصون على الالتزام بعقيدتهم وتطبيق أحكام دينهم، لا يمنعهم من ذلك عواطف القرابة ولا يصدهم عن ذلك مشاعر العداوة والشنآن .
ضمان المجتمع المسلم بدستوره وسلوكه
فالمجتمع الإسلامى مسؤول بالتضامن عن تنفيذ الشريعة وتطبيق أحكامها فى كل الأمور ، ومنها ما يتعلق بغير المسلمين ولو قصر بعض الناس أو انحرف أو جار وتعدى ، وجد فى المجتمع من يرده إلى الحق ،ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ويقف بجانب المظلوم المعتدى عليه ،ولو كان مخالفًا له فى الدين .
وهناك القضاء : فالذمى المظلوم له أن يشكو إلى الوالى أو الحاكم المحلى، فيجد عنده العدل والحماية ، فإن لم ينصفه فله أن يلجأ إلى القضاء فيجد عنده الإنصاف والأمان ، حتى لو كانت القضية بينه وبين الخليفة نفسه، ففى الاسلام يجد القضاء المستقل العادل والذى له حق محاكمة أى مدعى عليه مهما علا منصبه فى الدولة . مثال ذلك واقعة تخاصم الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه ويهودى إلى القاضى شُريح الذى حكم لصالح اليهودى على أمير المؤمنين لعدم وجود دليل يرجح دعواه ، وبسبب هذه العدالة أسلم اليهودى .
واجبات أهل الكتاب
واجبات أهل الكتاب تنحصر فى أمور معدودة هى :
• أداء التكاليف المالية : من جزية وخراج وضرائب وغيرها . (وقد سبق الحديث عن الجزية) . وأهل الكتاب فى التكاليف والرسوم والضرائب الأخرى سواء والمسلمون ، فليس فيها شىء يجب باختلاف الدين وإنما تجب على أنواع الأموال والأراضى المزروعة دون نظر إلى صاحب أى منها : أمسلم هو أم غير مسلم .
التزام أحكام القانون الإسلامى
• والواجب الثانى على أهل الكتاب أن يلتزموا أحكام الإسلام ، التى تطبق على المسلمين لأنهم بمقتضى العهد ينتمون إلى جنسية الدولة الإسلامية، فعليهم أن يتقيدوا بقوانينها التى لا تمس عقائدهم وحريتهم الدينية . ولكن مع مراعاة أنه ليس عليهم تكاليف من التكاليف التعبدية للمسلمين ، أو التى لها صبغة تعبدية أو دينية ، مثل الزكاة التى هى فريضة إسلامية ، ومثل الجهاد الذى هو خدمة عسكرية وفريضة إسلامية ، ومن أجل ذلك فرض الإسلام عليهم الجزية بدلاً عن الجهاد والزكاة .
• والواجب الثالث عليهم : أن يحترموا شعور المسلمين ، الذين يعيشون بين ظهرانيهم ، وأن يراعوا هيبة الإسلام والدولة التى يتمتعون بحمايتها ورعايتها .
فلا يجوز لهم أن يسبوا الإسلام أو رسوله أو كتابه جهرة ، ولا أن يروجوا من العقائد والأفكار ما ينافى عقيدة التوحيد ، ولا يعملوا على تنصير أبناء المسلمين أو محاولة فتنتهم عن دينهم .
ولا يجوز لهم أن يتظاهروا بشرب الخمر وأكل الخنزير ، ونحو ذلك مما يحرم فى دين الإسلام . كما لا يجوز لهم تحدى مشاعر المسلمين ، وعليهم ألا يظهروا الأكل والشرب فى نهار رمضان ، مراعاة لمشاعر المسلمين .
النموذج المصرى
إذا أخذنا الأقلية النصرانية فى مصر ، وهى أكبر أقلية غير مسلمة فى بلاد العالم العربى - كنموذج للتعايش السلمى لغير المسلمين فى بلد إسلامى -فإننا نلاحظ الآتى :
• يبلغ عدد النصارى فى مصر أقل من 6% (5.9%) حسب إحصاءات 1986م . ورغم ذلك فإنهم يمتلكون حوالى 40% من ثروة مصر .. ويعترف الأنبا موسى أسقف الشباب فى الكنيسة الأرثوذكسية المصرية بأن : (الأقباط نسبتهم فى رجال الأعمال مرتفعة أكثر من نسبتهم العددية فى مصر)(11) ، وكذلك المهن المرموقة مثل الطب والصيدلة والمحاماة والهندسة وغيرها .. ولذلك كان العلامة الشيخ محمد الغزالى - رحمه الله - يصف النصارى فى مصر بأنهم أسعد أقلية فى العالم .
• يمتلك نصارى مصر 22.5% من الشركات التى تأسست من عام 1974م - 1995م ، و 20% من شركات المقاولات فى مصر ، و 50% من المكاتب الاستشارية ، و 60% من الصيدليات ، و45% من العيادات الخاصة، و35% من عضوية الغرفة التجارية الأمريكية والألمانية ، و 60% من عضوية غرفة التجارة الفرنسية ، ويشكلون 20% من رجال أعمال مصر ، و 20% من المديرين بقطاعات النشاط الاقتصادى ، وحوالى 16% من وظائف وزارة المالية المصرية ، و25% من المهن الممتازة كالأطباء والمحامين والمهندسين ..
• يسيطر النصارى على أكثر من ثلثى تجارة الذهب والمعادن النفيسة الأخرى فى مصر ، كما يمتلكون من الأراضى والعقارات أضعاف نسبتهم العددية .(2/36)
• ونضيف أيضًا أن الحكومة المصرية لا تخلو دائمًا من وزيرين أو ثلاثة وزراء من الأقباط ، كما يوجد عدد منهم فى مجلسى الشعب والشورى بالانتخاب وبالتعيين أيضًا .. فى المقابل يُلاحظ أنه لا يوجد أى وزير مسلم فى أية دولة أوروبية أو أمريكية رغم تواجد عشرات الملايين من المسلمين هناك، وكذلك المجالس التشريعية الأوروبية والكونجرس الأمريكى لا يوجد بها أعضاء يمثلون الأقليات الإسلامية هناك (!!!) .
وبعد كل هذا يزعمون أنهم دعاة الحريات والديمقراطية والمشاركة السياسية ويتطاول علينا أذنابهم بادعاء اضطهاد الأقلية عندنا !!!
حقًا إذا لم تستح فاصنع ما شئت ، وازعم ما شئت أيضًا !!!
ونختتم بشهادة المفكر البريطانى الكبير سير توماس أرنولد الذى أكد فيها: (من الحق أن نقول أن غير المسلمين قد نعموا – بوجه الإجمال – فى ظل الحكم الإسلامى بدرجة من التسامح لا نجد لها معادلاً فى أوروبا) . ويضيف ان عشرات الملايين من نصارى الشرق الذين اعتنقوا الإسلام قد فعلوا ذلك طواعية وعن رغبة كاملة فى التحول إليه دون أية محاولة للإرغام أو الاضطهاد(12) .
كما أن تسامح المسلمين وتركهم للنصارى قابضين على الدواوين وإدارات الدولة الإسلامية جعل المستشرق الألمانى آدم متز يقول : (لقد كان النصارى هم الذين يحكمون الدولة الإسلامية)(13) ، فأى تسامح وتواد مع الآخر أكثر من ذلك ؟! كل هذا يدفعنا إلى أن نردد مع المفكر والعبقرى الألمانى يوهان جوته مقولته الشهيرة فى ديوانه (الشرق والغرب) : إذا كان الإسلام هو القنوت ، فعليه نحيا ونموت ..
المراجع
(6) تاريخ مصر - يوحنا النيقوسى ص 529 - 534 ترجمة وتعليق د . عمر صابر عبد الجليل القاهرة 2000م - تاريخ مصر فى العصر البيزنطى ص 40-49 ، وص 167-168 طبعة القاهرة 2000 .
(7) مجموع الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة ص 17 - 21 جمع وتحقيق الدكتور محمد حميد الله الحيد آبادى – طبعة القاهرة 1956م
(8) المصدر السابق ص 20 .
(9) الشيخ محمد عبده - الأعمال الكاملة جـ3 صـ312 دراسة وتحقيق د . محمد عمارة - طبعة القاهرة 1993م .
(10) مجموع الوثائق السياسية للعهد النبوى - مشار إليه من قبل - ص 112- 123 - 127
(11) البلاذرى – فتوح البلدان صـ327 - تحقيق د . صلاح الدين المنجد – طبعة القاهرة 1956م .
(12) هم أتباع (مانى) ويسمون (المانوية) وهو مذهب مجوسى .
(13) سير توماس أرنولد - الدعوة إلى الإسلام - ترجمة د . حسن إبراهيم حسن ود. عبد المجيد عابدين وإسماعيل النحراوى - طبعةالقاهرة 1970م .
(14) الدكتور محمد عمارة - الإسلام والأقليات - الماضى والحاضر والمستقبل - طبعة مكتبة الشروق الدولية سنة 2003م .
(15) الدكتور عصام أحمد البشير - معالم حول أوضاع غير المسلمين فى الدولة الإسلامية - بحث مقدم لمؤتمر الإسلام والغرب فى عالم متغير - الخرطوم - 2003م .
(16) الملل والنحل والأعراق ص 529 .
(17) سير توماس أرنولد - الدعوة إلى الإسلام - سبقت الإشارة إليه .
(18) آدم متز - الحضارة الإسلامية فى القرن الرابع الهجرى - ترجمة د . محمد عبد الهادى أبو ريدة - طبعة بيروت سنة 1967م .
الفصل السادس
المسلمون فى دار العهد
يبلغ عدد المسلمين فى أوروبا أكثر من خمسين مليونًا(1) من بينهم أعداد كبيرة من العرب والمسلمين المهاجرين من بلدان لأسباب اقتصادية غالبًا - بحثًا عن فرص عمل - ولأسباب سياسية أحيانًا، فضلاً عن ملايين من الأوروبين الذين اعتنقوا الإسلام عن اقتناع وفهم بعد دراسة عميقة .. وهناك توقعات بأن ترتفع أعداد المسلمين فى أوروبا، وتتناقص أعداد غير المسلمين - بسبب قلة عدد المواليد هناك عن عدد المتوفين سنويًا - إلى أن يصبح المسلمون هم أغلب سكان أوروبا خلال أقل من عشرين عامًا (ولهذا يمكن فهم أحد أهم أسباب الحملة المسعورة الآن على الإسلام والمسلمين فى وسائل الإعلام الغربى) بل إن صمويل هنتنجتون نفسه يتوقع - كما سبق - أن يبلغ المسلمون أكثر من 30% من سكان العالم قبل حلول عام 2025م .. ويبلغ عدد مسلمى أمريكا الشمالية أكثر من عشرة ملايين نسمة طبقًا للتقديرات شبه الرسمية، لكن العدد الحقيقى أكبر من ذلك، لأنه لاتوجد جهة رسمية تسجل أعداد من يعتنقون الإسلام وهم بالآلاف يوميًا، كما أنه لا تسجل الديانة فى وثائق تحديد الهوية، وبالتالى لا يمكن تحديد أعداد أتباع كل ديانة بدقة ..
أما الأقلية الإسلامية فى الهند فهى أكبر عددًا من معظم الدول الإسلامية - كل على حدة - إذ يبلغ تعداد مسلمى الهند أكثر من مائتى مليون نسمة .. ويؤكد كثير من المسلمين الهنود أن عددهم الحقيقى أكبر من ذلك ، وأن السلطات الهندوسية هى التى تتعمد تقليل العدد المعلن لأسباب سياسية (بسبب النزاع الطائفى بين الهندوس والمسلمين من جهة ،والنزاع بين الهند وباكستان من جهة أخرى) .
ويبلغ عدد مسلمى الصين أكثر من 25 مليون شخص ، ويقترب عدد المسلمين الروس من هذا الرقم(2) . وهكذا نرى بوضوح أن كل دول العالم غير الإسلامى يحتضن جاليات إسلامية كبيرة وذات حضور واضح هناك لا يمكن تجاهله أو تهميشه مهما اشتدت محاولات الاحتواء أو الإضعاف أو القمع أحيانًا .. وهنا يثور التساؤل : هل يعتبر المسلمون هناك فى دار حرب كما يقول الفقهاء القدامى طبقًا للتقسيم الشهير للعالم إلى دار إسلام ودار حرب ؟
أما دار الإسلام فهى البلاد التى تسودها أحكام الإسلام وشعائره ويأمن فيها المسلمون والذميون أيضًا .(2/37)
وأما دار الحرب فهى البلاد التى لا تطبق فيها أحكام الإسلام وشرائعه لأن السيادة فيها للكفار وليست للمسلمين .. وهذا التقسيم الثنائى للعالم لم يرد فى القرآن الكريم ولا فى السُنَّة النبوية المطهرة ، ولذلك عارضه فريق من العلماء على رأسهم الإمام الشافعى رضى الله عنه فى كتابه (الأم) - يرى أن الأصل هو أن العالم دار واحدة - والإمام محمد بن الحسن الشيبانى فى كتابه (السير الكبير) والشيخ محمد أبو زهرة(3) .
يقول العلامة الشيخ أبو زهرة : إن دار العهد حقيقة اقتضاها الفرض العلمى وحققها الواقع ، فقد كانت هناك قبائل ودول لا تخضع خضوعًا تامًا للمسلمين وليس للمسلمين فيها حكم ، ولكن لها عهد محترم وسيادة فى أرضها ولو لم تكن كاملة فى بعض الأحوال .. ودار العهد : هى البلاد التى كان بينها وبين المسلمين عهد عقد ابتداء ، أو عقد عند ابتداء القتال معها عندما يخيرهم المسلمون بين العهد أو الإسلام أو القتال ، فأهلها يعقدون صلحًا مع الحاكم الإسلامى على شروط تشترط من الفريقين، وهذه الشروط تختلف قوة وضعفًا على حسب ما يتراضى عليه الطرفان ، وعلى حسب هذه القبائل وتلك الدولة قوة وضعفًا ، وعلى مقدار حاجتها إلى مناصرة الدولة الإسلامية .
ومن هذه القبائل ما كان الصلح معها على أساس جُعل من المال يدفعه أهلها فى نظير حماية المسلمين لهم ، والذود عنهم ، كما حصل فى صلح النبى صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران ، فقد أمّنهم النبى صلى الله عليه وسلم على أنفسهم وأموالهم من أى اعتداء يكون عليهم ، سواء أكان من المسلمين أم من غيرهم .
وكذلك فعل القائد الصحابى أبو عبيدة عامر بن الجراح مع أهالى حمص فقد أمَّنَهم ، وتعهد لهم بأن يدفع الرومان عنهم فى نظير مال دفعوه إليه، ولكن حدث أن أصاب الجيش الإسلامى ضعف بسبب طاعون سرى فيه، فأعاد القائد الوفى - الذى سماه محمد صلى الله عليه وسلم - أمين هذه الأمة - إليهم أموالهم ، وبين عجزه عن مدافعة الرومان عنهم ، فنشطوا هم لمعاونة القائد العادل الأمين .
وفى عهد عثمان رضى الله عنه عقد عبد الله بن أبى السرح صلحًا مع أهل النوبة كانت أساسه تأمينهم على أنفسهم ، ورعاية استقلالهم، ومبادلة التجارة معهم، ولم يأخذ منهم فريضة مالية يؤدونها .
وكذلك فعل معاوية مع أهل أرمينية، فقد عقد صلحًا يقرر سيادتهم الداخلية المطلقة .
ونرى من هذا أن هذا النوع من القبائل أو الدول لا يمكن أن يعد دار حرب ولا دار إسلام، ولكن يعد دار موادعة أو دار عهد، وقد قال بعض الفقهاء :إن هذه الديار تدخل فى عموم دار الإسلام، لأن المسلمين لم يعقدوا هذه العهود، إلا وهم أهل المنعة والقوة .
ولكن الفقهاء الذين حرروا القول فى القانون الدولى الإسلامى كالشافعى فى (الأم)، ومحمد بن الحسن الشيبانى قرروا أن دار العهد نوع آخر، فقد جاء فى كتاب (السير الكبير) لمحمد ما نصه :
(المعتبر فى حكم الدار هو السلطان والمنعة فى ظهور الحكم، فإن كان الحكم حكم الموادعين فبظهورهم على الأخرى كانت الدار موادعة، وإن كان الحكم حكم سلطان آخر فى الدار الأخرى فليس لواحد من أهل الدار حكم الموادعة) .
ونرى محمد بن الحسن الشيبانى يؤكد فرض دار أخرى هى الموادعة أو العهد ، ولكنه يأتى بأمر جديد لم نذكره من قبل، وهو أنه يفرض أن أهل العهد قد يكونون خاضعين فى نظامهم لدولة أخرى لاتدخل فى حكم العهد، فيقرر أنه إن كان السلطان والمنعة لأهل الجماعة التى عقد معها عقد الموادعة فإنها دار عهد، وإن كان السلطان والمنعة لدولة أخرى فإنه لا يقرر العهد لإحداهما إلا أن تكون لها ومن معها معاهدة .
• يجب أن يلاحظ أن العالم الآن تجمعه منظمة واحدة - الأمم المتحدة - قد التزم كل أعضائها بقانونها ونظمها، وحكم الإسلام فى هذه أنه يجب الوفاء بكل العهود والالتزامات التى تلتزمها الدول الإسلامية عملاً بقانون الوفاء بالعهد الذى قرره القرآن الكريم، وعلى ذلك لا تعد ديار المخالفين الى تنتمى لهذه المؤسسة العالمية دار حرب ابتداء بل تعتبر دار عهد .. انتهى كلام الشيخ أبو زهرة .
رأى المؤلف
ويرى كاتب هذه السطور أن معظم دول العالم غير الإسلامى ينطبق عليها حاليًا وصف : (دار العهد) ،وعلى ذلك يأمن فيها المسلمون على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ،وعليهم أيضًا أن يطبقوا منهج التعايش السلمى مع رعايا هذه الدول باعتبارهم (معاهدين) أمرنا الإسلام باحترام العهود المبرمة معهم والوفاء لهم بما اتفقنا عليه .. فلا يجوز لنا قتل أحد منهم - إلا فى حالة الاضطرار إلى الدفاع عن النفس أو المال أو العرض أو الدين شأنه فى ذلك شأن المعتدى المسلم - كما يحرم علينا سلب أموالهم أو الاعتداء على أعراضهم أو المساس بدور عبادتهم .
• وتوجد علاقات دبلوماسية واقتصادية بين معظم بلاد العالم الإسلامى وباقى الدول ، فهناك إذن معاهدات معهم علينا أن نفى بها .
• كذلك فمن أقوى الأدلة عندنا على اعتبار معظم الدول اليوم - خارج العالم الإسلامى - دار عهد أن آلاف المآذن ترتفع الآن فى سماء أوروبا وأمريكا وآسيا واستراليا وأفريقيا ، ولم يكن الحال كذلك فى زمن الفقهاء القدامى الذين قسموا العالم إلى دار إسلام ودار حرب فقط .. وتوجد الآن بكل القارات مراكز إسلامية ومدارس لتحفيظ القرآن الكريم , ويتمتع المسلمون بحرية العبادة بصفة عامة - باستثناء حالات قليلة والاستثناء لا يُقاس عليه - فكيف نعتبر كل هذه الدول (دار حرب) وفيها عشرات الملايين من المسلمين، وفيها أيضًا مئات الملايين ممن يحبون الإسلام والمسلمين وينصفون الإسلام وأهله ولو لم يدخلوا فيه ؟!!(2/38)
وكيف نعتبر الأصدقاء المنصفين من أمثال (جوته) و (جوستاف لوبون) و (الأمير تشارلز) و ( زنجريد هونكه) وغيرهم من أهل دار الحرب ؟! هؤلاء الذين يدافعون عن الإسلام ضد الآخرين المتعصبين الحاقدين ، كيف بالله نضعهم فى خندق واحد مع من يناصبوننا العداء كالصهاينة والمتعصبين الصليبيين أمثال هنتنجتون ؟! لقد علمنا الإسلام أن، المهادن لنا أو المحب من المشركين ليس كالمحارب ، قال تعالى : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) الممتحنة:8،9 .
فقه الأقليات المسلمة
• وتبدو الحاجة ماسة إلى تأصيل قواعد فقهية خاصة بما يصادف المسلم خارج دار الإسلام . ويضع الدكتور يوسف القرضاوى عدة ضوابط هامة بهذا الصدد منها :
• إن الأقليات المسلمة هم جزء من الأمة الإسلامية من ناحية، التى تشمل كل مسلم فى أنحاء العالم، أيّاً كان جنسه أو لونه أو لسانه، أو وطنه ، أو وظيفته، وهم - من ناحية أخرى - جزء من مجتمعهم الذى يعيشون فيه، وينتمون إليه . فلابد من مراعاة هذين الجانبين، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، ولا يتضخم أحدهما على حساب الآخر .
• إن (فقه الأقليات) المنشود، لا يخرج عن كونه جزءًا من (الفقه العام) ولكنه فقه له خصوصيته وموضوعه ، ومشكلاته المتميزة، وإن لم يعرفه فقهاؤنا السابقون بعنوان يميزه ، لأن العالم القديم لم يعرف اختلاط الأمم بعضها ببعض، وهجرة بعضها إلى بعض، وتقارب الأقطار فيما بينها، حتى أصبحت كأنها بلد واحد، كما هو واقع اليوم .
وإذا كان عندنا الآن ما يمكن أن نسميه (الفقه الطبى)، وعندنا ما يسمى (الفقه الاقتصادى) ، وكذلك عندنا ما يمكن أن نسميه (الفقه السياسى) . إذا كان عندنا هذه الأنواع من الفقه، فلماذا لا يكون عندنا (فقه الأقليات) كى يهتم بعلاج مشكلاتهم، والإجابة عن تساؤلاتهم . وإن كانت كل هذه الأنواع من الفقه لها جذور فى فقهنا الإسلامى، ولكنها غير منظمة، وهى مجملة غير مفصلة، ناقصة غير مكتملة، مناسبة لعصرها وبيئتها، لأن هذه طبيعة الفقه، ولا يتصور من فقه عصر مضى أن يعالج قضايا عصر لم تنشأ عنده، ولم يخطر ببال أهله حدوثها.
• يجب أن يكون للمسلمين - بوصفهم أمة ذات رسالة عالمية - (وجود إسلامى) ذو أثر، فى بلاد الغرب، باعتبار أن الغرب هو الذى أصبح يقود العالم، ويوجه سياسته واقتصاده وثقافته . وهذه حقيقة لا نملك أن ننكرها .
فلو لم يكن للإسلام وجود هناك، لوجب على المسلمين أن يعملوا متضامنين على إنشاء هذا الوجود، ليقوم بالمحافظة على المسلمين الأصليين فى ديارهم، ودعم كيانهم المعنوى والروحى، ورعاية من يدخل فى الإسلام منهم، وتلقّى الوافدين من المسلمين، وإمدادهم بما يلزمهم من حسن التوجيه والتفقيه والتثقيف. بالإضافة إلى نشر الدعوة الإسلامية بين غير المسلمين .
ولا يجوز أن يترك هذا الغرب القوى المؤثر للنفوذ اليهودى وحده، يستغله لحساب أهدافه وأطماعه، ويؤثر فى سياسته وثقافته وفلسفاته، ويترك بصماته عليها. ونحن المسلمين بمعزل عن هذا كله ، قابعون فى أوطاننا، تاركين الساحة لغيرنا، فى حين نؤمن نظريًا بأن رسالتنا للناس جميعًا وللعالمين قاطبة . ونقرأ فى كتاب ربنا (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء:107 ، (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا) الفرقان:1 .
ونقرأ فى حديث نبينا صلى الله عليه وسلم : (كان النبى يُبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة) متفق عليه عن جابر .
ومن هنا لا مجال للسؤال عن جواز إقامة المسلم فى بلد غير مسلم، أو فى (دار الكفر) كما يسميها الفقهاء، ولو منعنا هذا - كما يتصور بعض العلماء لأغلقنا باب الدعوة إلى الإسلام وانتشاره فى العالم، ولانحصر الإسلام من قديم فى جزيرة العرب ولم يخرج منها .
ولو قرأنا التاريخ وتأملناه جيدًا ، لوجدنا أن انتشار الإسلام فى البلاد التى تسمى الآن :العالم العربى ، والعالم الإسلامى ، إنما كان بتأثير أفراد من المسلمين، تجار أو شيوخ طرق، ونحوهم، ممن هاجروا من بلادهم إلى تلك البلاد فى آسيا وإفريقيا، واختلطوا بالناس فى بلاد الهجرة، وتعاملوا معهم، فأحبوهم لحسن أخلاقهم وإخلاصهم، وأحبوا دينهم الذى غرس فيهم هذه الفضائل ، فدخلوا فى هذا الدين أفواجًا وفرادى .
حتى البلاد التى دخلتها الجيوش الإسلامية فاتحة، إنما كان قصدها بالفتح إزاحة العوائق المادية من طريق الإسلام، حتى تبلغ دعوته للشعوب، ليمكنهم أن يختاروا لأنفسهم، وقد اختارت الشعوب هذا الدين راضية مختارة، حتى كان ولاة بنى أمية فى مصر يفرضون الجزية على من أسلم من المصريين لكثرة الداخلين فى الإسلام ، حتى أبطل ذلك عمر بن عبد العزيز ، وقال قولته المشهورة لواليه : (إن الله بعث محمدًا هاديًا ، ولم يبعثه جابيًا) .
أهداف الفقه المنشود للأقليات
ويحدد الدكتور يوسف القرضاوى أهداف فقه الأقليات فيما يلى :
أولاً : أن يعين هذه الأقليات المسلمة- أفرادًا وأسرًا وجماعات - على أن تحيا بإسلامها، حياة ميسرة، بلا حرج فى الدين، ولا إرهاق فى الدنيا.
ثانيًا : أن يساعدهم على المحافظة على (جوهر الشخصية الإسلامية) المتميزة بعقائدها وشعائرها وقيمها وأخلاقها وآدابها ومفاهيمها المشتركة، بحيث تكون صلاتها ونسكها ومحياها ومماتها لله رب العالمين، وبحيث تستطيع أن تنشىء ذراريها على ذلك .(2/39)
ثالثاً : أن يمكَّن المجموعة المسلمة من القدرة على أداء واجب تبليغ رسالة الإسلام العالمية لمن يعيشون بين ظهرانيهم، بلسانهم الذى يفهمونه، ليبينوا لهم، ويدعوهم على بصيرة، ويحاوروهم بالتى هى أحسن، كما قال الله تعالى : (قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى) يوسف:108 ، فكل من اتبع محمدًا صلى الله عليه وسلم فهو داع إلى الله، وداع على بصيرة ، وخصوصًا من كان يعيش بين غير المسلمين .
رابعًا : أن يعاونها على المرونة والانفتاح المنضبط، حتى لا تنكمش وتتقوقع على ذاتها، وتنعزل عن مجتمعها، بل تتفاعل معه تفاعلاً إيجابيًا، تعطيه أفضل ما عندها، وتأخذ منه أفضل ما عنده، على بينة وبصيرة، وبذلك تحقق المجموعة الإسلامية هذه المعادلة الصعبة:محافظة بلا انغلاق ، واندماج بلا ذوبان .
خامسًا : أن يسهم فى تثقيف هذه الأقليات وتوعيتها، بحيث تحافظ على حقوقها وحرياتها الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى كفلها لها الدستور، حتى تمارس هذه الحقوق المشروعة دون ضغط ولا تنازلات .
سادساً : أن يعين هذا الفقه المجموعات الإسلامية على أداء واجباتهم المختلفة : الدينية والثقافية والاجتماعية وغيرها، دون أن يعوقهم عائق، من تنطع فى الدين، أو تكالب على الدنيا، ودون أن يفرطوا فيما أوجب الله عليهم، أو يتناولوا ما حرم الله عليهم، وبهذا يكون الدين حافزًا محركًا لهم، ودليلاً يأخذ بأيديهم، وليس غلاً فى أعناقهم، ولا قيدًا بأرجلهم .
سابعًا : أن يجيب هذا الفقه المنشود عن أسئلتهم المطروحة ، ويعالج مشكلاتهم المتجددة ، فى مجتمع غير مسلم، وفى بيئة لها عقائدها وقيمها ومفاهيمها وتقاليدها الخاصة، فى ضوء اجتهاد شرعى جديد، صادر من أهله فى محله .
خصائص هذا الفقه المنشود
ولهذا الفقه المنشود خصائص لابد أن يراعيها، حتى يؤتى أكله، ويحقق أهدافه، تتمثل فيما يلى :
1- فهو فقه ينظر إلى التراث الإسلامى الفقهى بعين، وينظر بالأخرى إلى ظروف العصر وتياراته ومشكلاته. فلا يهيل التراب على تركة هائلة أنتجتها عقول عبقرية خلال أربعة عشر قرناً، ولا يستغرق فى التراث بحيث ينسى عصره وتياراته ومعضلاته النظرية والعملية، وما يفرضه من دراسة وإلمام عام بثقافته واتجاهاته الكبرى على الاقل. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
2- يربط بين عالمية الإسلام وبين واقع المجتمعات التى يطب لها ويشخص أمراضها، ويصف لها الدواء من صيدلية الشريعة السمحة، فقد رأينا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يراعى طبائع الأقوام وعاداتهم، كما قال : (إن الأنصار يعجبهم اللهو) وكما أذن للحبشة أن يرقصوا بحرابهم فى مسجده.
3- يوازن بين النظر إلى نصوص الشرع الجزئية، ومقاصده الكلية، فلا يغفل ناحية لحساب أخرى، ولا يعطل النصوص الجزئية من الكتاب والسنة، بدعوى المحافظة على روح الإسلام، وأهداف الشريعة، ولا يهمل النظر إلى المقاصد الكلية والأهداف العامة, استمساكًا بالظواهر وعملاً بحرفية النصوص .
4- يرد الفروع إلى أصولها، ويعالج الجزئيات فى ضوء الكليات، موازناً بين المصالح بعضها وبعض، وبين المفاسد بعضها وبعض، وبين المصالح والمقاصد عند التعارض فى ضوء فقه الموازنات ، وفقه الأولويات .
5- يلاحظ ما قرره المحققون من علماء الأمة من أن الفتوى تختلف باختلاف المكان والزمان والحال والعرف وغيرها. ولا يوجد اختلاف بين زمان وزمان مثل اختلاف زماننا عن الأزمنة السابقة، كما لا يوجد اختلاف مكان عن مكان، كالاختلاف بين دار استقر فيها الإسلام وتوطدت أركانه وقامت شعائره، وتأسست مجتمعاته ،ودار يعيش فيها الإسلام غريبًا بعقائده ومفاهيمه وقيمه وشعائره وتقاليده .
6- يراعى هذه المعادلة الصعبة : الحفاظ على تميز الشخصية المسلمة للفرد المسلم وللجماعة المسلمة مع الحرص على التواصل مع المجتمع من حولهم، والاندماج به والتأثير فيه بالسلوك والعطاء(4) .
المراجع
(19) أحمد الراوى - اتحاد المنظمات الإسلامية فى أوروبا - الإسلام والمسلمون والعمل الإسلامى فى أوروبا .
(20) تتعمد الصين وروسيا أيضًا التقليل من الأعداد المعلنة للمسلمين فى كلا البلدين لأسباب استراتيجية، بسبب محاولات الأقلية المسلمة فى الصين الاستقلال عن الدولة الشيوعية ، والحرب التى تشنها روسيا على المسلمين الشيشان .
(21) الإمام محمد أبو زهرة - العلاقات الدولية فى الإسلام - دار الفكر العربى - القاهرة 1994م .
(22) د. يوسف عبد الله القرضاوى - فى فقه الأقليات المسلمة - دار الشروق - مصر .
الفصل السابع
ماذا قدمنا للآخرين ؟
لعل أقوى رد على منكرى التواصل والتعارف بين المسلمين والآخر ، هو تلك المآثر العظيمة التى سجلتها أقلام غربية منصفة أبت إلا تذكير العالم بما قدمه المسلمون والعرب للحضارة الإنسانية .. فقد كنا دومًا رسل هداية ورحمة وعطاء كما أمرنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. وفيما يلى نسوق أمثلة فحسب ، لأننا لو أردنا الإطالة لاحتجنا إلى مجلدات لحصر كل ما قدمناه للإنسانية ..
ذكرت مجلة "اليونسكو" (عدد تشرين الأول 1980م فى الصفحة 38) : أن كتاب القانون - لابن سينا - بقى يُدرَّس فى جامعة بروكسل حتى سنة 1909م ، وقال د. أوسلر :لقد عاش كتاب القانون مدة أطول من أى كتاب آخر كمرجع أوحد فى الطب، وقد وصل عدد طبعاته إلى خمس عشرة طبعة فى الثلاثين سنة الأخيرة من القرن السادس عشر، وقد زاد عدد الطبعات أكثر فى القرن السابع عشر، فابن سينا مكن علماء الغرب من الشروع فى الثورة العلمية، التى بدأت فعلاً فى القرن الثالث عشر وبلغت مرحلتها الأساسية فى القرن السابع عشر .(2/40)
وحول أثر الحضارة العربية الإسلامية فى النهضة الأوربية، يقول الباحث الدكتور شوقى أبو خليل فى كتابه الحضارة العربية الإسلامية وموجز الحضارات السابقة(1) :
(لقد كانت العصور الوسطى الأوربية مظلمة، إلا البقاع التى وصلها الفتح العربى : الأندلس، صقلية، وجنوبى إيطاليا؛ فقد أنارت الحضارة العربية الإسلامية أرجاءها، وحركت عقول أبنائها، فليس من المصادفة أبداً أن تبدأ أوروبا نهضتها ويقظتها الفكرية من المناطق التى وصل إليها العرب ، ذلك لأنهم أصحاب تراث حضارى عظيم) .
ويضيف الباحث د. شوقى : (ولكن اقتباس هذه الحضارة الرائعة من قبل الأوروبيين كان أبتر ، وهذا الأخذ كان ناقصًا ، لأنهم أخذوا الجانب العلمى المادى ، وتركوا الجانب الروحى الإنسانى والتسامح الذى عاشته حضارتنا أينما حلت .. أجل إنها المعجزة العربية) .
وبكلمة مختصرة شهد القرن الحادى عشر ، انتقال بعض مظاهر أسس الحركة العلمية العربية إلى أوروبا من خلال الأندلس (مدرسة طليطلة) ، وجنوبى إيطاليا (مدرسة ساليرنو) ، بينما شهد عملية انتقال مشابهة عن طريق ثغور بلاد الشام المحتلة من قبل الصليبية (1907م - 1290م) .
وفى هذا الصدد قال المؤرخ الدكتور (لوسيان لوكليرك)(2) : (هناك تفكيران عصفا بأوروبا فى القرن الثانى عشر ؛ الأول : دينى متعصب ، دفع الأوروبيين للقيام بالحروب الصليبية ، والثانى : متعطش للعلم ، دفعهم للتفتيش عن منابعه لدى العرب المسلمين) .
مدرسة طليطلة
لقد مرت مدرسة طليطلة بعدة مراحل ، وفى كل مرحلة كانت تترجم المئات من الكتب والمخطوطات العربية إلى اللاتينية ، فمنذ استيلاء (الفونسو الثالث - ملك قشتالة) على مدينة طليطلة من أيدى العرب المسلمين عام 1085م، أمر بترجمة المخطوطات فى الخزائن التى كانت تحتوى على ملايين من المخطوطات والكتب الأدبية والعلمية والطبية - فالمكتبة العامة لمدينة قرطبة - وحدها - كانت تحتوى على أكثر من نصف مليون مخطوط عربى ، وإن فهارس هذه المكتبة ملأت مجلدين يحويان أكثر من ألفى صفحة - لاسيما أن الملك كان يحب الثقافة ، مما شجع حركة الترجمة ، لدرجة أن أقيمت ، ولأول مرة ، ورشات الترجمة ، وظهرت مفارز للترجمة ، يتعلم أفرادها اللغة العربية أولاً ، ثم يبدءون بترجمة عدد من المخطوطات القيمة الشهيرة من العربية إلى اللغة العامية القشتالية كلغة وسيط ، وبعدها تجرى صياغة هذه الترجمة باللغة اللاتينية الفصحى ، لأنها كانت اللغة الرسمية للعلم والكنيسة فى أوروبا .
وفى الفترة 1125م - 1151م حكم (ريمون) الذى تميز بشغفه للعلم ، مما شجع على ترجمة المزيد من الكتب العربية إلى اللاتينية ، لاسيما أن ثمة مترجمين مشهورين ، تولوا هذه المهمة ، منهم :
(يوحنا الإشبيلى) : تولى نقل الكتاب من اللغة العربية إلى اللغة القشتالية العامية (الكاستيجا) .
(دومينيكو جونديسالفى) : تولى الترجمة من القشتالية العامية إلى اللغة اللاتينية الفصحى ، ومن بعض الكتب التى ترجمت : كتب ابن سينا الطبية والعلمية الأخرى والفلسفية ..
(مرقص الطليطلى) : تولى ترجمة كتاب (جس النبض) لجالينوس ، ولكن ليس عن لغة الكتاب الأساسية ، التى هي اليونانية ، وإنما نقلاً عن ترجمة عربية سابقة لهذا الكتاب ، قام بها حنين بن إسحاق ، وبهذا يكون فضل العرب مضاعفًا بهذه الحالة .
(جيرار الكرمونى) (1187م) : هذا المترجم بالذات كان نشيطًا لدرجة أنه قام بالترجمة من اليونانية والعربية إلى اللغة اللاتينية لنيفٍ وسبعين كتابًا فى الصيدلة والطب والفلسفة وغيرها من العلوم ، وعلى سبيل المثال نورد بعضها :
- فى علم الصيدلة : ترجم كتاب (الأدوية المركبة) للكندى .
- فى علم الطب : ترجم كتاب (القانون) لابن سينا .
إضافة إلى كتاب : (التصريف لمن عجز عن التأليف) للزهراوى ، وكتاب (المنصورى) لأبى بكر الرازى .
ومن المفيد ذكره فى هذا الصدد ، أن كتاب (القانون) ظل يُدرس فى الجامعات الأوروبية حتى بداية القرن السادس عشر ، وكتاب (التصريف...) كان المرجع الأول لعلم الجراحة فى أوروبا ، وكذلك كتاب (الجراحة الكبرى) للزهراوى ، كان المعتمد الأساسى فى علم الجراحة فى أوروبا حتى ظهور الجراح الفرنسى (آمبروا زباريه) فى القرن السادس عشر . أما كتاب الرازى (المنصورى) فقد كان المجلد التاسع منه ذا تأثير كبير فى تطور علم الطب فى القرون الوسطى وكانوا يسمونه (Nonusal-Mansori) أى المنصورى التاسع(3).
مدرسة ساليرنو
تأتى أهمية مدرسة ساليرنو من حيث كونها أول جامعة أقيمت فى أوروبا ، والتى خرجت جيلاً من الرواد أنشأ الجامعات الأوروبية الأولى فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر وما بعدهما ، ومن أمثال تلك الجامعات : (ديادوفا وبولونيا فى إيطاليا ، ومنبيليه وباريس فى فرنسا) . إضافة إلى جامعة أكسفورد ولايدن ولوفان ولايبزغ وتوبنجن وهايدلبرغ وبال ... إلخ .
ولقد لعب بعض الأطباء المهاجرين العرب دورًا كبيرًا فى تطور مدرسة ساليرنو للطب ، مثل : قسطنطين الأفريقى - التونسى الأصل – الذى ترجم العديد من الكتب العربية العلمية إلى اللغة اللاتينية ، مثل كتاب (الكامل فى الصناعة) وكتاب (الملكى) لعلى بن العباس ؛ وكتاب (فىأمراض العيون) لحنين بن إسحاق ، وكتاب (زاد المسافر) لابن الجزار ، وحوالى عشرين كتابًا أخرى أصبحت المراجع العلمية لها .
ناهيك عن أن (بارتولومو) ، وهو من تلامذة قسطنطين الأفريقى فى مدرسة ساليرنو ، قام بترجمة كتاب (الملكى) لعلى بن العباس من اللاتينية إلى الألمانية ، فكان أول كتاب طبى يدرس باللغة الألمانية الجديدة . ثم تلاه العديد من الكتب .
الثغور الشامية فى مرحلة الحروب الصليبية(2/41)
شهد القرنان الثاني عشر والثالث عشر مرحلة الحروب الصليبية ، التي تمت فيها عملية تماس إجبارى على مستوى واسع ، بين المجتمع العربى الإسلامى من جهة ، وحشود من الأوروبيين الغزاة من جهة ثانية ، وقد حصل هذا التماس فى بلاد الشام بالذات حيث أنشأ الصليبيون إمارات أوروبية مستقلة فى كل من الرها (إيديسا) ، وأنطاكية ، وطرابلس الشام ، ومملكة مسيحية فى القدس ، لدرجة أن وصفت هذه المرحلة بأنها الأهم فى نقل مظاهر وأسس الحركة العلمية من (دار الإسلام) فى المشرق إلى البلدان الغربية فى أوروبا .
وثمة علاقات تمت على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية ، لاسيما فى أوقات المهادنة . ومن جملة ما أخذوه نظامنا العلمى التعليمى ، وكيفية تدريس العلوم ، وإجازة الأطباء ، وطرق العلاج ، والمؤسسات العلاجية ، وخاصة نظام المستشفيات (البيمارستانات) ، ناهيك إلى انتقال العديد من الصناعات إلى أوروبا ، لاسيما صناعة الورق ، لما لها من أهمية فى الثقافة والعلم والتعليم ، وكذلك صناعة النسيج إلى فرنسا ، إضافة إلى إجادة اللغة العربية من قبل الأوروبيين(الذين كانوا مع الوحدات الصليبية فى الشرق) ، بغية التمكن من ترجمة الكتب العلمية إلى اللغة اللاتينية أولاً ، ثم إلى فروعها من اللغات الأوروبية فى مرحلة لاحقة . كما أن ثمة مدن تميزت بحركة نشطة فى الترجمة من اللغة العربية إلى اللاتينية ، فمثلاً :
مدينة أنطاكية
كان من أهم المترجمين : (إيتين الإنطاكى) حيث ترجم كتاب (الملكى) لعلى بن العباس إلى اللاتينية، وذلك تحت عنوان Regalis Disposite عام 1127م .
مدينة طرابلس
اعتبر المترجم (فيليب الطرابلسى) ، من أنشط المترجمين ، حيث ترجم كتاب (سر الأسرار) لأرسطو إلى اللغة اللاتينية ، لكن ليس عن لغته الأصلية - وهى اليونانية - وإنما عن ترجمة عربية له تحت عنوان كتاب (السياسة فى تدبير الرئاسة) .
وإضافة لما سبق ، فالحقيقة العلمية تقول إن ازدياد المعلومات عن حضارات الشرق كالمصرية , والسومرية ، والبابلية .. يضطر المؤرخون إلى تعديل جذرى فى النظر إلى الحضارة اليونانية ، فليست هناك (معجزة يونانية) مطلقًا، لأن الحضارة اليونانية ، امتداد واقتباس للحضارة العربية القديمة فى وادى الرافدين ، ووادى النيل ، وبلاد الشام ، فاليونانيون اقتبسوا من الحضارة العربية فى شرقى البحر المتوسط الشىء الكثير فى مختلف العلوم ، وعاد إلينا على أنه علم وطب يونانيان ونُسى الأصل أو تنوسى .
وكما تقول الباحثة ليلى محمد محمد فإنه يبدو فضل العرب المسلمين على الحضارة الأوروبية مزدوجًا ومضاعفًا : نقل الفكر اليونانى إلى الغرب أولاً ، ورفده بأمهات الكتب العلمية والتصانيف التى أبدعها العرب المسلمون ثانيًا . ولاسيما أن اختراع الطباعة على يد يوحنا جوتنبرغ عام 1448م سهل انتشار الثقافة والعلم وعجل بنشوء الحضارة المعاصرة(4) .
وقد تحققت النقلة الحضارية المهمة بالترجمة المكثفة للأعمال اليونانية الكلاسيكية ، مثل أعمال أرسطو وإقليدس وأبيقراط وغيرهم ، والتى ترجمت إلى العربية من المصادر اليونانية والعبرية والسورية ، وقام المسيحيون العرب من أتباع الكنائس الأرثوذكسية السورية والنسطورية بإنجاز عدد من تلك الترجمات. على أن الترجمة لم تكن حرفية ؛ إذ غالبًا ما كان يجرى التعليق على المصدر الأصلى ونقده وإضافة حواشٍ إليه ، وبهذا الشكل بات المسلمون الورثة الحقيقيين للثقافة الهيلينية ، التى غالبًا ما يستخدمها الغرب كمرجع ومصدر ولاشك أن جهود الترجمة الإسلامية الكبيرة صانت هذا التراث الثمين وتولت إدارته(5) .
وصلت جهود الترجمة ذروتها على يد الطبيب المسيحى السورى حنين ابن إسحاق ، جمع ابن إسحاق فى رحلاته الطويلة المخطوطات المختلفة للمؤلفات الأساسية المتوفرة آنذاك ، وقام بمقارنتها قبل ترجمتها إلى السريانية أو العربية ، وفى مطلع القرن التاسع تم تأسيس (دار الحكمة) فى بغداد ، حيث باتت تلك الأعمال متوافرة باللغة العربية التى كانت قد أصبحت لغة العلوم آنذاك .
وكانت بغداد مركز العالم خلال الفترة من عام 750م وإلى العام 1258م حين قام المغول بتدميرها ، وفى الوقت الذى كان فيه أهل شمال أوروبا يهيمون على وجوههم ويكتسون بجلود الحيوانات ، كانت بغداد تنعم بحضارة مزدهرة متطورة تميزت بالتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود ، وبغداد - التى اصبحت مؤخرًا رمزًا للمشاكسة وعدم التصالح - كانت آنذاك تعرف باسم (مدينة السلام)(6) .
ويقول إنجمار كارلسون : أن الثقافة الإسلامية - على ذلك - ليست غريبة كما تدعى كليشهات الغرب وأفكاره المسبقة .
تمكن المسلمون العرب والبربر من هزيمة مملكة الفيزغوطيين فى إسبانيا بسرعة بعد عبورهم لمضيق جبل طارق . كان أهل البلاد الأصليون آنذاك يعانون من حكم أرستقراطية غريبة ، فى حين كان اليهود عرضة لاضطهاد الكنيسة ، وبمساعدة اليهود سقطت طليطلة فى أيدى المسلمين دون مقاومة تذكر ،كما تم فتح قرطبة بمساعدة راع إسبانى دل المهاجمين على فجوة فى سور المدينة ، ومع افتتاح إشبيلية فى 716م وصل الفتح إلى ذروته ، وتم وضع أساس الإطار الجغرافى فى إسبانيا الذى انتعش فيه مجتمع التعددية الثقافية على امتداد ثمانية قرون تقريبًا .
لم يعتبر السكان الأصليون المسلمين الفاتحين همجًا بدائيين ، بل على العكس أعجبهم نمط الحياة الرفيع والرفاه والرقة التى جاء بها المسلمون ، وسرعان ما بات المسيحيون يقلدون المسلمين . ولقد قطع هذا الذوبان والاندماج الثقافى شوطًا بعيدًا إلى حد أن قسيسًا إسبانيًا كتب حانقًا يقول :(2/42)
(إخوانى المسيحيون يتذوقون الشعر والحكاية العربية ، ويدرسون علوم الدين والفلسفة المحمدية ليس لغرض دحضها ، ولكن لتهذيب أذواقهم وامتلاك الأسلوب الرفيع . هل هناك الآن من هو قادر على قراءة التعليقات اللاتينية على الكتب المقدسة ؟ كلا للأسف الشديد . إن الموهوبين الشبان من المسيحيين لا يعرفون سوى الآداب العربية ، إنهم يقرأون ويدرسون الكتب العربية فحسب ، ويبذلون الغالى والرخيص لجمع الكتب العربية ، ويسبحون ويمجدون فى كل مناسبة بالعادات العربية) .
ذلك السعى المحموم تجاه نمط الحياة الرفيع مازال يعكس نفسه إلى يومنا هذا فى بعض التعابير المتداولة فى اللغات الأوروبية ، والمستعارة مباشرة من اللغة العربية . قليلون أولئك الذين يعرفون مثلاً أن كلمة (الجالا) (الحفل الكبير احتفاء بشخص أو حدث مهم) جاءت أصلاً من العربية ، وأصل التعبير والحدث هو (الحلة) التى كان الأمير الشرقى يخلعها على شخص قام بأداء عمل أو خدمة جليلة ، واليوم نجد فى العديد من اللغات الأوروبية استعارات محورة لمشتقات من هذا التعبير .
لاشك أن الدين كان قوام تأسيس الهوية ، وأن الدين كان بدوره يرتبط بنظام الحكم الإقطاعى ، ولكن العلاقة بين المجموعات الدينية كانت ترتكز على التسامح المتبادل فيما بينها ، والذى كان مستمدًا بدوره من مبدأ (أهل الكتاب) الذى ورد فى القرآن .
ويمكن اعتبار عمليات التحول بين الديانات الثلاث بمثابة مقياس خاص لمبدأ التسامح المعمول به آنذاك ، كان التحول من المسيحية واليهودية إلى الإسلام شائعًا ومازال .
وكانت هناك خمس لغات على الأقل قيد الاستعمال اليومى ، لغتان للحديث ، العربية الأندلسية ولغة الرومانا العامية (التى تطورت فيما بعد إلى اللغة الإسبانية) . أما لغات الكتابة فكانت العربية الفصحى والعبرية واللاتينية.
ويضيف إنجمار كارلسون : لقد حرر الفتح الإسلامى اليهود من الاضطهاد الذى كانوا يعانون منه تحت الحكم المسيحى ، ولقد تأقلم اليهود مع الثقافة العربية ، ووصلوا إلى مراكز رسمية عالية خلال فترة الازدهار تلك ، وأدلى اليهود أيضًا بقسطهم فى التطور العلمى والفلسفى والأدبى الذى تحقق خلال تلك الفترة والذى تمركز حول قرطبة . وتمت إعادة نفخ الحياة فى اللغة العبرية بظل الدعم العربى وحمايته، وعلى الرغم من أن اليهود كانوا يكتبون بالعربية عند تناول الفلسفة والعلوم ، إلا أن العبرية كانت لغتهم المفضلة عند كتابة الشعر ، وربما كانت هذه هى المرة الأولى التى جرى فيها استخدام العبرية لأغراض أخرى غير الطقوس الدينية .
ولقد ارتحل اليهود إلى إسبانيا العربية من جميع الأصقاع ، حتى إن غرناطة باتت مدينة ذات صبغة يهودية ، ويكفى أن نشير فى هذا الصدد إلى قيام ناشر إسرائيلى فى مطلع الثمانينيات بنشر مجموعة من الأعمال تحت عنوان (كنوز من الفكر اليهودى) ، وكانت جميع المجلدات الستة التى تم نشرها فى المجموعة أعمالاً كتبت فى إسبانيا خلال الفترة 1050 - 1428م ، لا بل إن خمسة من الأعمال الستة تمت كتابتها أصلاً باللغة العربية ، وتضمنت الأعمال كتابين للمؤلف جابريول (المعروف أكثر باسمه اللاتينى Avicebron، وقصائد للشاعر يهودا هاليفى ، وأعمالاً لموسى بن ميمون (قارن التسامح الإسلامى مع اليهود بما يفعلونه الآن فى فلسطين) .
كانت إسبانيا المقاطعة الأولى التى انفصلت عن دار الخلافة ، ولقد وصل الأمير الأموى عبد الرحمن الداخل إلى إسبانيا فى العام 755م هاربًا من دمشق، وكان الحكام فى إسبانيا قانعين فى البداية بلقب الإمارة ، ولكن عبد الرحمن الثالث أعطى لنفسه - فى العام 929م - لقب (أمير المؤمنين) ، وأصبحت الخلافة فى قرطبة خلال القرن العاشر أكثر ممالك أوروبا رخاء على الصعيدين الثقافى والمادى ، وفى الوقت الذى كانت فيه المدن فى وسط أوروبا مجرد أكواخ من الخشب ، كان سكان قرطبة الذين بلغ عددهم نصف مليون نسمة يتمتعون بشوارع مضاءة وشبكة لمياه التصريف وأكثر من 300 حمام عمومى .
إلا أن حكم الأمويين بدأ بالتضعضع مع الانقسامات الداخلية ، وأيضًا مع ضغوط المسيحيين المتزايدة من الشمال الذين كانوا يطالبون باسترجاع الأراضى المسيحية . ونتيجة لهذه الضغوط انقسمت الخلافة فى قرطبة إلى ممالك صغيرة متعددة منذ العام 1013م ، وكان بعض الحكام المسلمين شقرًا وذوى عيون زرق نتيجة للزيجات المختلطة بين اليهود والمسيحيين والمسلمين ، وجرى عقد معاهدات تحالف بين الحكام المسلمين والمسيحيين .
على أن رؤساء الكنيسة الكاثوليكية كانوا يعتبرون أن أى اتصال مع المسلمين ، أو أى تنازل لهم مهما صغر شأنه ، هو نصر لأعداء المسيحية ، وبدءًا بالقرن الحادى عشر كانت هناك عملية استرجاع تدريجية للأراضى من المسلمين ، إذ سقطت طليطلة فى 1085م ، وقرطبة فى 1236م ، وفالنسيا فى 1238م ، وإشبيلية فى 1248م . على أن الموقع الأخير ، غرناطة ، ظل صامدًا لأكثر من قرنين ونصف من الزمن ، كمدينة مفتوحة للفنانين والعلماء والكتّاب من شتى أرجاء حوض البحر المتوسط ، وظلت غرناطة واحدة من أجمل مدن الدنيا وواحة للاجئين (المور) (العرب الهاربين من إسبانيا المسيحية) وللمسيحيين واليهود على السواء .
ولكن غرناطة سقطت أخيرًا مع قلعتها الحمراء فى عام 1492م ، ولقد حدث هذا بعد أن أصبحت نموذجًا للتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود، وهو النموذج الذى بات يعرف باسم التعايش التلاؤمى (Conviviencia)، وعلى امتداد كامل فترة الاسترجاع كان المسيحيون يواجهون طرفًا أكثر رفعة حضارية . ولقد كان الإسلام أكثر مدنية وأكثر تطورًا من الناحية التقنية ، فضلاً على أنه كان أكثر انفتاحًا على العالم وأغنى تنوعًا من الناحية الروحية .(2/43)
وبعد الاجتياح المسيحى باتت طليطلة مركزًا لترجمة الأعمال العلمية من العربية إلى اللاتينية ، ولقد جرى جمع أفضل عقول أوروبا آنذاك فى تلك المدينة ، ويمكن على ضوء ذلك الاستنتاج القول بأن العلماء والبحاثة المسلمين والمسيحيين واليهود من طليطلة وقرطبة وإشبيلية وغرناطة كانوا أساس ولادة المنهج الإنسانى الأوروبى ، وذلك عبر تعريف أوروبا المسيحية بكلاسيكيات تاريخ العلوم ، وهذا يصح على نظريات الحساب التى طورها إقليدس وأبولونيوس وأرخميدس , وعلى علوم الفلك لدى المصرى بطلميس ، وعلى علوم الطب عند أبو قراط وجالينوس .
وقد تأثر التعليم والعلم والثقافة فى أوروبا بشكل قوى بالمعارف الإسلامية أيضًا عبر صقلية ؛ إذ كانت هذه الجزيرة مقاطعة بيزنطية فى بداية القرن التاسع ، فقد تمكن المسلمون فى العام 829م من الحصول على موطىء قدم فيها، ومع العام 902م سقطت الجزيرة بكاملها فى أيديهم إلى جانب أجزاء من جنوب إيطاليا ، ولكن السيطرة الإسلامية هناك لم تكن طويلة الأمد كما فى جنوب إسبانيا ؛ إذ تمكن النورمانديون من استرجاع صقلية فى أواخر القرن الحادى عشر . وعلى الرغم من قصر هذه الفترة الزمنية ، إلا أن المدن الصقلية بشكل خاص كانت قد تأسلمت مما انعكس فى انصهار ثقافى مرموق ظل حيًا ومشعًا لقرون ، وظل نظام حكم النورمانديين ذا طابع عربى كامل ؛ إذ إن (روجر الأول) ، وهو الذى بدأ الحملات ضد المسلمين فى الجزيرة أحاط نفسه بالفلاسفة وعلماء الفلك والعلماء العرب ، وكان بلاطه فى باليرمو بلاطًا شرقيًا أكثر مما كان غربيًا ، ولقد ظلت الجزيرة لأكثر من قرن من الزمن مملكة مسيحية يحتل المسلمون فيها أغلب المراكز الرفيعة .
لم يكن (فريدريك فون هوهينشتاوفن) حاكمًا لجزيرة صقلية فى النصف الأول من العام 1200م فقط ، بل كان أيضًا إمبراطورًا للإمبراطورية الرومانية المقدسة وملك القدس ، وعلى الرغم من أنه كان صاحب أعلى مركز مدنى فى العالم المسيحى ، إلا أن حياته الخاصة كان حياة شبه شرقية ، فلقد كان لديه حريم ، وكان بلاطه يضم فلاسفة من دمشق وبغداد ويهودا شرقيين وغربيين. إن الانفتاح المميز الذى ساد بلاطه كان أساس عهد النهضة الإيطالى ، وكانت العربية واليونانية واللاتينية تستخدم فى المناسبات الرسمية ، ولقد انتشرت الثقافة والعلوم العربية من جزيرة صقلية والجنوب الإيطالى إلى شمال إيطاليا وبقية أنحاء أوروبا ، وتجدر الإشارة إلى أن الإمبراطور (فريدريك) وابنه (مانفريد) كانا يتقنان العربية ، ولقد قاما بدراسة العلوم والفلسفة العربية ، وبترجمة الأدبيات العربية إلى اللاتينية .
ويشهد إنجمار كارلسون بأن : علم التاريخ جاء إلى أوروبا من الأندلس وصقلية ، وهو أيضًا الطريق الذى جاءت منه العلوم والتكنولوجيا العربية ، لا بل إن إسهام العرب فى خلق المعرفة الطبية فى أوروبا يعتبر واحدًا من أبرز وأكبر عمليات النقل العلمى التى تمت فى التاريخ . لقد جمع أبو بكر الرازى (المتوفى فى العام 935م) كل المعرفة الطبية الموجودة فى زمانه فى 30 مجلدًا، وقام أيضًا بتأليف أكثر من مائة رسالة طبية أعيد نشرها نحو 40 مرة مع حلول القرن التاسع عشر ، وكانت بحوثه تلك مادة تدريس فى الجامعات الأوروبية لقرون طويلة ، وقد حاز وصفه للجدرى والحصبة على شهرة خاصة ، وقام الطبيب والفيلسوف ابن سينا (المتوفى فى العام 1037م) أيضًا بوضع دائرة معارف للعلوم الطبية ظلت تستخدم فى الجامعات الأوروبية حتى القرن الماضى، وشرح (ابن الخطيب) (المتوفى فى العام 1374م) كيفية انتقال الطاعون بالعدوى . أما أعمال على بن عيسى حول أمراض العيون فإنها تعكس فهمًا ومعرفةً لم تصبح متوافرة فى أوروبا قبل القرن الثامن عشر ، وكان الطبيب المصرى (ابن النفيس) (المتوفى فى 1288م) أول من شرح نظام الدورة الدموية . وهذا مجرد غيض من فيض .
ومنذ القرن العاشر فرض المسلمون على الأطباء ضرورة اجتياز امتحان طبى قبل السماح لهم بممارسة المهنة ، وكان تعليم الأطباء يجرى فى مستشفيات خاصة فى المدن الكبيرة ، ولقد طور الأخصائيون فى هذه المستشفيات فنون الجراحة ، كما جرى مراقبة ووصف مراحل تطور الأمراض المختلفة ، وتمت دراسة الأدوية المستخلصة من الأعشاب وتحليل آثارها على الجسم البشرى . لقد كانت العلوم الطبية متطورة إلى درجة أن عالم النبات (ابن البيطار) من ملقا (الأندلس) جدول فى القرن الثالث عشر أكثر من 1400 عقار طبى مختلف، وفى الواقع أن الصيدليات كمؤسسات طبية هى إبداع عربى ، ولقد كان هناك محلات عطارة رسمية فى الأندلس توفر الدواء للعامة .
وحقق علماء الفلك العرب تطورًا كبيرًا فى تحديد المسارات التى يأخذها القمر والكواكب ، وكتبوا فى وقت مبكر عن المد والجزر ، وعن قوس القزح ، وعن الشفق ، وعن الهالات حول الشمس والقمر ، وافتراض العلماء العرب أن الأرض كروية منذ القرن الحادى عشر . إن إنجازات (كوبرنيكوس وكيبلر) ما كان يمكن لها أن تكون بدون الأعمال التأسيسية للفلكيين العرب .
ولقد تمكن القسيس (لوبيتوس) من برشلونة من تعلم كيفية استخدام الأسطرلاب عبر قراءة نصوص مترجمة من العربية ، وكتب فى العام 984م إلى إخوانه المسيحيين - على الجانب الآخر من سلسلة جبال البرانس - حاثًّا إياهم على استخدام العلوم العربية ؛ وذلك لتسهيل تحقيق أهدافهم الدينية قائلاً: إن من يرغب بأداء الصلوات فى أوقاتها الدقيقة ، والاحتفال بعيد الفصح فى التاريخ الصحيح ، وتفسير البشائر حول نهاية العالم ، عليه أن يستخدم الأسطرلاب . لقد نسينا نحن المسيحيين الحكمة والمعرفة الأصلية ، وها هو الله يهبنا إياها ثانية عبر العرب . انتهى .(2/44)
ولم يمنح العرب أوروبا الأسطرلاب فقط ، بل أعطوها أيضًا أداة أكثر دقة للحساب ، ألا وهي الأرقام العربية ، التى يجدر أن نسميها بالأرقام الهندية كما يفعل العرب أنفسهم . كانت هذه الأرقام معروفة فى بغداد منذ نحو العام 720م ، ويرجح أنها جاءت إلى بغداد عبر التجار الهنود . إن المساهمة الأكثر أهمية لعلماء الحساب الهنود تتمثل فى إبداع رقم الصفر ، وفى وضع النظام العشرى ، وعقب نحو قرن من معرفة هذا النظام ، قام (أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمى) (المتوفى فى العام 846) بوضع كتابه عن تطوير مجالات استخدامه فى علم الحساب ونظام العد العشرى ، وهو يستحق عن جدارة لقب (أبو علم الجبر واللوغارتمات) ، بل إن كلمة (الجبرا) باللغات الأوروبية مشتقة مباشرة من كلمة الجبر بالعربية ، وكلمة اللوغارتمات مشتقة بدورها من تحريف اسم الخوارزمى .
كانت أساليب الحساب الجديد ثورة عظيمة الشأن ؛إذ وفرت الأرقام الجديدة إمكانية التعامل مع المسائل الرياضية بشكل لم يكن متاحًا فى السابق مع استعمال الأرقام الرومانية ، ولقد حرر هذا الإنجاز العربى أوروبا من (اضطهاد الأرقام الكاملة) حسب تعبير أحد الرهبان .
كان للانتشار السريع للإسلام نتائج على علوم الجغرافيا أيضًا ؛ إذ تم وضع وصف دقيق لمسالك الحج من الحواضر الإسلامية فى مصر وسوريا وما بين النهرين فى وقت مبكر . ونتج عن هذا تأليف دوائر المعارف الجغرافية وكتب الرحلات عبر القارات ، ولقد وضع (أبو عبد الله المقدسى) (المتوفى فى العام 1000م) مجلدًا حول الجغرافيا الفيزيائية والبشرية المعروفة فى ذلك الزمن ، على ضوء ملاحظاته والمراقبات الموثوقة للآخرين , وهو أيضًا مؤلف (أحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم) الذى نقله الأوروبيون إلى لغاتهم ، كما قام (ياقوت الحموى) (المتوفى فى العام 1229م) بتأليف قاموس جغرافى مهم بعنوان (معجم البلدان) .
ولقد استفادت أوروبا أيضًا من العلوم العربية فى هذا المجال ؛ إذ قام الملك النورماندى (روجر الثانى) بتكليف الجغرافى العربى الإدريسى برسم خرائط شاملة عن العالم ، فقام هذا برسم خريطة للعالم بالإضافة إلى 72 خريطة تفصيلية عن الحدود المعروفة آنذاك ، من خط الاستواء جنوبًا إلى المحيط الأطلسى غربًا وإلى المحيط الهادى شرقًا .
كانت المخططات التى وضعها راسمو الخرائط العرب واليهود فى صقلية ومايوركا فى القرن الثالث عشر فريدة من نوعها ؛ إذ استمر استعمالها ولم يجر تعديل المسافات المحددة فيها إلا فى وقت متأخر من القرن السابع عشر ، وكلمة أطلس المستخدمة فى اللغات الأوروبية مأخوذة مباشرة من اللغة العربية، وعندما قام (فاسكو دي جاما) بالاستعانة بالقبطان العربى (ابن ماجد) ؛ لاكتشاف طريق الهند عبر رأس الرجاء الصالح ، فإنه كان يعرف تمامًا بمن يجب أن يستعين .
أما الرحالة المغربى (ابن بطوطة) (المتوفى فى 1368م أو 1377م) فإنه ارتحل إلى أصقاع بعيدة أوصلته إلى تومبكو وإلى بكين وإلى الفولغا ، وهو لاشك رحالة على نفس مستوى (ماركو بولو) .
وفيما يلى ، نخبة من أسماء المسلمين الذين أغنوا أوروبا بعلومهم ومعارفهم، والذين وصفهم الباحث والرحالة الألمانى (الكسندر فون هومبولت) فى القرن التاسع عشر بأنهم (منقذو التعليم والثقافة الغربية) .
• عباس بن فرناس (المتوفى فى 888م) الذى حاول تصميم طائرة قبل نحو 600 عام من قيام الإيطالى ليوناردو دافنشى بنفس المحاولة .
• أبو الحسن بن الهيثم (المتوفى فى 1039م) الذى اخترع الحجرة المظلمة فى التصوير .
• أبو الريحان البيرونى (المتوفى فى 1050م) العبقرى المتعدد المواهب الذى كان مؤرخًا وديبلوماسيًا وأخصائيًا فى اللغة السنسكريتية وعالم فلك ، وخبيرًا بالخامات وصيدلانيًا .
• عمر الخيام (المتوفى ما بين 1123م و 1131م) الذى كان شاعرًا وعالم حساب فى آن واحد .
• ابن رشد (ولد وتعلم فى الأندلس ، وتوفى فى 1198م) الذى تركت شروحاته وتعليقاته على أعمال أرسطو آثارًا عميقة على الفلسفة الغربية .
• ابن خلدون (المتوفى فى 1406م) الذى يعتبر بحق (أبو التاريخ) و (أبو علم الاجتماع) ، عبر مُؤلفه الشهير المعروف بـ (مقدمة ابن خلدون) ،عن تاريخ العالم ومنهجه المميز فى نقد المصادر .
وكما تقول أغنية مصرية شائعة : (الأرض بتتكلم عربى) ، فإن أوروبا كثيرًا ما تستعمل العربية دون أن تدرى . إن الآثار التى خلّفها الحكم العربى فى إسبانيا وصقلية يمكن متابعتها بشكل خاص فى مفردات اللغات الأوروبية، وخاصة فى اللغة الإسبانية . إن واحدة من كل خمس كلمات فى اللغة الإسبانية ذات أصل عربى ، لا بل إن البطل الوطنى الإسبانى الذى هزم العرب، يحمل اسمًا عربيًا : (السيد) (El Cid) ، ومعظم السائحين الذين زاروا حلبات مصارعة الثيران قد لا يعرفون بأن نداء (أوليه) بالإسبانية تمتد جذوره فى اللغات العربية : إنهم يمجدون بهتافهم هنا اسم الله ، وإن اسم أطول نهر فى إسبانيا (Guadalquivir) مشتق فىالواقع من الاسم العربى (الوادى الكبير) ، وماذا عن اسم جبل طارق ؟ بل إن التعبير الشائع (هستا مانيانا) , والتى تعنى إلى الغد ، فإن كلمة (هستا) تعود بأصلها إلى كلمة (حتى) العربية .(2/45)
ومن بين التعابير الحربية والعسكرية فى اللغات الأوروبية التى تعود بأصلها إلى اللغة العربية نذكر مثلاً دار الصناعة (Arsenal) ، والغزوة (Razzia) ، وقالب (Calibre) . وللتذكير فقط فإن المسلمين وليس البريطانيين هم الذين سادوا الأمواج (كما يقول النشيد الإنجليزى) ، بل إن اللقب العسكرى للأدميرال نيلسون مشتق من اللغة العربية . إن كلمة أدميرال مشتقة (أمير الرحل) التى تحرفت إلى (Ammiraglio) بالإيطالية ثم أدميرال بالإنجليزية، وكلمة (Mansoon) هي أيضًا كلمة بحرية مشتقة من كلمة الموسم .
وقد استعارت كل اللغات الأوروبية بشكل مكثف من العربية خصوصًا فى مجال أسماء النباتات والحيوانات . وكأمثلة على ذلك نذكر الحشيش (Hasch) ، الذرة (Durra grain) ، الطرحون (Tarragon)، الباذنجان (Aubergine) ، البرقوق (Apricot)، الكمون (Cumin)، الكافور (Camphor)، القهوة (Coffee)، الياسمين (Jasmine)، الزنجبيل (Ginger)، القطن (Cotton), الليمون والليمونادة (Lemon)، النارنج (Orange)، السبانخ (Spinach)، الزعفران (Saffron) .
وكبرهان على التأثير العربى الواسع الذى شمل مختلف المجالات، والذى يكاد أن يقارب ما نطلق عليه اليوم اسم (الاستعمار الثقافى)، نورد فيما يلى مجموعة من الكلمات السويدية المستعارة مباشرة من اللغة العربية :
الشفرة (Cipher)، العرق (Arrack) الكهف (Alcove) الملغم (Amalgam)، الكحول (Alcohol)، الجبر (Algebra)، الحبل (Cable)، الزهر (Hazard) ، الإكسير (Elixir)، الدمقس (Damask) .
ويشهد علماء الغرب على بشاعة أسلافهم : ولاشك أن الإحساس بالدونية الثقافية ساهم فى بلورة موقف المسيحيين تجاه المسلمين الذى تميز بالقسوة واللارحمة ، ويحفظ لنا التاريخ مثلاً أن (الكاردينال زيمينس) أمر فى العام 1499م بحرق ثمانين ألف كتاب عربى فى غرناطة ، بحجة أن (العربية هى لغة عرق كافر وعرق وضيع) . وبعد ثلاث سنوات أجبر المسلمون فى إسبانيا على الاختيار بين اعتناق المسيحية أو مغادرة البلاد أو الموت ، وخلال الحقبة الزمنية نفسها تم نفى نحو ربع مليون يهودى بعد أن رفضوا اعتناق المسيحية . وتم إحراق مئات الألوف من المسلمين أحياء بعد تعذيب وحشى مروع .
عانت إسبانيا آنذاك من نفس الجنون العرقى الذى تعانى منه البوسنة اليوم ، إذ إن حمى تحويل أتباع الأديان الأخرى إلى المسيحية سرعان ما أصبحت حملة للتمييز العنصرى ، وحتى ذلك الوقت لم يكن (الدم) أمرًا ذا شأن إلا للنبلاء الذين لا يمتلكون الأضياع ، ولكنه سرعان ما أصبح معيارًا حاسمًا للتمييز بين البشر ، وعلى هذه الخلفية فضل الملك (فرديناند) والملكة (إيزابيلا) دخول التاريخ لا بصفتهما ملكين على أتباع من ثلاث ديانات ، بل فضّلا صفة الملوك الكاثوليك . وهكذا انتهى عهد التعايش التلاؤمى على يد المسيحيين المتعصبين .
إن تجربة الأندلس تؤكد : أن بعض التجاوزات المتطرفة التى قد نراها اليوم على الأصعدة المختلفة ليست صنوًا للإسلام . إنها ببساطة ليست من الإسلام فى شىء . الإسلام هو مصهر للإبداعات المتنوعة ، وهو مستودع لأفكار متعددة ومتميزة ، من نظريات يوتوبية استرجاعية حول الخلاص الروحى إلى تأكيدات للهوية الثقافية واستيعاب لكل الأفكار والثقافات .
إسبانيا المسلمة هى برهان ملموس على كل هذا ، وهى تحد سافر للأفكار الجاهزة ، وللقوالب المسبقة حول الإسلام والمسلمين . الإسلام كان الحضارة المتفوقة ، وكان الطرف الخلاق حين كانت المسيحية متخلفة عنه قرونًا كثيرة، ولقد عاشت المجموعات السكانية المختلفة بظله بتناغم وتجانس دون اعتبار للعرق والدين . لقد تمكن الإسلام هناك من خلق مجتمع (التعايش السلمى) الذى وصفه المستشرق البريطانى (وليام مونتغمرى وات) بأنه مفهوم يتضمن التكافل والتكامل والانصهار .
تعليق
لقد استمر عطاء علماء المسلمين للبشرية حتى يومنا هذا برغم كل الظروف السيئة التى نمر بها الآن .. ويكفى أن نشير إلى حصول اثنين من علماء المسلمين على جائزة نوبل العالمية تقديرًا لعطائهما وجهودهما المتميزة .. الأول كان الفيزيائى الباكستانى أحمد عبد السلام .. والثانى هو الدكتور أحمد زويل عالم الفيزياء العربى المسلم صاحب الاكتشافات العلمية المذهلة فى العصر الحديث ، ومنها اكتشافه وحدة القياس الزمنى (الفمتوثانية) لأول مرة فى التاريخ .. وهناك أيضًا عالم الفضاء المصرى العربى الدكتور فاروق الباز أحد أبرز خبراء وكالة أبحاث الفضاء الأمريكية (ناسا) .. والعبقرى الدكتور مشرفة .. وعالمة الذرة المصرية الدكتورة سميرة موسى ، وعالم الذرة الدكتور يحيى المشد (اغتالتهما المخابرات الإسرائيلية الموساد بخسة ووضاعة لمنع العرب من الحصول على القنبلة النووية) .. وأيضًا نذكر جراح القلب العالمى الدكتور مجدى يعقوب ..والعالم الجليل الدكتور زغلول النجار أحد أكبر علماء طبقات الأرض فى العالم كله .. وهؤلاء فقط مجرد أمثلة لما قدمته عقول العرب والمسلمين للإنسانية من عطاء .. وهم وأمثالهم - قديماً وحديثاً - البرهان الساطع على أن المسلمين دائمًا كانوا حريصين على التواصل الإيجابى مع الآخر والتعاون المثمر على البر والتقوى والخير للبشرية كلها(7) .
المراجع
(1) الحضارة العربية الإسلامية والحضارات السابقة ، للباحث الدكتور شوقى أبو خليل .
(2) Lucien Leclerc, Histore de la medecien arabe, Tome 2, P. 343, 345. .
(3) مجموعة بحوث وأعمال المؤتمر العالمى الأول للطب الإسلامى ، الكويت ، 1981م ، الدكتور أبو الوفا التفتازانى .
(4) ليلى محمد محمد - مجلة النادى الأدبى لمنطقة حائل - العددان 8 ، 9.
(5) إنجمار كارلسون - الإسلام وأوروبا - ترجمة سمير بوتانى - مكتبة الشروق الدولية .(2/46)
(6) هناك موسوعتان مشهورتان عن بغداد ، الأولى : دار السلام , والثانية : تاريخ بغداد، الخطيب البغدادى ، 14 مجلدًا ، مكتبة الخانجى .
(7) ومن أراد المزيد عن العطاء الإسلامى العظيم للعالم فليراجع كتاب المستشرقة الألمانية زنجريد هونكه : (شمس الإسلام تشرق على العالم) - ط دار الشروق - مصر ، وكتاب (حضارة العرب) للعلامة الفرنسى جوستاف لوبون - ط الهيئة المصرية العامة للكتاب .
الفصل الثامن
وسائل التواصل
أدى التطور الهائل في وسائل الاتصال والمواصلات إلى تيسير التواصل بين جميع الدول والشعوب .. ولاشك أننا نستطيع استثمار هذه الوسائل الحديثة فى التحاور والتواصل والتبادل الحضارى مع الآخرين ..
• وعلى رأس هذه الوسائل الحديثة تأتى شبكة المعلومات الدولية - الإنترنت - وهىقفزة كبرى في عالم الاتصالات تيسر لنا - بأقل التكاليف -الوصول إلى كل بيت فى سائر أنحاء المعمورة بلا قيود أو معوقات .. ويكفى أن نشير إلى الملايين من الأوروبيين والأمريكيين الذين اعتنقوا الإسلام خلال بضع سنين منذ اكتشاف الإنترنت كوسيلة فائقة السرعة زهيدة التكلفة للحصول على المعلومات والاتصال بالآخرين .. وعلى سبيل المثال فقد زاد عدد زوار المواقع الإسلامية على الإنترنت - بعد 11سبتمبر 2001م - 76 ضعفًا بسبب الرغبة العارمة لدى الآخرين في التعرف على هذا الدين وما يدعو إليه .. والمؤكد أن هذا كله في صالحنا، لأن النتيجة في كثير من الحالات هى اعتناق هؤلاء الإسلام بعد معرفة الحقائق الكاملة عنه بعيدًا عن أكاذيب وتضليل الصحف الغربية ووسائل الإعلام الأخرى ؛ (تضاعف عدد من اعتنقوا الإسلام في أمريكا 3 مرات بعد 11 سبتمبر) ويمكن لمن يرغب في معرفة بعض ثمار التواصل عبر الإنترنت بهذا الصدد أن يقوم بزيارة بعض المواقع الآتية :
www.jews-for-allah-org وهو موقع أنشأه حاخام يهودى سابق اهتدى للإسلام - مع كل أسرته - بعد حوار قصير عبر الإنترنت مع شاب مسلم مثقف واعٍ نجح في عرض حقائق الإسلام العظيم على هذا الحاخام الذى أنشأ هذا الموقع لدعوة اليهود وغيرهم إلى الإسلام،بعد أن هداه الله إلى الدين الحق .
- قسيس أمريكى شهير اعتنق الإسلام مع والده - قسيس أيضًا - وصديقهما الوزير الأسبق وأسس موقعًا للدعوة إلى الإسلام www.islamtomorrow.net وأيضاً www.islam-guide.com موقع جيد لتعريف الآخرين بالإسلام.
www.thetruereligion.org/converts موقع هام يحتوى على عشرات من قصص إسلام مشاهير الغرب فى كل المجالات.
www.saaid.net أيضا موقع إسلامى ممتاز به كثير من القصص الرائعة لمئات من غير المسلمين الذين هداهم الله للإسلام .
- www.islamicweb.com وموقع آخر للحوار مع غير المسلمين وقصص المسلمين الجدد من مختلف البلدان والثقافات .
- وهناك أيضًا موقع رائع أسلم بسببه عشرات www.islamway.com .
وتجدر الإشارة إلى أن معظم هذه المواقع هى ثمرة مجهود فردى لدعاة وهبوا أنفسهم وما يملكون لنشر دين الله بين العالمين ..
ولكن الأمر يتطلب سرعة مشاركة الدول والهيئات الإسلامية ذات الإمكانيات الكبيرة بإنشاء مئات المواقع- بكل لغات العالم الأخرى وليست الإنجليزية أو العربية وحدها - وتوفير كل المعلومات الأساسية عن الإسلام بما في ذلك الردود العلمية المقنعة على كل ما يثار حول الإسلام من شبهات؛نظرًا لوجود الآف المواقع المعادية التى تنشر الأباطيل عن الإسلام وتربطه بالإرهاب والخرافات وكل ما ينفر الآخرين منه ..
• لقد لاحظ كاتب هذه السطور - من خلال متابعة غرف الدردشة (الشات)الإسلامية بشبكة (ياهو) - قلة عدد الدعاة الذين يجيدون اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات الأجنبية والمؤهلين للرد على ما يثار من أسئلة أو افتراءات على الإسلام .. الأمر الذى يجعلنا نطالب بسرعة إعداد أعداد كافية من العلماء المتخصصين المسلحين بكل أدوات العصر - إجادة لغات أجنبية وكذلك إجادة استخدام الكمبيوتر والتحاور عبر الإنترنت - فضلاً عن الثقافة الإسلامية بالطبع، والدراية بكيفية التحاور مع الآخرين، ومهارات الإقناع بالحكمة والموعظة الحسنة، ومعرفة كل الإجابات الشافية والردود على الأباطيل التى تثيرها وسائل الإعلام الأجنبية لمحاولة تشويه الإسلام في وجدان الآخرين ..
صحيح أن هناك حاليًا كما أشرنا بعض الشباب ممن ألهمهم الله رشدهم ووفقهم لتحقيق إنجازات طيبة عبر الإنترنت،وكان من ثمرات جهدهم المبارك،أنه يعتنق الإسلام على أيديهم يوميًا،عشرات من غير المسلمين، لكن عددهم ما يزال ضئيلاً،وإمكانياتهم محدودة للغاية، إذا قورنت بالجيوش الجرارة من المنصرين ومئات المليارات المخصصة للحرب على الإسلام بوسائل مختلفة .. لذلك تعتبر المشاركة بالمال أو النفس في الدعوة إلى الله في هذا الميدان وغيره من أسمى مراتب الجهاد في سبيل الله،فهو كما وصفه الدكتور يوسف القرضاوى بحق (جهاد العصر).
• وما ذكرناه عن الإنترنت يصدق أغلبه أيضًا على القنوات الفضائية ..(2/47)
ففى الوقت التى يبث فيه الآخرون في مختلف أنحاء العالم مئات - بل آلاف - القنوات الفضائية بكل اللغات لنشر عقائدهم والترويج لثقافتهم وحضاراتهم،وكثير من هذه القنوات يتطاول على الإسلام العظيم ورسوله الأمين صلى الله عليه وسلم .. فإننا في المقابل لا نكاد نجد قنوات إسلامية ترد على هذا التطاول الإجرامى،أو تقدم للآخرين - بلغات أجنبية - كل ما يجب أن نقدمه لهم من معلومات عن ديننا الحنيف وحضارتنا العربية الإسلامية الخالدة!!! إننا نطالب بسرعة بث قنوات فضائية عالمية إسلامية بكل اللغات لسد النقص الخطير في هذا المجال،فالجهاد الإعلامى لا يقل أهمية عن الجهاد في ميادين القتال - بل هو الأهم في أوقات السلم - بدلاًمن التسابق الذى نراه الآن - للأسف الشديد - والتنافس في إنشاء قنوات فضائية تبث العرى والانحلال وتضرب الفضائل في مقتل !!!وكفانا إهدارًا للمال ، وكفانا إفسادًا لشباب وأطفال المسلمين وإهدارًا لأوقاتهم وطاقاتهم في متابعة مواد إعلامية أقل ما يقال فيها - في أحسن الأحوال - أنها غير ذات فائدة على الإطلاق!!!
• ونطالب أيضًا بإنشاء إذاعات إسلامية تبث برامجها بلغات العالم الأخرى لنشر مبادئ الإسلام ، وتعريف الآخرين بحضارتنا وقيمنا، والرد على الحملات المضادة .
• لابد أيضًا من إنشاء دار نشر إسلامية عالمية تتولى تنشيط حركة طبع وترجمة الكتب والمطبوعات الإسلامية إلىكل لغات العالم بإعتبارها من أهم وسائل التعارف والتواصل مع جميع الأمم والشعوب الأخرى،كما كان الحال في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية في الأندلس وبغداد .. وعلى رأس هذه الكتب التى تبرز الحاجة الملحة إلى ترجمتها وطبعها معانى القرآن الكريم وكتب العقيدة والأحاديث الصحيحة والفقه الإسلامى وغيرها من الكنوز الإسلامية .. وما أكثر ما نطالع - عبر الإنترنت وغيره - أناسًا من غير المسلمين يناشدوننا إمدادهم بترجمة لمعانى القرآن الكريم وغيرها من الكتب والمراجع الإسلامية بلغاتهم،لأنهم لا يملكون أية مصادر للتعرف على الإسلام سوى وسائل الإعلام الغربية الحاقدة التى لا هم لها سوى إشاعة الخوف من الدين العظيم وتشويهه على الدوام ..
ملاحظة :(في أعقاب أحداث 11 سبتمبر نفدت ملايين من الكتب التى تتحدث عن الإسلام - إيجابًا أو سلبًا - من المكتبات الأمريكية خلال بضعة أشهر ،والأمر يحتاج إلى إمكانيات هائلة لا وجود لها سوى لدى الدول الإسلامية .
وقد أنعم الله علينا بثروات ضخمة من النفط وغيره،فلا أقل من إنفاق بعضها على وسائل الدعوة إلى الله،وما أعظمها من أوجه للإنفاق في سبيل الله وما أعظم الأجر عليها لمن يوفقه الله إلى ذلك ..
• ويلحق بهذا إعداد دائرة معارف إسلامية وموسوعة شاملة بكل اللغات المعروفة،وهو ما يفعله الآخرون لنشر مذاهبهم وعقائدهم وحضارتهم .. فلماذا لا نفعل هذا ونحن أصحاب الدين الحق والحضارة الرائدة ؟!!
• كذلك تبدو الحاجة ملحة إلى إصدار صحف ومجلات إسلامية عالمية بلغات مختلفة،لمواجهة الحرب الإعلامية الطاحنة التى يشنها الآخرون علينا،وعرض بضاعتنا النفيسة على الكافة .. ويكفى تخصيص جزء يسير من الميزانيات الضخمة لوزارات الإعلام في الدول العربية والإسلامية لتحقيق هذا الغرض النبيل،بدلاً من الدعاية ذات التوجهات الإقليمية لكل دولة على حدة !!!
• وكذلك دعم المساجد والمراكز الإسلامية والثقافية في الخارج وإنشاء المزيد منها، وإنشاء معاهد ومراكز أبحاث إسلامية، وإمدادها بكل الإمكانيات اللازمة لأداء رسالتها العظيمة في التعارف مع الآخرين والتواصل معهم،وتصحيح ما لديهم من مفاهيم خاطئة عن الإسلام والمسلمين،وذلك بإمدادها بكل الكتب المترجمة والمواد السمعية والبصرية التى تشرح الإسلام شرحًا صحيحًا، وبالسبل التى تتلاءم مع أنماط تفكير الأخرين .. ومن الضرورى بالطبع إعداد العاملين بتلك المراكز وتدربيهم على كيفية التحاور والتعامل مع الناس في البلاد التى يعملون بها .. وكما أشار مسئول فرنسى ذات مرة،فإنه ليس من المعقول أن يعمل أئمة مساجد ووعاظ مسلمون في فرنسا وهم لا يعرفون من الفرنسية كلمة واحدة،فضلاً عن جهلهم التام بالبيئة هناك وعادات وتقاليد الفرنسيين !! وما ذكره المسئول الفرنسى ينطبق أيضًا على كثير من الدعاة والأئمة في بلدان أجنبية أخرى .. إنه لا مفر أمام من يريد العمل في حقل الدعوة بالخارج من إتقان لغة البلد الذى سيعمل به، والإلمام بكل المعلومات الضرورية عن المجتمع الذى سيعيش فيه ويدعو أبناءه إلى الإسلام .. ومرة أخرى نشير إلى التفاوت الهائل بين إمكانيات المراكز الإسلامية والثقافية في الخارج - وهى ضئيلة جدًا - وإمكانيات مراكز وبعثات التنصير مثلاً التى يرصدون لها أرقاماً فلكية - عشرات المليارات من الدولارات سنويًا - وبطبيعة الحال فإننا نظلم العاملين بهذه المراكز الإسلامية إن طالبناهم بمجاراة الآخرين في ظل هذه الظروف، فالمعركة نظريًا غير متكافئة .. ومع ذلك فإنه بفضل الله وحده،ينتشر الإسلام بقوة دفع ذاتية عظيمة .. ويعجز المنصرون عن تحقيق معشار ما يحققه الإسلام من انتشار عظيم رغم كل ما ينفقون من أموال هائلة .. (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يوسف:21 .(2/48)
• وكذلك ينبغى تفعيل دور الملحقيات الثقافية والدينية في سفارات الدول العربية والإسلامية بالخارج، وجعلها حلقة تواصل وحوار مع الناس في الدول التى توجد بها هذه السفارات .. إذ إنه ليس من المعقول أن تنفق عشرات بل مئات الملايين على هذه الملحقيات سنويًا بغير عمل يُذكر-اللهم إلا إصدار نشرات دعائية للحكومات والمشاركة في استقبال ووداع كبار المسئولين القادمين لزيارة تلك البلدان في المطارات وإقامة حفلات التكريم لهم - إننا نطالب بتجاوز الشئون الإقليمية المحلية لكل بلد على حدة، فالتحديات القائمة والحملات المسعورة موجهة ضد الجميع،ومن البديهى أن يكون الدفاع ضدها مشتركًا، والتخطيط والتنسيق والتوجيه موحدًا أيضًا .. وليتنا ندع صراعاتنا وانقساماتنا ومشاكلنا الداخلية جانبًا لنتحاور مع الآخرين كجبهة موحدة تعمل فقط من أجل الإسلام ..
• إن الآخر لن يحترمنا ولن يقيم لنا وزنًا إن تعاملنا معه فرادى - مفككين ومتطاحنين - وكما سأل أحد خصوم الإسلام كاتب هذه السطور ذات مرة - في حوار عبر الإنترنت - : أى إسلام تريدون منا أن نتبعه،أهو الوهابية السعودية أم الشيعية الخومينية أم الصوفية أم .... إلخ ؟!!! بطبيعة الحال كان الجواب هو: أن الله واحد، والإسلام واحد، والقرآن الكريم كتاب واحد،والكل مسلمون على إختلاف المذاهب والبلدان والحكومات ..والإسلام العظيم حجة على الجميع ولا أحد حجة على الإسلام .. فالمنهج كامل شامل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،ولكن أخطاء البشر هى التى تسبب هذه المشاكل والصراعات والإنقسامات، وليس من المنطقى أن يتحمل الإسلام - عقيدة وشريعة - المسئولية عن أية انحرافات أو أخطاء بشرية ناجمة عن الخروج على أحكامه .. انتهت الإجابة .. لكن يبدو لى أيضًا أننا بحاجة إلى حوار داخل البيت الإسلامى أولاً قبل أن نخرج للتحاور مع الآخرين .. أليس كذلك ؟!!
• وهناك الدور الهام الذى يمكن للمبعوثين للدارسة بالخارج والقادمين من الخارج للدارسة بجامعاتنا القيام به لدعم الحوار والتفاهم والتبادل الحضارى بين الجانبين .
• بهذا الصدد نطالب بزيادة المنح الدراسية لغير المسلمين للدراسة بالجامعات الإسلامية في بلادنا لمنحهم الفرصة كاملة للإطلاع على حضارتنا وديننا وتعلم لغتنا،فبذلك نكسب أنصارًا جددًا لنا هناك .. إذ أن هؤلاء سوف يتأثرون قطعًا بما درسوه، وبمعايشتهم للمسلمين هنا، وسوف يتحول أغلبهم - حتى ولو لم يعتنقوا الإسلام - إلى محامين بارعين يتصدون للحملات المعادية لنا في بلادهم، ويتعاملون مع خصومنا بذات أساليبهم - باعتبارهم جزءًا من المجتمع - فهم أقدر منا وأكثر خبرة في التصدى لهؤلاء،وإجهاض مخططاتهم ضد ديننا وحضارتنا ..
• كذلك يتعين الإعداد الجيد للمبعوثين العرب والمسلمين إلى الخارج قبل سفرهم - حتى ذوو التخصصات العلمية البحتة ينبغى تزويدهم بجرعات كافية من الثقافة الإسلامية - ليتمكنوا من التحاور مع الآخرين والتواصل معهم عن علم ودراية، وأيضًا لنحميهم من الذوبان في المؤثرات الثقافية والحضارية المغايرة لثقافتنا وحضارتنا ..
ومن المؤلم جدًا أن كثيرًا من أبنائنا المبعوثين للخارج رغم تفوقهم في تخصصاتهم - كالطب والهندسة والكيمياء - فإن الحصيلة الثقافية الإسلامية لديهم متواضعة للغاية،ولهذا يعجزون عن التحاور مع الآخرين،ولا يحسنون تقديم إجابات صحيحة عن الإسئلة المحرجة التى يوجهها إليهم الجيران الأجانب في المسكن أو الزملاء في الجامعة عن الإسلام والمسلمين !!! والأكثر إيلامًا أن بعضهم لا يلتزم في حياته وسلوكياته بما ينبغى أن يكون عليه المسلم ليجد الآخرون فيه القدوة والمثال الطيب للمسلم !!!
وليت هؤلاء يتذكرون إن أسلافهم العظام - من التجار المسلمين وغيرهم -نشروا الإسلام في معظم أنحاء آسيا وأفريقيا بالقدوة الحسنة فقط لا غير، إذ كانوا قرآناً يمشى على الأرض فأحب الآخرون دينهم وأقبلوا عليه ..
• ومن السبل الجيدة للتحاور والتواصل مع الأخرين إقامة المؤتمرات والندوات الإسلامية الدولية .. على ألا يقتصر الحضور والمشاركة فيها على كبار المفكرين والعلماء من المسلمين وحدهم .. فيجب لكى تتحقق الأهداف المرجوة منها أن يُدعى إليها الكُتاب والمفكرون والإعلاميون المنصفون من غير المسلمين - وعددهم ليس بالقليل - وكذلك مشاهير الغرب من علماء ومفكرين ونجوم في شتى المجالات ممن اعتنقوا الإسلام،فهؤلاء يشكلون واحدة من أهم وسائط الحوار والتواصل مع مجتمعاتهم،وتأثيرهم هناك أفضل بكثير من غيرهم،لأنهم أدرى بمجتمعاتهم ومواطنيهم،وأقدر على التفاهم معهم بذات السبل والأساليب والمناهج الفكرية والإعلامية السائدة هناك .. وعلى سبيل المثال فإن الشعب الفرنسى يعلم جيدًا من هو الدكتور رجاء جارودى - الفيلسوف الذى أسلم وتحول إلى مفكر إسلامى بارز - والملايين هناك يقرأون كتبه ومقالاته ويتأثرون بها - والفرنسيون يعلمون أيضًا من هو الدكتور موريس بوكاى - العالم والطبيب والجراح الفرنسى الشهير الذى تحول للإسلام بعد دراسة عميقة - وقراء كتبه بالملايين .. إذن تأثير مثل هذين في فرنسا يبلغ أضعاف تأثير فريق كامل من الدعاة العرب . ولهذا تجب الاستعانة بأمثال هذين العملاقين وكذلك بالمنصفين من مفكرى الغرب غير المسلمين،فتأثيرهم هائل لأن ما يقولونه هو شهادة نجوم من الغرب وليسوا عربًا ولا مسلمين، وهى أقوى نفوذًا وتأثيرًا هناك بالقطع ..(2/49)
نشير أيضًا إلى المطرب العالمى كات ستيفن الذى اعتنق الإسلام وتحول إلى داعية إسلامى كبير في بريطانيا، وأسس دارًا للتعليم والدعوة في لندن، وقد اعتنق الإسلام على يديه مئات من الأوروبيين .. وكذلك الدكتور مراد هوفمان المفكر والسفير الألمانى الشهير الذى إعتنق الإسلام و كتب العديد من المؤلفات القيمة دفاعاً عن الإسلام والمسلمين .
• نرى أيضًا ضرورة إنشاء هيئة عالمية للحوار مع غير المسلمين وفى اعتقادنا أنه لابد أن تتمتع هذه الهيئة بالاستقلال عن جميع الحكومات والتيارات والجماعات السياسية كى نضمن لها الحرية والحياد المناسبين لأداء دورها المهم فى إدارة الحوار مع الآخر والتعريف بالإسلام والحضارة الإسلامية وتحقيق وظيفة التبادل الحضارى مع الآخرين بدون أية مؤثرات سياسية أو إقليمية أو أيديولوجية من أية جهة .. ويمكن أن تكون إحدى العواصم الأوروبية الكبرى مقرًا لهذه الهيئة ، وينبغى أن تضم فى عضويتها عددًا كافيًا من العلماء المؤهلين جيدًا وخبراء فى التحاور مع الشعوب الأخرى بلغات مختلفة ، وتستخدم فى أعمالها كافة وسائل الإعلام والتواصل بكل تقنيات العصر الحديث .
• إنشاء عدد من الجامعات والمعاهد والمدارس الإسلامية فى كل العواصم الكبرى بالخارج لتدريس العلوم الإسلامية لأبناء الجاليات الإسلامية هناك ، وأيضًا لتعريف الآخرين بالثقافة الإسلامية وتدريس مفاهيم الإسلام الصحيح لهم.. وكذلك دعم أقسام الدراسات الإسلامية واللغة العربية وإنشاء المزيد منها بشتى الجامعات العالمية الكبرى ، بشرط مهم هو تنقية مناهج الدراسة بتلك الأقسام من كل المعلومات الخاطئة المضللة عن الإسلام ، وأن يكون الإشراف عليها لعلماء مسلمين يكون لهم حق إلغاء أية مواد أو معلومات لا تتفق والمفاهيم الإسلامية الصحيحة .
• دعم المنصفين من المفكرين والإعلاميين والساسة الغربيين المناصرين للإسلام والمسلمين ماديًا وأدبيًا من خلال بند (المؤلفة قلوبهم) فى مصارف الزكاة، فنحن نرى أن هؤلاء المنصفين للإسلام وأهله تنطبق عليهم شروط استحقاق الأخذ من الزكاة تحت هذا البند ، لما لهم من دور عظيم وضرورى فى مواجهة الحملات المسعورة ضد الإسلام والمسلمين . ولمن شاء أن يرجع إلى كتب السيرة العطرة ، ليجد أن النبى صلى الله عليه وسلم أعطى رجالاً من قريش من غنائم غزوة حنين أموالاً طائلة ليؤلف قلوبهم ، وترك الأنصار ثقة فى قوة إيمانهم وسماحة نفوسهم (سيرة ابن هشام - فقه السيرة للغزالى - الرحيق المختوم للمباركفورى) .
===================
الحوار مع أتباع الأديان (مشروعيته وآدابه)
د. منقذ بن محمود السقار
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أنبياء الله أجمعين، عليهم وعلى نبينا أزكى الصلاة وأتم التسليم، وبعد:
فقد خلق الله آدم عليه السلام، وندبه وذريته من بعده إلى عمارة الأرض بمنهج الله: ] إني جاعل في الأرض خليفة[ (البقرة: 30)، ودعاهم تبارك وتعالى إلى التمسك بهديه الذي أرسل به أنبياءه: ] فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ (البقرة: 38).
وشاء الله بحكمته البالغة أن يختلف البشر في اتباعهم لأنبياء الله ورسله، فمنهم شقي وسعيد، وأرسل الله الأنبياء يقيمون حجته على خلقه، يدعونهم إلى دين الله الذي ارتضاه لخلقه ديناً ليكونوا من السعداء، ويحذرونهم من عصيان أمره حتى لا يكونوا من الأشقياء، ولكن إرسالهم لن يمنع تحقق ما قد سبق في علم الله، فإن أكثر الناس لا يؤمنون ]وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين[ (يوسف: 103).
وأمام هذه السنة الكونية فإن المسلم مطالب بدعوة الآخرين إلى الحق الذي شرح الله به صدره، وهو على يقين بأن هداية الله قد لا تكتب لكثيرين ممن يدعوهم، فلا يمنعه ذلك من بلاغهم: ] إن عليك إلا البلاغ [ (الشورى: 48).
وحين يعرض الناس عن دعوة الله ولا يؤمنون بها، فإن المسلم لا يتوقف عن التفاعل مع الآخرين اجتماعياً وحضارياً، رائده في ذلك كتاب ربه، وأسوته نبيه r، إذ القرآن أمر بالإحسان إلى الوالدين والجار، ولو كانوا على غير دين الإسلام، كما حثّ على البر وحسن العشرة مع الذين لم يتصدوا لمقاتلة المسلمين والاعتداء عليهم، كما كانت حياته r نبراساً في التسامح وحسن التعايش مع الآخرين، ممن اختاروا إلفهم من العقائد والأديان.
واليوم وقد أصبح العالم قرية صغيرة تتلاقح فيها الثقافات عبر وسائل الإعلام المختلفة، تزداد الحاجة إلى الحوار، وإلى ضرورة تأصيله من الناحية الشرعية، والمسلمون حين يمارسونه هم بأمسِّ الحاجة إلى معرفة مسوغاته الشرعية وآدابه ومحظوراته.
وإسهاماً منا في هذا الباب نضع بين يدي القارئ الكريم هذا الجهد المتواضع ، والذي نرجو أن يعالج بموضوعية علمية هذه المسألة الشائكة، التي كثر الجدال حولها بين مؤيد مندفع ومعارض متشكك.
وحين نتحدث عن الحوار فإنا لا نقصد بحال من الأحوال الحوار الذي يقوم على وحدة الأديان والتلفيق بينها وصهرها في دين عالمي جديد قائم على الجمع بين المتناقضات، الكفر والإيمان، التوحيد والوثنية، فتلك الدعوة دسيسة تسترت بالحوار ينأى المسلم بنفسه عنها ، كما سنبينه في حينه.
واللهَ نسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
زكىأا
التعريفات
أ. الحوار
أصله من الحور، وهو الرجوع عن الشيء إلى الشيء.
يقول ابن منظور: " الحَوْر: هو الرجوع عن الشيء إلى الشيء .. والمحاورة: المجاوبة، والتحاور التجاوب، والمحاورة: مراجعة المنطق، والكلام في المخاطبة ".[347]
وقال الراغب الأصفهاني: "المحاورة والحوار: المرادّة في الكلام، ومنه التحاور".[348](2/50)
وهذه المعاني اللغوية وردت في سياق الآيات الكريمة التي ورد فيها مادة (حور).
قال تعالى: ]إنه ظن أن لن يحور[ (الانشقاق:14). قال القرطبي : "أي لن يرجع حياً مبعوثاً.. فالحور في كلام العرب الرجوع".
وقال تعالى: ]فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً[ (الكهف 34). قال القرطبي: " أي يراجعه في الكلام ويجاوبه، والمحاورة: المجاوبة. والتحاور التجاوب". [349]
وقال تعالى: ]قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما [ (المجادلة: 1)، قال في الجلالين: "تراجعكما"[350] أي في الكلام.
وورد هذا المعنى أيضاً في غير ما حديث نبوي, من ذلك أن النبي r كان يستعيذ من : ((الحَوْر بعد الكَوْر)).[351] قال القرطبي : "يعني من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة".[352]
وقال r : (( من دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدو الله. وليس كذلك، إلا حار عليه ))[353] قال النووي: " رجع عليه ".[354]
ومما سبق تبين أن الحوار في معناه اللغوي هو مراجعة الكلام وتداوله، وهو ما يكون عادة بين شخصين أو بالأحرى بين طرفين أو أكثر.
ولم تبعد تعريفات أهل الاصطلاح للحوار عن المعاني اللغوية السابقة، فقد أكدتها وأضافت إليها بعض المعاني والقيم الأخلاقية التي ينبغي توفرها في الحوار.
ومن هذه التعريفات تعريف الدكتور صالح بن حميد، إذ اعتبر الحوار: " مناقشة بين طرفين أو أطراف، يُقصد بها تصحيح كلامٍ، وإظهار حجَّةٍ، وإثبات حقٍ، ودفع شبهةٍ، وردُّ الفاسد من القول والرأي ".[355]
وعرّفه بسام داود عجك بأنه: "محادثة بين شخصين أو فريقين , حول موضوع محدد , لكل منهما وجهة نظر خاصة به، هدفها الوصول إلى الحقيقة , أو إلى أكبر قدر ممكن من تطابق وجهات النظر، بعيداً عن الخصومة أو التعصب، بطريقة تعتمد على العلم والعقل , مع استعداد كلا الطرفين لقبول الحقيقة, ولو ظهرت على يد الطرف الآخر".[356]
وهكذا فالمحاورة هي تجاذب الكلام بين المختلفين، وما أضافه العلماء في تعريفه من شروط إنما هي ضوابط أخلاقية يفترض توفرها في الحوار ليكون مثمراً ومجدياً.
ب. الجدال
الجدال لغة: من جَدَلَ الحبل إذا فَتَلَه، قال ابن منظور: "الجدل: اللدد في الخصومة والقدرة عليها.. ويقال: جادلت الرجل فجدلته جدلاً، أي: غلبته. ورجل جدِل، إذا كان أقوى في الخصام. وجادله أي: خاصمه مجادلة وجدالاً ".[357]
وعن معنى الجدل عند أهل الاصطلاح يقول ابن منظور: "الجدل مقابلة الحجة بالحجة، والمجادلة: المناظرة والمخاصمة".[358]
وعرفه الجرجاني بأنه: "القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات، والغرض منه إلزام الخصم، وإفحام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان"، كما عرَّفه أنه: "دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة أو شبهة".[359]
وأما الجويني فيرى أن الجدال: "إظهار المتنازعَيْن مقتضى نظرَتهما على التدافع والتنافي بالعبارة أو ما يقوم مقامها من الإشارة والدلالة".[360]
وفي المعجم الوسيط: "طريقة في المناقشة والاستدلال، وهو عند مناطقة المسلمين قياس مؤلف من مشهورات أو مسلمات".[361]
وقد ورد إطلاق (الجدل) في نصوص القرآن والسنة على نوعين متباينين:
الأول: الجدل المذموم، وهو الذي يدور في طلب المغالبة لا الحق، أو الذي فيه نوع من الخصومة واللدد، ومنه قول الله تعالى: ]وقالوا ءآلهتنا خيرٌ أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قومٌ خصمون[ (الزخرف: 58)، ومثله قول الله تعالى في ذم جدال الكافرين : ]ما يجادل فى آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد[ (غافر: 4) ، وقوله تعالى: ]وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق[ (غافر: 5)، وقوله تعالى: ]لا جدال في الحج[ (البقرة: 197) قال ابن منظور: "قالوا: معناه لا ينبغي للرجل أن يجادل أخاه، فيخرجه إلى ما لا ينبغي".[362]
وفي الحديث: ((ما ضَلَّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أُوتوا الجدل)).[363]
والمراد بذلك كله الجدل على الباطل وطلب المغالبة به، لا الجدل بحثاً عن الحق وفي طلبه، فإن ذلك اللون من ألوان الجدل محمود.
والثاني : الجدل المحمود، وهو الذي يكون في طلب الحق بالأسلوب الحسن بعيداً عن الخصومة، ومنه قوله عز وجل: ]وجادلهم بالتي هي أحسن[ (النحل: 125).
وهو بهذا المعنى مرادف للحوار، قال تعالى واصفاً حديث المرأة إلى النبي r بالحوار والجدال، فقال: ] قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير[ (المجادلة: 1). قال ابن كثير: " وهو يحاوره، أي: يجادله ".[364]
وهكذا فالجدال صورة من صور الحوار، وقد أمر بها الله ورسوله، وتجنباً لما قد يكتنفه من اللدد في الخصومة فإنهما أمرا بالمجادلة بالتي هي أحسن، بعيداً عن ضروب الجدل المذموم الذي يفضي إلى الشقاق.
ج. المناظرة
المناظرة لغة "من النظير، أو من النظر بالبصيرة" كما عند الجرجاني، وقال ابن منظور: "والمنظر والمنظرة: ما نظرت إليه فأعجبك أو ساءك ... النظر: الفكر في الشيء تقدره وتقيسه منك ".[365]
أما في الاصطلاح فقد عرفها الجرجاني: "النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهاراً للصواب".[366]
وعرفها ابن منظور: "أن تناظر أخاك في أمر إذا نظرتما فيه معاً كيف تأتيانه".[367]
وقال الزَّبيدي: "والمناظرة المباحثة والمباراة في النظر واستحضار كل ما يراه ببصيرته".[368]
قال محمد الأمين الشنقيطي في تعريف المناظرة: "المحاورة في الكلام بين شخصين مختلفين يقصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول الآخر، مع رغبة كل منهما في ظهور الحق".[369]
فالمناظرة تفيد النظر والتفكر في الأمور والبحث عن الحق عن طريق المحاورة مع الآخرين.(2/51)
وحوار المناظرة يكون بين شخصين أو فريقين حول موضوع معين، بغية الوصول إلى تبيان الحق وكشف الباطل، مع توفر الرغبة الصادقة في ظهور الحق والانصياع له.
حتمية الخلاف
إن التعدّد في المخلوقات وتنوّعها سنة الله في الكون وناموسه الثابت، فلكل شيء في هذا الخلق طبيعته وخصائصه وصفاته التي تقارب غيره أحياناً، وتتنافر عنها في أحايين أخرى، وهكذا فطبيعة الوجود في الكون أساسها التّنوّع والتّعدّد.
والإنسانية خلقها الله وفق هذه السنة الكونية، فاختلف البشر إلى أجناس مختلفة وطبائع شتى، وكلّ من تجاهل وتجاوز أو رفض هذه السُّنة الماضية لله في خلقه، فقد ناقض الفطرة وأنكر المحسوس.
وقد جاء في القرآن الكريم ذكر بعض صور الاختلاف بين البشر، كاختلاف الألوان واللغات، وهما فرع عن اختلاف الأجناس والقوميات: ] ومن آياته خلق السّموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآيات للعالمين [ ( الروم: 22).
وقد أكدت الآيات أن اختلاف البشر في شرائعهم هو أيضاً واقع بمشيئة الله تعالى ومرتبط بحكمته، يقول الله: ]لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً[ (المائدة: 48).
قال ابن كثير : "هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث اللّه به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد ".[370]
وقال تعالى: ]ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم [ ( هود : 118– 119).
قال ابن حزم: "وقد نص تعالى على أن الاختلاف ليس من عنده، ومعنى ذلك أنه تعالى لم يرض به، وإنما أراده تعالى إرادة كونٍ، كما أراد الكفر وسائر المعاصي".[371]
قال القرطبي: "]ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة[ قال سعيد بن جبير: على ملة الإسلام وحدها.. ]ولا يزالون مختلفين[ أي: على أديان شتى قاله مجاهد وقتادة ".[372]
وقال ابن كثير: "]ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك[ أي: ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم .. قال الحسن البصري: الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك، فمن رحم ربك غير مختلف".[373]
ويقول الفخر الرازي : " والمراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال".[374]
بل يرى الحسن البصري ومقاتل وعطاء وغيرهم من المفسرين أن الله خلق الناس ليختلفوا، وذلك لقوله : ] ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم [ ( هود : 118– 119).
وذهب آخرون من المفسرين ومنهم ابن عباس ومجاهد وقتادة إلى أن اسم الإشارة يعود إلى الرحمة، أي: خلقهم ليرحمهم.
وذهب ابن جرير الطبري وابن كثير وغيرهما إلى عود الإشارة إلى الإثنين معاً، أي: خلقهم ليختلفوا، وليرحم من سلك الصراط المستقيم.[375]
يقول ابن سعدي: " يخبر الله تعالى أنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء، ولكنه اقتضت حكمته أن لا يزالوا مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم، متبعين للسبل الموصلة إلى النار..".
وعن قوله سبحانه: ] ولذلك خلقهم [ قال : "أي اقتضت حكمته، أنه خلقهم ليكون منهم السعداء [و]الأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذي هدى الله، والفريق الذي حقت عليهم الضلالة، ليتبين للعباد عدله وحكمته، وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر.. ".[376]
وفي معنى الآية يقول محمد رشيد رضا : " ]لو شاء ربك[ أيها الرسول الحريص على إيمان قومه الآسف على إعراض أكثرهم عن إجابة دعوته واتباع هدايته ] لجعل الناس أمة واحدة[ على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة، لا رأي لهم فيه ولا اختيار، وإذاً لما كانوا هم هذا النوع من الخلق المُسمّى البشر وبنوع الإنسان، بل كانوا في حياتهم الاجتماعية كالنحل أو كالنمل، وفي حياتهم الروحية كالملائكة مفطورين على اعتقاد الحقِّ وطاعة الله عز وجل، فلا يقع بينهم اختلاف. ولكنّه خلقهم بمقتضى حكمته كاسبين للعلم لا مُلْهَمين. وعاملين بالاختيار".[377]
ولما كان الاختلاف والتّعدّد آية من آيات الله، فإنّ الذي يسعى لإلغاء هذا التّعدّد كلية، فإنما يروم محالاً ويطلب ممتنعاً، لذا كان لابد من الاعتراف بالاختلاف.
والاعتراف بوقوع هذا الخلاف لا يعني إقرار هذه المختلفات ولا تسويغ الاختلاف فيها، لكنه يفرض على أهل الحق أن يتصدوا لهداية من قدروا على هدايته من المختلفين عنهم، مع يقينهم بالعجز عن إنقاذ الكثيرين ممن اختار العماية، قال تعالى: ]أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً[ (الرعد: 31).
قال القرطبي: " والمعنى على هذا: أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً أن يشاهدوا الآيات ".[378]
وعليه فإن هداية الجميع من المحال، فإن أكثر الناس لا يعلمون الحق، وأكثرهم لا يؤمنون به إن علموا به، وواجب الدعاة الدأب في دعوتهم وطلب أسباب هدايتهم، أي بذل الجهد في إزالة الخلاف ورفعه.
فإن أعرض من أعرض عن الإسلام فإنما أمر الله المسلمين بإبلاغ رسالاته في الدنيا، والله يتولى حساب المعرضين في الآخرة، قال الله مخاطباً نبيه r: ] فإن تولوا فإنما عليك البلاغ[ (النحل: 82).
قال القرطبي: " فإن تولوا أي أعرضوا عن النظر والاستدلال والإيمان؛ فإنما عليك البلاغ، أي ليس عليك إلا التبليغ، وأما الهداية فإلينا".[379]
وقال تعالى: ]فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصيرٌ بالعباد[ (آل عمران: 20).(2/52)
قال الطبري: " وإن أدبروا معرضين عما تدعوهم إليه من الإسلام وإخلاص التوحيد لله رب العالمين، فإنما أنت رسول مبلغ، وليس عليك غير إبلاغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه من خلقي وأداء ما كلفتك من طاعتي، ]والله بصير بالعباد[ يعني بذلك: والله ذو علم بمن يقبل من عباده ما أرسلتك به إليه، فيطيعك بالإسلام، وبمن يتولى منهم عنه معرضاً فيرد عليك ما أرسلتك به إليه، فيعصيك بإبائه الإسلام ".[380]
قال الشوكاني في سياق شرحه لقول الله تعالى: ] فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب[ (الرعد: 40): " أي: فليس عليك إلا تبليغ أحكام الرسالة، ولا يلزمك حصول الإجابة منهم، لما بلّغته إليهم، ]وعلينا الحساب[ أي: محاسبتهم بأعمالهم ومجازاتهم عليها، وليس ذلك عليك.
وهذا تسلية من الله سبحانه لرسوله r ، وإخبار له أنه قد فعل ما أمره الله به، وليس عليه غيره، وأن من لم يجب دعوته ويصدق نبوته، فالله سبحانه محاسبه على ما اجترم واجترأ عليه من ذلك".[381]
وقال تعالى: ]فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر[ (الغاشية: 21-22).
قال الطبري: " يقول: لست عليهم بمسلَّط، ولا أنت بجبار تحملهم على ما تريد، يقول: كِلْهم إليّ، ودعهم وحكمي فيهم... ".[382]
قال ابن كثير: " ]فإن أعرضوا[ يعني المشركين ]فما أرسلناك عليهم حفيظاً[ (الشورى: 48) أي: ]لست عليهم بمصيطر[ (الغاشية: 22)، وقال عز وجل: ]ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء[ (البقرة: 272)، وقال تعالى: ]فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب[ (الرعد: 40)، وقال جل وعلا في آية الشورى: ]إن عليك إلا البلاغ[ (الشورى: 48) أي: إنما كلفناك أن تبلغهم رسالة الله إليهم".[383]
فالإسلام - كما رأينا - يعترف بوجود الاختلاف وعدم إمكانية جمع الناس على دين واحد، ويطلب من الدعاة ورثة الأنبياء القيام بواجب البلاغ في الدنيا واستفراغ الوسع في الإرشاد والنصح للعالمين، ثم الله يتولى - بحكمه وعدله - يوم القيامة حساب المعاندين وجزاء المؤمنين.
تاريخ الحوار
منذ سطع نور الإسلام على الدنيا أدرك المسلمون طبيعة دينهم وعالمية رسالته، فقاموا يدعون الناس إلى هديه، فبدأ الحوار بين المسلمين ومشركي قريش، وسجل القرآن في آياته الكثير من هذه الحوارات، وتولى فيها الرد على المشركين.
وكان من أهم مناسبات الحوار هجرة أصحاب النبي r إلى الحبشة، وحوارهم مع النجاشي حول قول المسلمين في المسيح وأمه عليهما السلام.
وحين انتقل النبي r إلى المدينة بدأ الحوار مع أهل الكتاب من قطّان المدينة المنورة، وقد نقل القرآن الكثير من الحوارات التي طَلب من النبي r أن يجريها مع أهل الكتاب، والكثير منها كان يبدأ بقوله تعالى: ] يا أهل الكتاب [ (النساء: 171، المائدة: 15، 19، 59، 68، 77).
ومن حواره r مع يهود المدينة أن حبراً من اليهود يقال له مالك بن الصيف جاء يخاصم النبي r، فقال له النبي r : ((أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟)) وكان حبراً سميناً.
فغضب فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له أصحابه الذين معه: ويحك، ولا موسى؟ فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء. فأنزل الله: ] وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى[ (الأنعام: 91). [384]
وكان أهم اتصال بالنصرانية قدوم وفد نصارى نجران إلى المدينة وبقاؤهم فيها أياماً يناظرون رسول الله r وقد أذن لهم رسول الله بالصلاة في مسجده، وقال لأصحابه: ((دعوهم)) [385]، ونزل بسبب هذه الزيارة بضع وثمانون آية من صدر سورة آل عمران.
ولم تنقل إلينا كتب السنة إلا النزر اليسير عما دار بينهم وبين رسول الله r .
ومما نقل في ذلك ما ذكره ابن جرير في تفسيره أنه جاء راهبا نجران إلى النبي r، فعرض عليهما الإسلام ، فقال أحدهما : إنا قد أسلمنا قبلك . فقال: ((كذبتما. إنه يمنعكما عن الإسلام ثلاثة : عبادتكم الصليب، وأكلكم الخنزير، وقولكم لله ولد)).
قال : من أبو عيسى ؟ وكان r لا يعجل حتى يأتي أمر ربه ، فأنزل الله تعالى : ]إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون { (آل عمران: 59). [386]
وذكر الطبري بإسناده أيضاً أن نصارى نجران قالوا: " ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه ؟ قال: بلى. قالوا: فحسبنا. فأنزل الله عز وجل: } فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله { (آل عمران : 7). [387]
لكن الذي يثير الانتباه في زيارة وفد نصارى نجران ما نقله الطبري من اجتماع النبي r بهم في حضور وفد من يهود المدينة، فقد روى بإسناده إلى ابن عباس أنه "اجتمعت نصارى نجران وأحبار اليهود عند رسول الله، فتنازعوا عنده ، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهودياً. وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانياً. فأنزل الله: } ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً { (آل عمران: 67). [388]
وحين رجع وفد نجران إلى بلاده لم ينقطع حوارهم مع المسلمين ، ذلك أن النبي r أرسل معهم المغيرة بن شعبة، فكانوا يحاورونه ويطرحون عليه الأسئلة عن القرآن، ومن ذلك أنه أشكل عليهم مؤاخاة القرآن بين مريم وهارون، وبينهما زمن مديد، فقالوا للمغيرة: "ألستم تقرؤون: ] يا أخت هارون { (مريم: 28) ، وقد علمتم ما بين موسى وعيسى ... ".[389]
كما استقبل النبي r في مسجده عدي بن حاتم الطائي ، وحاوره في أخذه المرباع من قومه ، وهو لا يحل له في دينه ، ودعاه للإسلام فأسلم.[390]
واستقبل أيضاً الجارود بن عمرو في وفد عبد القيس، وكان نصرانياً؛ فدعاه إلى الإسلام، فأسلم. [391](2/53)
كما كانت مراسلة النبي r لملوك النصارى ومقدميهم نوعاً من الحوار، فقد أرسل أصحابه بكتبه إلى النجاشي وهرقل والمقوقس عظيم القبط وهوذة الحنفي صاحب اليمامة؛ يدعوهم للإسلام.
مع أن كتب التاريخ لم تنقل إلينا الكثير مما جرى بين سفراء النبي r والمرسلين إليهم إلا أنه من المؤكد تحاورهم، إذ هو ما تقتضيه السفارة.
ومما نقل في ذلك حوار حاطب بن أبي بلتعة مع المقوقس، فقد سأله المقوقس عن حرب النبي r مع أعدائه، فأجابه حاطب بأنه يَغلِب ويُغلَب، فقال المقوقس: أنبي الله يُغلب؟ فأجاب حاطب: أولد الله يُصلب؟ [392]
ومثله ما رواه ابن عبد البر في الاستيعاب من حديث حاطب بن أبي بلتعة أن المقوقس جمع بطارقته فقال: إني سأكلمك بكلام أحب أن تفهمه مني. قال: قلت: هلم. قال: أخبرني عن صاحبك أليس هو نبياً؟ قلت: بلى، هو رسول الله.
قال: فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه، حيث أخرجوه من بلدته إلى غيرها؟ فقلت له: فعيسى ابن مريم، أتشهد أنه رسول الله؟ فما له حيث أخذه قومه، فأرادوا صلبه ألّا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله حتى رفعه الله إليه في سماء الدنيا؟ قال: أحسنت، أنت حكيم جاء من عند حكيم. [393]
وحين دخل المسلمون مصر وبلاد الشام تحولت تلك الشعوب النصرانية إلى الإسلام دين الفاتحين الجدد، وهذا التحول ثمرة لأسباب متضافرة، أهمها الحوار الذي شاع بين المسلمين والنصارى في تلك الربوع.
ولئن كان التاريخ ذهل عن تسجيل حوارات عوام المسلمين مع غيرهم، والذي أسفر عن دخولهم الإسلام ، فإنه لم يغفل عن تسجيل الحوارات التي جرت في قصور السلاطين من المسلمين وغيرهم .
ومنه حوار الخليفة هارون الرشيد مع طبيبه النصراني ، واستعانته بعالم خراسان محمد بن عمر بن واقد.[394]
كما جمع الخليفة المأمون بين كلثوم بن عمرو العتابي وابن فروة النصراني، وتناظرا بين يديه في قول النصارى بألوهية المسيح.[395]
كما وفد القاضي أبو بكر محمد الباقلاني على ملك الروم في القسطنطينية بأمر من المعتضد العباسي، والحوار الذي جرى بينه وبين ملك الروم وراهبهم مشهور في كتب التاريخ.[396]
ونقل صاحب عيون المناظرات قصة فيلسوف نصراني قدم بغداد، وأسلم بعد حواره مع نخبة من علماء المسلمين ، جمعهم الخليفة في قصره ، منهم الصالحي والجبائي والكعبي والأشعري. [397]
وبعيداً عن قصور الأمراء تحاور العلماء المسلمون مع غيرهم ، ولعل من أوائل ما نقل في هذا الصدد حوار أبي حنيفة النعمان بن ثابت مع طائفة من الملاحدة حول سببية العالم. [398]
وكذلك حوار الفخر الرازي الطويل مع قسيس في خوارزم في موضوعات أهمها نبوة النبي r وهل معجزات عيسى تدل على نبوته أو ألوهيته؟[399]
ثم مناظرة ابن القيم لأحد رؤساء اليهود حول نبوة النبي r .[400]
كما كتب العلماء العشرات من الكتب والردود على مختلف محاوريهم، فازدهر حوار الكتب، ومنه كتاب "الجواب الصحيح" لابن تيمية، وهو يرد فيه على كتاب ورد من قبرص بعنوان: "الكتاب المنطيقي الدولة خاني المبرهن عن الاعتقاد الصحيح والرأي المستقيم " لراهب صيدا الأسقف بولص الراهب.
كما كتب أبو الوليد الباجي رسالة رد فيها على رسالة وجهها راهب فرنسا إلى المقتدر أمير سرقسطة يدعوه فيها للدخول في النصرانية. [401]
وكتب أبو عبيدة الخزرجي القرطبي كتابه المشهور باسم " مقامع هامات الصلبان، ومراتع روضات الإيمان "[402] رداً على أسئلة كان يثيرها قسيس من القوط على نفر من المسلمين بطليطلة.
ولم تنقطع الحوارات والكتب المتبادلة بين المسلمين وغيرهم، وإن خَفَت بريقها مع تراجع الحركة العلمية عند المسلمين.
ومع بداية الحركة الاستعمارية الغربية تجدد الحوار بين المسلمين ومستعمريهم، ولعل من أبرز ما يذكر في هذا الصدد الحوار الذي جرى بين العلامة رحمة الله الهندي والقس كئي ومساعده القس فرنج، ثم جرت المناظرة الكبرى بينه وبين القس فندر في شهر رجب من عام 1270هـ رداً على النشاط التنصيري في الهند.
وفي القرن الميلادي العشرين نشط الحوار بين الأديان ، ودعي المتحاورون إلى عدد من المؤتمرات، منها مؤتمر تاريخ الأديان الدولي في بروكسل في عام 1935م، والمؤتمر العالمي للأديان المنعقد في لندن عام 1936م ، ثم في جامعة السوربون عام 1937م.
ونشطت الدعوة إلى حوار الأديان إثر انعقاد مجمع الفاتيكان الثاني 1965م والذي دعا لاستئناف الحوار مع الأديان، وأنشأ مؤسسات خاصة بذلك داخل الفاتيكان تولت الدعوة لعدد من المؤتمرات واللقاءات بين القيادات الدينية في العالم، ثم توالت الحوارات والدعوات من مختلف المؤسسات والمنظمات والدول الإسلامية وغيرها.
والمتأمل في هذه القراءة التاريخية السريعة في تاريخ الحوار؛ لن تخطئ عينه رؤية ما قدمه الإسلام من نماذج حوارية فريدة منذ بعث النبي r ، نماذج لم تتوقف في تاريخنا الطويل، وهي تدعونا لاستئناف الحوار الحضاري وتنشيطه من جديد، وأخذ زمام المبادرة إليه، استجابة لأمر الله تعالى، وتأسياً واتباعاً لنهج نبينا r.
أنواع الحوار ومشروعيتها
إن المتتبع لتاريخ الحوار بين أهل الإسلام وغيرهم من أتباع الملل في القديم والحديث يجد أنواعاً ثلاثة من الحوار تتداخل فيما بينها أحياناً، وتفترق في أحايين أُخر.
وفي هذا المبحث نود الوقوف مع كل نوع منها وبيان حكمه وأهم موضوعاته وخصائصه.
أ. حوار الدعوة(2/54)
وهو أهم أنواع الحوار وأعظمها، حيث عمد أنبياء الله وورثتُهم من العلماء والدعاة إلى حوار الكافرين بغية تعريفهم بدين الله وإنقاذهم به، فالحوار الدعوي أحد أعظم وسائل الدعوة إلى الإسلام، حيث يعمد المحاور المؤمن إلى تبيان مبادئ الإسلام وفضائله ويوضح لمحاوريه ما أعده الله للمؤمنين به من عظيم الأجر وحسن المثوبة، وما توعد به الكافرين من أليم عذابه وعقابه.
ولما كان لا يتصور رجوع الناس عن معتقداتهم وإلفهم لمجرد عظة سمعوها، إذ تثور في الأذهان تساؤلات تبحث عمن يجيب عنها، ويجلي الحق فيها، كان لا بد من الحوار.
لذا تتركز موضوعات حوار الدعوة حول التعريف بالله تبارك وتعالى وصفاته، وبالإيمان ونواقضه، وباليوم الآخر وسبيل النجاة والخلاص فيه.
ويمتاز حوار الدعوة عن غيره من أنواع الحوار بخصائص وسمات، منها:
– الهدف من حوار الدعوة، الدعوة إلى الإسلام والسعي إلى إقناع الآخرين بأن الإسلام هو دين الله الذي لا يقبل الله من العباد غيره.
– التركيز في مجادلة أهل الكتاب على القضايا العقدية الفاصلة، ومحاجتهم، ومناظرتهم، لدحض شبهاتهم، ونقض حججهم، بأسلوب علمي رفيق، ثم مباهلتهم إن لزم الأمر.
- أخذ المسلمين بزمام المبادرة في هذا اللون من الحوار، إذ هو استجابة لطبيعة دينهم، ويتحقق ذلك باستضافتهم في دار المسلمين، واستقبال وفودهم، والكتابة إليهم، وغشيانهم في محافلهم وبيوتهم لدعوتهم، إذ الدعوة والبلاغ واجب المسلم بمقتضى إسلامه.
- تغلب الصفة والعلاقات الشخصية على هذا اللون من ألوان الحوار الذي يبتعد عن الصفة الرسمية التي تغلب على حوار التعامل والتعايش كما سيتبين في حينه.
والمتتبع لما ورد ذكره في القرآن عن أحوال الأنبياء يظهر له أهمية هذا اللون من ألوان الحوار ، الذي لم تُغفِله دعوة نبي منهم أو مصلح ممن تبعهم بإحسان.
فها هو نوح عليه السلام يجادل ويحاور قومه قروناً طويلة، من غير كلل ولا ملل، دعاهم ليلاً ونهاراً، أسر لهم، وأعلن لهم جهاراً، فقالوا : ]يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين[ (هود: 32).
وعلى هذا الهدي سار أنبياء الله من بعد نوح، فقصَّ الله علينا في القرآن حوار إبراهيم مع النمرود، وحوار موسى مع فرعون، بل وذكر لنا الكثير من حوار الأنبياء مع أقوامهم.
قال ابن تيمية: " فأما المجادلة الشرعية كالتي ذكرها الله تعالى عن الأنبياء عليهم السلام وأمر بها في مثل قوله تعالى: )قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا( (هود: 32) وقوله: )وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه( (الأنعام: 83) وقوله: )ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه( (البقرة: 258) وقوله: )وجادلهم بالتي هي أحسن( (النحل: 125) وأمثال ذلك فقد يكون واجباً أو مستحباً، وما كان كذلك لم يكن مذموماً في الشرع".[403]
وأرسل الله محمداً خاتم الرسل داعياً إلى الله ومبشراً بدينه، آمراً إياه بدعوة العالمين إلى هذا الدين: ]ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن[ (النحل : 125).
وقد اعتبر العلماء المجادلة والمناظرة والحوار من واجبات الإسلام التي أوجبها الله على أهل العلم والبصيرة، واستدلوا بما سبق ذكره من نصوص قرآنية تحدثت عن أمر الله لأنبيائه بالحوار أو فعلهم عليهم الصلاة والسلام.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في سياق حديثه عن قول الله تعالى : ]ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن[ (النحل : 125): "والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ونحو ذلك مما أوجبه الله على المؤمنين، فهذا واجب على الكفاية منهم. وأما ما وجب على أعيانهم، فهذا يتنوع بتنوع قدرهم وحاجتهم ومعرفتهم ".[404]
وفي هذا الصدد يستدل ابن حزم على وجوب الجدال والمناظرة بقول النبي r : ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)).[405] ويقول: "وهذا حديث في غاية الصحة، وفيه الأمر بالمناظرة وإيجابها كإيجاب الجهاد والنفقة في سبيل الله".[406]
وبالنظر إلى آثار الحوار ونجاعة طريقته في نشر الحق يجزم ابن حزم بفضل هذا الأسلوب من أساليب الدعوة، ويراه أنجع من غيره من وسائل حماية الدعوة كالجهاد في سبيل الله، إذ "قد تُهزم العساكر الكبار، والحجة الصحيحة لا تُغلب أبداً، فهي أدعى إلى الحق، وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمّة .. لأن السيف مرة لنا، ومرة علينا، وليس كذلك البرهان، بل هو لنا أبداً، ودامغ لقول مخالفينا، ومزهق له أبداً.
ورُبَّ قوة باليد قد دمغت بالباطل حقاً كثيراً، فأزهقته … وقد قتل أنبياء كثير وما غُلبت حجتهم قط ".
وفي المقابل، فإن "أفاضل الصحابة الذين لا نظير لهم؛ إنما أسلموا بقيام البراهين على صحة نبوة محمد r عندهم، فكانوا أفضل ممن أسلم بالغلبة بلا خلاف من أحد المسلمين".[407]
ويثني ابن حزم بدليل آخر، فيقول: "أول ما أمر الله عز وجل نبيه محمداً r أن يدعو له الناس بالحجة البالغة بلا قتال، فلما قامت الحجة وعاندوا الحق أطلق الله تعالى عليهم السيف حينئذ، وقال تعالى: )قل فلله الحجة البالغة( (الأنعام: 149). وقال تعالى: )بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق( (الأنبياء: 18)".[408]
يقول ابن تيمية: "فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفّى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين".[409](2/55)
وكأني به - رحمه الله - يرد على ما سيقول الصفدي في ترجمته ، فقد قال: "وضيّع الزمان في رده على النصارى والرافضة ومن عاند الدين وناقضه، ولو تصدى لشرح البخاري أو لتفسير القرآن العظيم لقلّد أعناق أهل العلوم بدرِّ كلامه النظيم". [410]
ويقول ابن القيم داعياً إلى محاورة أهل الكتاب: "جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحباب ذلك، بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يرجى إسلامه منهم وإقامة الحجة عليهم، ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة، فليولِ ذلك إلى أهله، وليخلِ بين المطي وحاديها، والقوس وباريها ".[411]
وأما موضوع الدعوة والحوار فإنه حول أصول الدين وسبيل سعادة الدارين: ]يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [(آل عمران: 64).
قال الطبري : " قل يا محمد لأهل الكتاب - وهم أهل التوراة والإنجيل – ]تعالوا[ هلموا ] إلى كلمة سواء[، يعني إلى كلمة عدل بيننا وبينكم، والكلمة العدل هي أن نوحد الله، فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه، فلا نشرك به شيئاً.
وقوله: ]ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً[ يقول: ولا يدين بعضنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله ويعظمه بالسجود له كما يسجد لربه، ]فإن تولوا[ يقول: فإن أعرضوا عما دعوتهم إليه من الكلمة السواء التي أمرتك بدعائهم إليها، فلم يجيبوك إليها، فقولوا أيها المؤمنون للمتولين عن ذلك: ]اشهدوا بأنا مسلمون[ ".[412]
والنبي r كانت دعوته ترجماناً واقعاً لما أمر الله تعالى به من دعوة، فقد دعا r المشركين إلى الإسلام على اختلاف مذاهبهم ومللهم، وكان r يدعوهم ويحاورهم، وخص أهل الكتاب بمزيد من عنايته، وكان أبرز هذه الحوارات حواره مع نصارى نجران، ومكاتباته لملوك الأرض.
كما كان رسول الله r يغشى الناس في مجالسهم يدعوهم ويحاورهم، ومنه ما رواه الإمام أحمد من حديث عوف بن مالك قال: انطلق النبي r يوماً وأنا معه، حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيد لهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله r: ((يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلاً يشهدون أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضبَ الذي غضب عليه)). قال: فأسكتوا، ما أجابه منهم أحد، ثم رد عليهم، فلم يجبه أحد، ثم ثلّث فلم يجبه أحد.
فقال: ((أبيتم، فوالله إني لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا النبي المصطفى، آمنتم أو كذبتم)).
ثم انصرف وأنا معه، حتى إذا كدنا أن نخرج، نادى رجل من خلفنا: كما أنت يا محمد. قال: فأقبل. فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلمون فيكم يا معشر اليهود؟ قالوا: والله ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم بكتاب الله منك ولا أفقه منك ولا من أبيك قبلك ولا من جدك قبل أبيك.
قال: فإني أشهد له بالله أنه نبي الله الذي تجدونه في التوراة. قالوا: كذبت. ثم ردوا عليه قوله، وقالوا فيه شراً.
قال رسول الله r: ((كذبتم، لن يقبل قولكم، أما آنفاً فتثنون عليه من الخير ما أثنيتم، ولما آمن كذبتموه، وقلتم فيه ما قلتم، فلن يقبل قولكم)).
قال: فخرجنا ونحن ثلاثة رسول الله r وأنا وعبد الله بن سلام، وأنزل الله عز وجل فيه: ]قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين[ (الأحقاف: 10). [413]
ومن صور الحوار في الصدر الأول ما يحكيه ثوبان رضي الله عنه، إذ يقول: كنت قائماً عند رسول الله r، فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد. فدفعتُه دفعة كاد يصرع منها. فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول: يا رسول الله؟ فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله. فقال رسول الله r: ((إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي)). فقال اليهودي: جئت أسألك. فقال له رسول الله r : ((أينفعك شيء إن حدثتك؟)) قال: أسمع بأذني. فنكت رسول الله r بعود معه فقال: ((سل)).
فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله r : ((هم في الظلمة دون الجسر)).
قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: ((فقراء المهاجرين)).
قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: ((زيادة كبد النون)).
قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ قال: ((ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها)).
قال: فما شرابهم عليه؟ قال: ((من عين فيها تسمى سلسبيلا)). قال: صدقت.
قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان؟ قال: ((ينفعك إن حدثتك؟)) قال: أسمع بأذني. قال: جئت أسألك عن الولد. قال: ((ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا منيُُّ الرجل منيَّ المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا منيُّ المرأة منيَّ الرجل آنثا بإذن الله)).
قال اليهودي: لقد صدقت، وإنك لنبي، ثم انصرف فذهب، فقال رسول الله r: ((لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه، وما لي علم بشيء منه، حتى أتاني الله به)).[414]
إذاً نخلص إلى القول بأن حوار الدعوة واجب ديني تتابعت النصوص على الدعوة إليه، وهو مطلب أخلاقي يفرضه علينا رحمتنا بالآخرين، وحرصنا على هدايتهم، واستنقاذهم من أوضار الكفر والعقاب الأخروي.
ب. حوار التعامل
رأينا أن بقاء الاختلاف بين البشر في أديانهم ومللهم واقع، شاءه الله بمشيئته وإرادته الكونية، فكيف يتعايش المختلفون؟ وماهو الأسلوب الأمثل لبناء العلاقات البشرية؟ أوليس هو الحوار والتعايش والبحث عن القواسم الحياتية المشتركة؟(2/56)
إن الضرورة الحياتية تؤزنا للبحث عن قواسم مشتركة نبني عليها علاقاتنا، وهو ما يملي على المختلفين في عقائدهم ومذاهبهم اللجوء إلى لون آخر من ألوان الحوار، وهو حوار التعامل، وهو حوار بعيد عن أصول الدين والمعتقد، حوار تفرضه السياسة الشرعية، وتمليه طبيعة التعايش بين البشر؛ بحكم الجوار والمصالح المتبادلة.
وقد بينت الشريعة بنصوصها أو بقواعدها العامة الأسس والضوابط المتعلقة بهذا اللون من ألوان الحوار.
وقد ظهر مثل هذا اللون من حوار التعامل والتقارب المعيشي منذ نشأة الدولة الإسلامية في المدينة، حيث عقد النبي r عهوداً مع يهود المدينة، كما أبرم صلح الحديبية مع كفار قريش، وحوى الفقه الإسلامي بمذاهبه المختلفة تراثاً ضخماً في مجال العلاقات الدولية التي بينت للمسلمين أصول التعامل مع مختلف البشر.
ويركز هذا اللون من الحوار على النقاط المشتركة التي يتفق عليها المتحاورون، فيهدفون إلى تعميقها والتكاتف في سبيلها، وغالباً ما تصطبغ بالصبغة الأخلاقية أو المصلحية، كالحوار حول السلام العالمي والتعايش بين الأمم ومكافحة الشذوذ ومعالجة قضايا الانحلال الأخلاقي والتفكك الأسري.
وأبرز معالم هذا النوع من الحوار:
• الاعتراف بوجود الآخر واختياره للدين والمعتقد.
• الاعتراف باختلاف المتحاورين وخصوصية كل دين، ونبذ التوفيق والتلفيق بين أديان الأطراف المتحاورة.
• تجنب أو الحذر في البحث في المسائل العقدية الفاصلة، حفاظاً على استمرارية الحوار وضمان ديمومة التعاون على تحقيق القيم أو المصالح المشتركة.
• تجنب إطلاق الألفاظ المفسدة لأجواء الحوار، كإطلاق الكفر على المحاورين أو الحديث عن خلودهم في النار أو الطعن في مقدساتهم، وتجنب هذا ليس تسويغاً له البتة.
• إبراز أوجه التشابه والاتفاق بين الأطراف المتحاورة، والتركيز عليها لاستثمارها وتنميتها، وإقصاء أوجه التباين والافتراق لما لها من أثر سلبي على الحوار.
• الدعوة إلى معرفة الآخر كما يريد هو أن يُعرف، ورفع الأحكام المسبقة عنه، مع التأكيد على الدعوة إلى نسيان الماضي التاريخي، والاعتذار عن أخطائه، والتخلص من آثاره.
وهذا اللون من الحوار مشروع وجائز، فقد شهد النبي r في شبابه حلف المطيبين الذين اتفقوا على رد المظالم وإعانة المظلوم، وهو لون من اللقاء حول أسباب التعايش.
وحين بُعث عليه الصلاة والسلام أكد مشروعية مثل هذا العمل النبيل والتزامه به فقال : (( ما شهدت من حلف إلا حلف المطيبين , وما أحب أن أنكثه، وأن لي حمر النعم))، وفي رواية أنه قال: (( ولو دعيت به اليوم في الإسلام لأجبت)). وفي رواية عزاها ابن كثير في السيرة إلى الحميدي: ((لو دعيت به في الإسلام لأجبت؛ تحالفوا أن ترد الفضول على أهلها، وألا يعز ظالم مظلوماًً)).[415] فقد أقر r اللقاء مع الكافر على مثل هذه القيمة النبيلة والخصلة الحميدة.
قال ابن حجر في الفتح: " وكان حلفهم أن لا يعين ظالم مظلوماً بمكة, وذكروا في سبب ذلك أشياء مختلفة محصلها: أن القادم من أهل البلاد كان يقدم مكة، فربما ظلمه بعض أهلها فيشكوه إلى من بها من القبائل، فلا يفيد , فاجتمع بعض من كان يكره الظلم ويستقبحه، إلى أن عقدوا الحلف , وظهر الإسلام وهم على ذلك ". [416]
وقال القرطبي رحمه الله: "ذكر ابن إسحاق قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان لشرفه ونسبه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه، حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وهو الذي قال فيه الرسول r : ((لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت))، وهذا الحلف هو المعنى المراد في قوله عليه السلام: ((وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة))[417]، لأنه موافق للشرع إذا أمر بالانتصاف من الظالم".[418]
قال المباركفوري : "قوله: (( أوفوا )) من الوفاء، وهو القيام بمقتضى العهد ((بحلف الجاهليّة)) أي العهود الّتي وقعت فيها، ممّا لا يخالف الشّرع لقوله تعالى: ]أوفوا بالعقود [ (المائدة: 1) لكنّه مقيّدٌ بما قال اللّه تعالى: ] وتعاونوا على البرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان [ (المائدة: 2)، (( فإنّه )) أي الإسلام (( لا يزيده )) أي حلف الجاهليّة الّذي ليس بمخالفٍ للإسلام (( إلّا شدّةً )) أي شدّة توثّقٍ، فيلزمكم الوفاء به".[419]
قال ابن القيم: " وأمّا قول النّبيّ r : ((شهدت حلفاً في الجاهليّة ما أحبّ أنّ لي به حمر النّعم , لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت))، فهذا - واللّه أعلم - هو حلف المطيّبين , حيث تحالفت قريش على نصر المظلوم , وكفّ الظّالم ونحوه , فهذا إذا وقع في الإسلام كان تأكيدًا لموجب الإسلام وتقوية له. وأمّا الحلف الّذي أبطله فهو تحالف القبائل : بأن يقوم بعضها مع بعض وينصره، ويحارب من حاربه , ويسالم من سالمه. فهذا لا يعقد في الإسلام".[420]
قال ابن حجر : " ذكره ابن إسحاق وغيره , وكان جمع من قريش اجتمعوا فتعاقدوا على أن ينصروا المظلوم وينصفوا بين النّاس ونحو ذلك من خلال الخير , واستمرّ العمل بهذا الحلف بعد البعثة النبوية , ويستفاد من حديث عبد الرّحمن بن عوف أنّهم استمرّوا على ذلك في الإسلام , وإلى ذلك الإشارة في حديث جبير بن مطعم...".[421]
ومما يؤكد ديمومة هذا الحلف في الإسلام أنه كان بين الحسين بن علي وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان منازعة في مال كان بينهما بذي المروة، فكان الوليد يتحامل على الحسين بن علي بسلطانه في حقه، فقال الحسين بن علي : أحلف بالله لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله r، ثم لأدعون بحلف الفضول.(2/57)
فقال عبد الله بن الزبير، وهو عند الوليد، حين قال الحسين ما قال : وأنا أحلف بالله لئن دعا بها لآخذن سيفي، ولأقومن عنده ومعه، حتى ينصف من حقه، أو نموت جميعاً".[422]
وقد يشكل هنا قول النبي r: ((لا حلف في الإسلام))، فيفهم منه قطع الحلف، وهذا المعنى غير صحيح، فالرواية في صحيح مسلم من حديث جبير بن مطعم: ((لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة)).[423]
وتأكيداً لهذا الفهم نسوق رواية البخاري عن أنس بن مالك، لما سئل: أبلغك أن النبي r قال: ((لا حلف في الإسلام))؟ قال: قد حالف النبي r بين قريش والأنصار في داري. [424]
قال الطبري: " ما استدل به أنس على إثبات الحلف لا ينافي حديث جبير بن مطعم في نفيه , فإنّ الإخاء المذكور كان في أوّل الهجرة ، وكانوا يتوارثون به , ثم نسخ من ذلك الميراث وبقي ما لم يبطله القرآن، وهو التّعاون على الحقّ والنّصر والأخذ على يد الظالم كما قال ابن عباس : إلا النصر والنصيحة والرفادة ويوصى له." [425]
وقال القرطبي: "قال العلماء: فهذا الحلف الذي كان في الجاهلية هو الذي شده الإسلام، وخصه النبي عليه الصلاة والسلام من عموم قوله: ((لا حلف في الإسلام)) والحكمة في ذلك أن الشرع جاء بالانتصار من الظالم وأخذ الحق منه وإيصاله إلى المظلوم، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجاباً عاماً على قدر من المكلفين، وجعل لهم السبيل على الظالمين، فقال تعالى: ]إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم[ (الشورى: 42)".[426]
وقال ابن حجر: "ويمكن الجمع بأن المنفيّ ما كانوا يعتبرونه في الجاهليّة من نصر الحليف ولو كان ظالماً، ومن أخذ الثّأر من القبيلة بسبب قتل واحد منها، ومن التّوارث ونحو ذلك , والمثبت ما عدا ذلك من نصر المظلوم والقيام في أمر الدّين ونحو ذلك من المستحبّات الشّرعيّة كالمصادقة والمواددة وحفظ العهد".[427]
وهكذا، فإن الأمة المسلمة لا تتوقف في حوارها مع الآخرين على القضايا الدينية، بل تمد أيديها إلى الآخرين ، وهي تسعى في حوارها إلى تحقيق المصالح المشتركة التي تنشدها الأطراف المختلفة ، عبر حوار التعامل والتعايش الذي يؤمِّن المزيد من الاستقرار والرخاء لشعوب الإنسانية، ويعين البشرية على تجاوز الكثير من الشرور على الصعيد الاجتماعي والأخلاقي والسياسي، وغيرها.
ج 0 حوار الوحدة
وهو الحوار الذي يهدف إلى إزالة الفروق والاختلافات العقدية والشعائرية بين المتحاورين وتمييع خصائص الأديان وتجاوزها تجاه وحدة الأديان والتقريب بينها.
وهذه الدعوة التلفيقية قديمة متجددة، ترعاها مؤسسات من مختلف الملل والنحل، ولكل منها أهدافه التي يرنو من خلالها إلى اجتذاب الآخرين وصهرهم في بوتقته.
ولعل من أبرز من ينادي بالوحدة بين الأديان؛ الحركة الماسونية بمناشطها ومؤسساتها المختلفة وامتداداتها المعاصرة، يقول محمد رشاد فياض رئيس محفل الشرف الأعظم الماسوني محققاً هدف الماسونية المزعوم المتمثل في الإخاء الإنساني: "الميمات الثلاثة في الموسوية والمسيحية والمحمدية يجتمعون [هكذا] في ميم واحدة هي ميم الماسونية، لأن الماسونية عقيدة العقائد.. وإن باءَيْ البوذية والبرهمية يجتمعان في باء البناء، بناء هيكل المجتمع الإنساني".[428]
ووصل هذا الاتجاه التلفيقي إلى المسلمين أول ما وصل عن طريق غلاة الصوفية من القائلين بالحلول والاتحاد، كابن سبعين وابن هود والتلمساني .. حيث يجوزون التدين بمختلف الأديان، يقول ابن تيمية: " بل يجوزون التهود والتنصر، وكل من كان من هؤلاء واصلاً إلى علمهم فهو سعيد، وهكذا تقول الاتحادية منهم, كابن سبعين وابن هود والتلمساني ونحوهم، ويدخلون مع النصارى بيعهم، ويصلون معهم إلى الشرق، ويشربون معهم ومع اليهود الخمر، ويميلون إلى دين النصارى أكثر من دين المسلمين".[429]
يقول ابن عربي:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن دينه إلى ديني داني
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
وقد كان جهل التتار بالإسلام سبباً في تبنيهم لهذه الدعوة أيضاً، يقول ابن تيمية رحمة الله عليه : "فهم يدعون دين الإسلام ويعظمون دين أولئك الكفار على دين المسلمين ويطيعونهم ويوالونهم أعظم بكثير من طاعة الله ورسوله وموالاة المؤمنين ... وكذلك الأكابر من وزرائهم وغيرهم يجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنصارى، وأن هذه كلها طرق إلى الله بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين، ثم منهم من يرجح دين اليهود أو دين النصارى، ومنهم من يرجح دين المسلمين، وهذا القول فاش غالب فيهم حتى في فقهائهم وعبّادهم، لاسيما الجهمية من الاتحادية الفرعونية ونحوهم، فإنه غلبت عليهم الفلسفة، وهذا مذهب كثير من المتفلسفة أو أكثرهم".[430]
ويقول رحمه الله: " وهذا من جنس جهال التتر أول ما أسلموا، فإن الإسلام عندهم خير من غيره، وإن كان غيره جائزاً ".[431]
ثم دبَّت الحياة من جديد في فكرة وحدة الأديان على أيدي البهائية الباطنية، ثم جمال الدين الأفغاني ومدرسته العقلانية، فقد أسس محمد عبده، والقس الإنجليزي إسحاق تيلور، وجمال رامز بك (قاضي بيروت)، بمشاركة نفر من الإيرانيين، أسسوا جمعية سرية للتقريب بين الأديان في بيروت، وذلك عام (1301هـ/ 1883م).
يقول الأفغاني في الأعمال الكاملة: " هكذا نجد الأديان الثلاثة : الموسوية والعيسوية والمحمدية على تمام الاتفاق في المبدأ والغاية .. لقد لاح لي بارق أمل كبير: أن تتحد أهل الأديان الثلاثة مثل ما اتحدت الأديان في جوهرها وأصلها وغايتها".(2/58)
ثم يشنع الأفغاني على الذين يصرون على اختلاف الأديان الذين أسماهم: "المزاربة الذين جعلوا كل فرقة بمنزلة حانوت، وكل طائفة كمنجم من مناجم الذهب والفضة، ورأس مال تلك التجارات ما أحدثوه من الاختلافات الدينية والطائفية والمذهبية".[432]
وفي عام 1987م دعا المفكر الفرنسي روجيه جارودي ـ عقب إعلانه اعتناق الإسلام ـ إلى الملتقى الإبراهيمي في قرطبة، واتخذ من (القلعة الحرة) مقراً لمؤسسته ومتحفه ومناشطها التلفيقية التوحيدية.
يقول جارودي: "إنني عندما أعلنت إسلامي لم أكن أعتقد بأني أتخلى عن مسيحيتي ولا عن ماركسيتي، ولا أهتم بأن يبدو هذا متناقضاً أو مبتدعاً".
ويقول: "هذا النضال هو نضال كل أصحاب العقيدة أو المؤمنين بعقيدة، مهما يكن نوع إيمانهم، ولا يهمني ما يقوله الإنسان عن عقيدته: أنا مسلم، أو: أنا مسيحي، أو: أنا يهودي، أو: أنا هندوسي".[433]
وأبرز معالم هذا الاتجاه من اتجاهات الحوار:
- اعتقاد كل طرف صحة إيمان الطرف الآخر، وتسويغه، من غير أن يقتضي ذلك الخروج عن المعتقد الأصلي.
- اعتقاد صحة جميع صور العبادات، فالكل يعتبرونه طريقاً موصلاً إلى رضا الله، لأنه تعظيم وعبادة لله، وعليه فلا يحكم على شيء من صور العبادة المختلفة بالبطلان.
- الاشتراك في صلوات وممارسات وطقوس تجمع بين أتباع الأديان في محل واحد، وذلك حرصاً على إزالة الفروق وتمييعها.
- تجنب البحث في المسائل المختلف عليها، والتي تظهر التناقض والاختلاف بين الفرقاء الذين يراد جمعهم في نسق واحد.
- اعتماد أسلوب التلفيق والتوفيق بين المتناقضات والمختلفات للوصول إلى صورة مشتركة، تتجاوز الاختلافات.
- تبادل التهاني والزيارات والمجاملات في المناسبات الدينية المختلفة.
وقد كان لعلماء الإسلام وقفات صارمة مع هذا الاتجاه التلفيقي أو التوفيقي بين الأديان، حيث رأوا مناقضته لأصول الإسلام ومبادئه، وأنه من المداهنة التي حرمها الله ورسوله، قال تعالى: ]ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار[ (هود: 113)، قال أبو العالية: " لا ترضوا أعمالهم، فتمسكم النار " قال ابن زيد: "الركون الإدهان، وقرأ: ] ودوا لو تدهن فيدهنون [ (القلم : 9)، قال: تركن إليهم، ولا تنكر عليهم الذي قالوا، وقد قالوا العظيم من كفرهم بالله وكتابه ورسله". [434]
قال الطبري مبيناً ما في الآية من تحذير من اللين والمطاوعة في الدين: " ود هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم، فيلينون لك في عبادتك إلهك". [435]
ولا يخفى أن المداراة أو الرفق من آداب الإسلام في معاملة المخالفين، ولا يخفى على المحقق الفرق بينه وبين الإدهان المحرم، قال القرطبي في التفريق بينهما : "والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معًا , وهي مباحة, وربما استُحبت , والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا ". [436]
ومن صور المداهنة التي يقع بها المتحاورون في وحدة الأديان، تسميتهم للمعابد والكنائس بيوت الله، وهي إلى كفران الله وعصيانه أقرب.
قال شيخ الإسلام حين سئل عن تسمية البِيَع بيوت الله: "ليست بيوت الله، وإنما بيوت الله المساجد، بل هي [أي البيع] بيوت يكفر فيها بالله .. فالبيوت بمنزلة أهلها، وأهلها كفار، فهي بيوت عبادة الكفار".[437]
لكن تلك المداهنة المحرمة دون الحكم بإيمان أهل الملل وتسويغ معتقداتهم،
أو حتى الارتياب في ثبوت كفرهم وبطلان عقائدهم وعباداتهم ، فإن الشك في كفرهم وفساد مذهبهم كفر مخرج من الملة.
يقول القاضي عياض: "ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده، واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك".[438]
يقول ابن تيمية: "ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام، أو اتباع شريعة غير شريعة محمد r فهو كافر، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب".[439]
وهكذا فإن الإسلام يرفض دعوات الحوار التي ترنو إلى إشاعة وحدة الأديان وصهرها ، ويراها ناقضاً من نواقض الإسلام.
وصدق الشاعر، وهو يصف حال أولئك الذين يرومون جمع النقائض:
أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت وسهيل إذا استقل يمان
وحدة الدين
إن من الضروري أن نفرق – في هذا الباب - بين وحدة الدين ووحدة الأديان، إذ وحدة الأديان دعوة للتلفيق بين الأديان المحرفة بما أضافه إليها البشر، فهو يهدف لصهر الحق في الباطل للوصول إلى صيغة مشتركة تجمع بينهما.
أما وحدة الدين فهي حقيقة لا مناص منها، إذ الدين الذي أرسل الله به جميع رسله دين واحد، هو الاستسلام لله وتوحيده جل وعلا.
فهذه لباب دعوة الأنبياء ومحورها، وعليه نستطيع القول بأن الإسلام والاستسلام لله هو دين الله الوحيد: ]ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين[ (آل عمران: 85).
وقد سجل القرآن هذا المعنى ]وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون[ (الأنبياء: 25).
فالتوحيد نداء الأنبياء، نبياً تلو نبي، إلى أقوامهم، فهو الأصل العظيم الذي نادى به نوح ودعا إليه هود وصالح وشعيب من بعده: ] يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره[ (المؤمنون: 23)، (هود: 50، 60)، (الأعراف: 85).
وفي مقابله حذر الأنبياء أقوامهم من الشرك ] ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين [ (الزمر: 65-66).(2/59)
ومنه توعد المسيح قومه: ] وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصارٍ [ (المائدة: 72).
فهذا الدين العظيم حقيقته التوحيد والاستسلام لله تعالى، لذا أطبق الأنبياء على تسميته بالإسلام:
فأبو الأنبياء نوح يقول لقومه: ] وأمرت أن أكون من المسلمين[ (يونس: 72)، يقول ابن القيم: " فهذا نوح الذي غرق أهل الأرض بدعوته وجعل جميع الآدميين من ذريته يذكر أنه أمر أن يكون من المسلمين". [440]
وإبراهيم يدعو ربه: ]ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمةً مسلمةً لك [ (البقرة: 128).
وإلى عبادة الله وتوحيده دعا لوط عليه السلام قومه، لكن النتيجة ] فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين [ (الذاريات: 36).
وهذا الذي قرت به عين يعقوب قبل مماته ] إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون [ (البقرة: 133).
كما طلب موسى من قومه الإذعان لمقتضيات الإسلام الذي دخلوا فيه ] يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين [ (يونس : 84 )، فاستجاب لندائه سحرة فرعون وقالوا: ] ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين [ (الأعراف: 126).
وبمثل هذا دعا يوسف: ]توفني مسلماً وألحقني بالصالحين [ (يوسف: 101).
ولما دخلت ملكة سبأ بلاط سليمان نادت: ]رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين [ (النمل: 44).
وأنزل الله التوراة ليحكم بها أنبياء الله المسلمين: ] يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا [ (المائدة: 44).
فالدين عند الله واحد، اسمه الإسلام، وحقيقته الاستسلام لله بتوحيده وطاعته جل وعلا، وهذا فقط ما ينجي البشرية عند باريها: ] ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [ (آل عمران: 85) فهذا الاسم اختاره الله لدينه وأوليائه: ] هو سماكم المسلمين من قبل[ ( الحج: 78).
وقال رسول الله r : ((أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعَلّات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد))[441]، قال ابن حجر: "ومعنى الحديث أن أصل دينهم واحد، وهو التوحيد، وإن اختلفت فروع الشرائع".[442]
يقول ابن القيم: "فهؤلاء الأنبياء كلهم وأتباعهم، كلهم يذكر الله تعالى أنهم كانوا مسلمين، وهذا مما يبين أن قوله تعالى ]ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين[ (آل عمران: 85)، وقوله: ]إن الدين عند الله الإسلام[ (آل عمران: 19)، لا يختص بمن بعث إليه محمد r ، بل هو حكم عام في الأولين والآخرين.
ولهذا قال تعالى: ]ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلاً [ (النساء: 125)، وقال تعالى: ] وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون[ (البقرة: 111-112)".[443]
قال شيخ الإسلام: " فدين الأنبياء واحد، وهودين الإسلام، كلهم مسلمون مؤمنون، كما قد بين الله في غير موضع من القرآن، لكن بعض الشرائع تتنوع ".[444]
وصدق الله العظيم وهو يربط رسالته الخاتمة برسالاته السابقة: ] شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [ (الشورى: 13).
آداب الحوار
لن يجد المتأمل في آيات القرآن وهدي سيد الأنام كبير صعوبة في التوصل إلى آداب الحوار وأخلاقياته، فالقرآن أوضح بجلاء ما ينبغي على المسلم أن يتصف به وهو يحاور غير المسلمين، بينما كان هدي النبي r ترجمان ذلك ومصداقه.
والآداب في هذا الباب كثيرة، منها:
1- القول الحسن أثناء الحوار
لما كان الحوار وسيلة من وسائل الدعوة والتعريف بالإسلام، توجب على الدعاة أن يتخلقوا حال دعوتهم بأخلاق الإسلام، ويجتنبوا السوء من القول، ويلتزموا الحسن منه، قال الله تعالى: ]وقولوا للناس حسناً[ (البقرة: 83).
قال القرطبي : " وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليناً، ووجهه منبسطاً طلقاً مع البر والفاجر والسني والمبتدع مداهنة، أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: ]فقولا له قولاً ليناً[ (طه: 44)، فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه.
وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء: إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل فيّ حدة، فأقول لهم بعض القول الغليظ. فقال: لا تفعل، يقول الله تعالى: ]وقولوا للناس حسناً[ فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى ".[445]
وقال الحسن : "لين القول من الأدب الحسن الجميل والخلق الكريم، وهو مما ارتضاه الله، وأحبه ... قال عطاء بن أبي رباح: من لقيت من الناس فقل له حسناً من القول ".[446]
ويأمر الله عباده أن يقولوا التي هي أحسن: ]قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم[ (الإسراء: 53). قال القرطبي : " نزلت في عمر بن الخطاب، وذلك أن رجلاً من العرب شتمه وسبه، وهمّ بقتله، فكادت تثير فتنة، فأنزل الله تعالى فيه ]وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن[ " [447]
قال الحسن: "هو أن يقول للكافر إذا تشطط: هداك الله، يرحمك الله.. وعلى هذا تكون الآية عامة في المؤمن والكافر، أي قل للجميع ".[448](2/60)
قال ابن كثير: "]وجادلهم بالتي هي أحسن[، أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب.. فأمر تعالى بلين الجانب كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون في قوله: ]فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى[ وقوله: ]إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله[ (النحل : 125) الآية، أي قد علم الشقي ".[449]
ويلفت ابن تيمية النظر إلى أن الله قال: ]ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن[ (النحل : 125)، فطلب الجدال بالتي هي أحسن، "ولم يقل بالحَسنة كما قال في الموعظة، لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة، فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن، حتى يصلح ما فيه من الممانعة والمدافعة".[450]
قال الشوكاني في تبيان معنى الحكمة: "أي بالمقالة المحكمة الصحيحة"، بينما فسّر الموعظة بأنها تلك "التي يستحسنها السامع، وتكون في نفسها حسنة باعتبار انتفاع السامع بها".[451]
وإن من الحكمة والموعظة الحسنة أن لا نجبه من ندعوه بقولنا: يا كافر. في باب العيب واللمز ، وإن كنا لا نشك في كفره يقول نظام الحنفي: "لو قال ليهودي أو مجوسي: يا كافر. يأثم إن شق عليه"[452]، وذلك الإثم يلحق صاحبه لهجره الحكمة في الدعوة والتي هي أحسن في البلاغ.
2- الغض عن إساءة الآخر ومقابلتها بالإحسان
لا ريب أن اختلاف العقائد يورث الضغائن، وقد يصدر من اللسان ما يسوء المسلم سماعه، سواء ما كان متعلقاً بمعتقده أم بشخصه، وهذه الإساءة فرع عن الكفر الذي يتلبس به المحاور، فماذا يكون موقف المحاور المسلم؟ هل يغلق باب الحوار ويوقف مسار الدعوة، أم يتغاضى عن خطأ الآخر سياسة وصوناً لمصلحة الدعوة؟
لا ريب أن الموقف يفرض التصرف الأمثل الذي يسلكه الداعية تجاه هذا العدوان، إذ قد أذن الشرع برد العدوان : ]وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين[ (النحل: 126)، قال القرطبي: " أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم، فعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظالمكم، ولئن صبرتم عن عقوبته، واحتسبتم عند الله ما نالكم به من الظلم، ووكلتم أمره إليه حتى يكون هو المتولي عقوبته ]لهو خير للصابرين[ يقول: للصبر عن عقوبته بذلك خير لأهل الصبر احتساباً وابتغاء ثواب الله".[453]
وفي الصبر على أخطاء المخالف يقول الله: ]ادفع بالتي هي أحسنُ السيئةَ نحن أعلم بما يصفون [ (المؤمنون: 96).
قال الطبري : "وخاصمهم بالخصومة التي هي أحسن من غيرها: أن تصفح عما نالوا به عرضك من الأذى، ولا تعصه في القيام بالواجب عليك من تبليغهم رسالة ربك".[454]
ويقول ابن كثير: " أمر تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه، ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى..".[455]
ونقل الطبري عن مجاهد في سياق تفسيره لقوله تعالى: ] ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن[ قولَه: "إن قالوا شراً، فقولوا خيراً: ]إلا الذين ظلموا منهم[ فانتصروا منهم".[456]
وقال تعالى مبيناً للمؤمنين ما سيتعرضون له من أذى المشركين، وآمراً إياهم بالصبر والتقوى: )ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً( (آل عمران: 186).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فأمر سبحانه وتعالى بالصبر على أذى المشركين وأهل الكتاب مع التقوى .... وقد قال سبحانه وتعالى: )ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى( (المائدة: 8)، فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألا يعدلوا عليهم... فهذا موضع عظيم المنفعة في الدين والدنيا..".[457]
وفي آية أخرى أخبر الله بتنكب كثير من أهل الكتاب طريق الإيمان وإعراضهم عما تبين لهم من الحق، بل وصدهم عنه وحرصهم على إضلال المهتدين حسداً وبغياً ، وفي مقابله أمر الله بالعفو والصفح حتى يكون الجزاء في دار عدله : ] ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير [(البقرة :109). قال القرطبي: "والعفو ترك المؤاخذة بالذنب ، والصفح إزالة أثره من النفس".[458]
وقد التزم r أمر ربه فصبر على أذى المشركين وأعرض عنه، ولم يقابل إساءتهم بالمثل، وصور ذلك في سيرته كثيرة.
منها ما صنعه النبي r مع اليهود الذين أتوا إليه يحاورونه، تقول عائشة رضي الله عنها: إن اليهود أتوا النبي r فقالوا: السام عليك، قال: ((وعليكم))، فقالت عائشة: السام عليكم، ولعنكم الله، وغضب عليكم، فقال رسول الله r : ((مهلاً يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف أو الفحش)). قالت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: ((أولم تسمعي ما قلتُ؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم فيّ)).[459]
ومثل هذا الأدب صنعه النبي r حين قسم قسماً فقال رجل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، يقول ابن مسعود: فأتيت النبي r فأخبرته، فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه، ثم قال: ((يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا، فصبر)).[460]
ومن حسن المعاملة الإعراض ما أمكن عن المنازعة وأسبابها، ولو بالإعراض عن الإجابة، روى ابن مردويه وابن أبى حاتم بسندهما عن ابن عباس أن قريشاً دعوا رسول الله r إلى أن يعطوه مالاً، فيكون أغنى رجل فيهم، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطأون عقبه أي يسودوه.
فقالوا: هذا لك عندنا يا محمد، وكفَّ عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة، وهي لك ولنا فيها صلاح، قال: ((ما هي؟)) قالوا تعبد آلهتنا سنة اللات والعزى، و نعبد إلهك سنة.(2/61)
قال: ((حتى أنظر ما يأتيني من ربي)) فجاءه الوحي من الله من اللوح المحفوظ: ]قل يا أيها الكافرون[ [الكافرون: 1] إلى آخرها ".[461]
و قوله في هذا الحديث: ((حتى أنظر ما يأتيني من ربي)) نوع من التلطف في الخروج من الموضوع.
قال ابن تيمية: "قد يقول هذا من يقصد به دفع الظالمين بالتي هي أحسن، ليجعل حجته أن الذي عليه طاعته قد منع من ذلك، فيؤخر الجواب حتى يستأمره، وإن كان هو يعلم أن هذا القول الذي قالوه لا سبيل إليه، وقد تخطب إلى الرجل ابنته فيقول: حتى أشاور أمها، وهو يريد أن لا يزوجها بذلك، و يعلم أن أمها لا تشير به، وكذلك قد يقول النائب: حتى أشاور السلطان ".[462] فالإعراض عن الجواب نوع من التلطف وأدب من آداب الدعوة والحوار.
3- ترك الخوض فيما لا يحسنه
لعل من الضروريات التي لا يحسن بأحد تجاوزها عدم خوض المرء فيما لا يملك عليه بينة ولا برهاناً، والرزية أن يهرف المرء بما لا يعرف، وأن يقول ما لا يعلم، وهذا الذي نعاه القرآن على أهل الكتاب، وهو ذم لكل من صنع صنيعهم، قال الله تعالى: ]فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم[ (آل عمران: 66)، قال القرطبي : " دليل على المنع من الجدال لمن لا علم له، والحظر على من لا تحقيق عنده .. قد ورد الأمر بالجدال لمن علم وأيقن، فقال تعالى: ]وجادلهم بالتي هي أحسن[ ".[463]
وقال تعالى: ]إن الذين يجادلون فى ءايات الله بغير سلطان أتاهم إن فى صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير[ (غافر: 56).
وفي هذه الآيات تقريع من القرآن الكريم لأولئك الذين يخاصمون الأنبياء، ويلجون إلى الحوار دون دليل ولا برهان، ولأنهم لا يملكون علماً ولا حجة، فإنهم يعالجون مسائلهم بالهوى والجدال بالباطل والتكذيب والاستكبار عن قبول الحق.
والنبي r - وهو أعلم الخلق - توقف في حواره مع أهل نجران حتى أتاه علم الله في المسألة التي يحاور فيها، إذ لما جاءه راهبا نجران عرض عليهما الإسلام، فقال أحدهما: إنا قد أسلمنا قبلك. فقال: ((كذبتما. إنه يمنعكما عن الإسلام ثلاثة: عبادتكم الصليب، وأكلكم الخنزير، وقولكم: لله ولد)).
قال [الحبر]: من أبو عيسى؟ وكان r لا يعجل حتى يأتي أمر ربه، فأنزل الله تعالى: ] إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون [ (آل عمران: 59) )).[464]
فالمشاركون في الحوار مدعوون لالتزام هذا الهدي النبوي، وعدم الخوض في قضايا الحوار المختلفة إلا ببينة من الله أو برهان من رسوله.
4- ترك المجال للمحاور بذكر معتقده
ولما كان الحوار يدور بين طرفين أو جهتين، فإنه من الطبيعي أن يعرب كل طرف عن معتقده، وأن يذكر ما يجول في خاطره من تساؤلات، يبحث عن إجابة لها، وقد يقع المحاور غير المسلم بما لم يعتده المسلم من أدب واحترام لشعائر الإسلام، فقد يذكر اسم النبي r مجرداً، وقد يقول بأن القرآن من كلام محمد، أو أن المسيح هو الله، وغيرها مما يعتقده ويستنكره المسلم ويستقبحه، بل قد يرغب المحاور بممارسة طقوسه وعبادته، فهل يؤذن له بذلك طلباً لاستمرار الحوار وطمعاً في مصلحة غالبة؟
وفي الإجابة عنه نقول: وقع مثل هذا زمن النبي r، فقد قبِل r من حَبر يهودي أن يخاطبه باسمه مجرداً من النبوة، إذ هو مما لا يعتقده محاوره، قال ثوبان: كنت قائماً عند رسول الله r، فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد. فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول: يا رسول الله؟ فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله r : ((إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي... )).[465]
وحين حاور النبي r في مسجده بالمدينة وفد نصارى نجران الذي قدم على النبي r في خمسة عشر رجلاً بقيادة أسقفهم أبي الحارث؛ أذن لهم النبي r أن يقيموا صلاتهم في أحد أركان مسجده.[466]
قال ابن القيم: "وفيها جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين، وفيها تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفي مساجدهم أيضاً إذا كان ذلك عارضاً، ولا يمكنون من اعتياد ذلك ".[467]
ويقول: "أما الآن فلا مصلحة للمسلمين في دخولهم مساجدَهم والجلوس فيها، فإن دعت إلى ذلك مصلحة راجحة جاز دخولها بلا إذن ".[468]
ومن صور تسامح المسلمين في حوارهم مع أهل الكتاب تمكينهم من الإعراب عن عقائدهم ومحاورة المسلمين فيما يشكل عليهم فهمه من أمور الإسلام ، ومن ذلك أن المغيرة بن شعبة أتى أهل نجران "فقالوا: ألستم تقرؤون: ]يا أخت هارون[ (مريم: 28)، وقد علمتم ما بين موسى وعيسى. قال المغيرة: فلم أدر ما أجيبهم.
فرجعتُ إلى رسول الله r فأخبرته. فقال: ((ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم)).[469]
يقول ابن تيمية: " وهذا السؤال الذي هو سؤال الطاعن في القرآن لما أورده أهل نجران الكفار على رسول رسول الله r، ولم يجبهم عنه: أجاب عنه النبي r، ولم يقل لهم: ليس لكم عندي إلا السيف، ولا قال: قد نقضتم العهد إن كانوا قد عاهدوه، وقد عرف أن أهل نجران لم يرسل إليهم رسولاً إلا والجهاد مأمور به ".[470]
وهكذا فالإفساح للمخالف في الإعراب عن دينه وممارسة شعائره لون فريد من ألوان التسامح الإسلامي، وهو أيضاً أدب آخر من آداب الحوار والجدال.
5- مداراة المحاور وإكرامه وحسن التعامل معه
ومن آداب الحوار حسن المعاملة مع المحاور، ومداراة المحاور الآخر وإكرامه وحسن استقباله، فعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبي r فلما رآه قال: ((بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة)) فلما جلس تطلَّقَ النبي r في وجهه وانبسط إليه.(2/62)
فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه، وانبسطت إليه فقال رسول الله r : ((يا عائشة، متى عهدتني فحَّاشاً، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره)).[471]
وفي شرح الحديث ينقل ابن حجر عن القرطبي قوله: "في الحديث .. جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى ... والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معًا , وهي مباحة, وربما استحبت , والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا , والنبي r إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته ومع ذلك فلم يمدحه بقولٍ، فلم يناقض قوله فيه فعله , فإن قوله فيه قول حق , وفعله معه حسن عشرة ...".
وعقّب ابن حجر بقوله: " وهذا الحديث أصل في المداراة ".[472]
ومن المداراة مناداة المحاورين غير المسلمين بما يليق بهم من ألقاب يستحقونها، وتحيتهم تحية مناسبة، كقوله r : (( بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم )). [473]
قال ابن حجر : "قوله: (( عظيم الروم )) فيه عدول عن ذكره بالملك أو الإمرة, لأنه معزول بحكم الإسلام , لكنه لم يخله من إكرام لمصلحة التألف..". [474]
قال النووي: " ولم يقل : إلى هرقل فقط , بل أتى بنوع من الملاطفة فقال: ((عظيم الروم)) , أي الذي يعظمونه ويقدمونه , وقد أمر الله تعالى بإلانة القول لمن يدعى إلى الإسلام، فقال تعالى : ] ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة [ (النحل: 125)، وقال تعالى : ] فقولا له قولاً ليناً [ (طه: 44) وغير ذلك".[475]
وأيضاً من المداراة للآخرين الفعل الحسن، كعيادة مريضهم، وإكرام وفدهم، تأسياً بالنبي r في صنيعه مع عدي بن حاتم الطائي وعكرمة بن أبي جهل قبل إسلامهما.
قال عدي بن حاتم: "أتيت رسول الله r وهو جالس في المسجد، فقال القوم: هذا عدي بن حاتم. وجئتُ بغير أمان ولا كتاب، فلما دُفعتُ إليه أخذ بيدي .. حتى أتى بي داره، فألقت له الوليدة وسادة، فجلس عليها ". [476]
ولما قدم عكرمة بن أبي جهل على النبي r قال له : ((مرحباً بالراكب المهاجر))، وفي رواية الطبراني: فلما رآه النبي r قام إليه، فاعتنقه، وقال: ((مرحباً بالراكب المهاجر)).[477]
ومن قبل أحسن النبي r معاملة أبيه على طغيانه وكفره، يقول المغيرة بن شعبة: إن أول يوم عرفت فيه رسول الله r أني كنت أمشي مع أبي جهل بمكة، فلقينا رسول الله r فقال له: ((يا أبا الحكم، هلم إلى الله وإلى رسوله وإلى كتابه، أدعوك إلى الله)).[478] فناداه r بأحب الأسماء إليه تألفاً لقلبه.
ومن المداراة وحسن التعامل مع الآخر صنيع مؤمن آل فرعون مع قومه، فقد كان يقول لهم مع كل نصيحة : ]يا قوم[ (غافر: 30، 32، 38، 39، 41). يتألفهم بذلك. قال القرطبي: "فقال: ]يا قوم[ ليكونوا أقرب إلى قبول وعظه".[479]
فالمحاور المسلم يتأدب بالرفق و اللطف والمدارة، إذ الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه.
6- التنزل مع الخصم في الحوار ومجادلته بالحجج القريبة إليه
قال تعالى: ]وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين[ (سبأ: 24) قال القرطبي: "هذا على وجه الإنصاف في الحجة كما يقول القائل: أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق وأن صاحبه كاذب، والمعنى: ما نحن وأنتم على أمر واحد، بل على أمرين متضادين، وأحد الفريقين مهتد، وهو نحن، والآخر ضال، وهو أنتم".[480]
ونقل القرطبي قول بعض أهل العلم : "وقد علم أنه على هدى، وأنهم على ضلال مبين، ولكنه رفق بهم في الخطاب، فلم يقل: أنا على هدى، وأنتم على ضلال".[481]
ويعلمنا الله هذا الأدب في التعامل مع الآخرين، وهو يؤدب نبيه بقوله: ]قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين[ (الزخرف: 81)، قال القرطبي: "وقيل: المعنى: قل يا محمد: إن ثبت لله ولد فأنا أول من يعبد ولده، ولكن يستحيل أن يكون له ولد، وهو كما تقول لمن تناظره: إن ثبت ما قلت بالدليل، فأنا أول من يعتقده، وهذه مبالغة في الاستبعاد، أي لا سبيل إلى اعتقاده، وهذا ترقيق في الكلام كقوله: ]وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين[ (سبأ: 24)، والمعنى على هذا: فأنا أول العابدين لذلك الولد، لأن تعظيم الولد تعظيم للوالد ".[482]
قال الطبري: " لم يكن على وجه الشك، ولكن على وجه الإلطاف في الكلام وحسن الخطاب، كما قال جل ثناؤه: ] قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين[ (سبأ: 24)، وقد علم أن الحق معه، وأن مخالفيه في الضلال المبين ". [483]
ومثله صنيع إبراهيم عليه السلام من قبل، حيث قال لقومه: ] فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغةً قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريءٌ مما تشركون [ (الأنعام: 76-78).
قال الرازي: "هذه المباحثة إنما جرت مع قومه لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد، لا لأجل أن إبراهيم كان يطلب الدين والمعرفة لنفسه".
وقوله عليه السلام عن الشمس والقمر والكوكب: ] هذا ربي[ إنما نوع من التدرج في إبطال ربوبيتها.(2/63)
وقد ذكر الرازي وجوهاً في توجيه قول إبراهيم عليه السلام منها " أنه e أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب، إلا أنه عليه السلام كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبُعد طباعهم عن قبول الدلائل؛ أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوه ولم يلتفتوا إليه، فمال إلى طريق به يستدرجهم إلى استماع الحجة، وذلك بأن ذكر كلاماً يوهم كونه مساعداً لهم على مذهبهم بربوبية الكواكب، مع أن قلبه صلوات الله عليه كان مطمئناً بالإيمان، ومقصوده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإفساده وأن يقبلوا قوله، وتمام التقرير أنه لما لم يجد إلى الدعوة طريقاً سوى هذا الطريق، وكان عليه السلام مأموراً بالدعوة إلى الله كان بمنزلة المكره على كلمة الكفر".[484]
قال ابن القيم: " قاله على سبيل التقرير، لتقريع قومه أو على سبيل الاستدلال والترقي "[485]، وقال : "قيل: إنها على وجه إقامة الحجة على قومه، فتصور بصورة الموافق ليكون أدعى إلى القبول، ثم توسل بصورة الموافقة إلى إعلامهم بأنه لا يجوز أن يكون المعبود ناقصاً آفلاً ".[486]
ودعا الله نبيه إلى تألف قلوب اليهود والنصارى ودعوتهم إلى الإسلام من خلال دعوتهم إلى محبب إليهم ، إلى اتباع ملة إبراهيم الذي يؤمنون به، وهي في الحقيقة دعوة كل الأنبياء، فقال: ] وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون [ (البقرة: 135-136).
قال الطبري: "احتج الله لنبيه محمد r أبلغ حجة وأوجزها وأكملها، وعلَّمها محمداً نبيَه r فقال: يا محمد، قل للقائلين لك من اليهود والنصارى ولأصحابك: ]كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا[ (البقرة: 135) : بل تعالوا فلنتبع ملة إبراهيم التي يجمِع جميعُنا على الشهادة لها؛ بأنها دين الله الذي ارتضاه واجتباه، وأمر به، فإن دينه كان الحنيفية المسلمة، ونَدَع سائر الملل التي نختلف فيها، فينكرها بعضنا، ويقر بها بعضنا، فإن ذلك على اختلافه لا سبيل لنا إلى الاجتماع عليه، كما لنا السبيل إلى الاجتماع على ملة إبراهيم".[487]
ومن التنزل مع الآخر والرفق في مجادلته مخاطبتُه باصطلاحاته ولغته، يقول ابن تيمية: "وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه، إذا احتيج إلى ذلك، وكانت المعاني صحيحة، كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعُرفهم، فإنَّ هذا جائزٌ حسن للحاجة، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتاجوا إليه".[488]
وقال رحمه الله: "ولا ريب أن الألفاظ في المخاطبات تكون بحسب الحاجات كالسلاح في المحاربات، فإذا كان عدو المسلمين - في تحصنهم وتسلحهم - على صفة غير الصفة التي كانت عليها فارس والروم، كان جهادهم بحسب ما توجبه الشريعة التي مبناها على تحري ما هو لله أطوع وللعبد أنفع، وهو الأصلح في الدنيا والآخرة، وقد يكون الخبير بحروبهم أقدر على حربهم ممن ليس كذلك، لا لفضل قوته وشجاعته، ولكن لمجانسته لهم، كما يكون الأعجمي المتشبه بالعرب - وهم خيار العجم - أعلم بمخاطبة قومه الأعاجم من العربي ".[489]
ويقول: "كما نتنزل إلى اليهودي والنصراني في مناظرته، وإنْ كنا عالمين ببطلان ما يقوله اتباعاً لقوله تعالى: )وجادلهم بالتي هي أحسن( (النحل: 125) وقوله: )ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن( ( العنكبوت:46)، وإلا فعلمنا ببطلان ما يعارضون به القرآن والرسول ويصدون به أهل الإيمان عن سواء السبيل، وإن جعلوه من المعقول بالبرهان أعظم من أن يبسط في هذا المكان".[490]
وقال الشيخ ابن سعدي: " فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه الحق أو كان داعية إلى الباطل، فيجادل بالتي هي أحسن، وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلاً ونقلاً، ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها، فإنه أقرب إلى حصول المقصود".[491]
لكن هذا لا يعني موافقة الآخر على أصوله الباطلة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والله تعالى لا يأمر المؤمنين أن يجادلوا بمقدمة يسلمها الخصم إنْ لم تكن علماً، فلو قُدرَ أنه قال باطلاً، لم يأمر الله أن يحتج عليهم بالباطل، لكنَّ هذا قد يفعل لبيان فساد قوله وبيان تناقضه، لا لبيان الدعوة إلى القول الحق ودعوة العباد إليه..".[492]
7- إنصاف المخالف بذكر إيجابياته وموافقته فيما يصدر عنه من حق
المسلم رائده الحق، والحكمة ضالته، فهو يأخذها ويقر بها بلا غضاضة، من أي طريق جاءت، فالرسول r قال لأبي هريرة عن الشيطان مصدر الشرور والآثام: ((صدقك، وهو كذوب، ذاك شيطان)).[493]
وعلى هذا الأدب درج أصحاب النبي r فأقروا لمخالفيهم ما عندهم من صور إيجابية، قال المستورد القرشي وهو عند عمرو بن العاص: سمعت رسول الله r يقول: ((تقوم الساعة والروم أكثر الناس)). فقال له عمرو: أبصر ما تقول! قال: أقول ما سمعتُ من رسول الله r.
قال: لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلَم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك.[494]
ولا غرو في ذلك الإقرار للمخالف بمزيته، فقد أدبهم القرآن وصاغهم ، حين دعاهم إلى التزام العدل مع المخالفين ]ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى[ (المائدة: 2).(2/64)
فقد قال تعالى مثبتاً بعض خصال الخير لأهل الكتاب: ]ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيلٌ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون[ (آل عمران: 75).
وكذا أثنى النبي r على النجاشي بما فيه من خِلال الخير، وهو يومئذ على الكفر، فقال لأصحابه: (( إن بالحبشة ملكاً لا يظلم عنده أحد , فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجاً)). [495]
وفي درس بليغ آخر يقبل النبي r من يهودي نصيحته، ففي الحديث ترويه قتيلة بنت صيفي الجهنية قالت: أتى حبر من الأحبار رسولَ الله r فقال: يا محمد، نِعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون؟ قال: (( سبحان الله! وما ذاك؟)) قال: تقولون إذا حلفتم: والكعبة.
قالت: فأمهل رسول الله r شيئاً ثم قال: ((إنه قد قال [أي حقاً]، فمن حلف فليحلف برب الكعبة)).[496]
وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول: "اقبلوا الحق من كل من جاء به، وإن كان كافراً – أو قال فاجراً – واحذروا زيغة الحكيم، قالوا: كيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق؟ قال: إن على الحق نوراً".[497]
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : " ولكنّ الحق يقبل من كل من تكلم به".[498]
وهكذا فإن الحق رائد المحاور المسلم، كائناً من كان قائله، ورفض الحق والاستكبار عن قبوله من الآخر مجاف لآداب الإسلام، الذي يوصي المؤمنين: ]ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى[ (المائدة:2).
8- حسن الاستماع للمحاور الآخر
من أهم الآداب التي لا ينفك عنها الحوار؛ حسنُ الاستماع للمحاور الآخر، إذ لا يمكن تحقيق المرجو من الحوار إذا كان من طرف واحد، بل لا يمكن تسميته حينذاك حواراً، ولا يخفى أن المحاور المسلم سيسمع من محاوره نصرة لدينه الباطل وكفراً بالمعتقد الحق الذي يدعو هو إليه، لكن سماعه لذلك ضروري ليُسمع الآخرين هدي الله.
وقد جلس النبي r إلى عتبة بن ربيعة يستمع إليه، وهو يعرض على النبي r حطاماً من الدنيا، ويطلب منه التخلي عن دعوته ودينه في مقابلها، يقول ابن هشام: "حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله r يستمع منه قال: ((أقد فرغت يا أبا الوليد؟)) قال: نعم. قال: ((فاسمع مني)) قال: أفعل ".[499]
ومن هذا الأدب السامي استلهم عطاء بن أبي رباح خصلة من خصال الخلق الجم، فيقول : " إن الرجل ليحدثني بالحديث، فأنصت له، كأني لم أسمعه، وقد سمعته قبل أن يولد".[500]
ولا ريب أن تخلق المحاور المسلم بهذه الآداب واجب شرعي، وهو أدعى إلى قبول دعوته وسماع حجته، فالدعوة إلى الإسلام بالحوار والجدال ينبغي أن تكون منضبطة بالوسائل والآداب الشرعية التي رأيناها في كتاب الله وسنة رسوله r.
هل آيات الأمر بالدعوة والجدال والحوار منسوخة بآية السيف؟
لكن ما سقناه من آيات كريمة تحث على جدال المشركين بالتي هي أحسن، وتأمر المسلمين بحسن دعوتهم يراه بعض أهل العلم منسوخاً بآية السيف، وهي قوله تعالى : ] وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة [ (التوبة: 36)، حيث جعلت الآية - حسب رأيهم - شِرعة الجهاد وسيلة الدعوة للكفار، وحين تخضع أو تزول دولتهم وتذل بالجزية رقابهم، حينئذ يستيقظ ما غاب عنهم من عقولهم وما انطمس من فطرهم.
وقال ابن عطية في تفسيره لآية السيف : " وهذه الآية نسخت كل موادعة في القرآن أو ما جرى مجرى ذلك، وهي على ما ذكر مائة آية وأربع عشرة آية". [501]
وهذا الرأي على شهرته في كتب التفسير تضعفه أمور:
- أن النسخ يتضمن رفع حكم شرعي ثبت بدليل شرعي، فلا يصح هذا الرفع والنسخ إلا بدليل معتبر شرعاً، يقول الشاطبي: "إن الأحكام إذا ثبتت على المكلف، فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق، لأن ثبوتها على المكلف أولاً محقق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق.
ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبرَ المتواتر؛ لأنه رفع للمقطوع به بالمظنون. فاقتضى هذا أن ما كان من الأحكام المكية يدعى نسخه، فلا ينبغي قبول تلك الدعوى فيه إلا مع قاطع بالنسخ، بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين، ولا دعوى الإحكام فيهما. وهكذا يقال في سائر الأحكام، مكية كانت أو مدنية".[502]
ونقل السيوطي عن ابن الحصار الأنصاري قوله: "إنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله r، أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخت آية كذا".
ثم ذكر السيوطي أمراً آخر يدفع العلماء إلى القول بالنسخ، وهو تعارض النصوص، الذي لا سبيل للجمع فيه، يقول: "وقد يحكم به عند التعارض المقطوع به، مع علم التاريخ، لنعرف المتقدم والمتأخر.. ولا يعتمد في النسخ قول عوامّ المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح، ولا معارضة بيّنة، لأن النسخ يتضمن رفع حكم، وإثبات حكم تقرر في عهده r. والمعتمد فيه: النقل والتاريخ، دون الرأي والاجتهاد".[503]
ويسوق ابن حزم ضابطاً ثالثاً لصحة ادعاء النسخ، ألا وهو الإجماع، فيقول: "فإذا اجتمعت علماء الأمة كلهم بلا خلاف من واحد منهم على نسخ آية أو حديث، فقد صح النسخ حينئذ".
أما إذا لم يحصل الإجماع - كما في مسألتنا – فإنه لا يُصار إلى النسخ إلا "إن وجدنا الأمرين لا يمكن استعمالهما معاً، أو وجدنا أحدهما كان بعد الآخر بلا شك، أو وجدنا نصاً جلياً يصرح بالنسخ، ووجدنا نصاً في ذلك من نهي بعد أمر، أو أمر بعد نهي".(2/65)
أما إذا لم تقترن دعوى النسخ بدليلها، فإن ابن حزم يرد هذا، وينكره، فيقول: "لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء من القرآن والسنة: هذا منسوخ إلا بيقين؛ لأن الله عز وجل يقول: ]وما أرسلنا من رسولٍ إلا ليطاع بإذن الله[ (النساء: 64) وقال تعالى: ]اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم[ (الأعراف: 3).
فكل ما أنزل الله تعالى في القرآن أو على لسان نبيه، ففرضٌ اتباعه، فمن قال في شيء من ذلك: إنه منسوخ، فقد أوجب ألا يطاع ذلك الأمر، وأسقط لزوم اتباعه، وهذه معصية لله تعالى مجردة وخلاف مكشوف، إلا أن يقوم برهان على صحة قوله، وإلا فهو مفترٍ مبطل... ولا يجوز لنا أن نسقط طاعة أمر، أمرنا به الله تعالى ورسوله، إلا بيقين لا شك فيه". [504]
أما القرطبي فيكتفي بذمِّ هذا الصنيع وتخطئة صاحبه، إذ يقول: "الناس في هذا بين طرفي نقيض، فمن قائل: لا يقبل في النسخ أخبار الآحاد العدول، ومن تساهل يكتفي فيه بقول مفسر أو مجتهد، والصواب خلاف قولهما".[505]
ثم إن علماء التفسير وهم ينقلون دعوى نسخ هذه الآيات نقلوا أقوال محققي أهل العلم في إحكام تلك النصوص، يقول الطبري في سياق تفسير قوله تعالى: ]ولا تجادلوا أهل الكتاب [ (العنكبوت: 146): " لا معنى لقول من قال: نزلت هذه الآية قبل الأمر بالقتال، وزعم أنها منسوخة، لأنه لا خبر بذلك يقطع العذر، ولا دلالة على صحته من فطرة عقل، وقد بينا في مواضع من كتابنا: أنه لا يجوز أن يحكم على حكم الله في كتابه بأنه منسوخ إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل".[506]
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ما ذكره الله تعالى من مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا محكم لم ينسخه شيء، وكذلك ما ذكره تعالى من مجادلة الخلق مطلقاً بقوله : ] ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن[ (النحل: 125).
فإن من الناس من يقول: آيات المجادلة والمحاجة للكفار منسوخات بآية السيف لاعتقاده أن الأمر بالقتال المشروع ينافي المجادلة المشروعة، وهذا غلط، فإن النسخ إنما يكون إذا كان الحكم الناسخ مناقضاً للحكم المنسوخ، كمناقضة الأمر باستقبال المسجد الحرام في الصلاة للأمر باستقبال بيت المقدس بالشام …
وقوله: )ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن( (العنكبوت: 46)، فهذا لا يناقضه الأمر بجهاد من أمر بجهاده منهم، ولكن الأمر بالقتال يناقض النهي عنه والاقتصار على المجادلة، فأما مع إمكان الجمع بين الجدال المأمور به والقتال المأمور به فلا منافاة بينهما، وإذا لم يتنافيا، بل أمكن الجمع لم يجز الحكم بالنسخ، ومعلوم أن كلاً منهما ينفع حيث لا ينفع الآخر، وأن استعمالهما جميعاً أبلغ في إظهار الهدى ودين الحق".[507]
ويستدل شيخ الإسلام لقوله بإحكام آيات الجدال بفعل النبي r ومحاجته للمشركين قبل نزول آية السيف وبعدها " وإذا كان النبي r يحاج الكفار بعد نزول الأمر بالقتال، وقد أمره الله تعالى أن يجير المستجير حتى يسمع كلام الله، ثم يبلغه مأمنه، والمراد بذلك تبليغ رسالات الله وإقامة الحجة عليه، وذلك قد لا يتم إلا بتفسيره له، الذي تقوم به الحجة، ويجاب به عن المعارضة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، علم بطلان قول من ظن أن الأمر بالجهاد ناسخٌ الأمر بالمجادلة مطلقاً ".[508]
وأيضاً فإن ابن حزم يرى آيات الجدال محكمة، بل يعتبرها نوعاً من الجهاد المأمور به: "وأما مجاهدة الكفار باللسان فما زال مشروعاً من أول الأمر إلى آخره، فإنه إذا شرع جهادهم باليد، فباللسان أولى، وقد قال r : ((جاهدوا المشركين بأيديكم وألسنتكم وأموالكم))". [509] ويستدل لرأيه أيضاً بأن النبي r "كان ينصب لحسان منبراً في مسجده يجاهد فيه المشركين بلسانه جهاد هجو، وهذا كان بعد نزول آيات القتال".[510]
وهذا هدي رسول الله r حتى وفاته، وعليه سار أصحابه من بعده، فإن "رسول الله r لم يزل في جدال الكفار على اختلاف مللهم ونحلهم إلى أن توفي، وكذلك أصحابه من بعده، وقد أمره سبحانه بجدالهم بالتي هي أحسن في السور المكية والمدنية.. وبهذا قام الدين، وإنما جعل السيف ناصراً للحجة". [511]
وفي سياق شرح قوله تعالى: ] لكم دينكم ولي دين [ (الكافرون: 6)، وهي آية زعم بعض أهل العلم انها منسوخة بآية السيف، وذلك أنهم فهموا منها إقراراً للمشركين على شركهم، نُسٍخ بجهادهم وقتالهم، يقول ابن القيم: " إن هذه الأخبار بأن لهم دينهم وله دينه, هل هو إقرار فيكون منسوخاً أو مخصوصاً؟ أو لا نسخ في الآية ولا تخصيص؟ فهذه مسألة شريفة من أهم المسائل المذكورة.
وقد غلط في السورة خلائق، وظنوا أنها منسوخة بآية السيف، لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم، وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يُقَرون على دينهم، وهم أهل الكتاب، وكلا القولين غلط محض، فلا نسخ في السورة ولا تخصيص، بل هي محكمة...
ومنشأ الغلط ظنّهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم، ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف, فقالوا: منسوخ...ومعاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريراً لهم أو إقراراً على دينهم أبداً، بل لم يزل رسول الله r - في أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه - أشد على الإنكار عليهم، وتعييب دينهم وتقبيحه والنهي عنه، والتهديد والوعيد كل وقت وفي كل ناد، وقد سألوه أن يكف عن ذكر آلهتهم وعيب دينهم ويتركوه وشأنه, فأبى إلاّ مضياً على الإنكار عليهم وعيب دينهم، فكيف يقال: إن الآية اقتضت تقريره لهم؟(2/66)
معاذ الله من هذا الزعم الباطل، وإنما الآية اقتضت البراءة المحضة - كما تقدم -، وأن ما هم عليه من الدين لا نوافقهم عليه أبداً؛ فإنه دين باطل، فهو مختص بكم لا نشرككم فيه، ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق، فهذه غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم، فأين الإقرار حتى يدعى النسخ أو التخصيص؟...
بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يُطهِر الله منهم عباده وبلاده".[512]
ويسوق القرطبي حجة لمن أثبت الإحكام لبعض هذه الآيات، فيقول: "والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: أسلمي تسلمي، إن الله بعث محمداً بالحق قالت: أنا عجوز كبيرة والموت أقرب إليّ ! فقال عمر: اللهم أشهد، وتلا: ] لا إكراه في الدين [ (البقرة: 256).[513]، فاستشهاد عمر بالآية دليل على أنه يراها محكمة.
ومثله صنع عمر مع مملوكه أسبق فقد روى ابن أبي حاتم بإسناده عن أسبق قال: كنت في دينهم مملوكاً نصرانياً لعمر بن الخطاب، فكان يعرض علي الإسلام، فآبى، فيقول: ]لا إكراه في الدين[ ويقول: (يا أسبق، لو أسلمتَ لاستعنّا بك على بعض أمور المسلمين).[514]
وأكد ذلك رضي الله عنه في عهدته المشهورة لأهل القدس، فقد جاء فيها " هذا ما أعطى عبد الله عمر بن الخطاب - أمير المؤمنين - أهل إيليا من الأمان: أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها: ألا تسكن كنائسهم ولا تهدم ، ولا ينتقص منها، ولا من خيرها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم ، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم..".[515]
وبخصوص آية السيف، فإن العلماء لهم فيها تأويلات سوى تأويلها المشهور، فقد فسرها الطبري بأنها دعوة للوحدة في وجه المشركين، لا أنها تدعو لقتالهم أجمعين، يقول الطبري: "يقول جل ثناؤه: ]وقاتلوا المشركين [ بالله – أيها المؤمنون – جميعاً غير مختلفين، مؤتلفين غير مفترقين، كما يقاتلكم المشركون جميعاً، مجتمعين غير مفترقين".[516]
ونقل عن ابن عباس وقتادة والسدي أقوالاً في ذلك، فالآية - وفق تفسيره - ليست أمراً بشن الحرب على الكفار جميعاً، بل دعوة للتناصر والوحدة في وجه العدو الذي يقاتلنا مجتمعاً.
والقول بنسخ آيات الجدال يعارضه قول طائفة من العلماء من التابعين وغيرهم، يرون آيات الجدال محكمة، ومنه قول مجاهد عن قوله تعالى: ]ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن[ قال: "هي محكمة، فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله عز وجل والتنبيه على حججه وآياته رجاء إجابتهم إلى الإيمان، لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة، وقوله على هذا ] إلا الذين ظلموا منهم[ معناه: ظلموكم، وإلا فكلهم ظلم على الإطلاق...".
ثم ساق القرطبي قول القائلين بالنسخ، وأتبعه بقوله: "وقول مجاهد حسن، لأن أحكام الله عز وجل لا يقال فيها: إنها منسوخة؛ إلا بخبر يقطع العذر أو حجة من معقول، واختار هذا القول ابن العربي".[517]
قال ابن تيمية: "فهذا مجاهد لا يجعلها منسوخة، وهو قول أكثر المفسرين".[518]
ومن هؤلاء المفسرين ابن كثير، فهو أيضاً يميل إلى رد دعوى النسخ في آيات جدال الكفار، فيقول: "بل هي باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم في الدين، فيجادل بالتي هي أحسن، ليكون أنجع فيه، كما قال تعالى: ] ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة[ الآية، وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون: ] فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى[، وهذا القول اختاره ابن جرير، وحكاه عن ابن زيد".[519]
وقال ابن الجوزي: "وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، وفيه بُعد، لأن المجادلة لا تنافي القتال، ولم يقل له: اقتصر على جدالهم، فيكون المعنى: جادلهم، فإن أبوا فالسيف، فلا يتوجه نسخ".[520]
- وكذا ادعى بعض أهل العلم النسخ في قوله تعالى: ]فإنما عليك البلاغ[ (آل عمران:20)، لكن غيرهم من العلماء ضعفوه وخالفوهم فيه، وردوا عليهم دعواهم لعدم الدليل عليها. قال القرطبي: " أي: إنما عليك أن تبلغ، قيل: إنه مما نسخ بالجهاد. وقال ابن عطية: وهذا يحتاج إلى معرفة تاريخ نزولها ".[521]
- وقد ادعوا النسخ أيضاً في قوله تعالى: ] وإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين[ (النحل: 82)، قال ابن الجوزي: "ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا الكلام اقتضى الاقتصار على التبليغ دون القتال، ثم نسخ بآية السيف، وقال بعضهم: لما كان حريصاً على إيمانهم مزعجاً نفسه في الاجتهاد في ذلك سكّن جأشه بقوله: ] إنما أنت نذير [ (هود: 12) و] فإنما عليك البلاغ [، والمعنى: لا تقدر على سوق قلوبهم إلى الصلاح، فعلى هذا لا نسخ". [522]
- وقال ابن الجوزي عن آية سورة الرعد ] فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب[ (الرعد: 40): "قالوا: نسخ بآية السيف، وعلى ما سبق تحقيقه في نظائرها لا وجه للنسخ".[523]
- وادعى بعض أهل العلم نسخ قوله تعالى: ] لست عليهم بمسيطر [ (الغاشية: 22)، فقال ابن الجوزي: "وقد قال بعض المفسرين في معناها: لست عليهم بمسلط، فتكرههم على الإيمان، فعلى هذا لا نسخ...".[524]
- وادعى بعض أهل العلم أيضاً نسخ آية سورة التين، وهي قوله : ] أليس الله بأحكم الحاكمين[ (التين: 8)، فقالوا: "نسخ معناها بآية السيف، لأنه ظن أن معناها: دعهم وخلِّ عنهم، وليس الأمر كما ظن، فلا وجه للنسخ".[525]
وبهذا البيان تبين أن القول بنسخ آيات الجدال دعوى لا تقبل إلا ببرهان قاطع، لأن النسخ دعوى لرفع لوجوب العمل في بعض أمر الله، ولا يصار إلى مثل هذا إلا بدليل معتبر يكافئه.(2/67)
ومثل هذا الدليل لم نجده عند أولئك الذين ادعوا نسخ آيات الجدال بالجِلاد ، بل هم محجوجون بفعل الصحابة ثم إطباق العلماء على إحكام هذه النصوص وعدم رفع أحكامها.
محظورات في الحوار
ينظر الكثيرون من الغيورين إلى الحوار نظرة المتشكك المرتاب في أهدافه ومقاصده، كما لا تخطئ عيونهم رؤية بعض الأخطاء التي يقع فيها المحاورون من المسلمين، مما يعزز اعتقادهم بعدم جدوى الحوار لغلبة مفاسده.
ويرى المتشككون في الحوار أن منطلقات الحوار تدعو للريبة، وأن الذي دفع الغرب بمؤسساته المختلفة تجاه الحوار انفتاح شعوبه على الإسلام، واعتناق ألوف منهم إياه؛ ورأت تلك المؤسسات أن لا جدوى من المجابهة والتحدي، فلجؤوا إلى الحوار للظهور بمظهر الِندّ، لا المهزوم، والموافق لا المجابه، ولعلهم بذلك يطفؤون روح التشوّف إليه لدى رعاياهم، ويُثبتون فيهم هامشية الفروق بين الأديان، وعليه فإن الواجب يفرض علينا تفويت الفرصة عليهم والامتناع عن معونتهم في بلوغ غاياتهم من الحوار.
ومما عمّق هذا الشعور المرتاب أن المؤسسات الكنسية صرحت بنيّتها استغلال الحوار، وجعله وسيلة للتبشير، يقول الدستور الرعوي الصادر عن المجمع الفاتيكاني الثاني: "تبدو الكنيسة رمز هذه الإخوة التي تنتج الحوار الصادق وتشجعه، وذلك بفعل رسالتها التي تهدف إلى إنارة المسكونة كلها بنور البشارة الإنجيلية".
كما أصدرت الكنيسة الكاثوليكية وثيقة بعنوان: (حوار وبشارة) عام 1991م، جاء فيها: "إن المسيحين وهم يعتمدون الحوار بروح منفتح مع أتباع التقاليد الدينية الأخرى؛ يستطيعون أن يحثوهم سلمياً على التفكير في محتوى معتقدهم ... ".
وأما مجلس الكنائس العالمي البروتستنتي فقد صرح بالدعوة إلى استغلال الحوار للتبشير في كتاب (توجيهات للحوار)، وفيه: "يمكننا بكل صدق أن نحسب الحوار كإحدى الوسائل التي من خلالها تتم الشهادة ليسوع المسيح في أيامنا".[526]
لكنا نلفت النظر إلى أن الحوار الذي تشير إليه الكنيسة ليس الحوار الذي تديره المؤسسات العلمية والثقافية التي لا يمكن التأثير عليها، فمثل هؤلاء الحوار معهم محبذ ومحمود، لكن الحوار الذي تنشده الكنيسة وتمارسه حقيقة في كثير من المواطن هو الحوار مع دهماء المسلمين وعامتهم، وهو ما قد ينجح فيه التبشير ويحقق ما يحذره المتشككون والرافضون لمشروع الحوار.
كما يحجم المتشككون في مصداقية جولات الحوار السابقة عن المشاركة في جولاته اللاحقة لما يرونه من مشاركة بعض الأطراف الإسلامية التي لا يخلو منهجها من دخن كالعصرانيين وغيرهم ممن لا يعبرون عن الموقف الإسلامي الأصيل في قضايا الحوار، ولعل من أهم أسباب اتساع هذه المثلبة تباعد الغيورين عن هذا الميدان الذي تضمن مشاركتهم فيه ظهور الموقف الإسلامي الناصع المبني على هدي الكتاب والسنة.
وينقل الدكتور أحمد سيف التركستاني بعض حجج المانعين من الحوار، إذ يرون "أن الحوار يقود إلى الفتنة والصدام" ، وقاعدة سد الذرائع - حسب رأيهم - تبرر الإعراض عن المشاركة في الحوار، وهذه الحجة يراها الدكتور التركستاني نوعاً من تغييب الحقيقة، ويرى أن تجاوزها ممكن، إذا أخذنا "بشروط الحوار الصحيح الخالي من الجدل العقيم أو غير الملتزم بآداب الحوار". [527]
كما يحجم البعض عن المشاركة في الحوار لأنه "يعطي الفرصة لتلميع الآراء الباطلة" وهذا تعميم لا يوافق عليه الدكتور التركستاني ، إذ يرى "الغالب أن الآراء الباطلة إنما تكتسب بريقها إذا انفردت بالأجواء والأضواء ، بعيداً عن الاعتراض عليها والتصدي لها بالحوار"، ويصل إلى نتيجة مفادها أن "الحوار يعطي الفرصة لتوهين الآراء الباطلة وخفض درجة توهجها وبريقها ، وذلك بما يكشفه من الحق المناقض لها ومن الباطل المنطوي فيها". [528]
وإذ نسجل هذه الاعتراضات وتلك النظرات المتشككة في مصداقية الحوار، فإننا نرى ضعفها وعدم كفايتها في تغييب صوت الحق عن مجالس الحوار والنقاش، وما تؤدي إليه من تصحيح للمفاهيم الخاطئة وتحييد لبعض القوى والمؤسسات المعادية للإسلام، بل واجتذاب غير المسلمين ودعوتهم إلى دين الله القويم.
وفراراً من الوقوع في أخطاء الماضي ، وسعياً للوصول إلى صورة منضبطة بآداب الشرع نعرض لبعض الأخطاء والمحظورات التي ترتكب في الحوار:
1- الوقوع في المداهنة
لما كانت ملتقيات الحوار بعموم أنواعها تهدف إلى استثمار العلاقات الإنسانية كان لابد أن تتسم لقاءاتها بالكثير من المجاملة التي يحاول المتحاورون من خلالها تغييب الكثير من الشقاق الذي تكنه عقولهم وقلوبهم للآخرين.
وقد رأينا كيف أمرنا رسولنا r ببسط الوجه وحسن اللقاء، وكيف صنع مع أساطين الكفر وصناديد الشرك.
لكن المجاملة والمراءاة قد تؤدي ببعض المتحاورين إلى المداهنة والابتذال، والخضوع بالقول، وكتمان الحق، والسكوت عن الباطل، وقد تدفع بالبعض إلى موادة محاوريهم واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، وموالاتهم وموافقتهم في مواقفهم وآرائهم ومعتقداتهم، مما يوقع المحاور المسلم في سخط الله وغضبه.
فقد أمر الله المؤمنين بالصدع بالحق وعدم كتمانه، فقال آمراً نبيه وهو في مكة : )فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين( (الحجر: 94).
وقال تعالى منبهاً ومحذراً المؤمنين من الوقوع فيما وقع به بنو إسرائيل: ) وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون[ (آل عمران : 187)، فالمداهنة ليست من شأن المسلم ولا سَمته.(2/68)
ولما جاء وفد نجران إلى النبي r أسمعهم النبي r معتقده في المسيح عليه السلام، ولم يبال عليه الصلاة والسلام بغضبهم من ذلك، فقالوا: مالك تشتم صاحبنا؟ قال: ((وما أقول؟)) قالوا: تقول: إنه عبد. قال: ((أجل. إنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول))، فغضبوا، وقالوا: هل رأيت إنساناً قط من غير أب، فإن كنت صادقاً فأرنا مثله. فنزلت الآية: ] إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من ترب ثم قال له كن فيكون [ (آل عمران: 59).[529]
وللمداهنة المستقبحة صور كثيرة أهمها الثناء على معتقدات الآخرين وتسويغها، أو التوقف في كفرهم واعتبارهم إخوة لنا يجمعنا بهم الإيمان بالله وغير ذلك مما لا يخفى تحريمه، وقد سبق بيان بعضه.
والعجب من وقوع بعض المحاورين في هذا المنكر البغيض تطوعاً من غير ضرورة ولا مسوغ مفهوم إلا التزلف للآخرين واسترضاؤهم بما يغضب الله العظيم.
وأمثال هؤلاء مدعوون لقراءة ما قاله جعفر بن أبي طالب بين يدي النجاشي، إذ لم يمنعه ضعفه وغربته من أن يقول الحق من غير مداهنة بين يدي ملك لا تدرى عواقب مخالفته. فقد قال سفير قريش عمرو بن العاص: "والله لأنبئنهم غداً عيبهم عندهم، ثم أستأصل به خضراءهم ... والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد.
قالت [أم سلمة]: ثم غدا عليه الغد فقال له: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه.
قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثله.
فاجتمع القوم، فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول - والله - فيه ما قال الله، وما جاء به نبينا، كائناً في ذلك ما هو كائن.
فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول ".[530]
ويمكننا أيضاً أن نلحظ في القصة إباء جعفر وامتناعه عن السجود للنجاشي خلافاً لعادة الناس مع الملوك، فقد تركه لحرمته في الإسلام، مع مسيس الحاجة إليه تألفاً لقلب النجاشي نحوه ونحو المسلمين الملتجئين إلى جواره وأرضه " فسلم ولم يسجد، فقالوا له: مالك لا تسجد للملك؟ قال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل. قال: وما ذاك؟ قال: إن الله عز وجل بعث إلينا رسوله r، وأمرنا أن لا نسجد لأحد إلا لله عز وجل ".[531]
2- تعظيم من لا يرضى الله تعظيمه
وهذا التعظيم مذموم لما فيه من مدحة أو ثناء لا يستحقه المحاور غير المسلم ، قال r : ((لا تقولوا للمنافق سيداً، فإنه إن يكن سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل)).[532]
قال أبو الطيب الآبادي : "لأنّه يكون تعظيماً له، وهو ممّن لا يستحقّ التّعظيم، فكيف إن لم يكن سيّداً بأحد من المعاني؛ فإنّه يكون مع ذلك كذّاباً ونفاقاً".[533]
وحين خاطب النبي r ملوك الأرض صانعهم ورفق بهم، لكنه لم يضف عليهم عظيم الألقاب، بل توقى في خطابهم، من غير أن يبعد عن ملاطفتهم واستمالتهم، فقد كتب إلى هرقل إمبراطور الروم قائلاً : ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم..)).[534]
قال ابن حجر: "فيه عدول عن ذكره بالملك أو الإمرة ; لأنّه معزول بحكم الإسلام, لكنّه لم يخله من إكرام لمصلحة التّألّف..".[535]
قال النووي في فوائد الحديث: " التوقي في المكاتبة , واستعمال الورع فيها , فلا يفْرِط ولا يفَرِّط , ولهذا قال النبي r : ((إلى هرقل عظيم الروم)), فلم يقل : ملك الروم , لأنه لا ملك له ولا لغيره إلا بحكم دين الإسلام .. ولم يقل : إلى هرقل فقط , بل أتى بنوع من الملاطفة فقال : عظيم الروم , أي الذي يعظمونه ويقدمونه, وقد أمر الله تعالى بإلانة القول لمن يدعى إلى الإسلام، فقال تعالى : ] ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة [ (النحل: 125)، وقال تعالى : ] فقولا له قولاً ليناً [ (طه: 44) ".[536]
3- تصدي بعض من لا يحسنون الحوار له
وفي بعض جولات الحوار رأينا ضعفاً وخوراً عند من يتصدى له، ويقع ذلك منهم بسبب قلة معرفتهم بالعلوم الشرعية أو غيرها من الأسباب، في وقت نرى فيه حرص النصارى واليهود على إشراك أكبر كفاءاتهم العلمية والكنسية في حوارهم مع الآخرين.
وهذا العيب في بعض المحاورين من المسلمين قد يدفع بالمحاور إلى الشطط في مجاراة الآخرين، فينساق إلى ما هو باطل، أو يقصر عن تبيان ما هو حق، فتقصر حجته، وتكسد بضاعته.
وقد حذر الله تعالى من هذا الصنيع، فقال: ] ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً [ (الإسراء: 36).
قال ابن تيمية: "والمذموم شرعاً ما ذمه الله ورسوله كالجدل بالباطل والجدل بغير علم والجدل في الحق بعد ما تبين".[537]
وقال رحمه الله مشنعاً على الشهرستاني قصوره في مجادلته للفلاسفة: "ولهذا كانت مناظرة كثير من أهل الكلام لهم مناظرة قاصرة، حيث لم يعرف أولئك حقيقة ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وما ذمه من الشرك، ثم يكشفون بنور النبوة ما عند هؤلاء من الضلال كما ناظرهم الشهرستاني في كتاب الملل والنحل ..كان قولهم أظهر، فكان رده عليهم ضعيفاً لضعف العلم بحقيقة دين الإسلام ..".[538]
وهذا العيب نعاه القرآن الكريم على أهل الكتاب، فقال عز وجل: ]ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم [ (آل عمران: 66).
قال القرطبي: "الآية دليل على المنع من الجدال لمن لا علم له، والحظر على من لا تحقيق عنده .. وقد ورد الأمر بالجدال لمن علم وأيقن، فقال تعالى: ]وجادلهم بالتي هي أحسن [ (النحل : 125)". [539](2/69)
وقال ابن كثير: " الآية هذه إنكار على من يحاج فيما لا علم له به، فإن اليهود والنصارى تحاجوا في إبراهيم بلا علم.. فأنكر الله عليهم ذلك، وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقائقها وجليتها ".[540]
وقال ابن تيمية مبيناً ضرر الجدال بلا علم على المسلمين: "وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظرُ ضعيفَ العلم بالحجة وجواب الشبهة، فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل، كما ينهى ذلك الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار، فإنَّ ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة".[541]
وتجنباً لهذا المحذور أوصى المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في دورته التاسعة أن " لا يتولى الحوار إلا المختصون من علماء المسلمين "، وأكده في دورته الحادية والعشرين: " أن يتولى تمثيل الرابطة فيها العلماء المختصون بالمواضيع المطروحة في جدول أعمالها ".
4- الخروج عن آداب الإسلام في الحوار
ومما يؤخذ على بعض المشاركين في الحوارات العامة، خاصة غير الرسمية منها، - كتلك التي تجري على شبكة الإنترنت – الاستمرار في الحوار، ولو فقد مصداقيته وضل أهدافه، وساء أدبه، فاكتسى من السباب سربالاً، ومن العناد جلباباً.
وهذا ولا ريب من الجدال المذموم، و" قد تكون المصلحة في الامتناع عن مجادلة طائفة منهم أو مع أفراد لسبب أو لآخر، وهذا استثناء …".[542]
وفي نبذ الجدل العقيم الصادر عن طائفة غير مؤمنة، يقول الله تعالى: ]ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون قالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل[ (الزخرف: 58-57).
قال الطبري: " ما مثلوا لك هذا المثل يا محمد هؤلاء المشركين في محاجتهم إياك بما يحاجونك به طلب الحق، بل هم قوم خصمون، يلتمسون الخصومة بالباطل ".[543]
يقول ابن تيمية: "وقد يُنهى عنها [أي المناظرة] إذا كان المناظَر معانداً يظهر له الحق فلا يقبله، وهو السوفسطائي، فإن الأمم كلهم متفقون على أن المناظرة إذا انتهت إلى مقدمات معروفة بيّنة بنفسها ضرورية، وجحدها الخصم كان سوفسطائياً، ولم يؤمر بمناظرته بعد ذلك".[544]
وقال ابن سعدي في وصف المجادلة المحمودة: "أن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها، ولا تحصل الفائدة منها، بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق، لا المغالبة ونحوها)).[545]
ومثل هذا الحوار ينجر عادة إلى السباب المحرم، الذي لا يتوافق مع الدعوة بالحكمة والمجادلة بالتي هي أحسن، بل هو نوع من الرعونة والفحش وسوء الخلق.
وهذه الصفات أبعد ما تكون عن المؤمن، إذ ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء)).[546]
قال الغزالي: "المؤمن ليس بلعان؛ فينبغي ألا يطلق اللسان باللعنة إلا على من مات على الكفر، أو على الأجناس المعروفين بأوصافهم، دون الأشخاص المعينين، فالاشتغال بذكر الله أولى، فإن لم يكن ففي السكوت سلامة".[547]
ولما قيل لرسول الله r : يا رسول اللّه، ادع على المشركين.. قال: ((إنّي لم أبعث لعّانًا، وإنّما بعثت رحمةً)).[548]
قال مكي بن إبراهيم: كنا عند ابن عون، فذكروا بلال بن أبي بردة [الوالي] فجعلوا يلعنونه ويقعون فيه لأذاه لابن عون وامتحانه له، وابن عون ساكت، فقالوا: يا ابن عون؛ إنما نذكره لما ارتكب منك! فقال: إنما هما كلمتان تخرجان من صحيفتي يوم القيامة: "لا إله إلا الله"، "ولعن الله فلاناً"، فلأن يخرج من صحيفتي: "لا إله إلا الله"؛ أحب إلي من أن يخرج منها: "لعن الله فلاناً".[549]
وخشية الانجرار إلى السباب وتقويض غايات الحوار ومقاصده نهى الله عن المؤمنين عن سب ولمز آلهة المشركين وأصنامهم، فقال: ]ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم[ ( الأنعام: 108).
وقد نقل المفسرون في سبب نزولها أن كفار قريش قالوا لأبي طالب: "إما أن تنهى محمداً وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها، وإما أن نسب إلهه ونهجوه"، فنزلت الآية.[550]
وقد أفاد القرطبي منها النهي عن سب ولمز سائر ما يقدسه الآخرون، لا من باب التعظيم لها، بل سياسة وتألفاً، يقول: "حكمها باق في هذه الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في مَنَعة، وخيف أن يسب الإسلام أو النبي عليه السلام أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسُبَّ صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك لأنه بمنزلة البعث على المعصية .. وفيها دليل على أن المحقَّ قد يكف عن حق له إذا أدى إلى ضرر يكون في الدين". [551]
5- هجر المصطلحات والأساليب الشرعية
ومما يقع به المتحاورون أحياناً هجر المصطلحات والأساليب والحجج الشرعية والتباعد عنها تقرباً إلى الآخرين أو غيره مما يرونه مصلحة للدعوة.
وهذا الصنيع مجاف، بل منافٍ لما عهد من النبي r في مخاطبته المشركين.
ومن ذلك أنه لما قدم ضماد مكة أتى النبي r فقال: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله r : ((إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله))، فكانت هذه الكلمات سبباً في إسلامه، فقال للنبي r: (أعد علي كلماتك هؤلاء.. لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغنَ ناعوس البحر. فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام).[552]
ولما كتب النبي r رسائله إلى الملوك صدّرها بالبسملة كما في رسالة هرقل ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم..)). [553](2/70)
قال النووي في فوائد الحديث: "ومنها: استحباب تصدير الكتاب ببسم اللّه الرّحمن الرّحيم , وإن كان المبعوث إليه كافرًا".[554]
ولا يمنع هذا مخاطبتهم بلغاتهم وطريقتهم إذا دعت الحاجة إليه، مع الالتزام بالضوابط الشرعية، قال ابن تيمية: "أما مخاطبة أهل اصطلاح باصطلاحهم ولغتهم، فليس بمكروه، إذا احتيج إلى ذلك، وكانت المعاني صحيحة، كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم، فإن هذا جائز حسن للحاجة، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه".[555]
إن تعرفنا على محظورات الحوار - التي تخرج به عن ضوابط الشريعة الغرَّاء - يؤزنا لممارسة الحوار ضمن ضوابط الشريعة وآدابها، واللذان يكفلان تحقيق المقاصد والغايات الشرعية التي نتوخى الوصول إليها من خلال حوارنا مع الآخرين.
خاتمة
وبعد، فإن من دواعي سرور العقلاء تنامي الدعوة إلى الحوار في أوساط مختلفة من عالمنا الذي ضاقت شعوبه ذرعاً بحوار البندقية ، ورأت أن الحوار الحضاري والثقافي يقدم بديلاً مناسباً لحل الخلافات المختلفة التي تنشأ بين الأمم والحضارات المختلفة.
فالحوار الحضاري هو الطريق الأفضل لفهم الآخر والتعرف على رؤاه ومقاصده، بعيداً عن الأحكام المسبقة التي تحمل في طياتها ركام أخطاء التجارب السابقة التي تدفع إلى مزيد من الشقاق والاختلاف، وتولد المزيد من الإحباط، وما يستتبعه من ويلات الحروب والمظالم.
وقد رأينا سبق الإسلام - ومنذ انبثاق فجره الميمون - إلى اعتماد الحوار وسيلة حضارية في التفاعل مع الآخرين، وقد قعّد له قواعده ، ورسم له حدوده وضوابطه، ومنع من كل ما من شأنه تهميش هذه الوسيلة الدعوية أو التقليل من حيويتها ونفعها.
ودعاة الإسلام ومؤسسات المجتمع المسلم مطالبة اليوم باستعادة دورها الحضاري، والمبادرة إلى طلب الحوار وعقد ندواته وإشاعة أدبياته، والتصدي للنظريات المتصاعدة التي تدعو للصراع، وتطالب بالحسم قبل بداية دراما نهاية الزمن.
ورابطة العالم الإسلامي إذ تقدم هذه الدراسة ، فإنما تؤكد حرص شعوب العالم الإسلامي على إرساء قواعد الحوار وآدابه وتخليصه من شوائبه ومكدراته، وهي تدفع بها مع انطلاقة منتداها العالمي للحوار بين أبناء الأديان والحضارات المختلفة.
والله نسأل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يجنبنا الزلل ، إنه ولي ذلك، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصادر والمراجع
- أحكام أهل الذمة، ابن القيم، تحقيق: يوسف البكري وشاكر العارومي، ط1، دار رمادي للنشر، 1418هـ.
- الإحكام في أصول الأحكام، علي بن حزم، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405هـ.
- التعريفات، علي الجرجاني، ط1، دار الكتاب العربي، بيروت، 1405هـ.
- تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: إبراهيم الأبياري، ط2، دار الكتاب العربي، 1413هـ.
- تيسير الكريم الرحمن، ابن سعدي، ط دار المدني، جدة.
- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، دار الفكر، بيروت، 1405هـ.
- الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله القرطبي، ط2، دار الشعب، القاهرة، 1372هـ.
- حاشية ابن القيم، ابن قيم الجوزية، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ.
- الحوار الإسلامي المسيحي، بسام داود عجك، ط1، دار قتيبة، 1418هـ.
- الحوار وآدابه، صالح بن حميد، ط1، دار المنارة.
- درء تعارض العقل مع النقل، ابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط1، جامعة الإمام محمد بن سعود، 1399هـ.
- دعوة التقريب بين الأديان، أحمد عبد الرحمن القاضي، ط1، دار ابن الجوزي، 1422هـ.
- الرد على المنطقيين، ابن تيمية، ط4، المكتبة الإمدادية، لاهور.
- شرح النووي على صحيح مسلم، أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، ط2، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1393هـ.
- عون المعبود، شرح سنن أبي داود، أبو الطيب محمد العظيم آبادي، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ.
- عيون المناظرات، أبو علي السكوني، تحقيق: سعيد غراب، منشورات الجامعة التونسية، 1976م.
- الفتاوى الكبرى، ابن تيمية، ط دار المعرفة، بيروت، لبنان.
- الفتاوى الهندية، الشيخ نظام الهندي وآخرون، ط دار المعرفة بيروت، لبنان.
- فتح الباري شرح صحيح البخاري، علي ابن حجر العسقلاني، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.
- لسان العرب، ابن منظور، ط1، دار صادر، بيروت.
- مجموع الفتاوى، ابن تيمية، طبعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1416هـ.
- المصفى من علم الناسخ والمنسوخ، ابن الجوزي، تحقيق: د. صالح الضامن، ط1، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1415هـ.
- مفردات القرآن، الراغب الأصفاني، تحقيق : صفوان عدنان داوودي، ط1، دار القلم، 1412هـ.
- نواسخ القرآن، ابن الجوزي، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405هـ.
=======================
حلية الطبيب المسلم
تأليف/ د.وسيم فتح الله
حلية الطبيب المسلم
مقدمة:
الحمد لله علّام الغيوب، والصلاة والسلام على طبيب القلوب، بعثه الله تعالى رحمةً للعالمين، وفضله بالشريعة الخاتمة وأكمل به الدين، فكان من كمال شريعته أن جمع إلى طب القلوب عافية الأبدان، وأيده بمعجزةٍ خالدة هي القرآن، فكانت آياته لقلب مَن تدبرها هداية، ولمن استشفى بها بإذن الله دواءً وحماية، فاستغنى المسلم عن التلفت يمنة ويسرة، وباء مَن تحول عن دين المصطفى بالحسرة، :"وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً"[556]
أما بعد،(2/71)
فلقد منَّ الله تعالى عليَّ بعد الإسلام بتعلم مادة الطب، وزادت منَّته جل وعلا لما صرفني عن التلهي بظواهره إلى تدبر جوهره، ثم تأملت في ثغراتٍ عديدة ظلت تتبدى لي تباعاً منها ما يتعلق بصيغة تدريس الطب في بلادنا، ومنها ما يتعلق بدواعي طلب هذا العلم بين أبناء جلدتنا، ومنها ما يتعلق بصيغة العلاقة بين الطبيب المسلم ومريضه، ومنها ما يتعلق بمواجهة التحديات العقدية والمنهجية التي يمليها واقع التقدم المادي للكفار، سواءٌ أكانت تحدياتٍ ناجمة عن النوازل الطبية والوقائع المستحدثة التي تحتاج إلى جهدٍ عظيمٍ في تكييفها وتخريجها على مناطات الحكم الشرعي، أم كانت تحدياتٍ ناجمة عن كون مجال الطب سهماً من سهام قوس التغريب والغزو الفكري والعقدي للمسلم فرداً ومجتمعاً وأمةً، وغير ذلك من الثغرات التي تحتاج منا النظر إلى جنسها ومجموعها كخطوةٍ أولى للتعامل معها قبل الاستطراد في سرد جزئياتها وتفاصيلها لتمهيد التعامل معها.
إن طبيعة التحديات التي تواجه الطبيب المسلم اليوم ليست إلا جزءاً من منظومة تداعي الأمم علينا اليوم، وإن إيقاظ حس المسؤولية وداعي التأهب لمواجهة هذه التحديات ليس إلا جزءاً من منظومة الدفاع الواجب عن بنيان هذه الأمة وصرح هذا الدين العظيم، ولا يمكن أن تُناط هذه المسؤولية الجزئية إلا بأصحاب الخبرة والاختصاص متعاونين ومتكاتفين مع أهل العلم الربانيين الذين يؤصلون لدينا منهج الدين ويؤججون فينا حمية الذب عنه، لترتفع بذلك عن كواهلنا مسؤولية حماية هذا الثغر فلا يؤتى المسلمون من قِبله، فنلقى الله تعالى عاملين بما علمنا، مستنفذين الجهد ما استطعنا، مترددين بين الرغبة والرهبة والخوف والرجاء أن يقبل منا بضاعتنا المزجاة ويعاملنا بكرمه دون عدله، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ولما كان التغيير أي تغيير لا بد من أن يراعي انطلاقةً من الفرد المسلم ولو جزئية، كان العزم مني على إيجاز هذه الحلية لتكون للطبيب المسلم وسام فخارٍ وآية افتخار - لا استكبار - على من سواه، ليقول بلسان الحال : أنت مجرد طبيب، أما أنا فطبيب مسلم، ولا فخر..
وهكذا جاءت درر هذه الحلية لتزين كل واحدةٍ منها جِيد صاحبها لا لأجل دنيا أو مصلحةٍ رخيصة أو مركزٍ علمي مرموق فتلك والله هجرة الدنيا، وإنما من أجل أن الله جميلٌ يحب الجمال، ومن أجل أن كلكلم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، ومن أجل أن من لم يهتم بشؤون المسلمين فليس منهم، ومن أجل أن الله يحب إذا عمل أحدنا عملاً أن يتقنه، ومن أجل أن الله تعالى سائلنا يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وفصيلته التي تؤويه عن علمنا هذا ماذا عملنا به؟ وعن ثغور هذا المجال كيف رابطنا عليها؟ وكيف وقينا أمة الإسلام من أن تؤتى من قِبلها؟ وتلك إن شاء الله تعالى هي هجرة الآخرة ..
فهلم معي أيها الطبيب المسلم نستعرض هذه الحلية ونلتقط من دررها وجُمانها بعض ما يدل عليها، سائلين المولى أن يوفقنا لإقران القول بالعمل، والفكرة بالعزيمة، وما كان في هذه الرسالة من خير فمن الله، وما كان سوى ذلك فبما كسبت يداي فأسأله المغفرة والرحمة، آمين
الفصل الأول : حلية العبودية
وكيف لا تكون هذه أول حليةٍ وقد اختارها الله تعالى أسمى وصفٍ لأشرف مقامٍ لسيد الثقلين محمد صلى الله عليه وسلم فجعل وصف العبودية لازماً له، قال تعالى:" سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً "[557]، وقال تعالى:" وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لِبَداً"[558]، فكان مقام العبودية هذا أسمى المقامات وأعلاها لا سيما لمن تحقق بمعانيها بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم حيث أجاب أمَّنا عائشة رضي الله عنها حين سألته عن عبادته وقد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فأجاب :"أفلا أكون عبداً شكوراً"[559].(2/72)
ولذا نقول بمطلق الثقة إن أول رداءٍ يجب أن يتدثر به الطبيب هو رداء العبودية، ولن يتحقق ذلك حتى يخلع كل رداءٍ سواه من جاهٍ ومنصبٍ ودنيا، فيدخل في هذه المهنة تعلُّماً وممارسةً وهو يراعي تحقيق شروط التعبد من جهة، ويحرص على نقاء العمل من شوائب الحبوط من جهة أخرى، وبكلام آخر نقول إنه لا بد من استحضار صفة العبودية لله في مجال الطب بتحرير كلٍ من النية والمتابعة؛ فتكون النية خالصةً لله تعالى كما أمر:" وما أُمِروا إلا ليعبداو الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيِّمة"[560]، وتكون المتابعة مجردةً للنبي صلى الله عليه وسلم كما أمر :" من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَد"[561]، فإذا سألت عن مكان النية في مجال الطب فاعلم أنها طلب علمه والعمل بمقتضاه طلباً لرضى المولى عز وجل فحسب، بحيث يكون كل عمل متفرعٍ عن هذا المجال خالصاً لله تعالى، تأمل معي هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إن الله عز وجل يقول يوم القيامة :يا ابن آدم مرضتُ فلم تعُدني. قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعُده، أما علمت أنك لو عُدته لوجدتني عنده"[562]، وهكذا فلتكن عيادتك للمريض وعنايتك بالمريض وقيامك على شأنه عيادةً لله عز وجل، وليكن طلبك للعلم في باب الطب منصرفاً إلى تحصيل ما فيه نفع العباد طلباً لمرضاة رب العباد، ولسوف ترى كيف ينقاد لك هذا العلم ويُسلم لك زمامه، كما قال بعض السلف – وأحسبه سفيان الثوري- : طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله[563]. أما إذا سألت عن مكان متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في باب الطب أحلتك على مجموع السنة النبوية المطهرة بما فيها من هديٍ نبويٍ كريمٍ يضبط أصول التطبيب وأصول درء المفسدة عن العباد وجلب المنفعة إليهم، وحسبك من هذا كله في مقام التجريد هذا تلك القاعدة النبوية العظيمة حيث روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من تطبب ولم يُعلم منه طب فهو ضامن"[564] فهذا أصلٌ عظيمٌ في عدم جواز العبث بأبدان الناس وصحتهم، ومسؤولية الطبيب مسؤولية كاملة عما يقترفه في حق المريض إذا ما وقع منه تقصير ، ومن أخطر أنواع التقصير في الطب ما كان ناجماً عن مداواة الناس بالجهل. وإنما أردت بتقرير هذه القاعدة هاهنا التنبيه على جنس ما تشتمل عليه السنة النبوية من أصول وقواعد تضبط مهنة الطب لا أقول ضبطاً مهنياً فحسب بل ضبطاً شرعياً مُلزماً للمكلف، بحيث نستطيع القول بثقة مطلقة: إن من لم يلتزم متابعة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في أصول مداواة الناس يكون قد خرق شرط قبول العمل وليس له البتة أي حظٍ ولا نصيب من حلية العبودية وإن صَفَت نيته، إذ المعلوم أن شرطَي قبول الأعمال هما سلامة الإجابة على سؤالَي: لمَ عملت؟ وكيف عملت؟ فتنبه لهذا الأمر، واعلم أن من خرق أحد هذين الشرطين أو كليهما فليس له حظ من طبِّه وتطبيبه سوى وظيفة دنيوية أو مكانة علمية موهومة أو مهنة يتكسب بها لا أكثر، ناهيك عن خطر الوقوع في الإثم في بعض الحالات، وإن من يدرك الكم الهائل من الأوقات والأعمار التي تفنى في سبيل تحصيل مراتب هذه المهنة ليشفق على نفسه وعلى غيره ألا يكون له منها حظٌ إلا حظ الدنيا، وأن يكون مِن جنس مَن قال فيهم عز وجل: " فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق"[565] فاحرص أيها الطبيب المسلم على تحقيق وتحرير هذين الركنين وكن شديد الحرص على تعهدهما بالرعاية والسقاية حتى لا تذبل غرسة الإخلاص في القلب ولا يخبو نور المتابعة في الجوارح.
وننبه في هذا المقام إلى أمرٍ آخر وهو مقام عبودية التوكل الذي يغفل عنه كثير من الأطباء؛ حيث يميل الأطباء – بسبب كثرة ما اطلعوا عليه من أسباب – إلى الركون إلى ما كشفه الله تعالى لهم من علوم، وينسى البعض أو يتناسى فضل الله تعالى عليه فيما يسّره من أسباب التشخيص والعلاج والشفاء، وينسى أنه – أي الطبيب – ليس إلا سبباً من جملة الأسباب لا حول له ولا قوة ولا يملك في نفسه شفاءً ولا نفعاً ولا ضراً، وتأمل معي كيف أن طبيب القلوب الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علَّمه ربُه وأدبه فأحسن تأديبه حيث قال تعالى حكايةً عنه صلى الله عليه وسلم :" قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً"[566]،فإذا كان هذا حال النبي صلى الله عليه وسلم الذي أنقذ الله تعالى به المؤمنين من النار فأي شيء تحسب نفسك أيها المغرور بعلمك المفتون بمهارتك ومهنتك، أتراك قد استغنيت بيسير العلم الذي حصلت فقمت في مقام :" كلا إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى"[567]، ألا فلتعلم تمام العلم إذاً أن المرض والشفاء بيد الله عز وجل كما جاء على لسان خليل الرحمن في مشهد تجريد الربوبية في قوله تعالى:" وإذا مرضت فهو يشفين"[568].
فالواجب على العبد المسلم الطبيب أن يحترز عن مشاهدة الأسباب مشاهدةً تفضي به إلى الإتكال عليها، وأن يجتهد في أن يكون مقام مشاهدة الأسباب هو مقام العبد الذي يحصِّل ما أمره به سيدُه من أسباب ومقدمات ثم يرتمي على عتبة سيده ومولاه راجياً حصول آثار هذه المقدمات، فهو دائماً بين طاعةٍ في تحصيل المقدمات ورجاءٍ في طلب آثارها، لا يركن إلى براعة المشرط في يده، ولا إلى قوة الدواء في جعبته، وهكذا أيها الطبيب المسلم تتزين بجوهرة التوكل على الله لتنتظم درةٌ أخرى في عقد حلية العبودية هذه.(2/73)
فإذا ما تيسرت لك مطالعة مشهد العبودية هذا والتدثر بدثار التوكل والانقطاع عن الركون إلى الأسباب لزمك التحلي بدرةٍ أخرى من درر هذه الحلية ألا وهي التقوى؛ فالتقوى محراب العبودية متى انحرفت عنه اختل العمل بل ربما حبط بالكلية، والتقوى كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : مخافة الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل. وقد تتساءل عن مكان هذه المعالم في رحلة الطب ومعالجة الخلق، فأجيبك بأنك أيها الطبيب لا تستغني وأنت تتطلع على عورات الناس وأسرارهم عن مخافة الله ومراقبته، إذ لا يردعك عن الانحراف فيما تتطلع عليه من عورات الناس ولا عن تجاوز حد الضرورة مما لا يحل في الأصل إلا أن تبذر تربة القلب ببذور التقوى لتثمر مخافة الله، فتصونك هذه الثمرة من الانحراف والزلل والتلبس بالإثم من حيث كنت تبتغي الثواب، ثم اعلم أن الله تعالى قد أنزل في جملة ما أنزل من الوحيين نصوصاً وضوابط تصون أجساد الناس وأرواحهم، فلتكن معالجتك للناس عملاً بالتنزيل وصيانةً لأبدانهم وأرواحهم عن أسباب الهلاك المادي والمعنوي كما تضافرت عليه النصوص، ثم اعلم أن ما رضيه الله تعالى لك من منزلة ومقام في سياق المهنة هو الأصلح لنفسك، فلا تحاول أن تتسلق سلم المهنة رجاء منصب أو سمعة أو رياء، بل كن راضياً بمكانتك ولو كانت في أعين الناس قليلة، فلربما أنك طبيبٌ مغمورٌ غير مشهور ولكنك من جنس الأشعث الأغبر التقي الخفي الذي لو أقسم على الله لأبرَّه، فليكن هذا مقام الرضا بالقليل، وهو إن كان قليلاً في أعين الناس إلا إنه ليس بذلك البتة عند الله عز وجل، وآخر معالم التقوى في هذا المقام أن تستعد ليوم الرحيل، فتعلم أن الله تعالى سائلك عن تلك العورة التي اطلعت عليها لغير ضرورة، وعن ذلك الجسد الذي لمسته لغير ضرورة، وعن ذلك السر الذي اطلعت عليه لحاجة ففضحته ولم تحفظه، وعن تلك الرخصة التي أبحتها لمريض وتلك العبادة التي ضيعتها على آخر دون أن تراعي فيهم لله حقاً ولا للدين فيهم حرمة، فإذا ما تلبست بلباس التقوى هذا فاعلم أنك حينذاك قد تزودت بخير زاد وظفرت بخير معية، أما الزاد فكما قال تعالى:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"[569]، وأما المعية فكما قال تعالى:" إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون"[570].
بهذا أيها الطبيب المسلم ترتسم معالم هذا المشهد العظيم، مشهد الانطراح على عتبة الإخلاص طلباً لرضا المولى، والسير على طريق المتابعة طلباً لسلامة الانتساب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والنظر بعين الرجاء إلى سبب الله الموصول، والنظر بعين الازدراء إلى كل ما سواه من أسباب مقطوعة، ثم التشمير والاجتهاد لتجاوز وحشة الطريق بأمن الانقياد لأمر الله وأُنس الطمأنينة إلى رعايته، فإذا بهذه المهنة تستحيل محراباً من محاريب التبتل ونسكاً من أنساك التقرب إلى الله عز وجل، وهكذا تكون حلية الطبيب المسلم.
الفصل الثاني: حلية العلم
وكفى بالعلم شرفاً أن أشهد الله أهله على أعظم حقيقة في الكون :" شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم"[571]، ولكن أي علم وأي علماء؟ من هم أولئك الذين ينالون هذا الشرف العظيم وهذه المرتبة السامية؟
لا شك أن هؤلاء هم العلماء الربانيون، قال تعالى:" ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلِّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون"[572]، وإن ربانية العلم لا تتحقق إلا بأمرين؛ أولهما مشروعية العلم المكتسب ( ولا يقتصر مفهوم العلم الشرعي على علوم الشريعة الخاصة وإن كان ينصرف إليها عند الإطلاق)، وثانيهما العمل بهذا العلم عملَ خشيةٍ لله لا يخاف فيه لومة لائم كما قال تعالى:" إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ"[573]، فإذا ما تحقق العبد بهذين الركنين أصبح عالماً ربانياً، بخلاف المتعالم الذي قد يحقق مقومات العلم المعرفية ولكنه بعيدٌ أيَّ بُعد عن تحقيق مقام الخشية عملاً بهذا العلم، وتأمل هذا في حال الطبيب الذي قد يفتح الله تعالى عليه من المعارف الطبية الشيء الكثير ولكنه مسكين، نعم مسكين لأنه لا يحقق بهذا العلم شيئاً من مقام الربانية، فهو بهذا العلم متكبرٌ مستعلٍ طاغٍ كما قال تعالى:" كلا إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى"[574] يظن أنه بهذه المعارف قد فطم نفسه عن مقام الافتقار إلى علم الله الأزلي اللامحدود، فإذا ذكّرته بفضل الله عليه فيما حققه من مرتبة ونجاح :"وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا وأحسِن كما أحسَن الله إليك ولا تبغِ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين"[575] كان لسان حاله :" قال إنما أوتيته على علم عندي "[576].
أما مقام الطبيب المسلم الرباني فمعراجٌ آخر وأفقٌ أسمى، إنه مقام الافتقار إلى الله عند ذروة شهود النعمة وتحققها، كما كان حال موسى عليه السلام بعد أن أفاء الله تعالى عليه من نعمائه فقال:" رب إني لما أنزلتَ إلي من خيرٍ فقير"[577]، إنه مقام من يدرك أن الغِنى عن الشيء لا به، وأن الافتقار إلى الله عين الغنى وأن الاستغناء عنه تعالى هو عين الفقر، ولما كان العلم هبةَ الله تعالى إلى عبده كان عبده منطرحاً على عتبة الافتقار إلى الله تعالى أبداً، لسان مقاله فيما ينكشف له من العلوم :" قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم"[578] ولسان حاله فيما يجري على يديه من نفعٍ وشفاءٍ وجلب مصلحةٍ لمريض ودرء مفسدةٍ عن آخَر قوله تعالى:" وما فعلته عن أمري "[579] وإنما علم من الله وتوفيق للعمل به من الله أيضاً، وهكذا يكون الطبيب عالماً ربانياً..(2/74)
ومن درر هذه الحلية أن مقام الطبيب المسلم هو مقام مشاهدة عظمة خلق الله تعالى، لا كأولئك الصم البكم العمي الذين يمرون على آيات الله في بديع خلق الإنسان فلا تعود عليهم أنفسهم المقيتة وعقولهم السفيهة بأحسن من نسبة الصنعة إلى الطبيعة، بخلاف الطبيب الرباني الذي يتمثل قول الله تعالى:" والذين إذا ذُكّروا بآياتنا لم يخِرُّوا عليها صُماً وعمياناً"[580] ، فإن مقام الطبيب الرباني هو مقام :" الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربَّنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار"[581]، ومن جملة هذا الخلق :" وفي أنفسكم أفلا تبصرون"[582] ومن جملة هذا الخلق:" سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق"[583]...
مساكين هم إذاً أولئك الذين ليس لهم من علوم الطب إلا حظ الانتساب إلى القرود[584]، وليس لهم من مشاهدة عجائب الخلق والتكوين الرباني سوى مشهد الاستكبار الإبليسي، بل إن حال مشركي قريش أقرب إلى الحق من هؤلاء المتعالمين، فلقد قال تعالى:" ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله"[585]، أما الأطباء المتعالمين فيقولون صنعت الطبيعة كذا وتطور الإنسان من كذا وكذا وينكرون نسبة الخلق إلى الخالق، ولكن ما العجب في ذلك عند من اتخذ الشيطان ولياً ووساوس الشيطان هادياً، قال تعالى:" إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون"[586]
أما المنهج العلمي للطبيب المسلم فقائمٌ على عدم إغفال جهةٍ على حساب الأخرى، فلا يؤدي إعمال دليل الحس والمشاهدة التجريبي إلى إغفال دليل النقل الشرعي،كما لا يؤدي سوءُ فهم ما وصل بطريق النقل الشرعي إلى تعطيل ما سخره الله تعالى لنا بطريق الحس والمشاهدة العقلي، بل يُنزل كلاً منهما منزلته، بلا إفراط ولا تفريط، ويجمع بين مقام:"سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا"[587]، ومقام :" هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً"[588]، وبهذا المنهج يدرك الطبيب المسلم الحدود التي يقف عندها العلم التجريبي فلا يُقحمه في الروحانيات والغيبيات، كما يدرك قيمة ما أظهره الله تعالى لنا من غيبيات عن طريق الوحيين – الكتاب والسنة – فلا يؤدي جهله بها إلى استهتاره واستهزائه بها والعياذ بالله، ويدرك أيضاً أن طريق التجربة مهما كان فإنه لا يرتقي إلى مصافِّ القطعيات الشرعية، فيركن مطمئناً إلى تلك القطعيات، ويحذر من أن يؤتي من قِبل سوء الفهم، وكلما بدا له تصادم أو تناقض الشرع مع العقل اتهم عقله ولم يتهم النص الشرعي البتة اللهم إلا من جهة سوء فهمه وإنما مَردُّ ذلك إلى عقله، فكانت التهمة منصرفةً إلى العقل دوماً بلا ريب، وانظر كيف قرر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأصل العظيم فقد روى أبو سعيد أن رجلاً أتى النبيَ صلى الله عليه وسلم فقال :أخي يشتكي بطنه،فقال:اسقه عسلاً. ثم أتاه الثانية ،فقال :اسقه عسلاً، ثم أتاه الثالثة، فقال : اسقه عسلاً،ثم أتاه فقال قد فعلت، فقال:" صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلاً، فسقاه فبرأ[589]. وفي رواية :"إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً"[590]، فهذا موقفٌ تعارض فيه ظاهر الحس مع ظاهر الشرع، فرده النبيُ صلى الله عليه وسلم إلى النص لأنه من الله ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولقد نبه ابن قيم الجوزية رحمه الله على أن هذا الحديث يدل على ضرورة أن يكون المريض محلاً قابلاً لهذا الدواء الشرعي وأن يكون مُوقناً به وإلا فإنه لن يجد فائدته.
والحاصل أن الشريعة وإن لم تكن موضوعة في الأصل لفن الطب، إلا أنها لما كانت موجهةً لطب القلوب ومعافاتها كان للبدن الحاوي لتلك القلوب نصيبٌ من العناية، وكان حرياً بالطبيب المسلم أن يكون ملماً بما جاءت به الشريعة والهدي النبوي من توجيهات منثورة هنا وهناك تحفظ للأبدان عافيتها كما تحفظها للقلوب، ثم إن على الطبيب المسلم أن يُنزل هذا الهدي النبوي منزلته اللائقة، فيدرك ويوقن ارتقاءها فوق ما تأتي به التجارب والمشاهدات الحسية التي لا تخلو من خطأ أو احتماله، ولقد ذكر ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى كلاماً نفيساً في هذا المعنى حيث قال :" ونبين أن نسبة طب الأطباء إلى هذا الطب النبوي كنسبة طب الطُرُقية والعجائز إلى طبهم، كما اعترف به حُذاقهم وأئمتهم"[591]، وإن فهم هذا يسيرٌ عند من يدرك أن طب العجائز والطرقية قوامه الجهل، وأن طب الطبائعيين قائم على علم الحس والمشاهدة والتجربة الذي يتطرق إليه الاحتمال، وأن طب النبوة قائم على الوحي المعصوم فحصل من الاطمئنان إلى هديه صلى الله عليه وسلم في الطب أضعاف أضعاف ما حصل من الاطمئنان إلى طب الطبائعيين نسبة لطب العجائز، فتأمل.
ولما كان علم التجربة والمشاهدة مقتصرٌ في أوليته على ما يشهده الباحث والمجرِّب ومن ثمَّ يكون نشره قائماً على أساس النقل، كان منهج التحري الدقيق لما يزعم نسبته إلى العلم قائماً على تحري أمانة النقل وصحة الدليل.(2/75)
وإنما تعرف صحة النقل بأمانة الناقل ونزاهته، وتعرف صدق الدعوى بالنظر فيما أقيم عليها من حجج، فلا تكن أيها الطبيب المسلم أسير المجلة العلمية الفلانية أو الهيئة الطبية الفلانية تأخذ مقولاتها بغثِّها وسمينها، ولا تميز ضارها من نافعها، فليس كون المجلس الطبي أو العلمي منتسباً إلى الشرق أو الغرب هو دليل الصحة والأمانة، بل اجعل منهجك قول الحق :" الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه"[592]، وأُحذرك أيها الطبيب المسلم من أن تكون حاطبَ ليلٍ أو زاملةَ أخبارٍ لا تميز حقاً من باطل فتُروِّج على المسلمين ما يوافق هوى الأعداء متلبساً بلبوس العلمِ والعلمُ منه براء، فحذار أن تغرك ترهات فرويد، وحذار أن يغرك كذب داروين، وحذار أن تصدق دعاوى سلامة الفكر الشذوذي[593] بحجة دراسة علمية مزعومة، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم :" إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يتبيَّن فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق"[594]
وإن من درر هذه الحلية أيضاً أن يحرص الطبيب المسلم على تحقيق الموازنة في تحصيل ما يحتاجه من العلوم الشرعية والعلوم الكونية في سياق مهنته الطبية، فلا يؤدي الانشغال بعلوم الشريعة الخاصة إلى العزوف عن العلوم التجريبية الضرورية لصيانة صحة المريض، كما لا يؤدي الإغراق في ما لا طائل منه والانكباب الكلي على العلوم الطبية التجريبية إلى الزهد في رصيد الهدي الشرعي العظيم في باب الطب، بل يعطي كل علمٍ حقه ويضعه موضعه دون إفراط ولا تفريط، ودون الخلط بين ما يصلح في مقام مع ما يصلح في مقامٍ آخر، وليعلم أنه مؤاخذٌ شرعاً عندما يؤدي تفريطه في ضبط علوم المهنة الخاصة إلى إلحاق الضرر بالمريض أو ربما تفويت المصلحة الأكمل له، فمنزلة الطبيب المسلم من صحة مريضه كمنزلة الوصي في مال اليتيم؛ فلا يكفيه حسن النية في حفظه بل لا بد من أن يجتهد في تحصيل أسباب حماية المال وتنميته وحفظه من الضياع.
ولما كانت مسألة المنهج العلمي بحاجة إلى تفصيل وتحرير فإني أجد من لوزام بيان هذه الحلية بيان معالم هذا المنهج بشيء من التفصيل على النحو التالي:
فصل: المنهج العلمي للطبيب المسلم[595]
إن مهنة الطبيب من أنفع المهن لا ريب، وإن فضل الله عز وجل ومنَّته على من تعلم شيئاً من علوم هذه المهنة فضلٌ عظيم، لما يترتب عليه من النفع الوفير والخير العميم للطبيب والمريض إذا ما أحسن تطويعَ هذا العلم للغاية المحمودة، ولم ينجرف في مهالكه المذمومة، ومعلومٌ أن مهنة الطب يُراد بها من حيث الوضع تطبيب الأبدان والمحافظة عليها، وقايةً مما يضر بها وعلاجاً لما يعتورها من أعراض ضارة، وعند هذا المشهد تجد الخلقَ مفترقين إلى ثلاث فرق هي طرفان وواسطة؛ أما طرف الغلو والإفراط فيذهب في سبيل خدمة البدن والمادة كل مذهب، لا يقف عند حدٍ ولا يرعوي عن الشطط المُلهي عما هو أَولى، وهذا هو مسلك الماديين من عشاق الدنيا وصرعى الهوى، لسان حالهم قوله تعالى:"وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر "[596]، وأما طرف التفريط فقومٌ اعتزلوا الدنيا وحسبوا أنهم يرتقون بالروح حين يطلقون كل أسباب المادة، فزهدوا في الحلال الطيب مما سخره الله تعالى وعزفوا عن توجيهه سبحانه وتعالى:" ألم تر أن الله سخَّر لكم ما في الأرض"[597] فأهلكوا أجسادهم بالحرمان من أسباب صلاحها، بل ربما تفننوا في إنزال صنوف العذاب والأذى بأنفسهم وهم يرتقون بالروح التي لم ولن يعوا حقيقتها ناهيك عن أسباب صلاحها وهذا مسلك الرهبنة المذمومة، وفيما بين مشهدي الإفراط والتفريط كان مشهد أهل الحق كما هو الوصف الثابت لهذه الأمة:"وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً"[598] حيث أذنت – بل حثت – الشريعة على رعاية الأبدان، ولكن دونما غفلة عن الغاية من ذلك ألا وهي حفظ القلب؛ فأنت تجد القرآن الكريم يقرر مرض البدن وينبه إلى مراعاته كما في قوله تعالى:" فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسك"[599]، ولكن الشريعة لم تقف عند حد البدن بل نبَّهت إلى أمراض أخطر هي أمراض القلوب والتي تنقسم – كما نبه الحافظ ابن حجر والعلامة ابن قيم الجوزية – إلى مرض شُبهة كما في قوله تعالى:" في قلوبهم مرض"[600]، ومرض شهوة كما في قوله تعالى:" فيطمع الذي في قلبه مرض"[601]، والشاهد أن أصحاب مشهد الحق من أتباع الرسالة المحمدية قد فازوا بقصب السبق في مجال الطب والعلاج، كيف لا وقد جاءت شريعته صلى الله عليه وسلم جامعةً بين طب الأبدان وطب القلوب، بل إن رعاية الأبدان ما جاءت إلا تبعاً وتكميلاً لحياة القلوب وصلاحها ،قال تعالى:" يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تُحشرون"[602]، فليس بطبٍ إذاً ذاك الذي يتعهد الأبدان والأوزان والأحجام فحسب، وليس بطبيب حقاً ذلك الذي يراعي القلب من حيث إنه عضلة والعين من حيث إنها آلة إبصار والأذن من حيث إنها آلة سمع ونحوه، وإنما الطبيب حقاً الذي يحافظ على هذه الوسائل وقايةً لصاحبها من أن ينتهي به المطاف إلى مثل قوله تعالى:" أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها أو آذانٌ يسمعون بها فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"[603].(2/76)
فإذا عُلم ما تقدم تبينت ضرورة تحرير الطبيب المسلم لمنهجه العلمي الذي يبني عليه وسائل تشخيص وتقييم وتطبيب مرضاه، والأصل في هذا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من تطبب ولا يُعلم منه طب فهو ضامن"[604]، فهذا أصل ودليل واضح على ضرورة صدور الطبيب عن علمٍ ، ولهذا وجب تحرير منهج الطبيب المسلم من حيث أنواع الأدلة العلمية الطبية، والجمع بينها عند التعدد، والترجيح بينها عند التعارض، وبهذا تكتمل آلة تحصيل العلوم اللازمة للطبيب المسلم فيخرج من العهدة عند ممارسة المهنة ملتزماً بهذا المنهج إن شاء الله.
فصل: أنواع الأدلة العلمية الطبية :
ينقسم الدليل العلمي عموماً إلى خبرٍ صادق أو حسٍ مشاهَدٍ صحيح، قال تعالى:" قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شِرك في السماوات ائتوني بكتابٍ من قَبل هذا أو أثارةٍ من علم إن كنتم صادقين"[605] فأشارت الآية إلى نوعي الأدلة العلمية ؛ فالدليل العقلي القائم على الحس والمشاهدة والتجربة الصحيحة مفقودٌ عند عُبَّاد هذه الآلهة المزعومة حيث لا يوجد خلقٌ خلقوه ولا جزء من الكون يملكونه أو يتصرفون فيه بمشيئتهم فانتفى كونهم آلهة لعدم الخلق وعدم التصرف المطلق، والدليل النقلي الصادق مفقودٌ أيضاً فلا كتاب سماوي سابق ولا هذا الكتاب – أي القرآن – سمى أحداً إلهاً إلا الله سبحانه وتعالى فانتفى كون غيره إلهاً بطريق النقل أيضاً، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى (أو أثارة من علم ) :" أي دليل بيِّن على هذا المسلك الذي سلكتموه، (إن كنتم صادقين) أي لا دليل لكم لا نقلياً ولا عقلياً" [606]، انتهى. فأنت ترى في سياق الاستدلال على أعظم حقيقة في الكون – حقيقة التوحيد – أن الآية قد استوعبت أنواع الأدلة في نقل صحيح أو عقلٍ صريح ولا ثالث لهما إلا اجتماعهما ولا تناقض.
فإذا عُلم ما تقدم تمحض لدينا لنا السؤال عن أنواع الأدلة التي تتعلق بعلوم الطب، لا سيما وأن الأصوات والدعوات تتوالى علينا تترى معاشرَ الأطباء من أجل ممارسة ما يُسمى "الطب القائم على الدليل"، ولعمري إن هذه الدعوة قد جاءت عند القوم المتبجح بحضارته متأخرةً الشيء الكثير، ولقد بينّا لك سبْق القرآن الكريم في تقرير أسس العلم المقبول - أعني النقل الصحيح أو العقل الصريح أو هما معاً – فهل أدلة علوم الطب المعتبرة هي أدلة العقل فحسب أم أدلة النقل فحسب أم دليلهما معاً؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال أقول – وبالله التوفيق – إننا حين نؤصل للمنهج العلمي الطبي مفتتحين بالنصوص الشرعية فإننا لا نقصد تزيين كتب الطب وجدران المشافي ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، كما أننا لا نتكلم عن طبٍ بديل كما يشيع اليوم الاصطلاح على أساليب المعالجة غير التجريبية كالطب الشعبي ونحوه، وإنما نتكلم عن التأصيل العلمي الشامل المستوعب للأدلة العلمية التي خوطبنا بها، إننا نتكلم عن الطب الأصيل حقيقةً، وهذا ما يجب أن يدركه كل طبيب مسلم اليوم؛ فالطب الأصيل هو الذي يراعي شمولية المنهج وشمولية احتياجات المريض، ولا يوجد تضاد في الحقيقة بين الطب النبوي وبين الطب التجريبي المنضبط بل إن الأخير يندرج في الأول ولا عكس، وبيان ذلك أن ما ورد عن طريق الشرع من أدلة تتعلق بمسائل الطب ينقسم إلى نوعين؛ أحدهما عام يتعلق بأصول الشرع المقرِّرة لمبادئ المداواة والموجِّهة للإنسان كي ينظر ويجرب ويستخرج مما سخره الله تعالى له في الكون من وسائل علاج ودواء ونحوه، والثاني خاص ورد في بيان أدوية مخصوصة لأدواء مخصوصة كنموذج تطبيقي لمبادئ العلاج العامة، بل قد يكون لذكر هذه الأدوية الخاصة هدف تشريعي مؤداه أن يبين الشارع للمكلف أنه لا بأس في تعاطي أسباب معينة للاستشفاء من أمراض معينة، وأن هذا لا ينافي التوكل ولا يعارض القدر ولا يمنعه الشرع،كما يشمل هذا النوع الثاني أيضاً بعض ما يتعلق بالأمراض من أمور شرعية كالأحكام الفقهية المترتبة على وجود المرض كطهارة أهل الأعذار، والمسائل الغيبية المتعلقة بالمرض كالثواب والعقاب وغيرها، وأنت ترى أن ما يَرِدُ من مسائل طبية توقيفية عن طريق الشرع يستحيل على طريق العقل بلوغه والكشف عنه مستقلاً،ولعل بعض الأمثلة في سياق البحث توضح ذلك بجلاء. وبمثل هذا التفصيل يمكننا أن نستوعب ما نقلناه سابقاً عن الحافظ العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى حيث قال :" ونبين أن نسبة طب الأطباء إلى هذا الطب النبوي كنسبة طب الطُرقية والعجائز إلى طبهم، كما اعترف به حُذاقهم وأئمتهم"[607]، نوَّر الله قبره ووسع مدخله.
وحاصل ما تقدم أن الأدلة التي يُتوصل بها إلى علم الطب نوعان: دليلٌ نقلي من مصادر الوحي المعصوم، ودليلٌ عقلي من مصادر الحس والتجربة المحتملة للخطأ والصواب . وأريد أن أنبه إلى أن من العلوم الطبية ما لا يمكن التوصل إليه إلا بطريق النقل أصلاً، ومنها ما لا يمكن التوصل إليه إلا بطريق التجربة والحس والمشاهدة لانقطاع الوحي، ومنها ما يتواتر فيه دليل النقل ودليل العقل فلا إشكال. وببلوغنا هذا القدر من التأصيل والتفريع نكون محتاجين إلى بسط بعض الأمثلة التي توضح ما ذكرنا وتبينه بالمثال.
النوع الأول من الأدلة: دليل النقل :
ونقصد بالنقل بطبيعة الحال ما ورد بطريق القرآن والسنة النبوية، مع ملاحظة أن القرآن الكريم كله يفيد العلم القطعي أما السنة النبوية فلا بد من تحري الصحيح منها والمقبول[608]. هذا وإن الأمثلة عديدة جداً في هذا الباب وسوف أكتفي بإثبات بعضها، ولكن أعود فأنبه إلى أن ما ثبت من علوم الطب بطريق النقل ينقسم إلى نوعين؛(2/77)
أحدهما : نوع يمكن ثبوته أو التوصل إليه بالحس والتجربة فيكون دليل النقل فيه مورداً من موارد الإعجاز ومسلكاً من مسالك الهداية إلى ما فيه نفع الناس ومثال هذا النوع ما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" إن هذه الحبة السوداء شفاءٌ من كل داء إلا من السام"[609] فهذا دليلٌ نقلي على وجود خصائص علاجية في الحبة السوداء، وهذا فضلاً عن كونه ثابتاً بطريق النقل فإنه يمكن التعرف عليه عن طريق التجربة والحس والمشاهدة، [610] ولكن طريق النقل أثبته لنا على سبيل الهداية إلى ما ينفع الناس في أبدانهم من جهة، وإلى ما ينفع الناس في قلوبهم ودينهم من جهة أخرى حيث أيَّد النبي صلى الله عليه وسلم بدلائل الإعجاز التي تشير إلى صدور الوحي من الله عز وجل، فتأمل.
والثاني : نوع لا يمكن ثبوته إلا بطريق الوحي المعصوم فيجب الوقوف عنده وعدم التقحم فيه بغير آلة، ولك على ذلك مثال من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" الحمى من فيح جهنم ، فأطفئوها بالماء"[611] والشاهد في الشطر الأول من الحديث، فقوله صلى الله عليه وسلم " الحمى من فيح جهنم" خبرٌ صحيح، ولكن هذا المخبر عنه مما لا يمكن التوصل إليه بطريق العقل والتجربة البتة، فتأمل. وأما الشطر الثاني من الحديث فيتناول أحد أنواع العلاج من الحمى ولا يعني أن الماء علاج لكل أنواع الحمى[612]،فينبغي التنبه لذلك احترازاً من سوء فهم وسوء تطبيق الحديث. ويندرج تحت هذا النوع من الأدلة كل ما أخبر به المعصوم صلى الله عليه وسلم من الأمور التوقيفية المتعلقة بعيادة المرضى وممارسة المهنة وغيرها، ومثال ذلك ما ورد من حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خُرفة[613] الجنة حتى يرجع"[614]، فهذا مما يتعلق بممارسة الطبيب مهنته حيث يجدر به أن يحتسب تفقده المريض في المشفى أو في زيارة منزلية عيادةً يتقرب بها إلى الله تعالى.
النوع الثاني من الأدلة : دليل العقل :
لقد جاءت الشريعة بجواز التداوي، وحثت على النظر والتأمل والبحث عن أسبابه على الأصل من إباحة ما سخره الله تعالى لنا من الطيبات،فلقد قال تعالى:"وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون"[615]، وقال تعالى:"اليوم أُحلَّ لكم الطيبات"[616]، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً"[617] علمنا أن هذا الإنزال شامل لما نزل على لسان الوحي ولما نزل على سبيل التقدير قضاءً من الله تعالى وهو ما نحن بصدده، وقد تقدم الكلام عن الأول، أما الثاني فيتناول أنواع الأدلة العقلية من حس ومشاهدة وتجربة، ولعل هذا هو الأكثر في مجال العلوم الطبية لأن نصوص الشريعة لم تأت لاستيعاب العلوم الكونية وإنما جاءت موجهةً إليها[618]، فمن هذه الأدلة ما هو قائم على الحس والمشاهدة كعلم التشريح، ومنه ما هو قائم على التجربة كعلم الدواء والكيمياء وهكذا.
بقي أن ننبه على أمرٍ مهم يغفل عنه كثيرٌ من الناس والأطباء، وهو أن مستند الحس والمشاهدة والتجربة في علوم الطب ينطبق على قلةٍ قليلة من الأطباء والباحثين، وهي القلة التي تقوم بهذه التجارب والأبحاث فعلاً وتباشرها بنفسها، أما السواد الأعظم من الأطباء وأهل الفن فإنما يتلقون نتائج هذه المشاهدات والتجارب عن طريق النقل، كما هو معهود من طريق المجلات والدوريات العلمية والمؤتمرات والندوات والمحاضرات وغيرها من الوسائل التي هي في حقيقتها وسائط نقل أخبار لا وسائط تجربة وحس ومشاهدة، وإذا كان الأمر كذلك فإن التحقق من صحة هذه الأدلة العقلية في أصلها لا يتحقق إلا بأمر من اثنين أو باجتماعهما؛ أحدهما هو التثبت من نفس الدليل العقلي عبر تكرار التجربة والاستشكاف والتوثق من نتائجها، والثاني هو التحقق من صدق الناقل عبر تحرير صفات الأمانة والعدل التي تمنع الناقل من الكذب فيما يخبر عنه، فإذا اجتمعت الوسيلتان كان أثبت وأضبط بلا ريب. ولهذا وجب عليك أيها الطبيب أن تكون فطِناً، فلا يُغرر بك مقال في مجلة طبية مرموقة، ولا نتائج بحث تصدره منظمة دولية، ولا قرارات اجتماع طبي أساسها الرأي المحض، بل اعلم أن كل ما يأتيك خبره من علوم طبية حديثة متجددة فهو خاضع للبحث والتثبت بإحدى الوسائل السابقة، والحق أن هذا الأمر – أعني التثبت من الأخبار الطبية – يستلزم منا وضع منهج متكامل نعرض عليه ما يردنا من أخبار في هذا المجال لنحكم عليه بالصحة أو القبول المبدئي أو الرفض، ولعله يرد لاحقاً إن شاء الله تعالى.
فصل: العلاقة بين دليل النقل والعقل في علوم الطب:
إذا تقرر ما سبق برز التساؤل حول علاقة دليل النقل والعقل ببعضهما البعض في مجال العلوم الطبية،ولما كان تحرير هذه المسألة مهماً فإننا نعرج عليه بإيجازٍ فيما يلي حيث نبين أهم معالم هذه العلاقة:
أولاً: التوافق والتكامل :
فأنت إذا علمت أن دليل النقل مصدره الوحي المعصوم وهذا راجع إلى الشرع، ودليل العقل مصدره الحس والتجربة الصحيحة وهذا راجعٌ إلى نواميس الخلق ، وعلمت أن كلاً من الشرع والخلق صادرٌ عن الحق سبحانه وتعالى، بان لك استحالة وقوع التعارض أو التناقض بين دليل عقلي صريح وخبر نقلي صحيح. وكل ما يعرض لك مما ظاهره التعارض راجعٌ إلى توهمِ معنى غير صحيح في صحيح المنقول، أو توهم دليل عقلي لا يرتقي إلى درجة القطع، أما أن يقع التعارض حقيقةً بين معنى صحيح لخبرٍ صحيح وبين معنى صحيح لعقل صريح فممنوع عقلاً وشرعاً وحساً.
ثانياً: دليل النقل في باب الطب معظمه مجمل ودليل العقل في باب الطب معظمه مفصل:(2/78)
بمعنى أنك تجد في مجموع ما ثبت من النصوص الشرعية أصولاً عامة لمبادئ الطب مع جملة يسيرة من تفاصيل العلاج والاستشفاء، في حين تُرك تفصيل واستكشاف تفاصيل الأدوية والعلاج للعقل البشري يشاهد ويستنبط ويستفيد من تسخير الله تعالى لهذا الكون الفسيح له. ويجدر بنا أن نشير في هذا المقام إلى كلامٍ نفيس للحافظ ابن حجر في شرح مقدمة كتاب الطب للإمام البخاري، يقول عليه رحمة الله:" فالطبيب الحاذق هو الذي يسعى إلى تفريقِ ما يضر بالبدن جمعُه أو عكسه[619]، وفي تنقيص ما يضر بالبدن زيادته أو عكسه[620]، ومدار ذلك على ثلاثة أشياء : حفظ الصحة والاحتماء عن المؤذي واستفراغ المادة الفاسدة، وقد أشير إلى الثلاثة في القرآن ؛ فالأول من قوله تعالى "فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعدةٌ من أيام أُخر"[621] وذلك أن السفر مظنة النصَب وهو من مغيِّرات الصحة، فإذا وقع فيه الصيام ازداد فأبيح الفِطر إبقاءً على الجسد، وكذا القول في الثاني وهو الحمية من قوله تعالى :" ولا تقتلوا أنفسكم"[622]، فإنه استُنبط منه جواز التيمم عند خوف استعمال الماء البارد، والثالث من قوله تعالى:" أو به أذى من رأسه ففدية"[623] فإنه أُشير بذلك إلى جواز حلق الرأس الذي مُنع منه المحرم لاستفراغ الأذى الحاصل من البخار المحتقن في الرأس"[624]اهـ. قلت: فهذه كما ترى أمور ومبادئ مجملة، وليس القرآن الكريم ولا السنة النبوية كتاب طب أو صنعة أو مهنة، وإنما هو كتاب توجيهٍ وإرشادٍ، فحسبك أمثال هذه النصوص من القرآن الكريم كي تنطلق في رحاب الكون الفسيح منقباً عن نواميسه، مسخِّراً لما فيه من أسباب قدَّرها الله تعالى لتكون مقدمات البرء أو وسائطه بإذن الله، وما هذه التفاصيل والجزئيات المتجددة يومياً في عالم الطب إلا ثمرة من ثمار نعم الله تعالى علينا، لولا أنها يعوزها التنقيح والتجريد لفصل الصالح من الطالح كما هو موضوع هذه الرسالة.
ثالثاً: دليل النقل حاكمٌ على دليل العقل :
ولكن تبقى لمسألة العلاقة بين النقل والعقل أهميةٌ خاصة لمن عزم على هذه الانطلاقة – أعني الاستكشاف العقلي التجريبي - ألا وهي دور النقل في وضع ضوابط وحدود البحث والتطبيق العقليين ؛ فلا يجاوز حدود الحلال إلى الحرام، ولا يأتي بمنهجٍ أو طريقٍ علاجي يعارض أوامر الشرع أو يقارف مناهيه. تأمل معي ما ورد في الحديث أن طارق بن سويد الجُعفِي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها ، فقال: إنما أصنعها للدواء. فقال :" إنه ليس بدواء ولكنه داء"[625]، وذكر البخاري في صحيحه بتعليقٍ جازم :" قال ابن مسعود في السَّكَر : إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حُرِّم عليكم"[626]، والشاهد من هذه النصوص أن على الطبيب المسلم أن يلتزم في منهج البحث العلمي التجريبي أمرين؛ أحدهما الانطلاق من قواعد الشرع الثابتة فلا يتقحم الحرام ابتداءً، وثانيهما أن ما قد يتوهمه البعض من وجود الشفاء في المحرمات ليس إلا وهماً باطلاًَ، لما تقدم من أن الله تعالى لم يجعل الاستشفاء المباح في ما منعته الشريعة من الحرام وإلا كان هذا تناقضاً من جهة الشارع وهو ممنوع قطعاً، والنكتة في المسألة أن تعلم أن ما قد يُتصور من نفع طبي في مادةٍ محرمة قد تكون موجودة في الواقع وفي نفس الأمر، ولكنها تُعتبر مصلحة أو منفعة ملغاة بحكم الشرع فلا يُلتفت إليها، أي أن وجودها وعدمه سواء، ودليل هذا قوله تعالى في الخمر والميسر :" قل فيهما إثمٌ كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر نفعهما"[627]، فالنص يثبت وجود منفعة يسيرة ولكنها ملغاة،ومعلوم أن حكم الشرع قد استقر على تحريمهما فلم تلتفت الشريعة إلى هذا النفع اليسير وأسقطته من الاعتبار. وهذه الضوابط كما تنطبق على وسائل الاستشفاء فإنها تنطبق أيضاً على النظريات الطبية، فلا يمكن قبول نظرية طبية تصادم النصوص الثابتة، ولا يمكن جعل هذه النظريات منطلقاً لأي منهج علاجي البتة.
ولعل من المناسب في هذا المقام أن نشير إلى بعض النماذج التطبيقية للخلل الناجم عن عدم الانضباط بضوابط الشرع في مجال الوقاية والعلاج والنظرية والبحث الطبي ؛ فأما أنموذج الوقاية فمنه ما تروجه بعض الدوريات الطبية من نتائج أبحاث تشير إلى دورٍ وقائي للخمر من بعض الأمراض، وأما أنموذج العلاج فمنه إيهام الأطباء والناس عموماً أن علاج مصيبة الأمراض المنتشرة جنسياً يكون بتحسين وسائل الاتصال الجنسي المحرم، ومعالجة آثاره بالعقاقير دون الالتفات إلى العلاج الجذري لهذه المصائب، وأما في مجال النظرية العلمية فحسبك فضائح الفرويدية وفضائح المؤصلين للشذوذ الجنسي باعتباره "سلوكاً بشرياً طبيعياً" خابوا وخسروا، وأما في مجال البحث الطبي فها نحن نسمع ونرى كل يوم ما تتفتق به عقول ومختبرات القوم ممن لا ينضبطون بحدٍ شرعي، ولا يقفون عند حدٍ في أبحاثهم، فمِن استنساخ جنينٍ بشري إلى التلاعب بمورثات الأجنة إلى استئجار الأظآر وهكذا. ولا يخالنَّ أحد أن مقصودنا الحجر على البحث العلمي كلا، بل المقصود الانطلاق من قواعد علمية سليمة – بما في ذلك القواعد العلمية الشرعية – والانضباط بحدود المباح والمشروع، حتى لا نواجَه بنوازلَ فقهية وانحرافاتٍ تطبيقية، ثم نتهافت على دور الفتوى بحثاً عن مخارج فقهية لنوازل غريبة عن عقيدتنا ومنهجنا وشريعتنا.
فصل: تحرير القول في التوثق من أخبار علوم الطب التجريبية:(2/79)
تقدم معنا أن جلَّ العلوم الطبية وإن كان قائماً على دليل العقل من بحث وحس ومشاهدة، فإن طريق معظم الأطباء إلى هذه الأدلة هو طريق النقل، وإذا كان الحال كذلك فلا بد للطبيب المسلم من أن يتسلح بمنهج أو معيار يستطيع من خلاله الحكم على هذا المنقول، لاسيما وأن آلة العلم اليوم من أهم وسائل الاختراق العقدي والفكري لمجتمعاتنا المسلمة، وفيما يلي بيان بعض معالم هذا المنهج :
أولاً: معرفة الثوابت العقدية والأصولية في ديننا الإسلامي العظيم:
إن الحكم على أي شاردة أو واردة لا يتم إلا بمعيارٍ نقيس به إمكان صحة المخبَر عنه، بمعنى أن الخبر إذا تعارض مع ما هو مقطوعٌ به شرعاً لم يُقبل كائناً من كان قائله، وعلى سبيل المثال لا الحصر نقول إن من الثوابت الشرعية ثبوت تحريم اللواط، وهذا التحريم تكليف، والقاعدة في الأصول أن التكليف بما لا يطاق ممتنع[628] استناداً إلى قوله تعالى:" لا يُكلف الله نفساً إلا وسعها"[629]، فإذا جاء خبرٌ عن دراسة أو بحث أو كشف منسوبٍ للعلم يزعم أن اللواط أمر طبيعي، ولا يمثل إلا مظهراً من مظاهر التعبير الطبيعي عن الميول الجنسية الغريزية للإنسان،[630] رُدَّ هذا القول جملةً وتفصيلاً، تأمل معي قوله تعالى:" فلما جاء أمرنا جعلنا عاليَها سافِلَها وأمطرنا عليها حجارةً من سجّيلٍ منضودٍ. مُسَوَّمةً عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد"[631]، وهل يعذب الله تعالى بهذا العذاب البئيس أناساً يعبِّرون عن ميولهم الجنسية تعبيراً طبيعياً؟ كبُرت كلمةً تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً..
ثانياً: تحقيق صفة من يُقبل خبره:
والحقيقة أن جهابذة علماء الحديث قد وضعوا أدق منهجٍ علمي للتثبت في الأخبار عُرف على وجه الأرض، وليس المقام مقام تفصيل في ذلك، ولكن لنا صفتين اثنتين لناقل الخبر يجدر بالمسلم أن يتشبث بهما وهما العدالة والضبط. أما الضبط فيعود إلى الإتقان والدقة في العزو والنقل، وهذا مقرر في المنهج البحثي المعاصر بحيث لا يُقبل الكلام المجرد عن دليله أو مصدره، كما أنه مقرر في المناهج العلمية المعاصرة التي تنظر في الدراسات والأبحاث القائمة على الأساليب الإحصائية للتحقق من نسبة احتمال الخطأ في النتائج المتوصل إليها، وليس الأمر بدعاً من الأمر، كما أن ليس لأسلوب التحقق من الدقة والضبط حصر، بل لك أن تستعمل أي أسلوبٍ منضبط للتحقق من صحة النقل ومدى قطعية النتائج أو تسرب الاحتمال إليها. وهذا المعيار معيارٌ مستقل عن معيار العدالة، والعدالة مردُّها إلى مدى الوثوق بأهلية الناقل لتحمُّل الخبر، وأدائه على الوجه الصحيح دون ميلٍ أو هوى أو تحريف أو حذفٍ مُخِل، بحيث إذا تخلفت صفة العدالة والأمانة والنزاهة عند الناقل أو كان معروفاً بكونه صاحب فكرٍ أو اعتقاد يهدف للترويج له تُوقِف في خبره، ولا أقول أن خبره يُردُّ مباشرة، وإنما يُتوقف فيه لتسرب احتمال الكذب والإيهام إليه، بحيث يتلقى الطبيب المسلم هذه المعلومة بعين الفاحص الناقد البصير، وليستعِن بمن تتعين الاستعانة به من أهل الخبرة والفن الثقات والعدول من أجل التوصل إلى حكمٍ صحيح على هذا الخبر. ولعلك بناءً على ما تقدم تطالب بالدليل على وجوب سلوك هذا المنهج، فأحيلك إلى قوله تعالى :" يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبينوا"[632]، وإذا كان هذا في الفاسق فالكافر أولى[633]، وإلى قوله تعالى :"وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لَعَلِمَه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضلُ الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً"[634]، وهنا تنبيه مهم جداً لعلك تلمسه في حياتك اليومية أيها الطبيب المسلم، وهو أن مسألة عدالة الطبيب والتوثق في خبره ألصق بما يتخذه الطبيب من قرارات طبية لأفراد المرضى منه بعموم المنهج العلمي، فأنت قد تستعيض عن عدالة ناقل الخبر بغير ذلك من وسائل التثبت والتحقق، ولكن حين يتعين الخبر من الطبيب فيما يوصي به المريضَ من مداخلاتٍ طبية قد تترتب عليها جراحة[635] في البدن أو فوات في النفس أو انتقاص في العبادة لأجل رخصة في غير محلها ونحوه فهذا أمرٌ آخر، ولأهل العلم كلام طويل في هذا، ولكن الشاهد أن مهنة الطب ليست مجرد كتابة دواء، أو بتر قدم، أو منع مريض عن الصيام والقيام دون التورع عن اقتحام حقوق العباد وحدود رب العباد، كما أن الطبيب ليس حاطب ليلٍ ينقل لمرضاه ما لا يميز سقيمه من صحيحه، أو قل ليس هذا شأن الطبيب المسلم الذي يخاف الله تعالى.(2/80)
وهنا استدراك لا بد منه، وهو أن معظم أو أكثر الباحثين والأطباء وذوي الخبرة والاختصاص في مجال الطب اليوم هم من الكفار، فإذا سلكنا المنهج المتقدم وتوقفنا في قبول علومهم لمجرد كفرهم آل ذلك إلى تأخر ركب العلم لدينا وتعطيل الاستفادة مما توصلوا إليه من علوم، وجواب هذا الإشكال أن عدالة الفرد يمكن الاستعاضة عنها بالتواتر، ومعنى هذا أن تواتر الكثيرين على نقل خبرٍ ما مستنده الحس والمشاهدة يسد مسد التحقق من عدالة الناقل الفرد لأن شبهة الكذب تتضاءل، فنحن اليوم عندما نأخذ دراساتٍ علمية حول علاج التهاب السحايا بالمضادات الحيوية، نجد أن الأبحاث العلمية الطبية من الشرق والغرب ومن الدول النصرانية والملحدة والوثنية تجتمع على نفس النتائج، فهذا التواتر والنقل والاستفاضة في الخبر يسد مسد عدالة الناقل الواحد، ويبقى مكان الاحتراز من الخبر العلمي أو البحث العلمي عندما تتفرد مجموعة قليلة من الباحثين بنتائج أو توصيات غريبة، لا سيما إذا توافقت هذه النتائج مع برامج خفية لحرب العقيدة الإسلامية، فهنا يجب التوقف والتحري والاستقصاء قبل أن نأخذ الأمور كما هي، وها هي السياسات الصحية اليوم تُرسم في مجتمعاتنا معتمدةً على تنظير أقوامٍ ليس لهم من همِّ العناية بنا إلا الإفساد والإتلاف إن تعذر الاستبداد والاستغلال، ولعلك تحتاج أن تقرأ ميثاق حقوق الطفل العالمي وتوصيات مؤتمر السكان العالمي لتُلمَّ بشيءٍ من ذاك الذي يُحاك بلَيل، لتعرف دورك أيها الطبيب المسلم في مناصحة القائمين على التخطيط والتسييس والتقعيد للسياسات الصحية في مجتمعك!
فصل: مرابطة الطبيب المسلم على ثغره :
نعم، هذا هو المنطلق اليوم لمن أراد أن يتبوأ مقعده في منظومة الدفاع عن العقيدة، إنه منطلقٌ حاصله ألا يؤتى الإسلام والمسلمون من قِبَلِك، فأنت أيها الطبيب المسلم أعظم دوراً من أن تنشغل برتبٍ وظيفية وترقيات مهنية، والدور المنوط بك اليوم – كالدور المنوط بإخوانك وأخواتك – أكبر وأعظم من الانشغال بحظوظ النفس وأهوائها، ولذا عليك أن تلتزم بهذا الرباط وقوامه أمران؛ رباط علمي وآخر عملي.
أما رباطك العلمي فأن تأخذ أنت زمام البحث والتجربة والاستكشاف الصحيح، ولا تقنع بمجلس المتلقي، وأن تأخذ على عاتقك مهمة صد الدخيل من سهام الفكر والمعتقد المتلبسة بلبوس العلم، فتكون حارساً لمجتمعك المسلم، تنبه أفراده ومسؤوليه إلى الدس والكيد المغلَّف، وأن تعيد لكل ذي قدرٍ قدره فتدرك آلية الموازنة الصحيحة بين توجيه الوحي وبين ما سخره الله تعالى من مفردات الكون ونواميسه، فلا يكون حالك البتة كحال ذلك الهالك:" قال إنما أوتيته على علمٍ عندي"[636]، ولا يعميك بريق العلم الكوني عن الاعتراف بالمِنة والفضل لواهبه حتى لا تكون ممن قال فيهم الله تعالى :" يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون"[637].
وأما رباطك العملي فأن تستحضر في كل يوم تزاول فيه مهنتك ما أنت عليه من ثغر، وما هو منوط بك من مسؤولية، وتجعل من وقتك وجهدك ما هو مصروف للتحصُّن العلمي والتواصل مع إخوانك في المهنة وأهل العلم، ثم التطبيق العملي لكل ما ذكرنا، وتذكر أن ميدان عملك المباشر يتمثل في المريض الذي أسلم أمره – بعد الله تعالى – إليك، ووثق بك وحمّلك أمانة رعاية جسده الذي هو قالب قلبه، فارعَ الأمانة رعاك الله، وتأمل حديث معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم :" ما من عبدٍ يسترعيه الله رعية فلم يَحُطها بنُصحه لم يجد رائحة الجنة"[638]، وإن الله سائلك عما استرعاك واستأمنك، فإذا وصلت إلى هذا الحد، فارتق بطموحك درجةً أخرى لتبحث عن موطأ قدم تقف فيها إلى جانب المنافحين عن هذا الدين بكل ما يملكون، فإن لهم في طِبِّك حظٌ ونصيب، بل حظهم آكد ونصيبهم أشح، والله تعالى أعلم. نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يسددنا ويتقبلنا ويوفقنا للعمل في خدمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.[639]
الفصل الثالث: حلية الأخلاق والمعاملات
لا يخفى على المشتغل بالطب دراسةً ومهنةً أن مدار عمله على التعامل مع الناس، وإنما جاءت أخلاق الإسلام لتضبط تعامل المسلم مع غيره، ولتجعل هذا التعامل خاضعاً لمنهج طاعة الله عز وجل ومتوجهاً لطلب مرضاته، وبهذا المعنى كاد يقتصر غرض البعثة على تأصيل وتكميل منظومة الأخلاق، كما قال صلى الله عليه وسلم: " إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق"[640].
وإن حياة الطبيب المهنية تنقسم إلى شقين رئيسين، تتناول كل منهما مجموعة من الأخلاق والسلوكيات والأدبيات المميزة، فالشق الأول هو تعامل الطبيب المسلم مع غيره من الأطباء مسلمين وغير مسلمين، والشق الثاني هو تعامله مع المريض مسلماً كان أم غير مسلم، ولا يخفى أن لكل حالة من هذه الأحوال خصوصيات تتميز بها ومبادئ شرعية تضبطها كما نبين بإذن الله.
أولاً: أخلاق الطبيب المسلم مع زملائه:
لا ينفك الطبيب يتعامل مع زملاء له في الدراسة والمهنة، فهو تارةً يلتقي بهم في مجالس الدرس والتعلُّم، وتارة يلتقي بهم في تدبير بعض المرضى، فلا يكاد يخلو عمل الطبيب أبداً من تعامل مع غيره، فكان لا بد لهذا التعامل من ضوابط وآداب ينضبط بها ولسوف أتناول بعضها فيما يلي:(2/81)
1- براءة الصدر من الغل والبغض والحسد : وهي – أي البراءة مما تقدم - من أصعب الأخلاق تكسبُّاً لمن لم يُجبل على شيء منها، وهي مع ذلك قابلة للاكتساب، ومحل التكسب منها هو الأخذ بالأسباب والمقدمات الموصلة إليها، فما من خُلُق محمود جِبلةً وطبعاً إلا وللمسلم طريق إلى تكسبه، كما دلت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة كقوله تعالى:"يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا "[641] فأمر بالمصابرة لمن لم يكن له الصبر طبعاً منقاداً، فتنبه. ولكن قبل الحث على أخذ أسباب الارتقاء بالنفس إلى مدارج هذه الأخلاق، لا بد لنا من تقريرها والنظر في مكانتها في شرعنا الحنيف، فأما التبرؤ من الغل فأخذناه من قوله تعالى:" والذين جاءوا مِن بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غِلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم"[642]، وأما النهي عن البغض فمن نهي النبي صلى الله عليه وسلم :"ولا تباغضوا"[643]، وأما النهي عن التحاسد فمن توجيه الشرع بالاستعاذة من شره : "ومن شر حاسد إذا حسد"[644]، وحديث :" ولا تحاسدوا"[645] ، وقد يُشكل عليك هاهنا حديث عبد الله بن مسعود قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا حسد إلا في اثنتين ؛رجلٌ آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلِّمها"[646] إذ قد ورد النهي العام على الحسد في موضع وأبيح في موضع آخر، والحقيقة أنه لا إشكال أو تعارض البتة، فبالتدبر في سياقات النصوص تدرك أن الحسد المنهي عنه بإطلاق هو الحسد المذموم الذي يقوم على تمني زوال النعمة عن الغير وعدم الرضا بما فضل الله به بعضاً على بعض، أما الحسد الجائز فهو ما كان من جنس تمني نظير النعمة المشهودة دون طلب زوالها عن الغير، وبدافع الاقتداء بذلك الغير في فعل الخير والتقرب بالطاعة إلى الله تعالى، وهو ما يصطلح عليه البعض بالغِبطة، وقد يقوى القول على اقتصار الجواز على ما ورد في النص وهو العلم والمال المصروف في موارد الخير، والشاهد هنا أن مجال العمل الطبي تتفاوت فيه القدرات والإنجازات والمناصب فلا يكون ذلك مدعاةً للتلبس بهذه الأخلاق المذمومة، بل يحول الطبيب جهده وسعيه نحو التنافس المشروع في باب الخيرات.
2- الحب في الله: ومدار هذا الحب على التجرد الخالص لله تعالى بحيث يدور هذا الحب مع الطاعة والمعصية زيادةً ونقصاناً على الترتيب.ومعنى هذا أن الطبيب المسلم يزداد حبه لأخيه الطبيب المسلم كلما كان هذا الآخر ملتزماً بأمر الله عابداً طالباً مرضاته، يسعى على مصالح المرضى المسلمين، ويغار على صحتهم ودينهم، ويسهر على تخفيف آلامهم، فكلما كان الطبيب المسلم متفانياً في هذا كله كلما أوجب له مزيد محبةٍ في نفوس إخوانه الأطباء، والعكس صحيح فكلما كان الطبيب مهملاً لمرضاه غير قائم على تقوى الله فيهم، كلما نقص حبه بل ربما شرع بغضه في الله، فتأمل هذا وقارنه مع ما يقع – للأسف – بين الأطباء أحياناً من علاقات وروابط أساسها المصالح الدنيوية والارتقاءات الوظيفية والمصالح الشخصية.
3- احترام الطبيب أسبقية إخوانه في العلم والعمل: فمن المعلوم أن سياق التعلم والممارسة الطبية يستلزم نوعاً من العرض العلمي أحياناً، ومراجعة بعض الحالات المرضية النادرة ونحو ذلك، وهذا قد يأتي في صورة عرض حالة مرضية أو مراجعة حالة مستعصية، فلا يجوز والحال كذلك للطبيب المسلم أن يعمد إلى حالة مرضية ما قد سبقه إليها زميله فيقدمها ويعرضها بدلاً منه، فإن هذا قريب من البيع والخطبة على بيع وخطبة أخيه المنهي عنها في السنة المطهرة، فقد قال أبو هريرة يأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ..ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك"[647]. كما يحرص الطبيب على عدم السرقة العلمية لجهد الغير فإن ذلك داخل في الغش المحرم. والسر في كل ما تقدم يعود إلى سد الذريعة المؤدية إلى التباغض والتشاحن بين إخوة الدين، فتنبه لذلك واتخذه ضابطاً لسلوكك، فكل ما أدى إلى التباغض بين المسلمين حالاً أو مآلاً فإن الشريعة تنهى عنه وتبغضه.(2/82)
4- عدم كتم العلم : فالعلم إنما يسره الله تعالى لينتشر بين الناس فيعوه، ويهتدوا به إلى الحق وإلى طريق مستقيم فيلتزموه، فأصبح لزاماً علينا أن نعمل على نشر العلم الصحيح، وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سُئل عن علم علمه، ثم كتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار"[648]، ولا يخفى مدى ذم وتوبيخ أهل الكتاب لكتمهم العلم الذي آتاهم الله تعالى : "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لَتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلا فبئس ما يشترون"[649]، والثمن القليل الذي يسعى وراءه الطبيب بكتم علمه لا يخرج عن عرض من أعراض الدنيا وهوى من أهواء النفس المريضة؛ فهو يكتم علمه ليتفوق على زملائه أو ليحتكر صنعة يعرفها أو ليتفرد بمركز علمي ما، وهي أغراض لَعمري رخيصة في عين من يستحضر ميثاق الله تعالى الذي أخذه على أهل العلم الشرعي أصالةً – وعندي أن أهل كل علم مشروع يدخلون فيه تبعاً- فاحذر أيها الطبيب المسلم من نكث العهد ومن استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، واعلم أن هذا الأصل يلازمك في شتى مراحل حياتك المهنية الطبية من مرحلة العلم والتعلم إلى مرحلة العمل والخبرة ، وإن شر العلماء من يحبسون علمهم ليموت بموتهم ويفقد بفقدهم. وأشير في هذا المقام إلى مدى الشطط الذي بلغته "الحضارة " الغربية فيما اصطلحوه من "حقوق التأليف والاختراع" بحيث صارت بعض العلوم محتكرة على أصحابها رغم شدة حاجة الناس إليها، ولست أنكر حق المخترع والمؤلف بالكلية وإنما أشير إلى روعة الإسلام في إهدار النفع الخاص عندما تؤدي مراعاته إلى الضرر العام، وانظر على سبيل المثال احتكار شركات الدواء لحقوق تصنيع بعض الأدوية وبالتالي التحكم بأسعارها واستغلال احتكارهم هذا لنفعهم الخاص [650]
5- الستر على زملائه الأطباء : إن من المعلوم أن مجال الطب مجال اجتهاد واسع، وقد يجانب الطبيب التوفيق أحياناً في اختيار علاج أو تشخيص حالة أو قد يستعصي عليه الأمر بالكلية، بل قد تقع منه أخطاء يسيرة لا تضر في نفس الأمر، فيجب على الطبيب الذي يقع على شيء من أخطاء زملائه التي لا تضر في نفسها أن يستر على أخيه بما لا غش فيه للمريض ولا ضرر، بخلاف ممارسة بعض الأطباء الذين لا يلبثوا أن يكتشفوا زلة يسيرة لطبيب آخر حتى يبادروا إلى تجريحه واتهامه في علمه وفهمه وتوهين ثقة المريض به، ويتظاهر هذا المجرِّح بأنه يريد مصلحة المريض بل ووجه الله أحياناً، وهو في حقيقة الأمر لا يريد إلا إسقاط ذاك الطبيب من عين المريض، عسى أن يعزز ذلك التجريح من مكانته هو في عين المريض والمجتمع، وغاب عن هذا المسكين فضلٌ عظيمٌ هو خيرٌ له من حطام الدنيا الذي يلهث وراءه، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم :"ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة"[651]، وأعود فأنبه إلى أن محل الستر ها هنا هو فيما لا يضر بالمريض مما هو مسلكٌ سائغ في مجال الطب وإن كان خلاف الأولى، أو كان خلاف مسلك طبي آخر مما هو مغتَفَر في نفس الأمر، أما إذا كان الخطأ مما يضر بالمريض أو يستلزم كشفه له فمحل الستر هنا هو عدم الإفراط وتجاوز الحد في اتهام الطبيب، وإنما البيان على قدر الحاجة، فتنبه إلى هذا الخُلُق فإنه بين الأطباء اليوم نادرٌ جداً.
6- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إن طبيعة تصرفات الطبيب وما يترتب عليها من أمور تؤثر على كثيرٍ من الناس، توجب على معاشر الأطباء أن يكون كلٌ منهم عوناً لأخيه، ينبهه حين يغفل ويصوبه حين يزل، وما ذلك إلا تفادياً للعواقب الوخيمة الناجمة عن رؤية الخطأ والسكوت عنه، ولا يستشكل هذا مع ما سبق من خُلُق الستر، فقد بينا أن ضابط الستر هو فيما لا يضر بالمريض، بحيث يستر على الزلات اليسيرة لزملائه الأطباء التي لا يترتب عليها ضرر وإنما تكون تفويتاً للأكمل والأفضل[652]، أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو بين الطبيب وأخيه الطبيب، وإنما اصطلحت على هذا السلوك التناصحي الإصلاحي في ميدان المهنة بالاصطلاح الشرعي المشهور "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " ليتقرر في نفس كل طبيب مسلم أن هذا التعامل المهني الراقي هو من جنس هذا الواجب الشرعي، فيجب أن ينطلق من نفس الدوافع ويتأطر بنفس الأطر وتراعى فيه نفس المصالح والمفاسد؛ وتوضيحاً للأمر أقول إن توجيه الطبيب المسلم أخاه إلى سلوك مهني صحيح أو تنبيهه على خطأ أو زلة مهنية يجب أن يكون منطلقاً من دافع الحرص لا من دافع التجريح والإحراج، كما يراعى فيه اللين واللطف والأدب بعيداً عن ألفاظ الأذى والتسفيه والتجهيل، كما أن اختيار ما يوجه أو ينبه إليه يجب أن يكون مما تترتب عليه مصلحة أو يندفع به أذى لا أن يكون نقداً لمجرد النقد، وبمثل هذه الأخلاق يتجرد الطبيب المسلم من داعية هواه ويحتسب على هذا العمل مثل ما يحتسب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشرعي من الأجر والمثوبة إن شاء الله.
ثانياً: أخلاق الطبيب المسلم مع مريضه:(2/83)
لا يخفى أن محور الحياة المهنية اليومية للطبيب قائمٌ على التعامل المستمر مع هؤلاء المرضى، وإن واجب الطبيب المسلم التحلي بالأخلاق الإسلامية في سياق هذا التعامل بغض النظر عن معاملة المريض له؛ وعلى الطبيب أن يدرك أن المريض الذي يتعامل معه يمر بظرف طارئ قد يفضي إلى بعض التصرفات القولية أو الفعلية غير المناسبة، وليكن الأصل في التعامل مع المريض في حالات ضعفه ومرضه قوله تعالى:" واخفض جناحك للمؤمنين"[653]، فإنه الوصف الأليق بالمؤمنين الكُمَّل الذين جاء وصفهم في القرآن :" فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين"[654]، وقال تعالى:" محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم "[655]، فعلى الطبيب المسلم أن يلين جانبه ويتواضع لمريضه المسلم ويحتمل منه ما قد يتفلت منه من سوء تصرف ويتعبد الله تعالى في ذلك. وليكن دأب الطبيب المسلم هذا اللين والرفق والتواضع حتى مع المريض غير المسلم ما لم يكن هنالك مانع شرعي من ذلك، إذ ليس المراد الاستدلال بالآيات على تعنيف المريض غير المسلم ونحوه بل إن مقام العزة على الكافر ليس هذا محله، فالمريض أياً كان أمره ودينه يكون في حالة انكسار أدعى ما تكون للين الجانب والرفق، وإنما أكدت على ذلك مع المريض المسلم لأنه داخلٌ في إطار الحقوق والالتزامات بين المسلمين بعضهم البعض، ولننظر على سبيل المثال كيف كان خُلُق الرسول صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المريض غير المسلم حتى لا تشتبه علينا الأمور أو نتوهم خلاف المشروع، فعن أنس رضي الله عنه قال :كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم. فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول :" الحمد لله الذي أنقذه من النار"[656]، فأي رِفق ولينٍ ورحمةٍ أشد من هذه التي دفعت النبي صلى الله عليه وسلم إلى عيادة ذلك الصبي اليهودي ؟ إنه رفق ولين طبيب القلوب بل سيد الأطباء، وهكذا ينبغي أن يكون الطبيب المسلم مراعياً لأكمل مصالح مريضه، وخافضاً له جناحه ومحتملاً في الله ما قد يصدر عنه، وإنها نفس الرحمة واللين الذين يسلكهما الداعية إلى الله وهو يخاطب فئام الناس على اختلاف مشاربهم، وهو يتمثل قول الحق سبحانه وتعالى:" ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك"[657].
إن المقدمة السابقة تشير إلى وجود أصولٍ عامة يجب أن يتحلى بها الطبيب المسلم في تعامله مع كل المرضى، ثم إن هناك مجموعة من الآداب الخاصة التي يتحتم على الطبيب المسلم مراعاتها مع مريضه المسلم خصوصاً لأنها تتعلق بها جملة من الأحكام الشرعية فوجب التنبيه عليها. وفيما يلي بيان لبعض درر هذه الحلية إن شاء الله:
1- التواضع :
قال الله تعالى :"كلا إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى"[658] والطغيان هو المجاوزة في الحد، ولا شك أن ما يحصله الطبيب من علوم يتفوق بها على كثير من الناس قد تكون مظنة الزهو والاستعلاء الفارغ على الناس، بحيث لا يخاطبهم إلا من عِلٍّ ولا ينظر إليهم إلا بأنف شامخ وكأنه غفل عن قول الشاعر :
ملأى السنابل تنحني بتواضعٍ والفارغات رؤوسهن شوامخُ
فعلى الطبيب المسلم أن يتواضع ويدرك فضل الله تعالى عليه بهذا العلم، وأنه إنما أوتيه بفضل الله ومنته، لا بفضل نفسه أو ذكائه كما قال قارون حين ذُكِّر بفضل الله عليه فيما آتاه من مال :" قال إنما أوتيته على علم عندي أوَلم يعلم أن الله قد أهلك مِن قبله من القرون من هو أشد منه قوةً وأكثر جمعاً ولا يُسئل عن ذنوبهم المجرمون"[659]، وإني لأذكر عندما كنا في الولايات المتحدة كيف كان يتطاول بعض المجرمين ممن ينتسبون إلى هذه المهنة فيقولون متباهين بعلمهم وبطبهم وبتخصصاتهم الدقيقة أنهم "إله " هذا الفن أو الاختصاص أو يقوله عنهم بعض السفهاء من تلاميذهم والمبهورين بهم فلا حول ولا قوة إلا بالله[660].
2- مخاطبة المريض بما يفهم:
والحقيقة أن هذا أصل شرعي في الخطاب التعليمي كما روت أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: "كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاماً فصلاً يفهمه كل من سمعه"[661]، وقال علي رضي الله عنه :" حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله"[662] ، ذلك أن الهدف من مخاطبة المريض تفهيمه ما يحتاج إليه في مرضه وعلاجه، ولس الهدف إظهار ما عندك من العلم أو الظهور على المريض والاستعلاء عليه ببعض الكلام الاصطلاحي، أو التشدق ببعض الكلام الأجنبي كما هو شائع اليوم، فعليك أيها الطبيب المسلم أن تخاطب المريض بما يستطيع فهمه لا بما تستطيع قوله، وحذار أن تُشعر المريض بالحرج أو الاحتقار إذا سألك أو استفصل منك عن كلامٍ قلته له، بل عليك أن تفسح المجال للمريض أن يسأل ويستوعب ويفهم ليخرج من عندك قرير العين مجبور الخاطر، ولك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، كان لا يُعنِّف سائلاً ولا يحتقر مسألةً ولا يهون من شأن أحدٍ البتة، مع علمك بأنه كان يَرِد عليه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم الصحابي والأعرابي، الغني والفقير ، العزيز والحقير، المرأة والصبي والشيخ الكبير، وكلهم يصدر عنه وقد أجاب مسألته وراعى خاطره وخاطبه على قدر حاجته، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
وأنبه إلى مسألة أخرى وهي أن المريض قد يُلغز إليك بالسؤال استحياءً من التصريح به، فعليك أن تكون نبيهاً فطناً فتستفصل عما يُحرج المريض، وتطمئنه إلى أنك أهلٌ ومحل للثقة حتى لا تفوِّت عليه مسألته أو تخل بمصلحته.
3- مراعاة مصلحة المريض :(2/84)
إن من يتأمل في علم القواعد الفقهية يتعجب أيما عجب من ذلك المنهج الدقيق الذي وضعته الشريعة الإسلامية في تحديد وترجيح مصالح المكلَّفين، وفي منهج تحرير الاجتهاد والفتيا الذي سلكه فقهاؤنا وعلماؤنا رحمة الله عليهم لما يطرأ عليهم، ويرى أنه عين المنهج الذي يحتاج أن يلتزمه الطبيب المسلم وهو يتحرى نفع مريضه وصلاح بدنه وجسده الذي يطببه، فأنت إذا رجعت إلى القاعدة الفقيهة المشهورة : "لا ضرر ولا ضرار "[663] وهي إحدى قواعد الفقه الكلية الخمسة التي ينبني عليها الفقه الإسلامي، ثم تأملت في القواعد المتفرعة عن هذه القاعدة الكلية رأيت كل ما تحتاجه لضبط قراراتك الطبية، لا سيما في الحالات المرضية المعقدة، وسوف أسرد لك هذه القواعد لتتضح لك الصورة ولتثلج صدرك بروعة التشريع والمنهج الإسلامي، وأهم هذه القواعد ما يلي:
1- القاعدة الكلية: لا ضرار ولا ضرار
2- الضرر يُزال
3- الضرر لا يُزال بالضرر
4- الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف
5- إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما
6- درء المفاسد مقدم على جلب المصالح
7- الاضطرار لا يُبطل حق الغير[664]
فهذه أهم القواعد الفقهية في هذا الباب، ولسوف أشير دون إطالة إلى نماذج تطبيقية سريعة تبين لك دور هذه القواعد في القرار الطبي العلاجي؛ فتطبيق قاعدة الضرر يُزال يدفعك لرفع آثار المرض عن المريض ، في حين إن قاعدة الضرر لا يُزال بالضرر تمنعك من أن تعالج خَرَّاجاً يسيراً في طرف من الجسم ببتر ذلك الطرف، أما قاعدة الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف فتسمح لك إعمال المبضع لشق ذلك الخراج مع ما في ذلك من ألم وخرق لأنسجة الجسم، أما إذا تحول الخراج إلى نسيج متموت يضر بالجسم ( كالغرغرينا ) فهنا تطبق قاعدة "إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما" فيجوز بتر العضو إذا خيف على باقي الجسد من الهلاك، وهكذا الحال عند مرضى السرطان الذين يحتاجون لأدوية ذات أضرار جانبية شديدة فتحتمل هذه الأضرار لأنها أخف من ضرر السرطان ، وهكذا دواليك..
وقد يبادرني أحد القول بأن هذه الموازنات في القرار الطبي بدهية معروفة وواضحة، فلماذا نربطها بقواعد فقهية ولماذا نُقحم الشريعة في الطب؟ والجواب على هذا من أوجه، أولها أن كون الأمر بدهي لا يمنع من تقريره بالدليل الشرعي لتستقر في عقول الناس ملائمة ديننا الحنيف لفطرة وحاجة الإنسان، وثانيها أن بيان تقرير هذه المبادئ في ديننا الحنيف يقي الطبيب المسلم من الانبهار بالمنهجية العلمية الطبية التي قد تكون تطورت على أيدي الكافرين، حيث يدرك أن المبادئ العامة التي تضبط منهجية القرار مستقرة راسخة في ديننا فتنقطع مفسدة الانبهار بالكفار وناهيك بها مفسدة، وثالثها وهو أمر يغفل عنه الكثير من الأطباء المسلمين هو أن الانطلاق من هذه القواعد الفقهية الشرعية في تقرير ما هو أصلح لعلاج المريض يُذكرك باعتبار المصالح والمفاسد الشرعية إضافة إلى المصالح والمفاسد الطبية البحتة، بحيث تراعي قدر الإمكان ألا يؤدي القرار العلاجي إلى تفويت مصلحة شرعية أو دينية للمريض أو لغيره طالما أن مراعاة هذا الأمر لا تخل بأسباب العلاج والبرء إن شاء الله، وهذا الاعتبار لا يمكن شهوده عند من لا ينطلق في قراراته من هذه القواعد الفقهية المذكورة. وأورد هنا مثالاً واحداً يبين أهمية مراعاة المصالح الشرعية في القرار العلاجي :
هب أنك تعالج مريضاً أصيب بكسر في اليد، وقررت أنه يحتاج إلى جبيرة، وفي سياق وضع الجبيرة لتثبيت الكسر كان حجم الجبيرة أكثر قليلاً مما يحتاجه الكسر، ولكن هذه الزيادة القليلة لا تضر من الناحية الطبية، فإذا توقفت عند حدود المصلحة الطبية لم يكن هناك مانع من الإبقاء على هذه الزيادة، أما لو كنت تخاف الله وتستحضر القواعد الشرعية التي تضبط رفع الضرر، لعلمت أن هذه الزيادة في موضع الوضوء قد تعطل على المريض طهارته وعبادته، لأن هذه الزيادة ليست موضع رخصة للمسح على الجبيرة، فلا يجزيه المسح على الموضع الزائد، ولربما تعطلت عبادته شهراً أو أكثر مدة بقاء الجبيرة، فلو أنك استحضرت هذا الأمر وراعيت هذه المفسدة الشرعية لاتقيت الله ولما أبقيت على القدر الزائد الذي لا حاجة له من هذه الجبيرة، وهكذا تتضح أهمية مراعاة الضرر الشرعي إضافة إلى الضرر الجسدي عند اتخاذ القرار العلاجي ، والأمثلة أكثر من أن تحصر في هذا المقام، ولكن أردت التمثيل فحسب.
4- الستر على المريض:(2/85)
لا شك أن علاقة الطبيب بالمريض علاقة فريدة من نوعها، فالطبيب شخصٌ أجنبي لا يلبث أن يطلع على أدق خصوصيات المريض في أشد حالاته ضعفاً وهي حالة المرض، وقد يؤدي هذا الإطلاع إلى معرفة بعض الأمور الشخصية، سواءٌ أكانت متعلقة بالمرض أم بحياة المريض الخاصة، ومن هنا وجب على الطبيب المسلم أن يخشى الله تعالى ويتقيه في كتمان هذه الأسرار والستر على المريض، والأصل في هذا قوله صلى الله عليه وسلم : "ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة"[665]، ومفهوم هذا الحديث أن من لم يستر أخاه المسلم لم يستره الله تعالى يوم القيامة نعوذ بالله من ذلك. والمقصود أن ننبه إلى أن ما يطَّلِع عليه الطبيب المسلم من خصوصيات مريضه من جنس الأمانة التي يتوجب حفظها وصونها، والستر على المريض المسلم من لوازم الأخوة الإيمانية، وليس كما يتوهم البعض ثمرةً من ثمرات الحضارة الغربية عند من يتشدق بأخلاقيات المهنة التي يستلهمها ممن لا أخلاق لهم البتة، كما أن على الطبيب المسلم أن يدرك أن الله تعالى مطلعٌ عليه، فيرعوي[666] عن استغلال موضعه المهني الذي قد يتمكن من خلاله من الإطلاع على خصوصيات مرضى لا تربطه بهم علاقة مهنية – كأن يبحث في ملفات المرضى ونحوه – إذ لا يحق له ذلك البتة، بل هو إلى التجسس والتدخل في شؤون الغير أقرب، فإذا احتاج أن ينظر في ذلك – لغرض بحث علمي أو مراجعة ما – فعليه أن يأخذ الإذن اللازم سواء من المريض أم من الطبيب المشرف عليه بحسب العرف الطبي.
بقي أمرٌ مهم في هذا المقام وهو ما قد يقع من إطلاع الطبيب على أمرٍ من المريض فيه إضرار بالغير، فهنا قد تُهدر المصلحة الخاصة حفاظاً على المصلحة العامة، وعلى الطبيب أن يرجع إلى المسؤولين عندما تُشكل عليه مسألة ما، أما أن يسكت عما اطلع عليه مما فيه إضرار بالجماعة المسلمة ويتواطأ مع المريض على كتمانه، فهذا من جنس التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه في قوله تعالى:" ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"[667]،والله تعالى أعلم. ومثال ذلك لو أن الطبيب شخص حالةً مرضية وبائية عند المريض بحيث يمكن نشر الوباء ما لم تُتخذ التدابير الوقائية اللازمة، فإن التستر على المريض – لأجل مصلحته الخاصة – قد يضر بالجماعة العامة من حيث تسهيل انتشار المرض وعدم العمل على الحد منه، وعليه يشرع إهدار الحق الخاص لمصلحة الجماعة.
5- النصح للمريض:
وأقصد بالنصح ها هنا الإخلاص[668]، فعلى الطبيب المسلم أن يكون مخلصاً فيما يقدمه للمريض من وسائل تشخيص وعلاج، ولا يكون همه مجرد تحصيل الأجر من المريض بأي صورة كانت، كأن يطلب من الفحوصات والاختبارات أو يصف من أنواع العلاج ما لا يحتاجه المريض حقيقةً من أجل أن يتكسب من ذلك. واعلم أيها الطبيب أن المريض قد وضع جسده وحياته أمانةً بين يديك، وقد قال الله تعالى :" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"[669]، وإن عدم مراعاة الأمانة وحفظها خيانة واضحة، بل هي خصلة من خصال النفاق التي حذر النبي صلى الله عليه وسلم منها، فعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أربع من كنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر"[670]، والشاهد في قوله صلى الله عليه وسلم :"إذا اؤتمن خان"،ولا شك أن الطبيب مؤتمن على حفظ ما يطلع عليه من حال مريضه بحكم المهنة وضرورة الكشف والعلاج، وتأمل معي حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا حدَّث الرجلُ الحديث ثم التفت فهي أمانة "[671]، قلت: فإذا كان الحال كذلك فما بالك بأخص خصوصيات وأسرار المريض التي تطلع عليها، أفلا تكون أمانةً أثقل من الجبال؟ فحذار أن تتحول أسرار المرضى إلى أحاديث يُتفكه بها في ردهات المشافي والمصاعد وغيرها من المجالس.(2/86)
فإذا عُلم هذا فلتعلم أيها الطبيب المسلم أنك مخاطَب بوجوب التزام الأمانة مع مريضك من جهتين اثنتين؛ إحداهما تتعلق بالمهنة والأخرى تتعلق بالشرع. أما ما يتعلق بالمهنة فقد تقدمت الإشارة إلى شيء منه، بحيث لا يجوز لك أن تخون المريض الذي ائتمنك على صحته وحياته فتتلاعب به، وتهول له الأمور، وتصف له ما لا يلزمه من الفحوصات والعلاجات، والأمر أسوأ إذا كان قصدك من وصف هذه الفحوصات والعلاجات غير اللازمة التكسب المادي بغير وجه حق، وأما ما يتعلق بالشرع فمن جهة عدم هتك ما لا يجوز هتكه مما اطلعت عليه بحكم المهنة من عاهةٍ أو نقصٍ أو عيبٍ خَلقي أو خُلقي، وسواء أكان هذا الهتك بإطْلاع الغير على ما عاينت، أو بإطلاع نفسك على أكثر من الحد الجائز الذي أباحته لك الضرورة الشرعية، ولعل أوضح مثال في هذا الباب ما يتعلق بكشف العورات وهذه من المصائب التي عمَّت وطمَّت، فاعلم رحمك الله أنك إذا احتجت أن تكشف علىجزء من عورة مريضتك لضرورة الفحص والشكاية لم يكن لك عذر في كشف ما عداه، وإذا كان التأمل يكفي لم يكن لك عذر في الجس، وإذا كان في التأمل والجس كفاية لم يكن لك عذر في المس، وهكذا.. وهذا صحيح في العكس – أي اطلاع الطبيبة على عورة المريض إذا تعينت الحاجة أو الضرورة – ومن المناسب أن ننبه في هذا المقام على أمرين يتعلقان بمسألة العورات؛ أحدهما تدرج إباحة الاطلاع على العورة للحاجة أو الضرورة بالنسبة للمريضة فتبدأ بالطبيبة المسلمة، فإن عدمت فالطبيبة غير المسلمة، فإن عدمت فالطبيب المسلم، فإن عدم فالطبيب غير المسلم، ما لم يفوت هذا التدرج مصلحة طبية معتبرة تعود إلى تفاوت المهارة المهنية[672]، وأما المسألة الثانية المتعلقة بموضوع العورات فهي مراعاة حرمة الاطلاع على العورات المغلَّظة بغض النظر عن توافق الجنسين أو اختلافهما، فعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد" [673] والحقيقة أن عدم مراعاة هذا الأمر قد دفعت بكثير من الأطباء والمرضى بل وطلاب العلم إلى اقتحام ما لا يجوز اقتحامه من حرمات وعورات بحجة توافق جنس الطبيب مع المريض، مع أن الأمر ليس على إطلاقه، وكون الطبيب والمريض من جنس واحد – ذكوراً كانوا أم إناثاً – لا يبيح النظر إلى العورة – لا سيما المغلظة منها – بدون ضرورة أو حاجة تكون مُنزَّلة مَنزِلة الضرورة[674]، فتأمل.
ومما يتعلق بالشرع أيضاً أمانة حفظ دين المريض من حيث عدم تفويت فروضه ومصالحه الدينية لغير عذر مشروع، فلا يجوز للطبيب أن يهمل ما يترتب على الإجراء الطبي الذي يقوم به أو الخطة العلاجية التي يضعها للمريض من آثارٍ قد تُخل بعبادات المريض، بحيث يتوجب عليه أن يراعي هذه الآثار ويقلل منها قدر المستطاع، مراعياً الموازنة بين مصلحة المريض الدنيوية في العلاج والاستشفاء ومصلحته الأخروية في القيام بواجباته الدينية، ولعلنا نفصل في هذه النقطة في الفرع السابع مما نحن بصدده الآن.
6- العفو والتسامح مع المريض:(2/87)
مما لا شك فيه أن حالات المرض مظنة لصدور بعض التصرفات التي لا تصدر عن أصحابها في أحوالهم المعتادة، وإنما تقع في ظروف المرض كالشدة النفسية المرافقة لبعض الحالات الخطيرة والحرجة، أو عدم تمام الوعي في بعض الأمراض التي تؤثر على سلامة التفكير والوعي ولو بصورة عابرة أو يسيرة، وغير ذلك مما هو معلوم لدينا معاشر الأطباء، قلت: إن بعض هذه التصرفات قد تسيء إلى الطبيب إما إساءةً معنويةً كصراخٍ وكلامٍ جارحٍ أو تهمة أو حتى بذاءة في بعض الحالات، وإما إساءةً جسديةً لا سيما عند فاقد التصرف السليم لخلل عابر أو مستقر في وظائف الدماغ كالذين يعانون من بعض حالات العته أو بعض الحالات النفسية أو الأطفال الذين ربما يركلون ويعضون الطبيب أو الممرض في بعض الحالات! فلا بد للطبيب والحال كذلك من أن يراعي قدر السلامة له ولفريقه الطبي ولمريضه اتقاءً للأذى الجسدي بالدرجة الأولى، وذلك غالباً ما يتحقق بكسب ثقة المريض والتدرج في مقاربته وتطمينه وإعلامه بكل ما يتم إجراؤه ما تيسر ذلك، وهذا كله مما يتعلمه الطبيب في دراسته وواقعه مما لا حاجة لكثير تفصيلٍ فيه، ولكني أحببت أن أنبه إلى ما يجب أن يتحلى به الطبيب المسلم من خُلُق في تعامله مع هذه الإساءات، سواءٌ أكانت متعمدة أم غير متعمدة، فهذا المريض له علينا حقوق أصيلة من جهة كونه مسلماً فلا يَحلُّ تضييعها بحجة هذه الممارسات التي قد تصدر عنهم، ومن أجمع ما ورد في سياق تقرير حقوق المسلمين بعضهم على بعض قوله تعالى :" محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم"[675]، وقوله تعالى :" يأيها الذين آمنوا مَن يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين"[676]، وقوله تعالى موجهاً نبيه صلى الله عليه وسلم:" واخفض جناحك للمؤمنين"،[677] والحاصل من هذه النصوص أن يتعامل المسلم مع أخيه المسلم بالتراحم والتذلل وخفض الجناح، وهذا كله أرض خصبة لبذور التسامح والعفو عن الخطأ والإساءة ومراعاة حال الغير حين صدور الإساءة أو الخطأ منه، ولا ينقلب الحال بينك وبين المريض إلى سِجالٍ وخِصام وأنفة وكبرياء، وقد قال أبو عبد الله الجَدَلِيَّ : سألتُ عائشة عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:"لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخَّاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح "[678]، نعم هذا هو خُلُق نبينا صلى الله عليه وسلم، وقَمِنٌ[679] بك أيها الطبيب أن تتخذه خُلُقاً ومسلكاً، وأجرك وحسابك على الله. أما خصوصيات التعامل مع المريض غير المسلم فسنفرد لها فقرة لاحقة إن شاء الله.
7- إرشاد المريض فيما يحتاجه من أمور دينه:
قد يجد الطبيب المسلم نفسه أمام مشهد المرض الذي يكون مَظنة الإخلال ببعض الواجبات والتكاليف الدينية للمريض، أو يجد أن ما يقوم به أو يصفه من علاج أو إجراء طبي يؤدي إلى الإخلال ببعض هذه الواجبات، بل ربما تعلقت بعض الأحكام الشرعية بنفس المرض أو الإجراء الطبي الذي يصفه الطبيب، ولا شك أن من واجب الطبيب المسلم حينذاك أن يكون عوناً لمريضه على الوفاء بالتزاماته الشرعية في سياق رحلة المرض والاستشفاء هذه. ويمكن أن نقسم الاحتياجات الشرعية للمريض إلى قسمين ؛ أحدهما يتعلق بالإخلال والآخر يتعلق بأحكام شرعية جديدة مترتبة على المرض وفيما يلي نبذة عن ذلك:
أولاً: ما يتعلق بالمرض من إخلال بالواجبات الشرعية:(2/88)
إن حالة المرض قد تضعف البدن إلى حدٍ يشق على المريض القيام بالعبادة البدنية، أو يتعذر عليه تحصيل شروط عبادة معينة على الوجه الأكمل والصحيح، ولا مجال لاستيعاب مفردات هذه الأحوال في هذه الحلية المختصرة، وإنما أنبه على جنسها من خلال عرض بعض الأمثلة، ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت : جاءت فاطمة بنت أبي حُبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني امرأة أُستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا إنما ذلك عِرق وليس بحيض، فإذا أقبَلَت حيضتُك فدعي الصلاة، وإذا أدبَرَت فاغسلي عنك الدم ثم صلي"[680]، فهذا الحديث أصلٌ في ما يعرف بوضوء وطهارة أهل الأعذار، والشاهد في الحديث أن هذه الصحابية كانت مبتلاة بمرض – هو عرق الدم النازف – وقد التبس عليها هذا المرض حتى حسبته من الحيض الذي لا تصح معه الصلاة، فردها الرسول صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي إلى الصواب، فبيَّن لها حقيقة المرض وأنه عِرقٌ وليس من الحيض في شيء ثم أرشدها – وهذا موضع الشاهد – إلى ما يتعلق بهذا الدم من أحكام شرعية نتيحة الإخلال أو اللبس في مسألة الطهارة. وحريٌ بكل طبيب مسلم أن يعلم هذا الأصل لأنه كثير الورود والتكرار، لا سيما في المستشفيات حيث يفوِّت كثيرٌ من المرضى من أهل الأعذار – كمن عندهم سلس بول أو من وضعت لهم القثاطر البولية ومن أجريت لهم فتحات إفراغ اصطناعية للفضلات ونحوها – يفوِّت هؤلاء على أنفسهم الصلاة لجهلهم بأحكام طهارة أهل الأعذار، ولا أحسب الطبيب الذي وضع القثطرة البولية أو أجرى العملية الجراحية لفتح مخرج للفضلات ونحوه إلا مسؤولاً عن تنبيه وتوجيه مريضه إلى أحكام طهارته[681]. ومن الأمور لصيقة الصلة بهذا الباب أيضاً ما يتعلق بأمر الرخص الشرعية كإفطار يومٍ واجبٌ صومه، أو ترك سجود لمن يضر ببصره فعله ونحو ذلك، والأصل الشرعي العظيم في هذا الباب قوله تعالى :"وما جعل عليكم في الدين من حرج"[682]، وأما حديث الباب فهو ما رواه عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه قال : " كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب"،[683] وهنا لا بد من التنبيه إلى ضرورة تورّع كلٍ من الطبيب والمريض في مسائل الرخص في العبادات، لا سيما المفروضة منها فلا يتهاون الطبيب - لقلة علمه أو قلة ورعه – فيتساهل في الترخيص بما ليس بمرخِّص فيفسد على المريض دينه، ولا يتشدد في عدم الترخيص بما هو مرخِّص فيفسد على المريض صحته وعافيته، كما يجب على المريض أن يتورع عن أخذ الرخصة[684] من دون تحرٍ لأمانة الطبيب، بحيث يجب عليه أن يحتاط عند ظهور ما يقدح في أمانة الطبيب وعدالته، ككونه لا يصلي إن كان ممن ينتسب لأهل القبلة، أو كونه كافراً أصلياً من باب أَولى، ولا يعني الاحتياط ألا يأخذ بالرخصة من هؤلاء مطلقاً، وإنما يعني التثبت وربما عرض الحالة على غير من مضت صفتهم ممن هم أمناء في الدين والمهنة[685].
ثانياً: ما يتعلق بأحكام شرعية جديدة مترتبة على أحوال المريض:
فالطبيب يطلع بطبيعة المهنة على دقائق في حياة المريض قد لا يتنبه إليها غيره أو لا يطلع المريض غيره عليها، فحريٌ به أن ينبه مريضه على ما تلبَّس به من أحوال قد تترتب عليها أحكام شرعية يحتاج إلى مراعاتها؛ ولعل من أدق هذه المسائل التي تعم بها البلوى وتستشكل على كثير من الناس بل وتحير أهل العلم أحياناً ما يتعلق بالدماء الطبيعية عند النساء، وقمنٌ بالطبيبة التي تصدت لهذا التخصص أن تكون ملاذاً لمريضاتها، تحل إشكالهن وتبين ما أبهم عليهن، وإن كان لها علم بحكم الشرع نبَّهت وإلا وضحت لمريضتها صورة المسألة حتى تُحسن الاستفتاء، لا سيما وأن في هذه المسائل من عامل الحياء والخجل ما قد يعيق وضوح التصوير عند عرض المسألة، وهاتيك أمُّنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها تفتي النساء وتعلمهن ما يتعلق بأخص خصوصياتهنَّ، ذكر البخاري رحمه الله في باب إقبال المحيض وإدباره: وكنَّ نساءٌ يبعثن إلى عائشة بالدُرَجة فيها الكُرسف فيه الصُفرة فتقول لا تعجلن حتى ترين القصَّة البيضاء، تريد بذلك الطُهر من الحيضة[686]. قلت: رضي الله عنها وأرضاها ما أحرصها على دين المسلمين وعبادتهم، كيف لا وهي الفقيهة الصدِّيقة بنت الصدِّيق. والشاهد هنا أن بعض هذه الأمور مما يتعرض له الطبيب أو الطبيبة يتعلق بها وجهان؛ أحدهما دقة الأمر من جهة تصوُّره أحياناً – كما هو الحال في مسائل الدماء الطبيعية عند النساء المتحيرات[687] – والثاني ما يتعلق به من حرج أو حياء قد يكتم معه المريض مسألته عن أهل العلم والفتيا، وليس أليق من الطبيب والحال كذلك بتصوير المسألة تصويراً دقيقاً يعين المريض على السؤال ويرفع عنه حاجز الحياء المذموم[688] حفاظاً على دينه بعدما اجتهد في تعهد بدنه.(2/89)
ويدخل في هذا المجال أيضاً – أعني الأحكام الشرعية المترتبة على المرض – ما يتعلق بتشخيص الأمراض المعروفة بالسراية – أعني إمكان انتقال العامل الممرض من المصاب إلى غيره – فقد يشرع الحجر على المريض إذ ذاك فيمنع عن حجٍ مثلاً، فتلحق به أحكام الإحصار على قول من يقيس على الإحصار بمنع العدو، أو خيار التفريق بين الزوجين لمكان الضرر عند تشخيص مرض نقص المناعة المكتسب (المعروف بالإيدز)، ودور الطبيب في هذا المجال يتعلق بالاجتهاد في تعيين التشخيص والتواصل مع الجهة المسؤولة لإبلاغها بالحالة حتى تترتب الإجراءات اللازمة لوقاية باقي أفراد المجتمع وتنبيه المريض إلى احتمال السراية إلى الغير من أفراد الأسرة، لا سيما الزوج باعتبار أن بعض الأمراض تكون سرايتها بطريق الوطء. والحقيقة أن ما ذكرته هنا هو من باب التمثيل وإلا فإن استيعاب كل الجزئيات يحتاج إلى تصنيف مفرد مستقل.
8- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
لقد تقدم معنا في غير موضع أن الطبيب بحكم مهنته يطلع على ما لا يطلع عليه غيره من خصوصيات المريض، وهو بهذا مخاطَب على وجه أخص بعموم أمر النبي صلى الله عليه وسلم :"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"[689]، فأما الإنكار باليد مع المريض فلا ريب أنه يفتقر إلى سُلطة، ولا يصح أن يبادر به الطبيب بغير سلطة يخوله إياها ولي الأمر أو من يقوم مقامه – كوزير الصحة مثلاً – أو إذن المريض نفسه، فمثال الأول أن يأذن أو يأمر ولي الأمر أو من يقوم مقامه بإتلاف ما يحوزه المرضى من شركيات يستشفون بها كتعويذة محرمة أو نُشرة[690] محرمة، ومثال الثاني أن يأذن المريض للطبيب بأن يزيل وشماً أحدثه في جسده مع انتفاء المانع[691] وهكذا، وأما الإنكار باللسان فيراعى فيه أمرٌ مهم ودقيق وهو ألا يفضي إلى ضررٍ أكبر، وأنبه هنا إلى أن خوف الطبيب من أن ينفر المريض منه فيفضي ذلك إلى ترك التطبيب بما يفضي إلى ضرر بصحة المريض أو تلف عضو منه أو هلاك جسده هو ضرر معتبرٌ شرعاً، لأن حفظ ذلك كله مطلوبٌ شرعاً، فإذا غلب على ظن الطبيب أن إنكاره بالقول على مريضه اقترافَ منكرٍ ما كوشم أو كشف عورة أو تبرج سيؤدي إلى نفور المريض بحيث لا يستجيب للعلاج فيتضرر في جسده، فإن إنكار هذا المنكر لا يُشرع لما يترتب عليه من ضررٍ أكبر، بل قد يأثم الطبيب من جهة إدخال هذا الضرر على المريض فليتنبه لذلك، وليعلم الطبيب أن إنكار المنكر في هذا المقام يراد منه اغتنام فرصة العلاقة بين الطبيب والمريض، ولا يراد منه أن تتحول العيادات والمشافي إلى مراكز للحسبة والوعظ فلذلك مجالٌ آخر، وإنما هو العدل والتوسط لا سيما مع ضيق الوقت مع المريض فلا بد من تحقيق مصلحة المريض المتعينة في مجال التطبيب، وهي الاستشفاء بما شرعه الله تعالى من أسباب، فإن تيسر مع ذلك الاحتساب بإنكار ما يجوز أو يجب إنكاره بالقول واللسان فبها ونعمت وإلا انتقل إلى المرتبة الثالثة اللازمة وهي مرتبة الإنكار القلبي كما هو مقرر عند أهل العلم.
9- الإفساح في أجل المريض: إن عجبي لا ينقضي كلما سمعت من مريض أن طبيبه حدد له أربعة أشهر أو ستة أسابيع أو سنة من الحياة، وإنني لأتساءل عن مغزى ذلك والفائدة منه فلا أجد جواباً إلا قوله تعالى :" كلا إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى"[692]، نعم هو تجاوز في الحد من الطبيب الذي خوَّله الله تعالى علماً يطلب به أسباب شفاء الناس بإذن الله ولا يحدد به آجالهم وأعمارهم، نعم قد ينبه الطبيب مريضه على أن مرضه مُعضل وقد يفضي إلى الموت بأسلوب لطيف، لينبهه على ضرورة اغتنام ما تبقى من عمره في رد المظالم والتوبة من المعاصي والتزود من القربات، لعل ذلك يكون خيراً يعود به مرضه عليه، ولهذا شاهدٌ في الشرع من حيث جواز تلقين الميت وتذكيره بالآخرة، أما أن نفتئت على الله تعالى وندعي علم الغيب، فلست أدري ما علاقة هذا بالطب والتطبيب، وأي أثرٍ سيء تعود به على مريضك من ذاك، فالله الله أيها الطبيب المسلم أن تتجاوز حدودك وتسيء الأدب مع الله تعالى، ولقد ورد حديث ضعيف في النهي عن ذلك عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا دخلتم على المريض فنفِّسوا له في أجله فإن ذلك لا يرد شيئاً ويطيب نفسه"[693]، وهذا الحديث مع ضعفه إلا أن معناه صحيح والله أعلم.(2/90)
10 – المريض غير المسلم : إن مهنة الطبيب حفظ الجسد خدمةً للقلب؛ فما صلاح الجسد إذا فسد قلب المرء، وأي فلاحٍ له في أُخراه إذا ما كان حرصه في دنياه على سلامة اللحم والعظم مع غفلةٍ عما جُعل الجسد وعاءً له؟ ونحن عندما نفرد فقرةً للكلام عن علاقة الطبيب المسلم بالمريض غير المسلم لا نعني بذلك التفريق في المعاملة، بحيث قد يُفهم وجود نوع من المحاباة أو التفرقة في تقديم العلاج ، كلا. وإنما يقصد أن ننبه إلى أن للمريض غير المسلم حاجات روحية تماماً كما أن للمريض المسلم حاجات روحية يجب الالتفات إليها، وإعطاؤها حقها من التعهد والرعاية، فلا يجوز الغفلة عن حاجات المريض غير المسلم الروحية والنفسية وإن كان هو نفسه غافلاً عنها، ولذا تجد أن فقهاء المسلمين حين يتحدثون عن عيادة المريض غير المسلم يربطون الأمر بالتألُّف والمداراة والتودد المفضي إلى إمكان تبليغ رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى تكون رعاية البدن وسيلة إلى رعاية القلب أو قل إقامة الحجة والإعذار إلى الله تعالى على أقل تقدير. ولقد تقدم معنا حديث أنس وأعيده هنا لمناسبته فعنه رضي الله عنه قال :كان غلامٌ يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم. فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول :" الحمد لله الذي أنقذه من النار"[694]، ولقد تكلمنا عن هذا الحديث في معرض الإشارة إلى خُلق النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا نؤكد على إبراز الغاية والمقصد من التعامل مع الكافر ألا وهي مد جسور العلاقة المفضية إلى إمكان تبليغ الدعوة مع القيام بذلك التبليغ فعلاً، وهنا قد يبرز إشكال وهو أن هذا الحديث في عيادة المريض، بينما نحن نتكلم عن ممارسة مهنية قد يصعب تطبيق هذا المعنى في سياقها على الدوام، فكيف يمكن استحضار هذه المقاصد دون إخلال بالواجب المهني ودون أن ينزع بنا إلى نوع تقصير مع المريض غير المسلم نتيجة الانشغال بواجب الدعوة من جهة أو نفرة المرء عن الكافر الذي يصد الدعوة من جهة أخرى؟(2/91)
إن قيام الطبيب بواجبه المهني يستلزم أمرين لا ينفك عنهما عمل البتة ألا وهما النية والعمل؛ أما النية فلا بد من أن تتمحض لله تعالى وحده، ومجال ذلك من الشريعة رحب وواسع، فإما أن تنوي في طبابتك للمريض غير المسلم مطلق الإحسان إلى الخلق كما صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:" في كل كبد رطبة أجر"[695]، وهذا الحديث ورد في أجر سُقيا البهائم فيدخل فيه الإنسان من باب أولى، ولم يستثن العلماء من عموم هذا الحديث إلا الكافر الحربي الذي يُخشى من ارتفاقه بالطعام والشراب وما في معناهما التقوي على المسلمين وإدخال الضرر عليهم[696]، وإما أن تنوي مد جسور الدعوة عبر السلوك العملي والتألُّف الحاصل بمجرد الممارسة المهنية المنضبطة بضوابط الإسلام، وإما أن تنوي الوفاء بذمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إن كان هذا الكافر ذمياً له عهد الله وعهد رسوله صلى الله عليه وسلم فتكون طبابة هؤلاء مشروعة لذاتها من جهة كونها حفظ لدمٍ معصومٍ شرعاً[697] ، وهكذا فإن الطبيب المسلم لن يعدم له نيةً صالحة في تطبيب غير المسلم، والله تعالى أعلم. هذا من جهة النية وأما من جهة العمل فلا يخرج الطبيب المسلم مع المريض الكافر عن أحد حالين؛ فهو إما متبرع بالعلاج أو أجير عليه؛ فأما إن كان متبرعاً بعلاج الكافر فليس هناك ما يمنعه من إقران العلاج بالدعوة وفق ما يقتضيه الحال ويناسبه، وأما إن كان أجيراً فهي إجارة مشروعة من جنس المعاملات المباحة بين المسلم والكافر ما لم تؤدي إلى حرام، وقد قال تعالى في محكم تنزيله:" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين"[698]، وهنا لا بد من التنبيه على أمر مهم جداً وهو أن هذه العلاقة بين الطبيب المسلم وغير المسلم الأصل فيها أن تكون في دار الإسلام حيث تكون شوكة الإسلام قوية والدين ظاهر، فيكون رجاء إسلام الكافر قوياً أو يكون دم الذمي معصوماً، أما إذا كان الطبيب المسلم مقيماً بين ظهراني الكافرين في بلادهم حيث شوكة الإسلام ضعيفة، وأمر الكفر ظاهر وشأن دولة الكفر محاربة الله ورسوله أو الإرصاد لذلك، فلا ريب أن للأمر حينذاك اعتبارات أخرى، إذ أن رجاء إسلام الكافر أقل ومفاسد تطبيبه قد ترجح من جهة تقوية مجتمع الكفر على مجتمع الإسلام، وإن المتأمل اليوم في تدني مستوى الرعاية الصحية في بلاد المسلمين، وافتقار هذه البلاد إلى الموارد البشرية وغير البشرية اللازمة للارتقاء بالرعاية الصحية إلى حد الكفاية ليتفطر قلبه من جراء مشاهدة مئات إن لم يكن ألوف الأطباء المسلمين في شتى الاختصاصات الطبية وأدقها وأكثرها تطوراً ولكن أين؟ في مجتمعٍ كافر يعلن بحرب الله ورسوله، بل وفي مؤسسات حكومية كافرة همها تقويض أمر الإسلام، بل لقد رأيت والتقيت ممن ينتسبون إلى الإسلام من الأطباء والجراحين من يباهون بخدمتهم في جيوش الكفار المحاربين لله ورسوله، بل إن بعضهم يشارك في حروب حقيقية يصرف فيها جهده وكد مبضعه لإسعاف جنود الكفر في حين تثعب جراحات المسلمين دماً في الجانب الآخر من المعركة، وليس ردء هذه المجتمعات الكافرة في حال السِلم بأقل خطراً منه في حال الحرب، لأن سلم هذه الدول ما هو إلا ساعات تأهُّب وتربص وإرصاد لحرب الإسلام وأهل الإسلام، وإنه لمن العار على الطبيب المسلم أن يكون سبب ارتفاق للكافر في حين يقضي إخوانه المسلمون من المرض بسبب فقد الطبيب ونقص الدواء، ولسوف نعرج في حلية الجهاد على مفاسد أخرى لهذا البلاء ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
الفصل الرابع: حلية الدعوة
إن الأصل في تقلُّد الطبيب المسلم لهذه الحلية هو قول الحق سبحانه وتعالى:" إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآياتٍ لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار"[699]، وقوله تعالى:"والذين إذا ذُكِّروا بآيات ربهم لم يخِرُّوا عليها صمّاً وعمياناً"[700]، وقوله تعالى:" ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين"[701]. وبيان ذلك أن الطبيب المسلم يعاين في سياق طلبه للعلم وممارسته للمهنة مشهداً من أروع مشاهد الخلق في هذا الكون ألا وهو مشهد الخلق الإنساني، حيث قال تعالى:"سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد"،[702] فلا يصح ولا يجوز للطبيب المسلم أن يمر على هذا المشهد وعلى هذه الآيات العظام دونما تدبر وتأمل؛ إن الطبيب الذي لا يكون حظه من علم وظائف الأعضاء أو علم الجنين أو علم الكيمياء الحيوية إلا حفظ بعض الأسماء وإلقاء بعض المحاضرات ووصف بعض الدواء طبيبٌ يداوي الناس وهو عليل، يداوي أمراض الأبدان ويغفل عن مرض قلبه، يغذي غرسة الجسد ويغفل عن غرسة الإيمان، إنه طبيب يمر على مشاهد العلم الإلهي في اليوم مائة مرة، ولا يذكر الله في اليوم مرة،ولست أعني بالذكر مجرد إمرار لفظ الجلالة على اللسان بطبيعة الحال.(2/92)
وبتعبير آخر أقول: مسكينٌ ذلك الطبيب الذي لا يجد أثر تفكره في مشهد الخلق الإنساني زيادةً في إيمانه، وطمأنينةً في قلبه، وإزعاجاً لجوارحه، مسكينٌ من عاين مشهد الخلق الإنساني ثم لم يعاين المشهد الإيماني المتمثل في قوله تعالى:" تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون"[703]. نعم، مساكين هم جمهرة الأطباء الذين يمرون على آيات الله عز وجل في كل لحظة من لحظات دراستهم وعملهم وهم في مرورهم هذا غافلون، وبمادية الطب وتجردهم لدنياه غارقون، وتأمل إن شئت واحداً من هؤلاء ثم اسأل : كيف لطبيبٍ كهذا أن يصبح طبيباً داعية؟
إن حلية الدعوة لا يمكن أن تستقر على جيد الطبيب الذي لا يتعهد قلبه وإيمانه بما أطلعه الله تعالى عليه من بديع خلقه وصنعته، والعكس صحيح، فإن الطبيب الذي تستوقفه مشاهد الخلق الإلهي في هذا الجسد الذي يعالجه ويطببه لا بد من أن يثمر ذلك في قلبه رغبةً ودافعاً قوياً ليدعو الناس كل الناس إلى تأمل هذه المشاهد والاقتراب من الله عز وجل، إن حال هذا لا يختلف عن حال العالِم الذي فقِه مسألةً في دين الله، فأراد أن يبلغها للناس حباً في نشر الخير والتزاماً بواجب البلاغ والدعوة إلى الله، وهنا أود أن أشير في نقاط محددة إلى مجالات الدعوة التي يجب أن ينخرط فيها الطبيب المسلم، ليكون من أولئك الربانيين الذين قال الله تعالى فيهم:" ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين"[704]، وفيما يلي بيان ذلك:
أولاً: أسلمة العلوم الطبية:
لا يخفى على أي مسلمٍ حاذق أن ما نعانيه اليوم من تفريغ واقع الحياة من هويتها وصبغتها الفطرية الإسلامية ليس إلا ثمرةً من ثمار العلمانية النكدة الممتدة إلى كل ناحية من نواحي الحياة بنفس القدر الذي تمتد فيه تعاليم وتوجيهات شريعتنا الإسلامية الغراء إلى تلك النواحي، ومن غير المستغرب والحال كذلك أن يعاني كل صاحب مهنة في مهنته وكل صاحب صنعة وفن في صنعته وفنه من هذه الثمار المرة، ولعمر الحق إن الأمر ليزداد وضوحاً وإن الثمرة لتزداد مرارةً في مجال الطب لأنه مجال يتعامل مع الجانب الروحي للإنسان بطبيعته، ولا يمكن في الحقيقة تفريغ الطب وتجريده من أبعاده الروحية التي شغلها الإسلام إلا من خلال شغل هذه الحاجة الروحية بمبادئ ومعتقدات وأفكار أخرى، وانظر إلى ماهية هذه البدائل كمدرسة التحليل النفسي لفرويد ونظرية النشوء والارتقاء لداروين، وغيرها من الأفكار والمدارس التي تسربت إلى مدرسة الطب وتشربت بها كل العلوم الطبية، فأصبح تفسير كل مشكلةٍ نفسية اليوم قائماً على أساس الكبت وقمع "الأنا" كما تحاول المدرسة الفرويدية أن توهمنا، وأصبحت كل مورثة وصِفةٍ وراثية أو حيوية في الإنسان مدينةً للجراثيم والكائنات وحيدة الخلايا الأولى التي حفظت لنا هذه المورثات والصفات منذ ملايين السنين[705]، فعندما نتكلم عن أول واجبات الطبيب المسلم في سياق الدعوة اليوم علينا ألا نتوهم أن ذلك يقتصر على إلقاء محاضرة للعاملين غير المسلمين في مشافينا أو مجتمعاتنا، فلعمر الحق إن إمام المسجد أجدر بهذه المهمة منا وأقدر، إذ أن واجبنا اليوم ينصرف إلى تحرير المنهج العلمي للطب لإعادة العلاقة المتزنة بين الجسد والروح، بين المبادئ التجريبية الطبية والمبادئ القطعية الإسلامية، حتى يتمكن الطبيب المسلم من معالجة المريض المسلم وفق منهج علمي عملي متزنٍ لا إفراط فيه ولا تفريط، ولقد تقدم الكلام على شيء مما يتعلق بطبيعة المنهج العلمي عند الطبيب المسلم، وأنبه هاهنا على أن الأمر ليس من البساطة بحيث يستدرك في مقال أو كتيب أو رسالة إنه – بلا مبالغة - قضية اليوم في عالم الطب إذ أردنا فعلاً أن نكفي الأمة الإسلامية هذه الثغر، ومع أن الحل النموذجي لهذه المشكلة لا بد من أن ينطلق من كليات الطب في مجتمعاتنا، فإنه من غير العملي وغير المقبول أن ننتظر ذلك ونحن في موقف المتفرج مكتوفي الأيدي، بل إن عبء التغيير يعود علينا نحن آحاد الأطباء، إذ علينا أن ننتقل من مرحلة الإرهاصات الفردية إلى مرحلة الجمع والترتيب الهادف، بحيث نقوم بتقييم ما وصلنا إليه ووضعه موضعه المناسب والبناء عليه، ولئن أعيتنا الحيلة في تصحيح مسار كليات الطب فها هي الجمعيات الطبية العلمية مجالٌ خصب لتلاقح فكري واعٍ يسد هذه الفجوة ويرأب هذا الصدع، والشاهد أن الأمر لا يجتمل تأخيراً ولا تباطؤاً ولا تثاقلاً، لأنه يمسنا كل يوم في سياق المهنة والطبابة، فعلى كل طبيب مسلم اليوم أن يقف ليعرض نفسه على ثوابت الشريعة الغراء نيةً وقصداً وعملاً ليسأل نفسه : هل أنا على ما يرضي الله في كل ذلك؟(2/93)
إن أسلمة العلوم الطبية إذاً تنطلق من الحاجة إلى توأمة حقيقية بين التزامات الطبيب المهنية والتزاماته الشرعية، وبين حاجات المريض المهنية وحاجاته والتزاماته الشرعية، بمعنى أن يكون الطبيب الذي يضع للمريض قثطرة بولية أو الجرَّاح الذي يفتح للمريض فتحة اصطناعية في الأمعاء الغليظة تسبب السلس، هو نفسه الذي يقوم بتنبيه مريضه إلى أحكام طهارته إما على وجه التفصيل إن علمها وإما على وجه الإرشاد إلى أهل العلم للسؤال عنها،[706] بحيث ينبه الطبيب مريضه إلى أن مرضه أو علاجه هذا تتعلق به أحكام شرعية يجدر به أن يراجع أهل العلم لتعليمه إياها. إن توأمة العلم التجريبي مع العلم الشرعي في سياق هذه الأسلمة هو الكفيل بتخريج الطبيب الذي يرقى مريضه بالفاتحة بنفس اليقين والتوكل الذي يأخذ به بالأسباب المشروعة من دواء وجراحة ونحوها، وهو الكفيل بتخريج الطبيب الذي يزف لمريضه بشارة النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيتيه فصبر عوضته منهما الجنة"[707] في نفس الوقت الذي يحمل له خبر تشخيصه بمرض يذهب بنور عينيه، وليس في مدارس الطب العالمية أجمع نظامٌ يمكِّن الطبيب من تقديم شيء إيحابي لمريضه المصاب بمرض عضال أو خبيث أو لا يرجى برؤه إلا نظام الإسلام ومدرسة الطب النبوي، فمهما كان المرض والبلاء فإن الطبيب المسلم لا يعدم لمريضه بشارة، ومهما كان البلاء فإن المريض المسلم لا يعدم منه نفعاً، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال :" عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله إلى خير ، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له "[708]، بل أقول بكل ثقة إن مدرسة الطب الإسلامي عندما تنجح في تحقيق هذه التوأمة تصبح المدرسة الطبية الوحيدة في العالم التي لا يعتري خريجيها شعور بالعجز أو اليأس أمام المرض، لأن الشرع يرفده بتصورات ومرتكزات لا يعدم فيها شهود خير يدل مريضه عليه، وهذا ما تعجز المدارس الطبية الأخرى عن تقديمه، تأمل رعاك الله عندما تحدث جائحة أو وباء تضطر معه السلطات الصحية أن تحجر على جماعة من الناس خشية سراية مرض كالطاعون ونحوه، ومعلوم أن نسبة من المحجورين هم أناس أصحاء، وأنهم بهذا الحجر عرضة للإصابة بالمرض الساري من أولئك المرضى المحجورين معهم، وقد يقضي هؤلاء إذا سرى المرض إليهم جراء الحجر الصحي، ورغم تعريض هؤلاء الأبرياء لخطر السراية فإن جميع المدارس الصحية العالمية تجمع على صحة هذا المسلك أعني الحجر تقديماً للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ولكن هنا يبرز النظام الصحي الإسلامي متميزاً عن كل المدارس الصحية في العالم ليعامل هؤلاء الأبرياء بما يستحقون، حيث يقدم لهم التعويض عن هذه التضحية من خلال هذه المنظومة الشرعية الرائعة، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم :" إذا سمعتم بالطاعون بأرضٍ فلا تدخلوها وإذا وقع بأرضٍ وأنتم فيها فلا تخرجوا منها"[709]، فهذا الحديث أصلٌ في جواز الحجر الصحي، حيث أشار إلى عدم الخروج من الأرض التي وقع فيها الطاعون ومعلوم أن هذا يعرض الأصحاء إلى سراية المرض إليهم واحتمال موتهم منه، ثم انظر إلى تمام هذه المنظومة حيث عالج الناحية العقدية التي يؤدي الإخلال بها إلى الخوف والوجل من المخلوق ومن عالم الأسباب، فقطع صلى الله عليه وسلم الطريق إلى مزلزِلات العقيدة فقال:" لا عدوى ولا طيرة ،"[710] وبهذا يمكث من يمكث في أرض الطاعون والوباء مطمئناً إلى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، ومن جهة أخرى عالج صلوات الله وسلامه عليه احتمال وقوع القدر الكوني، وهو إصابة من كُتِب عليه الإصابة بالطاعون والموت به فقال صلى الله عليه وسلم :" الطاعون شهادة لكل مسلم"[711]، والشهادة أمنية كل مسلم بلا ريب، وهكذا فبالنظر إلى عناصر هذه المنظومة الشرعية الرائعة تجد أن مصلحة الجماعة قد روعيت باحتواء المرض، وأن مصلحة الأفراد قد روعيت من ناحية ثبات العقيدة ونقائها، ومن ناحية تعويض ضحايا تقديم المصلحة الجماعية بمرتبة الشهادة من جهة أخرى ، وهذا ما لا يمكن لأي منظومة رعاية صحية في العالم أن تقدمه، وإنه لمن السفه بعد هذا ألا نعيد الأمور إلى نصابها ونعيد – بدون مبالغة – كتابة وتأصيل مهنة وعلوم الطب لتتعانق نصوص الآيات والأحاديث الشرعية مع موجودات ومفردات الآيات الكونية فيحدث ذلك الانسجام بين العقيدة والكون، تماماً كما أوجد الله تعالى ذلك الانسجام التام بين الروح والبدن، وهذا ما أعنيه بأسلمة الطب، وهو يتجاوز بكثير مسألة تزيين مداخل المشافي بقوله تعالى :" وإذا مرضت فهو يشفين"[712] وليس هذا تقليلاً من شأن استحضار الآية معاذ الله، ولكنه بيان أن ذاك لازمٌ غير كافٍ البتة، أجل نريد أن نتجاوز بهذه الآية حناجرنا وأن تتشرب بها قلوبنا، والله تعالى وحده المسؤول أن يوفقنا لذلك.(2/94)
وحيث إن كليات الطب بعيدة اليوم عن هذا الواقع، فإن الخطاب متوجه إلى الأطباء أن يعملوا قدر الإمكان على تصحيح مسيرة الطب في أنفسهم وفي بيئاتهم المهنية، فعلى الطبيب أن يقوم هو بتحصيل ما يجب تحصيله من علوم الشرع الأساسية التي لا غنى له عنها في مهنته، ولا مندوحة له اليوم عن الرجوع إلى أهل العلم الشرعي ليدلوه هم على ما لا يسعه جهله من أمور الدين، والهمم ولله الحمد موجودة اليوم لتأصيل ذلك وتقريره، وأملي أن أرى مقررات الفقه الطبي جزءً من المقرر الدراسي لكليات الطب في بلادنا الإسلامية، وأملي أن نجد من جملة التخصصات الطبية في الغد القريب تخصصاً في الفقه الطبي، حيث إن النوازل الطبية قد تشعبت وتعددت تماماً كما تشعبت فروع العلوم الطبية الأخرى، وعلى كلٍ فالمقام هنا مقام تنبيه لا مجال فيه لاستيفاء الموضوع، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى سد شيء من تلك الثغرة في القريب العاجل إن شاء الله تعالى.
ثانياً: تعهد الجانب الروحي للمريض:
إن من معالم هذه الحلية ودررها الثمينة مراعاة أن تطبيب الأبدان إنما شُرع حفاظاً على الأهم الذي تحويه هذه الأبدان أعني القلوب؛ فإنما أذنت الشريعة بمداواة البدن لا انشغالاً بالمادة عن الروح، ولا التهاءً بالدنيا عن الآخرة، وإنما تقوياً على رياضة القلب وتعهده بما يدفع الأمراض عنه، أعني أمراض العقيدة التي تفتك بالقلوب فتدعها صرعى ما بين مشهد نفاق أو شرك أو كفر بواح، ولكن تجد مع الأسف أنه كثيراً ما ينهمك الطبيب والمريض في معالجة أسباب المرض البدني وآثاره الظاهرة، ويغفل أحدهما أو كلاهما عن تأمل مشهد الابتلاء في هذا المرض وعن ملاحظة جوانب الخير فيه، وإن من له أدنى إلمام بمهنة الطب يدرك أن هناك طائفةً من الأمراض التي لم نقف لها على علاج سببي بعد، مما يفضي بالبعض إلى توهم أن مشهد هذا المرض مشهد شرٍ محض لا خير فيه البتة، وهنا يكون دور الطبيب أساسياً في تنبيه المريض إلى مظاهر ومعالم الخير في هذا الابتلاء، وأقول إن الطبيب الذي يقتصر في العلاج على تناول الأسباب المادية طبيبٌ مقصر مع مريضه مهما أتقن صنعته، ومهما تفانى في خدمة مريضه من جهة الأسباب، وأقول إن من واجب الطبيب الذي يشخص المرض ويصف الدواء ويوجه المريض إلى أسباب الاستشفاء أن ينبه المريض إلى مثل قوله تعالى:" ونبلوكم بالشر والخير فتنة"[713]، وإلى قوله صلى الله عليه وسلم :" ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة، في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة"[714]وقوله صلى الله عليه وسلم :" عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له "[715]، وعلى الطبيب المسلم أن يلاحظ أن جانب التعهد الروحي للمريض مطلوب في كل من الحالات التي يكتب الله تعالى لها البرء والشفاء، وتلك التي لا يكتب لها سبحانه وتعالى ذلك؛ فأما في حالات البرء والشفاء فيكون بالتذكير بأن هذا الشفاء نعمة ومنحة من الله سبحانه وتعالى، وأنه تعالى يستحق الشكر على هذه النعمة، كما أنه كان يستحق الحمد حين الابتلاء بالمرض الذي برئ منه، لا أن ينسب الطبيب البرء لنفسه، فتلك والله غاية الحماقة وعين السفه وحقيقة نكران الجميل الذي تفضل الله تعالى به على هذا الطبيب حين أجرى الشفاء على يده وجعله سبباً من أسبابه، فعليك أيها الطبيب حين تعاين برء المريض أن تشكر الله أولاً، ثم تذكِّر المريض بشكر الله ثانياً، وأن تنتبه وتُنبه إلى دوام الالتجاء إلى الله في حفظ نعمة الصحة التي عادت بفضله وكرمه سبحانه، بعد أن عاين المريض منها اختلالاً ونقصاً وهذا هو مقام :" وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد"[716]، وأما حالات استعصاء الداء على الدواء فهي مقام التفكر والتدبر والتصبر والاحتساب، وهي مقام تحقيق التجرد التام من الأسباب والتبرؤ التام من الحول والقوة، فأما الهالكون فيتيهون في مهالك التبرم والتذمر والتسخط، وأما الناجون بإذن الله فيوفقهم الله تعالى إلى مشاهد العبودية الحقيقية والصحيحة، فيهلك الجسد بالمرض وتنعم الروح بالصحة والعافية الإيمانية، وإن دورك أيها الطبيب المسلم أن تنبه وتعين مريضك على الوصول إلى شاطئ النجاة، لتكون سبباً من أسباب نجاته الروحية كما كنت – بفضل الله – سبباً من أسباب النجاة الجسدية لغيره من المرضى، وهنا لا مفر للطبيب المسلم من التسلح برصيدٍ كاف من النصوص والثوابت الشرعية التي تعينه على توجيه مريضه التوجيه المناسب في الوقت المناسب، وليست هذه الحلية المختصرة محلاً لسرد هذه النصوص، وإنما يرجع إليها في مظانها من آيات القرآن الكريم وكتب السنة الصحيحة.(2/95)
وأنبه هاهنا إلى الخلل العميق الواقع في مجتمعاتنا في هذه المسألة، وصورة الخلل تتمثل في الافتراق الذي نشاهده بين الطبين؛ طب الأبدان وطب القلوب، بحيث تجد أن الطبيب لا يمارس طب القلوب، ولا يدمجه في سياق التعامل مع المريض، في حين أن العامة يلتجئون إلى بعض أصحاب الخبرة وأهل العلم الشرعي – وأحياناً كثيرة للأسف إلى بعض المشعوذين والسحرة – لتلبية حاجاتهم القلبية والروحية، أو حتى بحثاً عن سبل بديلة للعلاج، وما نريده من الطبيب المسلم وما يحتمه واقع التوافق المادي الروحي في الإسلام أن يكون الطبيب الذي يضع جهاز التنفس ويعطي المضاد الحيوي والأكسجين ويصف الدواء، هو نفسه الطبيب الذي يرقي مريضه بالرقى الشرعية ويطمعه في رحمة الله ويثيبه إلى رشده في التعامل مع هذا الابتلاء ونحوه. أما افتراق العلاج المادي عن الروحي فليس إلا شكلاً من أشكال ترسيخ العلمانية النكدة في حياتنا نسأل الله تعالى السلامة والعافية من ذلك إنه حسبنا ونعم الوكيل.
ثم إن من المسائل المتعلقة بالدعوة في مجال تطبيب المرضى تنبيههم على ما يقعون فيه من منكر، ولقد تعرضنا لهذه المسألة في فقرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الكلام على أخلاق الطبيب مع مريضه المسلم، وهنا أود التأكيد على المسألة من جهة المسؤولية الشرعية، فأهل الخبرة والعلم بفن الطب يُجمعون على أن الطبيب مؤاخذٌ من جهة المهنة إذا ما اطلع على عَرَضٍ أو مرض عند مريضه غير ذلك المرض الذي جاء يستشفي منه ثم لم يخبره الطبيب بذلك، فلو جاء مريضٌ يشتكي من ذات الرئة، وأثناء فحص المريض اكتشف الطبيب بقعة جلدية يحتمل أنها آفة سرطانية يفضي إهمالها إلى هلاك المريض، فإن الطبيب مقصر في عدم إخبار مريضه بذلك قولاً واحداً عند أهل الفن، رغم أن المريض لم يراجع الطبيب لهذه الشكاية، وأقول إنه من باب أولى أن يكون الطبيب مسؤولاً عندما يفحص مريضه الذي يشتكي من ذات الرئة ويجد تميمة شركية أو خيطاً معلقاً في عنقه ولا ينبه مريضه على هذه الآفة المهلكة، ولا يكفي في هذا المقام ما يقوم به البعض من قطع أو إزالة الخيط أو التميمة دون تنبيه المريض إلى خطرها، لأن هذا سيعود إلى تعليق غيرها بمجرد مغاردة الطبيب، إذ ربما توهم أن الطبيب أزالها لغرض الفحص الطبي ولا يستشعر الإنكار الشرعي على هذا الفعل الشركي، بل على الطبيب أن ينبه إلى حرمة هذا الفعل وإفضائه إلى الشرك أو البدعة كلٌ بحسبه.
وهكذا عندما يقوم الطبيب بالاستفسار عن جملة من المشعرات الصحية فيما يعرف بالطب الوقائي لا سيما عند الأطفال، حيث ينهمك الطبيب في السؤال عن المعالم التطورية للطفل وهذا جيد، ولكن يجب أن يندرج في منظومة الرعاية الصحية الأولية هذه السؤال عن المعالم التطورية الشرعية، فيُسأل عن الأمر بالصلاة في السابعة، ويُسأل عن الصلاة في العاشرة، وينبه على التفريق في المضاجع وغيره كل بحسب سنه، علينا أن نستشعر جميعاً أننا اليوم في خضم معركة عقدية خطيرة تستلزم منا إعداد جندها ورجالها، علينا أن نطرح جانباً شعار "العقل السليم في الجسم السليم" ونعلن مكانه " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"، حتى تتضح هوية المعركة ويستشعر الفرد أنه جندي من جنودها، وأن كل حجرٍ في سد الإسلام المنيع له دوره مهما صغر حجمه وأينما كان موضعه، وعليه فلا بد من اغتنام كل فرصة للتذكير والتنبيه على ذلك.
ثالثاً : الاعتدال والتوسط في مسائل الإعجاز العلمي:(2/96)
لقد جاء القرآن الكريم معجزاً، وتحدى الله تعالى به العرب والعجم، بل تحدى به الإنس والجن، ومع اتفاق أهل القبلة على إعجاز القرآن الكريم تنوعت مشاربهم في أوجه هذا الإعجاز، وليس هذا مجال البحث في ذلك، ولكن لما كان مجال العلم ولا سيما علوم الطب أحد أوجه الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، كان حرياً بالطبيب المسلم أن يتعرف على جملةٍ صالحةٍ من القطعيات العلمية التي كشفها الطب الحديث ووجه موافقتها للثابت في القرآن الكريم دون تكلف ولا تشدُّق، لتكون له زاداً في طريق الدعوة إلى الله، وكان حرياً به أيضاً أن ينأى عن الإفراط في حمل آيات القرآن الكريم على كل ما يرد في الطب من علوم قد تكون ظنية أو نظرية فيختلج عليه الأمر حين يظهر زيفها وبطلانها، فعلى الطبيب المسلم أن يعرف طريق الحق ومنهج التوسط والاعتدال في مسائل الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في باب الطب، ولقد قرأت وسمعت من الشطحات والمبالغات ما لا يليق نسبته إلى القرآن الكريم بحجة التودد إلى أمة الدعوة[717] بلغة العصر ، وعند النظر في هذه المبالغات تجد فيها من التكلف والتقعر ما قد يأتي بنقيض المقصود، وعادة ما تكون هذه الشطحات ممن يجتزئون بعض المعلومات في فن من الفنون، ولا يكون هو من أهل هذا الفن ثم يهرع إلى إنشاء علاقة موهومة مع نص من نصوص القرآن، ولست أطعن معاذ الله في هؤلاء ولا في نواياهم، بل هو الدوران مع الحق، فالزم أيها الطبيب المسلم منهج الاعتدال وحذار من الإفراط أو التفريط في هذا الباب، واعلم أن قليلاً من الموافقات القطعية بين علم الطب الكوني ونصوص القرآن الكريم كفيل ببيان وجه الإعجاز، ولا حاجة لتكلف كثيرٍ من الأمثلة لأن من يذعن للحجة الواحدة لا يعوزه غيرها، ومن لا يذعن لحجة بينة قطعية لن يذعن لعشرات الحجج والبراهين،كما قال الله تعالى:" وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون"[718]، فالذي يكذب بمعجزة يكذب بالمعجزات كلها مهما حشدت له منها، ومن أراد وجه الحق كفته الآية والمعجزة، إذ أن المسألة ليست مسألة كمية يفضي تراكم آحادها إلى تحقيق الغاية منها، وحذار أيها الطبيب المسلم أن يدفع بك واقع الهزيمة النفسية إلى التزلف بليِّ آيات القرآن الكريم لموافقة كل شاردة وواردة، فقرآن ربنا أسمى من أن يعوزه ذلك، وإن كنا مهزومين في حقيقة الأمر فعلاج ذلك العودة إلى القرآن لا تطويع القرآن لموافقة واقعنا المريض.
ومن المهم التنبيه على أننا في سياق الإغراق المادي الذي نعيشه اليوم أحوج ما نكون إلى إبراز النواحي الروحية للقرآن الكريم في عالم يكاد يفتقر إلى أدنى مراتب ذاك، لقد شبعت أجسادنا وأتخمت من السرف المادي، وبات الجسد المتخم عبئاً على الروح بعد أن كان حصناً ومأوى لها، وآن الأوان لأن نعرض للعالم بضاعتنا، ونبرز للعالم منهجنا المتزن الذي يعطي كل ذي حق حقه، ولن يكون ذلك طالما أن حظنا من الإعجاز العلمي للقرآن يقتصر على ربط مراحل تطور الجنين بالآية والآيتين، ولست أثرب على من سلك هذا المسلك ما دام معتدلاً، ولكني أقول إن الحاجة اليوم أشد لعرض شمولي لمنهج الإسلام ولمعجزة القرآن، بل إن حقيقة الإعجاز القرآني تتمثل في شموليته وهذا ما نحتاج اليوم أن نبرزه واقعاً عملياً يمتد أثره إلى الحياة كل الحياة.
رابعاً: العمل الطبي الخيري والإغاثي:(2/97)
إن شمولية الإسلام العظيمة والتوازن الدقيق بين تعبيد الناس لله تعالى قَدَرَاً ودعوتهم لعبادته شرعاً، تفرض على المسلم مراعاة حدٍ أدنى من الحقوق الإنسانية المشتركة التي تكفل الله تعالى بها قدراً وأذن بها شرعاً بحكم ربوبيته سبحانه وتعالى للخلق أجمعين، بحيث لا تجد في منهج الدعوة إلى عبادة الله تعالى إجحافاً بتلك الحقوق الإنسانية البتة، ولعل من أجمع النصوص في ذلك قوله تعالى :" لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"[719] وليس هذا الإكراه المذموم محصوراً في تسليط السيف على رقبة الكافر ليُسلم، بل إن معناه يتعدى إلى كل وسيلة إكراه يُفهم منها أن الكافر ما كان ليختار الإسلام لولا تَسلُّط هذه الوسيلة عليه، ثم إنه لا فرق بين كون هذه الوسيلة حرمان طعام أو شراب أو دواء أو مأوى أو غير ذلك من المشتركات الإنسانية التي تكفل الله تعالى بها لمخلوقاته بحكم ربوبيته سبحانه وتعالى لهم، فلقد قال تعالى :" وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها"[720]، بل إن الله تعالى قد يستجيب لدعاء الكافر بحكم ربوبيته سبحانه وتعالى:" وإذا مسَّكم الضُر في البحر ضلَّ من تدعون إلا إياه فلما نجَّاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً"[721]، فدعاء غير الله شرك وكفر، ومع ذلك فإن الله تعالى قد يستجيب لهؤلاء في وقت الضراعة والمحنة إذا ما دعوه سبحانه وتعالى وهي استجابة ربوبية لا استجابة ألوهية، فإن الله تعالى خلق خلقه وهو سبحانه لا يدع خلقه لغيره بدون تدبير وكفالة بل هو الحي القيوم الرزاق، وها نحن نرى الكفار بل المحاربين لله تعالى، والله تعالى يطعمهم ويسقيهم ويمتعهم بعافية الأبدان كل يوم، وليس ذلك لرضاه عنهم شرعاً، وإنما لكمال ربوبيته عز وجل في علاه. والشاهد من هذا كله أن الإسلام لم يشرع لنا التضييق على الناس في معايشهم - التي هي مقتضى ربوبية الله عز وجل لهم- كوسيلة للدعوة إلى الله، وإن كان ذلك مسلك أهل الكفر والضلالة ودأبهم على الدوام، وهو التضييق على أهل التوحيد والإيمان لصرفهم عن عبادة الله ، ولكن الله لم يرضَ لعباده الموحدين ودعاته الهداة المهتدين بإذنه أن يسلكوا مثل هذا المسلك المنحرف البتة، وليس سلوك الكفار ودعاة التنصير لهذا المسلك المنحرف مسوغاً ولا مبرراً لسلوكنا له. ولئن كان سلوك هؤلاء واتخاذهم العلاج الطبي – وهو ضرورة وحاجة معاشية بلا ريب – مطيةً لتمرير باطلهم وتسويق إفكهم بل لفرضه على عقول البسطاء والمعدومين، فإن هذا الواقع يفرض علينا مسؤوليات محددة لمواجهة هذا التيار التنصيري المنحرف والشاذ، ولكن وفق منهج أهل الحق لا وفق الإكراه والتغرير ومساومة البدن بالروح.
ولئن سألت أيها الطبيب المسلم الغيور عن طريق مجابهة ما تقدم مما تقوم به المؤسسات التنصيرية في أرجاء العالم الإسلامي من حملات التنصير تحت ستار الطب ولبوس الخدمات الإغاثية الطبية، فلتعلم أنه يتمثل في سد الثغرات التي يستغلها هؤلاء للوصول إلى الاحتكاك والتواصل مع الفئة المستهدفة بسهام تنصيرهم المسمومة، ونحن نتكلم في مجال الطب عن واحدة من أهم هذه الثغرات، إذ لا يخفى على المتأمل مدى ما تعيشه شعوب المسلمين من فاقة وعوز في أبسط الحاجات الطبية، والتي تعمل هذه الهيئات العالمية ذات الامتداد الأخطبوطي والتمويل المهول على استغلالها من أجل تغليف إنجيلهم المحرف بضمادات الجراحة، وستر سمومهم العقدية بأنواع الأدوية والعلاجات، وإخفاء خبثهم وحقدهم وسوء نيتهم تجاه المسلمين وراء جدران مشفى خيري أو مركز رعاية صحية ، ولست هنا بصدد توثيق هذه الحقائق فإنها بارزة مكشوفة لمن فتح عينيه وسأل عن حال إخوانه المستضعفين، ولقد شاهد كاتب هذه السطر نماذج من ذلك بأم عينيه، ولكني بصدد التنبيه على عظم مسؤولية الأطباء الذين يغفلون عن سد حاجات إخوانهم الطبية، فيما هم ساهون لاهثون وراء مقامات علمية وشهادات وأبحاث هي بالنسبة لواقع حال أمتنا أقرب إلى الترف العلمي منها إلى الحاجة الطبية. نعم إن سد حاجات إخواننا هؤلاء أقرب إلى فروض الكفايات منه إلى فروض الأعيان ،ولكن علينا ألا ننسى أن الفرض الكفائي متعين على كل مستطيع حتى تنسد الحاجة، وأقولها مهما كانت الحقيقة مؤلمة إننا معاشر الأطباء المسلمين مسؤولون عن كل طفل وضع أبواه الصليب في عنقه في مقابل تحصيل دوائه، وعن كل نسخةٍ من الإنجيل المحرف اضطر مسلم لأخذها في مقابل جرعة دواء أو جراحة أو علاج، وعن كل ساقٍ بُترت نكايةً في مسلم لم يجد من يناصحه الرأي في علاج أذيتها فاضطر للأخذ برأي صليبي حاقد، وعن كل ثغرة في حاجات الأمة الصحية لم نسدها ولم نرابط عليها فإذا بها مدخلاً من مداخل أتباع إبليس للنفوذ إلى عقيدة المسلمين منها...(2/98)
إن من المهم أن نعلم أننا لا نتكلم في هذا المجال عن بضع مئات من المسلمين ولا عن بضعة آلاف منهم، بل إننا نتكلم عن ملايين المسلمين في أرجاء المعمورة ممن هذا حالهم، وليس العدد للمبالغة البتة، نعم إن هذا العدد فوق طاقة الأفراد ولكن يجب ألا يكون دون اهتماماتهم؛ إن الاهتمام بهذه الشريحة من المرضى المستضعفين المتربص بدينهم ليس إلا فرعاً من فروع الإيمان ولازماً من لوزامه، كما قال المعصوم صلى الله عليه وسلم:" مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثلُ الجسد إذا اشتكى له عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"[722]، ولعل من النكت اللطيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار حالة المرض لتشبيه حال الأمة الإسلامية مع بعضها البعض، فكان لزاماً أن يكون التكافل في مجال المرض من أولى هذه المناسبات إعمالاً لواجب الاهتمام بشؤون بعضنا البعض والتكافل والتراحم والتواد والتعاطف، فتأمل. ثم إن أحداً منا معاشر الأطباء لا يعدم فيما حوله من مجتمعات إسلامية قد استبيحت بيضتها اليوم فئاتٍ من المسلمين تتربص بهم أذرع المد التنصيري فرصة الاختراق والنفوذ ما لم يقم طبيب مسلم أو ثلة من الأطباء المسلمين بسد هذا الثغر وإراحة الأمة الإسلامية من خطره. إن ما نريده من الطبيب المسلم في هذا السياق يتناول حداً أدنى هو الاهتمام الحقيقي بهذا الأمر، بحيث تظهر آثار هذا الاهتمام على قلبه ولسانه وجوارحه، والارتباط بجنس العمل الذي يحقق انتماء الطبيب المسلم إلى جملة المرابطين على هذا الثغر؛ وقد يكون هذا العمل ميدانياً وقد يكون منهجياً تنظيرياً وقد يكون تعليمياً تدريبياً، والمجالات في هذا الباب كُثُر. وفي مقابل ما تقدم ننبه مرةً أخرى على أن الطبيب المسلم حين يضطلع بجنس العمل الطبي الخيري أو الإغاثي من هذا المنطلق ابتداءً فإنه لا يقدِّم خدمته الطبية على أساس التمييز بين البشر في دياناتهم كلا، فلقد قال الله تعالى :" أفنجعل المسلمين كالمجرمين. ما لكم كيف تحكمون"[723]، فهيهات أن يكون سلوك المسلم مع الخلق كسلوك المجرمين ممن يجعلون جرعة الدواء ثمناً لترويج المعتقد وإن كان حقاً، فما بالك بمعتقدات القوم الباطلة، بل إن مسلك الطبيب المسلم في هذا الباب هو قوله صلى الله عليه وسلم :" في كل كبدٍ رطبةٍ أجر"[724] وليس لهذا النص سوى استثناءات قليلة ذكرها العلماء[725]، ولكن أنبه في هذا السياق على أن عدم استثناء الكافر من العمل الطبي الخيري أو الإغاثي يجب ألا يكون على حساب أولويات حقوق المسلمين، بمعنى ألا ينصرف جهد المسلمين وطاقاتهم المحدودة في طلب أجر سقيا البهائم أو الكفار في حين جراحات المسلمين وآلامهم تستغيث – بعد الله تعالى – بإخوانهم في الدين، فتنبه لهذا لا سيما في يومنا هذا الذي أصبح التزلف لملل الكفر ديدن بعض مرضى القلوب، ودأب بعض المسارعين في استرضاء أهل الكفر ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم إن الطبيب المسلم في سياق كل ما تقدم ملتزمٌ بسمته الإسلامي يشع نور عقيدة التوحيد من ثغره ووجهه وجوارحه، يداوي الناس بالبسمة الحانية والنظرة الشفوق قبل الدواء والمبضع والترياق، وهو لا يعدم في كل ما تقدم مناسبةً يقول فيها للخلق دون إكراه ولا ابتزاز ولا ضغط ولا إلجاء :" إني تركت ملة قومٍ لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون"[726]
الفصل الخامس: حلية الجهاد(2/99)
كثيراً ما يغفل الطبيب المسلم عن تسديد جهده إلى تحقيق ذروة سنام الإسلام، أعني بطبيعة الحال الجهاد في سبيل الله ، فتلك هي قمة الإسلام السامية وذلك هو الهدف الأسمى لمن عايش مفردات التوحيد، وانطرح على عتبة العبودية، وأحب أن يتقرب إلى محبوبه الأوحد بأغلى وأعز ما يملك ؛ النفس والمال. ولقد صح في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:"رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد"[727]، ولقد قال تعالى في محكم تنزيله:" يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير"،[728] وهذا التفصيل يقتضي أن نسد الثغر في كلٍ من جهاد الرمح والسنان وجهاد القلم والبيان، أما الأول فيكون بقيام الطبيب المسلم بدوره الميداني يطبب فيه جراحات المجاهدين، ويسعف فيه مصاب المسلمين إذا ما ادلهمت الخطوب ودارت رحى الحروب، واعتدى من اعتدى من أهل الكفر والأوثان على دماء المسلمين وأعراضهم ومقدساتهم بما لا حيلة في دفعه إلا فَلُّ الحديد بالحديد، وأما الثاني – أعني جهاد القلم والبيان – فإنما يتوجه إلى أصحاب الأقلام المسمومة والأفكار المحمومة التي تتربص لعقيدة المسلمين وتتسلل عن طريق العلم والطب لتروِّج غثها وسمها، وتبذر بذور الشقاء والفساد في جنبات المجتمع المسلم متسترين بلقبٍ علمي أو مكانةٍ وظيفية أو أمانةٍ وُضعت في غير محلها، ولا شك أن الطبيب المسلم مخاطَبٌ بنصوص الجهاد الشرعي عموماً من جهة كونه مسلماً، ولكن حديثي في هذه الحلية عن الدور المنوط بالطبيب المسلم من جهة كونه طبيباً، فنحن نتكلم في سياق المهنة عن خصوصيات تتعلق بدور الطبيب لا يستيطع غيره أن يسد ثغرها، أما عمومات عبادة الجهاد وضوابطها الشرعية فيرجع إليها في مظانها من كتب الفقه مع التنبيه على ضرورة الانضباط بالضوابط الشرعية في ممارسة هذه العبادة الجليلة، ولا يصدنَّك أيها الطبيب بل المسلم عن الاستشراف لفضل هذه العبادة تشويه المغرضين ونعيق المنافقين وتهويل أتباع الشياطين ممن يشوهون صورة هذه العبادة ويُلبِّسون عليها بكل ما يملكون تنفيراً للمسلمين الخلَّص من الاستجابة لنداء رب العالمين :"يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثَّاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل"[729]. فما هي خصوصيات دور الطبيب في محراب هذه العبادة السامية؟ هذا ما نعرضه في درر هذه الحلية إن شاء الله.
أولاً: جهاد القلم والبيان:(2/100)
يكاد كلنا يحفظ اليوم حديث النبي صلى الله عليه وسلم :" يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأَكَلةُ إلى قصعتها" فقال قائل: ومن قلةٍ نحن يومئذٍ؟ قال :" بل أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وليَنزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، ولَيقذفن الله في قلوبكم الوهن" فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن؟ قال:" حب الدنيا وكراهية الموت"[730]، ومن الوهم أن نقتصر على تصور هذا التداعي الأممي علينا معاشر المسلمين على الصورة الحسية، ونغفل عن التداعي العقدي والفكري والثقافي الذي يراد من خلاله مسخ هويتنا الإسلامية، ولهذا كان لزاماً على كل أهل فن وعلم من المسلمين أن ينكَبُّوا على ثغور علمهم وفنهم لا يؤتى المسلمون من قِبَلهم، إذ أن هذه العلوم والفنون أصبحت أقواس سهام التغريب والإقصاء عن الدين؛ لقد أصبحت جزءاً لا يتجزأ من منظومة تداعي الأمم علينا اليوم، إذ لا يخفى على من له أدنى اهتمام وتعلق بشؤون المسلمين مدى تغلغل المد التنصيري في مجتمعات المسلمين في لَبوسٍ شتى وتحت شعارات عدة، ومن مظاهر هذا المد التنصيري ما هو صفيقٌ وقح يمد يداً بالدواء للاجئ مسلمٍ محتاج وفي يده الأخرى نسخة من الإنجيل المحرَّف – ولقد تقدمت الإشارة إلى هذا – ومنه ما هو خفيٌ مقنَّع يأتي في صورة محاضرة أو نشاط علمي المظهر يدس فيه السموم المغلفة بابتسامة خادعة تروج على جملةٍ غير يسيرة من العاملين في مشافي المجتمعات المسلمة، وقد رأينا هذا بأم أعيننا أيضاً، وقد يأتي في صورة وثيقة من مواثيق الأمم المتحدة الطاغوتية متسللةً إلى ديارنا بدعوى حقوق الطفل وصحة التناسل وغيرها من الترهات والأباطيل، ويبقى أمام الطبيب المسلم أن يقف متفرجاً شيطاناً أخرس فيبوء بإثم السكوت والتثاقل عن أداء دوره في صد هذه الهجمات، أو أن يتبوأ موقعه الدفاعي بالحكمة والموعظة الحسنة يحذر مريضه ومجتمعه من خِدع هؤلاء تارة، ويفضح مكائدهم على الملأ تارةٌ أخرى، وهكذا يكون دأب الطبيب المجاهد المرابط على هذا الثغر ؛ فهو في مخيمات اللاجئين يسد حاجاتهم حتى لا تستغل أوضاعهم لتضييع دينهم، وهو في المكتبة يقرأ ويطالع ويكتب ويدافع كلما صوَّب أصحاب أقلام التنصير سهماً نتناً إلى صدر الأمة، وهو في قاعة المحاضرات يتصدى لدسائس الفرويديين والطبائعيين خَفيةً كانت أم جلية، وهو في غرفة المريض يستر عورته في حين يهتكها طبيب كافر، وهو في العيادة يُحِل الحلال ويُحرِّم الحرام في حين تفتن ممرضة كافرة قلوب الرجال أو يتعلق المرضى بتمائم الشرك، وهو يشغل حاجة مريضه الروحية بالقرآن ومأثور الدعاء حتى لا يشغله منصرٌ بترانيم محرَّفة، وهو يحافظ على العقيدة بنفس الاهتمام والحرارة التي يعالج فيها البدن وأكثر، إنه على الجملة مرابطٌ على ثغر العقيدة أن يؤتى المريضُ من قِبله مهما كانت حالة المريض وأينما كان هذا المريض، فوالله لئن قطعت آلاف الأميال لتمسح على مريض مسلم قبل أن تمسه يد منصِّر فلقد صدقت العهد بإذن الله، أما وأنت تتنعم بالرخاء وتبتلى بالغفلة ومرضى المسلمين ومجتمعاتهم صرعى أمام تيارات التنصير ومعسكراته الطبية وندواته الصحية وأدويته الفاسدة وأناجيله المحرَّفة فلا وألف لا.
ومن المهم في هذه المرحلة أن نترقى فوق العموميات والمجملات لنتكلم بكلام محدد وبضوابط مقعَّدة عن الثغور الرئيسية التي يتحتم على الطبيب المسلم المرابطة عليها اليوم في مجال الجهاد العلمي أو جهاد القلم والبيان، ولقد تأملت في منظومة المقاصد الشرعية الإسلامية فوجدت فيها الغاية والسبيل لوضوح الرؤية والهدف والتزام منهج الإسلام الشمولي دون إفراط أو تفريط، إذ أن الشريعة الإسلامية كما هو معلوم جاءت لتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة، ولقد وضعت الشريعة نصب عينيها مقاصد رئيسية تدور مصالح المكلفين عليها، وهي الدين والنفس والعقل والعرض (أو النسل) والمال، بحيث لا تكاد تجد تشريعاً في الإسلام إلا وهو يحقق لواحدةٍ أو أكثر من هذه المقاصد مصلحةً مرجوة أو يدفع عنها مفسدةً مخوفة، وفيما يلي بيان تعلق واجب الطبيب بهذه المقاصد على سبيل الإشارة والتمثيل لا على سبيل الاستيفاء والتفصيل فإن لذلك مقاماً آخر إن شاء الله.
أولاً: المرابطة على ثغر الدين:(2/101)
لقد تقدمت الإشارة إلى أن صيانة عقيدة التوحيد هي غاية حفظ الروح والبدن، وما تعهُد البدن بالعلاج والطب إلا تعهدٌ للمحل الحافظ لتلك الروح الطيبة إن شاء الله، ولهذا تجد الشريعة الإسلامية حريصةً على تطهير وتخلية قلب المكلَّف من الاعتقادات الفاسدة التي قد تتسرب إليه حين الابتلاء بالمرض، تأمل كيف جاءت نصوص الشريعة لدفع توهُّم النفع والضر فيما عدا الله عز وجل، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"لا عدوى ولا طِيرة ولا هامَة ولا صفر"[731]، ولئن كان الأمر في الأمس القريب يتعلق بنفي الطيرة والشؤم وتحريم الاستعانة بالجن والكَهَنة، فإن الأمر اليوم ربما خرج عن تلك الطلاسم والطقوس المشبوهة إلى لبوسٍ جديد اسمه النظريات العلمية ، تلك النظريات التي تطعن في صُلب العقيدة، وتتخذ من الطب والعلوم التجريبية مطيةً لترويج إفكها، فإذا بقول الله تعالى:"الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل"[732] يعارضه أقوام بنظريات النشوء والارتقاء الفاسدة عقلاً ونقلاً، وإذا بتوحيد الربوبية الذي لم يتجرأ الإنسان في القديم على جحوده أو إنكاره يصبح مثار فتنٍ وتدليس عند من يصر على استعمال لفظ (الخلق) في التدليل على كشفٍ أو سبقٍ علمي كالاستنساخ ونحوه، ولعمر الحق إن الطبيب المسلم اليوم أحوج ما يكون إلى التسلح بقوله تعالى :" يأيها الناس ضُرب مثلٌ فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب"[733]، إي ورب الكعبة، ضعف الطالب والمطلوب فكلاهما في مشهد الخلق حقير، وأمرهما عند بارئهما يسير، وفي الحديث عن بسر بن جحَّاش رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بصق يوماً في كفه فوضع عليها أصبعه ثم قال: قال الله :" ابنَ آدم، أنَّى تُعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بُردين وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت حتى إذا بلَغَت التراقي قلتَ أتصدق ، وأنى أوان الصدقة"[734]، ألا فليعلم الإنسان قدره، وليعلم أنه مهما أوتي من علم ومن قدرة فإنما هو فيض فضل الله تعالى ورحمته، واعلم أيها الطبيب المسلم أن التسلح بهذه النصوص والثوابت العقدية هو الكفيل بإذن الله تعالى بالتنبه إلى كل دسيسة وفتنة يروج لها أتباع إبليس، سواءٌ أكانت التصريح أو التمليح إلى قِدم العالم[735]، أو إلى أن الإنسان يخلق كخلق الله تعالى الله عن ذلك، أو أن النفع والضر بيد غير الله سبحانه وتعالى، ألا فلتعلم مقام الأسباب من المسببات، ولتعلم أن الكل من الله، وأن ما من سبب وُجد مسببه إلا والله خالقهما، قال تعالى:"والله خلقكم وما تعملون"[736]، وإن واجب الطبيب المسلم اليوم أن يَقعد لهؤلاء كل مرصد، ويترقب لهم كل سهم تصوبه قوس الإلحاد إلى عقيدة التوحيد في صدر الأمة، وليس المقام مقام تفصيل وإنما هو مقام تنبيه على خطورة الغفلة عن هذه الأخطار وضرورة التصدي لها.
ثانياً: المرابطة على ثغر النفس:(2/102)
إن حفظ النفس المسلمة مقصد شرعي ضروري أولته الشريعة عنايةً فائقة، ففي الحديث عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأةً ذات حسب وجمال وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ قال: لا. ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال:" تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم"[737]، وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن امرأةً قتلت ضَرَّتها بعمود فسطاط، فأُتي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى على عاقِلَتها بالدية وكانت حاملاً فقضى في الجنين بغرَّة. فقال بعض عَصَبتها : أندي من لا طَعِم ولا شَرِب ولا صاح فاستهل، ومثل ذلك يُطَل. قال: فقال: سجعٌ كسجع الأعراب"[738]، وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لَزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم"[739]، والشاهد من هذه الأحاديث بيان مدى اهتمام الشرع بالنفس طلباً وحفظاً؛ أما الطلب فبالحث على التناسل والتكاثر، وقد جعل الشرع لذلك غاية هي أسمى الغايات ألا وهي التنافس في توحيد الله وعبادته، وأما الحفظ فمن جهة التنبيه على أهمية وحرمة نفس المسلم في كل مرحلة من مراحل حياته، حتى لو كان جنيناً في مراحل الحمل المبكرة، ومن جهة التنبيه على عظم مكانة النفس المسلمة عند الله عز وجل، حتى إن فوات الدنيا بأكملها أهون عند الله تعالى من فوات نفسٍ موحِّدة واحدة، ولا شك أن هذا يولِّد الدافع على حفظ الأنفس وحقن دمائها، فإذا أتيت إلى دور الطبيب المسلم في مرابطته على هذا الثغر وجدت أن تصدي الطبيب المسلم لاختراقات العدو على جبهة طلب النسل داخلاً في هذا الجهاد، فالطبيب المسلم العاقل لا ينخدع بمسوغات ترويج وسائل منع الحمل وما يُدعى تلبيساً وتضليلاً (تنظيم الأسرة)، وهو يضبط وصف هذه الوسائل للمريض بالضوابط الشرعية الصحيحة، من حيث دفع ضررٍ أكبر كأن يغلب الظن على أن الحمل خطر على حياة الأم، ويتورع كل الورع عن وصف الوسائل غير المشروعة لمنع الحمل كاللولب والوسائل الدائمة كقطع أو ربط الأنابيب [740] ، وإن الواقع المؤلم الذي نعيشه اليوم نتيجة استرسال الأطباء والنساء في تعاطي موانع الحمل دون وازع من دين أو ورع من تقوى الله أو وعي لمكائد العداء، قد أفضى بكثير من الأسر المسلمة إلى ذلك الانكماش العددي الذي لا يتناسب مع طبيعة التحديات التي تواجهه أمتنا شرقاً وغرباً؛ نعم نريد التكاثر النوعي والكيفي ولكن ذلك لا يستلزم التفريط بالكثرة المطلوبة والمقصودة شرعاً، بل أقول نحن أُمة جهادٍ واستشهاد، وإن العقل والحس يشهدان أنه كلما كان للمرء نصيب أكثر من الذرية والنسل، كلما كان أقدر على بذل الولد والولدين في سبيل الله، ولئن كانت مخططات التجفيف الكمي للمسلمين تروَّج في العيادات والمشافي ومراكز الرعاية الأولية حيث توزع وسائل منع الحمل بالمجان، فإن أحد محاور صد هذا الهجوم يجب أن تنطلق في هذه العيادات والمشافي والمراكز، وأقول بكل صراحة ووضوح إن على كل طبيب مسلم أن يرعوي وينزجر عن القيام بهذا الدور المشبوه في ترويج هذه الوسائل ونشرها، وأن يتقي الله تعالى في كل مرة يصف فيها وسيلةً من وسائل منع الحمل سائلاً نفسه : هل هناك استطباب طبي حقيقي وإذن شرعي معتبر لاستعمال مانع الحمل، وهل الوسيلة المعينة لمنع الحمل مأذون بها شرعاً أم لا؟ فإن كان جواب أحد السؤالين السابقين النفي فليعلم هذا الطبيب أنه متعاونٌ على الإثم والعدوان، وأنه من حيث يدري أو لا يدري قد أصبح أداةً للفت في عضد المسلمين ولتوهين جموعهم خدمةً لأعدائهم، والعكس صحيح حيث يقف موقف الطبيب المسلم الواعي الحاذق الذي يوازن بين مصلحة المريضة والحذر من مفاسد ومكائد العدو، ولا تحسبن الكلام مبالغاً فيه البتة فإن قليلاً من النظر والتأمل فيما يجري في مجتمعاتنا كفيلٌ بجلاء وجه الحق إن شاء الله.(2/103)
فإذا تجاوزنا مرحلة طلب النسل وضرورة التصدي لمحاولات تحجيمه جاءت المرحلة الثانية التي اعتنى الإسلام بها ألا وهي مرحلة حفظ الجنين كما تقدم في حديث دية الجنين، ولقد بدأ الاسترسال في مسألة الإجهاض يستشري في مجتمعاتنا، والمؤسف أن بعض الفتاوى المعاصرة قد استرسلت في الإفتاء بالجواز بناءً على تعليلات لا يصح اعتبارها شرعاً، ولعل من يتأمل حديث الغامدية حيث أتت الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت:" يا رسول الله طهرني" فقال:"ويحك، ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه" فقالت:" أراك تريد أن تردَّدني كما ردَّدت ماعز بن مالك؟" قال:" وما ذاك؟" قالت: إنها حبلى من الزنا. فقال:" أنتِ؟" قالت:"نعم". فقال لها:" حتى تضعي ما في بطنك". قال : فكفلها رجلٌ من الأنصار حتى وضعت. قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" قد وضَعَت الغامدية". فقال:"إذاً لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يُرضعه" فقام رجلٌ من الأنصار فقال:" إليَّ رضاعه يا نبي الله " قال: فرجَمَها.[741]، والشاهد في هذا الحديث العظيم أن الغامدية قد استحقت إقامة الحد عليها بالرجم لإقرارها بالزنى وهي محصنة، ولكن لمَّا علم رسول الله صلى الله عليه سلم أنها حبلى أجَّل إقامة الحد إلى ما بعد الولادة حفظاً للجنين الذي لا ذنب له، ومعلوم أن إقامة الحد بعد ثبوت موجبه واجبٌ لا يملك أحد تأخيره أو تعطيله إلا لعذر معتبر شرعاً، فلما أجَّل الرسول صلى الله عليه سلم إقامة الحد علمنا أن حياة الجنين معتبرةٌ شرعاً، ولمَّا لم يسأل صلوات الله وسلامه عليه الغامدية عن عمر الحمل مع احتمال أن يكون قبل الأربعين يوماً أو المائة والعشرين يوماً – وهو عمر نفخ الروح في الجنين – علمنا أن حياة الجنين معتبرة في كل مراحلها، لأن القاعدة في الأصول أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال دليل إرادة العموم في المقال، فاعتبار حياة الجنين عام يشمل كل مراحله، إذ لو كانت حياة الجنين قبل نفخ الروح مرخص في فواتها لما جاز تأجيل الحد الواجب لأجلها، فلما أجَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد بدون تحري عمر الحمل علمنا أن حياة الجنين معتبرة في كل مراحلها، هذه مع ملاحظة أن إخبار الغامدية عن نفسها أنها حبلى وعدم ظهور أمارات ذلك عليها بحيث يميزه الناس يرجح أن حبلها كان في مرحلة مبكرة لا يبعد أن تكون قبل اليوم المائة والعشرين، ولقد استطردت في هذه المسألة قليلاً لأن بعض الاجتهادات الفقهية ترى جواز الإجهاض قبل المائة والعشرين يوماً لاعتبار عمر نفخ الروح ونحن لا نخاصم في هذا الحد(أي نفخ الروح في اليوم العشرين بعد المائة) فلقد ثبت بالسنة الصحيحة، ولكن نخاصم في كونه علة لجواز الإجهاض، وما قلناه من ترك الاستفصال عن عُمر حمل الغامدية يُقال مثله في حديث دية الجنين فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستفصل ويتحرى عمر الجنين حين قضى فيه بالدية، مما يدل على أن حياته معتبرة وأن الاعتداء عليه معتبر شرعاً بغض النظر عن عمر الحمل، وإن من يتأمل اللوزام الفاسدة المترتبة على القول بجواز هذا الإجهاض ليدرك أن الحق الذي لا مرية فيه بخلافه، وعسى الله أن ييسر الرد على هذا وبيانه في رسالة مستقلة والحديث هنا منصبٌ على ما سوى حالات الضرورة فليتنبه.
ثم إذا تأملت بقية حديث الغامدية وكيفية مراعاة النبي صلى الله عليه سلم لكفالة الطفل ورضاعته قبل المباشرة في رجم الغامدية، لعلمت كمال عناية الإسلام بالنفس وطلب أسباب بقائها ورعايتها، وحسبك من ذلك الأمر القرآني العام :" ولاتقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً"[742]، ولا بد للطبيب المسلم في هذا المقام من أن يمارس مهتنه في رعاية وحفظ نفس المريض من هذه المنطلقات الشرعية التي تجتهد في صون النفس المعصومة، إن مكافحتنا لخبائث التدخين والخمر والمخدرات والأمراض المنتقلة عبر الجنس والأمراض السارية وغيرها يجب أن ينطلق من منطلق مراعاة مقاصد الشريعة في حفظ الأنفس المعصومة، لا مجرد الممارسة التقليدية العمياء التي لا تنطلق من مبدأ شرعي ولا تمضي نحو غاية شرعية، وإن هذا المنطلق والغاية هما الكفيلان بإذن الله بتوجيه الطبيب المسلم نحو دوره في كشف ومجاهدة مؤامرات ومكائد الأعداء الهادفة إلى الفتك بمجتمعاتنا من خلال هذه الأمراض الهدامة، وإن دور الطبيب في التنبه لهذا كله وتحذير مجتمعه المسلم منه لدورٌ عظيم لا يليق به أن يتوانى عن القيام به أو يتقاعس عن المرابطة على ثغره.
ثالثاً: المرابطة على ثغر العقل:(2/104)
إن العقل مناط التكليف، ولقد جاءت شريعتنا الغراء بكل ما من شأنه حفظ هذه النعمة، وبدرء كل ما يفضي إلى الإضرار بها نقصاً أو تلفاً، تأمل كلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أما بعد أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير،والخمر ما خامر العقل"[743]، والشاهد في قوله (والخمر ما خامر العقل) أي غطى عليه وستره وحجبه، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :" كل مسكرٍ حرام"[744]، وإن من واجب الطبيب المسلم أن يسهر على حراسة هذا الثغر، وأن يعنى به أيما عناية لأنه مناط تحمل تكاليف الشرع، ومناط القيام بواجب العبودية لله تعالى، ولا بد لنا في هذه المرحلة الحرجة من مراحل الصراع أن ننطلق في توجيه المريض والمجتمع المسلم من منطلقاتنا الشرعية في حفظ وصيانة العقل المسلم، حتى يكون الدافع لدينا أشد والوازع عند المريض أقوى على الوقوف عند ما نهى الله تعالى عنه مما فيه ضرر على عقولنا، إن تسرب الخمر أم الخبائث إلى مجتمعاتنا ودولنا تحت غطاء من القانون الوضعي العلماني، بل وتحت حماية القانون وفي ظل تعطيل حدود الله الرادعة عن اقتراف هذه الجريمة لَيجعل من مهمة الطبيب أمراً عسيراً، ولكن أي شيء يكون الجهاد بغير هذه المشقة والعناء، وهل الجهاد إلا بالمشقة والتعب والنَصَب واستفراغ الوسع والوقت والجهد والمال والبدن في سبيل تحصيل مرضاة الله عز وجل؟ على الطبيب المسلم إذاً أن يكون صريحاً وواضحاً مع كل من تجب مناصحته لله من حاكم ومسؤول ومحكوم من عوام المسلمين وخاصتهم، فيكون ناصحاً أميناً يلتزم في إنكاره آداب الشرع بلا هرج ومرج، وبلا رعونة وتهور، وإنما السلوك الشرعي المنضبط الذي يُحسن من خلاله توظيف معطيات العلم اليقينية التي تثبت خطورة هذه السموم على أمن مجتمعاتنا المسلمة، فيستنهض همم المجتمع بكل طبقاته لمكافحة هذه الخبائث، ويثير في المجتمع بكل طبقاته الدافع على العودة إلى تحكيم شرع الله، وتطبيق حدوده تعبداً لله تعالى وتحصيلاً لمقاصد الشرع في مجال حفظ النفس والعقل،وهل جاءت شريعتنا الغراء إلا لتحصيل مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم في الدنيا والآخرة؟
إن نظرةً واحدةً إلى سراية الأمراض والمضاعفات المترتبة على استشراء هذه السموم في مجتمعاتنا اليوم كفيلة بأن يتفرغ بعض أطبائنا- بكل ما تعنيه كلمة التفرغ من معنى - إلى العمل على مكافحة هذه الخبائث، بدءاً بتقييم حجم الضرر الواقع في مجتمعاتنا، وانتقالاً إلى التوعية حول هذه الأضرار والأخطار الفردية والجماعية، ومروراً بالمناصحة والتواصل مع المسؤولين من أجل تجفيف منابع التدمير العقلي هذه، ومن ثم إيجاد صيغ عملية تطبيقية لاجتثاث هذه الاثام والخبائث من مجتمعاتنا، أما مجتمعات الكفر فلتهنأ بكأس الخمر الذي تتجرعه كل يوم للوقاية من أمراض الشرايين القلبية، ولتهنأ بما تتفتق به الدوريات الطبية من أمثال هذه الترهات، إذ أن أياً من هذه الدوريات لم ولن يتنبه يوماً إلى أثر طينة الخبال التي توعد وتعهد الله تعالى شاربَ خمر الدنيا بسقياها يوم القيامة، فذرهم في سكرتهم سادرون، وذرهم في طغيانهم يعمهون، أمَّا أن نسير وراءهم متخبطين ثمالى فتلك والله الطامة الكبرى.
رابعاً: المرابطة على ثغر العرض والنسل:(2/105)
إن الباحثين في مقاصد الشريعة الإسلامية يقرنون مصلحة العرض والنسل عادةً بسبب التلازم الحاصل بينهما، ولئن كان هذا التلازم يكاد لا ينفك في القديم، فإن الأمر اليوم قد لا يكون كذلك في بعض الحالات، نتيجة ما تفتقت عنه آلة العلم من تقنيات تسمح باستكثار النسل بمعزلٍ عن المعاشرة المباشرة التي قد تتهدد العرض، ففي القديم كان الزنا هو المتصور حين الكلام عن تهديد مصلحة العرض والنسل، حيث تُنتهك الأعراض المحرمة وتضيع الأنساب، أما اليوم فلقد أصبح تضييع الأنساب متصوراً بدون التلازم مع انتهاك العرض مباشرةً بالزنا، وهنا تبرز أهمية وعي الطبيب المسلم تجاه اعتبار مصلحة النسل والنسب في شريعتنا الغراء ولو لم تُنتهك الأعراض مباشرةً بالزنا، وبالمثال يتضح المقال؛ حيث إن التقنة العلمية الحديثة التي سمحت بطلب النسل عن طريق ما يسمى أطفال الأنابيب قد قدمت لنا قالباً واقعياً يُتصور من خلاله تضييع الأنساب دونما انتهاك العرض بالزنا، وذلك نتيجة الخطأ المخبري غير المقصود الناتج عن تداول ماء الرجل وبويضات المرأة، أو الخلط المتعمد في بعض المختبرات والمراكز التي قد تستعمل ماء رجل خصب أو بويضات امرأة خصبة من زبائنها لتحسين نتائج الإخصاب عند زبائن آخرين، وهذا كله مما لا يشك عاقل في إمكانية حدوثه بل ومما تدلل الوقائع والمشاهدات على حدوثه فعلاً، ولئن كانت بعض الفتاوى المعاصرة التي ترى جواز بعض صور أطفال الأنابيب (كالتي تكون من ماء الزوج والزوجة وفي رحم نفس الزوجة حصراً) تُغفل واقع الاسترسال في التطبيق والممارسة والتهاون في الشروط والقيود التي تضعها الفتيا للقول بالجواز، وإذا أخذنا بعين الاعتبار تعدد المحاذير الشرعية المتعلقة بطلب النسل عن طريق أطفال الأنابيب[745] مع التنبه إلى أن مثل هذه التقنيات تعتبر مظنة تضييع الأنساب ولو عن طريق الخطأ، لتبيَّن لك أن القول بالمنع هو الأحظ بأصول الشرع والأقرب إلى روح الشريعة، وعسى الله أن ييسر إخراج ذلك في رسالة مستقلة، فإذا انتقلت من هذه التقنة إلى مسائل استئجار الأرحام وتجميد البويضات والتبرع بماء الرجل وماء الأنثى لعلمت أن في حشايا التقدم التقني العلمي غير المنضبط من المهالك ما هو كفيلٌ بتدمير المجتمع بأسره، ولا يخفى أن الطبيب المسلم الخبير بهذه التقنيات وبكل مراحل التطور العلمي المتعلقة بها هو الأجدر والأليق بحمل درع الوقاية لهذه الأمة من تضييع أنسابها وذراريها، وهو الأقدر بإذن الله على حسن تصوير النوازل لفقهاء وعلماء الشريعة حتى تكون اجتهاداتهم موفقةً بإذن الله، وأريد أن أنبه إلى أن النظر والاجتهاد في هذه النوازل الطبية يجب أن يكون ضمن إطارٍ من الوعي العام تجاه المكائد التي تُحاك للأمة، تأمل كيف انطلت تلك الخدعة اللفظية المسماة (تنظيم الأسرة) حيث تسربت إلى بيوتنا وحرماتنا بل إلى فتاوانا فتجد من التناقض بين من يفتي بحرمة منع النسل ثم يفتي بجواز تنظيم النسل ما يُشعرك بالغفلة التامة عما يُحاك لهذه الأمة بِلَيل[746]، فلا غنى للطبيب المسلم والأمر كذلك عن التسلح بثوابت الشريعة وفهم روحها ومقاصدها وتأطير كل النوازل في إطار هذا الفهم والوعي حتى لا تؤتى الأمة من قِبَلنا.
ولئن كان الافتراق في جهة العرض والنسل متمثلاً في بعض الوسائل المعاصرة لطلب النسل فإن الأمر لا يقل خطورة فيما يتعلق بانتهاك العرض، ولست أعني الزنا بطبيعة الحال، وإنما أعني انتهاك العورات بدون مبرر طبي شرعي معتبر، ولقد نبهنا على ذلك فيما تقدم من هذه الرسالة، كما أن انتهاك مصلحة حفظ الأعراض يتناول أيضاً تمييع مفاهيم الفاحشة والرذيلة ووضعها في أُطر من النظريات النفسية السلوكية المنحرفة، بحيث تُعرض هذه الفواحش وتُصوَّر على أنها سلوكيات إنسانية طبيعية[747] فأصبحت اللوطية أمراً طبيعياً، والسحاقية أمراً طبيعياً، وتغيير الجنس أمراً طبيعياً يُفرض قبوله على الناس، بل ربما يحميه القانون الوضعي وحُكم مَن تبوأ منصب القضاء بهذه الأنظمة الطاغوتية نسأل الله السلامة والعافية، والشاهد هنا أن على الطبيب المسلم أن يكون حارساً أميناً على عورات المسلمين وأعراضهم وذراريهم وأنسابهم، وعلى الطبيب المسلم أن يدرك أنه سيُمتَحن في سبيل هذه الحراسة وسيلاقي شدةً وعناءً فليوطِّن نفسه على الصبر والاحتساب، وليكن ثمن هذه الحراسة والذب عن العورات ما يكون فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ومن قُتِل دون أهله فهو شهيد"[748]، فإياك والتقاعس فالمهمة خطيرة ولقد بدأت غراس الكائدين تؤتي أكلها في بلادنا مع الأسف، فليتنبه.
خامساً: المرابطة على ثغر المال:(2/106)
لا يخفى مقدار ما تتكبده مجتمعاتنا من مصاريف وتكاليف مادية للقيام بعبء الرعاية الصحية، وقبل أن يبادر أحدنا إلى انتقاد شح هذه الموارد أو التقصير في جوانب الرعاية الصحية في معظم مجتمعاتنا، فليلتفت أحدنا إلى نفسه وليتساءل عن مدى الجهد والحرص الذي يبذله هو في سبيل حفظ مال المسلمين في سياق ممارسته اليومية، لا سيما الطبيب العامل في المؤسسات الصحية العامة الذي قد يسترسل في طلب ما لا يُحتاج إليه من اختبارات وعلاجات بدعوى أنها لا تكلف المريض شيئاً، في حين أن هذه التكلفة تكون على حساب أموال المسلمين، وحسب هذا الطبيب أن ينتبه إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع :" فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"[749]، ولا يقتصر هذا على الممارسة اليومية مع آحاد المرضى بل ينصرف أيضاً إلى رسم السياسات الصحية الاجتماعية بما يوافق حاجات المجتمع وأولوياته، فمن العبث والسفه هدر الأموال في بناء مراكز علاج العقم في حين يقضي آلاف أطفال المسلمين الأحياء من الأمراض السارية القابلة للعلاج بأبسط الأدوية والتدابير، كما أنه من العبث هدر الملايين من الأموال في برامج كشف وعلاج مضاعفات تعاطي السموم والخبائث كالتبغ والخمر وسائر النجاسات، في حين إن الوقاية من هذه الخبائث كلها يكون باستئصال مادتها من مجتمعاتنا، وإنه لمن المضحك أن يكون غاية الإنجاز في بعض المجتمعات المسلمة سن قانون لمنع بيع الدخان والسجائر لمن هم دون سن الثامنة عشرة، وكأن الضرار الصحية والنفسية والشرعية للتبغ تقتصر على هذه الفئة، ولكنه التقليد الأعمى وسلوك جحر الضب[750] وراء كل ما هو أجنبي مهما كان سفيهاً، نعم لا بد من توعية المجتمعات المسلمة اليوم تجاه هذه المخاطر، ولكن على الطبيب الواعي أن ينصح واضعي السياسة الصحية في مجتمعه تجاه أسس البلاء وجذور المحنة، وقل مثل هذا فيما يتعلق بعلاج الأمراض السارية بطريق الفاحشة والجنس، حيث يقتصر محترفو التقليد الببغائي على إيجاد مراكز للرعاية الجنسية من أجل تشخيص أمراض البدن في حين يُعزف عن أمراض الروح، فإذا بالأمر يقتصر على إعطاء وصفة بنسلين لعلاج الزهري أو الأفرنجي دون النظر إلى مرض الشهوة في قلب من سوَّلت له نفسه الانغماس في مستنقع الفاحشة والرذيلة، ووالله لقد دمعت العين منا لما رأينا أطفال المسلمين يولدون مصابين بالأمراض المنتشرة جنسياً، ولا ذنب لهم إلا جناية أبٍ زانٍ أو أمٍ مرتادة للفواحش والعياذ بالله، والشاهد أن ما يُصرف من الأموال في ترقيع هذه الظواهر ليس إلا نوعاً من أنواع الهدر ما لم تتمخض سياسة صحية شرعية تنادي بسد ذرائع الفاحشة وبإقامة حدود الله الزاجرة على أهل الزنا والفواحش ومعاقري الخمر والخبائث بنفس الوقت التي تنادي بها بكشف وعلاج آحاد المرضى المصابين بهذه الأمراض.
وخلاصة الأمر أن الهدر المالي في مجال الصحة يكون بإنفاق ما لا يلزم أو بتقديم ما يقبُح تقديمه من المصاريف الصحية على حساب أولويات أشد حاجةً للمجتمع، لا سيما إذا كانت هذه الأولويات أكثر انتشاراً وأعم بلوى من غيرها، فليتأمل الطبيب الحاذق هذا كله، وليعلم أنه مسؤول عما في يده وعهدته، وليس عليه وزر ما يهدره غيره من مال، وليست عليه تبعة سفاهة غيره من المتصرفين بأموال الأمة،وحذار أن يغري بك استهتار الغير كائناً من كان بحرمات أموال المسلمين مهما كان الزمان ومهما كانت الفتنة، وتأمل معي حديث إمامنا وقدوتنا صلوات الله وسلامه عليه:" إنها ستكون بعدي أَثَرة وأمور تنكرونها " قالوا: يا رسول الله، كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال:" تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الذي لكم"[751]، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم:"فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم"[752]، والشاهد هنا أن على الفرد أن يؤدي ما عليه وفق ضوابط الشرع مهما فسد الزمان، ومهما قصَّر غيره ومهما تقالَّ أثرَ قيامه بدوره، إذ أن ذمته لا تبرأ إلا بأداء ما عليه، وليس بمؤاخذٍ عن تقصير غيره، فعليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حمِّلتم، ولو أن كل طبيب في المشفى يصرف دواءً لا حاجة لصرفه ولم يبق إلا أنت فلا تكن إمعةً ولا تغتر بكثرتهم، بل اعلم أن عليك أن تتقي الله فلا تصرف هذا الدواء وتهدر هذه الفلوس مهما استحقرتها لأنك مسؤول عنها، ولأنها داخلة ضمن حرمات المسلمين، فتأمل رعاك الله ثم تساءل: كم من أموال المسلمين قد أهدرت إلى اليوم، ثم ليجهش أحدنا بالحسرة والندم وليُصلح حاله في هذه الأمانات، ورضي الله عن الفاروق عمر حين تقلد أمر المؤمنين فقال: وإني جعلت نفسي من أموالكم بمنزلة الوصي من مال اليتيم، آهٍ كم هو البون شاسع بين هذا وذاك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذه إشارة سريعة وأمثلة موجزة مقتضبة لما قصدنا بيانه من الثغور والمرابط التي يجدر بالطبيب المسلم أن يستشعر مسؤوليته تجاهها في هذا النوع من الجهاد، ولا شك أن التفصيل في هذه الأمور يحتاج إلى إفراده بالتأليف ولكن عسى أن يكون في الإشارة دافع إلى استنهاض الهمم في استدراك ما يعوزنا للاضطلاع بهذه المهام، وإن معركة اليوم لا تحتمل أي هدر للطاقات والمصادر كما أنها لا تحتمل أية غفلة عن ثغرٍ يُغيرُ من خلاله أعداء الدين علينا، ومهما كان الثغر الذي تكفيه أمتك صغيراً فقد أديت الحق الذي عليك فلا تحقِرنَّ من المعروف شيئاً البتة.
ثانياً : جهاد الرمح والسنان:(2/107)
قال الله تعالى :" إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون"[753]، ومعلوم أن صيغة "إنما" من أساليب الحصر، فقد حصرت الآية كمال الإيمان بتحقيق قاعدة عقدية هي الإيمان بالله ورسوله، والتعبير العملي عن صدق تقرر هذه القاعدة في القلب وذلك بالجهاد المالي والبدني في سبيل الله. فهل تساءلت أيها الطبيب المسلم عن موقعك من آيات الصدق هذه وأنت تتوسم منهج النبوة في حمل هذه المهنة الراقية والهوية السامية، أعني الطب والإسلام؟ ولقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من مات ولم يغزُ ولم يحدث به نفسه مات على شعبةٍ من نفاق"[754]، ولا شك أن عموم قوله "من" يشمل الطبيب المسلم، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم للتخلص من شعبة النفاق هذه وسيلةً من اثنتين؛ إما أن يغزو المرء وإما أن يحدِّث نفسه بالغزو. قلت: وتحديث النفس ليس بالتمني ولا بالتحلي، وإنما رغبة وهمة صادقة يدل عليها جهد ملموس في تحصيل مقدمات هذا المرغوب، فعادت المسألة إلى نفس الغزو، لأن من أراد الغزو وتمناه حقيقةً أخذ بأسبابه ومقدماته، فإما أن يوفق لنفس الفعل، وإما أن تتقاصر به الأسباب وتقصر به مشيئة الله عما أراد، فينطبق عليه وصف من حدَّث نفسه دون وصف من غزا، وتأمل مصداق هذا في قوله تعالى:" ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدةً ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين"[755].
إن حاصل ما تقدم إذاً أنه ينبغي على الطبيب المسلم أن يأخذ بمقدمات الجهاد في سبيل الله، ولست أقصد بطبيعة الحال أن يترك الطبيب ثمار كدِّ وتعب سنوات طويلة من التحصيل العلمي والعملي واقتحام صفوف القتال فلذلك أهله[756]، وإنما أقصد التنبيه على خصوصيات الطبيب المسلم فيما يتعلق بتحقيق عبادة الجهاد المالية والبدنية على النحو التالي:
أولاً: الجهاد المالي:
لا يخفى أن مهنة الطب من حيث هي مهنة كسب عيشٍ طيب تعتبر مورداً من موارد الرزق التي يعتاش منها الطبيب، ولئن كان الحال كذلك فإن الطبيب المسلم مخاطَب من جهة المهنة ومن جهة الرزق المكتسب عن طريقها بجملةٍ من الأحاديث النبوية المتعلقة بجهاد الرمح والسنان، أما الحديث الأول فيتمثل في قوله صلى الله عليه وسلم :"من جهَّز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في سبيل الله بخير فقد غزا"[757]، وأما الحديث الثاني فقوله صلى الله عليه وسلم :" من جهَّز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا"[758]، وإن تدبُّر هذه الأحاديث يتمخض عن ثلاث صيغٍ جهادية خليق بالطبيب المسلم أن يحرص على التحلي بواحدة منها على أقل تقدير وهي :
1- تجهيز المجاهد في سبيل الله : أي بالمال فيعينه على شراء سلاحه ولباسه العسكري وراحلته أو مؤونة سفره، ولا يخفى أن الطبيب في معظم المجتمعات من ذوي الدخل الجيد، فقَمِنٌ به أن يبذل شيئاً من هذا الرزق في تجهيز إخوانه المجاهدين، وكيف يضن الطبيب المسلم على الغازي في سبيل الله مثل هذا وهما إنما زميلان في مهنة واحدة ؛ فالطبيب يسعى في حفظ أبدان المسلمين رعايةً لأرواحهم ودينهم، والمجاهد في سبيل الله يدافع عن حمى المسلمين ودمائهم وأموالهم وأعراضهم حفظاً لذلك كله وتمكيناً لهم من إقامة دين الله حتى يحيوا الحياة الطيبة النافعة، فالطبيب أحرى الناس أن يستشعر ويُثمِّن دور المجاهد وقيمة عمله وسمو غايته، وهو بالتالي أجدر الناس وأحراهم بمد يد العون والمدد له، وليس من المبالغة والحال كذلك أن نعلنها بكل صراحة ووضوح بل وبكل فخر واعتزاز: إن الطبيب والمجاهد زملاء مهنة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وبكل ما يترتب عليها من تبعات ومسؤوليات وتمحيص وابتلاء..
2- كفالة أهل المجاهد في سبيل الله : أعني كفالتهم مادياً بما يمكِّن المجاهد من الانطلاق في مسيرته وهو مطمئنٌ إلى أن أهله بخير، وأنهم مكفولون، وأنه يوجد – بعد الله تعالى – من يقوم على تدبير شؤونهم، بحيث لا يستحيل الأهل والولد عائقاً عن الجهاد، ومرد هذه الصورة إلى الصورة السابقة أعني الجهاد بالإنفاق المالي وإن اختلفت جهة الإنفاق في هذه الصورة. وأنبه هاهنا إلى أن أهل المجاهد في سبيل الله ليسوا من الذلة والمهانة بحيث يستجدون الناس وإن الله تعالى مغنيهم عمن سواه، بل إن الواجب علينا نحن أن نبحث عن هؤلاء وأن نُقدِّر هؤلاء حين يقبلون منا أن نقوم ولو على بعض شؤونهم، وأن نعرف لهم فضلهم ومكانتهم عند الله تعالى، فإن أهل المجاهد في سبيل الله هم تاج هذه الأمة ورمز سؤددها، هم الذين تفطَّرت أكبادهم وتقرَّحت قلوبهم لِحُرقة الفراق عن الابن المجاهد والزوج المجاهد والأخ المجاهد والأب المجاهد، فحذار أن تتلكأ أو تتوانى عن السعي في أمورهم أو تنتظر من يطرق بابك ليقول لك: هناك أسرة مجاهد تحتاج من يعيلها، بل قم وابحث ونقِّب وكد واتعب واطرق الأبواب وتضرع إلى الله تعالى أن يهديك إلى بيوت هؤلاء عسى أن تفوز بشرف القيام على بعض شأنهم، وإنه والله لشرفٌ وأي شرف.(2/108)
3- تقديم الرعاية الصحية لأهل المجاهد في سبيل الله: وهذا فرعٌ عن الجهاد المالي من جهة تسخير مهنة الطبيب التي يتكسب بها رزقه لخدمة أهل المجاهد في سبيل الله، بحيث يُقدِّم قسطاً من رعايتهم الصحية لهم بغير عوض، وإن طموحنا يجب أن يرتقي إلى مستوى قيام الأطباء المسلمين بتقديم نظام رعاية صحية متكاملة لأسر المجاهدين والشهداء من خلال الهيئات المهنية الطبية المختلفة، سواء أكان بالتعاون مع الجهات الرسمية أم كان مجرد احتساب مستقل من الهيئات الطبية النقابية أو الجمعيات الطبية ونحوها، وننبه على ما نوهنا إليه آنفاً من وجوب الحذر من إظهار الامتنان على هؤلاء، بل إن المنة لله أولاً ثم الشكر والتقدير لهذه الأسر والعائلات التي قبلت عربون الوفاء هذا، فهؤلاء كما ذكرنا هم رموز العزة والشموخ في مجتمعاتنا، وإن الخسران كل الخسران أن نغفل عنهم ونزهد في التشرف بالقيام على بعض شؤونهم، فإن أم المجاهد أمٌ لنا وإن أبا المجاهد أبٌ لنا، وإن ابن المجاهد وابنته ابنٌ وبنتٌ لنا، وإن زوج المجاهد في سبيل الله عرضٌ لنا وحريمٌ لنا تُفتدى بالأرواح تلك التي ودَّعت زوجها ليبذل النفس رخيصةً في سبيل الله فلله درها من امرأة، فالله الله أيها الطبيب دونك هذه الآفاق السامية التي لن تبلغ معشار معشارها بشهادات وندوات وألقاب ومسميات.
فحاصل الأمر في الجهاد بالمال أن يستفرغ الطبيب وسعه في القيام بواحد أو أكثر من هذه الصور ما أمكن، وليعلم الطبيب أن التوفيق للقيام بشيءٍ مما ذكرنا رهين الإخلاص في النوايا، أما من أراد من هذه الأعمال الدعاية والشهرة والسمعة والرياء فخير له ألا يتاجر بهذه النفائس ببضاعته المزجاة فإن أمره ليس بشيء البتة، فليتنبه.
ثانياً: الجهاد بالنفس:
وهذا لعمري ذروة سنام الإسلام وغاية العبودية لرب الأنام، والمقام هنا مقام الحديث عن خصوصيات مهنة الطبيب حيث يُحتاج إليه ميدانياً لردء إخوانه المجاهدين في سبيل الله، يضمد جراحهم ويسعف مصابهم ويستنقذ أرواحهم ويتفانى في حفظ أجسادهم ليطول بذلهم لها في سبيل الله، فإن غاية مراد المجاهد أن يكون له النفس بعد النفس والجسد بعد الجسد ليبذل ذلك كله في سبيل الله مرات ومرات، تأمل معي حديث قائد المجاهدين وإمام الغُرِّ المحجلين صلوات الله وسلامه عليه:"والذي نفس محمدٍ بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأُقتل ثم أغزو فأُقتل ثم أغزو فأُقتل"[759]، والشاهد أن المجاهد في سبيل الله يتردد بين شوقين، شوقٌ إلى لقاء الله وشوقٌ إلى إعادة بذل النفس في سبيل الله، فكلما استنقذ الطبيب من جسده شيئاً يجدد به بلاءه في سبيل الله، كلما كان متعاوناً مع المجاهد في سبيل تحقيق هذه الأشواق، وأي تعاونٍ على برٍ وتقوى أجلُّ من هذا، وأي معروفٍ تسديه لهذا الذي باع نفسه من الله تعالى أرفع من هذا، ألا فلتعلم أيها الطبيب المجاهد أنك في الميدان مع إخوانك الجرحى والمصابين من المجاهدين إنما تتردد بين ألوانٍ من الخير وتتنعم في خُرَفٍ من الجنة، فلئن كنت سبباً في استنقاذ طرفٍ من البتر فأنت على خير، ولئن بترت طرفاً مصاباً إنقاذاً لحياة الجريح المكلوم فقد كنت سبباً لسبق عضوٍ منه إلى الجنة بإذن الله تعالى فأنت على خير، ولئن استفرغت الوسع في استنقاذ حياة المجاهد فتفلتت منك روحه إلى بارئها فأنت شاهد على أعظم مشاهد العبودية في هذا الكون وأنت على خير، ألا طوبى لذاك الطبيب الذي يتقلب فيما يراه الناس ويحسبونه الدم والأشلاء في حين أن حقيقته جنة الله في الأرض وعاجل بشرى المؤمن تحت بارقة السيوف، اللون لون الدم نعم ولكن الريح ريح المسك، المشهد غبارٌ ونقعٌ نعم ولكن في حس المجاهد ريحٌ تهب من تلقاء الجنة، ذلك والله هو عاجل بشرى المؤمن إن شاء الله.
إن الطبيب قد يجد بينه وبين هذه المشاهد مسافات ومفاوز تنقطع دونها أعناق المطي، ولكن الشريعة رحبة قريبة ممن أقبل على الله، فأنت ترى السنة النبوية تعلمنا أن نبدأ بتحديث النفس بالجهاد ترويضاً لها وتشويقاً واستعداداً لطلاق الدنيا، ثم إنك ترى النص القرآني يضع لك معالم في الطريق تدلل على صدق هذا التمني وتجعل من تحقيق هذه المراحل خطوات تتقدم بالمرء نحو هذا السمو:" ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدةً"[760] نعم، إن هذا النوع من الطب يحتاج إلى إعداد العدة، بل إن طب الحروب اليوم قد أصبح اختصاصاً قائماً بنفسه، وهو بهذا القدر لا يُتصور تحصيله لكل طبيب إذ أن الحاجة ليست محصورة فيه، ولكنه حري بكل طبيب مسلم أن يكون ملماً بالحد الأدنى الذي يمكّنه من أداء دوره عند الحاجة إليه في نفير عام أو في مهام ميدانية لا يصح استنزاف طاقة المتخصصين فيها، ولا شك أن أبجديات هذا الإعداد مبسوطة في مظانها من المراجع الطبية، ولعمري إن واجب كل طبيب مسلم اليوم ونحن نعيش معركة وجود هذه الأمة أن يلم بالحد الأدنى من طب الحروب والكوارث، كي يكون معيناً لأمته ومجتمعه في النوائب والكروب، ألا فليعد كل منا عدته ولينظر إلى مدى استعداده لسد هذا الثغر ليكون ذلك أدعى لكفاءة عمله عند الحاجة، وليكون دليلاً على صدق تمني مرتبة المجاهد في سبيل الله من جهة أخرى.
الخاتمة(2/109)
هذا ما تيسر لي خطه من معالم هذه الحلية المباركة إن شاء الله، ولعمري إن الحاجة اليوم شديدة إلى العودة إلى معين القرآن والسنة ليستلهم كل صاحب فن وكل ذي علم أصول فنه وعلمه منهما، إذ أن هذا هو الطريق لتحقيق العبودية الشاملة في كل مسارات حياتنا، كما أنه هو الطريق إلى التمايز إلى حزب الله وحزب الشيطان، إلى فريق الحق وفريق الباطل، إلى فريق الجنة وفريق السعير، ولئن كانت مفرزات العلمانية الوافدة قد أحدثت شرخاً بين العلوم التجريبية وبين أصول الشريعة الإسلامية، فلقد آن الأوان لإعادة الأمور إلى نصابها لتعود الانطلاقة العلمية في مجال الطب – وغيره من العلوم – إلى الصدور عن أصول وقواعد الشريعة الكلية، حتى تنقاد مجالات الحياة كلها للشريعة الخاتمة الكاملة مصداقاً لقوله تعالى :" وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مُبدِّل لكلماته وهو السميع العليم"[761]، ولقد بينا أن هذا الصدور عن أصول وقواعد الشريعة لا يراد منه الحجر على العقل الإنساني فيما هو أهلٌ للخوض والبحث والتجربة والكشف فيه، وإنما هو تأصيلٌ وتأطيرٌ لمنهجٍ شموليٍ يحث العبد على كشف الكون المسخَر له في نفس الوقت الذي يقي العبد من شطحات العقل غير المنضبط، وإن هذه العودة منوطة اليوم بجهود أفراد ومجموعات من الغيورين المخلصين المستعدين لتقديم التضحيات ومكابدة المشاق في سبيل إبراز هذه الصورة المتناسقة المتكاملة بين الوحي والعقل إلى أن يأذن الله تعالى بإبرام أمر رشدٍ لهذه الأمة تعاد فيه الأمور إلى نصابها فيحق الحق ويبطل الباطل ويعود بالإنسانية إلى جادة الاستقامة.
إننا نعيش اليوم صراعاً وجودياً حقيقياً يرمي إلى اجتثاث شأفة الإسلام لا مجرد السيطرة على أهله ودياره وموارده، ولئن كان إرهاب البطش العسكري لصعاليك الكفر أكثر ما يشد أبناء الإسلام اليوم ويرهبهم، فإن حقيقة المعركة أعمق من ذلك بكثير وأشد خطراً من ذلك بكثير، لأنها اليوم معركةٌ عقديةٌ فكريةٌ اجتماعيةٌ ثقافية تتسلل من كل باب شهوة وشبهة، وتتواطأ مع كل ضعيف نفس ومنافق، لتفت المرة تلو الأخرى في عضد هذه الأمة، نعم إن الدين محفوظ ولكننا حَمَلَةَ الدين لسنا محفوظين، بل نحن في خطرِ وعيد الله تعالى بالاستبدال كما قال تعالى:" إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير"[762]، وقال تعالى:"وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم"[763]، فلا بديل إذاً عن الاستجابة لأمر الله عز وجل إن نحن أردنا الأمن من هذا الوعيد، والمهمة اليوم منوطةٌ بكل منا كلٌ بحسبه وكلٌ بحسب طاقته، الطبيب في المشفى والمهندس في المصنع والمعلم في المدرسة والإمام في المسجد والأم في البيت والجندي في الميدان ، لا غنى – بعد الله تعالى – عن هؤلاء لاستكمال منظومة الأسباب التي أمرنا الله تعالى باستفراغ الوسع في تحصيلها، وإن ما أشرت إليه في هذه الحلية الموجزة ليس إلا مقدمةً موجزة لأهم مسائل الطبيب المسلم الكلية، وإلا فإن الجزئيات تحتاج مؤلفات مستقلة لتتبعها ومعاصرة جديد النوازل فيها نسأل الله تعالى أن يوفقنا لذلك أو لشيء منه.
ولئن كان الحد المقصود من كتابة هذه الحلية الوقوف على معالمها العامة فإنه لا حرج في التنبيه في هذا الموضع على أهم المسائل العملية التي ينبغي للطبيب المسلم أن ينشغل بها اليوم من ساعته، فأسأله تعالى أن أوفق إلى عرضها فيما يلي:
1- إن واجب كل طبيب مسلم اليوم أن يتوقف قليلاً ليراجع رصيده من العلوم الشرعية اللازمة له بحسب اختصاصه وطبيعة ممارسته، ولا يعني ذلك هجر الطب والتفرغ لدراسة علوم الشريعة كلا، وإنما يعني التواصل مع المرجعيات الشرعية المعتبرة المأمونة على دين الله عز وجل لاستلهام التوجيه والترشيد، ولا يقدح في هذا ضرورة أن يتسلح الطبيب بحدٍ أدنى من النصوص الشرعية والمعارف الشرعية، ولا أقل من أن يطلع الطبيب المسلم على المبادئ القرآنية المتعلقة بحفظ الأنفس والإطلاع على الأحاديث النبوية في المرضى والطب كالتي في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من كتب السنن وشروحها، وأسأل الله أن يوفقني أو غيري إلى جمع متن مختصر فيما لا يسع الطبيب جهله من نصوص الوحيين.
2- إن واجب الطبيب المسلم اليوم أن يكون مطلعاً على كل ما يستجد من فتاوى الفقهاء المعاصرين والمجامع الفقهية المعاصرة تجاه ما يستجد من نوازل فقهية طبية، حتى لا يتوهم عجز الشريعة عن مجاراة التطور العلمي من جهة، وحتى يكون أهلاً لتطبيقها في مجال ممارسته من جهة أخرى، مع مراعاة أن الاجتهادات المتفاوتة في المسألة الواحدة لا تُشكل البتة، فالمسألة لا تخرج عن حالٍ من اثنين فإما أن تتبنى الدولة المسلمة اجتهاداً فقهياً معيناً فيصبح ملزماً للجميع ويحمل ولي الأمر تبعته، وإما أن لا يكون فيتبع الطبيب اجتهاد من يثق في دينه وأمانته مقلداً إن لم يكن من أهل الاجتهاد أو بالدليل إن كان له حظٌ من النظر في ذلك.
3- إن واجب الطبيب المسلم اليوم أن يعمل على التواصل مع زملائه الأطباء في سبيل التعاون على تحقيق ما تقدم، ولا يقتصر تواصله مع الآخرين على الأطباء بل يوسع ذلك ليشمل أهل العلم الشرعي وأهل الخبرة في رسم السياسات الصحية الاجتماعية ومنابر التوعية الاجتماعية العامة للوصول إلى شرائح المجتمع المختلفة.(2/110)
4- إن من أهم لوازم هذه المرحلة العمل على إدراج أبجديات الفقه الطبي في مقررات الدراسة النظامية في كليات الطب، ولا بد أن يسبق ذلك بحملة توعية منهجية تستثير همم المسؤولين والمتعلمين تجاه ذلك، وأول ما يمكن النفاذ من خلاله إلى كليات الطب مادة آداب الطب وأخلاقياته التي لا يخلو منهج كلية منه ولكنه لا يرقى اليوم مع الأسف إلى المستوى المنشود في معظم كلياتنا.
5- إن من واجب الطبيب المسلم اليوم العمل على تأصيل مسائل أخلاقيات المهنة في مجال الممارسة سواء أكان في المشفى أم العيادة أم غيره، بحيث تكون الضوابط العامة لما يتعلق بممارسة المهنة من أخلاق وضوابط نابعةً من شمولية المنهج الإسلامي ومراعيةً لحاجات المريض ومصالحه الدينية والدنيوية معاً.
6- إن الطبيب المسلم مستأمن حين يُطلب منه عرض أو تصوير مسألة طبية بغرض الاستفتاء، وليعلم أن دقة وشمولية التصوير أمرٌ مهم جداً لسلامة الفتيا، ولا يجوز للطبيب أبداً أن يصور المسألة المدروسة تصويراً منحازاً بأي شكل من الأشكال بل يعرض المسألة كما هي بدقة وتجرد تام ويدع الاجتهاد الشرعي لأهله إن لم يكن من أهله.
7- إن من واجب الطبيب المسلم اليوم أن يعنى ولو في مرحلة لاحقة بعرض هذا التصور الإسلامي الشامل الموازن بين حاجات البدن والروح إلى العالم بأسره لأن هذا جزء من مسؤوليتنا الأخلاقية تجاه العالم كمسلمين وكأطباء أخذنا على عاتقنا مهمة تخفيف المعاناة عن جنس الإنسان.
8- إن على الطبيب المسلم اليوم أن يستشعر عظيم فضل الله تعالى عليه بنعمة الدين، وأن يستشعر العزة الإيمانية التي توَّجه الله تعالى بها، فلا يخجل من عرض بضاعته ولا يستعلي على الناس بغير حق، ولكن يتوسط بين ذلك كله ليُشعر الناس أنه صاحب رسالة لا تتوقف عند حدود الطب ولا تشتغل بعافية الأبدان فحسب، بل هي رسالة أسمى ومهمة أعظم مضمونها :" وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين"[764]
وختاماً أسال الله تعالى القبول لهذا العمل، وأسأله سبحانه العفو عما فيه من الزلل، وجزى الله خيراً من وقف على حقٍ مما ذكرت فدعا لي به أو وقف على زلةٍ فنبهني إليها مشكوراً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه سلم.
وكتب الفقير إلى رحمة ربه
الطبيب المسلم وسيم فتح الله
24 جمادى الأولى 1425 هجرية
الموافق 11 تموز 2004 ميلادية
الفهرس
الموضوع الصفحة
مقدمة 2
الفصل الأول : حلية العبودية 4
الفصل الثاني: حلية العلم 9
فصل: المنهج العلمي للطبيب المسلم 13
فصل:أنواع الأدلة العلمية الطبية 15
النوع الأول: دليل النقل 17
النوع الثاني: دليل العقل 19
فصل: العلاقة بين دليل النقل والعقل في علوم الطب 20
فصل: تحرير القول في التوثق من أخبار علوم الطب التجريبية 23
فصل: مرابطة الطبيب المسلم على ثغره 26
الفصل الثالث: حلية الأخلاق والمعاملات 28
أولاً: أخلاق الطبيب المسلم مع زملائه 28
ثانياً: أخلاق الطبيب المسلم مع مريضه 33
الفصل الرابع: حلية الدعوة 52
أولاً: أسلمة العلوم الطبية 53
ثانياً: تعهد الجانب الروحي للمريض 57
ثالثاً: الاعتدال والتوسط في مسائل الإعجاز العلمي 60
رابعاً: العمل الطبي الخيري والإغاثي 62
الفصل الخامس: حلية الجهاد 66
أولاً: جهاد القلم والبيان 67
أولاً: المرابطة على ثغر الدين 69
ثانياً: المرابطة على ثغر النفس 70
ثالثاً: المرابطة على ثغر العقل 74
رابعاً: المرابطة على ثغر العرض والنسل 75
خامساً: المرابطة على ثغر المال 78
ثانياً: جهاد الرمح والسنان 80
أولاً: الجهاد المالي 81
ثانياً: الجهاد بالنفس 84
الخاتمة 86
=================
حراسة النفس
يحيى بن موسى الزهراني
إمام الجامع الكبير بتبوك
المقدمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وبذكره تنكشف الآهات والكربات ، وأشهد أن لا إله إلا الله عالم الخفيات ، ومزيل الهموم والأسقام والعاهات ، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الذي دل أمته على علاج الآلام والمشكلات والمعضلات ، صلى الله عليه وسلماً تسليماً كثيراً مديداً ما أنارت الشمس وأضاءت ، وتلألأت النجوم وتلاحمت ، وعلى آله وأصحابه أهل الخير والكرامات ، وعنا معهم برحمتك ومنك وكرمك ياصاحب الجود والخيرات ، ويافاطر الأرض والسموات . . أما بعد :
فإن نعم الله جل وعلا على عباده لا تعد ولا تحصى ، قال تعالى : [ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ] ( إبراهيم 34) ، ومع إغداق الله هذه النعم على العباد ليل نهار ، فمنهم من يستعين بها على معصية الله تعالى ، فخير الله إليهم نازل وشرهم إليه صاعد ، ثم لا تجد أكثرهم شاكرين بل قليل منهم الشكور ، قال تعالى : [ وقليل من عبادي الشكور ] ( سبأ 13) ، وشاء الله أن يبتلي الكثير من عباده ويختبرهم ويمتحنهم ومن هذه الابتلاءات ما قدره الله على خلقه من أمراض وأسقام وأدواء .
فليس ذلك تعذيباً من الله للعباد وإنما هي رحمة منه سبحانه ، ليجزل لهم المثوبة والأجر ، ويمحو عنهم الزلل والوزر حتى يلقى المؤمن ربه وقد كفر الله عنه من سيئاته ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة ، في جسده وأهله وماله ، حتى يلقى الله عزوجل وما عليه خطيئة ] ، وقال عليه الصلاة والسلام : [ ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه ] ( رواهما البخاري في الأدب المفرد وصححهما الألباني) .(2/111)
فهنيئاً للمؤمن على هذا الأجر العظيم من رب العالمين ، فإن مُرض حصل له الأجر ، وإن كان صحيحاً مقيماً إزداد من العمل الذي يقربه إلى ربه سبحانه ، فعجباً لأمر المؤمن أمره كله إلى خير ، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ، ثم لا تجزع أيها المريض فإن عملك الذي كنت تعمله صحيحاً مقيماً سيكتب لك حال مرضك كاملاً عند من لا يظلم مثقال ذرة ، قال سبحانه : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً } ( النساء 40 ) ، وقال عليه الصلاة والسلام : [ ما من أحد يمرض ، إلا له مثل ما كان يعمل وهو صحيح ] ( إرواء الغليل وهو صحيح ) .
فيحمد المريض ربه على كل حال ، وعلى ما به من ألم وتعب ليجزيه ربه الجزاء الأوفى .
[ فصل ]
لقد ابتلي بعض الناس بالكثير من الأمراض ، وما ذاك إلا امتحان من الله جلت قدرته لهم ليرى وهو أعلم بهم مدى صبرهم على الأذى واحتساب الأجر فيه ، أو بسبب طغيانهم ليعودوا إليه سبحانه ، أو ليكفر عنهم من سيئاتهم حتى يلقوا ربهم بلا خطايا ، أو غير ذلك من الأسباب التي لايعلمها إلا عالم الغيب والشهادة .
فمن ابتلي بذلك فعليه بالصبر واحتساب ذلك عند الله تعالى ، وليعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطئه لم يكن ليصيبه وكل ذلك بقدرته تعالى وتقدس ، قال تعالى : [ ياأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ] ( البقرة 153) .
وعموماً إن حصل للإنسان بعض الأمراض فعليه أن يصبر ، ويحتسب ذلك ويرجوا ثوابه عند الله تعالى ، ولا يجزع ولا يتسخّط ولا يتذمر، بل يتخذ الأسباب ويلجأ إلى ربه وخالقه وبارئه أن يزيل عنه ما أصابه ، وليلجأ إلى الله تعالى بالرقية الشرعية وليعتصم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ويرقي نفسه وجسده من شر ما أصابه ، قال تعالى : [ وإذا مرضت فهو يشفين ] ( الشعراء 80) ، وقال تعالى : [ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ] ( الإسراء 82) ، وقال تعالى : [ ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ] ( يونس 57) ، وقال تعالى : [ قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاء ] ( فصلت 44) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء ) ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( تداووا فإن الذي خلق الداء خلق الدواء ) { رواهما البخاري } .
ثم يضع الإنسان يده على مكان الألم ويقول : { بسم الله } ( ثلاث مرات ) ، ثم يقول : { أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر } ( سبع مرات ) وهذه الوصفة مجربة وقد أدت إلى نتائج إيجابية ولله الحمد ، ثم ليقل : ( ياحي ياقيوم برحمتك أستغيث فاشفني من هذا المرض ، اللهم اشفني مما أجد وأحذر ) .
[ فصل ]
وليحذر المسلم من أهل الدجل من الكهنة والمشعوذين ، والسحرة والساحرين ، وغيرهم من الماكرين والمبتزين ، واللاعبين بعقول ضعاف المسلمين ، فعليهم من الله ما يستحقون ، فمن اعتمد عليهم خذلوه وما زادوه إلا وهناً ومرضاً ، واعلم والله أنه ما رجا مخلوق أحداً غير الله إلا خذله وما نفعه ، وذلك لأنه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فكيف ينفع غيره أو يضره ، فالله المستعان وعليه التكلان ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن أو تكهن له ، أو سحر أو سحر له ) { حسنه الألباني في غاية المرام } ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( من أتى عرافاً فسأله عن شئ فصدقه بما قال لم تقبل منه صلاة أربعين يوماً ) { مسلم } ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( من أتى كاهناً فصدقه بما قال ، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) { صحيح رواه البزار وأبو داود } ، وفي فتح المجيد شرح كتاب التوحيد : [ قال البغوي : العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك ، والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل وقيل الذي يخبر عما في الضمير ] انتهى . فمن ادعى علم الغيب فهو كافر بالله تعالى مكذب بالقرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : [ قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون ] ( النمل 65) ، وقال تعالى : [ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسول ] ( الجن 26/27) ، ومن المعلوم أن الرسالة قد انقطعت بموت النبي صلى الله عليه وسلم وهو خاتم النبيين ، فمن أين لأولئك بمعرفة الغيب ، وقد قال تعالى : [ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيئاً عليماً ] ( الأحزاب 40) .
فليتق الله أناس عرفوا الحق من الباطل ، وميزوا الخير من الشر واشرأبت نفوسهم أمر الله عزوجل وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام ثم يذهبون يتخبطون في ظلمات أولئك السحرة والدجالين غير آبهين بما أعد الله لهم من عذاب وعقوبات من جراء تلك الرحلات إلى أجواء الكذابين والكذابات .
[ فصل ]
ومن أجل أن يحصل العلاج والشفاء بإذن الله تعالى لابد من توافر هذه الشروط المهمة عند المريض :
1- تغير الحال ، ويكون باتباع ما يأتي من النقاط .(2/112)
2- تقوى الله تعالى ، والخوف منه سبحانه ، يقول تعالى : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } ( الزمر67 ) . فخالق يضع السموات والأرض بيمينه لا يعصى أبداً ، لأنه قادر على كل شيء ، فهب أنك احتجت إلى ربك في وقت الشدة وقد نسيته في وقت الرخاء ، أتعتقد أن ربك سيتركك عندما تتوب إليه ؟ لا ! وألف لا ، يقول الخالق سبحانه : { وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور } ( لقمان32 ) ، وتقوى الله عزوجل : هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية . وكيف تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية ؟ تفعل ذلك باتباع أوامر الله وأوامر نبيه صلى الله عليه وسلم ، وتجتنب نواهيهما ، وتخاف من ربك سبحانه ، وتعمل بما في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وتكون دائماً على أهبة الاستعداد ليوم الرحيل ، فأنت لا محالة مرتحل من هذه الدنيا ، ومقبل على ربك سبحانه ليجازيك بأعمالك إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر.
3- الإكثار من الدعاء في أوقات مضنة الإجابة مثل :
( ثلث الليل الأخير ، وفي السجود ، والساعة الأخيرة من يوم الجمعة ، وعند نزول المطر ، وبعد الصلوات المسنونة ، ودبر الصلوات المكتوبة ، وقبل إفطار الصائم ، وغير ذلك من الأوقات ) .
4- كثرة الاستغفار .
5- الإكثار من قول لاحول ولا قوة إلا بالله .
6- التوبة النصوح ، والعودة إلى الله تبارك وتعالى ، فلا غزو أن الإنسان معرض لنزغات الشيطان وتوهيمه ، فقد يقع في خطيئة من الخطايا فكل بن آدم خطاء ، ولكن احذر أن تتمادى في أخطاءك وتقصيرك في جنب الله فتبوء بالإثم والخسارة ، وعليك بالتوبة النصوح التي تجب ما قبلها وتمحو ما سلف من الذنوب والمعاصي ، فما دمت في دار فسحة فاستغل الوقت قبل أن ينقضي أجلك ثم لا ينفع الندم { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن وراءهم برزخ إلى يوم يبعثون } ( المؤمنون99/100) ، فتب إلى الله أيها العبد واحذر من عواقب التسويف وتأخير التوبة فإنها من الشيطان عدو الإنسان ، وباب التوبة مفتوح مالم تغرغر الروح أو تطلع الشمس من مغربها ، ومن ذا الذي يعرف متى تغرغر روحه ؟ لا يعلم ذلك أحد من العالمين { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون } ( النمل 65 ) ، فبادر بالتوبة وأنت على فراش المرض ، وحتى لو لم تكن كذلك ، بادر بها قبل أن يحل بك هادم اللذات ومفرق الجماعات ، نسأل الله أن يهون علينا سكرات الموت وغصصه وكرباته إنه سميع مجيب .
7- الإكثار من نوافل الأعمال الصالحة كالصلاة والزكاة والصيام والعمرة والحج وغير ذلك من الأعمال التي تقرب العبد إلى ربه سبحانه وتعالى ، لأنها كفارة لما بينها من الذنوب والمعاصي بإذن الله تعالى .
8- بر الوالدين وصلة الأرحام والأقارب وزيارة الجيران والأصحاب وتوقير الكبير واحترام الصغير .
9- المحافظة على الصلوات الخمس جماعة في بيوت الله عزوجل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر أي أهمه فزع إلى الصلاة لأنها الصلة بين العبد وربه سبحانه ، وكان يقول عليه الصلاة والسلام أرحنا بها يابلال ، لأن فيها راحة وطمأنينة وسكينة ، فياحرمان من حرُم الصلاة ولذتها .
10- المحافظة على أذكار الصباح والمساء ، فهي الدرع المتين والحصن الحصين من شياطين الإنس والجن ، وهي بإذن الله تعالى وقاية من العين والحسد والسحر ، وغير ذلك من الأمراض .
11- الحرص كل الحرص على حضور حلقات الذكر ومجالس الصالحين ، وحضور المحاضرات والدروس والندوات لما فيها من الخير والأجر العظيم .
12- حفظ القرآن الكريم ما استطاع المسلم إلى ذلك سبيلاً ، ثم لابد أن يكون للمسلم ورد يومي يقرأه من كتاب الله تعالى على أن يختم القرآن الكريم تلاوة على الأقل مرة كل شهر ولا خير في يوم لا يقرأ فيه المسلم شيئاً من كتاب الله تعالى ، واحذر أن تهجر كتاب الله تعالى فيقف ضداً وخصماً لك عند ربك ، بل تعاهد كتاب الله ليل نهار فهو النور المبين والصراط المستقيم من تمسك به لن يضل أبداً بل إنه ينير لك دربك وطريقك حتى تجد مسلكاً سهلاً يقربك من ربك سبحانه .
13- زيارة أهل الخير والصلاح وطلب الدعاء منهم ولهم ، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم ، قال تعالى : [ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ] ( الزخرف 67 ) .
14- الحذر كل الحذر من أصدقاء السوء وأصحاب الشر ودعاة الفساد وأهل الفسق والرذيلة ، فهم القوم يتعس بهم جليسهم ، ويضيق القلب بمجالستهم ومصاحبتهم ، ففر منهم فرارك من الأسد ، قال تعالى : [ ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً * ] ( الفرقان 27/28/29 ) .
15- أخذ الحيطة والحذر من المجلات الهابطة ، والقنوات الفضائية الساقطة التي تبث بين طياتها السموم القاتلة ، وما تسببه من ضيق في الصدور ، وبعد عن الرحيم الغفور . وانتبه إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : [ ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ] ( متفق عليه ) . فاحذر أن تدخل على أهلك ما يضرهم ويبعدهم عن دينهم ، ويقربهم من الفواحش الظاهرة والباطنة ، فيحيق بك مكر الله تعالى وتسوء خاتمتك ، نعوذ بالله من الخلان .
16- الاستماع إلى إذاعة القرآن الكريم لما فيها من برامج دعوية ودينية مفيدة وهادفة .
17- الحذر من الانغماس في ملذات الحياة الدنيا .(2/113)
18- الإكثار من القراء ة الهادفة في الكتب الدينية المفيدة التي تبصر المسلم بمعالم دينه ، وكذلك الكتب التي تعتني بذكر سير السلف الصالح .
19- المرض والشفاء من عند الله جل وعلا ، فالله هو النافع الضار ولادخل لأحد كائناً من كان في ذلك وإنما العلاج والمعالج أسباب إن أراد الله النفع بها كان ذلك وحصل وإلا فلا ، فالله حكيم عليم ولا يظلم مثقال ذرة وهو على كل شئ قدير .
20- الإيمان بقضاء الله وقدره ، والتصديق الجازم بذلك .
21- طاعة الزوج بالمعروف في غير معصية الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بطاعة الزوج وحذر من عصيانه ، وبين أن الزوج هو جنة المرأة أو نارها ، وأنه ـ أي الزوج ـ إن بات غضبان على امرأته لعنتها الملائكة حتى تصبح ، وقال عليه الصلاة والسلام : " لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها " ، والأحاديث في حق الزوج معلومة مشهورة فهو سبب سعادة المرأة وتعاستها .
22- الابتعاد كل البعد عن شرب الدخان والشيشة والمسكرات ، والخمور والمخدرات ، وكل ما من شأنه أن يذهب العقل ويجلب العاهات ، لما في ذلك من بعد عن الله تعالى عالم الخفيات . فلا يخفى على كل إنسان تحريم تلك الأمور لما لها من فساد وعواقب سيئة على الفرد والمجتمع .
23- الابتعاد عن سماع الغناء لأنه كلام الشيطان ، ولأنه ينبت النفاق في القلب ، ويعمل على تقسيته وبعده عن الله جل جلاله ، ولا يجتمع الغناء والقرآن في قلب عبد أبداً ، فلا يجتمع كلام الله وكلام الشيطان ، فكلام الله عزوجل شفاء من كل داء ، وكلام الشيطان هو المرض والداء ، وفيه الوحشة والوباء .
24- الابتعاد عن كبائر الذنوب وصغائرها لما في ذلك من ابتعاد عن منهج الله تعالى ، وقرب من الشيطان وأعوانه ، وكم نرى من شواهد على ذلك . ومن هذه الذنوب : الغيبة والنميمة والحسد والحقد والغل والسب والشتم والطعن في الناس والزنا واللواط وأكل الربا وأكل مال اليتيم وعدم تزويج البنات إذا رغبن في الزوج الكفء والسرقة والتعامل بالسحر والشعوذة وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم وغير ذلك مما حرمه الله ورسوله .
25- المحافظة على الوضوء لأنه سلاح المؤمن .
26- الإكثار من الصدقات حسب طاقة الإنسان ، وحب المساكين وضعفاء الناس .
27- زيارة المرضى في المستشفيات حتى يأخذ الإنسان العظة والعبرة منهم ، وكي يهون عليه ما به من المرض إذا رأى حال من هو أشد منه ألماً ومرضاً .
28- الحذر من ظلم الزوجة و الأولاد ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، وحتى لا يصاب بدعوة أحد منهم فيقع به بلاء لا يرفعه الله عنه حتى يعود عن ظلمه .
29- الإكثار من الآذان ، لأن الشيطان يفر ويهرب من الآذان ، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم .
30- عدم ظلم من هو تحت يده من عمال وخدم وأجراء ، لأن ذلك يؤدي إلى نتيجة حتمية من ضيق الصدر وعدم الارتياح مما قد يسبب أمراضاً نفسية وعضوية قد يصعب علاجها فيما بعد ، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في التعامل مع مثل أولئك الفئة من الناس من الخدم والأجراء .
31- اتخاذ الأسباب من أجل الحصول على الشفاء بإذن الله تعالى ومن ذلك مراجعة المستشفيات ، ومن عُرفوا بعلاج الأمراض فإن ذلك لاينافي التوكل على الله عزوجل ، بل ذلك من اتخاذ الأسباب .
[ فصل ]
على الإنسان أن يسعى جاهداً من أجل الحصول على علاج ما به من آلام وأمراض ، فلقد أخرج بن ماجة من طريق أبي خزامة عن أبيه قال : قلت يارسول الله أرأيت رقىً نسترقيها ودواءً نتداوى به ، هل يرد ذلك من قدر الله شيئاً ؟ قال : " هي من قدر الله تعالى "
وأخيراً أقدم لك أخي الكريم أختي الكريمة هذه الأذكار الخاصة التي لاغنى للمسلم عنها في ليله ونهاره بإذن الله عزوجل ، وهي من أهم الأمور التي يستعين بها الإنسان على مواجهة الأمراض العضوية وغير العضوية ، عسى الله أن ينفع بها الجميع.
أهمية المحافظة على الأذكار :
قد جعل الله لكل شئ سبباً ، وجعل سبب المحبة دوام الذكر ، فمن أراد أن ينال محبة الله عز وجل ، فليلهج بذكره سبحانه ، فالذكر باب المحبة ، وشارعها الأعظم ، وصراطها الأقوم ، قال تعالى : (( فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون)) [ البقرة 152] .
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في الوابل الصيب من الكلم الطيب : [ أن للذكر أكثر من مائة فائدة ] . وذكر منها :
أ – أن الذكر يطرد الشيطان ويمنعه ويكسره .
ب- أنه يرضي الرحمن .
ج – أنه يزيل الهم والغم عن القلب .
د- أنه يجلب للقلب الفرح والسرور والراحة والبسط .
قال تعالى في سورة الأحزاب : (( والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً (35) )) .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت )) [ البخاري ] ، وروى مسلم : (( مثل البيت الذي يُذكر الله فيه ، والبيت الذي لايُذكر الله فيه ، مثل الحي والميت )) .(2/114)
قال أبو الدرداء رضي الله عنه : لكل شيء جلاء وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل . فذكر الله عز وجل على كل حال من أسباب انشراح الصدور فالأذكار هي الحرز المتين والحصن الحصين بإذن رب العالمين من كل سبب يؤدي إلى ضيق الصدور ، أو أي مرض من الأمراض التي تصيب الإنسان فتكون النتيجة هي انشراح القلوب والصدور ، وشفاء العليل والسقيم . ومن هذه الأذكار أذكار الصباح والمساء التي ينبغي على كل مسلم ومسلمة المحافظة عليها لتكون له درعاً متيناً وحصناً حصيناً ضد عدو البشرية إبليس وحزبه وتكون حاجزاً وباباً منيعاً من شياطين الإنس والجن ، فمن داوم عليها ولزمها كانت له وقاية من الهم والغم ومن الحزن والكرب ، ومن النصب والسقم بإذن الله تعالى ، فمن وفقه الله بادر عند إحساسه بأسباب الشر إلى هذه الأسباب التي تدفعها عنه ، وهي له من أنفع الدواء ، وإذا أراد الله عزوجل إنفاذ أمره وقضائه وقدره أغفل قلب العبد عن معرفتها وتصورها وإرادتها فلا يشعر بها ولا يريدها ليقضي الله فيه أمراً كان مفعولاً .
وسأذكر بعضاً من هذه الأمراض وعلاجها ، والأذكار التي تهم المسلم في يومه وليلته ، وما ذاك إلا للفائدة والذكرى .
[ فصل ]
أولاً : الأمراض غير العضوية :
وهي التي لا تتعلق بالبدن وينقسم علاجها إلى قسمين :
أولاً : أسباب شرعية :
وهي الرقى الشرعية من القرآن الكريم أو من السنة المطهرة ، وهي نافعة بإذن الله تعالى ومنها :
أ – ما يزيل الكرب والهم والحزن :
عن ابن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ما أصاب عبداً همٌ ولاحزنٌ فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أوعلمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني وذهاب همي ، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحاً )) { احمد والحاكم وهو صحيح } .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والكسل ، وأعوذ بك من غلبة الدين ( ضلع الدين ) وقهر الرجال)).
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قل : ((لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة )) { متفق عليه } ، وفي رواية النسائي : (( من قال لا حول ولا قوة إلا بالله كانت له دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الهم )) . ومما يزيل الهم قراءة سورة الشرح .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب : (( لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم )) { متفق عليه } .
وقال صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس : (( ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب ـ أوفي الكرب ؟ الله ، الله ربي لا أشرك به شيئاً )) { أبو داود وابن حبان بإسناد حسن } . ومن قال حين يصبح وحين يمسي سبع مرات : (( حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم )) كفاه الله ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة { أبو داود وصحح إسناده شعيب وعبدالقادر الأرنؤوط } .
قال صلى الله عليه وسلم : (( من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب ))
{ أبو داود وحسنه الشيخ ابن باز رحمه الله } .
ب – ما يطرد الشيطان :
قراءة سورة البقرة قال صلى الله عليه وسلم : (( …… إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة )) { مسلم } . وقراءة آية الكرسي عند النوم ودبر الصلوات المكتوبة ، والآيتين الأخيرتين من آخر سورة البقرة ، فهي حرز من الشيطان ، ومن قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، من قالها مائة مرة كانت له حرز من الشيطان يومه كله ، ومما يطرد الشيطان كثرة الاستعاذة بالله منه ، وكذلك الأذان ، ومما يطرد الشيطان قراءة سورتي المعوذتين ( الفلق والناس ) ثلاث مرات في الصباح والمساء ، ومما يطرد الشيطان المحافظة على الوضوء .
ومن قال ثلاث مرات حين يصبح وحين يمسي : [ بسم الله الذي لايضر مع اسمه شئ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ] لم يضره شئ . [ الترمذي ] .
ومن أصابه فزع في نومه أو ابتلي بالوحشة فليقل : (( أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده ، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون )) { صحيح الترمذي } .
وبالجملة ينبغي على كل مسلم ومسلمة المحافظة على أذكار الصباح والمساء والأذكار الأخرى المتنوعة حتى يكون اللسان دائماً في ذكر لله تعالى ، وهذا مما يشرح الصدور ويزيد الفرح والسرور ، فيذهب الهم والغم والكرب والحزن بإذن الحليم العظيم .
ج- أذكار متنوعة :
وهذه الأذكار المتنوعة لا غنى للإنسان عنها في يومه وليلته ، بل لا ينبغي للعبد أن يخل بها لشدة حاجته إليها وعظم الانتفاع بها في الآجل والعاجل ، وسنختصر في ذكرها حتى لا ينسي بعضها بعضاَ ، ومن هذه الأذكار :
[1] أذكار الاستيقاظ من النوم :
(( الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور )) [ البخاري ] .
[2] أذكار تقال في الصباح والمساء :
(( إذا أصبح أحدكم فليقل : اللهم بك أصبحنا ، وبك أمسينا ، وبك نحيا ، وبك نموت ، وإليك النشور . وإذا أمسى فليقل : اللهم بك أمسينا ، وبك أصبحنا ، وبك نحيا ، وبك نموت وإليك المصير )) [ الترمذي وهو صحيح ](2/115)
(( سيد الاستغفار اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك علي ، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . من قالها حين يمسي فمات من ليلته دخل الجنة ، ومن قالها حين يصبح فمات من يومه دخل الجنة )) [ البخاري ]
(( من قال حين يمسي وإذا أصبح ، رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً كان حقاً على الله أن يرضيه )) [ النسائي وغيره وهو حسن ]
(( سبحان الله وبحمده )) من قالها مائة مرة حين يصبح وحين يمسي لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحداً قال مثل ما قال أو زاد عليه [ مسلم ] .
(( اللهم إني أصبحت ( أمسيت ) أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك من قالها أربع مرات حين يصبح وحين يمسي أعتقه الله من النار )) [ أبوداود وهوحسن ] .
(( سبحان الله وبحمده : عدد خلقه ، ورضا نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته )) تقال ثلاث مرات في الصباح [ مسلم ] .
(( اللهم إني أسألك علماً نافعاً ، ورزقاً طيباً ، وعملاً متقبلاً )) [ بن ماجه وهوحسن] .
(( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق )) من قالها ثلاث مرات حين يمسي لم تضره حمة تلك الليلة [ الترمذي وهو صحيح ] .
[3] من انقلب ليلاً من جنب إلى جنب :
(( لا إله إلا الله الواحد القهار ، رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار )) [ صحيح الجامع ] .
[4] من رأى رؤيا أو حلماً يكرهه :
1ـ ينفث عن يساره ثلاثاً.
2ـ يستعيذ بالله من الشيطان ومن شر ما رأى .
3ـ لا يحدث بها أحداً .
4ـ يتحول عن جنبه الذي كان عليه .
5ـ يقوم فيتوضأ ويصلي إذا رغب في ذلك . [ وكل ذلك ورد في صحيح مسلم ] .
[5] من خاف قوماً :
(( اللهم أكفنيهم بما شئت )) [ مسلم ] .
[6] أذكار تقال عند النوم :
عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، (( كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه ، وقرأ بالمعوذات ( الإخلاص ، والفلق ، والناس ) ومسح بهما جسده )) [ متفق عليه ] . وكان عليه الصلاة والسلام إذا أوى إلى فراشه قال : (( باسمك اللهم أحيا وأموت )) [ البخاري ] .
[7] الذكر عند المصيبة :
قال صلى الله عليه وسلم : (( ما من عبد تصيبه مصيبة ، فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتي ، واخلف لي خيراً منها ، إلا آجره الله تعالى في مصيبته ، وأخلف له خيراً منها )) [ مسلم ] .
[8] الذكر عند العجز عن قضاء الدين :
(( اللهم اكفني بحلالك عن حرامك ، وأغنني بفضلك عمن سواك ))
[ الترمذي وهو حديث حسن ] .
[9] ذكر دخول الخلاء ( الحمام ) والخروج منه :
عن أنس رضي الله عنه ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء ، قال : (( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث )) [ متفق عليه ] .
وقالت عائشة رضي الله عنها ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الغائط ، قال : (( غفرانك )) [ أحمد بسند صحيح ] .
[10] ذكر الخروج من المنزل والدخول إليه :
إذا خرج الإنسان من منزله قال : (( بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله )) [ الترمذي وهو صحيح ] . ويقول : (( اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو اُضل أو أزل أو اُزل ، أو أظلم أو اُظلم ، أو أجهل أو يُجهل علي )) [ صحيح بن ماجه ].
وعند الدخول إلى المنزل يقول : (( بسم الله ولجنا وبسم الله خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا ، ثم يسلم على أهله )) [ أبوداود وهو حسن ] .
[11] علاج الوسواس :
1- كثرة الاستعاذة بالله من الشيطان .
2- الإكثار من قول ( لا إله إلا الله ) .
3- قراء ة آية الكرسي .
4- قراء ة سور الإخلاص والمعوذتين .
5- قراء ة سور الفاتحة .
6- قراء ة الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة .
7- الإكثار من قول ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) .
8- التفكر في ملكوت السموات والأرض .
9- معاهدة ومراجعة وقراء ة كتاب الله تعالى بالتدبر والتفكر .
10- الإكثار من الآذان لأنه يطرد الشيطان .
11- التوكل على الله تعالى .
12- عدم الالتفات إلى وسوسة الشيطان وهذه نقطة مهمة ينبغي للمسلم أن يعيها ويتصورها ويعمل بها فهي من أهم الأمور لطرد الشيطان ووسوسته .
[12] علاج الأرق والفزع :
عن بريدة عن أبيه قال : شكا خالد بن الوليد المخزومي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يارسول الله ما أنام الليل من الأرق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أويت إلى فراشك فقل : { اللهم رب السموات السبع وما أظلت ورب الأرضين وما أقلت ورب الشياطين وما أضلت كن لي جاراً من شر خلقك كلهم جميعاً أن يفرط علي أحد منهم أو يبغي علي عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك ولا إله إلا أنت } ( الترمذي ) وعن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا فزع أحدكم في النوم فليقل : أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون فإنها لا تضره } ( الترمذي ) .
[ فصل ]
أذكار متفرقات :
وهناك أذكار أخرى متنفرقة ومتنوعة سأذكرها لمزيد التمام والفائدة ، وهي مما يهم المسلم والمسلمة معرفتها ، والسعي إليها كي يكون وقت المسلم حافلاً وعامراً بذكر الله تعالى ، وحري بالمسلم والمسلمة المحافظة عليها ، بل وحتى حفظها ليتعود عليها ، ويطبع أبناءه على ذكر الله تعالى على كل حال وفي كل وقت .
فالقلب الذي لا يعرف ذكر الله ولا يعوده صاحبه على ذلك فهو كالبيت الخرب .
ومن هذه الأذكار ما يلي :
[1]أذكار النوم :(2/116)
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مضجعه من الليل وضع يده تحت خده وقال : [ باسمك اللهم أموت وأحيا ، وإذا قام أو استيقظ قال : الحمدلله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ] ( البخاري ومسلم وغيرهما ) .
وعن البراء بن عازب ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ألا أعلمك كلمات تقولها إذا أويت إلى فراشك ، فإن مت من ليلتك ، مت على الفطرة ، وإن أصبحت ، أصبحت وقد أصبت خيراً ؟ تقول : [ اللهم إني أسلمت نفسي إليك ، ووجهت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، رغبة ورهبة إليك ، وألجأت ظهري إليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، ونبيك الذي أرسلت ، قال البراء : فقلت : " وبرسولك الذي أرسلت " قال : فطعن بيده في صدري ، ثم قال : " وبنبيك الذي أرسلت ] ( البخاري ومسلم والترمذي واللفظ له ) . وعن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يرقد وضع يده اليمنى تحت خده ثم يقول : [ اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك ] ثلاث مرات . ( رواه أبو داود ) .
[2]أذكار الطعام ولبس الثوب :
عن معاذ بن أنس رضي الله عنه ، عن أبيه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ من أكل طعاماً فقال : الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة ، غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن لبس ثوباً فقال الحمد لله الذي كساني هذا من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه ] ( الحاكم 1/687 وقال صحيح على شرط البخاري ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : [ من لبس ثوباً ، فقال : الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه ، من غير حول مني ولا قوة ، غفر له ما تقدم من ذنبه ] ( الدارمي والترمذي وحسنه وغيرهما ) .
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رُفعت المائدة قال : [ الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، غير مودع ، ولا مستغنى عنه ربنا ] ( صححه الحاكم 1/710 وقال في التلخيص أخرجه البخاري مرتين ، وأخرجه بن ماجة والترمذي واللفظ له ) .
[3]ذكر الخروج للمسجد :
ينبغي للمسلم إذا خرج من بيته متوجهاً إلى بيت من بيوت الله عز وجل أن يمتثل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث بن عباس رضي الله عنهما أنه قال : فأذن المؤذن : يعني الصبح ، فخرج إلى الصلاة وهو يقول : [ اللهم اجعل في قلبي نوراً ، وفي لساني نوراً ، واجعل في سمعي نوراً ، واجعل في بصري نوراً ، واجعل من خلفي نوراً ، ومن أمامي نوراً ، واجعل من فوقي نوراً ومن تحتي نوراً ، اللهم أعطني نوراً ] ( مسلم ) .
[4]أذكار دخول المسجد والخروج منه :
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ، وليقل : اللهم أعذني من الشيطان ]
( رواه بن السني في عمل اليوم والليلة 44 ) .
وروى النووي في الأذكار عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد يقول : [ أعوذ بالله العظيم ، ووجه الكريم ، وسلطانه القديم ، من الشيطان الرجيم ، قال : فإذا قال ذلك ، قال الشيطان : حُفظ مني سائر اليوم ]
( حديث حسن رواه أبو داود بإسناد جيد وصححه الألباني ) .
عن أبي حميد الساعدي أو أبي أسيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إذا دخل أحدكم إلى المسجد ، فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ، وليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج فليقل : اللهم إني أسألك من فضلك ] ( صحيح الوابل الصيب ) .
[5]دعاء الاستخارة :
عن جابر بن عبد الله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول : [ إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل " اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا المر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال في عاجل أمري وآجله ـ فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال عاجل أمري وآجله ـ فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به ، قال : ويسمي حاجته ] ( البيهقي وغيره 5/409 ) .
[6]أذكار استصعاب الأمر :
مَنْ مِنَ الناس لا يستصعب عليه أمر ، ويحزنه ويقلقه ، جميع الناس تستصعب عليهم بعض الأمور فيقفون في حيرة منها ، مندهشين من أجلها ، فيذهبون لهذا وذاك ، ويستشيرون القريب والصديق ، ولا نقول في المشورة شيئاً ، فقد جاء القرآن الكريم بذلك ، فقال تعالى : { وشاورهم في الأمر } ( آل عمران 159 ) ، لكن لماذا لا يلجأ الإنسان إلى ربه سبحانه يستخيره في ذلك الأمر ويدعوه لكشف ما به من ضر واستصعاب أمر ، فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ اللم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً ، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً ] ( رواه بن السني وصححه بن حبان ، وقال الحافظ حديث صحيح ) .
[7] أذكار الَّّدّين :(2/117)
قد يصاب الإنسان بجائحة تذهب بماله فيقع في ديون الناس ، وقد يكون الإنسان فقيراً فيضطر إلى أخذ مال من هذا وذاك فتتراكم عليه الديون ، فيبحث عن سبيل وحل لما به وقع من الديون فلا يجد عند الناس حلاً ، فنقول له : افعل كما أمرك نبيك صلى الله عليه وسلم ، من غير أن تقف مكتوف اليدين ، بل لا بد من العمل والجد في طلبه حتى تتوفق بإذن الله تعالى ، فعليك بهذا الحديث الذي يرويه لنا أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، أن مكاتباً جاءه ، فقال : إني عجزت عن كتابتي ، فأعني . فقال : ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لو كان عليك مثل جبل أحد ديناً إلا أداه الله عنك ؟ قال : [ اللهم أكفني بحلالك عن حرامك ، وأغنني بفضلك عمن سواك ] ( رواه الترمذي وقال حديث حسن ) .
[8] أذكار تعويذ الأولاد :
مع كثرة اختلاط الناس ، وكثرة الزيارات ، والولائم والأفراح ، والإسراف في الاجتماعات ، ثم لابتعاد البعض عن السنة القولية والفعلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، فتجد البعض من الناس يطلق عينه هنا وهناك ، مصيباً هذا وذاك غير مكترث بعواقب ذلك النظر الثاقب الذي قد يصيب به اخوة له في هذا الدين ، ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من العين فقال : [ علام يقتل أحدكم أخاه ] والمعنى أن العين قد تقتل العائن والمعيون على حد سواء ، فقد يُعرف العائن فيقع ضحية في أيدي أهل من أصيب بالعين ، ولهذا جاء التوجيه النبوي الكريم بتحصين الأطفال من العين والحافظ هو الله جلت قدرته وتقدست أسمائه ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين حراسة لهم من العين ، فقد روى البخاري رحمه الله عن بن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين : [ أعيذكما بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة ، ويقول : إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق ] ، فينبغي على الأب والأم قبل خروج الأبناء من المنزل لأي مكان كان أن يعوذا أبناءهما حفاظاً وحرزاً لهم من شياطين الإنس والجن ، ومن هوام الأرض ودوابها ذات السم القاتل .
[9]ذكر زيارة القبور :
أذكار زيارة القبور كثير متعددة بألفاظ مختلفة متقاربة لا تعارض بينها ، ولكثرتها سنقتصر على واحد منها ، فعن بريدة رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم : [ السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ، أسأل الله لنا ولكم العافية ] ( مسلم ) .
[10]أذكار هياج الريح :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ الريح من روح الله ، تأتي بالرحمة ، وتأتي بالعذاب ، فإذا رأيتموها فلا تسبوها ، وسلوا الله خيرها ، واستعيذوا بالله من شرها ] ( صحيح أبو داود ) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى الريح ، قال : [ اللهم إني أسألك من خيرها ، وخير ما فيها ، وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها ، وشر ما فيها ، وشر ما أرسلت به ] ( الترمذي والصحيحة ) .
[11]ذكر سماع الرعد :
عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال : [ سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ] ( مالك في الموطأ ) .
[12]ذكر نزول المطر :
عن أنس قال : أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسر ثوبه عنه حتى أصابه ، فقلنا : يا رسول الله ، لم صنعت هذا ؟ قال : لأنه حديث عهد بربه ] ( صحيح أبو داود ) . وكان عليه الصلاة والسلام إذا نزل المطر يقول : [ اللهم صيباً هنيئاً ] ( صحيح أبو داود ) .
[13] أذكار الصيام :
وروى بن السني في عمل اليوم والليلة عن بن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال : [ ذهب الظمأ ، وابتلت العروق ، وثبت الأجر إن شاء الله ] ( أبو داود وحسنه الألباني وهو في الإرواء برقم 920 ) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى سعد بن عبادة فجاء بخبز وزيت فأكل ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ أفطر عندكم الصائمون ، وأكل طعامكم الأبرار ، وصلت عليكم الملائكة ] ( أبو داود وصحح إسناده النووي ) .
[14]مايقول من أرادالسفر :
إذا أراد الإنسان السفر وهم به ، فعند خروجه يقول لأهله : كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي اله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ من أراد أن يسافر فليقل لمن يخلف : أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه ] ( حديث حسن انظر السلسلة الصحيحة ص 51 وصحيح الجامع 1/958 ) .
ويقول المودع للمسافر كما في حديث عبد الله الخطمي رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا شيع جيشاً فبلغ ثنية الوداع ، فقال : [ أستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم ]
( رواه بن السني وقال الألباني صحيح انظر صحيح الجامع برقم 2/4657 ) .
[15] دعاء السفر :
عن علي الأزدي رضي الله عنه ، أن بن عمر رضي الله عنهما علمهم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجاً للسفر ، كبر ( ثلاثاً ) ثم قال : [ سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون ، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ، ومن العمل ما ترضى ، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده ، اللهم أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل ، اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر ، وكآبة المنظر ، وسوء المنقلب في المال والأهل ] ، وإذا رجع قالهن ، وزاد فيهن : [ آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون ] ( مسلم ) .(2/118)
[16]ذكر تشميت العاطس :
عن علي قال : قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم : [ إذا عطس أحدكم فليقل : الحمد لله ، وليرد عليه من حوله : يرحمك الله ، وليرد عليهم : يهديكم الله ويصلح بالكم ] ( صحيح انظر الإرواء 780 ) .
[17]أذكار النكاح :
عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفأ الإنسان إذا تزوج قال : [ بارك الله لك ، وبارك عليك ، وجمع بينكم في الخير ] ( صحيح الترمذي 1091 ) .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إذا أفاد أحدكم امرأة أو خادماً أو دابة فليأخذ بناصيتها ، ولقل : بسم الله ، اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلت عليه ، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه ] ( رواه بن السني ص283 وإسناده حسن ) .
وعن بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ لو أن أحدكم إذا أتى أهله ، قال : بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإن قضي بينهما ولداً ، لم يضره الشيطان ] ( صحيح الترمذي 1092 ) .
[18]كفارة المجلس :
عن أبي برزة الأسلمي ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس : [ سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ] ( صحيح أبي داود ) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقو من مجلس إلا قال : [ سبحانك اللهم ربي وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ] فقلت له : يارسول الله ما أكثر ما تقول هؤلاء الكلمات إذا قمت قال : [ لا يقولهن من أحد حين يقوم من مجلسه إلا غفر له ما كان منه في ذلك المجلس ] (رواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد 1/674) .
[19]مايقول إذا رأى مايحب ومايكره:
عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحب قال : [ الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ] ، وإذا رأى ما يكره قال : [ الحمد لله على كل حال ] ( حسن انظر صحيح بن ماجة 3081) .
[20] دعاء دخول السوق :
قال صلى الله عليه وسلم : من دخل السوق فقال : [ لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو حي لا يموت ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير ، كتب له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة ، ورفع له ألف ألف درجة ] ( رواه الدارمي 2/379 وحسنه الألباني وغيره ) .
[21] دعاء رؤية الهلال :
عن طلحة بن عبيد الله ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال ، قال : [ اللهم أهله علينا باليمن والإيمان ، والسلام والإسلام ، ربي وربك الله ] ( الصحيحة 1816 ) .
[22] ما يقول إذا رأى مبتلى :
عن بن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ من فجئه صاحب بلا ء فقال : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به ، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً ، عوفي من ذلك البلاء ، كائناً من كان ] ( حسن رواه بن ماجة ) .
[ فصل ]
ثانياً : أسباب حسية :
وهي الأدوية المادية المعلومة عن طريق الشرع كما بين ذلك ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد ، ومن هذه الأدوية :
1- العسل :
والعسل : يُذكّر ويُؤَنّث ، ويستخرج من حشرة نافعة وهي النحلة ، حيث تتغذى على أكثر أنواع الأزهار والأشجار ذات الفوائد المعلومة عند أهل التخصص والخبرة ، فهي طيبة ولا تتغذى إلا على الطيب لذلك أخرج الله من بطونها شراباً وغذاءً يُتغذى به وفيه شفاء من كثير من العلل والأسقام ، قال تعالى : [ وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ] ( النحل 68/69 ) ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( عليكم بالشفاءين : العسل والقرآن ) { بن ماجة والحاكم } ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( الشفاء في ثلاث : شربة عسل ، وشرطة محجم ، وكية نار ، وأنا أنهى أمتي عن الكي ) { البخاري } . وفي حديث آخر : ( وما أحب أن أكتوي ) { رواه البخاري ومسلم } .
وفي الحديثين السابقين إشارة إلى أنه يؤخر العلاج بالكي حتى تدفع الضرورة إليه ، ولا يعجل التداوي به لما فيه من استعجال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أخف من ألم الكي .
ولعلاج الصرع بالعسل :
يشرب على الريق يومياً فنجان عسل وفي المساء كذلك ، وتقرأ سورة الجن على كوب ماء ساخن محلى بعسل ويشرب ، وبعد ذلك ينام المريض ويستمر على ذلك لمدة أسبوع ، ولسوف ينتهي منه الصرع بقوة الله تماماً .
2- الحبة السوداء :
ويكفينا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بهذه الحبة السوداء فإن فيها شفاء من كل داء إلا السام ) والسام هو الموت . { البخاري ومسلم } .
قال العلامة بن القيم رحمه الله : ( وهي كثيرة المنافع جداً ) انتهى .
وتسمى الحبة السوداء عند بعض الناس بالشونيز .
3- زيت الزيتون :
شجرة مباركة وثمرها مبارك ، قال تعالى : [ شجرة مباركة زيتونة ](2/119)
( النور35 ) ، وقد ورد ذكر شجرة الزيتون في عدة مواضع من القرآن الكريم ، قال تعالى : [ والتين والزيتون ] ( التين 1 ) ، وقال تعالى : [ وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين ] ( المؤمنون20 ) ، وذكر العلامة بن سعدي رحمه الله في تفسيره : [ أنها تنبت في أرض الشام ] ، وقال بن كثير رحمه في تفسيره : [ محلة التين والزيتون وهي بيت المقدس ] ، وقال القرطبي في تفسيره : [ وأقسم الله بالزيتون وهو أكثر أدم أهل الشام والمغرب ، يصطبغون به ، ويستعملونه في طبيخهم ، ويستصبحون به ، ويداوى به أدواء الجوف والقروح والجراحات ، وفيه منافع كثيرة ]، ولذلك أنفع الزيت زيت الأرض المباركة ببيت المقدس ، قال صلى الله عليه وسلم : ( كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة ) { الترمذي وابن ماجة وصححه الحاكم } ، وعند البيهقي وبن ماجه والحاكم وحسنه الألباني في صحيح الجامع ، قال صلى الله عليه وسلم : ( ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة ) .
4- ماء زمزم :
زمزم هو اسم للبئر التي في المسجد الحرام ، وماء زمزم خير ماء على الأرض ، لما روى الطبراني عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم ، فيه طعام من الطعم ، وشفاء من السقم ) [ صححه الألباني في صحيح الجامع ] ، فماء زمزم طعام الجائع ، وشراب الظامئ ، وشفاء السقيم ، وهذا مع إخلاص النية لله تعالى ، والصدق في ذلك ، لما حصل لأبي ذر عندما أقام شهراً بمكة لا قوت له إلا ماء زمزم [ في الصحيح ] ، وكانوا قديماً يسمون زمزم في الجاهلية ( شِباعة ) لأنها تروي وتشبع وتغني عن غيرها ، ودخل بن المبارك زمزم فقال : اللهم إن بن المؤمل حدثني عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ماء زمزم لما شرب له ) اللهم فإني أشربه لعطش يوم القيامة [ ابن ماجة وصححه الألباني وهو في الإرواء ] ، وسماه بن عباس شراب الأبرار ، وقال بن القيم رحمه الله : [ وقد جربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة ، واستشفيت به من عدة أمراض فبرأت بإذن الله ] .
هذا هو ماء زمزم وبعض ما ذكر فيه من فضائل وفوائد .
5- ماء السماء :
وأما ماء السماء فقد قال الله جل وعلا فيه : [ وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً ] ( الفرقان 48) ، وقال سبحانه : [ ونزلنا من السماء ماءً مباركاً ] ( ق 9) . وماء المطر يبعث في النفس البهجة والسرور وهو لذيذ الاسم على السمع وتنفرج الأسارير بذكره ويفرح الناس بوروده فماؤه أفضل المياه وألطفها وأنفعها وأعظمها بركة ولا سيما إذا كان من سحاب راعد ، وذكر الشافعي رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنهما ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصابنا مطر ، فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه ، وقال : ( إنه حديث عهد بربه ) [ مسلم ] .
6- الحجامة :
الحجامة في اللغة : من الحجم الذي هو البداء لأن اللحم ينتبر أي يرتفع ، والحجّام المصّاص ، يقال للحاجم حجام لامتصاصه فم المحجم .
وهي من الاستفراغات النافعة بإذن الله تعالى في دفع السحر .
وأفضل أوقاتها ما ثبت في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من احتجم لسبع عشرة من الشهر وتسع عشرة وإحدى وعشرين كان له شفاء من كل داء } ( صحيح الجامع ) .
وقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم في رأسه لصداع كان به ( البخاري ) ، وأخرج البخاري ومسلم من حديث طاووس ، عن بن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم : " احتجم وأعطى الحجّام أجره " وفي الصحيحين أيضاً عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خير ما تداويتم به الحجامة "
7- الاغتسال والتنظف والتطيب :
كل هذه الأمور دعت إليها الشريعة الإسلامية الغراء ، فالاغتسال واجب من الجنابة والحيض والنفاس ، وعند دخول الإسلام ، ويوم الجمعة على مافيه من خلاف في وجوبه ، وكذلك يجب الاغتسال عند تغير رائحة الجسم ، ويسن الاغتسال كل وقت وحين ولاسيما وقت الصيف لما يخرج من الجسم من العرق والذي قد يؤذي من بجواره .
والنظافة من الإيمان وهي مما حث عليه ودعا إليه الدين الحنيف ، وهي من سمات أهل هذا الدين العظيم ، فحث الإسلام على نظافة البدن والثوب والبقعة حال القيام للصلاة وأن ذلك من شروط إقامتها
والطيب من الأمور التي دعت إليها الشريعة ، حيث قال صلى الله عليه وسلم : ( حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( من عرض عليه طيب فلا يرده فإنه خفيف المحمل طيب الرائحة ) [ أبوداود والنسائي ] .
8- التمر :
ويستخرج من شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تعطي الناس من أكلها كل وقت وكل حين بإذن ربها ، قال تعالى : { والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج } ( ق10/11 ) ، وقال تعالى : { وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً * فكلي واشربي وقري عيناً } ( مريم ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : [ ياعائشة بيت لا تمر فيه جياع أهله ] ( رواه مسلم ) . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحنك الأطفال بالتمر ، لما فيه من مادة سكرية يمتصها المولود بسرعة ، فتحافظ على مستوى السكر في دمه ، أو يرفعه إلى مستواه الطبيعي . فعن أبي موسى قال : ولد لي غلام فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم ، فسماه إبراهيم وحنكه بتمرة . ( متفق عليه ) .
[ فصل ]
ثانياً : الأمراض العضوية :(2/120)
كما أن الله جلت قدرته قد أنزل الداء ، فإنه سبحانه برحمته أنزل الدواء ولكن علمه من علمه وجهله من جهله ، فالقرآن والسنة فيهما الدواء والشفاء من كل داء بإذن الله رب الأرض والسماء ، وسنستعرض بعض الأمراض التي ظهر انتشارها وعلاج كل منها ، فإن وفقنا لذلك العلاج فالفضل والحمد والشكر لله وحده لا شريك له ، وإلا فإن الله قد قضى أمراً كان مفعولاً ، وما للعبد إلا الالتجاء إلى خالقه وبارئه لعله يمن عليه بالشفاء منه وحده ، وأسأل الله العلي العظيم رب العرش العظيم أن يمن بالشفاء على كل مسلم ومسلمة من هذه الأمراض إنه سميع قريب .
ومن هذه الأمراض :
[1] السرطان :
السرطان أجارنا الله منه ، وأعاذ المسلمين من شره ، مرض خبيث يصيب جسد الإنسان في موضع واحد أو عدة مواضع ، ومن أهم ما يعالج به مرضى السرطان ( التمر ) لأنه يحتوي على عنصر المغنيسيوم المضاد للسرطان ، وخير شاهد على ذلك أن أغلب من يأكل التمر من أهل البادية أو غيرهم قلما يصاب أحدهم بهذا الداء الخطير ، ولا يمكن للجراثيم أن تعيش أو تنمو في التمر. والسرطان ينقسم إلى قسمين :
أ) سرطان الدم :
فإذا وجد السرطان وقانا الله منه في الدم ، فإنه في هذه الحالة يُقرأ في زيت زيتون ويدهن به العمود الفقري ثلاث مرات في اليوم والليلة على أن تكون إحدى هذه المرات قبل النوم مباشرة لمدة سبعة أيام متواصلة ، ثم يتم الكشف فإن شفي فالحمد لله وإلا فإننا نعاود الكرة مرة أخرى حتى يتم الشفاء بإذن الله تعالى .
ب) سرطان الأعضاء :
إذا كان السرطان حمانا الله منه خارج الدم أي في أحد أعضاء الجسد فإنه يُدهن نفس المكان الذي فيه المرض ، ويستخدم في ذلك أيضاً العسل ، بحيث يقرأ عليه الآيات التي ستأتي إن شاء الله فيعطى المريض سبع ملاعق على سبع فترات ، واحدة قبل النوم ، وأخرى بعد النوم ثم يبقى نصف ساعة دون طعام ، ثم يأخذ الثانية ويبقى نصف ساعة دون طعام ، ثم يأخذ الثالثة ويبقى نصف ساعة دون طعام ، والثلاث المتبقية على فترات مختلفة ، ومما يفيد في ذلك أيضاً ماء زمزم ، والآيات التي يتم قراء تها هي :
1- أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين *
2- بسم الله الرحمن الرحيم الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل
من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون *
3- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم * إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس
وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون *
4- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم لاتأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم *
5- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير * آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولاتحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفرلنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين *
6- بسم الله الرحمن الرحيم الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم * نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذوانتقام * إن الله لايخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء *
7- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب *
7- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم *
8- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير * تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب *
9- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولله ما في السموات وما في الأرض وكان الله بكل شئ محيطاً *
10- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً *
11- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شئ قدير *
12- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم * من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين * وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شئ قدير * وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم
الخبير *(2/121)
13- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ماكانوا يعملون *
14- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قل أرءَ يتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون *
15- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين * قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون *
16- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين * ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين * ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمت الله قريب من المحسنين *
17- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون * فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون * فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين * وألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين *
18- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم * فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون * فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون *
19- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون * وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون * وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في لأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون *
20- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنه تسعى * فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى * فألقي السحرة سجداً * قالوا آمنا برب هارون وموسى *
21- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شئ علماً *
22- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم * ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون * وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين *
23- بسم الله الرحمن الرحيم والصافات صفاً * فالزاجرات زجراً * فالتاليات ذكراً * إن إلهكم لواحد * رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق * إنا زينا السماء الدنيا
بزينة الكواكب * وحفظاً من كل شيطان ما رد * لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من جانب * دحوراً ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب * فاستفتهم أهم أشد خلقاً أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب * بل عجبت ويسخرون * وإذا ذكروا لا يذكرون * وإذا رأوا آية يستسخرون * وقالوا إن هذا إلا سحر مبين *
24- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم سنفرغ لكم أيها الثقلان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان * فبأي آلاء ربكما تكذبان *
25- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون * هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم *
26- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير *
27- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون * وما هو إلا ذكر للعالمين *
28- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا *
29- بسم الله الرحمن الرحيم قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين *
30- بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد *
31- بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد *
32- بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس *
وبعد قراء ة هذه الآيات يتم بعدها قراء ة الأذكار التي هي في نهاية الكتاب وهي بعنوان تحصينات نافعة حتى تتم الفائدة إن شاء الله تعالى .
[2] الحمى :
عن بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما الحمى أو شدة الحمى من فيح جهنم ، فأبردوها بالماء ) { البخاري ومسلم } .(2/122)
وعن أنس مرفوعاً : ( إذا حُم أحدكم ، فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليال من السَحَر ) { الحاكم وصححه } .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الحمى كير من كير جهنم ، فنحوها عنكم بالماء البارد ) { ابن ماجه بسند صحيح ورجاله ثقات } .
وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب أو أم المسيب ، فقال : مالك يا أم السائب أو يا أم المسيب تزفزفين ( ترعدين ) قالت : الحمى لا بارك الله فيها ، فقال : " لا تسبي الحمى ، فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد " ) .
يقول بن القيم رحمه الله تعالى : [ فالحمى تنفع البدن والقلب وما كان بهذه المثابة فسبه ظلم وعدوان ] ، وروى بن مسعود مرفوعاً : ( حُمى ليلة تكفر خطايا سنة مجرّمة ) ، وفي أثر آخر: ( حُمى يوم كفارة سنة ) .
وقال النووي : [ وينبغي أن يقرأ على نفسه الفاتحة ، وقل هو الله أحد ، والمعوذتين ، وينفث في يده وأن يدعو بدعاء الكرب ] انتهى . ودعاء الكرب مر بنا سابقاً ، فليراجع .
[3] ألم المفاصل :
تقرأ الآيات في زيت ويدهن بها الأقدام والمفاصل والآيات هي :
1) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين *
2) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم لاتأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم *
3) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير *
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولاتحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفرلنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين *
4) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركائكم ثم كيدون فلا تنظرون *
5) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبو أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجراً *
6) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى *
7) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وما تلك بيمينك ياموسى * قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى *
8) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون * لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون *
9) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين *
10) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم *
11) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم اركض رجلك هذا مغتسل بارد وشراب *
12) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فانطلقوا وهم يتخافتون *
13) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون *
14) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقيل من راق * وظن أنه الفراق * والتفت الساق بالساق *
15) بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد*
16) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد *
17) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس *
وبعد قراء ة هذه الآيات يتم بعدها قراء ة الأذكار التي هي في نهاية الكتاب وهي بعنوان تحصينات نافعة حتى تتم الفائدة إن شاء الله تعالى .
[ فصل ]
[4] العقم :
تقرأ الآيات في زيت زيتون ويدهن بها البطن والظهر ، والآيات هي :
1) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين *
2) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم * إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس
وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون *(2/123)
3) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم لاتأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم *
4) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير *
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفساً إلا وسعاها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولاتحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفرلنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين *
5) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء * فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين * قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء *
6) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً *
7) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يا أيها الرسول بلغ ما أنزل من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين *
8) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق الأمر تبارك الله رب العالمين * ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين * ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين *
9) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين *
10) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ويقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين *
11) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب * قالت ياويلتى ءألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشئ عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد *
12) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يابشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون *
13) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد * وكل شئ عنده بمقدار *
{ اللهم هيأ لهما حملاً خفيفاً وذرية صالحة إنك سميع الدعاء } .
14) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب *
15) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون *
16) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون *
17) بسم الله الرحمن الرحيم كهيعص * ذكر رحمت ربك عبده زكريا * إذ نادى ربه نداءً خفياً * قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك رب شقياً * وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك ولياً * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً * يا زكريا إن نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سمياً * قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً * قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً * قال رب اجعل لي آية قال آيتك(2/124)
ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً * فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً * يايحيى خذ الكتاب بقوة وآتينه الحكم صبياً * وحناناً من لدنا وزكاة وكان تقياً * وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً * وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً * واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً * فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً * قال إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً * قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً * قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً * قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً * فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً * فأجآءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً * فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً * وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً * فكلي واشربي وقري عيناً فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت لرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً * فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئاً فرياً * ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءِ وما كنت أمك بغياً * فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً * قال إني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبياً * وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حياً * وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً * ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي
فيه تمترون * ما كان لله أن يتخذ ولداً سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون * وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم *
18) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين *
19) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات
ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين * والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين *
20) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج *
21) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولقد خلنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثن أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين *
22) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون *
23) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجاً وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير *
24) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين *
25) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين * رب هب لي من الصالحين * فبشرناه بغلام حليم *
26) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب *
27) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون *
28) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناءً وصوركم فأحس صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين *
29) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شئ قدير *
30) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم * فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم * قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم *
31) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ كل امرئ بما كسب رهين *
32) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أفرءيتم ما تمنون * ءأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون *
33) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الذين يظاهرون منكم من نسائهم ماهن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً وإن لعفو غفور *
34) بسم الله الرحمن الرحيم يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير * هو الذي خلقكم فمنكم مؤمن ومنكم كافر والله بما تعملون بصير * خلق السموات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير *
35) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين *(2/125)
36) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً * ما لكم لا ترجون لله وقاراً * وقد خلقكم أطواراً *
37) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب *
38) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم *
39) بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم *
40) بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد*
41) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد *
42) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس *
ولقد جربت هذا العلاج على عدد من أهل العقم ، فكانت النتيجة بإذن الله تعالى ، أن وهبهم الله الذرية ، فلله الحمد من قبل ومن بعد .
ويقول الدميري ، صاحب كتاب حياة الحيوان الكبرى : ومخ ساق الجمل إذا تحملت به المرأة في قطنة أو صوفة بعد الطهر لمدة ثلاثة أيام وجومعت فإنها تحمل وإن كانت عاقراً ، كل ذلك بإذن الله تعالى .
وذكر أيضاً فقال : قال الأطباء : إذا أردت أن تعلم هل المرأة عقيم أم لا فمرها أن تتحمل بثومة في قطنة وتمكث سبع ساعات ، فإن فاح من فمها رائحة الثوم فعالجها بالأدوية فإنها تحمل بإذن الله تعالى ، وإلا فلا . والله تعالى أعلى وأعلم .
وبعد قراء ة هذه الآيات يتم بعدها قراء ة الأذكار التي هي في نهاية الكتاب وهي بعنوان تحصينات نافعة حتى تتم الفائدة إن شاء الله تعالى .
فائدة :
كل ما ذُكر من العلاج هو من الأسباب المجربة بإذن الله تعالى ، فإن أراد الله الشفاء للعبد شُفي ، وإلا فليصبر ، فإن منزلة الصبر لا تضاهيها منزلة ، قال تعالى : " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " .
ولا يقول البعض : كيف عرفت أن هذا العلاج هو دواء لذاك الداء ، فأقول : التجربة هي خير برهان ، وألا فالعلم عند الله تعالى ، فربما نجح العلاج مع أناس ، ولم ينجح مع آخرين ، وكل ذلك بأسباب ومسببات ، وإلا فالشافي والمعافي هو الله عز وجل .
فائدة :
وهذه الفائدة ذكرها الجهبذ العلامة البحر الفهامة ابن قيم الجوزية في كتابه زاد المعاد وانقلها ملخصة : [ وأما الجماع والباء ة ، فكان هديه صلى الله عليه وسلم فيه أكمل هدي ، يحفظ به الصحة ، وتتم به اللذة وسرور النفس ، ويحصل به مقاصده التي وضع لأجلها ، فإن الجماع وضع في الأصل لثلاثة أمور هي مقاصده الأصلية :
الأول : حفظ النسل .
الثاني : إخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتقانه بجملة البدن .
الثالث : قضاء الوطر ، ونيل اللذة ، والتمتع بالنعمة ، وهذه وحدها هي الفائدة التي في الجنة ، إذ لاتناسل هناك ، ولا احتقان يستفرغه بالإنزال .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة ) { مسلم } ، ومن حديث أبي هريرة قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي النساء خير ؟ قال : ( التي تسره إذا نظر ، وتطيعه إذا أمر ، ولا تخالفه فيما يكره في نفسها وماله ) { النسائي بسند حسن } ، ومما ينبغي تقديمه على الجماع ملاعبة المرأة ، وتقبيلها ، وأحسن أشكال الجماع أن يعلو الرجل المرأة ، مستفرشاً لها بعد الملاعبة والقبلة لأن ذلك أنفع في إخراج جميع المني من الرجل إلى رحم المرأة فيحصل الولد بإذن الله تعالى ] .
وأورد النووي في الأذكار باب ما يقوله عند الجماع ، عن بن عباس رضي الله عنهما من طرق كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لو أن أحدكم إذا ما أتى أهله قال : بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فقضي بينهما ولد لم يضره ) وفي رواية البخاري : ( لم يضره شيطان أبداً ) { البخاري ومسلم } .
لأن الشيطان قد يسلط على الجنين وهو نطفة فيمنع تخلقها ، أو يحدث به تشوهات خلقية ، أو غير ذلك من الأمور التي قد يتسلط بها الشيطان على الجنين فيقتله أو يعيق خروجه بإذن الله تعالى .
[5] الإجهاض :
وهو ما يسمى إسقاط الحمل ، فتقرأ الآيات على زيت الزيتون ويدهن بها البطن والظهر ، والمثبت هو الله جل وعلا ، فأسأل الله جلت قدرته أن يجعل في تلك القراء الثبات والاستقرار إنه سميع مجيب ، والآيات هي :
1) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين *
2) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم لاتأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم *(2/126)
3) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير * آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفساً إلا وسعاها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولاتحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفرلنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين *
4) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون *
5) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال *
6) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب *
7) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء *
8) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم *
9) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على آمنوا وعلى ربهم يتوكلون *
10) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين *
11) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا *
12) بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد*
13) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد *
14) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس *
وبعد قراء ة هذه الآيات يتم بعدها قراء ة الأذكار التي هي في نهاية الكتاب وهي بعنوان تحصينات نافعة حتى تتم الفائدة إن شاء الله تعالى .
[6] الصداع :
ومن أنواع علاج الصداع الحجامة ، وللصداع أسباباً كثيرة ، فقد يكون من أسبابه :
1- ألم في المعدة .
2- شدة الجوع .
3- قلة النوم وكثرة السهر .
4- حمل أشياء ثقيلة على الرأس .
5- فوران الدم في الرأس .
6- ألم الأسنان واللثة .
7- شدة الحر أو شدة البرد .
8- أعراض نفسية .
9- بسبب الحمى .
10- كثرة التفكير .
11- ألم في الأذن .
12- ألم العين وضعف النظر .
وعموماً فأسباب الصداع كثيرة ، ولكل سبب مما سبق علاج خاص به ، ويمكن للمريض أيضاً أن يقرأ على نفسه أو على زيت الزيتون آيات من كتاب الله تعالى ويدهن بها موضع الألم والآيات هي :
1) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم *
الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين *
2) بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد*
3) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد *
4) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس *
ثم يضع يده على مكان الألم ويقول : { بسم الله } ( ثلاث مرات ) ، ثم يقول : { أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر } ( سبع مرات ) ، وهذه الوصفة مجربة وقد أدت إلى نتائج إيجابية ولله الحمد ، ثم ليقل : ( ياحي ياقيوم برحمتك أستغيث فاشفني مما أجد وأتألم ) .
وبعد قراء ة هذه الآيات يتم بعدها قراء ة الأذكار التي هي في نهاية الكتاب وهي بعنوان تحصينات نافعة حتى تتم الفائدة إن شاء الله تعالى .
[ فصل ]
[7] الجلطة :
وهي تنقسم إلى قسمين :
1- جلطة المخ :
فإن كانت الجلطة بالمخ نفع فيها بإذن الله تعالى القراء ة المباشرة على المريض مع النفث ، وكذلك الادهان بزيت الزيتون ، والماء الذي تقرأ عليه الأذكار من القرآن الكريم والسنة النبوية .
2- جلطة الأعضاء :
أما إن كانت الجلطة في عضو من أعضاء الجسد ، فيقرأ على المريض مباشرة ، أو يقرأ في زيت زيتون ويدهن موضع الجلطة ، ويستمر ذلك الدهن لمدة أسبوع كامل ، فإن تم الشفاء فالحمد لله وإلا عاودنا الكرة مرة أخرى ، والآيات التي تقرأ هي :
1) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم *
الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين *
2) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم * إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس
وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون *(2/127)
3) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم لاتأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم *
4) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير * آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولاتحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفرلنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين *
5) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم * من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز العظيم * وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شئ قدير * وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير *
6) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين * قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون *
7) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين * ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين * ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمت الله قريب من المحسنين *
8) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون * فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون * فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين * وألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين *
9) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركائكم ثم كيدون فلا تنظرون *
10) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم * فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون * فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون *
11) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون *
12) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنه تسعى * فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى * فألقي السحرة سجداً * قالوا آمنا برب هارون وموسى
13) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون *
14) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم * ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون * وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين *
15) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم *
16) بسم الله الرحمن الرحيم والصافات صفاً * فالزاجرات زجراً * فالتاليات ذكراً * إن إلهكم لواحد * رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق * إنا زينا السماء الدنيا بزينة
الكواكب * وحفظاً من كل شيطان ما رد * لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من جانب * دحوراً ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب * فاستفتهم أهم أشد خلقاً أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب * بل عجبت ويسخرون * وإذا ذكروا لا يذكرون * وإذا رأوا آية يستسخرون * وقالوا إن هذا إلا سحر مبين *
17) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب *
18) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم سنفرغ لكم أيها الثقلان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان * فبأي آلاء ربكما تكذبان *
19) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون * هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم *
20) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير *
21) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فانطلقوا وهم يتخافتون *
22) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون * وما هو إلا ذكر للعالمين *
23) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا *(2/128)
24) بسم الله الرحمن الرحيم قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين *
25) بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد *
26) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد *
27) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس *
وبعد قراء ة هذه الآيات يتم بعدها قراء ة الأذكار التي هي في نهاية الكتاب وهي بعنوان تحصينات نافعة حتى تتم الفائدة إن شاء الله تعالى .
وكما قلت سابقاً : هذه الآيات وغيرها ما هي إلا أسباب مجربة ، ونحن لا نعلم الغيب ، ولكن ربما جرى قدر الله عز وجل على إنسان ، فجرب علاجاً فنجح .
[8] الصرع :
وينقسم إلى قسمين :
أولاً : صرع خلقي .
ثانياً : صرع روحي .
وعموماً أياً كان الصرع فيقرأ على المريض مباشرة هذه الآيات :
1) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم *
الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين *
2) بسم الله الرحمن الرحيم الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل
من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون *
3) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم * إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما
أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون *
4) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم *
5) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير * آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفرلنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين *
6) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم * إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون *
7) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم *
8) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين * ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين * ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمت الله قريب من المحسنين *
9) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم * ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون * وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين *
10) بسم الله الرحمن الرحيم والصافات صفاً * فالزاجرات زجراً * فالتاليات ذكراً * إن إلهكم لواحد * رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق * إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب * وحفظاً من كل شيطان ما رد * لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من جانب * دحوراً ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب *
11) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون * هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم *
12) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا *
13) بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد *
14) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد *(2/129)
15) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس *
وإذا كان الصرع عضوياً فإنه يقرأ في زيت الزيتون ويدهن المكان الذي بسببه حدث الصرع ، ويستمر ذلك لمدة شهر كامل .
وبعد قراء ة هذه الآيات يتم بعدها قراء ة الأذكار التي هي في نهاية الكتاب وهي بعنوان تحصينات نافعة حتى تتم الفائدة إن شاء الله تعالى .
[9] العين :
العين حق ولا ينكرها إلا جاهل مغفل مارق من دين الله عزوجل ، وإلا فقد ثبت ذكرها وتأثيرها في كتاب الله تعالى ، حيث قال جل من قائل سبحانه : [ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون ] ( القلم 51 ) ، وقال عليه الصلاة والسلام : { العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين ، وإذا استغسلتم فاغسلوا } ( مسلم ) .
وللعين تأثير عجيب على النفس البشرية وعلى كل شيء تقع عليه ، فيجب الحذر منها ومن عُرف بها ، وهناك أسباب ينبغي اتخاذها حتى لا يصاب الإنسان بالعين ( أو ما يسمى بالرقية والتحصن بالله تعالى حتى لا يصاب الإنسان بالعين ) ومن هذه الأسباب :
1- قراءة الفاتحة ، وآية الكرسي ، وخواتيم سورة البقرة ، وقل هو الله أحد ، والمعوذتين ، والمحافظة على ذلك صباح مساء .
2- المحافظة على أذكار الصباح والمساء ، والتي ذكرناها في أول الكتاب فلتراجع لأهميتها .
3- ومما يجب على من عُرف بالعين إذا رأى من إنسان ما يعجبه أن يقول : { اللهم بارك عليه } ، ويقول : ماشاء الله تبارك الله لا قوة إلا بالله ، اللهم بارك له ولا تضره ، وغير ذلك من أدعية البركة .
4- أن يستر الإنسان ما يخشى عليه من العين .
أما إذا أصيب الإنسان بالعين فعلاج ذلك يكون بقراء آيات من كتاب الله عز وجل على المريض مباشرة أو على زيت الزيتون أو تكتب الآيات وتشرب ، والآيات هي :
1) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم *
الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين *
2) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم
لاتأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم *
3) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير * آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولاتحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفرلنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين *
4) بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد *
5) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد *
6) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس *
وكذلك تلك الرقى من سنة المصطفى عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم وخاصة تلك التحصينات التي هي في نهاية الكتاب ، والتي هي بعنوان تحصينات نافعة ، فتقرأ على الماء أو زيت الزيتون أو غير ذلك لما لها من فائدة عظيمة بإذن الله تعالى .
وأما إذا عُرف العائن ، فكما قال الزهري رحمه الله : ( يؤمر الرجل العائن بقدح ، فيدخل كفه فيه ، فيتمضمض ثم يمجه في القدح ، ويغسل وجهه في القدح ، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على ركبته اليمنى في القدح ، ثم يدخل يده اليمنى ، ويصب على ركبته اليسرى ، ثم يغسل داخلة إزاره ، ولا يوضع القدح في الأرض ، ثم يُصب على رأس الرجل الذي تصيبه العين من خلفه صبة واحدة ) ، والتجارب شواهد على منفعة هذه الطريقة لأنها طريقة نبوية كريمة أمر بها نبينا عليه الصلاة والسلام.
[ فصل ]
[10] ضيق الصدر :
لعلنا نتحدث قليلاً عن هذه النقطة ، وذلك لما نشاهده هذه الأيام من كثرة من يشتكي من ضيق الصدر مع توافر كل ما يحتاجه ، من أمور الدنيا ومع ذلك لا يجد للحياة طعماً .
فضيق الصدر مرض عمت به البلوى وذلك لأسباب نذكر منها :
أسباب ضيق الصدر :
1- الابتعاد عن منهج الله تعالى :
فإنه لا عصمة للإنسان إلا بالله ولا ملجأ له إلا إلى الله ، ولا قرار له إلا إلى الله عزوجل ، أما من ابتعد عن منهج الله تعالى واتبع الهوى والشهوات وكان إلهه هواه والشيطان ، فهذا سيضيق صدره ، وتعمى بصيرته ، ويطيش رأيه ، فيقع فريسة سهلة للأهواء والشهوات ، واتخاذ الهوى والشهوات منهجاً وطريقاً من دون الله هو الغواية الحقيقية وهو الضلال بعينه ، وهو الجهل والظلام ، فمن ابتعد عن الله ، تركه الله عز وجل هو وهواه ، وتجد أن في قلبه وحشة ، وبينه وبين خالقه حجاب ، فهو يعيش ضيق الصدر ، متعكر المزاج ، لأنه ابتعد عمن يشرح الصدور ويجلب الفرح والسرور ، الله الحليم الغفور .(2/130)
فالبدار البدار إلى العزيز الواحد القهار لتستقيم القلوب والنفوس وتنشرح الصدور ويحظى الإنسان بالفرح والسرور ، فمن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ، ولا يحب لقاء الله إلا من في صدره انشراح ، ولا يكره لقاء الله إلا من في قلبه ضيق وظلمة وأحزان وأتراح ، ولا يكره لقاء الله إلا من ابتعد عن منهج الله سبحانه وتعالى .
2- مجالسة أصدقاء السوء وأصحاب الزيغ والفساد :
فهؤلاء القوم هم القوم الذين يشقى بهم جليسهم ، هم القوم الذين يتعس أنيسهم ، فلا يزيدون جليسهم إلا هماً وغماً ، ونصباً وحزناً ، هم من بمجالستهم تضيق الصدور ، ويذهب الفرح والسرور ، ويحل الغضب والفجور ، فهم وإن بدا للناظر إليهم أنهم الأصحاب الأوفياء فهم في الحقيقة الأعداء والأشقياء ، فتسود بينهم العدواة والبغضاء والشحناء ، فاحذر أخا الإسلام أن تصاحب الأشرار فتقع فريسة وصيداً سهلاً في أيديهم ، فتصبح خبيث النفس والطباع وتكون من أهل الضيق والضياع ، فابتعد كل البعد عنهم إذا أردت الراحة والاطمئنان ، والأمن والإيمان .
فكم رأينا ونرى من ضيق للصدور في هذا الزمان بسبب أصدقاء السوء الذين انجرف معهم الكثير من الشباب بلا تأن ولا هوادة ولا بيان ولا تمحيص ، فكانت العاقبة وخيمة والخاتمة سيئة فهل من معتبر ؟
3 – الانهماك في ملذات الحياة :
لقد أصبح الهم الوحيد لبعض الناس جمع المال والعقار ، والاهتمام بالأسهم والصفقات فإن كانت هناك خسارة فلزم ذلك الضيق والغفلة ، والحسرة والندامة ، على ماذا ؟ على متاع الدنيا الزائل ، فمن كانت هذه حياته فلابد أن يضيق صدره ، ولابد أن يظهر عليه الهم والغم والحزن والكرب ، لأنه لم يعرف المعنى الحقيقي لوجود الإنسان على هذه البسيطة ، فحتماً ستضيق الصدور ، وتبلغ القلوب الحناجر ، وقال تعالى : (( وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون (64) )) [ العنكبوت ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( فاتقوا الدنيا واتقوا النساء )) { مسلم } ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر )) { مسلم } .
فينبغي على المسلم ألا يركن إلى الدنيا ولا يتخذها وطناً وسكناً ، وأن لا يحدث نفسه بطول البقاء والعيش فيها ، فهو في هذه الدنيا غريب أو عابر سبيل لا يلبث أن يرتحل عنها .
فلا تكن الدنيا أكبر الهم ، ولا مبلغ العلم ، فهي حقيرة ولا تساوي عند الله جناح بعوضة ، ولا كانت لها قيمة وشأن عند الله جل وعلا ما سقى منها كافراً شربة ماء وينبغي ألا يُهتم بها أصلاً ، لأن من كانت الدنيا همه تفرق عليه أمره ، وهاهو النبي صلى الله عليه وسلم خير هذه الأمة وأفضل الأنبياء والمرسلين يقول عنه عمر بن الخطاب ، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدقل ( التمر الرديء ) ما يملا به بطنه ، ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه : لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان حتى مات وما أكل خبزاً مرققاً حتى مات )) { البخاري } .
فما بال الناس اليوم شغلتهم الدنيا وملذاتها وشهواتها وتركوا الآخرة ونعيمها ، انغمسوا في هوى الحياة الدنيا ، وزهدوا في الحياة الآخرى ، فكانت النتيجة الضيق في الصدور والقلوب ، والضعف والقنوط ، فإلى الله المشتكي .
4 – وسائل الفساد :
لقد وضع الكثير من الناس ما يسمى ( بالدش ) ـ السبب المباشر لفساد الشباب في هذا الزمان ـ ( الدش ) هو الجندي المجهول الذي يعمل في المنازل قتلاً وصلباً وتدميراً ، قتلاً للوقت ، وصلباً للأجساد فهم جمود أمام الشاشات لا يتحركون ، وتدميراً للعقول والقلوب ، فذهب الحياء ولم يعد للغيرة مكان في قلوب أولئك الناس وضِعَ ( الدش ) لينشر الفساد ليل نهار ، وضعوه فوق أسطح المنازل ليصب عليهم جام غضب الجبار سبحانه ، فانتشر الفساد والفجور ، وعم البلاء معظم البلاد ، فضاقت صدور أكثر العباد ، ومن يضلل الله فماله من هاد ، فإلى الله المشتكى وإلى الله الملتجا .
لقد أدخل أولئك الناس إلى بيوتهم ما يرضي الشيطان ويغضب الرحمن ، أدخلوا إلى بيوتهم ما يُذهب الدين والحياء ، ويجلب الشر والبغاء .
فها نحن نرى ونسمع عن قصص ما سمعنا بها قبل دخول هذه ( الأجهزة الهدامة ) إلى منازل كثير من المسلمين ، قصص واقعية تحكي الواقع التعيس والحاضر المرير الذي نعيشه في هذا الزمان ، قصص ووقائع خطط لها أعداء الملة والدين ليقع فيها كثير من المسلمين ، فإذا وقع الفأس في الرأس بحث عن الحل كثير من الناس .
والحل هو إخراج هذه ( الدشوش ) من المنازل واستبدالها بذكر الله عز وجل ، وما يبعد الناس عن ضيق الصدور . فخير الله عز وجل إلى الناس نازل وشر كثير منهم إليه صاعد ، لا تقوى ولا خوف من الله الخالق فكانت النتيجة ضيق في القلوب والصدور ، وانخداع ببهارج الدنيا وغرور .
وهاهو ( الإنترنت ) الداء العضال ، والمرض الفتاك ، ينتشر ويفتك بالناس يمنة ويسره .
فلينتبه أصحاب العقول لئلا يقعوا فريسة وصيداً سهلاً لأمراض القلوب ، وضيق الصدور .
ومن وسائل الشر والفساد ، تلك المجلات الخليعة الهدامة التي تفسد العقل والدين وتمرض القلوب وتضيق الصدور .
ومنها سماع الغناء الذي هو صوت الشيطان وبريد الزنا والخنا ، فهذه الوسائل وغيرها تسبب انهياراً في القيم والأخلاق ، وتوجب ضعفاً في الدين .
5 – الذنوب والمعاصي :
وهي من أسباب ضيق الصدر وقسوة القلب ، وهي تضر بالقلب كضرر السموم في الأبدان ، فكل داء وشر سببه الذنوب والمعاصي فتخرج الإنسان من اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب والكرب ، والهموم والغموم .(2/131)
فهاهي الأرض ترتج في كل مكان من زلازل وبراكين ، ورياح وفيضانات ، وهاهو الكسوف والخسوف ، بالليل والنهار وما ذاك إلا بما كسبت أيدي الناس من الذنوب والعصيان ، قال تعالى : (( وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً (59) )) [ الإسراء ] . فالله عزوجل يرسل تلك الآيات تخويفاً لعباده ليعودوا إلى رشدهم ويرجعوا إلى دينهم ، ولكن حال الكثير اليوم سبات ونوم عميق في ملذات الذنوب والمعاصي .
فالمذنب والعاصي لا ينبغي أن ينظر إلى عظم الذنب والمعصية فقط ولكن ينظر إلى عظمة من عصى . فقد عصى من بيده ملكوت كل شئ .
والذنوب والمعاصي تعمل في القلب حتى يكون ضيقاً حرجاً ، وتطبق عليه حتى يصبح عليه ظلمة سوداء ، قال تعالى : (( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون (14) )) [ المطففين ] .
6- الفراغ :
وهو النعمة التي غفل عنها الكثير من الناس اليوم ، فحال الكثير منهم تضييع وتفريط للوقت ، بل قتل للوقت في غير طاعة ، فتمضي الساعات الطوال من حياة أولئك الناس في القيل والقال ، والبذيء من الفعل والكلام ، فضاقت الصدور وعميت الأبصار والبصيرة عن سر الوجود على هذه البسيطة .
قال صلى الله عليه وسلم : (( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس ، الصحة والفراغ )) [ البخاري ] .
وحال الكثير أنهم مشغولون بلا شغل ، أشغلوا أوقاتهم بما يعود عليهم بالندم والحسرة في الدنيا والآخرة ، غفلوا وتناسوا أنهم سيسألون عن هذا الوقت الذي أضاعوه في غير طاعة ، سيسأل الإنسان عن عمره فيما أبلاه ، وعن شبابه فيما أفناه ، أصبح حال الكثير نوم بالنهار وسهر بالليل ، عكوف على الماجن من الغناء ومشاهدة للمحرم من التمثيليات والمسلسلات ، ونظر إلى المخزي من المجلات ، فضاقت الصدور وكثرت الويلات والآهات ، على الضائع من الأوقات ، فالإنسان لايدري ما يعرض له في يومه وليلته من مصائب الدنيا ونوائب الدهر ، فلا يعقب الصحة إلا المرض والسقم ، ولا يعقب الفراغ إلا الشغل ، فينبغي للعاقل أن يشغل وقته بما يعود عليه بالنفع في دنياه وأخراه ، فالواجب على العاقل أن يدرك أن هذه الدنيا مزرعة فليتزود بالتقوى ويستغل نعمة الله في طاعة الله ، ويتقرب إلى خالقه ورازقه بفعل الخيرات والطاعات والقربات . فينبغي للمسلم أن يغتنم وقته في طاعة المولى جل وعلا قبل أن يأتيه ما يشغله فلا يستطيع إلى ذلك سبيلا ، فإذا حيل بين الإنسان والعمل لم يبق له إلا الحسرة والندامة ويتمنى الرجوع من أجل العمل الصالح فلا تنفعه الأمنية .
أما الحال في هذا الزمان فضياع للوقت وقتل للفراغ وما ذاك إلا بسبب التقدم الحضاري الزائف ، الذي انجرف معه أكثر الكثير من شباب المسلمين ، فتجدهم جماعات وفرادى حول ما يسمى بمقاهي أو نوادي ( الإنترنت ) يشغلون الوقت ويضيعونه في معصية الخالق سبحانه ، شغلوا الأوقات وعمروها بالذنوب والعصيان ، والتلذذ بمشاهدة الحرام ، ومهاتفة العاهرات والفاسقات والفاجرات ، فما عساها تكون النتيجة ؟
جهد للعقل والبدن ، مرض في العقول والقلوب ، وضيق في الصدور ، لبعدهم عن قاضي الأمور وشافي الصدور ، فلا إله إلا الله الرحيم الغفور
7- الوقوع في الحرام :
الحرام كل ما يبعد عن الله ويقرب إلى الشيطان ، فمن تعلقت نفسه بالحرام هانت عليه نفسه حيث سيعرضها لعذاب الله تبارك وتعالى ، وضاق عليه صدره لارتكابه النواهي والزواجر ، فمن أتبع نفسه هواها كان عرضة لغضب الله ومقته ، كان سلعة على الألسن لأن الله يبغض ذلك النوع من الناس ، فحري به أن يُمقت ويُبغض ولايأمنه أحد ، لايألفه إلا منه مثله في الجرأة على الحرام .
فمن وقع في الحرام فقد عرض نفسه لغضب الله عزوجل ، لقد تجرأ الكثير من الناس على الحرام فتجد الغيبة والنميمة والحسد والإفساد بين الناس وكل ما يتعلق باللسان مما حرمه الله ورسوله كل ذلك قد انتشر بين ضعفاء النفوس ، فضاقت عليهم أنفسهم وضاقت صدورهم ، وللحرام صور كثيرة فهاهو الربا والزنا واللواط والتعامل المحرم بين الناس ينتشر ويستشري في المجتمعات ، وما ذاك والله إلا لبعد أولئك الناس عن منهج الله تعالى وصراطه المستقيم فزلت أقدامهم في خضم مغريات الحياة فوقعوا أسراء للشيطان وأعوانه ، فضاقت صدور أولئك الناس فهم قابعون تحت وطأة أعداء الملة والدين من شياطين الإنس والجن ، ومن صور الحرام في هذا الزمان إدخال تلك الأطباق ( الدشوش ) إلى المنازل فحال من أدخلوها سماع ونظر للحرام ثم تطبيق له في القريب والبعيد ـ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ـ ، نسي أولئك الناس أن ورائهم (( ناراً تلظى (14) )) [الليل] . ما تذكروا قول الله جل وعلا : (( ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لايعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (6) )) [ التحريم ] . قوا أنفسكم ومن تعولون عذاب شديد العقاب ، واحذروا مقت الله وغضبه (( ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى (81) )) [ طه ] .
وأما من أدخل إلى بيته وعلى أهله مثل هذه المنكرات فليبشر بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة )) [ متفق عليه ] ، وهل بعد هذه البشارة من بشارة لمن اتبعوا الحرام ومالوا عن جادة الصواب ، فمن حرم الله عليه الجنة فمأواه النار وبئس المصير ـ نعوذ بالله من ذلك ـ فالنتيجة ضيق في الصدور وهموم وغموم .(2/132)
ومن الحرام الذي ساد وانتشر واستهان به كثير من الناس [ الدخان والشيشة ] ، وأصعب من ذلك وأشد تعامل المسلمين اليوم ( بالربا ) عياناً بياناً ، يحاربون الله بالليل والنهار ، فحتماً ومهما بلغت رؤوس أموال من يتعامل بالربا ، أقول : حتماً سيضيق صدره ، لبعده عن ربه ، وما شابه ذلك كثير مما لم يأبه به الكثير ولم يلقوا له بالاً ، وجاء التحريم من علماء الأمة الإسلامية قاطبة لهذه السموم التي قصد بها تدمير لشباب المسلمين ، وهانحن نرى كثيراً من البيوت تئن وتصرخ ألماً وحسرة على ماوصل إليه حال كثير من الأسر فهاهي [ المخدرات ] تخدر الأبدان ، وتعمي القلوب والأبصار ، وتضيق الصدور والأمصار ، حتى أصبح مستخدمها لايفرق بين الحلال والحرام ، (( إن هم إلا كالأنعام أو أضل سبيلا (44) )) [ الفرقان ] .
وعموماً فالحرام كثير وكثير وهو المانع الرئيسي لإجابة الدعاء ، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم : (( الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يارب يارب ومأكله حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنا يستجاب لذلك )) [ مسلم ] .
كانت تلك جملة من أسباب ضيق الصدر ، ولعلنا بعد ذلك نتطرق إلى الأسباب التي تؤدي إلى انشراح الصدر بإذن الله تعالى .
أسباب انشراح الصدر :
1- تقوى الله عز وجل :
فتقوى الله هي ملاك كل أمر ، فمن اتقى الله فقد صان نفسه عما يدنسها وحفظ لصدره انشراحه ، قال تعالى : (( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً (2) )) [ الطلاق ] ، وقال تعالى : (( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً (3) )) [ الطلاق ] .
وقال صلى اله عليه وسلم : (( اتقوا الله ، وصلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأدوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا أمراءكم ، تدخلوا جنة ربكم )) { الترمذي } .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني )) { الترمذي } ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن )) { الترمذي } .
فمن اتقى الله عز وجل فسيحاسب نفسه كل يوم بل كل ساعة ولحظة وذلك لخوفه من الجبار سبحانه يرجو مغفرة ربه ورحمته ، ويطلب انشرح صدره بإذن ربه ، والتقوى ليست كلمة تقال ، بل لابد أن يظهر على صاحبها آثارها من خوف من الله ومراقبة له سبحانه في كل أعمال الإنسان ، وإخلاص في القول والعمل ، فمن اتقى الله فقد استبرأ لدينه وعرضه ، قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون 102) )) [ آل عمران ] .
2- المحافظة على الصلوات المفروضه :
الصلاة هي الصلة بين العبد وربه ، فإذا حافظ المسلم على جميع صلواته جمعة وجماعات في بيوت الله تعالى قويت الصلة بينه وبين خالقه سبحانه ، وسادت الألفة مجتمعات المسلمين ، وانشرحت بذلك الصدور وأصبح ذلك المحافظ على صلاته في حفظ الله سبحانه وفي رعايته ، كيف لا ؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( من صلى الصبح فهو في ذمة الله ، فانظر يا بن آدم ، لا يطلبنك الله من ذمته بشئ )) [ مسلم ] . وقال صلى الله عليه وسلم : (( لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها )) [ مسلم ] .
فمن حافظ على أداء الصلوات المفروضه في أوقاتها حيث ينادى لها كانت له بإذن الله تعالى برهان ونور ، وانشراح في الصدور ، وحرز من كل مكروه ، وأصبح طيب النفس صافي المزاج مقبل على كثير من العبادات والطاعات بكل نشاط وهمة لأنه في ذمة الله تعالى ومن كان في ذمة الله فلن يضيعه الله بل سيحفظه ويرعاه لأنه حفظ أوامر الله واجتنب نواهيه فحفظه الله عزوجل .
والصلاة هي الحد الفاصل بين الكفر والشرك وبين الإسلام فمن تهاون بها فهو إلى أهل الكفر والإلحاد والشرك أقرب ، قال صلى الله عليه وسلم : (( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر )) ، [ الترمذي ] . وقال صلى الله عليه وسلم : (( بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة )) [ مسلم ] .
3- قراءة القرآن بالتدبر :
تدبر القرآن هو المقصود من إنزاله ، وليس مجرد التلاوة بلا فهم ولا تدبر ولا تعقل قال تعالى : (( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب (29) )) [ص] ، وقال تعالى : (( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (24) )) [ محمد ] ، وقال تعالى : (( إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون (3) )) [ الزخرف ] ، فقراءة القرآن بالتدبر تزيد القارئ معرفة بربه وتبصرة بالحلال والحرام ، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به بين الهدى والضلال والغي والرشاد ، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعه وانشراحاً في صدره وبهجة وسروراً فيصبح في شأن والناس في شأن آخر . فلا تزال معاني كتاب الله عز وجل تنهض بالعبد إلى ربه وتحذره وتخوفه من وعيد الله عز وجل ، وتزيله وتبعده عن طرق الشر ومصائد الشيطان ووساوسه ، فكلما أراد أن يقع في كمائن أعداءه نادته آيات الله : الحذر الحذر : فاعتصم بالله ، واستعن بالله ، وقل حسبي الله ونعم الوكيل .
ففي تأمل القرآن وتدبره وتفهمه أضعاف مضاعفة من الحكم والفوائد فهو أعظم الكنوز على الإطلاق .
قال صلى الله عليه وسلم : (( لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة )) [ مسلم ]
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : كان رجل يقرأ سورة الكهف ، وعنده فرس مربوط بشطنين ( حبلين ) ، فتغشته ( علته ) سحابة فجعلت تدنو منه ، وجعل فرسه ينفر منها ، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال : (( تلك السكينة تنزلت للقرآن )) { متفق عليه } .(2/133)
فصاحب القرآن منشرح الصدر ، حي القلب ، طاهر السريرة ، نقي الظاهر والباطن لأنه في قراءته تغشاه السكينة وتحفه الملائكة وتنزل عليه الرحمة ، أمامن كان كتابه الشاشات والمجلات الخليعة والمسلسلات الهابطة فصدره ضيق ، وقلبه ميت ، وسريرته مريضه ، فهو في تعاسة . فاختر لنفسك أخي الكريم أي الطريقين تريد طريق الضيق أم طريق الانشراح !!
4- مجالسة الصالحين وحضور حلق الذكر :
فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم ، فإن لم تخرج من مجالسهم بخير فلن تخرج بإذن الله بشر أبداً ، قال صلى الله عليه وسلم : (( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده )) { مسلم } .
ففي مجالسة الصالحين الخير الكثير وانشراح الصدور ، والفرح والسرور ، عن أبي واقد الحارثي بن عوف رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بينما هو جالس في المسجد والناس معه ، إذ أقبل ثلاثة نفر ، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذهب واحد ، فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الأخر فجلس خلفهم ، وأما الثالث فأدبر ذاهباً ، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : (( ألا أخبركم عن النفر الثلاثة ؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله إليه ، وأما الآخر فاستحيا ، فاستحيا الله منه ، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه )) { متفق عليه } .
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على حلقة من أصحابه فقال : (( ما أجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله ، ونحمده على ما هدانا للإسلام ، ومن به علينا . قال : [ آلله ما أجلسكم إلا ذاك ؟ قالوا : والله ما أجلسنا إلا ذاك . قال : أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم ملائكته )) [ مسلم ] .
فياله من عمل قليل وفضل عظيم ، فقط أن يحضر الإنسان حلق الذكر فيباهي به الله ملائكته ؟ لابد أن يكون في هذه الحلق انشرح للصدور بإذن الرحيم الغفور .
5- التطوع :
ينبغي أن يحافظ الإنسان على السنن الرواتب في الصلاة ففيها خير عظيم من رب العرش الكريم ، فعن أم حبيبة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير الفريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة )) { مسلم } . وهذه السنن هي سنة الفجر والظهر والمغرب والعشاء .
كذلك المحافظة على صلاة الضحى ، قال صلى الله عليه وسلم : (( صلاة الأوابين حين ترمض الفصال )) { مسلم } والأوابين : الرجاعين من الغفلة إلى الحضور ومن الذنب إلى التوبة .
ومن التطوع سنة الفجر أي السنة القبلية للفجر ، قال صلى الله عليه وسلم: (( ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها )) { مسلم } ، فإذا كان هذا الأجر والثواب العظيم لمن صلى سنة الفجر ، فما بالنا بمن صلى صلاة الفجر ؟
ومن التطوع صلاة الوتر ، قال صلى الله عليه وسلم : (( إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن )) { أبو داود والترمذي } .
كذلك من التطوع صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله )) { متفق عليه } .
ومن التطوع في الصيام ، صيام أيام البيض ، وصوم يوم عرفه ، ويوم عاشورا ، وصيام ستة أيام من شوال ، وصوم العشر الأول من ذي الحجة وصوم يومي الاثنين والخميس .
ومن التطوع التتابع بين الحج والعمرة ، فالحج يكفر جميع الذنوب ويعود الحاج كيوم ولدته أمه ، والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما إذا اجتنب الإنسان الكبائر فهي تكفر الصغائر من الذنوب ، فلا تستهون الصغيرة فإن الإصرار على الصغائر يجعلها كبائر .
ومن التطوع الصدقة وكثرة الإنفاق في سبيل الله عز وجل .
وبالجملة التطوع كثير وكثير ، فمن لازم ذلك فهو قريب من ربه ، بعيد عن الهوى والشيطان ، فصلته بربه قويه ، وصدره في انشراح وحياته كفاح إلى أن يحصل على النجاح المؤدي للفلاح والفوز بالجنة والنجاة من النار .
6- المحافظة على الأذكار :
وهي ما ذكرناه في بداية الكتاب فلتراجع لأهميتها وفائدتها .
ثم نأتي إلى موضوع مهم نختم به الكلام عن ضيق الصدر ألا وهو ماذا نقرأ على من يشكو من ضيقٍ في صدره ، تقرأ الآيات التالية في زيت زيتون ويدهم بها الصدر وما يقابله من الظهر ، وكذلك الماء ويشرب ، والآيات هي :
1) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين *
2) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم لاتأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم *(2/134)
3) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير * آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولاتحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفرلنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين *
4) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون *
5) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين *
6) بسم الله الرحمن الرحيم ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك * فإن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً * فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب *
7) بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد *
8) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد *
9) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس *
وبعد قراء ة هذه الآيات يتم بعدها قراء ة الأذكار التي هي في نهاية الكتاب وهي بعنوان تحصينات نافعة حتى تتم الفائدة إن شاء الله تعالى .
[ فصل ]
[11] عسر الولادة :
يتعسر على بعض النساء ولادتهن بسبب أو بآخر ، فتتزايد مع ذلك التأخر الآلام النفسية والجسدية ، وكل ذلك بقدر الله وحكمته ، وهي مجزية على صبرها وتحملها خيراً كثيراً بإذن الله تعالى ، وهناك طريقة وعلاج لذلك العسر نلخصه فيما يلي :
تكتب الآيات التالية في ماء وتشرب ، لعل الله أن ينفع بها والآيات هي :
بسم الله لا إله إلا الله الحليم الكريم ، سبحان الله رب العرش العظيم ، الحمد لله رب العالمين .
1) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها *
2) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون *
[12] الغضب :
وهو مرض يتسم به البعض من الناس ممن لا يستطيعون التحكم بأنفسهم فتصبح الحياة معهم جحيم لا يطاق ، بسبب عدم تحملهم وسرعة ثورانهم لأتفه الأسباب مما قد سبب فرقة بين الرجل وأهله ، أو القطيعة بين الناس ، وذلك بسبب ما يبثه الشيطان ـ أعاذنا الله منه ـ في قلب ذلك الشخص فيشحنه ويدفعه لارتكاب بعض الأمور التي سيندم عليها صاحبها فيما بعد ، وهذا مما لا شك فيه أنه جهل ينبغي لمن اتصف به أن يروض نفسه ويعودها على التحمل والصبر والجلد ، بل يجب عليه أن يكظم غيظه ويحبسه حتى لا يقع فيما لا تحمد عقباه ، ولهذا قال الله تعالى : [ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ] ( آل عمران 134 ) ، ولقد أنزل الله في كتابه العزيز شفاءً لذلك الداء ، فقال الله تعالى : [ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ] ( فصلت 36 ) ، فمن نابه شئ من الغضب فعليه أن يسرع بالاستعاذة من الشيطان الرجيم ، لأنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون .
وكذلك فقد حذر النبي صلى الله وسلم من الغضب وأوضح كيفية الخلاص منه والعلاج اللازم لذلك .
قال سليمان بن صرد : كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان ، أحدهما قد احمر وجهه وانتفخت أوداجه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد ، لو قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد ، فقالوا له : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فقال : وهل بي من جنون } ( متفق عليه ) .
وهناك أمور يتبعها الإنسان إذا غضب :
1- إن كان قائماً فعليه أن يجلس .
2- وإن كان جالساً فعليه أن يضطجع .
3- عليه أن يتوضأ .
4- وإن كان الغضب على أهله فعليه أن يخرج من بيته حتى يهدأ .
5- أن يكثر الغضبان من الاستغفار .
6- أن يكثر من قراء ة القرآن .
7- أن يصلي ما شاء الله له ذلك .
فعلى الإنسان أن يملك نفسه عند الغضب ولا يُطلق لها العنان فتحدث العواقب الوخيمة ، والنتائج السيئة ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : { ليس الشديد بالصرعة ، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب } ( البخاري ومسلم ) .
وما أجمل الحلم والأناة ، فالحلم ماكان في شيء إلا زانه ، ولا نزع من شيء إلا شانه .
[13] الشلل و صعوبات المشي :
يقرأ في زيت الزيتون والماء الآيات والأذكار من السنة ويدهن بها موضع المرض ، والآيات هي :
1) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين *
2) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم(2/135)
لاتأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم *
3) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير * آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفساً إلا وسعاها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولاتحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفرلنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين *
4) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين *
5) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم واذكر عبدنا أيوب إذا نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب * اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب *
6) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون * هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم *
7) بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد *
8) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد *
9) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس *
وبعد قراء ة هذه الآيات يتم بعدها قراء ة الأذكار التي هي في نهاية الكتاب وهي بعنوان تحصينات نافعة حتى تتم الفائدة إن شاء الله تعالى .
فائدة :
وقد جَرَّبْتُ هذه القراءة المباشرة على فتاة صغيرة ، كانت تعاني من الشلل ، وقد عولجت في أكبر المستشفيات ، وكلفت الآلف من الريالات ولم تجد معها نتيجة ، فاستخدمت معها الزيت المقروء عليه الآيات السابقة وغيرها ، فبرأت بإذن الله تعالى ، فاللهم لك الحمد كله ، ولك الشكر كله ، وإليك يرجع الأمر كله ، علانيته وسره ، ولله الحمد من قبل ومن بعد .
[14] الخوف والخفقان :
تقرأ الآيات في زيت الزيتون ويدهن بها الصدر وما يقابله من الظهر ، وتقرأ أيضاً في ماء وتشرب ، والآيات هي :
1) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين *
2) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم لاتأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم *
3) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير * آمن الرسول بما أنزل إليه منم ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفساً إلا وسعاها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولاتحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفرلنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين *
4) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب *
5) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم *
6) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور *
7) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً *
8) بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد *
9) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد *
10) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس *
وبعد قراء ة هذه الآيات يتم بعدها قراء ة الأذكار التي هي في نهاية الكتاب وهي بعنوان تحصينات نافعة حتى تتم الفائدة إن شاء الله تعالى .
[15] السحر :(2/136)
السحر حقيقة لا خيال ، قال تعالى : { وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم } ( يونس79 ) ، وقال تعالى : { فألقي السحرة ساجدين } ( الشعراء46 ) والآيات في ذلك كثيرة معلومة لا ينكرها إلا جاهل أو معاند مكابر ، وأما الأحاديث فقوله صلى الله عليه وسلم : [ اجتنبوا السبع الموبقات ، وذكر منها ، السحر ] ( متفق عليه ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : [ حد الساحر ضربه بالسيف ] ( رواه الترمذي ) ، وقد ذكر بعض أهل العلم أن توبة الساحر فيما بينه وبين ربه إن صحت منه قبلت بإذن الله تعالى ، أما إن ثبت سحره عند الناس فلا توبة له ، لأنه ماكر خادع مؤذ ، لا يؤمن شره وفساده ، فلذلك يجب قتله ولا توبة له في الدنيا ، لما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أنه كتب قبل موته بشهرين : [ اقتلوا كل ساحر وساحرة ] ( رواه أبو داود وهو صحيح ) ، ولما ورد عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : [ أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها ] ( الموطأ 2/871 بإسناد صحيح ) .
والسحر يؤثر في المسحور إذا أصيب به ، وقد يقتله ، وتعلمه والعمل به أو طلب العلاج عن طريقه حرام ، لا يجوز ، بل يجب الحذر من ذلك لأنه قد يؤدي بصاحبه إلى الكفر والعياذ بالله
وهناك سبل وقائية مبدئية يتبعها الإنسان حفاظاً على نفسه وأهل بيته من شرور الإنس والجن ، وقد ذكرتها في أول الكتاب وآخره فلتراجع للفائدة ، ومنها :
العجوة :
قال صلى الله عليه وسلم : [ من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر ] ( متفق عليه ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : [ من أكل سبع تمرات مما بين لا بيتها حين يصبح لم يضره سم حتى يمسي ] ( متفق عليه ) .
وعجوة المدينة أفضل من غيرها لما لها من خاصية وميزة عب بقية العجوة الأخرى ، لأن عجوة المدينة من غراس النبي صلى الله عليه وسلم .
ومما يعالج به السحر ، وكذلك المربوط عن أهله ، بأن يؤخذ سبع ورقات سدر ، وتدق بين حجرين أو في النجر أو غير ذلك ، ثم يوضع عليها ماء بنحو عشرين لتراً ، أي ما يكفي للشرب منه والاغتسال ، ثم يُقرأ عليها الآيات التالية :
1- أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين *
2- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم
لاتأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم *
3- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير * آمن الرسول بما أنزل إليه منم ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفساً إلا وسعاها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولاتحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفرلنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين *
4- وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون * فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون * فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين * وألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين *
5- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم * فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون * فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون *
6- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنه تسعى * فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى * فألقي السحرة سجداً * قالوا آمنا برب هارون وموسى *
7- بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد *
8- بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد *
9- بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس *
10- بسم الله الرحمن الرحيم قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين *
وبعد قراء ة هذه الآيات يتم بعدها قراء ة الأذكار التي هي في نهاية الكتاب وهي بعنوان تحصينات نافعة حتى تتم الفائدة إن شاء الله تعالى .
نصائح مهمة :
من أجل أن يتم العلاج ويكون نافعاً بإذن الله تعالى لا بد من توفر هذه الأمور ، وهي في حقيقتها نصائح ينبغي اتباعها من قبل المريض حتى يتم الشفاء ومن هذه النصائح :
1- المحافظة على الصلوات الخمس جماعة في المساجد .
2- قراءة سورة البقرة في كل غرفة من غرف المنزل لمدة سبعة أيام متوالية .
3- تحصين الزوجة والأولاد بالتحصينات النافعة بإذن الله تعالى ، وهي التي ذكتها في أول الكتاب فراجعها لتتم الفائدة المرجوة منها بإذن الله رب العالمين .
أماكن وجود السحر :(2/137)
قد يكون السحر مستقراً في المعدة ، فإذا كان ذلك نفع فيه بإذن الله تعالى شربة ( السنا ) وهي مجربة نافعة بإذن الله ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ لو أن شيئاً كان فيه شفاء من الموت لكان السنا ] ( رواه الترمذي ) .
طريقة تحضير السنا :
توضع شربة السنا في قدر به لتر من الماء ، ثم تغلى على النار ، وبعد غليها تصفى من التفل ، وتترك لتبرد ، ثم يشرب منها المريض مقدار ثلاثة أكواب على الريق ، ويمكن أن يضاف لها عسل النحل لتحليتها ، بعدها يحس المريض بإسهال شديد وقد يكون مصحوباً بمغص خفيف، ولكن بدون التهاب في الأمعاء ، فإذا بدأ مفعول شربة السنا في العمل ، فإنه يستفرغ جميع ما في البطن من فضلات ، وبذا تخرج المادة السحرية بإذن الله تعالى ، وهي مجربة نافعة ، ويمكن أن يجصر كوب ماء مغلي ويضع فيه قليلاً من ورق السناء ويخلطه ثم يترك ليبرد ثم يشرب بعد ذلك ، والله المستعان وعليه التكلان .
وأما إذا كان للسحر تأثيراً في الرأس فعلاجه يكون بالحجامة وقد تقدمت الأحاديث الواردة في فائدة الحجامة ، وهي نافعة بإذن الله تعالى في مثل هذه الحالات .
وكذلك إذا كان السحر في أي عضو من أعضاء الجسد فيمكن استخراج المادة السحرية منه عن طريق الحجامة ، أو أي طريقة استفراغ كانت من أجل أن يتم استخراج مادة السحر فيبرأ المريض بإذن عز وجل .
[16] المس :
ويكون ذلك بدخول الجان إلى جسد الإنسان ، وهذه حقيقة لا شك فيها ، ولا ينكرها إلا جاهل مكابر ، ولقد ثبت مس الجان للإنسان بالقرآن ، قال تعالى في وصف أكلة الربا حين يقومون من قبورهم يوم القيامة : { لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } ( البقرة275 ) ، وقال عليه الصلاة والسلام : [ إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ] ( متفق عليه ) .
أسباب تسلط الجن على الإنس :
1) عن طريق السحر :
ويكون ذلك عن السحرة ، لإيذاء إنسان معين مقابل مبالغ يأخذونها من ضعاف النفوس ، فيؤذون الأبرياء من الناس ظلماً وعدوناً .
2) ظلم الجني للإنسي :
ويحدث ذلك من جهلة الجن وسفهاؤهم ، ظلماً وعبثاً .
3) عشق الجني للإنسي .
4) عقاب الجني للإنسي :
فقد يؤذي الجني الإنسي بسبب خطأ يرتكبه الإنسي وهو لا يعلم ، فينتقم الجني من الإنسي بأكثر مما يستحق ، بل قد يصل الأمر إلى قتل الإنسي ، ومما قد يؤذي به الإنسي الجني خطأ : أن يقع عليه ، أو يصب عليه ماءً حاراً ، أو يبول عليه ، أو يرمي عليه حجراً . فقبل أن يفعل الإنسان أي أمر من تلك الأمور أو غيرها فعليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، ويستعيذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، وغير ذلك من الأذكار الواردة في أول الكتاب .
أسباب دخول الجان في جسد الإنسان :
1) الفرح الشديد .
2) الخوف الشديد .
3) الغضب الشديد .
4) البعد عن الله تعالى .
فإذا عرف المريض بالمس وتأكد المعالج من ذلك فيقرأ عليه الآيات التالية :
1) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين *
2) بسم الله الرحمن الرحيم الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى
للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون *
3) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم * إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما
أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون *
4) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم لاتأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم * لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم * الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون *
5) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير * آمن الرسول بما أنزل إليه منم ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفساً إلا وسعاها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولاتحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفرلنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين *
6) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم *(2/138)
7) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين * ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين * ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمت الله قريب من المحسنين *
8) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم * ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون * وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين *
9) بسم الله الرحمن الرحيم والصافات صفاً * فالزاجرات زجراً * فالتاليات ذكراً * إن إلهكم لواحد * رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق * إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب * وحفظاً من كل شيطان ما رد * لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من جانب * دحوراً ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب *
10) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين *
11) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران * فبأي آلاء ربكما تكذبان *
12) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون * هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم *
13) بسم الله الرحمن الرحيم قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً * يهدي إلى الرشد فأمنا به ولن نشرك بربنا أحداً * وأنه تعالى جد ربنا ما تخذ صاحبة ولا ولداً * وانه كان يقول سفهينا على الله شططاً * وانا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً * وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً * وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً * وأن لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً *
14) بسم الله الرحمن الرحيم ويل لكل همزة لمزة * الذي جمع مالاً وعدده * يحسب أن ماله أخلده * كلا لينبذن في الحطمة * وما أدراك ما الحطمة * نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة * إنها عليهم مؤصدة * في عمد ممدة *
15) بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد *
16) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد *
17) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس *
وبعد قراء ة هذه الآيات يتم بعدها قراء ة الأذكار التي هي في نهاية الكتاب وهي بعنوان تحصينات نافعة حتى تتم الفائدة إن شاء الله تعالى .
[ 17 ] التهاب الكبد الوبائي أ :
وهذا الالتهاب له ثلاث أنواع : أ ، ب ، ج أو A ,B,C ، وأسهل هذه الأنواع هو النوع (أ) ، وعلاجه يكون بما يلي :
أولاً: الراحة التامة ، لأن كثرة الحركة تؤثر على الكبد، فتحتاج الكبد لراحة تامة في الفراش .
ثانياً : البعد عن الدسم أو التقليل منه قدر الإمكان .
ثالثاً : تناول الأطعمة المسلوقة ، والمشوية الخالية من الدهن تماماً .
رابعاً : شُرب العصيرات الطازجة .
خامساً : البعد عن الغازيات ، والأطعمة المغلفة .
سادساً : وهو أهم العلاج وأنفعه ، استخدام العسل والحبة السوداء وماء زمزم ، وقد جُربت هذه الأشياء فنفع الله بها .
وليعلم الجميع أن أسباب الإصابة بهذا المرض هو تناول الأطعمة الملوثة ، كأكل المطاعم المكشوفة ، وأكل المدارس وهو أخطرها على الطلاب والطالبات ، لذا يجب على الآباء والأمهات الاهتمام بصحة أبنائهم وبناتهم ، وإعطائهم أطعمة من البيت ، وعدم السماح لهم بشراء أطعمة المدارس لأنه قد بان ضررها وانكشف خطرها .
فائدة مهمة :
على الآباء والأمهات أن يعزلوا المريض عن بقية أخوته حتى لا يصابوا بالمرض نفسه ، بحيث يتم عزل المريض في غرفة خاصة ، ويكون له أطباقاً وملاعق وألبسة خاصة به ، تُرمى بعد كل وجبة ، وعندما تتسخ الملابس ، لأن العدوى تنتقل بطرق كثيرة ، منها اللمس ، والتنفس ، واستخدام دورة المياه بعد المريض ، وعلى كل أنصح الجميع بمراجعة الطبيب لمعرفة معلومات أكثر عن هذا المرض والحذر منه ، والله سبحانه يتولى الصالحين ، ويشفي مرضى المسلمين .
[ فصل ]
أمراض طارئة وعلاجها :(2/139)
هناك أمراض طارئة قد تصيب الإنسان في وقت لا يستطيع معه الذهاب إلى المستشفى أو دور الرعاية الصحية الأولية ، إما لضيق الوقت ، أو لبعده عن أماكن العلاج ، أو غير ذلك من الأسباب ، فإنني أضع بين يدي القارئ الكريم هذه العلاجات النافعة بإذن الله تعالى وهي من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهي نافعة مجربة .
ومن هذه الأمراض :
[1] الجَرح والقرحَة :
عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى الإنسان أو كانت به قرحة أو جرح ، قال بأصبعه هكذا ووضع سفيان سبابته بالأرض ، ثم رفعها ، وقال : { بسم الله ، تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا } ( البخاري ومسلم ) .
وقال العلامة بن القيم رحمه الله : [ ومعنى الحديث : أنه يأخذ من ريق نفسه على أصبعه السبابة ، ثم يضعها على التراب ، فيعلق بها منه شيء ، فيمسح بها على الجرح ، ويقول : بسم الله ، تربة أرضنا بريقة بعضنا يُشفى سقيمنا بإذن ربنا ، لما في ذلك الكلام من بركة ذكر اسم الله ، وتفويض الأمر إليه ، والتوكل عليه .
وهذا علاج نافع سهل ميسر ، لا سيما إن كان التراب قد غسل وجفف ].
وبعد ذلك يقرأ الدعاء المذكور في [4] الألم والوجع لنفعه المتعدي بإذن الله الباري .
[2] الدورة الشهرية :
المقصود بذلك ، النزيف ، وكثرة الدم الخارج من الرحم أو غيره ، إما بسبب الدورة الشهرية ، أو الاستحاضة ، وأياً كان نوع الدم الخارج ، فتقرأ الآيات التالية على زيت الزيتون أو زيت الحبة السوداء أو الماء ، ثم يدهن بها البطن وما يقابله من الظهر ، ويشرب الماء ، والآيات هي :
1) أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين *
2) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم لاتأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم *
3) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير * آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولاتحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفرلنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين *
4) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم *
5) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً *
6) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقيل يا أرض ابلعي ماءك وياسماء أقلعي وغيض الماء *
وبعد ذلك يقرأ الدعاء المذكور في [4] الألم والوجع لنفعه المتعدي بإذن الله الباري .
[3] اللدغة :
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : انطلق نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها ، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب ، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم ، فلُدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء ، فقال بعضهم : لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم أن يكون عندهم بعض شيء ، فأتوهم فقالوا : يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه شيء فهل عند أحد منكم من شيء ؟ قال بعضهم : إني والله لأرقي ، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا ، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً . فصالحوهم على قطيع من الغنم ، فانطلق يتفل عليه ويقرأ : الحمدلله رب العالمين ، فكأنما نشط من عقال فانطلق يمشي وما به من قلبه ( أي ما به وجع ) ، فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه ، وقال بعضهم : اقسموا فقال الذي رقى : لا تفعلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم ، فنذكر له الذي كان ، فنظر الذي يأمرنا ، فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكروا له ، فقال : { وما يدريك أنها رقية ؟ ثم قال : قد أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم سهماً ، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم } ( البخاري ومسلم ) .
فمن أنفع العلاجات للسعة واللدغة بإذن الله تعالى أن يُقرأ عليها سورة الفاتحة وينفث على المريض من ريقه .
وكذلك تهرس التمرة على مكان اللسعة أو اللدغة أو القرصة إن كانت من أثر حشرات سامة .
[4] الألم والوجع :
عن عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه أنه شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده منذ أسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ضع يدك على الذي تألم من جسدك ، وقل : بسم الله ( ثلاثاً ) ، وقل سبع مرات : أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر } ( مسلم ) .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ بعض أهله ، يمسح بيده اليمنى ، ويقول : { اللهم رب الناس ، أذهب البأس ، واشف أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاءك ، شفاء لا يغادر سقماً } ( البخاري ومسلم ) .
[5] الرعاف :(2/140)
تقرأ الآية التالية على ماء وزيت زيتون : [ وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر ] ( هود44 ) ، ويدهن بها الجبهة ، ويشرب الماء ويستنشق به استنشاقاً خفيفاً ، وبإرادة الله وقوته يحصل الشفاء .
وبعد ذلك يقرأ الدعاء المذكور في [4] الألم والوجع لنفعه المتعدي بإذن الله الباري .
[6] ألم الضرس :
تقرأ الآيات التالية على ماء أو زيت زيتون ، أو على زيت الحبة السوداء ( الشونيز ) ، أو ماء زمزم ، ويشربها المريض ، ويدهن بها مكان الألم ، والآيات هي :
1) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون *
2) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم *
3) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً *
4) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون *
وبعد ذلك يقرأ الدعاء المذكور في [4] الألم والوجع لنفعه المتعدي بإذن الله الباري .
[ فصل ]
أمراض وأدوية :
هناك فوائد جمة وكثيرة لبعض الأدوية التي يستخدمها الإنسان في طعامه وهي من الطعام ومنها : عسل النحل ، والتمر ، الحبة السوداء ، وسوف نستعرض بعض الأمراض وكيفية علاج كل منها بواسطة كل من الأدوية السابقة والشفاء والمعافاة من الله جل جلاله وتقدست أسماؤه ، وكل ما يطلب من أجل الشفاء ما هو إلا وسيلة وسبب يطلب من الله تعالى لغرض العلاج . ومن هذه الأمراض والأدوية ما يلي :
1) الحساسية :
أضف على فنجان من العسل فازلين ودهن العود ، ويدهن المكان الموجود به الحساسية ، تجنب كل ما يدعو إلى الحساسية من مثيرات ، ويفضل أن يؤخذ ملعقة عسل يومياً على الريق ، وهذه الملعقة تكون من عسل صافي ليس مخلوطاً معه شيء .
ومما ينفع في علاج الحساسية أيضاً أكل التمر يومياً بقدر سبع تمرات .
2) الدوالي :
تدهن الدوالي ثلاث مرات يومياً بالعسل الطبيعي الأصلي ، مع شرب ملعقة بعد كل أكل .
3) تقوية الشعر :
يمزج مقدار من العسل بنصفه من زيت الزيتون ويسخن قليلاً ، ثم يدعك به الشعر ( مرة في الشهر ) ويغسل بعد وقت قصير .
ومما يوقف تساقط الشعر ، أن تغسل فروة الرأس بالليمون ويترك لمدة ربع ساعة ، ثم يغسل بالماء والصابون وينشف جيداً ، ثم يدهن الرأس بزيت الحبة السوداء لمدة أسبوع ، وسوف يتوقف تساقط الشعر بإذن الله تعالى .
4) تليف الكبد :
ينصح الأطباء بتناول عشرة ملاعق كبيرة من العسل يومياً ، حيث وجد أن العسل يزيد من قدرة الخلايا الباقية في الكبد والتي لم يصبها التليف وبذلك تستطيع الكبد مواصلة نشاطها ووظائفها ، على أن يستمر المريض في تناول العسل لفترات طويلة حتى لا تعود له العلة ثانية .
5) السعال :
يمزج فنجان عسل بشدة مع ملعقة صغيرة زنجبيل وعصير ليمونة واحدة لمدة ربع ساعة ، ثم يؤخذ المزيج .
6) التبول اللاإرادي :
يعطى الطفل ملعقة صغيرة من العسل قبل النوم مباشرة ، وهذه تسكن الجهاز العصبي عند الطفل ، كما تعمل على امتصاص الرطوبة وبالتالي يمتص الماء من الجسم ويحتفظ به طيلة مدة النوم ، وبهذه الطريقة يريح الكلى أيضاً .
7) بثور الفم واللسان :
يؤخذ مزيج من العسل والليمون في ملعقة صغيرة وتحفظ في الفم أطول فترة ممكنة .
8) لتسنن الأطفال :
يمزج قليل من العسل مع عصير الليمون الحامض ، وتدلك به لثة الطفل لتسهيل خروج الأسنان ، ودلك ما تحت لسان الطفل بالعسل مع الملح يفيد في علاج تأخر الكلام عند الأطفال .
9) حب الشباب :
يدهن الوجه بالعسل ويبقى لمدة ربع ساعة ، ثم يغسل الوجه بماء دافئ ، ويجفف ثم يدهن بقليل من زيت الزيتون ، وتكرر العملية لمدة أسبوع .
ويمكن أن يمزج مقدار من العسل بمثله من عصير الجزر ويدلك الوجه بالمزيج كل يوم ، ومما ينفع أكل المزيج .
ومما يفيد في حب الشباب ، تعجن حبة سوداء ناعمة في زيت سمسم مع ملعقة دقيق القمح ، ويدهن بالخليط المعجون الوجه صباحاً ومساءً ، ثم يغسل بماء دافئ وصابون لمدة أسبوع .
10) البرص والبهاق :
يخلط العسل بالنشادر ، ويدهن به يومياً وباستمرار ، وبإذن الله تعالى سيتم الشفاء من البرص والبهاق تماماً .
ومما يفيد في علاج البرص والبهاق أيضاً ، أن يدهن مكان البهاق بخل التفاح وبعد ذلك يدهن المكان بزيت الحبة السوداء لمدة خمسة عشر يومياً .
11) أمراض الأذن :
يمزج العسل بالماء مع قليل من الملح ويقطر به في الأذن قبل النوم يومياً .
ويفيد في ذلك أيضاً ، أن يقطر في الأذن قطرة دهن الحبة السوداء ، فهو ينقيها ويصفيها بإذن الله تعالى .
12) الأورام الخبيثة :
يستعمل غراء النحل ، وذلك بتضميد الورم بالغراء من التنظيف المستمر والتغيير يومياً عليه مع أخذ ملعقة عسل صباحاً ومساءً قبل الطعام .
13) الصدفية :
يحرق سعف النخل حتى يصير رماداً ، ويعجن منه قدر كوب في كيلو عسل نحل ، ويدهن به مكان الصدفية مع كثرة أكل التمر لوجود عنصر الزنك به .
[ فصل ]
تحصينات نافعة :
وهذه التحصينات من الكتاب والسنة ، وهي نافعة بإذن الله تعالى ويُختم بها القراء ة على أي مرض مما سبق وهي تلي القراء ة من القرآن الكريم وسأوردها لمزيد الفائدة :
من الكتاب الكريم :
1- قال تعالى : { وإذا مرضت فهو يشفين } ( الشعراء 80) .
2- وقال تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } ( الإسراء 82) .
3- وقال تعالى : { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين } ( يونس 57) .
4- وقال تعالى : { قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاء } ( فصلت 44) .(2/141)
5- وقال تعالى : { ويشف صدور قوم مؤمنين } ( التوبة14 ) .
6- وقال تعالى : { يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس } [ النحل 69 ] .
من السنة المطهرة :
(1) { باسم الله أرقيك ، من كل داء يؤذيك ، ومن شر كل نفس أوعين حاسد ، الله يشفيك ، باسم الله أرقيك } ( مسلم ) .
(2) { باسم الله يبريك ، ومن كل داء يشفيك ، ومن شر حاسد إذا حسد ، ومن شر كل ذي عين } ( مسلم ) .
(3) { أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق } .
(4) { أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة } .
(5) { أعوذ بكلمات التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ، ومن شر ما ذرأ في الأرض ، ومن شر ما يخرج منها ، ومن شر فتن الليل والنهار ، ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارق يطرق بخير يارحمن } .
(6) { أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون } .
(7) { اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته ، اللهم أنت تكشف المأثم والمغرم ، اللهم لا يهزم جندك ولا يخلف وعدك سبحانك وبحمدك } .
(8) { أعوذ بوجه الله العظيم ، الذي لا شئ أعظم منه ، وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، وبأسماء الله الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم من شر ما خلق وذرأ وبرأ ، ومن شر كل ذي شر لا أطيق شره ، ومن شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته إن ربي على صراط مستقيم } .
(9) { اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم ، أعلم أن الله على كل شئ قدير ، وأن الله قد أحاط بكل شئ علماً ، وأحصى كل شئ عدداً ، اللهم إني أعوذ من شر نفسي وشر الشيطان وشركه ، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم } .
(10) { تحصنت بالله الذي لا إله هو إلهي وإله كل شئ ، واعتصمت بربي ورب كل شئ ، وتوكلت على الحي الذي لا يموت ، واستدفعت الشر بلا حول ولا قوة إلا بالله ، حسبي الله ونعم الوكيل ، حسبي الرب من العباد ، حسبي الخالق من المخلوق ، حسبي الرازق من المرزوق ، حسبي الله هو حسبي ، حسبي الذي بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه ، حسبي الله وكفى ، سمع الله لمن دعا ، وليس وراء الله مرمى ، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم } .
(11) { اللهم رب الناس أذهب البأس أشف أنت الشافي لا شفاء إلا
شفائك شفاءٌ لا يغادر سقماً } .
[ فصل ]
الأذكار كثيرة جداً ولعلنا ذكرنا أهم ما يحتاجه المسلم في يومه وليلته من أذكار ، وكذلك ذكرنا بعض الأمراض وما يحتاجه المريض من علاج بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وذكرنا أهم الأسباب التي يدفع به الإنسان البلاء والمرض عن نفسه ، وتطرقنا إلى أسباب ضيق الصدر وانشراحه وغير ذلك من الأمور التي لايستغني عنها المسلم والمسلمة في يومه وليلته من أذكار ودعوات .
وما ذكرته في علاج بعض الأمراض هو من سبيل التجربة التي مررت بها واستخدمتها لعلاج بعض تلك الأمراض ، أو ما سمعته أو قرأته ممن أثق به إن شاء الله تعالى ولا أزكي أحداً على الله .
وعموماً إن حصل الشفاء فهذا ما يتمناه كل مريض ومعالج ، وإن لم يحصل ذلك فالحمد لله على كل حال ونعوذ بالله من حال أهل النار ، فالعلاج بكلام الله وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم إن لم يكن فيهما شفاء فلن يكون فيهما داء بإذن الله تعالى .
والسلاح بضاربه ، فلن تنفع قراءة صاحبها لاهٍ غافل ، ولن تنفع قراءة يريد صاحبها الدنيا وبهرجتها ، ولن تنفع قراءة من إنسان مقصر في شعائر دينه عامداً متعمداً ، وكلما كان العمل خالصاً لوجه الله سبحانه كلما كانت فائدته جلية واضحة ، وحصلت منه النتائج المرجوة المتوقعة المثمرة بإذن الله تعالى .
وأسأل الله جلت قدرته أن ينفع بهذا الكتاب جميع المسلمين ، وأن يجعله خالصاً لوجهه سبحانه ، وأن يمن بالشفاء العاجل غير الآجل على كل مسلم ومسلمة ، اللهم اجعل لكل المسلمين الصادقين من كل همٍ فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ومن كل بلاء عافية ، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين واقض الدين عن المدينين واشف مرضانا ومرضى المسلمين ، إنك سميع قريب وبالإجابة جدير .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .
كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام الجامع الكبير بتبوك
=================
الإسلام بين كينز وماركس وحقوق الإنسان في الإسلام
دراسة
السيدة العزيزة .(2/142)
لقد قرأت ببالغ الأهمية موضوعك حول :" الاسلام بين كينز و ماركس ". و لقد ذهلت لتحليلك العميق للجانب الاقتصادي للإسلام الذي أوحت به الرسالة الإسلامية . فلا أحد تقريباً ،يملك في الوقت الحاضر ما يحيط بالتدابير الاقتصادية العميقة للإسلام سواكِ . و لذا ،فإن إسهامك هذا ، في هذا المجال لا غنى عنه . إنك بذلك تساهمين في تحطيم الأمركة الاقتصادية الحديثة بإقامة الدليل على أن التخلي عن الأخلاقية في الإنسان التي ثبّت دعائمها القانون الإلهي ، أبطلت المفعول المجدي لعلم الاقتصاد الحديث بشكل كامل . إن تأملك العميق حول الإسلام يتماشى مع تأمل الأستاذ :" فرانسوا بيرو " فيما يتعلق بإسهام المسيحية في التحليل الاقتصادي . أنت ، كما هو ، ترفضان هذا التعارض المطلق بين الدين و المجتمع ،بين اليقين و العقل ، هذا التعارض الذي ينبع من الجهل المطبق ، في الوقت نفسه ، لمبادئ الاقتصاد ، و لمضمون النصوص الدينية معاً . و لدى تعمّقي في قراءة نصك ، أعتقد أن الإسلام ذهب أبعد بكثير مما ذهبت إليه المسيحية ،لأنها _ بلا شك_ منذ " سان أوغستان " تحول الاتجاه فيها إلى إبعاد الشعور الروحاني ،بشكل مبالغ فيه، عن المعيار
الأخلاقي .
آمل لعملك هذا أن يصل إلى مدارك أكبر عدد ممكن من الشعوب .
توقيع :
آلان باركر
- ×× -
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الهدف من هذا الكتاب ليس الدخول في أحكام النظريتين، الماركسية، والرأسمالية وفلسفاتهما من حيث هي، وإنما من خلال انعكاسهما على المجتمع الإنساني من سعادة ورفاهية وعدالة وأمان، وكيف استطاعت الامبراطورية، الإسلامية على امتداد مساحاتها الشاسعة والواسعة، حتى في فترة انحلالها في عهودها الأخيرة، أن تتلافى طوابير العاطلين عن العمل من الحاملين لأعلى الشهادات، والألوف المؤلفة من الجائعين المنتظرين منذ أيام للحصول على كأس صغير من الحساء، على بعد عشرات الأمتار من البيت الأبيض الأمريكي صبح مساء، وملايين النائمة في العراء، في قيظ الصيف وقر الشتاء... بينما توصلت اليمن في عهودها الإسلامية النيرة -على سبيل المثال- إلى الحصول على لقب "اليمن السعيد" لشمول السعادة والرفاهية والحياة الكريمة لكل فرد من أفرادها، في طول البلاد وعرضها، وكيف توصلت بعض المدن الإسلامية (الكوفة) في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى إعادة الأموال، التي كانت ترسل إليها لتوزيعها على الفقراء والمحتاجين، إلى بيت المال لعدم وجود من يستحق فيها الزكاة (يوجد في الوقت الحاضر مايزيد على أربع أخماس المعمورة يستحق فيها الزكاة)، وكيف كان الخليفة عمر بن الخطاب يعتبر نفسه مسؤولاً حتى عن الشاة الجائعة ولو كانت في أقصى المدينة، بينما لايعتري أحد من الحكام، في الوقت الحاضر، أي هاجس للملايين التي تموت في ظل رعايتهم جوعاً وسقماً وبلاء..؟!
ولابد لنا إذاً، في هذا الكتاب، للوصول إلى هذا الهدف، بعد أن دُوِّل النظامان وفرضت مشاكلهما وحلولهما على العالم أجمع، من دراسة العناصر التالية:
1ً-تحليل المشاكل التي طرحها المذهبان لاستشفاف ما إذا كانت هذه المشاكل، هي بالفعل، مشاكلهما الحقيقية بالذات، قبل أن تصبح مشاكل العالم أجمع، ومشاكل الإنسان في كل مكان...؟
2ً-استعراض الوسائل والحلول المعتمدة لحل هذه المشاكل، وما إذا كانت قد أتت أكلها الطيبة لشعوبها بالذات، قبل أن يعم خيرها على جميع الناس...؟
3ً-ماهي المشاكل التي طرحها الإسلام، وماهي الحلول التي قدمها للشعوب المستضعفة التي استظلت بمظلته، من كافة الأعراق والألوان، على امتداد مسافات شاسعة، من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها، خلال قرون عديدة من الزمان، وكيف استطاع أن يؤمن لها صنوفاً من السعادة والحياة الكريمة اللائقة بالإنسان؟....
4ً-وهل مازال المسلمون يملكون ذات الوسائل والمعطيات لتقديم ذات الحلول التي تمكنهم من تطبيق أحكام الإسلام؟...
أم أن ماجرى على هذا الكون من تحكم النظامين وغطرستهما، وتخريبهما، واستهتارهما بالإنسان، ومحاربتهما له خلال قرنٍ من الزمان، وفي كل مكان، لم يبق من الإسلام للمسلمين سوى:
-العبادات المجانية.
-الموت في سبيل الله، الذي هو- في الواقع، في سبيل الأمريكان...!
×××
القسم الأول :
الاقتصاد كعلم أو مذهب
ماهو المذهب الاقتصادي؟
وماهو علم الاقتصاد؟
لابد من التنويه بأن لعلم الاقتصاد، خلافاً لبقية العلوم الطبيعية، تعريفين أو أكثر، تختلف باختلاف المذهب الاقتصادي الذي يراد تطبيقه. وسنتناول أولاً التعريف بشكل عام.
فعلم الاقتصاد: هو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأحداثها وظواهرها، وربط تلك الأحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامة التي تتحكم بها.
وأما المذهب الاقتصادي: فهو عبارة عن النهج، الذي يفضل القائمون على تفسير الحياة الاقتصادية، بالطريقة التي يتبعونها، تطبيقه في حياة المجتمع، وحل مشاكله العلمية والعملية وبتعبير آخر:
العلوم الاقتصادية: هي دراسات منظمة للقوانين الموضوعية التي تتحكم في المجتمع في حياته الاقتصادية، والمذهب الاقتصادي هو عبارة عن نهج خاص
للحياة، يطالب أنصاره بتطبيقه لتنظيم الوجود الاجتماعي على أساسه، بوصفه المخطط الأفضل الذي يحقق للإنسانية ماتصبو إليه من رخاء وسعادة على الصعيد الاقتصادي.
وعلى هذا، فالمذهب هو دعوة عمل وتصميم، والعلم كشف أو محاولة كشف عن حقيقة وقانون. لهذا السبب كان المذهب عنصراً فعالاً وعاملاً من عوامل الخلق والتجديد، وأما العلم فهو يسجل مايقع في مجرى الحوادث الاقتصادية كما هو دون تصرف أو تلاعب.(2/143)
وعلى هذا الأساس، فقوانين المادية التاريخية علم، والنهج الاشتراكي مذهب -حسب ماركس- والقوانين الطبيعية علم، والنهج الرأسمالي مذهب -حسب آدم سميث وريكاردو-.
إلا أنه إذا تبين لنا -كما تبين لدى قسم كبير من الباحثين العصريين- أن ماركس لم يكن على صواب في تفسير المادية التاريخية والقوانين الطبيعية التاريخية، بل إنه تصرف بها وأخذ منها ما يناسبه، وأن آدم سميث وريكاردو قد حصرا القوانين الطبيعية في ظل النظام الحر المطلق، أي أنها ليست كالقوانين الطبيعية في الفيزياء والكيمياء، تطبق في كل مجتمع، وكل زمان ومكان، وهي بذلك لاتتصف بصفة العلم، أدركنا أن الاقتصاد كعلم ليس له أساس موضوعي، فلم يبق إذاً إلا الاقتصاد كنهج.
إن ماقصد إليه النهجان -في الواقع- من إصباغ صفة العلم على نهجيهما، هو التدويل لكل نهج من جهته، وجعله صالحاً لتطبيقه لكل شعب على وجه الأرض، ولكل زمان ومكان، بغية مد هيمنته وسيطرته على العالم أجمع* .
أما وقد أثبت النظام الماركسي فشله على أرضه بالذات في عمر لم يتعد النصف قرن، وتربع الثاني وحده على عرش متداعي الأركان لسوف لايطول به العهد أيضاً لسنوات، فإن ماكان أساسه هشاً لايؤمل له الصمود "وإن للباطل جولة ثم يضمحل....".
-×××-
الفصل الأول
النظرية الماركسية كعلم أو مذهب
آ-المفهوم العلمي للماركسية:
1ً-المادية التاريخية: تعتبر المادية التاريخية -في رأي الماركسية- أنها الطريقة الوحيدة التي تفسر التاريخ والحياة الإنسانية بكافة ظواهرها. وبتعبير آخر، إن الوضع الاقتصادي، وعلى وجه التحديد، وضع القوى المنتجة ووسائل الإنتاج، هي التي تصنع تاريخ الناس وتنظمهم وتطورهم، وتحدد أوضاعهم السياسية والدينية والفكرية، وما إليها من ظواهر الوجود الاجتماعي.
وهنا، لا حاجة لنا في الدخول في الديالكتيك الفلسفية التي اتبعت أساساً لاستنباط تلك القاعدة العلمية، ولا التساؤلات التي انصبت عليها، وكلها تدور في حلقة مفرغة: (هل الدجاجة أصل البيضة، أم البيضة أصل الدجاجة؟!....) فعلى سبيل -المثال: هل المجتمع يغير الأفكار أم الأفكار تغير المجتمع؟
جواب ماركس: "لا هذا ولا ذاك، إنها وسائل الإنتاج.."
-وإذا كانت وسائل الإنتاج تصنع التاريخ وتغير البشر، فما هو السبب في تغيير وسائل الإنتاج؟ جواب ماركس: "إنها وسائل الإنتاج ذاتها"
ولذا، فلسوف نعتمد على التطبيق والمقارنة والواقع لفحص النظرية الماركسية لنرى ما إذا كانت وسائل الإنتاج هي التي كانت المحرك الأول في نشوء الماركسية ذاتها، وفي البلدان الاشتراكية على وجه التحديد لنحكم من خلال التطبيق على صحة النظرية، وبالتالي درجتها من المحتوى العلمي.
ولابد لنا -في بادئ الأمر- من لفت النظر إلى الفرق الشاسع بين الباحث التاريخي والباحث العلمي في مجال العلوم الطبيعية (كالفيزياء، والكيمياء والرياضيات،... الخ)، فإن الباحث التاريخي الذي يريد أن يفسر المجتمع البشري ونشوءه وتطوره لايستطيع أن يفحص هذه الظواهر بصورة مباشرة، كالعالم الطبيعي (في مخبره الخاص)، وإنما هو مضطر إلى تكوين فكرة عنها بالاعتماد على النقل والرواية وشتى الآثار العمرانية وغيرها. كما أنه لايملك لتحريها مايملكه العالم الطبيعي من إجراء التجارب وتقديم الدليل التجريبي على نظرياته، وعلى هذا، فهو لايملك سوى الملاحظة التي تعتمد -كما ذكرنا- على الرواية.
فمن ناحية الملاحظة بالذات، فإن الماركسية لم تكن تملك حين وضعت مفهومها الخاص عن التاريخ، سوى الملاحظة المحدودة في نطاق ضيق لاكتشاف قوانين التاريخ كلها واليقين العلمي بها. فقد قال (أنجلز)* :
"وبما أن البحث عن الأسباب المحركة في التاريخ مستحيلاً تقريباً في سائر المراحل السابقة بسبب تعثر علاقتها واختلاطها مع ردود الفعل التي تؤثر بها، فإن عصرنا قد بسط هذه العلاقات كثيراً بحيث أمكن حل اللغز: فمنذ انتصار الصناعة الكبرى في انكلترا، لم يعد خافياً على أحد بأن النضال السياسي كله يدور فيها حول طموح طبقتين إلى السلطة: الاستقراطية، والبورجوازية".
ومعنى هذا، إن ملاحظة الوضع الاجتماعي، في فترة معينة من حياة أوروبا، بل وفي انكلترا وحدها بصورة خاصة، كانت كافية في رأي المفكر الماركسي (انجلز) لليقين العلمي بأن العامل الاقتصادي، والتناقض الطبقي، هو العامل الأساسي في التاريخ الإنساني كله، بالرغم من أن فترات التاريخ الأخرى لاتكشف عن ذلك لأنها غائمة معقدة، كما اعترف هو نفسه، مع أن سيطرة عامل معين، على مجتمع معين، في فترة معينة، لايكفي لتعميم سيطرته الرئيسية في كل أدوار التاريخ، وفي كافة المجتمعات* .
أما الناحية التطبيقية، فهي المقياس الذي سنلجأ إليه لاختيار صحة النظرية الماركسية، على أرضها بالذات، أي في البلدان الاشتراكية وذلك تماشياً مع الأهمية الكبيرة التي يعطيها ماركس نفسه للناحية التطبيقية في كشف مدى صحة المقياس العلمي، وقبل أن يطول العهد ونعتمد على الروايات السليمة منها أو الفاسدة. فالناحية التطبيقية -حسب الماركسية نفسها- هي المقياس الأعلى لاختبار صحة كل نظرية. وكما قال (ماوتسي تونغ):
"إن نظرية المعرفة في المادية الديكالتيكية تضع التطبيق في المكان الأول. فهي ترى أن اكتساب الناس للمعرفة يجب ألا ينفصل في أية درجة كانت عن التطبيق، إذ أن إهمال التطبيق يوقع في المجرد الذهني.."
ولنأخذ القسم الخاص من التطبيق للنظرية في المجال الذي يتصل بتطور المجتمع الرأسمالي ونشوء الاشتراكية. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل حصلت الثورة الاشتراكية نتيجة لنمو الرأسمالية الصناعية وبلوغها الذروة؟(2/144)
في الواقع، كلنا نعلم أن الثورة الاشتراكية، في البلدان التي طبقت فيها الاشتراكية تطبيقاً جزئياً مثل: بولونيا، وتشيكوسلوفاكيا، والمجر، لم تنبثق عن تناقضات المجتمع الداخلية، وإنما فرضت فرضاً من الخارج بقوة الجيش الأحمر، أي بواسطة الحرب الأجنبية والغزو العسكري المسلح. وإلا فأي قانون من قوانين التاريخ شق ألمانيا نصفين، وأدرج قسمها الشرقي ضمن العالم الاشتراكي، وجزءها الغربي ضمن العالم الرأسمالي؟ أهو قانون القوى المنتجة (التي هي واحدة في الشطرين) أم قوة الجيش الفاتح؟
وأما في البلدان التي طبقت فيها الاشتراكية بشكل كلي عن طريق الثورات الداخلية، فإن هذه الثورات لم تحصل طبقاً للنظرية التي حل بها الماركسيون كل ألغاز التاريخ وهي: "المادية التاريخية".
ففي روسيا مثلاً، وهي البلد الأول في العالم الذي سيطر عليه النظام الاشتراكي عن طريق الثورات الداخلية، فإن هذه الثورات لم تحصل نتيجة نمو وسائل الإنتاج والقوى المنتجة. فالقوى المنتجة فيها لم تكن لتبلغ الدرجة التي تحددها النظرية لإمكان التحول واندلاع الثورة الاشتراكية. لقد كانت روسيا -في الواقع- في مؤخرة الدول الأوروبية من الناحية الصناعية لكي يلعب تزايد القوى المنتجة دوره الرئيسي في تقرير شكل النظام، بل -على العكس- نمت تلك القوى في فرنسا وبريطانيا وألمانيا نمواً هائلاً، ودخلت هذه البلاد مرحلة عالية من التصنيع، ومع ذلك، فبمقدار ارتفاعها في هذا المضمار، كان بعدها عن الثورة ونجاتها من الإنفجار الثوري الشيوعي المحتوم في مفاهيم المادية التاريخية. أي أن الاتجاه الثوري في روسيا لم يخلق نتيجة للثورة الصناعية وتطور وسائل الإنتاج، بل العكس هو الصحيح، فقد جاءت الثورة الصناعية كنتيجة للثورة السياسية، فكان الجهاز الانقلابي في الدولة هو الأداة لتصنيع البلاد وتطور قواها المنتجة، وليس التصنيع هو الخالق لهذا الجهاز.
وإن كان من الضروري أن نربط بين الثورة من ناحية، وحركة التصنيع ووسائل الإنتاج من ناحية أخرى، فالتطبيق أثبت عكس العلاقة التي حددتها الماركسية.
فروسيا، مثلاً لم يدفعها نمو الإنتاج إلى الثورة بمقدار ما دفعها انخفاض تلك القوى وتخلفها الخطر عن ركب الدول الصناعية التي قفزت بخطوات عالية جداً في مضمار الصناعة والإنتاج.
فكان لابد لروسيا، لكي تحتفظ بوجودها الحقيقي في الأسرة الدولية وتنجو من الاحتكارات التي أخذت تقيمها الدول السباقة، وتفرض كيانها كدولة حرة على مسرح التاريخ، من إنشاء الجهاز السياسي والاجتماعي الذي يحميها من تلك الاحتكارات، ويحل مشاكلها التصنيعية حلاً سريعاً، ويدفع بها إلى الأمام في حلبات التصنيع، ومجالات السباق الدولي.
ومن ثم، فإن الثورات الداخلية في روسيا ماكان لها أن تنتصر بفعل التناقضات الطبقية المفروضة -حسب النظرية- بمقدار ما اعتمدت على انهيار الجهاز السياسي الحاكم انهياراً عسكرياً في ظروف حربية قاسية، كانهيار الحكم القيصري عسكرياً في ظروف حربية (الحرب العالمية الأولى)، الأمر الذي مكن قوى المعارضة، وعلى رأسها الحزب الشيوعي، من الانتصار السياسي، وإقامة الحكومة الاشتراكية.
وشيء آخر جدير بالملاحظة، هو أن الحكومة الاشتراكية نفسها، بحكم السلطة المطلقة التي لاحدود لها، التي مارستها، هي التي ساهمت في خلق أسباب وجودها والمبررات الماركسية لنشوئها؛ فهي التي أنشأت الطبقة التي تزعم أنها تمثلها، كما أنها هي التي نقلت وسائل الإنتاج والقوى المنتجة إلى المرحلة التي أعدها (ماركس) لاشتراكيته العلمية.
والصين، البلد الآخر الذي ساد فيه النظام الاشتراكي بالثورة، ينطق أيضاً بالتناقض الواضح بين النظرية والتطبيق.
فلم تكن الثورة الصناعية -التي لم تبدأ بالفعل إلا بعد وفاة (ماو) وانفتاحها على الغرب وتخليها عن مقومات الاشتراكية الأساسية- هي العامل الأساسي في تكوين الصين الجديدة، وقلب نظام الحكم فيها، ولم يكن لوسائل الإنتاج (التي مازالت حتى عهد قريب تقليدية) أي دور في ذلك، ولم يكن لفائض القيمة الصناعي (فالصين بلد زراعي، بل ويحرص على أساليب الزراعة التقليدية)، ولا لتناقضات رأس المال التي تقررها قوانين المادية التاريخية، أي دور في المعترك السياسي. إن الثورة الشيوعية في الصين كانت قد بدأت قبل الغزو الياباني، وظلت لمدة عقد كامل تنتشر وتتوسع، ولم يتحقق لها النصر إلا بعد تحطيم جهاز الدولة نتيجة ظروف حربية خارجية أدت إلى زعزعته.
وهناك أقطار عديدة عاشت نفس الظروف والعوامل التي أنجحت الثورة الاشتراكية في روسيا، ولكنها لم تأخذ مثلها طابعاً اشتراكياً، رغم التشابه في القوى الإنتاجية، نظراً للظروف الفكرية والتيارات المتناقضة التي كانت تعمل في الحقل السياسي والمجال الثوري هنا وهناك.
فإذا كان التطبيق يدعم حقاً النظرية، كما يزعم المنطق الديكالكتيكي للماركسية، فإن المادية التاريخية يعوزها حقاً هذا الدليل....!
المادية التاريخية، والحياة الفكرية
لعل أخطر وأهم النقاط الجوهرية في المفهوم المادي للتاريخ عند الماركسية يكمن في العلاقة التي تؤكد على وجودها بين الحياة الفكرية للإنسان بشتى ألوانها (من فلسفية وعلمية، ودينية... الخ). وبين الوضع الاقتصادي، وبالتالي وضع القوى المنتجة. لا بل وإنها تتهم كافة المفكرين بجهلهم المطبق للأسباب التي خلقت. لهم أفكارهم، والتي لم يتح اكتشافها إلا للمادية التاريخية.(2/145)
وهذا الإطار الاقتصادي الذي تضع الماركسية ضمنه كل أفكار الإنسان في المعمورة منذ الخليقة حتى تاريخها، جدير بالبحث العلمي والفلسفي المستفيض أكثر من بقية الجوانب الأخرى، وقد خصص له المرحوم (محمد باقر الصدر) كتاباً بعنوان "فلسفتنا" يمكن الرجوع إليه. وإن مايهمنا من هذه العلاقة هو استعراض بعض النواحي التطبيقية.
فالمجتمعات التي سبقت العصر الحديث في الوجود كانت متقاربة -إلى حدٍ كبير- في وسائل الإنتاج وأساليبه، ولم يكن بينها أي فرق جوهري. فالزراعة التقليدية، والصناعة اليدوية هما الشكلان الرئيسيان للإنتاج في مختلف تلك المجتمعات، وبالرغم من ذلك فإنها كانت تختلف اختلافاً كبيراً في مستوياتها العلمية. فلو كانت أشكال الإنتاج وأدواته هي العامل الأساسي الذي يحدد لكل مجتمع محتواه العلمي ويطور الحركة العلمية تبعاً لدرجته التاريخية، لما وجدنا تفسيراً لهذا الاختلاف، ولامبرراً لازدهار العلم في مجتمع دون آخر.
فلماذا -على سبيل المثال- اختلف المجتمع الأوروبي في القرون الوسطى عن المجتمعات الإسلامية في الأندلس والعراق ومصر، مع اشتراكها في نوعية القاعدة؟ وكيف ازدهرت في المجتمعات الإسلامية الحركة العلمية في مختلف العلوم، وبدرجة عالية جداً، ولم يوجد لها أي تباشير في أوروبا الغربية التي هالها مارأته في حروبها الصليبية من علوم المسلمين ومدنيتهم؟*
ولماذا استطاعت الصين القديمة وحدها أن تخترع الطباعة، ولم تتوصل إليها سائر المجتمعات إلا عن طريقها (فقد أخذ المسلمون هذه الصناعة عن الصينيين في القرن الثامن الميلادي، ثم أخذتها أوروبا عن المسلمين في القرن الثامن عشر).
بالإضافة إلى ذلك، فكثير من الحاجات الاقتصادية القديمة العهد بالتاريخ لم يتوصل الفكر إلى تلبيتها إلا بعد مرور قرون عديدة، بينما -على العكس- فقد سبق العلم الحاجات الاقتصادية بعشرات القرون في كثير من الحالات. (فعلى سبيل المثال، فإن اكتشاف المغناطيس في تعيين اتجاه السفن لم يتم إلا في القرن الثالث عشر، مع أن الطريق البحري كان هو الطريق الرئيسي منذ قرون خلت، وعلى العكس، فإن اكتشاف البخار قد تم في القرن الثالث الميلادي، أي قبل المجتمع الرأسمالي الذي دعا إليه بعشرات القرون.
المادية التاريخية وتكون الطبقات
ومايقال في تكون الأفكار لدى الماركسية نتيجة للوضع الاقتصادي والقوى المنتجة، يقال أيضاً بالنسبة لتكون الطبقات: (( إن انقسام الناس-حسب الماركسية- إلى فئة تملك كل وسائل الإنتاج، وفئة لاتملك منها شيئاً، هو السبب التاريخي لوجود الطبقات في المجتمع بأشكالها المتنوعة تبعاً لنوعية الاستغلال الذي تفرضه الطبقة الحاكمة على المحكومة من عبودية أو قنانة أو استخدام بالأجرة)).
ونعود هنا إلى السؤال التقليدي: (الدجاجة سبقت أم البيضه)؟ فالتكوين الطبقي للطبقة الرفيعة الحاكمة في المجتمع، إذا كان نتاجاً للملكية (الوضع الاقتصادي)، فلابد لها من إيجاد هذه الملكية لكي تصبح رفيعة حاكمة، ولاسبيل إلى حصولها على تلك الملكية إلا عن طريق النشاط في ميادين العمل. ولم يسبق أن كان النشاط في ميادين العمل هو الطريق الأساسي لتكون الطبقة الحاكمة في المجتمع، اللهم إلا بالنسبة للمجتمع الرأسمالي في ظروف تكونه وتكامله، وحتى في هذا المجتمع، فكان السلب والنهب والنفوذ الاستعماري وسيلة الوصول إلى الحكم أكثر منه عن طريق النشاط في ميادين العمل. وكلنا يعلم كيف تكونت الطبقة الحاكمة في أمريكا، وأعمال البطش والإبادة الجماعية التي استعملها الغازون الأوروبيون بالهنود الحمر، الشعوب الأصلية، دون أن يكون لهؤلاء الغازين في هذه القارة أي عنصر من عناصر المادية التاريخية.
وإذا عدنا إلى التاريخ القديم نجد أن طبقة رجال الأعمال في المجتمع الروماني كانت تداني الأشراف في ثرواتها بالرغم من التفاوت الكبير بين مقامهما الاجتماعي. وعلى العكس، فإن طبقة (الساموراي) ذات النفوذ الكبير في اليابان القديمة، والتي كانت تداني الإقطاع في السلم الاجتماعي، لم تكن تعتمد إلا على فروسيتها وخبرتها في حمل السيف وليس على الملكية. وقس على ذلك طبقة (الآريين الفيديين) الذين غزوا الهند قبل التاريخ الحديث بألفي سنة وسيطروا عليها وأقاموا فيها تنظيماً طبقياً لم يكن للملكية أي أثر في تكوينه، بل كان قائماً على أسس عسكرية، ودينية وعنصرية، ولم يشفع للتجار والصناع مكليتهم لوسائل الإنتاج كي يرتقوا إلى مصاف الطبقات الحاكمة، أو ينافسوها في سلطانها السياسي والديني.
وأخيراً، كيف نفسر قيام الطبقة الإقطاعية في أوروبا الغربية نتيجة للفتح الجرماني، إذا لم نفسره تفسيراً عسكرياً وسياسياً؟ فكلنا يعلم، وحتى انجلز نفسه قد اعترف بأن القواد الفاتحين الذين تكونت منهم تلك الطبقة لم يكن مقامهم الاجتماعي ناتجاً عن الملكية الإقطاعية، وإنما تكونت ملكيتهم الإقطاعية هذه تبعاً لدرجتهم الاجتماعية، وامتيازاتهم العكسرية والسياسية الخاصة، بوصفهم غزاة فاتحين دخلوا أرضاً واسعة، وتقاسموها، فكانت الملكية أثراً، ولم تكن هي العامل المؤثر.
وهكذا، فإن الواقع التاريخي للإنسانية لايسير في موكب المادية التاريخية، وبذلك تخسر الماركسية برهانها العلمي، وتبقى في مستوى سائر الاقتراحات المذهبية.
نظرية ماركس بالقيمة الفائضة
لابد لنا قبل أن نعرج على الماركسية كمذهب من إبداء الملاحظتين التاليتين عن نظرية ماركس "بالقيمة الفائضة" التي تعتبر المصدر العام لأرباح الطبقة الرأسمالية، والسبب في الصراع الطبقي المحتوم بين الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج والطبقة العاملة، والذي سيؤدي بالرأسمالية العالمية -حسب رأيه- إلى مصيرها المحتوم.(2/146)
وكلنا يعلم أن نظرية القيمة الفائضة، تعتبر أن المنبع الوحيد لقيمة السلع هو العمل الذي أهرق فيها. وإن الفرق بين مايدفعه الرأسمالي إلى العامل من أجور، وما يتسلمه من إنتاجه من قيمة (إذ أن الرأسمالي يقتطع من العامل جزءاً من القيمة التي يخلقها، كربح له) هو بمثابة السرقة لحقوق العامل. وهذه من شأنها أن تؤدي -بطبيعة الحال- إلى قيام صراع عنيف بين الطبقة المسروقة والطبقة السارقة، حسب رأيه.
الملاحظة الأولى:
إن كان العمل يحتل أهمية قصوى في تحديد قيمة السلعة، إلا أن المادة (موضوع العمل) لايمكننا أن ننكر قيمتها. فالعمل المنصب على استخراج معدن كالذهب مثلاً، لاتقارن قيمته بالنسبة للعمل المصروف على استخراج صخور لاتجدي نفعاً. فالعنصران إذاً، (المادة والعمل) متفاعلان ومتضامنان في تكوين القيمة التبادلية للسلع المستخرجة. فليست القيمة كلها -إذاً- نابعة من العمل، وليس صاحب العمل هو المصدر الوحيد لقيمة السلعة، وبالتالي ليس من الواجب أن تكون القيمة الفائضة (الربح) جزءاً من القيمة التي يخلقها العامل دون اعتبار ما لمواد الإنتاج الطبيعية من نصيب في قيمة السلعة المنتجة.
الملاحظة الثانية:
وهناك عنصر آخر أقصته الماركسية من حسابها، لدى محاولة اكتشاف سر الربح، وهو القدر الذي يخلقه المالك نفسه من قيمة، بسبب مواهبه التنظيمية والإدارية التي يستعملها في تسيير المشروع الصناعي أو الزراعي. فهناك مشاريع متساوية في رؤوس أموالها والأيدي العاملة التي تعمل فيها، ومع ذلك فقد تختلف اختلافاً هائلاً في الأرباح التي تجنيها طبقاً لكفاءات التنظيم ومقدرة الرؤوس الخالقة للثروة من الإشراف على عملية الإنتاج وعلى تصميمها، وتحديد مايلزم، والبحث عن منافذ لتوزيعها.
وإذا كان العمل جوهر القيمة -حسب ماركس- فمن باب أولى أن يكون للعمل القيادي والتنظيمي، والفكر الذي خلق الثروة نصيب من القيمة التي يخلقها العمل في السلعة.
وهكذا، فإن انهيار نظرية القيمة الفائضة يتبعه رفض التناقضات الطبقية التي تستنتجها الماركسية من هذه النظرية، كالتناقض بين العامل والمالك بوصفه سارقاً يقتطع من العامل الجزء الفائض من القيمة التي يخلقها في السلعة موضوع العمل.
والحقيقة التي يقررها الاقتصاد الإسلامي بهذا الصدد هي أن المالك لا يشتري من العامل عمله، كما يرى الاقتصاد الرأسمالي، ولايشتري أيضاً منه قوة العمل، كما يقرر الاقتصاد الماركسي* وإنما يشتري المالك من العامل منفعة عمله. فمنفعة العمل شيء مغاير للعمل ولطاقة العمل، وهي بضاعة لها قيمة بمقدار مالتلك المنفعة من أهمية، كتحويل قطعة الخشب إلى منضدة، أو تحويل فلزات الذهب إلى مجوهرات. وهذا المبدأ يفسر انخفاض القيمة التبادلية لسلعة من السلع، تبعاً لانخفاض الرغبة الاجتماعية فيها نتيجة عامل سياسي أو ديني أو فكري أو أي عامل آخر، فتتضاءل قيمة السلعة بالرغم من احتفاظها بنفس الكمية من العمل الاجتماعي، وبقاء ظروف إنتاجها كما هي دون تغيير. وهذا يبرهن بوضوح على أن للدرجة التي تتيحها السلعة من الإنتفاع وإشباع الحاجات، أثراً في تكوين القيمة التبادلية.
ب-الماركسية كمذهب اقتصادي
ذكرنا في مطلع هذا الفصل أن العلوم الاقتصادية هي دراسات منظمة للقوانين الموضوعية التي تتحكم في المجتمع، كما تجري في حياته الاقتصادية. أما المذهب الاقتصادي فهو المنهج الذي يطالب به أنصار النظرية العلمية لتنظيم الوجود الاجتماعي على أساسه، بوصفه المخطط الأفضل الذي يحقق للإنسانية، ماتصبو إليه من سعادة ورخاء.
وقد تناولنا العلوم الاقتصادية من وجهة نظر الماركسية بالتحليل والفحص على مجهر الواقع التطبيقي، ورأينا كيف أن المادية التاريخية التي تفسر كافة الفعاليات والنشاطات الإنسانية في التاريخ من خلالها، لاتفتقر فقط إلى الدليل العلمي، وإنما أنها -في أغلب الأحوال- قد قلبت المفاهيم رأساً على عقب. كما أن انهيار نظرية القيمة الفائضة قد اتبع معه كافة التناقضات الطبقية التي استنتجتها الماركسية من هذه النظرية، وتلاشى معها التناقض العلمي المزعوم وبطلت فكرة الصراع الطبقي المستوحاة من ذلك التناقض.
وبذلك، لم يبق من الماركسية سوى المذهب الذي اتبعه أنصارها لتخليص المجتمع العالمي من تناقضاته -حسب زعمهم- وتحقق للإنسانية كل مايؤمن سعادتها ورخاءها.
وفي المذهب الماركسي مرحلتان تطالب الماركسية بتطبيقهما تباعاً، وهما: المرحلة الاشتراكية، ثم الشيوعية. فالشيوعية تعتبر -من وجهة نظر المادية التاريخية- أعلى مرحلة من مراحل التطور البشري، لأنها المرحلة التي يحقق فيها التاريخ معجزته الكبرى. وأما الاشتراكية فهي تقوم على أنقاض المجتمع الرأسمالي. وهي من ناحية تعبر عن الثورة التاريخية المحتومة على الرأسمالية حين تأخذ بالاحتضار، ومن ناحية أخرى تعتبر شرطاً ضرورياً لإيجاد المجتمع الشيوعي، وقيادة السفينة إلى شاطئ التاريخ....!
الاشتراكية، ومعالمها الرئيسية:
تتلخص معالم الاشتراكية وأركانها الأساسية فيما يلي:
-محو الطبقية، وخلق المجتمع اللاطبقي.
-استلام البروليتاريا للأداة السياسية، بإنشاء حكومة دكتاتورية.
-تأميم مصادر الثروة ووسائل الإنتاج، واعتبارها ملكاً للمجموع.
-قيام التوزيع على قاعدة: (من كل حسب طاقته، ولكل حسب عمله).
الشيوعية:(2/147)
وهي قمة الهرم التاريخي للبشرية. وفيها يحدث التغيير في أكثر المعالم والأركان السابقة، عدا الطبقية التي تحتفظ بها. فهي تهدف للقضاء على قصة الحكومة والسياسية، وتحرر المجتمع منها. كما أنها لاتكتفي بتأميم وسائل الإنتاج، بل تلغي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج الفردية (وهي التي يستثمرها المالك بنفسه لاعن طريق الأجراء)، وتحرم الملكية الخاصة لبضائع الاستهلاك وأثمانها. وكذلك فإنها تجعل التوزيع مرتكزاً على قاعدة: (من كل حسب طاقته، ولكل حسب حاجته).
وبصورة عامة، فإن ماركس لايستند في تبرير الاشتراكية والشيوعية إلى قيم ومفاهيم خلقية معينة في المساواة، كغيره من الاشتراكيين الذين يصفهم ماركس بالخياليين. إن القيم والمفاهيم الخلقية ليست في رأي الماركسية إلا وليدة العامل الاقتصادي، والوضع الاجتماعي للقوى المنتجة. فلا معنى للدعوة إلى وضع اجتماعي على أساس خلقي بحت.
وسنتناول دراسة الأركان والمعالم الرئيسية للاشتراكية على ضوء التطبيق العملي، ومدى تماشيه مع الأهداف المحددة.
معالم الاشتراكية بين الأهداف والتطبيق
1ً-من خلال محو الطبقية:
إن محو الطبقية -الركن الأول للاشتراكية- من شأنه -حسب المبدأ- أن يضع حداً فاصلاً لما ذخر به تاريخ البشرية -على مر الزمن- من ألوان الصراع، لأن مرد تلك الألوان إلى التناقض الطبقي الذي نتج عن انقسام المجتمع إلى مالكين ومعدمين، فإذا ماقامت الاشتراكية وحولت المجتمع إلى طبقة واحدة، زال التناقض الطبقي، واختفت كل ألوان الصراع، وساد -حسبها- الوئام والسلام إلى الأبد...!
إلا أن التطبيق قد أثبت في البلدان الاشتراكية نفسها أن إزالة الملكية الخاصة، وتأميم وسائل الإنتاج، لم يقض على التركيب الطبقي، إذ أن تركيباً طبقياً من نوع آخر قد برز إلى الوجود على أساس آخر (الجهاز الحزبي والسياسي). وأن الإمكانيات والصلاحيات التي تمتع بها الجهاز المذكور تفوق سائر الإمكانيات التي حصلت عليها أكثر الطبقات على مر التاريخ. فقد كسب رجال الحزب الشيوعي سلطة مطلقة على جميع الممتلكات ووسائل الإنتاج المؤممة في البلاد، كما كسبوا مركزاً سياسياً يتيح لهم الانتفاع بتلك الممتلكات، والتصرف بها تبعاً لمصالحهم الخاصة. وتمتد امتيازاتهم من إدارة الدولة والمؤسسات الصناعية ووسائل الإنتاج إلى كل نواحي الحياة. كما تنعكس أيضاً في التناقضات الشديدة بين أجور العمال ورواتبهم الضخمة.
ولذلك، فإن صراعاً من نوع آخر قد برز إلى الوجود بين الطبقات البديلة ذاتها، صراعاً يفوق إلى حدٍ كبير العنف الذي عرفته الماركسية لأشكال التناقض الطبقي في التاريخ.
وعلى سبيل المثال، فقد شملت عمليات التطهير تسعة وزراء من أعضاء الوزارة الأحد عشر الذين كانوا يديرون دفة الحكم في الاتحاد السوفياتي عام 1936، واكتسحت ثلاثة وأربعين أميناً من أمناء سر منظمة الحزب المركزية الذين كان يبلغ عددهم ثلاثة وخمسين أميناً، وثلاثة من مارشالات الجيش السوفياتي الخمسة، و60% تقريباً من مجموع جنرالات السوفييت، وجميع أعضاء المكتب السياسي الذي أنشأه لينين بعد الثورة، باستثناء ستالين، كما أدت عمليات التطهير إلى طرد مايزيد على مليونين من أعضاء الحزب عام 1939 من أصل مليونين ونصف وكذلك سبعين عضواً من أعضاء مجلس الحزب الثمانين. وبذلك كاد الحزب الشيوعي المطرود يوازي الحزب الشيوعي نفسه*.
وهكذا، يبدو جلياً كيف تؤدي طبيعة المادية الدكتاتورية في الجهاز الحاكم في المجتمع الاشتراكي الذي يرمي بأهدافه إلى القضاء على الطبقية إلى ظروف طبقية تتمخض عن ألوان رهيبة من الصراع، وأن هذه التجربة التي جاءت لتمحو الطبقية قد أنشأتها من جديد، ولكن على مستوى لايرعى حرمة لوطن ولا لشعب، ولا لمبدأ؛ فهي نفسها التي انقلبت على الحزب، والطبقة، والوطن في أوائل التسعينيات وفتحت الأبواب على مصراعيها لحثالات الشعوب من المتعطشين للدماء والمال، وأعادت إلى التاريخ بذرة لأفظع ماتصف الماركسية من ألوان الطبقية في التاريخ.
2ً-من خلال سلطة البروليتاريا المطلقة الوهمية
يشترط الركن الثاني للتجربة الاشتراكية، أن تتحقق على أيدي ثوريين محترفين يتسلمون قيادتها، وهم وحدهم الذين يستطيعون أن يؤلفوا حزباً جديداً، بلشفي الطراز، إذ ليس من المعقول أن تباشر البروليتاريا بجميع عناصرها قيادة الثورة وتوجيه التجربة. أي أن القيادة الثورية للطبقة العاملة كانت محصورة بمن يدعون أنفسهم بالثوريين المحترفين، وإن على هذه القيادة أن تتسلم السلطة بصورة مطلقة لتصفية حسابات الرأسماليين نهائياً. وتعتبر هذه السلطة الدكتاتورية ضرورية، ليس فقط لتصفية الرأسمالية فحسب، كما تزعم الماركسية، بل لابد منها لتنفيذ كل مايتطلبه التخطيط الاقتصادي من سلطة قوية غير خاضعة للمراقبة، ومتمتعة بإمكانيات هائلة، ليتاح لها أن تقبض بيد حديدية على كل مرافق البلاد بحجة أن تنمية الإنتاج تتطلب مثل هذه السلطة الحديدية.
إلا أن مانتج عن هذه السلطة، هو استفحال قوتها إلى أن استفردت وحدها بالإنتاج، والقيمة، وفرق القيمة... وهذا ما أدى إلى تداعي النظام ذاته، لتضطلع -هي نفسها- بمسؤولية حكم ديمقراطي لايختلف، من قريبٍ أو بعيد، عن شريعة الغاب في الماوماو الأسطورية....!
3ً-من خلال التأميم لمصادر الثروة
لقد هدف التأميم -في الواقع- بالإضافة إلى محو الطبقية، إلى تحقيق الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج. وهنا أيضاً، فقد أثبت التطبيق أنه لا يكفي أن تلغى الملكية الخاصة بقانون، وأن يتم الإعلان عن الملكية الجماعية للثروة بقانون، لكي يتمتع المجموع مثلاً بهذه الملكية...(2/148)
في الواقع، لقد سمح التأميم للطبقة الحاكمة بأن تتمتع هي وحدها بالمحتوى الحقيقي للملكية بسيطرتها المطلقة على مقدرات البلاد وثرواتها. وحصلت هذه الطبقة على نفس الفرص التي كان الرأسماليون الاحتكاريون يتمتعون بها في المجتمع الرأسمالي، كل ذلك مع حق تمثيل المجتمع اللاطبقي والتصرف بممتلكاته، كما أصبحت أقدر من أي رأسمالي، على سرقة القيمة الفائضة.
ولقد اضطر ستالين للاعتراف بأن كبار رجال الدولة والحزب قد استغلوا فرصة انشغال دولتهم في الحرب الأخيرة، فجمعوا الثروات الباهظة... وقد أعلن عن ذلك بمنشور أذاعة وعممه على جميع أبناء الشعب...
فالتأميم -في الواقع- لم يقم على أساس روحي أو قناعة بقيم خلقية وإنسانية، وإنما قام على أساس مادي بحت لتحقيق أكبر نصيب من الإنتاج.
إن رجال السلطة أنفسهم الغيورين على الإنتاج لزيادة الإنتاج فقط، هم أنفسهم الذين شلوا كافة الفعاليات الإنتاجية في البلاد تمهيداً للثورة المضادة التي قام بها غورباتشوف فيما بعد، مما أدى إلى وقوعها في أزمة اقتصادية عويصة لاسبيل إلى حلها -حسب زعمهم- إلا عن طريق هدم النظام من أركانه الأساسية. وهذا ماحصل بالفعل في أوائل التسعينيات على يد المنقذ الإصلاحي الكبير غورباتشوف، والذي انتهى دوره عند هذا الحد، ليتربع السادة الحقيقيون من الثوريين المحترفين على نظام يتقاذفه الرعاع من كل قطب من أقطاب العالم، لاتربط بينهم أية رابطة من طبقة أو عنصر أو مبدأ، إلا رابطة الفساد والتخريب وتعطيل الإنتاج، والمضاربات، وتهريب الممتلكات والعملات وامتصاص الدماء. ولم يبق من تنمية الإنتاج في مفاهيم المادية التاريخية، التي هي القوة الدافعة للتاريخ على مر الزمن -حسب رأيهم- إلا أضغاث أحلام....!
4ً- من خلال التوزيع وعدالته
إن الركن الأخير من الاشتراكية، وهو التوزيع، فيرتكز على مبدأ: "من كل حسب طاقته، ولكل حسب عمله".
أي حق كل فرد أن يعمل ليعيش في مجتمع، يتألف من طبقة واحدة، وذلك تماشياً مع قانون ماركس للقيمة "بأن العمل هو أساس القيمة"، وأن للعامل نصيباً من الإنتاج بالقدر الذي يتفق مع كمية عمله.
وهنا يبدو التناقض الصارخ بين هذا المبدأ واللاطبقية للمرحلة الاشتراكية. مما لاشك فيه، أن الأفراد يختلفون في أعمالهم تبعاً لاختلاف كفاءاتهم، ونوعية العمل تخلقها تلك الأعمال. فالعامل الذي يمارس إنتاج أجهزة دقيقة ومعقدة لاتقاس قيمة عمله بالعامل الذي يستخدم في حمل الأثقال مثلاً.
فإذا ماجرى التوزيع حسب قاعدة (لكل حسب عمله)، لابد من أن يجري على درجات متفاوتة، وبذلك سوف يخلق الفروقات الطبقية من جديد، أو أن يجري بالتساوي على جميع العاملين، أي للعامل البسيط كما للعامل المركب، وللعامل الموهوب كما للعامل العادي، وبذلك تكون قد اقتطعت من العامل الموهوب القيمة الفائضة التي يتفوق بها على العامل البسيط، كما كان يصنع الرأسمالي تماماً على حساب المادية التاريخية.
ولهذا اضطرت السلطة من خلال التطبيق إلى الاتجاه إلى دفع المجتمع إلى التناقضات الطبقية من جديد، بأن تركت فروقات في الدخل تتراوح بين
1.5 و5%.
إلا أن السلطة قامت فيما بعد بتعميق الفروقات والتناقضات، فأنشأت طبقة البوليس السري، وميزت عملها الجاسوسي بامتيازات ضخمة، وسخرتهم لتدعيم كيانها الدكتاتوري التي أوصلت البلاد إلى أسوأ مما جاءت لإصلاحه، إلى أن أتت على النظام برمته كما ذكرنا.
الشيوعية
وهي نهاية المرحلة الاشتراكية، وبداية المجتمع الشيوعي. ولها ركنان:
الأول: توسيع التأميم ليشمل كل وسائل الإنتاج، وكل البضائع الاستهلاكية .
والثاني: تحرير المجتمع من الحكومة والسلطة السياسية بصورة نهائية.
-فمن خلال توسيع التأميم ليشمل البضائع الاستهلاكية وتوزيعها على جميع أفراد الشعب حسب مبدأ "لكل حسب حاجته لا عمله فقط"، فقد بدا فيها المذهب الاشتراكي في قمة إمعانه في الخيال، إذ يتصور أن بالإمكان أن يعطي كل فرد كل مايشبع رغبته ويحقق سائر طلباته، لأن الثروة التي سيملكها الشعب من جراء النظام الاشتراكي، سوف تصبح قادرة على إشباع كافة الرغبات. فلا ندرة من بعض البضائع ولاتزاحم على السلع، ولا حاجة للتنظيم...! أي أن الشيوعية كما جنحت في خيالها في صنع المعجزات في الشخصية الإنسانية فحولت الناس إلى عمالقة في الإنتاج، فهي تصنع المعجزات مع الطبيعة نفسها فتجردها من الشح والتقتير والمحل ونفاذ الموارد الطبيعية، وتمنحها روحاً كريمة سخية تغدق بعطائها على كل مايتطلبه الإنتاج الهائل من موارد ومعادن ومياه*.
ويبدو أن قادة التجربة الماركسية قد حاولوا خلق الجنة الشيوعية الموعودة على الأرض ففشلوا، وذلك حين جردوا الفلاحين من وسائل إنتاجهم الفردية فترة 1928-1930، التي راح ضحيتها مائة ألف قتيل باعتراف التقارير الشيوعية ذاتها، وأضعاف هذا العدد في تقرير أعدائها، ومن ثم إضراب عام 1932، الذي راح نتيجة المجاعة الناجمة عنه ستة ملايين نسمة باعتراف الحكومة نفسها، مما اضطر السلطة إلى التراجع، ومنح الفلاح شيئاً من الأرض وكوخاً وبعض الحيوانات للاستفادة منها، على أن تبقى الملكية الأساسية للدولة.
-الشيوعية والحكومة
وتزداد الشيوعية تجنيحاً بأخيلتها عندما تفترض الانتقال بالشيوعية من مرحلة حكومات دكتاتورية إلى مرحلة "اللاحكومة".(2/149)
ولنجنح مع الماركسية في أخيلتها، ولنفرض أن المعجزة قد تحققت، وأن المجتمع الشيوعي قد وجد وأصبح كل شخص يستطيع أن يشبع كافة حاجاته ورغباته؛ أفلا يحتاج المجتمع إلى سلطة تحدد هذه الحاجات، وتوافق بين الحاجات المتناقضة فيما إذا تزاحمت على سلعة واحدة، وتنظم العمل وتوزعه على فروع الإنتاج؟ ولذا، فإن الشيوعية لم تر النور، وأن الاشتراكية قد أخمدت جذوتها الرياح الفاسدة من داخلها خلال مدة لم تتجاوز النصف قرن.
النتيجة:
نتيجة لما تقدم يتبين لنا أن إلغاء الملكية الخاصة، وتأميم كافة وسائل الإنتاج، والقضاء المبرم على طبقة، واستبدالها بطبقة أخرى استناداً إلى فلسفات خيالية محضة، وخاصة إذا ماكانت الطبقة الأولى نشيطة ومنتجة ولديها الخبرة والتمرس في إدارة المؤسسات الإنتاجية وإنجاحها، وكانت الطبقة البديلة لاتملك من ذلك شيئاً؛ كانت السبب الرئيسي في فشل الاشتراكية وانحرافها عن أهدافها في إعطاء الطبقة العاملة حقوقها، وبالتالي في تنشيط عجلة الإنتاج وتحسينه في تأمين الحاجات القصوى للشعب من جهة، وتزويد الخزينة بما يسد عجزها ويؤمن متطلباتها من جهة أخرى.
إن إزالة الملكية الخاصة، وتسليم وسائل الإنتاج لإدارة الطبقة الجديدة المصطنعة، لم تكن -بحد ذاتها- حلاً عادلاً وصائباً، وذلك من النواحي الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية.. الخ:
-فمن الناحية الاقتصادية، لقد فقدت الدولة بهروب هذه الطبقة وبعثرتها، الرؤوس التي تصنع الثروة، والتي هي -بحد ذاتها- أكبر ثروة، إلى جانب ثرواتهم التي هربوها معهم. وهي -من جهتها- لاتعجز عن استثمارها في أي مكان من العالم. وكلنا يعلم أن أموالها التي نقلتها إلى أوروبا الغربية قد ساهمت إلى أقصى حد في إنعاشها، بينما حاقت بأوروبا الشرقية وحدها الخسارة الفادحة.
إن الملكية الخاصة، في الواقع، لم يحصل عليها المالك إلا لقاء عمل وجهد وفكر وتضحية برأس مال خاص، لم يسرقه أو يستولي عليه من أحد، أو آل إليه من تعب آبائه وأجداده. ولذا، فليس من حق الدولة أن تسلبه إياه، وتسلمه لغيره، ممن لاناقة له فيه ولاجمل.
لقد كان باستطاعة الدولة، الغيورة على مصالح الطبقة العاملة، أن تدع هذه الطبقة تواصل استثمار ثرواتها في بلادها، وتتمتع بملكها ضمن شروط اقتصادية واجتماعية تخدم أهدافها، وتضيف إلى هذه الطبقة طبقة جديدة من المحرومين تضع تحت تصرفها مايوجد تحت تصرف الدولة من ثروات طبيعية غير مستغلة من القطاع العام، لتقوم بإحيائها واستغلالها. وبذلك، فإنها تضيف إلى الملكيات الخاصة السابقة ووسائل الإنتاج الموجودة، وبالتالي للطبقة الغنية، طبقة أخرى، قد تفوقها فكراً وعطاء وغنى، وبذلك، تستفيد الدولة من فعاليات كافة الطبقات العاملة في المجتمع، والذين أثبتوا فعلاً نجاحهم في فعالياتهم، وتتلافى خلق طبقة مصطنعة لاتملك الإمكانيات الفكرية والعملية المطلوبة لنجاح الفعاليات الإنتاجية التي استلمت مقاليدها. هذا، ناهيك عن إفساد هذه الطبقة من جراء حصولها على حقوق الغير دون أن تبذل أي جهد، اللهم إلا موالاة السلطة، مما يجعلها أيضاً عديمة الاهتمام، غير مكترثة سواءً نجح المشروع الذي استولت عليه أو فشل. كما أن من شأن ذلك، توسيع دائرة النصب والاستيلاء على تعب الغير وحقوقهم إلى درجة تطمس كل حق لغيرهم من أبناء الشعب.
-ونتيجة لفشل تلك الطبقة في إدارة المؤسسات الإنتاجية التي آلت إليها وعدم أمانتها على مقاليدها، فقد انعكس ذلك بخسارة فادحة على الدولة وكيانها السياسي، وعلى المجتمع برمته، فتهدم النظام برمته. فبالإضافة إلى كون هذه الطبقة لاتملك الفكر المنظم والخالق للثروة، فهي لاترعى حقاً أو واجباً نحو الدولة، والوطن والمجتمع، لأنها الحصينة بانتسابها إلى الحزب الحاكم قد أطلقت لغرائزها العنان بسلب حقوق الوطن والعاملين فيه بحيث أدى ذلك إلى إفلاس البلاد وإفقار الناس وضياع الوطن، بينما اغتنت هي وحدها غناءً فاحشاً أهلها لتتبوأ عرش النظام الرأسمالي الإنقلابي وويلاته الذي تلاه.
وهذا مايبرر -في الواقع- أن محاولة الانتقال بروسيا من الاشتراكية إلى الرأسمالية، في أوائل التسعينيات، لم تواجه بأية معارضة على الإطلاق، ولم يطوقها الأعداء من الخارج. فقد كانت التحاقية بالكامل، بل وتلقت مكافآت على ذلك، وأخذت الطبقة التي خلقها الحزب الشيوعي نفسه من ثواره الميامين، تسخر نظام الحرية لمصلحتها بشراسة منقطعة النظير، فأحلت لنفسها، باسم الحرية والديموقراطية كل ما يجلب لها الثروة، وبأية طريقة كانت: من تهريب المخدرات والعملات، وبيع ممتلكات الدولة ومؤسساتها وثرواتها واختراعاتها ومخترعيها وأسرارها الحربية، وعلومها الفضائية، وجلود نسائها وأطفالها.. إلى آخر ما هناك من فظائع يندى لها الجبين.. لقد تحولت -في الواقع- إلى أدوات مرتهنة بأيدي المافيا الصهيونية العالمية، تسعى فقط إلى الثروات بنهم وعدم مسؤولية، فتحلم بعمال دون أجور، ومتقاعدين دون رواتب تقاعدية، ومجتمع دون نقابات، وحياة دون ثقافة، واقتصاد دون إنتاج، وأموال دون عمل..! فالأسواق المالية ومضارباتها وبورصاتها غدت المصدر الوحيد للشرعية، وأصبح ارتكاب جرائم القتل والسلب والنهب الخبز اليومي للشعب، وامتلأت الطرقات والأرصفة بالمتسولين والبؤساء والعاطلين عن العمل وفتيات الطريق، وأصبحت تجارة الجنس المورد الرئيسي للبلد لجلب القطع الأجنبي.
وبعد أن كان الاقتصاد الحر قد وضع جل أمله في روسيا، بعد أن تدخل في حلبته، ممنياً نفسه بالإنفتاح على أسواقها لحل مشاكله وأزماته، أصبحت الأزمة الاقتصادية المستعصية فيها، وانهيار أسواقها المالية، وتدهور عملتها، من أولى المشاكل التي تهدد الاقتصاد الحر.(2/150)
فالإسلام -في الواقع، قد تجلت عبقريته الإلهية بأنه لم يقض على طبقة ليستبدلها بطبقة أخرى، وإنما أصلح الطبقة الغنية التي كانت نافذة في السابق، بأن حولها من طبقة مستغله ظالمة وجبارة، إلى معطاءة وخيره وسمحة، تنفذ أوامر الله في عباده في السر والجهر، وتغدق بالأموال على بيت مال المسلمين دون حساب؛ وخلق إلى جانبها، بفضل قيام الدولة بواجباتها تجاه رعاياها، بإسناد ما بحوزتها من الملك العام إلى الطبقة المحرومة، والتكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الإسلامي، خلق من العبيد أسياداً وعباقرة، ومن المستغلين الباطشين أكرم الناس وأعدلهم، وبذلك تحول المجتمع برمته إلى طبقة واحدة نشيطة ومنتجة وورعة، تعمل لدنياها كأنها تعيش أبداً، وتعمل لآخرتها كأنها تموت غداً...! وبذلك فقد عاش الإسلام في ربوع عديدة من الكرة الأرضية خلال قرون عديدة، ولم يتسن للنظام الاشتراكي أن يبلغ النصف قرن...!
×××
الفصل الثاني
الاقتصاد الرأسمالي كعلم أو مذهب
مقدمة:
كما يقسم الاقتصاد الماركسي إلى علم ومذهب، كذلك، يقسم الاقتصاد الرأسمالي إلى علم ومذهب.
فمنذ فجر التاريخ العلمي للاقتصاد، حين كان آدم سميث وريكاردو يضعان بذور هذا العلم وبنياته الأولية (الاقتصاد الطبيعي الكلاسيكي) سادت الفكر الاقتصادي آنذاك فكرتان:
- إحداهما: أن الحياة الاقتصادية تسير وفقاً لقوى طبيعية محدودة تتحكم في كل الكيان الاقتصادي للمجتمع، كما تسير شتى مناحي الكون طبقاً لقوى الطبيعة المتنوعة. والواجب العلمي تجاه تلك القوى التي تسيطر على الحياة الاقتصادية هو اكتشاف قوانينها العامة التي تصلح لتفسير مختلف الظواهر والأحداث الاقتصادية.
- والأخرى: أن تلك القوانين الطبيعية كفيلة بضمان السعادة البشرية، إذا عملت في جو من الحرية المطلقة، وأتيح لجميع أفراد المجتمع التمتع بتلك الحرية في مجالات: التملك، والاستغلال، والاستهلاك.
وقد وضعت الفكرة الأولى البذرة العلمية للاقتصاد الرأسمالي، والثانية بذرته المذهبية.
ولقد ارتبطت الفكرتان حتى خيل للمفكرين الاقتصاديين أن تقيد حرية الأفراد والتدخل في الشؤون الاقتصادية من الدولة، يعني الوقوف في وجه الطبيعة وقوانينها، وبالتالي يعتبر جريمة في حق القوانين الطبيعية العادلة...!
وهذا اللون من التفكير -في حد ذاته- يخرج علم الاقتصاد من حيِّز العلوم الاقتصادية. فالخروج على قانون طبيعي علمي لا يعني أن هناك جريمة ارتكبت في حق هذا القانون، وإنما يبرهن على خطأ هذا القانون، وينزع عنه صفة العلم الموضوعي. فالقوانين الطبيعية لا تختلف في ظل الشروط والظروف المختلفة، وإنما تختلف باختلافها آثارها ونتائجها.
وعلى هذا، لا بد من أن تدرس الحريات الرأسمالية، لا بوصفها ضرورات علمية تحتمها القوانين الطبيعية، وإنما تدرس على أساس مدى ما يتيح للإنسان من سعادة وكرامة، وللمجتمع من قيم ومثل...
وفي الواقع، فإن المذهب الرأسمالي ليس له طابع علمي، ولا يدعي لنفسه هذه الصفة، كما أنه لا يستمد كيانه من القوانين العلمية، كالمذهب الماركسي، وإنما يستمد كيانه من تقديرات مادية بحتة. وتقتصر العلاقة بين الجانب العلمي والجانب المذهبي في تحديد الإطار ومجرى الاتجاه للقوانين العلمية. أي أن القوانين المذكورة لا تعمل إلا في ظل الظروف الاجتماعية التي تسيطر عليها الرأسمالية بجوانبها الاقتصادية وأفكارها ومناهجها، وليست مطلقة كالقوانين الفيزيائية والكيميائية، تنطبق على كل مجتمع وفي كل زمان ومكان.
ولا بد لإيضاح ذلك من إلقاء بعض الضوء على عدد من القوانين الاقتصادية المذكورة لكي نعلم كيف، وإلى أية درجة يمكن الاعتراف لها بصفة العلم.
آ- قوانين الاقتصاد الرأسمالي العلمية
قانون العرض والطلب :
-هذا القانون القائل: "إن الطلب على سلعة إذا زاد، ولم يكن في المقدور زيادة الكميات المعروضة استجابة للزيادة في الطلب، فإن ثمن السلعة لا بد أن يرتفع".
هذا -في الواقع- ليس قانوناً موضوعياً كقوانين الفيزياء والفلك. وإنما يمثل ظواهر الحياة الواعية للإنسان. فهو يوضح أن المشتري سيقدم -في مثل الحالة المذكورة- على شراء السلعة بثمن أكبر من ثمنها، وأن البائع سيمتنع عن البيع إلا بذلك الثمن.
ونظراً لعلاقته بإرادة الإنسان، فهي تتأثر بكل المؤثرات التي تطرأ على الوعي الإنساني. فليس صحيحاً من الناحية الإنسانية أن الإرادة الإنسانية في مجرى الحياة الاقتصادية تسير دائماً، وفي كل مجتمع، كما تسير في المجتمع الرأسمالي، ما دامت المجتمعات تختلف في إطاراتها الفكرية والمذهبية والروحية، وليست بالضرورة غارقة في ضرورات المادة ومفاهيمها إلى قمتها.
فالرأسمالية، كما رأينا، مثلها مثل الاشتراكية، من أجل تدويل نظامها وفرضه على كافة شعوب العالم، أرغمتهم مسبقاً بأن يتقولبوا بقولبها الفكري والروحي والإحساسي والنفسي، بغسل أدمغتهم -تحت شعار التطور- لكي يتكون لديهم ذات الإحساس بالمشاكل التي ادعتها ومن ثم حتمت عليهم ذات الحلول لكي تفرض -من خلالها- سيطرتها على العالم أجمع..
فالقاعدة الرئيسية التي وضع في ضوئها كثير من القوانين الاقتصادية الكلاسيكية تجرد الإنسان من كل الروابط الاجتماعية -فيما عدا المادة- وتفترض أن كل إنسان، هو في قرارة نفسه، إنسان اقتصادي يؤمن بالمصلحة المادية الشخصية كهدف أعلى. وهذه القاعدة، لا تنطبق إلا على المجتمع الرأسمالي الأوروبي، وطابعه الفكري والروحي، وأساليبه الخلقية والعملية. إلا أنها -كما رأينا- تسربت، من خلال غسل الأدمغة الدائم، عن طريق الاستعمار الثقافي والعلمي والاقتصادي.. الخ إلى المجتمعات الأخرى في كل ركن من أركان المعمورة.(2/151)
فأين ما كان دائراً في المجتمعات الإسلامية في عصورها الزاهرة، مما يدور فيها الآن؟ ويمكننا أن نورد -على سبيل المثال- الفقرة التالية في وصف الإجارات والتجارات للشاطبي:
(( نجدهم في الإجارات والتجارات، لا يأخذون إلا بأقل ما يكون من الربح أو الإجرة، حتى يكون ما حاول أحدهم من ذلك كسباً لغيره لا له. ولذلك بالغوا بالنصيحة فوق ما يلزمهم. فكأنهم وكلاء للناس لا لأنفسهم، بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم -وإن جازت- هي كالغش لغيرهم ))
وإلى عهد غير بعيد، وقبل أن يستفحل الغزو الثقافي الغربي في المجتمع الإسلامي، كان سائداً في أسواق الباعة التقليديين في حلب، عندما يطلب شخص من بائع شراء حاجة أن يجيبه: "اذهب إلى جاري- إنني استفتحت (أي بعت شيئاً)، بينما جاري لم يستفتح بعد...!".
من هنا ندرك مدى الخطأ في إخضاع مجتمع، كان يتمتع بمثل هذه الخصائص والمقومات، لنفس القوانين التي يخضع لها مجتمع رأسمالي زاخر بالأنانية والمفاهيم المادية.
ولقد شهد الربع الأخير من هذا القرن كيف أن المسيطرين على الفكر الرأسمالي يتلاعبون بالعرض والطلب، ويخلقون القوانين العلمية حسب مصلحتهم.
وإلا..! ما الذي أدى في أوائل الثمانينات إلى أن تهبط أسعار البترول من 42 دولاراً للبرميل إلى ما دون السبع دولارات؛ وتنهار أسعار المواد الأولية الأخرى إلى أدنى مستوى شهدته في تاريخها، هذا، بينما كان الاقتصاد الغربي يواصل نموه بشكل جيد في النصف الثاني من الثمانينات؟!.. إن الزوبعة الكاذبة والضالة التي خلقوها بإيهام البلدان البترولية بوصولهم إلى خلق مواد بديلة للطاقة. في ذلك الحين، وتحول البترول إلى مادة نتنة سوف تفسد في آبارها، هي التي أدت إلى السرعة المدهشة في زيادة الإنتاج وفيضان السوق الأوروبية والغربية برمتها ومخازنها بالبترول وتخلي الحكام عن سياساتهم التي كانت معتمدة للحد من إهدار الطاقة، هذه المادة النادرة، والقابلة للنفاد عن قريب، والتي هي بمثابة الشريان الرئيسي الذي يمد الحياة إلى كافة المرافق الحيوية، ليس في الغرب وحده، بل في العالم أجمع، بعد أن أصبحت بفعل التدويل، على النمط الغربي في كافة متطلبات الحياة.
وأين هو القانون الذي كان لا بد أن يعمل في ظل الانتعاش الاقتصادي العالمي لينعكس -كما كان في السابق- بارتفاع أسعار الطاقة والمواد الأولية بدل انخفاضها؟!..
إن هذا الانخفاض الفاحش لأسعار الطاقة والمواد الأولية الأخرى، كان -في الواقع- هو الذي أدى إلى انخفاض معدلات التضخم في البلدان الغربية إلى مستوى لم تشهده من قبل (من العشرينات إلى الرقم الواحد أو الرقمين)، هذا، بينما تصاعدت في البلدان المسروقة أضعافاً مضاعفة لدرجة أصبحت كلفة الحياة فيها تفوق كلفتها في البلدان الغربية إلى حدٍ كبير، مع الاختلاف الفاحش بمستوى الدخل (من عشرات إلى مئات المرات). وهكذا، فقانونهم في العرض والطلب يسرق المواد الأولية وثروات شعوبهم بأسعار شبه مجانية، ويسرق دخول هذه الشعوب التافهة ببضائعهم الباهظة الثمن.
فكيف لنا ألا نتصور أن هذا النظام سوف يؤول بالقسم الأكبر من بلدان العالم إلى الدمار الكامل، وإلى شعوبها بالإبادة جوعاً وسقماً وبلاءً...!؟
- قوانين توزيع الدخل.
إن هذه القوانين، كما شرحها ريكاردو وغيره من الأقطاب الكلاسيكيين، تقضي بتخصيص جزء من الإنتاج أجراً للعامل يحدد وفقاً لقيمة المواد الغذائية القادرة على إعاشته والاحتفاظ بقواه للعمل، ويقسم الباقي على شكل: ربح، وفائدة، وريع .
لقد استخلص الاقتصاد الرأسمالي من ذلك أن للأجور قانوناً حديدياً لا يمكن بموجبه أن تزيد الأجور أو تنقص، وإن زادت أو انخفضت كمية النقد التي يتسلم بها العامل أجره تبعاً لارتفاع قيمة المواد الغذائية وهبوطها.
ويتلخص هذا القانون الحديدي في أن العمال إذا ازدادت أجورهم لسبب ما، فسوف تتحسن حالتهم المعيشية ويقدمون بصورة أكثر على الزواج والتناسل، فتكثر الأيدي العاملة، ويتضاعف العرض، فتنخفض الأجور إلى الحد الطبيعي.
وإذا حدث العكس أدى ذلك إلى انتشار البؤس والمرض في صفوفهم، فيقل عددهم وتنخفض كمية العرض، فترتفع الأجور.
وبهذا، فقد بات الإنسان في ظل الحرية الرأسمالية نفسه سلعة خاضعة لقوانين العرض والطلب، وأصبحت الحياة الإنسانية رهناً لهذه القوانين، وبالتالي رهن القانون الحديدي للأجور. فإذا زادت القوى البشرية العاملة، وزاد المعروض منها على مسرح الإنتاج الرأسمالي، انخفض سعرها لأن الرأسمالي سوف يعتبر ذلك فرصة حسنة له على حساب أتعاب الآخرين، فيهبط بأجورهم إلى مستوى لا يحفظ لهم حياتهم، كما قد يقذف بعدد هائل منهم إلى الشارع يقاسون آلام الموت جوعاً، لا لشيء إلا لأنه يتمتع بحرية غير محدودة. والأمل الوحيد الذي تقدمه الرأسمالية للطبقة العمالية المذكورة هو في انخفاض عددهم بسبب تراكم البؤس والشقاء والموت من الجوع، لكي يقل عددهم، ويزيد الطلب عليهم على العرض لترتفع أجورهم وتتحسن أحوالهم.
هذا القانون الذي يتقدم به إلينا الاقتصاديون الكلاسيكيون بوصفه تفسيراً علمياً، وقانوناً طبيعياً للحياة الاقتصادية، لا ينطبق، في الحقيقة -إلا على المجتمعات الرأسمالية التي لا يوجد فيها ضمان اجتماعي عام، ويعتمد التسعير فيها على جهاز السوق. أما في مجتمع يسود فيه مبدأ الضمان الاجتماعي العام لمستوى حياة كريمة كالمجتمع الإسلامي، أو في مجتمع يلغي فيه جهاز السوق ويجرده من وظيفته في تحديد الأسعار تبعاً لنسبة العرض إلى الطلب، كالمجتمع الاشتراكي، فلا تتحكم فيه تلك القوانين أصلاً.(2/152)
والآن، بعد أن فاضت سوق العمل الغربية بالأيدي العاملة -على مختلف المستويات- الوافدة من كل حدبٍ وصوب، بسبب الحروب الدائرة في كل مكان بين الشركات العالمية الأمريكية والأوروبية، بأيدي الشعوب نفسها، وما تمخص عن النظم الاقتصادية المفروضة على العالم من استهتار بالإنسان وتشريده وتجويعه، فإن إجرة العامل هبطت -في كل مكان- إلى دون ما يسمى بعتبة الفقر، خالية من أي ضمان صحي أو اجتماعي، كما أصبح العامل معرضاً للطرد في أية لحظة كانت، وأعتقد أن لذلك أيضاً علاقة بانهيار المعسكر الاشتراكي، فلم يعد هناك من خطر يهدد النظام الرأسمالي من دولة العمال وثورة العمال، بل أصبح العكس هو الصحيح، فالعولمة الأمريكية ومنافستها الأوروبية قد أعلنتا الحرب الطبقية على العمال، وفازت بها...!
وهكذا، فإن الهيكل العلمي للاقتصاد الرأسمالي ليس له صفة القوانين العلمية الموضوعية، فلم يبق منه إلا الإطار المذهبي.
ب- الاقتصاد الرأسمالي كمذهب
يرتكز المذهب الرأسمالي على أركان ثلاثة رئيسية هي:
حرية التملك، وحرية الاستغلال- وحرية الاستهلاك
1- الأخذ بمبدأ الملكية الخاصة بشكل غير محدود:
فالملكية الخاصة، في هذا المبدأ، هي القاعدة العامة التي تمتد إلى كل المجالات، وميادين الثروة المتنوعة، على العكس من المذهب الاشتراكي، ولا يجوز الخروج عنها إلا بحكم ظروف استثنائية، تضطر أحياناً إلى تأميم بعض المشاريع. ويتكفل القانون في المجتمع الرأسمالي بحماية الملكية الخاصة، وتمكين المالك من الاحتفاظ بها.
2- حق كل فرد باستغلال ملكيته وتمكينه من ذلك، والسماح له بتنمية ثروته بمختلف الوسائل والأساليب التي يتمكن منها.
وتستهدف هذه الحرية أن تجعل الفرد العامل الوحيد في الحركة الاقتصادية، إذ ما من أحد أقدر منه على معرفة منافعه الحقيقية وطرق اكتسابها.
3- ضمان حرية الاستهلاك.
فلكل فرد الحرية في إنفاق ماله كما يشاء واختيار نوع السلع التي يستهلكها، ولا يمنع ذلك لجوء الدولة -في بعض الأحيان- إلى منع بعض السلع، مثل المخدرات.
والسؤال الذي يقفز إلى مجال البحث هو: ما هو الهدف من الحرية الاقتصادية؟
والجواب على ذلك -حسب الاقتصاديين الرأسماليين يتلخص فيما يلي:
1- لأن مصالح الفرد التي يندفع إلى تحقيقها بحرية كاملة ودوافع ذاتية محضة، تتوافق مع مصالح المجتمع، فالحرية -على هذا الأساس- ليست إلا أداة لتوفير تلك المصالح العامة، وضمان ما يتطلبه المجتمع من خير ورفاه.
2- لأن الحرية الاقتصادية هي أفضل قوة دافعة للقوى المنتجة، وأكفأ طريقة لتفجير الطاقات والإمكانيات وتجنيدها لزيادة الإنتاج ومضاعفة الثروة الاجتماعية.
3- وهناك فكرة ثالثة ذات طابع خلقي محض وهي: إن الحرية، بوجه عام، هي حق إنساني أصيل، وتعبير عملي عن الكرامة البشرية، وعن شعور الإنسان بها. فليست هي أداة للرفاه الاجتماعي أو لتنمية الإنتاج فحسب، وإنما هي تحقيق لإنسانية الإنسان ووجوده الطبيعي الصحيح. والآن لنستعرض من خلال التطبيق مدى توافق النتائج التي توصلت إليها الحرية الاقتصادية في النظام الرأسمالي مع أهدافها.
1- مفهوم الحرية كوسيلة لتحقيق المصالح العامة.
ذكرنا أن هذه الفكرة ترتكز على أساس الإيمان بأن الدوافع الذاتية تلتقي دائماً مع المصالح العامة والرفاه الاجتماعي، شرط أن تعمل في جو من الحرية المطلقة المجردة من كل قيد من القيم الروحية أو الخلقية، لأنها حرية حتى في تقدير هذه القيم. فالأفراد أحرار في التقيد في تلك القيم أو رفضها.
فعن طريق التنافس الحر بين مختلف المشاريع الإنتاجية، يعمل صاحب المشروع بدافع من مصلحته الخاصة على تحسين مشروعه والاستزادة من كفاءته حتى يحتفظ بأسبقيته على سائر المشاريع. وأن جزاء من يتخلف عن هذا السباق هو إفلاس مشروعه. فالمنافسة الحرة في النظام الرأسمالي سيف مسلط على رقاب المنظمين يطيح بالضعيف والمهمل والمتكاسل، ويضمن البقاء للأصلح.
لقد أصبح اليوم حديث التوافق بين المصالح العامة والدوافع الذاتية في ظل الرأسمالية والحرية المطلقة أدعى للسخرية منه للقبول. فالمنافسة الحرة من كل قيد، لم تؤد -في الواقع- إلى إشباع الحاجات الإنسانية بأقل نفقة ممكنة، بل إلى تخفيض نفقات الإنتاج بأقل أجر ممكن لليد العاملة ونقل الإنتاج للخارج، وتسريح العمال، وإعادة الهيكلة. فعلى سبيل المثال، إن أكثر بلدان العالم إنتاجية وثراء (أمريكا) أصبحت أكثر اقتصاديات العالم سرقة للأجور. فالمنافسة المتصاعدة تسببت في إصابة ما يزيد على نصف السكان بالفزع. ففي عام 1995 حصل أربعة أخماس مجمل المستخدمين والعمال الذكور في الولايات المتحدة الأمريكية، عن كل ساعة عمل، على مبلغ تقل قيمته الشرائية عما كانوا يحصلون عليه عام 1973 بمقدار 11%، أي أن المستوى المعيشي الفعلي للغالبية العظمى للشعب الأمريكي قد انهار في العقدين الأخيرين مع بلوغ أمريكا مرتبة "أكثر اقتصاديات العالم إنتاجية"، وفرحة كلينتون بالازدهار الذي يعم الاقتصاد الأمريكي "على نحو لا مثيل له منذ ثلاثين عاماً". هذا، علماً بأن الأجر قد انخفض بالنسبة للثلث الأدنى في سلم الدخول على نحو أشد مما سبق: فهذه الملايين من السكان صارت تحصل على أجر يقل بمقدار 25 % عما كان سائداً قبل عشرين عاماً.
وهذا لا يعني أن المجتمع الأمريكي، إجمالاً، هو الأفقر. إذ لم يسبق أبداً أن حاز الأمريكيون على ما يحوزون عليه اليوم من الثروة والدخول. إلا أن المشكلة تكمن فقط في أن النمو المتحقق هو برمته من حصة الخمس الثري، أي من حصة العشرين مليون عائلة لا غير، حسب الإحصاءات.(2/153)
وحتى في إطار هذه الفئة يتوزع الدخل توزيعاً غير عادل على نحو شديد للغاية. فواحد بالمائة من أثرى العائلات تضاعف دخلها مرات عديدة منذ 1980. وهكذا، أضحى أغنى الأغنياء، أي حوالي نصف مليون مواطن يمتلكون اليوم ثلث الثروة التي يمتلكها الأهالي في الولايات المتحدة الأمريكية. وانعكست هذه الثمار على مديري المشروعات الكبيرة. الذين ارتفع دخلهم، العظيم أصلاً، بشكل صاف بمقدار 250% خلال السنوات السبع الأخيرة.
ويحصل غالبية هؤلاء المديرين الكبار على رواتبهم العالية إكراماً لما يبذلون من جهد يرمي إلى تخفيض تكاليف العمل من ناحية الأجور، بكافة السبل بما فيها الانتقال من الوطن إلى أي بقعة من بقاع العالم.
فعلى سبيل المثال، تشغل المشروعات الأمريكية في المكسيك ما يقرب من نصف مليون عامل بأجر يقل عن دولار واحد في اليوم. أضف إلى هذا، أن هؤلاء العاملين لا يحصلون على أية مدفوعات اجتماعية كالتأمين الصحي أو الضمان الاجتماعي. وفي كافة القطاعات طور المديرون القياديون استراتيجيات يستطيعون من خلالها تفادي تأسيس أية تنظيمات تدافع عن مصالح العاملين لديهم. وكما قال lester Thurou (لستر ثارو): "إن بوسع المرء أن يدعي أن من في أمريكا من رأسماليين، قد أعلنوا الحرب الطبقية على عمالهم، وأنهم قد فازوا بها".
والسؤال الذي يفرض نفسه في الوقت الحاضر، إذا كان هذا هو عليه الحال في أمريكا، قلب الحرية النابض؛ فإلى أي مدى يمكن أن تضمن الدوافع الذاتية للرأسماليين فيها تحقيق المصالح العامة في مختلف المجتمعات.
وبمعنى آخر، هل تتوافق المصالح الخاصة للمجتمع الرأسمالي مع مصالح غيره من المجتمعات البشرية، وخاصة بعد أن مد أجنحته لتطال، عن طريق العولمة، كل بقعة من بقاع العالم، مع ما ذكرنا من تجرده المذهبي من كل الإطارات الروحية والخلقية. ألسنا نعيش في الوقت الحاضر نظام السخرة واستعباد الشعوب في أراضيها لحسابه واستعبادها لقضاء دوافعه الذاتية فقط؟!
والواقع التاريخي للرأسمالية هو الذي يجيب على هذا السؤال.
فكلنا يعلم ما قاسته الإنسانية على أيدي المجتمعات الرأسمالية نتيجة لفراغها الروحي، وانهيارها الخلقي. فالحرية الاقتصادية التي لا تحدها حدود معنوية، هي من أفتك أسلحة الإنسان بالإنسان، وأفظعها إمعاناً في التدمير والخراب. لقد كان من نتاج هذه الحرية مثلاً، تسابق الدول الأوروبية بشكل جنوني على استعباد البشر الآمنين وتسخيرهم في خدمة الإنتاج الرأسمالي. وتاريخ أفريقيا وحدها صفحة من صفحات ذلك السباق المحموم، تعرضت فيه القارة الأفريقية لطوفان من الشقاء، إذ قامت دول عديدة كبريطانيا، وفرنسا، وهولندا وغيرها، باستيراد كميات هائلة من سكان أفريقيا الآمنين، وبيعهم في سوق الرقيق، وتقديمهم قرابين للعملاق الرأسمالي. وكان تجار تلك البلاد يحرقون القرى الأفريقية ليضطر سكانها إلى الفرار مذعورين، فيقوم التجار بكسبهم وسوقهم إلى السفن التجارية التي تنقلهم إلى بلاد الأسياد. وما قيام بريطانيا، فيما بعد بحملة واسعة ضدهم وضد القرصنة، إلا تمهيداً لقرصنتها وحدها، حيث أتت بأسطولها الفخم إلى سواحل أفريقيا، واحتلت مساحات كبيرة على الشواطئ الغربية وبدأت بعملية استعباد لا نظير لها في التاريخ.
ومن العبودية والاستعمار البريطاني، عانت القارة خلال مدة نصف قرن خلت من فظائع الحروب والانقلابات على أيدي النظامين المسيطرين على العالم، الشرقي والغربي على السواء. وبقيت تتأرجح من أيدي الماركسيين إلى أيدي ما يسمى بالديموقراطيين، مع كل ما تبع ذلك من قلب بنياتها رأساً على عقب، وتبديد ثرواتها، ونهك قيمها الروحية والفكرية، وسرقة كل ما هو ضروري لحياة شعوبها. وها هي تحت ظل نظام العولمة الجديد، تحل فيها قرصنة أمريكا بأجلى صورها. فمع اعتذار الرئيس الأمريكي كلينتون لها من التاريخ، تشعل فيها الحروب الطاحنة من كل حدبٍ وصوب بين الشركات الأمريكية، الغازين الجدد، والشركات الأوروبية الغزاة التقليديين، لاغتصاب ثرواتها المعدنية الدفينة، هذه الحروب التي تجري بأيدي شعوبها بالذات وباسم الديموقراطية والحرية..!
فهل لنا أن نعتقد بأن الحرية الرأسمالية. التي تعمل دون أي اعتبار روحي أو خلقي، بإمكانها أو تستطيع تحويل جهود البشر في سبيل مكاسبهم الخاصة، إلى آلة تضمن المصالح العامة والرفاه للجميع؟!...
وهذا، في الواقع، لا يقتصر على أفريقيا وحدها، بل يشمل جميع أنحاء العالم التعيس. فحمى التخصيص، في ظل العولمة، وما يرافقها من تسريحات عشوائية للعمال، نتيجة الصهر والإندماج للمؤسسات الإنتاجية والمرافق العامة، والسلب لقواهم الشرائية وحقوقهم الاجتماعية والصحية.. الخ، لم تستثنِ أي بلد على الإطلاق، وهي بصفتها حرب ضارية على الطبقة العاملة، ليست كبقية حروب الطبقات التي شاعت منذ أوائل القرن حتى الآن؛ ذلك أنها تصيب ما يزيد على 95% من الجنس البشري على وجه الكرة الأرضية، بعد أن نسف من الوجود كل منتج خاص أو تقليدي، وتحول القسم الأعظم منها، في كافة فروع الإنتاج إلى عمال، واقتصرت الفعاليات الاقتصادية على الشركات العالمية في كل مكان. وهكذا، تحولت الرأسمالية إلى سلاح جاهز بيد الأقوياء يشق لهم الطريق، ويعبد أمامهم سبل المجد والثروة على جماجم الآخرين...!
2- الحرية سبب لتنمية الإنتاج
لا بد لإيضاح هذا الخطأ الجسيم من عرض بعض نتائج تنمية الإنتاج في ظل الحرية الرأسمالية:
لنتساءل أولاً: ما هي المشاريع التي نما إنتاجها في ظل الحرية المطلقة المقرونة بألوان لا حصر لها من الظلم والاستهتار والجشع والطمع؟!(2/154)
إنها -بدون شك- المشاريع القوية التي حطمت غيرها من المشاريع (دون حاجة إلى تأميم)، وبدأت بالاحتكار تدريجياً إلى أن قضت على كل لون من ألوان التنافس وثمراته في مضمار الإنتاج. وتحولت بذلك المنافسة إلى صفر.
فالتنافس الحر الذي يواكب الحرية بالمعنى الذي يسمح بزيادة الإنتاج، لا يواكب الحرية والرأسمالية إلا شوطاً محدوداً، ثم يخلي الميدان بعد ذلك للاحتكار، الذي ينجم عنه تراجع النمو الاقتصادي نتيجة الجشع والطمع من جهة المنتجين، وتضاؤل القوة الشرائية لدى المستهلكين، وهكذا فإن النظام الاستهلاكي يقضي على المستهلكين...!
إن الزيادة في الإنتاج -في الواقع- لم تقترن بانخفاض الأسعار، لفقدان المزاحمة رغم انخفاض كلفة الإنتاج بسبب انهيار أسعار المواد الأولية، وسرقة حقوق العمال، ولم تترافق بتوفير قدر أكبر من السعادة للمجتمع الرأسمالي نفسه، نظراً لسوء التوزيع الذي رافق الوفرة في الإنتاج.
والمذهب الرأسمالي أعجز ما يكون عن امتلاك الكفاءة التوزيعية التي تضمن رفاه المجتمع وسعادة الجميع. فالرأسمالية -في الواقع- تعتمد في التوزيع على أساس جهاز الثمن. وهذا يعني أن من لا يملك ثمن السلعة ليس له الحق في الحياة. وبذلك يحكم بالموت جوعاً على من كان عاجزاً عن اكتساب هذا الثمن لعدم قدرته على المساهمة في الإنتاج، أو لعدم تهيئة فرصة له للمساهمة، أو لوقوعه فريسة في يد المساهمين الأقوياء الذين سدوا في وجهه كل الفرص. ولهذا كانت بطالة الأيدي العاملة في المجتمعات الرأسمالية من أفجع الكوارث الإنسانية في المجتمعات الأخرى.
فليست المبالغة في كفاءة المذهب الرأسمالي وقدرته على تنمية الإنتاج إلا تضليلاً وستراً للجانب المظلم منه، والذي يحكم بالحرمان من التوزيع على من لا يحصل على القطع السحرية من النقود.
فما الفائدة إذاً من زيادة الإنتاج إذا لم يقترن بالرفاه الاجتماعي العام؟ إن الرفاه العام لا يتعلق بكمية الناتج العام، بمقدار ما يتعلق بكيفية تقسيم هذا الناتج على الأفراد. ولذا فقد قرن الإسلام وشريعته الإلهية التنمية بالتوزيع كما سنرى فيما بعد.
3- الحرية تعبير عن الكرامة الإنسانية
أي بوصفها المظهر الجوهري للكرامة وتحقيق للذات اللذين ليس للحياة بدونهما أي معنى. والمراد بالحرية الجوهرية توفير القدرة والوسائل والشروط التي تعين الفرد على النجاح في عمله كإنسان في ظل الحرية.
والرأسمالية، في الواقع، بعيدة كل البعد عن هذه الحرية بالمعنى الجوهري، وتقتصر على الحرية الشكلية، أي حرية أصحاب الثروات الضخمة في الاستزادة من ثرواتهم بالطرق التي تتفق مع مصالحهم الشخصية، وحريتهم في استخدام العامل أو رفضه، وحرية رجال السلطة في استخدام أتباعهم في أعلى المراكز، ولو لم يملكوا من المؤهلات ما يسمح لهم بذلك وحريتهم في تحويل الخطأ إلى صواب والصواب إلى خطأ، وحريتهم في كم الأفواه التي لا توافقهم، وشطب العلوم التي ليست من مصلحتهم.. الخ.
وهكذا، فإن هذه الحرية الشكلية لا تتأتى إلا لعدد ضئيل جداً من الشعب، بحيث تحولهم -لشدة المبالغة في الحرية- إلى صفة الهمجية، في الوقت الذي يراد منها أن تمثل الصفة الأولى للإنسانية.
فتحت اسم نظام السوق الغوغائي تتحكم في العالم أجمع، في الوقت الحاضر طبقة ضئيلة جداً من الشبان المراهقين، دون علم ولا خبرة ولا إحساس بالمسؤولية، مدعومة بأجهزة تكنولوجية على درجة كبيرة من السرعة والفعالية، ولا تخضع لسيطرة أية حكومة، حتى في أمريكا نفسها، حامية هذا النظام. ويكفي أن يعلن أي مسؤول عن حصول تباطؤ في أي رقم من الفعاليات الاقتصادية في بلاده، حتى تقوم بنزح كل ما لديها من أموال، غدت خفيفة الحركة لاعتمادها على الأسهم والسندات والمضاربات بها وبالعملات، وتؤدي بالبلد، في لمح البصر إلى الإفلاس*.
أما بقية أفراد الشعب، فالحرية الشكلية التي تؤمنها لهم لا تعدو السماح لهم بممارسة مختلف ألوان النشاط الاقتصادي في سبيل الغايات التي يسعون إلى تحقيقها دون أن تعينهم على ذلك.
إن إقرار هذا النوع من الحرية الشكلية، يعني عدم إمكان وضع مبدأ لضمان العمل للعامل، أو ضمان المعيشة لغير العامل من العاجزين، لأن وضع مثل هذه الضمانات لا يمكن أن يتم بدون تحديد تلك الحريات التي يتمتع بها أصحاب العمل وأرباب الثروة.
وهو ما يتنافى مع مبدأ الحرية الشكلية التي تسمح لكل شخص بالتصرف في المجال الاقتصادي كما يريد. ولما كانت الرأسمالية تؤمن بهذا المبدأ، فقد وجدت نفسها مضطرة إلى رفض فكرة الضمان أي فكرة الحرية الجوهرية. ولكن!... لقد تبين -بما لا يدع أي مجالٍ للشك: "أن من يعمل ليعيش وحده، لا بد من أن يزول هو أيضاً، إن آجلاً أو عاجلاً، مع المجموع...
فالحرية -في الواقع- إن كانت نزعة أصيلة في الإنسان لأنه يرفض بطبعه القسر والضغط والإكراه، ولكن لا بد للإنسان من حاجات جوهرية لا معنى للحرية بدونها. فهو بحاجة -مثلاً- إلى شيء من السكينة والاطمئنان في حياته، لأن القلق يرعبه، كما ينغص حياته الضغط والإكراه. فإذا فقد كل الضمانات التي يمكن للمجتمع أن يؤديها له في حياته ومعيشته، خسر بذلك حاجة من حاجاته الجوهرية، وحرم من إشباع ميله الأصيل إلى الاستقرار والثقة، كما خسر حريته كاملة. فالتوفيق الدقيق والحكيم بين حاجة الإنسان الأصيلة إلى الحرية، وحاجته إلى الاستقرار مثلاً في العمل، والثقة في المستقبل، وسائر حاجاته الأصلية الأخرى في الحياة، هو العملية التي يجب أن يؤديها أي مذهب كان للإنسانية، إذا أراد أن يكون عالمياً قائماً على أسس راسخة من الواقع الإنساني.(2/155)
وأخيراً، فإن موقف الرأسمالية من الحرية والضمان ينسجم كل الانسجام مع الإطار العام للتفكير الرأسمالي، لأن الضمان ينطوي على فكرة تحديد حريات الأفراد والضغط عليها، ولا تستطيع الرأسمالية أن تجد لهذا الضغط والتحديد مسوغاً على أساس مفاهيمها العامة عن الكون والإنسان.
إن الضغط والتحديد في الإسلام، يستمد -في الواقع- مبرره من الإيمان بسلطة عليا تمتلك حق تنظيم الإنسانية وتوجيهها في حياتها، ووضع الضمانات المحددة لحريات الأفراد، على ضوء الدين الحنيف، إذ يرى أن للإنسان خالقاً حكيماً من حقه أن يصنع له وجوده الاجتماعي، ويحد طريقته في الحياة لصالحه وصالح الإنسانية جمعاء.
أوجه الالتقاء بين الماركسية والرأسمالية
بعد كل ما تقدم، لسنا بحاجة إلى كثير من الجهد لنبين أن الرأسمالية مقرونة بالحرية المطلقة، تلتقي مع المذهب الماركسي في عدة نقاط جوهرية:
- إن كلا النظامين أعطى القيمة الرئيسية في المجتمع لمالكي وسائل الإنتاج والمسيطرين عليها، وإن مصالح الإنتاج هي التي تحدد القيم التي تحكم المجتمع لا مصالح الإنسان.
- إن وسائل الإنتاج انحصرت في يد الأقوياء في النظامين، في يد رجال الحزب السياسي الذين يملكون السلطة السياسية في النظام الاشتراكي، وفي يد المحتكرين للإنتاج والذين يفرضون رجال السلطة السياسية في النظام الرأسمالي.
وبهذا، فإنهم يجمعون بين السلطة والمال بآن واحد في كلا النظامين*.
ويتساوى النظامان بتدويل نظاميهما وفرضهما على جميع بلدان العالم وشعوبها، وكأن العالم في كل مكان، ورغم بعد المسافات واختلاف العقول والثقافات والمعطيات، يعاني من ذات المشاكل وذات الهموم، ويتقبل ذات الحلول، حتى وإن ثبت أن هذه الحلول غير ناجعة في موطنهم بالذات. هذا، مع كل مازامن هذا التدويل من نبش وقلب للبنيات الأساسية من هذا النظام أو ذاك...
- أليست التحولات التي حصلت لصالح الاشتراكية في بلدان العالم الثالث عن طريق تجريد الزراع والصناع المحليين من وسائل رزقهم وإنتاجهم بغية خلق الطبقة الرأسمالية التي تستطيع أن تشيد المصانع والمزارع الكبيرة التي هي الطريق إلى الاشتراكية، حسب زعمها، أليست هذه التحولات هي نفسها التي فرضها أيضاً النظام الرأسمالي على هذه البلدان باسم التخلص من التخلف، لإحلال الإنتاج المؤسساتي -في الواقع- محلها لصالح الشركات العالمية، وباسم التطور والتقدم؟!...
- أليس في تجريد شعوب بلدان العالم الثالث من ثرواتها الطبيعية، ووسائل إنتاجها، ومهنها، وجعلها تابعة للخارج -في الشرق أو الغرب- ذات المفهوم من العبودية الذي تفسر به الماركسية تحول طبقة أسرى الحرب إلى عبيد للقبائل التي أثرت نتيجة استعبادهم؟
- ألم تعاني شعوب هذه البلدان من سيئات النظامين معاً: جهاز الحكم الدكتاتوري العسكري سياسياً، هبة الماركسية، الذي يبيح لنفسه القتل والسجن والطرد والتعذيب دون حكم أو محاكمة، ويستولي على الممتلكات ويغتصب الحقوق ويتوزعها بين أفراده، والجهاز الاقتصادي الذي لا يرى حرجاً باقتباس النهج الرأسمالي باشنع صوره، والذي يتيح للشركات العالمية الغربية الحرية المطلقة في قلب البلدان أعاليها أسافلها لإبادة كل أثر للإنتاج المحلي بكافة أنواعه، وإعداد البنيات التحتية التي تسهل لها إقامة مؤسساتها الإنتاجية البديلة، على حساب الكروم والبساتين والحقول، التي كانت تغذي الشعوب بأفضل أنواع المنتجات الزراعية وأرخصها*، لإيصال منتجاتها البديلة إلى كل بقعة من بقاع هذه البلدان، وتجعلها تابعة إليها في الغذاء والكساء وكافة الاحتياجات.
- أليس النظامان هما المسؤولان عن إلحاق عملية التفريغ المادي لشعوب بلدان العالم الثالث بالتفريغ الذاتي من الأسس التربوية والأخلاقية والثقافية والعلمية.. الخ وفرض الأسس الغريبة عنهم محلها، من الشرق أو الغرب -حسب الحال- مما جعل السكان الأصليين غرباء في أوطانهم، وعبيداً للأجانب في عقر دارهم؟
هذا، وإذا ما أفاد المذهب الماركسي في شيء، فإنه –مما لا شك فيه- قد أفاد المذهب الرأسمالي، وجعل المنتجين يغدقون بعطاءاتهم للعمال ليسدوا بذلك الطريق الذي يمكن أن تنفذ منه الشيوعية. وما أن زال خطر ثورة العمال المرتقبة، بزوال الاشتراكية نفسها في موطنها بالذات، حتى كشرت السلطات الرأسمالية عن أنيابها، وأخذت بتشليح العمال الضمانات الاجتماعية التي كانت قد منحتهم إياها، وتفننت بألوان التسريح التعسفي، واستغنت أكثر فأكثر عن العمال، وقلصت أجورهم إلى أدنى المستويات، وتحول ثلاثة أرباع المعمورة إلى فقراء..
وها هو ميخائيل كورباتشوف، أخذ يصحو -بعد فوات الأوان- من ثمالة أقداح انتصاره في حركته التصحيحية الميمونة، بعد أن نحي جانباً عشية تأديته واجبه كاملاً نحو أسياده ومخدريه، وأخذ يسير في جنازة شعبه نائحاً، بعد أن سدد له الطعنة المميتة، ليعلق في فندق "الفيرمونت" في سان فرنسيسكو عام 1995، رداً على سؤال أحد الصحفيين التالي:
"إن كنتم تعتقدون أن العالم برمته سيتحول إلى برازيل كبيرة، أعني إلى دول تسودها اللامساواة، مع وجود أحياء مقفلة تسكنها النخب الثرية؟"
فأجاب:
"إنكم بهذا السؤال تطرحون لب المشكلة على بساط البحث.. إنها لحقيقة أن روسيا نفسها أصبحت على شاكله البرازيل".
في الواقع، لقد تحول العالم أجمع إلى برازيل كبيرة... إلا أن هذا لا يعني أن الأسلاك الشائكة، والأجهزة الألكترونية، وكاميرات الليل والنهار، سوف تحمي إلى ما لا نهاية هذه القلة الضئيلة من الأثرياء المتخمين من الطوفان السكاني المتصاعد من الجائعين والمغتصبة حقوقهم والمحرومين، فثورة الجائعين لا ترحم...!
النتيجة.(2/156)
وهكذا، يتبين لنا مما تقدم أن الاقتصاد كعلم قد خسر برهانه العلمي في النظرية الماركسية والرأسمالية على السواء، وأن الاقتصاد كمذهب، على العكس من الأهداف المرسومة له في كلا المذهبين الدوليين قد أثبت فشله في اكتشاف المشاكل الحقيقية التي تعاني منها الشعوب، لأنه بالأصل لا يهدف فعلاً إلى اكتشافها.
وبالتالي، فإن الحلول التي طرحت لمعالجة المشاكل الوهمية قد أتت على النظام الاشتراكي من أساسه، وأنها، مما لا شك فيه، سوف تأتي -إن آجلاً أو عاجلاً- على النظام الرأسمالي، فبذور انحلاله أخذت تترعرع فيه، وما الانفجارات المالية التي اندلعت في كل مكان من آسيا إلى أوروبا الشرقية، إلى أمريكا اللاتينية، وفي القريب العاجل إلى أوروبا الغربية، ومنها إلى كل مكان من المعمورة، سوف لا تستثني أمريكا، القلب النابض في هذا النظام، من الوقوف عن الخفقان...!
وإذا ما كان في تاريخ الإنسانية نظام يستحق أن يعم العالم أجمع لما يغدق على شعوبه من الخير والعدالة والإنسانية والأمان؛ فمما لا شك فيه، إنه النظام السماوي الذي طرحه الإسلام. لقد ضمن فعلاً، في عصوره الزاهرة تحويل شعوب الإمبراطورية الإسلامية التي امتدت في القسم الأكبر من الكرة الأرضية، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، إلى طبقة واحدة؛ ولكنها واحدة بسعادتها ورفاهيتها، ونبوغها، وإنسانيتها وتكافلها مع بعضها، لا إلى طبقة واحدة بشقائها، وفقرها، وتشردها وخوفها على حاضرها ومستقبلها ومستقبل أجيالها، كالنظام الرأسمالي العالمي الجديد... الذي هيمن على العالم وحده في الوقت الحاضر.
والتحديد للحرية في المجتمع الإسلامي لم يكن فقط لصالح المجتمع على حساب الفرد، ولا لصالح الفرد على حساب المجتمع، ولم يكن زجرياً بأكثريته بل كان يتكون في ظل التربية الخالصة التي ينشئ الإسلام عليها الفرد في المجتمع، ويصوغ شخصيته ضمنها. إن لتلك الإطارات قوتها المعنوية الهائلة التي توجه الأفراد توجيهاً صالحاً دون أن يشعروا بسلب شيء من حريتهم. ولذا، فإن هذا التحديد الذاتي لم يكن -في الحقيقة- تحديداً للحرية، وإنما هو عملية إنشاء للمحتوى الداخلي للإنسان الحر، إنشاءً صالحاً بحيث تؤدي الحرية في ظله رسالتها الصحيحة.
فبينما يقول القرن الثامن عشر: "لا يجهلن سوى الأبله، إن الطبقات الدنيا يجب أن تظل فقيرة، وإلا فإنها لن تكون مجتهدة" (آرثر يونج)؛
ويقول القرن التاسع عشر: "ليس للذي يولد في عالم تم امتلاكه حق في الغذاء إذا تعثر عليه الظفر بوسائل عيشه عن طريق عمله أو أهله، فهو طفيلي على المجتمع، ولا لزوم لوجوده، فليس له على خوان الطبيعة مكان، والطبيعة تأمره بالذهاب"(مالتوك)
يقول الإسلام قبل هؤلاء بألف سنة: "إن الفقر والحرمان ليسا نابعين من الطبيعة نفسها، وإنما نتيجة لسوء التوزيع والإنحراف عن العلاقات الصالحة التي يجب أن تربط الأغنياء بالفقراء"؛ ويقول علي كرم الله وجهه:
" ما جاع فقير إلا بما متع به غني"
إن هذا الوعي لقضايا العدالة الاجتماعية في التوزيع، لا يمكن أن يكون وليد المحراث والصناعة البدائية اليدوية، رداً على مفهوم المادية التاريخية، ولا وليد الحرية المطلقة في استغلال الإنسان لأخيه الإنسان المشروطة في النظام الرأسمالي، إنه يكمن في الإنسان ذاته، الإنسان الذي رباه الإسلام فأحسن تربيته، والذي تعتبره كافة الأديان السماوية خليفة لله في الأرض...!
فما هو الإسلام؟
وما هي حقوق الإنسان في الإسلام؟.
- ××× -
القسم الثاني :
الاقتصاد في الإسلام
كعلم أو مذهب
مقدمة: الثورة في المفهوم الإسلامي
يعتقد المفكرون الغربيون، ومن يجري في إثرهم من المستغربين أن الإسلام هو عبارة عن دين وليس باقتصاد، عقيدة وليس بنهج للحياة، علاقة بين العبد وربه، وليس أساساً لثورة اجتماعية اقتصادية صالحة لكل زمان ومكان.
لقد غاب عن خلدهم أن الإسلام هو ثورة حقيقية لا تنفصل فيها الحياة عن الإيمان، وأن المفهوم الاجتماعي فيه يشكل جزءاً لا يتجزأ من المضمون الروحي (لأن الله غني عن العالمين)، وأن هذه الثورة هي وحيدة من نوعها في التاريخ الإنساني.
والوحدانية هي جوهر الإيمان في الإسلام. فهو يحرر الإنسان من كل شكل من أشكال العبودية ما عدا الله (لا إله إلا الله)، وذلك يعني أنه يرفض كل شكل من أشكال "المعبود"، خلال تعاقب الأزمان. وهذا يقود بالذات إلى تحرير كافة ثروات الطبيعة من كل نوع من أنواع الملكيات ما عدا الله، وهنا يربط الإمام علي كرم الله وجهه بين هذين المفهومين في قوله:
"إن العبيد هم عبيد الله، وإن الثروات هي ثروات الله".
وبذلك، فقد هدم الإسلام كل القيود الشكلية، وكل السدود التاريخية التي كانت تمنع الإنسان من السعي الدائم والحثيث من الاتصال بربه والسعي في الأرض لكسب رزقه، سواءً ما كان منها مصطنعاً تحت تأثير الخوف من قوى أسطورية، أو ما كان منها بشرياً، كظالم أو متجبر أو جماعة صغيرة مسيطرة ومستغلة تراكم الأموال على حساب الشعوب وتحول بينها وبين تأمين مستلزماتها الحياتية، وتفرض عليها علاقات تتصف بالعبودية.
من هنا، فقد ناضل النبي في الإسلام، كما ناضل كافة الأنبياء في بقية الأديان، نضالاً ثورياً ضد كل شكل من أشكال الظلم والاستغلال والعبودية. وكما ثاروا لتحرير الإنسان من الداخل لكل شكل من أشكال العبودية لغير الله، فقد جاهدوا لتحرير الأرض وثرواتها من الخارج. وقد لقب التحرير الأول: "الجهاد الأكبر"، والتحرير الثاني: "الكفاح الأصغر، بمعنى أن الأخير لا يتسنى له أن ينجح ويحقق هدفه إلا في إطار الأول. ويستنتج من ذلك:(2/157)
1- أن الثورة لا تسمح بأن يحل مستغل محل مستغل آخر، ولا أي شكل من الظلم محل شكل آخر، ذلك أنه في الوقت نفسه الذي حرر فيه الإنسان من الاستغلال الخارجي، فقد حرره من داخله من ينابيع الاستغلال للغير الكامنة فيه، وذلك بتغيير مفهوم العالم والحياة بالنسبة إليه.
ولذلك، فالثورة في المفهوم الإسلامي تختلف اختلافاً جذرياً عنها في المفهوم الغربي والشرقي على السواء. فليست في إحلال الرأسمالية محل الإقطاعية، ولا في إحلال الطبقة العاملة محل الطبقة الرأسمالية، أي ليس المقصود منها تغيير أسماء المستغل، وإنما محوه من جذوره وتحرير الإنسان من كل شكل منافٍ للعدالة الإنسانية من الخارج ومن داخل نفسه بالذات (لأن النفس أمارة بالسوء...)
2- إن كفاح الأنبياء ضد الظلم والاستغلال، لم يأخذ شكل كفاح الطبقات، كما هو الحال في كثير من الثورات الاجتماعية في التاريخ، حيث أنها ثورة إنسانية هدفها تحرير كل إنسان، من أية طبقة كان، وتحريره من شيطانه في الداخل أولاً. فليس كل إقطاعي ظالماً، وليس كل غني مستغلاً ولا كل عامل ملاكاً، ولا كل فلاح نبيلاً..! ولذا، فقد سمى النبي الكريم هذا الكفاح "الكفاح الأكبر".
وبفضل هذا الكفاح استطاع الإسلام أن يحقق مطالب الكفاح الأصغر، بحيث أيقظ في كافة النفوس مكامنها الخيرة والحسنة، وفجر فيها الطاقات الإبداعية، وقضى على جذور السيئات في أعماقها.
إن الثوري الذي يتابع خط الأنبياء، في "الكفاح الأكبر"، ليس بذلك الإنسان المستغل الذي يحسب أنه يستمد قيمته من امتلاك وسائل الإنتاج، ووسائل السيطرة والنفوذ في الأرض، فيلجأ إلى اقتناصها من أيدي المالكين الأصليين واقتنائها في حوزته، حاسباً بأن انتماءه إلى طبقة المستغلين هو الذي يحدد مكانه في النضال الاجتماعي. إن الثوري الذي يسير في خط الأنبياء، هو ذلك الإنسان الذي يستمد قيمته من جهوده التي يبذلها بالتقرب من الله عن طريق نفعه لعباده "أحبهم إلى الله أنفعهم لعباده"، واتصافه بكافة القيم الإنسانية، والذي يضارع بضراوة كل أشكال الاستغلال التي يعتبرها اختلاساً للقيم الإنسانية، والانحراف بها عن مسيرها الحقيقي وتحقيق أهدافها الكبرى، نحو إلهائها بالتفتيش عن الغنى والإثراء الفاحش بشتى الوسائل.
إن ما يحدد هذا الوصف الثوري الذي يتبع خط الأنبياء هو درجة نجاحه في الكفاح الأكبر، وليس وضعه الاجتماعي، ولا الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها.
وسنتناول عناصر البحث في الاقتصاد الإسلامي، على منوال البحث في النظامين الماركسي والرأسمالي، بمحاولة الفصل إلى علم ومذهب، علماً بأن الإسلام لا يدعي لاقتصاده بصفة العلم. وقد سبق أن نفينا أيضاً صفة العلم عن كل من النظامين الاقتصاديين السابقين.
آ- الاقتصاد الإسلامي كعلم
إن المذهب الإسلامي لا يزعم لنفسه الطابع العلمي، كالمذهب الماركسي، كما أنه ليس مجرداً عن أي أساس عقائدي معين أو أية نظرة إلى الحياة والكون سوى النفع المادي، كالمذهب الرأسمالي. وقد أثبتنا فيما سبق أنهما لا يملكان بالفعل صفة العلم.
وبمعنى آخر، فالاقتصاد الإسلامي ليس علماً مصطنعاً لقوانين يعتبرها طبيعية، وهي -في الواقع- غير طبيعية (الماركسية)، ولا كعلم الاقتصاد السياسي الذي يراقب ويحسب ليقدم التفاسير والتعليلات التي لا طائل تحتها (فالتعديلات التي تطرأ عليه كل عام تتجاوز الأسس الثابتة، وتذخر بالتناقضات).
فالاقتصاد الإسلامي -كما ذكرنا- هو ثورة لقلب الواقع الفاسد وتحويله إلى سليم. إنه ثورة من داخل النفس على النفس الأمارة بالسوء لكي تصبح كريمة سخية عادلة جديرة بصفة الإنسان. إنه تغيير الواقع، لا وصف وتفسير له. كما أنه ليس علماً افتراضياً مرسوماً في أروقة المكاتب، والذي جاءت نتائجه خاطئة وبعيدة جداً عن الواقع.
وما لنا وكلمة العلم في هذا المجال. فلم يسبق في تاريخ الحضارات التليدة التي تعاقبت على الكون، في عظمتها وجلالها وسموها وعبقريتها، أن ادعت حضارة أن اقتصادياتها كانت تقوم على العلم، أو أنها ابتدعت نظريات علمية اقتصادية، خاصة وقد ثبت لنا أن الاقتصاد العلمي، بشقيه الشرقي والغربي، لاقى فشلاً ذريعاً في نظرياته خلال مدة لم تتجاوز النصف قرن، بينما استمر الإسلام ينشر رايته الخيرة، ويسبغ السعادة والرفاهية على الشعوب كافة مدة قرون عديدة. فما هي الأسس التي بني عليها المذهب الاقتصادي في الإسلام.
ب- الاقتصاد الإسلامي كمذهب
الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي:
يتميز الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي بأركان رئيسية ثلاثة تختلف عن سائر المذاهب الاقتصادية الأخرى وهي:
1- مبدأ الملكية المزدوجة
2- مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود
3- مبدأ العدالة الاجتماعية.
1- مبدأ الملكية المزدوجة
يختلف الإسلام عن الرأسمالية والاشتراكية في نوعية الملكية التي يقررها اختلافاً جوهرياً.
فالرأسمالية تؤمن بالملكية الخاصة كقاعدة عامة، لمختلف أنواع الثروة في البلاد، ولا تعترف بالملكية العامة إلا حين تفرضها الضرورة الاجتماعية القصوى.
والاشتراكية، على العكس من ذلك، تعتبر فيها الملكية الاشتراكية أو ملكية الدولة بمثابة المبدأ العام الذي يطبق على كل أنواع الثروة في البلاد.
أما الإسلام، فيقر الأشكال المختلفة للملكية في وقت واحد. فيضع مبدأ الملكية المزدوجة (الملكية ذات الأشكال المتنوعة) بدلاً من مبدأ الشكل الواحد للملكية الذي أخذت به الرأسمالية والاشتراكية. فهو يؤمن بالملكية الخاصة، والملكية العامة، وملكية الدولة. ويخصص لكل شكل من هذه الأشكال حقلاً خاصاً تعمل فيه. دون أن يعتبر شيئاً منها شذوذاً واستثناءً، أو علاجاً مؤقتاً اقتضته الظروف.(2/158)
ولهذا، كان من الخطأ أن يسمى المجتمع الإسلامي مجتمعاً رأسمالياً، وإن سمح بالملكية الخاصة، لأن الملكية الخاصة بالنسبة إليه ليست هي القاعدة العامة. كما أن من الخطأ أن نطلق على المجتمع الإسلامي اسم المجتمع الاشتراكي، وإن أخذ بمبدأ الملكية العامة، لأن الشكل الاشتراكي للملكية ليس هو القاعدة العامة في رأيه.
وكذلك من الخطأ أن يعتبر مزجاً مركباً من هذا وذاك، لأن تنوع الأشكال الرئيسية للملكية في المجتمع الإسلامي، لا يعني أن الإسلام مزج بين المذهبين وأخذ من كل منهما جانباً، وإنما يعبر ذلك التنوع في أشكال الملكية عن تصميم مذهبي أصيل، قائم على أسس وقواعد معينة، وموضوع ضمن إطار خاص من القيم والمفاهيم تناقض الأسس والقواعد التي قامت عليها الرأسمالية الحرة والاشتراكية الرأسمالية.
فتحديد نوع الملكية يمكن أن يستوحى من الطبيعة ذاتها للثروات الطبيعية:
فالملكية العامة، كمنابع، المياه، والأحراش، والمراعي ومصادر الطاقة، والثروات المعدنية عموماً هي، كالشمس والهواء ملك لكل ما خلق الله على وجه الأرض.
فهي ملكية مشتركة منع الإسلام الفرد من الاختصاص بها، وفرض ألا يتملك منها إلا بقدر حاجته.
وحتى المعامل التي تقوم باستثمار هذه الثروات يجب أن تكون مشتركة لأن الإنتاج من حق المجموعة. فإذا ملك فرد مصنعاً لاستخراج هذه الثروات، فهذا يعني أنه سيستخرج منها أكثر من حقه فيها، أي ما هو حق لمجموع أفراد المجتمع.
ولذا، فعلى الجماعة الممثلة بالدولة أن تتولى تنظيم استخراج هذه المواد وتوزيعها على المجموع لأن الفرد سيلجأ إلى بيعها للناس وهذا لا يجوز لأنها من حقهم على الدولة.
نظرة الإسلام العامة إلى الأرض
تقسم الأرض إلى قسمين:
- الأرض العامرة طبيعياً: وهي التي وفرت لها الطبيعة شروط الحياة والإنتاج من ماء ودفء ومرونة في التربة وما إلى ذلك.
- الأرض الميتة: وهي التي بحاجة إلى جهد إنساني يوفر لها تلك الشروط.
فالأرض العامرة هي ملك للدولة، وكذلك بالنسبة للأرض الميتة، أي ذات طابع عام للملكية. إلا أن إحياء الأرض الميتة، أي إنفاق الفرد جهداً خاصاً على أرض ميتة، يمنح هذا الفرد الحق بالانتفاع بالأرض، ما دام عمله مستمراً في الأرض، فإذا استهلك عمله، أو توقف عن استثمارها سقط حقه فيها. أي أن العمل في الأرض ليس سبباً لتملك الفرد رقبة الأرض وإنما سبباً لحقه في الانتفاع فيها فقط. ويسمح الإسلام من الناحية النظرية للإمام بفرض الضريبة عليه لتساهم الإنسانية كلها في الاستفادة من الأرض، التي هي -في الأصل- ليست ملكاً أو حقاً لأي فرد، إنها هبة من الله تعالى للإنسانية جمعاء وكافة الكائنات الحية على وجه الأرض.
المواد الأولية:
تأتي المواد الأولية بعد الأرض مباشرة في الأهمية. فكل ما يتمتع به الإنسان من سلع وطيبات مادية مردها إلى الأرض. وما تذخر به من مواد وثروات معدنية.
ويقسم الفقهاء المعادن إلى قسمين: المعادن الظاهرة، والمعادن الباطنة.
فالمعادن الظاهرة: هي التي لا تحتاج إلى مزيد من العمل لإجلاء جوهرها، كالملح والنفط مثلاً. أي المعدن الذي تكون طبيعته المعدنية بارزة، سواءً احتاج الإنسان إلى حفر وجهد للوصول إلى آباره في أعماق الطبيعة، أو وجده بيسر وسهولة على سطح الأرض (أي كله من عطاء الله، عدا استخراجه)
وأما المعادن الباطنة: فهي كل معدن احتاج في إبراز خصائص المعدنية إلى عمل وتطوير، كالحديد والذهب (أي يحتاج إلى جهد زائد من البشر)
والرأي الفقهي السائد أن المعادن الظاهرة تعتبر من المشتركات العامة بين كل الناس، فلا يعترف الإسلام لأحد بالاختصاص بها، ولأنها مندرجة ضمن الملكيات العامة. ويسمح للأفراد بالحصول منها على قدر حاجتهم، دون أن يستأثروا بها أو يتملكوا ينابيعها.
وعلى هذا، يصبح للدولة وحدها الحق في أن تستثمرها، بقدر ما تتطلبه الشروط المادية للإنتاج والاستخراج من إمكانيات، وتضع ثمارها في خدمة الناس.
أما المشاريع الخاصة التي يحتكر فيها الأفراد استثمار المعدن، فتمنعها منعاً باتاً. ولو مارست تلك المشاريع العمل والحفر للوصول إلى المعدن واكتشافه في أعماق الأرض، فليس له الحق في تملك المعدن وإخراجه عن نطاق الملكية العامة.
وأما المعادن الباطنة: إنها في الرأي الفقهي السائد من المشتركات العامة، فهي تخضع لمبدأ الملكية العامة، ولا يسمح للفرد بتملك عروقها وينابيعها في الأرض إلا بالقدر الذي تمتد إليه أبعاد الحفرة عامودياً وشاقولياً، حسب الرأي السائد فقهياً. وإن كان هناك اختلافات كثيرة بين الفقهاء في هذا الصدد*
ويواجه الفرد، منذ البدء في العمل، تهديداً بانتزاع المعدن منه إذا حجز المعدن وقطع المعدن، وجمد الثروة المعدنية. ويكون بذلك حكمه حكم الأرض إذا توقف عن إحيائها.
وهذا النوع من الملكية، يختلف بكل وضوح عن ملكية المرافق الطبيعية في المذهب الرأسمالي، لأن هذا النوع من الملكية لا يتجاوز كثيراً عن كونه أسلوباً من أساليب تقسيم العمل بين الناس، ولا يمكن أن يؤدي إلى إنشاء مشاريع فردية احتكارية، كالمشاريع التي تسود المجتمع الرأسمالي، ولا يمكن أن يكون أداة للسيطرة على مرافق الطبيعة، واحتكار المناجم، وما تضم من ثروات، لأنها ملك الناس قاطبة. وهكذا، فإن الإسلام قد سمح بالملكية الخاصة إلا أنه أحاطها بحدود عديدة.
2-مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود
ويتجلى هذا المبدأ في الاقتصاد الإسلامي بالسماح للأفراد بحرية محدودة بحدود القيم المعنوية والخلقية والطبيعية التي يؤمن فيها الإسلام، والتي تؤمن استفادة جميع خلق الله من الثروات الطبيعية التي أنعم الله بها عليهم.(2/159)
وهنا نجد الاختلاف البارز بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي. فبينما يمارس الأفراد حريات غير محدودة في ظل الاقتصاد الرأسمالي (لا أخلاق في الاقتصاد والمال) (الغاية تبرر الواسطة)، وبينما يصادر الاقتصاد الاشتراكي حريات الجميع (عدا رجال الحزب)، يسمح الإسلام للأفراد بممارسة حرياتهم ضمن نطاق القيم والمثل العليا التي تهذب الحرية وتصقلها، وتجعل منها أداة خير للإنسانية جمعاء.
والتحديد الإسلامي للحرية في الحقل الاقتصادي على قسمين:
الأول: التحديد الذاتي، الذي ينبع من أعماق النفس، ويستمد قوته ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصية الإسلامية.
والثاني: التحديد الموضوعي، والذي يأتي من قوة خارجية تحدد السلوك الاجتماعي والاقتصادي وتضبطه.
فالتحديد الذاتي، يتكون طبيعياً في ظل التربية الخاصة التي ينشئ الإسلام عليها الفرد في المجتمع الذي يتحكم الإسلام في كافة مرافق حياته.
وقد كان لهذا التحديد الذاتي نتائجه الرائعة في تكوين طبيعة المجتمع الإسلامي مما برهن على كفاءة الإنسان لخلافة الأرض عن الله سبحانه وتعالى، وصنع عالماً جديداً زاخراً بمشاعر العدل والرحمة، واجتث من النفس البشرية عناصر الشر. ودوافع الظلم والفساد.
ويكفي من نتائج التحديد الذاتي، أنه ظل وحده هو الضامن لأعمال البر والخير في المجتمع الإسلامي، بالرغم من ابتعاد المسلمين عن روح تلك التجربة مدة قرون عديدة. فما زال ملايين المسلمين يقدمون بملء حريتهم على دفع الزكاة والضمان الاجتماعي وغيرها من حقوق الله سراً وجهراً حتى الآن. وقد ثبت أنها أشد مضاءً من التحديد الخارجي.
أما التحديد الخارجي، فهو التحديد الذي يفرض على المجتمع الإسلامي من الخارج، بقوة الشرع. ويقوم على المبدأ القائل: "لا حرية للشخص فيما نصت عليه الشريعة المقدسة من ألوان النشاط التي تتعارض مع المثل والغايات التي يؤمن الإسلام بضرورتها".
ويتم تنفيذ هذا المبدأ عن طريق النصوص التي تنص الشريعة على منع بعض النشاطات الاجتماعية والاقتصادية، وإشراف ولي الأمر على تنفيذها بصفته سلطة مراقبة وموجهة مستمدة من القرآن: ] وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم[.(سورة النساء- الآية 59)
ولذا، فالحرية في الإسلام، ليست حيوانية مستهترة متعالية مستكبرة، إنها محدودة في إطار اجتماعي إنساني يضمن مستوى مناسباً من المعيشة لجميع أفراد المجتمع، بحيث لا تكون هذه الحرية على حساب فقدان الآخرين عملياً وواقعياً قدرتهم على التحرك ليسعوا في الأرض ويأكلوا من رزق الله، كما تفعل الشركات العالمية في الوقت الحاضر في ظل نظام العولمة.
وبهذا، فقد حدد الإسلام الملكية الخاصة في حيازة الثروة، ولم يطلقها كما في النظام الرأسمالي دون قيود قانونية أو أخلاقية مما يؤدي إلى اضطراب في توزيع الثروة العامة وخلق الفروق الطبقية.
إلا أنه لم يصادرها كليةً كالنظام الاشتراكي، فمصادرة الملكية الخاصة مخالف لفطرة الإنسان، ذلك أن حيازة الأشياء من مظاهر غريزة البقاء، وهي متأصلة في الإنسان، ولا يمكن تجاهلها. فمن طبيعة الإنسان السعي لجمع الثروة له ولأولاده، فإذا انتفى هذا الهدف فقد الحافز على العمل، وفقد الإنسان القدرة على الإبداع وإعمار الأرض والسعي فيها كما أمره الله. كما أنه لم يطلق يد المالك في ملكيته ولا في الطريقة التي يحصل عليها.
بعض المبيحات والمحرمات في الإسلام:
إن الدين الإسلامي- في الحقيقة- هو دين يسر، وليس بدين عسر، أي أنه لم يشدد على البشر في الواجبات والمحرمات، بل ينطلق في شرائعه من مصلحة الفرد والمجتمع معاً. وحتى في العبادات نفسها، وطرق تأديتها تتجلى مصلحة الفرد والمجتمع بأجلى مظاهرها]فالله غني عن العالمين[.وما يهمنا في هذا البحث منها ما له صلة بالنواحي الاقتصادية والمعيشية، أي ما له علاقة بحقوق الإنسان في الحياة: وقبل كل شيء، فقد كرم الإسلام الإنسان ذاته كإنسان في جميع مراحل حياته: كرمه كبويضه منع إتلافها، وجنيناً منع إجهاضه، بل وحض على إكثاره وتبجيله:]المال والبنون زينة الحياة الدنيا[* ، وكرمه أماً: ]الجنة تحت أقدام الأمهات[، وكرمه امرأة وزوجة، وكرمه شيخاً عجوزاً وعاجزاً فقيراً.. الخ وذلك، بشكل لم يسبق شريعة من الشرائع الدينية أو الدنيوية أن وصلت إليه، حتى توّجه أخيراً بجعله "خليفة الله في الأرض"..
ولذا فقد حض الإسلام، أول ما حض، على تنمية الإنتاج وربطها بالتوزيع. وقد تكون تنمية الإنتاج النقطة الوحيدة التي تتفق عليها المذاهب الإسلامية والرأسمالية والماركسية جميعاً على الصعيد المذهبي للاستفادة من الطبيعة إلى أقصى حد ضمن الإطار العام للمذهب.
فكل هذه المذاهب تجمع على أهمية هذا الهدف وضرورة تحقيقه بجميع الأساليب والطرق التي تنسجم مع الإطار العام للمذهب. كما أنها ترفض مالا يتفق مع إطارها المذهبي. فالرأسمالية ترفض مثلاً من الأساليب في تنمية الإنتاج وزيادة الثروة ما يتعارض مع مبدأ الحرية الاقتصادية، والإسلام يرفض من تلك الأساليب مالا يتفق مع نظرياته في التوزيع وتحقيق العدالة الاجتماعية، وأما الماركسية فهي تؤمن بأن المذهب لا يتعارض مع تنمية الإنتاج، بل يسير معها في خط واحد تبعاً لنظرتها عن الترابط الحتمي بين علاقات الإنتاج وشكل التوزيع، أي أن لكل شكل من الإنتاج نوع خاص من التوزيع، ولا بد لتكييف التوزيع طبقاً لحاجات الإنتاج، عكس الإسلام الذي يحدد الإنتاج لحساب التوزيع.(2/160)
فالإسلام يريد من الإنسان المسلم أن ينمي الثروة ليسيطر عليها وينتفع منها في تحسين وجوده ككل، لا لتسيطر عليه، وتستلم منه زمام القيادة، وتمحو من أمامه الأهداف الكبرى. فالثروة وأساليب التنمية تهدف ضمن الشرائع الإلهية إلى تأكيد صلة الإنسان بربه المنعم عليه، وتهيء له عبادته في يسر ورخاء، وتفسح المجال أمام مواهبه وطاقاته للنمو والتكامل، وتساعده على تحقيق مثله في العدالة والأخوة والكرامة.
والإسلام، على العكس من الرأسمالية التي تنظر إلى عملية تنمية الثروة بصورة منفصلة عن توزيعها، فهو يربط تنمية الثروة كهدف بالتوزيع ومدى ما يحققه نمو الثروة لأفراد الأمة من يسر ورخاء. فليست تنمية الإنتاج للإنتاج ذاته كهدف وإنما كطريق للتوزيع وسعادة البشرية. فإن لم تساهم عمليات التنمية في إشاعة اليسر والرخاء بين الأفراد، وتوفر لهم الشروط التي تمكنهم من الانطلاق في مواهبهم الخيرة وتحقيق رسالتهم، فلن تؤدي تنمية الثروة دورها الصالح في حياة الإنسان. وفي هذه الحالة فالله ينتزعها منهم: ]إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم من يشاء[ فالتنمية في الإسلام إذاً ليست كما في النظام الرأسمالي، بزيادة دخل المنتج بنسبة كذا، ولو كان ذلك على حساب تسريح العمال، وزيادة معدل البطالة، وسرقة حقوق العاملين، ولا لاستثمار رؤوس الأموال الأجنبية وتنميتها ولا لمضاربيها ومرابيها على كافة المستويات..
2-ولذا، فقد حرم الإسلام الربا، بوصفه أولى العقبات في التنمية الاقتصادية، ووسيله سهلة لسرقة أموال الناس دون عمل. فالربوي الرأسمالي يقوم بامتصاص أموال المقترضين دون أن يؤدي أي عمل إنتاجي.
والبديل في الإسلام هو توظيف هذا المال في مشروعات إنتاجية تؤمن خلق فرص عمل جديدة وزيادة في الإنتاج يتقاسم ريعه العاملون، وأصحاب الأموال، وغير العاملين من المحتاجين، وهو أكثر ضماناً، إذ قد يتعرض المرابي إلى خسارة الفائدة ورأس المال معاً، كما يجري حالياً نتيجة للمضاربات والإفلاسات لكبار المصارف وبيوت المال في العالم الصناعي وما يدور في فلكه.
وتعتبر الفائدة في العرف الرأسمالي بمثابة أجر رأس المال النقدي الذي يسلفه الرأسماليون للمشاريع التجارية وغيرها. وتحدد بنسبة مئوية من المال المسلف. ولا تختلف كثيراً عن الأجر الذي يحصل عليه أصحاب العقارات، وأدوات الإنتاج، نتيجة لإيجار تلك العقارات والأدوات.
أما الإسلام، فقد سمح للكسب الناتج عن إيجار العقارات وأدوات الإنتاج وحرم أجر رأس المال، وما ذلك إلا للأسباب التالية:
-فالقاعدة التي تجتمع عليها كافة التشريعات هي: أن الكسب لا يقوم إلا على أساس عمل، وبدون المساهمة من شخص بإنفاق عمل لا مبرر لكسبه. فالكسب الناتج عن ملكية أدوات الإنتاج مسموح به نظراً لما تخزنه الآلة من عمل سابق سوف يكون للمستأجر الحق في استهلاك قسط منه خلال استخدام الآلة في عملية الإنتاج التي يباشرها. أما الكسب الناتج عن ملكية رأس المال النقدي (الفائدة) فليس له ما يبرره نظرياً، لأن المستقرض سوف يرد المبلغ للدائن بكامله دون أن يستهلك منه شيئاً.
وكذلك الحال بالنسبة لاستئجار العقار، فالمستأجر يستأجر عملاً سابقا سوف يستهلك المستأجر قسماً منه حين الانتفاع به.
وتبرر الرأسمالية الفائدة بصفتها تعبيراً عن الفارق بين قيمة السلع الحاضرة وقيمة سلع المستقبل، اعتقاداً منها بأن للزمن دوراً في تكوين القيمة. فالقيمة التبادلية لدينار اليوم أكبر من القيمة التبادلية لدنيار المستقبل.
إلا أنه إن كان صحيحاً أن العملات الضعيفة في البلدان الفقيرة المستدينة تنخفض قيمتها باستمرار، كما تنخفض معها- في الوقت نفسه- قيمة موادها الأولية، فإن العملات في البلدان الغنية الدائنة، هي في ارتفاع مستمر كما ترتفع معها قيمة بضائعها باستمرار. ولنتصور حجم الخسائر الباهظة والمضاعفة التي تتكبدها البلدان الضعيفة المدينة:
-التسديد لخدمة الدين* بعملات مرتفعة باستمرار، من عملات وبضائع محلية منخفضة باستمرار.
-زيادة الفوائد المتصاعدة باستمرار لتبلغ أضعاف حجم الدين ذاته
-خسارة المشاريع التي تمولها، أو شللها من قبل الدائنين بالذات لكونها تنافس بضائعهم بالذات، أو توقفها عن العمل لعدم وجود أسواق لمنتجاتها في الخارج، وعدم قدرة الأسواق الداخلية على امتصاصها لضعف الدخول.
وكذلك، فمن وجهة نظر الإسلام، ليس للرأسمالي الحق بالفائدة على القرض، حتى إذا صح أن سلع الحاضر أكبر قيمة من سلع المستقبل، لأن توزيع الثروة في الإسلام يتطلب إنفاق عمل مباشر أو مختزن، ويرتبط بمفاهيم الإسلام المذهبية وتصوراته عن العدالة.
وتعتبر الرأسمالية المخاطرة بالمال مبرراً لحق الرأسمالي بالفائدة، فهي بذلك تحرمه من الانتفاع بالمال المسلف- حسب رأيها- كما أنها بمثابة مكافأة له على انتظاره طيلة المدة المتفق عليها، أو أجرٍ يتقاضاه الرأسمالي نظير انتفاع المدين بالمال الذي اقترضه منه، كالأجر الذي يحصل عليه مالك الدار من المستأجر لقاء انتفاعه بسكناها.
والإسلام يعارض ذلك، لأنه لا يعترف بالكسب تحت اسم الأجر أو المكافأة إلا على أساس إنفاق عمل مباشر أو مختزن -كما ذكرنا- وليس للرأسمالي عمل مباشر أو مختزن ينفقه ويمتصه المقترض ليدفع إليه أجره، ما دام المال المقترض سوف يعود إلى الرأسمالي دون أن يستهلك منه شيئاً.
3-وكذلك، فقد حرم الإسلام كنز المال:
الآية: ] والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم[.
والهدف الاقتصادي في هذا التحريم يكمن في أن كنز المال يعني انخفاض كمية الثروة المنتجة، ومن ثم تقليص فرص العمل، وحصول البطالة، مما يزيد الفروقات الاجتماعية وحالات البؤس وشظف العيش.(2/161)
وهذا المنع من اكتناز المال ليس مجرد ظاهرة عرضية في التشريع الإسلامي، إنه يعبر عن أوجه الخلاف الخطير بين المذهب الإسلامي والمذهب الرأسمالي. فبينما تؤيد الرأسمالية استعمال النقد للاكتناز (بالإضافة إلى دوره كمقياس للقيمة وأداة للتداول) وتشجع عليه بتشريع نظام الفائدة، يحاربه الإسلام بفرض ضريبة على المال المكتنز (الزكاة). وجاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق: "إنما الله أعطاكم هذه الفضول من الأموال حيث وجهها الله، ولم يعطكموها لتكنزوها".
ومن مضار كنز المال الاقتصادية أيضا، أن تجميع الثروات الكبيرة في أيدي الأفراد دون استثمارها، يؤدي إلى زيادة البؤس والحاجة لدى الأغلبية العظمى من الشعب. وهذا يؤدي بدوره، إلى عجز هذه الطبقة عن استهلاك ما يشبع حاجتها من السلع، فتتكدس المنتجات دون تصريف، ويسيطر الكساد * على الصناعة والتجارة، فتعم الإفلاسات مختلف النشاطات الاقتصادية ويتوقف الإنتاج، وتستفحل المجاعات، كما في المعادلة التالية:
انخفاض الاستهلاك = كساد= توقف عن الإنتاج= زيادة بطالة= مجاعة
4-وحرم الإسلام المخاطرة:
كالقمار، لأن الكسب فيه لا يقوم على عمل، وإنما يرتكز على أساس المخاطرة، مما يعرض الفرد وعائلته إلى الإفلاس والضياع، ويعود على المجتمع بالانحلال. والإنفاق فيما حرم الله، كالخمر ولحم والخنزير. وقد تبين ضررهما الشديد في الوقت الحاضر نظراً للأمراض الخطيرة التي نتجت عنهما. وتشن السلطات في البلدان الغربية حرباً إعلامية واسعة النطاق للحد من تعاطي الخمر لصلته الوثيقة بأمراض الشرايين، وتشمع الكبد، بالإضافة إلى ضحايا الطرق، التي تشكل القسم الأكبر من الوفيات كل عام.
5-ونهى -في الوقت نفسه- عن الإسراف والتقتير.
الآية: ] ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا ً[
وجعل المبذر بمثابة السفيه الذي يجب أن يحجر عليه.
والغاية من ذلك، إن في تبديد الثروة وتقتيرها، منع باقي عباد الله من الاستفادة منها.
ومنع إنتاج المواد ذات التكاليف الباهظة المبددة للثروة والمشكلة عبئاً على الاقتصاد العام، وكذلك المصاريف غير المنتجة التي تصرف على المظاهر والاحتفالات لأن المحرومين من وسائل عيشهم أحق فيها. ويكفي أن نعلم حجم مليارات الدولارات التي تنفق حالياً على ألعاب الكرة وحدها في العالم كل عام، في الوقت الذي تموت فيه الملايين من الجوع، لنعلم فقط زاوية واحدة من زوايا التكاليف الباهظة المبددة للثروة التي تمتص موارد البشرية جمعاء*.
6-وحذر من الوقوع في أخطار التبعية الاقتصادية للغير.
وهي في الواقع من أولى خصائص التخلف الاقتصادي في العالم الثالث:
"لا خير في أمة لا تأكل مما تنتج، ولا تلبس مما تصنع".
ومن المعلوم أن التبعية الاقتصادية في هذه البلدان تصل إلى ما يزيد على 90% في غذائهم وكسائهم وإنتاجهم وأدوات إنتاجهم.. الخ، بينما لا يتجاوز في البلدان الصناعية 20% ويبدو خطرها أشد ما يبدو من الناحية الغذائية:
فسلاح الغذاء، أشد مضاءً من كافة الأسلحة، وأنه كان وراء انهيار الاتحاد السوفياتي -كما رأينا- إذ لم تتردد أمريكا في استعماله في الماضي والحاضر، ومن أخطاره أيضاً أن يمنع من وصول المواد الغذائية عوائق طبيعية من زلازل وأعاصير، أو فيضانات، أو جفاف.. الخ تقضي على المزروعات في البلد المصدر نفسه أو حتى الحروب، (وما أكثرها!).
كما أن الاعتماد على الغير في تغذية الشعوب يخشى معه تعريضها إلى أخطار صحية عن قصد أو غير قصد، من جراء استيراد مواد فاسدة، أو سامة، أو مشبعة بالهرمونات.. الخ، كما يحصل من وقت لآخر، مثال: لحوم البقر البريطانية المجنونة، والدجاج البلجيكيه، والألبان ومشتقاتها، والزيوت الإسبانية، مما تطالعنا به الأخبار كل يوم..
7-وفضل الإسلام الإنفاق الإنتاجي على الاستهلاكي:
حرصاً منه على تنمية الإنتاج وزيادة الثروة. فنهى عن بيع العقار وتبديد ثمنه في الاستهلاك، وحض، حتى في الصدقات على تقديم ما يساعد الفقير على الإنتاج ليأكل من ثماره، على العكس من النظام الرأسمالي- كما رأينا- والذي رفع شعار المجتمع الاستهلاكي ليشجع الإنتاج، فقضى عن الإنتاج والمستهلكين بالذات..
8-ولذا، فقد حذر الإسلام من العبث في الأرض وإفساد الطبيعة:
الآية: ]ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون[ (الروم-41).
والفساد في البر والبحر هو ما نعيشه الآن من التلوث في الطبيعة والانهيارات وعدم التوازن الذي طال المرافق الطبيعية بكافة أشكالها نتيجة التعرض للقوانين الطبيعية بغية التحكم فيها وتعديلها وتعليمها دروسها. فهي إذاً نتيجة لغطرسة الإنسان وجبروته واعتقاده مشاركة الإله في ألوهيته ومن المعلوم أن التلوث هو ابن هذه الحضارة الحديثة واكتشاف الطاقة، والإنتاج على مستوى عالمي لغزو العالم في كافة أصقاعه* وهو من آيات الله ليريهم نتيجة ما عملوا لعلهم يمتنعون عن ذلك.
9-وحض على ضرورة التوازن في الطبيعة مراعاة لقوانينها:
الآية: ]الأرض مددناها، وألقينا فيها رواسي، وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، لكم فيها معايش، ومن لستم له برازقين، وإن من شيءٍ إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم[ (الحجر 19-20).
وكلنا يعلم أن التنافس على الثروة في الاقتصاد الرأسمالي، ونضح الموارد الطبيعية ببرها، وبحرها، وسمائها ومائها، قد أنهك هذه الأرض، وأربك توازنها** فالهزات المتوالية، وتعاقب حالات الفيضانات واليباس، والحر والقر، والانهيارات الأرضية والجبلية والجليدية، والأعاصير والعواصف، تشمل الكرة الأرضية بأجمعها، ولا يكاد يمر يوم واحد دون حصول هذه النكبات.(2/162)
10-ولذا فقد وضع الإسلام ضوابطَ للتصرف في الحرية، وفي حق الإنسان في التصرف بملكيته الخاصة "فلا ضرر، ولا ضرار.."
ومن الأمثلة على سوء التصرف بالملكية الخاصة وانعكاسه على أضرار الغير والمجتمع بما فيه المالك نفسه، المثال التالي:
"ركب قوم في سفينة، فاقتسموا.. فاختص كل منهم بمكان.. فأخذ أحدهم ينقر مكانه بفأس.. فقالوا له ماذا تفعل؟! قال: هذا مكاني أفعل به ما شئت.. فإن أخذوا على يده (أي منعوه) نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا..!"
وهكذا، فإن المنع من التصرف المطلق بالملك الخاص، يكون ضمن مصلحة الفرد والمجتمع بآن واحد.
فالإسلام إذاً، يؤمن بالملكية الخاصة ضمن حدود، وهي من حق جميع أفراد الشعب وطبقاته وأديانه دون أي تمييز، إلى جانب الملكية العامة وملكية الدولة. وقد برهن الواقع من التجربتين: الاشتراكية والرأسمالية على خطأ الفكرة المعتمدة على شكل واحد للملكية. وما انهيار النظام الاشتراكي إلا نتيجة الاعتداء على الملكية الخاصة، ونسف طبقة كانت تعمل وتنتج وتغذي الخزانة، واستبدالها بطبقة أخرى، تبين أنها أشد من الأولى استغلالاً وظلماً، دون أن تكون لديها ذات المؤهلات للإنتاج، ولا حتى ذات الدوافع لتنمية الثروة وتغذية الخزينة، اللهم إلا دوافعها الخاصة، وما الانفجارات والأزمات في النظام الرأسمالي إلا نتيجة لإطلاق حرية الملكية من عقالها، دون حدود أو قيود، لدرجة أصبحت موارد الكرة الأرضية برمتها بأيدي فئة ضئيلة من البشر، نادراً ما سجل التاريخ مثيلاً لها في الطمع والجشع والظلم والاستهتار، لا وطن لها، ولا دين، ولا حافز ولا هدف إلا جمع المال بأية طريقة كانت "فالغاية تبرر الواسطة" والاستئثار بحقوق البشرية جمعاء، مما لم يعد يدع أي مجال لتطبيق العدالة الاجتماعية الركيزة الأساسية للإسلام، حتى في بلاد الإسلام بالذات دون تحرير الموارد الطبيعية من أيديها.
3-العدالة الاجتماعية في الإسلام
مقدمة: كل ما تقدم، من شمول الملكية العامة في الإسلام للقسم الأكبر من ثروات الطبيعة، وانحصار الملكية الخاصة ضمن حدود ضيقة تضمن مصلحة المجتمع، يقودنا إلى عمق العدالة الاجتماعية في الإسلام، أي حق جميع أفراد المجتمع، العاملين منهم، والمحرومين من العمل وغير القادرين على العمل، الفقراء والمحتاجين، وكل من يعيش على وجه الأرض بالحياة اللائقة الكريمة، وحقهم في اقتسام موارد الطبيعة وخيراتها التي خلقها الله للناس أجمعين.
ولتأمين ذلك، أوجب الإسلام على الحاكم، الذي يملك -في الواقع- التصرف بالملكية العامة، أن يؤمن العمل ويسهله لجميع القادرين على العمل في حدود صلاحيته، ومن لم تتح له فرصة العمل، أو كان عاجزاً عنه، فعلى الدولة أن تضمن حقه في الاستفادة من ثروات الطبيعة بتوفير مستوى الكفاية له من العيش الكريم من موارد الملكية العامة وملكية الدولة كما فرض الإسلام على العاملين الذين يستفيدون من استغلال ثروات الله أن يؤدوا لهم نصيبهم من هذه الثروات، أي أن يكفلوا الحياة الكريمة لغير العاملين والفقراء والمحتاجين.. الخ وهي فريضة الزكاة التي:
-تضمن حق المحرومين من ثروات الله.
-وتحول دون احتكار الأقوياء للثروة.
-وتمد الدولة بالنفقات اللازمة لممارسة واجبها بتحقيق الضمان الاجتماعي.
فالضمان الاجتماعي في الإسلام يرتكز إذاً على أساسين:
-التكافل العام بين أفراد المجتمع.
-حق الجماعة على الدولة في الموارد العامة وتأمين العيش الكريم.
ولكل من الأساسين حدوده ومقتضياته في تحديد نوع الحاجات التي يجب أن يضمن إشباعها.
فالأساس الأول للضمان، لا يقتضي أكثر من ضمان إشباع الحاجات الحياتية والملحة للفرد، بينما يفرض الثاني إشباع الحاجات الكمالية أيضاً، لتصل بالفرد إلى مستوى الغنى. وفي كلا الضمانين تبدو عظمة الإسلام في تحقيق الحرية الجوهرية، وليس فقط الشكلية، عكس الحرية التي يقدمها المبدأ الرأسمالي كما مر معنا.
التكافل العام. وهو الأساس الأول للضمان الاجتماعي.
الحديث و الآية:" كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته" ]وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه[.
إنه المبدأ الذي يفرض فيه الإسلام كفاية" على المسلمين، ضمان بعضهم بعضاً في إشباع الحاجات الحياتية الضرورية للفرد، وفي حدود ظروف المسلم وإمكانياته، عن طريق الزكاة التي اعتبرها حقاً لهم، وليست مجرد هبة أو صدقة.
وعن أبي عبد الله الصادق (ع): "إن الله عز وجل فرض في مال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم، إنهم لم يؤتوا من قبل فريضة الله عز وجل، ولكن من منع من منعهم حقهم، ولو أن الناس أدوا حقوقهم لعاش الجميع بخير".
أي أن منع الناس من ممارسة حقهم، هو السبب في الفقر. وأن الثروة المنتجة من قبل الأفراد تشكل حجماً كبيراً يتجاوز حق المنتجين وحدهم، ويمتد إلى أصحاب الحق من المحرومين من العمل والإنتاج.
والمكلف في الإسلام لا يكمن في طائفة أو حزب أو دين، وإنما في أبناء المجتمع جميعاً "فالخلافة عامة". وهي الوجه الاجتماعي للعدالة الاجتماعية الإلهية التي نادى بها الأنبياء كافة. وإذا ما كانت "الوحدانية" تعني اجتماعياً أن "المالك هو الإله الواحد" فإن العدالة" تعني أن هذه الملكية التي يختص بها الله لا تسمح باعتبارها عادلة بتفضيل فرد على آخر، ولا تعطي الحق لفئة اجتماعية على حساب فئة أخرى، ولكن تمنح الخلافة للمجموعة بكاملها.(2/163)
وإن كان يحق للدولة أن تمارس حقها في إلزام المكلفين على دفع الزكاة، وامتثال ما يكلفون به بموجب الشرع، إلا أن الإسلام يهتم، لتحقيق أهدافه بالعامل النفسي، أكثر من اهتمامه باستعمال القوة والزجر. أي أنه يلجأ إلى الطريقة الإنسانية، والمفاهيم السامية التي أعطاها للحياة، عن طريق البث في المجموعة المكلفة عنه المشاعر النبيلة التي توجهها لتحقيق الأهداف.
وكلنا يعلم، أن المجتمعات الجاهلية كانت -شأنها شأن المجتمعات المسماة بالمتطورة الآن" لا تنظر للحياة إلا من خلال مرحلتها العابرة التي تنتهي بالموت، ولا تحقق ذاتها وسعادتها إلا بإشباع الغرائز والشهوات الحياتية. ولذا، فإن جمع المال لذاته وتكديسه والتنافس عليه، هو بالنسبة إليها الهدف الطبيعي الذي بموجبه يتمكن الإنسان أن يملأ حياته بالعظمة، وينتهي بها - من الناحية الكمية والمعنوية- على الوجه الذي يؤمن له الخلود على الأرض.
هذا المفهوم الذي تعطيه المجتمعات المادية للحياة، والدور الذي تنيطه بالمال، هما أسباب الجهود التي تبذلها لزيادة الدخل والغنى. كما أنها خلف كل تناقض، وكل نمط من أشكال الاستغلال.
ولكي يحرر الإسلام الإنسان من هذا المفهوم، ويقتله من قرارة نفسه، رفض أن يعطي للمال أية قيمة لذاته، ونهى عن تكديسه، ومحى عنه كل قوة تؤمن له الخلود والعظمة.
وهنا يبدو دور الدين وأثره في التوفيق بين الدوافع الذاتية والمصالح الاجتماعية العامة. فالدين هو الطاقة الروحية التي تستطيع أن تعوض الإنسان عن لذائذه الموقوتة التي يدعها في حياته على الأرض، أملاً في النعيم الدائم، وتخلق في تفكيره نظرة جديدة تجاه مصالحه، ومفهوماً عن الربح والخسارة، أرفع من المفاهيم التجارية المادية. فالعناء طريق اللذة، والخسارة لصالح المجتمع سبيل الربح، وحماية مصالح الآخرين تعني حماية مصالح الفرد في حياة أسمى وأرفع.
الآية: ] من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها[.
ولذا، فقد جعل الإسلام الفرائض المالية (التكافل) بمثابة العبادات الشرعية التي تنبع من دافع نفسي، طلباً لرضاء الله، والقرب منه.
فالدين إذاً، هو صاحب الدور الأساسي في حل المشكلة الاجتماعية عن طريق تجنيد الدافع الذاتي لحساب المصلحة العامة* بالترغيب تارة، والوعيد أخرى.
آ-عن طريق الترغيب:
فالإسلام -بصورة عامة- لا يرغم أحداً بالقوة على تنفيذ تعاليمه: ]لا إكراه في الدين، لقد تبين الرشد من الغي[.
وعن طريق الترغيب، يقدم القرآن صوراً رائعة للربط بين المصالح الدنيوية والمصالح الأخروية.
الآيات: ]يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يرة، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره[.
] من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجري إلا مثلها[ لقد حل الإسلام -في الواقع- قيمة العمل الصالح محل قيمة المال والغنى للخلود، وحض على التنافس فقط سعياً لهذا الهدف. فمنح الإنسان الطمأنينة الحقيقية بأن خلوده لا يتحقق بتكديس الثروة، ولا باكتناز الأموال، وإنما بمقدار ما يقوم به من عمل صالح. فغير بذلك مفهوم الاستثمار: فبدلاً من اعتباره مبدداً لثروته ومقلصاً لنفوذه وخطراً على مستقبله وخلوده، جعل منه -على العكس- ضماناً لخلوده، وكعطاء بمقابل يزيد على عشر أضعافه.
الآيات: ]إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم[.
]مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم[.
فحياة الإنسان على الأرض إذاً، هي بمثابة الاختبار الذي يجتازه الإنسان أمام الخالق، فمن اجتازه بنجاح كان جديراً بالخلود، ومن يفشل كان بمثابة العدم.
الآية: ]أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً[ (115-المؤمنون) أي أن الإنسان ليس بعابر سبيل أتى إلى هذه الأرض ليأكل ويشرب وينهب حياة الآخرين ويكدس الأموال ثم يموت..]وهو الذي يبدأ الخلق، ثم يعيده[ أي يعيده بالعاملين الذين نجحوا في الاختبار على الأرض.
والآيات التي تعدد انحراف الإنسان عن الغاية من خلقه كمكلف باستثمار خيرات الأرض، وحسن توزيع خيراتها لا تحصى، وهي تلفت النظر إلى انحراف الإنسان عن الهدف الذي كلفه به ربه من ناحيتين:
أولاً: امتناعه عن استثمار الخيرات بذاته، والتوقف بذلك عن الإبداع والابتكار.
ثانياً: امتناعه عن القيام بتوزيع ما يفيض عليه من الخيرات على المحتاجين، سواءً كان المستغل فرداً، أو جماعة أو دولة..
ب-عن طريق الترهيب. وهو نادر جداً في القرآن، كما ذكرنا
الآية: ]ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالاً وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن في الحطمه، وما أدراك ما الحطمه، نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، إنها عليهم مؤصدة، في عمدٍ ممدده[.
ففي هذه الآية، يهدد الله الإنسان الذي يكسب المال عن طريق الاستغلال والقوة (الهمزة واللمزة) والذي يجمعه لذاته ويجعل تكديسه الهدف منه (الذي جمع مالاً وعدده) والذي يعتبر هذا المال مخلداً له في الحياة (يحسب أن ماله أخلده)، يتوعده بجهنم (الحطمة)*
وفي حديث، أن الإمام جعفر قال: "أيما مؤمن منع مؤمناً شيئاً مما يحتاج إليه، وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره، أقامه الله يوم القيامة مسوداً وجهه، مزرقة عيناه، مغلولة يداه إلى عنقه، فيقال: هذا الخائن الذي خان الله ورسوله، ثم يؤمر به إلى النار".
وينتج عن ذلك: أن الكفاية هي في حدود الحاجات الشديدة، وشدة الحاجة تعني كون الحاجة حياتية، والحياة عسيرة بدون إشباعها.
الأساس الثاني للضمان الاجتماعي
واجب الدولة
"الإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته"
لقد أوجب الإسلام على الدولة رعاية شؤون الناس من وجوهها المختلفة، وأناط بها المسؤولية المباشرة في الالتزامات التالية:(2/164)
- تنفيذ مبدأ التكافل العام
- تطبيق المباحات والمحرمات -سبق ذكرها-
- توجيه الموارد لحاجات المجتمع على أساس الحق العام للجميع في الاستفادة من ثروات الطبيعة.
-تأمين العمل لمن ليس له عمل.
تأمين التوازن الاجتماعي: بكفاية الحاجات المعيشية إلى درجة الغنى حتى للعاملين.
-بتأمين الحاجات الضرورية والكمالية أيضاً لغير العاملين والمحتاجين.
-وتأمين التوازن الاجتماعي بتطبيق مجموعة التشريعات الإسلامية
-ملء منطقة الفراغ من التشريع.
-فمن حيث الضمان الاجتماعي المفروض على الدولة لتنفيذ مبدأ التكافل العام بين المسلمين، فهو يعبر -في الحقيقة- عن دور الدولة في إلزام رعاياها بامتثال ما يكلفون به شرعاً- بالموعظة الحسنة- من زكاة وصدقة، حتى إنه يحق للوالي أحياناً أن يلجأ إلى إكراههم على القيام بواجباتهم في كفالة العاجزين، إذا امتنعوا عن القيام بها، وخاصة في الحالات التي يختل فيها التوازن الاجتماعي اختلالاً جذرياً.
- حق الجماعة على الدولة في مصادر الثروة
لا تستمد الدولة مبررات الضمان الاجتماعي الذي تمارسه من تنفيذ مبدأ الضمان المفروض على الأفراد (التكافل العام) فحسب، بل من أساس آخر للضمان الاجتماعي وهو حق الجماعة في مصادر الثروة. وعلى هذا الأساس تكون الدولة مسؤولة بصورة مباشرة عن ضمان معيشة المعوزين والعاجزين، بقطع النظر عن الكفالة الواجبة على أفراد المسلمين أنفسهم. وترتكز فكرة الضمان الاجتماعي على أساس إيمان الإسلام بحق الجماعة كلها في موارد الثروة، لأن هذه الموارد خلقت للجماعة كافة لا لفئة دون فئة ]خلق لكم ما في الأرض جميعاً[. وهذا الحق يعني أن كل فرد من الجماعة له الحق بالانتفاع بثروات الطبيعة والعيش الكريم منها فمن كان منهم قادراً على العمل في أحد القطاعات العامة والخاصة، كان من وظيفة الدولة أن تهيئ له فرصة العمل في حدود صلاحياتها. ومن لم تتح له فرصة العمل أو كان عاجزاً عنه، فعلى الدولة أن تضمن حقه في الاستفادة من ثروات الطبيعة بتوفير مستوى الكفاية له من العيش الكريم.
وبموجب هذه المسؤولية، لا تفرض على الدولة ضمان الفرد في حدود حاجاته الحياتية فحسب (كالتكافل العام) بل تفرض عليها أن تضمن للفرد مستوى الكفاية من المعيشة الذي يحياه أفراد المجتمع الإسلامي (أي المواد الكمالية أيضاً) ففي حديث أن الإمام موسى بن جعفر قال محدداً ما للإمام وما عليه:
"إنه وارث من لا وارث له، ويعول من لا حيلة له".
وذهب هذا التضامن إلى درجة جعلت للجائع الحق على ثروات المجتمع كما لو أنها ليست ملكاً لأحد:
"إذا بات مؤمن جائعاً فلا مال لأحد"
وقال (ص): "من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك كلاً فإلينا"
والكل هو الضعيف.
وجعل الإسلام من تخلف الحاكم عن القيام بهذا الواجب، الحق للرعية أن تحجب عن طاعته:
"إن الله استخلفنا على عبادة لنسد جوعتهم، ونوفر لهم أمنهم، فإن لم نفعل، فلا طاعة لنا عليهم"
عن الخليفة عمر بن الخطاب.
كما أن ضمان الدولة، لا يختص بالمسلم فقط. فالذمي الذي يعيش في كنف الدولة الإسلامية إذا كبر وعجز عن الكسب، كانت نفقته من بيت المال. وقد نقل الشيخ الحر حديثاً)
عن الإمام علي:
"أنه مر بشيخ مكفوف كبير السن يسأل، فقال أمير المؤمنين: ما هذا؟ فقيل له: يا أمير المؤمنين إنه نصراني.. فقال الإمام: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه!! أنفقوا عليه من بيت المال".
آية: ]فكلهم عباد الله، والله رؤوف بالعباد[.
]أحبكم إلى الله أنفعكم لعباده[.
أي لكل عباده لا لطائفة دون أخرى ولا لمذهب دون آخر، ولا لجنس ولا لدين دون آخر..
ويمتد هذا الواجب على المسؤول نحو الشاة الجائعة كقول الخليفة عمر بن الخطاب: "لو كان في أقصى المدينة شاة جائعة، لكان عمر المسؤول عنها يوم القيامة".
هذا، بينما لا يعتري أحد من الحكام، في هذه الأيام أي هاجس للملايين التي تموت في ظل رعايتهم جوعاً وسقماً وبلاء (إنها بنظرهم ضريبة التطور المحتوم)
- وكواجب المسؤول بتأمين العمل لمن ليس له عمل، كان الرسول (ص) والخلفاء من بعده يقطعون الأفراد من الأراضي، ويعطونهم الأموال للاستعانة بها على استثمارها. إلا أنه لم يسمح لولي الأمر بإقطاع الفرد شيئاً من مصادر الطبيعة، إلا بالقدر الذي يتمكن فيه الفرد من استثماره والعمل فيه، لأن إقطاع ما يزيد عن قدرته يبدد ثروات البلاد الطبيعية وإمكانياتها الإنتاجية، ويحرم الغير من حقه فيها، ويخل بالتوازن الاجتماعي.
وكان (ص) قبل أن يسمح بإعطاء أية صدقة يحاول أن يجعل المحتاج يأكل من عمله وجهده. وكمثال على ذلك: جاء رجل يطلب من رسول الله مالاً، فسأله: هل يملك شيئاً.؟ فأخبره بأنه يملك متاعاً معيناً. فأمره بإحضاره، فباعه الرسول (ص) بطريقة المزايدة ثم أعطى الرجل ثمن المتاع ليحتطب ويأكل من عمله.
-تأمين التوازن الاجتماعي المنوط بالمسؤول في الإسلام:
إن مبدأ التوازن الاجتماعي لا يعني -في الواقع- عدم الاعتبار للاختلافات الطبيعية السيكولوجية التي تنبع منها الاختلافات الشخصية في مختلف الخصائص والصفات من فكرية وروحية وجسدية، فهذه كلها يقرها الإسلام، ولا يرى فيها خطراً على التوازن الاجتماعي ولا تناقضاً معه. فالتوازن الاجتماعي هو التوازن بين أفراد المجتمع في مستوى المعيشة، أي أن يحيا جميع الأفراد مستوى واحداً من المعيشة، مع الاحتفاظ بدرجات داخل هذا المستوى الواحد تتفاوت بموجبها المعيشة، ولكنها تفاوت درجة، وليس تناقضاً كلياً في المستوى، كالتناقضات الصارخة بين مستويات المعيشة في المجتمع الرأسمالي.(2/165)
ولتحقيق هذا الهدف، قام الإسلام بضغط مستوى المعيشة من أعلى بتحريم الإسراف، ومن أسفل، بالارتفاع بالأفراد الذين يعيشون مستوى منخفضاً من المعيشة إلى مستوى أعلى عن طريق الزكاة.
وقد جاء في الحديث لتحديد مسؤولية الوالي حتى الإغناء:
"إن الوالي يأخذ مال الزكاة فيوجهه حسب الوجه الذي وجهه الله له على ثمانية أسهم للفقراء والمساكين. يقسمه بينهم بقدر ما يستغنون في سنتهم بلا ضيق ولا تقية. فإن فضل من ذلك شيء، رد إلى الوالي، وإن نقص من ذلك شيء، ولم يكتفوا به، كان على الوالي أن يمونهم من عنده بقدر- سعتهم حتى يستغنوا".
وهذا النص يحدد بوضوح: إن الهدف النهائي الذي يحاول الإسلام تحقيقه ويلقي مسؤوليته على ولي الأمر: هو إغناء كل فرد في المجتمع الإسلامي.
فتعميم الغنى هو الهدف الذي تضعه الشريعة أمام ولي الأمر.
ففرضت بإعطاء الزكاة للفقير حتى يصبح غنياً، ومنعت إعطاءه بعد ذلك. أي جعلت الغنى فاصلاً بين جواز الزكاة ومنعها "تعطيه من الزكاة حتى تغنيه" عن الإمام الجعفر.
وعلى هذا الأساس، يمكننا تحديد مفهوم الغنى والفقر عند الإسلام بشكل عام: فالفقير هو الذي لم يظفر بمستوى من المعيشة يمكنه من إشباع حاجاته الضرورية والكمالية بالقدر الذي تسمح به حدود الثروة في البلاد. أو بتعبير آخر: من يعيش في مستوى تفصله هوة عميقة عن المستوى المعيشي للأثرياء في المجتمع الإسلامي (كم نحن بعيدون في هذا التعريف للفقر، عن مستواه في الوقت الحاضر، بالملايين الذين يموتون جوعاً كل عام!).
أما الغني فهو من لا تفصله في مستواه المعيشي هذه الهوة، ولا يعسر عليه إشباع حاجاته الضرورية والكمالية بالقدر الذي يتناسب مع ثروة البلاد ودرجة رفاهيتها المادية، سواءً كان يملك ثروة كبيرة أم لا.
فالنصوص تأمر الوالي إذاً بإعطاء الزكاة وما إليها، إلى أن يلحق الفرد بالناس، أو إلى أن يصبح غنياً، أو لإشباع حاجاته الأولية والثانوية من طعام وشراب وكسوة وزواج.. الخ ما يتمتع فيه المسلمون في مجتمعه.
ومن واجبات الوالي تطبيق مجموعة التشريعات الإسلامية التي حضت على حماية التوازن، كإلغاء الفائدة، ومحاربة اكتناز الأموال وتبديدها وتوجيه الموارد بشكل يكفل الموارد الضرورية للمجتمع، والامتناع عن إنتاج المواد الضارة والمحرمة وذات التكاليف الباهظة المبددة للثروة والمشكلة عبئاً على الاقتصاد العام، أو السيطرة على مساحات واسعة من الأرض، والتوقف عن إحيائها.. الخ، كما ذكرنا سابقاً.
ملء منطقة الفراغ من التشريع
إلا أن مسؤولية الدولة لا تقتصر على مجرد تطبيق الأحكام الثابتة في الشريعة، بل تمتد إلى ملء منطقة الفراغ من التشريع، لكي تملأها في ضوء الظروف المتطورة بالشكل الذي يضمن الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي.
فالإسلام، لا يقدم مبادئه التشريعية للحياة الاقتصادية بوصفها علاجاً موقوتاً (نرفع الفائدة ونخفض الفائدة بين يوم وليلة، ونرفع العملة ونهبط العملة بين لحظة والثانية، كالنظام الرأسمالي على سبيل المثال) وتنظيما مرحلياً يجتازه التاريخ بعد فترة من الزمن إلى شكل آخر من أشكال التنظيم، وإنما يقدمها باعتبارها الصورة النظرية الصالحة لجميع العصور. ولا بد لإعطاء الصورة هذا العموم والاستيعاب، أن ينعكس تطور العصور فيها ضمن عنصر متحرك، يمد الصورة بالقدر من التكيف وفقاً لظروف مختلفة.
فمن الواضح فقهياً -على سبيل المثال- أن يباح للبائع البيع بأي سعر أحب، ولا تمنع الشريعة بيع المالك للسلعة بسعر مجحف. إلا أن الرسول (ص) عندما علم أن بعض التجار يمارسون تضييقاً فاحشاً على الناس، وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات، منع الرسول الاحتكار، كما أمر الإمام علي واليه الأشتر بتحديد السعر، ومنع التجار من البيع بثمن أكبر، وفرض أن يكون البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين: البائع والمشتري.
وقد صدر عنهما ذلك بصفة "ولي أمر" استعمالاً لصلاحياتهما في ملء منطقة الفراغ، وفقاً لمقتضيات العدالة الاجتماعية.
وكمثال آخر على ذلك:
فالمبدأ التشريعي القائل: "إن من عمل في الأرض، وأنفق عليها جهداً حتى أحياها، فهو أحق بها من غيره" يعتبر في نظر الإسلام عادلاً، لأن من الظلم أن يساوي بين العامل الذي أنفق على الأرض جهده، وغيره ممن لم يعمل فيها شيئاً ولكن هذا المبدأ بسيطرة قدرة الإنسان على الطبيعة ونموها، أصبح من الممكن استغلاله. ففي عصر كان يقوم إحياء الأرض فيه على الأساليب القديمة، لم يكن يتاح للفرد أن يباشر عمليات الإحياء إلا في مساحات صغيرة. وأما بعد أن توفرت لدى الإنسان وسائل السيطرة على الطبيعة، أصبح بإمكان أفراد قلائل ممن تؤاتيهم الفرصة، أن يحيوا مساحات هائلة من الأرض، باستخدام الآلات الضخمة، الأمر الذي يزعزع العدالة الاجتماعية ومصالح الجماعة. فكان لا بد للصورة التشريعية من منطقة فراغ يمكن ملؤها حسب الظروف. فيسمح بالإحياء حسب الوسائل القديمة، ويمنع في الحالة الثانية إلا في حدود تتناسب مع أهداف الاقتصاد الإسلامي وتصوراته عن العدالة*.
والدليل التشريعي على إعطاء ولي الأمر صلاحيات كهذه لملء الفراغ: هو النص القرآني: ]يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم[.(النساء –29)(2/166)
إلا أن لصلاحيات ولي الأمر حدود: فيسمح لولي الأمر بالمنع أو الأمر لكل فعل مباح تشريعياً بطبيعته، ولا يوجد نص تشريعي يدل على حرمته أو وجوبه، فإذا منع الإمام عن فعل مباح بطبيعته، أصبح حراماً، وإذا أمر به، أصبح واجباً. وأما الأفعال التي ثبت تشريعياً تحريمها بشكل عام (كالربا) مثلاً، فليس من حق ولي الأمر السماح بها. كما أن الفعل الذي أوجبته الشريعة، كإنفاق الزوج على زوجته، لا يمكن لولي الأمر منعه، لأن طاعة أولي الأمر مفروضة بالحدود التي لا تتعارض مع طاعة الله، وأحكامه العامة.
فألوان النشاط المباحة بطبيعتها في الحياة الاقتصادية هي التي تشكل منطقة الفراغ.
وكما وضع الإسلام مبدأ التوازن الاجتماعي وحدد مفهومه، تكفل أيضاً بتوفير الإمكانيات اللازمة للدولة لكي تمارس ذلك المبدأ وتحقق العدالة الاجتماعية للجميع.
ويمكن تلخيص هذه الإمكانيات في الأمور التالية:
1ً- إيجاد قطاعات لملكية الدولة، تستثمرها وتنفق مواردها لأغراض التوازن الاجتماعي.
2ً- فرض ضرائب ثابتة تؤخذ بصورة مستمرة (الزكاة)
إيجاد قطاعات عامة*
لم يكتف الإسلام بالضرائب الثابتة، كالزكاة وما إليها، والتي سنبحثها بالتفصيل مؤخراً، لتنفيذ أحكام العدالة الاجتماعية وإيجاد التوازن بين جميع فئات الشعب وأفراده، بل جعل الدولة مسؤولة إلى جانبها بالإنفاق من القطاع العام بهذا الغرض. فقد جاء في الحديث عن الإمام موسى بن جعفر (ع): "إن على الوالي في حالة عدم كفاية الزكاة، أن يمون الفقراء من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا.
وكلمة (من عنده) تعني أي من غير الزكاة. من موارد بيت المال ويعتبر الفيء، من أحد موارد بيت المال. كقوله تعالى:
الآية: ] ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى، فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كي لا يكون دولة بين الأغنياء
منكم[.(الحشر-7)
ولا يختص الفيء بالغنيمة التي يغنمها المسلمون بدون قتال، بل يمتد إلى الأراضي الموات، وبطون الأودية، والمعادن، وكافة ما تدخل ملكيته في منصب النبي والإمام والتي تستخدم لغرض حفظ التوازن، وضمان تداول المال بين الجميع، كما تستخدم للمصالح العامة.
وكان الرسول (ص) والخلفاء من بعده يقطعون الأفراد من الأراضي، ويعطونهم الأموال للاستعانة بها على استثمارها، وذلك بحدود قدرتهم على استثمارها -كما ذكرنا- وكان الرسول (ص) قبل أن يسمح بإعطاء أية صدقة يحاول أن يجعل المحتاج يأكل من عمل يده.
وهكذا، فإن الإسلام يلزم الحاكم بتقديم مساعدته من أملاك الدولة، كمساعدة للعمل والإنتاج لا للاستهلاك فقط، فيحقق بذلك الفائدة للفرد والمجتمع بآن واحد. وبذلك فقد حض الإسلام على العمل وقدسه كما سنرى فيما بعد.
الزكاة كضريبة ثابتة
فالزكاة، كضريبة مالية مفروضة، هي الركن الرابع من أركان الإسلام الخمس، وهي من أهم العبادات الدينية، لكونها ليست مجانية، بل مادية مكلفة كما أنها أهم وسائل الضمان الاجتماعي، لقيمتها ليس فقط الاجتماعية والإنسانية بتحقيق التوازن الاجتماعي بمفهومه في الإسلام، وإنما السياسية والاقتصادية أيضاً.
آ-ويبدو دور الزكاة من الناحية الاجتماعية والاقتصادية جلياً من خلال تحديد مقدار الزكاة: إنه ربع العشر من المال المدخر، ولا تتركه حتى تنخفض به إلى عشرين ديناراً (حسب القوة الشرائية آنذاك).
وهنا تعتبر الزكاة بمثابة مصادرة تدريجية للمال الذي يكنز ويجمد عن العمل وبذلك تندفع جميع الأموال إلى حقول النشاط الاقتصادي بكافة فعالياته.
الآيات: ]الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها من نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون[ (التوبة-34)
وصورة (الهمزة)، وقد مر ذكرها سابقاً.
وهذا المنع من اكتناز المال ومحاربته بفرض ضريبة الزكاة عليه، يعبر عن أوجه الخلاف الخطير بين المذهب الإسلامي والمذهب الرأسمالي كما ذكرنا سابقاً، فالنظام الرأسمالي يشجعه، ويخلق له المصارف وبيوت المال لتكديسه وحجبه عن الإنتاج المثمر، ويكافئه بتشريع نظام الفائدة بينما يحاربه الإسلام ويمتصه عن طريق الزكاة ويدخله في حلبة الإنتاج وزيادة الاستهلاك الذي يدير عجلة الإنتاج.
ب- أما من الناحية السياسية، فإن استئثار فئة قليلة بالقسم الأكبر من المال، لابد أن يؤدي إلى أن يطغى نفوذها على الحكام أنفسهم، فلا يصبح بمقدورهم أن يعالجوا الخلل الاقتصادي والاجتماعي.
الآية: ]كي لا تكون دولة بين الأغنياء منكم[ (الحشر-7)
وهو ما نعيشه في الوقت الحاضر، في كافة بقاع العالم، إذ أن الثروات الضخمة التي تكدست في أيدي فئة قليلة من البشر، فاقت الثروات التي تملكها الحكومات ذاتها، ففقدت الدول بذلك هيبتها وسيطرتها على هؤلاء. الأثرياء، وانحصرت مهمتها بتأمين مصالحهم الخاصة فقط وتيسير مهماتهم على حساب استفحال الفقر والجوع والحرمان من أمس الحاجات الضرورية التي تقاسي منها الغالبية العظمى من الشعوب.
جـ- تحقيق التوازن الاجتماعي، وذلك بتأمين التقارب في مستوى المعيشة بين جميع أفراد الأمة، وذلك عن طريق تحويل المجتمع إلى طبقة واحدة غنية ومترفة، أي مساواة الناس بالغنى وليس بالفقر كما هو الحال في النظامين السابقين والدليل الفقهي على علاقة هذه الضريبة، وما إليها (الصدقة، والخمس) حسب المذاهب، بأغراض التوازن الاجتماعي، بالإضافة إلى الناحية الإنسانية والاقتصادية ما يلي:
عن إسحاق بن عمار: "قال: قلت للإمام جعفر بن محمد: هل أعطي الفقير مائة من الزكاة؟ قال: نعم، قلت: مائتين؟ قال: نعم، قلت: ثلاثمائة؟ قال: نعم، قلت: أربعمائة؟ قال نعم، قلت: خمسمائة؟ قال: نعم حتى تغنيه..."(2/167)
وكما مر معنا عن أبي بصير، عن الإمام جعفر بن الصادق:
"إن الله تعالى نظر في أموال الأغنياء، ثم نظر في الفقراء، فجعل لهم في أموال الأغنياء ما يكتفون به، ولو لم يكفهم لزادهم".
وعن الإمام علي رضي الله عنه: ]إن الله سبحانه وتعالى فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما منع به غني، والله تعالى جده سائلهم عن ذلك يوم القيامة[. نهج البلاغة.
وفي كل ذلك ما يبين امتداد حق الفقراء في أموال الأغنياء حتى الغنى وتحقيق التوازن الاجتماعي، وتقريب مستويات المعيشة بين جميع أفراد الأمة والمجتمع.
أصحاب الحق في الزكاة
الآيات: ]والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم[(المعارج-25)
]إنما الصدقات للفقراء والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين وفي سبيل الله، وابن السبيل[ (التوبة/ 60)
فالزكاة إذاً، هي حق معلوم في أموال الأغنياء، يصرف للفئات التي سمتها الآية 60 من صورة التوبة المذكورة.
الحض على العمل: وإذا كان الإسلام قد جعل لغير العاملين والفقراء والمساكين... الخ، ممن ورد ذكرهم في أحكام الزكاة، حقاً في ثروات الله التي حصل عليها العاملون، فإن هذا لا يعني أنه دفع الناس للخلود إلى الراحة والكسل، والاعتماد على الغير في معيشتهم، بل -على العكس- فقد حض الله تعالى على العمل وقدسه إلى منزلة العبادة
الآيات: ]وقل اعملوا فسيرى الله عملكم[ (التوبه-105)
]هو أنشأكم من الأرض، واستعمركم فيها[ (هود /61) أي كلفكم بإعمارها.
]هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً، فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور[ (الملك/ 15)
- وفضل الإسلام من يأكل بعمل يده عمن يقبل الصدقة. وقال (ص)
"اليد العليا خير من اليد السفلى" فأخذ المسلمون يتسابقون إلى العمل وأداء الصدقة بدل قبولها
وقال أيضاً: "من فتح على نفسه باب السؤال، فتح الله عليه سبعين باباً من الفقر".
ومن تقديسه للعمل إلى منزلة العبادة، جاء في الحديث:
أثنى الصحابة أمام الرسول على رجل يكثر من العبادة، فسألهم: من يعيله؟ قالوا: "كلنا"، فقال: "كلكم أعبد منه".
وعن الرسول (ص): أنه رفع يوماً يد عامل مكدود فقبلها، وقال:
"طلب الحلال فرض على كل مسلم ومسلمة، ومن أكل من كد يده مر على الصراط كالبرق، ومن أكل من كد يده نظر الله إليه بالرحمة، ثم لا يعذبه أبداً، ومن أكل من كد يده حلالاً فتح الله له أبواب الجنة يدخل من أين شاء.
وكان الرسول (ص) كما جاء في سيرته الشريفة، يسأل عن الشخص إذا أعجبه مظهره، فإذا قيل له "ليس له حرفة، ولا عمل يمارسه"، سقط من عينه،
ويقول: "إن المؤمن من إذا لم تكن لديه حرفة يعيش بدينه".
ويقول الصادق:"لا خير فيمن لا يحب جمع المال من حلال، يكف به وجهه، ويقضي به دينه، ويصل به رحمه".
وجعل الإسلام العمل سبباً لتملك الأرض: "من أحيا أرضاً فهي له"، كما جعل عمارة الأرض سبباً لتملكها، فإن توقف عن إعمارها اقتطعت منه. قال(ص): "وليس لمحتجز حق فوق ثلاث"، أي لا يحق لمن يحتجز أرضاً أن يهملها أكثر من ثلاث سنوات.
الحض على العلم:
كان الحصن على العلم أول آية أنزلت على رسول الله (ص)، الآية: ]اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم[.
وجعل الإسلام من طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة:
الحديث: ]العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة[.
" كما جعل العلماء بمثابة الأنبياء وفضلهم على سائر البشر:
]هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟![ (الزمره-5)
الآية: ]إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون[. (الرعد-4)
]إنما يخشى الله من عباده العلماء[.(*) (فاطر-28)
]ويتفكرون في خلق السموات والأرض[
وأقرن الإسلام العلم بالعمل: "العلم والعمل توأمان"، وذلك لكي يتم التحقيق من صواب العلم من خلال تطبيقه العملي، ولكي تتم تغذية العمل باستمرار بنتائج العلم الصائب، لتطوير العمل وتحسينه. ولكنه ألح على طلب العلم النافع: "اللهم احمنا من علمٍ لا ينفع"، (للأسف، إننا في عصر يسود فيه العلم الضار - بكافة صنوفه من الطب، للزراعة وأسمدتها الكيماوية ومبيدات أعشابها وتصنيعها، إلى الفضاء وتجسسه وأسلحته الفتاكة، إلى الإشعاعات والجينات وأنابيب خلق الكائنات...الخ)(**)
وبصورة عامة، لابد للعلم والعمل من أن يهدفا إلى تحقيق سعادة الفرد في الدنيا وخلوده في الآخرة: عن علي (ع):
"اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً".
وذلك، لكي لا يفقد الإنسان أمله في الحياة، فلا يتوقف عن العمل المستمر مهما أصيب من أمراض، ومصائب وفشل (فالله يغير من حالٍ إلى حال).
ولابد من أن يكون عمله -في الوقت نفسه- صالحاً لخير المجتمع، فيكسب بذلك دينه ودنياه.
وهكذا، فإن السياسة الاقتصادية في الإسلام توجب على الحاكم تحسين الدخول فرداً فرداً، أي ليس باحتساب الزيادة الإجمالية في الدخل التي قد لا تصيب في التوزيع إلا فئة بسيطة من المستغلين، كما هو الحال في النظامين السابقين.
وبفضل هذه العدالة الاجتماعية، ازداد الشعور بالمسؤولية بين المسلمين، وأقبلوا على العمل بشغف وإتقان ونشاط، لدرجة قلما كان يوجد بين صفوف المسلمين من يستحق الزكاة. ويشهد على ذلك أنه في عهد الخليفة (عمر بن عبدالعزيز)، كان أحد عملائه في الكوفة يعيد الأموال، التي كان يكلفه الخليفة بتوزيعها على الفقراء والمحتاجين، إلى بيت مال المسلمين، وعندما سأله الخليفةعن السبب أجاب:
"لم أجد فيها من يستحق الزكاة".(2/168)
وكما قال الكاتب الفرنسي الكبير (آلان راود)، في كتابه "اليمن وشعوبها": "أحببت صنعاء كما يحب البستان الماء، لا لأنها بلد الـ(13000) حمام و(13000) جامع، في كامل الجلال والجمال، في عهد هارون الرشيد، ولكن، لأن فيها كل ما يشهد على حضارة ورفاهية شعب بأسره"(*).
والسؤال الآن:
لماذا جعل الإسلام الزكاة حقاً للسائل والمحروم...الخ
وليست مجرد هبة أو صدقة؟!..
مما لاشك فيه، أن للزكاة -كما رأينا - منافع عديدة، اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، وهي العبادة الوحيدة المكلفة، والمتوجبة طيلة حياة المسلم المكلف. ولكن...لماذا جعلها الله سبحانه وتعالى حقاً للمستحقين، وليست هبة أو صدقة، كما في قوله تعالى:
الآية: ]الذين في أموالكم حق معلوم للسائل والمحروم[.(النور-33)
والجواب -على ما أعتقد يكمن - بصفتي اقتصادية- في الآيتين الكريمتين التاليتين:
- ] وآتوهم من مال الله الذي آتاكم [.
- والله الذي خلق السموات والأرض، وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار". (ابراهيم-32)
أي أن الله سبحانه وتعالى الذي خلق الكائنات على وجه الأرض، خلق لهم فيها ما يكفيهم جميعاً.وأن ما على سطح الأرض، ومافي جوفها، وسمائها هوملك لله وحده، ومخصص لجميع عباده.وما الإنسان العامل إلا مستخلف من قبل الله لاستثمار خيراته. فالامتناع عن استغلالها أو المنع من ذلك، يعتبر ظلماً وكفراً، ويحول دون وصول البشر إلى مرتبة خليفة الله في الأرض.
أما العاجزون عن العمل والمحرومون فيه، والبؤساء والمساكين.. الخ. فهم أيضاً من عباد الله، ولهم نصيبهم مما آتى العاملين والمورثين، فهو خالقهم وكافلهم أيضاً من ثروات الله ]وآتوهم من مال الله الذي آتاكم[.
في الحقيقة، إن الله الذي خلق هذا الكون بكل مافيه من إنسان وحيوان ونبات، خلق له معه في هذه الطبيعة كل مايكفل له حياته إلى أجل لا يعلمه إلا هو. فالإنسان، يجد في هذه الأرض، كل مايؤمن له، طعامه وشرابه، وكساءه، ودواءه، ومتعته ومأواه.. الخ.. وحضه على العمل لاستثمار هذه الثروات واستغلالها، وجهزه بكل مايلزم لذلك من عقل وطاقة وقوة... الخ. وفرض عليه أن يؤدي من هذا المال الذي آتاه الله به حصة الفقراء والمساكين والمحرومين من العمل.. الخ، أصحاب الحق في الحياة من هذه الثروات مثله.
والحيوان، هداه الله عن طريق الغريزة إلى اكتشاف مايؤمن له غذاءه الذي يتفق مع تكوينه، واختيار مأواه، وحماية نفسه.. الخ( وما تدخل الإنسان في حياة الحيوانات، وتعليمها دروسها، وتكثيرها بطرق اصطناعية تجارية محضة، إلا وراء اندثار القسم الأكبر من هذه الحيوانات، وفسادها)، فالعصفور -على سبيل المثال- يميز من ذاته بين الحبة النافعة التي تلائمه وغير النافعة، أو الحجرة؛ والنحلة، وحتى النملة، أدق مخلوقات الله، تقوم بنفسها بأمهر ما يقوم به أفضل العلماء من بني الإنسان فبيوت النمل الرائعة الصنع استوحيت منها ناطحات السحاب في أمريكا، والنحل -كما نعلم- يقوم بأدهش عملية إنتاجية في الكون، تنظم فيها مراحل الإنتاج، وتوزع الأدوار على العاملات وتقوم كل منها بدورها في أوقات محددة دقيقة، حسب المستلزمات والمعطيات من الطبيعة، دون أن يكون فيها أي دور أوجهد للإنسان، اللهم إلا ليمد يده ويتناول أقراص الشهد، ويأكله هنيئاً مريئاً فيه شفاء للناس.
(وكلنا يعلم أن تدخل الإنسان الحديث في تغذية النحل في الوقت الحاضر، قد أفسد العسل، وشل وظيفته كشفاء للناس، إن لم يكن قد حولها إلى ضرر بالصحة).
فلماذا يختص الشخص الذي حصل على العسل به وحده، وما الذي جعل له الحق به وحده، من دون المحتاج، علماً بأنه خلق للناس أجمعين؟
فعملية الإنتاج في هذا المثال، واليد العاملة، والمواد الأولية، والإشراف على العمل، ورأس المال والعمل والعمال، كلها من عند الله، وهديه لعباده.
وقس على ذلك بالنسبة للأسماك، التي تغص بها البحار والأنهار، والتي لا تتطلب إلا إلقاء الشبكة في الماء(*)، وملايين الأنواع من النباتات الصالحة كغذاء وكساء ودواء، مما اكتشف، ومالم يكتشف بعد، والتي لا حاجة في إنتاجها للإنسان وعمله، فكلها من عند الله، ولصالح عباده أجمعين.
كما أن هناك عدداً لا يحصى من الثروات التي خلقها الله في الطبيعة، والتي لابد للاستفادة منها من عمل الإنسان. كاستخراج المعادن من باطن الأرض، وتصنيعها وتحويلها، وزراعة البساتين والكروم والحقول... الخ. ويتجلى في هذه العمليات الإنتاجية اشتراك الخالق مع البشر جنباً إلى جنب في استخراج ملك الله واستثماره.
ولنأخذ مثال الإنبات في الزراعة، لنحدد ما نتج منه بفضل عمل البشر، وماهو من هبة الإله.
فهناك عدد كبير من النباتات والثمار، لا تحتاج من جهد الإنسان إلا وضع البزرة في التربة، علماً بأن البزرة الأولى، والشجرة الأولى لكل ما ينبت على وجه الأرض من نباتات هي من خلق الله. قال تعالى: ] وآية لهم الأرض الميتة أحييناها، وأخرجنا منها حباً فمنها يأكلون، وجعلنا فيها جناتٍ من نخيل وأعنابٍ، وفجرنا فيها من العيون[.(ياسين-33)
وما التربة وما بداخلها من مواد عضوية لتغذيتها، والأمطار التي تهطل من السماء لسقايتها، والشمس التي تمدها بالحرارة لإنضاجها، والرياح التي تتولى عملية التلقيح، وتمدها بالأوكسجين والهيدروجين إلى آخر ما هنالك،مما نعلم وما لا نعلم.. ما هذا كله إلا من عند الله، وليس لإنسان أي دور فيه(*)، فالمواد الأولية الأساسية في هذا المثال، الضرورية لعملية الإنتاج، كلها هبة من عند الله، ولذا فإن الإنتاج حق لعباده أجمعين.(2/169)
وهناك عدد آخر من النباتات تحتاج إلى جهد أكبر من الإنسان في زراعتها، وسقايتها، وحصادها، وجنيها، كما تحتاج إلى رأس مال لتأمين ذلك. أي أنها تحتاج إلى:
ـ رأس مال.
ـ أدوات إنتاج، تقليدية أو عصرية.
ـ يد عاملة.
ولكن، هذه الخدمات لا تقاس بالعطاءات المجانية التي يقدمها الإله، وهي الوسائل الرئيسية في الإنتاج، ولا يمكن أن يتم الإنتاج بدونها:
ـ الأرض وما تحتوي تربتها من المواد العضوية.
ـ الماء الذي ينبع من الأرض أو يهبط من السماء.
ـ الشمس، والهواء,....الخ..
وهذه تأتي كلها مجاناً من عند الإله، والحق فيها لعباد الله قاطبة".
فكيف يتم التوزيع حسب النظام الحالي، وكيف يجب أن يتم حسب تعاليم الإسلام؟...
التوزيع حسب النظام الحالي:
يأتي رأس المال، على رأس المستفيدين من حصة الإنتاج، من ربح، وفائدة وريع، علماً بأن صاحبه لايقوم بأي عمل
وإذا ما كان هونفسه الذي يقدم وسائل الإنتاج، كالشركات العالمية، وهذا هو الغالب في الوقت الحاضر، فإنه يستأثر بالإنتاج وحده، ولا يصيب العاملين الذين قدموا الجهد الأكبر سوى نسبة بسيطة كأجر، لا يكفيه قوت يومه، وهو يأخذ بالتضاؤل شيئاً فشيئاً نظراً لكثرة العرض في اليد العاملة على الطلب، والمشردة من كافة بلدان العالم.
فتوزيع الإنتاج يقتصر هنا على حق رأس المال وأدواته من الوسائل البشرية، ولا يأخذ بعين الاعتبار وسائل الإنتاج الربانية، والتي بدونها لا يستطيع أي إنسان، وأي رأس مال، وأية وسائل إنتاج بشرية، أن تنتج شيئاً. أي أن التوزيع -بهذه الحالة- لا يصيب حصة الفقراء والمحتاجين...الخ. ممن لهم حق ونصيب في هبات الله، والذين خلقهم وتكفل بهم.
التوزيع حسب أحكام الله:
يجعل الإسلام العمل -بصورة عامة- شرطاً في تملك الثروة الطبيعية التي لا يملكها فرد آخر مثل: الخشب الذي يقتطعه العامل من أشجار الغابة، والأسماك والطيور في البحر والجو، والمواد المعدنية التي يستخرجها المنتج من مناجمها، والأرض الميتة التي يحييها الزراع ويعدونها للإنتاج، وعين الماء التي يستنبطها من أعماق الأرض... الخ. وهي كلها ملك عام كما ذكرنا.
فالعامل -في هذه الحالات- له وحده ملكية الإنتاج الذي أنتجه، على أن يوزع، قبل كل شيء، حصة غير العاملين والمحتاجين... الخ. الوارد ذكرهم في آية التوبة، كما ذكرنا سابقاً، وليس لرأس المال على تلك الثروات إلا الحق بالأجر.
وبهذا، فإن الفرق بين النظرية الإسلامية في التوزيع، مابعد الإنتاج، والنظرية الرأسمالية كبير للغاية. ومرد هذا الفرق إلى اختلاف النظريتين في تحديد مركز الإنسان، ودوره في عملية الإنتاج. فدور الإنسان في الأولى هو دور الوسيلة التي تخدم الإنتاج، ودوره في الإسلام الغاية التي يخدمها الإنتاج. فالإنسان، في النظام الرأسمالي، كما في النظام الاشتراكي، هو بمثابة سائر القوى المساهمة في الإنتاج، يتلقى نصيبه من الثروة الطبيعية التي جهد في استخراجها وتحويلها، بوصفه خادماً للإنتاج، كأجر فقط، لاستمرار حياته وعمله، بينما يصبح مالك رأس المال مستحوذاً على جميع ما يقوم به الأجراء لإنتاجه، ومن حقه بيعه بالثمن الذي يحلو له، دون أن يؤدي حصة من لهم نصيب من ملك الله الذي آتاهم....(*).
أما النظرية الإسلامية، فهي تجعل العمل شرطاً في تملك الثروة الطبيعية، وتمنح العامل وحده حق ملكية الإنتاج الذي أنتجه، وتختفي سيطرة رأس المال على تلك الثروات، التي يمتلكها في ظل المذهب الرأسمالي لمجرد قدرته على توفير الآلات اللازمة للإنتاج، ودفع نفقاته، وتحل محلها سيطرة الإنسان على ثروات الطبيعة التي خلقها الله لخدمة الإنسان، لأنه الغرض من الإنتاج. ولا يحصل رأس المال وأدواته إلا على أجر لقاء الخدمة التي قدمها، وهي لا تعني المشاركة في الثروة المنتجة.
وإذا لم يكن للوسائل المستعملة في الإنتاج مالك آخر سوى الإنسان العامل نفسه، فلا يشاركه أحد في الإنتاج سوى من لهم نصيب من ملك الله الذي آتاه كحقه تماماً.وهم الفقراء والمحتاجون الوارد ذكرهم في آية التوبة... الخ. كما ذكرنا.
الفرق في التوزيع بين الماركسية والإسلام:
- من الناحية النظرية:
مما لاشك فيه أن النظرية الماركسية كانت قداستوحت من النظام الإسلامي شيئاً من مبدأ العدالة الاجتماعية. وذلك فيما يتعلق بمسؤولية الدولة في تأمين سبل العمل لكافة السكان (وبالفعل، لم يكن قبل انهيار النظام المذكور في أوائل التسعينات عاطل واحد عن العمل)، (يتجاوز عدد العاطلين عن العمل في ظل نظام الحرية الجديد 65% في روسيا عام 1996، وتقارب في الوقت الحاضر ثلاث أرباع السكان)، كما ضمنت للعاجز والمريض الضمانات الضرورية اللازمة للحياة.
وهي تعتبر أيضاً تماشياً مع القواعد الإسلامية، أن للعامل الحق بالإنتاج وليس بالأجر، إلاأنها تقيده بما أضافه العامل بعمله على المادة الأساسية -قبل العمل- من قيمة جديدة تبادلية. ولذا، فإن للعامل في رأي الماركسية الحق في السلعة المنتجة، باستثناء قيمة المادة التي تسلمها من الدولة قبل الإنتاج.
- من الناحية العملية:(2/170)
أما من خلال التطبيق العملي، فإن القائمين على إدارة المشاريع المؤممة لم يدفعوا للعالم إلا أجراً –كأصحاب المشاريع الرأسمالية- لايكاد يكفيه ليتابع عمله، وكدسوا لأنفسهم الأموال على حساب العامل، والمشاريع الإنتاجية نفسها، التي أفلس معظمها، مما أدى إلى استفحال مديونية الدول الاشتراكية، وتوقفها عن تسديد ديونها، وفقدان الحاجات الضرورية، حتى الغذائية الأساسية. وكلنا يذكر طوابير البشر التي كانت تتدافع، أمام مراكز التوزيع، أياماً وأسابيع، للحصول على قطعة لحم مجمدة، أو حتى ربطة خبز جافة، آخر أيام العهد، والتي كانت السبب الرئيسي في سقوط النظام. ومن الطبيعي أن هؤلاء المستغلين – هم أنفسم – الذين استلموا مقادير الحكم في النظام الجديد، ليعودوا بالشعوب، ليس فقط إلى أيام القياصرة، فهم بعيدون جداً عنها حتى أيام النظام الاشتراكي في عهده المرموق، بل إلىعصور الهمجية والغوغائية في أظلم العهود...!
أما الإسلام، فقد منح العامل، نظرياً وعملياً، خلال قرون عديدة من تطبيقه لشريعته، كل الثروة التي أنتجها العامل، إذا كانت المادة الأساسية التي مارسها العامل في عملية الإنتاج ثروة طبيعية لا يملكها فرد آخر، أي إذا كان هونفسه قداستخرجها من الطبيعة، ومهما كانت هذه الثروة، سواءً كانت ذهباً أو حجراً، أما إذا كانت ملكاً لفرد آخر، فلا مجال لمنحها للإنسان العامل على أساس الإنتاج الجديد الذي أدخله عليها، لأنها تحمل عمل المالك الذي له الحق الثابت بالملك، ويقتصر هنا حق العامل على الأجر فقط، وهذا مايطلق عليه اسم ظاهرة الثبات في الملكية(*).
إلا أن هذه الأحكام، أصبحت في الوقت الحاضر، -على مايبدو- مستحيلة التطبيق، حتى في البلدان التي تتبنى الإسلام في الذات، وأضحت العدالة الاجتماعية حبراً على ورق في اجتهادات الفقهاء في الإسلام، فلا الراعي ولا الرعية بقادرين على تنفيذ أحكامها لفقدان المعطيات في بلاد الإسلام بالذات.
ـ فلا الأرض ومافيها من الثروات الطبيعية بقيت ملكاً للإله –حسب زعمهم- ولا للشعوب ولا الحكام.. إنها فيما فوقها، وماتحتها وما في جوفها وسمائها ومائها بأيدي الشركات الأجنبية العالمية... تتصرف فيها كما تشاء.
ـ وأصبح العمل،ووسائل العمل بأيدي هذه الشركات...
ـ وانحصر المحصول ومردود المحصول في ملكها أيضاً، تحوله أين تشاء وتحرم شعوبه منه.
وهذا يتعارض -في الواقع- مع أحكام الإسلام الذي منع ملكية رقبة الأرض، حتى للعاملين فيها من أبناء الشعب(فهي ملك لله)، وحصر منفعتها فقط بهم، على ألا يتوقفوا عن استثمارها، وإلا أخذت منهم، وسلمت لغيرهم،كما رأينا، ولكن، على أن يوزعوا حقوق المحتاجين.
ـ وكذلك، امتدت سيطرة الشركات المذكورة ــ عن طريق التخصيص ـ إلى كل مرفق من المرافق العامة، التي كانت في عهدة الحكام، وفقدت الحكومات كل سيطرة عليها، مما أدى إلى شلل مهمة الراعي في تأمين العدالة الاجتماعية، وتأمين الخدمات العامة للشعوب، واقتصردورهم على سن القوانين التي تفتح للشركات الأجنبية المذكورة، الأبواب على مصراعيها، لسرقة خيرات البلاد، وتكديس الأموال، وتحويلها دون رقابة ولا حساب، إلى أي مكان تشاء.(*)
ولم يبق -في الواقع- للشعوب التي حضها الإسلام على العمل واستثمار خيرات الأرض، أية فرصة للعمل، سوى التمثيل، والرقص، والغناء، واحتلال الأرصفة (من رجال ونساء وأطفال) لإمتاع السياح. فليس لهم الحق في اقتطاع حجر، أو احتطاب خشب، أو زراعة أرض، أو غرس شجر، أو صيد سمك، أوحتى عصفور، كما لم يبق لها الحق في فتح دكان كقصاب أو سمان...!. ولم يبق في ساحة العمل إلا الشركات الأجنبية، ومجمعاتها، وعملاؤها في الداخل، وكأن الله تعالى، قد استخلف فقط الإنسان الأمريكي الصهيوني. على ثروات الأرض بكاملها، ومنحهم إياها بوثيقة مضمونة -كما يعتقدون-. وإنني لأتساءل هل خصهم الإله من المميزات العقلية والجسدية، بما يفوق منها مالدى الشعوب التعيسة الأخرى؟!...
وهل اكتشف، أن خليفة الله هذا، قد حباه الله بأربع عيون، ورأسان وثمانية أطراف؟....
أم أن الله قد خلق البشر كلهم سواسية "كأسنان المشط"، لا فرق بينهم إلا بالتقوى؟!..
وهاهي حضاراتهم التليدة تشهد على عبقرياتهم ومهاراتهم بشكل لا مجال فيه للمقارنة بينها وبين حضارة الصهاينة الأمريكان...!.
والحضارة الإسلامية، في هذا المضمار -والتي نقل القسم الأعظم منها ومن علومها وفنونها إلى متاحفهم، عدا ما حرق وأبيد منها بدافع الحقد والإعاقة، بالطبع، خوفاً منها -شاهدة على ذلك-...
وهي لم تهدم حضارة البلدان التي فتحتها، بل -على العكس-.. فقد رممتها وجددتها، وأضافت عليها من مميزاتها وإبداعها، وذلك بشهادة أقسى أعدائها، كما أنها لم تسلب حق الشعوب في استثمار خيرات بلادها، بل -على العكس- وزعت الحق في إنتاج هذه الثروات وخيراتها، على كل فرد، فرداً فرداً، فمن اليمن السعيد إلى الأندلس العتيد إلى ربوع الصين والهند وكازخستان وإيران... برزت حضارات يعجز اللسان عن وصفها، مصحوبة -قبل كل شيء- بسعادة الإنسان كل إنسان...!
حتى اعترف لها بذلك المؤرخ الإنكليزي الكبير بقوله:
"ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب"....
ولكنني للأسف الشديد، لست على يقين، بوجود من يملك من المسلمين في هذه الأيام، الجدارة، والحرية، والاستقلال بثروات البلاد، لاستلام مقاليد الإسلام.(2/171)
لقد تعطل -كما رأينا- دور الراعي في القيام بمسؤولياته، للقيام بتأمين سبل العدالة الاجتماعية، واستثمار خيرات البلاد، وإدارة مرافقها، فلم يعد قادراً على تأمين العمل والعيش الكريم للقادرين على العمل، ولا الحاجات الكمالية، لا بله الحياتية الأساسية، للعاجزين عنه، وكبلت البلدان بالديون، وجفت الموارد العامة من الخزينة، وضغطت النفقات من حساب حياة الشعوب، ليوجه القسم الأكبر منها لتسديد الديون...
- كما تعطل دور الأفراد أيضاً بالقيام بدورهم في كفالة بعضهم بعضاً.
فكيف يمكن للعاملين، الذين هبطت دخولهم إلى دون عتبة الفقر بكثير، أن يكفلوا حياة غير العاملين، والمحرومين...الخ. وهم أنفسهم بحاجة لمن يكفل لهم حاجاتهم الرئيسية أيضاً؟!...
فالجميع الآن بحاجة للتكافل...!
فمن الذي سيدفع الزكاة؟!....
أهي الشركات العالمية، والصهيونية التي تمولها، وهي تشن حرباً ضروساً على الشعوب كافة، وخاصة منها الشعوب الإسلامية، بكافة الوسائل، وفي كل مكان؟!...
وإذا لم يحقق الإسلام للمسلمين هذا الضمان، فماذا يبقى للمسلمين من الإسلام؟!...
الموت في سبيل الله!؟...
أم في سبيل الصهاينة الأميركان؟!....
الخلاصة العامة
إن الهدف من هذا البحث، ليس الدخول في أحكام النظريتين الماركسية والرأسمالية، وفلسفاتهما من حيث هي، وإنما من خلال انعكاسهما على المجتمع الإنساني من سعادة، ورفاهية، وعدالة، وأمان .
ومرد هذا الاختلاف يعود، في الواقع، إلى الاختلاف في تحديد مركز الإنسان ودوره في عملية الإنتاج.
فبالنسبة للنظام الرأسمالي، فإن دور الإنسان هو الوسيلة التي تخدم الإنتاج والربح، لا الغاية التي يخدمها الإنتاج، فهو في صف القوى المساهمة في الإنتاج، من طبيعة وماديه ورأس مال، بل والحلقة الأوهى منه، فيتلقى أجراً على مساهمته في الإنتاج، يعينه فقط على متابعه الإنتاج.
أمافي النظام الماركسي، فإن دوره في عملية الإنتاج هو الوسيلة التي تخدم النظام وتوصل وسائل الإنتاج، ولو بشكل مصطنع، إلى المرحلة المطلوبة حسب المادية التاريخية المبتدعة لتبرير هذا النظام، ولذا، فإن العامل من الناحية النظرية فقط، له الحق من الإنتاج بمقدار ما منحه بعمله من فرق في القيمة التبادلية الجديدة، شأنه في ذلك شأن بقية وسائل الإنتاج. أما من الناحية العملية، فإن نصيبه الفعلي قد انخفض إلى مستوى أدنى بكثير مما حصل عليه العامل من أجر في النظام الرأسمالي، وانفرد الحكام بالقيمة وفرق القيمة معاً.
ولذا، فلا فرق بين النظامين في الواقع، فرأس المال الخاص ينتخب رجال الحكم والحكام في النظام الرأسمالي، الذين يشتركون معه في الربح على حساب العمل والعمال، ويختص رجال الحكم في النظام الماركسي برأس المال ووسائل الإنتاج ليثروا على حساب العمل والعمال.
أما مركز الإنسان في الإسلام، فهومركز الغاية لا الوسيلة، فليس هو في مركز الوسائل المادية لتوزيع الثروة بين الإنسان وتلك الوسائل، بل إن الوسائل المادية تعتبر خادمة للإنسان في إنجاز عملية الإنتاج، لأن عملية الإنتاج هي نفسها لأجل الإنسان.وبذلك يختلف نصيبه عن نصيب الوسائل المذكورة. فهو وحده صاحب الحق في الإنتاج. بينما تتقاضى الوسائل المادية، ويتقاضى رأس المال مكافأة من الإنسان المنتج، بوصفها خادمة له.
ولابد من خلال النتائج التي آلت إليها التطبيقات للمذهبين الاقتصاديين الدوليين اللذين شملا العالم خلال مدة نصف قرن، لابد أن نشك في أن المشاكل التي تصدى لها المذهبان، كان المراد منها رعاية حقوق الإنسان، بل على العكس محاربة الإنسان في كل مكان، لأن الحلول المطروحة قد أدت إلى استفحال المشاكل الحقيقية، وخلق مشاكل جديدة سدت أمام الشعوب كل حق بالحياة في العالم أجمع، وليس فقط في موطنهما بالذات.
فالسؤال الذي يتحتم علينا أن نجيب عليه بعد دراسة هذين النظامين هو إذاً:
هل كانت المادية التاريخية المبتدعة، ووسائل الإنتاج المصطنعة، والطبقية التي أبيدت لتحل محلها الطبقية التي خلقت، من جهة النظام الماركسي؛ وقوانين العرض والطلب، والحرية المطلقة من عقالها بلا حدود، وتطوير وسائل الإنتاج لتحل محل الإنسان وتكثر من الإنتاج، من جهة النظام الحر، هل كانت بالفعل الحلول الحقيقية الناجعة لمشاكلهم في موطنهم بالذات، قبل أن تصبح الترياق في كل مكان...؟!…
فالمادية التاريخية: التي اتخذت صفة العلم في النظام الماركسي تفسر أوضاع الأمم السياسية والتاريخية والثقافية والحضارية من خلال تطور وسائل الإنتاج، علماً بأن التاريخ يشهد على أن المجتمعات التي سبقت العصر الحديث في الوجود، كانت متقاربة جداً في وسائل الإنتاج، ومع ذلك، فقد كانت تختلف اختلافاً كبيراً في مستوياتها العلمية والفكرية والحضارية، فشتان بين المجتمع الأوروبي في القرون الوسطى المظلمه، وبين المجتمعات الإسلامية وحضاراتها الرائعة في الأندلس، والعراق،ومصر... الخ في ذلك الحين.
ووسائل الإنتاج نفسها، كان قد أجري عليها التغيير بشكل مصطنع، بعد الثورة لكي تصل إلى المرحلة المطلوبة للإيديولوجية الماركسية، إذ أن وسائل الإنتاج في روسيا مثلاً، لم تكن قبل الثورة الاشتراكية لتبلغ الدرجة التي حددتها النظرية لا مكان التحول المطلوب واندلاع الثورة العمالية. فقد كانت في مؤخرة الدول الأوروبية من الناحية الصناعية. وعلى العكس، فقد كانت تلك القوى في مرحلة القمة من تطورها في كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا. ومع ذلك، فهذه البلدان كانت وبقيت أبعد ما تكون عن التحول العلمي الإجباري المطلوب للمادية التاريخية.(2/172)
أما الطبقية التي دثرت بحجة الظلم والتعسف، لتحل محلها الطبقة الأرحم والأعدل، والأدهي التي خلقت، فإن الاستيلاء على وسائل الإنتاج من طبقة كانت تنتج وتغذي الشعب والخزينة بالحاجات الضرورية، وتسليمها إلى طبقة أخرى هي، بالأصل، لا تملك ذات المؤهلات لإدارة عجلة الإنتاج، لم يقض على التركيب الطبقي بل خلق تركيباً من نوع آخر، وإن الإمكانيات والصلاحيات التي تمتعت بها الطبقة الجديدة تفوق سائر الإمكانيات التي حصلت عليها أكثر الطبقات ظلماً على مر التاريخ. وسمح لها النظام أن تتمتع وحدها بالمحتوى الحقيقي للملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، وحصلت على نفس الفرص التي كان الرأسماليون والاحتكاريون يتمتعون بها، كما أصبحت، أقدر من أي رأسمالي على سرقة فرق القيمة في الإنتاج، والاستئثار بها، دون أن يجرؤ أي لسان أو قلم على انتقادها، إذ كمت الأفواه، وقيدت حرية الفكر والإصلاح.
وهذا ما يفسر الفروق الشاسعة بين ثرواتها الضخمة التي راكمتها، وحالات الضيق والحرمان وفقدان المواد الغذائية الرئيسية التي عانى منها السكان، بل والأزمة الاقتصادية العصيبة التي أتت على النظام في أوائل التسعينات.
كل هذا، وهذا غيض من فيض، يجعلنا نشك بأن المشاكل التي طرحها هذا النظام، والحلول التي طبقها كانت لتخليص الشعوب من ظلم القيصرية وتأمين الحقوق لها والعدل والأمان، ناهيك عن جدواها لمشاكل شعوب العالم قاطبة بعد تدويلها والتي لا ناقة لها ولا جمل بالقيصرية ولا بالمادية التاريخيةووسائلها الإنتاجية - أو سواها من المشاكل المبتدعة.
فقادة التجربة الماركسية الجدد الذين زعموا أنهم يرغبون خلق الجنة الشيوعية الموعودة للشعوب على الأرض بدلاً لجنة الله في السماء، كانوا قد قضوا على قادة الثورة الحقيقيين ورؤوسها المفكرة عشية نجاح الثورة، فقاموا بعمليات تطهير ما يزيد على مليونين من أعضاء الحزب عام 1939 من أصل مليونين ونصف، عدا الوزراء وكافة ضباط الجيش.
كما جردوا الفلاحين المالكين من وسائل إنتاجهم (1928-1930). لأنهم يعتبرون الزراعة تخلفاً، وبوسائل وحشية يندى لها الجبين، راح ضحيتها مائة ألف قتيل، باعتراف التقارير الشيوعية ذاتها، وأضعاف هذا العدد حسب تقرير أعدائها، اتبعوها بالمجاعة الفاحشة (1932)، التي راح ضحيتها ستة ملايين نسمة، وذلك باعتراف الحكومة نفسها.
وهكذا، فقد سقط هذا النظام، ولم يبلغ من العمر نصف قرن، ذلك لأن معدّته لم تعد تهضم صناعة الحديد والصلب، في وقت لجأت معه أمريكا إلى استعمال سلاح الغذاء الأشد مضاءً من كافة ترسانته النووية. سقط وبأيدي قادته الجدد وطليعته المزعومة، ليتربعوا -هم أنفسهم- على عرش ماتلاه من أسوأ نظام يدعي الحرية والديموقراطية، ودون أن يرتفع فيه صوت واحد يعلن الاحتجاج.
وإذا ما أفاد المذهب الماركسي في شيء، فإنه مما لاشك فيه قد أفاد المذهب الحر في البلدان الصناعية ذاتها، وجعلها تغدق بعطاءاتها على العمال لتسد الطريق الذي يمكن أن تنفذ منه الشيوعية. وما أن زال خطر ثورة العمال المرتقبه بزوال خطر الشيوعية نفسها في موطنها بالذات، حتى كشرت الحقبة المسيطرة على القطاعات الإنتاجية الرأسمالية عن أنيابها، وأخذت بتشليح العمال الضمانات الاجتماعية التي منحهم إياها النظام، وتفننت بألوان التسريح التعسفي، والأدوات التكنولوجية الحديثة التي تستغني أكثر فأكثر عن العمال (فالتكنولوجيا الحديثة المتطورة هي بالدرجة الأولى، ذات هدف سياسي، الغاية منه تقليص دور العمال وحجمهم وسرقة حقوقهم).
وفي روسيا الديمقراطية الحالية بالذات، تطالعنا آخر المآسي من "عمال بلا أجور"، و"متقاعدين دون تقاعد"، و"ضباط بلا رواتب"، وعاطلين عن العمل تتجاوز نسبتهم العاملين، مع تفشي الجرائم والصراعات من شتى الأنواع: من صراعات عرقية وعنصرية، ودينية وحياتية، في الاتحاد السوفياتي السابق، قل أن يكون لها وجود. وقد تحولت تحت تأثير نظام العولمة الجديد إلى حروب ضد الطبقة العاملة نفسها،، جعلت ميخائيل كورباتشوف يسير في جنازة شعبه نائحاً، بعد أن سدد له الطعنة المميتة في فندق "الفير مونت" في سان فرانسيسكو عام 1995 عندما سئل:
"هل سيتحول العالم بأجمعه إلى برازيل كبيرة، أعني إلى دول تسودها اللا مساواة، مع وجود أحياء مقفلة تسكنها النخب الثرية؟"...
فأجاب: "إنكم بهذا السؤال تطرحون لب المشكلة على بساط البحث، إنها لحقيقة أن روسيا نفسها ستصبح على شاكلة البرازيل...".
في الواقع، لقد تحول العالم أجمع إلى برزايل كبيرة، إلا أن هذا لا يعني أن الأسلاك الشائكة، والأجهزة الإلكترونية، وكاميرات الليل والنهار سوف تحمي إلى ما لا نهاية هذه القلة الضئيلة من الأثرياء المحدثين من الطوفان السكاني المتصاعد من الجائعين والمحرومين والمغتصبة حقوقهم، فثورة الجائعين لا ترحم.(2/173)
أما نظام الحرية المطلقة دون حدود، والذي تبنته أمريكا، فقد اتخذ في صراعه مع النظام المغتصب للحرية إلى أبعد الحدود، لتدويل نظامه، طرح مشاكل وحلول أكثر دهاءً وخبثاً ومضاءً. لقد استغل الحربين العالميتين بعدم اشتراكه الظاهري فيهما، وقد يكون هو نفسه قد أشعل فتيلتهما، فزودهما بالسلاح والعتاد والغذاء والجواسيس، واستطاع بذلك أن يحسم نتيجة الحربين لصالحه، استراتيجياً، واقتصادياً، وعسكرياً، ومالياً. وبينما خرج الجميع من الحربين منهارين على كافة الأصعدة، خرج وحده متخماً بالأموال والمنتجات على اختلاف أنواعها، ولابد له من أسواق لها. فشرع بنشر مظلته الإنسانية، مبتدئاً بتقديم مساعداته المالية لإعمار ما خربته الحروب، ومنها مشروع "مارشال" لإعمار أوروبا، الذي أدى في الواقع، إلى سيطرة شركاته الكبيرة الأم على الاقتصاد الأوروبي ذاته، وخلق شركات أوروبية فروعاً لها ملحقه به.
كما هب لمساعدة بلدان العالم الثالث على تخليصها من الاستعمار السياسي الأوروبي -حسب زعمه- ليحل في أسواقها استعماره الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعلمي والمالي، باسم التطور والازدهار ومحاربة الفقر والحرمان. وهكذا فقد عانت هذه البلدان من التأرجح، خلال مدة تزيد على النصف قرن، بين أيدي القائمين على النظام الحر الرأسمالي من جهة والنظام الماركسي من جهة أخرى، مع كل ما تلا ذلك من أشكال الانقلابات في البنيات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية والعلمية والثقافية.. الخ. من وقت لآخر، حسب النظام، فلم تعد الشعوب تدري ماهي، وماهي هويتها، وماذا تريد...!..
ومن استعراض المشاكل والحلول التي طرحها النظام المذكور، وفرضها على العالم أجمع، والنتائج التي آلت إليها نرى:
أنه نادى بنظام الحرية المطلقة من كل حدود، معتبراً أن مصلحة الفرد دون رقابة ولا توجيه، تتوافق مع مصالح المجتمع، وأنها أكبر قوة دافعة لزيادة الإنتاج ومضاعفة الثروة الاجتماعية، وأنها أفضل ضامن لتحقيق إنسانية الإنسان وكرامته الشخصية...!.
إن النتائج التي آلى إليها تطبيق نظام الحرية المطلقة المذكور، تحرر الإنسان من كل الروابط الاجتماعية والأخلاقية والدينية والحضارية والإنسانية...الخ.فيما عدا المادية... إنها تفترض أن كل إنسان على وجه الأرض هو في قرارة نفسه إنسان اقتصادي مادي فردي وجشع كالإنسان الأمريكي، ليس له إلا هدف واحد في الحياة هو المصلحة المادية. إن هذه القاعدة -في الحقيقة- لا تنطبق إلا على المجتمع الأوروبي نفسه الذي غزا أمريكا وأباد شعبها الأصيل بكافة صنوفه الوحشية المادية المستمدة من طابعه الفكري والروحي، ومقاييسه الخلقية والعملية من الجبروت والتسلط والاستهتار بكل إنسان، وتلاه الصهاينة، المتمرسون على يده، في إبادة الشعب الفلسطيني وتشريده طاعة لحكم إلههم المزعوم -كما يدعون-.
إلا أنه من خلال الاستعمار الثقافي وغسل الأدمغة الدائم لكافة شعوب العالم عن طريق التطوير المفروض، سرت هذه المعايير إلى كل ركن من أركان المعمورة. فقوانين الأقطاب الكلاسيكيين الأوائل. والكلاسيكيين الجدد، والتي تقضي بتخصيص العامل بجزء من الإنتاج يكفي فقط لقيمة المواد الغذائية الرئيسية القادرةعلى إعاشته للاحتفاظ بقواه اللازمة للعمل، لم تقتصر فقط على العامل الأمريكي، وتجعل ما يزيد على أربع، أخماس الطبقة العاملة لا تتوصل حتى للكفاف في معيشتها، بل سرت بسرعة البرق إلى كل جزء من أجزاء المعمورة، وحتى للبلدان الاشتراكية بالذات قبل سقوطها، والتي ينادي مذهبها بحق العامل بأكبر حصة من الإنتاج (فرق القيمة)، كما ذكرنا.
لقد أصبح اليوم حديث التوافق بين المصالح العامة والمصالح الفردية، في ظل الحرية المطلقة، أدعى للسخرية منه للقبول. فالمنافسة الحرة من كل قيد لم تؤد -في الواقع- إلى إشباع الحاجات الإنسانية بأقل نفقة، بل -على العكس- إلى تخفيض نفقات الإنتاج عن طريق سرقة أجور العمال، فعلى سبيل المثال: إن أمريكا، أكثر بلدان العالم إنتاجية وثراء في الوقت الحاضر، أصبحت أكثر اقتصاديات العالم رخصاً للأجور وسلباً لحقوق العمال، وتسريحاً لهم، دون حق أوضمان. وهذا لايعني أن المجتمع الأمريكي هو الأفقر، كما ذكرنا، إذ لم يسبق أبداً أن حازت أمريكا، في ظل نظام العولمة الجديد، الذي تستغل فيه ثروات العالم أجمع، على ما بحوزتها اليوم من الثروة والدخول.
إلا أن المشكلة تكمن فقط في أن هذه الثروة والدخول، تنحصر فقط بالخمس الثري فقط من الأمريكان. وحتى في إطار هذه الفئة، فالدخل يتوزع بشكل متفاوت للغاية، فواحد بالمائة من أغنى الأغنياء (أي حوالي نصف مليون أمريكي)، يملكون اليوم ثلث الثروة التي هي من حق جميع السكان، ويحصل غالبية المديرين على رواتب زادت بمعدل 250% خلال سبع سنوات، في الوقت الذي انخفضت فيه القوة الشرائية لبقية العاملين بين 11 و25% حسب الفئات. وما ذلك إلا إكراماً للمديرين المذكورين لجهودهم المبذولة في الوصول إلى تخفيض تكاليف الإنتاج عن طريق سرقة العمال مهما كانت الوسائل.
وكما قال (لسترثارو): "إن بوسع المرء أن يدعي أن مَنْ في أمريكا من رأسماليين قد نأعلأعلنوا الحرب على عمالهم، وأنهم قد فازوا فيها"...
في الواقع، إننا نعيش فترة الثورة المضادة على العمال في جميع بلدان العالم دون أن يتوصلوا -هم أنفسهم- إلى إعلان ثورتهم...!.(2/174)
أما علاقة الحرية المطلقة بتنمية الإنتاج، وسد حاجات جميع السكان، فإنني لأتساءل ماهي المشاريع التي نما إنتاجها في ظل الاستهتار بالقيم الإنسانية والأخلاقية، والألوان التي لا حد لها من الجشع والطمع؟ إنها –بدون شك- المشاريع التي تكتلت وحطمت غيرها من المشاريع الصغيرة والمتوسطة (دون حاجة إلى تأميم)، وقضت على كل لون من ألوان التزاحم الشريف، عن طريق الاحتكار. كما أن الزيادة في الإنتاج لم تقترن بانخفاض الأسعار لتسد حاجات جميع السكان، لفقدان المزاحمة، بل على العكس، فقد خفضت القوة الشرائية للقوة العاملة إلى أدنى المستويات، لدرجة اضطرت القسم الأكبر من العمال إلى العمل في عدة مجالات لتغطية نفقات عائلاتهم، وحرمتهم من المتعة والراحة العائلية حتى أيام العطل والأعياد.
والأدهى من ذلك، اعتبار الحرية المطلقة تعبيراً عن الكرامة الإنسانية...!
وهنا أيضاً لابد من التساؤل عمن طالتهم هذه الحرية، وهذه الكرامة الإنسانية؟ لقد انحصر حق الحرية والديمقراطية المزعومة قطعاً، في حرية قبضة من الأمريكان الصهاينة، وأتباعهم وأذنابهم في كل مكان: من مجرمين، وقطاع طرق،ومضاربين، وتجار جنس، وخاطفين للأطفال، والشبان، من فتيان وفتيات، وتجار الدم الفاسد الملوث بجراثيم الإيدز، ومهربي المخدرات، والمتجولين في الملوثات المبيدة للجنس البشري، ومفجري الحروب، وبائعي الأسلحة، وزارعي المتفجرات...!.
فهؤلاء هم الذين يملكون في الوقت الحاضر، القسم الأكبر من الثروة، ويتحكمون بحياة الشعوب ومصيرهم، وهم أصحاب الكرامات، وأصحاب الحق في الحياة وهم دعاة حقوق الإنسان، والذين يصلبون الإنسان في كل مكان....
ومن أبرز تناقضات هذا النظام بأنه يرتكز -بالدرجة الأولى- على زيادة الاستهلاك لتسريع جملة الإنتاج -وإذا به يقضي على مستهلكيه بالذات، ويراكم الإنتاج ليفسد في مخازنه ومستودعاته، وكأن زيادة الإنتاج هي للإنتاج بالذات فإلى متى سيعيش هذا النظام؟!….
مما لاشك فيه أن المبالغة في التطرف التي وصل إليها هذا النظام، سوف تقضي على النظام ذاته بذاته، فبذور انحلاله أخذت تترعرع فيه، وهاهي الأنظمة المتفرعة عنه تتساقط تباعاً، فلجوء المرابين إلى المضاربات بالأسهم والعملات بدلاً عن الإنتاج لكسادة وللحصول علىأرباح ولو بالقيود أدى إلى الانفجار الرهيب لفقاعاتها منذ عام 1997، ابتداءً من النمور الآسيوية، إلى الأعجوبة اليابانية إلى كبريات الدول الاشتراكية منذ أن بزغ فيها أول شعاع من الحرية، فدول أمريكا اللاتينية والبترولية، والبقية تأتي...
كما أن عام 1999 يحمل في طياته الأخطار المرتقبة والانهيارات المتوقعة لبداية القرن المقبل في كل من أمريكا وأوروبا بالذات، والذي تحاول الكتلتان الحاليتان معالجته، في الوقت الحاضر -عن طريق الحروب الطاحنة بكافة أنواع الأسلحة، للهدم، وإعادة إنتاج الأسلحة وإعادة البناء... إنها -في الواقع- بذور الانحلال التي سوف تقضي على هذا النظام، ولم تعد تنتظر الإمهال...
فما هو البديل إذاً...؟
مما لاشك فيه أنه لا يوجد ثمة بديل واحد ناجع للعالم أجمع، وإلا فإننا سنقع، بأخطاء النظامين السابقين نفسها. بل هناك لكل شعب بديل ولكل حضارة بديل... وإذا كنت أرى أن الإسلام الذي أثبت خلال قرون عديدة أنه خير نظام أخرج للناس، وخير من خلص الشعوب التي خضعت لامبراطوريته الممتدة شرقاًوغرباً وشمالاً وجنوباً من الظلم والفقر والحرمان، ودفعها إلى استثمار خيرات بلادها بذاتها ولذاتها، وحسب طاقاتها وعلومها وثقافاتها وحضاراتها دون أن يزيلها، بل زاد عليها، وزود النفوس من الداخل بوقود من المميزات الحسنة التي اختارها الله لبني الإنسان، وشذبها من الشرور العالقة فيها، والتي تأتمر فيها نفس الإنسان، وحثها على أن تسعى جاهدة لاكتشاف المزيد من خيرات الله فتأكل من رزقه وتقاسم المحرومين والعاجزين عن العمل في حقهم بثروات الله.. إذا كنت أرى ذلك، فإنني لأتساءل هل ترك النظامان الجائران أي مجال أو خيار للحاكمين والمحكومين لتطبيق تعاليم الإسلام في بلاد الإسلام بالذات....؟
فما هو الإسلام؟
الإسلام ثورة تختلف اختلافاً جذرياً عن النظامين السابقين.
يعتقد المفكرون الغربيون، ومن يجري في إثرهم من المستغربين العرب والمسلمين، أن الإسلام هو عبارة عن دين وليس باقتصاد، عقيدة، وليس بنهج للحياة، علاقة بين العبد وربه، وليس أساساً لثورة اجتماعية اقتصادية لخير الإنسانية جمعاء.
لقد غاب عن خلدهم أن الإسلام، هو ثورة حقيقية لا تنفصل فيها الحياة عن الإيمان، وأن المفهوم الروحي يشكل جزءاً لا يتجزأ من المفهوم الاقتصادي والاجتماعي "لأن الله غني عن العالمين"... و"وما أرسلناك إلا رحمةً بالعالمين"...
ففي الوقت الذي يحرر فيه الإنسان من كل شكل من أشكال العبودية لغير الله، يحرر فيه الثروات الطبيعية من كل نوع من أنواع الملكيات ما عدا الله. وهنا يربط الإمام علي كرم الله وجهه بين هذين المفهومين بقوله: "إن العبيد هم عبيدالله، وإن الثروات هي ثروات الله".
من هنا، فقد ناضل النبي(ص) في الإسلام، كما ناضل كافة الأنبياء في بقية الأديان نضالاً ثورياً ضد كل شكل من أشكال الظلم والعبودية والاستغلال. وكما ثاروا لتحرير الإنسان من الداخل من العبودية لغير الله، فقد جاهدوا لتحرير الأرض وثرواتها من المستغلين من الخارج والداخل، ولقب التحرير الأول "الجهاد الأكبر"، والثاني: "الجهاد الأصغر"..
وفي الوقت الذي حرر فيه الإنسان من الاستغلال الخارجي، حرره من داخله من ينابيع الاستغلال للغير الكامنة فيه، وذلك بتغيير مفهوم العالم والحياة بالنسبة إليه.(2/175)
فالثورة في الإسلام تختلف اختلافاً جذرياً عنها في المفهوم الغربي والشرقي على السواء. فليست في إحلال الرأسمالية محل الإقطاعية، ولا في إحلال الطبقة العاملة محل البورجوازية. أي ليس المقصود منها تغيير أسماء المستغل، وإنما محوه من جذوره، ومن نفس الإنسان بالذات (فالنفس أمارة بالسوء)، إن كفاح الأنبياء ضد الظلم والاستغلال، لم يأخذ شكل صراع الطبقات، وإنما اتخذ طابعاً إنسانياً هدفه تحرير كل إنسان من أية طبقة كان، فليس كل إقطاعي ظالماً، وليس كل غني مستغلاً، ولا كل عامل ملاكاً، ولا كل فلاح نبيلاً.
وإن بإمكان الإسلام أن يحول الجميع إلى خيرين، صالحين، ونبلاء... وبالفعل، فقد أيقظ الإسلام من النفوس، حتى الشريره، مكامنها الخيرة، والحسنة، وفجر فيها الطاقات الإبداعية، ووجهها لخير المجتمع وسعادته.
ـ إن الثوري الذي يتابع خط الأنبياء، ليس بذلك المستغل الذي يحسب أنه يستمد قيمته من امتلاك وسائل الإنتاج أو تكديس الأموال على حساب الشعوب، إنه يستمد قيمته من الجهود التي يبذلها بالتقرب من الله، ليس فقط عن طريق الصوم والصلاة، وإنما لنجاحه بمسؤولياته كخليفة الله في الأرض، أي في جهده وابتكاره ونفعه لعباد الله: "أحبهم إلى الله أنفعهم لعباده".
للهيكل العام للاقتصاد الإسلامي ثلاثة أسس رئيسية تميزه عن المذهبين السابقين التاليين:
1 ـ الملكية متنوعة ومحدودة:
يتميز الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي باختلافه عن المذهبين السابقين، بإقراره للأشكال المختلفة للملكية بآن واحد، بدلاً من مبدأ الملكية الخاصة كقاعدة للنظام الرأسمالي، وملكية الدولة للنظام الماركسي.
فهو يقر الملكية العامة، والخاصة، وملكية الدولة.
وينطلق من قاعدة: "الملك على الأرض لله، والإنسان مستخلف فيه لمصلحة كافة عباد الله"، ويستوحي نوع الملكية من الطبيعة ذاتها للثروة الطبيعية وودرجة شموليتها لعناصر الحياة لجميع خلق الله.
فالملكية العامة: كمنابع المياه، والمراعي، والأحراش، ومصادر الطاقة...الخ..! عموماً هي كالشمس والهواء والماء، ملك لجميع مخلوقات الله. فهي ملكية مشتركة لا يجوز الاختصاص بها.
والأرض العامرة، هي ملك الخليفة ، باعتبار المنصب لا الشخص، وكذلك الأرض الميتة، أي أنها ذات طابع عام (ملك دولة)، ولا يجوز تملكها إلا بحدود العمل فيها. والعمل في الأرض يعطي العامل حق الانتفاع بالأرض فقط مادام عمله مستمراً فيها، فإذا ما توقف عن استغلالها انتزعت منه وأعطيت لغيره. فالإسلام إذاً سمح بالملكية الخاصة إلا أنه أحاطها بحدود، أي قلص منها وضغطها لتتحول إلى أداة لتحقيق الهدف وهو خلافة الله في تحمل المسؤوليات لإشباع حاجات الإنسانية المتنوعة، وليس غاية بذاتها، تطلب بوصفها تجميعاً وتكديساً شرهاً لا يرتوي ولا يشبع. قال رسول الله (ص): ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، ولبست فأبليت، وتصدقت فأبقيت (أبقيت أي معوض عليك)، وما سوى ذلك، فأنت ذاهب وتاركه للناس.
2 - الحرية الاقتصادية في نطاق محدود:
وكذلك، فالحرية في النظام الإسلامي محدودة أيضاً، فليست منطلقه من عقالها، كالنظام الرأسمالي، وليست مسروقة كالنظام الماركسي، والتحديد الإسلامي إما أن ينبع من أعماق النفس، ويستوحي من المحتوى الروحي والفكري للإسلام ويسمى التحديد الذاتي، أو يأتي من قوة خارجيه تحدد السلوك الاجتماعي والاقتصادي وتضبطه حسب أحكام الشريعة ويسمى التحديد الموضوعي. وقد ثبت أن التحديد الذاتي أشد مضاءً من التحديد الخارجي، وقد كانت له نتائج رائعة في تكوين طبيعة المجتمع الإسلامي، ويكفي من نتائجه أنه ظل وحده الضامن لأعمال البر والخير في المجتمع الإسلامي، بالرغم من ابتعاد المسلمين عن روح التجربة مدة قرون عديدة، فما زال عدد كبير من المسلمين يقدمون بملء حريتهم علىدفع الزكاة، والتضامن مع أخواتهم المحتاجين، سراً وجهراً حتى الآن.
لقد ثبت أن مصادرة الملكية الخاصة مخالف لفطرة الإنسان. فحيازة الأشياء من مظاهر غريزة البقاء في الإنسان،ومن طبيعة الإنسان السعي في الأرض لجمع الثروة له ولأولاده، فإذا ما انتفى هذا الهدف فقد الحافز على العمل.
كما ثبت أن إطلاق الحرية من عقالها، أدى إلى انحصارها في طبقة ضئيلة أزاحت من طريقها الطبقات الأخرى، واستأثرت وحدها بالثروات على اختلاف أنواعها، إنه مخالف أيضاً لطبيعة الإنسان، ومانع له من السعي في الأرض، وتحطيم له ولميزاته في الإبداع. فكأن الأمريكي وحده خليفة الله في الأرض، وحده المكلف بالإبداع، وحده المكلف بالإعمار، ولوحده الحق بثروات الله، وله مطلق الحرية أن يبيد ما سواه من عباد الله.
وهكذا، فالحدود التي فرضها الإسلام، والمحرمات التي منعها والمباحات التي أباحها، تنبع -في الوقت نفسه- من مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع.
بعض المبيحات والمحرمات في الإسلام:
لقد حضّ الإسلام على تنمية الإنتاج، كالنظام الرأسمالي، إلا أنه ربطها بالتوزيع، فتنمية الثروة في الإسلام ليست غاية بذاتها، وإنما لما تحققه لأفراد الأمة من يسر ورخاء، وما توفره لهم من الشروط التي تمكنهم من الانطلاق لتحقيق مواهبهم الخيرة والإبداعية وتحقيق رسالتهم كخليفة لله في الأرض، فإن لم يفعلوا لانتزعها الله منهم (إن يشأ يذهبكم، ويستخلف من بعدكم ما يشاء).
فالتنمية إذاً، ليست للأجنبي ورؤوس أمواله ومضاربيه ومرابيه على كافة المستويات.
ولذا، فقد حرم الإسلام الربا، بوصفه أولى العقبات أمام التنمية والازدهار الاقتصادي، لكونه يحجز المال عن الإنتاج، وأنجع الوسائل لسرقة أموال الناس وتكديس الأموال دون جهد وعناء.(2/176)
والبديل عنه في الإسلام هو توظيف هذه الأموال في مشروعات إنتاجية لاستثمار الثروات، وتأمين خلق فرص عمل جديدة، وزيادة الإنتاج ليتقاسم ريعه العاملون وغير العاملين من المحتاجين والمحرومين من العمل. كما أنه أكثر ضماناً لصاحب رأس المال، إذ قد يتعرض المرابي إلى خسارة الفائدة ورأس المال معاً، كما هو الحال في المضاربات المالية والإفلاسات المصرفية السائدة حالياً.
وكذلك فقد حرم كنز المال، لأنه يعني أيضاً انخفاض كمية الثروة المنتجه، ومن ثم تقليص فرص العمل وحصول البطالة، مما يزيد حالات البؤس والشقاء:
الآية: ] والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم[.والآية:]ويل لكل همزة لمزة....[ الخ، وهذا المنع من اكتناز المال ليس مجرد ظاهرة عرضية في التشريع الإسلامي، إنه يعبر عن أوجه الخلاف الخطير بين المذهب الإسلامي والرأسمالي. فبينما تؤيد الرأسمالية استعمال النقد للاكتناز، بالإضافة إلى دوره كمقياس للقيمة وأداة للتداول، وتشجع عليه بنظام الفائدة، يحاربه الإسلام بفرض ضريبة على المال المكتنز (الزكاة). وجاء في الحديث عن الإمام جعفر بن الصادق: "إنما الله أعطاكم هذه الفضول من الأموال لتوجهوها حيث وجهها الله، ولم يعطكموها لتكنزوها..".
ومن مضار كنز المال الاقتصادية أن تجميع الثروات في أيدي الأفراد دون استثمارها يؤدي إلى زيادة البؤس والحاجة لدى الأغلبية العظمى من الشعب فتتوقف عن الاستهلاك، فتتكدس المنتجات دون تصريف ويسيطر الكساد على الصناعة والتجارة، فتعم الإفلاسات مختلف النشاطات الاقتصادية ويتوقف الإنتاج، وتستفحل المجاعات، كما في المعادلة التالية:
انخفاض الاستهلاك= كساد= توقف عن الإنتاج= إفلاس= زيادة بطاله= مجاعة...
وحض الإسلام على الاكتفاء الذاتي، ونهى عن التبعية الاقتصادية في المأكل والملبس، وهي ما فرضه النظام الرأسمالي على كافة شعوب العالم:
"لا خير في أمة لا تأكل مما تنتج، ولا تلبس مما تصنع"..
فهو يحصن الأمة من الوقوع تحت رحمة غيرها من الاستعمار الغذائي، الذي هو أشد مضاءً من كافة أنواع الاستعمار، ويحميها من حالات وقوع الكوارث لدى الطرف الآخر فيتوقف عن تغذيتها...
كما حض الإسلام على توجيه المال للإنتاج أكثر منه للاستهلاك، على عكس المجتمع الاستهلاكي، فيأكل الإنسان بذلك من إنتاجه وليس من رأس ماله، فيستفيد ويفيد المجتمع معه.
وحرم المخاطرة كالقمار، لأن الكسب فيه لا يقوم على عمل، ويعرض الفرد وعائلته، ومن ثم المجتمع من خلفه إلى الانحلال.
ومنع إنتاج المواد الضارة والمحرمة وذات التكاليف الباهظة المبددة للثروة، ونهى عن التقتير والإسراف. ويكفي أن نعلم حجم المليارات من الدولارات التي تتفق حالياً على مباريات الكرة وحدها في العالم، في الوقت الذي تموت فيه الملايين من الجوع كل عام، بالإضافة إلىمايبدده المجتمع الاستهلاكي من ثروات الطبيعة ليكدسها، في جبال شاهقة من المزابل، أفسدت الأرض والسماء والبحار والأنهار.
ولذا، فقد حذر الإسلام من العبث في الأرض، وإفساد الطبيعة قبل أن تفسد في الوقت الحاضر: الآية: "ظهر الفساد في البر والبحر بماكسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون"(صورة الروم-41).
والفساد في البر والبحر هو ما نعيشه الآن من التلوث في الطبيعة، وهو نتيجة لغطرسة الإنسان وجبروته واستهتاره بقوانين الطبيعة، واعتقاده مشاركة الإله في ألوهيته، وهو من آيات الله ليريهم نتيجة ما عملوا لعلهم يرتدعون.
ولذا فقد حض الإسلام على ضرورة المحافظة على التوازن في الطبيعة:
مراعاة لقوانينها، وذلك قبل قرون عديدة من علماء العصر الحاضر...
الآية: ]الأرض مددناها، وألقينا فيها رواسي، وأنبتنا فيها من كل شيءٍ موزون، لكم فيها معايش، ومن لستم له برازقين[.
والآية :]وإن من شيء إلا وعندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر ٍمعلوم[.
(سورة الحجر 19-20)
وكلنا يعلم أن التنافس المستشري على الثروة في النظام الحر، ونضح الموارد الطبيعية بنهم، قد أنهك هذه الكرة الأرضية، وأربك توازنها. فالهزات الأرضية المتوالية، وتعاقب حالات الفيضانات واليباس، والانهيارات الأرضية والجبلية والجليدية، والعواصف والأعاصير المتلاحقة، تشمل الكرة الأرضية بأجمعها، وهي مثال صارخ على اختلال التوازن في الطبيعة.
ولذا، تقرر القاعدة الفقهية الشهيرة أن "لا ضرر ولا ضرار". فحرية الفرد محدودة بمصلحة المجتمع والعالم أجمع.
من كل ما تقدم، وهذا غيض من فيض، نرى أن الملكية العامة تشمل القسم الأكبر من ثروات الطبيعة، وهي كملك الله، بالإضافة إلى الملكية الخاصة المحدودة بمصالح المجتمع، تضمن تطبيق العدالة الاجتماعية في الإسلام.
3 ـ العدالة الاجتماعية:
وهي تعني حق جميع الناس، العاملين منهم والمحرومين من العمل، والفقراء والمحتاجين بأخذ نصيبهم من موارد الطبيعة، وخيراتها التي خلقها الله لعباده، وحقهم بالحياة الكريمة اللائقة كبشر.
ويرتكز الضمان الاجتماعي في الإسلام على أساسين:
ـ الأول: التكافل العام بين أفراد المجتمع.
ـ الثاني: حق الجماعة على الدولة في تأمين الضمان الاجتماعي وفرص العمل للجميع. فالأول مفروض على الأفراد فيما بينهم، ]إن في أموالكم حقٌّ معلوم، للسائل والمحروم[، ]كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته[، أي تعتبر هذه القاعدة جميع العاملين والمستثمرين لخيرات الله بمنزلة الحاكم المسؤول عن الرعية في إشباع الحاجات الضرورية للمحتاجين، عن طريق الزكاة.
وإنها حق لهم وليست هبة أو صدقة.
ـ والثاني يفرض على الحاكم أن يؤمن العمل لمن ليس له عمل، والحياة الكريمة لمن لا يقدر على العمل"الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته".(2/177)
وإذا كانت الزكاة هي وسيلة التكافل بين الأفراد، فإن إقطاع الأراضي غير المستثمرة وتقديمها هي وسيلة الحاكم. أي أن الإسلام يلزم الحاكم بتقديم مساعدته من أملاك الدولة، كمساعدة للعمل والإنتاج، لا للاستهلاك فقط، فيحقق بذلك الفائدة للفرد والمجتمع بآن واحد.
وذهب هذا التضامن إلى درجة جعلت للجائع، الحق على مال المجتمع كما لو أنه ليس ملكاً لأحد:
"إذا بات مؤمن جائعاً، فلا مال لأحد".
ولذا، فعلى الدولة أو الحاكم أن تضمن للعاجز عن العمل حقه في ثروات الله باعتباره من مخلوقات الله التي تكفل بها سبحانه وتعالى:
قال (ص): "من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك كلاًّ فإلينا"..
والكل هو الضعيف...
وجعل الإسلام من تخلف الحاكم عن القيام بهذا الواجب، أن تحجب الرعية عن طاعته: "إن الله استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم، ونوفر لهم أمنهم، فإن لم نفعل، فلا طاعة لنا عليهم... عن الخليفة عمر بن الخطاب.
ولا يختص هذا الحق بالمسلم فقط من المحتاجين، وإنما يشملهم إلى الذمي أيضاً" فكلهم عباد الله، والله رؤوف بالعباد". من كل دين وكل طائفة وكل مذهب وكل عرق أو لون...
ويمتد هذا الحق، وهذه المسؤولية حتى إلى الشاة الجائعة:
"إن كان في أقصى المدينة شاة جائعة، لكان عمر المسؤول عنها".
ولا تقتصر مسؤولية الدولة أو الحاكم بضمان الحاجات الأساسية فقط، للمحتاجين، بل تعدتها إلى الحاجات الكمالية أيضاً:
عن الإمام الصادق: "إن الله فرض في مال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم".
وبفضل هذه العدالة الاجتماعية ازداد الشعور بالمسؤولية لدى المسلمين، وأقبلوا على الإنتاج والإبداع وتسابقوا إلى عمل الخير بشغف دون إكراه أو إرغام، لدرجة قلما كان يوجد في بعض المناطق من يستحق الزكاة.
وهكذا، فقد لعب الدين دوراً هاماً في التوفيق بين الدوافع الذاتية والمصالح الاجتماعية، مما لم يتمكن المذهب الماركسي العلماني من الوصول إليه عن طريق القوة وسلب الملكية، ولا المذهب الرأسمالي من إيقاف الدوافع الذاتية عند حدها دون دافع ديني. فالمكلف بالضريبة في النظام الرأسمالي يلجأ إلى التهرب منها بكافة الوسائل، إذ يرى فيها خسارة حقيقية غير معوضه، فلا خلود لغير المال ولا سعادة بغيره.
من كل ذلك إنني لم آت بشيء جديد، فقد أسهب العلماء والفقهاء في بيانه إلا أن السؤال الذي أطرحه بصفتي اقتصادية هو:
لماذا جعل الله للسائل والمحروم والعاجزين عن العمل... الخ. حقاً في مال الأغنياء، وليس مجرد هبة أو صدقة؟....
فالزكاة، أهم مورد يغذي بيت المسلمين، هي من أهم وسائل الضمان الاجتماعي لقيمتها، ليس فقط الاجتماعية والإنسانية، وإنما الاقتصاديه أيضاً. وتقدر بربع العشر من المال المدخر،وتهبط إلى عشرين ديناراً.
(حسب القوة الشرائية آنذاك).
وأصحاب الحق في الزكاة هم حسب قوله تعالى:
]إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب، والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل[(التوبة /60/).
ـ كما تتوجب في حالة حصول خلل في التوازن الاقتصادي.
"حتى لا تكون دولة بين الأغنياء منكم".
كما هو الحال في الوقت الحاضر. فرأس المال يمسك زمام الحكم في كل مكان.
ـ كما تعتبر ضريبة تمنع تمركز الثروة بأيدي ضئيلة تجردها عن الاستثمار. فهي بمثابة مصادرة تدريجية للمال المجمد وإدخاله في حوزة النشاط الاقتصادي. ولئلا تخلد الناس إلى الكسل والتواكل على الغير، فقد حض الإسلام على العمل في كسب الرزق، وجعل: "اليد العليا خير من اليد السفلى".
"هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها"، أي كلفكم بإعمارها.وجعل العمل سبباً لتملك الأرض: "من أحيا أرضاً فهي له"..
وحض في الوقت نفسه على العلم وجعله توأماً للعمل:
"العلم والعمل توأمان"، لكي يستفيد العلم من خبرة العمل، ويستفيد العمل من صحة العلم.وجعل العلماء بمثابة الأنبياء.
فللزكاة، مما لاشك فيه، منافع اقتصادية عديدة، ولكن لماذا جعلها الله حقاً للسائل والمحروم... الخ... وليست هبة أوصدقة؟.. بقوله تعالى: ]إوالذين في أموالهم حقٌّ معلوم للسائل والمحروم[...
والجواب على ذلك يكمن -على ما أعتقد في الآيتين الكريمتين التاليتين:
ـ ]الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار[.
ـ ]وآتوهم من مال الله الذي آتاكم[..
أي أن الله سبحانه وتعالى الذي خلق جميع الكائنات على وجه الأرض، خلق لهم فيها مايكفيهم جميعاً. وإن ما على سطح الأرض ومافي جوفها وسمائها هو ملك لله وحده، ومخصص لجميع عباد الله. وما الإنسان العامل إلا مستخلف من قبل الله لاستثمار خيراته. فالامتناع، عن استغلالها أو المنع من ذلك، يحول دون الوصول إلى مرتبة خليفة الله.
أما العاجزون عن العمل والمحرومون منه، والبؤساء.. الخ، منهم أيضاً عبادالله، ولهم نصيبهم مما خلق الله، فهو خالقهم وكافلهم أيضاً.
وتبدو نعمة الله تعالى على الإنسان في زراعة الأرض، على سبيل المثال، بتقديم التربة الصالحة للزراعة، والمواد العضوية التي يحتاجها البذار للإنبات، بل والبذرة الأولى، والشجرة الأولى، والماء الذي يهبط من السماء أو ينبع من الأرض، والشمس التي تؤدي إلى عملية الإنضاج، والرياح للإلقاح... إلى آخر ما هناك مما نعلم وما لا نعلم: فهذه كلها حصل عليها الزارع هبة من عند الله وهي لعباده كافة.
كما أن النحل، ليس بحاجة لأي جهد من الإنسان في صنع العسل فكله من عند الله.(2/178)
وبينما لا يصيب التوزيع الحالي من الإنتاج، سوى المالكين للأرض ورأس المال وأدوات الإنتاج، ويعطي أجراً للعامل فقط، فالإسلام يصيب بالتوزيع من الإنتاج نفسه بالدرجة الأولى العامل، والمحرومين من العمل، ولا يعطي رأس المال وأدوات الإنتاج إلا أجراً فقط.
فالمحروم من العمل له الحق إذاً بحصته من وسائل الإنتاج الإلهية المخصصة لجميع عباد الله، لعظم أهميتها في عملية الإنتاج، واستحالة الإنتاج بدونها. وقس على ذلك في استخراج البترول، والحديد، والذهب، وكافة الفعاليات الإنتاجية.
هذا، وختاماً للمقارنة، بينما يقول "آرثر يونج"، في القرن الثامن عشر: لا يجهلن سوى الأبله، إن الطبقات الدنيا يجب أن تظل فقيرة وإلا فإنها لن تكون مجتهدة".
ويقول القرن التاسع عشر: "ليس للذي يولد في عالم تم امتلاكه حق في الغذاء، إذا تعثر عليه الظفر بوسائل عيشه عن طريق عمله، أو أهله، فهو طفيلي على المجتمع، ولا لزوم لوجوده، فليس له على خوان الطبيعة مكان، والطبيعة تأمره بالذهاب (مالتوك)؛ يقول الإسلام قبل هؤلاء بألف عام: "إن الفقر والحرمان ليس نابعاً من الطبيعة نفسها، وإنما هو نتيجة سوء التوزيع والانحراف عن العلاقات الصالحة التي تربط الأغنياء بالفقراء"، فيقول الإمام علي كرم الله وجهه:"ماجاع فقير إلا بما متع به غني".
إن هذا الوعي لقضايا العدالة الاجتماعية في التوزيع لا يمكن أن يكون وليد المحراث والتجارة البدائية، أو الصناعة اليدوية، إنه يكمن في الإنسان ذاته الذي رباه الإله فأحسن تربيته. ولذا فإنهم يخشون الإسلام، ويتعاون النظامان على طعن الإسلام والمسلمين في كل مكان..
إنني على يقين، إذا ما طبق هذا النظام من العدالة الاجتماعية بشكل عالمي، لكان بالإمكان مكافحة الجوع والموت جوعاً (نتائج النظامين المذكورين)، في غضون أشهر، بل وأيام. فالخزائن تغص بالمواد الغذائية على اختلاف أنواعها، بينما يفضل المحتكرون أن تفسد في مخابئها، أو ترمى إلى البحر، على أن يمد بها في عمر الأحياء المتضورة من الجوع...
إن مكافحة الجوع لا تحتاج للمؤتمرات والتسويفات التي، حتى إذا صدقت النوايا فإنها (كمؤتمر القمة العالمي للأغذية المجتمع عام 1998)، تمهل الهياكل العظمية التي نخرها الجوع إلى عام 2005 لتغذية نصف عددهم البالغ 800 مليون نسمة (حسب أرقام المؤتمر العام 1996)، وهي ليست جادة في ذلك، وعلى أية حال، فحتى ذلك التاريخ، فإن العدد المذكور، سوف يتضاعف مرات عديدة وإن مات القسم الأكبر منهم.
والسؤال الأخير: كيف يمكن في الوقت الحاضر تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بمضمون العدالة الاجتماعية، حتى في البلاد الإسلامية بالذات، إذا كانت الأرض (التي، من المفروض، حسب الإسلام، أن تبقى ملكاً لله، لا يحق للعامل فيها أن يمتلك رقبتها وله فقط حق بالانتفاع منها) وما فوقها وما تحتها إلى أعماق جوفها، بأيدي الشركات الأجنبية، وأصبح العمل فيها ووسائل العمل بأيدي هذه الشركات، وأصبح المحصول ومردود المحصول أيضاً ملكاً لها؟!...
وكيف يمكن أن يبقى في هذه البلدان حق من الإنتاج لغير العامل والسائل والمحروم من العمل، وما أكثرهم، إذا كان العامل نفسه وابن البلد نفسه محروماً من هذا الحق؟! لم يبق، في الواقع، للشعوب في بلادها ثمة حق في اقتطاع حجر، أو احتطاب شجر، أو زراعة أرض، أو صيد سمكه، أو حتى عصفور، وليس له حتى حق بمكان للعمل كقصاب أوسمان...؟!...
إنني لأتساءل: من الذي سيقوم بدفع الزكاة؟
أهي الشركات العالمية التي لا تدفع حتى أجراً للعامل الذي تستخدمه يكفيه قوت يومه؟!
أما العمال الذين هم أنفسهم يستحقون الزكاة:
وإذا لم يتحقق هذا الهدف، فماذا يبقى للمسلمين من الإسلام؟!
الموت في سبيل الله؟....!...
أم في سبيل الأمريكان؟....
وكلمتي الأخيرة التي أختم بها هذا الكتاب:
إن أخشى ما نخشاه في هذا الزمان: إذا ماقال أحدنا: "أشهد ألا إله إلا الله"، درج في عداد المتعصبين الإرهابيين، وإذا ما جادل، ولو بالحسنى، صنف في عداد الملحدين المارقين.. وإذا ما لهج لسانه بذكر الماضي، قيل أنه من المقوقعين الرجعيين المنبوذين...
وإذا ما محص في علومه الذاتية، وصم بالجهل والانغلاق...
وإذا مااستند إلى مايدعمه في علوم غيره، فهو عميل محترف... فماذا يريد هذا الزمان من الإنسان؟!...
إنه يرفض الإنسان، كل إنسان...
ولا يسند ويساعد سوى الحروب والتشاحن، والتصادم، والشتات، والجوع، والتجويع، والحرمان، وإهراق الدماء للإنسان في كل مكان....!.
الحصيلة الإجمالية لتدويل النظامين
نعم!... إنها الحروب ضد الشعوب...!
قرن من الحروب، كل أنواع الحروب نتجت عن تطبيق النظامين وتدويلهما ضد الإنسان في كل مكان...
من حروب ضد الأنظمة الملكية تارة، وضد الإقطاعية أخرى؛ ضد البورجوازية تارة، والرأسمالية أخرى؛ وضد الاشتراكية تارة، والطبقة العاملة بالذات أخرى...
قرن من الحروب ضد كل مذهب وكل دين.. ضد البروتستانتيه تارة. والأورثوذكسية أخرى؛ ضد اليهودية تارة، والإسلام والمذاهب الإسلامية فيما بينها أخرى؛ ضد كل عنصر، وكل جنس، وكل عرق، وكل لون، وكل لسان. ضد الآري تارة، والسامي أخرى؛ ضد الأسود تارة، والأحمر والأصفر والأبيض أخرى؛ ضد العرب تارة، والبربر والعجم أخرى؛ ضد العثمانيين تارة والأرمن والأكراد أخرى؛ ضد الأوتو والتوتسي، ضد البوذيين والهندوس والسيخ، إلى ما هنالك على سطح الكرة الأرضية من عناصر وأعراق لا حصر لها....(2/179)
من حروب مباشرة، تسيل فيها الدماء، وتقوض البيوت على السكان، وتشرد الشعوب المغلوبة على أمرها، من شيوخ وأطفال ونساء، حاملة متاعها على أكتافها عبر التلال والوديان، منبوذة من اللجوء إلى أي مكان، من الشرق إلى الغرب ومن اليمين إلى الشمال...
وحروب غير مباشرة، باسم التطهير والتحديث التعيس.. حروب ضد مأواهم في مدنهم وقراهم ومأوى آبائهم وأجدادهم منذ غابر الأزمان، ضد كرومهم وبساتينهم ولقمة عيشهم، ضد مهنهم وفنونهم ووسائل إنتاجهم، ضد عاداتهم وعلومهم وثقافاتهم، وأديانهم، ضد أجدادهم وأجيالهم وأصولهم وفروعهم، ضد سمائهم ومائهم وبحرهم وبرهم، وضد الطبيعة التي تغذي وجودهم وجميع وسائل حياتهم...!
والأوهى من ذلك، أن كل ما تقدم قد جرى تحت اسم العلم والتطور والازدهار، من العلوم السياسية وثوراتها الديموقراطية، إلى العلوم الاقتصادية وقوانينها التطورية، إلى قواعد حقوق الإنسان، والتي تدعي إنقاذه من الجهل والفقر والتخلف والحرمان وهي التي تصلب الإنسان في كل مكان...
وهي تنحصر، في الوقت الحاضر، بعد أن قضت على الماركسية، وحولت العالم إلى ركام، والبلدان إلى قطعان بلا رعيان، إلى الأهداف التالية:
- إحاطة روسيا وتحطيم آخر معسكر لها فيما حولها
- إبادة جماعية للمسلمين وتشتيتهم في أصقاع الأرض عن طريق إلهائهم في حروب حدودية وداخلية ومذهبية فيما بينهم وثورات، وثورات مضادة تحت حجة رفع راية الإسلام، كما هو الحال في أفغانستان والصومال ومصر والجزائر والسودان، ومجاهدي خلق المعسكرة في العراق ضد الثورة الإسلامية في إيران، والثورة المضادة للإسلام المتوقعة من الطلاب الإيرانيين في أقرب وقت ممكن..
- السيطرة الكاملة على الثروات الطبيعية والبترولية وممراتها، موضوع الصراع في الوقت الحاضر بين الشركات الأمريكية وعولمتها، والشركات الأوروبية وعولمتها المضادة، الذي يجري بحروب ضارية بأيدي الشعوب المغلوبة على أمرها نفسها، وباسم الديموقراطية والحرية.
ما الحل إذاً؟!... وما هو البديل؟!...
لا يوجد ثمة بديل واحد صالح لكافة شعوب العالم، وإنما هناك لكل شعب بديل، ولكل حضارة بديل، وإلا فإننا سنقع في كافة أخطاء التدويل السابقة ولكن لابد قبل كل شيء، من إنقاذ ما يمكن إنقاذه:
- خنق رأس المال العالمي وشركاته الاستغلالية بعدم التعامل معها.
- الاعتماد على الذات مهما كانت التضحيات، لتقوم الشعوب ذاتها باكتشاف النهج الذي يلائمها، والذي يتماشى مع تاريخها وحضارتها وعاداتها وعلومها وثقافاتها، ويفجر طاقاتها الإبداعية، ويحفظ لها هويتها ووجودها.
- اختيار مبدأ العدالة الاجتماعية من الإسلام، إلى جانب ما منحتهم حضاراتهم من ضمان. فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه في هذا المجال.
- ولابد لذلك من أن تربى الشعوب على أسس دينية رفيعة، فبدون العامل الديني لا يمكن النجاح والوصول إلى أي هدف من الأهداف. لقد ثبت أن العلمانية والكفر بالله، والتجبر عليه هي من أولى العوامل التي صبغت القلوب بالقسوة، والعقول بالجدب، والنفوس بالظلم والطغيان، والطبيعة بالغضب والانتقام. وهي وراء فشل النظامين في موطنهما وفي كل مكان...!
×××
ملحق
إلى إذاعة لندن
موضوع
حقوق الإنسان في الإسلام
رداً على ما جاء في إذاعة لندن الناطقة باللغة العربية بتاريخ9/11/1998، من مقابلة ومناظرة بين مهاجم لحقوق الإنسان في الإسلام ومدافع عنه* إنني أجيب:
استمعت في التاسع من شهر تشرين الثاني إلى مناظرة إذاعية حول موضوع حقوق الإنسان في الإسلام الذي أثير في المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان المنعقد في جنيف من الشهر نفسه. وقد لفت انتباهي أن المهاجم لحقوق الإنسان في الإسلام جاء باتهامات للدين الإسلامي لا تقل ضلالاً عن تهجمات الصهاينة على الإسلام. ومما التقطته منه بشكل سريع:
- أن الإسلام يأمر بقطع الأيدي والأرجل وسائر أعضاء الجسم، في حالة السرقة، حتى الموت
- أن الإسلام يسرق حقوق المرأة، فهي ترث نصف حق الرجل، وجعل الرجل فوقها درجة.. الخ
- الإسلام يأمر بالجلد للزاني والزانية حتى الموت..
- الإسلام غير ديموقراطي
هذا، إلى آخر ما أحاطت به ذاكرتي بسرعة.
ومما لفت انتباهي أيضاً أن رد المدافع، عن الإسلام جاء مقتضباً للغاية ولم يزد عن قوله:
"العلة في المسلمين وليست في الإسلام"
ولم يفند ويدعم رده بالتفاصيل المقنعة التي تبين أن في هذه الأحكام تكمن حقوق الإنسان، مما جعل كفة المتهجم على الإسلام ترجح كثيراً على كفة المدافع، وفي نظر المسلمين بالذات، وأغلبهم جاهل بحقيقة الإسلام...
ولذا، فإنني أسمح لنفسي بأن أجيب على حجج المتهجم على الإسلام ونعته له بأنه ضد حقوق الإنسان، بشيء أكثر من التفصيل، مع اعترافي بأن المسلمين في الوقت الحاضر ليسوا من الإسلام في شيء.
فيما يتعلق بقطع يد السارق..
- إن كان حقاً أن الإسلام قد أمر بقطع يد السارق أو السارقة، إلا أن كتب التاريخ، عن تلك الحقبة من الزمن لم تحدثنا عن وجود مقطوعي الأيدي والأرجل سائر الأعضاء في الطرق بالمئات، بل- على العكس- عن مظاهر السعادة والرفاهية للشعوب بأسرها التي طالتها الفتوحات الإسلامية، بشكل لم يسبق لها مثل قبلها، ولا بعدها. ويمكننا أن نفسر ذلك بالأسباب التالية:(2/180)
1ً- لأن الإسلام، عن طريق الترغيب أو الوعيد قد حصَّن المؤمن ذاتياً من الداخل ضد المخالفات لتعاليمه ومنها السرقة. لقد صنع الإسلام بذلك ثورة من الإنسان على ما بداخل نفسه من عناصر الشر ودوافع الظلم والفساد والانحلال، وحقنه بفيض من مشاعر النبل والكرامة والعزة والرحمة. فكان المسلم يقبل بنفس طائعة على الأعمال الكريمة، ويحجم عن الأعمال الفاسدة التي نهى عنها الإسلام، أيضاً من ذاته. دون أن يحتاج إلى حسيب أو رقيب.. أو جزاء أو عقاب.
2ً- وليس أدل على ذلك من أنه لم يكن يوجد في بعض المدن الإسلامية (الكوفة) شخص واحد يستحق الزكاة أو يقبل بها، فالأموال التي كانت ترسل إليها كانت تعاد إلى بيت مال المسلمين، فكيف بوجود من يسرق ويستحق قطع اليد؟!…
3ً- إن عدم وجود سارق واحد يستحق قطع اليد في العهود الإسلامية الزاهرة يعود، ليس فقط، إلى الترغيب في الجنة والترهيب من النار فقط، وإنما لعدم الحاجة إلى السرقة. لقد أتاح الإسلام فرص العمل وأمنه لجميع أفراد المجتمع، وحضَّ على دفع الحقوق للعاملين كاملة غير منقوصة "قبل أن يجف عرقهم"، وأنذر الذين يسرقون حقوق العامل من أرباب العمل بقطع أيديهم إذا اضطر العامل أن يعود إلى السرقة مرة أخرى.
"إن عاد عاملك إلى السرقة مرة أخرى قطعت يدك أنت"
أي يد رب العمل..
4ً- أما المحرومون من العمل (لا بدافع البطالة والتسريح والطرد كما يجري حالياً)، فهؤلاء لا وجود لهم في المجتمعات الإسلامية)، وإنما بسبب العجز، والبؤساء والمساكين، فقد جعل لهم الحق شرعاً في جزء مما حصل عليه العاملون من استثمار ثروات الأرض وخيراتها، والتي خلقها الله للناس أجمعين وليست بحسنة أو هبة..
]والذين في أموالهم حقّ معلوم للسائل والمحروم".
فكان ما تدره عليهم الزكاة يكفيهم، ليس فقط لحاجاتهم الأساسية، وإنما الكمالية أيضاً. ولذا، فلم يكونوا بحاجة إلى السرقة، وبالتالي لقطع الأيدي والأرجل وسائر الأعضاء حتى الموت..!
هذا، بالإضافة إلى التكافل والتضامن في المجتمع الإسلامي، حيث يتكفل المسلمون، من أنفسهم، بالمحتاجين من جيرانهم وأقربائهم وحتى الغرباء لشدة ما حضَّ الإسلام المسلمين على ذلك دون أن يشعروهم بذل السؤال
"وأوصاني بالجار حتى حسبت كأن الجار قد يرث"
وما زالت هذه العادة سائرة في المملكة العربية السعودية حتى الآن.
5ً- ولكي لا يدع الإسلام الناس مستسهلين قبول الصدقة، فقد كرم العمل والإنسان العامل أكثر من تكريمه للعابد، وجعل الذي يقدم الصدقة أفضل من يتلقاها: "اليد العليا خير من اليد السفلى".
لذا، فقد كان الناس يتسابقون على تقديم الصدقة (اليد العليا) أكثر منهم على قبولها (اليد السفلى)، مما لا يدع مجالاً لمن يسرق وتقطع أوصاله الحين، أن الباعة كانوا يدعون مخازنهم ودكاكينهم مفتوحة، ويذهبون لتأديه الصلاة دون أن تمتد إليها يد سارق واحد. وما زال في المملكة العربية السعودية هذا الإجراء ساري المفعول حتى الآن رغم بعد الزمن منذ ذلك الحين حتى الآن.
6ً- وليس أدل على عدم وجود من يسرق في ذلك.
إنهم بفضل التربية الرشيدة للإنسان في الإسلام لم يكونوا بحاجة إلى كافة أنواع الأجهزة الألكترونية لتفادي السرقات كما في مجتمعات حقوق الإنسان في عصرنا الحالي، هذه المجتمعات التي تحولت بجملتها إلى لصوص من كافة المستويات، من أعلى الهرم حتى أسفله. ولو كان علينا أن نطبق عقوبة الإسلام، في الوقت الحاضر، لما وجدنا، إلا النادر من الناس، كامل اليدين أو الأطراف -حسب قول المتهجم-. وهذا، ما يفسر جزءاً من خوفهم من الإسلام.
ففي الوقت الذي لم يكن هناك شخص واحد يستحق الزكاة في عهد الإسلام، وفي الوقت الذي كان يعتبر فيه أحد الخلفاء الراشدين نفسه مسؤولاً حتى عن الشاة الواحدة إن جاعت، "لو كان في أقصى المدينة شاة جائعة لكان عمر المسؤول عنها" يوجد في الوقت الحاضر، في ظل حقوق الإنسان، ما يزيد على أربع مليارات نسمة على وجه الكرة الأرضية حسب الافتتاحية المنشورة في جريدة لوموند ديبلوماتيك لشهر شباط لعام 2000، جائعة تستحق الزكاة، وبما فيها البلدان المدعية أنها ترعى حقوق الإنسان بالذات (في أمريكا، ربع السكان عليهم أن يكفوا حاجاتهم بما يقل عن دولار واحد في اليوم)، ودون أن يوجد مسؤول واحد يرى نفسه مسؤولاً عنهم، بل على العكس، إنهم يعتبرونهم غير أهل للحياة لعدم تلاؤمهم مع الحضارة الحديثة، وعليهم أن يرحلوا، فليس لهم على خوان الحضارة الحديثة شيئاً. هذا، دون الكلام عمن ماتوا ويموتون من الجوع يومياً، ومن يعانون من الحشرجات الأخيرة بؤساً وتشرداً وضياعاً...
إن لنا الحق أن نتساءل في ظل حقوق الإنسان هذه، إنها لأي إنسان؟!…
لاشك أنها لحفنة من المسيطرين المتجبرين الطغاة، الذين وضعوا أيديهم الحديدية على كافة ثروات العالم في الكرة الأرضية بأجمعها، والتي خلقها الله لعباده قاطبة. إنهم مصاصي الدماء، ورجال الشركات العالمية الكبرى، وعلى رأسهم الصهاينة، وإلى جانبهم رجال أعمال من كافة البلدان يساعدونهم في مهمتهم ويتقاسمون معهم جزءاً من حصتهم من السرقة، إلى جانب مهربي المخدرات* الذين ارتقوا إلى الصفوف العليا بين المرموقين المحترمين أصحاب الحقوق في نظام حقوق الإنسان. وهؤلاء لا تتجاوز نسبتهم 2% من الشعوب في بلدان العالم الثالث، و 10% في البلدان المتحضرة.
ب- أما ما يتعلق بالزعم بإساءة الإسلام لحقوق المرأة، وسلبها حقها في الإرث إلى نصف حصة الرجل، فإنني أجيب:
إذا كان الإسلام قد حكم للمرأة بنصف حق الرجل من الإرث، فما ذلك إلا للأسباب التالية:(2/181)
- إنه جعل واجب إعالتها على الزوج إن كانت متزوجة، وعلى الأخ إن كانت عزباء، وهذا ما لا تحلم به أية امرأة في كافة الشرائع والديانات الإلهية وغير الإلهية (فالمرأة في غير الإسلام، وخاصة في المجتمعات الغربية، لا تحلم حتى بكأس ماء لا تشارك في دفع ثمنه).
- وبذلك، فإن المال الذي ترثه المرأة هو حق لها وحدها لتدخره لمستقبلها فقط، فلا تحتاج إذا ما توفي زوجها أو أخوها أن تمد يدها لأحد، أو تتصرف تصرفاً مشيناً... ولذا، فهي لا تصرف درهماً واحداً من مالها على طعامها وشرابها وكسائها وسائر احتياجاتها.. في ظل حياة زوجها أو أخيها.
- بالإضافة إلى ذلك، جعل الإسلام المرأة مستقلة مالياً عن زوجها وأخيها تتصرف بمالها بمنتهى الحرية، وذلك على العكس من المدافعين عن المرأة في ظل حقوق الإنسان، حيث تحرم المرأة الغربية من الاستقلال المالي، ولا يحق لها أن تتصرف بما لها بحرية، أو تفتح به حساباً خاصاً بها في المصارف مستقلاً عن زوجها، كما أنها لا تنال من أجر على عملها إلا ثلث حق الرجل، للعمل نفسه.
- لقد رفع الإسلام من قدر المرأة ومكانتها حين الزواج، ففرض لها حقوقاً على الزوج ولم يدعها لقمة سائغة لكل عابر سبيل وكل مضلل، حتى أن الخليفة علي ابن أبي طالب(ع) أجبره الرسول على بيع درعه وفرسه لكي يجهز بقيمتيهما بيته قبل زواجه من ابنته فاطمة كرم الله وجهها، وذلك لكي لا يدع للمسلمين سابقة بتزويج بناتهم دون حقوق* وصان حقوقها في حال الطلاق لتعويضها عن شبابها الذي وهبته للرجل، ولتستطيع أن تمارس حياتها من جديد بالاعتماد على نفسها.
هذا، عكس ما وصلت إليه المرأة في ظل حقوق الإنسان المعاصر، حيث جعل جسدها مطية لكل مفترس أو عابر سبيل، وشجعها على ذلك بكافة الأساليب، موهماً إياها بأنه يمنحها حقها في الحرية، والتي هي -في الواقع- حرية الرجل بالتمتع بكل امرأة اشتهتها نفسه، وحريته في أن يلفظها، بعد حين، للتمتع بأخرى أصغر وأجمل.. وهكذا.. بعد أن يكون قد سحق نضارتها وشبابها دون أي تعويض أو حساب أو عقاب.
- ولشدة تكريم الإسلام للمرأة، لم يكلفها بأي جهد في رعاية شؤون بيتها، إذ أوجب على الزوج تأمين من يقوم بخدمتها، كما لم يكلفها حتى: بإرضاع طفلها. وكلنا يعلم انتشار وجود المرضعات على نطاق واسع في ظل الحضارة الإسلامية. ولذا، فقد كانت المرأة ترفل بثياب العز والكرامة وتسبغ السعادة والطمأنينة على الأسرة الإسلامية ولم يكن هناك مجال للجلد حتى الموت، لعدم وجود الزاني والزانية في الأسرة الإسلاميه، بينما كلهم زناة في ظل حقوق الإنسان... فلو طبق حكم الإسلام في الوقت الحاضر لما كنا نعلم منْ يجلد مَنْ...! ولذا فهم يخشون الإسلام...
- لقد ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في حقها بالعلم "العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة"، كما ساوى بينهما في الحق في العمل في كافة الميادين، دون أن يطالبها بكثير من الواجبات وأعطاها ذات الأجر لذات العمل.
فأين المرأة في الإسلام من المرأة في حضن دعاة حقوق الإنسان حيث تعمل كادحة من الصباح حتى المساء، وبأجر لا يوازي ثلث أجر الرجل، وتعود إلى البيت مكدودة بعد أن تلملم أطفالها جارية من مؤسسة إلى أخرى.
وغالباً ما ينحصر عملها بأعمال تافهة عديمة الشأن (سكرتارية، عاملة هاتف.. الخ) فالأعمال الهامة محصورة قطعاً بالرجال.
- أما تفضيل الرجال على النساء بقوله تعالى:
]الرجال قوامون على النساء، بما فضل الله بعضهم على بعض، وللرجال عليهن درجة[
فإن كلمة قوامون لا تعني السيطرة والتحكم وإنما القيام بمسؤوليتها والقيام بمساعدتها، وحمل أثقالها، وطفلها، وجلب حاجياتها، وكل ما يعتبر الإسلام أن جسم المرأة وكرامتها لا تسمحان بذلك. ولذلك فإنه شرحها بقوله: "بما فضل الله بعضهم على بعض" أي بما فضل الله الرجل على المرأة بعضلات قوية تقوى على الحمل وتحمل النساء. وحض الرجل على الرفق في معاملة النساء بقوله: "رفقاً بالقوارير" أي النساء*.
على العكس تماماً من الواجبات التي تلقى على جسم المرأة في مجتمعات حقوق الإنسان من قيام المرأة بكافة الأعمال الجسدية المرهقة في المنزل وخارجه. فقلما نجد رجلاً واحداً يتسوق حاجاته في الأسواق أو حاجات بيته، أو يحمل كيساً أو طفلاً أو سواه. وإذا ما اضطر لشراء خبز (باكيت بالفرنسية) فإنه يواريها في محفظته الدبلوماسية عن عيون الإنسان تحاشياً للعار (للأسف، فقد انتقلت هذه العادات إلى مجتمعاتنا الإسلامية، مع الغزو الاقتصادي والثقافي من الغرب، واعتبرت -فوق ذلك- من حقوق المرأة المسلوبة في عهد حقوق الإنسان). أي أن على المرأة أن تكافح لتنال حقها هذا في العبودية...
أما عن الديموقراطية في الإسلام فحدث ولا حرج
فالشورى في الإسلام تستفيض بها كتب الشريعة كقوله (تعالى)
]وأمرهم شورى بينهم[
وكان رأي الشورى مفروضاً ولو كان مخالفاً لرأي الرسول نفسه (ص) مثال: غزوة أحد.
والأمثلة لا تعد ولا تحصى على الديموقراطية والعدالة في الإسلام مما لا يتسع المكان هنا لسردها. ويكفي أن نذكر -على سبيل المثال- أن الخلفية عمر ابن الخطاب قال في معرض إحدى خطبه:
"إن رأيتم فيَّ اعوجاجاً فقوموني"
فأجابه أحد المستمعين:
"إن رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا"
فأجابه عمر:
"أحمد الله أنه وجد في أمة محمد من يقوم عمراً بسيفه إن أخطأ"
ولنا في قضية "الإزار الجريح" أفضل مثال على العدالة في الإسلام حيث اشتكى أعرابي للخليفة أن واليه داس على إزاره. فاستدعى الخليفة واليه بحضور الأعرابي وطلب من الأخير أن يدوس على إزار الوالي كما داس الوالي على إزاره...
فائتونا يا دعاة حقوق الإنسان بمثال مثله في ظل حقوق الإنسان في هذا الزمان...(2/182)
ألا فاتقوا الله يا دعاة حقوق الإنسان في الإسلام. فإنه لم يطلب من الجار أن يرفع الفأس ويهوي به على رأس جاره (كدعاة الدين اليهودي، والدين منهم براء) ولا بإبادة شعب بكامله من رجاله لنسائه لأطفاله لشيوخه، بالفؤوس* ولم يجعل من كل عضو من أعضاء المرأة سلعة استهلاكية لرواج بضائعه، ولم يتاجر بالأطفال ويشرد الشعوب التي وقعت تحت حكمه، ويحكم عليها بالموت جوعاً، ويسلبها أوطانها وثروات بلادها، بل على العكس. كانت إسبانيا قبل الإسلام قاحلة جرداء لا تعرف معنى الزراعة، فجعلها الإسلام جنة يانعة، وكانت الهند تعتبر الأرض قبل الإسلام، مقدسة (كالبقرة) لا تمس بمحراث، ففجر فيها الثروات الدفينة لدرجة أنها أصبحت تملك أغنى ثروة طبيعية في العالم. لم يكن في الإمبراطورية الإسلامية شبر واحد من الأرض دون استثمار، إذ كانت القوافل تقطع الطرق الصحراوية التي تفصل بين المدن تحت ظلال الأشجار. ولذا، فقد عمت السعادة والبهجة والرفاهية كافة الشعوب التي استظلت بمظلة الإسلام، وفتحت الأبواب على مصراعيها لدخول الفاتحين المسلمين بناءً على طلب الشعوب المظلومة من حكم الرومان دون حروب أو قتال.
وكما قال أحد المؤرخين الإنكليز "ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب"...
لقد أوصى الإسلام في فتوحاته لنشر الدعوى الإسلامية بألا يقتلوا طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً عجوزاً، ولا يقطعوا شجرة، وأن يكونوا رؤوفين بالعباد.
أي أن هذه الفتوحات كانت لصالح الشعوب ولم تكن للهيمنة والسيطرة وضد الشعوب بالذات، كالغازين الحاليين -باسم التطور- لكافة ثروات الشعوب وممتلكاتها. إنهم -في الواقع- يخوضون حروباً ضارية، بلا هوادة، منذ ما ينوف على قرن من الزمن ضد الشعوب بالذات، كافة الشعوب البريئة، بالثورات والثورات المضادة المفتعلة، يبيدون كرومهم وبساتينهم وحقولهم برمتها، يهجرونهم من ديارهم، من القرى إلى المدن فإلى البراكات (براكات الموت) يقضون على مهنهم ويدثرونها، يحولونهم عن ثقافاتهم وعلومهم ولغاتهم وحضاراتهم وكل ما يصبغ ذاتيتهم، ويقطعون موارد رزقهم من أية جهة كانت، ويفرضون عليهم الحصار لكي يموتوا جوعاً، إلى آخر ما هناك من أساليب الإبادة الجماعية في حروبهم فيما بينهم، باسم الحرية والديموقراطية، والتي هي -في الواقع- حرية المبتدعين لحقوق الإنسان بأنها تنحصر فيهم وحدهم كإنسان...
في ظل حقوق الإنسان هذه، سلب وطن بأكمله من شعبه، الذي كان يعرف منذ الخليقة باسمه (فلسطين). وأبيد القسم الأكبر منه، وشرد الأكثر، وحكم على الباقين، ليس فقط بقطع الأرزاق -الذي هو أمر وأشقى من قطع الأعناق- وإنما بالإبادة الجماعية السريعة والموت البطيء معاً. هذا، دون أن يصبح وضع الشعب اليهودي بأفضل مما كان عليه. فالشعب اليهودي -في الوقت الحاضر- في فلسطين، من أتعس الشعوب وأشقاها، دون الأخذ بعين الاعتبار للمظاهر البراقة. لقد حرموا من أوطانهم الأصلية، وأصبحوا عرضة للكره الشديد والرفض من الشعوب الأصلية، مع كل ما يرافق ذلك من عداوات سوف تزداد عمقاً للأبد. وكم من اليهود الشرقيين يشعرون في قرارة أنفسهم بالحسرة واللوعة لمفارقتهم أوطانهم الأصلية التي دفن فيها آباؤهم وأجدادهم الحقيقيون منذ قرون عديدة، ويحنون إلى المعاملة الحسنة التي كانوا يحصلون عليها من العرب في كافة البلدان العربية التي عاشوا فيها سوية.
مما لا شك فيه أن الصهيونية العالمية هي على رأس المبدعين والمخططين والمنفذين لكل هذه المآسي التي اصطبغ فيها هذا العصر. ولم ينج منها اليهود في كافة بقاع العالم. فالدولة اليهودية لم تقم حقاً على الهدف الروحاني المقدس، بل كان هذا هو المحرك للشعوب اليهودية المتدنية لوصول الصهيونية العالمية إلى الهدف الحقيقي وهو الهيمنة على العالم بأسره بكافة صنوفها. فقامت بحملة شعواء لاجتثاث اليهود الأمريكيين والأوروبيين والأفارقة والشرقيين من بلادهم وأوطانهم التي رسخوا فيها منذ قرون، وهم يحملون صبغتها في لون بشرتهم، وعيونهم وشعورهم. وأحجامهم وقاماتهم.. الخ، مع كل ما رافق ذلك من عذاب التشتيت والضياع. فشتات اليهود الفعلي بدأ -في الواقع- منذ تحريضهم على الهجرة إلى فلسطين، بدعوى أنها موطن أجدادهم الأقدمين بوثيقة مختومة من الإله رب العالمين. لقد تركوا -بالفعل- في بلادهم الأصلية، جثث آبائهم وأجدادهم الحقيقيين، بدمائهم التي مازالت ساخنة في قبورهم، لكي يأتوا وينبشوا القبور في فلسطين، ويهدموا الجوامع والمساكن بحثاً عن عظمة واحدة لأجدادهم الأقدمين، ولم ولن يعثروا على شيء، اللهم إلا إبادة الفلسطينيين، ومحو جذورهم وأصولهم وذريتهم...
فالدافع الديني ليس له وجود بالفعل بين 90% من يهود فلسطين، وأن الدينين الحقيقيين فيها هم أكثر شعوبها فقراً وشظفاً في العيش، وخاصة الشرقيين منهم. وهم -في نظر الصهيونية العالمية- لا خير فيهم إلا كترسانة على الحدود، وفداءً لهم في الحروب، وأجرهم على الله، كما يقولون...
هذا هو الإنسان المصلح الذي ساد الكون في هذه الأيام، وسن القوانين لحماية حقوق الإنسان (التي هي- بالأصل- حقوقه وحده، والذي أخذ يتجرأ -بكل وقاحة- وظلم- على الإسلام.
ما هذه الحملات الظالمة -في الحقيقة- على الإسلام، إلا لأنهم يخشون الإسلام... نعم! إنهم يخشونه ويعتبرونه عدوهم الأكبر، في الوقت الذي ما عرف اليهود في التاريخ المعاملة الإنسانية الحقة، إلا من الإسلام* لقد عرفوا جميع أصناف الحروب والإبادة من العصور الغابرة حتى العصور الحديثة، ومن الشرق إلى الغرب، ولم يسددوا سهامهم إلا إلى جهة العرب المسلمين.. "اتق شر من أحسنت إليه" هذا صحيح ولكن... إذا اتجه الإحسان للئام:
"إن أنت أكرمت الكريم ملكته(2/183)
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا"
نعم! إنهم يخشون الإسلام، وإنهم إذ يخشونه فما ذلك إلا لأن الإسلام جاء لسعادة الإنسان، وهم لإبادته وشقائه...
فالإسلام أينما حل، في عهوده الزاهرة، شحن عقول الشعوب بالخلق والعبقرية والإبداع، وأيقظها من كبوتها، فأبدعت بأيديها بالذات، حضارات فريدة من نوعها يعجز القلم عن رسمها، وحلق بها في سماء الكون، وأطفأ الشرور من ثناياها، وبذلك فلم يخشاها...
والإسلام لم يشمخ، ولم يتعال، ولم يصنف الشعوب إلى بهائم وبجم من دونهم، ولا إلى شعب الله وشعب الشيطان، حسب هواهم، بل حض على التواضع والرحمة والإنس في المعاشرة:
]ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا[
] والله رؤوف بالعباد[.
"الناس سواسيه كأسنان المشط"
ولا يكون المسلم مسلماً حقاً، مستحقاً لحب الله ورضاه إلا إذا قام بالقول والفعل بنفع عباد الله كافة
]وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين[
]أحبكم إلى الله أنفعكم لعباده[
أي لجميع عباده، لا لطائفة دون أخرى، ولا لدين دون آخر، ولا لجنس ولون وعرق على وجه الخصوص، ولم يفرق بين شعب الله وشعب الشيطان..
والإسلام، لم يضغط بكافة الأساليب الوحشية على الشعوب الأخرى لإبادة نسلها وتعقيمها، واستئصال أجهزتها، لإبادة نسلها واجتثاث أصولها، بل حض الشعوب على الإنجاب:
]المال والبنون زينة الحياة الدنيا[
وحض الأبناء على رعاية آبائهم في شيخوختهم، لا أن يدعوهم يموتون كما في البلدان المتطورة وحيدين لا يشعر بهم أحد إلا بعد أن تنتشر روائح جثثهم المتفسخة، فيهرع الجيران للإبلاغ عنهم، أو بين أيدي الغرباء الفظة في المصحات وبيوت العجزة
]وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً.. الخ[
وبذلك، رانت السعادة على الشعوب التي دخلت في الإسلام بشكل لم تعرفها في أي عهد من عهودها السابقة، وهكذا، فإن المتجول في أنحائها لم يجد أثراً لمقطوعي الأيدي والأرجل وسائر الأعضاء تزحف على بطونها...
أعتقد أنني بمثل هذه التفاصيل أستطيع -لحد ما- أن ألقي بعض الضوء على ما جاء في مناظرة السيدين المذكورين سابقاً حول حقوق الإنسان في الإسلام.
إن ما جئت به ما هو -في الواقع- إلا غيض من فيض، يحتاج إلى مجلدات لتغطيته، مما يتعذر على كافة العلماء والفقهاء أن يحيطوا به مجتمعين.
وهل يمكن لأية قوة الكترونية أو سواها، مهما كانت درجة فعاليتها، أن تحصي الذرات المنطلقة من شعاع من النور أضاء الكون بأسره من رب العالمين، وبلسان نبيٍ كريم؛ بجله تعالى بقوله:
]وإنك لعلى خلق عظيم[
صدق الله العظيم...
- ×××× -
المصادر:
- القرآن الكريم
"نهج البلاغة"، الإمام علي بن أبي طالب (ع)
- "اقتصادنا"، السيد محمد باقر الصدر، الجزء الأول والثاني، وهو -على ما أعتقد- أفضل كتاب إسلامي تناول النظريات الثلاث وقد اعتمدت عليه في قسم كبير من المعلومات الإسلامية،
-وعنه المصادر التالية:
- "دور الأفكار التقدمية في تطوير المجتمع"، ستالين
- "ضد دوهريك"- انجلز
- "التفسير الاشتراكي للتاريخ"، إنجلز
- "المادية الديالكتيكية"، موريس كونفورت
- "دور الفرد في التاريخ"، بليخانوف
- "رأس المال"، ماركس
- محمد باقر الصدر "L, Islam conduit la vie"
- "دور الفرد في النظرية الاقتصادية الإسلامية"، العلامة السيد محمد باقر الحكيم- مجلة الثقافة الإسلامية- دمشق
- "بعض اتجاهات المنهج الإسلامي في المسألة الاقتصادية"، الدكتور: أحمد فتحي بدرخان، المرجع السابق
- "الروح الحزبية في الفلسفة" بليخانوف
- "العلاقات بين النظم الاشتراكية ودول العالم الثالث"، رسالة دكتوراه في العلوم الاقتصادية والمالية- جامعة السوربون- باريس -1- 1976 (عن الفرنسية)، للمؤلف.
- "التكنولوجيا الحديثة، الديون والجوع، وربما نهاية العالم" رسالة دكتوراه في العلوم الاقتصادية والمالية -1985- للمؤلف (مترجمه للغة العربية)
- "العولمة في النظم التكنولوجية الحديثة، والتفتيش عن طريق بديل" للمؤلف
محاضرة في مؤتمر أوتاوا في كندا 1997، ومؤتمر ليليا باسو في روما 1998 (مترجم للغة العربية) للمؤلف
- "اليمن بين قديمه وحديثه" للمؤلف.
- "الأوضاع الاقتصادية والمالية للدول العربية"، التقارير السنوية لاتحاد المصارف العربية الفرنسية في باريس للأعوام (1976 حتى 1982) للمؤلف.
وعن كتاب اقتصادنا للإمام محمد باقر الصدر:
- "الوسائل" للشيخ الحر العاملي محمد بن الحسن
- "جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام" الشيخ محمد حسن النجفي
- "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج"
- "الأحكام السلطانية" للماوردي
- "قواعد الأحكام" للعلامة الحلي
- "المغني" لابن قدامة
- أصول الكافي" لمحمد بن يعقوب الكليبي.
××××
ضبط الآيات القرآنية
م
الآية الكريمة
رقمها
السورة
ترتيبها
الصفحة في الكتاب
1
(إنّ الله غني عن العالمين
97
آل عمران
3
47
2
(إنّ النفس لأمارة بالسوء)
53
يوسف
12
48
3
(وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول)
59
النساء
4
54
4
(إنّ الله غنيٌّ عن العالمين)
97
آل عمران
3
55
5
(المال والبنون زينة الحياة الدنيا
46
الكهف
18
55
6
(وإذ قال ربّك إني جاعل في الأرض خليفة)
30
البقرة
2
56
7
(إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء)
133
الأنعام
6
57
8
(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)
34
التوبة
9
59
9
(ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا)
29
الإسراء
17
60
10
(ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)
41
الروم
30
61
11
(والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين)
19-20
الحجر
15
62
12(2/184)
(وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)
7
الحديد
57
64
13
(من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها)
46
فصلت
41
65
14
(لا إكراه في الدين، لقد تبين الرشد من الغي)
256
البقرة
2
66
15
(يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالها، فمن يعمل مثقال ذرة يره، ومن يعمل مثقال شراً يره)
6-7-8
الزلزلة
99
66
16
(من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا بمثلها وهم لا يظلمون
160
الأنعام
6
66
17
(إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم)
17
التغابن
64
67
18
(مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم)
261
البقرة
2
67
19
(أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثاً)
115
المؤمنون
23
67
20
(وهو الذي يبدأ الخلق، ثم يعيده)
27
الروم
30
67
21
(ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالاً وعدّده، يحسب أنّ ما له أخلده كلا لينبذن في الحطمة، وما أدراك ما الحطمة، نار الله الموقدة، التي تطلّع على الأفئدة، إنها عليهم مؤصدة، في عمد ممددة)
1-2-3-4-5-6-7-8-9
الهمزة
104
67
22
(بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ولما يأتهم تأويله)
39
يونس
10
68
23
(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً)
29
البقرة
2
69
24
(والله رؤوف بالعباد)
30
آل عمران
3
70
25
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم)
59
النساء
4
74
26
(ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)
7
الحشر
59
75
27
(والذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون)
34-35
التوبة
9
76
28
(كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)
7
الحشر
59
76
29
(والذين في أموالهم حقٌ معلوم للسائل والمحروم)
24-25
المعارج
70
77
30
(إنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم)
60
التوبة
9
77
31
(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم)
105
التوبة
9
77
32
(هو أنشأكم من الأرض واستعمركم)
61
هود
11
77
33
(هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً، فامشوا في مناكبها، وكلوا من رزقه وإليه النشور)
15
الملك
67
77
34
(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم)
1-2-3-4-5
العلق
96
78
35
(هل يستوي الذين يعملون والذين لا يعلمون)
9
الزّمر
39
79
36
(إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون)
4
الرعد
13
79
37
(إنما يخشى الله من عباده العلماء)
28
فاطر
35
79
38
(ويتفكرون في خلق السماوات والأرض)
191
آل عمران
3
79
39
(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)
256
البقرة
2
79
40
(أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون)
59
الواقعة
56
79
41
(علم الإنسان ما لم يعلم)
5
العلق
96
79
42
(والذين في أموالهم حقٌ معلوم للسائل والمحروم
24-25
المعارج
70
81
43
(وآتوهم من مال الله الذي آتاكم)
33
النور
24
81
44
(والله الذي خلق السموات والأرض، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار)
32-33-34
إبراهيم
14
18
45
(وآتوهم من مال الله الذي آتاكم)
33
النور
24
81
46
(وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون، وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون)
33-34
ياسين
36
83
47
(فإن الله غني عن العالمين)
97
آل عمران
3
98
48
(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)
107
الأنبياء
21
98
49
(إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء)
133
الأنعام
6
101
50
(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)
34
التوبة
9
101
51
(ويل كل همزة لمزة)
1
الهمزة
104
101
52
(ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)
41
الروم
30
102
53
(والأرض مددناها، وألقينا فيها رواسي، وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين)
(وإن من شيء إلا وعندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم)
19-20-21
الحجر
15
103
54
(والذين في أموالهم حقٌ معلوم للسائل والمحروم)
24-25
المعارج
70
103
55
(والله رؤوف بالعباد)
30
آل عمران
3
104
56
(إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل)
60
التوبة
9
105
57
(كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)
7
الحشر
59
105
58
(هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)
61
هود
11
106
59
(والذين في أموالهم حقٌ معلوم للسائل والمحروم)
24-25
المعارج
70
106
60
(الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وسخر الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وأتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار)
32-33-34
إبراهيم
14
106
61
(وآتوهم من مال الله الذي آتاكم)
33
النور
24
106
62
(والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم)
24-25
المعارج
70
114
63
(الرجال قوامون على النساء كما فضل بعضهم على بعض)
34
النساء
4
117
64
(وللرجال عليهن درجة)
28
البقرة
2
117
65
(وأمرهم شورى بينهم)
38(2/185)
الشورى
42
118
66
(وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت)
8
التكوير
81
118
67
(ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا)
37
الإسراء
17
122
68
(والله رؤوف بالعباد)
30
آل عمران
3
122
69
(المال والبنون زينة الحياة الدنيا)
46
الكهف
18
122
70
(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا)
23
الإسراء
17
122
71
(وإنك لعلى خلق عظيم)
4
القلم
68
123
الفهرس
مقدمة....................................................................................... 106
القسم الأول
الاقتصاد في المذهبين الاشتاركي والرأسمالي كعلم أو مذهب
الفصل الأول: النظرية الماركسية كعلم أو مذهب
آ-المفهوم العلمي للماركسية:................................................ 106
1ً- المادية التاريخية، والحياة الفكرية.................................... 106
المادية التاريخية وتكون الطبقات......................................... 106
نظرية ماركس بالقيمة الفائضة........................................... 106
ب-الماركسية كمذهب اقتصادي............................................ 106
معالم الاشتراكية بين الأهداف والتطبيق.................................. 106
1ً-من خلال محو الطبقية:............................................... 106
2ً-من خلال سلطة البروليتاريا المطلقة الوهمية.......................... 106
3ً-من خلال التأميم لمصادر الثروة...................................... 106
4ً- من خلال التوزيع وعدالته........................................... 106
الشيوعية................................................................ 106
-الشيوعية والحكومة..................................................... 106
النتيجة:.................................................................. 106
الفصل الثاني: الاقتصاد الرأسمالي كعلم أو مذهب
مقدمة:..................................................................... 106
آ- قوانين الاقتصاد الرأسمالي العلمية....................................... 106
1ً- قانون العرض والطلب :............................................. 106
2ً- قوانين توزيع الدخل................................................. 106
ب- الاقتصاد الرأسمالي كمذهب............................................ 106
1- مفهوم الحرية كوسيلة لتحقيق المصالح العامة......................... 106
2- الحرية سبب لتنمية الإنتاج........................................... 106
3- الحرية تعبير عن الكرامة الإنسانية................................... 106
أوجه الالتقاء بين الماركسية والرأسمالية.................................. 106
النتيجة................................................................... 106
القسم الثاني
الاقتصاد في الإسلام كعلم أو مذهب
مقدمة: الثورة في المفهوم الإسلامي......................................... 106
آ- الاقتصاد الإسلامي كعلم................................................. 106
ب- الاقتصاد الإسلامي كمذهب............................................ 106
آ- الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي:...................................... 106
1ً- مبدأ الملكية المزدوجة................................................ 106
- نظرة الإسلام العامة إلى الأرض...................................... 106
- المواد الأولية:......................................................... 106
2-مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود.............................. 106
بعض المبيحات والمحرمات في الإسلام:................................. 106
3-العدالة الاجتماعية في الإسلام......................................... 106
التكافل العام. وهو الأساس الأول للضمان الاجتماعي..................... 106
آ-عن طريق الترغيب:.................................................. 106
ب-عن طريق الترهيب. وهو نادر جداً في القرآن، كما ذكرنا............ 106
الأساس الثاني للضمان الاجتماعي.......................................... 106
2ً- واجب الدولة......................................................... 106
- حق الجماعة على الدولة في مصادر الثروة............................ 106
-تأمين التوازن الاجتماعي المنوط بالمسؤول في الإسلام:................ 106
ملء منطقة الفراغ من التشريع........................................... 106
إيجاد قطاعات عامة..................................................... 106
الزكاة كضريبة ثابتة.................................................... 106
أصحاب الحق في الزكاة................................................. 106
الحض على العلم:........................................................ 106
التوزيع حسب النظام الحالي:............................................. 106
التوزيع حسب أحكام الله:................................................. 106
الفرق في التوزيع بين الماركسية والإسلام:................................. 106
- من الناحية النظرية:................................................... 106
- من الناحية العملية:.................................................... 106
الخلاصة العامة............................................................ 106
فما هو الإسلام؟......................................................... 106(2/186)
1 ـ الملكية متنوعة ومحدودة:........................................... 106
2 - الحرية الاقتصادية في نطاق محدود:................................ 106
بعض المبيحات والمحرمات في الإسلام:................................. 106
3 ـ العدالة الاجتماعية:................................................. 106
ملحق
إلى إذاعة لندن
موضوع حقوق الإنسان في الإسلام
المصادر:.................................................................. 106
- القرآن الكريم.......................................................... 106
صدر للمؤلفة
1. التكنولوجيا الحديثة، الديون والجوع، وربما نهاية العالم- مؤسسة الرسالة ، دمشق 1996 وصدر عن ذات المؤسسة.
2. أثر التكنولوجيا الحديثة على الجسم البشري، لعام 1996.
3. اليمن بين قديمه وحيثه، لعام 1998.
4. العولمة في النظم التكنولوجية الحديثة، والتفتيش عن طريق بديل، لعام1998.
======================
التربية الذاتية من الكتاب والسنة
إعداد
الدكتور هاشم علي الأهدل
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . أما بعد :
يرى التربويون أن العملية التعليمية ( تعلما وتعليما ) تتكون من ثلاث عناصر هي : المدرس والمنهج والتلميذ ، ومما لا شك فيه أن للمدرس دورا كبيرا في تنشئة الأفراد وإصلاح المجتمعات ، إلا أن هناك أسلوبا آخر لتلقي التربية وتشرب المعرفة من دون المدرس ، وهو ما يعرف بالتربية الذاتية أو التلقائية ، حيث يربي الفرد نفسه ويوجهها وجهة سليمة بما يوافق الغاية التي من أجلها أوجده الله عز وجل على هذه البسيطة وصيره فيها خليفة .
ولذا فإن للفرد مسئولية عظمى تجاه نفسه وتربيتها سواء كان ذلك على مقاعد الدراسة أو في العمل أو في البيت أو في الشارع ، فهو مطالب ببلوغ الكمال البشري الذي ينبغي أن ينشده كل إنسان بلغ مرحلة الرشد والتكليف ، ولن يتأتى له ذلك إلا باتباع المنهج الإلهي ، قال تعالى :) قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ( [ الأنعام : 162 ، 163 ]
وإن الناظر والمتدبر لآيات الكتاب وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ليهتدي إلى أساليب متعددة لتربية النفوس وتهذيب الأفئدة ومنها :
1ـ التربية بالقصة .
3ـ التربية بالموعظة .
5ـ التربية بالعادة .
2ـ التربية بالقدوة .
4ـ التربية بالترغيب والترهيب .
6ـ التربية بالعقوبة .
وغيرها كثير .
وقد جاء هذا التنوع في الأسلوب تبعا لطبيعة المجال والموقف الذي تبحثه ، فهناك التربية الجسدية والتربية الفكرية والتربية المهنية والتربية الروحية والنفسية وغيرها ، ولو أردنا أن نجمع بين أنواع التربية وأساليبها لتبين لنا أن موضوع التربية يركز على الفرد قلبا وقالبا ، ولذا كان لزاما على هذا الفرد أن يسعى بنفسه لتحقيق أهداف التربية الإسلامية وفي مقدمتها تحقيق العبودية لله عز وجل . وبناء على ذلك فسوف تهتم هذه الدراسة بالتربية الذاتية ، أي التربية التي تنبع من ذات الشخص أي من نفسه لتحقيق ذلك الهدف ، كما أنها سوف توضح بعضا من مبادئ وأساليب التربية الذاتية المختلفة الواردة في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
أهمية الموضوع :
تبذل المجتمعات قصارى جهودها من أجل إصلاح أفرادها وتهذيب سلوكهم ، ومما ينبغي أن يصاحب هذه الجهود شعور الأفراد بذلك حتى يندفعوا من تلقاء ذواتهم إلى إصلاح أنفسهم وتربيتها مما يسهل وييسر مهمة التربية التي تسعى لإعداد الإنسان الصالح ، ولذا فإن أهمية البحث ترجع إلى أنه :
1ـ يبين عظم المسئولية الملقاة على عاتق الفرد في تربية نفسه وتوجيهها وإصلاحها .
2ـ يضع لبنة قوية في سبيل إصلاح المجتمع حيث إنه إذا أصلح كل فرد نفسه وربى ذاته تخلص المجتمع من الأمراض والانحرافات واتجه للبناء والإصلاح .
3ـ ينير الطريق أمام المؤسسات التربوية في كيفية توجيه الأفراد لتحقيق الغايات والأهداف التي تتوخاها المؤسسات التربوية لتربية الفرد .
4ـ يوضح أسلوبا مهما من أساليب التربية وله دور كبير في إصلاح النفوس ، إلا أنه أغفل في البحوث التربوية .
5ـ يبين أيضا أحد أساليب التقويم المهمة ألا وهو ما يعر ف بالتقويم الذاتي والتي تسعى التربية الحديثة إلى تطبيقها ، في حين أن الإسلام عرض لها منذ خمسة عشر قرنا .
الفصل الأول
مكانة الإنسان في التصور الإسلامي
مقدمة
الإنسان ، ما الإنسان ؟ ما أدراك ما الإنسان ؟! إنه ذلك الكائن المتفرد الذي خلقه الله عز وجل لحكمة أرادها ولمهمة اختاره لها بعد أن فضله على بقية الكائنات . قال تعالى : ) ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ( [ الإسراء : 70 ] .
وقد أوضح لنا المنهج الإسلامي ما يحتاج أن يعرفه الإنسان عن نفسه ، فبين أيدينا نحن المسلمين مصدر أصيل ) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ( [ فصلت : 42 ] ، منه نصدر ومنه نورد في كل حال وفي أي وقت . فمنه يستقي الفرد المسلم تصوراته وآرائه لنفسه ولما حوله من موجودات فيهتدي إلى الصواب ويحظى برضى رب الأرباب . وسنتحدث في هذا المبحث ـ إن شاء الله ـ عن نشأة الإنسان وغايته ومصيره .(2/187)
إن قصة الإنسان منذ بدئه حتى منتهاه تظهر بجلاء ووضوح في قوله تعالى : ) وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين * وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ( [ البقرة : 30 - 35 ]
ويبين ذلك أيضا ما ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث عظيم جامع لأحوال الإنسان بدءا بخلقه في بطن أمه وبيان حاله في هذه الدنيا وانتهاء بمصيره ، فعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها . [ مسلم : 4/2036 ]
هذا هو الإنسان وهذه هي قصة نشأته والغاية من وجوده والمصير الذي سيؤول إليه ، وسنوضح بيان ذلك بشيء من التفصيل .
أولا : النشأة
قال تعالى : ) إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ( [ ص : 71 ، 72 ]
فالإنسان : قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله ، قبضة من طين الأرض تتمثل في حقيقة الجسد : عضلاته ووشائجه وأحشائه ... ، ونفخة من روح الله تتمثل في الجانب الروحي للإنسان ، تتمثل في الوعي والإدراك والإرادة ، تتمثل في كل القيم والمعنويات التي يمارسها (1)
وقد أبدعه البارئ المصور على غير مثال سابق وخلقه على صورته ، قال تعالى : ) الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك ( [ الانفطار 7 ، 8 ]
وقال تعالى : ) لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ( [ التين : 4 ] فجعله في أحسن صورة وشكل ، منتصب القامة سوي الأعضاء وحسنها . ويقول الرفاعي : ولو شاء تعالى لكان في صورة قرد أو خنزير أو كلب أو حمار ، والله عز وجل قادر على ذلك(2)
فتلك كانت البداية وهذه هي الخلقة كما صورها القرآن الكريم ، ولنر كيف يشطح الفكر بعيدا إذا لم يكن له منج رباني يسير على نوره ويهتدي بهديه .
لقد زعم بعضهم أن الإنسان سليل القرود وأنه تطور عبر الأزمان والعصور حتى وصل إلى هذه الصورة التي نراها اليوم . وقد افتريت هذه الفرية من أجل أن يقال : إن هذا الإنسان مثله مثل سائر الأنواع التي لابد أنها قد انحدرت من نوع مختلف سابق في الوجود ... ، ومن ثم فلابد أن الإنسان قد ظهر على الأرض نتيجة تطور سلسلة مجاورة من سلاسل مملكة الحيوان (1)
لا شك أن هذه النظرة المنحرفة تجعل كل متمسك بدين يقف حائرا أمام معتقداته ، ويتردد في الاحتفاظ بها والدفاع عنها ، بل يشجعه ذلك على التخلي عنها ، وقد حصل هذا فعلا حينما أعلن دارون نظريته الملحدة في أوروبا وقرر حيوانية الإنسان فزادت الفجوة بين الشعوب البائسة والكنيسة المتسلطة على رقابهم ، ومن ثم تركوا الدين أو بقايا الدين الذي كانوا يعرفونه . يقول الشيخ محمد قطب : ولعل أكبر زلزلة أصابت الكنيسة كانت على يد دارون حين نادى بنظريته أصل الأنواع ، وتتالت الضربات بعد ذلك على أيدي العلماء والباحثين فترنحت هيبة الكنيسة وأخذت تتهاوى ... ، ولكن أوروبا حين نزعت عنها سلطان الكنيسة لم تكتف بذلك بل نزعت عنها سلطان الدين أيضا ، إذ كان الدين لديها ممثلا في الكنيسة مجسما فيها ، وأغراهم بهذا أن في العقيدة المسيحية كما صورتها الكنيسة لا كما أنزلتها السماء كثيرا مما يناقض العقل ويثقل الأفهام (2)
إن أي إنسان يشغل ذهنه ويعمل فكره فيما ليس من قدرات عقله من أمور الغيب فإنه حتما سينقلب خاسئا وهو حسير أو على الأقل سيأتي بالعجائب والترهات كما حصل من دارون وفرويد ودوركايم وغيرهم .(2/188)
لنرجع ونتدبر كتاب ربنا ونتأمل كيف ينشأ الإنسان ، وما هي الأطوار التي يمر بها في بطن أمه فيخرج سوي الأعضاء كاملها ، يقول تعالى : ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ( [ المؤمنون : 12-14 ] . ونحن لا نملك إلا أن نقول : سبحان الخالق المبدع المصور الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى . يقول سيد قطب : لقد نشأ الجنس الإنساني من سلالة من طين ، فأما تكرار أفراده بعد ذلك وتكاثرهم فقد جرت سنة الله أن يكون عن طريق نقطة مائية تخرج من صلب رجل فتستقر في رحم امرأة ، لا بل خلية واحدة من عشرات الألوف من الخلايا الكامنة من تلك النقطة ، تستقر في قرار مكين ثابتة في الرحم الغائرة بين عظام الحوض المحمية من التأثر باهتزازات الجسم ... ، ومن النطفة إلى العلقة حينما تمتزج خلية الذكر ببويضة الأنثى وتعلق هذه بجدار الرحم نقطة صغيرة في أول الأمر تتغذى بدم الأم ، ومن العلقة إلى المضغة حينما تكبر تلك النقطة العالقة وتتحول إلى دم غليظ مختلط ، وتمضي هذه الخليقة في ذلك الخط الذي لا ينحرف ولا يتحول ولا تتوانى حركته المنظمة الرتيبة ... ، حتى تجيء مرحلة العظام ... ، فمرحلة كسوة العظام باللحم ... ، ثم يتحول إلى تلك الخليقة المتميزة المستعدة للارتقاء . (1)
لقد مر خلق الإنسان بمراحل متعددة ، فهو أصلا من طين ، وبالتقاء الذكر والأنثى تكون النطفة ، ومن النطفة تخلق العلقة فالمضغة فالعظام ، ثم تكسى العظام باللحم ويتكون الجنين ، كل ذلك يتم بتقدير العليم الحكيم ، وهذه الحقائق أخبر بها القرآن منذ خمسة عشر قرنا وكفانا مؤونة البحث عنها والتفكير فيها ، ومما يزيد الفرد المؤمن يقينا وثباتا واعتزازا بدينه أن العلم لم يكتشف هذه الحقائق إلا في العصر الحاضر .
يقول الدكتور بوكاي : وكل هذه الآيات تتفق وحقائق اليوم الثابتة . ولكن كيف تسنى للرجال الذين عاشوا في عهد محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون لديهم هذه التفاصيل الكثيرة والدقيقة في علم الأجنة ؟! إن هذه الحقائق لم تكتشف إلا بعد مرور ألف عام تقريبا على نزول القرآن ، ويقودنا تاريخ العلوم إلى أن نجزم بعدم وجود أي تعليل أو تبرير بشري لوجود هذه الآيات في القرآن . (2)
ثانيا : الغاية
لم يخلق الله عز وجل الإنسان عبثا ولم يتركه هملا ، فبعد أن سواه ونفخ فيه من روحه أسجد له ملائكته المقربين ، ثم أهبطه إلى الأرض مع الجان ليكون الابتلاء والامتحان ، واستخلف في الأرض ليعمرها بطاعته . يقول الدوسري رحمه الله : والخليفة لله في أرضه هو المكلف بأحكام يطبقها على نفسه وينفذها على غيره . (1)
وقد أخذ ربنا العهد على الإنسان أن يعبده ولا يشرك به شيئا ، قال تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } [ الأعراف : 172 ] أورد ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما خلق الله آدم مسح على ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة . (2)
ويقول الرفاعي : وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم . (3)
عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به . قال : فيقول : نعم . فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي . [ أحمد : 3/127 ]
وفي مسند أحمد أيضا عن ابن عباس – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان – يعني عرفة – فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا ، قال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون [ 1/272 ]
ولما كان الأمر كذلك فإن الخلق كلهم مكلفون بالاتباع ، وكل فرد بذاته قد أودع في فطرته الإسلام وإفراد العبادة لله رب العالمين ، ولهذا خلق آدم عليه السلام وذريته لكي يكون كل منهم عابدا لله متبعا لأوامره مجتنبا لنواهيه . وقد استمر آدم وذريته على ذلك عشرة قرون كلهم على شريعة الحق حتى عهد نوح عليه السلام (1)
فلما اختلفوا وحادوا عن الصراط بعث الله الرسل والأنبياء يوجهون الناس ويرشدونهم لكي يردوهم إلى جادة الصواب(2/189)
قال تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [ البقرة : 213 ] . وقد أرسل الله سبحانه وتعالى المرسلين عليهم السلام لتجديد العهد وتوضيح هذه الغاية ، فقال نوح عليه السلام لقومه : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } [ الأعراف : 59 ] ، وكذلك قال هود عليه السلام لقومه عاد : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } [ الأعراف : 73 ] وقالها شعيب عليه السلام لأصحاب الأيكة : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } [ الأعراف : 85 ] كما قالها غيرهم لأقوامهم ، وقد حقق بعض تلك الأمم غاية وجوده ونكل عن ذلك آخرون كما قال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة } [ النحل : 36 ]
وجاء القرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مقررا ومؤكدا على ذلك الهدف العظيم من وجودك أيها الإنسان وذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] فمقام العبودية هو المقام الذي اختاره تعالى للخلق أجمعين . وقد وصف ملائكته المقربين بوصف العبودية فقال تعالى : { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [ الأنبياء : 19 ] وقال أيضا : { إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون } [ الأعراف : 206 ] . وفي حادثة الإسراء ارتقى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى أشرف مقام وأعظم منزلة ، قال تعالى : { ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى } [ النجم : 8 ، 9 ]
وتلك مكانة لم يصل إليها نبي مرسل ولا ملك مقرب ، ومع ذلك فقد ارتبط لفظ العبودية به عليه السلام ، قال تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا } [ الإسراء : 1 ] فدل ذلك على أن أرفع منزلة هي منزلة العبودية ، وكذلك قال عز وجل عن عيسى عليه السلام : { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل } [ الزخرف : 59 ] ولذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله . [ البخاري 2/490 ] .
والعبودية وصف ملازم لكل إنسان ما دام له قلب ينبض وعين تطرف ، قال تعالى : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 99 ] قال ابن حجر رحمه الله : قال سالم : اليقين : الموت (1)
وفي هذه الآية والآيات التي قبلها رد على مزاعم الصوفية التي تقول إنه يمكن للعبد أن ترفع عنه التكاليف الشرعية متى وصل إلى حالة أو مرحلة معينة ، ونحن نعلم من سيرة المصطفى عليه السلام أنه كان عابدا لله حتى آخر لحظة من حياته ، فهل يمكن لعبد أن يسعه ما لم يسع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! وفي الآيات أيضا دلالة على تكريم الإنسان الذي شرفه ربه بأن جعله وهو المخلوق الضعيف منتسبا بالعبودية لرب الكونين رب السماوات السبع والأرضين ومن فيهن . وفي المقابل نجد أفرادا من المسلمين يتجردون من عبوديتهم للخالق منصرفين إلى عبادة غيره ، وقد دعا الرسول عليه السلام على أولئك دعوة تصل إليهم وهم في عقر منازلهم فقال : تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع . [ البخاري : 2/328 ] .
معنى العبودية :
علمنا مما سبق أن وظيفة الإنسان الأولى والغاية من وجوده هي العبودية ، فماذا تعني هذه الكلمة وما مدلولاتها ؟ هل هي نطق بالشهادتين فقط ؟! أم أنها حركات بالجوارح ؟! أم يكفي الاعتقاد بالقلب ؟! أم غير ذلك من الأقوال والآراء ؟ الواقع أنها تشمل ذلك كله فهي نطق باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان وذلك في حدود ما شرعه الرحمن . وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – هي : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة ، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر بنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وأمثال ذلك من العبادات لله . (1)
والعبودية تعني أن يستسلم المرء لخالقه بكل جوارحه وطاقاته وتصرفاته وأفكاره وشعوره . كما تعني أن ينقاد للشرع ويحكمه في نفسه وأهله وما ملكت يمينه ، تاركا أهواءه وشهواته وراءه ظهريا . ويوضح سيد قطب حقيقة العبادة في أسلوب أدبي رفيع قائلا : إن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين :
الأول : هو استقرار معنى العبودية لله في النفس ، أي استقرار الشعور أن هناك عبدا وربا . عبدا يعبد وربا يعبد ، وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار . ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود وإلا رب واحد والكل له عبيد .(2/190)
والثاني : هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير وكل حركة في الحياة . التوجه بها إلى الله خالصة والتجرد من كل شعور آخر ومن كل معنى غير معنى التعبد لله (2) .
نعم ... بهذا الاستسلام وبهذا الانقياد يكون الفرد عبدا لله ، عبدا يوظف كل ما يملك من نعم مادية أو معنوية ابتغاء مرضات الله ويجعلها ذخرا وزادا ليوم المعاد استعدادا . قال تعالى : { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا } [ القصص : 77 ] وليعلم الإنسان أنه إن لم يعبد الله حق العبادة فإنه لا شك سيعبد الشيطان الذي أخذ عهدا على نفسه بأن يغوي بني آدم ويزين لهم الضلال ويحبب إليهم المنكرات . فينبغي على كل مسلم أن يكون حذرا حتى لا يقع في حبائل الشيطان ومصائده فيسلم من شره ويصبح من عباد الله المخلصين كما قال تعالى في حوار مع الشيطان : { قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال هذا صراط علي مستقيم * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } [ الحجر : 39-42 ] .
فعبد الله المخلص يوحد الله بالعبادة ولا يدع للشيطان مجالا أو منفذا يصل إليه منه . ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – الأساس العقدي لهذا الأمر فيقول : ولهذا كان كل من لم يعبد الله وحده فلابد أن يكون عابدا لغيره ، يعبد غيره فيكون مشركا وليس في بني آدم قسم ثالث ، بل إما موحد أو مشرك أو من خلط هذا بهذا كالمبدلين من أهل الملل النصارى ومن أشبههم من الضلال المنتسبين إلى الإسلام (1)
فالإنسان يحدد بنفسه إما أن يكون عابدا لله أو عابدا للشيطان ، وبيده تحقيق غاية وجوده ، وبالتالي تحديد مصيره .
ثالثا : المصير
إن أي مخلوق مهما امتد أجله وطال عمره فإن له نهاية محتمة ، فكل نفس ذائقة الموت ، الموت الذي قدره الله عز وجل على خلقه وكتبه على عباده وانفرد جل شأنه بالبقاء والدوام ، قال تعالى { كل نفس ذائقة الموت } [ آل عمران : 185 ]
وقال أيضا : { ألهاكم التكاثر ، حتى زرتم المقابر } [ التكاثر : 1، 2 ] ، ففي آيتين من خمس كلمات فقط يصور القرآن الكريم حال الدنيا وما بعدها ، فهي حياة ملهية ثم زيارة وأي زيارة ، زيارة منتهية لا محالة ويكون بعدها الانتقال إلى دار الحساب ، ولكن تلك الزيارة أي فترة البقاء في القبور لا يعلم مداها إلا الله ومع ذلك فنحن نعلم من ديننا أن تلك الحفرة الضيقة ستكون على صاحبها أحد أمرين : إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ، كما ورد في حديث البراء بن عازب الطويل [ انظر سنن أبي داود حديث رقم 3212 ] وغيره من الأحاديث . يقول ابن القيم : مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب ، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة ، وأنها تتصل بالبدن أحيانا ويحصل له معها النعيم أو العذاب ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى الأجساد وقاموا من قبورهم لرب العباد ، ومعاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى.(1)
فإذا مات الإنسان فهذه قيامته وهي القيامة الصغرى ، أما القيامة الكبرى فتكون عندما يؤذن بالنفخ في الصور فيحشر جميع العباد ، قال تعالى : { يوم ترجف الراجفة ، تتبعها الرادفة } [ النازعات : 6 ، 7 ] عندئذ ترتجف القلوب والأفئدة وتحتار العقول والأفهام كما قال تعالى : { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } [ الحج : 2 ] . ويصور هول ذلك اليوم أيضا قوله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} [ لقمان : 33 ] .
وإذا تأملنا القرآن الكريم وجدنا آيات كثيرة جدا تعرض لذلك اليوم من زوايا متعددة ومشاهد مختلفة ، وتعني هذه المشاهد بتصوير الهول في يوم القيامة ، ذلك الهول الذي يشمل الطبيعة كلها ويغشى النفس الإنسانية ويهزها ولا يكاد يخلو مشهد واحد من اشتراك الأحياء فيه ...، وتعني هذه المشاهد أيضا بتصوير مواقف الحساب قبل النعيم والعذاب ، وهنا نلتقي بألوان شتى من طرق العرض الكثيرة وسمات شتى للموقف المعروض(2)
وتبين السنة كذلك بعض أهوال ذلك اليوم العصيب ، ففي حديث الشفاعة يقول صلى الله عليه وسلم : يجمع الله الناس ـ الأولين والآخرين ـ في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ، [ البخاري : 3/250 ]، ومن حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا فقلت يا رسول الله النساء والرجال جميعا ينظر بعضهم إلى بعض ؟ فقال يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض [ مسلم : 4/ 2194 ]
ومن حديث المقداد ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل ، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاما ، قال وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه [ مسلم : 4/ 2196 ]
فهذه الأهوال وغيرها تنتظر كل إنسان ولن ينجو منها أحد فالكل صائرون إلى الله يقول تعالى : { يقول الإنسان يومئذ أين المفر ، كلا لا وزر ، إلى ربك يومئذ المستقر ، ينبؤا الإنسان يؤمئذ بما قدم وأخر } [ القيامة : 10 ـ 13 ](2/191)
وبعد أن يقوم الناس لرب العالمين تجازى كل نفس بما كسبت ويلاقي كل عبد ما قدم ، قال تعالى : { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } [ البقرة : 281 ] وقال : { يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين } [ النور : 25 ] ويقول صلى الله عليه وسلم فيم يرويه عن ربه عز وجل : ....يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ، [ مسلم : 4/ 1994 ]
ويقول تعالى أيضا : { إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ، ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى ، جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى } [ طه : 74- 76 ]
فهذه هي الخاتمة ، خلود دائم وحياة لا تنتهي ، فمن زكى نفسه فإلى دار النعيم ومن دساها فإلى الجحيم والعياذ بالله ، فليختر كل امرئ ما يريد ، قال تعالى : { ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها } [ الشمس : 7-9 ]
نخلص من هذا القول بأن العبد يمر بثلاث مراحل : الحياة الدنيا فالقبر ثم الخلود ، وهذه المراحل لا يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالى ، وهناك مغيبات كثيرة في هذه المراحل لا نعلم منها إلا ما ثبت في الكتاب والسنة ، والمسلم الحق يؤمن ويصدق بها وإن لم يستطع عقله أن يتصورها أو يدرك كنهها .
يقول ابن أبي العز الدمشقي : والحاصل أن الدور ثلاث : دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار ، وقد جعل الله لكل دار أحكاما تخصها ، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس وجعل أحكام الدنيا على الأبدان ، والأرواح تبع لها ، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح ، والأبدان تبع لها فجاء يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعا(1)
الفصل الثاني
مبادئ التربية الذاتية من الكتاب والسنة
المبحث الأول : الحرية
المبحث الثاني : المسئولية والجزاء
المبحث الثالث : الاهتمام بالغير
مقدمة
يزخر القرآن الكريم والسنة المطهرة بالعديد من المبادئ والأسس التي تنير الطريق للفرد المسلم وللمجتمعات المسلمة لتحقيق غايتها من الوجود فهناك مبادئ التربية الخلقية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والجنسية والروحية والجسمية ، وهناك أيضا مبادئ التربية الذاتية وغيرها ، وفي مجال التربية الإسلامية تسعى كل من هذه المبادئ للوصول بالإنسان إلى غاية خلقه ووجوده وتحقيق دوره في الحياة ، ويحسن بالباحث قبل المضي قدما توضيح المقصود بكلمة المبادئ وماذا نعني بقولنا : أن هناك مبادئ في التربية الإسلامية ثم ما هي وظيفة مبادئ التربية الذاتية .
يقول ابن منظور : البدء فعل الشيء أول ، .. والبدء والبدئ : الأول وأبدأت بالأمر بدءا : ابتدأت به ، وبادئ الرأي : أوله وابتداؤه ، وقال الفراء : لا تهمزوا بادي الرأي أي أول الرأي لأن المعنى فيما يظهر لنا ويبدو ، وقال : ولو أراد ابتداء الرأي فهمز كان صوابا(1)
وصرح هارون بكلمة المبادئ فقال : المبدأ مبدأ الشيء أوله ومادته التي يتكون منها كالنواة مبدأ النخل ، أو يتركب منها كالحروف مبدأ الكلام ، وجمعها مبادئ ، ومبادئ العلم أو الفن أو الخلق أو الدستور أو القانون : قواعده الأساسية التي يقوم عليها ولا يخرج عنها (2)
وبالنظر إلى البحوث والدراسات التربوية المعاصرة وجد الباحث أن معظمها لم يتطرق إلى تعريف واضح محدد للمبادئ ، فتجد كتابا أو بحثا بعنوان مبادئ تربوية في كذا أو لكذا ، وإذا ما تصفحت ذلك الكتاب أو البحث تجد أن المؤلف أدرج بعض المفاهيم التربوية معتبرا إياها دون أن يوضح ماذا يقصد بهذا المصطلح التربوي ، وممن عرف هذا المصطلح عبد الرحمن النحلاوي حيث قال إن كلمة المبدأ تعبر عن : فكرة شاملة تنبثق عنها أفكار فرعية أو تنظم على ضوئها عمليات فيزيائية أو كيماوية أو تربوية أو علاقات اجتماعية ، وتأتي المبادئ على الأغلب مصرحا بها أو متضمنة في البحوث أو القصص أو التشريعات أو مجموعة مرتبة في العلوم الطبيعية ، أما مبادئ التربية الإسلامية فيجدها الباحث موزعة في القرآن والسنة (1)
وفي موضع آخر يحدد النحلاوي المبادئ التربوية الإسلامية بأنها : قواعد وقوانين تربوية عامة واسعة الشمول مقتبسة من القرآن والسنة(2)
ويرى الباحث أن التعريفات السابقة غير وافية لتعريف المبادئ التربوية الإسلامية ، وتمحيصا لما ذكر يستخرج الباحث تعريفا يراه جامعا ، فمبادئ التربية الإسلامية هي : قواعد أساسية شاملة تستنبط مباشرة من الكتاب والسنة وتنبثق عنها سلوكيات الفرد المسلم والمجتمع المسلم
ولا يقتصر غياب هذا المفهم على المؤلفات النظرية بل يتعداه إلى الواقع العملي في حياة كثير من المسلمين ، ومما يتأكد لدى كل عاقل حصيف أن المبادئ الإسلامية عموما تبقى كذلك وإن تخلى عنها أصحابها أو تهاونوا في التمسك بها والخاسر الوحيد هو من أعرض عنها ، قال تعالى : { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم ، إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم } [ آل عمران : 176 ، 177 ]
وقال تعالى أيضا : { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم } [ محمد : 32 ](2/192)
والآيتان السابقتان ـ وإن كانتا تتحدثان عن حال الكافرين أو المرتدين ـ إلا أنهما تنطبقان على واقع بعض المسلمين الذين تركوا المبادئ الإسلامية الأصيلة لينهلوا من مبادئ الشرق أو الغرب ، والاستشهاد بالآيتين هنا لبيان الحال فقط والله أعلم بالمآل . وتعتبر مبادئ التربية الإسلامية بحق عنصرا أصيلا وركنا ركينا في مسيرة المربين والمريدين يهتدي بهديها ويسار على خطاها لتؤتى العملية التربوية أكلها كل حين بإذن ربها .
أما فيما يتعلق بهذا البحث فإننا نعرف مبادئ التربية الذاتية بأنها الأسس والركائز التي تضع الفرد المسلم أمام نفسه ليرى مدى تطويعه لهذه المبادئ لتحقيق العبودية الحقة لله سبحانه وتعالى ، وهي تذكرة بدوره ووظيفته كفرد مسلم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما أنها تجعله يسائل نفسه دائما ويراجعها مقوما ومرشدا لكي يستفيد من ذلك في سيره إلى ربه على صراط مستقيم ، قال تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيم فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } [ الأنعام : 153 ]
عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال هذه سبل متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ، [ أحمد : 1/ 435 ]
وعن النواس بن سمعان ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ضرب الله تعالى مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تتعوجوا وداع يدعو من فوق الصراط ، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه ، فالصراط الإسلام والسوران حدود الله تعالى والأبواب المفتحة محارم الله تعالى وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوق : واعظ الله في قلب كل مسلم ، [ أحمد : 4/182 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 3782 ]
لا ريب أن مبادئ التربية الذاتية تستثير واعظ الله في قلب كل مسلم للمبادرة إلى فعل الطاعات وترك المنهيات بجميع أنواعهما ، أي لتربية ذاته وتزكيتها وتقويمها .
وقد اختار الباحث بعض مبادئ التربية الذاتية المستنبطة من الكتاب والسنة للحديث عنها وقسمت إلى المباحث التالية :
1ـ الحرية
2ـ المسؤولية والجزاء
3ـ الاهتمام بالآخرين
وسوف يتناول البحث كلا منها بشيء من التفصيل والتوضيح
المبحث الأول
الحرية
مقدمة :
تتضمن الحرية تقرير المصير وهي من هذه الناحية تتفق مع التربية الذاتية ، ولذلك تعتبر الحرية إحدى العلامات المميزة للطبيعية الإنسانية وبها يقرر الفرد ما سيكونه وما سيفعله وما سيعتقده(1)
ولذا فهي من أبرز عوامل تحقيق الذات الإنسانية والتي تسعى التربية لتحقيقها لتكوين شخصية الفرد ، وقد وضع الشرع الحنيف أسسا واضحة لكل فرد لممارسة الحرية بحيث لا تستبد به رغباته وأهواؤه فتزل قدمه ويضل فكره ويخسر دنياه وآخرته .
قال تعالى : { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } [ ص :26 ]
وقال أيضا : { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } [ القصص : 50 ]
فالحرية الفردية في الإسلام محددة بضوابط وقيود تجعلها مرتبطة بالأصل الأصيل الذي خلق الإنسان لأجله ألا وهو العبودية لله تعالى ، وهذا التشريع ليس سلبا للأفراد حريتهم بل من أجل أن يجنب البشرية الخوض في مزالق الردى ومهاوي الضلال قرونا طويلة ظلوا يتخبطون فيها ويتعثرون في تجاربهم وتؤدي بهم هذه التجارب إلى دمار الأجيال(2)
ومن فوائد هذا التشريع أيضا أن تراعى حقوق المجتمع ومتطلباته التي قد تتعارض أحيانا مع حق الفرد وحريته ، وقد صور لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك تصويرا بليغا فقال : مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا، [ البخاري : 3 / 207 ]
فليس هناك فرد يعيش لوحده يفعل ما يشاء وقتما يريد بحجة أن له حرية شخصية يتصرف بها وفق هواه ، بل أن القضية مرتبطة بأفراد آخرين يتأثر كل منهم بحرية الآخر ، وهذا هو المنهج الذي ينبغي أن يراعى في جانب الحرية ، يقول محمد قطب : ليس هناك مصلحة لفرد هي مصلحته وحده وشأنه بمفرده ، كل مصلحة هي مصلحتهم جميعا ـ أي جميع الأفراد ـ وكل ضرر هو ضرر يصيبهم جميعا ولا يستطيع أحد أن يتخل عن مسئوليته في هذا السبيل (1)
ولما كانت الحرية بهذه الدرجة من الحساسية وكانت بحاجة إلى مستوى معين من التوازن ، فإن على كل فرد مراعاة ذلك في الأقوال والأفعال وتوظيف هذا المبدأ ـ مبدأ الحرية ـ وفق مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد كفل الدين الإسلامي ممثلا في الكتاب والسنة تحقيق هذا المبدأ في نفوس معتنقيه ، ويبرز ذلك في عدة جوانب منها :
1ـ حرية العقيدة والعبادة .
2ـ الحرية الفكرية .
3ـ الحرية الملكية .
4ـ الحرية العلمية .
أولا : حرية العقيدة والعبادة
ويتفرع منها عنصران هما :
1ـ حرية العقيدة .
2ـ حرية العبادة .
1ـ حرية العقيدة :(2/193)
بادئ ذي بدء يقرر الإسلام حرية اعتناق الإسلام فلا يكره أحدا على تبديل عقيدته وإن كان يدعو إلى ذلك ، وفرق بين الإكراه على الإسلام والدعوة إليه . قال تعالى : { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } [ البقرة : 256 ] وقال أيضا : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } [ الكهف : 29 ] . فأمر الهدى والضلال أو الإيمان والكفر بيد كل إنسان ولا حق لأحد مهما كان أن يكره غيره أو يجبره قسرا على ذلك فإن فعل فهو مستبد ظالم . يقول سيد قطب – رحمه الله - : إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق الإنسان التي يثبت له بها وصف إنسان ، فالذي يسلب إنسانا حرية الاعتقاد إنما يسلبه إنسانيته ابتداء ، ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة والأمن من الأذى والفتنة وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة ... ، وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان واحترام إرادته وفكره ومشاعره وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني ، التحرر الذي تنكره على الإنسان في القرن العشرين مذاهب متعسفة ونظم مذلة لا تسمح لهذا الكائن الذي كرمه الله – باختياره لعقيدته – أن ينطوي ضميره على تصور للحياة ونظمها غير ما تمليه عليه الدولة بشتى أجهزتها التوجيهية وما تمليه عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها ، فإما أن يعتنق مذهب الدولة هذا وهو يحرمه من الإيمان بإله للكون يصرف هذا الكون ، وإما أن يتعرض للموت بشتى الوسائل والأسباب (1)
وللحرية الفردية في الإسلام مسار ينبغي أن تسير فيه . يقول تعالى : { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها } [ البقرة : 256 ] ويقول أيضا : { ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى } [ لقمان : 22 ] .
فالاستمساك بالشرع الحنيف هو المسار الصحيح للحرية الفردية ، وهو التوجيه الإلهي لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه حيث قال : { فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا } [ هود : 112 ] فكان كل منهم كما وصفهم الله تعالى في كتابه الكريم : { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار } [ النور : 37 ] .
إن استشعار المؤمن لحرية العقيدة التي كفلها الإسلام يزيده يقينا بالهدى الذي منحه الله عز وجل له واختاره من بين كثير من الناس للاعتناق به ، ونداء الفطرة الذي أوجد في كل إنسان يقوده بسهولة إلى التشبث بالمنهج الحق دون عناء أو مشقة ، بل ويتحمل في سبيله كل المصاعب والآلام والعقبات التي يضعها الطغاة لصرفه عن مسايرة فطرته والتمشي بموجبها ، والسبب الكامن وراء ذلك أنه لا يمكن له أن يتخلى عن تلك الفطرة التي غرست في كيانه وأصبحت جزءا لا يتجزأ من نفسه التي بين جنبيه .
نماذج واقعية في تطبيق حرية العقيدة :
وفيما يلي يستعرض الباحث تطبيقات واقعية لحرية العقيدة في حياة أفراد من خير القرون :
1ـ عندما أسلم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وأعلن إسلامه وعلمت قريش بذلك ثاروا عليه وما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم ، ولما أعيا عمر قعد وقال : افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاث مائة رجل لقد تركناهم لكم أو تركتموها لنا ، وبينما هم كذلك إذ أقبل العاص بن وائل السهمي فقال : ما شأنكم ؟ قالوا صبأ عمر ، قال : فمه رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون ؟ أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبهم هكذا ؟ خلوا عن الرجل ، فتفرقوا عنه (1)
2ـ ولما أسلم عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـأخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطا وقال : أترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث ؟ والله لا أحلك أبدا حتى تدع ما أنت عليه عن هذا الدين ؟ فقال عثمان: والله لا أدعه أبدا ولا أفارقه ، فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه(2)
3ـ وهذا بلال وخباب وآل ياسر وغيرهم ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يعذبون في ذات الله من أجل أن يتنازلوا عن حريتهم ومع ذلك صبروا وتحملوا الشدائد حتى لقي بعضهم حتفه وهو في ذلك العذاب ، وبقي البعض يحدث عما لقيه من العنت والشدة ، وكلهم قد لقي الله وهو راض عنه .
2ـ حرية العبادة :
أما الحرية في العبادة فهي فرع من الحرية في العقيدة ، وحيث أن العبادة هي فعل للمأمورات وترك للمنهيات فقد وضع لنا صلى الله عليه وسلم القاعدة في ذلك قائلا : ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم...[ مسلم :4/1830 ]
وهذا الحديث كما قال النووي في شرح مسلم : من قواعد الإسلام المهمة ومن جوامع الكلم التي أعطيها صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام(1)
ومن أحكامه ودلائله أنه يتعين على كل مسلم : الاعتناء به والاهتمام أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم يجتهد في فهم ذلك والوقوف على معانيه ثم يشتغل بالتصديق بذلك إن كان من الأمور العلمية وإن كان من الأمور العملية بذل وسعه في الاجتهاد في فعل ما يستطيعه من الأوامر واجتناب ما ينهى عنه فيكون همته مصروفة إلى ذلك لا إلى غيره وهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان في طلب العلم النافع من الكتاب والسنة (2) ومن هذا الحديث يتبين لنا عدة أمور هي :
1ـ أن ما نهى عنه الشارع الحكيم يتركه الفرد المسلم بالكلية.
2ـ أن يجتهد في فعل كل الأوامر.
3ـ أن ما أمر به يفعله قدر الاستطاعة .(2/194)
فالواجب إذن على كل مكلف أن يجتنب المنهيات والمحرمات والمكروهات ، مع المبادرة إلى فعل الطاعات والمسارعة إلى الخيرات وتنويع القربات لتمتلئ الصحائف بالحسنات ، ولو تتبعنا شعائر الإسلام وفرائضه لوجدناها كثيرة جدا وكذلك الواجبات والسنن والمستحبات ، ولا يمكن لفرد أن يقوم بها كلها في وقت واحد وفي ساعة واحدة ، ومن أمثلة ذلك : الصلاة والصيام والزكاة والحج والصدقة وزيارة المريض وقيام الليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقراءة القرآن وتشييع الجنازة وإكرام الضيف وتعليم الجاهل ومساعدة الجيران والجهاد في سبيل الله ومخالطة الناس للنصح والإرشاد وغير ذلك من أمور العبادة ، وفي ذلك يظهر مبدأ الفروق الفردية بين العباد ، كما يظهر مبدأ الحرية في العبادة ، فقد يكون لعبد من العباد أن يكثر من النوافل آناء الليل وأطراف النهار وآخر رغبته في الإكثار من قراءة القرآن ، وفرد ثالث يكثر من الصدقة ورابع مشتغل بتعليم عوام الناس أمور دينهم وخامس آخذ بعنان فرسه يجاهد في سبيل الله ، ....وهكذا .
ولكن ذلك لا يمنع أن تجتمع بعض هذه الأمور أو كلها لشخص واحد وقليل ما هم .
روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أنفق زوجين في سبيل الله نودي يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ، قال أبو بكر الصديق : يا رسول الله : ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم وأرجو أن تكون منهم، [مسلم : 2/712 ]
قال النووي ـ رحمه الله ـ : قال العلماء معناه من كان الغالب عليه في عمله وطاعته ذلك(1)
ويقول الإمام المقدسي : وقد كانت أحوال المتعبدين من السلف مختلفة ، فمنهم من كان يغلب على حاله التلاوة حتى يختم كل يوم ختمة أو ختمتين أو ثلاثا وكان فيهم من يكثر التسبيح ومنهم من يكثر الصلاة ومنهم من يكثر الطواف بالبيت(2)
الميزان الصحيح لأفضل العبادة :
وإن سأل سائل ما هو الميزان الصحيح لأفضلية العبادة ؟ وما هي القربات التي يحبها الله أفضل من غيرها كي يستزيد منها المرء ؟ وما هو الأنفع والأحق بالإيثار والتخصيص في منازل العبودية ؟ والجواب على ذلك جد يسير فإن : أفضل العبادة في كل وقت وحال : إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه(1)
فكل زمان أو مكان له عبادة أفضل من غيرها ، فمن كان بجوار الكعبة فالأفضل له أن يطوف بدلا من الجلوس لقراءة القرآن ، ومن تيسر له الوقوف بعرفة فذلك أفضل من حضور مجلس للذكر ، وأفضل العبادات في وقت الجهاد : الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن والطمأنينة ، والأفضل في وقت حضور الضيف القيام بحقه من إكرام وغيره والانشغال به عن حق الأهل والأولاد ، والأفضل وقت السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن وترك الزوجة والفراش ، والأفضل وقت انتشار غياهب الجهل وظلماته هو الدعوة إلى الله والنصح والإرشاد وإن أدى ذلك إلى التقصير في زيارة الأقارب وخاصة البعيدين منهم ، فهذا هو العبد الحر أو ما يسميه العزى العبد المطلق الذي : لم تملكه الرسوم ولم تقيده القيود ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات بل هو على مراد ربه ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه ، فهذا هو المتحقق بـ { إياك نعبد وإياك نستعين } حقا ، القائم بهما صدقا ، ملبسه ما تهيأ ومأكله ما تيسر واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليا ، لا تملكه إشارة ولا يتعبده قيد ولا يستولي عليه رسم ، حر مجرد ، دائر مع الأمر حيث دار يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه ويدور معه حيث استقلت مضاربه ، يأنس به كل محق ويستوحش منه كل مبطل كالغيث حيث وقع نفع وكالنخلة لا يسقط ورقها وكلها منفعة حتى شوكها وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله والغضب إذا انتهكت محارم الله فهو لله وبالله ومع الله(1)
تلك هي الصورة المثالية في حرية العبادة أو ما ينبغي أن يكون ، أما التطبيق العملي للحرية الذاتية في العبادة في واقع المسلمين فيتمثل في قوله تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير } [ فاطر : 32 ] فالخلق ثلاثة أصناف في العبادة : ظالم ومقتصد وسابق ، ويوضح ابن تيمية ـ رحمه الله ـ هذه الأصناف بقوله : فالظالم لنفسه العاصي بترك مأمور أو فعل محظور ، والمقتصد المؤدي للواجبات والتارك للمحرمات والسابق بالخيرات المتقرب بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب والتارك للمحرم والمكروه(2)
وبفهم واع وبصيرة نافذة يقرر ابن تيمية حقيقة الحرية في العبادة لدى الفرد فهو يرى أن العبد كلما ازداد حبا لله ازداد له عبودية وحرية عما سواه ، ومن جهة أخرى كلما ازداد له عبودية ازداد له حبا وحرية عما سواه(3).
وحرية العبادة التي هي حق لكل فرد في المجتمع المسلم لها تأثير بالغ في عبادته وتؤثر مباشرة في شخصيته ، فإذا أدى العبد ما افترض الله عليه من العبادات أمكنه بلا حرج أن يتنقل بين العبادات الأخرى فيما تميل إليها نفسه وتشتاق إليها روحه أكثر من غيرها ، وبذلك يقبل عليها بنفس مطمئنة راضية ويندفع في آدائها بكل رغبة وارتياح .(2/195)
ويستنبط الباحث حرية العقيدة والعبادة معا في القرآن من قوله تعالى : { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ، كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا } [ الإسراء : 18 ـ20 ]
ثانيا : الحرية الفكرية
ومن عناصرها : حرية الاجتهاد
لقد كفل الإسلام لأفراده حرية الاجتهاد وابداء الرأي وأحاط ذلك بسياج قوي من الدعم والتوجيه ، وبنظرة سريعة للفقه الإسلامي نجد أن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ قد اعتبروا الاجتهاد مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي ، والاجتهاد هو : استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس بالعجز عن المزيد عليه(1)
وحيث أن في الاجتهاد في الأحكام الشرعية توقيعا عن رب العالمين فقد اشترط في المجتهد شروط عدة لكي يتسنى له الاجتهاد(2) ، فليس في الشريعة تحجير للعقول وكبت للآراء بل في الأمر تيسير وسعة خاصة فيما يستجد من أمور الحياة ومتطلباتها وما يعرض للناس من أقضية وأحكام .
وتؤيد نصوص الكتاب والسنة ذلك الاجتهاد في مواضع كثيرة ، يقول سبحانه وتعالى : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ، ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين } [ 78 ، 79 ] ففي الآية الثانية اختص الله عز وجل سليمان عليه السلام بالفهم ثم أثنى على داود وسليمان عليهما السلام بالحكم والعلم ، أما ابن كثير فيقول : فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود (3)
أي كأن الله سبحانه وتعالى قد أقر كلا منهما على اجتهاده ، وثبت عن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا حكم الحاكم فاجتهد الحاكم ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر [ البخاري : 4 /372 ]
ويرى الباحث أن تقرير هذه النصوص من الكتاب والسنة حث لكل عبد على الاجتهاد فيما يستطيعه من الأمور التربوية أو الاجتماعية أو غيرها ، فإذا ما واجه الفرد قضية من القضايا التي لا نص فيها من الشرع وتأكد من ذلك ، أمكنه أن يعمل فكره ويشحذ ذهنه لإحراز الصواب .
أمثلة للاجتهاد من حياة الرسول وأصحابه :
وإذا تتبعنا السيرة النبوية نجد أمثلة كثيرة لاجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام منها :
1ـ قبوله عليه السلام للفداء من أسرى بدر فأنزل الله معاتبا إياه على ذلك قال تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } [ الأنفال : 67] فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في قضية أسرى بدر . [ مسلم : 3 /1385 ]
2ـ ما وقع منه عليه السلام من الإذن للمعتذرين أن يتخلفوا عن غزوة تبوك فأنزل الله معاتبا : { عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين } [ التوبة : 44 ] وهنا يعاتب الله نبيه في اجتهاده في الحكم على المتخلفين عن غزوة تبوك .
3ـ قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ، فصلى بعضهم في الطريق اجتهادا منهم ولم يصل البعض الآخر حتى وصلوا إلى بني قريظة ولم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا منهم لاجتهاده . [ مسلم : 3 / 1391 ]
4ـ قصة بعث معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ إلى اليمن ولما سأله عليه السلام بم تحكم قال : بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد ، قال : بسنة رسول الله ، قال : فإن لم تجد ، قال : أجتهد رأيي ولا آلو ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله . [ أبو داود : 4 /19 وأخرجه الترمذي وقال : وليس إسناده عندي بمتصل ].
قال ابن القيم تعليقا على الحديث : وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصا عن الله ورسوله .
ثالثا الحرية الملكية
لقد تمشي الإسلام مع فطرة الإنسان وغريزته في حب المال وتملكه ، أتاح له فرص الكسب المختلفة وسمح له أن يحوز ثمرة جهده ونتيجة عطائه دون أن يمس كرامة غيره أو يجور عليهم في ظل الشرع الحنيف ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه وعن علمه فيم فعل وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه . [ الترمذي : 4/529 ]
ويبين الخولي وظيفة الحافز الفردي في الملكية الفردية فيقول : إنه قانون نفساني ذو خصائص إيجابية يؤدي به المرء دوره في عمارة الأرض على أتم وجه ، ومن هذه الخصائص نزوعه إلى الاستيلاء على حصيلة عمله وأن تحقيق هذا الاستيلاء هو الاستجابة الواجبة ليحقق هذا القانون أثره الذي أراد الله له .(1)
ولكن الإسلام أباح التكسب وجمع المال ضمن ضوابط شرعية معينة وفي إطار مراتب متدرجة ، يقول الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة :
ثم الكسب على مراتب ، فمقدار ما لابد لكل أحد منه يعني ما يقيم به صلبه يفترض على كل أحد اكتسابه عينا لأنه لا يتوصل إلى إقامة الفرائض إلا به ، ومما يتوصل به إلى الفرائض يكون فرضا فإن لم يكتسب زيادة على ذلك فهو في سعة من ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها . [ الترمذي : 4 / 496 ] .
وهذا إن لم يكن عليه دين فإن كان عليه دين فالاكتساب بقدر ما يقضي به دينه فرض عليه لأن قضاء الدين يستحق عليه عينا وبالاكتساب يتوصل إليه .
وكذا إن كان له عيال من زوجة وأولاد فإنه يفترض عليه الكسب بقدر كفايتهم عينا لأن الإنفاق عليهم مستحق عليه وإنما يتوصل إلى إيفاء هذا المستحق بالكسب ، والكسب زيادة على ذلك فيه سعة(1).(2/196)
وإذا حاز الإنسان على كل شيء من هذا المال وجب عليه أن يقوم بمتطلباته وتكاليفه ، فالمال الذي يمتلكه الإنسان هو مال الله وهو مستخلف فيه وهو مسئول عن كسبه وإنفاقه لا ريب ، وإذا امتلك عبد هذا المال ـ مهما كثر ـ فإنه يبقى فقيرا إلى خالقه ومولاه ، محتاجا إلى رحمته ومغفرته ، قال تعالى : { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد } [ فاطر : 15 ].
يقول الخولي : وإذا أدرك الإنسان حقيقة الافتقار في نفسه عرف أنها فطرته فالتزمها وجعلها منهاجا ، وإذا استعلنت له حقيقة السلب في نفسه بدت كل المواهب نعما وإرادة من الله ومنعه ذلك أن يزهى بها على غيره ، والإحساس بالافتقار يدفع إلى الإقبال على الله ليستمد الإيجاب من معاني صفاته .(1)
فالمال عارية مردودة وإن بقي لأحد فلن يبقى له أحد حيث أنه متاع الحياة الفانية ، قال تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب } [ آل عمران : 14 ].
ولن ينفع هذا المال صاحبه إلا إذا استغله فيما يرضي الله عز وجل ويعود عليه بالنفع والفلاح يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، وفي ذلك حث وتحريض لكل من يملك أن يستبدل ما عند الله من اللذات الحقيقية الأبدية بالشهوات المخدجة الناقصة الفانية (1) .
وقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم المال الذي ينفق في أوجه البر بقوله : نعم المال الصالح للمرء الصالح ، [ أحمد : 4 / 197 ]
إن ذاتية الفرد المالك تكمن في تغلبه على نوازعه الشيطانية وتسخير المال الذي رزقه الله لتزكية نفسه وتربيتها لتمضي مع النصوص القرآنية الكثيرة التي تشير إلى ذلك ومنها : { وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ... } [ البقرة : 177 ] { المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا } [ الكهف : 46 ].
وقوله : { وسيجنبها الأتقى ، الذي يؤتى ماله يتزكى } [ الليل : 18 ] ، { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير } [ البقرة : 265 ] ، { انفروا خفاقا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } [ التوبة : 41 ] .
إضافة إلى ذلك فإن التطبيق الصحيح لحرية التملك يخلص النفس من أنانيتها واستئثارها بما وهبها الله ، وفي التعود على البذل والعطاء راحة للضمير وسكينة للفؤاد ، وإذا أدرك المرء أن المال مال الله وأن الذي أعطاه اليوم يمكنه أن يأخذه غدا ويعطيه لغيره ، يجعله دوما يشعر بالحاجة إلى ما عند الله فيقبل عليه بالطاعات ويوظف ماله في مرضاة الله لنيل ما عند الله من النعيم المقيم .
إن حرية التملك التي أقرها الإسلام للأفراد لا تهيئ لهم البذل والعطاء للانعتاق من ذل القيود الأرضية فحسب ، بل تهيئ لهم الإنفاق في المباحات وتوفير المال وتثميره في ظل الشريعة الغراء ، ولهذه الحرية منافع جمة ، يقول سيد قطب : وتقرير حق الملكية الفردية يحقق العدالة بين الجهد والجزاء فوق مسايرته للفطرة واتفاقه مع الميول الأصلية في النفس البشرية ، تلك الميول التي يحسب الإسلام حسابها في إقامة نظام المجتمع وفي الوقت ذاته يتفق مع مصلحة الجماعة بإغراء الفرد على بذل أقصى جهد في طوقه لتنمية الحياة ، فوق ما يحقق من العزة والكرامة والاستقلال ونمو الشخصية للأفراد بحيث يصلحون أن يكونوا أمناء على هذا الدين ، يقفون في وجه المنكر ويحاسبون الحاكم وينصحونه دون خوف من انقطاع أرزاقهم لو كانت في يديه (1).
فمما تسعى إليه التربية الإسلامية أن يكون التوافق كبيرا بين فطرة الإنسان والحرية الملكية التي أبيحت له .
والفرد المسلم المنتمي إلى الجماعة المسلمة لا يرضى لنفسه أن تتنعم بالمال ولا تتذكر إخوانها من حولها فتبادر إلى المساهمة في بناء المجتمع من خلال هذا المال فيشعر في قرارة نفسه أنه قدم شيئا للإسلام والمسلمين .
ويتعجب المرء حين يسمع عن الجمعيات المنحرفة والمؤسسات الضالة التي يسخو أصحابها سخاء لا تعرفه الجمعيات والهيئات الإسلامية ، بل وينظمون أمورها تنظيما ينتج الشر الكبير ويثمر الفتنة العارمة التي لا يشقى بويلاتها إلا الملتزمين بشرائع الإسلام (2).
نموذج فريد لتطبيق الحرية الملكية :(2/197)
وإذا أردنا مثالا لنفس حررت ذاتها من قيود المال وكانت تطبيقا عمليا لتلك الآيات فلننظر إلى شخصية الحبيب صلى الله عليه وسلم وسيرته القولية والعملية فإنها صورة مقتبسة من القرآن الكريم ، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله : كان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس صدقة بما ملكت يده وكان لا يستكثر شيئا أعطاه لله تعالى ولا يستقله وكان لا يسأله أحد شيئا إلا أعطاه قليلا كان أو كثيرا وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذ وكان أجود الناس بالخير يمينه كالريح المرسلة ، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه تارة بطعامه وتارة بالهدية ، وكان ينوع في أصناف عطائه وصدقته فتارة بالهبة وتارة بالصدقة وتارة بالهدية وتارة بشراء الشيء ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعا كما فعل ببعير جابر ، وتارة كان يقترض الشيء فيرد أكثر منه وأفضل وأكبر ويشتري الشيء فيعطي أكثر من ثمنه ويقبل الهدية ويكافئ عليها بأكثر منها أو بأضعافها تلطفا وتنوعا في ضروب الصدقة والإحسان بكل ممكن ، وكانت صدقته وإحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله فيخرج ما عنده ويأمر بالصدقة ويحض عليها ويدعو إليها بحاله وقوله فإذا رآه البخيل الشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء وكان من خالطه وصحبه ورأى هديه لا يملك نفسه من السماحة والندى ، وكان هديه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإحسان والصدقة والمعروف ولذلك كان صلى الله عليه وسلم أشرح الخلق صدرا وأطيبهم نفسا وأنعمهم قلبا فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيرا عجيبا في شرح الصدر وإن ضاف ذلك إلى ما خصه الله به من شرح صدره بالنبوة والرسالة وخصائصها وتوابعها وشرح صدره حسا وإخراج حظه منه.(1)
واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ينطلق المسلم من ذاته لفك القيود التي تربطه بالأرض وليرتفع إلى الملكوت الأعلى في السماء ، ويحصل له ذلك بالبذل والعطاء والإنفاق في سبيل الله بسخاء ، فإن في ذلك حياة المجتمع وتضامن أفراده وثبات بنيانه كما أن فيه تربية للإيمان بالاعتماد على الله والتوكل عليه وفيه تربية للنفوس وتمحيصها من أدرانها .
رابعا : الحرية العلمية
لم يلزم الإسلام جميع أفراده بالاتجاه إلى علم معين ، وترك هذا الأمر مطلقا حسب رغبة كل فرد وميوله وأهوائه ، بل إن مقتضى الحال يدعو إلى أن يكون للمسلمين باع في كل علم من العلوم المفيدة وأن يكون لدى جماعة المسلمين الخبراء والمختصون في مختلف المجالات لكي يكونوا في قوة ومنعة ويستغنوا بإمكانيتهم عن الأعداء ، قال تعالى : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا } [ النساء : 83 ].
فوجود الهيئات المتخصصة والعلماء البارعين في مختلف المجالات النافعة أمر هيأته الشريعة ويسرت سبله عن طريق حرية العلم للأفراد ، يقول أحد التربويين المعاصرين : وحين تتعقد المواقف والمشكلات ـ خاصة تلك التي تتعلق بأمور السلم أو أمور الحرب والأخطار ـ وتحتاج إلى درجات عالية من القدرات والخبرات العميقة ومناهج التفكير الحكيم فإن القرآن يوجه إلى وجوب إقامة هيئة متخصصة في دراسة هذا النوع من المواقف والمشكلات(1).
وقد كانت حرية العلم واضحة في حياة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ورضي الله عنهم أجمعين ـ فمنهم العالم بالقرآن والعالم بسنة المصطفى عليه السلام واللغوي والشاعر والقاضي ومنهم القائد المحنك الخبير بفنون الحرب والتاجر المتمرس بالتجارة والعالم بالفرائض والعالم بالحلال والحرام ، وورد في سيرة المصطفى القولية والفعلية ما يدل على تشجيعه وإقراره لكل منهم على المجال الذي برع فيه أو العلم الذي اختاره ، من ذلك ما رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : أرحم أمتي أبو بكر ، وأشدها في دين الله عمر وأصدقها حياء عثمان وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأقرؤها لكتاب الله أبي ، وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت ، ولكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح . [ أحمد : 3/184 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 908]
وروى البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة لحسان بن ثابت : اهج المشركين فإن جبريل معك . [ أحمد : 4/286 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 2519 ]
وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وما حدثكم ابن مسعود فاقبلوه . [ رواه أبو يعلى في مسنده ، نقلا عن الألباني في الصحيحة برقم 1154 ] والآثار في ذلك كثيرة .
إن الحرية العلمية في التربية الإسلامية تفتح الباب على مصراعيه لتتنوع الخبرات وتتعدد التخصصات ، ورغم كثرتها وتنوعها ، إلا أنها كلها تصب في منبع واحد هو تحقيق الاكتفاء الذاتي للمجتمع وذلك بتكاتف أفراده وتعاونهم .
وتسعى التربية الإسلامية لهذا الهدف بتوظيف الطاقات ، فالجميع يعمل ويبني ويساهم كل من موقعه وكل حسب طاقته وكل حسب ميوله العلمية ورغباته الفكرية أو قدراته المهنية ، ومن المفترض ألا يوجد بين المسلمين من لا ينفع في أي أمر من الأمور ، وما دام الفرد المسلم عاملا فهو يضع لبنة في البناء ، وهو بذلك له جهده ومساهمته التي لا يستغنى عنها ، وشعور المرء بحرية العلم يجعله لا ينتقص أي جهد يقدمه ولو كان يسيرا ، بل على العكس من ذلك فإن هذا يدفعه إلى أن يبدع في مجاله ويسد الثغرة التي هو عليها حتى لا يؤتي المجتمع المسلم من قبله وحتى لا يصبح هو نفسه عالة على غيره .(2/198)
قواعد أساسية :
لا ريب أن الاكتفاء الذاتي أمر مطلوب وهدف نبيل تسعى التربية الإسلامية لتحقيقه من خلال الحث على الانخراط في مختلف التخصصات والعلوم ، ولكن تصحيح النظرة والموازنة بين العلوم من حيث المنفعة والأفضلية والحاجة مما يستدعي التنبيه إليه ، فهناك قواعد أساسية ينبغي أن يعيها الفرد المسلم عند مناقشة موضوع حرية العلم ، وهي كما يلي :
1ـ العلوم من حيث فائدتها وضررها :
تنقسم العلوم من حيث فائدتها إلى نافع وضار ، والمسلم مطالب بالاستزادة من العلم النافع ، قال تعالى : { وقل رب زدني علما } [ طه : 114 ] ، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم تعوذ من العلم الذي لا ينفع ، ففي الصحيح عن زيد بن أرقم أن النبي عليه السلام قال : ... ، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها ، [ مسلم : 4 / 2088 ].
ومن أمثلة العلوم النافعة علم التفسير والفقه والحديث وعلوم التجارة والزراعة والصناعة والطب والهندسة ، ومن العلوم الضارة السحر والتنجيم والكهانة وغيرها ، ويضع الباحث أسسا وركائز للعلوم النافعة للفرد المسلم :
أ ـ موافقته للكتاب والسنة وعدم معارضته للشرع في أي جزئية من جزئياته .
ب ـ العمل به فيما يعود بالخير على الفرد والمجتمع .
ج ـ تأدية زكاته بنشره وتعليمه من لا يعلمه أو يحتاجه .
د ـ الإخلاص في أدائه وتقديم النية الحسنة بين يديه فإنما الأعمال بالنيات وكذلك العلوم .
إن أي علم لا ينتفع منه في أمر دنيا أو آخرة ينقلب وبالا على صاحبه وقد يكون الأولى به أن يدعه ولا يضيع أوقاته فيه ، قال عليه السلام : إن علما لا ينتفع ككنز لا ينفق منه في سبيل الله . [ رواه ابن عساكر ، نقلا عن الألباني في صحيح الجامع برقم 2108 ] .
2 ـ أفضل العلوم :
دلت نصوص الكتاب والسنة على أن خير العلوم هو الذي يدلك على معرفة الله وخشيته وتقواه والإنابة إليه ، أي علم الآخرة .
قال تعالى : { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد } [ سبأ : 6 ].
وقال تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] أي العالمين بالله عز وجل الذين قدروا الله حق قدره .
وقال تعالى : { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب }. [ الزمر : 9 ] . فمن يتعلم ويعلم العلم الذي يقرب من الله والدار الآخرة لا يستوي هو ومن لا يعلم ذلك العلم ، قال صلى الله عليه وسلم : من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين .[ البخاري : 1 / 42 ] .
يقول ابن حجر ـ رحمه الله ـ : وفي ذلك بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس ولفضل التفقه في الدين على سائر العلوم .(1)
ولفضل العلم في الدين على سائر العلوم فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمه فقال : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل . [ ابن ماجة : 1 / 49 ].
وعن ابن عباس قال : ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : اللهم علمه الكتاب . [ البخاري : 1 /44 ]. وأورد ابن حجر في رواية أخرى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب . والمراد بالكتاب القرآن وبالحكمة السنة . (1)ومعلوم أنه لو كان علم خير من علم الكتاب والسنة لدعا النبي عليه السلام لابن عمه ـ رضي الله عنهما ـ ، فدل ذلك على أن علوم الآخرة أفضل وخير من علوم الدنيا .
ذكر الإمام الغزالي ـ رحمه الله ـ في كتابه إحياء علوم الدين مقارنة لطيفة بين علوم الآخرة متمثلة في علم الفقه وبين علوم الدنيا متمثلة في علم الطب فقال : اعلم أن التسوية بينهما غير لازمة بل بينهما فرق ، وأن الفقه أشرف منه من ثلاث وجوه :
أحدهما : أنه علم شرعي إذ هو مستفاد من النبوة بخلاف الطب فإنه ليس من علم الشرع
الثاني : أنه لا يستغني عنه أحد من سالكي طريق الآخرة البتة لا الصحيح ولا المريض ، وأما الطب فلا يحتاج إليه إلا المرضى وهم الأقلون .
الثالث : أن علم الفقه مجاور لعلم طريق الآخرة لأنه نظر في أعمال الجوارح ومنشؤها صفات القلوب . (2)
إن تقرير حقيقة أفضلية علم الآخرة على بقية العلوم لا يلغي أهمية العلوم الأخرى وحاجة المسلمين كافة إليها ، ولكن ذلك يعني أن على كل مسلم مكلف ـ أيا كان علمه ـ ألا يحرم نفسه من الاستزادة من هذا الخير فإن من فاته هذا العلم النافع وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي صلى الله عليه وسلم وصار علمه وبالا عليه وحجة عليه ولم ينتفع به لأنه لم يخشع قلبه لربه ولم يشبع نفسه من الدنيا بل ازداد عليها حرصا ولها طلبا ولم يسمع دعاؤه لعدم امتثاله لأوامر ربه وعدم اجتنابه لما يسخطه ويكرهه (1).
وليست الأفضلية مقتصرة على علوم الدنيا ، بل إن العلم بالله أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات من صلاة وصيام وتسبيح ودعاء وذلك لأسباب عدة يذكرها ابن جماعة (2) كما يلي :
أ ـ أن العلم يعم نفعه لصاحبه وللناس ، والنوافل البدنية مقصورة على صاحبها ،
ب ـ أن العلم مصحح لغيره من العبادات ومفتقرة إليه ولا يتوقف هو عليها .
ج ـ أن العلم يبقى أثره بعد موت صاحبه بينما تنقطع النوافل بموت صاحبها .
د ـ في بقاء العلم إحياء الشريعة وحفظ معالم الملة .
هـ ـأن طاعة العالم واجبة على غيره فيه .
3 ـ الحاجة إلى العلم الشرعي :(2/199)
لقد ذم الله قوما انصرفوا بالكلية عن العلم الأخروي إلى علوم هذه الدنيا الفانية ، اهتم الفرد منهم بصلاح دنياه وأمر معاشه وزيادة أمواله متجاهلا دينه الذي هو عصمة أمره وبه فلاحه ونجاحه . قال تعالى : { وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون * أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون } [ الروم : 6-8 ]
وقال الحسن في وصف هؤلاء : يعلمون متى زرعهم ومتى حصادهم ، ولقد بلغ والله من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقر الدرهم بظفره فيخبرك بوزنه ولا يحسن يصلي (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم في أمثال هؤلاء : إن الله يبغض كل جعظري جواظ صخاب في الأسواق ، جيفة بالليل حمار بالنهار ، عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة . [ رواه البيهقي في السنن نقلا عن الألباني في صحيح الجامع برقم 1874 ]
ما أشد انطباق الوصف في هذا الحديث على حال كثير من شباب المسلمين وشيبهم ، رجالا ونساء في العصر الحاضر ، فربما يتقن المهندس عمله ويبدع الصانع في مصنعه ويربح التاجر في سوقه أو يخلص الأستاذ في تدريسه واستيعاب مادته ، وكل واحد من أصحاب المهن والوظائف يقضي الساعات الطوال ليقوم بتبعات تلك المهنة أو الوظيفة وما يتعلق بها ومع ذلك لا تجده يفرغ ساعة من وقته في الأسبوع أو في الشهر لتعلم أمور دينه إما في بيته مع أهله وأولاده وإما في المسجد القريب من سكنه مع جيرانه أو بأي طريقة من الطرق ، ويرى الباحث أن هذا الإعراض مما ابتلي به المسلمون حتى المثقفين منهم ، وقد عد العلماء من نواقض الإسلام التي تخرج صاحبها من الإسلام ، الإعراض عن دين الله تعلما وعملا (2).
إذا فالأمر جد خطير وعلى الفرد المسلم أن يكون له من العلم الشرعي نصيبب ، وينبغي على كل مكلف تعلم أصول الدين وما هو معلوم من الدين بالضرورة من أمور العقائد والعبادات والمعاملات والمداومة على ذلك من المهد إلى اللحد وخاصة فيما تمس إليه حاجة الفرد نفسه ، فالتاجر يتفقه شرعيا في أنواع البيوع والقاضي يتعلم أحكام القضاء والحكم وقل مثل ذلك للسياسي والمعلم والطبيب والمهندس وهلم جرا ، وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عما يجب على المكلف اعتقاده وما الذي يجب عليه علمه فقال : أما الإجمال فيجب على المكلف أن يؤمن بالله ورسوله ويقر بجميع ما جاء به الرسول من أمر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما أمر به الرسول ونهى بحيث يقر بجميع ما أخبر به وما أمر به فلابد من تصديقه فيما أخبر والانقياد له فيما أمر ، ... ، وأما الذي يجب عليه علمه فهذا يتنوع فإنه يجب على كل مكلف أن يعلم ما أمر الله فيعلم ما أمر بالإيمان به وما أمر بعلمه بحيث لو كان له ما تجب فيه الزكاة لوجب عليه تعلم علم الزكاة ، ولو كان له ما يحج به لوجب عليه تعلم الحج وكذا أمثال ذلك ، ويجب على عموم الأمة علم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث لا يضيع من العلم الذي بلغه النبي صلى الله عليه وسلم أمته شيء وهو ما دل عليه الكتاب والسنة لكن القدر الزائد على ما يحتاج إليه المعين على الكفاية إذا قامت به طائفة سقط من الباقين .
وأما العلم المرغب فيه جملة فهو العلم الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أمته لكي يرغب كل شخص في العلم الذي هو إليه أحوج وهو له أنفع وهذا يتنوع ، فرغبة عموم الناس في معرفة الواجبات والمستحبات من الأعمال والوعد والوعيد أنفع لهم ، وكل شخص منهم يرغب في كل ما يحتاج إليه من ذلك ، ومن وقعت في قلبه شبهة فقد تكون رغبته في ما ينافيها أنفع من غير ذلك (1)
وبناء على ما قرره شيخ الإسلام فلا يحق لأي فرد أن يتهاون في طلب العلم الشرعي والحرص عليه وخاصة في مثل هذه الأيام التي بعد الناس فيها عن العلماء ومجالسهم وانشغلوا بملذات الحياة وشهواتها ، كما أن مناهج ومقررات التربية والتعليم ليست كافية ومؤدية للدور المطلوب منها في ظل مستجدات الحياة
والباحث لا ينكر الدور الذي تؤديه بعض المؤسسات التعليمية ولكن الحق أنه ما يزال يعتريها النقص والقصور ، وليس أدل على ذلك من أن كثيرا من مسائل الصلاة التي يؤديها كل مسلم خمس مرات على الأقل كل يوم تغيب عن أذهان خريجي المدارس والجامعات فضلا عن غير المتعلمين ، وتجد بعض أصحاب الشهادات العليا لا يعرف كيف يغتسل من الجنابة ولا يدري أن من اعتنق غير الإسلام دينا فهو من الخالدين المخلدين في نار جهنم ، وقل مثل ذلك عن الجهل بحقوق الجيران والأقارب وأمور البيع والشراء التي تهم كل مكلف ولا يعذر بالجهل فيه أحد إلا بعذر شرعي ، وقد يقول قائل أن هذه الأمور يعذر بالجهل بها فنرد عليه بأن العلماء قي القديم والحديث ناقشوا هذه المسالة وأوسعوها بحثا ، ولأن المجال ليس مناسبا لسردها فتراجع في مظانها ، ولكن لا بأس أن نشير إلى رسالة بعنوان : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، تقدم بها الشيخ صالح بن حميد لنيل درجة الدكتوراه من كلية الشريعة بجامعة أم القرى ، حيث استعرض فضيلته ما ذكره العلماء في حكم الجهل بما يعذر فيه وما لا يعذر فيه ، ثم استخلص الأمور التالية (1):
أ ـ الجهل بأصول الدين أي أمور التوحيد والعقائد لا يعتبر عذرا بأي حال كما لا يقبل الادعاء به
ب ـ الجهل بضروريات الدين من صلاة وزكاة وصيام وحج غير مقبول أبدا ، ويدخل في ذلك بعض الأركان والشروط والواجبات لبعض العبادات لأن المسلم المكلف مهما قلت درجته العلمية مطالب بالإتيان بها في أوقاتها وعلى صفتها الشرعية ، وكذلك المحرمات المشهورة لدى عامة المسلمين كقتل النفس والخمر والربا والزنا(2/200)
ج ـ يعذر بالجهل ويقبل ادعاؤه إذ نشأ المسلم في دار حرب ولم يعلم حكم ما أقدم عليه أو امتنع عنه
د ـ يعذر بالجهل إذا كان المسلم حديث عهد بالإسلام
ه ـ يقبل الجهل ويكون عذرا في حق العامة إذا كان واقعا في أحكام لا يعلمها إلا العلماء
لذا فينبغي على الفرد المسلم أن يتجنب هذه المزلة الدحضة التي وقع فيها كثير من الناس ، فيحرص على طلب العلم الشرعي والاستزادة منه أيا كان تخصصه وأيا كان مجاله ، وخاصة في الأمور التي يحتاجها الفرد سواء في مهنته أو في منزله ، وبذا يرتبط قلب المسلم بدينه ولا ينسى انتماءه وولاءه لهذا الدين
إن الاهتمام بحرية العلم في التربية الإسلامية وما يتعلق بها من قواعد سيكون له أثره الفعال في تربية النفس وتنميتها لتكون قوة فعالة ولبنة راسخة لبناء مجتمع إسلامي معتز بدينه مفتخر بعقيدته له دوره في تغيير مجريات الأحداث في العالم المعاصر .
المبحث الثاني
المسئولية والجزاء
أولا : المسئولية
يقصد الباحث بالمسئولية : المسئولية الشخصية أي فردية التبعة أو تحمل الجزاء الحاصل نتيجة العمل الذي قام به الفرد أو كلف به ، أي إنها تعني ترتب الجزاء من الله تعالى على ما يأتي به المكلف من أعمال أو أقوال أو نيات باختياره سواء ألزم بها شرعا أو التزم بها بمقتضى الشرع ، ولها أركان ثلاثة هي :
الأول : السائل وهو الله عز وجل المالك القادر على الجزاء
الثاني : المسئول وهو البالغ العاقل المبلغ على لسان الرسل
الثالث : المسئول عنه وهي التعاليم المبلغة وهي شريعة الله التي ارتضى لعباده (1) .
وتؤكد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على المسئولية الشخصية للأفراد ، يقول تعالى : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما * ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما } [ النساء : 110 ، 111 ] فالآية الأولى تبين المسئولية الشخصية لما يفعله المرء في حق نفسه ، والآية الثانية تقرر الجزاء الفردي الذي يناله من قام بالعمل ولا يسأل عنه غيره ، كما قال تعالى : { قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون } { سبأ : 25 ] .
وتتضمن المسئولية أيضا ما يفعله الإنسان من الخير والهدى أو الشر والضلال ، قال تعالى : { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } [ الإسراء : 15 ] يقول سيد قطب – رحمه الله – فهي التبعة الفردية التي تربط كل إنسان بنفسه إن اهتدى فلها وإن ضل فعليها ، وما من نفس تحمل وزر أخرى ، وما من أحد يخفف حمل أخيه ، إنما يسأل كل عن عمله ويجزى كل بعمله ولا يسأل حميم حميما (2)
ويعرض لنا القرآن الكريم صورا شتى لتقرير هذا المبدأ فيذكر لنا موقف امرأة نوح وكذلك امرأة لوط اللتين لم توافقا زوجيهما النبيين على الإيمان ولا صدقاهما على الرسالة فلم يجد ذلك كله شيئا ولا دفع عنهما محذورا أو رد عذابا في النار ، وفي المقابل تبرز لنا صورة امرأة فرعون المؤمنة التي ما ضرها كفر زوجها حين أطاعت ربها وآمنت به
قال تعالى : { ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين ، وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين }[ التحريم : 10 ـ11]
ومن خلال هذه الحقيقة يقرر المرء الحياة التي يريد أن يحياها والطريق الذي سيختاره لنفسه والمصير الذي سيؤول إليه كل فرد يضع نفسه حيث يريد هو ، يكرمها أو يهينها ، يرفعها أو يضعها ، قال تعالى { لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ، كل نفس بما كسبت رهينة }[ المدثر : 37 ، 38 ]
والخطاب واضح والبيان ناصع في الحث على تربية الذات والسمو بالشخصية إلى المراتب العليا وذلك بالاستعداد لهذه المسئولية التي سيواجهها كل فرد حيث تبدأ مسئولية كل فرد في هذه الحياة منذ بلوغه سن التكليف وتنتهي بمفارقته لها ، ولكل مسئوليته الخاصة به .
عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالإمام الأعظم الذي على الناس راع ومسئول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته ، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وهي مسئولة عنهم ، وعبد الرجل راع على كل مال سيده وهو مسئول عنه ، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته [ البخاري : 4 /328 ]
كل فرد في المجتمع الإسلامي له رعية يرعاها ، وبغض النظر عن موقعه فيه في القمة أو في القاع ، وسواء كان رجلا أو امرأة ، حرا أو عبدا ، مهما اختلفت الظروف والأحوال فإنه مسئول عن رعيته ، يوضح هذا المعنى محمد بن عبد الله دراز فيقول (1):
والحق أن هذه الظروف لا تتخلف أبدا فلكل منا بالضرورة بعض العلاقات وهو يشغل مكانا معينا ويمارس بعض الوظائف في جهاز المجتمع ، فالأب مسئول عن رفاهية أولاده ـ المادية والأخلاقية ـ والمربي مسئول عن الثقافة الأخلاقية والعقلية للشباب والعامل عن تنفيذ عمله وكماله ، والقاضي عن توزيع العدالة والشرطي عن الأمن العام والجندي عن حفظ الوطن ، كذلك نحن ـ فرادى ـ مسئولون عن طهارة قلوبنا واستقامة أفكارنا ، كما أننا مسئولون عن حماية صحتنا وحياتنا ، حتى أننا نستطيع أن نجد في كل لحظة من لحظات الحياة الإنسانية بعض المسئوليات وهي ليست افتراضية فحسب بل حاضرة وواقعية متى تحققت لها الشروط العامة ، ثم إن اختلاف المواقف لا يتدخل إلا من أجل تخصيص وتحديد موضوع هذه المسئولية(2/201)
وإنما يزيد هذه المسئولية خطورة وأهمية قوله صلى الله عليه وسلم : ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة [ مسلم : 1/125 ]وفي رواية : ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة [البخاري : 4 /331 ]
وفي رواية لمسلم : ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجتهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة [ أبو داود : 3 / 356 ]
وقال أيضا عليه السلام : من ولاه الله عز وجل شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره [ أبو داود :3 /356 ]
ألا فليتفكر في هذه النصوص كل المربين والعلماء والحكام وغيرهم من الرعاة فإن التبعة كبيرة والحساب عسير . صحيح أن الجزاء يوم القيامة ولكن لا يغيب عن البال أن المسئولية تبدأ من الحياة الدنيا دار العمل والكسب ، فهل أدى كل فرد ما يترتب عليه من واجبات تجاه الأمانة التي كلف بها ، إن إجابة أي فرد لنفسه عن هذا السؤال تتطلب التجرد والنزاهة ، فلا داعي لجلب الأعذار وتبرير الأخطاء أو انتحال المغالطات النفسية والحيل اللاشعورية ، فاليوم دار عمل ولا حساب وغدا دار حساب ولا عمل
إن شعور الفرد بهذه المسئولية يدفعه للعمل بدون توان ولا ملل ويراعى في هذه المسئولية هل حفظ الأمانة كما ينبغي أم ضيع وفرط ، وإن أولى الناس بالمحاسبة والمراقبة نفسه التي بين جنبيه فيراجعها الفينة بعد الأخرى ويسائلها قبل أن تسأل
كما أن مسئولية الفرد عمن يعول يشعره بالتبعة الشاقة فيتعاهدها بالرعاية والعناية ويراقب الله في هذه الأمانة عملا بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد }[ التحريم :6 ]
ثانيا : الجزاء
وبنهاية هذه الحياة الدنيا تأتي فترة البرزخ وهي الفترة التي يقضيها الإنسان بعد مماته في القبر وقبل يوم الحشر ، قال تعالى : { كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } [ آل عمران : 185 ]
وقال أيضا : { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة } [ النساء : 78 ]
يعتقد المسلم اعتقادا جازما أن الموت باب وكل الناس داخله ، والبرزخ دار كل الناس سيزورها وسيقضي فيها فترة الله أعلم بها ، ثم يكون المحشر للسؤال عن الأعمال وللفصل بين العباد . وفي البرزخ يحيا الفرد حياة الله أعلم بها ، لا أب ولا أم ولا أصحاب ولا أتباع ولا خدم ولا حشم ، تكون مساءلة ويكون حساب .
قال تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء } [ إبراهيم : 27 ] .
روى أبو جعفر النحاس – رحمه الله – في معنى هذه الآية فقال : قال البراء بن عازب وأبو هريرة : هذا عند المساءلة إذا صار في القبر (1)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال : استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل . [ أبو داود : 3/550 ]
وعن البراء – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة . [ البخاري : 3/247 ] .
كما روى أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم ، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله تعالى به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا . وأما المنافق والكافر فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال له : لا دريت ولا تليت ، ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين . [ البخاري : 1/422 ] .
إن المسئولية في البرزخ أمر لازم ولا مفر منها لأحد ، ومحصلة هذه المسئولية إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار . يقول القرطبي (1) : الإيمان بعذاب القبر وفتنته واجب ، والتصديق به لازم حسب ما أخبر به الصادق ، وأن الله تعالى يحيي العبد المكلف في قبره برد الحياة إليه ويجعله من العقل في مثل الوصف الذي عاش عليه ليعقل ما يسأل عنه ما يجيب به ويفهم ما أتاه من ربه وما أعد له في قبره من كرامة أو هوان . وبهذا نطقت الأخبار عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم وعلى آله آناء الليل وأطراف النهار ، وهذا مذهب أهل السنة والذي عليه الجماعة من أهل الملة .
وينبغي الإكثار من ذكر هاذم اللذات ومفرق الجماعات لقول النبي صلى الله عليه وسلم : أكثروا من ذكر هادم اللذات . [ الترمذي : 4/479 ] .
إن من يتذكر ذلك البيت المظلم بيت الوحشة والدود لن تصرفه هذه الدنيا بملذاتها عن العمل والاستعداد للسؤال في ذلك المكان المقفر ، وسوف يراقب نفسه في كل حين ، ورحم الله عمر بن عبد العزيز الذي كان يتمثل بأبيات لابن عبد الأعلى حيث ينشد قائلا (2) :
من كان حين تصيب الشمس جبهته
ويألف الظل كي تبقى بشاشته
في قعر مظلمة غبراء مقفرة
تجهزي بجهاز تبلغين به يا نفس
وسابقي بغتة الآجال وانكمشي
لا تكدي لمن يبقى وتفتقري
أو الغبار يخاف الشين والشعثا
فسوف يسكن يوما راغما جدثا
يطيل تحت الثرى في قعرها اللبثا
قبل الردى لم تخلقي عبثا
قبل اللزوم فلا منجا ولا غوثا
إن الردى وارث الباقى وما ورثا(2/202)
كما أن تذكر هذا المصير المحتوم يولد القشعريرة في القلب ويملؤه بالخشية والإنابة وبالتفكر الصادق تسقط العبرات من المدامع ويحس الإنسان بالتفريط ويعترف بالتقصير فيندم على ما مضى وينيب إلى ربه ويسارع إلى تدارك ذاته فيربيها ويقومها على الجادة قبل أن يعض أصابع الندم ولات حين مندم . ومن وضع في مخيلته ظلمة القبر ووحشته سيتذكرها تلقائيا كلما وجد نفسه في غرفة مظلمة أو صحراء موحشة أو ما أشبه ذلك ، وذلك مما يحثه على التجهز والاستعداد قبل فوات الأوان .
وحين ينفخ في الصور ويبعث من في القبور يحشر كل إنسان إلى ربه حيث يلاقي جزاء ما قدم في حياته الدنيا .
قال تعالى : { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون } [ النحل : 111 ] . ويقول : { هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون } [ يونس : 30 ] .
ومعنى هذه الآية : أي في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما سلف من عملها من خير وشر (1)
عندما يحشر الناس يوم القيامة يكون كل فرد مسئولا عن نفسه ولن يهتم أو يلتفت إلى أقرب أقربائه وذلك لأن الموقف عصيب والحساب شديد ، وفي ذلك الموقف تنشر الصحف ويطلع كل امرئ على صحيفته فيرى ما قدم من أعمال ويعرض على الرب عز وجل بدون واسطة أو شفيع .
قال تعالى : { وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } [ مريم : 95 ]
وعن عدي بن حاتم – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان ثم ينظر فلا يرى شيئا قدامه ، ثم ينظر بين يديه فتستقبله النار ، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة . [ البخاري : 4/198 ] .
إن الإنسان قد يشعر بالرهبة إذا التقى بعظيم من عظماء الدنيا أو بملك من ملوكها ، فكيف اللقيا برب الأرباب وملك الملوك عظيم السماوات والأرض ، وكيف السؤال وكيف الجواب . فتوهم نفسك يا عبد الله بعد تطاير الكتب ونصب الموازين للحساب وقد نوديت للمساءلة والحساب .
يقول الشاعر :
مثل وقوفك يوم العرض عريانا
والنار تلهب من غيض ومن حنق
اقرأ كتابك يا عبدي على مهل
لما قرأت ولم تنكر قراءته
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي
المشركون غدا في النار يلتهبوا
مستوحشا قلق الأحشاء حيرانا
على العصاة ورب العرش غضبانا
فهل ترى فيه حرفا غير ما كانا
إقرار من عرف الأشياء عرفانا
وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا
والمؤمنون بدار الخلد سكانا
وفي يوم القيامة أيضا تعدد الأهوال ، ومن ذلك الأسئلة الخمسة التي يسأل عنها كل فرد وهي كما يلي :
السؤال الأول : كيف قضى عمره المحدود في الحياة الدنيا وهل كان مؤمنا موحدا أو كان فاسقا عاصيا أم كان كافرا .
السؤال الثاني : كيف مرت فترة الشباب التي عاشها ؟ هل كانت في طاعة الله ومرضاته أم في معصية وفسوق وفجور ؟
السؤال الثالث : من أين اكتسب المال الذي كان يقتات به في الدنيا ؟ هل مصادر كسبه من حلال ومباح أم من غش وخداع أم من استحلال المحرمات كالربا والخمر والملهيات بأنواعها ؟
السؤال الرابع : ما هي طرق إنفاق ذلك المال ؟ هل أدى حق الله فيها وكان نعم المال الصالح للرجل الصالح ؟ أم أنفقت فيما لا يرضي الله عز وجل ولا يعود بالنفع ؟
السؤال الخامس : ماذا كانت نتيجة العلم الذي تحصل عليه ؟ هل كان علما نافعا وعمل به وأدى زكاته ؟ أم أعرض عنه وجعله مطية للحياة الفانية فقط وكان ممن آمن ببعضه وكفر بالبعض الآخر ؟
ومصداق هذه الأسئلة الخمسة من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيم أفناه ، وعن شبابه فيم أبلاه ، وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وماذا عمل فيما علم . [ الترمذي : 4/529 . وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم 7176 ]
ومن الأهوال التي لا ينجو منها أحد من المؤمنين أبدا المرور على الصراط . قال تعالى : { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } [ مريم : 71-72 ] .
وقد ثبت من الأحاديث الصحيحة أن الناس يمرون عليه وتكون سهولة ذلك بقدر أعمالهم في الدنيا ، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب ، ومنهم من يمر كالريح ، ومنهم من يمر كالطرف ، ومنهم من يمر كشد الرحل يرمل رملا . فيمرون على قدر أعمالهم حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه تخر يد وتعلق يد وتخر رجل وتعلق رجل وتصيب جوانبه النار . (1)
ومن رحمة الله عز وجل أن الناس يتفاوتون في الحساب فمنهم من يحاسب حسابا يسيرا ومنهم من يحاسب حسابا عسيرا كل حسب عمله في الدنيا .
فقد حدثت عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك . فقلت : يا رسول الله أليس قد قال الله { فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا } ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما ذلك العرض ، وليس أحد يناقش الحساب إلا عذب . [ البخاري : 4/198 ]
والمراد بالمناقشة الاستقصاء في المحاسبة والمطالبة بالحقير قبل الجليل وترك المسامحة والعفو .
وقال رجل لابن عمر : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى ؟ قال : سمعته يقول : يدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول : هل تعرف ؟ فيقول : رب أعرف . فيقول : إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم . قال : فيعطى صحيفة حسناته . وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق : هؤلاء الذين كذبوا على الله . [ مسلم : 4/2120 ](2/203)
وإذا تقرر ما ذكر عن الجزاء والحساب يوم القيامة يتضح جليا أن الجزاء من جنس العمل وهذا هو غاية العدل من رب العباد ، قال تعالى : { قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ } [ الأنعام : 104 ] .
وقال : { من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد } [ فصلت : 46 ] وقال : { فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى } [ النازعات : 37-41 ] وقال : { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه * وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة } [ عبس : 37-43 ] .
إن الفرد الذي ينتظر جزاء ما قدمت يداه من خير ويخشى سوء ما اقترفت من شر لن يكون في تصرفاته وسلوكه مثل من لا يعتقد ذلك ، ولذا تراه يراقب الله في كل حين ويسوق نفسه سوقا لنيل مرضاة الله وفكاكها من عقابه .
أخيرا لا يعد من المبالغة إذا اعتبر الباحث مبدأ المسئولية أهم مبادئ التربية الذاتية التي تتحكم في تصرفات الإنسان المسلم . كيف لا وهي تبدأ معه في هذه الحياة ثم تلازمه في قبره وينتهي به المطاف معها يوم يقوم الناس لرب العالمين حيث يلاقي العبد نتيجة تحمله إياها . وهي فرصة واحدة فقط لا يعطى عبد غيرها ولا يعوض عنها . فإن أحسن العمل فهنيئا له بجنة عرضها كعرض السماء والأرض وإن أساء استخدام تلك المسئولية فمصيره إلى بارئه يجازيه بما يستحق أو يفعل سبحانه ما يشاء . والأمر لله من قبل ومن بعد .
المبحث الثالث
الاهتمام بالغير
مقدمة
تتعلق التربية الذاتية كما ذكرنا سابقا بأن يهتم الفرد بنفسه لتربيتها وتزكيتها ، ويتم ذلك بجهوده الذاتية دون انتظار المعونة أو التوجيه من أحد ، وقد يفهم من هذا ألا يلتفت المرء إلى غيره بحجة ألا يشغله ذلك عن تربية نفسه ، ولكن الحقيقة أن الاهتمام بالآخرين عنصر أساسي من عناصر التربية الذاتية .
ويقصد الباحث بمبدأ الاهتمام بالغير أي الاجتماع بالناس ومخالطتهم ونفعهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ونشر الخير بينهم .
إن الفرد الذي يعيش لنفسه ولا يهتم بغيره يعيش صغيرا ويموت صغيرا ويندم كثيرا ، ولا يستطيع الفرد السوي إلا أن يكون مختلطا بمن حوله ، فإن من أخص خصائص الإنسان أن ينتمي إلى وسط ما يشعر بمشاعره ويحس بأحاسيسه ، ويتحول هذا الوسط في التربية الإسلامية إلى ما يسمى بالأخوة الإسلامية التي تقوم على الحب في الله ، وهذه الأخوة لا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع ومن حيز الادعاء إلى حيز التطبيق إلا من خلال المساعدة والمساندة والاهتمام والسعي وقضاء الحوائج للآخرين . ويكفي من يقوم بذلك رضا وسرورا علمه أن من ينفع غيره من العباد فهو محبوب عند الله عز وجل مما يشعره بالقرب منه والاتصال به .
قال صلى الله عليه وسلم : أحب العباد إلى الله أنفعهم لعياله [ حسنه الألباني في صحيح الجامع برقم 170 ] . فالخلق كلهم عالة على الله وفي حاجة إليه ، وخير هؤلاء من يقدم النفع لهم .
والتعامل مع النفوس البشرية المختلفة يقتضي سعة الصدر وسماحة الطبع واليسر والتيسير في غير تهاون ولا تفريط في دين الله ، وكل هذا مما يعود أثره على ذات المسلم فتزداد صقلا وتزداد تربية وتزكية (1)
وخدمة الآخرين يكسب الفرد صفات أخلاقية عدة منها : الصبر والتضحية والبذل والتعاون وغير ذلك من الأخلاق الإسلامية الحميدة التي تشع نورا وبهاء من النفس المتحلية بها .
وعندما يأمر الفرد بالمعروف وينهى عن المنكر يزداد ثباتا على المبادئ التي يعتنقها ويكون أول الفاعلين لها والمتمسكين بها ، فهذه العبادة هي أولا إصلاح للذات قبل أن تكون إصلاحا للغير ، وحري بكل مسلم أن يحرص عليها ليربي ذاته ويزكي نفسه .
وسيقتصر هذا المبحث على تقرير الاهتمام بالغير كمبدأ من مبادئ التربية الذاتية في التربية الإسلامية من خلال ثلاثة عناصر هي :
1ـ تنفيذ التكليف الرباني .
2ـ النجاة من العذاب .
3ـ التشوق للأجر العظيم .
أولا : تنفيذ التكليف الرباني
يستطيع المتدبر لكتاب الله أن يدرك معنى التكليف الرباني لكل فرد بالاهتمام بالآخرين في مواضع كثيرة من كتاب الله وخاصة في الآيات التي تخاطب جماعة المؤمنين .
نلاحظ أولا أن جميع أنبياء الله قد أرسلوا للاهتمام بأقوامهم وانتشالهم من عبودية الأرباب إلى عبودية رب الأرباب . قال تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز } [ الحديد : 25 ] . وقال تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } [ النحل : 43 ] .
وقال تعالى مخاطبا رسوله الكريم : { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء : 214 ] وجاء الخطاب في ذلك صريحا لنبينا محمد عليه السلام قائلا : { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } [ الكهف : 28-30 ] . وهذا مثل قوله تعالى : { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون * ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين } [ الأنعام : 51 ، 52 ] .(2/204)
قال الزجاج – رحمه الله - (1) : إنما ذكر الذين يخافون الحشر دون غيرهم وإن كان منذرا لجميع الخلق لأن الحجة على الخائفين الحشر أظهر لاعترافهم بالمعاد فهم أحد رجلين : إما مسلم فينذر ليؤدي حق الله عليه في إسلامه وإما كتابي فأهل الكتاب مجمعون على البعث .
وفي آية سورة الأنعام روى سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – قال : نزلت هذه الآية في ستة : في وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال . قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهؤلاء فاطردهم عنك ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما شاء الله أن يدخل فنزلت هذه الآية . [ ابن ماجة : 2/1383 ].
فهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خير الرسل أجمعين قد كلفه ربه بتصبير نفسه مع تلك الثلة من ضعفاء المؤمنين وفقرائهم ، وهذا يعني الاهتمام بشئونهم وقضاياهم وما يواجهونه من مصاعب ومشكلات ., وكانت الجارية تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذهب به حيث شاءت ، والأمثلة من السيرة في هذا الباب كثيرة جدا .
وآيات القرآن الكريم وأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام تبين أن التكليف الرباني ليس خاصا بنبينا صلى الله عليه وسلم بل إن الأمة جمعاء مكلفة بإعداد أفراد يتصدون لهذه المهمة ، هذا مع وجوب أن يقوم كل فرد بدوره حسب استطاعته وقدرته .
قال تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } [ آل عمران : 104 ]
يقول العلامة عبد الرحمن بن سعدي غفر الله لنا وله (2) فكل من دعا الناس إلى خير على وجه العموم أو وجه الخصوص أو قام بنصيحة عامة أو خاصة فإنه داخل في هذه الآية الكريمة .
ويوافق الباحث العلامة ابن سعدي فيما ذهب إليه ، وهذا يعني أيضا أن يدخل في هذه الآية الكريمة كل الآباء والأمهات والمعلمون والمرشدون والعلماء والأمراء وغيرهم ، أي جميع أفراد المجتمع كل حسب قدرته .
قال ابن كثير – رحمه الله - (1) : والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه .
ويدل على ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع بقلبه وذلك أضعف الإيمان . [ مسلم : 1/69 ] . وفي رواية : وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل . [ مسلم : 1/70 ] .
وبالتمعن في مفهوم الآية والحديث يتبين لنا أمران هما :
1ـ أن المفلح هو من يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أي يهتم بشئون غيره وليس مقتصرا على نفسه فقط .
2ـ أن هناك علاقة مطردة بين زيادة الإيمان وتنميته وبين الشعور بواجب إصلاح الخطأ ليعم الصواب ويندثر المنكر . وبعبارة أخرى : فكلما ربى الإنسان نفسه كلما أداه ذلك إلى الاهتمام بغيره .
وبما أن كل مسلم مكلف من قبل خالقه بأن يكون من المفلحين ، وبالجمع بين الآية والحديث يستنتج الباحث أن الاهتمام بالغير واجب شرعي في عنق كل مسلم بالإضافة إلى أنه مبدأ رئيس في التربية الذاتية . ومما يدعم هذا القول ويسنده قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } [ التحريم : 6 ] . وقوله صلى الله عليه وسلم : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته [ سبق تخريجه ] . وبما أن كل فرد مخاطب بهذا التكليف فإن الواجب عليه الانصياع له وتنفيذ هذه الطاعة الربانية التي تقربه من الله ومرضاته .
ثانيا : النجاة من العذاب
مر معنا في الفصل الأول أن مصير الإنسان إما جنة أو نار ، والفرد المسلم يرجو رحمة ربه والفوز بجنته ويخشى عذابه والتلظي بناره . قال تعالى : { كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } [ آل عمران : 185 ] . فالفوز الحقيقي هو أن ينجو العبد من عذاب الله ويدخل الجنة ، والاهتمام بالغير سبيل من السبل المؤدية إلى هذا الفوز ، بينما التفريط في هذا الجانب يؤدي بالفرد والمجتمع إلى الهلاك والدمار . قال تعالى : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب } [ الأنفال : 25 ] . قال ابن عباس في تفسير هذه الآية : أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين ظهرانيهم فيعمهم الله بالعذاب . (1)
وحذر سبحانه من فعل أقوام سابقة تهاونوا في هذا الأمر فأنزل عليهم سخطه وعقابه . قال تعالى { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } [ المائدة : 78 ، 79 ]
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال : { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم } إلى قوله { فاسقون } ثم قال : كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصر . وزاد في رواية : أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم . [ أبو داود : 4/508 ](2/205)
وعن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم . { الترمذي : 4/406 ] .
وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله يسأل العبد يوم القيامة حتى ليقول : فما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره ، فإذا لقن الله عبدا حجته قال : أي رب وثقت بك وفرقت من الناس . [ ابن ماجة : 2/1322 . وجود الألباني إسناده في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 929 ] وإذا قام كل فرد بواجبه في إصلاح نفسه وفعل الخير والدعوة إليه فإنه لا يضره فساد من فسد وضياع من ضاع وإن كان أقرب الأقربين .
قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون } [ المائدة : 105 ] وليس في هذه الآية دعوة إلى ترك الاهتمام بالغير وإنما هي إخبار عن حال الإنسان إذا فسد المجتمع من حوله وذلك بأن يثبت على فعل ما أمره الله به وترك ما نهى عنه مع القيام بواجبه في الإصلاح قدر الطاقة . كان هذا هو الفهم الذي أوتيه صديق هذه الأمة حين قام فحمد الله ثم أثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وإنكم تضعونها في غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعقابه . [ ابن ماجة : 2/1326 ] .
ثم إن في القيام بواجب الاهتمام بالغير والنصح لهم إعذارا إلى الله سبحانه وتعالى الذي سيسأل كل امرئ عما عمل فيما علم وهل أدى ما عليه من النصح والاهتمام أم أنه فرط في ذلك .
قال تعالى : { وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون * فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون * فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين } [ الأعراف : 164 : 166 ] . فبين الله تعالى نجاة الذين بذلوا النصح وسكت عن الذين تراخوا عن هذا الواجب لأن الجزاء من جنس العمل .
ثالثا : التشوق للأجر العظيم
ما من شك في أن الطريق الذي سلكه الأنبياء والرسل يوصل إلى مرضاة الله وجنته فأولئك الذين هدى الله وبهداهم يقتدي كل السائرين إلى مرضاة الله رب العالمين . وقد كان مما هداهم إليه أن هداهم إلى مهمة عظيمة وهي دعوة الخلق لتوحيد المنهج والغاية ، أي الإيمان بالله وحده لا شريك له والكفر بالطواغيت بأنواعها . قال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ النحل : 36 ] وإنه لشرف جد عظيم أن يشترك فرد من الأمة مع أنبياء الله ورسله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . قال تعالى : { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال : إنني من المسلمين } [ فصلت : 33 ] . فليس هناك أحد أفضل ممن أصلح نفسه واهتم بغيره لنشر الهدى والخير والصلاح ، وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : من دل على خير فله مثل أجر فاعله . [ مسلم : 3/1506 ] وقال صلى الله عليه وسلم : المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم . [ ابن ماجة : 2/1338 ] وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من دل إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئا . [ مسلم : 4/2061 ] .
وهناك الكثير من الأحاديث التي ترتب الجزاء العظيم من الله وذلك لمن يحسن إلى غيره أو يسدي إليه معروفا . كما أن فيها بيانا لأبواب الخير وطرق خدمة الآخرين . ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس ، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم أو يكشف عنه كربة أو يقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد – يعني مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم – شهرا . ومن كف غضبه ستر الله عورته ، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة ، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام ، وإن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل . [ رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج ، والطبراني في الكبير نقلا عن الألباني في صحيح الجامع برقم 147 ، وسلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 906 ] .
وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه . من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة . [ البخاري : 2/190 ] .(2/206)
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه . [ نقلا عن الألباني في صحيح الجامع برقم 6453 ] .
إن الاهتمام بالآخرين فرصة عظيمة لكل من أخذ بزمام تربية وتعليم ونصب نفسه مرشدا وموجها أن يحوز على هذا الأجر العظيم الذي من الله به على من يخدم غيره ويهتم به ويصبر على ما يلاقيه من جراء ذلك ابتغاء وجه الله . فأما إذا أخلص النية واستحضرها وابتغى بذلك وجه الله فإنه سينال أجور جميع من اقتدى به في الخير ويضاف ذلك إلى رصيد حسناته ، وأما إن لم يستحضر النية فسيفوته ذلك الأجر ، وأما إن كان تعليمه ضلالا وفسادا فستعود مغبة ذلك على نفسه وستمتلئ صحائفه بالذنوب والآثام .
روت أم سلمة – رضي الله عنها – عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : صنائع المعروف تقي مصارع السوء والصدقة خفيا تطفئ غضب الرب ، وصلة الرحم زيادة في العمر وكل معروف صدقة وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الاخرة وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة [ رواه الطبراني في الأوسط نقلا عن الألباني في صحيح الجامع برقم 3690 ] .
الفصل الثالث
أساليب التربية الذاتية من الكتاب والسنة
المبحث الأول : العبادات الإسلامية
أولا : الشعائر التعبدية
ثانيا : المحاسبة
ثالثا : تقوى الله
المبحث الثاني : المعاملات
أولا : التحلي بالأخلاق الإسلامية
ثانيا : اتخاذ القدوة
ثالثا : السؤال والحوار
رابعا : العزلة والمخالطة
المبحث الثالث : استغلال الوقت
أولا : العادة
ثانيا : ملء الفراغ
ثالثا : المحاولة والخطأ
مقدمة
ناقش البحث في الفصل السابق مبادئ التربية الذاتية ، ويناقش في هذا الفصل الأساليب التربوية لتحقيق تلك المبادئ . لنلق أولا نظرة في بعض معاجم اللغة لمعرفة ماذا يعنى بكلمة الأساليب .
جاء في مختار الصحاح : أن الأسلوب هو الفن . (1)
وقال ابن منظور : يقال للسطر من النخيل أسلوب وكل طريق ممتد فهو أسلوب . قال : والأسلوب الطريق والوجه والمذهب ، يقال : أنتم في أسلوب سوء ويجمع أساليب . والأسلوب الطريق تأخذ فيه . الأسلوب بالضم : الفن ، يقال : أخذ فلان في أساليب من القول أي أفانين منه . (2)
إن ذلك يعني أن البحث سيناقش في هذا الفصل بعض الطرق والوسائل والأفانين التي يتبعها الفرد لتربية ذاته وتزكية نفسه لكي يكون ذلك المسلم الفعال ، ذلك الشخص الذي اعتزم تحقيق القيم والمبادئ الإسلامية في نفسه ومن يعول والتي بدورها تحدد إسلاميته وذاتيته .
وكما أنه لا يتصور أن ينجح طالب في دراسته بدون جد واجتهاد فكذلك لا يمكن لفرد أن يربي ذاته بدون تحقيق أساليب التربية الذاتية ، وهذه سنة الله في الكون : بذل الأساليب لتحقيق المسببات . قال الشاعر :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تمشي على اليبس
أن يغير الفرد سلوكه وتصرفاته وأفكاره إلى الأفضل يعني سيره وفق السنن الكونية التي وضعها الله سبحانه وتعالى في الكون . قال تعالى : { قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } [ آل عمران : 137 ] .
لذا كان من الضروري معرفة السنن والقوانين لإصلاح الأفراد والمجتمعات لتحقيقها في الواقع ، يقول جودت سعيد : ومن أكبر الظلم الذي ينزله الإنسان بنفسه ألا يرى العلاقة التسخيرية الموجودة بين الإنسان والكون والمجتمع ـ الآفاق والأنفس : فيهمل نفسه ولا يضعها في المكان الذي يسخر الآفاق والأنفس على أساس السنن المودعة فيهما (1)والرابط المشترك لأساليب التربية الإسلامية عموما وأساليب التربية الذاتية خصوصا هو أنها تتعاون لتربية الإنسان الصالح في أي مكان وزمان ، ويتفاوت التطبيق الفردي حسب طبيعة كل إنسان وإمكانياته وميوله وتهيئه النفسي وقدرة إدراكه(2)
والأساليب التربوية لتحقيق التربية الذاتية متعددة ومتنوعة ، فبعضها لا يعتبر المرء بدونها داخلا في دائرة الإسلام ولكنها ذكرت للتأكيد عليها وبيان أثرها المباشر في تزكية المسلم ، وبعض هذه الأساليب يختلف أداؤها من شخص لآخر ، وما جمع في هذا الموضع إن هو إلا نتاج اجتهاد شخصي من الباحث فإن أصاب فمن الله وإن أخطأ فمن نفسه ومن الشيطان ، وفيما يلي تصنيف الأساليب المقترحة :
المبحث الأول : العبادات الإسلامية
أولا : الشعائر التعبدية .
ثانيا : المحاسبة .
ثالثا : تقوى الله .
المبحث الثاني : المعاملات :
أولا : التحلي بالأخلاق الإسلامية
ثانيا : اتخاذ القدوة
ثالثا : السؤال والحوار
رابعا : العزلة والمخالطة
المبحث الثالث : استغلال الوقت
أولا : العادة
ثانيا : ملء الفراغ
ثالثا : المحاولة والخطأ
ويلاحظ أن هذه الأساليب تستثير الشخصية المسلمة الراغبة في تزكية نفسها ، وكل منها مكمل للآخر ، فمنها ما هو مستقر في الشعور ويمارسه الفرد مع نفسه أو مع الآخرين ومنها ما يتطلب أداؤه عددا من حواس الإنسان ، وكلما كان عدد الحواس أكثر ، كلما كانت الفائدة المرجوة أكبر ، فاشتراك السمع والبصر واللمس والقراءة والإدراك في نشاط إدراكي أو تعليمي أو عاطفي أو انفعالي ، فإن هذه أدعى لأن يكون النشاط أشد وأقوى وأعمق .(1)
المبحث الأول
العبادات الإسلامية
أولا : الشعائر التعبدية(2/207)
يقول تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } [ الأنفال : 24 ] إنه ما من شيء يدعو إليه الله ورسوله إلا وفيه حياة القلوب وتزكية النفوس وزيادة الإيمان ، وفي الشعائر التعبدية إحكام للصلة بين العبد وربه وترسيخ للإيمان في نفسه ، وأهم ما يتقرب به العبد إلى الله عز وجل ويزيد من إيمانه ويرفع درجته هو أداء الفرائض التي افترضها سبحانه وتعالى
وهي قدر مشترك بين العباد ـ فيما يتعلق بالكم لا بالكيف ـ ثم يتفاوتون فيما عدا ذلك من نوافل العبادات كما بين ذلك في مبادئ التربية الذاتية فيما يتعلق بحرية العبادة ، قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل : إن الله قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ، [ البخاري : 4/192] ، ففي الحديث دلالة على أن أحب الأعمال إلى الله هو أداء الفرائض وهي على نوعين :
أ ـ ظاهرة : وهي التي تؤدى بالجوارح
ب ـ باطنة : وهي أعمال القلوب
فالظاهرة : عملا كالصلاة والزكاة وغيرها من الأفعال ، وتركا مثل : الربا والقتل وغيرها من المحرمات
والفرائض الباطنة :
هي كالعلم بالله والحب له والتوكل عليه والخوف منه ، كذلك الولاء للمسلمين والبراء من المشركين ، وكل ذلك ينقسم إلى أفعال وتروك(1)
فأول ما يتشبث به الفرد في سيره إلى ربه وتربية ذاته هو المحافظة على هذه الفرائض وعدم التهاون بها بأي حال من الأحوال ، ويأتي بعد ذلك باب النوافل وهي ما زاد على الفرائض من صلاة وصيام وصدقة وغيرها ، وهذا الباب متيسر لكل فرد أن يلجه وأن يكثر من أداء النوافل طمعا في نيل رضا الخالق الذي هو غاية كل مخلوق والهدف من تربية النفس ، إذا نال العبد محبة الله ورضاه وفقه الله لكل خير وعصمه من كثير من الشرور
يقول الإمام الخطابي ـ رحمه الله ـ شارحا للحديث السابق : قوله فكنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ، هذه أمثال ضربها والمعنى ـ والله أعلم ـ توفيق للأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء وتيسير المحبة له فيها فيحفظ جوارحه عليه ويعصمه عن موافقة ما يكره الله من إصغاء إلى اللهو بسمعه ونظر إلى ما نهى عنه ببصره وبطش إلى ما لا يحل له بيده وسعي في الباطل برجله ، وقد يكون معناه سرعة إجابة الدعاء والإنجاح في الطلبة وذلك أن مساعي الإنسان إنما تكون بهذه الجوارح الأربع(2)
لقد جاء الدين الإسلامي بعبادات شتى تملأ حياة المسلم في كل الظروف والأحوال وبالليل والنهار ، فهناك العديد من السنن القولية والعملية والتي يعتبر أداؤها من الأساليب المهمة لتربية النفس ، ومن هذه العبادات قيام الليل وصيام التطوع والصدقة وقراءة القرآن والأذكار المتنوعة ، ولا شك في أن الإتيان بهذه العبادات تقوية للصلة التي تربط بين العبد وربه وتوثيقا لعرى الإيمان في قلبه فتزكو النفس وتصفو الروح ، وهذا الأمل هو الذي يدفعه ليكون له من كل منها حظ ونصيب مما يجعله ينوع في عباداته وأعماله الصالحة كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون } [ الحج : 77 ]
ولعل في هذا التنوع مراعاة لطبيعة النفس الإنسانية التي إذا داومت على أمر معين تمله حتى لو كان هذا الأمر طعاما أو شرابا أو عملا أو مسكنا (1)وذلك مثل قول أبي تمام :(2)
وطول مقام المرء في الحي مخلق لديباجتيه فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد
وكما بين الباحث في الفصل الثاني فإن العبادات في الإسلام ليست إلا جزءا من مفهوم العبادة الشامل ، وهذا المفهوم له أثره البالغ في تربية النفس الإنسانية يقول محمد شديد : ومنهج العبادة يلبي في الإنسان فطرته ، ويجعل منها تربية لنفسه وعلاجا لضعفه وينير له طريقه ويحدد معالمه حتى يصل إلى غايته دون شطط أو ضلال ، ويقوم هذا المنهج على فكرة القرآن عن وضع الإنسان من الكون والحياة ، وفطرة نفسه على التعبد والتوجه إلى بارئها بالتضرع والدعاء ، وهدفه أن يضع الإنسان في مكانه الصحيح من الكون حتى لا يخرج عن سنته ولا ينحرف عن ناموسه ، فخروجه وانحرافه لا يؤديان إلا إلى الضلال والفساد والشقاء(3)
من أجل ذلك لابد للمرء أن يحفز نفسه للإكثار من هذه العبادات
والعبادات التي يستطيع أن يباشرها بنفسه لتحقيق غاية وجوده وتربية ذاته كثيرة جدا منها : قيام الليل وقراءة القرآن والدعاء وصلة الأرحام وصدقة السر والمتابعة بين الحج والعمرة وصيام الأيام المرغب فيها كالاثنين والخميس وثلاثة أيام من كل شهر ، وكذلك ملازمة الأوراد وطلب العلم وغيرها ، ولأن مجال البحث لا يتسع لذكر كل منها على حدة فسنكتفي ببعضها
1_ قراءة القرآن :(2/208)
القرآن الكريم هو كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين على سيد المرسلين ليكون منهجا للعالمين ، وأن في قراءته وتدبره تربية للنفس وأي تربية ، وفيه حياة للروح ، وأي حياة ، قال تعالى : { إن هو إلا ذكر للعالمين ، لمن شاء منكم أن يستقيم } [ التكوير :27 ، 28 ] ، وقال أيضا : { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } [ البقرة :1 ] ، وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القرآن شافع مشفع وما حل مصدق من جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه قاده إلى النار [ رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي في الشعب والطبراني في الكبير وابن سعد ، نقلا عن الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 2019
ومن القرآن يأخذ المؤمن التصورات والأفكار والمبادئ الصحيحة عن نفسه وعن الكون وعن الحياة وعن الآخرة فيحيا كما يريد خالقه ، ومن القرآن يقتبس الطرق الناجحة لتربية النفس وإحياء الضمير
وإن من يريد أن يربي نفسه حري به أن يتعهدها بكتاب الله تلاوة وتدبرا وفهما وحفظا ، مبتعدا بذلك عن منهج أهل الزيغ والعصيان الذين هجروا كلام الرحمن ، ومن عاش في رحاب القرآن أصبح بمثابة قرآن يتحرك على الأرض ، ففيه منهج حياة لكل فرد في كل زمان ومكان
وما الحيرة والضياع التي يعيش فيها كثير من أفراد المسلمين إلا لأنهم ابتعدوا عن هذا النبع الأصيل ، ولذلك لا يستغرب أن ترى بعض المنتسبين للإسلام يمر عليهم الشهر والشهران والثلاثة ، بل السنة بأكملها ولم يقرأ جزءا أو سورة من سور المصحف الشريف ولم يتدبر معناها ولم يعمل بمقتضاها ، لا غرو أن أمثال هذا ممن يثقل كاهل الأمة ويكون عبئا عليها ، بينما نجد أن أهل القرآن العاملين به على العكس من ذلك فهم أهل الله وخاصته وبهم تقاس حضارة الأمة ، ولذا امتدحهم الرب سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ترغيبا لكل فرد أن يحذو حذوهم قال الله عز وجل : { إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ، ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور } [ فاطر : 29 ، 30 ] وعن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ قال : قال الرسول صلى الله عليه وسلم : خيركم من تعلم القرآن وعلمه [ البخاري : 3/346]
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة ومثل الذي يقرأ القرآن وهو يتعاهده وهو عليه شديد له أجران [ البخاري :3/39] ، وعن أبي أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه ...[ مسلم :1/533] ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها [ الترمذي : 5/163 وقال حسن صحيح ]
إن هذه الخيرية التي ينالها المتصل بكتاب الله والرفعة التي يحظى بها في الدنيا والآخرة ، هي من بركات التوفيق لتربية الذات وتزكيتها
ومن شرع في القرآن فليكن شأنه الخشوع والتدبر والبكاء فبذلك تنشرح الصدور وتستنير القلوب وتسمو الأرواح ، ولكي يحظى قارئ القرآن بالتسديد والتوفيق والقبول ينبغي أن يتحلى بآدابه فلا يهذه كهذ الشعر ولا يسرح بخياله أثناء قراءته ولا يكن همه لآخر السورة ، وإنما يقف متدبرا لمعانيه متفكرا في وعده ووعيده عاملا بأوامره منتهيا عن نواهيه ، وهذا لا يتنافى مع الندب إلى الإكثار من تلاوة القرآن والمحافظة على ذلك
ولحرص السلف رضوان الله عليهم على تربية ذواتهم بقراءة القرآن وتدبره ، فقد كانت لهم عادات مختلفة في قدر ما يختمون به ، فروي أنهم كانوا يختمون في كل شهرين ختمة واحدة ، وروي عن بعضهم في كل شهر ختمة ، وعن بعضهم في كل عشر ليال ختمة ، أو في كل ثمان ليال ، ومنهم من زاد على ذلك أو أنقص(1)
كما استحب العلماء أن يختم القارئ في السنة مرتين على الأقل وذلك قياسا على أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض القرآن مرتين على جبريل عليه السلام في السنة التي قبض فيها(2)
ولكن الأولى من هذا أن يقال أن مقدار القراءة يعتمد على حال كل شخص بذاته ، يقول الإمام النووي ـ رحمه الله ـ : المختار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص ،فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر يحصل له معه كمال فهم ما يقرأ وكذلك من كان مشغولا بنشر العلم أو فصل الحكومات أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح العامة فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له ولا فوات كماله ، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل أو الهذرمة في القراءة (1)
والقصد من إيراد من قول النووي بيان أن تربية النفس بقراءة القرآن لا تكون بكثرة القراءة فقط ولكن قد تحصل التربية الذاتية بقراءة آيات قليلة مع تدبر معانيها واستخراج كنوزها ، ويمكن للقارئ أن يحرز ذلك بسؤال أهل العلم أو بالرجوع إلى التفاسير المعتمدة لدى أهل السنة والجماعة
2ـ ذكر الله تعالى :
بين العلماء أن للذكر نوعين هما :
الأول : ذكر أسماء الرب وصفاته والثناء عليه بهما وتنزيهه وتقديسه عما لا يليق به تبارك وتعالى ، وهذا النوع ينقسم إلى قسمين :
أ ـ إنشاء الثناء عن الذاكر مثل قول سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله(2/209)
ب ـ الثناء على الله بما أثنى به على نفسه وبما أثنى به عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل ، مثل الخبر عن سمع الله وبصره وعلمه عز وجل بما ثبت في الكتاب والسنة
الثاني : ذكر أمره ونهيه وأحكامه وله قسمان أيضا :
أ ـ الإخبار بأنه أمر بكذا ونهى عن كذا وبأنه أحب كذا أو كره كذا
ب ـ ذكر الله عند أمره فيبادر إليه وعند نهيه فيهرب منه [ ابن القيم : 1406 ، 178ـ 181 ]
فيشمل ذكر الله ترديد كل ما ثبت من الأدعية والأذكار ويشمل حضور مجالس الذكر في المساجد والبيوت وغيرها من الأماكن ، ويشمل أيضا بيان حكم الله عز وجل فيما يواجه الناس من أقضية وأحكام ، هذا بالإضافة إلى المبادرة إلى تنفيذ ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه خاصة عند تذكر قدرة الله وعظمته وما أعده للأبرار من نعيم وللفجار من جحيم ، وذكر الله مما ينبغي أن يتحلى به المسلم ويتشبث به سواء كان لوحده أو مع غيره ، قال تعالى { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } [ آل عمران : 190، 191 ]
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يقول اله تعالى : أنا عند حسن ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ هم خير منهم ، وإن تقرب مني شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة [ مسلم : 4/2061 ]
إن لذكر اله أثر عظيم في تربية الذات وتحريك الضمير لأن دوام ذكره تعالى يربي في النفس مقام مراقبة الله في السلوك والتصرفات ، قال تعالى { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون } [ الأنفال : 2 ] وإنه ما من شك في أن اتخاذ ذكر الله بجميع أنواعه أسلوبا في حياة الفرد يعد من أنجح الأساليب في التربية الذاتية ، بالإضافة إلى أهمية هذا الأسلوب في تربية الأمة ، ومن لا يتخذ هذا الأسلوب فسيدع مجالا لشياطين الإنس والجن وأعوانهما كي تذكر وتنشر ، ومن ثم سيصير ـ والعياذ بالله ـ من الذين ذمهم الله تعالى فقال فيه : { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون } [ الزمر : 45 ]، وقال تعالى : { ومن يغش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين } [ الزخرف : 36 ]
وقد حث المصطفى صلى الله عليه وسلم على مداومة الذكر في أحاديث كثيرة ، عن معاذ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى ، قال : ذكر الله تعالى [ الترمذي : 5/428 ]
وعن معاذ أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما عمل آدمي عملا قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله [ أحمد : 5/239 وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 5520 ]
وبين العلامة الجهبذ ابن القيم أن للذكر نحوا من مائة فائدة ، وينصح الباحث كل مهتم بتربية نفسه أن يراجع تلك الفوائد فإن فيها نفائس جمة ودررا عظيمة لا تكاد توجد عند غيره ، ومن ذلك أنه أورد روايات وأقوالا عدة عن سلف هذه الأمة في بيان أثر هذا الذكر على نفوسهم وأرواحهم ، قال رحمه الله : وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار ثم التفت إلي وقال : هذه غدوتي ولو لم اتغذ هذا الغذاء سقطت قوتي ... ، وقال لي مرة : لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر ، ... ، وسمعت شيخ الإسلام يقول : إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة ، ...وقال أيضا : ما يصنع أعدائي بي ؟ أنا جنتي وبستاني في صدري إن رحت فهي معي لا تفارقني إن حبسي خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة(1)
ومن الأقوال العظيمة في هذا الباب قول أحدهم : لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف ، وقال آخر : مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها ، محبة الله تعالى ومعرفته وذكره(2)
وشكا رجل للحسن البصري قسوة قلبه فقال أدبه بالذكر(3)
ونختم بما قاله ابن القيم عن أثر الذكر في التربية الذاتية ، قال رحمه الله : ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما وجلاؤه بالذكر فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء فإذا ترك الذكر صدئ فإذا ذكره جلاه ، وصدأ القلب بأمرين : بالغفلة والذنب وجلاؤه بشيئين : بالاستغفار والذكر(4)
وفي ذكر الله بجميع أنواعه تكثير للحسنات ورفع للدرجات ، وهذا ما يسعى إليه العبد من تربية ذاته
3ـ قيام الليل :
يقول تعالى : { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا } [ الفرقان : 62 ](2/210)
ففي تعاقب الليل والنهار حكمة عظيمة وفي كل منهما عمل لا يصلح في الوقت الآخر أو على الأقل لا ينضبط تماما ، مثلا النوم في الليل ليس كالنوم في النهار ، وطلب المعاش في وقت النهار ليس كطلبه في العتمة ، قال تعالى : { وجعلنا الليل لباسا ، وجعلنا النهار معاشا } [ النبأ : 10 ، 11 ] كما أن أي خلل يطرأ على دورة الضياء ودورة الظلام ..على دورة الليل والنهار سيؤثر على ما يسمى بالساعة الداخلية في الإنسان التي تسيطر على دورته اليومية ، تلك الساعة التي تأقلمت واعتمدت على دورة الليل ودورة النهار .. دورة الضوء ودورة الظلام الطبيعية(1)
ولذلك كان من رحمة الله أن أوجد الليل والنهار يعمل الفرد فيهما بما يناسبهما كما يعملان فيه ، قال تعالى : { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } [ القصص : 73 ]
إنها لنعمة عظيمة جدا ينبغي للمسلم أن يشكر المنعم عليها ، ومن شكر هذه النعمة أن ينظم المسلم وقته وحياته وفق هذه السنة الكونية ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، فهناك عبادات وأمور تؤدى في الليل وأخرى تؤدى في النهار والأولى أن يؤدي كل في وقته
ومن الأمور التي حث الشرع عليها قيام الليل ويقصد به صلاة النافلة وقت منام الخلق وخاصة في الهزيع الأخير من الليل ، ويقال له : التهجد وهو ما كان بعد نوم ، يقول تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } [ الإسراء : 79 ] وفي موضع آخر يقول تعالى : { إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا } [ المزمل : 6 ] والمقصود من ذلك أن قيام الليل هو أنسب الأوقات لاستجماع الفكر وتفهم القراءة حيث لا شاغل ولا صارف عن ذلك(2)
وإذا تدبر المرء ما يتلو من آيات في ظلمة الليل البهيم والناس نيام كان ذلك أدعى للتدبر والتفكر ولأن تؤتي القراءة ثمارها اليانعة ، وقد رغب الرسول صلى الله عليه وسلم في قيام الليل في أحاديث كثيرة نذكر بعضا منها :
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت : يا رسول الله أخبرني بشيء إذا عملت به دخلت الجنة ، قال : أفش السلام وأطعم الطعام وصل الأرحام وقم بالليل والناس نيام وادخل الجنة بسلام
[ أحمد : 2/295 وصححه الألباني برقم 1096 في صحيح الجامع ]
وعن أبي مالك الأشعري ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصيام وصل بالليل والناس نيام
[ أحمد : 5/343 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 2119 ]
وأورد المروزي بسنده عن بلال ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وإن قيام الليل قربة إلى الله وتكفير للسيئات ومنهاة عن الإثم ومطردة للداء عن الجسد (1)
[ رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 3958 ]
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة الصلاة في جوف الليل وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر المحرم [ مسلم : 2/821]
وقد شهد عليه الصلاة والسلام لمن يقوم الليل بسلامته من الإثم والفجور فقال : جعل الله عليكم صلاة قوم أبرار يقومون الليل ويصومون النهار ليسوا بأثمة ولا فجار ، [ رواه عبد بن حميد ، نقلا عن الألباني في صحيح الجامع برقم 3092]
ومن ابتغى الشرف والرفعة فليداوم على صلاة الليل لقوله عليه السلام : شرف المؤمن صلاته بالليل وعزه استغناؤه عما في أيدي الناس
[ رواه الخطيب والعقيلي ، نقلا عن الألباني في صحيح الجامع برقم 3604]
ما أكثر الفوائد التي يجنيها الفرد من قيام الليل لتربية ذاته وصلاح حاله ولعل من أهم الثمار التي يتحصل عليها هي تنمية وازع الإخلاص الذي هو أحد شرطي قبول العمل ، وفي قيام الليل يربي الإنسان نفسه على تحقيق الشرط الثاني من شرطي قبول العمل وهو المتابعة حيث ثبت أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ، أضف إلى ذلك أن من تدبر القرآن أثناء هجوع الناس أحس بتقصيره وندم على تفريطه ، ومن خشع في القراءة والصلاة سالت منه عبرات التوبة والندم ، وإذا ذكر الله خاليا ففاضت عيناه حشره رب العزة والجلال في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ولا عفو إلا عفوه
وحين ينصرف الناس إلى محبوبيهم من أهل الدنيا يتوسطون لهم لقضاء حاجاتهم ، يثوب المؤمن إلى ربه مخبتا ويصلي من الليل ما شاء الله له أن يصلي ويدعو ما شاء الله له أن يدعو عله أن يقضي له حوائجه ويغفر له ذنوبه أو يدخرها له إلى أن يلقاه ، ويدعو الله بأن يؤتي نفسه تقواها ويزكيها ويخلصها من شرورها وآثامها ، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟
[ أحمد : 2/487 ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 8024]
وبعد كدح النهار والسعي لجلب لقمة العيش يأوي الناس إلى فرشهم الدافئة ، ويلتذ أهل المعاصي بشهواتهم ومعاصيهم كما يلتذ المؤمن بالوقوف بين يدي ربه لمناجاته والتزود لاستقبال يوم جديد على عمله شهيد ، والزاد الإيماني ضروري جدا لمواصلة العطاء وتحمل التبعات والتكاليف التي حملها الإنسان وذلك يحتاج إلى استعداد طويل ، يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ :(2/211)
وإن الاستقامة على هذا الأمر بلا تردد ولا ارتياب ولا تلفت هنا أو هناك وراء الهواتف والجواذب والمعوقات لثقيل يحتاج إلى استعداد طويل ، وإن قيام الليل والناس نيام والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفسافها والاتصال بالله وتلقي فيضه ونوره والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه وترتيل القرآن والكون ساكن وكأنما يتنزل من الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة ، واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي ... , إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل ، وينير القلب في الطريق الشاق الطويل ويعصمه من وسوسة الشيطان ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير ... وإن في مغالبة هتاف النوم وجاذبية الفراش بعد كد النهار أشد وطأ وأجهد للبدن ولكنها إعلان لسيطرة الروح واستجابة لدعوة الله وإيثار للأنس به(1)
ولا عجب أن يكون التأكيد الإلهي بالمحافظة على هذه الشعيرة والترغيب فيها حتى في الحالات التي يعيا فيها المرء من شغل النهار ويرنو للاسترخاء والاستراحة ، قال تعالى : { فإذا فرغت فانصب ، وإلى ربك فارغب } [ الشرح :7 ، 8 ] ولا عجب أيضا أن يكون الجزاء الأخروي كبير جدا ، بل لا يعلم مداه إلا الله ، قال تعالى : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون ، فلا تعلم نفس ما أخفي لها من قرة أعين جزاء بما كانوا يعلمون } [ السجدة : 16 ، 17 ]
وقد كان سلفنا الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ من رواد مدرسة الليل وكانوا بحق رهبانا في الليل فرسانا في النهار وعلى أيديهم انتشر النور وعم الضياء فزكوا أنفسهم وزكوا غيرهم
يقول أحد التربويين : وأكثر من هذا فإن من يتخرج من مدرسة الليل يؤثر في الأجيال التي بعده إلى ما شاء الله ، والمتخلف عنها يابس تقسو قلوب الناظرين إليه والدليل عند بشر بن الحارث الحافي منذ القديم شاهده وأرشدك إليه فقال : بحسبك أن قوما موتى تحيا القلوب بذكرهم وإن قوما أحياء تقسو القلوب برؤيتهم ، فلم كان ذلك إن لم يكن ليل الأولين يقظة وليل غيرهم نوما ؟ ونهار الأولين جدا ونهار الآخرين شهوة ؟(2)
وحسبنا شاهدا على هدي سلف الأمة في قيام الليل مقالة الحسن البصري ـ رحمه الله ـ عنهم حيث يقول : لقد صحبت أقواما يبيتون لربهم في سواد هذا الليل سجدا وقياما ، يقومون هذا الليل على أطرافهم تسيل دموعهم على خدودهم ، فمرة ركعا ومرة سجدا يناجون ربهم في فكاك رقابهم ، لم يملوا طول السهر لما خالط قلوبهم من حسن الرجاء في يوم المرجع فأصبح القوم مما أصابوا من النصب لله في أبدانهم فرحين وبما يأملون من حسن ثوابه مستبشرين ، فرحم الله امرأ نافسهم في مثل هذه الأعمال ولم يرض لنفسه من نفسه بالتقصير في أمره واليسير من فعله فإن الدنيا عن أهلها منقطعة والأعمال على أهلها مردودة(1)
ودقائق الليل الغالية لم تفلت من قريحة الشعراء فهي عندهم ليست برخيصة ولذا أوسعت إنشادا وتقريضا ، يقول ابن القيم في وصف رجال الليل الذين يغتنمون تلك الدقائق :
يحيون ليلهم بطاعة ربهم بتلاوة وتضرع وسؤال
وعيونهم تجري بفيض دموعهم مثل انهمال الوابل الهطال
في الليل رهبان وعند جهادهم لعدوهم من أشجع الأبطال
بوجوههم أثر السجود لربهم وبها أشعة نوره المتلالي
ويعتبر قيام الليل مدرسة عظيمة تعلم تلاوة القرآن بخشوع وتدبر ، وهي تربي في الفرد مداومة ذكر الله والإخلاص في عبادته وتشد القلب إلى خالقه
ومدرسة الليل مفتوحة لكل فرد أن ينضم إليها فيقتبس الدروس العظيمة والمعاني الكبيرة في تربية الذات ، والانتظام بهذه المدرسة لا يكلف شيئا إلا مجاهدة النفس من أجل مصلحتها وهى من أجل تربيتها وتقويمها
ثانيا : المحاسبة
يقتضي مبدأ المسئولية والجزاء الذي مر ذكره ضمن مبادئ التربية الذاتية ، أن يحاسب المرء نفسه ويراقبها على الدوام كي لا تحيد ولا تميل عن الجادة المثلى
قال تعالى : { ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا } [ الكهف : 49 ]
ويقول أيضا : { يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد } [ المجادلة : 6 ]
ويقول : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين } [ الأنبياء : 47 ]
فينبغي أن يضع الفرد المسلم المحاسبة نصب عينيه استعدادا للسؤال وترقبا لما بعده من أهوال ، والمحاسبة هي ذلك الميزان الدنيوي الذي يستخدمه المرء المسلم لتصحيح مساره وتعديل سلوكه مستضيئا في ذلك بهدي الكتاب والسنة ، ويعرفها الحارث المحاسبي بأنها : التثبت في جميع الأحوال قبل الفعل والترك من العقد بالضمير أو الفعل بالجارحة ، حتى يتبين له ما يترك وما يفعل ، فإن تبين له ما كره الله عز وجل جانبه بعقد ضمير قلبه وكف جوارحه عما كرهه الله عز وجل ومنع نفسه من الإمساك عن ترك الفرض وسارع إلى أدائه(1)
وقيل هي : التمييز بين ما للمرء وما عليه فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه(2)
أهميتها :
إن هذا الأسلوب ـ أي أسلوب المحاسبة ـ مهم جدا ومع ذلك لم يفطن إليه إلا من وفقه الله ، والله سبحانه وتعالى ينادي عباده المؤمنين مطالبا إياهم بذلك فيقول : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعلمون } [ الحشر : 18 ](2/212)
والمعنى أن ينظر كل امرئ وليتفكر فيما يقوم به من أعمال : أهي من الصالحات المنجيات أم من السيئات الموبقات وذلك استعدادا ليوم الحساب والمجازاة ، وإذا استطاع الإنسان أن يحاسب نفسه ويراقبها في تصرفاتها وحركاتها وسكناتها فإن هذه مظنة الاستقامة والسير على الصراط المستقيم ومن ثم الفوز بجنات النعيم ، وهذه الأمنية هي غاية ما يتمنى المسلم من تربية ذاته
قال تعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون } [ فصلت : 30-32]
وتعد منزلة المحاسبة من أفضل المراتب لأنها تحتاج إلى مراقبة دائمة ومجاهدة مستمرة للنفس الإنسانية ، قال تعالى : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } [ العنكبوت : 69 ] وعن فضالة بن عبيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : المجاهد من جاهد نفسه في سبيل الله عز وجل
[ أحمد : 6/22، وجود الألباني إسناده في الصحيحة برقم 1496]
ومن فوائد هذا الأسلوب أيضا أنه يربي الضمير في داخل النفس وينمي في الذات الشعور بالمسئولية ووزن الأعمال والتصرفات بميزان دقيق هو ميزان الشرع
نماذج قولية وعملية :
عرف سلفنا الصالح أهمية هذه المنزلة فحققوها في أنفسهم وحثوا غيرهم عليها مما حدا بهم أن يؤلفوا الرسائل والتصنيفات المستقلة لإيراد النماذج القولية والعملية عنها ، وقد ورد عن سلفنا الصالح مواقف شتى في تطبيق أسلوب المحاسبة ، فهذا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول مبينا أهمية هذا الأسلوب : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا فإنه أهون في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزينوا للعرض الأكبر ، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية (1)
وإذا أتينا إلى التطبيق العملي نجد هذا الخليفة العادل يقيم الحجة في محاسبة النفس على كل الرعاة والدعاة والمربين وغيرهم ، عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يوما وخرجت معه حتى دخل حائطا فسمعته يقول وبيني وبينه جدار وهو في جوف الحائط : عمر أمير المؤمنين بخ بخ والله بني الخطاب لتتقين الله أو ليعذبنك(2)
ويعتبر ميمون بن مهران المحاسبة ميزانا للتقوى فيقول : لا يكون الرجل تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه (3)
وعن أهمية تخصيص وقت المحاسبة وأثرها في حياة الفرد يقول وهب بن منبه : مكتوب في حكمة آل داود : حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه ، وساعة يخلو فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويحمد ، فإن هذه الساعة عونا على تلك الساعات وإجماما للقلوب (4)
ومن حاسب نفسه في الدنيا هان الحساب عليه في الآخرة كما يقول الحسن : أيسر الناس حسابا يوم القيامة الذين يحاسبون أنفسهم في الدنيا فوقفوا عند همومهم وأعمالهم ، فإن كان الذي هموا به لهم مضوا ، وإن كان الذي هموا به عليهم أمسكوا .. وإنما يثقل الأمر يوم القيامة على الذين جازفوا الأمور في الدنيا أخذوها من غير محاسبة فوجدوا الله عز وجل قد أحصى عليهم مثاقيل الذر(1)
ويصف الإمام الغزالي أرباب القلوب المنيبة وذوي الضمائر الحية الذين اتخذوا هذا الأسلوب نهجا في حياتهم : فعرف أرباب البصائر من جملة العباد أن الله تعالى لهم بالمرصاد ، وأنهم سيناقشون في الحساب ويطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات وتحققوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة وصدق المراقبة ومطالبة النفس في الأنفاس والحركات ومحاسبتها في الخطرات واللحظات ، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه وحضر عند السؤال جوابه وحسن منقلبه ومآبه ، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته وطالت في عرصات القيامة وقفاته وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته(2)
وفيما يلي نورد مزيدا من النماذج العملية في المحاسبة الذاتية :
ـ أورد ابن أبي الدنيا بسنده قال : كان توبة بن الصمة بالرقة وكان محاسبا لنفسه فإذا هو ابن ستين فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألفا يوم وخمسمائة يوم فصرخ وقال : يا ويلتى ألقى المليك بأحد وعشرين ألف ذنب ، كيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب ؟ ثم خر مغشيا عليه(3)
ـ وأورد أيضا بسنده عن إبراهيم التيمي قال : مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها ، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها فقلت لنفسي : أي شيء تريدين ؟ قالت : أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحا ، قال : فقلت : فأنت في الأمنية فاعملي (4)
ـ ويروي الغزالي ( د . ت ) قال : حكى صاحب للأحنف ابن قيس قال : كنت أصحبه فكان عامة صلاته بالليل الدعاء ، وكان يجئ إلى المصباح فيضع أصبعه فيه حتى يحس بالنار ثم يقول لنفسه : يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا ؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا (1)
أنواعها :
ذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ أن للمحاسبة نوعين هما : نوع قبل العمل ونوع بعده ، فأما النوع الأول : فهو أن يقف عند أول همه وإرادته ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه ، والنوع الثاني محاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع هي :
أ ـ محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله فلم تؤدها كما ينبغي
ب ـ محاسبتها على كل عمل كان تركه خيرا له من فعله
ج ـ محاسبتها على الأمور المباحة أو المعتادة لم فعلها
[ ابن القيم ، 1381هـ ، ص1/97ـ99](2/213)
ويشير الباحث إلى نوع ثالث من المحاسبة وهو محاسبة النفس أثناء أداء العمل فإن كان خالصا لوجه الله تعالى وموافقا لهدي المصطفى مضى فيه وإلا رجع عنه ، والسبب في ذلك أن العمل يكون خالصا عند أول الهم به ولكن قد يشوبه أثناء أدائه شيء من الرياء فيحبط العمل ويصبح وبالا على عامله ، هذا إذا لم يجدد النية ويصححها
كيفية المحاسبة وما يعين عليها :
وأما كيف يستخدم هذا الأسلوب في التربية الذاتية وما هي طريقة محاسبة النفس فهذا أمر ليس باليسير ويستدعي مداومة الترويض والتهذيب للنفس كيما تصل إلى رضى خالقها ، يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ : وبداية المحاسبة أن تقايس بين نعمته عز وجل وجنايتك فحينئذ يظهر لك التفاوت وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمته أو الهلاك والعطب .. ثم تقايس بين الحسنات والسيئات فتعلم بهذه المقايسة : أيهما أكثر وأرجح قدرا وصفة ، وهذه المقايسة الثانية مقايسة بين أفعالك وما منك خاصة(2)
وفي وصف المؤمن المحاسب لنفسه أورد الحافظ ابن أبي الدنيا بسنده عن الحسن قوله :
إن المؤمن يفجأه الشيء ويعجبه فيقول والله إني لأشتهيك وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من صلة إليك ، هيهات حيل بيني وبينك ، ويفرط منه الشيء فيرجع نفسه فيقول : هيهات ما أردت إلى هذا وما لي ولهذا ، ما أردت إلى هذا وما لي ولهذا ، والله ما أعذر بهذا والله لا أعود إلى هذا أبدا إن شاء الله...إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم ، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته لا يأمن شيئا حتى يلقى الله ، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه ، مأخوذ عليه في ذلك كله (1)
ومن المحاسبة أن يقرر المرء نفسه بذنوبه ومعاصيه لكي ترجع وتؤوب ، يقول مالك بن دينار : رحم الله عبدا قال لنفسه : ألست صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة كذا ؟ ثم ذمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان لها قائدا (2)
ولنستمع إلى المحاسبي وهو يحدث نفسه محاسبا ومعاتبا :
ويحك إن الدنيا دار نجاة الآخرة .. إن الجامعين بدلوا الأحزان في الدنيا فورثوها في الآخرة دوام السرور ، ويحك فلا تدعي معاملة مولاك في دار العمل فتخسري الدنيا والآخرة .. ، ويحك يا نفس أين تلاوة القرآن ؟ وأين معاني الآثار ؟ وأين الشكر لمن لا تعرفين منه إلا الإحسان ؟ رضيت بأحوال الجاهلين ومنازل الغافلين وأعمال الفاسقين ، ويحك يا نفس أليس قد انقطع عنك كل لذة وزالت عنك كل رفاهية وانقضت الساعات والأيام وما كان فيها من التخليط والذنوب وبقيت عليك الأوزار هذا ما قد قضى وذهب .. وبقي السؤال ، فهكذا تستقبلين أيامك .. ما يكون منها وما يبقى عليك من التبعات فتحولي عما ينقضي ويبقى سوء عاقبته ...(3)
إن مما يحفز المسلم لمحاسبة نفسه تيقنه أن الله عز وجل يقبل التوبة من عباده في كل حين ومهما كبر الذنب أو دق ، يقول تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } [ الزمر : 53 ]
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها [ مسلم : 4/2113 ]
ومما يعين على المحاسبة أن يكون المرء صادقا في محاسبته لنفسه ، وتعتمد المحاسبة الصادقة على ثلاث أسس هي : الاستنارة بنور الحكمة وسوء الظن بالنفس وتمييز النعمة من الفتنة ، فأما نور الحكمة فهو العلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل والهدى والضلال ، وكلما كان حظه من هذا النور أقوى كان حظه من المحاسبة أكمل وأتم ، وأما سوء الظن بالنفس حتى لا يمنع من كمال التفتيش والتنقيب عن المساوئ والعيوب ، وأما تمييز النعمة من الفتنة لأنه كم من مستدرج بالنعم وهو لا يشعر ، مفتون بثناء الجهال عليه مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه (1)
ومما يعين الإنسان على معرفة عيوب نفسه ويساعده على تمييز النعمة من الفتنة ما أشار إليه الغزالي حيث أورد أربعة طرق لمعرفة عيوب النفس هي(2) :
ـ أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس ويحكمه في نفسه ويتبع إشارته في مجاهدتها
ـ أن يطلب صديقا صدوقا بصيرا متدينا رقيبا على نفسه ليلاحظ أحواله وأفعاله
ـ أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة خصومه وأعدائه فإن عين السخط تبدي لك المساوئ
ـ أن يخالط الناس ـ وخاصة أهل الصلاح منهم ـ فكل ما رآه مذموما فيما بين الخلق فليطالب نفسه وينسبها إليه وليتفقد نفسه ويطهرها
ويلخص الباحث فيما يلي الآثار التربوية لأسلوب المحاسبة :
ـ تحقيق العبودية الكاملة لله عز وجل .
ـ مراقبة الله في السلوك والمعاملات .
ـ أداء حقوق الآدميين كاملة من غير نقصان .
ـ إتقان العمل كل في مجاله وتخصصه .
ثالثا : تقوى الله
يقول تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما } [ الأحزاب : 70 ، 71 ] فالعلاقة قوية بين تقوى الله والتربية الذاتية ونتيجتها أن يتقبل الله الحسنات ويزكي الأعمال (1)(2/214)
ويقول ابن كثير ـ رحمه الله ـ وعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم أي يوفقهم للأعمال الصالحة وأن يغفر لهم الذنوب الماضية وما قد يقع في المستقبل يلهمهم التوبة منها (2)، وفي ذلك صلاح لأمري الدنيا والآخرة كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم } [ الأنفال : 29 ] وبين عليه الصلاة والسلام أهمية التقوى عندما سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال : التقوى وحسن الخلق . [ ابن ماجة : 2/1418 ، وقال الترمذي : حديث حسن ] ويقول أيضا : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك . [ أحمد : 1/307 ] وحفظ الله هو تقواه بحفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه أي بفعل الواجبات جميعا وترك المحرمات كلها (3)
ومن ميزات هذا الأسلوب أنه ينشئ داخل حس الإنسان رقابة ذاتية تشعره بالمسئولية المطلقة أمام الله ليكون حارسا أمينا لنظام الحياة الذي ارتضاه لعباده وطالب كل فرد بتطبيقه فلا يحيد عنه قيد أنملة .
إن تقوى الله هو عقد متفرقات جميع أساليب التربية الذاتية ، وهي الرابطة أو الحلقة التي ينبغي أن يحيط بها العبد عند الهم بأي من تلك الأساليب . وتشبه المحاسبة من جوانب عدة مثل العلم قبل العمل وعدم معرفة المخلوقين بها . وربما يكون الفرق بينهما أن المحاسبة تكون غالبا بعد أداء العمل بينما تقع التقوى قبله .
حقيقة التقوى :
التقوى هي وصية الله إلى الأولين والآخرين ، قال تعالى { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله } [ النساء : 131 ] وهذه الوصية العظيمة جامعة لحقوق الله وحقوق عباده . ويورد الباحث فيما يلي جملة من أقوال السلف الصالح في بيان حقيقة التقوى :
قال ابن عمر : لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر
[ البخاري : 1/19 ]
سئل علي بن أبي طالب عن التقوى فقال : هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل (1)
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : اتقوا الله حق تقاته أي أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر .
وقال عمر بن عبد العزيز : هي ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير .
وقال طلق بن حبيب : التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله .
وقال ابن المعتز ناظما (2) :
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
فحقيقة التقوى إذن أنها كلمة جامعة لفعل الطاعات وترك المعاصي الكبير منها والصغير والجليل والحقير .
وهي في جملتها تكتنف النفس المؤمنة من الداخل بحيث ينبع الخير منها دون ضغوط خارجية ، وتنفر من الشر بلا قسر أو إكراه .
ثمرة التقوى :
إن في التزام التقوى فلاح الدنيا والآخرة ، ويفصل الباحث فيما يلي بعض ثمار التقوى اقتباسا مما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة :
1ـ تكفير السيئات ومضاعفة الحسنات .
2ـ تحقيق معية الله وحفظه .
3ـ الحصول على الإلهام والرشد والتوفيق في جميع الأمور .
4ـ القدرة على التمييز بين الحق والباطل والهدى والضلال .
5ـ تفريج الهموم وتنفيس الكروب .
6ـ تيسير سبل الرزق .
7ـ الاستعداد لملاقاة رب العباد .
8ـ التمكين في الأرض وتعبيد البشر لرب العالمين .
9ـ النجاة من عذاب جهنم ومن أهوال يوم القيامة .
10ـ الفوز برضى الرحمن ونيل أعلى درجات الجنان .
إن هذه الفوائد وغيرها مما يتمنى كل فرد بذاته أن يحظى بها ، ولكن ليس الحصول عليها بالتمني وإنما ببلوغ درجة المتقين .
تحقيق التقوى :
إن تحقيق هذا الأسلوب العظيم – التقوى – يتطلب الاتصاف بخصال المتقين التي وردت في الكتاب والسنة وهي كثيرة جدا ، يذكر الباحث طرفا منها .
قال تعالى : { آلم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون }
[ البقرة : 1-5 ]
فمن أخص خصائصهم الإيمان بالغيب لأنه يجعل من ضمير الإنسان رقيبا ذاتيا يحصي عليه جميع حركاته وسكناته وتصرفاته . يقول أحد العلماء – رحمه الله - : فالمؤمن بالغيب على الحقيقة هو الذي يستشعر دائما مشاهد يوم القيامة . وكل ما يرى في الدنيا من صنوف اللذات والنعيم يذكر به نعيم الجنة الذي هو خير منه وأبقى فيبادر إلى الأعمال الصالحة ويكون إنسانا صالحا ، وكل ما يرى في دنيا من أصناف الشرور وحر النار يذكر به عذاب جهنم وشدة حرها فيرتدع عن الشهوات ويكبح نفسه عن جماحها ولا يطلق لها أنانيتها من أنواع الطمع والشره في مال أو عرض أو أي نوع من أنواع التسلط والاغتصاب ... (1) .
ومن صفاتهم أيضا أنهم أوابون رجاعون إلى الحق إذا ما أخطأوا أو ضلوا ، قال تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } [ الأعراف : 201 ] وكذا من صفاتهم ترك الشبهات وما ترجح بين الحلال والحرام أو خفي حكمه لقوله صلى الله عليه وسلم : ... فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ... [ البخاري : 341 ] ويقول أيضا : لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس [ الترمذي : 4/547 ، وقال : حسن غريب ] .
يقول الحسن البصري : ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام . وقال سفيان بن عيينة : لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال وحتى يدع الإثم وما تشابه منه (2) .(2/215)
فترك الشبهات منزلة عظيمة لا يبلغها إلا المتقون ولا تأتي إلا بمجاهدة النفس ومغالبتها تحقيقا لأوامر الشرع .
يقول محمد المصري : وهكذا يظل المؤمن في علاج لنفسه وجهاد لرغباته وأهوائه حتى ينتهي به الأمر إلى أن تصبح التقوى مغروسة في نفسه وتصبح خلقا من أخلاقه وسجية من سجاياه ، وهنا يدرك ثمرة التقوى في أيامه كلها ، وهنا يرهف إحساسه ويسمو وجدانه فيصبح سريع الإدراك لمواطن الخير ولمواطن الشر ، خبيرا كل الخبرة بالتمييز بينهما ، ويصبح طبعه الخير وهواه مع الخير وكراهيته للشر ونفوره منه ويكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار (3)
* * * * * *
المبحث الثاني
المعاملات الإسلامية
أولا : التحلي بالأخلاق الإسلامية
ليس من شك في أن للأخلاق أثرا قويا في بناء الأمم والأفراد لأن كل السلوكيات والتصرفات ناشئة عن تلك الأخلاق ، وبها يبلغ المرء أعلى المراتب والدرجات أو ينزل إلى أسوأ الدركات . والأخلاق الإسلامية بالذات مطلب رئيسي في التربية الإسلامية . قال صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم [ أبو داود : 5/149 ] . وقال أيضا : أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله [ رواه الترمذي 5/11 ، وقال : حديث حسن صحيح ] وأنماط السلوك متعددة منها ما هو فردي ومنها ما هو اجتماعي وكلاهما ينعكس أثره على البيئة أو المجتمع الذي يعيش فيه الأفراد . فالسلوك الفردي محوره الفرد ومثاله الطموح والرضا والصبر والتواضع ، والسلوك الاجتماعي يشترك فيه اثنان على الأقل لكي يظهر إلى حيز التطبيق ومنه التعاون والإيثار والتضحية (1) .
والنمط الأول – أي السلوك الفردي – هو الذي يتصل مباشرة بالتربية الذاتية ، وإذا تحلى الفرد بالأخلاق الحسنة وجاهد نفسه لكي يكتسبها وتبقى متأصلة فيه فإن ذلك سيساعده بإذن الله في تزكية نفسه وتقويمها . يقول الدكتور عبد الحميد الأقطش : وقد يبدأ التخلق بخلق ما عملا شاقا على النفس إذا لم يكن من أصل طبيعتها الفطرية ، ولكنه بتدريب النفس عليه وبالتمرس والمران يصبح سجية ثابتة يندفع الإنسان إلى ممارسة ظواهرها اندفاعا ذاتيا دون مشقة ، وليس التدريب النفسي ببعيد الشبه عن التدريب الجسدي الذي تكتسب به المهارات العملية الجسدية (2) .
ولطبيعة البحث سيقتصر الحديث على أهم الصفات الخلقية الفردية وأثرها في التربية الذاتية .
أ ـ الصبر
لابد لطالب التزكية أن يحلي نفسه بالصبر لينال مراتب الكمال ، ومن لم يتعود الصبر فليصبر نفسه وليرغمها على ذلك . قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } [ آل عمران : 200 ] . يقول عليه الصلاة والسلام : ... وإنه من يستعفف يعفه الله ومن يتصبر يصبره الله ومن يستغن يغنه الله ولن تعطوا عطاء خير وأوسع من الصبر . [ البخاري : 4/186 ]
ويقول صلى الله عليه وسلم : إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتحر الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقعه [ حسنه الألباني في الصحيحة برقم 342 ] فمن يتصبر يصبره الله ويعطيه هذا الخلق الرفيع .
والصبر في التربية الذاتية على أنواع ، فمنه الصبر على رغبات النفس ومنه الصبر على متاعب الحياة التربوية ومنه الصبر على معاملة الأستاذ والمربي ومنه الصبر على جفاف المادة العلمية أحيانا .
وقد أشارت قصة موسى مع الخضر عليهما السلام إلى أن تربية الذات لا تتحقق إلا بالصبر والتحمل حيث قال تعالى مخبرا عنهما : { قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا } [ الكهف 66-70 ]
فقد كان موسى عليه السلام يتطلع إلى العلم الذي خصه الله بالخضر عليه السلام ولكن مخالفته للشرط الذي كان بينهما وهو الصبر فوت عليه ذلك ، وهذا ما جعل رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم يقول : ... وددنا أن موسى صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما ... [ البخاري : 3/257 ]
ومراتب الكمال في التربية والتعليم وغيرهما لا تنال بين عشية وضحاها وإنما بالصبر واليقين والجد والاجتهاد كما قال تعالى : { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } [ السجدة : 24 ] وقال صلى الله عليه وسلم : ما رزق عبد خيرا له ولا أوسع من الصبر [ رواه الطبراني نقلا عن الألباني في الصحيحة برقم 449 ]
ويقول أيضا : أفضل الإيمان الصبر والسماحة . [ رواه الديلمي نقلا عن الألباني في الصحيحة برقم 1495 ] .
فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ، وبتتبعنا لسيرة سلفنا الصالح نجد أنهم ما وصلوا إلى تلك الدرجات السابقة إلا بعد التحلي بهذا الخلق الكريم .(2/216)
يحكي لنا خير الأمة وترجمان القرآن – عبد الله بن عباس رضي الله عنهما – قصة كفاحه وصبره حتى حقق دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم له بالفقه في الدين فيقول : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار : هلم نسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير . فقال : يا عجبا لك يا ابن عباس أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم ؟ قال ابن عباس : فتركت ذلك وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل – أي نائم في نصف النهار – فأتوسد ردائي على بابه يسفي الريح علي من التراب فيخرج فيراني فيقول : يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك ؟ هلا أرسلت إلي فآتيك . فأقول : لا أنا أحق أن آتيك . قال : فأسأله عن الحديث . قال ابن عباس : فعاش الرجل الأنصاري حتى رآني قد اجتمع حولي الناس يسألوني فقال : هذا الفتى كان أعقل مني . (1)
إن في قصة ابن عباس عبرة وعظة لكل الكسالى والساقطين على جنبات الطريق التربوي الطويل ، وفيها درس لكل المربين والمتربين الذين يستعجلون قطف الثمار أو الذين يستنكفون عن السير في الطريق من أوله أو يظنون استحالة الوصول إلى نهايته . ويؤكد الإمام النووي هذا المفهوم فيقول : من لم يصبر على ذل التعلم بقي عمره في عماية الجهالة ومن صبر آل أمره إلى عز الدنيا والآخرة ... ومنه الأثر : ذللت طالبا فعززت مطلوبا (2) .
وقيل للإمام الشعبي من أين لك هذا العلم كله ؟ قال : ينبغي الاعتماد والسير في البلاد وصبر كصبر الجمال وبكور كبكور الغراب . فلا عجب إذن أن يفوز أهل الصبر كما قال تعالى { إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون } [ المؤمنون : 111 ] وقال أيضا : { إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } [ الشورى : 33/ سبأ : 19 / إبراهيم : 5 / لقمان : 31 ] يقول ابن القيم رحمه الله (1) :
ولما كان الإيمان نصفين : نصف صبر ونصف شكر كان حقيقا على من نصح نفسه وأحب نجاتها وآثر سعادتها ألا يهمل هذين الأصلين وأن يجعل سيره إلى الله بين هذين الطريقين ليجعله يوم لقائه مع خير الفريقين ... ، والصبر آخية المؤمن التي يجول ثم يرجع إليه وساق إيمانه الذي لا اعتماد إلا عليها فلا إيمان لمن لا صبر له وإن كان فإيمان قليل في غاية الضعف وصاحبه من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ولم يحظ منهما إلا بالصفقة الخاسرة . فخير عيش أدركه السعداء بصبرهم وترقوا إلى أعلى المنازل بشكرهم فساروا بين جناحي الصبر والشكر إلى جنات النعيم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
وبالتصبر تقوى إرادة الإنسان فيتحرر من عبودية الجسد والمادة منطلقا بذلك إلى عبودية الله وحده وسائرا في تحقيق إرادته في أن يكون مسلما في أفكاره وتصوراته ومعاملاته وأخلاقه .
ب ـ التواضع
هذا الخلق الكريم ينبئ عن معدن صاحبه ويظهر عليه في التعامل مع غيره خاصة إذا كان هذا أقل علما أو عمرا أو منزلة اجتماعية . وبما أن الحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنى وجدها وهو أولى من غيره أن يحصل عليها ولا يعيقه عن ذلك أي من العوائق النفسية أو الموانع الاجتماعية . ومما ييسر هذا أن يتخلص الإنسان من شرور نفسه من عجب وتكبر وغرور ومدح للنفس أو غير ذلك من الصفات القلبية الممقوتة . قال تعالى : { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } [ النجم : 32 ]
ومن ابتلي بشيء من هذه الشرور فقد حرم خيرا كثيرا ، ومن لم يتواضع فسيحقر غيره ويترفع عن الاستفادة منه وتحصيل ما لديه من علوم وخبرات وتجارب .
روى عياض بن حمار – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد . [ مسلم : 4/2199 ] .
ومن المقرر شرعا أنه لا فضل لأحد على أحد حتى وإن كان من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتقوى .
ومن التواضع في التربية الذاتية ألا يخجل الإنسان من الاستفادة ممن هو أصغر منه عمرا أو أقل منزلة ، فلا يستنكف الأستاذ أن يتعلم من تلميذه ولا الوالد أن يقتدي بابنه فقد يكون ممن أوتي علما وخبرة وتجربة لم يؤتها الآخر .
ولا يكاد المتأمل في آيات القرآن يجد مثلا للتواضع أبلغ في الاستشهاد من موقف موسى مع الخضر عليهما السلام ، فهذا نبي من أنبياء الله ينزل إلى مقام التلميذ متحليا بالتواضع مع أستاذه العبد الصالح .
وهذا إبراهيم عليه السلام ينصح أباه عله يرتدع عن غيه وضلاله ولكن الأب الضال يستكبر ويرفض إتباع ابنه حيث روى القرآن تحاورهما فقال إبراهيم عليه السلام : { يا أبت أني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا } [ مريم : 43 ]
ويكون جواب الأب المعاند : { قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا } [ مريم : 46 ]
ولو أن الرجل تواضع وانصاع لدعوة الحق لحاز الفلاح في الدارين ، وكذا من أراد تربية ذاته وتزكيتها فليتواضع لمن هو أعلم منه كما يتواضع له من هو أجهل منه
قال عمر بن الخطاب : تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم وتواضعوا لمن تعلمون وليتواضع لكم من تعلمون (1)
ورحم الله الإمام الشافعي حين يقول : لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح(2)(2/217)
فإذا لم تكن للمرء بداية محرقة لم تحصل له نهاية مشرقة ، أي إذا لم يصبر على أخلاق من يتعلم منه ولم يصبر على ذل التعلم ، وإذا لم يتواضع للمعرفة التي يحملها المعلم أيا كانت منزلته فلن يصل إلى التزكية المبتغاة ، فليكن المتعلم لمتعلمه كأرض دمثة نالت مطرا غزيرا فتشربت جميع أجزائها وأذعنت بالكلية لقبوله (1)
وفي الحث على الصبر والتواضع يقول الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ (2) :
اصبر على مر الجفا من معلم فإن رسوب العلم في نفراته
ومن لم يذق مر التعلم ساعة تذوق مر الجهل طول حياته
ومن فاته التعليم وقت شبابه فكبر عليه أربعا لوفاته
وذات الفتى والله بالعلم والتقى إذا لم يكونا لا اعتبار لذاته
وبالتحلي بخلقي الصبر والتواضع تستجلب محبة الآخرين فتفتح مغاليق قلوبهم وأفئدتهم ، وتنطلق ألسنتهم للإفادة والتعليم ، كما تنساب منهم المعارف والعلوم والخبرات فتزكو الروح وتسمو الذات
ثانيا : اتخاذ القدوة
مهما يكن لدى المرء من طاقات وقدرات ومواهب ومهما يكن لديه من وسائل وأساليب يستثمرها لتربية ذاته وتزكيتها فإنه لا يستغني بأي حال من الأحوال عن وجود قدوة من بني جنسه تكون له نبراسا وهاديا في سيره إلى ربه ، وتؤثر القدوة تأثيرا كبيرا في تكوين شخصية الفرد وصقلها حيث أن الإنسان ميال بطبعه إلى التقليد والمحاكاة ، ولهذا المكيل أسس نفسية يرتكز عليها هي :
1. الرغبة في التقليد والمحاكاة للمماثلين والمشاكلين
2. الاستعداد النفسي الذي يتغير حسب الظروف والأحوال والأشخاص
3. الهدف أو الدافع الغريزي الذي قد يكون معروفا لدى المقلد أو لا يكون(3)
4. الشعور بالنقص وقلة الخبرة والحاجة إلى التعلم
وفي التربية الإسلامية يتحول هذا التقليد أو يوجه إلى ما يسمى بالإتباع ، والإتباع هو عملية فكرية يمزج فيها بين الوعي والانتماء والمحاكاة والاعتزاز في ظل البصيرة والحجة ، ولذلك كان الخطاب الإلهي بإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم } [ آل عمران : 31 ] وقال : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [ الأنعام : 153]
فلما أراد الله إقامة الحجة على الناس لم ينزل إليه الكتب فحسب بل أرسل إليهم الرسل ، ومن رحمة الله عز وجل أن كان الرسل والأنبياء من بني البشر حتى يكون ذلك أدعى للإتباع وأحرى بالإقتداء ، ولو كان الرسول ملكا من الملائكة لاحتج الناس بضعفهم وعجزهم وعدم طاقتهم على مجاراة الملك فيما يصدر منه من أفعال وتصرفات ، قال تعالى : { وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ، ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون } [ الأنعام : 8 ، 9 ] وهكذا حتى يحصل كمال الإقتداء والاتساء كانت قدوات البشر من بني جنسهم
مستويات القدوة :
نظرا لتشعب مجالات القدوة في التربية الإسلامية ، يرى الباحث أنه يمكن تصنيفها إلى المستويات التالية :
المستوى الأول :
وهو الاقتداء المطلق بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في جميع أفعاله وأقواله وأحواله إلا ما كان من خصوصياته عليه الصلاة والسلام ، وهذا المستوى هو الأسمى والأعلى والأمثل الذي ينبغي أن يتخذه الفرد لتربية نفسه وتزكيتها وبهذا الاقتداء يكون الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة وبدونه يكون الخسران المبين .
قال تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا } [ الأحزاب : 21 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ، قالوا : ومن يأبى ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى . [ البخاري : 4/359 ]
وفي شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته يجد المرء الأسوة الحسنة في حياته كلها . فهو إنسان أكرمه الله برسالته ومع ذلك فسيرته شاملة لكل النواحي الإنسانية في الإنسان ، فهو الشاب الأمين قبل البعثة والتاجر الصادق وهو الباذل لكل طاقته في تبليغ دعوة ربه ، وهو الداعية الصبور والأب الرحيم والزوج المحبوب والقائد المحنك والصديق المخلص والمربي المرشد والسياسي الناجح والحاكم العادل . كما أنه عليه الصلاة والسلام ضرب المثل الأعلى في تربية الذات من جميع النواحي سواء في عبادته أو زهده أو خلقه الكريم أو غير ذلك . والمتأمل لسيرته يجد الحل والصواب لكل المعضلات التي تقف حائلا دون إشعاع الروح وبلوغ صفائها ونقائها . ولذلك فإن التأسي بالمصطفى عليه السلام فيه تربية للروح كي تصل إلى مرتبة الكمال البشري والسمو الإنساني المتمثل في شخصه الكريم .
المستوى الثاني :
وهو أقل درجة من المستوى الأول ويتمثل في الاقتداء بسلف هذه الأمة من عظمائها ومجدديها الذين كان لهم دور بارز في مجريات التاريخ . فإذا كان لدى الفرد ميل إلى نوع من أنواع النبوغ كالعلم أو العبادة أو الدعوة أو التخصص في أي علم من العلوم فيحتاج أن يكون أمامه مثل بارز في هذا المجال يسير على خطاه ويقتفي آثاره . والقدوات في هذا المستوى لا تعد ولا تحصى وتختلف باختلاف التخصصات والمجالات . ولا تقتصر الأمثلة على الصحابة رضوان الله عليهم بل يتعدى ذلك إلى من جاء بعدهم ، فهناك عمر بن عبد العزيز في العدل والإمام الشافعي في العلم والإمام أحمد في الثبات على الحق والعقيدة الصحيحة وابن تيمية في العلم والجهاد معا وابن القيم في التربية والشيخ محمد بن عبد الوهاب في الدعوة إلى الله ، وهناك ابن النفيس في الطب وابن خلدون في علم الاجتماع وابن رجب في المواعظ ... وهكذا . روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول : من كان متأسيا فليتأس بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة (1) .(2/218)
إن هذا النوع من الاقتداء يلبي رغبة فطرية موجودة لدى الإنسان الذي يتطلع إلى تحقيق ما وصل إليه أولئك الأفذاذ أو يزيد .
المستوى الثالث :
وهو الاقتداء بمن يستحق أن يكون قدوة في الخير والصلاح من الأحياء المحيطين بالإنسان في بيئته . فحرص المرء على اختيار شخص استجمع قدرا كبيرا من الفضل والتقوى يكون قدوة له ويحاكيه في أمور الخير والهدى ويرجع إليه في السراء والضراء مستفيدا من عقله ورأيه ومشورته فيما يلم به من أحداث ومواقف وتغيرات . كما يحرص على معاشرته لاكتساب تجاربه وخبراته والاستفادة منها في تربية ذاته . ذلك القدوة الذي من صفاته أنه مفتاح للخير مغلاق للشر كما مدحه المصطفى عليه السلام فيما رواه أنس – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير ، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه ، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه [ ابن ماجة : 1/86 ، وحسنه الألباني في الصحيحة برقم 1332 ]
وينبغي أن يكون الضابط في اختيار القدوة في هذا المستوى أن يكون ممن تعلق فؤاده بالله تعالى ولم يغفل عنه وأخلص في العلم والعمل . قال تعالى : { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } [ الكهف : 28 ]
يقول ابن القيم – رحمه الله - : فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين ، وهل الحاكم عليه الوحي أو الهوى ؟ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة وأمره فرط لم يقتد به ولم يتبعه فإنه يقوده إلى الهلاك ، ... وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى واتباع السنة وأمره غير مفروط بل هو حازم في أمره فليتمسك بعروته . (1)
ولأهمية هذا النوع من القدوة كان العلماء الأوائل يحرصون على اتخاذه لتربية ذواتهم فيلازمون مشايخهم وينقادون إليهم صابرين مطيعين . ويقرر الإمام الشاطبي هذا الأمر كقاعدة فيقول : وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك ، وقلما وجدت فرقة زائغة ولا أحد مخالف للسنة إلا وهو مفارق لهذا الوصف ، وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ ولا تأدب بآدابهم . وبضد ذلك كان العلماء الراسخون الأئمة الأربعة وأشباههم . (2)
وكافيك تبيانا لأهمية الملازمة أن العلماء كانوا يعدون ملازمة الأستاذ من شروط التحصيل العلمي والتربية العملية . يقول الشافعي – رحمه الله - (1) :
أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة وصحبة أستاذ وطول زمان
وقد يسأل مسترشد فيقول : وأين أجد مثل هذا النوع من القدوات ؟ فنقول له :
صحيح أنه يعز وجودهم في عصورنا المتأخرة ، ولكن إذا تلفت المرء يمنة ويسرة واستعرض أمام مخيلته أساتذته الذين تتلمذ عليهم في إحدى المؤسسات التربوية أو التعليمية من مسجد أو مدرسة أو جامعة أو غير ذلك فلاشك أنه سيجد بغيته ، ولربما تكون هذه القدوة من العلماء العاملين البارزين في المجتمع ممن يبعد آلاف الأميال ومع ذلك يسهل الاتصال بهم والغرف من معينهم للاستفادة من علومهم وجهودهم وتجاربهم التربوية
ولعل وجود أمثال هؤلاء القدوات أمام ناظري الإنسان يزيده تمسكا بتعاليم الدين وقيمه فيجاهد نفسه في ذلك لأنه يرى إمكانية تطبيق تلك التعاليم في أرض الواقع ، ومن يتبلور في حسه وشعوره أن الحل الديني المقتبس من الكتاب والسنة هو الحل الأمثل والأنجح لمشكلات الحياة ، فإنه لا يتردد لحظة في الأخذ بنصيحة أولئك الأفذاذ والاسترشاد بآرائهم ومشورتهم فيوفر على نفسه كثيرا من الوقت والجهد في سبيل البحث عن الأفضل والأصلح لذاته
المستوى الرابع
ويقع في هذا المستوى كل المعاشرين من الصحبة والرفقاء حيث أن الإنسان بطبعه ميال إلى الاستئناس بغيره والاتصال برفقة أو جماعة يشاركها أفراحها وأتراحها ويعيش في كنفها مؤثرا ومتأثرا بالقيم والمبادئ والصفات التي تتميز بها تلك الرفقة أو تلك الجماعة ، ومن هذا المنطلق اعتبر هذا المستوى مجالا من مجالات القدوة لما له من تأثير على شخصية الفرد سلبا وإيجابا ، ونجد في القرآن الكريم والسنة النبوية نصوصا كثيرة تدل على الاهتمام بهذا النوع من القدوة وتحث على الاختيار الحسن لها ، وإذا أراد أمرؤ أن يربي نفسه فليختر الرفقة التي تذكره بالله إذا نسي وتدله على الهدى إذا غفل وتعينه إذا فعل طاعة أو دل عليها ، قال تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم } [ التوبة : 71 ]
ومما يلاحظ أن الجليس يؤثر في من يجالسه من حيث يشعر أو لا يشعر ، والطباع والأرواح جنود مجندة يقود بعضها بعضا إلى الخير أو إلى ضده ، عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة ، [ مسلم : 4/2026 ]
ويزيد المرء تشبثا بهذه الصحبة علمه بأنها ترافقه في الدار الآخرة قد يشفع بعضهم لبعض بعد إذن الله تعالى ، فهي منفعة متحصلة في الدنيا وفي الآخرة ، يقول سبحانه : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } [ الزخرف : 67 ]
ويقول أيضا : { ما للظالمين من حميم ولا شفيع مطاع } [ غافر : 18 ]
ضوابط ومحاذير :(2/219)
هناك بعض الضوابط والمحاذير التي يجب أن تراعى عند اتخاذ القدوة كأسلوب من أساليب التربية الذاتية منها :
1ـ أن كل قدوة يؤخذ من أفعاله وأقواله البعض ويترك البعض إلا صاحب المستوى الأول في القدوة وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأن البشر يخطئون ويصيبون إلا الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه فإنهم معصومون
2ـ يترتب على ما ذكر في الضابط الأول أن تعرض أعمال القدوات وأحوالهم وأقوالهم على الكتاب والسنة ليرى مدى قربها أو بعدها عنهما فيؤخذ الموافق ويترك المخالف إن ظهر وتبين
3ـ لا ينبغي أن تفنى شخصية الفرد فناء مطلقا وتذوب في شخصية القدوة من المستويات الثلاثة الأخيرة كما يحدث عند بعض فرق الصوفية ، وخاصة في الأمور الجبلية مثل طريقة المشي والكلام واللبس وما شابه ذلك ، بل إن بعض الأمور الاجتهادية يحسن بالفرد أن يكون له رأي مستقل تبرز إمكانياته وقدراته وشخصيته
4ـ لا يعني تقسيم هذا الأسلوب إلى عدة مستويات أنه يمكن الاستغناء ببعضها عن الآخر ، ولكن الواجب استعمال كل مستوى في زمانه ومكانه المناسب
ثالثا : السؤال والحوار :
إن هذا الأسلوب من الأساليب التي لا يستغنى عنها الإنسان الذي منحه الله القدرة على النطق والتفكير ، وهو في حياته اليومية يجد نفسه في حوار أو سؤال مع جيرانه أو أصدقائه أو أهله أو غيرهم ، والمرء في حياته العادية يحتاج إلى هذا الأسلوب كي يشعر بالراحة والطمأنينة ، فما هو دور كل منهما كأسلوب من أساليب التربية الذاتية ؟ وكيف يمكن توجيهها لتحقيق هذا الغرض ؟
1ـ السؤال :
كل إنسان في هذه الحياة له طاقات معينة وبالتالي فإن معارفه محدودة ولن يحيط بكل شيء ، ومن عرف أشياء غابت عنه أشياء أخرى كثيرة ، ولذا تراه يبحث عن إجابات لما يجهل ، ومن ضمن وسائل الكشف عن المجهول السؤال
وللسؤال مزايا متعددة من توفير للجهد والوقت والمال ، كما أن فيه تحصيل منفعة ودفع مضرة في أمور الدنيا والدين ، خاصة إذا كان المسئول من أهل الخبرة والاختصاص ، قال تعالى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } [ النحل : 43 ، والأنبياء : 7 ]
ولما كان الأمر كذلك فلا ينبغي للعاقل التردد في السؤال والسكوت على الجهل حتى لا يحدث ما لا تحمد عقباه سواء في القريب العاجل أو في البعيد الآجل ، ويذكر عبد الحميد الهاشمي أن سكوت الإنسان على جهله قد يكلفه غير قليل من تجارب فاشلة ومن آلام ومتاعب ، لأنه لو عرف الإجابة الموفقة لضمن لنفسه العمل السليم أو السلوك الصائب لاسيما في أمور تتصل بالمحاولة والخطأ والتجريب (1)
وتذكر لنا كتب السيرة مثلا يبين مغبة تجاهل السؤال لطلب العلم وتلقي المعرفة ، عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه فقال : هل تجدون لي رخصة في التيمم ، فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات ، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال : قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال ... الحديث
[ أبو داود : 1/239 ، وصححه الألباني في إرواء الغليل برقم 105]
ولأهمية السؤال حرص الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ رجالا ونساء على السؤال عما يخفى عليهم من أمور دينهم وورد في القرآن الكريم ما يدل على ذلك مثل قوله : يسألونك ويستفتونك ، وليس هذا خاصا بالرجال بل حتى النساء أيضا ، تقول عائشة بنت الصديق ـ رضي الله عنهما ـ : ...نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين [ مسلم : 1/261] ، ولم يحقق عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ دعوة رسول الله له بالتفقه في الدين إلا بسؤال أهل العلم حتى أنه كان يقول : إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (1)، فبلغ في ذلك شأنا بعيدا حتى أن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان يجله ويكرمه لعلمه وكان يدنيه ويستشيره في المعضلات
روى الإمام أحمد عن الزهري بسند ضعيف قال : قال المهاجرون لعمر : ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس قال : ذاك فتى الكهول إن له لسانا سؤولا وقلبا عقولا (2)
وذكر ابن عبد البر قول عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : زيادة العلم الابتغاء ودرك العلم السؤال فتعلم ما جهلت واعمل بما علمت ، كما ذكر قول ابن شهاب : العلم خزانة مفاتحها المسألة(3)
وقال أمية بن الصلت (4) :
لا يذهبن بك التفريط منتظرا طول الأناة ولا يطمح بك العجل
فقد يزيد السؤال المرء تجربة ويستريح إلى الأخبار من يسل
وليس ذو العلم بالتقوى كجاهلها ولا البصير كأعمى ما له بصر
فاستخبر الناس عما أنت جاهله إذا عميت فقد يجلو العمى الخبر
ويحمل بالسائل أن يتأدب بآداب السؤال فلا يرفع صوتا ولا يقاطع متكلما ، ويراعي اختيار الألفاظ المناسبة في غير ما تكلف ، ثم ينتظر الإجابة في تواضع واحترام وينصت لفهمها واستيعابها
ومن عود نفسه على السؤال زادت ثقته بنفسه وشعر بالطمأنينة والارتياح لمعرفة الإجابة عما كان يجول بخاطره ويشغل ذهنه ، وإن لم يجد الإجابة لدى المسئول فحسبه أنه بذل وسعه ، وربما يعاود السؤال في مناسبة أخرى
2_ الحوار :
هو نوع من الحديث يتم بين شخصيتين ـ على الأقل ـ يتبادلان فيه وجهات النظر ، ولكل منهما فرصة متكافئة في طرح الآراء والرد عليها ، وعادة ما يتسم الحوار بالهدوء والرزانة بعكس الجدل المتميز بالمخاصمة ورفع الصوت ، وقد تتضح أثناء الحوار مفاهيم خاطئة أو أمور غامضة أو أسئلة حائرة لا يجد لها أحد المتحاورين أو كلاهما إجابة حتى يكون الحوار(2/220)
وقد عني القرآن الكريم والسنة المطهرة بالحوار عناية بالغة ، وذلك لأهميته للإقناع الذاتي فهو : الطريق الأمثل للاقتناع الذي ينبع من أعماق صاحبه ، والاقتناع هو أساس الإيمان الذي لا يمكن أن يفرض فرضا وإنما ينبع من داخل الإنسان(1)
ولكي يحدث هذا الاقتناع لابد من إخلاص النية والتجرد للوصول إلى الحق بغض النظر عن الأهواء والشهوات أثناء الحوار مع الآخرين أو حتى مع النفس
يقول تعالى : { قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد }[ سبأ : 46 ]
فهذه دعوة لكل من يريد أن يصل إلى الصواب مع من يحاوره أو يخالفه في الرأي وذلك بالتجرد لله تعالى أثناء المحاورة وبعدها وقبلها ، يقول سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ حول ظلال هذه الآية :
وهنا يدعوهم دعوة خالصة إلى منهج البحث عن الحق ( قل إنما أعظكم بواحدة ) إنها دعوة إلى القيام لله بعيدا عن الهوى ، بعيدا عن المصلحة ، بعيدا عن ملابسات الأرض بعيدا عن الهواتف والدوافع التي تشتجر في القلب فتبعد به عن الله ، بعيدا عن التأثر بالتيارات السائدة في البيئة والمؤثرات الشائعة في الجماعة ، دعوة إلى التعامل مع الواقع البسيط لا مع القضايا والدعاوى الرائجة ولا مع العبارات المطاطة التي تبعد العقل والقلب عن مواجهة الحقيقة في بساطتها
دعوة إلى منطق الفطرة الهادئ الصافي بعيدا عن الضجيج والخلط واللبس والرؤية المضطربة والغبش الذي يحجب صفاء الحقيقة ، وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن الحقيقة ، منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب والغواشي والمؤثرات وعلى مراقبة الله وتقواه ، وهي واحدة إن تحققت صح المنهج واستقام الطريق ، القيام لله لا لغرض ولا لهوى ولا لمصلحة ولا لنتيجة .. التجرد .. الخلوص ، ثم التفكر والتدبر بلا مؤثر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجردون . ( أن تقوموا لله مثنى وفرادى ) مثنى ليراجع أحدهما الآخر ويأخذ معه ويعطي في غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارئ ولا تتلبث لتتبع الحجة في هدوء ، ... وفرادى مع النفس وجها لوجه في تمحيص هادئ عميق . ( ثم تتفكروا ) فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبر والرزانة وما يقول شيئا يدعو إلى التظنن بعقله ورشده إن هو إلا القول المحكم المبين (1)
وليس الوصول للحق هو الهدف الوحيد من الحوار بل إن هناك أهدافا أخرى منها استعادة المعلومات ومراجعتها لتثبيتها بدل أن تبقى رهينة العقول وفي ذلك يقول الزهري : إنما يذهب العلم بالنسيان وترك المذاكرة . ويقول آخر : مطارحة ساعة خير من تكرار شهر . ومن محاسن الحوار ما يلخصه الهاشمي فيما يلي (2) :
1ـ أنه يحترم الذات الإنسانية فلا يفرض عليها الأفكار والتجارب والخبرات فرضا وإنما تنمو مع الذات عن طريق اكتسابها شخصيا عن طريق المناقشة .
2ـ أنه يشجع روح النقد الذاتي في الإنسان لمراجعة أفكاره وخبراته بين حين وآخر
3ـ استغلال الجانب الإيجابي التفكيري في الشخصية الإنسانية في مراقبة الجوانب الأخرى للشخصية في السلوك والإدراك والانفعال .
4ـ الحث على التفكير العميق في جوانب الموضوع المحدد أو إلى إجراء الاستقصاء والملاحظة والتجربة بعيدا عن التلقي والحفظ والترديد .
5ـ توجيه غير مباشر لزيادة ثقة الفرد بنفسه عند طرح الأفكار أو الرد عليها .
ولأهمية الحوار في العلاقات الإنسانية التي تعود بالتأثير المباشر على الإنسان نذكر فيما يلي أسس وأصول الحوار التي ينبغي أن يراعيها الفرد في محاوراته :
1ـ حسن الاستماع والاهتمام بكلام الطرف الآخر وعدم الاستئثار بالحديث .
2ـ الحذر من الكذب والغموض واللف والدوران .
3ـ التسليم بالخطأ والإنصاف في الحكم والنقاش .
4ـ مراقبة النفس أثناء الحوار لكي لا يخرج الحوار عن طبيعته الهادئة .
5ـ التواضع عند كسب الحوار وتجنب الشماتة وكل ما يشعر بالاحتقار (1) .
ولكي يسير الحوار في طبيعته الهادئة بعيدا عن الفظاظة والغلظة يحسن أن تتوفر بعض الأمور المتعلقة بالثقافة الذاتية للفرد المحاور أو مدى فهمه للخلفية الثقافية للطرف الآخر وتلخصها فيما يلي :
1ـ مراعاة الفروق الفردية وتفاوت العقول في المناقشة والفهم .
2ـ الحرص قدر الإمكان على حسن البيان وتوضيح الأفكار بالأمثلة وغيرها .
3ـ البدء بمواطن الاتفاق والنقاط المشتركة .
4ـ توثيق الحوار من الناحية العلمية والإسنادية بذكر المصادر والإحصائيات .
5ـ عدم التعرض لكلام الطرف الآخر ومناقشته قبل فهمه تماما .
6ـ الإحاطة بمواطن الخلاف لكي يمكن الرد عليها أو قبولها . (2)
رابعا : العزلة والمخالطة
لقد كثر الجدل حول هذين الأمرين – العزلة والمخالطة – وأيهما أفضل للمرء لتربية ذاته . فذهب بعض العلماء والمربين إلى أن العزلة أفضل وأولى في جميع الأحوال ، ورجح البعض الآخر أن الخلطة أفضل . والصواب أن يقال أنه لا يمكن التفريق بينهما ولا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر ، فلكل منهما أثر في التربية الذاتية . ويتبين فيما يلي آثار كل منهما وفوائدهما ومتى تكون ولمن تكون مستدلين في ذلك بالكتاب والسنة .
1ـ فوائد العزلة في التربية الذاتية :(2/221)
أ ـ التفرغ للعبادة والتفكر والاستئناس بمناجاة الله تعالى عن مناجاة الخلق ، ويتضح هذا جليا في الحث على قيام الليل والناس نيام والحث على صلاة المرء في بيته عدا المكتوبة . ومن الأمثلة في ذلك قصة أصحاب الكهف الذين اعتزلوا قومهم فرارا بدينهم وتفرغا لعبادة الله ، قال تعالى : { وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا } [ الكهف : 16 ] . وكذلك اعتزال أهل الفسق والباطل ومفاصلتهم وخاصة أثناء مقارفتهم للمعاصي والمنكرات كي يسلم المرء من أذاهم وباطلهم كما قال إبراهيم عليه السلام لقومه : { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا } [ مريم : 48 ] . وقيل لبعض الحكماء ما الذي أرادوا بالخلوة واختيار العزلة فقال يستدعون بذلك دوام الفكرة وتثبيت العلوم في قلوبهم ليحيوا حياة طيبة ويذوقوا حلاوة المعرفة . وقيل لبعضهم : ما أصبرك على الوحدة . فقال : ما أنا وحدي . أنا جليسي الله تعالى إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه وإذا شئت أن أناجيه صليت ، وقال الفضيل : إذا رأيت الليل مقبلا فرحت وقلت : أخلو بربي ، وإذا رأيت الصبح أدركني استرجعت كراهية لقاء الناس وأن يجيئني من يشغلني عن ربي (1)
ب ـ الابتعاد عن المعاصي التي يتعرض لها الإنسان غالبا بالمخالطة مثل الغيبة والنميمة والرياء والتزين للناس ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تجد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه . [ البخاري : 4/102 ] .
وقال الخطابي (1) : ولو لم يكن في العزلة إلا السلامة من آفة الرياء والتصنع للناس وما يدفع إليه الناس إذا كان فيهم من استعمال المداهنة معهم وخداع المواربة في رضاهم لكان في ذلك ما يرغب في العزلة .
وإذا تخلصت الذات من شرورها وسلبياتها أصبحت قوة فعالة واتجهت للبناء والتنمية والسمو بالذات إلى مراتب الكمال .
جـ ـ الخلاص من الفتن والخصومات وصيانة الدين والنفس عن الخوض فيها والتعرض لأخطارها . ويتأكد اعتزال الناس حينما تظهر الفتن برؤوسها ، قال صلى الله عليه وسلم : إن بين أيديكم فتنا كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي . قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : كونوا أحلاس بيوتكم . [ أبو داود : 4/459 ] .
فيتعين على الإنسان الاعتزال وذلك عندما لا يكون هناك فائدة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس من المستطاع الاحتفاظ بالمبادئ والقيم ويكون في هذه الحالة من الأولى التزام البيوت سلامة للدين وحفظا للذات من الانسلاخ .
د ـ السلامة من شرور الناس وحسدهم ومكرهم وانقطاع الطمع عما في أيديهم ، وهذه الفائدة متحصلة في كل حال من اعتزال الناس . قال تعالى : { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى } [ طه : 131 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله [ مسلم : 4/2275 ] .
2ـ فوائد الخلطة في التربية الذاتية
أ ـ التعلم والتعليم : بين الباحث في مبدأ الحرية وحرية العلم خاصة أن هناك أمورا لا يعذر المرء المسلم بجهلها وينبغي عليه أن يتعلمها وهذه غالبا لا يمكن تحصيلها بغير المخالطة . ويجب على من آتاه الله علما أو فقها ألا يكتمه ويحجر عليه ، بل الواجب مخالطة أفراد المجتمع لتعليمهم وإفادتهم .
ب ـ التأدب والتأديب وهاتان اللفظتان تحمل معنى أخص من التعلم والتعليم . فالتأدب كما قال الإمام الغزالي – رحمه الله – يعني : الارتياض بمقاساة الناس والمجاهدة في تحمل أذاهم كسرا للنفس وقهرا للشهوات (1) .
والمقصود من ذلك ترويض النفس على التحلي بالأخلاق الفاضلة التي لا تظهر إلا بالاحتكاك مع الآخرين وكثرة التعامل معهم . ومن هذه الأخلاق التضحية والإيثار والتعاون والصفح عن الإساءة وغير ذلك .
أما التأديب فتعني ترويض الآخرين وتأديبهم وتهذيبهم . وهذا المقام يناسب حال المعلم مع طلابه والمربي مع مريديه أو العالم والشيخ مع أفراد مجتمعه ، فيصبر على كثرة مخالطتهم وشغل أوقاته احتسابا لله ومتأسيا في ذلك بأحوال الدعاة الأوائل من سلف هذه الأمة الذين ندبوا أنفسهم وأوقاتهم في الدعوة إلى الله وتعليم الناس الخير . قال تعالى : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين } [ يوسف : 108 ] . وقال صلى الله عليه وسلم : المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم . [ ابن ماجة : 2/1338 ، وأورده الألباني بإسناد حسن في الصحيحة برقم 939 ] .
جـ ـ نيل الثواب وترويح النفس : ففي مخالطة الناس أداء بعض الفرائض والواجبات كحضور الجمع والجماعات وأداء الحقوق المفروضة بين المسلمين أنفسهم كعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وكذا حضور مجالس الذكر التي يباهي الله بها ملائكته ، كما أن في اللقاء بالإخوان ترويحا للقلب وتهييجا لدواعي النشاط في العبادة والاستئناس بالمشاكلين والحديث معهم ولذا يوصي الإمام الغزالي في هذا المقام بوصية ثمينة فيقول : وليحرص أن يكون حديثه عند اللقاء في أمور الدين وحكاية أحوال القلب وشكواه وقصوره عن الثبات على الحق والاهتداء إلى الرشد ففي ذلك متنفس ومتروح للنفس وفيه مجال رحب لكل مشغول بإصلاح نفسه فإنه لا تنقطع شكواه ولو عمر أعمارا طويلة ، والراضي عن نفسه مغرور قطعا (1) .(2/222)
وفي أداء الجمع والجماعات وحضور اجتماعات إخوانه المسلمين تحقيق للعبودية المطلقة للخالق . والنفس بطبعها تضعف وتفتر أحيانا ولكنها تقوى وتثبت عند مخالطة مثيلاتها ممن يسيرون على ذات المنهج
د ـ معرفة الواقع وكيد الأعداء : إن المسلم المعاصر يعيش في ظروف وملابسات تختلف عن تلك التي كان يعيشها إخوانه الذين سبقوه بالإيمان في العصور الماضية . فللباطل اليوم صولة وجولة ، والجاهلية المعاصرة تخطو خطوات حثيثة وبوسائل حديثة لإقصاء تيار التربية الإسلامية عن التغيير في مجريات الأحداث لتعبيد العباد لرب العباد في الوقت الذي بذلت فيه تلك الجاهلية قصارى جهودها وإمكانيتها لتعبيد العباد للشهوات والطواغيت . ولقد نجحت في ذلك إلى حد كبير . إن الإسلام اليوم لا يستقيم عموده فقط بدعاء شيخ في زوايا المسجد أو بإلقاء خطب رنانة جوفاء لا مكان لها في الواقع ، ولا يستقيم كذلك بنشر تصريحات في الجرائد والمجلات المشبوهة بل لابد من الجهاد . الجهاد مع النفس والجهاد ضد الأعداء والجهاد مع الشهوات والشبهات . ومن أنواع الجهاد ضد الأعداء معرفة ورصد الخطط والمؤامرات التي يدبرها أولئك الأعداء ضد المسلمين عملا وتنفيذا لقوله تعالى : { وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } [ الأنعام : 55]
فلا يمكن لمسلم اليوم أن يعيش بمعزل عن البيئة والأحداث ولا يمكن أن ينجو من أحابيل شياطين الإنس والجن إن لم يكن يقظا فطنا لما يجري حوله وما يقع تحت بصره ويده من مستجدات وأمور وما وصل المسلمون إلى الحالة التي نراها عليهم اليوم إلا بعد أن لدغوا مرات ومرات ، والرسول صلى الله عليه وسلم يحذر أمته قائلا : لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين . [ البخاري : 4/115 ] ويقول الخليفة الملهم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - : لست بالخب ولا يخدعني الخب .
ومعرفة الواقع تشمل العناية والاهتمام بأحوال المسلمين في أرجاء المعمورة لقوله صلى الله عليه وسلم : المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم المؤمن لما يصيب أهل الإيمان كما يألم الرأس لما يصيب الجسد . [ رواه أحمد وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم 6535 ] . ومن حديث النعمان بن بشير يقول صلى الله عليه وسلم : المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه اشتكى كله وإن اشتكى عينه اشتكى كله . [ أحمد : 4/271 ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 6544 ] ولقوله أيضا : من لم يهتم للمسلمين عامة فليس منهم . [ ذكره الألباني في الضعيفة برقم 309 ]
إن دراسة الواقع وفهمه فهما جيدا من الأمور الهامة جدا في حياة المسلمين لأنها تتعلق ليس بالأفراد فحسب ولكن بالمجتمعات أيضا . وتعد مرحلة دراسة الواقع من المراحل المتقدمة في التربية الذاتية حيث أنها تستلزم فيمن ينبري لها أن تتوفر لديه مقومات عدة من أهمها (1) :
- القناعة بأهمية فقه الواقع وحاجة الفرد والأمة إليه .
- التأصيل العلمي الشرعي الذي يبنى على الكتاب والسنة .
- سعة الاطلاع وتجدده وخاصة من المصادر المباشرة والأصلية للمعلومات .
- القدرة على الربط والمقارنة والتحليل والاستنتاج والتنبؤ .
- التفاعل الإيجابي والممارسة العملية في الميادين المختلفة .
وإذا ما تحققت تلك المقومات فسيكون من ثمراتها ونتائجها ما يلي (2) :
- حماية المسلم لنفسه ولإخوانه من كيد الأعداء وألاعيبهم .
- إبطال كيد الأعداء وفضح خططهم ومؤامراتهم الحالية والمستقبلية .
- ربط الأسباب بمسبباتها واتخاذ المواقف الصحيحة والوصول إلى النتائج السليمة والمحكمة .
- تحقيق التربية الشاملة المتكاملة والثبات على الطريق .
فالخلاصة فيما ذكر من فوائد العزلة والمخالطة أن لكل منهما حالات وأوقات ، وهي تختلف من شخص لآخر حسب وضعه الاجتماعي وعلمه وفقهه وحسب الباعث له على أي منهما ، ولكن ينبغي لزوم القصد في حالتي العزلة والخلطة كما أوصى بذلك الحافظ أبو سليمان الخطابي حين قال : والطريقة المثلى في هذا الباب ألا تمتنع من حق يلزمك للناس وإن لم يطالبوك به وألا تنهمك لهم في باطل لا يجب عليك وإن دعوك إليه فإن من اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يعنيه ، ومن انحل في الباطل جمد عن الحق فكن مع الناس في الخير وكن بمعزل عنهم في الشر وتوخ أن تكون فيهم شاهدا كغائب وعالما كجاهل . (1)
وقد يحدث عند الاختلاط بالإخوان بعض المزالق التي ينبغي أن يحذر منها ، ويفصل ذلك ابن القيم (2) – رحمه الله – قائلا :
الاجتماع بالإخوان قسمان : أحدهما على مؤانسة الطبع وشغل الوقت فهذا مضرته أرجح من منفعته وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت .
الثاني : الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها ولكن فيه ثلاث آفات :
أ – تزين بعضهم لبعض .
ب ـ الكلام والخلطة أكثر من الحاجة .
جـ ـ أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود من الاجتماع .
* * * * *
المبحث الثالث
استغلال الوقت
أولا – العادة
تعرف العادة بأنها : ميل نفسي متعلم مكتسب بالتكرار والخبرة للقيام بذات الأعمال السلوكية بحيث يقوم الإنسان بها بطريقة آلية عفوية إلى حد بعيد ويطمئن إليها الفرد سعادة في تمام الأداء (1) .
ولما كانت التربية أساسا مبنية على الممارسة والتطبيق لمبادئها المتعلقة بها فإن الأفكار النظرية المجردة لن يكون لها أثر إذا لم تظهر إلى عالم الواقع ويعمل بها وتنطبق هذه الخاصية تماما في التربية الإسلامية التي يقترن فيها الإيمان بالعمل الصالح وتقترن فيها النية المضمرة بالحركة الحية . وقديما قال الحسن البصري (2) : ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل .(2/223)
فمن المهم أن يبدأ المسلم العمل ولكن الأهم أن يستمر عليه ويداوم عليه . قال تعالى : { فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم } [ الزخرف : 43 ] وقال أيضا : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [ الأحقاف : 13 ] .
إن الاستقامة على الطريق ضمان للوصول إلى نهايته وإن التعود على الأعمال الصالحة والاستمرار عليها تثبيت للنفس الإنسانية لمواجهة أعباء الطريق وتكاليفه وصرف لمكايد الشيطان ونوازغه . ومن هنا تظهر أهمية هذا الأسلوب في التربية الذاتية لذا كان صلى الله عليه وسلم يحث صحابته على ملازمة هذا الأسلوب ، فها هو يقول لعبد الله بن عمر – رضي الله عنهما - : يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل .
[ النسائي : 3/253 ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 7822 ]
ويقول أيضا : أديموا الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد . [ رواه الطبراني في الأوسط نقلا عن الألباني في الصحيحة برقم 1185 ] .
وللسلوك المعتاد تأثير قوي على النفس البشرية ، ففيه تربية على الثبات وتعزيز للمفاهيم وتقوية للإرادة وبذا يجنبها كثيرا من الانحرافات والانتكاسات . ومن إيجابيات السلوك المعتاد أنه اقتصاد للجهد الفكري والحركي وسرعة الأداء مما يتيح المجال لأنشطة أخرى . بالإضافة إلى أن العادة تجعل الإنسان ذا استعداد نفسي لأداء السلوك الاعتيادي في المواقف المناسبة (1)
فإذا عود المرء على الفضائل فإنها تنقاد له وإذا تهاون في ذلك فقد تصبح مستعصية كما قال الشاعر :
والنفس كالطفل إن ترضعه شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم .
يقول زغلول النجار : إن تكوين الأخلاق الفاضلة لا يتم بالوعظ فقط ولا بالحفظ وحده ولا بالاقتناع العقلي بمفرده بل يحتاج إلى ممارسة فعلية يقوم بها الإنسان حتى يتعود هذه الأخلاق الفاضلة فتصبح جزءا من كيانه وطبيعة فيه لا يطمئن قلبه بغيرها ولا يرتاح ضميره إذا خرج عليها فتعود المرء على النظام والأمانة وضبط النفس والتعاون مع غيره والتسامح مع المخالفين له والتضحية في سبيل المجموع يتطلب مرانا وممارسة من الإنسان طوال حياته حتى تتأصل تلك الخصال فيه . (2)
وتثبيتا لهذا الأسلوب فقد أوكلت التربية الإسلامية تطبيقه لكل فرد حسب طاقته وقدرته . عن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة قال : من هذه ؟ قالت : فلانة تذكر من صلاتها . قال : مه عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا . وكان أحب الدين ما داوم عليه صاحبه .
[ البخاري : 1/30 ]
قال الإمام النووي – رحمه الله – مه كلمة زجر ونهي ، ومعنى لا يمل الله لا يقطع ثوابه عنكم وجزاء أعمالكم ويعاملكم معاملة الحال حتى تملوا فتتركوا ، فينبغي لكم أن تأخذوا ما تطيقون الدوام عليه ليدوم ثوابه لكم وفضله عليكم (3) . وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أي الأعمال أحب إلى الله تعالى ؟ قال : أدومها وإن قل .
[ البخاري : 4/184 ] .
واستنبط ابن رجب – رحمه الله – من هذا الحديث أمرين هامين تتميز بهما الأعمال التي يحبها الله عز وجل هما (1) :
أولا : ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليل المقدار أو العدد
ثانيا : ما كان على وجه السداد والاقتصاد والتيسير دون ما كان على وجه التكلف والاجتهاد والتعسير ، أي حسب كل إنسان بذاته .
ومن التطبيقات التي يراها الباحث لهذا الحديث أن يكتفي المرء في قيام الليل بثلاث ركعات أو خمس مع المداومة عليها خير وأفضل عند الله من صلاة أحد عشر ركعة أو أكثر في ليلة من الليالي ثم الانقطاع عن هذه العبادة في الليالي التالية . كما أن صيام يوم واحد أو ثلاثة أيام من كل شهر أحب إلى الله من صيام عدة أيام في شهر من الشهور ثم الانقطاع ... وهكذا في سائر العبادات والأعمال الحسنة . فكل إنسان يعرف قدر استطاعته فيثبت عليه ولا ينقص منه ، روي عن الحسن قوله(2): إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوما على طاعة الله عز وجل فبغاك وبغاك ، فإن رآك مداوما ملك ورفضك ، وإذا رآك مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك
ومن فضل الله وكرمه أن المسلم إذا اعتاد وداوم على طاعة من الطاعات ثم جاء ما يصرفه عن أدائها من عجز أو مرض أو فتنة ، فإن أجره لن ينقطع ولن يتوقف حتى يزول ذلك الصارف ، والدليل على ذلك ما رواه أبو بردة قال : سمعت أبا موسى مرارا يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا [ البخاري : 2/357]
وفي الحديث : إذا اشتكى العبد المسلم قال الله تعالى للذين يكتبون اكتبوا له أفضل ما كان يعمل إذا كان طلقا حتى أطلقه
[ أحمد : 2/502 ، وانظر الصحيحة رقم 1232]
وليرغب هادي البشرية أفراد أمته في المداومة على عبادة الله من الصغر حتى الكبر ومن الشباب حتى الشيخوخة يقول : الشيب نور المؤمن ، لا يشيب رجل في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة ورفع بها درجة
[ رواه البيهقي في الشعب ، نقلا عن الألباني في الصحيحة برقم 1243 ]
وورد أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ذلك الشاب الذي نشأ في طاعة الله ، فليحرص المرء في سيره إلى ربه أن يكون من العارفين لله في كل وقت من الأوقات ومن الذين يحرصون على فعل الطاعات في كل الأمكنة ، فإنه بذلك يقطع دابر شياطين الإنس والجن
ثانيا : ملء الفراغ(2/224)
الفراغ في اللغة كما يقول ابن منظور : الخلاء (1) ، وعليه يكون وقت الفراغ هو الوقت الذي يكون صاحبه خاليا من المشاغل فيملؤه بما يريد . أي هو الوقت الذي يكون الفرد فيه حرا من ارتباطات العمل أو أية التزامات أخرى بحيث يمكن الاستفادة من هذا الوقت في الراحة أو الاسترخاء أو في ممارسة أنواع من النشاط تعود عليه بتطوير ذاته وتربية نفسه
ويعرف باعتبار وظيفته للفرد بأنه مجموعة الوظائف أو الأنشطة التي ينغمس فيها الفرد بمحض إرادته وذلك بحثا عن الراحة والمتعة أو لغرض تنمية ثقافته ومعلوماته أو لتحسين مهارته أو للإسهام في تقديم خدمات تطوعية للمجتمع الذي يحيط به وذلك بعد تركه لعمله الأساسي سواء العائلي أو الاجتماعي (2)
وقد أولت التربية الإسلامية عناية بالغة بالأوقات عامة وبوقت الفراغ خاصة لما لها من أثر عظيم في حياة الفرد والمجتمع . قال تعالى : { وجعلنا الليل والنهار آية فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا } [ الإسراء : 12 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ .
[ البخاري : 4/175 ]
والحديث يبين مدى خسارة من يفرط في استغلال نعمتي الصحة والفراغ . وإذا كان الوقت هو رأس مال المسلم الذي يتاجر فيه بالطاعات واكتساب الحسنات ، فإن الفراغ هو مكسب إضافي يتزود فيه لنيل أعلى الدرجات وتحصيل المنافع الجمة ، ومع ذلك نجد الكثير والكثير من أوقات الفراغ في حياة الأمة تضيع هباء وتذهب سدى ، ولو افترضنا على سبيل المثال أن مسلما قضى ساعة واحدة فقط لمشاهدة فيلم هابط أو مسرحية داعرة فهذا يعني بلا مراء أن ملايين الساعات بل بلايينها من وقت الأمة قد صرف في غير ما فائدة ، وليضع المتدبر الواعي في باله الساعات التي تضاع وتهدر في أمور أخرى مثل التسكع في الأسواق والجلوس في المقاهي والطرقات أو في المسامرات والسهرات بلا رقيب ولا وازع من سلطان أو قرآن .
ولا يستغرب بعد هذا أن نسمع ونقرأ تقارير الخبراء والمختصين عن قلة النتاج القومي أو نقص الموارد البشرية أو عن الإهدار الكمي والكيفي للطاقات والمواهب والقدرات وكذلك العجز المزمن في ميزانيات الدول والشعوب المسلمة . ولبيان خطورة هذه القضية يكفي أن يشير الباحث إلى ما ذكر في الفصل الثاني حول الأسئلة التي يسأل عنها يوم القيامة كل فرد ومنها عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه ، وهذا غير الخسائر المادية والصحية والاجتماعية التي تصيب الفرد والمجتمع في الدنيا من جراء ذلك .
إذا علم ما سبق فبضدها تتميز الأشياء . وكما أن في إضاعة الوقت خسائر فادحة فإن في استغلاله مكاسب عظيمة . ومن أراد تربية نفسه فليحرص على اتباع هذا الأسلوب بألا يدع وقتا من أوقاته إلا شغله ولا فراغا إلا ملأه لأن النفس إذا لم تشغلها بطاعة شغلتك بمعصية . وللفراغ الذي ينبغي أن يشغل عدة أضرب :
1ـ فراغ عقلي ويقصد به خلو الذهن من الآراء والمعتقدات والأفكار السليمة التي تسير المرء في حياته .
2ـ فراغ قلبي وهو خلو القلب من الإيمانيات التي تصل الإنسان بالملأ الأعلى ولها تأثير مباشر على تصرفاته وسلوكه .
3ـ فراغ حسي ويشمل الدقائق والساعات التي يقضيها الفرد بعد أداء نشاطاته الأساسية وهو الذي يدعى بوقت الفراغ .
والمسلم الحق لا يشعر عادة بالفراغ العقلي أو بالفراغ الروحي لأن اعتناقه بالعقيدة الإسلامية قولا وعملا يشغل حيزا كبيرا من هذين الضربين من الفراغ . أما الفراغ الحسي فمن المفترض أن يقضيه المسلم في أمر نافع لاكتساب الخبرات والمعارف التي يبني عليها السلوكيات الموافقة لمعتقداته والتصرفات المنبثقة عن مكونات سرائره ، بالإضافة إلى إبراز دوره في الأنشطة الاجتماعية المختلفة . ولو أحسن الفرد استغلال وقت الفراغ وملأه بما يفيد حسيا ومعنويا لأسهم ذلك مساهمة كبيرة جدا في تربية ذاته وتحقيق دوره في الحياة .
وسائل ملء الفراغ
أبرزت التربية الحديثة وسائل عدة لملء الفراغ وشغله ولكن الحقيقة أنها ليست كلها موافقة لأسس التربية الإسلامية ، بل إن بعضها مما يضادها ويناقضها ، ومن كان حريصا على تربية ذاته يسعى لملء أوقاته بما يفيد حتى لا يصاب بالحسرة والندامة . ورد عن معاذ – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها . [ رواه الطبراني في الكبير ، نقلا عن الألباني في صحيح الجامع برقم 5322 ] .
ويمكن تقسيم وسائل ملء الفراغ للتربية الذاتية إلى نوعين هما :
1ـ وسائل مفيدة 2ـ وسائل ضارة
وسيورد الباحث أمثلة لهذين النوعين من الوسائل مبينا أثرها في التربية الذاتية .
1ـ الوسائل المفيدة :
إن الذات المسلمة في حاجة ماسة لما يزيدها اتصالا بالله ومعرفة بأحكامه وشرائعه . ولذا فهي تستخدم الوسائل المناسبة لتغطية هذا الجانب . ولا بأس من شغل الفراغ بالولوج في باب المباحات بقدر مناسب حتى لا يطغى هذا الجانب على المفروضات . ومن الوسائل المفيدة لملء الفراغ :
أ ـ القراءة ب ـ المحاضرات والندوات جـ ـ اللهو المباح .
أ ـ القراءة :
ما من شك في أن الكلمة المقروءة ستظل حتى قيام الساعة مصدرا أصيلا من مصادر تحصيل العلم والمعرفة لدى الفرد المسلم . ذلك أنه ورد في الكتاب العزيز قوله تعالى : { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم } [ العلق : 1 – 5 ](2/225)
وهذه الآيات محفوظة إلى قيام الساعة بحفظ الكتاب العزيز ، وللقراءة فوائد عديدة فهي تفتح مغاليق أسرار الوجود ، أسرار ما يعلم الإنسان وما لا يعلم . وهي مفتاح المعرفة والطريق إلى سعادة الدار الآخرة والوسيلة إلى الاتصال بعقول البشر ومعرفة أفكارهم والطريق الذي يمدنا بما يقع في الكون وما يدور في البيئة من أحداث . وهي إلى جانب ذلك متعة في أوقات فراغنا (1) .
وقد كان للسلف من علماء الأمة وأدبائها شغف كبير بالقراءة وولع شديد بالكتب واقتنائها ، ولهم في ذلك أقوال مأثورة ، ورد عن بعضهم قوله : لا شيء آثر للنفس ولا أشرح للصدر ولا أوفر للعرض ولا أذكى للقلب ولا أبسط للسان ولا أشد للجنان ولا أكثر وفاقا ولا أقل خلافا ولا أبلغ إشارة ولا أكثر عبارة من كتاب تكثر فائدته وتقل مؤونته وتسقط غائلته وتحمد عاقبته وهو محدث لا يمل وصاحب لا يخل وجليس لا يتحفظ ومترجم عن العقول الماضية والحكم الخالية والأمم السالفة ، يحيي ما أماته الحفظ ويجدد ما أخلقه الدهر ويبرز ما حجبته الغباوة ويصل إذا قع الثقة ويدوم إذا خان الملوك(2) .
وحتى تساهم القراءة في ملء الفراغ وتربية الذات ينبغي أن يخصص الإنسان جزءا من وقته اليومي للقراءة الهادفة في الكتب والمجلات النافعة . وقد يحتار المرء في القراءة بأي المواضيع يبدأ وفيم يقرأ ولمن يقرأ ، وهنا تأتي مشورة الأستاذ الواعي والمرشد الناصح . ويقترح المؤلف بعض المواضيع والتي لها تأثير مباشر في تربية الذات المسلمة . وتمتاز هذه المواضيع بأنها مهمة لكل النفوس المؤمنة ولا يستغني عنها الفرد المكلف في أي مرحلة من مراحل حياته . وينصح بالاطلاع على الكتب التي تطرق هذه الجوانب ، وهذه المواضيع هي :
- جانب العبادات والسنن .
- السيرة النبوية وتراجم الصالحين
- المواعظ وأعمال القلوب كالإخلاص والتوكل والمراقبة والخوف والرجاء والإنابة وغير ذلك .
- صفات الشخصية المسلمة والخلق الإسلامي .
وهذا التخصيص لا ينافي القول بأن في قراءة الدوريات المتخصصة أو الكتب المتنوعة تثقيف للإنسان وزيادة معلوماته واستفادة من خبرات الآخرين . ولكن ليس المهم أن يمتلئ الذهن بالمعلومات فقط ولكن المهم تحكيم ما يقرأ على ضوء القواعد الثابتة من الكتاب والسنة ، وبذا يكون القارئ مثقفا واعيا . يقول الجاسر (1) : وهكذا تكون القراءة معرفة ونموا وتكون وعيا ونضجا . فكل خطوة يخطوها القارئ تصبح فيما بعد سلما إرشاديا يساعده على وضوح الرؤية ودقة الحكم ويظل نضجه العقلي يتنامى بصورة مطردة ليصبح بعد ذلك محكا حساسا وصادقا لكل محاولة تضليلية وكل محاولة غزو خارجية وداخلية .
ومن المهم اقتناء الكتب في المنزل للرجوع إليها وقت الحاجة وشغل أوقات الفراغ بها وتعويد النفس على ذلك . ومن طريف الذكر أن بعض الأدباء عوتب على لزومه منزله وتركه محادثة الرجال فأجاب بجواب مدح فيه كتبه فقال :
لنا جلساء ما نمل حديثهم ألباء مأمونون غيبا ومشهدا
يفيدوننا من رأيهم علم من مضى وعقلا وتأديبا ورأيا مسددا
بلا مؤنة تخشى ولا سوء عشرة ولا تتقي منهم لسانا ولا يدا
فإن قلت هم موتى فلست بكاذب وإن قلت أحياء فلست مفندا
يفكر قلبي دائما في حديثهم كأن فؤادي ضافه سم أسودا
إن وجود مكتبة في المنزل تحوي مختلف الكتب وفي شتى المجالات يدفع جميع أفراد المنزل للاستفادة من هذه المكتبة وخاصة إذا وجد التوجيه والإرشاد من رب المنزل أو غيره . ولا شك أن أثرها على التربية الذاتية سيظهر إن عاجلا أو آجلا . كما أن الاستفادة من هذه المكتبة بعد وفاة صاحبها يعتبر من الصدقات الجارية التي تنفع المرء بعد موته .
ب ـ المحاضرات والندوات
تزخر الأمة المتقدمة بالكثير من المجامع العلمية والمنتديات الفكرية التي يلتقي فيها العلماء والمثقفون والمفكرون لمعرفة الجديد والمفيد عبر المحاضرات والندوات واللقاءات في شتى مجالات المعرفة والواقع . وحضور مثل تلك المحاضرات والندوات يعتبر رافدا مهما من روافد ملء الفراغ بما يفيد في التربية الذاتية . وتكون المحاضرة غالبا تلخيصا لكم هائل من المعلومات وربما لتجارب سنوات عديدة تلقى على المستمعين في فترة محدودة وتوفر عليهم وقتا وجهدا كبيرين في تحصيل واستيعاب تلك المعلومات . كما أن في حضور الندوات فرصة للاستفادة من خبرات الآخرين وتجاربهم وفرصة لمعرفة وجهات النظر المتباينة أو المتفقة وتعويد النفس على تمحيص الآراء لانتقاء الصالح منها والمناسب .
قال تعالى : { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب } [ الزمر : 18 ]
روى الخطيب البغدادي بإسناده عن عبد الله بن عباس قوله : العلم كثير ولن تعيه قلوبكم ولكن ابتغوا أحسنه ، ألم تسمع قوله تعالى – وقرأ الآية السابقة - (1) ، وفي المجتمع المسلم يجد المؤمن نفسه في مواقف كثيرة يستعمل فيها حاسة السمع مثل خطب الجمع والأعياد والاستماع إلى المؤذن لترديد الأذان خلفه والاستماع إلى قراءة الإمام في الصلاة الجهرية وغير ذلك من المواقف . قال تعالى : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } [ الأعراف : 204 ] وهذا رسولنا العظيم يطلب من صاحبه عبد الله بن مسعود أن يقرأ له آيات من كتاب الله ، قال – رضي الله عنه – قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : اقرأ علي القرآن . قلت : أأقرأ عليك وعليك أنزل ؟ فيقول عليه السلام : إني أحب أن أسمعه من غيري . [ البخاري : 3/351 ] .(2/226)