الِاضْطِرَارُ إلَى قَوْلِ الْبَاطِلِ : النُّطْقُ بِالْكُفْرِ تَحْتَ تَأْثِيرِ الْإِكْرَاهِ : مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى خَشَى عَلَى نَفْسِهِ الْقَتْلَ لَا إثْمَ عَلَيْهِ إنْ كَفَرَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ , وَلَا تَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ , وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكُفْرِ , وَإِنْ صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ شَهِيدًا . وَلِلتَّفْصِيلِ : ( ر : رُخْصَةٌ ف 13 , وَإِكْرَاهٌ ف 24 )
الْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ فِي الضَّمَانِ :(1/254)
الْقَوَاعِدُ فِي الضَّمَانِ كَثِيرَةٌ , نُشِيرُ إلَى أَهَمِّهَا , بِاخْتِصَارٍ فِي التَّعْرِيفِ بِهَا , وَالتَّمْثِيلِ لَهَا , كُلَّمَا دَعَتْ الْحَاجَةُ , مُرَتَّبَةً بِحَسَبِ أَوَائِلِ حُرُوفِهَا : الْقَاعِدَةُ الْأُولَى : " الْأَجْرُ وَالضَّمَانُ لَا يَجْتَمِعَانِ " : 71 - الْأَجْرُ هُوَ : بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ . وَالضَّمَانُ - هُنَا - هُوَ : الِالْتِزَامُ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا , هَلَكَتْ أَوْ لَمْ تَهْلَكْ , وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مِنْ قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ , الْمُتَّصِلَةِ بِرَأْيِهِمْ فِي عَدَمِ ضَمَانِ مَنَافِعِ الْمَغْصُوبِ , خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ . فَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً أَوْ سَيَّارَةً , لِحَمْلِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ , فَحَمَّلَهَا شَيْئًا آخَرَ أَوْ أَثْقَلَ مِنْهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ , كَأَنْ حَمَلَ مَكَانَ الْقُطْنِ حَدِيدًا فَتَلِفَتْ , ضَمِنَ قِيمَتَهَا , وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ , لِأَنَّهَا هَلَكَتْ بِغَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ . وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا , لِيَرْكَبَهَا إلَى مَكَان مُعَيَّنٍ , فَذَهَبَ بِهَا إلَى مَكَان آخَرَ فَهَلَكَتْ , ضَمِنَ قِيمَتَهَا , وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ , لِأَنَّ الْأَجْرَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ , عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . لَكِنْ الْقَاعِدَةُ مَشْرُوطَةٌ عِنْدَهُمْ , بِعَدَمِ اسْتِقْرَارِ الْأَجْرِ فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ , كَمَا لَوْ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ الدَّابَّةِ - مَثَلًا - فِعْلًا , ثُمَّ تَجَاوَزَ فَصَارَ غَاصِبًا , وَضَمِنَ , يَلْزَمُهُ أَجْرُ مَا سَمَّى عِنْدَهُمْ , إذَا سَلِمَتْ الدَّابَّةُ وَلَمْ تَهْلَكْ . وَالْجُمْهُورُ يُوجِبُونَ الْأَجْرَ كُلَّمَا كَانَ لِلْمَغْصُوبِ أَجْرٌ , لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مُتَقَوِّمَةٌ كَالْأَعْيَانِ , فَإِذَا تَلِفَتْ أَوْ أَتْلَفَهَا فَقَدْ أَتْلَفَ مُتَقَوِّمًا , فَوَجَبَ ضَمَانُهُ كَالْأَعْيَانِ وَإِذَا ذَهَبَ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْمَغْصُوبِ فِي مُدَّةِ الْغَصْبِ , وَجَبَ مَعَ الْأُجْرَةِ أَرْشُ نَقْصِهِ لِانْفِرَادِ كُلٍّ بِإِيجَابٍ . وَلِلْمَالِكِيَّةِ أَقْوَالٌ : وَافَقُوا فِي بَعْضِهَا الْحَنَفِيَّةَ , وَفِي بَعْضِهَا الْجُمْهُورَ وَانْفَرَدُوا بِتَفْصِيلٍ فِي بَعْضِهَا . الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ : " إذَا اجْتَمَعَ الْمُبَاشِرُ وَالْمُتَسَبِّبُ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى الْمُبَاشِرِ . 72 - الْمُبَاشِرُ لِلْفِعْلِ : هُوَ الْفَاعِلُ لَهُ بِالذَّاتِ , وَالْمُتَسَبِّبُ هُوَ الْمُفْضِي وَالْمُوَصِّلُ إلَى وُقُوعِهِ , وَيَتَخَلَّلُ بَيْنَ فِعْلِهِ وَبَيْنَ الْأَثَرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ , وَالْمُبَاشِرُ يَحْصُلُ الْأَثَرُ بِفِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ فِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ . وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْمُبَاشِرُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ مِنْ الْمُتَسَبِّبِ , قَالَ خَلِيلٌ : وَقُدِّمَ عَلَيْهِ الْمُرْدِي فَلَوْ حَفَرَ رَجُلٌ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ , بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْ وَلِيِّ الْأَمْرِ , فَأَلْقَى شَخْصٌ حَيَوَانَ غَيْرِهِ فِي تِلْكَ الْبِئْرِ , ضَمِنَ الَّذِي أَلْقَى الْحَيَوَانَ , لِأَنَّهُ الْعِلَّةُ الْمُؤَثِّرَةُ , دُونَ حَافِرِ الْبِئْرِ , لِأَنَّ التَّلَفَ لَمْ يَحْصُلْ بِفِعْلِهِ . وَلَوْ وَقَعَ الْحَيَوَانُ فِيهِ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ , ضَمِنَ الْحَافِرُ , لِتَسَبُّبِهِ بِتَعَدِّيهِ بِالْحَفْرِ بِغَيْرِ إذْنٍ . وَكَذَلِكَ لَوْ دَلَّ سَارِقًا عَلَى مَتَاعٍ , فَسَرَقَهُ الْمَدْلُولُ , ضَمِنَ السَّارِقُ لَا الدَّالُّ . وَلِذَا لَوْ دَفَعَ إلَى صَبِيٍّ سِكِّينًا , فَوَجَأَ بِهِ نَفْسَهُ , لَا يَضْمَنُ الدَّافِعُ , لِتَخَلُّلِ فِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ . وَلَوْ وَقَعَ السِّكِّينُ عَلَى رِجْلِ الصَّبِيِّ فَجَرَحَهَا ضَمِنَ الدَّافِعُ . الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ : " الِاضْطِرَارُ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْغَيْرِ " . 73 - تَطَّرِدُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ سَوَاءٌ أَكَانَ الِاضْطِرَارُ فِطْرِيًّا كَالْجُوعِ , أَمْ غَيْرَ فِطْرِيٍّ كَالْإِكْرَاهِ , فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْإِثْمُ , وَعُقُوبَةُ التَّجَاوُزِ , أَمَّا حَقُّ الْآخَرِينَ فَلَا يَتَأَثَّرُ بِالِاضْطِرَارِ , وَيَبْقَى الْمَالُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا , وَالْقِيمَةِ إنْ كَانَ قِيَمِيًّا . فَلَوْ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ إلَى أَكْلِ طَعَامِ غَيْرِهِ , جَازَ لَهُ أَكْلُهُ , وَضَمِنَ قِيمَتَهُ , لِعَدَمِ إذْنِ الْمَالِكِ , وَإِنَّمَا الَّذِي وُجِدَ هُوَ إذْنُ الشَّرْعِ الَّذِي أَسْقَطَ الْعُقُوبَةَ فَقَطْ . الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ : " الْأَمْرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بَاطِلٌ " . 74 - الْأَمْرُ : هُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ جَزْمًا , فَإِذَا أَمَرَ شَخْصٌ غَيْرَهُ بِأَخْذِ مَالِ شَخْصٍ آخَرَ أَوْ بِإِتْلَافِهِ عَلَيْهِ فَلَا عِبْرَةَ بِهَذَا الْأَمْرِ , وَيَضْمَنُ الْفَاعِلُ . وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُقَيَّدَةٌ : بِأَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ عَاقِلًا بَالِغًا , فَإِذَا كَانَ صَغِيرًا , كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ . وَأَنْ لَا يَكُونَ الْآمِرُ ذَا وِلَايَةٍ وَسُلْطَانٍ عَلَى الْمَأْمُورِ . فَلَوْ كَانَ الْآمِرُ هُوَ السُّلْطَانُ أَوْ الْوَالِدُ , كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا . الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ : " جِنَايَةُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ " . 75 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُقْتَبَسَةٌ مِنْ حَدِيثٍ شَرِيفٍ(1/255)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ } وَالْعَجْمَاءُ : الْبَهِيمَةُ , لِأَنَّهَا لَا تُفْصِحُ , وَمَعْنَى جُبَارٌ : أَنَّهُ هَدَرٌ وَبَاطِلٌ . وَالْمُرَادُ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مُسَيَّبَةً حَيْثُ تُسَيَّبُ الْحَيَوَانَاتُ , وَلَا يَدَ عَلَيْهَا , أَمَّا لَوْ كَانَ مَعَهَا رَاكِبٌ فَيَضْمَنُ , فَلَوْ اصْطَادَتْ هِرَّتُهُ طَائِرًا لِغَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ . وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يَأْتِي فِي ضَمَانِ جِنَايَةِ الْحَيَوَانِ . الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ : " الْجَوَازُ الشَّرْعِيُّ يُنَافِي الضَّمَانَ " . 76 - يَعْنِي إذَا تَرَتَّبَ عَلَى الْفِعْلِ الْجَائِزِ الْمُبَاحُ شَرْعًا , ضَرَرٌ لِلْآخَرِينَ , لَا يُضْمَنُ الضَّرَرُ . فَلَوْ حَفَرَ حُفْرَةً فِي مِلْكِهِ , أَوْ فِي الطَّرِيقِ , بِإِذْنِ الْحَاكِمِ , فَتَرَدَّى فِيهَا حَيَوَانٌ أَوْ إنْسَانٌ , لَا يَضْمَنُ الْحَافِرُ شَيْئًا . وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِشَرْطَيْنِ : 1 - أَنْ لَا يَكُونَ الْمُبَاحُ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ , فَيَضْمَنُ - مَثَلًا - رَاكِبُ السَّيَّارَةِ وَقَائِدُ الدَّابَّةِ أَوْ رَاكِبُهَا فِي الطَّرِيقِ . 2 - أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمُبَاحِ إتْلَافُ الْآخَرِينَ وَإِلَّا كَانَ مَضْمُونًا . فَيَضْمَنُ مَا يُتْلِفُهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ لِلْمَخْمَصَةِ , مَعَ أَنَّ أَكْلَهُ لِأَجْلِهَا جَائِزٌ , بَلْ وَاجِبٌ . الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ : { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } 77 - الْخَرَاجُ : هُوَ غَلَّةُ الشَّيْءِ وَمَنْفَعَتُهُ , إذَا كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ , غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ . كَسُكْنَى الدَّارِ , وَأُجْرَةِ الدَّابَّةِ . وَالضَّمَانُ : هُوَ التَّعْوِيضُ الْمَالِيُّ عَنْ الضَّرَرِ الْمَادِّيِّ . وَالْمَعْنَى : أَنَّ مَنَافِعَ الشَّيْءِ يَسْتَحِقُّهَا مَنْ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ لَوْ هَلَكَ , فَتَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِي مُقَابِلِ تَحَمُّلِ خَسَارَةِ هَلَاكِهِ , فَمَا لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ لَا يَسْتَحِقُّ مَنَافِعَهُ وَقَدْ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ } . الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ : { الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ } . 78 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَعْنَاهَا أَنَّ التَّكَلُّفَاتِ وَالْغَرَامَاتِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الشَّيْءِ , تَجِبُ عَلَى مَنْ اسْتَفَادَ مِنْهُ وَانْتَفَعَ بِهِ , مِثَالُ ذَلِكَ : 1 - نَفَقَةُ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ , لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي انْتَفَعَ بِهَا . 2 - وَنَفَقَةُ رَدِّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُودِعِ , لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَفَادَ مِنْ حِفْظِهَا . 3 - وَأُجْرَةِ كِتَابَةِ عَقْدِ الْمِلْكِيَّةِ عَلَى الْمُشْتَرِي , لِأَنَّهَا تَوْثِيقٌ لِانْتِقَالِ الْمِلْكِيَّةِ إلَيْهِ , وَهُوَ الْمُسْتَفِيدُ مِنْ ذَلِكَ . الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ : " لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَخْذُ مَالِ أَحَدٍ بِلَا سَبَبٍ شَرْعِيٍّ " . 79 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ حَدِيثِ : { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ } . فَيَحْرُمُ أَخْذُ أَمْوَالِ الْآخَرِينَ بِالْبَاطِلِ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِهِمَا .
حُكْمُ ضَمَانِ الدَّرَكِ فِي حَالَتَيْ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ :
7 - إذَا أُطْلِقَ ضَمَانُ الدَّرَكِ أَوْ الْعُهْدَةِ اخْتَصَّ بِمَا إذَا خَرَجَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مُسْتَحَقًّا إذْ هُوَ الْمُتَبَادِرُ , لَا مَا خَرَجَ فَاسِدًا بِغَيْرِ الِاسْتِحْقَاقِ , فَلَوْ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بِمَا سِوَى الِاسْتِحْقَاقِ مِثْلَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَوْ بِخِيَارِ الشَّرْطِ أَوْ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ الضَّامِنُ , لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الدَّرَكِ . أَمَّا إذَا قَيَّدَهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ كَخَوْفِ الْمُشْتَرِي فَسَادَ الْبَيْعِ بِدَعْوَى الْبَائِعِ صِغَرًا أَوْ إكْرَاهًا , أَوْ خَافَ أَحَدُهُمَا كَوْنَ الْعِوَضِ مَعِيبًا , أَوْ شَكَّ الْمُشْتَرِي فِي كَمَالِ الصَّنْجَةِ الَّتِي تَسَلَّمَ بِهَا الْمَبِيعَ , أَوْ شَكَّ الْبَائِعُ فِي جَوْدَةِ جِنْسِ الثَّمَنِ فَضَمِنَ الضَّامِنُ ذَلِكَ صَرِيحًا صَحَّ ضَمَانُهُ كَضَمَانِ الْعُهْدَةِ . وَتَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ الْكَفِيلَ بِالدَّرَكِ يَضْمَنُ الْمَكْفُولَ بِهِ فَقَطْ , وَلَا يَضْمَنُ مَعَ الْمَكْفُولِ بِهِ ضَرَرَ التَّغْرِيرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْكَفِيلِ كَفَالَةٌ بِذَلِكَ .
ب - ( الْمُكْرَهُ ) :(1/256)
21 - الْإِكْرَاهُ هُنَا مَعْنَاهُ : حَمْلُ الزَّوْجِ عَلَى الطَّلَاقِ بِأَدَاةٍ مُرْهِبَةٍ . وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى عَدَمِ وُقُوعِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ شَدِيدًا , كَالْقَتْلِ , وَالْقَطْعِ , وَالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ , وَمَا إلَى ذَلِكَ , وَذَلِكَ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إغْلَاقٍ } وَلِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ : { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } وَلِأَنَّهُ مُنْعَدِمُ الْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ , فَكَانَ كَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ , فَإِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ ضَعِيفًا , أَوْ ثَبَتَ عَدَمُ تَأَثُّرِ الْمُكْرَهِ بِهِ , وَقَعَ طَلَاقُهُ لِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى وُقُوعِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ لَهُ بِدَفْعِ غَيْرِهِ عَنْهُ بِهِ , فَوَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ . وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْإِكْرَاهِ بِغَيْرِ حَقٍّ , فَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ بِحَقٍّ , كَالْمُولِي إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ بِدُونِ فَيْءٍ فَأَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى الطَّلَاقِ فَطَلَّقَ , فَإِنَّهُ يَقَعُ بِالْإِجْمَاعِ .
أَنْوَاعُ الطَّلَاقِ : 33
- لِلطَّلَاقِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ النَّظَرِ إلَيْهِ . - فَهُوَ مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِيهِ عَلَى نَوْعَيْنِ : صَرِيحٌ وَكِنَائِيٌّ - وَمِنْ حَيْثُ الْأَثَرُ النَّاتِجُ عَنْهُ عَلَى نَوْعَيْنِ : رَجْعِيٌّ وَبَائِنٌ , وَالْبَائِنُ عَلَى نَوْعَيْنِ : بَائِنٌ بَيْنُونَةٌ صُغْرَى , وَبَائِنٌ بَيْنُونَةٌ كُبْرَى - وَمِنْ حَيْثُ صِفَتُهُ عَلَى نَوْعَيْنِ : سُنِّيٌّ وَبِدْعِيٌّ - وَمِنْ حَيْثُ وَقْتُ وُقُوعِ الْأَثَرِ النَّاتِجِ عَنْهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ : مُنَجَّزٌ , وَمُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ , وَمُضَافٌ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كَمَا يَلِي : أَوَّلًا : الصَّرِيحُ وَالْكِنَائِيُّ : 34 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ , عَلَى أَنَّ الصَّرِيحَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ : مَا لَمْ يُسْتَعْمَلْ إلَّا فِيهِ غَالِبًا , لُغَةً أَوْ عُرْفًا , وَعُرِّفَ كَذَلِكَ بِأَنَّهُ : مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ الشَّرْعِيُّ بِلَا نِيَّةٍ , وَلَيْسَ بَيْنَ التَّعْرِيفَيْنِ تَنَافٍ , بَلْ تَكَامُلٌ , فَالْأَوَّلُ تَعْرِيفُهُ بِحَسَبِ اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ , وَالثَّانِي بِحَسَبِ الْأَثَرِ النَّاتِجِ عَنْهُ . كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْكِنَائِيَّ فِي الطَّلَاقِ هُوَ : مَا لَمْ يُوضَعْ اللَّفْظُ لَهُ , وَاحْتَمَلَهُ وَغَيْرُهُ , فَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ أَصْلًا لَمْ يَكُنْ كِنَايَةً , وَكَانَ لَغْوًا لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الصَّرِيحَ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ , وَكَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ الْمُنَاقَضَةِ قَضَاءً فَقَطْ , وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ أَطْلَقَ اللَّفْظَ الصَّرِيحَ , وَقَالَ : لَمْ أَنْوِ بِهِ شَيْئًا وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ , وَلَوْ قَالَ : نَوَيْت غَيْرَ الطَّلَاقِ لَمْ يُصَدَّقْ قَضَاءً وَصُدِّقَ دِيَانَةً , هَذَا مَا لَمْ يَحُفَّ بِاللَّفْظِ مِنْ قَرَائِنِ الْحَالِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ نِيَّتِهِ فِي إرَادَةِ غَيْرِ الطَّلَاقِ , فَإِنْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ قَصْدِهِ الطَّلَاقَ صُدِّقَ قَضَاءً أَيْضًا , وَلَمْ يَقَعْ بِهِ عَلَيْهِ طَلَاقٌ , وَذَلِكَ كَمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ فَطَلَّقَ صَرِيحًا غَيْرَ نَاوٍ بِهِ الطَّلَاقَ , فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ دِيَانَةً وَلَا قَضَاءً لِقَرِينَةِ الْإِكْرَاهِ . وَهَذَا لَدَى الْجُمْهُورِ , وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ وَقَالُوا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مِنْ الْمُكْرَهِ كَمَا تَقَدَّمَ . أَمَّا الْكِنَائِيُّ فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إلَّا مَعَ النِّيَّةِ , ذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ , فَلَا يُصْرَفُ إلَى الطَّلَاقِ إلَّا بِالنِّيَّةِ , وَأَمَّا وُقُوعُهُ بِالنِّيَّةِ فَلِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ , فَيُصْرَفُ إلَيْهِ بِهَا . وَقَدْ أَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةَ بِالصَّرِيحِ , فَأَوْقَعُوا الطَّلَاقَ بِهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ , وَهِيَ الْكِنَايَاتُ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ كَثِيرًا وَإِنْ لَمْ تُوضَعْ لَهُ فِي الْأَصْلِ , وَهِيَ لَفْظُ : الْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ . وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ الْمَالِكِيَّةِ هُنَا فِي قَوْلِ الْقَاضِي , إلَّا أَنَّ مَفْهُومَ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ مُطْلَقًا .
ظُلْمٌ التَّعْرِيفُ :(1/257)
1 - أَصْلُ الظُّلْمِ فِي اللُّغَةِ : وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ , وَالْجَوْرُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَالْمَيْلُ عَنْ الْقَصْدِ , ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى سُمِّيَ كُلُّ عَسْفٍ ظُلْمًا . وَلَا يَخْرُجُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - ( الْبَغْيُ ) : 2 - مِنْ مَعَانِي الْبَغْيِ فِي اللُّغَةِ : الظُّلْمُ وَالْفَسَادُ وَالِاسْتِطَالَةُ عَلَى النَّاسِ . . وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ فِي الْجُمْلَةِ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ . ب - الْإِكْرَاهُ : 3 - الْإِكْرَاهُ لُغَةً : مِنْ الْكُرْهِ - بِالضَّمِّ - بِمَعْنَى الْقَهْرِ , أَوْ مِنْ الْكَرْهِ - بِالْفَتْحِ - بِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ , وَأَكْرَهْته عَلَى الْأَمْرِ إكْرَاهًا : حَمَلْته عَلَيْهِ قَهْرًا . وَعَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ : بِأَنَّهُ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ . اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ : ( إكْرَاهٌ ف 98 ) . وَالصِّلَةُ بَيْنَ الظُّلْمِ وَالْإِكْرَاهِ : أَنَّ الْإِكْرَاهَ يَكُونُ صُورَةً مِنْ صُوَرِ الظُّلْمِ إذَا كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ :
16 - أَنْ يَكُونَ الْمُظَاهِرُ قَاصِدًا الظِّهَارَ . وَيَتَحَقَّقُ هَذَا الشَّرْطُ بِإِرَادَةِ الزَّوْجِ النُّطْقَ بِالْعِبَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الظِّهَارِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا , فَإِذَا كَانَ مَعَ هَذِهِ الْإِرَادَةِ رَغْبَةٌ فِي الظِّهَارِ كَانَ الظِّهَارُ صَادِرًا عَنْ رِضًا صَحِيحٍ , وَإِنْ وُجِدَتْ الْإِرَادَةُ وَحْدَهَا , وَانْتَفَتْ الرَّغْبَةُ فِي الظِّهَارِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الرِّضَا , وَذَلِكَ كَأَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُكْرَهًا عَلَى الظِّهَارِ بِتَهْدِيدِهِ بِالْقَتْلِ أَوْ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ أَوْ الْحَبْسِ الْمَدِيدِ , فَيَصْدُرُ الظِّهَارُ عَنْهُ خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ مَا هُدِّدَ بِهِ لَوْ امْتَنَعَ , فَإِنَّ صُدُورَ الصِّيغَةِ مِنْ الزَّوْجِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ عَنْ قَصْدٍ لَكِنَّهُ لَيْسَ عَنْ رِضًا صَحِيحٍ . وَالظِّهَارُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ - حَالَةِ الْإِكْرَاهِ - يَكُونُ مُعْتَبَرًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ , لِأَنَّ الظِّهَارَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ كَالطَّلَاقِ , وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقِيَاسِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْهَازِلِ , لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَصْدُرُ عَنْهُ صِيغَةُ التَّصَرُّفِ عَنْ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ , لَكِنَّهُ لَا يُرِيدُ الْحُكْمَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ . وَظِهَارُ الْهَازِلِ مُعْتَبَرٌ كَطَلَاقِهِ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ , وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ : النِّكَاحُ , وَالطَّلَاقُ , وَالرَّجْعَةُ } فَيَكُونُ ظِهَارُ الْمُكْرَهِ مُعْتَبَرًا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْهَازِلِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : لَا يَصِحُّ ظِهَارُ الْمُكْرَهِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } . 17 - وَإِذَا صَدَرَتْ صِيغَةُ الظِّهَارِ مِنْ الزَّوْجِ , لَكِنَّهُ لَمْ يُرِدْ مُوجِبَهَا , بَلْ أَرَادَ اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ - وَهَذَا هُوَ الْهَازِلُ - فَإِنَّ الظِّهَارَ يَكُونُ مُعْتَبَرًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ . وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ : النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ } وَالظِّهَارُ كَالطَّلَاقِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَهُ , وَلِأَنَّ الْهَازِلَ يَصْدُرُ عَنْهُ السَّبَبُ - وَهُوَ الصِّيغَةُ - وَهُوَ قَاصِدٌ مُخْتَارٌ , إلَّا أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الْحُكْمَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ , وَتَرْتِيبُ الْأَحْكَامِ عَلَى أَسْبَابِهَا مَوْكُولٌ إلَى الشَّارِعِ لَا إلَى الْعَاقِدِ .(1/258)
18 - وَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ الظِّهَارِ , فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ الظِّهَارُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَصْلًا - وَهَذَا هُوَ الْمُخْطِئُ - فَلَا يُعْتَبَرُ ظِهَارًا دِيَانَةً , وَيُعْتَبَرُ ظِهَارًا قَضَاءً , وَمَعْنَى اعْتِبَارِهِ فِي الْقَضَاءِ دُونَ الدِّيَانَةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالظِّهَارِ إلَّا الزَّوْجُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي مُعَاشَرَةِ زَوْجَتِهِ بِدُونِ حَرَجٍ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ , وَإِذَا سَأَلَ فَقِيهًا عَمَّا صَدَرَ مِنْهُ جَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَهُ بِأَلَّا شَيْءَ عَلَيْهِ , مَتَى عَلِمَ صِدْقَهُ فِيمَا يَقُولُ , فَإِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ , وَرُفِعَ الْأَمْرُ إلَى الْقَاضِي حَكَمَ بِتَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُكَفِّرَ , لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَبْنِي أَحْكَامَهُ عَلَى الظَّاهِرِ , وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ , وَلَوْ قَبِلَ فِي الْقَضَاءِ دَعْوَى أَنَّ مَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا , وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ شَيْءٌ آخَرُ لَانْفَتَحَ الْبَابُ أَمَامَ الْمُحْتَالِينَ الَّذِينَ يَقْصِدُونَ النُّطْقَ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الظِّهَارِ , ثُمَّ يَدَّعُونَ أَنَّهُ كَانَ سَبْقَ لِسَانٍ , وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ . وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - كَمَا يُؤْخَذُ مِمَّا نَصُّوا عَلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ - إذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَقْصِدْ النُّطْقَ بِصِيغَةِ الظِّهَارِ , بَلْ قَصَدَ التَّكَلُّمَ بِشَيْءٍ آخَرَ , فَزَلَّ لِسَانُهُ وَتَكَلَّمَ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الظِّهَارِ لَا يَكُونُ ظِهَارًا فِي الْقَضَاءِ , كَمَا لَا يَكُونُ ظِهَارًا فِي الدِّيَانَةِ وَالْفَتْوَى . وَيَتَّضِحُ مِمَّا تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ وَالْهَزْلِ وَالْخَطَأِ , وَهُوَ أَنَّهُ فِي الْإِكْرَاهِ تَكُونُ الْعِبَارَةُ صَادِرَةً عَنْ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ , وَلَكِنَّهُ اخْتِيَارٌ غَيْرُ سَلِيمٍ لِوُجُودِ الْإِكْرَاهِ , وَهُوَ يُؤَثِّرُ فِي الْإِرَادَةِ وَيَجْعَلُهَا لَا تَخْتَارُ مَا تَرْغَبُ فِيهِ وَتَرْتَاحُ إلَيْهِ , بَلْ تَخْتَارُ مَا يَدْفَعُ الْأَذَى وَالضَّرَرَ . وَفِي الْهَزْلِ تَكُونُ الْعِبَارَةُ مَقْصُودَةً , لِأَنَّهَا تَصْدُرُ بِرِضَا الزَّوْجِ وَاخْتِيَارِهِ , وَلَكِنَّ حُكْمَهَا لَا يَكُونُ مَقْصُودًا ; لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يُرِيدُ هَذَا الْحُكْمَ , بَلْ يُرِيدُ شَيْئًا آخَرَ هُوَ اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ . وَفِي الْخَطَأِ لَا تَكُونُ الْعِبَارَةُ الَّتِي نَطَقَ بِهَا الزَّوْجُ مَقْصُودَةً أَصْلًا , بَلْ الْمَقْصُودُ عِبَارَةٌ أُخْرَى وَصَدَرَتْ هَذِهِ بَدَلًا عَنْهَا .
الشَّرْطُ السَّابِعُ :(1/259)
21 - التَّكْلِيفُ : يُشْتَرَطُ فِي الرَّجُلِ لِكَيْ يَكُونَ ظِهَارُهُ صَحِيحًا أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا , وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِأُمُورٍ : أ - الْبُلُوغُ : فَلَا يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنْ الصَّبِيِّ وَلَوْ كَانَ مُمَيِّزًا ; لِأَنَّ حُكْمَ الظِّهَارِ التَّحْرِيمُ , وَخِطَابُ التَّحْرِيمِ مَرْفُوعٌ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ , يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ : عَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَبْرَأَ , وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ , وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَعْقِلَ } . وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الظِّهَارِ تَحْرِيمُ الزَّوْجَةِ , فَهُوَ كَالطَّلَاقِ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ , وَطَلَاقُ الصَّبِيِّ لَا يُعْتَبَرُ , فَكَذَلِكَ ظِهَارُهُ لَا يُعْتَبَرُ . ب - الْعَقْلُ : فَلَا يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنْ الْمَجْنُونِ حَالَ جُنُونِهِ , وَلَا مِنْ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ; لِأَنَّ الْعَقْلَ أَدَاةُ التَّفْكِيرِ وَمَنَاطُ التَّكْلِيفِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْعَاقِلِ . وَمِثْلُ الْمَجْنُونِ فِي الْحُكْمِ : الْمَعْتُوهُ وَالْمُبَرْسَمُ وَالْمَدْهُوشُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمُ . وَأَمَّا السَّكْرَانُ فَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ ظِهَارَهُ لَا يُعْتَبَرُ إنْ كَانَ سُكْرُهُ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ , وَذَلِكَ كَمَا إذَا شَرِبَ الْمُسْكِرَ لِلضَّرُورَةِ أَوْ تَحْتَ ضَغْطِ الْإِكْرَاهِ , لِأَنَّ السَّكْرَانَ لَا وَعْيَ عِنْدَهُ , وَلَا إدْرَاكَ فَهُوَ كَالْمَجْنُونِ أَوْ كَالنَّائِمِ , فَكَمَا لَا يُعْتَبَرُ الظِّهَارُ الصَّادِرُ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ فَكَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ الظِّهَارُ الصَّادِرُ مِنْ السَّكْرَانِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ . أَمَّا إذَا كَانَ سُكْرُهُ مِنْ طَرِيقٍ مُحَرَّمٍ , بِأَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ حَتَّى سَكِرَ , فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ ظِهَارِهِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي اعْتِبَارِ طَلَاقِهِ , فَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِاعْتِبَارِ طَلَاقِهِ قَالَ بِاعْتِبَارِ ظِهَارِهِ , وَهُمْ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ , وَمَالِكٌ , وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ . وَوَجْهُهُ : أَنَّهُ لَمَّا تَنَاوَلَ الْمُحَرَّمَ بِاخْتِيَارِهِ كَانَ مُتَسَبِّبًا فِي زَوَالِ عَقْلِهِ , فَيُجْعَلُ عَقْلُهُ مَوْجُودًا حُكْمًا عُقُوبَةً لَهُ وَزَجْرًا عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ طَلَاقِ السَّكْرَانِ قَالَ لَا يُعْتَبَرُ ظِهَارُهُ , وَهُمْ زُفَرُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ , وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ تَعْتَمِدُ عَلَى الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ الصَّحِيحَةِ , وَالسَّكْرَانُ قَدْ غَلَبَ السُّكْرُ عَلَى عَقْلِهِ فَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ قَصْدٌ وَلَا إرَادَةٌ صَحِيحَةٌ , فَلَا يُعْتَدُّ بِالْعِبَارَةِ الصَّادِرَةِ مِنْهُ , كَمَا لَا يُعْتَدُّ بِالْعِبَارَةِ الصَّادِرَةِ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ . ج - الْإِسْلَامُ : فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَيْرَ مُسْلِمٍ لَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ سَوَاءٌ كَانَ كِتَابِيًّا أَمْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ . وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : إسْلَامُ الزَّوْجِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الظِّهَارِ , فَيَصِحُّ الظِّهَارُ مِنْ الْمُسْلِمِ وَغَيْرِ الْمُسْلِمِ . وَحُجَّةُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ } فَإِنَّ الْخِطَابَ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ , فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ مَخْصُوصٌ بِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْكَافِرِينَ . وَالْأَزْوَاجُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ : { وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } لَا يُرَادُ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُ الْمُسْلِمِينَ بَلْ الْمُرَادُ بِهِمْ الْأَزْوَاجُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إنَّمَا جَاءَتْ لِبَيَانِ حُكْمِ الظِّهَارِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا , وَهُوَ الظِّهَارُ الَّذِي يَكُونُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا مِنْ غَيْرِهِمْ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الظِّهَارَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ تَحْرِيمًا يَنْتَهِي بِالْكَفَّارَةِ , وَالْكَافِرُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْكَفَّارَةِ , لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ , وَالْكَافِرُ لَا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ مِنْهُ . وَحُجَّةُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } فَإِنَّهُ عَامٌّ , فَيَشْمَلُ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرَ الْمُسْلِمِينَ , وَتَوْجِيهُ الْخِطَابِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ مَخْصُوصٌ بِهِمْ ; لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ هُمْ الْأَصْلُ فِي التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ , وَغَيْرُهُمْ تَابِعٌ لَهُمْ فِي ذَلِكَ , وَلَا يَثْبُتُ التَّخْصِيصُ إلَّا بِدَلِيلٍ(1/260)
يَدُلُّ عَلَيْهِ , وَلَا يُوجَدُ هَذَا الدَّلِيلُ هُنَا . وَالْكَافِرُ يَصِحُّ مِنْهُ بَعْضُ أَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ الْعِتْقُ وَالْإِطْعَامُ , وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الصِّيَامُ , وَامْتِنَاعُ صِحَّةِ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ مِنْ الْكَافِرِ لَا يَجْعَلُهُ غَيْرَ أَهْلٍ لِلظِّهَارِ , قِيَاسًا عَلَى الرَّقِيقِ , فَإِنَّهُ أَهْلٌ لِلظِّهَارِ مَعَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْهُ الْإِعْتَاقُ .
وَقَدْ وَضَعَ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ مِنْ الْقَوَاعِدِ مَا يَجْمَعُ الْكَثِيرَ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ وَوَضَّحُوا التَّخْفِيفَاتِ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَى كُلِّ سَبَبٍ , وَمِنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ :
الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ :(1/261)
8 - قَالَ الْفُقَهَاءُ : الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } . وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ رُخَصُ الشَّارِعِ وَتَخْفِيفَاتُهُ , وَأَسْبَابُ التَّخْفِيفِ هِيَ : السَّفَرُ وَالْمَرَضُ وَالْإِكْرَاهُ وَالنِّسْيَانُ وَالْجَهْلُ وَالْعُسْرُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى وَالنَّقْصُ . . إلَخْ . وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ مِنْ آثَارِ . وَمِنْهَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرَضِ : التَّيَمُّمُ عِنْدَ مَشَقَّةِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ , وَالْقُعُودُ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ , وَالتَّخَلُّفُ عَنْ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ مَعَ حُصُولِ الْفَضِيلَةِ , وَالْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ , وَتَرْكُ الصَّوْمِ لِلشَّيْخِ الْهَرَمِ مَعَ الْفِدْيَةِ . وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا ذَكَرُوهُ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّقْصِ : عَدَمُ تَكْلِيفِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ . وَمَا سَبَقَ مِنْ الْأَمْثِلَةِ يُوَضِّحُ أَثَرَ الْعَجْزِ فِي الْعِبَادَاتِ . أَمَّا فِي الْمُعَامَلَاتِ فَأَثَرُ الْعَجْزِ يَخْتَلِفُ مِنْ تَصَرُّفٍ إلَى تَصَرُّفٍ , وَمِنْ ذَلِكَ : 1 - إذَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ النَّفَقَةِ , وَطَلَبَتْ الزَّوْجَةُ التَّفْرِيقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا , فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا , وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ بَلْ تَسْتَدِينُ عَلَيْهِ , وَيُؤْمَرُ بِالْأَدَاءِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا لَوْلَا الزَّوْجُ . ( ر : نَفَقَةٌ ) . 2 - ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ مَوَانِعَ عَقْدِ الْإِمَامَةِ وَمَوَانِعَ اسْتِدَامَتِهَا , فَقَالَ : مَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ وَمِنْ اسْتِدَامَتِهَا هُوَ مَا يَمْنَعُ مِنْ الْعَمَلِ كَذَهَابِ الْيَدَيْنِ , أَوْ مِنْ النُّهُوضِ كَذَهَابِ الرِّجْلَيْنِ , فَلَا تَصِحُّ مَعَهُ الْإِمَامَةُ فِي عَقْدٍ , وَلَا اسْتِدَامَةَ , لِعَجْزِهِ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الْأُمَّةِ . أَمَّا مَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي مَنْعِهِ مِنْ اسْتِدَامَتِهَا , فَهُوَ مَا ذَهَبَ بِهِ بَعْضُ الْعَمَلِ أَوْ فُقِدَ بِهِ بَعْضُ النُّهُوضِ , كَذَهَابِ إحْدَى الْيَدَيْنِ أَوْ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ , فَلَا يَصِحُّ مَعَهُ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لِعَجْزِهِ عَنْ كَمَالِ التَّصَرُّفِ - فَإِنْ طَرَأَ بَعْدَ عَقْدِ الْإِمَامَةِ , فَفِي خُرُوجِهِ مِنْهَا مَذْهَبَانِ : أَحَدُهُمَا : يَخْرُجُ مِنْ الْإِمَامَةِ ; لِأَنَّهُ عَجْزٌ يَمْنَعُ مِنْ ابْتِدَائِهَا فَمَنَعَ مِنْ اسْتِدَامَتِهَا . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ الْإِمَامَةِ وَإِنْ مَنَعَ مِنْ عَقْدِهَا . ر : ( الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى ) . 3 - الدَّعْوَى إذَا صَحَّتْ , سَأَلَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْهَا لِيَنْكَشِفَ لَهُ وَجْهُ الْحُكْمِ , فَإِنْ اعْتَرَفَ قَضَى عَلَيْهِ , وَإِنْ أَنْكَرَ سَأَلَ الْمُدَّعِيَ الْبَيِّنَةَ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أَلَك بَيِّنَةٌ ؟ فَقَالَ : لَا , فَقَالَ : فَلَكَ يَمِينُهُ } فَإِنْ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ قَضَى بِهَا وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ وَطَلَبَ يَمِينَ خَصْمِهِ اسْتَحْلَفَهُ عَلَيْهَا . وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحَقٍّ : لِي بَيِّنَةٌ بِأَنِّي قَضَيْته , أَوْ : لِي بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ أَبْرَأَنِي , وَطَلَبَ الْإِنْظَارَ لَزِمَ إنْظَارُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْإِتْيَانِ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي تَشْهَدُ لَهُ بِالْقَضَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ حَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى نَفْيِ مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ قَضَاءٍ أَوْ إبْرَاءٍ , وَاسْتَحَقَّ مَا ادَّعَى بِهِ . ر : ( دَعْوَى ف 68 - وَقَضَاءٌ ) . 4 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ بِالْأَعْذَارِ عِنْدَنَا , لِأَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ وَهِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا فَصَارَ الْعُذْرُ فِي الْإِجَارَةِ كَالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ , فَتُفْسَخُ بِهِ , إذْ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا , وَهُوَ عَجْزُ الْعَاقِدِ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِهِ إلَّا بِتَحَمُّلِ ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِهِ . وَكَذَا مَنْ اسْتَأْجَرَ دُكَّانًا فِي السُّوقِ لِيَتَّجِرَ فِيهِ , فَذَهَبَ مَالُهُ , أَوْ أَجَّرَ دُكَّانًا أَوْ دَارًا ثُمَّ أَفْلَسَ وَلَزِمَتْهُ دُيُونٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا , فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ وَبَاعَهَا فِي الدُّيُونِ , لِأَنَّ فِي الْجَرْيِ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ إلْزَامَ ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ . ( ر : إجَارَةٌ ) .
عَدَاوَةٌ التَّعْرِيفُ :(1/262)
1 - الْعَدَاوَةُ فِي اللُّغَةِ : الظُّلْمُ وَتَجَاوُزُ الْحَدِّ , يُقَالُ : عَدَا فُلَانٌ عَدْوًا وَعَدُوًّا وَعُدْوَانًا وَعَدَاءً أَيْ : ظَلَمَ ظُلْمًا جَاوَزَ فِيهِ الْقَدْرَ , وَعَدَا بَنُو فُلَانٍ عَلَى بَنِي فُلَانٍ أَيْ : ظَلَمُوهُمْ . وَالْعَادِي : الظَّالِمُ , وَالْعَدُوُّ : خِلَافُ الصَّدِيقِ الْمُوَالِي , وَالْجَمْعُ أَعْدَاءٌ . وَفِي التَّعْرِيفَاتِ وَدُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ : الْعَدَاوَةُ هِيَ مَا يَتَمَكَّنُ فِي الْقَلْبِ مِنْ قَصْدِ الْإِضْرَارِ وَالِانْتِقَامِ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - الصَّدَاقَةُ : 2 - الصَّدَاقَةُ فِي اللُّغَةِ : مُشْتَقَّةٌ مِنْ الصِّدْقِ فِي الْوُدِّ وَالنُّصْحِ , يُقَالُ : صَادَقْته مُصَادَقَةً وَصَدَاقًا , وَالِاسْمُ الصَّدَاقَةُ : أَيْ خَالَلْته . وَفِي الْكُلِّيَّاتِ : الصَّدَاقَةُ صِدْقُ الِاعْتِقَادِ فِي الْمَوَدَّةِ وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْإِنْسَانِ دُونَ غَيْرِهِ . فَالصَّدَاقَةُ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : هِيَ اتِّفَاقُ الضَّمَائِرِ عَلَى الْمَوَدَّةِ , فَإِذَا أَضْمَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّجُلَيْنِ مَوَدَّةَ صَاحِبِهِ , فَصَارَ بَاطِنُهُ فِيهَا كَظَاهِرِهِ سُمِّيَا صَدِيقَيْنِ . فَالصَّدَاقَةُ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ . ب - الْخُصُومَةُ : 3 - الْخُصُومَةُ لُغَةً : الْمُنَازَعَةُ , وَالْجَدَلُ , وَالْغَلَبَةُ بِالْحُجَّةِ . وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لِلْفُقَهَاءِ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ . وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْعَدَاوَةِ وَالْخُصُومَةِ هِيَ : أَنَّ الْخُصُومَةَ مِنْ قَبِيلِ الْقَوْلِ , وَالْمُعَادَاةُ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ . ج - الْكُرْهُ : 4 - الْكُرْهُ فِي اللُّغَةِ : الْقُبْحُ وَالْقَهْرُ , وَهُوَ ضِدُّ الْحُبِّ , تَقُولُ : كَرِهْته أَكْرَهُهُ كُرْهًا فَهُوَ مَكْرُوهٌ , وَأَكْرَهْته عَلَى الْأَمْرِ إكْرَاهًا : حَمَلْته عَلَيْهِ قَهْرًا , وَكَرِهَ الْأَمْرَ وَالْمَنْظَرَ كَرَاهَةً فَهُوَ كَرِيهٌ , مِثْلُ قَبُحَ قَبَاحَةً فَهُوَ قَبِيحٌ وَزْنًا وَمَعْنًى . وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ .
ج - الْإِكْرَاهُ :
- 30 - الْإِكْرَاهُ الَّذِي تَتَغَيَّرُ مَعَهُ بَعْضُ الْأَحْكَامِ هُوَ : حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ يَمْتَنِعُ عَنْهُ بِتَخْوِيفٍ يَقْدِرُ الْحَامِلُ عَلَى إيقَاعِهِ وَيَصِيرُ الْغَيْرُ خَائِفًا بِهِ , وَلِلْإِكْرَاهِ تَقْسِيمَاتٌ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ رَاعَاهَا الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ وَمِنْهَا : تَقْسِيمُ الْإِكْرَاهِ إلَى إكْرَاهٍ بِحَقٍّ , وَهُوَ : الْإِكْرَاهُ الْمَشْرُوعُ الَّذِي لَا ظُلْمَ فِيهِ وَلَا إثْمَ , وَإِكْرَاهٌ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهُوَ : الْإِكْرَاهُ ظُلْمًا أَوْ الْإِكْرَاهُ الْمُحَرَّمُ لِتَحْرِيمِ وَسِيلَتِهِ أَوْ لِتَحْرِيمِ الْمَطْلُوبِ بِهِ . وَقَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْإِكْرَاهَ إلَى : إكْرَاهٍ مُلْجِئٍ : وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بِالتَّهْدِيدِ , بِإِتْلَافِ النَّفْسِ أَوْ عُضْوٍ مِنْهَا , أَوْ بِإِتْلَافِ جَمِيعِ الْمَالِ , أَوْ التَّهْدِيدِ بِهَتْكِ الْعِرْضِ , أَوْ بِقَتْلِ مَنْ يَهُمُّ الْإِنْسَانَ أَمْرُهُ , وَإِكْرَاهٍ غَيْرِ مُلْجِئٍ وَهُوَ : الَّذِي يَكُونُ بِمَا لَا يُفَوِّتُ النَّفْسَ أَوْ بَعْضَ الْأَعْضَاءِ , كَالْحَبْسِ لِمُدَّةٍ قَصِيرَةٍ , وَالضَّرْبِ الَّذِي لَا يُخْشَى مِنْهُ الْقَتْلُ أَوْ إتْلَافُ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ . وَالْإِكْرَاهُ بِجَمِيعِ أَقْسَامِهِ مُفْسِدٌ لِلرِّضَا فِي الْجُمْلَةِ , وَبَعْضُهُ مُفْسِدٌ لِلِاخْتِيَارِ , عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ , وَفِي أَحْكَامِ الْإِكْرَاهِ بِأَقْسَامِهِ الْمُخْتَلِفَةِ , وَفِي آثَارِ كُلِّ قِسْمٍ عَلَى الِاخْتِيَارِ وَالرِّضَا . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : ( إكْرَاهٌ , ف 16 وَمَا بَعْدَهَا ) .
الثَّالِثُ - الرِّضَا وَالِاخْتِيَارُ :(1/263)
31 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّضَا أَسَاسُ الْعُقُودِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { إنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ } . وَالرِّضَا : سُرُورُ الْقَلْبِ وَطِيبُ النَّفْسِ . وَهُوَ ضِدُّ السَّخَطِ وَالْكَرَاهَةِ . وَعَرَّفَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : بِأَنَّهُ قَصْدُ الْفِعْلِ دُونَ أَنْ يَشُوبَهُ إكْرَاهٌ وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ : بِأَنَّهُ امْتِلَاءُ الِاخْتِيَارِ , أَيْ : بُلُوغُهُ نِهَايَتَهُ , بِحَيْثُ يُفْضِي أَثَرُهُ إلَى الظَّاهِرِ مِنْ الْبَشَاشَةِ فِي الْوَجْهِ , أَوْ إيثَارِ الشَّيْءِ وَاسْتِحْسَانِهِ . ر : ( رِضًا ف 2 ) أَمَّا الِاخْتِيَارُ : فَهُوَ الْقَصْدُ إلَى أَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ دَاخِلٍ فِي قُدْرَةِ الْفَاعِلِ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ر : ( اخْتِيَارٌ ف 1 ) . وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ التَّفْرِقَةِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إنَّ الرِّضَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعُقُودِ الَّتِي تَقْبَلُ الْفَسْخَ وَهِيَ الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ مِنْ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ وَنَحْوِهِمَا , فَهِيَ لَا تَصِحُّ إلَّا مَعَ التَّرَاضِي , وَقَدْ تَنْعَقِدُ الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ لَكِنَّهَا تَكُونُ فَاسِدَةً , كَمَا فِي بَيْعِ الْمُكْرَهِ وَنَحْوِهِ , يَقُولُ الْمَرْغِينَانِيُّ . . . ; لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْعُقُودِ التَّرَاضِي . فَأَصْلُ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ بِدُونِ الرِّضَا , لَكِنَّهَا لَا تَكُونُ صَحِيحَةً , فَيَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمُخْطِئِ نَظَرًا إلَى أَصْلِ الِاخْتِيَارِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ صَدَرَ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ , أَوْ بِإِقَامَةِ الْبُلُوغِ مَقَامَ الْقَصْدِ , لَكِنْ يَكُونُ فَاسِدًا لِعَدَمِ الرِّضَا حَقِيقَةً , أَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْفَسْخَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَالرِّضَا لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا , فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالرَّجْعَةُ وَنَحْوُهَا حَتَّى مَعَ الْإِكْرَاهِ . أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَتَدُورُ عِبَارَاتُهُمْ بَيْنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الرِّضَا أَصْلٌ أَوْ أَسَاسٌ أَوْ شَرْطٌ لِلْعُقُودِ كُلِّهَا , فَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الرِّضَا سَوَاءٌ أَكَانَ مَالِيًّا أَوْ غَيْرَ مَالِيٍّ . ر : ( رِضًا ف 13 )
عُيُوبُ الرِّضَا :
32 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي عُيُوبِ الرِّضَا : الْإِكْرَاهَ وَالْجَهْلَ , وَالْغَلَطَ , وَالتَّدْلِيسَ , وَالْغَبْنَ , وَالتَّغْرِيرَ , وَالْهَزْلَ , وَالْخِلَابَةَ , وَنَحْوَهَا , فَإِذَا وُجِدَ عَيْبٌ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ فِي عَقْدٍ مِنْ الْعُقُودِ يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا أَوْ فَاسِدًا فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةِ أَوْ غَيْرَ لَازِمٍ يَكُونُ لِكِلَا الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِهِ فِي حَالَاتٍ أُخْرَى . وَتَعْرِيفُ هَذِهِ الْعُيُوبِ وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِهَا وَأَثَرِهَا عَلَى الرِّضَا وَخِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا مِنْ الْمَوْسُوعَةِ .
سَادِسًا : الْعَقْدُ الصَّحِيحُ , وَالْبَاطِلُ , وَالْفَاسِدُ .
51 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّ الْعَقْدَ بِاعْتِبَارِ إقْرَارِ الشَّرْعِ لَهُ وَتَرْتِيبِ آثَارِهِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ : الْعَقْدِ الصَّحِيحِ , وَالْعَقْدِ غَيْرِ الصَّحِيحِ . فَالْعَقْدُ الصَّحِيحُ : هُوَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ مَعًا , بِحَيْثُ يَكُونُ مُسْتَجْمِعًا لِأَرْكَانِهِ وَأَوْصَافِهِ , فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ , كَبَيْعِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الْمَالَ الْمُتَقَوِّمَ الْمَوْجُودَ الْقَابِلَ لِلتَّسْلِيمِ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ مُعْتَبَرَيْنِ شَرْعًا , فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ مِنْ نَقْلِ مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي وَنَقْلِ مِلْكِيَّةِ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ , وَكَالْإِجَارَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِعَيْنٍ مَوْجُودَةٍ انْتِفَاعًا مَشْرُوعًا , فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَثَرُهَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا مِنْ نَقْلِ الِانْتِفَاعِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَالْأُجْرَةِ إلَى الْمُؤَجِّرِ , وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ إذَا لَمْ يَقَعْ خَلَلٌ فِي أَرْكَانِهَا أَوْ شُرُوطِهَا . وَالْعَقْدُ غَيْرُ الصَّحِيحِ : هُوَ مَا لَا يَعْتَبِرُهُ الشَّرْعُ , وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَقْصُودُهُ . أَوْ هُوَ : مَا لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا أَصْلًا وَوَصْفًا , أَوْ يَكُونُ مَشْرُوعًا أَصْلًا لَكِنْ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا وَصْفًا , مِثَالُ الْأَوَّلِ : عَقْدُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ , أَوْ الْعَقْدُ عَلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَكُلِّ مَا لَا يُعْتَبَرُ مَالًا , وَمِثَالُ الثَّانِي : الْعَقْدُ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ , وَالْعَقْدُ عَلَى مَحَلٍّ مَجْهُولٍ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ . وَقَدْ قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْعَقْدَ غَيْرَ الصَّحِيحِ إلَى : عَقْدٍ بَاطِلٍ وَعَقْدٍ فَاسِدٍ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ : ( بُطْلَانٌ , فَسَادٌ )(1/264)
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِعُمُومِ الْبَلْوَى : بَنَى الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ عَلَى عُمُومِ الْبَلْوَى أَحْكَامًا فِقْهِيَّةً وَأُصُولِيَّةً فِي مُخْتَلَفِ الْأَبْوَابِ وَالْمَسَائِلِ مِنْهَا مَا يَلِي : أَوَّلًا : الْأَحْكَامُ الْفِقْهِيَّةُ :
2 - مِنْ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ فِي الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ أَنَّ الْمَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ , وَإِذَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم { بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ } وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ جَمِيعُ رُخَصِ الشَّرْعِ وَتَخْفِيفَاتُهُ . وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَسْبَابَ التَّخْفِيفِ مِنْ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وَالْإِكْرَاهِ وَالنِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ وَالْعُسْرِ وَعُمُومِ الْبَلْوَى وَنَحْوِهَا , وَبَيَّنُوا أَثَرَهَا فِي مُخْتَلَفِ الْأَحْكَامِ وَالْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ . وَمِنْ الرُّخَصِ الَّتِي شُرِعَتْ بِسَبَبِ الْعُسْرِ وَعُمُومِ الْبَلْوَى مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيّ وَابْنُ نُجَيْمٍ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ مَعَ النَّجَاسَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا , كَدَمِ الْقُرُوحِ وَالدَّمَامِلِ وَالْبَرَاغِيثِ , وَطِينِ الشَّارِعِ وَذَرْقِ الطُّيُورِ إذَا عَمَّ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَطَافِ , وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ , وَأَثَرِ نَجَاسَةٍ عَسُرَ زَوَالُهُ , وَالْعَفْوُ عَنْ غُبَارِ السِّرْقِينِ وَقَلِيلِ الدُّخَانِ النَّجَسِ وَأَمْثَالِهَا , وَهِيَ كَثِيرَةٌ مُفَصَّلَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ . وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ الْعَفْوِ عَنْ بَوْلِ الشَّخْصِ أَوْ بَوْلِ غَيْرِهِ الَّذِي انْتَضَحَ عَلَى ثِيَابِهِ كَرُءُوسِ إبَرٍ , قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : وَالْعِلَّةُ الضَّرُورَةُ قِيَاسًا عَلَى مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى مِمَّا عَلَى أَرْجُلِ الذُّبَابِ , فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى النَّجَاسَةِ ثُمَّ يَقَعُ عَلَى الثِّيَابِ , وَمِثْلُهُ الدَّمُ عَلَى ثِيَابِ الْقَصَّابِ , فَإِنَّ فِي التَّحَرُّزِ عَنْهُ حَرَجًا ظَاهِرًا . 3 - وَمِنْ الْأَحْكَامِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى عُمُومِ الْبَلْوَى طَهَارَةُ الْخُفِّ وَالنَّعْلِ بِالدَّلْكِ عَلَى الْأَرْضِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ , كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ , قَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ : وَيَطْهُرُ خُفٌّ وَنَحْوُهُ , كَنَعْلٍ تَنَجَّسَ بِذِي جُرْمٍ بِدَلْكٍ , قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : وَإِنْ كَانَ رَطْبًا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ . وَهُوَ الْأَصَحُّ الْمُخْتَارُ , وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِعُمُومِ الْبَلْوَى . وَلِعُمُومِ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد : { إذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ , فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ , وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا } . 4 - وَذَكَرَ السُّيُوطِيّ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى عُمُومِ الْبَلْوَى فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ : جَوَازُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَمَالِ الْغَيْرِ مَعَ ضَمَانِ الضَّرَرِ إذَا اُضْطُرَّ . وَأَكْلِ الْوَلِيِّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ بِقَدْرِ أُجْرَةِ عَمَلِهِ إذَا احْتَاجَ , وَمَشْرُوعِيَّةُ الرَّدِّ بِالْخِيَارَاتِ فِي الْبَيْعِ . وَكَذَلِكَ مَشْرُوعِيَّةُ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ ( غَيْرِ اللَّازِمَةِ ) لِأَنَّ لُزُومَهَا يَشُقُّ , كَمَا ذَكَرَ مِنْهَا إبَاحَةَ النَّظَرِ لِلْخُطْبَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْإِشْهَادِ وَالْمُعَامَلَةِ وَالْمُعَالَجَةِ وَنَحْوِهَا . وَلِتَفْصِيلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَأَمْثَالِهَا يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ : ( تَيْسِيرٍ ف 48 وَمَا بَعْدَهَا , وَحَاجَةٌ ف 24 وَمَا بَعْدَهَا ) . 5 - وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ جَوَازِ عَقْدِ الِاسْتِصْنَاعِ - وَهُوَ عَقْدُ مُقَاوَلَةٍ مَعَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ شَيْئًا - مَعَ أَنَّهُ يُخَالِفُ الْقَوَاعِدَ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْمَعْدُومِ ; إلَّا أَنَّهُ أُجِيزَ لِلْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ إلَيْهِ وَفِي مَنْعِهِ مَشَقَّةٌ وَإِحْرَاجٌ . وَمِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي بَنَاهَا الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عُمُومِ الْبَلْوَى جَوَازُ إجَارَةِ الْقَنَاةِ وَالنَّهَرِ مَعَ الْمَاءِ , قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : جَازَ إجَارَةُ الْقَنَاةِ وَالنَّهَرِ أَيْ مَجْرَى الْمَاءِ مَعَ الْمَاءِ تَبَعًا , بِهِ يُفْتَى لِعُمُومِ الْبَلْوَى . لَكِنَّ الْمَشَقَّةَ وَالْحَرَجَ إنَّمَا يُعْتَبَرَانِ فِي مَوْضِعٍ لَا نَصَّ فِيهِ , وَكَذَلِكَ الْبَلْوَى كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ , قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ : لَا اعْتِبَارَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْبَلْوَى فِي مَوْضِعِ النَّصِّ , كَمَا فِي بَوْلِ الْآدَمِيِّ , فَإِنَّ الْبَلْوَى فِيهِ أَعَمُّ . قَتْلٌ بِسَبَبٍ التَّعْرِيفُ :(1/265)
1 - الْقَتْلُ بِسَبَبٍ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ , هُمَا : الْقَتْلُ وَالسَّبَبُ . وَيُنْظَرُ تَعْرِيفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُصْطَلَحِهِ . وَالْقَتْلُ بِسَبَبٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الْقَتْلُ نَتِيجَةَ فِعْلٍ لَا يُؤَدِّي مُبَاشَرَةً إلَى قَتْلٍ , كَحَفْرِ الْبِئْرِ , أَوْ وَضْعِ الْحَجَرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ , وَأَمْثَالِهِمَا , فَيَعْطَبُ بِهِ إنْسَانٌ وَيُقْتَلُ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - ( الْقَتْلُ الْعَمْدُ ) : 2 - الْقَتْلُ الْعَمْدُ هُوَ قَصْدُ الْفِعْلِ وَالشَّخْصِ بِمَا يَقْتُلُ قَطْعًا أَوْ غَالِبًا . وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ يَكُونُ بِفِعْلٍ مُبَاشِرٍ يَقْتُلُ غَالِبًا , وَالْقَتْلُ بِسَبَبٍ يَكُونُ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ . ب - ( الْقَتْلُ شِبْهُ الْعَمْدِ ) : 3 - الْقَتْلُ شِبْهُ الْعَمْدِ هُوَ قَصْدُ الْفِعْلِ وَالشَّخْصِ بِمَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا . وَالْعَلَاقَةُ أَنَّ الْقَتْلَ شِبْهَ الْعَمْدِ يَكُونُ بِفِعْلٍ مُبَاشِرٍ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا . وَالْقَتْلُ بِسَبَبٍ يَكُونُ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ . ج - ( الْقَتْلُ الْخَطَأُ ) : 4 - هُوَ مَا وَقَعَ دُونَ قَصْدِ الْفِعْلِ وَالشَّخْصِ , أَوْ دُونَ قَصْدِ أَحَدِهِمَا . وَالصِّلَةُ أَنَّ الْقَتْلَ الْخَطَأَ يَقَعُ نَتِيجَةَ فِعْلٍ مُبَاشِرٍ , بِخِلَافِ الْقَتْلِ بِسَبَبٍ . حَالَاتُ الْقَتْلِ بِسَبَبٍ : 5 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْقَتْلَ أَقْسَامًا اخْتَلَفُوا فِيهَا , وَمِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ الْقَتْلُ بِسَبَبٍ , فَاعْتَبَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ قِسْمًا مُسْتَقِلًّا مِنْ أَقْسَامِ الْقَتْلِ الْخَمْسَةِ عِنْدَهُمْ , لَكِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ لَمْ يَجْعَلُوهُ قِسْمًا مُسْتَقِلًّا وَإِنَّمَا أَوْرَدُوا أَحْكَامَهُ فِي الْأَقْسَامِ الْأُخْرَى وَمِنْ ذَلِكَ الْحَالَاتُ التَّالِيَةُ : أ - ( الْإِكْرَاهُ ) : 6 - الْقَتْلُ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ أَنْ يُكْرِهَ رَجُلًا عَلَى قَتْلِ آخَرَ فَيَقْتُلَهُ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ , وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ : ( إكْرَاهٌ ف 19 وَمَا بَعْدَهَا ) .
د - ( حَفْرُ الْبِئْرِ وَوَضْعُ الْحَجَرِ ) :
9 - مِنْ صُوَرِ الْقَتْلِ بِسَبَبٍ حَفْرُ الْبِئْرِ وَنَصْبُ حَجَرٍ أَوْ سِكِّينٍ تَعَدِّيًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِلَا إذْنٍ , فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْجِنَايَةَ وَأَدَّى إلَى قَتْلِ إنْسَانٍ , فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ قَتْلُ خَطَأٍ وَمُوجَبَهُ الدِّيَةُ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ قَتْلٌ بِسَبَبٍ وَمُوجَبَهُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ , لِأَنَّهُ سَبَبُ التَّلَفِ , وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ , وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ , وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ , لِأَنَّ الْقَتْلَ مَعْدُومٌ مِنْهُ حَقِيقَةً , فَأُلْحِقَ بِهِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ , فَبَقِيَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى الْأَصْلِ , وَهُوَ إنْ كَانَ يَأْثَمُ بِالْحَفْرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَا يَأْثَمُ بِالْمَوْتِ . أَمَّا إذَا قَصَدَ الْجِنَايَةَ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ إذَا قَصَدَ هَلَاكَ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ , وَهَلَكَ فِعْلًا , فَعَلَى الْفَاعِلِ الْقِصَاصُ , وَإِنْ هَلَكَ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ فَفِيهِ الدِّيَةُ . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هُوَ شِبْهُ عَمْدٍ , وَمُوجَبُهُ الدِّيَةُ , وَقَدْ يَقْوَى فَيَلْحَقُ بِالْعَمْدِ , كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ وَالشَّهَادَةِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى اعْتِبَارِ حَفْرِ الْبِئْرِ شَرْطًا , لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْهَلَاكِ وَلَا يُحَصِّلُهُ , بَلْ يَحْصُلُ التَّلَفُ عِنْدَهُ بِغَيْرِهِ , وَيَتَوَقَّفُ تَأْثِيرُ ذَلِكَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ , فَإِنَّ الْحَفْرَ لَا يُؤَثِّرُ فِي التَّلَفِ , وَلَا يُحَصِّلُهُ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ التَّخَطِّي فِي صَوْبِ الْحُفْرَةِ , وَالْمُحَصِّلُ لِلتَّلَفِ التَّرَدِّي فِيهَا وَمُصَادَمَتُهَا , لَكِنْ لَوْلَا الْحَفْرُ لَمَا حَصَلَ التَّلَفُ وَلَا قِصَاصَ فِيهِ .
الصُّورَةُ السَّابِعَةُ : الْقَتْلُ بِسَبَبٍ :
18 - الْقَتْلُ بِسَبَبٍ قَدْ يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ وَيَكُونُ فِيهِ الْقِصَاصُ , كَأَنْ يُكْرِهَ رَجُلًا عَلَى قَتْلِ آخَرَ إكْرَاهًا مُلْجِئًا , أَوْ يَشْهَدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ وَيَعْتَرِفَا بِكَذِبِهِمَا فِي الشَّهَادَةِ . أَوْ يَحْكُمَ حَاكِمٌ عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ بِالشَّهَادَةِ الْكَاذِبَةِ وَكَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ مُتَعَمِّدًا . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ : ( قَتْلٌ بِسَبَبٍ ف 6 وَ 7 ) .
الرُّكْنُ الثَّانِي : الْعَاقِدَانِ ( الْمُقْرِضُ وَالْمُقْتَرِضُ ) :(1/266)
( أ ) مَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَرْضِ : 10 - لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُقْرِضِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ , أَيْ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا رَشِيدًا , قَالَ الْبُهُوتِيُّ : لِأَنَّهُ عَقْدُ إرْفَاقٍ , فَلَمْ يَصِحَّ إلَّا مِمَّنْ يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ , كَالصَّدَقَةِ , وَقَدْ أَكَّدَ الْكَاسَانِيُّ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ : لِأَنَّ الْقَرْضَ لِلْمَالِ تَبَرُّعٌ , أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ لِلْحَالِ , فَكَانَ تَبَرُّعًا لِلْحَالِ , فَلَا يَجُوزُ إلَّا مِمَّنْ يَجُوزُ مِنْهُ التَّبَرُّعُ . أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ فِي الْقَرْضِ شَائِبَةَ تَبَرُّعٍ , لَا أَنَّهُ مِنْ عُقُودِ الْإِرْفَاقِ وَالتَّبَرُّعِ , فَقَالَ صَاحِبُ " أَسْنَى الْمَطَالِبِ " " لِأَنَّ الْقَرْضَ فِيهِ شَائِبَةُ التَّبَرُّعِ , وَلَوْ كَانَ مُعَاوَضَةً مَحْضَةً لَجَازَ لِلْوَلِيِّ - غَيْرِ الْقَاضِي قَرْضُ مَالِ مُوَلِّيهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ , وَلَاشْتُرِطَ فِي قَرْضِ الرِّبَوِيِّ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ , وَلَجَازَ فِي غَيْرِهِ شَرْطُ الْأَجَلِ , وَاللَّوَازِمُ بَاطِلَةٌ " . وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْمُقْرِضِ لِلتَّبَرُّعِ تَسْتَلْزِمُ اخْتِيَارَهُ , وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ إقْرَاضٌ مِنْ مُكْرَهٍ , قَالُوا : وَمَحَلُّهُ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ , أَمَّا إذَا أُكْرِهَ بِحَقٍّ , بِأَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِقْرَاضُ لِنَحْوِ اضْطِرَارٍ فَإِنَّ إقْرَاضَهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ يَكُونُ صَحِيحًا . وَفَرَّعَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ فِي الْمُقْرَضِ عَدَمَ صِحَّةِ إقْرَاضِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ لِمَالِ الصَّغِيرِ , وَفَرَّعَ الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ صِحَّةِ قَرْضِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ لِمَالَيْهِمَا , أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ وَقَالُوا : لَا يَجُوزُ إقْرَاضُ الْوَلِيِّ مَالَ مُوَلِّيهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ الْحَاكِمُ , أَمَّا الْحَاكِمُ فَيَجُوزُ لَهُ عِنْدَهُمْ إقْرَاضُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ - خِلَافًا لِلسُّبْكِيِّ - بِشَرْطِ يَسَارِ الْمُقْتَرِضِ وَأَمَانَتِهِ وَعَدَمِ الشُّبْهَةِ فِي مَالِهِ إنْ سَلَّمَ مِنْهَا مَالَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ , وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ , وَيَأْخُذُ رَهْنًا إنْ رَأَى ذَلِكَ . ( ب ) مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُقْتَرِضِ : 11 - ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُقْتَرِضِ أَهْلِيَّةُ الْمُعَامَلَةِ دُونَ اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ , وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْمُقْتَرِضِ تَمَتُّعُهُ بِالذِّمَّةِ ; لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَثْبُتُ إلَّا فِي الذِّمَمِ , ثُمَّ فَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ عَدَمَ صِحَّةِ الِاقْتِرَاضِ لِمَسْجِدٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ أَوْ رِبَاطٍ ; لِعَدَمِ وُجُودِ ذِمَمٍ لِهَذِهِ الْجِهَاتِ عِنْدَهُمْ , أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ يَنُصُّوا عَلَى شُرُوطٍ خَاصَّةٍ لِلْمُقْتَرِضِ , وَاَلَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْ فُرُوعِهِمْ الْفِقْهِيَّةِ اشْتِرَاطُهُمْ أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ فِيهِ , بِأَنْ يَكُونَ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا , وَعَلَى ذَلِكَ قَالُوا : إذَا اسْتَقْرَضَ صَبِيٌّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ شَيْئًا فَاسْتَهْلَكَهُ الصَّبِيُّ , فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ , فَإِنْ تَلِفَ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ , فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ بَاقِيَةً فَلِلْمُقْرِضِ اسْتِرْدَادُهَا , وَهَذَا الْحُكْمُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ اقْتِرَاضِ الْمَحْجُورِ عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ , وَجَاءَ فِي جَامِعِ أَحْكَامِ الصِّغَارِ لِلْأُسْرُوشَنِيِّ : اسْتِقْرَاضُ الْأَبِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ يَجُوزُ , وَكَذَا اسْتِقْرَاضُ الْوَصِيِّ لِلصَّغِيرِ , فَقَدْ ذُكِرَ فِي رَهْنِ " الْهِدَايَةِ " : وَلَوْ اسْتَدَانَ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ فِي كِسْوَتِهِ وَطَعَامِهِ وَرَهَنَ بِهِ مَتَاعًا لِلْيَتِيمِ جَازَ ; لِأَنَّ الِاسْتِدَانَةَ جَائِزَةٌ لِلْحَاجَةِ , وَالرَّهْنُ يَقَعُ إيفَاءً لِلْحَقِّ , فَيَجُوزُ .
( الْقُرْعَةُ لِلسَّفَرِ ) :(1/267)
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرَّجُلِ يُرِيدُ السَّفَرَ بِإِحْدَى زَوْجَاتِهِ , هَلْ لَهُ ذَلِكَ , أَمْ لَا بُدَّ مِنْ رِضَا سَائِرِ الزَّوْجَاتِ أَوْ الْقُرْعَةِ ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ إلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ السَّفَرَ بِمَنْ شَاءَ مِنْ زَوْجَاتِهِ دُونَ قُرْعَةٍ أَوْ رِضَا سَائِرِ الزَّوْجَاتِ , لَكِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ تَفْصِيلًا : فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : لَا حَقَّ لِلزَّوْجَاتِ فِي الْقَسْمِ حَالَةَ السَّفَرِ , فَيُسَافِرُ الزَّوْجُ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ . وَالْأَوْلَى أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ فَيُسَافِرَ بِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا , تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ ; وَلِأَنَّهُ قَدْ يَثِقُ بِإِحْدَى الزَّوْجَاتِ فِي السَّفَرِ وَبِالْأُخْرَى فِي الْحَضَرِ وَالْقَرَارُ فِي الْمَنْزِلِ لِحِفْظِ الْأَمْتِعَةِ أَوْ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ , وَقَدْ يَمْنَعُ مِنْ سَفَرِ إحْدَاهُنَّ كَثْرَةُ سِمَنِهَا مَثَلًا , فَتَعْيِينُ مَنْ يَخَافُ صُحْبَتَهَا فِي السَّفَرِ لِلسَّفَرِ لِخُرُوجِ قُرْعَتِهَا إلْزَامٌ لِلضَّرَرِ الشَّدِيدِ وَهُوَ مُنْدَفِعٌ بِالنَّافِي لِلْحَرَجِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : إنْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يُسَافِرَ بِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ أَوْ زَوْجَاتِهِ اخْتَارَ مَنْ تَصْلُحُ لِإِطَاقَتِهَا السَّفَرَ أَوْ لِخِفَّةِ جِسْمِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَا لِمَيْلِهِ إلَيْهَا , إلَّا فِي سَفَرِ الْحَجِّ وَالْغَزْوِ فَيُقْرِعُ بَيْنَهُمَا أَوْ بَيْنَهُنَّ لِأَنَّ الْمُشَاحَّةَ تَعْظُمُ فِي سَفَرِ الْقُرُبَاتِ , وَشَرْطُ الْإِقْرَاعِ صَلَاحُ جَمِيعِهِنَّ لِلسَّفَرِ , وَمَنْ اخْتَارَ سَفَرَهَا أَوْ تَعَيَّنَ بِالْقُرْعَةِ أُجْبِرَتْ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهَا أَوْ يَكُونُ سَفَرُهَا مَعَرَّةً عَلَيْهَا , وَمَنْ أَبَتْ لِغَيْرِ عُذْرٍ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا . وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِبَعْضِ زَوْجَاتِهِ - وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ - إلَّا بِرِضَاءِ سَائِرِهِنَّ أَوْ بِالْقُرْعَةِ , وَذَلِكَ فِي الْأَسْفَارِ الطَّوِيلَةِ الْمُبِيحَةِ لِقَصْرِ الصَّلَاةِ , وَكَذَا فِي الْأَسْفَارِ الْقَصِيرَةِ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَالُوا : لَا فَرْقَ بَيْنَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ لِعُمُومِ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى , وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي مِنْ الْحَنَابِلَةِ : أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ بَعْضَ زَوْجَاتِهِ بِالْقُرْعَةِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ , وَلَيْسَ لِلْمُقِيمِ تَخْصِيصُ بَعْضِهِنَّ بِالْقُرْعَةِ , فَإِنْ فَعَلَ قَضَى لِلْبَوَاقِي . وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى وُجُوبِ الْقُرْعَةِ لِتَعْيِينِ إحْدَى الزَّوْجَاتِ لِلسَّفَرِ مَعَ الزَّوْجِ بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله تعالى عنها : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ , وَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ } , كَمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى الْقُرْعَةِ لِتَعْيِينِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ لِلسَّفَرِ مَعَ الزَّوْجِ إنْ أَرَادَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ , فَصَارَتْ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ } وَقَالُوا : إنَّ الْمُسَافَرَةَ بِبَعْضِ الزَّوْجَاتِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ تَفْضِيلٌ لِمَنْ سَافَرَ بِهَا فَلَمْ يَجُزْ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ . وَقَالُوا : إذَا سَافَرَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ سَوَّى بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ فِي السَّفَرِ كَمَا يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ فِي الْحَضَرِ . وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إذَا خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لِإِحْدَى الزَّوْجَاتِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الزَّوْجِ السَّفَرُ بِهَا , وَلَهُ تَرْكُهَا وَالسَّفَرُ وَحْدَهُ ; لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لَا تُوجِبُ وَإِنَّمَا تُعَيِّنُ مَنْ تَسْتَحِقُّ التَّقْدِيمَ , وَإِنْ أَرَادَ السَّفَرَ بِغَيْرِهَا لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّهَا تَعَيَّنَتْ بِالْقُرْعَةِ فَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا , وَإِنْ امْتَنَعَتْ مِنْ السَّفَرِ مَعَ الزَّوْجِ سَقَطَ حَقُّهَا إذَا رَضِيَ الزَّوْجُ , وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ بِامْتِنَاعِهَا فَلَهُ إكْرَاهُهَا عَلَى السَّفَرِ مَعَهُ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا إجَابَتُهُ , فَإِنْ رَضِيَ بِامْتِنَاعِهَا اسْتَأْنَفَ الْقُرْعَةَ بَيْنَ الْبَوَاقِي لِتَعْيِينِ مَنْ تُسَافِرُ مَعَهُ . وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَتْ لَهَا الْقُرْعَةُ إنْ وَهَبَتْ حَقَّهَا مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهَا مِنْ الزَّوْجَاتِ جَازَ إنْ رَضِيَ الزَّوْجُ ; لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا فَصَحَّتْ هِبَتُهَا لَهُ كَمَا لَوْ وَهَبَتْ لَيْلَتَهَا فِي الْحَضَرِ , وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَا الزَّوْجِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا لَا يَسْقُطُ إلَّا بِرِضَاهُ , وَإِنْ وَهَبَتْهُ لِلزَّوْجِ أَوْ لِسَائِرِ الزَّوْجَاتِ جَازَ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : إنْ رَضِيَتْ الزَّوْجَاتُ كُلُّهُنَّ بِسَفَرِ وَاحِدَةٍ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ جَازَ ; لِأَنَّ(1/268)
الْحَقَّ لَهُنَّ إلَّا أَنْ لَا يَرْضَى الزَّوْجُ بِهَا فَيُصَارُ إلَى الْقُرْعَةِ , وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَاتِ إنْ رَضِينَ بِوَاحِدَةٍ فَلَهُنَّ الرُّجُوعُ قَبْلَ سَفَرِهَا , قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَكَذَا بَعْدَهُ مَا لَمْ يُجَاوِزْ مَسَافَةَ الْقَصْرِ , أَيْ يَصِلُ إلَيْهَا . وَقَالُوا : لَوْ أَقْرَعَ الزَّوْجُ بَيْنَ نِسَائِهِ عَلَى سَفَرٍ فَخَرَجَ سَهْمُ وَاحِدَةٍ فَخَرَجَ بِهَا , ثُمَّ أَرَادَ سَفَرًا آخَرَ قَبْلَ رُجُوعِهِ مِنْ ذَلِكَ السَّفَرِ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ كَالسَّفَرِ الْوَاحِدِ , مَا لَمْ يَرْجِعْ , فَإِذَا رَجَعَ فَأَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ . وَقَالُوا : لَوْ سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أَوْ أَكْثَرَ بِقُرْعَةٍ أَوْ بِرِضَاهُنَّ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِلْحَاضِرَاتِ , سَوَاءٌ طَالَ سَفَرُهُ أَوْ قَصُرَ ; لِأَنَّ الَّتِي سَافَرَ بِهَا يَلْحَقُهَا مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ بِإِزَاءِ مَا حَصَلَ لَهَا مِنْ السَّكَنِ , وَلَا يَحْصُلُ لَهَا مِنْ السَّكَنِ مِثْلُ مَا يَحْصُلُ لِمَنْ فِي الْحَضَرِ , أَيْ أَنَّ الْمُقِيمَةَ فِي الْحَضَرِ الَّتِي لَمْ تُسَافِرْ مَعَ زَوْجِهَا وَإِنْ فَاتَهَا حَظُّهَا مِنْ زَوْجِهَا أَثْنَاءَ سَفَرِهِ مَعَ غَيْرِهَا مِنْ الزَّوْجَاتِ , فَقَدْ تَرَفَّهَتْ بِالدَّعَةِ وَالْإِقَامَةِ فَتَقَابَلَ الْأَمْرَانِ فَاسْتَوَيَا , وَلَوْ سَافَرَ الزَّوْجُ بِوَاحِدَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ زَوْجَاتِهِ دُونَ رِضَاهُنَّ أَوْ الْقُرْعَةِ أَثِمَ , وَقَضَى لِلْأُخْرَيَاتِ مُدَّةَ السَّفَرِ . وَقَالُوا : إنْ خَرَجَ بِإِحْدَاهُنَّ بِقُرْعَةٍ ثُمَّ أَقَامَ قَضَى مُدَّةَ الْإِقَامَةِ لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ السَّفَرِ , وَذَلِكَ إذَا سَاكَنَ الْمَصْحُوبَةَ , أَمَّا إذَا اعْتَزَلَهَا مُدَّةَ الْإِقَامَةِ فَلَا يَقْضِي . وَقَالُوا : مَنْ سَافَرَ لِنُقْلَةٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ بَعْضَهُنَّ دُونَ بَعْضٍ وَلَوْ بِقُرْعَةٍ , بَلْ يَنْقُلَهُنَّ أَوْ يُطَلِّقَهُنَّ , وَإِنْ أَرَادَ الِانْتِقَالَ بِنِسَائِهِ فَأَمْكَنَهُ اسْتِصْحَابُهُنَّ كُلُّهُنَّ فِي سَفَرِهِ فَعَلَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إفْرَادُ إحْدَاهُنَّ بِهِ ; لِأَنَّ هَذَا السَّفَرَ لَا يَخْتَصُّ بِوَاحِدَةٍ بَلْ يَحْتَاجُ إلَى نَقْلِ جَمِيعِهِنَّ , فَإِنْ خَصَّ إحْدَاهُنَّ بِالسَّفَرِ مَعَهُ قَضَى لِلْبَاقِيَاتِ , وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ صُحْبَةُ جَمِيعِهِنَّ أَوْ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَبَعَثَ بِهِنَّ جَمِيعًا مَعَ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ مَحْرَمٌ لَهُنَّ جَازَ , وَلَا يَقْضِي لِأَحَدٍ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى قُرْعَةٍ لِأَنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُنَّ , وَإِنْ أَرَادَ إفْرَادَ بَعْضِهِنَّ بِالسَّفَرِ مَعَهُ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِقُرْعَةٍ , فَإِذَا وَصَلَ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ فَأَقَامَتْ مَعَهُ فِيهِ قَضَى لِلْبَاقِيَاتِ . وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ هُوَ السَّفَرُ الْمُبَاحُ , أَمَّا غَيْرُهُ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ فِيهِ بَعْضَهُنَّ بِقُرْعَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا , فَإِنْ فَعَلَ عَصَى وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ لِلزَّوْجَاتِ الْبَاقِيَاتِ .
( شُرُوطُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ) :(1/269)
10 - لِلْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ شُرُوطٌ فِي الْقَاتِلِ , وَالْمَقْتُولِ , وَفِعْلِ الْقَتْلِ , لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ إلَّا بِتَوَفُّرِهَا , وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ , كَمَا يَلِي : أ - التَّكْلِيفُ : 11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاتِلِ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا , أَيْ عَاقِلًا بَالِغًا عِنْدَ الْقَتْلِ , فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ إذَا كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا جُنُونًا مُطْبِقًا عِنْدَ الْقَتْلِ . فَإِذَا قَتَلَهُ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ إنْ دَفَعَهُ الْقَاضِي لِلْوَلِيِّ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ اُقْتُصَّ مِنْهُ , وَإِنْ جُنَّ قَبْلَ دَفْعِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ وَوَجَبَتْ الدِّيَةُ بَدَلًا مِنْهُ اسْتِحْسَانًا , وَكَذَلِكَ إذَا جُنَّ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ , فَإِنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ ; لِأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُخَاطَبًا حَالَةَ الْوُجُوبِ وَذَلِكَ بِالْقَضَاءِ وَيَتِمُّ بِالدَّفْعِ , فَإِذَا جُنَّ قَبْلَ الدَّفْعِ تَمَكَّنَ الْخَلَلُ فِي الْوُجُوبِ فَصَارَ كَمَا لَوْ جُنَّ قَبْلَ الْقَضَاءِ . فَإِنْ كَانَ يَجِنُّ وَيُفِيقُ , فَإِنْ قَتَلَ فِي إفَاقَتِهِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ , فَإِنْ جُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ مُطْبِقًا سَقَطَ الْقِصَاصُ , وَإِنْ غَيْرَ مُطْبِقٍ قُتِلَ قِصَاصًا بَعْدَ إفَاقَتِهِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُنْتَظَرُ إلَى حِينِ إفَاقَتِهِ ثُمَّ يُقْتَصُّ مِنْهُ . فَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ مَجْنُونًا جُنُونًا مُتَقَطِّعًا , فَإِنْ قَتَلَهُ فِي حَالِ صَحْوِهِ اُقْتُصَّ مِنْهُ فِي حَالِ صَحْوِهِ , وَإِنْ قَتَلَهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ إنْ قَتَلَهُ وَهُوَ مَجْنُونٌ جُنُونًا مُطْبِقًا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ جُنُونُهُ مُتَقَطِّعًا , فَإِنْ قَتَلَهُ حَالَ الْجُنُونِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ حَالَ الْجُنُونِ وَهُوَ فِيهَا غَيْرُ مُكَلَّفٍ , وَإِنْ قَتَلَهُ حَالَ الْإِفَاقَةِ , أَوْ قَتَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ , وَيُقْتَصُّ مِنْهُ حَالَ جُنُونِهِ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ إنْ قَتَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ لَمْ يَسْقُطْ الْقِصَاصُ عَنْهُ , ثُمَّ يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ إنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ بِبَيِّنَةٍ , فَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ حَتَّى يَصْحُوَ ; لِاحْتِمَالِ رُجُوعِهِ عَنْ إقْرَارِهِ . وَمِثْلُ الْجُنُونِ : النَّوْمُ وَالْإِغْمَاءُ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ , لِلْحَدِيثِ الشَّرِيفِ : { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } . أَمَّا السَّكْرَانُ , فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ , وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمَا إلَى أَنَّهُ إنْ قَتَلَ وَهُوَ سَكْرَانُ , فَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ بِمُحَرَّمٍ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ لِعُذْرٍ كَالْإِكْرَاهِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ : إنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ , وَفِيهِ رِوَايَتَانِ , فَيَكُونُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ .
و - أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُخْتَارًا :
16 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي إسْقَاطِ الْقِصَاصِ عَنْ الْمُكْرَهِ , فَإِذَا قَتَلَ غَيْرَهُ مُكْرَهًا لَزِمَهُ الْقِصَاصُ , وَلَزِمَ الْقِصَاصُ الْمُكْرَهَ أَيْضًا وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُخْتَارًا اخْتِيَارَ الْإِيثَارِ , فَلَا قِصَاصَ عَلَى مُكْرَهٍ إكْرَاهًا مُلْجِئًا اسْتَوْفَى شُرُوطَهُ الْأُخْرَى , وَهَلْ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ ( إكْرَاهٌ ف 19 ) . أَمَّا الْإِكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ فَلَا أَثَرَ لَهُ وَيُقْتَصُّ مَعَهُ مِنْ الْقَاتِلِ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ ( إكْرَاهٌ ف 19 - 24 ) .
م - ( كَرَاهِيَةُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ) :(1/270)
40 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ إلَّا بِوَكِيلٍ لَا يُعْرَفُ بِهِ لِئَلَّا يُحَابِيَ وَالْمُحَابَاةُ كَالْهَدِيَّةِ , وَلَيْسَ لِلْقَاضِي وَلَا لِوَالٍ أَنْ يَتَّجِرَ , لِحَدِيثِ أَبِي الْأَسْوَدِ الْمَالِكِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا : { مَا عَدَلَ وَالٍ اتَّجَرَ فِي رَعِيَّتِهِ } , وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ أَمْ فِي دَارِهِ , لَكِنْ إذَا بَاعَ الْقَاضِي أَوْ اشْتَرَى فَلَا يُرَدُّ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ , أَوْ فِيهِ نَقِيصَةٌ عَلَى الْبَائِعِ فَيُرَدُّ الْبَيْعُ وَالِابْتِيَاعُ . وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَكِيلُ الْقَاضِي مَعْرُوفًا لِأَنَّهُ يُفْعَلُ مَعَ وَكِيلِهِ مِنْ الْمُسَامَحَةِ مَا يُفْعَلُ مَعَهُ . وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَصْرُ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى حُصُولِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ .
كُرْهٌ التَّعْرِيفُ :(1/271)
1 - الْكُرْهُ فِي اللُّغَةِ - بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا - الْمَشَقَّةُ , وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ كَرِهْت الشَّيْءَ أَكْرَهُهُ كُرْهًا - بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ - ضِدُّ أَحْبَبْته فَهُوَ مَكْرُوهٌ . وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ إلَى أَنَّ الْكُرْهَ وَالْكَرْهَ لُغَتَانِ , فَبِأَيِّ لُغَةٍ وَقَعَ فَهُوَ جَائِزٌ , إلَّا الْفَرَّاءَ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْكُرْهَ - بِالضَّمِّ - مَا أَكْرَهْت نَفْسَك عَلَيْهِ , وَالْكَرْهُ - بِالْفَتْحِ - مَا أَكْرَهَك غَيْرُك عَلَيْهِ . وَفِي الْمِصْبَاحِ : الْكَرْهُ - بِالْفَتْحِ - الْمَشَقَّةُ , وَبِالضَّمِّ : الْقَهْرُ , وَقِيلَ : بِالْفَتْحِ : الْإِكْرَاهُ , وَبِالضَّمِّ الْمَشَقَّةُ . وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - ( الْبُغْضُ ) : 2 - الْبُغْضُ فِي اللُّغَةِ : نَقِيضُ الْحُبِّ , وَبَغَضَ الشَّيْءَ بُغْضًا : مَقَتَهُ وَكَرِهَهُ , وَبَغُضَ الرَّجُلُ - بِالضَّمِّ - بَغَاضَةً , أَيْ صَارَ بَغِيضًا , وَبَغَّضَهُ اللَّهُ إلَى النَّاسِ تَبْغِيضًا فَأَبْغَضُوهُ , أَيْ مَقَتُوهُ . وَفِي الْمُفْرَدَاتِ : الْبُغْضُ : نِفَارُ النَّفْسِ عَنْ الشَّيْءِ الَّذِي تَرْغَبُ عَنْهُ , وَهُوَ ضِدُّ الْحُبِّ . وَقَدْ فَرَّقَ أَبُو هِلَالٍ الْعَسْكَرِيُّ بَيْنَ الْكَرَاهَةِ وَالْبُغْضِ فَقَالَ : إنَّهُ قَدْ اتَّسَعَ بِالْبُغْضِ مَا لَمْ يَتَّسِعْ بِالْكَرَاهَةِ , فَقِيلَ : أَبْغَضُ زَيْدًا أَيْ أَبْغَضُ إكْرَامَهُ وَنَفْعَهُ , وَلَا يُقَالُ : أَكْرَهُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى , وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْبُغْضُ , فَيُقَالُ : أَكْرَهُ هَذَا الطَّعَامَ وَلَا يُقَالُ أَبْغَضُهُ , وَالْمُرَادُ أَنِّي أَكْرَهُ أَكْلَهُ . ب - ( الْحُبُّ ) : 3 - الْحُبُّ فِي اللُّغَةِ : نَقِيضُ الْبُغْضِ , وَالْحُبُّ : الْوِدَادُ وَالْمَحَبَّةُ , وَأُحِبُّهُ فَهُوَ مُحَبٌّ وَحَبَّهُ يَحِبُّهُ - بِالْكَسْرِ - فَهُوَ مَحْبُوبٌ , وَتَحَبَّبَ إلَيْهِ : تَوَدَّدَ . وَالْحُبُّ نَقِيضُ الْكُرْهِ . ( أَنْوَاعُ الْكُرْهِ ) : 4 - جَاءَ فِي الْمُفْرَدَاتِ : الْكُرْهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا يُعَافُ مِنْ حَيْثُ الطَّبْعُ . وَالثَّانِي : مَا يُعَافُ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلُ أَوْ الشَّرْعُ . وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ : إنِّي أُرِيدُهُ وَأَكْرَهُهُ , بِمَعْنَى أَنِّي أُرِيدُهُ مِنْ حَيْثُ الطَّبْعُ , وَأَكْرَهُهُ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلُ أَوْ الشَّرْعُ , وَأُرِيدُهُ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلُ أَوْ الشَّرْعُ , وَأَكْرَهُهُ مِنْ حَيْثُ الطَّبْعُ , وقوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } , أَيْ تَكْرَهُونَهُ مِنْ حَيْثُ الطَّبْعُ . وَقَدْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ : كَانَ الْجِهَادُ كُرْهًا لِأَنَّ فِيهِ إخْرَاجَ الْمَالِ وَمُفَارَقَةَ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ , وَالتَّعَرُّضَ بِالْجَسَدِ لِلشِّجَاجِ وَالْجِرَاحِ وَذَهَابِ النَّفْسِ فَكَانَتْ كَرَاهِيَتُهُمْ لِذَلِكَ , لَا أَنَّهُمْ كَرِهُوا فَرْضَ اللَّهِ . الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ : 5 - الْكُرْهُ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَكُرْهِ الْكُفْرِ وَكُرْهِ الْمَعْصِيَةِ وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ كَرَّهَ إلَيْهِمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ . وَيَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا , وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ , وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ } . وَقَدْ يَكُونُ الْكُرْهُ حَرَامًا كَكُرْهِ الْإِسْلَامِ أَوْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَوْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَوْ الصَّالِحِينَ , وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كَرَاهَةُ النِّعْمَةِ عِنْدَ الْغَيْرِ وَحُبُّ زَوَالِهَا عَنْ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ . وَقَدْ يَكُونُ الْكُرْهُ مُبَاحًا كَكَرَاهَةِ الْمَقْضِيِّ بِهِ إنْ كَانَ مَعْصِيَةً ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مُطَالَبٌ بِالرِّضَا بِالْقَضَاءِ مُطْلَقًا , أَمَّا الْمَقْضِيُّ بِهِ فَإِنْ كَانَ طَاعَةً فَالْوَاجِبُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالْمَقْضِيِّ بِهِ جَمِيعًا , وَإِنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ بِهِ مَعْصِيَةً فَلْيَرْضَ بِالْقَضَاءِ وَلَا يَرْضَى بِالْمَقْضِيِّ بِهِ بَلْ يَكْرَهُهُ . يَقُولُ الْقَرَافِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ السَّخَطَ بِالْقَضَاءِ حَرَامٌ إجْمَاعًا وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَاجِبٌ إجْمَاعًا بِخِلَافِ الْمَقْضِيِّ بِهِ , فَعَلَى هَذَا إذَا اُبْتُلِيَ الْإِنْسَانُ بِمَرَضٍ فَتَأَلَّمَ مِنْ الْمَرَضِ بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ فَهَذَا لَيْسَ عَدَمَ رِضَا بِالْقَضَاءِ بَلْ عَدَمُ رِضَا بِالْمَقْضِيِّ وَنَحْنُ لَمْ نُؤْمَرْ بِأَنْ تَطِيبَ لَنَا الْبَلَايَا وَالرَّزَايَا وَمُؤْلِمَاتُ الْحَوَادِثِ , وَلَمْ تَرِدْ الشَّرِيعَةُ بِتَكْلِيفِ أَحَدٍ بِمَا لَيْسَ فِي طَبْعِهِ , وَلَمْ يُؤْمَرْ الْأَرْمَدُ بِاسْتِطَابَةِ الرَّمَدِ الْمُؤْلِمِ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الْمَرَضِ , بَلْ ذَمَّ اللَّهُ قَوْمًا لَا يَتَأَلَّمُونَ وَلَا يَجِدُونَ(1/272)
لِلْبَأْسَاءِ وَقْعًا فَذَمَّهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } , فَمَنْ لَمْ يَسْتَكِنْ وَلَمْ يَذِلَّ لِلْمُؤْلِمَاتِ وَيُظْهِرْ الْجَزَعَ مِنْهَا وَيَسْأَلْ رَبَّهُ إقَالَةَ الْعَثْرَةِ مِنْهَا فَهُوَ جَبَّارٌ عَنِيدٌ بَعِيدٌ عَنْ طُرُقِ الْخَيْرِ , فَالْمَقْضِيُّ وَالْمَقْدُورُ أَثَرُ الْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ , فَالْوَاجِبُ هُوَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ فَقَطْ , أَمَّا الْمَقْضِيُّ فَقَدْ يَكُونُ الرِّضَا بِهِ وَاجِبًا كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالْوَاجِبَاتُ إذَا قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْإِنْسَانِ , وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا فِي الْمَنْدُوبَاتِ وَحَرَامًا فِي الْمُحَرَّمَاتِ , وَمُبَاحًا فِي الْمُبَاحَاتِ , وَأَمَّا الرِّضَا بِالْقَضَاءِ فَوَاجِبٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ , وَقَدْ { حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَوْتِ وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ وَرَمْيِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ بِمَا رُمِيَتْ بِهِ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الْمَقْضِيِّ , وَالْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام طِبَاعُهُمْ تَتَأَلَّمُ وَتَتَوَجَّعُ مِنْ الْمُؤْلِمَاتِ وَتُسَرُّ بِالْمَسَرَّاتِ , وَإِذَا كَانَ الرِّضَا بِالْمَقْضِيِّ بِهِ غَيْرَ حَاصِلٍ فِي طَبَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ فَغَيْرُهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَمِنْ الْكُرْهِ الْمُبَاحِ مَا يَنْقُصُ الْإِنْسَانَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ , يَقُولُ الْغَزَالِيُّ : لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ يَكْرَهُ تَخَلُّفَ نَفْسِهِ وَنُقْصَانَهَا فِي الْمُبَاحَاتِ .
الرُّكْنُ الثَّانِي - الْكَفِيلُ :
15 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ فِي الْكَفِيلِ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ ; لِأَنَّ الْكَفَالَةَ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ , وَعَلَى ذَلِكَ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ مِنْ الْمَجْنُونِ أَوْ الْمَعْتُوهِ أَوْ الصَّبِيِّ , وَلَوْ كَانَ مُمَيِّزًا مَأْذُونًا أَوْ أَجَازَهَا الْوَلِيُّ أَوْ الْوَصِيُّ . إلَّا أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ قَالَ : إلَّا إذَا اسْتَدَانَ لَهُ وَلِيُّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْفُلَ الْمَالَ عَنْهُ فَتَصِحُّ , وَيَكُونُ إذْنًا فِي الْأَدَاءِ , وَمُفَادُهُ أَنَّ الصَّبِيَّ يُطَالَبُ بِهَذَا الْمَالِ بِمُوجِبِ الْكَفَالَةِ , وَلَوْلَاهَا لَطُولِبَ الْوَلِيُّ , وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ مِنْ مَرِيضٍ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ . أَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ وَلَا كَفَالَتُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْحَنْبَلِيُّ إلَى أَنَّ كَفَالَةَ السَّفِيهِ تَقَعُ صَحِيحَةً غَيْرَ نَافِذَةٍ وَيُتْبَعُ بِهَا بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ , كَإِقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ , وَكَذَلِكَ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ مَعَ الْإِكْرَاهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا تَلْزَمُ الْكَفِيلَ الْمُكْرَهَ . أَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِلدَّيْنِ , فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ - , وَالْحَنَابِلَةُ , إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَكْفُلَ ; لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ , وَالْحَجْرُ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ لَا بِذِمَّتِهِ , فَيَثْبُتُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ الْآنَ , وَلَا يُطَالَبُ إلَّا إذَا انْفَكَّ عَنْهُ الْحَجْرُ وَأَيْسَرَ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ تَصِحُّ كَفَالَةُ الْمَرِيضِ مِنْ مَرَضِ الْمَوْتِ , بِحَيْثُ لَا يَتَجَاوَزُ - مَعَ سَائِرِ تَبَرُّعَاتِهِ - ثُلُثَ التَّرِكَةِ , فَإِنْ جَاوَزَتْهُ تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ ; لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ , وَتَبَرُّعُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ يَأْخُذُ حُكْمَ الْوَصِيَّةِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ ضَمَانَ الْمَرِيضِ يَكُونُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ , إلَّا إذَا ضَمِنَ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَاسْتَمَرَّ إعْسَارُهُ إلَى وَقْتِ وَفَاتِهِ , أَوْ ضَمِنَ ضَمَانًا لَا يَسْتَوْجِبُ رُجُوعَهُ عَلَى الْمَدِينِ , فَيَكُونُ حِينَئِذٍ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ , وَإِذَا اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ مَالَ الْمَرِيضِ - وَقَضَى بِهِ - بَطَلَ الضَّمَانُ إلَّا إذَا أَجَازَهُ الدَّائِنُ ; لِأَنَّ الدَّيْنَ يُقَدَّمُ عَلَى الضَّمَانِ .
كيفيّة المفارقة الّتي يلزم بها البيع :
14 - المفارقة الّتي يلزم بها البيع هي المفارقة بالأبدان لا بالأقوال وتختلف المفارقة باختلاف مكان العقد ويعتبر في ذلك العرف , فما يعده النّاس تفرقاً يلزم به العقد وما لا فلا لأنّ ما ليس له حد شرعاً ولا لغةً يرجع فيه إلى العرف فإن كانا في دارٍ كبيرةٍ فبالخروج من البيت إلى الصّحن أو من الصّحن إلى الصفّة أو البيت , وإن كانا في سوقٍ أو صحراء أو في بيتٍ متفاحش السّعة فبأن يولّي أحدهما الآخر ظهره ويمشي قليلاً .
قال الشّربيني الخطيب ولو لم يبعد عن سماع خطابه , وقال البهوتي : ولو لم يبعد عنه بحيث لا يسمع كلامه في العادة خلافاً للإقناع .
وإن كانا في سفينةٍ أو دارٍ صغيرةٍ أو مسجدٍ صغيرٍ فبخروج أحدهما منه أو صعوده السّطح ولا يحصل التّفرق بإقامة سترٍ ولو ببناء جدارٍ بينهما , لأنّ المجلس باقٍ .(1/273)
وقيل لا تكون المفارقة إلا بأن يبعد عن صاحبه بحيث لو كلّمه على العادة من غير رفع الصّوت لم يسمع كلامه وهو ما ذهب إليه الإصطخريّ والشّيرازي والقاضي أبو الطّيّب من الشّافعيّة , قال النّووي : والمذهب الأوّل وبه قطع الجمهور - أي جمهور الشّافعيّة - ونقله المتولّي والروياني عن جميع الأصحاب سوى الإصطخريّ واستدلّ لذلك بما ورد عن ابن عمر فقد قال نافع : كان ابن عمر إذا بايع رجلاً فأراد أن لا يقيله قام فمشى هنيّة ثمّ رجع إليه .
وسئل الإمام أحمد عن تفرقة الأبدان فقال : إذا أخذ هذا كذا وهذا كذا فقد تفرّقا .
قال النّووي : وحكى القاضي أبو الطّيّب والروياني وجهاً أنّه يكفي أن يولّيه ظهره , ونقله الروياني عن ظاهر النّصّ لكنّه مؤوّل .
ولو فارق أحدهما مجلسه دون الآخر لم ينقطع خيار الآخر خلافاً لبعض المتأخّرين , وقال البهوتي : وإذا فارق أحدهما صاحبه لزم البيع سواء قصد بالمفارقة لزوم البيع أو قصد حاجةً أخرى لحديث ابن عمر السّابق .
واختلف في الإكراه على المفارقة هل يبطل به الخيار ويلزم البيع أم لا ؟ قال ابن قدامة : إن فارق أحدهما الآخر مكرهاً احتمل بطلان الخيار لوجود غايته وهو التّفرق , ولأنّه لا يعتبر رضاه في مفارقة صاحبه له فكذلك في مفارقته لصاحبه .
وقال الشّافعيّة والقاضي في الحنابلة : لا ينقطع الخيار , لأنّه حكم علّق على التّفرق فلم يثبت مع الإكراه , فعلى قول من لا يرى انقطاع الخيار إن أكره أحدهما على فرقة صاحبه انقطع خيار صاحبه كما لو هرب منه وفارقه بغير رضاه ويكون الخيار للمكره منهما في المجلس الّذي يزول عنه فيه الإكراه حتّى يفارقه , وإن أكرها جميعاً على المفارقة انقطع خيارهما , لأنّ كلّ واحدٍ منهما ينقطع خياره بفرقة الآخر له فأشبه ما لو أكره صاحبه دونه .
ومن صور الإكراه ما لو تفرّقا مع فزعٍ من مخوفٍ كسبع أو ظالمٍ خشياه فهربا منه أو تفرّقا مع إلجاءٍ كتفرق بسيل أو نارٍ أو نحوهما أو تفرّقا مع حملٍ لهما لأنّ فعل المكره والملجأ كعدمه فيستمر خيارهما إلى أن يتفرّقا من مجلسٍ زال فيه إكراه أو إلجاء .
وقال الشّافعيّة فيما نقله النّووي : لو هرب أحد العاقدين ولم يتبعه الآخر فقد أطلق الأكثرون أنّه ينقطع خيارهما , وجزم به الفوراني والمتولّي وصاحبا العدّة والبيان وغيرهم , وقال البغويّ والرّافعي : إن لم يتبعه الآخر مع التّمكن بطل خيارهما , وإن لم يتمكّن بطل خيار الهارب دون الآخر , قال النّووي : والصّحيح ما قدّمناه عن الأكثرين , لأنّه متمكّن من الفسخ بالقول ولأنّه فارقه باختباره فأشبه إذا مشى على العادة , فلو هرب وتبعه الآخر يدوم الخيار ما داما متقاربين , فإن تباعدا بحيث يعد فرقةً بطل اختيارهما .
وقال الحنابلة : إن هرب أحد المتبايعين من صاحبه , بطل خيارهما ولزم العقد لأنّه فارقه باختياره ولا يقف لزوم العقد على رضاهما .
وأمّا أثر المفارقة بالموت أو الجنون ونحوه ففي إبطال خيار المجلس به خلاف ينظر تفصيله في مصطلح : ( خيار المجلس ف 13 ) .
ولو تنازع العاقدان في التّفرق بأن جاءا معاً وقال أحدهما : تفرّقنا , وأنكر الآخر صدّق النّافي بيمينه .
ولو اتّفقا على حصول التّفرق وتنازعا في الفسخ قبل التّفرق فقال أحدهما فسخت البيع قبل التّفرق وأنكر الآخر صدق النّافي بيمينه لأنّ الأصل دوام الاجتماع وعدم الفسخ ولو اتّفقا على عدم التّفرق وادّعى أحدهما الفسخ فدعواه الفسخ فسخ .
وما سبق من اعتبار المفارقة إنّما هو فيما إذا تولّى عقد البيع طرفان أمّا إذا تولّى العقد شخص واحد كالأب يبيع ماله لولده أو يبيع مال ولده لنفسه فهل لا بدّ من ثبوت الخيار واعتبار المفارقة سبباً للزوم العقد أم لا ؟
للشّافعيّة والحنابلة في ذلك رأيان الأوّل : ثبوت الخيار قال النّووي : أصحهما ثبوته فعلى هذا يثبت خيار للولد وخيار للأب ويكون الأب نائب الولد , فإن ألزم البيع لنفسه وللولد لزم , وإن ألزم لنفسه بقي الخيار للولد فإذا فارق المجلس لزم العقد على الأصحّ من الوجهين عند الشّافعيّة , قال الماورديّ وهذا قول أبي إسحاق المروزيّ وهو المذهب . والرّأي الثّاني وهو الصّحيح من المذهب عند الحنابلة ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة : لا يلزم - أي البيع - إلا بالإلزام , لأنّه لا يفارق نفسه وإن فارق المجلس , قال الماورديّ : وهذا قول جمهور أصحابنا , قال : وعلى هذا لا ينقطع الخيار إلا بأن يختار الأب لنفسه وللولد , فإن لم يختر ثبت الخيار للولد إذا بلغ .
وقال البغويّ : ولو كان العقد بينه وبين ولده صرفاً ففارق المجلس قبل القبض بطل العقد على الوجه الأوّل ولا يبطل على الثّاني إلا بالتّخاير .
ثالثاً - القيود الواردة عند انتقال الملك :
13 - ذهب الفقهاء إلى أنّ لانتقال الملك شروطاً وضوابط , وجعلت الشّريعة وسائل الانتقال - كقاعدة عامّة في حالة الحياة - في الرّضا والإرادة , بل اشترطت أن يكون الرّضا غير مشوب بعيوب الرّضا وعيوب الإرادة , من الغشّ والتّدليس والاستغلال والإكراه والغلط ونحو ذلك , لقول اللّه تعالى : { لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } , ولقول الرّسول صلى الله عليه وسلم : « إنّما البيع عن تراض » , وقوله : « لا يحل مال امرئ مسلم إلّا ما أعطاه عن طيب نفسه » .
وللتّفصيل ر : مصطلح ( رضاً ف / 13 وما بعدها ) .
كذلك حدّد الفقهاء إرادة المالك المريض مرض الموت بالثلث إذا كانت تصرفاته عطاءً وهبةً, أو محاباةً , أو وصيّةً .
ر : مصطلح ( مرض الموت ) .(1/274)
وقد قيّدت الشّريعة إرادة المحجور عليه في العقود الّتي فيها ضرر , أو من شأنها الضّرر على تفصيل يراجع فيه مصطلح : ( حجر , سفه ف / 26 وما بعدها ) .
وأمّا في حالة الموت فإنّ جميع أموال الميّت تنتقل إلى الورثة حسب قواعد الفرائض , كما أنّ وصيّته تنفّذ في حدود الثلث , وتنتقل إلى الموصى إليهم .
وللتّفصيل يراجع مصطلح ( إرثٌ ف / 14 , وصيّة ) .
الزّيادة في المهر والحط منه :
21 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ الزّيادة في المهر بعد العقد تلحق به ، واستدلوا بقوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } .
فإنّه يتناول ما تراضيا على إلحاقه وإسقاطه ، ولأنّ ما بعد العقد زمن لفرض المهر فكان حالة الزّيادة كحالة العقد .
جاء في الفتاوى الهنديّة : الزّيادة في المهر صحيحة حال قيام النّكاح عند علمائنا الثّلاثة " أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّد " ، فإذا زادها في المهر بعد العقد لزمته ، هذا إذا قبلت المرأة الزّيادة ، سواء كانت من جنس المهر أو لا ، من زوج أو من ولي .
والزّيادة إنّما تتأكّد بأحد معان ثلاثة : إمّا بالدخول وإمّا بالخلوة وإمّا بموت أحد الزّوجين ، فإن وقعت الفرقة بينهما من غير هذه المعاني الثّلاثة بطلت الزّيادة وتنصّف الأصل ولا تنتصف الزّيادة ، وعن أبي يوسف أنّه تنتصف الزّيادة .
وقال زفر : إن زاد لها في المهر بعد العقد لا تلزمه الزّيادة ، لأنّه لو صحّ بعد العقد لزم كون الشّيء بدل ملكه .
وإن حطّت الزّوجة عن زوجها مهرها صحّ الحط عند الحنفيّة ولو بشرط كما لو تزوّجها بمائة دينار على أن تحطّ عنه خمسين منها فقبلت لأنّ المهر بقاء حقّها والحط يلاقيه حالة البقاء ، ويصح الحط ولو بعد الموت أو البينونة .
وصرّح الحنفيّة بأنّ حطّ وليّ الزّوجة غير صحيح ، فإن كانت الزّوجة صغيرةً فالحط باطل ، وإن كانت كبيرةً توقّف على إجازتها .
ثمّ يشترط في صحّة الحطّ أن يكون المهر دراهم أو دنانير ، فلو كان عيناً لا يصح لأنّ الحطّ لا يصح في الأعيان ، ومعنى عدم صحّته أنّ لها أن تأخذه ما دام قائماً ، فلو هلك في يده سقط المهر عنه لأنّ المهر صار مضموناً بالقيمة في ذمّته فيصح الإسقاط .
كما يشترط لصحّة حطّها أن لا تكون مريضةً مرض الموت لأنّ الحطّ في مرض الموت وصيّة تتوقّف على الإجازة ، إلّا أن تكون مبانةً من الزّوج وقد انقضت عدّتها فينفذ من الثلث .
ولا بدّ لصحّة حطّها من الرّضا حتّى لو كانت مكرهةً لم يصحّ ، فلو خوّف امرأته بضرب حتّى وهبت مهرها لا يصح إن كان قادراً على الضّرب .
ولو اختلفا في الكراهية والطّوع - ولا بيّنة - فالقول لمدّعي الإكراه ، ولو أقاما البيّنة فبيّنة الطّواعية أولى .
وقال المالكيّة : إذا وهبت الزّوجة من زوجها جميع صداقها ، ثمّ طلّقها قبل البناء لم يرجع عليها بشيء ، وكأنّها عجّلت إليه بالصّداق ، ولأنّها لمّا لم يستقرّ ملكها عليه على المشهور، وانكشف الآن أنّها إنّما تملك منه النّصف ، وافقت هبتها ملكها وملكه ، فنفذت في ملكها دون ملكه .
ولو وهبت منه نصف الصّداق ثمّ طلّقها فله الربع ، وكذلك إن وهبته أكثر من النّصف أو أقلّ، فله نصف ما بقي لها بعد الهبة .
وقالوا : يجوز للأب أن يسقط نصف صداق ابنته البكر إذا طلقت قبل البناء .
وذهب الشّافعيّة في الأظهر إلى أنّ الزّوجة لو وهبت المهر لزوجها بلفظ الهبة بعد قبضها له - والمهر عين - ثمّ طلّق ، أو فارق بغير طلاق - كردّة قبل الدخول - فله نصف بدل المهر من مثل أو قيمة ، لأنّه ملك المهر قبل الطّلاق من غير جهة الطّلاق .
وفي مقابل الأظهر لا شيء له لأنّها عجّلت له ما يستحق بالطّلاق فأشبه تعجيل الدّين قبل الدخول .
ولو كان الصّداق ديناً فأبرأته منه لم يرجع على المذهب ، ولو وهبت له الدّين ، فالمذهب أنّه كالإبراء ، وقيل كهبة العين .
وصرّح الشّافعيّة على الجديد بأنّه : ليس للوليّ العفو عن مهر موليّته كسائر ديونها ، والقديم له ذلك بناءً على أنّه الّذي بيده عقدة النّكاح .
وقال الحنابلة : إذا طلّق الزّوج زوجته قبل الدخول والخلوة وسائر ما يقرّر الصّداق ، فأي الزّوجين عفا لصاحبه عمّا وجب له من المهر - والعافي جائز التّصرف - برئ منه صاحبه، سواء كان المعفو عنه عيناً أو ديناً ، فإن كان المعفو عنه ديناً سقط بلفظ الهبة والتّمليك والإسقاط والإبراء والعفو والصّدقة والتّرك ، ولا يفتقر إسقاطه إلى القبول كسائر الديون .
وإن كان المعفو عنه عيناً في يد أحدهما فعفا الّذي هو في يده فهو هبة يصح بلفظ العفو والهبة والتّمليك ، ولا يصح بلفظ الإبراء والإسقاط ، لأنّ الأعيان لا تقبل ذلك أصالةً ، ويفتقر لزوم العفو عن العين ممّن هي بيده إلى القبض فيما يشترط فيه القبض ، لأنّ ذلك هبة حقيقة ولا تلزم إلّا بالقبض ، والقبض في كلّ شيء بحسبه .
ولا يملك الأب العفو عن نصف مهر ابنته الصّغيرة إذا طلقت - ولو قبل الدخول - كثمن مبيعها ، ولا يملك الأب أيضاً العفو عن شيء من مهر ابنته الكبيرة إذا طلقت ولو قبل الدخول لأنّه لا ولاية له عليها .
ولا يملك غير الأب من الأولياء كالجدّ والأخ والعمّ العفو عن شيء من مهر وليّته ولو طلقت قبل الدخول لأنّه لا ولاية لهم في المال .
خامساً - الإكراه على الزّنا :
47 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب مهر المثل عند إكراه امرأة على الزّنا وقيّد الحنابلة وجوب مهر المثل بما إذا كان الوطء في القبل .
وقالوا : يتعدّد المهر بتعدد الإكراه على الزّنا بمكرهة كلّ مرّة ، لأنّه إتلاف فيتعدّد بتعدد سببه ، ولو اتّحد الإكراه وتعدّد الوطء فالواجب مهر واحد .(1/275)
وقال المالكيّة - في المشهور عندهم - : المكره على الوطء يحد ، وعليه فإذا أكرهت امرأة رجلاً على الزّنا بها فلا صداق لها ، وإن أكرهه غيرها غرّم لها الصّداق ورجع به على مكرهه .
ووجوب مهر المثل بالزّنا هو مقتضى مذهب الصّاحبين القائل بعدم وجوب الحدّ على المكره بالزّنا إذ لا يخلو الوطء بغير ملك اليمين عن مهر أو حد .
ويقول أبو حنيفة وزفر : أنّ من أكره على الزّنا بامرأة بما يخاف التّلف فزنى فعليه الحد ، وبناءً على هذا القول لا يتصوّر وجوب المهر أصلاً .
أقسام الموقوف :
14 - قسّم الحنفيّة التّصرف الموقوف إلى : موقوف قابل للصّحّة , وموقوف فاسد . والموقوف القابل للصّحّة : هو ما كان صحيحاً في أصل وصفه ويفيد الملك على سبيل التّوقف ولا يفيد تمامه لتعلق حقّ الغير , ويتناول كلّ تصرف في حقّ الغير بغير إذن منه تمليكاً كان التّصرف كبيع الفضوليّ والصّبيّ والعبد المحجورين , أم إسقاطاً كالطّلاق والإعتاق .
والتّمليك يشمل الحقيقيّ كالبيع ونحوه ممّا ينقل الملك , والحكمي كالتّزويج , وهذا من قسم الصّحيح .
والفاسد الموقوف ما كان مشروعاً في أصله لا في وصفه , كبيع المكره وسائر التّصرفات الفاسدة .
وهذا النّوع يسمونه : موقوفاً فاسداً فلا يثبت به الملك إلّا بالقبض عند جمهور فقهاء الحنفيّة فإذا باع مكرهاً وسلّم مكرهاً ثبت فيه الملك عند أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمّد بن الحسن .
وقال زفر : لا يثبت الملك بالتّسليم مكرهاً لأنّه موقوف على الإجازة فلا يفيد الملك قبلها , وقال الأئمّة الثّلاثة - أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمّد - إنّ ركن البيع صدر من أهله مضافاً إلى محلّه , والفساد لفقد شرطه وهو الرّضا , فصار كسائر الشّروط الفاسدة فيثبت الملك بالقبض , حتّى لو قبضه وأعتق أو تصرّف به أيّ تصرف - لا يمكن نقضه - جاز , ويلزمه القيمة كسائر البياعات الفاسدة .
وبإجازة المالك يرتفع المفسد وهو الإكراه وعدم الرّضا فيجوز إلّا أنّه لا ينقطع حق استرداد البائع بالإكراه وإن تداولته الأيدي ولم يرض البائع بذلك .
وعند المالكيّة إذا تصرّف إنسان في ملك غيره بغير إذنه فإنّه يتوقّف نفاذ هذا التّصرف على إجازة من له حق الإجازة وذلك كبيع الفضوليّ ملك غيره فإنّ نفاذه يتوقّف على إجازة مالكه.
وكبيع الغاصب الشّيء المغصوب لغير المغصوب منه .
وكطلاق الفضوليّ , فإنّه صحيح متوقّف على إجازة الزّوج .
15 - والوقف يطلقه فقهاء الشّافعيّة لبيان ما يحدث في العبادات وفي العقود , فمن الأوّل حج الصّبيّ , فإن دام صبيّاً إلى آخر أعمال الحجّ كان نفلاً , وإن بلغ قبل الوقوف بعرفة انقلب فرضاً .
ومنها : إذا كان عليه سجود السّهو فسلّم ساهياً قبل الإتيان بسجود السّهو فتذكّر قريباً ففي صحّة سلامه وجهان : فإن صحّحناه فقد فات محل السجود , وإن أبطلناه فإن سجد فهو باق في الصّلاة ولو أحدث لبطلت صلاته , وإن ترك السجود فقال الإمام : الظّاهر إنّه في الصّلاة ولا بدّ من السّلام .
ويحتمل أن يقال : السّلام موقوف فإن سجد تبيّن أنّه في الصّلاة وإن ترك تبيّن أنّه قد تحلّل. أمّا في العقود فالوقف فيها يعبّر به عن ثلاث مسائل :
الأولى : بيع الفضوليّ في القول القديم للشّافعيّ : وهو وقف صحّة بمعنى أنّ الصّحّة موقوفة على الإجازة فلا تحصل إلّا بعدها , هذا ما نقله النّووي عن الأكثرين , ونقل الرّافعي عن الإمام : أنّ الصّحّة ناجزة والمتوقّف على الإجازة هو الملك .
الثّانية : بيع مال مورّثه ظاناً حياته , وهو وقف تبين بمعنى أنّ العقد فيه صحيح ونحن لا نعلمه ثمّ تبيّن في ثاني الحال فهو وقف على ظهور أمر كان عند العقد , والملك فيه من حين العقد ولا خيار فيه .
الثّالثة : تصرفات الغاصب وهي ما إذا غصب أموالاً وباعها وتصرّف في أثمانها بحيث يعسر أو يتعذّر تتبعها بالنّقض ففي قول عندهم : للمالك أن يجيز ويأخذ الحاصل من أثمانها .
حرمة أكل الميتة :
10 - أجمع الفقهاء على حرمة أكل الميتة في حالة السّعة والاختيار لقوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
وقد عبّر الإمام الرّازيّ عن حكمة تحريم أكل الميتة الّتي نفقت حتف أنفها بقوله : واعلم أنّ تحريم الميتة موافق لما في العقول , لأنّ الدّم جوهر لطيف جداً , فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدّم في عروقه وتعفَّن وفسد , وحصل من أكله مضار عظيمة .
وأمّا حكمة تحريم أكل الميتة الّتي قتلت على هيئة غير مشروعة " أي بدون تذكية " فقد أوضحها الإمام ابن القيّم بقوله : فلأنّ اللّه سبحانه حرَّم علينا الخبائث , والخبثُ الموجب للتّحريم قد يظهر لنا وقد يخفى , فما كان ظاهراً لم ينصب عليه الشّارع علامةً غير وصفه , وما كان خفيّاً نصب عليه علامةً تدلُّ على خبثه .
فاحتقان الدّم في الميتة سبب ظاهر , وأمّا ذبيحة المجوسيّ والمرتدّ وتارك التّسمية ومن أهلّ بذبيحته لغير اللّه , فنفس ذبيحة هؤلاء أكسبت المذبوح خبثاً أوجب تحريمه , ولا ينكر أن يكون ذكر اسم الأوثان والكواكب والجنّ على الذّبيحة يُكسبها خبثاً , وذِكْرُ اسم اللّه وحده يُكسبها طيباً إلّا من قلّ نصيبه من حقائق العلم والإيمان وذوق الشّريعة .(1/276)
11 - وأمّا في حالة الإلجاء والاضطرار , فقد ذهب الفقهاء إلى جواز أكل الميتة عندئذٍ , فمن أضطرّ إلى أكل الميتة إمّا بإكراه ملجئٍ من ظالم أو بجوع في مخمصة أو بفقر لا يجد معه غير الميتة , حلّ له ذلك لداعي الضّرورة , حيث جاء في التّنزيل بعد تحريم الميتة قوله تعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } , وقال سبحانه : { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
قال الزّيلعي : فظهر أنّ التّحريم مخصوص بحالة الاختيار , وفي حالة الاضطرار مباح , لأنّ الضّرورات تبيح المحظورات .
12 - واختلف الفقهاء في حدّ الضّرورة المبيحة لأكل الميتة على أقوال :
أحدها : أن يخاف على نفسه الهلاك قطعاً أو ظناً , وهو قول المالكيّة في المشهور .
الثّاني : أن يخاف على نفسه موتاً أو مرضاً مخوفاً أو زيادته أو طول مدّته , أو انقطاعه عن رفقته , أو خوف ضعف عن مشي أو ركوب , فيسمّى هذا الخائف مضطراً . وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة .
الثّالث : خوف التّلف على نفسه أو بعض أعضائه بتركه الأكل , ويحصل ذلك في موضع لا يجد فيه غير الميتة , أو أن يكون غيرها موجوداً , ولكنّه أكره على أكلها بوعيد يخاف منه تلف نفسه أو بعض أعضائه , وهو مذهب الحنفيّة .
هذا في ميتة غير الآدميّ , وأمّا ميتة الآدميّ فقد اختلف الفقهاء فيها , وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( ضرورة ف / 10 ) .
13 - واختلف الفقهاء في حكم أكل الميتة عند الاضطرار على ثلاثة أقوال :
أحدها : الوجوب , فمن أضطرّ إلى أكل الميتة , وجب عليه تناولها , فإن امتنع من الأكل وصبر حتّى مات أثم , وهو قول جمهور الفقهاء من الحنفيّة وقول عند المالكيّة والشّافعيّة على الأصحّ والحنابلة على الصّحيح , لقوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } حيث أنّ ترك الأكل مع إمكانه في هذه الحال إلقاء بيده إلى التّهلكة , ولقوله سبحانه : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } , ولأنّه قادر على إحياء نفسه بما أحلّه اللّه له , فلزمه كما لو كان معه طعام حلال .
الثّاني : الإباحة , وهو قول أبي يوسف من الحنفيّة وسحنون من المالكيّة وأبي إسحاق الشّيرازيّ من الشّافعيّة ووجه عند الحنابلة وعلى ذلك : فلو امتنع المضطر عن أكلها حتّى مات , فلا إثم عليه , لأنّ إباحة الأكل رخصة , فلا تجب عليه كسائر الرخص . ولأنّ له غرضاً في اجتناب النّجاسة والأخذ بالعزيمة , وربّما لم تطب نفسه بتناول الميتة , وفارق الحلال في الأصل من هذه الوجوه .
الثّالث : النّدب , وهو قول بعض الحنابلة .
وللتّفصيل أنظر ( ضرورة ف / 10 , أطعمة ف / 90 ) .
مقدار ما يباح للمضطرّ تناوله من الميتة :
14 - اختلف الفقهاء في مقدار ما يباح للمضطرّ تناوله من الميتة على ثلاثة أقوال :
الأوّل : لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة في الأظهر وابن الماجشون وابن حبيب من المالكيّة وغيرهم , وهو أنّه لا يجوز للمضطرّ أن يأكل من الميتة إلّا قدر ما يسد به رمقه , أي : ما يحفظ به حياته , قال الصّاوي : المراد بالرّمق : الحياة , وسدها : حفظها .
لأنّ ما أبيح للضّرورة يقدّر بقدرها , وذلك أنّ اللّه حرّم الميتة , واستثنى ما أضطرّ إليه , فإذا اندفعت الضّرورة , عادت الحرمة كحالة الابتداء .
يوضّحه أنّه بعد سدّ الرّمق غير مضطر , فزال الحكم بزوال علّته , لأنّ القاعدة المقرّرة أنّ الحكم يدور مع العلّة وجوداً وعدماً .
الثّاني : للمالكيّة على المعتمد والشّافعيّة في قول وأحمد في رواية عنه , وهو أنّه يجوز للمضطرّ أن يأكل من الميتة حتّى يشبع , لأنّ الضّرورة ترفع التّحريم , فتعود مباحةً كسائر الأطعمة , وذلك لما روى جابر بن سمرة رضي الله عنه « أنّ رجلاً نزل الحرّة , فنفقت عنده ناقة , فقالت له امرأته : أسلخها حتّى نقدّد شحمها ولحمها ونأكله , فقال : حتّى أسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسأله فقال : هل عندك غنىً يغنيك ؟ قال : لا , قال : فكلوها » .
الثّالث : لعبيد اللّه بن الحسن العنبريّ : وهو أنّ له أن يأكل منها ما يسد جوعه , وذلك فوق قدر إمساك الرّمق .
============(1/277)
الباب الرابع
أقوال المعاصرين
الإكراه وحرمة الإضرار بالمسلمين
جمع وكتابة عبد الرحمن بن عبد القوي التركي
قدم له ...
الشيخ أبو محمد المقدسي حفظه الله
مقدمة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
وبعد ،...
فقد اطلعت على هذه الرسالة الصغيرة في حجمها ، الخطيرة في موضوعها لأخينا عبد الرحمن التركي وفقه الله ، فرأيته قد طرق فيها موضوعاً غاية في الأهمية والخطورة ، ولا يعرف أهميته حق المعرفة إلا من عانى وكابد بعض تكاليف هذه الدعوة وتبعات هذه الطريق كما قيل :
ولا الصبابة إلا من يعانيها…لا يعرف الشوق إلا من يكابده
فكل داعية من دعاة التوحيد خاض تجربة عملية دعوية جهادية مع أعداء الله يعرف أهمية ما دعا إليه الأخ في هذه الورقات ، من ضرورة الأخذ بالعزيمة والتضحية والفداء في مواقف المواجهة مع أعداء الله ، ويُقدّر كم في ذلك من أسباب عزة لهذا الدين ورفعة لأهله وإلقاء الرعب في قلوب أعدائه ، وأن التفريط في ذلك والتهاون فيه مدعاة إلى ذلة أتباع هذه الدعوة ، وتفرقهم شذر مذر ، وهو مظنة إيقاع الفتنة والفرقة والشقاق والخلاف في صفوفهم .
والمتدبر لأوضاع سلف هذه الأمة من الصحابة وتابعيهم من خير القرون ، وما قدموه من تضحيات وثبات وفداء يعرف شيئاً من أسباب قوتهم ، ودواعي أن ينصروا بالرعب الذي كان يقذفه الله في قلوب أعدائهم .
ويحضرني في هذا المقام مما يناسب موضوع هذه الرسالة قصة الصحابي خبيب رضي الله عنه لما أسر وأرادت قريش قتله ، وقالوا له : أتحب أن محمداً مكانك؟
فأجابهم بعزة المسلم وثبات الموحد وعزمة الشهيد : لا والله العظيم ما أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدمه ، ثم تمثل بأبياته الخالدة المشهورة :
على أي شق كان في الله مصرعي…فلست أبالي حين أُقتَلُ مسلماً
يبارك على أوصال شِلوٍ ممزعِ…وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يقول هذا وهو يعاين حرابهم وسيوفهم وأسنتهم مشرعة موجهة إلى نحره فلا تطرف له عين ، أو ترجف له شفة . أو يتردد أو يتلعثم في مواجهتهم .
وإن أصحاب هذه الدعوة المباركة ، لحريٌ بهم أن يقفوا عند هذه المعاني ويتدبروا مثل هذه المواقف ويراجعوا حساباتهم ، ويرصوا صفوفهم في مواجهة أعداء الله وأثناء عملهم لأجل القيام بأمر هذا الدين .
ولا ينبغي لهم أن يتهاونوا في هذا الأمر الخطير فقد أمسى بعض الشباب وللأسف الشديد وإن لم يكونوا عملاء لأعداء الدين ؛ أمسوا مستعملين لهم شاؤوا أم أبوا .. فإنهم إذا ما اعتقلوا وهددوا بعض التهديد أو أخروا في الزنازين شيئا من الأسابيع أوالشهور ترى الواحد منهم ينفض لهم جعبته بكل ما فيها دون لف أو دوران وإذا ما سئل عن سؤال محدد أجاب معه عن ثلاث أو أربعة أخرى لم يسأل عنها بل إن منهم من يفعل ذلك دون أدنى تهديد ويخلص في الإجابة ويتحرى الصدق والدقة !! ولا يكترث أو يبالي بهذا الخور ولو كان فيه ضرر على إخوانه ودعوتهم أوجهادهم ؛ ظاناً أن ذلك سيعجل بخلاصه من أعداء الله وما درى المسكين أنهم بذلك يزدادون تسلطاً عليه ويطمعون بالمزيد والمزيد .. حتى إن أعداء الله ليحصّلوا من المعلومات والأسرار من طريق هؤلاء المستعملين ما لا يحلمون بتحصيله من طريق العملاء الأذناب المأجورين الذين وإن تزينوا بزي أهل الدين والدعوة والجهاد وحاولوا الاندساس في صفوف المجاهدين إلا أن المجاهدين يعرفونهم بسيماهم ويفتضحون عندهم بلحن قولهم وقلة دينهم مما يحول دون انغماسهم انغماساً حقيقياً في الصف المسلم ولذلك فإن ضررهم أخف .. بخلاف أولئك المنتسبين للدعوة إلى التوحيد والجهاد فإن كثيراً من أصحاب هذا التيار يتساهلون في تقريبهم وإطلاعهم على خاصة أمرهم دون تمحيص لأحوالهم مما يعود بالضرر الفادح عليهم وعلى إخوانهم فيما بعد ، والصحيح أنه لا ينبغي أن يعطى كل منتسب لهذه الدعوة ما يعطى الراسخ فيها، وليس كل أخ من إخواننا ولو كان من خيرة الدعاة يصلح أن يحمّل ما لا يحتمله ، وهذا ليس بدعاً من القول فقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة من أصحابه وأهل عيبة ومشورة ونصح لايطلع غيرهم على ما يطلعون عليه ..فلا ينبغي أن يفرط الدعاة في هذا الباب ثم يعضون بعدها أصابع الندم ..
كما وأن على كل منتسب لهذه الدعوة أن يتق الله في دعوته وإخوانه فلا يفرط في سرهم لأدنى تهديد بل عليه أن يأخذ بالعزيمة دائماً ويصبر ويحاذر كل الحذر أن يؤتى إخوانه من قبله فإنه على ثغرة من ثغور هذه الدعوة، وليعلم أنها دعوة يحاربها طواغيت الشرق والغرب ويرميها العالم كله بقوس العداوة وليست دعوة متخمة مترفة مرضيا عنها !! فإما أن يأخذها بحقها ويصبر على تكاليفها أو فليذر التمسّح بأهلها والتشبع بما لم يعط وليقبل على أمر خاصته فهو والله أعذر له عند الله من أن يكون سبباً في أسر أو إهلاك أخ موحد مجاهد أو إحباط عمل أو تشويه دعوة أو تخذيل جهاد ..
وربما استدل أولئك المستعملين بشبه يظنون أنها تسوغ لهم ذلك أو ترخص فيه رد عليها أخونا في بحثه هذا ؛ ويتغافلون عما كان يربي عليه النبي صلى الله عليه وسلم صحابته في زمن الاستضعاف من الصبر والثبات ويقص عليهم أخبار أهل الإيمان والثبات وأولي العزم من الرسل والدعاة الذين كان يحفر لأحدهم الحفرة فيوضع فيها ثم يمشط بأمشاط الحديد دون لحمه وعظمه ويؤتى بالمنشار فيوضع في مفرق رأسه فيشق شقين ما يرده ذلك عن دينه ..
ذلك بأن نصر الدين لا يكون بتتبع الرخص والبحث عن المعاذير ، وإنما يكون ذلك ببذل الدماء وتقديم التضحيات ، فبذلك نصره وأوصله إلينا من كان قبلنا من الصالحين ، وكذلك ينصر في كل زمان ومكان .
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من أنصار دينه ، وأن يلم شعث الموحدين ، ويوحد صفوفهم وينصرهم على من عاداهم ، وأن يكبت أعدائهم ويجعل كيدهم في نحورهم ، إنه نعم المولى ونعم النصير .
والحمد لله أولاً وآخراً
كتبه أبو محمد المقدسي
عيد الفطر المبارك
1421من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم
=============
إكراه المسلم على اذى إخوانه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله .
قال الله تعالى: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ » [آل عمران:102] ، وقال الله تعالى « يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً » [النساء:1] ، وقال « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً »يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً » [الأحزاب:70-71] .
أما بعد :(1/278)
فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار.
لقد كثر الكلام والنقاش والجدل وأيضاً الجهل من قلة البحث وعدم العلم الصحيح بمثل هذه الأمور المهمة اليوم ، وكثرت الأخطاء والأضرار التي تتعلق بالمسلمين والمسلمات ، وأوقع الأخ أخاه في الضرر ، والأخت أختها في الضرر، بسبب عدم المعرفة وقلة العلم وغياب من ينبّه على مثل هذه الأمور ، ويذكر المسلمين ذكرى تنفعهم في الدنيا والآخرة .
فكان حقاً علينا أن نكتب ونبين ما نعرف من الحق في هذا الأمر ، ونكشف اللبس فيه ، ولا نكتم حقاً عرفناه والحمد لله ، ونكون عوناً لإخواننا في هذه الأوقات الصعبة ، ونكون عوناً لهم على أنفسهم وعلى الشيطان ، وعلى أهل البدع وأهل الفسق وأهل الكفر والشرك ، ونكون لمنهج أهل الحق ناصرين ، منهج أهل السنة والجماعة ، الذي قلّ أهله من كثرة الشرك وأهله ، وكثرة البدع وأهلها ، وكثرة الفسق أهله ، وكذلك لقلة من يبين لهم الحق فيه ولقلة الكتابة فيه ، فالأمر هو :
إكراه المسلم على إيقاع الضرر بالمسلمين في سجون أهل الشرك ، أي إكراه المسلم في سجون الطواغيت من قبل أعوانهم الكفرة للاعتراف والتكلم والإضرار بالمسلمين ، وأن كان في تنظيم أو جماعة أو مجموعة أو حتى فرادى ، نذكر الحكم فيه شرعاً وعقلاً والمصلحة والمفسدة فيه ، ولقد سميت هذه الرسالة:
( الإكراه وحرمة الإضرار بالمسلمين )
ملاحظة :
نشكر إخواننا الذين ساهموا في إخراج هذه الرسالة ، ونسأل الله أن يوفقنا إلى كل خير ، وجزاهم الله كل خير .
اللهم يسر وأعن يا كريم
قال تعالى : « مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ »ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ »أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ » لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ »ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ » [النحل:106-110] .
الإكراه : هو إلزام الغير بما لا يريده .
وشروط الإكراه أربعة :
الأول : أن يكون فاعله قادراً على إيقاع ما يهدد به ، والمأمور عاجزاً عن الدفع ولو بالفرار .
الثاني : أن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك .
الثالث : أن يكون ما هدد به فورياً .
الرابع : أن لا يظهر من المأمور ما يدل على اختياره(1) بهذه الشروط ، وهذا التعريف يقع الإكراه الملجئ ، الإكراه الصحيح الذي يعذر صاحبه به ، في قول أو فعل الكفر عند التعرض للإكراه .
ولكن ما حكم من يُكره من المسلمين في سجون أهل الشرك على الإضرار بإخوانه ، بمعنى الاعتراف عليهم ، وتعريف أماكنهم وأحوالهم لأهل الشرك ، وكل ذلك تحت الإكراه .
- فهل يحل للمسلم الاعتراف على المسلمين وإحضارهم إلى الكافرين مع الإكراه ؟
قبل الخوض في الجواب على هذا السؤال المهم جداً ، نقول وبالله التوفيق ,
إن هناك أموراً يجب على المسلم معرفتها وهي :
- أ ولاً : يقول الله تعالى : « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ » [الحجرات:10]
ويقول : « وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ » [التوبة:71] ، ويقول الله تعالى : « وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ » [المائدة:2] ويقول الله تعالى : « وَالْعَصْرِ »إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ »إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ » [العصر:1-3] ، ويقول : « إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ » [الصف:4] .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : » المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً « ، وشبك بين أصابعه . متفق عليه.
ويقول صلى الله عليه وسلم : » مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى « متفق عليه .
ويقول صلى الله عليه وسلم : » المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمُه ، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله بها كربة من كُرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلماً سترهُ الله يوم القيامة « متفق عليه .
ويقول صلى الله عليه وسلم : » المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله ، كل المسلم على المسلم حرام ، عِرْضهُ ومالهُ ودمهُ ، التقوى ههنا ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم « رواه الترمذي وقال: حديث حسن .
ويقول صلى الله عليه وسلم : » لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخواناً ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله « رواه مسلم
ويقول صلى الله عليه وسلم : » لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه « متفق عليه .
ويقول صلى الله عليه وسلم : » انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً « فقال رجل : يا رسول الله ! أنصره إذا كان مظلوماً ، أرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره ؟ قال : » تحجزه - أو تمنعه - من الظلم فإن ذلك نصره « . رواه البخاري (1).(1/279)
ويقول صلى الله عليه وسلم : » والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه « رواه مسلم .
فهذه الآيات والأحاديث دالة على تعظيم حرمات المسلمين ، ومبينة لحقوقهم ورحمة بعضهم ببعض ، والتعاون بينهم على الخير ، وحرمة أذاهم ، والإحسان إليهم ، والموالاة التامة لهم ، والقيام على خدمتهم ، وستر عوراتهم ونصرتهم ، والذب عنهم والتواصي بينهم بالحق والصبر .
فكيف يكون المسلم أخا المسلم وهو يعترف عليه أمام الكفرة ويفشي ما بينهم من أسرار لنصرة دين الله تعالى ! وكيف يكون المسلم موالياً للمؤمنين وهو يدل على أخيه ، ويتكلم بما عمله لدين الله للكفرة المرتدين ؟ وكيف يكون المسلم عوناً للمسلم على البر والتقوى وهو يجر أخاه إلى أهل الردة ، وهو يعترف عليه ويبين لهم أماكن أسرارهم ؟ وكيف يكون المسلم من الذين تواصوا بالحق والصبر وهو لا يصبر على البلاء والحديد والنار ، ويريد أن يكون أخوه معه ؟ وكل ذلك بحجة الإكراه ، وكيف يكون المسلم صفاً هو وأخوه وهما كالبنيان المرصوص ، وكلاهما يعترف على أخيه ويدل على عورة أخيه ؟ وكيف يكون المسلم كالجسد الواحد لباقي المؤمنين وهو لا يتحمل العذاب بل يجر باقي الجسد ليكون العذاب على كل الجسد بحجة الإكراه ؟ وكيف يكون المسلم في حاجة أخيه وعونه وهو يقول للكفار : أخي هو المسؤول وأنا غير مسؤول عمّا حصل؟ وكيف لا يخذل المسلم أخاه ولا يحقره ولا يظلمه وهو يسلمه إلى الكفرة الفجرة ليفعلوا به الأفاعيل من الضرب والقطع والقتل ؟ وكيف يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه ؟ فهل يحب المسلم لنفسه العذاب والسجن والقتل ، وهو كذلك يحب لأخيه ؟ وكيف ينصر المسلم أخاه وهو لا يمنع عنه الكفار ، بل يسلمه لقمة ً سائغة ً إليهم بذلك الاعتراف ، وقد يصل الحد أن يقول : إنه المسؤول عن كل شئ في هذا التنظيم أو هذه الجماعة ، وللأسف الشديد جداً قد حصل هذا وأكثر منه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
كيف يكون المسلم ستراً لأخيه المسلم وهو يأتي بأخيه تحت التعذيب والكفار يهتكون ستر المسلم بالكلام والسب والقول الفاحش ، ويصل الحد والعياذ بالله إلى الفعل به ، وقد حصل ، وكل ذلك تحت حجة الإكراه .
- ثانياً : وجوب تخليص المسلمين من أيدي الكفار ودفع المال لذلك ، وبذل النفس حتى لا يبقى أسرى تحت أيدي الكفار .
يقول القرطبي رحمه الله في تفسيره عند [الآية 85 ،من سورة البقرة] : "قال علماؤنا : فداءُ الأسرى واجب . وإن لم يبقى درهم واحد . قال ابن خويز منداد : تضمنت الآية وجوب فك الأسرى ، وبذلك وردت الآثار عنالنبي صلى الله عليه وسلم أنه فك الأسرى وأمر بفكهم ، وجرى بذلك عمل المسلمين وانعقد به الإجماع ، ويجب فك الأسرى من بيت المال ، فإن لم يكن فهو فرض على كافة المسلمين ، ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين " .
وذكر أيضاً رحمه الله في تفسيره عند [الآية 72 ،من سورة الأنفال] : "قال ابن العربي : إلا أن يكونوا أ ُسراء مستضعفين ، فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة حتى لا تبقى منا عين حتى تخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك ، وتبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم ، كذلك قال مالك وجميع العلماء ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، على ما حل بالخلق من تركهم إخوانهم في أسر العدو ، وبأيديهم خزائن الأموال وفضول الأحوال والقدرة والعدد والقوة والجَلَد " انتهى .
قال المصنف عفا الله عنه : فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، إننا في هذا الوقت ، وفي هذه الديار ديار الردة والكفر ، وإخواننا في سجون الطواغيت ونحن لا نحرك ساكناً ولا نفعل شيئاً ، وإن كان الواجب عينياً على كل مسلم استنقاذ الأسرى ، وذلك لأنه لم يقم بذلك أحد من المسلمين ، والأعظم منه والأكبر ضياع توحيد الخلاّق وعبادة غيره ، وعاد الإسلام غريباً كما بدأ ، اللهم اغفر لنا وارحمنا وانصرنا على القوم الكافرين .
هذا قليل من كثير من أقوال العلماء في وجوب فك أسرى المسلمين . والسعي في ذلك بالمال والنفس ، ولكننا اليوم نجُرُّ أنفسنا وإخواننا إلى الأسر بتلك الاعترافات عند الوقوع تحت أيدي الكفار ، فكيف نحقق الوجوب المجمع عليه ، ونحن نفعل خلافه ، وكل ذلك بحجة الإكراه ؟ . - ثالثا ً : هذه بعض القواعد الفقهية الخاصة بموضوع الإكراه ، وما يتعرض له المسلم من التعذيب والسجن والقتل لأجل الإضرار بالمسلمين من قبل الكافرين.
- قاعدة الضرورة تقدر بقدرها : إذا رخصّ الشارع في قول الكفر وفعله تحت الإكراه ، فلا يعني ذلك دوام الكفر حتى ولو انتفى الإكراه الملجئ ، ويحصل من المسلمين اليوم قول الكفر أو فعله من غير إكراه ، مثل المسلم يطلبه الكفار للتحقيق معه وبدون أي إكراه منهم ، يقول : أنا أحافظ على دولتكم وأنا أحب الطاغوت وأنا يهمُّني أمن الدولة واستقرارها ، والواجب أن أدافع عنها ، وغير ذلك من الكلام الكفري ، مع أنهم لم يطلبوا منه ذلك ولم يكرهوه عليه فالضرورة تقدر بقدرها ،إذا أكره المسلم على الكفر ، هنا جاءت الرخصة ، وتنتهي الرخصة بانتهاء الإكراه ، ولا زيادة من قول أو فعل الكفر بعد انتهاء الإكراه ، ومن زاد بعد انتهاء الإكراه من قول الكفر أو فعله كان كافراً .
فليعلم المسلم هذا الحكم ، وليكن على حذر من الوقوع فيه ، وليعلم أن التقية لا تحصل إلا بالإكراه ، وليس بالظن والهوى والخوف الذي يؤدي إلى الهلاك في الدنيا والآخرة .
- وقاعدة : الضرورات تبيح المحظورات : الذي رخصّ في الكفر هو الإكراه ، وليس الخوف من المشركين ولا دفع ضررهم بالكفر من غير إكراه ، واليوم من النادر أن يطلب الكفار من المسلم أن يكفر ويترك الدين ويسبه ، ولكن الأمر غير ذلك .(1/280)
- وقاعدة : إذا زال المانع عاد الممنوع : فإذا زال مانع الإكراه عاد الممنوع الذي هو حرمة قول الكفر وفعله .
- وقاعدة : يُتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام : فالمسلم عليه أن يتحمل الضرر الخاص به وحده لأجل دفع الضرر عن المسلمين ، يتحمل التعذيب والضرب والقتل لأجل غيره من المسلمين ، أي : ذهاب فرد أولى من ذهاب مجموعة كاملة أو تنظيم ، فالضرر في الواحد أولى من الضرر في المجموعة أو الجماعة .
- ومثله قاعدة الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف ، ومثله قاعدة : إذا تعارضت مفسدتان دفع أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما .
- ومثله قاعدة : يختار أهون الشرين ، فدفع المسلم عن نفسه الضرر بالاعتراف على باقي إخوانه وخاصة ً إذا كان يجمعهم عمل لدين الله ، فلا شك أنهما مفسدتان هما هلاك مسلم أو أكثر . فهلاك مسلم(1) مع الضرورة أولى من هلاك أكثر من مسلم ، فيدفع بالأخف لتفادي الأعظم وفيما ذكرنا من القواعد كفاية لكي يعلم المسلم أن الأمر يحتاج إلى أمر شرعي ودليل صحيح حتى يقدم على العمل بيقين ، وليس بالجدل والجهل والكلام العقلي الخالي من الدليل النقلي .
فصل
نشرع وبالله التوفيق والإعانة في الجواب على السؤال الذي طرحناه في أول الرسالة : فهل يحل للمسلم الاعتراف على المسلمين وإحضارهم إلى الكافرين مع الإكراه ؟
نقول ولله الحمد : إنه لا إكراه أبداً لمثل هذه الحالة ، ولا يعتبر إكراهاً يعود بالضرر على المسلمين ، وليس الإكراه مانعاً من لحوق الإثم لمن فعل مثل هذا الفعل ، وحرمة هذا الأمر شرعاً وعقلاُ واضحة كما كانت عند سلفنا الصالح محكمة بينة واضحة .
ذكرنا الآيات والأحاديث الدالة على حرمة الإضرار بالمسلمين ، ووجوب العون لهم والوقوف معهم ونصرتهم ، وهذا من موالاة المؤمنين .
فكيف يحل الإضرار بهم بحجة الإكراه ؟ وكيف تلغى كل تلك الواجبات ، وأيضاً الحرمة ، من أجل أمر مثل هذا ؟ أنه خطأ بيّن أن يظن أن الضرر بالمسلمين عند الإكراه رخصة .
وذكرنا الإجماع على وجوب فك أسرى المسلمين بالمال والنفس وحرمة التفريط فيه ، وعدم الإعانة عليه ، ثم المسلم يخالف هذا الوجوب وهذه الحرمة ليحضر أخاه إلى الكفار ويضعه أمامهم ليفعلوا فيه ما حرمه الله تعالى ، ثم إن المسلم هو القوي والكافر هو الضعيف ، والمسلم أعلى وأجلّ من الكافر ، فكيف يتم العكس ؟ وكل ذلك بحجة الإكراه .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه ( السياسة الشرعية ) عن من آوى محارباً ، أو سارقاً ، أو قاتلاً ونحوهم ، ممن وجب عليه حد أو حق لله تعالى ، أو لآد مي ، أو أنه عرف مكانه ، كان عليه الإعلام به ، والدلالة عليه ، ولا يجوز كتمانه فإن هذا من باب التعاون على البر والتقوى وذلك واجب(1) " بخلاف ما لو كان النفس أو المال مطلوباً بباطل ، فإنه لا يحل الإعلام به ، لأنه من التعاون على الإثم والعدوان ، بل يجب الدفع عنه ، لأن نصر المظلوم واجب ، ففي الصحيحين ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً « . قلت : يا رسول الله : أنصره مظلوماً ، فكيف أنصره ظالماً ؟ قال : » تمنعه من الظلم ، فذلك نصرك إياه « " [السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ص (99) ط / دار الكتاب العربي] .
إن الحرمة قائمة ، وعلى المسلم تحمل التعذيب والسجن والقتل ، وأن يقدم نفسه لأجل إخوانه بتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام ، وبأن يختار أهون الشّرين .
وقديماً كان الإكراه على الكفر بالله ، كما جرى للصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ، ولكن الإكراه اليوم يقع لأجل الضرر بالمسلمين ، والاعتراف عليهم وسجنهم وقتلهم .
فالإكراه الأول : قد رخصّ فيه الله تعالى وهذا سبب نزول الآيات [سورة النحل 106-110] ، أما الثاني فلم يرخص فيه الشرع أبداً ، بل هو محرم ، ومن فعله وقع في الإثم والعياذ بالله(2) .
ومن الخطأ الكبير الخطير ، أن يقاس الثاني على الأول ، فالأول في حق الله تعالى وقد رخصّ فيه ، أما الثاني ففي حق المسلمين ، ولم يرخصّ فيه الله تعالى ، والمسلم لا يرضى لنفسه العذاب والوقوع في الأسر والقتل ، وأيضاً المفسدة راجحة والمصلحة معدومة ، ولأن الأول يتعلق بعقيدة القلب ، ومع صلاح القلوب لا يضر قول الكفر أو فعله عند الإكراه الملجئ ، فهنا المفسدة هلاك المسلم مع صلاح عقيدته وسلامتها ، فرخص فيه الشارع مع أن العزيمة أولى .
والثاني كيف يكون المسلم صالح العقيدة ، وهو يضع أخاه في أيدي الكفار ، فيعذبونه ويفعلون به المنكر ؟ حتى القتل فيقول أنا مكره على ذلك مع سلامة عقيدتي لأخي المسلم كيف ؟ وأنا مطمئن بالإيمان إيمان الولاء للمسلمين ، وهو يضعهم في ذلك الموقف الخاسر أمام أهل الردة والكفر .
إن دعوى سلامة القلب لا تنفع مع هذا الإكراه لأن الفعل ضعضع هذه الدعوى ، وضعفت الموالاة بين المسلمين عند وضع المسلم أمام الكفار يسومونه سوء العذاب .
فلا قياس معتبر أبداً بين الحالتين ، ولكنه وسواس الشياطين ، وقلة العلم ونقص الإيمان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
فإن كان الأقل من ذلك حرام مثل غيبة المسلم والطعن فيه ، أو ضربه ، أو سبه بأقل كلمة تؤذيه ، فما بالك بغيره ؟
إن تجويز إيقاع المسلم في أيدي الكفار وضربه وإيذائه وسبه وسب دينه وربه ونبيه وأن يفعل فيه الفحش من الأعمال ، ويصل الحد إلى القتل بحجة الإكراه ، إنما هو قياس باطل وقول ردي وفتوى ضلالة .
فيا عبد الله أحذر من ذلك ، وعليك بالحق المبين ، وأن تكون كبش فداء لإخوانك المؤمنين وتقدم الروح والمال في سبيل الله لأجل إخوانك .
والله لبذل الرمح أهون عندنا من أن يقع مسلم بين أيدي الكفار أو حتى يقال له كلمة واحدة من فم نجس كافر فيها إهانة لمسلم .(1/281)
يقول القرطبي رحمه الله تعالى : " أجمع العلماء على أن من أ ُكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الإقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره ، ويصبر على البلاء الذي نزل به ، ولا يحل أن يفدي نفسه بغيره ، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة ".
ويذكر رحمه الله أيضاً : " وذكر عبد الملك بن حبيب قال : حدثني معبد ، عن المسيب بن شريك ، عن أبي شيبة قال : سألت أنس بن مالك عن الرجل يُؤخذ بالرجل ، وهل ترى أن يحلف ليتقيه بيمينه ؟ فقال : نعم . ولأن أحلف سبعين يميناً وأحنث أحب إليَّ من أن أدُلَّ على مسلم " .
وقال إدريس بن يحيى : كان الوليد بن عبد الملك يأمر جواسيس يتجسسون الحلق يأتونه بالأخبار . قال : فجلس رجل منهم في حلقه رجاء بن حيوة ، فسمع بعضهم يقول في الوليد ، فرفع ذلك إليه ، فقال : يا رجاء أُذكر بالسوء في مجلسك ولم تغيّر ؟ فقال : ما كان يا أمير المؤمنين ؟ فقال له الوليد : قل : الله الذي لا إله إلا هو ، فقال : الله الذي لا إله إلا هو . فأمر الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطاً ، فكان يلقى رجاءً فيقول : يا رجاء بك يستقي المطر وسبعون سوطاً في ظهري ، فيقول رجاء : سبعون سوطاً في ظهرك خير لك من أن يقتل رجل مسلم « . تفسير القرطبي عند تفسيره آية الإكراه .
وفي فتح الباري ، كتاب الإكراه ، يقول ابن حجر العسقلاني رحمه الله : " فقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي : انعقد الإجماع على أن المكره على القتل مأمور باجتناب القتل والدفع عن نفسه ، وأنه يُأثم إن قتل من أُكره على قتله ، وذلك يدل أنه مكلف حالة الإكراه ، ويقول أيضاً : ولا يجوز لأحد أن ينجي نفسه من القتل بأن يقتل غيره " انتهى .
ويقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله في كتاب (جامع العلوم والحكم ) عند الحديث التاسع والثلاثين : " واتفق العلماء على أنه لو أكره على قتل معصوم لم يصح له أن يقتله ، فإنه إنما يقتله باختياره افتداءً لنفسه من القتل ، هذا إجماع من العلماء المعتد بهم " انتهى .
فهذه الإجماعات تؤكد ما ذكرنا من حرمة أذية المسلم بالقتل أو ما دونه ولو مع الإكراه ، فكيف يحل للمسلم أن يوقع غيره فيما هو فيه من التعذيب أو السجن ؟ .
وليعلم المسلم أن الكفار اليوم يريدون أن يوقعوا بين المسلمين بمثل هذه الأحوال ، فهذا يعترف على هذا ، وهذا يضر هذا ، وهذا يقدح في هذا ، حتى تقع العداوة بين المسلمين ، وقد حدثت ولا حول ولا قوة إلا بالله .
والمصيبة أنه مع اعتراف الأخ على أخيه والدلالة عليه لا ينجيه ذلك من الأذى والسجن ، بل يقع الاثنان في الأسر والتعذيب والقتل ، فلماذا الاعتراف والضرر واقع على المسلم ، اعترف أو لم يعترف ؟
والحقيقة أنه مع الاعتراف يزيد التعذيب ، وكلما اعترف زاد التعذيب والأذى ، حتى يُخرج المسلم ما عند كله .
فأخوة الإسلام ، ورابطة التوحيد ، وقوة الإيمان بالله ، توجب على المسلم الدفاع عن أخيه وتحمل كل شئ في سبيل الله لإنقاذ إخوانه المسلمين ، ولكن ضعف الإيمان عندنا وكثرة المعاصي ، وقلة العلم ، وضعف رابطة الولاء بيننا أوقعتنا في مثل هذا المنزلق الخطير .
وعن سهل بن حنيف عنالنبي صلى الله عليه وسلم : » من أُذلَ عنده مؤمن فلم ينصرهُ ، وهو يقدر على أن ينصرهُ أذله الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة « رواه أحمد والطبراني .
يقول الشوكاني رحمه الله في شرح هذا الحديث : " حديث سهل بن حنيف وما ورد في معناه يدل على أنه يجب تصر المظلوم ودفع من أراد إذلاله بوجه من الوجوه ، وهو مما لا أعلم فيه خلاف ، وهو مندرج تحت أدلة النهي عن المنكر " [نيل الأوطار ج4 / ص400] .
والله الذي لا إله إلا هو لو أن كل مسلم يقع تحت أيدي الكفار يفدي إخوانه بنفسه ويتحمل الأذى في سبيل الله حتى الموت والقتل في سبيل الله ، ولا يدل على إخوانه أبداً ، لكان لنا قوة ونصرة ً من الله لا يعلمها إلا هو ، ولكن قدّر الله وما شاء فعل .
- فهذا جزء من الجواب من الناحية الشرعية وإليك الجزء الآخر من الناحية العقلية ، وإن كان في الشرعية غنية ٌ ، ولكن رداً على الذين يقولون بالعقل ، بأن الضرر وقع على المسلم حتى لا يستطيع الدفع إلا بالاعتراف ، فنقول وبالله التوفيق وله الحمد :
إن الجانب العقلي يرى المصلحة والمفسدة ، ويفضل المصلحة على المفسدة وكذلك الشرعي ، وأيضاً يفضل المفسدة الصغرى على الكبرى ، فهو يدفع المفسدة الكبرى بالصغرى ، إن كان لا سبيل إلا هذا ، وكذلك الجانب الشرعي ، أما إذا حصل العكس فهذا ليس بالعقل بل فعل المجانين ، ونحن لا نرى مصلحة في هذا النوع من الإكراه ، بل هي مفسدة ، ومفسدة كبرى ، لأسباب عدة منها :
1- ضرر المسلم بنفسه حيث يظن أنه سينجو من التعذيب والسجن والقتل عند الاعتراف على إخوانه تحت الإكراه ، فيزيد عليه الضرر والأذى ويتسلط عليه الكفار أكثر من الأول وكذلك يشمت به الأعداء لأنه لم يحافظ على إخوانه ، ودل عليهم ، فيسقط من أعين الكفار ، ومن أعين المسلمين ، وقد يوقعه ذلك في عدم الثقة بالله وبنصر الله ، وفي الفتنة والسقوط في حفرة الردة والعياذ بالله .
2- إلحاق الضرر بالمسلمين ، بعد إن كان الضرر بواحد تعدى الضرر إلى المسلمين ، فيتسلط الكفار عليهم ، ويعرض المسلمين للفتنة وأعظمها فتنة الكفر والعياذ بالله .
3- إلحاق الضرر بأهالي المسلمين من فقدان العائل لهم ، وتعرضهم أيضاً للسجن والأذى من الكفار ، وفقد الأب والزوج والأخ ، وهكذا حتى يصل الحد إلى هتك الأعراض ، كما حصل من قِبَلِ الكفار عليهم لعائن الله ، إن كان في الأهل أو غيرهم ، والواقع يشهد على ما حصل في كثير من الدول التي تحكم بشريعة الغاب شريعة الشيطان نعوذ بالله منهم .(1/282)
4- إصابة الضرر للجماعة المسلمة التي تسعى للعمل لدين الله ، فبالاعترافات تسقط الجماعة المسلمة أو التنظيم المسلم ، وكل ذلك بسبب اعتراف واحد منهم على الباقين ، ومن أجل دفع مفسدة صغرى أدى إلى مفسدة كبرى .
5- إلحاق الضرر بالمجاهدين والعاملين لدين الله في ذلك البلد ، ويتعدى منهم إلى باقي البلدان ، فالواحد يكون سبباً في ضرر العشرات بل المئات ، وهذا فيه ضربة لدين الله ومساهمة في إطفاء نور الله تعالى ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ...
ففي ( السير الكبير ) للشيباني وشرحه للسرخسي رحمهما الله : "
ولو أخذ أهل الحرب أسيراً من المسلمين وهم محاصرون حصناً من حصون المسلمين فقالوا له : دلنا على موضع نفتح منه هذا الحصن ، وهو يعرف ذلك ، فليس يحل له أن يفعل هذا ، لما فيه من إعانة المشركين على المسلمين ، فإن هددوه بالقتل على ذلك فإن كان أكبر الرأي منه على أنه يفتح إن فعل ذلك وظفروا بالحصن فقتلوا المقاتلة وسبوا الذرية فليس يسعه أن يدلهم ، لأن في فعله ذلك هلاك للمسلمين ، وليس للمسلم أن يجعل روح جماعة المسلمين وقاية لروحه .
ألا ترى أن المكره على القتل لا يحل له أن يقتل المقصود بالقتل وإن كان ذلك شخصاً واحداً . فلأن لا يحل له أن يفعل ذلك وفيه هلاك جماعة المسلمين كان أولى ، ألا ترى أنهم لو جاءوا في طلب رجل من المسلمين يريدون قتله ، فقالوا : دلنا عليه وإلا قتلناك ، وأكبر الرأي منه على أنه إن دلهم عليه قتلوه ، فإنه لا يسعه أن يدلهم عليه .
ولو هرب منهم أسيراً فقالوا لأسير آخر يعرف مكانه : دلنا عليه لنقتله وإلاّ قتلناك ، لم يسعه أن يدلهم عليه ، لأن الدلالة الممكنة من القتل بمنزلة مباشرة القتل من وجه ، كما في حق الصيد ، ثم في هذا ظلم الأسير الهارب ، لأنهم لا يتمكنون منه إلا بدلالته ، فهو بهذه الدلالة يُمكّنهم من قتله ، ولا رخصة في ظلم المسلم بهذا الطريق .
ألا ترى أنه لو قيل له : لنقتلك أو لتمكننا من فلانة نزني بها وهم لا يقدرون عليها إلا بدلالته ، أنه لا يسعه أن يدل عليها" (1) .
1- لا شك أن مثل دعوى الإكراه هذه المرفوضة شرعاً وعقلاً تسلط الكافر على المسلم ، وتجعل للكافر غلبة على المسلم ، ويحصل الأذى للمسلمين والنجاة للكافرين ، ومع تساقط الأفراد تسقط المجموعات والجماعات ويكون للكفار الغلبة ، وكل ذلك مما جَنَت أيدي المسلمين .
2- نقص الثقة بين المسلمين ، كلما وقع أحدهم في الأسر دلّ على إخوانه ، فتنقص الثقة بينهم ويقل العمل لدين الله لأجل الخوف والاعتراف والدلالة على بعضهم البعض ، ونقص الثقة يعني : نقص الولاء بينهم ، وهذا شر عظيم نتج عن مثل هذا الإكراه المزعوم .
وهناك شرور وأضرار أخرى ناتجة عن هذا الإكراه الكاذب المذموم شرعاً وعقلاً ، ويكفي اللبيب ما ذكرنا لكي يحافظ على نفسه وعلى إخوانه ويجعل الحكم الشرعي هو المسيّر له وليس العقل الجاهل والهوى الفارغ .
وكما قلنا ليت المسلم بعد هذا الإكراه ينجو بنفسه من الكفار ، ولكن المفسدة تقع عليه وعلى إخوانه المسلمين ، والمصيبة أن عامة الناس تعرف ذلك ، أي كلما وقع واحد جرَّ الباقي ، وتعدى البلاء على الكل .
وكل من يخالفنا من أهل البدع والأهواء ، وحتى أهل الكفر يعرفه عنا ، وهذه نقطة ضعف تسجل علينا ، لتكون طعناً في دين الله ( لو كان فيكم خير ما دل بعضكم على بعض ) كما يقولون.
ونحن نرى اليوم وقبله وقوع الكفار من التنظيمات المعارضة للحكومات في الأسر ، ولكنهم لا يدلون على بعضهم البعض ، ويصبرون على البلاء في سبيل نجاة إخوانه الكفرة ، فهذه نقطة ضعف أخرى علينا ، فهل من مُدّكر ؟ .
وكذلك يحرم على المسلم أن يعترف على نفسه ، وأنه هو الذي عمل كذا وكذا أو عنده كذا وكذا ، فكما أن حرمة أنفس غيره من المسلمين ثابتة في حقه ، فكذلك أيضا نفسه ، ويحرم على المسلم أن يعترف على أخيه وإن رضي أخوه أو كان غائباً أو بعيداً أو في بلد آخر بعيداً عن أيدي الكفار ، فكل ذلك ضرر بالمسلمين ، وأذى لهم وتسلط للكفار على المسلمين ، فلا فرق بين هذا وما ذكرنا سابقاً ما دام يقع على النفس المسلمة المعصومة .
فصل
وإننا ننصح إخواننا جميعاً أن يكونوا يداً واحدة وأن يدفع المسلم نفسهُ ومالهُ في سبيل الله ليفدي إخوانه المسلمين ، وأن يثقوا بنصر الله لهم ، وأن يكونوا قريبين من الله في كل وقت ، وليكبر وليتسع وليقوى الولاء بينهم ، وليقل الواحد منهم للكفار إذا وقع في الأسر : لا أعرف أحداً ، وإن ضربوه وإن عذبوه ، أو حتى قطعوا منه الأعضاء وإن هم قتلوه ، وليكن قدوةً لغيره ، ومن المحافظين على إخوانه ، الباذلين الأنفس في سبيل الله إنقاذاً لإخوانه وأهليهم ودينهم ومجموعاتهم وتنظيماتهم ، حتى يلقى الله تعالى وهو راض ٍ عنه فهذه من أوثق عرى الإيمان ، الولاء للمسلمين والعداء للكافرين ، وهو الحب في الله والبغض في الله .(1/283)
ولا يعني ما كتبنا أننا نطعن في إخواننا أو أننا نسخر منهم ، فذلك فعل المنافقين ، ولكن هي ذكرى أحببنا تذكرتهم بها ، وهي كلمة حق ، كان الواجب علينا القول بها ، فإن كنا كتبنا بهذه اللهجة القوية وتلك الكلمات الجافة فإنما لِعِظَمِ الجريمة وشناعة الموقف والآلام التي فينا، فالمسلمون يتساقطون الواحد تلو الآخر ، وكل ذلك من جني أيدينا وحصائد ألسنتنا ، فإن كان الموقف قوياً فلتكن الكلمات قوية , والردود قوية ، وإن كانت الخسارة كبيرة في صفوفنا ، فهذه الكلمات وهذه الكتابة لا تساوي شيئاً أمام تلك الخسارة ، فليتحمل الواقع في مثل هذا الأمر هذه الكتابة وهذه الكلمات ، ولا ييأس من رحمة الله ، فالمؤمن لا ييأس من رحمة الله ، ولكن يسعى إلى التغيير من الخطأ إلى الصواب ، وقد يكون لإخواننا تأويلات وقعوا فيها أو رخص أجازت لهم ذلك ، فالله يهدي إلى صراطه المستقيم وهو يغفر الذنوب جميعاً ، فليعمل المسلم لصفحة جديدة وليقم بالخير والإصلاح ما استطاع ، ولتكن همته عالية وليسعَ للعلم والتعلم ، ولا يعمل عملاً حتى يعلم حكم الله فيه بالدليل الصحيح من الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح .
ونسأل الله تعالى أن تكون هذه الرسالة عوناً للمسلمين على ما هم فيه من ضعف وقلة حال ، وتكون رداً لإخواننا إلى جادة الصواب ، والاجتماع على الحق ، وللعمل بما فيها من الحق ، وتكون خطوةً إلى تأليف القلوب والتوادّ بين المسلمين ، إنه هو السميع العليم .
أقول أخيراً : كان علينا على الأقل أن نتمسك بحرمة الاعتراف والإضرار بالمسلمين مع الإكراه ، لأن الواقع يشهد لنا بالسقوط مع الأخذ بالرخص الموهومة في حالة الإكراه المزعوم ، فالخسائر كثيرة بمثل هذه الرخص فعلينا بالعزائم إن كان الحكم دائراً بين الرخصة والعزيمة ، ولكن الحكم أكبر من ذلك ، كما أوضحنا سابقاً ، إنما هو حرمة الإضرار بالمسلمين مع وجود الإكراه المزعوم .
وأختم كلامي بهدية أقدمها لإخواننا الموحدين وهي كلمات
لسيد قطب رحمه الله من كتابه ( في ظلال القرآن ) ، عند تفسير قوله تعالى « الم »أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» [العنكبوت:1-2] :
" إن الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف ، وأمانة ذات أعباء ، وجهاد يحتاج إلى صبر وجهد يحتاج إلى احتمال ، فلا يكفي أن يقول الناس : آمنّا ، وهم لا يتركون لهذه الدعوى ، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها أو يخرجوا منها صافية عناصرهم خالصةً قلوبهم ، كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به ، وهذا هو أصل الكلمة اللغوي وله دلالته وظله وإيحاؤه ، وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب ، وهذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت ، وسنة جارية ، من ميزان الله سبحانه « وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ » [العنكبوت:3] . والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء ، ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله ، مغيب عن علم البشر فيحاسب الناس إذاً على ما يقع من علمهم ، لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم ، وهو فضل من الله من جانب وعدل من جانب ، وتربية للناس من جانب ، فلا يأخذ أحداً إلا بما استعلن من أمره وبما حققه فعله ، فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه.
ونعود إلى سنة الله في ابتلاء الذين يؤمنون وتعريضهم للفتنة ، حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين .
إن الإيمان أمانة الله في الأرض ، لا يحملها إلا من هم لها أهل ، وفيهم على من حملها قدرة ، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص ، وإلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة ، وعلى الأمن والسلامة ، وعلى المتاع والإغراء ، وإنها لأمانة الخلافة في الأرض ، وقيادة الناس إلى طريق الله ، وتحقيق كلمته في عالم الحياة ، فهي أمانة كريمة وهي أمانة ثقيلة ، هي من أمر الله يضطلع بها الناس ، ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء .
ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويدفع عنه ، ولا يملك النصرة لنفسه ، ولا المنعة ، ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان ، وهذه هي الصورة البارزة للفتنة ، المعهودة في الذهن حين تذكر الفتنة ، ولكنها ليست أعنف صور الفتنة ، فهناك فتن كثيرة في صور شتى ، وربما كانت أمرَّ وأدهى .
هناك فتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه وهو لا يملك عنهم دفعاً ، وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم ، وينادونه باسم الحب والقرابة ، واتقاء الله في الرحم التي يعرضها للأذى أو للهلاك ، وقد أُشير في هذه السورة إلى لون من هذه الفتنة مع الوالدين وهو شاق عسير .
وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين،ورؤية الناس لهم ناجحين ، مرموقين ، تهتف لهم الدنيا وتصفق لهم الجماهير ، وتتحطم في طريقهم العوائق وتساغ لهم الأمجاد ، وتصفو لهم الحياة ، وهو مهمل منكر لا يحس به أحد ، ولا يحامي عنه أحد ، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئا.ً
وهناك فتنة الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة ، حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله ، وكل ما حوله غارقاً في تيار الضلالة ، وهو وحده موحش غريب طريد ، وهناك فتنة من نوع آخر قد نراها بارزة في هذه الأيام فتنة قد يجد المؤمن أمماً ودولاً غارقةً في الرذيلة ، وهي مع ذلك راقية في مجتمعهم ، متحضرة في حياتها ، يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان ، ويجدها غنية قوية وهي مشاقة ٌ لله .(1/284)
وهنالك الفتنة الكبرى ، أكبر من هذا كله وأعنف ، فتنة النفس والشهوة ، وجاذبية الأرض ، وثقلة اللحم والدم ، والرغبة في المتاع والسلطان ، أو في الدعة والاطمئنان ، وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان ، والاستواء على مرتقاه ، مع المعوقات والمثبطات في أعماق النفس وفي ملابسات الحياة وفي منطق البيئة ، وفي تصورات أهل الزمان ، فإذا طال الأمد ، وأبطأ نصر الله ، كانت الفتنة أشد وأقسى ، وكان الابتلاء أشد وأعنف ، ولم يثبت إلا من عصم الله ، وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان ، ويأتمنون على تلك الأمانة الكبرى ، أمانة السماء في الأرض ، أمانة الله في ضمير الإنسان ، وما بالله - حاشا لله - أن يعذب المؤمنين بالابتلاء ، وأن يؤذيهم بالفتنة ، ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة ، فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق ، وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات ، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام ، وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو ثوابه ، على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء .
والنفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث ، وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع ، وتطرقها بعنف وشدة ، فيشتد عودها ، ويصلب ويصقل ، وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات ، فلا يبقى صامداً إلا أصلبها عوداً ، وأقواها طبيعةً ، وأشدها اتصالاً بالله وثقة ً فيما عنده من الحسنيين : النصر أو الأجر ، وهؤلاء هم الذين يسلمون الراية في النهاية مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار ، إنهم ليتسلمون الأمان وهي عزيزة على أنفسهم بما أدوا لها من غالي الثمن ، وبما بذلوا لها من الصبر على المحن ، وبما ذاقوا في سبيلها من الآلام والتضحيات ، والذي يبذل من دمه وأعصابه ومن راحته واطمئنانه ، ومن رغائبه ولذاته ، ثم يصبر على الأذى والحرمان يشعر ولا شك بقيمة الأمانة التي بذل فيها ما بذل ، فلا يسلمها رخيصة بعد كل هذه التضحيات والآلام .
فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية فأمرٌ تكفل به وعد الله ، وما يشك مؤمن في وعد الله ، فإن أبطأ فلحكمة مقدرة ، فبها الخير والإيمان لأهله ، وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله ، وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة ويقع عليهم البلاء أن يكونوا هم المختارين من الله ليكونوا أمناء على حق الله وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة ، فهو يختارهم للابتلاء .
جاء في الصحيح : » أشد الناس بلاءً الأنبياءُ ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل ، ويبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء « .
وأما الذين يفتنون المؤمنين ، ويعملون السيئات فما هم بمفلتين من عذاب الله ولا ناجين مهما انتفخ باطلهم وانتفش وبدا عليه الانتصار والفلاح .
وعد الله كذلك وسنته في نهاية المطاف « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ » [العنكبوت:4]
فلا يحسب مفسد أنه مفلتٌ ولا سبق ومن يحسب هذا فقد ساء حكمه وفسد تقديره ، واختل تصوره ، فإن الله الذي جعل الابتلاء سنة ، ليمتحن إيمان المؤمن ، ويميز بين الصادقين والكاذبين ، هو الذي جعل أخذ المسيئين سنة لا تتبدل ولا تتخلف ولا تحيد .
وهذا هو الإيقاع الثاني في مطلع السورة الذي يوازي الإيقاع الأول ويعادله ، فإذا كانت الفتنة سنة جارية لامتحان القلوب وتمحيص الصفوف ، فخيبة المسيئين وأخذ المفسدين سنة جارية لا بد أن تجئ .
أم الإيقاع الثالث فيتمثل في تطمين الذين يرجون بقاء الله ، ووصل قلوبهم به في ثقة وفي يقين.
« مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ »[العنكبوت:5].
فلتقر القلوب الراجية في لقاء الله ولتطمئن ، ولتنتظر ما وعدها الله إياه ، إنتظار الواثق المستيقن ، ولتطلع إلى يوم اللقاء في شوق ولكن في يقين .
والتعبير يصور هذه القلوب المتطلعة إلى لقاء الله صورة موحية ، صورة الراجي المشتاق ، الموصول بما هناك ، ويجيب على التطلع بالتوكيد المريح ، ويعقب علبه بالطمأنينة الندية ، يدخلها في تلك القلوب ، فإن الله يسمع لها ، ويعلم تطلعها ، « وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ »[العنكبوت:5].
والإيقاع الرابع يواجه القلوب التي تحتمل تكاليف الإيمان ، وما مشاق الجهاد ، بأنها إنما تجاهد لنفسها ولخيرها ولاستكمال فضائلها ، ولإصلاح أمرها وحياتها ، وإلا فما بالله من حاجة إلى أحد ، وإنه لغني عن كل أحد .
« وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ » [العنكبوت:5] .
فإذا كتب الله على المؤمنين الفتنة وكلفهم أن يجاهدوا أنفسهم لتثبت على احتمال المشاق ، فإنما ذلك لإصلاحهم ، وتكميلهم ، وتحقيق الخير لهم في الدنيا والآخرة ، والجهاد يصلح من نفس المجاهد وقلبه ، ويرفع من تصوراته وآفاقه ، ويستعلي به على الشح بالنفس والمال ، ويستجيش أفضل ما في كيانه من مزايا واستعدادات ، وذلك كله قبل أن يتجاوز به شخصه إلى الجماعة المؤمنة ، وما يود عليها من صلاح حالها ، واستقرار الحق بينها ، وغلبة الخير فيها على الشر ، والصلاح فيها على الفساد ، « وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ » .
فلا يقفن أحد في وسط الطريق ، وقد مضى في الجهاد شوطاً ، يطلب من الله ثمن جهاده ، ويمن عليه وعلى دعوته ، ويستبطىء المكافأة على ما ناله ،فان الله لا من جهاده شيء ،وليس في حاجة إلى جهد بشر ضعيف هزيل : « إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ » ،و إنما هو فضل من الله أن يعنه في جهاده ، وأن يستخلفه في الأرض به ، وأن يأجره في الآخرة بثوابه :(1/285)
« وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ » [العنكبوت:7].
فليطمئن المؤمنون العاملون على ما لهم عند الله ، من تكفير للسيئات ، وجزاء على الحسنات ، وليصبروا على تكاليف الجهاد ، وليثبتوا على الفتنة والابتلاء ، فالأمل المشرق والجزاء الطيب ، ينتظرانهم في نهاية المطاف ، وإنه لحسب المؤمن حتى لو فاته في الحياة الانتصاف " انتهى .
فهذا ما استطعت أن أجمعه وأن أكتبه في هذه العجالة ، ولله الحمد والمنة ، فما كان من خطأ فأنا راجع عنه إلى الصحيح من الحكم الشرعي ، وهو من نفسي الخاطئة ومن الشيطان نعوذ بالله منهما ، وما كان من صواب فمن الله وحده لا شريك له .
اللهم اجعل عملنا خالصاً لك وعلى سنة نبيكصلى الله عليه وسلم وتقبله منا إنك سميع مجيب.
والحمد لله الذي بنعمته تمت الصالحات
شوال 1421 من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم
============
تفسير قوله تعالى : لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ الآية
مجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 8 / ص 260)
س : مذكور في القرآن الكريم : لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فما معنى هذا؟
ج : قد ذكر أهل العلم رحمهم الله في تفسير هذه الآية ما معناه : أن هذه الآية خبر معناه : النهي ، أي : لا تكرهوا على الدين الإسلامي من لم يرد الدخول فيه ، فإنه قد تبين الرشد ، وهو دين محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعهم بإحسان ، وهو توحيد الله بعبادته وطاعة أوامره وترك نواهيه مِنَ الْغَيِّ وهو : دين أبي جهل وأشباهه من المشركين الذين يعبدون غير الله من الأصنام والأولياء والملائكة والأنبياء وغيرهم ، وكان هذا قبل أن يشرع الله سبحانه الجهاد بالسيف لجميع المشركين إلا من بذل الجزية من أهل الكتاب والمجوس ، وعلى هذا تكون هذه الآية خاصة لأهل الكتاب ، والمجوس إذا بذلوا الجزية والتزموا الصغار فإنهم لا يكرهون على الإسلام؛ لهذه الآية الكريمة ، ولقوله سبحانه في سورة التوبة : قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ فرفع سبحانه عن أهل الكتاب القتال إذا أعطوا الجزية والتزموا الصغار . وثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الجزية من مجوس هجر ، أما من سوى أهل الكتاب والمجوس من الكفرة والمشركين والملاحدة فإن الواجب مع القدرة دعوتهم إلى الإسلام فإن أجابوا فالحمد لله ، وإن لم يجيبوا وجل جهادهم ، حتى يدخلوا في الإسلام ، ولا تقبل منهم الجزية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلبها من كفار العرب ، ولم يقبلها منهم ، ولأن أصحابه رضي الله عنهم لما جاهدوا الكفار بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لم يقبلوا الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس ، ومن الأدلة على ذلك قوله سبحانه : فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فلم يخيرهم سبحانه بين الإسلام وبين البقاء على دينهم ، ولم يطالبهم بجزية ، بل أمر بقتالهم ، حتى يتوبوا من الشرك ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فدل ذلك على أنه لا يقبل من جميع المشركين ما عدا أهل الكتاب والمجوس إلا الإسلام ، وهذا مع القدرة . والآيات في هذا المعنى كثيرة .
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تدل على هذا المعنى منها : قول النبي صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل متفق على صحته ، فلم يخيرهم النبي صلى الله عليه وسلم بين الإسلام وبين البقاء على دينهم الباطل ، ولم يطلب منهم الجزية . فدل ذلك : أن الواجب إكراه الكفار على الإسلام ، حتى يدخلوا فيه ما عدا أهل الكتاب والمجوس؛ لما في ذلك من سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة ، وهذا من محاسن الإسلام ، فإنه جاء بإنقاذ الكفرة من أسباب هلاكهم وذلهم وهوانهم وعذابهم في الدنيا والآخرة ، إلى أسباب النجاة ، والعزة والكرامة والسعادة في الدنيا والآخرة ، وهذا قول أكثر أهل العلم في تفسير الآية المسئول عنها ، أما أهل الكتاب والمجوس فخصوا بقبول الجزية والكف عن قتالهم إذا بذلوها لأسباب اقتضت ذلك ، وفي إلزامهم بالجزية إذلال وصغار لهم ، وإعانة للمسلمين على جهادهم وغيرهم ، وعلى تنفيذ أمور الشريعة ونشر الدعوة الإسلامية في سائر المعمورة ، كما أن في إلزام أهل الكتاب والمجوس بالجزية؛ حملا لهم على الدخول في الإسلام ، وترك ما هم عليه من الباطل والذل والصغار؛ ليفوزوا بالسعادة والنجاة والعزة في الدنيا والآخرة ، وأرجو أن يكون فيما ذكرنا كفاية وإيضاح لما أشكل عليكم .
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين للفقه في الدين والثبات عليه ، إنه خير مسئول . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
============
الجمع بين إيجاب حد الردة وآية "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 4 / ص 484)
الجمع بين إيجاب حد الردة وآية "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"
المجيب سليمان بن عبد الله القصير(1/286)
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
أصول الفقه /التعارض والترجيح
التاريخ 1/6/1425هـ
السؤال
السلام عليكم.
وفقاً لحديث متفق على صحته: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" وذكر منها المرتد"، ألا يكون ذلك مناقضاً لقوله تعالى: "لا إكراه في الدين"؟ أرجو بيان وجه التعارض. وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيظهر من السؤال أن السائل على معرفة، ويحتاج إلى بيان وتوضيح في الإجابة؛ ولذا سأبسط الجواب وأوضحه له إن شاء الله؛ فأقول:
ليس بين الآية والحديث تعارض - بحمد الله -؛فإن الحديث، وكذا الأحاديث الأخرى التي جاءت في قتل المرتد كحديث: "من بدَّل دينه فاقتلوه" رواه البخاري(3017) من حديث علي -رضي الله عنه- كلها في من كان مسلماً، وذاق حلاوة الإيمان، ثم ارتدَّ عنه- والعياذ بالله- إلى الكفر مختاراً له ومفضلاً له على الإيمان، وردته هنا وكفره تستلزم تنقصه لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ولدينه القويم، فلذا استحق القتل عقوبة له؛ فإن فعله هذا جريمة لا يعدلها جريمة . وقد نقل الإجماع على وجوب قتله ابن قدامة في (المغني9 /16).
كما أن المفسدة التي تترتب على ردة المسلم عن دينه أعظم بكثير من مفسدة بقاء الكافر الأصلي على كفره .
أما الآية وهي قوله تعالى: "لا إكراه في الدين"[البقرة:256]، فهي في الكافر الأصلي الذي لم يدخل الإسلام أصلاً، وقد جاء في تفسير هذه الآية قولان للمفسرين:
أحدهما: أنها منسوخة بآيات القتال، - فلا تكون معارضة للحديث - وعلى القول بنسخها فإنه يكره جميع الكفار على الإسلام؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أكره العرب على دين الإسلام، ومن أبى منهم الدخول فيه أو بذل الجزية قاتله - وهذا هو الإكراه -، ومن أدلة هذا أيضاً: قول الله -تعالى-: "ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون"[الفتح: 16]، وقوله تعالى: "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم"[التوبة: 73]، وقوله تعالى :"يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار"[التوبة: 123].
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري(3010) عن أبي هريرة-رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "عجب الله من قومٍ يدخلون الجنة في السلاسل". يعني الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثاق والقيود ثم بعد ذلك يسلمون فيدخلون الجنة وهذا القول ذهب إليه بعض المفسرين.
والقول الثاني: أنها محكمة غير منسوخة، وأنها نزلت في أهل الكتاب خاصة (اليهود والنصارى والمجوس، وهم من تؤخذ منهم الجزية)، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا بذلوا الجزية، وأما المشركون والكفار فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو يقاتلون؛ لأنهم الذين نزل فيهم قوله تعالى: "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين"[التوبة: 73]، وهذا قول أكثر المفسرين منهم: سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وقتادة والحسن والضحاك، وهو قول عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-، فقد روى زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر -رضي الله عنه- يقول لعجوز نصرانية: أسلمي أيتها العجوز تسلمي؛ إن الله بعث محمداً بالحق، قالت أنا عجوز كبيرة، والموت إلي قريب، فقال عمر-رضي الله عنه-: اللهم اشهد وتلا :" لا إكراه في الدين"[البقرة: 256].
وجاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما-: أن هذه الآية نزلت فيمن دخل اليهودية من أبناء الأنصار أنهم لا يكرهون على الإسلام . رواه أبو داود في سننه ح (2682) وهذا القول رجحه شيخ المفسرين ابن جرير الطبري .
وقال ابن حزم الظاهري - رحمه الله -: (وأما قول الله -تعالى-: "لا إكراه في الدين"[البقرة: 256]، فلم يختلف أحد من الأمة كلها في أن هذه الآية ليست على ظاهرها؛ لأن الأمة مجمعة على إكراه المرتد عن دينه - يعني بالرجوع إلى الإسلام - ... الخ).
وليس قول العلماء هنا بإكراه الكفار يشمل إكراه كل كافر على الدخول في الإسلام، بل المراد الكفار المحاربين الذين وقع بينهم وبين المسلمين قتال، أما من لم يقع بين المسلمين وبينهم قتال فلا يكرهون، وقد نص العلماء على الذمي والمعاهد والمستأمن - وهم كفار - أنهم لا يجوز إكراههم ، قال ابن قدامة في (المغني 9 /30): (الدليل على تحريم الإكراه قوله تعالى: "لا إكراه في الدين"[البقرة: 256]، وأجمع أهل العلم على أن الذمي إذا أقام على ما عوهد عليه والمستأمن لا يجوز نقض عهده، ولا إكراهه على ما لم يلتزمه). والله أعلم، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وينظر للزيادة في هذا المراجع التالية :
1- تفسير ابن جرير 3/ 14 .
2- تفسير ابن كثير 1/ 311 .
3- تفسير القرطبي 3/ 279 .
4- المحلى لابن حزم 9/ 225 .
==============
إذا كان لا إكراه في الدين، فلِمَ شرع الجهاد؟!
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 7 / ص 422)
إذا كان لا إكراه في الدين، فلِمَ شرع الجهاد؟!
المجيب سامي بن عبد العزيز الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ 13/2/1425هـ
السؤال
كيف نجمع بين قول الله سبحانه وتعالى "لا إكراه في الدين" وبين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" (البخاري 4/196) والحديث الآخر : "أخرجوا اليهود من جزيرة العرب"
وهذا الحديث الأخير يحتج به غير المسلمين على عداوة الإسلام للأديان الأخرى.
فكيف تجيبون على هذا الادعاء؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:(1/287)
فمن الحقائق التي تظافرت الأدلة الشرعية على تقريرها: أنه لا يكره أحدٌ على اعتناق الإسلام، بل الواجب أن تقام الحجة حتى يتبين الرشد من الغي. فمن شاء بعدُ أن يسلم فليسلم، ومن أبى إلا الكفر فلا يُكْرَه على الإسلام، ولا يُقتل إن استحبّ الكفر على الإيمان.
ومن أصرح الأدلة على ذلك:
قوله تعالى: "لا إكراه في الدين" [البقرة:256] أي لا يُكره أحدٌ على الدخول في الإسلام.
وقولُه تعالى: "ولو شاء ربك لآمن مَن في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين" [يونس:99].
وقوله: "فإن تولوا فإنما عليك البلاغ" سورة [آل عمران:20]، ومثله قوله تعالى: "ما على الرسول إلا البلاغ" سورة [المائدة:99]، وكلتا الآيتين مدنيتان.
ويتساءل بعضهم: إذا كان الأمر كذلك، فلِمَ شُرع الجهاد؟ وكيف تفسرون قتال الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته -رضي الله عنهم- للمشركين؟
والجواب: أن الجهاد شُرع لغاياتٍ ليس منها إكراهُ الناس على اعتناق الإسلام.
فقد شُرِع أوَّلَ ما شرع دفاعاً عن المستضعفين المؤمنين الذين يُضطهدون في دينهم ويؤذَون في أنفسهم وأموالهم، ويُخرجون من ديارهم، (وهو ما يسمى بجهاد الدفع)، فقال تعالى: "أُذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِموا وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.." [الحج:39 - 40]
قال غير واحد من السلف: هذه أول آية نزلت في الجهاد، ثم نزل قوله تعالى: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم..الآية" سورة [البقرة: 190-191]
وشُرعَ سنداً لنشر الدعوة حتى تبلغ رسالتها إلى الناس كافةً "وهذا من جهاد الطلب الذي يأتي في مرحلة القوة وظهور الشوكة.
إن الدعوة في حقيقتها دعوةٌ سلمية...باللسان والبيان، فما صحبها السلاحُ لكي يُكره الناس على الدخول في دين الله، وإنما صحبها ليدفع كلَّ من يقف في طريقها ويناوئها.
وما أكثر تلك القوى المتنفِّجة بالباطل التي تقف في وجه دعوة الإسلام، وتصد الناس عن دين الله!
وما عسى الإسلام أن يفعل إذا هي وقفتْ في وجهه وحالت بينه وبين الناس؟
هل سيتركها لتحجبَ عن الناس دعوة الحق، وتمنَعهم اتّباعَها إذا اختاروها ؟
وإنها لفتنة: أن يُصد الناس عن سماع كلمة الحق، ويُسلبوا حرية اختيار الدين، وأعْظِمْ بها من فتنة؟! "والفتنة أشد من القتل" [البقرة:191] "والفتنة أكبر من القتل" [البقرة:217].
إنه ليس ثمَّة خيار للإسلام أمام هذه القوى إلا أن يجاهدها ويدكَّها؛ ليقرِّرَ للناس حريةَ الدعوة بعد أن كانوا محرومين منها تحت سطوة الطغاة ورهبة العتاة، يستعبدونهم ويمارسون الوصاية على عقولهم؟!
ولذا قال جل جلاله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين لله" سورة [البقرة:193].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه لهرقل الروم: "أما بعد؛ فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين" متفق عليه البخاري (7)، ومسلم (1773)، وإنما جعل عليه إثم الأريسيين ـ وهم رعاياه ـ ؛ لأنهم يأتمرون بأمره وينقادون بانقياده.
فلا بد إذاً أن تنداح لدعوة الإسلام هذه الموانعُ وتنزاحَ أمامه كل العقباتُ؛ ليسمع الناس دعوة الإسلام كما هي في صفائها وموافقتها للفطرة، لا كما كانوا يسمعونها من أعدائها مشوَّهةً بالأباطيل المختلقة. فإذا بلغتهم كما هي في حقيقتها فهم وما اختاروا لأنفسهم.
وشُرع الجهاد (في أعظم ما شُرع): ليفتح البلاد ويحطم ما نُصب فيها من الطواغيت الباغية، وما تقنِّنه من النظم المستبدة الجائرة؛ ليقيم مكانها نظامَ الإسلام (جهاد الطلب).
وهذا النوع من الجهاد يتطلب قوةً وقدرةً، ولا يتحقق إلا مع ظهور شوكة المسلمين وتحقق وحدتهم وتمكينهم في الأرض.
أما مع حال الضعف والتفرق ـ كما هو حال الأمة اليوم ـ فلا يجب عليهم إلا النوع الأول من الجهاد: وهو جهاد الدفع ـ أي دفع المعتدين على بلاد المسلمين ومقدساتهم وأموالهم ـ ، كما يجب عليهم في هذه الحال أن يأخذوا بأسباب القوة والمنعة، والاعتصام ونبذ الفرقة؛ فلا يمكن أن تقوم لدولة الإسلام قائمة ما لم تكن لها قوةٌ تحميها وتناضل عنها.
إن شريعة الإسلام يجب أن تحكم أرجاء الأرض، حتى لا يُظلم في كنفها مسلم ولا كافر، ولا عجب! فالكتاب إنما نزل ليقوم الناس بالقسط "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط..."الآية سورة [الحديد:25]، بيد أن الإسلام إنما ضمن للكافر هذا بشرطه، وشرطُه: أن يحترمَ شعائرَ الإسلام وعقائدَه، وأن يخضعَ لنظامه وشريعتِه.
إن إرضاخ البلاد والأقاليم لحكم الإسلام يعني ـ في أول ما يعنيه ـ إقامةَ العدل "ليقوم الناس بالقسط" الذي لا قيام له إلا بتحكيم شريعة الله في أرضه، لا لإكراه الكفارِ على الدخول فيه، فلهم أن يبقوا على دينهم، وأن يمارسوا شعائرهم في بيوتهم، لكنْ يقابل هذا الحقَّ واجبٌ عليهم لا بد وأن يلتزموه، وهو: أن يخضعوا لحكم الإسلام في مخالطتهم للمجتمع، وفي شؤونه الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، وأن يحترموا نظمَه ويسالموه، فلا يقاوموا دعوته ولا يفتنوا أهله.
ولو كان الجهاد لإرغام الكفار على الدخول في الإسلام لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكف عنهم إذا اختاروا الجزية، وَلَمَا نهى عن قتل النساء والصبيان في الغزو، وحين رأى مرةً امرأة مقتولةً في إحدى غزواته قال: "ما كان لهذه أن تُقاتِل" أحمد (5959)، فأشار إلى علة القتل، وهي المقاتلَة.(1/288)
ولو كان الجهاد لأجل إرغام المشركين على الدخول في الإسلام لَمَا نهى خلفاؤه الراشدون عن قتل الرهبان إذا اعتزلوا الناس، ولم يعينوا على القتال بتدبير أو رأيٍ.
ويدل لذلك دلالة ظاهرة حديث بريدة بن حصيب : "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم، وكُفّ عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم...فإن هم أبوا فسلهم الجزيةَ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم..."الحديث رواه مسلم (1731).
وهذا الحديث عام في كل مشرك، من العرب وغيرهم، وإنما لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من مشركي العرب لأن آية الجزية إنما نزلت في السنة التاسعة حين لم يبق في الحجاز عربي مشرك محارب.
والجزية التي تؤخذ من الكافر الذمي ليست ضريبةَ رفضه الدخول في الإسلام، وإنما هي مقابل حقن دمه وحماية المسلمين له مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم؛ ولذا كتب خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ لصلوبا بن نسطونا حينما دخل الفرات وأوغل فيها : "إني قد عاهدتكم على الجزية والمنعة، فلك الذمة والمنعة. وما منعناكم (أي حميناكم) فلنا الجزية، وإلا فلا".
وهذا أبو عبيدة رضي الله عنه لما أحس العجزَ عن حماية بعض أهل الذمة في بلادهم كتب إلى ولاته في تلك البلاد يأمرهم أن يردوا عليهم ما جُبي منهم من الجزية، وكتب إليهم أن يقولوا لهم: "إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا إليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط" أخرجه القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج.
إن الغاية العظمى من تشريع الجهاد هي أن تكون كلمة الله هي العليا، كما جاء في الحديث الصحيح أنه لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله" متّفقٌ عليه البخاري (123)، ومسلم (1904).
وهذه الغاية العظمى (أن تكون كلمة الله هي العليا) تحققها غايات الجهاد وبواعثه التي تقدم ذكرها آنفاً، وهي:
1- حماية الدعوة وضمان تبليغها للناس.
2- سحق الطواغيت وتحطيم النظم الباغية ودفعِ كل مَنْ يقف في طريق الدعوة ويمنع بلوغها إلى الناس.
3- إقامة نظام الإسلام في الأرض ليحتكم الناس إلى شريعته...
وكلٌ من هذه الغايات الثلاث تعمل في إعلاء كلمة الله.
على أن تشريع الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ليس مقتضاه أن يُسلم كلُّ من دعي إليه، بل مقتضاه أن يكون نظامُ الإسلام هو المهيمنَ والحاكمَ على حياة الناس، أما هم فيما يعتقدون فلهم الحرية المطلقة أن يعتقدوا ما شاءوا، ودولة الإسلام تحميهم مما تحمي منه أبناءها مقابل دفع الجزية.
وبعد تقرير أن "لا إكراه في الدين" [البقرة:256]، وبيان بواعث الجهاد في سبيل الله وغاياته، لا بد من الإجابة عما يُظَنّ أنه معارض لهذه الحقيقة أو ناسخٌ لها من الأدلة الشرعية.
يذكرون من ذلك قوله تعالى: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد.."الآية سورة [التوبة:5].
فقد ظن بعضهم أنها ناسخةٌ لآية "لا إكراه في الدين"، إذ مقتضى عمومها أن كل من بلغته الدعوة من الكفار فإنه لا يقبل منه إلا الإسلام، وإلا مضى فيه السيف.
والجواب: أن هذه الآية وإن كانت من آخر ما نزل ـ حيث نزلت في السنة التاسعة من الهجرة ـ لكن تأخر نزولها لا يقضي بنسخ ما تقدمها من الآيات، ومنها قوله تعالى: "لا إكراه في الدين".
والآية وإن وردت بلفظ العموم؛ لكنها من العام المخصوص، إذ خصّصت عمومها آياتٌ وأحاديث أخرى ـ سيأتي ذكرها ـ، فبقي عمومها مخصوصاً بمشركي العرب الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهدهم ونكثوا أيمانهم. وخرج من هذا العموم مَن عداهم ممن لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا على المسلمين أحداً، وكذلك أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان من غير العرب.
ويدل لذلك ما يلي:
أولاً: أن الله قال في أول سورة [براءة:1:6] "براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر.."، فأمهل هؤلاء المشركين أربعة أشهر، وأمر بقتلهم إذا انسلختْ هذه الأشهر الأربعة ولم يتوبوا، ثم استنثى منهم "إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم" [التوبة:4].
فدل هذا على أن قوله تعالى: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.." [البقرة:5] الآية ليست على عمومها، وإنما هي من العام المخصوص، فهي مخصوصة بمشركي العرب المحاربين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين نكثوا أيمانهم...
ويُشعِر بهذا دليلان:
الأول: قوله تعالى ـ في صدر سورة التوبة، بعد آية السيف ببضع آيات ـ "ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرَّة.."الآية [التوبة:13].
قال ابن العربي في أحكام القرآن ( 2/456) : (وتبين أن المراد بالآية : اقتلوا المشركين الذين يحاربونكم) أهـ.
الثاني: قوله تعالى ـ بعد آية السيف بآية ـ : "كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم" الآية [التوبة:7].
والمقصود بهذه الآية: هم بعض بني بكر من كنانة ممن أقام على عهده، ولم يدخل في نقض ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية من العهد، حين نقضته قريش بمعونتها لحلفائها من بني الديل على حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم من خزاعة. (ينظر : تفسير الطبري 10/82).(1/289)
ثانياً: قوله تعالى "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" [التوبة:29].
وهي آية الجزية، نزلت عام تبوك، حين لم يبق عربي مشرك محارب في الحجاز، ولم يكن صلى الله عليه وسلم ليغزو النصارى عام تبوك بجميع المسلمين ويدع الحجاز وفيه من يحاربه (ينظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 19/20).
وقد أثبتت الآية لأهل الكتاب حق البقاء على دينهم بشرط دفع الجزية، فهي مخصِّصة لعموم قوله تعالى: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم"..الآية [التوبة:5].
ثالثاً: حديث بريدة بن حصيب "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم، وكُفّ عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم...فإن هم أبوا فسلهم الجزيةَ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم..."الحديث وقد تقدم قريباً (سبق تخريجه).
والحديث يدل على أن المشركين ـ سواء من عبدة الأوثان من العرب أو من غيرهم، كما يقتضيه عموم اللفظ ـ إذا أبوا الدخول في الإسلام واختاروا دفع الجزية فإنه يجب قبولها منهم والكف عنهم، ولا يجوز قتلهم، ولا إكراههم على الإسلام.
فعموم هذا الحديث يدل على أن المقصود بـ (المشركين) في ما يسمى بآية السيف "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.." هم المشركون الذين كانوا يحاربون النبي صلى الله عليه وسلم، وينقضون عهدهم.
أما حديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله ، وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله" فهو حديث صحيح ـ ولا شك ـ رواه البخاري (25) ومسلم (20)وغيرهما.
ولكن الحديث ليس على عمومه، وليس المقصود بـ(الناس) جميع الكفار، من المشركين وأهل الكتاب، بل هو من العام المخصوص.
وكيف يُعمل بعمومه؟ وقد قال الله: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ...حتى يُعطوا الجزية ..."الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم، وكُفّ عنهم..."الحديث (سبق تخريجه).
وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لمن قالوا بأن الجزية تؤخذ من كل كافر، لا من أهل الكتاب خاصة، جواباً لهم عن الاستدلال بعموم هذا الحديث، فقال (مجموع الفتاوى 19/20): (مراده قتال المحاربين الذين أذن الله في قتالهم، لم يرد قتال المعاهدين الذين أمر الله بوفاء عهدهم) أهـ.
وأجاب عنه ابن حجر بعدة أجوبة (فتح الباري 1/97)، فقال ـ مع بعض الاختصار ـ: (الجواب من أوجه, أحدها : دعوى النسخ بأن يكون الإذن بأخذ الجزية والمعاهدة متأخرا عن هذه الأحاديث , بدليل أنه متأخر عن قوله تعالى "فاقتلوا المشركين"، ... ثالثها : أن يكون من العام الذي أريد به الخاص , فيكون المراد بالناس في قوله " أقاتل الناس " أي : المشركين من غير أهل الكتاب , ويدل عليه رواية النسائي بلفظ " أمرت أن أقاتل المشركين " ... رابعها : أن يكون المراد بما ذكر من الشهادة وغيرها التعبيرَ عن إعلاء كلمة الله وإذعان المخالفين, فيحصل في بعضٍ بالقتل وفي بعضٍ بالجزية وفي بعضٍ بالمعاهدة...) أهـ.
وأما حديث: "أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب" أحمد (1691) والدارمي (2498) بلفظ "أخرجوا اليهود الحجاز من جزيرة العرب..." فلا يدل على أن الكافر يرغم على الدخول في الإسلام، بل غاية ما يدل عليه ألا يؤذن لكافرٍ أن يستوطن جزيرة العرب.
أما بقاؤه فيها من غير قصد للاستيطان؛ كأن يقيم فيها لأجل العمل، أو للتجارة، أو للخدمة، فليس في الحديث ما يدل على النهي عن شيء من ذلك.
وهذا الحكم خاص بجزيرة العرب، أما غيرها من بلاد الإسلام مما فتحه المسلمون فلا يُخرج أهلها منها إن بقوا على الكفر، بل لهم أن يستوطنوها على أن يدفعوا الجزية مقابل حماية المسلمين لهم.
على أن بعض أهل العلم يرى أن الحديث وإن ورد فيه الأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، إلا أن المراد بعض الجزيرة لا كلها، وهو الحجاز خاصةً، بدليل أن عمر رضي الله عنه أخرج يهود خيبر وفدك ولم يخرج أهل تيماء، وهي من جزيرة العرب، قال النووي في شرح مسلم (10/212- 213) عند شرح حديث إجلاء عمر لليهود من خيبر، وفيه: "فأجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء" قال: (وفي هذا دليل أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب إخراجهم من بعضها، وهو الحجاز خاصة ؛لأن تيماء من جزيرة العرب لكنها ليست من الحجاز والله أعلم) أهـ .
وقال في (11/93-94) : (وأخذ بهذا الحديث مالك ،والشافعي وغيرهما من العلماء ، فأوجبوا إخراج الكفار من جزيرة العرب ،وقالوا : لا يجوز تمكينهم من سكناها ،ولكن الشافعي خص هذا الحكم ببعض جزيرة العرب،وهو الحجاز ،وهو عنده : مكة ،والمدينة ،واليمامة وأعمالها دون اليمن وغيره مما هو من جزيرة العرب، بدليل آخر مشهور في كتبه وكتب أصحابه) اهـ .
وقال ابن قدامة في "المغني" 13/242-244 ـ بعد أن ذكر رواية عن الإمام أحمد في (جزيرة العرب المدينة وما والاها) ـ :
(يعني أن الممنوع من سكنى الكفار به: المدينةُ وما والاها ـ وهو مكة، واليمامة، وخيبر، والينبع، وفدك، ومخاليفها، وما والاها ـ وهذا قول الشافعي ... فكأن جزيرة العرب في تلك الأحاديث أريد بها الحجاز، وإنما سمي حجازاً لأنه حجز بين تهامة ونجد، ولا يمنعون أيضا من أطراف الحجاز كتيماء وفدك ونحوهما؛ لأن عمر لم يمنعهم من ذلك) أهـ .(1/290)
وقال ابن حجر (الفتح 6/198 ) : (لكن الذي يمنع المشركون من سكناه منها الحجاز خاصة، وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها، لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم جزيرة العرب؛ لاتفاق الجميع على أن اليمن لا يمنعون منها ،مع أنها من جملة جزيرة العرب ،هذا مذهب الجمهور) أهـ .
والمقصود أن منع اليهود والنصارى من استيطان جزيرة العرب إنما هو من خصائص الجزيرة، انفردت به دون سائر ديار الإسلام.
إن الإسلام بأدلته الصريحة يعلن بطلان الديانات الأخرى كلها؛ لأنها إما محرَّفة؛ كاليهودية والنصرانية، وإما وثنية شركية كالمجوسية والهندوسية ووو...إلخ.
غير أنه ـ مع ذلك ـ أوجب علينا العدل معهم، ورغَّبنا في البر إليهم ترغيباً لهم في الإسلام ما لم يقاتلونا، ولم يخرجونا من ديارنا، كما قال تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" سورة [الممتحنة:8]
وأمر المسلمَ بمصاحبة والديه في الدنيا معروفاً ولو كانا مشركَين، اعترافاً بجميلهما، ومكافأة لمعروفهما.
وأمر بألا نُجادل أهل الكتاب ( اليهود والنصارى) إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، فقال تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم.." سورة [العنكبوت:46]
وأمرنا بإيفاء العقود والعهود معهم، وأن نستقيم لهم ما استقاموا لنا، وأعظمَ النبي صلى الله عليه وسلم قتل المعاهد منهم فقال: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة.."أخرجه البخاري (3166].
لقد أبطل الإسلام اليهودية والنصرانية؛ لأنها قد حُرِّفتْ ودخلها الشرك وافتراء الكذب على الله إلى غير ذلك من عظائم الأمور ـ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ومع ذلك فقد أثنى على أتباعها الأولين الذين صدقوا أنبياءهم وناصروهم، ولم يقتلوهم، ولم يحرفوا الكلم عن مواضعه، ووعدهم ما وعد المسلمين ـ أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ـ فأعد لهم جنات ومغفرةً وأجراً عظيماً.
ولا يصح إسلام أحد من ملة محمد صلى الله عليه وسلم حتى يؤمن بالأنبياء والرسل كلهم ويصدِّق بكتبهم (غير المحرفة)، فقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل، ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً" سورة [النساء: 146]
كما أثنى القرآن كثيراً على موسى وعيسى عليهما السلام، وبرأ مريم الصديقة مما رماها به المفترون من اليهود.
ومما استفاض في القرآن والسنة: أن دعوة الرسل واحدة وإن اختلفت شرائعهم التفصيلية، ودعوتهم هي توحيد الله سبحانه: "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" سورة [الأنبياء:26].
وقال صلى الله عليه وسلم : "الأنبياء إخوة من علاّت، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد" رواه مسلم(4362) .
وأولاد العلات: هم الإخوة من الأب من أمهاتٍ شتى، فالأب رمز للتوحيد، والأمهات رمز للشرائع (الفروع).
فالدعوة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم لم تخرج عن أصل دعوة الأنبياء والمرسلين قبله، وهي: توحيد الله سبحانه، وإخلاص العبادة له وحده. ولا يضير في هذا أن تختلف شرائعهم؛ كتفاصيل العبادات من صلاة وصيام وحج، وأحكام الأطعمة والذبائح وسائر المعاملات، ونحو ذلك.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
================
معنى لا إكراه في الدين
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 12 / ص 470)
معنى لا إكراه في الدين
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/ الدعوة الإسلامية/الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
التاريخ 30/1/1423
السؤال
أخذ بعض الناس هذه الأيام ينشر قوله تعالى:" لا إكراه في الدين " بين الناس زاعمين أن هذه الآية دليل على عدم صحة القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تقوم بعض الدول الإسلامية، وأنه ينبغي لهذه الدول أن تكفَّ عن إجبار الناس على الذهاب إلى المسجد وإجبار النساء على لبس الحجاب. هل يصح رأيهم؟ وإلا ما الدليل على خطئهم لنرشدهم إلى الصواب؟
الجواب(1/291)
الشبه التي ذكرها السائل يتذرع بها بعض الناس داعين لتعطيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحق أن الآية لا دلالة فيها على ما ذكروا؛ إذ جاءت نهياً عن إكراه أحد من الناس على الدخول في الإسلام ابتداءً، وهو معنى:" لا إكراه في الدين" [البقرة:256] والمراد بالدين - هنا- الملة والعقيدة، فإذا دخل المرء في الإيمان وأعلن استسلامه لله - تعالى- جرت عليه أحكام الشريعة، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ هو من مقتضيات الإيمان، ومما فضل الله به هذه الأمة على الأمم قبلها، يقول تعالى:" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"[آل عمران:110] وقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تضمنت أشد التحذير من التهاون في هذه الفريضة، حتى إن العقوبة لتعم الأمة بأجمعها إن هي أخلَّت بها، منها ما رواه أحمد في مسنده والترمذي في جامعه -وصححه- من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:" والذي نفسي بيده لتأمُرنَّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتَدْعُنَّه فلا يستجيب لكم" وكذا ما رواه أبو داود في سننه (4339) بسند صحيح من حديث جرير بن عبد الله- رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:" ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا" فهذه النصوص وغيرها دلالتها ظاهرة على فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يستوي في ذلك المسلمون جميعاً كل بحسبه. وبالله التوفيق.
==============
لا تعارض بين قوله تعالى (لا إكراه في الدين) وقوله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس)
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 347)
رقم الفتوى 1672 لا تعارض بين قوله تعالى (لا إكراه في الدين) وقوله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس)
تاريخ الفتوى : 17 محرم 1422
السؤال
كيف نوفق بين الآية: (لاإكراه في الدين) وبين الحديث الشريف: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة" ؟.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد:
فقد ذكر المفسرون رحمهم الله في تفسير الآية الكريمة عدة أقوال: الأول: أنها منسوخة، نسختها آية السيف لقوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد..) [التوبة:5]، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام. قاله سليمان بن موسى. الثاني: ليست بمنسوخة، وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، وإنما يكره أهل الأوثان فلا يقبل منهم إلاّ الإسلام، فهم الذين نزل فيهم: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) [التحريم: 9]. ودليل هذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لعجوز نصرانية: أسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمداً بالحق. قالت: أنا عجوز كبيرة 0والموت إليّ قريب: فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا: (لا إكراه في الدين) [البقرة: 256]. وبقية الأقوال تشابه القول الثاني في كون الآية نزلت في أناس مخصوصين من الأنصار. وعلى هذا فالأمر في الحديث باقٍ على معناه مع آية السيف كما ذكرنا، فلا تعارض بين الحديث الشريف، والآية الكريمة. والله تعالى أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
============
معنى هذه الآية لا إكراه في الدين
فتاوى اللجنة الدائمة - 2 - (ج 1 / ص 24)
س5 : إذا قلنا : هناك لا يجوز لغير المسلم أن يدعو الناس إلى أديانهم ، أليس هذا يخالف الآية الكريمة : { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } (1) ؟
ج5 : نعم لا يجوز لغير المسلمين دعوة المسلمين إلى مللهم وأديانهم الباطلة ، كما سبق في الجواب السابق ، وهذا لا يخالف قول الله تعالى : { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } (2) الآية ؛ لأن معنى هذه الآية : أنه لأجل كمال دين الإسلام في براهينه وأدلته واتضاح آياته ، وكونه هو دين العقل والعلم ، ودين الفطرة والحكمة ، ودين الصلاح والإصلاح ، ودين الحق والرشد ؛ لأحل ذلك كله فهو لا يحتاج إلى
__________
(1) سورة البقرة الآية 256
(2) سورة البقرة الآية 256
الإكراه عليه ؛ لأن الإكراه إنما يقع على ما تنفر عنه القلوب ويتنافى مع الحقيقة والحق ، أو لما تخفى براهينه وآياته ، أما دين الإسلام فمن جاءه ثم رده ولم يقبله ، فإنه لعناده واستكباره عن الحق ، فإنه قد تبين الرشد من الغي ، فلم يبق لأحد عذر ولا حجة إذا رده ولم يقبله ، وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : (أي : لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام ، فإنه بين واضح جلي ، دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه ، بل من هداه الله للإسلام ، وشرح صدره ونور بصيرته ، دخل فيه على بينة ، ومن أعمى الله قلبه ، وختم على سمعه وبصره ، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا) .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس
بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
===============
لا إكراه في الدين
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 32 / ص 185)
لا إكراه في الدين :
الإكراه في الإسلام على الدين والعقيدة منفي من عدة جهات :
الأولى :(1/292)
أن من آمن مكرها ، فإن إيمانه لا ينفعه ولا أثر له في الآخرة ، فلا بد في الإيمان أن يكون عن قناعة واعتقاد صادق واطمئنان قلب .
وقد جاء في القرآن الكريم : عن فرعون حين أدركه الغرق أنه أعلن الإيمان والتصديق بالله ربا ومعبودا ، ولكن ذلك لم ينفعه { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ } (1) { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } (2)
وجاء في حكاية قوم آخرين : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } (3) { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } (4)
بل التوبة من الذنوب والمعاصي لا تكون مقبولة إلا إذا كانت عن اختيار وعزم صادق .
__________
(1) سورة يونس الآية 90
(2) سورة يونس الآية 91
(3) سورة غافر الآية 84
(4) سورة غافر الآية 85
الثانية :
وظيفة الرسل والدعاة من بعدهم مقصورة على البلاغ وإيصال الحق إلى الناس ، وليسوا مسئولين عن هدايتهم واعتناقهم للدين واعتقادهم الحق ، فالمهمة هي البلاغ والإرشاد والمناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أما الاهتداء والإيمان فليس إلى الرسل ولا الدعاة .
وهذا يؤكد جانبا من جوانب الحرية ألا وهو تحرر الإنسان من كل رقابة بينه وبين خالقه ، فالعلاقة مباشرة بين الإنسان وربه من غير واسطة أو تدخل من أحد مهما كانت منزلته ، سواء أكان ملكا أو نبيا أو غير ذلك .
ومما يؤكد ذلك في القرآن الكريم ما جاء في حق محمد صلى الله عليه وسلم { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ } (1) { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } (2)
الثالثة :
واقع غير المسلمين في بلاد المسلمين :
عاش الذميون وغيرهم في كنف الدولة الإسلامية دون أن يتعرض أحد لعقائدهم ودياناتهم ، بل لقد جاء في الكتاب الذي كتبه النبي محمد صلى الله عليه وسلم في أول قدومه المدينة ليرسم به منهجا ودستورا في التعامل : « ومن تبعنا من يهود فإنه له النصرة والأسوة . . لليهود دينهم وللمسلمين دينهم . . وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم » ، وأقرهم على دينهم وأموالهم كما كان الحال مشابها مع نصارى نجران .
وصحابة الرسول من بعده ساروا على طريقه في معاملة غير المسلمين ، فكان من أقوال خليفته أبي بكر رضي الله عنه لبعض قواده : " أنتم سوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له " .
ومن وصايا الخليفة الثاني عمر : " أوصي بأهل الذمة خيرا أن يوفى لهم بعهدهم ، وأن يقاتل من وراءهم ، وألا يكلفوا فوق طاقتهم " .
__________
(1) سورة الغاشية الآية 21
(2) سورة الغاشية الآية 22
ومن أقوال علي الخليفة الرابع : " من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا " (1) .
وتاريخ الإسلام الطويل شاهد على أن الشريعة وأهلها قد كفلوا لأتباع الأديان الذين يعيشون في ظل الإسلام البقاء على عقائدهم ودياناتهم ، ولم يرغم أحد على اعتناق الإسلام .
ومعلوم لدى القاصي والداني أن هذا لم يكن موقف ضعف من دولة الإسلام ، بل كان هذا هو مبدأها حتى حين كانت في أوج قوتها أمة فتية قادرة .
ولو أرادت أن تفرض على الأفراد عقيدتها بالقوة القاهرة لكان ذلك في مقدورها ، لكنها لم تفعل .
الرابعة :
المسلم إذا تزوج كتابية ، فإنه لا يلزمها بالتخلي عن دينها والدخول في الإسلام ، بل لها الحق الكامل في البقاء على ديانتها وحقوق الزوجية محفوظة لها كاملة .
__________
(1) راجع نصب الراية 3 \ 381
حكم الردة :
الكلام على الردة ينتظم عدة جوانب :
أولها : الإيمان بالإسلام المبني على الإكراه والجبر - غير معتد به - كما سبق - أي أنه لا يدخل الداخل فيه حقيقة إلا إذا كان عن اقتناع ورضا وتبصر ، ذلك أن النظرة العاقلة المنصفة تؤكد كمال هذا الدين ، وتنزهه عن الباطل ، وتحقيقه لحاجات البشر ، وتوافقه مع الطبائع السليمة التي فطر الله الناس عليها .
الثاني : في تاريخ الإسلام الطويل لا يكاد يذكر مرتد ارتد عن هذا الدين رغبة عنه وسخطا عليه ، وإن وجد فلا يخلو من أحد رجلين ، إما أن يكون لمكيدة يقصد بها الصد عن دين الله ، كما حصل من بعض اليهود في أول عهد الدعوة حينما تمالأ نفر منهم بأن يؤمنوا أول النهار ثم يكفروا في آخره من أجل إحداث البلبلة في المؤمنين ؛ لأن اليهود أهل كتاب ، فإذا حصل منهم هذا يختلج في بعض النفوس الضعيفة أن هؤلاء اليهود لو لم يتبينوا خطأ في هذا الدين الجديد لما رجعوا عنه ، فكان مقصودهم الفتنة والصد عن دين الله . وإما أن يكون هذا المرتد رجلا يريد أن يطلق لشهواته العنان ويتحلل من ربقة التكاليف .
الثالث : الخروج عن الإسلام يعتبر خروجا على النظام العام ، ذلك أن الإسلام دين كامل ، كما يهتم بعلاقة الإنسان بربه فهو يهتم بعلاقته بغيره من بني جنسه ؛ بين المرء وزوجه وبينه وبين أقربائه وجيرانه ، وفيما بينه وبين أعدائه حربا وسلما ، في شمول منقطع النظير ، عبادة ومعاملة وجناية وقضاء إلى سائر ما تنقسم إليه قوانين الدنيا بل أوسع من ذلك . وبناء على هذا فيجب النظر إلى الإسلام ككل متكامل ، وليس قاصرا فقط على علاقة العبد بربه كما يظنه غير المسلمين . وإذا كان ذلك كذلك فالردة تعني الخروج على النظام .
الرابع : في جعل العقوبة على الردة إباحة دم المرتد زاجر لمن يريد الدخول في هذا الدين مشايعة ونفاقا للدولة أو لأهلها ، وباعث له على التثبت في أمره فلا يعتنقه إلا على بصيرة وسلطان بين ، فالدين تكاليف وشعائر يتعسر الاستمرار عليها من قبل المنافقين وأصحاب المآرب المدخولة .(1/293)
الخامس : للإنسان قبل أن يؤمن بالإسلام الحق في أن يؤمن أو يكفر ، فإذا آثر أي ديانة من الديانات فلا اعتراض عليه ، ويبقى له حق الحياة والأمن والعيش بسلام . وإذا آثر الإسلام ودخل فيه وآمن به ، فعليه أن يخلص له ويتجاوب معه في أمره ونهيه وسائر هديه في أصوله وفروعه ، ثم بعد ذلك نقول : هل من حرية الرأي أن يمكن صاحبها من الخروج على هذا المجتمع ونبذ قواعده ومشاقة أبنائه ؟ هل خيانة الوطن أو التجسس لحساب الأعداء من الحرية ؟ هل إشاعة الفوضى في جنباته والاستهزاء بشعائره ومقدساته من الحرية ؟
إن محاولة إقناع المسلمين بقبول هذا الوضع مسفه . ومطالبة المسلمين بتوفير حق الحياة لمن يريد نقض بناء دينهم وتنكيس لوائه أمر عجيب !
ونقول بكل قوة : إن سرقة العقائد والنيل من الأخلاق والمثل أضحت حرفة لعصابات وطوائف من دعاة التنصر الكارهين للإسلام وكتابه ونبيه وأتباعه ، وما فتئوا يثيرون الفتن وأسبابها في كل ناحية من أجل هز كيان المجتمع وقلبه رأسا على عقب .
ويؤكد حقنا في رفع الصوت عاليا ما نرمقه من المواقف المفضوحة في بلاد الحريات - فرنسا وبريطانيا وأمريكا - من المسلمين الذين بدءوا يظهرون تمسكا بدينهم وظهورهم بالزي المحتشم رجالا ونساء مما أثار حفائظهم ، وبخاصة الفرنسيين في قضية الحجاب على الرغم من أن قوانينهم فيها نصوص تعطي الحق لأهل كل ديانة أن يلتزموا بدياناتهم ، ولكنهم بحجة الأمن والحفاظ على النظام العام كانت لهم تلك المواقف المكشوفة ، ومن حقنا كذلك أن نتذكر ما يجري لكثير من الأقليات المسلمة في روسيا وبلغاريا مما هو معلن فكيف بغير المعلن ، ثم إن عقوبة الإعدام موجودة في كثير من القوانين المعاصرة سواء لمهربي المخدرات أو غيرهم ، وهم لم يقولوا بها إلا لجدواها في القضاء على الجريمة والتخفيف منها وحماية لعموم المجتمع من سوئها ، ولم يقل أحد : إن تشريع عقوبة الإعدام في حق هؤلاء المفسدين مصادم لحريتهم إذا كانوا قد تجاوزوا في حرياتهم حتى سطوا على حريات الآخرين ، أو نغصوا عليهم في حياتهم الطبيعية الآمنة السوية .
وهناك إعدام من أجل الخيانة العظمى أو ما يشبهها ، ولم يكن هذا مصادما للحرية أو محل نقد لدى هذه المؤسسة التنصيرية وأشباهها ، مما يذكر بما قلناه أول الحديث من الشك في حسن النية في إثارة مثل هذه التساؤلات .
وفي ختام هذه الفقرة عن حرية الديانة والارتداد أنقل بعض الوقائع من مواقف الديانات الأخرى نحو المسلمين ، والتعسف والتعصب والحقد الدفين الذي يظهر واقعا حيا حين تتاح له فرصة الظهور .
يقول الكاتب " جيبون " : " إن الصليبيين خدام الرب يوم استولوا على بيت المقدس في 15 \ 7 \ 1099 م رأوا أن يكرموا الرب بذبح سبعين ألف مسلم ، ولم يرحموا الشيوخ ولا الأطفال ولا النساء في مذبحة استمرت ثلاثة أيام بلياليها ، حطموا رءوس الصبيان على الجدران ، وألقوا بالأطفال الرضع من سطوح المنازل ، وشووا الرجال والنساء بالنار ، وبقروا البطون ليروا هل ابتلع أهلها الذهب . . . ثم يقول الكاتب : " كيف ساغ لهؤلاء بعد هذا كله أن يضرعوا إلى الله طالبين البركة والغفران ؟ " (1) .
ويقول جوستاف لوبون عن فعل الصليبيين بمسلمي الأندلس : " لما أجلي العرب - يعني المسلمين - سنة 1610 م اتخذت جميع الذرائع للفتك بهم فقتل أكثرهم ، وكان من قتل إلى ميعاد الجلاء ثلاثة ملايين من الناس ، في حين أن العرب لما فتحوا أسبانيا تركوا السكان يتمتعون بحريتهم الدينية ، محتفظين بمعاهدهم ورئاستهم ، وقد بلغ من تسامح العرب طوال حكمهم في أسبانيا مبلغا قلما يصادف الناس مثله هذه الأيام " (2) .
وفي أيامنا هذه نقرأ في وثائق اليهود نحو أهل فلسطين : " يا أبناء إسرائيل : اسعدوا واستبشروا خيرا لقد اقتربت الساعة التي سنحشر فيها هذه الكتل الحيوانية في اصطبلاتها وسنخضعها لإرادتنا ونسخرها لخدمتنا " (3) .
وفي روسيا الشيوعية أغلقت الحكومة أربعة عشر ألف مسجد في مقاطعة تركستان ، وفي منطقة الأورال سبعة آلاف مسجد ، وفي القوقاز أربعة آلاف مسجد ، وكثير من هذه المساجد حولت إلى دور للبغاء ، وحوانيت خمر ، واصطبلات خيول وحظائر بهائم ، وفوق ذلك التصفية الجسدية للمسلمين ، ويكفي أن نعلم أنهم قتلوا في ربع قرن ستة وعشرين مليون مسلم مع تفنن في طرق التعذيب والقتل .
__________
(1) العلاقات الدولية - لكامل الدقس ص 333
(2) حضارة العرب - جوستاف لوبون ص 279
(3) انظر مكائد يهودية عبر التاريخ لعبد الرحمن الميداني ص 446 وما بعدها نقلا عن وثائق اليهود التاريخية من نشر جواد رفعت في كتابه ( الإسلام وبنو إسرائيل ) .
والدول الشيوعية الدائرة في فلك روسيا حذت حذوها ، ففي يوغوسلافيا أباد تيتو ما يقارب مليون مسلم .
وفي سنواتنا الحاضرة هذه تنصب الملاحقة والمتابعة لجميع الحركات الإسلامية والتوجهات الإسلامية في الفلبين وأندونيسيا وشرق أفريقيا بصور ظاهرة مفضوحة ، فضلا عن الطرق الخفية في جميع بلاد المسلمين . فيا ترى أين الحرية ؟ ! ويا ترى من المتعصب ومن هو المتسامح ؟
=============
تفسير قوله تعالى لا إكراه في الدين
مجلة البحوث الإسلامية - (ج 45 / ص 117)
س 15 : يقول الله تعالى : { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (1) ، هل هذه الآية خاصة باليهود والنصارى أم أنها عامة ؟
__________
(1) سورة البقرة الآية 256(1/294)
جـ 15 : للعلماء في الآية الكريمة قولان : أحدهما : أنها وأمثالها منسوخات بآية السيف ، وهي قوله تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (1) ، وما جاء في معناها مثل قوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (2) والقول الثاني : أنها في أهل الكتاب ومن في حكمهم ، كالمجوس إذا سلموا الجزية فإنهم لا يكرهون على الدخول في الإسلام ؛ لقول الله - عز وجل - : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } (3) ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر .
وبذلك يعلم أنه ليس فيها حجة لمن زعم عدم وجوب الجهاد في سبيل الله .
ويدل على هذا المعنى أيضا حديث بريدة بن الحصيب ، المخرج في صحيح مسلم ، وفيه أن « النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية ، أوصاه بتقوى الله ، وبمن معه من المسلمين خيرا ، وفي آخره قال : فإن هم أبوا - أي الكفار - الدخول في الإسلام فاسألهم الجزية ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم » (4) .
وهذا محمول على أهل الكتاب ، ومن في حكمهم ، كالمجوس عند جمهور أهل العلم جميعا ، بين هذا الحديث وبين آية التوبة المتقدم ذكرها وما في معناها .
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) سورة الأنفال الآية 39
(3) سورة التوبة الآية 29
(4) صحيح مسلم الجهاد والسير (1731),سنن الترمذي السير (1617),سنن أبو داود الجهاد (2612),سنن ابن ماجه الجهاد (2858),مسند أحمد بن حنبل (5/358),سنن الدارمي السير (2439).
============
رمضان يتحدى العولمة
د. نهى قاطرجي
رمضان جديد يطل على أمة الإسلام وأهل الإسلام في مزيد من التقهقر والانقسام نتيجة الأحداث السياسية الجارية في العالم ، فبين فريق مؤيد للقوى الدولية التي تفرض نفسها إلهاً جديداً على الدول والشعوب تحكمهم وتخضعهم لسياساتها وتتدخل في شئونهم الداخلية ، وبين فريق آخر رافض لسياسة الذل والمهانة وما يتبع ذلك من إلغاء للشخصية الإسلامية الحرة التي لا تؤمن إلا بوجود رب واحد يحكم هذا الكون وفق دستور وسنن ثابتة .
وفي ظل هذا التناقض تفكرت في رمضان هذا العام ورأيت فيه معانٍ جديدة لم تظهر لي سابقاً ، ورأيت في هذا الشهر خطاباً جديداً متحدياً يمكن أن يستنبط منه إثبات جديد على وحدانية الخالق ونفاذ حكمه على العالم الذي أوجده .
وخطاب التحدي هذا لا ينحصر في رمضان وحده بل يمكن للمتفكر أن يلحظه في كل العبادات على الإطلاق ، وإن كان في رمضان أكثر وضوحاً ، فإذا تفكرنا في الحج مثلاً نجد في مظاهر الانقياد والأخوة والتعاون لإرادة الله سبحانه وتعالى تحدياً للعولمة التي تدعو إلى الفردية ونبذ الآخر ، إلا أن هذا التعاون لا نلمسه عند المسلمين كافة وذلك لكون هذه العبادة غير مفروضة إلا على من استطاع إليها سبيلاً.
أما عبادة الصوم في رمضان فإنها تتميز بتنوع العبادة وشموليتها ، ويتجلى هذه التنوع بصيام الليل وقيام النهار والصدقة والتعاون وغير ذلك مما سيتم الحديث عنه لاحقاً إن شاء الله تعالى ، كما تتجلى الشمولية في قدرة هذا الشهر على توحيد المسلمين في أنحاء العالم كافة ، وتجديد ولائهم ، حتى العصاة منهم ، لله الواحد مثبتين بذلك عالمية الإسلام التي لا يمكن أن ينافسه فيها أية عقيدة أو فكر بشري مهما بلغت درجة رقيها وتقدمها .
من هنا جاءت خواطري هذه حول كيفية تحدي رمضان للعولمة .
ففي رمضان إثبات لحاكمية الله سبحانه وتعالى على العباد ، فالمسلم في هذا الشهر يجدد انتماءه لله الواحد القهار ، الحاكم بأمره ، السّان لكافة القوانين الدنيوية والأخروية ، المرتكزة على قاعدتي الطاعة والعبادة ، لقوله تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ) ، الذاريات : 56-57 ، والمبنية على حرية الاختيار التي لا تحرم المختار حقه في التمتع بالحياة الدنيوية مع تحمله لما يترتب على ذلك من ثواب وجزاء وذلك على القاعدة المستقاة من قوله تعالى : (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) : البقرة : 256.
وهذا الأمر هو على نقيض حاكمية العولمة التي تفرض سيطرتها على الإنسان بالقوة والإكراه ، فارضة عليه طاعة قوانين وضعية لا تؤمن له أدنى مستويات العيش الكريم من جهة ، وتساعد غيره على إحكام سيطرته على موارده البشرية والمادية من جهة أخرى ، وذلك دون أي مقابل لهذه الطاعة اللّهم إلا مزيداً من الانكسار والذل والحرمان.(1/295)
وفي رمضان أيضاً تحد كبير للعولمة الفكرية التي تبث أفكاراً غربية تروج لفكرة التمتع بالشهوات المادية والجسدية دون أية ضوابط أو تحمل للمسئولية ، مدّعين أن إطلاق العنان للشهوات يساعد على حصول الإنسان على حريته وسعادته ، في حين أن الصوم يثبت أن السعادة والحرية الحقيقيتين لا تكون بالتمتع بالشهوات بل في الترفع عنها ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال : " ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن ، بحسب ابن آدم لقيمات يُقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه ، و ثلث لشرابه ، وثلث لنَفَسه " ، رواه الترمذي .
لهذا جاءت أقوال بعض العلماء في الماضي والحاضر تؤكد على أن السعادة ليست في التمتع بالشهوات وإنما في ضبطها ووضعها الموضع الصحيح الذي لا يحط من إنسانية الإنسان ، فقد قال أحد علماء الإسلام: "إن السعادة كلها في أن يملك الرجل نفسه ، والشقاوة في أن تملكه نفسه " . وأكبر دليل معاصر على عدم وجود ترابط بين المادة والسعادة ما أشار إليه أحد علماء الغرب وهو " روبرت رايت الباحث في جامعة بنسلفانيا " من أنه لا تلازم بين مسار المال والرخاء المادي مع السعادة ،إذ تبين أن الدول الفقيرة أكثر سعادة من الدول الغنية التي تتمتع بكل أسباب الرفاه المادي.
وفي رمضان أيضاً تحد كبير للعولمة الاقتصادية التي تسعى لفرض نظام موحد قائم على الفردية ونبذ الآخر وإغراقه بالديون والضرائب التي تزيده تبعية وفقراً في الوقت نفسه الذي تزيده هو استغلالاً وغنى ، وهذا الكلام ينطبق مع الفكرة "الأساسية للرأسمالية التي تقوم على القول بأنه من لا يستطيع كسب قوته ينبغي أن يموت !!! وهناك أصوات في الغرب الاقتصادي تنادى بأن المليار من فقراء العالم الثالث ، كما يطلق على المجتمعات ذات الاقتصاد المتخلف ، زائدون عن الحاجة لذا يجب الخلاص منهم لأن البقاء هو للأقوى " .
لهذا جاء الصوم في هذا الشهر لينقد هذه النظرية وليثبت حق الفقير بمال الغني إن كان عن طريق الصدقة أو عن طريق الزكاة ، فقال تعالى : ( وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) ، الذاريات ، آية 19. وقال أيضاً : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) ،التوبة ، 103.
هذا ويوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المسؤولية التي تقع على عاتق المؤمن بتوجيهه للمؤمن أن يتصدق بفضل ماله على أخيه ، فقال صلى الله عليه وسلم : " من كان معه فضل ظَهر فليَعُد به على من لا ظهر له ، ومن كان معه فضل من زاد ، فليعد به على من لا زاد له " رواه مسلم .
وإذا كان هذا الحكم عاماً في كل الأوقات فهو أشد رسوخاً في شهر رمضان حيث تكثر فيه الأحاديث التي تشجع على إفطار الصائم والتصدق على الفقراء والمساكين ، وقد ورد في السنة النبوية الشريفة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جواداً وكان أجود ما يكون في رمضان، وكان يأتيه جبريل فيتدارسان القرآن ، فلَرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة" ، رواه البخاري .
هذا من ناحية الصدقة وإطعام الفقير والسكين ، أما بالنسبة للزكاة فإن في قيام كثير من المسلمين بأداء فريضة الزكاة في مثل هذا الوقت من كل عام مساهمة في رفع الضيم عن الفقير وابن السبيل ومساهمة في إعمار وتنشيط بعض المرافق الضرورية من أجل رفع مستوى حياة المسلم وإشعاره بإنسانيته .
وفي رمضان أيضاً تحد آخر للعولمة الاجتماعية التي تسعى إلى عزل الإنسان عن أسرته ومجتمعه ، فيأتي الاجتماع العائلي على الطعام ليوحّد العائلة المفتتة من جديد ، وليظهر تمسك المسلم بنظامه الاجتماعي القائم على حب أفراد العائلة لبعضهم البعض ، وسعيهم لمرضاة رب العالمين وحده الذي حدد لهم أهدافهم في الحياة .
فإذا أخذنا المرأة التي هي ركن البيت المسلم نجدها في رمضان أكثر تحدياً لنظام العولمة الذي يحاول ان يفرض عليها مبادئه الداعية إلى رفض نظام الأسرة التقليدي القائم على القوامة والطاعة وما إلى ذلك من مفاهيم تسعى إلى تقويض بنى الأسرة ، فنجد المرأة في هذا الشهر مهما كان انشغالها تسعى إلى تأمين اللقمة الطيبة لعائلتها دون أي مبالاة بمن يجد في العمل المنزلي إنقاصاً لكرامتها .
وإذا أخذنا الزوج ورب الأسرة وجدنا في اجتماعه اليومي بأسرته وتركه العمل والجري وراء لقمة العيش تأكيداً على مبدأ المودة والرحمة التي تبنى عليها الأسرة المسلمة ، وينعكس هذا اللقاء اليومي لمدة شهر راحة واطمئناناً على أفراد الأسرة وخاصة الأولاد الذين قد يعانون من قلة هذه اللقاءات خلال السنة ، وصدق الشاعر حين قال :
ليس اليتيم من انتهى أبواه من همّ الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلّت أو أباً مشغولا
كما تأتي العلاقات الاجتماعية بين أفراد المسلمين وتزاورهم وتوادهم في رمضان ، لِيُثبت أهمية تماسك المسلمين فيما بينهم وتراصهم الذي حث عليه الإسلام، ويتجلى هذا الأمر في تصرفات المسلم المتنوعة ، والتي منها :
1- امتلاء المساجد ودور العبادات بالمسلمين من مختلف الأعمار والجنسيات مثبتين المساواة بين المسلمين كافة ، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : " الناس سواسية كأسنان المشط لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى " ، ومثبتين أيضاً تمسكهم بالجماعة التي بيّن فضائلها رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوله : " ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان . فعليكم بالجماعة ، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية " ، رواه أبو داود .(1/296)
2- امتناع المسلم عن إيذاء أخيه المسلم أو الإساءة إليه ولو بالكلمة ، وقد جاء هذا النهي على لسان رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي قال : " إذا كان أحدكم صائماً ، فلا يرفث ولا يجهل ، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل : إني صائم " ، أخرجه مسلم .
3- مسارعة المؤمن إلى إدخال الفرح والسرور على قلوب الآخرين عبر أي عمل خيري تطوعي ، وإن كان عن طريق إطعام الضيف في رمضان ، كل ذلك بهدف اكتساب الثواب في الدنيا والآخرة ، قال عليه الصلاة والسلام مبيناّ فضل من فطّر صائماً : " من فطّر صائماً كان له مثل أجره ، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئ "، رواه الترمذي .
هذا وقد بين الشهيد سيد قطب فرح الإنسان وسعادته بعطاء الآخرين بقوله : "بالتجربة عرفت أنه لا شيء في هذه الحياة يعدل ذلك الفرح الروحي الشفيف الذي نجده عندما نستطيع أن ندخل العزاء أو الفرح إلى نفوس الآخرين " .
هذا الفرح بالعطاء أثبته علماء الغرب ولكن الفرق بيننا وبينهم أنهم يحدّدون هذا العطاء بدولارات قليلة وذلك تخفيفاً لعقدة الذنب التي قد يمكن أن يشعروها تجاه الفقراء ، وقال " روبرت رايت " : إذا وجدت أنك لا تستطيع النعاس حزناً على حال عمال أُغلق مصنعهم في سري لانكا وأصبحوا بلا عمل نتيجة لبطء طفيف طرأ على العولمة ، هناك سبل يمكن اتباعها لتخفيف إحساسك بالانزعاج من ذلك ، ومن هذه السبل أن تتبرع ببعض النقود للمؤسسات الخيرية التي توزع الطعام والغذاء على الشرائح الأشد فقراُ في العالم ".
============
إلزام الزوجة الكتابية الحشمة بعد الإسلام
د. سعد بن مطر العتيبي
السؤال :
هل يجوز أن يخرج المسلم مع زوجته النصرانية خارج بيتهم، وهي غير متحجبة , أي غير مستورة شعر الرأس؟و كيف أتصرف بهذا الأمر بشكل عام, من فقه لباس الزوجة الكتابية للمسلم.
الجواب :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله .. أما بعد:
فإنَّ خروج المرأة الكتابية مع زوجها المسلم محجبة على الصورة التي ذكرتها في بلدك ، لا مانع منه من حيث هو إذا رضيه الزوج ؛ لأنها وإن كانت مخاطبة بفروع الإسلام ، إلا أن مطالبتها بمقتضى هذا الخطاب قبل إسلامها إلزام لها بما لا يلزمها حكمه في الدنيا ، وإن استحقت به العقوبة في الآخرة ، لكنها ملزمة بطاعة زوجها بمقتضى أحكام الشريعة التي قبلت الزواج من أحد أتباعها ، وقبولها لقوامته عليها وهي قوامة على الزوجة المسلمة وغيرها من باب أولى : "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ"(النساء34)، فعليها التزام ما تلزمها به الشريعة تجاه زوجها ، أو تجاه المجتمع المسلم الذي تسكن فيه ؛ فلو نهاها الزوج عن الخروج بالصورة المذكورة خشية عليها من الفساد أو الإفساد ، أو خشية تضرره من ذلك ، أو لكون خروجها بتلك الصورة مخالفا لأنظمة البلد الإسلامي الذي تعيش فيه أو مخالفة لما يعرف بالنظام العام ، مما لم تنص عليه الأنظمة ، فإنَّها تكون ملزمة بالامتثال لزوجها ولأنظمة البلد المسلم الذي تسكن فيه ، وهذا يقتضيه رضاها بالزواج من المسلم ابتداء .
ولا علاقة لذلك بالإكراه على الدين المنفي بنص القرآن الكريم : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) ؛ لأن الإكراه على الدين يعني إلزامها بالعقيدة الإسلامية أولا ، وليس الأمر هنا كذلك . وقد نص الفقهاء على أنَّ من حقوق الزوج على الزوجة الكتابية طاعته في أمور الطهارة كالغسل من الحيض والنفاس ، وكذلك الغسل من الجنابة ، وإزالة ما تعافه النفس من الوسخ والدرن ، وتقليم الأظفار ، وكذا طاعته في ما يشرع من أمور الزينة في البدن واللباس . (ينظر للمزيد والتفصيل : المغني :10/ 222 وما بعدها . وأحكام أهل الذمة ، لابن القيم :436-442)
وعليك الاجتهاد في إنقاذها من النار ووقايتها منها ، قياما بواجب الدعوة المعروف ، و امتثالا لأمر الله عز وجل في قوله _سبحانه_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ " (التحريم6) ، وذلك بدعوتها المتكررة للإسلام بالطرق المحببة للنفوس ، وتأليفها بشريعة الإسلام : أخلاقا ومعاملة .
وأما جواب قولك : " كيف أتصرف بهذا الأمر بشكل عام , من فقه لباس الزوجة الكتابية للمسلم " ، فلعل من المناسب تلخيص ذلك في ثلاث نقاط :
الأولى : تأكيد حقك في الطاعة في غير معصية الله . وتأكيد حقها في الحفاظ على دينها لنفسها ، لكن دون محاولة منها للتأثير على الذرية بتنفيرهم من دينهم أو ترغيبهم في دينها .
الثانية : مراعاة المجتمع المسلم الذي تسكن فيه - كما ظهر لي من بياناتك - من حيث الأنظمة والأعراف والعادات المعتبرة شرعا وما يعرف بالنظام العام .
و نص بعض الفقهاء في كتب الحسبة على أن تتميز في لباسها بما يفيد عدم إسلامها منعا لها من استغلاله فيما يخص المسلمين ، أو ما جرى عليه العمل في بلد من بلاد الإسلام ، كالأخذ برأي بعض الفقهاء في ستر المسلمة عورتها عند غير المسلمة كما هو الشأن مع الرجال الأجانب ، وهي قضية فرعية محل خلاف فقهي .(1/297)
الثالثة : مراعاة أثر لباس امرأتك الكتابية في تربيتها لأولادك ولاسيما البنات ، لأنَّ ذريتك منها ذرية مسلمة ، يجب عليك تقوية صلتهم بدينهم كما يجب عليك الحفاظ عليهم من سوء التربية لتنشأ ذريتك على الحشمة والعفاف والفضيلة ، كما هو الحال في منعها من تعويدهم على عوائد أهل الكفر المخالفة للشرع ، ومراعاة أثره أيضا على بنات المسلمين إن كان لها صلة بهم في عمل أو نحوه .
وهذا كله في شأن من تزوج بكتابية .
وفي الختام فإن من لم يتزوج بكتابية بعد ، فإنّه لا ينصح بالزواج بها، لما له من مفاسد لا تخفى في هذا العصر ، حتى لربما كان القول بالتحريم في بعض الحالات واردا ، كما نص عليه بعض الفقهاء ، وهو في عصرنا أمر ظاهر الخطورة وخاصة عندما يتزوج المسلم كتابية تحمل جنسية بلد ذا غلبة على أهل الإسلام في الوقت الحاضر ، . وأحيل في بيان أسباب ذلك في هذا العصر إلى كتاب : أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين في الغرب ، للدكتور/ سالم بن عبد الغني الرافعي ، وهو من الفقهاء الذين عاشوا في الغرب زمنا يزيد على العقد .
ولعل في هذا ما يكفي في بيان ما سألت عنه .
والله تعالى أعلم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله .
=============
تحقيق توحيد الله تعالى في الأرض وعدم الإشراك به.
وإذا كان رضا الله تعالى هو غاية الغايات، فإن توحيد الله هو قائد جميع الغايات والوسائل إلى رضا الله، ومهما عمل الإنسان من أعمال ظاهرها الخير والصلاح والنفع العام أو الخاص للبشر، فإن ذلك كله لا يوصل إلى رضا الله بدون التوحيد، وهو ما تضمنته قاعدة القواعد الإسلامية:[لا إله إلا الله] التي يطلق عليها كلمة التوحيد، وكلمة الإخلاص.
وهذه الغاية هي التي أوجد الله من أجلها الكون الذي خلقه بالحق، وهي الحق، ومن أجلها خلق الملائكة والجن والإنس، ومن أجلها أنزل الكتب وأوحى الوحي وأرسل الرسل الذين قاعدة دعوتهم هي التوحيد، وما من رسول بعثه الله تعالى إلى الخلق، إلا كانت كلمة التوحيد هي أول ما يدعو إليه قومه.
قال تعالى: ((ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)).[النحل: 36]
وقال تعالى: ((فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم أن لا تعبدوا إلا الله)).[فصلت: 13-14)
فسباق أهل الحق-وعلى رأسهم رسل الله-إلى عقول الناس، أهم غاياته أن يصوغوا بسباقهم عقولا موحِّدة لا تشرك بالله شيئا، وتلك هي عبادة الله التي لم يخلق الله الجن والإنس والملائكة-كذلك-إلا من أجلها.
كما قال تعالى: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)).[الذاريات: 56]
وبتحقيق هذه الغاية تسعد البشرية كلها في الدنيا والآخرة، ويكون الناس كلهم عبيدَ الله، لا يستعبد بعضهم بعضا، فلا يكون هناك سادة يظلمون ويتكبرون ويستبدون بالأمر كما يشاؤون، ولا عبيد يُظلَمون ويُذَلّون لمخلوقين أمثالهم، وإنما يستوي الناس كلهم في أنهم مخلوقون مربوبون عبيدٌ لله، لا فضل لأحد منهم على أحد إلا بالتقوى، كما قال تعالى: ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)).[الحجرات: 13]
لا حرية للإنسان إلا بتوحيد الله.
وبتوحيد الله تعالى يتحرر الناس من عبودية الشيطان والنفس والهوى، ومن كل العبوديات (الْمُذِلَّة) لغير الله تعالى، سواء كانت تلك العبوديات لمال أو جاه أو منصب أو امرأة، أو لأشخاص-أحياءً كانوا أو أمواتا-وتتمحض عبوديتهم لله تعالى وحده، وتلك هي الحرية الحقة التي يبحث عنها الأفراد والأسر والأمم في كل الأزمان، وبخاصة في هذا الزمن الذي أصبح غالب الناس فيه يدعون أنهم أحرار، وهم مستعبدون استعبادا مذلا لغير الله تعالى.
وهل يكون حرا من تستعبده شهوات نفسه فتجعله أسيرا لها، سابحا في مستنقع ملذاتها المادية العاجلة، التي تحطم السدود الحامية لحفظ الدين والعقل والنفس والنسل والعرض والمال؟!
هل يكون حرا من يفقد دينه بالإلحاد والكفر الصريح والردة عن الإسلام؟ وهل يكون حرا من ينسى الله عند الشدائد ويلجأ إلى الموتى في قبورهم يدعوهم ويستغيث بهم؟ وهل يكون حرا من يُذهب عقلَه بتناول المسكرات والمخدرات؟ وهل يكون حرا من يعتدي على الأنفس والدماء، ولا يأمن هو من أن يَعتدِي على نفسه ودمه غَيْرُه دون قصاص أو رَدْع؟ وهل يكون حرا من ينفق ماله فيما يعود عليه وعلى أمته بالضرر ومن لا يأمن من الاعتداء على ماله؟ وهل يكون حرا من يُهلَك نسلُه ويُعتدى على عرضه؟ وهل يكون حرا من يضع له غيُره من البشر مناهجَ متناقضة لحياته، في الاعتقاد والتشريع والحكم و الُخُلق و الاقتصاد والسياسة والإعلام والحرب والسلم ونظام الأسرة والأدب والفن والرياضة... فيخضع لذلك كله، دون أن يكون له اختيار أو انتقاد أو تظلم؟؟!!
إن الحرية الحقيقية هي أن يكون قلب الإنسان عبدا لله وحده، لا يتلقى أمره ونهيه إلا من الله فيتجه بنشاطه وجهة واحدة، من غير تناقض ولا قلق أو اضطراب، متحررا من عبودية كل من سواه، فلا يكون عبدا للشيطان ولا للنفس ولا للهوى، ولا تتنازعه آلهة الشهوات المتشاكسة تنازعا يجعله في حيرة وريب.
ولقد ضرب الله مثلا لمن هو حر حقيقة بعبوديته لله تعالى وحده، ومن استعبده غيره من الآلهة المتعددة، فقال تعالى: ((ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا بل أكثرهم لا يعلمون)).[الزمر: 29]
إن الآية تصور لنا رجلين:(1/298)
أحدهما عبد مشترك لمالكين متعددين بينهم خلاف ونزاع شديد، كل شريك منهم يأمر ذلك العبد بأمر يخالف أوامر شركائه الآخرين ويصر على أن يطيعه في أمره، وطاعته لأحدهم معصية لأمر كل واحد من شركائه الآخرين، فلا يستطيع أن يرضي كل واحد من هؤلاء الشركاء، بل سيكونون كلهم ساخطين عليه، وسيعيش في حيرة وضنك وشقاء.
وثانيهما: عبد لرجل واحد لا يأمره ولا ينهاه إلا هو.
فأي العبدين أقرب إلى الحرية: الأول الذي فيه شركاء متشاكون، أم الثاني الذي هو عبد لرجل واحد؟!
المثل الأول لمن استعبده غير الله-أيا كان هذا الغير-والمثل الثاني لمن تمحضت عبوديته لله وحده، ولله المثل الأعلى.
وإنك لترى الرجل الضعيف المغلوب على أمره، الذي اعْتُدِيَ على نفسه وماله وعرضه وحرم من التمتع بحقه في الحياة فسجن أو أسر، وقد تمحضت عبوديته لله وحده، ولكنه حر قلبه مطمئن باله، وهو واقف مثل الجبل الراسي أمام الطغاة المعتدين الأقوياء غير مبال، وعنده إرادة قوية على تحرير جسمه من الأسر كما تحرر قلبه، لأنه يأوي إلى ركن شديد.
وترى الرجل الغني ذا السلطة والجند والجبروت، قد خضعت له الرقاب، ودانت له الأمراء ووقف بأبوابه الحجَّاب، فإذا سبرت أمره واختبرت سره، وجدته عبدا ذليلا لنفسه وشهوته وهواه، بل وجدته مستعبدا لبعض من هم في الظاهر عبيده، وهم أعوانه الذين يستند في طغيانه على عونهم، ويستنجد في ملماته بهم، فهو في ظاهره سيد، وفي حقيقته عبد كالعبيد.
وفي معنى الحرية الحقة والعبودية المذلة قال ابن تيمية رحمه الله: (.. فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استُعبِد بدنه واستُرِق، لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب-الذي هو الملك-رقيقا مستعبدا لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض.. فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب...-إلى أن قال-: وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض، قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم... فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم..) [مجموع الفتاوى: (10 / 186-189).]
وبهذا يعلم أن الحرية التي يزعم ساسة الغرب ومفكروه-ومن انخدع بهم من ذراري المسلمين-أنهم أهلها وحماتها والداعون إلى تطبيقها، ليست هي الحرية الصحيحة التي ينشدها العالم اليوم، بل هي في حقيقتها عبودية مذلة لآلهة شتى يصعب حصرها. فهي من إطلاق الأسماء على غير مسمياتها، كإطلاق (المشروبات الروحية) على (الخمر) التي تذهب العقول وتسلب الأرواح والقلوب حياتها، وكإطلاق (النجوم) التي يُشَبَّه بها دعاةُ الخير وهداةُ العالمَ[كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم).] على من مسخوا الفطر ونشروا المنكر والخنا من المغنين والمغنيات والراقصين والراقصات.. وكإطلاق لفظ (الملهمين) و (الرواد) على رجال السياسة الخرقاء الذين باعوا العباد والبلاد لأعداء الأمة الإسلامية....
تنبيه مهم:
ومع أن العبودية لله هي الحرية الحقة، وعبودية ما سواه عبودية مذلة، فإن الكافر بالله المتصف بالعبودية المذلة لا يُكرَه على الدخول في الإسلام ليتحرر من تلك العبودية المذلة، وإنما يبين له الحق وتقام عليه الحجة، ثم يترك له الخيار بين الحريتين، لأن إكراهه على الدخول في الإسلام-بل في أي دين من الأديان-غير ممكن في الواقع لأن أصل الإيمان في القلب، و لا سلطان لغير الخالق على قلوب العباد، والذي يظهر دخوله في أي دين تحت الإكراه لا يكون مؤمنا في الحقيقة بذلك الدين، ولهذا قال تعالى: ((لا إكراه في الدين)) و (لا) هنا نافية للجنس أي لا إكراه مشروع ولا إكراه واقع، بمعنى أن الإكراه على اعتقاد الدين غير مشروع، ولو حصل إظهار الْمُكرَه دخوله في الدين المكره على الدخول فيه فدخوله غير واقع في حقيقة الأمر، لأن الاعتقاد يكون بالقلب، ومن ذا الذي يقدر على إدخال أي دين إلى قلب أي إنسان لا يريده؟. ولهذا يطلق بعض الكتاب عبارة: (إن حرية الاعتقاد هي أول ,, حقوق الإنسان). ومرادهم بالحرية هنا أن الإنسان يدخل في الدين باختياره ولا يمكن إكراهه على ذلك وليس مرادهم أنه حر القلب والعقيدة بالمعنى الذي شرحناه، ولهذا عذر تعالى من أظهر الكفر مكرها وقلبه مطمئن بالإيمان، كما قال تعالى: ((من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم)).
خامسا: غرس الإيمان بالغيب في النفوس.
إن الإنسان الذي لا يؤمن إلا بما تدركه حواسه، مباشرة أو بالآلات التي يصنعها، لا فرق بينه وبين الحيوان إلا بسعة أفقه، لما ركبه الله فيه من عقل وتصرف بأدوات تعينه على ذلك. وسعة أفقه هذه التي فرقت بينه وبين الحيوان، هي التي أهلته لمعرفة ما ظهر له من الكون القريب.
والذي لا يؤمن بالغيب لا يمكن أن يعبد الله، لأن الله تعالى من الغيب، ولا يعرف تعالى إلا بآثار خلقه المشهودة ووحيه.
والذي لا يؤمن بالغيب لا يمكن أن يؤمن بالوحي الإلهي والكتب المنزلة والرسالة، ولا باليوم الآخر، ولا بالملائكة المقربين، لأن ذلك كله من الغيب.
وعدم الإيمان بالغيب يفضي إلى تسيب الإنسان وعدم التزامه بمنهج الله، واتباعه لهواه، فيتصرف في حياته كما يشاء لا يرده عن هواه إلا القوة المادية القاهرة، فإذا ظن أن تلك القوة-كالشرطة والقضاء والعقوبات الرادعة-لا تناله، أتى على كل ما يقدر عليه دون مراعاة لحقوق غيره، لأنه لا يؤمن بالله حتى يطمع في ثوابه ويخاف من عقابه، وهكذا يدمر ويفسد ولا يبالي شيئا.(1/299)
ولهذا كان من أهم غايات أهل الحق في سباقهم إلى العقول غرس الإيمان بالغيب في نفوس الناس لتكون عقولهم مؤمنة، فيستجيبون لمراد الله منهم، فيأتون ما يرضاه ويتركون ما يسخطه، سائرين على منهج الوحي والرسالة والشريعة الربانية.
ولهذا كانت أول صفات المتقين الذين يهتدون بهذا الكتاب "القرآن الكريم" الإيمان بالغيب، ولا يهتدي به من لم يؤمن بالغيب، كما قال تعالى: ((الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب)).[البقرة: 1-3]
وقال تعالى: ((ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)). [البقرة: 177]
وقال تعالى: ((ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا)).[النساء: 36]
سادسا: تحكيم شرع الله في حياة الناس.
ومن أهم غايات أهل الحق في سباقهم إلى العقول إقناعها أو إقامة الحجة عليها، بوجوب تحكيم شرع الله تعالى في حياتهم لحفظ دينهم، ونفوسهم، وعقولهم، ونسلهم، وعرضهم، ومالهم، لأنه لا تُحفظ هذه الضرورات التي لا حياة للأمم بدون حفظها، ولا يوقى الناس شر الاعتداء عليها، ولا ينفى عنهم الظلم ويقر العدل، إلا بتحكيم شرع الله.
وكلما ابتعد الناس عن شرع الله اقتربوا من الاعتداء على هذه الضرورات، فضلا عن غيرها من الحاجيات والتكميليات، وهذا أمر مشاهد في حياة الناس في كل زمان.
ولهذا كان أهل الحق في سباق شديد مع أهل الباطل إلى عقول الناس بهذه الغاية، ليستقر في تلك العقول ضرورة تحكيم شرع الله، ونبذ حكم الطاغوت، لأن حكم الله لا يحابي أحدا: الغني والفقير، والرجل المرأة، والفرد والجماعة، والحاكم والمحكوم، كلهم أمام شرع الله سواء، يُعطِي الحقَّ صاحبَه ويَقِف صاحبَ الباطل ويمنعه من باطله.
ولهذا كان تحكيم شرع الله والرضا به من الإيمان بالله وتوحيده، وهو من صميم دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن اعتقد غير ذلك لم يفقه معنى القرآن ولا السنة ولا دعوة الرسل.
والذي يزعم أنه يدعو إلى التوحيد ويهمل دعوة الناس إلى تحكيم شرع الله، أو يجعل ذلك من الموضوعات التي يمكن تأخيرها وتأخير بيان حكمها، لم يفهم معنى لا إله إلا الله، لأن تحكيم شرع الله من توحيد الألوهية، ومن جوهر لا إله إلا الله.
والأنبياء عندما يدعون الناس إلى التوحيد والإقرار بمعنى: "لا إله إلا الله" يعلمون ويعلم أقوامهم أن ذلك يعني تحكيم شرع الله والتسليم المطلق لحكمه، وأنه لا خيار لهم في ذلك أبدا، لأن معنى "لا إله إلا الله" لا يقر حاكما غير الله-إلا من حكم بحكم الله-فالحاكم المطلق الذي لا معقب لحكمه هو الله.
فهذه الكلمة: "لا إله إلا الله" تشمل الاستسلام لله في كل شيء: في الأنفس والعقول والأنسال والأعراض والأموال وغيرها، لا يحكم في ذلك كله إلا الله، وأي حكم صدر من غير الله يخالف حكم الله فهو حكم طاغوت لا بد من الكفر به، ومن أطاع حكم غير الله ورضي به بدلا من حكم الله، لم يؤمن بمعنى لا إله إلا الله.
فالإيمان حكم الله ولا بد من الرضا به، والعبادة حكم الله ولا بد من الرضا بها، والمعاملات الإسلامية الثابتة بنص من الله أو من رسوله صلى الله عليه وسلم حكم الله ولا بد من الرضا بها، والأخلاق حكم الله ولا بد من الرضا بها، والحدود حكم الله ولا بد من الرضا بها، لا بد من التسليم المطلق لله تعالى في كل حكم يحكم به.
ومخطئ من يظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدع إلى تحكيم شرع الله في العهد المكي، ويخلط هذه المخطئ بين معنى الدعوة إلى تحكيم شرع الله الذي هو من صميم توحيد الله، وبين معنى إقامة دولة تحكم بشرع الله.
فالدعوة إلى تحكيم شرع الله والاستسلام له دعوة إلى الإيمان بالله وإلى الإقرار بمعنى "لا إله إلا الله" وقد قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دعا الناس إلى الإقرار بلا إله إلا الله.
وأما إقامة الدولة التي تحكم بالإسلام وتنفذه على رعاياها، فقد أخرها الرسول صلى الله عليه وسلم-وما كان له إلا أن يؤخرها-إلى العهد المدني، حيث قويت شوكة المسلمين، وأصبح الرسول صلى الله عليه وسلم هو إمامهم في الصلاة، وقائدهم في الجهاد، وقاضيهم في الخصومات، والآمر الناهي في الدولة.
وإنما لم يسع لإقامة الدولة الإسلامية في مكة، لأن أهلها كانوا أهل القوة المادية والنفوذ، وكان المسلمون ضعافا-ماديا-مضطهدين، يفتنون ويعذبون، ولم يكونوا قادرين على رد العدوان بمثله-وإن كانوا يرغبون رغبة شديدة في ذلك-بل نهاهم الله عن قتال المشركين وأمرهم بالكف عن القتال.
وإذا كان كثير من العبادات والمعاملات والحدود وغيرها من الأحكام الشرعية، قد تأخر نزول الوحي بها إلى العهد المدني، وكان الاهتمام في العهد المكي بالنواحي الإيمانية والسلوكية وبعض العبادات كالصلاة ونحوها، فإن الدعوة في العهد المكي اهتمت بجانب الاستسلام لله في كل شيء وهو معنى الإسلام ومعنى كلمة التوحيد، وذلك أصل التشريع الإلهي.
ومع ذلك فإن بعض الآيات المكية قد نزلت تنعى على المشركين وتنكر عليهم، ما شرعوه لأنفسهم من تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله.(1/300)
كما قال تعالى: ((فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين، ومالكم ألاّ تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين، وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون، ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون..)).[الأنعام: 118-121]
يدور كلام المفسرين لهذا الآيات على أمرين:
الأمر الأول: أن ما ذكر اسم الله عليه، هو ما ذبحه المسلمون أو أهل الكتاب وما لم يذكر اسم الله عليه هو ما مات حتف نفسه.
وكان المشركون من قريش يحرمون ما ذبح بالسكين ويحلون الميتة، ويرون أن ما ذبح قتله الإنسان، وما مات قتله الله، وأكل ما قتله الله أولى مما قتله الإنسان، سيرا على قياسات الشيطان الذي عصا ربه بها.
الأمر الثاني: أن المراد بما ذكر اسم الله عليه ما سمى اللهَ عليه حين ذبحه، وما لم يذكر اسم الله عليه ما ذُكر عليه اسم الوثن ونحوه، وفي ذلك تفاصيل لا يتسع لها المقام.[ راجع كتب التفسير، ومنها: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/188) وما بعدها، طبع دار الخير، والجامع لأحكام القرآن (7/72) وما بعدها للقرطبي.]
والشاهد منها هو كونهم يحلون ما يريدون ويحرمون ما يريدون من عند أنفسهم، بدون هدي ولا بينة من الله، وهو تشريع يعارض تشريع الله، وتحكيم لهواهم الذي يخالف تحكيم شرع الله.
وإذا عرفنا أن سورة الأنعام من السور المكية، ومنها هذه الآيات تبين لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أُمر بالدعوة إلى تحكيم شرع الله في العهد المكي، وأن تحكيم شرع الله من الإيمان الذي لا تصح شهادة أن لا أله إلا الله إلا به.
ومثل ذلك قوله تعالى: ((وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم، وأنعام حرِّمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه، سيجزيهم وصفهم بما كانوا يفترون، وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذ كورنا ومحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء، سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم...)).[ الأنعام: 138-139]
وقد بين الإمام الأصولي العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي، المشهور بالشاطبي، في كتابه العظيم "الموافقات" أن الأصول الكلية للشريعة قد تضمنها القرآن الكريم في العهد المكي، وأن ما نزل بعد ذلك في العهد المدني من التشريع، إنما هو مكمل لتلك الأصول المكية، وأن ما قد يبدو من التشريع المدني كليا إذا ما تؤمل حق التأمل وجد جزئيا بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلا لأصل مكي.
قال رحمه الله: (المسألة الثامنة. فنقول: إذا رأيت في المدنيات أصلا كليا فتأمله تجده جزئيا [قال الأستاذ محمد عبد الله دراز في الحاشية: " كالجهاد فهو جزئي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما سيقرره قريبا...] بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلا لأصل كلي.[ قال دراز: " كالنهي عن شرب الخمر تكميلا لاجتناب الإثم والعدوان كما سيقول....] وبيان ذلك أن الأصول الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها خمسة وهي: الدين والنفس، والعقل، والنسل، والمال.
أما الدين فهو أصل ما دعا إليه القرآن والسنة وما نشأ عنهما، وهو أول ما نزل بمكة.
وأما النفس فظاهر إنزال حفظها بمكة، كقوله تعالى: ((ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق..)). [الأنعام: 151] ((وإذا الموءودة سئلت، بأي ذنب قتلت..)).[التكوير: 9] ((وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه.)).[الأنعام: 119] وأشباه ذلك.
وأما العقل فهو، وإن لم يرد تحريم ما يفسده وهو الخمر، فقد ورد في المكيات مجملا، إذ هو داخل في حفظ النفس، كسائر الأعضاء ومنافعها، من السمع والبصر وغيرهما، وكذلك منافعها.
فالعقل محفوظ شرعا في الأصول المكية عما يزيله كسائر الأعضاء ساعة أو لحظة [قال في الحاشية: " لعل الأصل: (لا ساعة أو لحظة) ومعناه أن ما يزيل العقل رأسا هو من الضروري الداخل في حفظ النفس إجمالا، وأما حفظه على أنه يزول ساعة ثم يعود فيكون من المكملات....] ثم يعود كأنه غطي ثم كشف عنه، وأيضا فإن حفظه على هذا الوجه من المكملات، لأن شرب الخمر قد بين الله مثالبها في القرآن، حيث قال: ((إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر...)) [المائدة: 91] فظهر أنها من العون على الإثم والعدوان.
وأما النسل، فقد ورد المكي من القرآن بتحريم الزنا والأمر بحفظ الفروج إلا على الأزواج أو ملك اليمين.
وأما المال، فورد فيه تحريم الظلم وأكل مال اليتيم والإسراف والبغي ونقص المكيال أو الميزان، والفساد في الأرض وما دار بهذا المعنى.
وأما العرض الملحق بها فداخل تحت النهي عن إذايات النفوس.
ولم ترد هذه الأمور في الحفظ من جانب العدم إلا وحفظها من جانب الوجود حاصل، ففي الأربعة الأواخر ظاهر.
وأما الدين فراجع إلى التصديق بالقلب، والانقياد بالجوارح، والتصديق بالقلب آت بالمقصود في الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، ليفرع على ذلك ما جاء مفصلا في المدني فالأصل وارد في المكي. والانقياد بالجوارح حاصل بوجه واحد [قال الأستاذ دراز: أي متى وجد تكليف واحد بدني فإنه يتحقق به معنى كلي الانقياد بالجوارح الذي هو أحد ركني الدين.] ويكون ما زاد على ذلك تكميلا، وقد جاء في المكي من ذلك النطق بالشهادتين والصلاة والزكاة، وذلك يحصل به معنى الانقياد.(1/301)
وأما الصوم والحج فمدنيان من باب التكميل، على أن الحج كان من فعل العرب أولا، وراثة عن أبيهم إبراهيم، فجاء الإسلام فأصلح منه ما أفسدوا، وردهم فيه إلى مشارعهم، وكذلك الصيام أيضا فقد كانت الجاهلية تصوم يوم عاشوراء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه أيضا حين قدم المدينة صامه وأمر بصيامه حتى نسخه رمضان، وانظر حديث عائشة في صيام يوم عاشوراء [مسلم (2/792).] فأحكمهما التشريع المدني، وأقرهما على ما أقر الله تعالى من التمام الذي بينه في اليوم الذي هو أعظم أيامه حين قال تعالى: ((اليوم أكملت لكم دينكم..)) الآية، فلهما أصل في المكي على الجملة.
والجهاد الذي شرع بالمدينة فرع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو مقرر في مكة، كقوله تعالى: ((يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر..)) وما أشبه ذلك).[ الموافقات (3/ 46-50) بتحقيق الأستاذ عبد الله دراز، والآية في سورة لقمان:]
وإذا علم أن أصول الشريعة الكلية قد نزلت في العهد المكي، وما نزل في العهد المدني فهو متمم أو مفصِّل لها، علم أن الدعوة إلى التشريع الإسلامي والدعوة إلى تحكيم شرع الله، من صميم الرسالة وأنها من الإيمان بالله تعالى وأن من اعتقد أن تحكيم شرع الله ليس من صميم التوحيد والإيمان فهو ضال جاهل لا يعلم دين الله حق العلم ولا يفقه حق الفقه، وفيما مضى كفاية لطالب الحق.
وهكذا كان أنبياء الله السابقون يدعون أقوامهم إلى تحكيم شرع الله تعالى، تطبيقا لمعنى لا إله إلا الله، فشعيب عليه السلام، دعا قومه إلى توحيد الله وإلى تحكيم شرعه الذي هو من التوحيد في الكيل والوزن وغير ذلك من الحقوق المالية، فأنكر عليه قومه تدخله في شؤون حياتهم وبخاصة المالية-وهو نهج العلمانيين في كل زمان، لا يستقر لهم قرار بوجود من يدعو إلى تحكيم شرع الله في حياة البشر، لأن ذلك يحرمهم من اتباع أهوائهم وتحقيق شهواتهم، عن طريق تشريعهم لأنفسهم ما يحقق لهم تلك الشهوات.
قال تعالى: ((وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره، ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط، ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين، بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ، قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد)).[هود: 84-89]]
تأمل ما أمرهم به شعيب: ((اعبدوا الله... ولا تنقصوا المكيال والميزان.. أوفوا الكيل والميزان)).
وتأمل رد قومه عليه: ((أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء..)).
أمرهم نبيهم بالاستسلام الكامل لله في الإيمان والتصرف في الأموال، وكانوا عند ذلك كفارا، ولو كان التشريع من عند أنفسهم في الأموال لا يدخل في الإيمان بلا إله إلا الله، لأخر الدعوة إليه حتى يؤمنوا بالله وحده، ولكن التشريع من الإيمان ولذلك جعله في دعوته قومه إلى الله من أولويات تلك الدعوة، وفهموا منها أن التسليم المطلق لله يقتضي ترك عبادة غير الله والتقيد بشرع الله في تصرفاتهم.
فالتسليم لشرع الله إيمان، ولا إيمان بدون تحكيم شرع الله.
وتأتي بعد ذلك الآيات المدنية، لتوضح توضيحا وافيا شافيا قضايا عملية تقرر فيها أن أعداء الإسلام من المنافقين-وهم الذين يمثلهم اليوم العلمانيون الذين يحاربون الإسلام-لما لم يرضوا بتحكيم شرع الله ورضوا بحكم الطاغوت، حكم الله عليهم بالضلال البعيد مع ادعائهم أنهم مؤمنون، ووصف الضلال بالبعيد يدل على أنه ليس ضلال مؤمن يغفره الله له، كما نص تعالى على أنهم منافقون، ونفى عنهم الإيمان نفيا مؤكدا حتى يستسلموا لشرعه ويرضوا به.
قال تعالى: ((الم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا، فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا، أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم-إلى قوله تعالى-فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما..)). [النساء: 60-65]
وهذه الآية الأخيرة ذكر بعض العلماء أنها نزلت في الزبير بن العوام وخصم له من الأنصار، اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمر، ومعنى ذلك أنها نزلت في ملسمين، وبذلك يكون الإيمان المنفي هو كمال الإيمان الواجب، وليس أصل الإيمان.
وقال آخرون: إنها نزلت في المنافق واليهودي الذين نزلت فيهما الآية الأولى: ((ألم تر إلى الذين يزعمون...)) الآية، وأن اليهودي أراد الاحتكام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والمنافق أراد الاحتكام إلى غيره.
ويرى ابن جرير رحمه الله أن الآية الأخيرة ينسجم معناها مع الآية لأولى، ولا مانع من أن يكون فيها بيان لقصة الزبير والأنصاري.
قال رحمه الله: (وهذا القول-أعني قول من قال: عُنِي به المحتكمان إلى الطاغوت اللذان وصف الله شأنهما في قوله: ((ألم تر الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك)) أولى بالصواب لأن قوله تعالى: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)) في سياق قصة الذين أُسْدِيَ لله الخبر عنهم بقوله: ((ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك..)) ولا دلالة تدل على انقطاع قصتهم، فإلحاق بعض ذلك ببعض ما لم تأت دلالة على انقطاعه أولى.(1/302)
فإن ظن ظان أن في الذي روي عن الزبير وابن الزبير-من قصته وقصة الأنصاري في شراج الحرة وقول من قال في خبرهما، فنزلت: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)) ما ينبئ عن انقطاع حكم هذه الآية من قصة الآيات التي قبلها، فإنه غير مستحيل أن تكون الآية نزلت في قصة المحتكمين إلى الطاغوت، ويكون فيها بيان ما احتكم فيه الزبير وصاحبه الأنصاري، إذ كانت الآية دالة على ذلك، وإذ كان ذلك غير مستحيل كان إلحاق معنى بعض ذلك ببعض أولى، ما دام الكلام متسقة معانيه على سياق واحد، إلا أن تأتي دلالة على انقطاع بعض ذلك من بعض فيعدل به عن معنى قبله).[ جامع البيان عن تأويل آي القرآن (5/159-160).].
وعلى هذا القول الذي رجحه ابن جرير رحمه الله يكون التحاكم إلى الطاغوت والنفور عن التحاكم إلى شرع الله كفرا، وإن كانت دلالة الآية يدخل فيها ما حصل للزبير والأنصاري، فإن ذلك يكون بيانا لنفي الإيمان الواجب وليس لأصل الإيمان.[ لأن الأنصاري وإن حصل عنده شيء من الامتعاض من حكم الرسول صلى الله عليه وسلم للزبير-لم يكن يريد التحاكم إلى الطاغوت، بخلاف المنافق. ].
وعلى هذين المعنيين يمكن تنزيل الآيات الآتية:
((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون..))
((ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الظالمون...))
((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون..)).[ المائدة: 44، 45، 47]
فالذي يحكم بغير ما أنزل الله معتقدا جواز ذلك، ولو حكم بما أنزل الله مع هذا الاعتقاد، فكفره كفر أكبر، وظلمه وظلم أكبر، وفسقه فسق أكبر، أي إنه ليس مسلما بل هو خارج عن ملة الإسلام.
والذين فسروا الكفر والظلم والفسق بالكفر الأصغر والظلم الأصغر والفسق الأصغر من السلف، لا بد أن يكون مرادهم بذلك من حكم بغير ما أنزل الله في بعض القضايا-لِهوى أو صداقة أو أخذ مال ونحو ذلك-وهو يعتقد أنه قد عصى ربه بما فعل، وليس من استحل الحكم بغير ما أنزل الله صراحة أو دلت القرائن الظاهرة أنه يفضل حكم الطاغوت على حكم الله، فهذا لا يمكن أن يقصده السلف يكفر دون كفر أو ظلم دون ظلم أو فسق دون فسق، لأنه مؤمن بالطاغوت كافر بالله. والله تعالى يقول: ((ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)).[ النحل: 36]
قال القرطبي رحمه الله: (قوله تعالى: ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون...)) و ((الظالمون)) و ((الفاسقون)) نزلت كلها في الكفار، ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء، وقد تقدم، وعلى هذا المعظم.
فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة، وقيل فيه إضمار أي ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن، وجحدا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو كافر، قاله ابن عباس ومجاهد. فالآية عامة على هذا. قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار أي معتقدا ذلك ومستحلا له، فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه راكبُ جرمٍ فهو من فساق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له) [الجامع لأحكام القرآن (6/190)].
وقال ابن القيم، رحمه الله: (والصحيح أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين، الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصيانا، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر، وإن اعتقد أنه غير واجب وأنه مخير فيه، مع تيقنه أنه حكم الله [كما يفعله من يسمون بالمشرعين في هذا العصر] فهذا كفر أكبر، وإن جهله وأخطأه، فهذا مخطئ له حسكم المخطئين).[ مدا رج السالكين: (1 / 336).]
وإنما كان تحكيم شرع الله من غايات أهل الحق في السباق إلى العقول، لأن تحكيم شرع الله يعصم الأمم من الزلل والفساد والظلم والطغيان، ويقيم العدل ويعطي كل صاحب حق حقه ويساوي بين الناس، فلا يحابي أحدا على أحد، وبه تستقيم حياة البشر ويحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والعرض والمال، كما قال تعالى في فيمن حكَّم شرعه: ((ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور..)).[ الحج: 40، 41]
يضاف إلى ذلك أن حكم الله عبادة يكفر من جحدها وحاربها، ولا يكون الإنسان موحدا لله إلا بإيمانه بذلك.
وأما تحكيم غير شرع الله فهو تحكيم للبشر، والبشر تتحكم في تشريعهم الأهواء والجهل وعدم الإحاطة بالمصالح والغفلة والحسد والحب والكره وغير ذلك.
وبذلك ينتشر الظلم والفساد والفواحش والتناحر بين الناس، لأن قوانين البشر تتعارض بتعارض مصالحهم وأهوائهم وجهلهم وبتصارع الناس على كراسي الحكم، فإذا غلب فرد فردا أو حزب حزبا أو دولة دولةً، شرع الغالب ما يريد من القوانين التي يحكم بها المغلوب، فيظلمه ويسلبه حقوقه ويعيث في الأرض فسادا، لعدم وجود ما يضبطه من شرع الله، وذلك هو حكم الجاهلية.
((أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون..)).[المائدة: 50]
((ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد، وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم وبئس المهاد..)). [البقرة: 204، 206]
سابعا: تثبيت الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين والبراء من الكافرين.(1/303)
ويسابق أهلُ الحقِ أهلَ الباطلِ إلى عقول الناس، بغرس الولاء وتثبيته لله ولرسوله وللمؤمنين والبراء من كل من حاد الله ورسوله والمؤمنين، عملا بقوله تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا-إلى قوله-: وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ والَّذينَ آمَنُوا فَإِن حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُون)).[المائدة: 55-56]
وبقوله تعالى: ((لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون)).[المجادلة: 22]
ولعلمهم بأن هذا الولاء يجعل صاحبه يدور مع الحق حيث دار ولو خالفه في ذلك أقرب المقربين إليه، كأبيه وابنه.. كما هو واضح من آية المجادلة السابقة.
ولأن المنهج الرباني الذي جاء به الرسول من عند ربه هو الحق وكل ما خالفه فهو الباطل، والأصل في المؤمنين بهذا المنهج أن يكونوا على الحق. فالولاء لله ولرسوله وللمؤمنين هو ولاء للحق.
ولأن الحق يقوى ويثبت في الأرض بكثرة الموالين له المتناصرين عليه. فإذا قوي الحق وثبت سعد به أهل الأرض واهتدوا وكثر فيهم الصلاح الذي أساسه اتباع الحق، كما قال تعالى: ((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق)). [التوبة: 32]
وقال تعالى: ((كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)).[البقرة: 213]
وبثبات الحق يضمحل الفساد الذي أساسه اتباع الهوى، كما قال تعالى: ((ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن..)).[المؤمنون: 71]
ومن أمثال القرآن لثبات الحق وما يترتب عليه من صلاح، واضمحلال الباطل وما يترتب على وجوده من فساد قوله تعالى: ((أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه من النار ابتغاء حلية، أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال)).[الرعد: 17]
وغني عن البيان أن أهل الحق-رعاة ورعية-لا يخشون من الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، اعتداءً من قوي على ضعيف أو خروجا من رعية على راع، بل ولا يخشى أهل الباطل من ولاء المؤمنين لله ورسوله ظلما ولا هضما ولا عدوانا، لأن الله بعث رسوله بالحق الذي يعطي كل ذي حق حقه.[ وليس في جهاد قادة الباطل الذين يحاربون الدعاة إلى ال،له وتبليغ الناس رسالة الله وصدهم عن سماع البلاغ المبين، ومنعهم عن الدخول في دين الله بعد أن يتبين لهم أنه الحق، ليس في ذلك اعتداء على أولئك القادة، بل فيه إخراج للبشر من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وإنقاذ لهم من النار إلى الدخول في جنات النعيم... ]
فالمؤمنون يتعاونون على البر والتقوى وينصر قويهم ضعيفهم: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)).[الحجرات: 10] (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا).[ اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان: (ص: 703 رقم: 1670).] ويقيمون العدل فيما بينهم وفيما بينهم وبين عدوهم، كما مضى في مثل قوله تعالى: ((ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)).[المائدة: 8]
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
==============
الجواب عن شبهات الداعين إلى علمانية العاصمة القومية
د. عبد الحي يوسف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
فإن طرح الشبهات وإيراد المشكلات دأب أهل الضلالة من قديم، يفعلون ذلك صداً عن سبيل الله واستجابة لداعي الهوى في نفوسهم التي جبلت على الإعجاب بالرأي وإيثار العاجلة على الباقية، وفي القرآن الكريم نماذج لبعض تلك الشبهات التي طرحها المشركون الأولون على الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كقولهم: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون)، وقولهم: (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون)، وقولهم: (أبشراً منا واحداً نتبعه إنا إذاً لفي ضلال وسعر)، وقولهم: (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)، وجماع ذلك قول الله في القرآن: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)، قال أهل التفسير: نزلت الآية فيمن اعترضوا على تحريم الميتة بقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: ما قتله الله حرام وما قتلته بيدك حلال؟ وقوله سبحانه: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون)، وهم في هذا كله يدّعون أنهم أهل استقامة وسداد وأنهم يرومون الخير للناس: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
وهاهنا نعرض لبعض هاتيك الشبهات التي يروِّج لها الداعون إلى علمانية العاصمة القومية:
[1] قولهم: إن في العاصمة ناساً يدينون بغير الإسلام وفي الحكم بالشريعة تضييق عليهم:(1/304)
والجواب : أن وجود غير المسلمين في مجتمع يحكم بالإسلام ليس وليد اليوم، ولا هي مشكلة طارئة تحتاج إلى بحث، بل منذ أن بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن وقامت للإسلام دولة في المدينة، وغير المسلمين ـ من اليهود وغيرهم ـ موجودون يعيشون بين ظهراني المسلمين ويمارسون شعائر دينهم؟ فما الجديد إذن؟ ومتى كان وجود الأقلية في أي مكان أو زمان يمنع الأغلبية من أن تطبق دينها؟ وهل عهد في تاريخ الإسلام كله إجبار غير المسلم على الدخول في الإسلام؟
يقول جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: "وكان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين ويكرهوهم على اعتناق دينهم الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم، ولكن العرب اجتنبوا ذلك، فقد أدرك الخلفاء السابقون ـ الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة ـ أن النظم والديانات ليست مما يفرض قسراً فعاملوا ـ كما رأينا ـ أهل سورية ومصر وإسبانيا وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم تاركين لهم نظمهم وقوانينهم ومعتقداتهم... فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم".
وغير المسلمين ـ تحت حكم الإسلام ـ في حمايةٍ من كل ظلم داخلي أو اعتداء خارجي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه كنت أنا خصمه يوم القيامة))، بل إن الثابت ـ واقعاُ وتاريخاُ ـ أن المسلمين كانوا هم المتضررين من تطبيق غيرهم ما يحسبونه ديناً، حيث عانوا في القديم من محاكم التفتيش في الأندلس ـ وقد اعترف بذلك مفكرو الغرب ومؤرخوه ـ وفي التاريخ الحديث ما أمر البوسنة وكوسوفا عنا ببعيد؟ ونقول أيضاً: إن الالتزام بالتشريع الإسلامي لا يمس حقوق غير المسلمين؛ لأن الإسلام كفل لهم حرية الاعتقاد وتطبيق تشريعهم في الأحوال الشخصية، ومن المعلوم للكافة أن الإنجيل ليس فيه أحكام تشريعية في المسائل المدنية والتجارية، ولهذا يأخذ النصارى في كل دولة بتشريعها في هذا المجال، فضلاً عن ذلك فالقوانين الدولية قد تواترت على إقليمية التشريع في جميع التشريعات إلا في مسائل الأحوال الشخصية، وبمقتضى ذلك يخضع الشخص لقانون الإقليم الذي يعيش فيه.
ثم ماذا يضير النصارى أن تمنع الخمور ويحظر الفجور ويلغى الربا ويحارب البغاء؟ هل يزعم أحدهم أن ديناً نزل من السماء يبيح شيئاً من ذلك؟ اللهم لا. لكن منطق الإستبداد الأرعن الذي تمارسه أمريكا على سائر الأمم هو الذي يحملها ـ ومن وراءها من الأذناب كحركة التمرد ـ على أن يحاولوا منع المسلمين من تطبيق شرائع دينهم تحت ذرائع شتى، والحال كما قال ربنا: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء)، (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق)، لكن العجب العاجب هو أن يرضى بعض من ينتسب إلى الإسلام لنفسه أن يكون مروّجاً لمثل تلك الأباطيل، واضعاً في طريق سيادة الشريعة شتى العراقيل.
[2] قولهم: إن تطبيق الأحكام الشرعية يحرم العاصمة من مجيء السائحين، وترك الأحكام الشرعية يجعلها عاصمة جاذبة:
والجواب: أن العقلاء وأهل المروءة متفقون على أن الغاية لا تبرر الوسيلة وأن ما عند الله لا يطلب بمعصيته، وقد قال العرب الأوّلون: "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها". ثم من الذي يقول: إن العاصمة لا تكون جاذبة إلا إذا أبيح فيها الحرام؟ لو أنصفوا لقالوا: إن الواجب علينا أن نرعى الأخلاق، ونحفظ حدود الله من أن تضيّع فنحلّ الحلال ونحرّم الحرام؛ حتى يأتي إلينا السائحون الملتزمون وهم آمنون على أموالهم وأعراضهم وأنفسهم، ولو أنصفوا لقالوا: إن الواجب أن تتضافر الجهود لترقية الخدمات وتأمين الماء والكهرباء، وتعبيد الطرق وتوسعة المطارات وتجميل المسارات وإنارة الشوارع حتى تكون الخرطوم عاصمة جاذبة، بدلاً من الدعوة إلى العلمانية المنكرة التي تبيح ما حرم الله فنكون ممن لم يحفظ ديناً ولم يصلح دنيا، (وشر الناس من خسر الدنيا والآخرة)، ونذكّر أنفسنا وهؤلاء بقول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء)، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا يحملنكم طلب الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله))، ومن التاريخ القريب يعلم المنصفون أن الخرطوم كانت يوماً ما ـ بوجهها الشائه وخدماتها المتردية ـ عاصمة الموبقات المهلكات فهل جذب ذلك السائحين إليها؟ أو فتح أبواب الرزق عليها؟ اللهم لا هذا ولا ذاك. لكن..
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
ثم ألا يعتبر هؤلاء بحال أمم سارت في ذات الدرب فلم تحصد إلا المرّ والعلقم، فلا أزماتها الاقتصادية حلّت، ولا وحدتها الوطنية حققت، ولا مشاكلها الأمنية زالت، بل زادت، (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى).
[3] قولهم: إن الاستمساك بهذا الأمر ـــ أي تطبيق الشريعة في العاصمة ـــ يفوّت فرصة تحقيق السلام الذي بات وشيكاً بزعمهم:(1/305)
والجواب : أن أهل الإسلام مجمعون على أن حفظ الدين مقدّم على حفظ النفوس والأعراض والأموال والعقول؛ وعليه فلو كان السلام في مقابل التنازل عن أحكام الله عز وجل فنقول: لا حيّاه الله ولا سقاه ولا مرحباً به ولا أهلاً، وحسبنا أن نذكّر أنفسنا؛ لتكف عن طاعة المبطلين، بتلك الدماء الزكية التي نزفت على أرض الجنوب والشرق لتكون كلمة الله هي العليا، فهل كان ذلك ليأتي آتٍ بعد زمان قريب ليقول: لابأس بالتنازل عن الشريعة في العاصمة من أجل تحقيق السلام، ولو أن امرءاً رضي لنفسه أن يتنازل عن دينه لينال سلاماً متوهماً؛ فلن يبالي بعد ذلك بالتنازل عن عرضه، ومن تتبع تاريخ المتمردين وزعيمهم في نقض العهود ازداد يقيناً بقول الله في القرآن: (أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون)، وبقوله سبحانه: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة وأولئك هم المعتدون)، ومن أعطى الدنية في دينه فرضي بتغييب الشريعة في العاصمة اليوم فسيرضى بتغييبها في غيرها غداً.
[4] قولهم: إن علمانية العاصمة علاج للأوضاع وحماية لها من التعصب الديني:
والجواب : هو أن العلمانية ما كانت في يومٍ من الأيام علاجاً للتعصب الديني أو الطائفي أو العرقي، ومن كان في شك من ذلك فليرجع إلى تاريخ بلاد ارتضت العلمانية مبدأً ومنهجاً من قديم ـ كالهند ولبنان وتركيا ـ هل حالت العلمانية دون قيام مذابح الهندوس ضد المسلمين في الهند؟ أم حالت دون قيام الحرب الأهلية التي استمرت سنين عدداً في لبنان؟ أم حالت دون اضطهاد الأكراد في تركيا؟ والتاريخ شاهد بأن حرب الجنوب قامت قبل أن تطبق الشريعة سواء في ذلك التمرد الأول أو الثاني، بل إننا نقول إن المسلمين هم الخاسرون من تطبيق هذا المبدأ الفاسد حيث عهدنا في أكثر البلاد علمانية ـ كفرنسا مثلاً ـ أن تمنع الفتاة المسلمة من ارتداء حجابها في المدرسة، وفي تركيا تمنع نائبة في البرلمان من الدخول إليه إلا بعد خلع حجابها فأين العلمانية هنا؟ إن علاج التعصب لا يكون إلا بنشر الوعي وبث العلم وتربية الناس على فن الحوار مع الغير واحترام النظام وأدب الكلام، ولا أنفع ولا أطيب ولا أحسن من هدي القرآن في ذلك، (وجادلهم بالتي هي أحسن)، (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، (لا إكراه في الدين)، (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، ولو أنصفوا لقالوا: إن العلاج يكمن في إعطاء كل ذي حق حقه، ورفع الظلم وبسط العدل بتطبيق الشريعة.
[5] قولهم: إن العلمانية هي المبدأ السائد الذي يحكم العالم الإسلامي كله، وما ينبغي أن نكون نشازاً بين الناس:
والجواب : أنه قد أجمع علماء المسلمين من قديم على أن الشريعة حاكمة على جميع أفعال المكلفين، وأنها حجة عليهم لا العكس، وقد قال الله عز وجل في القرآن: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث)، (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)، وقال: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)، وقال: (وإن كثيراً من الناس لفاسقون)، (وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم)، وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإسلام ستنقض عراه عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة، وأخبرنا أن الكتاب والسلطان سيفترقان وأمرنا ألاّ نفارق الكتاب، ثم أي عقل هذا الذي يحكم على المكلّف بأن يدع تعاليم دينه ويهمل شريعة ربه ويكون إمعة لأن الناس أو أكثرهم فعلوا ذلك؟ وقد علم الناس أجمعون أن العلمانية ما حكمت العالم الإسلامي برضى المسلمين ولا مشورتهم، بل فرضت بقوة الحديد والنار عن طريق الانقلابات العسكرية التي قام بها أذناب المستعمر ومن ثم مارسوا التضييق على الدعوة وأهلها، وعمدوا إلى تغييب الدين عن حياة المسلمين، ومنذ أن طبقت ما عرف المسلمون تقدماً ولا رقياً بل إن أعرق البلاد المسلمة علمانية ـ وهي تركيا ـ صار همُّ ساستها اللهاث خلف أوروبا، والتوسل من أجل أن يمنحوا عضوية في الاتحاد الأوروبي، وفشلوا في ذلك رغم قول قائلهم من قديم: "لا بد أن نأخذ بحضارة الأوروبيين حتى النجاسات التي في أمعائهم والأوبئة التي في أكبادهم".
[6] قولهم: إن الدين لله والوطن للجميع، فلا بد أن يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات:
نقول: بل الدين لله، والوطن لله، والحكم لله، والخلق عباد الله، (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين)، وماذا يضير غير المسلمين في أن تحكم الأغلبية بشريعتها وترجع إلى أحكام دينها في الأمر كله؟ ثم ماذا لو حدث العكس وكان المسلمون هم الأقلية هل كان يقبل منهم أن يطلبوا إلى الأكثرية التنازل عن هويتهم ومقدساتهم طلباً لمرضاتهم؟ وهاهم المسلمون يعيشون في البلاد الكافرة ـ في أوروبا وأمريكا ـ ويخضعون لأنظمة وتشريعات تتعارض مع بدهيات دينهم، ولا يجرؤون على المطالبة بتغييرها أو تعديلها، ولو فعلوا لقيل لهم: هذا هو حكم الأغلبية، إنه لا يقبل شرعاً ولا عرفاً بل ولا ديمقراطياً ـ وهم أكثر الناس تشدقاً بالدعوة إليها ـ أن تتخلى الأغلبية عن هويتها ومقدساتها وحضارتها طلباً لمرضاة الأقلية، لا سيما إذا كانت هذه المقدسات لا مساس لها بالحقوق الأساسية المشروعة لهذه الأقليات. ثم لماذا يتخلى القوم عن علمانيتهم القاضية بأن القانون الحاكم يجب أن يكون نابعاً مما ترتضيه الأغلبية؟
[7] قولهم: إننا متدينون نصلي ونصوم ومع ذلك نعتقد أن العلمانية هي العلاج الناجع والدواء الشافي:(1/306)
نقول: إن العبادات والتشريعات وأحكام المعاملات من عند الله ولا يد فيها للبشر، والإسلام كل لا يتجزأ، فليس مسلماً من قال: أصلي على نظام الإسلام وأتخذ منهجاً سياسياً على نظام ميكافيللي، ونظاماً اقتصادياً ماركسياً، كيف يكون الشخص متديناً وهو يرفض حكم الله وحكم رسوله، وصريح القرآن يقول: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً)، ويقول: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون)، وهذا الفهم المغلوط للتدين هو الذي حمل بعضهم على أن يحج ويعتمر وينتسب إلى بيوتات دينية، ثم لا يبالي بالجلوس على مائدة يدار فيها الخمر أو يراقص الفتيات؛ لأن التدين في فهمه الكاذب الخاطئ قاصر على جانب الشعائر وحدها ولا علاقة له بمعتقد أو سلوك.
[8] قولهم: إن في تطبيق العلمانية ضماناً لعدم استغلال الدين في أغراض سياسية:
ولغرابة هذه الشبهة فإننا نستعمل معهم الدَّوْر فنقول: علينا ألا نطبق العلمانية لنضمن ألا تستغل في أغراض سياسية، وإن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت. هل يعقل أن يمنع المسلمون من تطبيق أحكام دينهم بدعوى عدم استغلاله، ثم يجبرون على نظام مستورد يخالف دينهم وعقيدتهم بل يخالف رغبتهم واختيارهم؟ ما لكم كيف تحكمون؟ أم لكم كتاب فيه تدرسون؟ إن لكم فيه لما تخيرون.
إن العلمانية ضد الدين لأنها لا تقبل التعايش معه كما أنزله الله بل تريد إقصاءه عن الحياة وحصره في زاوية ضيقة منها، إنها ضد الدين لأنها تريد أن تأخذ منه ما يوافق هواها وتعرض عما يخالفه، ولأنها تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض، (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون)، إنها ضد الدين لأنها تتعالم على الله عز وجل وتقول له: نحن أعلم منك بما يصلح للناس والقوانين الوضعية أهدى سبيلاً من حكمك.
إن العلمانية ضد إرادة الشعب في السودان كما أنها ضد إرادة المسلمين الذين رضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً، والقاعدة العريضة من مثقفي الأمة ـ الذين هم أنضج وعياً وأزكى خلقاً وأقوى إرادة ـ لا يبغون غير الله حكماً ودينه شرعاً.
[9] قولهم: إن الشريعة الإسلامية لا يمكن أن تستوعب ملايين القضايا والمشاكل الإنسانية المعقدة، أو أن تقدم حلولاً جاهزة لكل ما يستجد على مسرح الحياة:
والجواب: أن هذا التصور قائم على أساس أن الدين ثابت لا يتغير, وأن الحياة في تغير دائم، وأن الحكم بالأسلام من شأنه إلغاء كل اجتهادات البشر وتجاربهم، وإبطال كل عرف واجتهاد لم يرد من القرآن والسنة، وهذا تصور قد حكم الإسلام بفساده، فقد شرع الله تعالى للناس قواعد عامة للأمور التي حرمها الله وأمرنا باجتنابها، وأرشدنا أن ما سكت الله عنه فلم يبينه فهو مباح، لنا أن نجتهد فيه في حدود هذه القواعد العامة أي بما لا يحل حراماً. قال الله تعالى: (وقد فصّل لكم ما حرم عليكم)، وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سكت عن أمور رحمة بنا غير نسيان، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أنتم أعلم بشئون دنياكم)).
فأمور المعاملات في جوانبها المختلفة من مدنية وجنائية ودستورية منها ما هو ثابت محكم، ومنها ما هو متجدد مرن، فالأسس والقواعد الكلية التي تشكل الإطار العام تتسم بالثبات والإحكام، وهي تلك التي جاءت بها الأدلة القطعية ثبوتاً ودلالة، ولا مجال فيها لتعدد الأفهام وتفاوت الاجتهادات، والفروع الجزئية والتفاصيل المتعلقة بالكيفيات والإجراءات ونحوها تتسم في أغلبها بالمرونة والتجدد، ويكفينا قول الله عز وجل: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
إن المشكلة لا تكمن في وفاء الشريعة بحاجات الإنسان ومصالحه الحقيقة، ولكنها تكمن في كبحها لجماح الأهواء، ووقوف أحكامها عقبة في وجه دعاة العربدة والتحلل، إن أهل الفجور يتهمون الشريعة بالجمود لامحالة؛ لأنها لا تساير ما في نفوسهم من الشهوات والأهواء. فلا تبيح لهم الخمر ولا الرقص المختلط، ولا الردة ولا التبعية لكفار الأرض، ولا ترويج بضاعة المستشرقين باسم الفكر الإسلامي ولا تزييف التاريخ باسم حرية البحث، هذه هي المشكلة حقاً.
المصدر : شبكة المشكاة الإسلامية
============
وإذا لم يعتذر البابا..فكان ماذا ؟.
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
- سؤال مشروع ؟.
لما صدر عن البابا اتهام المسلمين والإسلام بأنه شرير وغير إنساني، وغير عقلاني: طالبه جمع كبير من الشخصيات والمنظمات الإسلامية بالاعتذار العلني الصريح، وألحوا في ذلك جدا، وأكدوا، وأصروا، ولم يقبلوا تصريحه الثاني، ولا الثالث، الذي تضمن أسفا على سوء فهم كلامه؛ إذ لم يكن سوى أسفا، وليس اعتذارا. وتفاعل كثير من المسلمين غيرة على دينهم مع هذه المطالبة، وقد كانت حالة تجسدت فيها المعاني الإيمانية، والغيرة، والاعتزاز بالانتماء إلى الإسلام.
غير أنه وسط هذه الموجة من الغضب لم يسأل أحد: ما المقصود والغاية من اعتذار البابا ؟.
وإذا لم يعتذر - كما هو الحال - فكان ماذا ؟.
هل سيتضرر الإسلام والمسلمون من ذلك ؟.
وإذا اعتذر هل سيكون ذلك خيرا للإسلام والمسلمين ؟.
* * *
- الأحداث.(1/307)
في محاضرة له في جامعة جنيسبرج بولاية بفاريا بألمانية، في 12/11/2006م، والتي كانت بعنوان: "العقل والإيمان"، أورد البابا حوارا جرى بين الإمبراطور مانويل الثاني (1350-1425) ومثقف فارسي قال فيه: "أرني شيئا جديدا جاء به محمد، فلن تجد إلا ما هو شرير ولا إنساني، مثل أمره بنشر الدين، الذي كان يبشر به بحد السيف".
وفي المحاضرة أكد البابا على:
- رسوخ العنف في بنية الدين الإسلامي، من خلال إفادته بأن آية البقرة: {لا إكراه في الدين}، إنما نزلت في بداية الدعوة، حين لم يكن لمحمد صلى الله عليه وسلم قوة ولا منعة.
- أن الإسلام يخلو من العقل، واستدل عليه بأن مشيئة الرب في العقيدة الإسلامية وإرادته ليست مرتبطة بمقولاتنا، ولا حتى بالعقل، وأن ابن حزم ذهب في تفسيره إلى حد القول بأن الله ليس لزاما عليه أن يتمسك حتى بكلمته، ولا شيء يلزمه أن يطلعنا على الحقيقة.
وحينما عرج على المسيحية سبغها بكل ما جرد الإسلام منه؛ بالسماحة والعقلانية، واستدل عليه بأول نص في الكتاب المقدس، في سفر التكوين: "في البدء كانت الكلمة"، فالرب يتحاور بالكلمة، والكلمة هي عقل وكلمة في نفس الوقت.
في نهاية كلمته دعا إلى المحاورة بين الحضارات، بالعقل والإيمان وبالكلمة؛ ليكون موافقا لطبيعة الرب.
ويلاحظ في كلمته هذا: محاولة الاستئثار المسيحي بالرب والعقل والتسامح معا، وتجريد الإسلام منها، فالمسيحية هي التي تعمل وفق إرادة وطبيعة الرب، ووفق العقل، والإسلام يعمل معارضا لطبيعة إرادة الرب والعقل؛ كونه يتخذ العنف والسيف طريقا للإقناع، ولأنه يلصق بالرب الاستعلاء المطلق، والمشيئة المطلقة، التي لا تتغير ولا تتبدل، ولا ترتبط بمقولاتنا ولا العقل..؟!!.
إثر هذه المحاضرة انطلقت ردود الفعل - المعتادة !! - من المسلمين، تمثلت في التعبيرات التالية:
- غضب إسلامي عبرت عنه: دول، ومنظمات، وشخصيات، ومظاهرات جماهيرية.
- استنكار جهات إسلامية، ونصرانية شرقية خصوصا من هذا التصريح.
- مطالبة بالاعتذار العلني الصريح، وطلب توضيح موقف البابا من الإسلام.
- أن التصريح كان في سياق تبرير الحملات الصليبية الأخيرة على بلاد الإسلام.
- الرد على الإدعاء البابوي حول العنف واللاعقلانية المنسوبة إلى الإسلام، وذلك من طريق:
o نفي جهاد الطلب، وقصره على جهاد الدفع.
o رسم عقلانية الإسلام من خلال موقف الأشعرية في رفض إيمان المقلد، وإيجاب النظر. وموقف المعتزلة في إيجاب الأصلح على الله تعالى.
o بيان تسامح الإسلام مع الديانات بعد الفتح الإسلامي.
o فضح السلوك المسيحي في العالم؛ احتلالا، ونهبا، وتقتيلا، واضطهادا.
وقد كان الصوت الأعلى هو صوت المطالب بالاعتذار، الحاث على غضبة إسلامية كبرى، ومحاولة دفع التهمة عن الإسلام والمسلمين. والذين قاموا بالرد بالمثل؛ أي ببيان فضائح الاعتقاد والسلوك النصراني في العالم كانوا قليلين، وليست لهم من الشهرة كالتي للذين اكتفوا بطلب الاعتذار، دون نقد للمسيحية عقيدة أو تاريخا.!!.
* * *
الاعتذار ؟.
نعود إلى السؤال المشروع، فنقول:
يطلب الاعتذار في العادة من المخطئ، بقصد الحد من الآثار السلبية التي تنجم عن الخطأ، من رد فعل غير ملائم، يضر بالجانبين: المخطئ، والمخطئ عليه.
فالاعتذار ينزع فتيل أزمة تكاد أن تقع بسبب ذلك الخطأ.
والأزمة ورد الفعل يقع من شعور المخطئ عليه بالإهانة، التي لحقت به، فيسعى في رد الاعتبار، وإزالة التشويه، وذلك بتقرير المخطئ بخطئه، أو بطريق آخر هو الرد بالمثل. فإن لم ينجح لجأ إلى التصادم، ورد الاعتبار بالقوة، ومن هنا تتدخل أطراف أخرى لمنع مثل هذا التصادم.
وفي حالة تصريح البابا، فإنه تسبب في الطعن في الإسلام والمسلمين، وتشويه الصورة، وفتح بابا ، المفتوح أصلا - للتصادم بين الإسلام والمسيحية، أو المسلمين والمسيحيين.
وهنا نفهم لم تصدت كل هذه القوى الإسلامية للرد، إنهم يقصدون: رد الاعتبار، وإزالة التشويه الذي لحق بالإسلام والمسلمين، ومنع التصادم بين الحضارة الإسلامية والمسيحية. ولأجلها طالبوا بالاعتذار، فكان الاعتذار وسيلتهم الوحيدة - تقريبا - في تحصيل هذه المقاصد.
لكن ألم يكن ثمة وسيلة أخرى لتحصيل هذه المقاصد ؟.
وبصورة أخرى: هل كانت وسيلة الاعتذار هي الوسيلة المثلى، التي لا تحمل معها أية آثار سلبية ؟.
في هذا التساؤل إثارة لمسألة سلبية الاعتذار، أو لنقل المحتوى الآخر للاعتذار غير ما ذكر، فإن للاعتذار وجها آخر غير تلك التي ذكرت في المقاصد، أغفلت، فلم يذكرها إلا القليل، وهي:
- أن على الطرفين ألا يبادرا بأي فعل فيه نقد وطعن تجاه الآخر، وهكذا يستطيع كل طرف أن يحاج الآخر، إن هو بادر بنقد أو طعن، بأنه خرج عن القاعدة والأصل، وعليه أن يعتذر.
وفي حالة تصريح البابا، فإن مطالبته بالاعتذار يحتوي ضمنا التعهد بعدم الطعن والنقد في المسيحية، فلا ينتقد المسلمون النصرانية، ولا يتكلمون في بطلانها، وتحريف كتابها، ومصادمتها للمعقول.
مع أن هذا النقد أمر من صميم دين الإسلام، وصميم الواجبات على المسلمين، لبيان الحق، والدعوة إليه، ودحض الباطل المبين، وعليه درج العلماء حينما ألفوا في بطلان النصرانية، كابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم، ومن المعاصرين: رحمت الله الهندي، وأبو زهرة..
فهذا هو الأساس الذي بنيت عليه فكرة الاعتذار، سكوت كل طرف عن الآخر، من مبدأ التساوي، وبه يمكن للمسيحيين أن يكفوا، وأن يطالبوا المسلمين بالمثل. لكن إذا كان نهج الإسلام هو الرد ونقض النصرانية، واتهامها بمخالفة المعقول والمنقول، فإن ذلك يضعف موقف المطالبين بالاعتذار.
فهل كان هؤلاء مدركون لمثل هذه النتيجة، أم إنهم مستعدون للكف عن نقد النصرانية ؟.(1/308)
إن كانوا غير مدركين، فعليهم أن يدركوا.
وإن كانوا مدركين، وهم مستعدون للكف وعدم الخوض في بطلان النصرانية، فتلك هي الداهية!!.
ويسأل عن سببها: هل هو إيمان بفكرة وحدة الأديان، أم شعور بالضعف ؟.
أما وحدة الأديان، فنبرؤهم منها، ونعيذهم، لكنا ذكرنا بها؛ لأن موقفهم ينسجم تماما مع فكرة وحدة الأديان، التي تقوم على اعتبار صحة جميع الأديان، وتساويها، ومن ثم فلا وجه لنقد أو طعن يوجه تجاه إحداها.
لكنه شعور بالضعف، يبدو، يحمل على السكوت أمام عدو نصراني كبير، يحمل معه كل أدوات التدمير، ويتحكم في مصير ملايين المسلمين. محاولة للإبقاء على المسلمين، نظرا إلى عدم تكافؤ القوى. وهذا هدف نبيل لا شك ..
غير أن المتابعة للأحداث تدل على: أن هذه الطريقة غير نافعة في تحصيل الهدف، بل ضارة، فإن على أهل الحق بيان الحق، وإن عذروا حينا، فلا يعذرون كل حين في السكوت على الباطل.
ومداراة المسيحيين ومحاباتهم، طلبا للسلامة وكف شرورهم، بهذه الطريقة لم تنجح، بل زادت شرهم، فمنذ عقود وبعض المسلمين في محاولة لمد جسور التواصل، والتقارب، والحوار، والتعايش.. إلخ، ولو بالسكوت عن نقد المسيحية، ودعوة المسيحيين للإسلام. لكن لم يظهر في الأفق المسيحي سوى العدوان الصريح، فهم الذين احتلوا: أفغانستان، والعراق، والشيشان، ودمروا البوسنة، وكوسوفا، ولبنان، وهم الداعمون لإسرائيل، وقد عبروا عن صليبيتهم في كلمة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن الأخيرة: "إنها حرب صليبية"، وموقفهم من الرسومات المسيئة للنبي واضح، فدول أوربية كثيرة حذت حذوا الدنمارك، آخرها النرويج قبل أيام، أعادت نشر الصور، ثم هذا البابا يخرج بمثل هذه التصريحات، مع أن الفاتيكان هي الراعية للحوار بين الحضارات.
فكل ما بذله هؤلاء المسلمون من الحوار، والتقارب، والتعايش، والذي حملهم على السكوت عن نقد النصرانية، لم يفد بشيء، بل زاد من هجمتهم ضد الإسلام، وصدق ربنا إذ يقول:
- {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم }.
فهذا موقف خاطئ من هذه المنظمات والشخصيات المطالبة بالاعتذار، خطأ واقعا، كما تقدم، وخطأ شرعا، فإن الشرع يأمر بقولة الحق، والصدع بها، لا عقد تحالفات لغض النظر عن فساد المعتقدات، والسكوت عن بيان الحق، مهما كانت الدعاوى، من ضعف أو عجز، فإنه إذا نظرنا في تاريخ الدعوة، فإن الدين كان ضعيفا، ثم مازال يقوى بالدعوة والبلاغ؛ ببيان محاسن الإسلام، ومساوئ ما سواه، ومن ذلك النصرانية، وعلى هذا درج القرآن. فإذا ما اتخذ مبدأ السكوت بداعي الضعف، فمتى يهدى الناس إلى الإسلام، ومتى ينتشر ويقوى، وقد علم أن قوته إنما تتحصل بالدعوة والبلاغ، التي تزيد من أتباعه المتمسكين به ؟!.
* * *
إن الموقف الصحيح في الرد على البابا، وكل تصريح من هذا النوع، هو:
الرد بالمثل، وفي التاريخ والدين النصراني من النقاط السوداء الكبيرة ما لا تعجز ناقدا، حتى لو كان عاميا؛ ببيان فساد المعتقد النصراني، ومعارضته للعقل، وللرحمة، وتأييد ذلك بالتاريخ المسيحي:
- فالتلثيث، والصلب، والفداء، والعشاء الرباني، عقائد مسيحية معارضة للعقل، كانت سببا في ردة طائفة من النصارى، ورفضها للمسيحية.
- وتاريخ الحروب الصليببية شاهد على دموية، وعنف، وإرهاب المسيحيين، منذ أيام الحاكم الروماني قسطنطين، ونيرون، واضطهاد الكاثوليك – حزب البابا- للآرذثوكس في مصر وغيرها، والآريوسيين، وما حدث في حقهم من مجازر أمر لا يخفى.
- كما أن محاكم التفتيش في أسبانيا، والتي قتل فيها مئات الآلاف من المسلمين على الهوية الإسلامية، تركت ندبة سوداء في تاريخ أوربا المسيحية.
- ومثلها ما حدث من تطهير عرقي في البوسنة، وتحديدا في سربرنتشا، تحت سمع وبصر، بل وعون النيتو، والأمم المتحدة، ودول أوربا، وأمريكا، سفك الدم الحرام لما يزيد عن ثمانية آلاف مسلم، قتلوا بدم بارد، ودفنوا في مقابر جماعية، هذا عدى إجرام أمريكا الصليبية في أفغانستان، والعراق، حيث قتل مئات الآلاف.
فبعد كل هذا، ألا يستحي البابا من اتهام المسلمين بالعنف واللاعقلانية ؟!.
وألم يجد الذين غضبوا من تصريحه حلا لرد الاعتبار سوى المطالبة الاعتذار ؟!.
إن صفحة المسيحيين سوداء مخزية مليئة بالإجرام، كان يكفي هؤلاء المخلصين أن يسلطوا الضوء على إحداها، بدل المطالبة بالاعتذار. الاعتذار يعطيه قيمة، ويرسخ مفهوم التساوي والسكوت عن بيان الحق فيهم، وهذه هي الداهية ؟!.
كان عليهم بعده التعريج على محاسن الإسلام، وصنائعه المباركة في العالم وتاريخه أجمع، حتى شهد بعدله وبره وإحسانه وقسطه المنصفون من أتباع الديانات، من كاثوليك، وآرثوذكس.
إنها لفرصة تاريخية لإحياء الدعوة إلى الإسلام من جديد، في العالم كله، وفضح الدين المسيحي في عقيدته وتاريخيه، كان من الواجب استغلالها؛ بنشر المؤلفات الميسرة للذكر والفهم، بكافة اللغات، وبالبرامج والمحاضرات والندوات الفضائية المكثفة، على نطاق شامل وواسع؛ لتكون تصريحات البابا أداة وصولها إلى الإسماع في الأصقاع.
لكن وبدلا من ذلك، اتجه الحل إلى المطالبة بالاعتذار، واستنفد هؤلاء المخلصون جهدهم ورأيهم وكلمتهم فيه، مع تمنع وتمتع نصراني بهذا الإلحاح، ثم لم يخرجوا من البابا بشيء يذكر، ففي كل مرة يخرج فيها، يربت على أكتاف الغاضبين، يهدئ من روعهم، ويقول لهم كمعلم: هذه الحقيقة، فاسمعوها، ولو غضبتم.. فنحن نعمل على ترشيدكم، وترقيتكم إلى ما هو أسمى. !!..
هذا هو معنى أسفه من سوء فهم المسلمين كلامه، وعدم اعتذاره..
لدينا خلل في التعاطي مع المخالفين، بين من لا يرى إلا السيف معهم، حلا وحيدا، وبين من لا يرى سوى التقارب والكف حتى عن بيان الحق فيهم، تحت ذرائع شتى.(1/309)
لكن أين من يقول لهم: نحن لا نتعدي عليكم، لكن دينكم باطل.. نحن لا نظلمكم، لكنكم ضالون.. نحن نحب لكم الخير، فتعالوا إلى الإسلام.. أنتم في شقاء، فتعالوا إلى الراحة والنعيم.. أنتم في ضيق وظلمة.. فتعالوا إلى السعة والنور.. وصدق الله تعالى إذ يقول:
- {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.
=============
الأقلية حين تتحكم في الأكثرية
(جواب عما قدمته الطائفة الشيعية من مطالب لولي العهد)
13/4/1424هـ
د. سفر بن عبدالرحمن الحوالي
إن من يطلع على مطالب الطائفة الشيعية المقدمة لولي العهد يجد مفهوماً جديداً لحرية الأقلية ليس له نظير ؛ لا في تاريخنا الإسلامي ولا في المجتمعات الديموقراطية المعاصرة التي تقرر بدهياً أن المطالبة بالحرية إلى حد التجاوز إلى حرية الآخرين هو عدوان يجب على الكافة رفضه ، وتقرر بالبداهة أيضاً أن للدولة حق معاقبة المواطنين إذا ارتكبوا ما يحضره الدستور ( كترويج المخدرات مثلاً ) وإسقاط الاحتجاج عليه بدعوى الحرية !!
والسابقة الوحيدة لتحقيق مطالب الشيعة، والنتيجة المنطقية لها هي استبداد الأقلية بحكم الأكثرية مثلما حدث للمعتزلة حين فرضوا على الأمة عقيدة القول بخلق القرآن ، ومثل بعض الدول الأفريقية التي يحكمها النصارى مع أن المسلمين فيها 95% أو أكثر .
إن مطالبة أي طائفة بحرية العبادة شيء ومطالبتها بالتحكم في عقائد الأمة كلها شيء مختلف تماماً .
وفي هذه البلاد يولد الشيعي ويموت شيعياً دون أن يحاسبه أحد على ذلك وهذه هي حدود حرية الاعتقاد . أما ما يعتقده أهل السنة في الشيعة وغيرهم وما يجب عليهم من بيان الحق ودعوة الأمة إلى العقيدة الصحيحة وتربية أبنائهم عليها في مناهجهم وغيرها فهذا واجب ديني على أهل السنة لا يحق للشيعة ولا غيرهم المطالبة بإسقاطه ، ولا يجوز للحكومة الاستجابة له وإلا فقدت شرعيتها ووقعت في ظلم الأكثرية لمصلحة الأقلية وناقضت دستور البلاد ومفهوم الحرية نفسه !!
وهذا ما وعته الدول المعاصرة في العالم الإسلامي وغيره ، والأمثلة على هذا كثيرة ؛ فطائفة " شهود يهوه " مثلاً تطالب بحقوقها في البلاد الكاثوليكية ، لكن غاية ما تطلبه هو السماح لها بأداء شعائرها وطبع منشوراتها ؛ أما أن تطالب الكاثوليك بأن لا يتحدثوا عن عقائدها ولا يطبعوا منشوراتهم المخالفة لعقائدها فهذا ما لم تحلم به ولم تطالب به .
وطائفة " المورمن " في أمريكا ليست ببعيدة عن هذا ؛ فهي تحاول باسم حرية المعتقد التخلص من القوانين الفيدرالية المخالفة لعقيدتها لكن لا يصل بها الأمر إلى حد المطالبة بأن تفرض على الأمريكيين كلهم ألا يتحدثوا عن عقيدتها وألا يكتبوا ضدها في الكنائس والمناهج والإعلام . ولم يخطر ببال الحكومة الأمريكية أن تجامل " المورمن " وتراجع نفسها ودستورها في قضية تعدد الزوجات وهي مسألة اجتماعية تتماشى مع مفهوم الحرية وتقرها الأديان والأعراف العالمية.
فكيف يراد من الحكومة السعودية بل والمجتمع السعودي نقض عقيدته وإيمانه وأساس وجوده ومصدر شرعيته ؟!
إن على الأمريكان أن يعلموا أن تعظيمنا لكتاب الله تعالى واعتقادنا بحفظه من التحريف ، وتعظيمنا لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها واعتقادنا بطهارتها وبراءتها ، وكذلك تعظيمنا لقدر وزيري رسول الله صلى الله عليه وسلم وشيخي الأمة أبي بكر وعمر أعظم من تمسكهم في حظر تعدد الزوجات !!
وفي دول العالم الإسلامي أقليات بوذية وغيرها لم تصل بها المطالبة إلى حد إلغاء العلوم الشرعية وحذف المواد التي تدل على كفرهم وفساد دينهم من المناهج والمدارس الإسلامية ، ولم يشترطوا أن يكون لهم في كل مؤسسة حكومية وزير أو مسئول ، فالكل هناك يحترم دستور البلاد ويقبل نتيجة الاقتراع ، ونحن هنا في بلادنا دستورنا الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح و لا نحتاج إلى صناديق أصلاً لإثبات أن الشيعة أقلية ضئيلة ، وأن مطالبتها بأن تتحكم في الأكثرية السنية لا يستند إلى أي حق شرعي أو قانوني ؛ بل هو نوع من استغلال مشكلات الحكومة السياسية والإدارية والأمنية للمزايدة وإثبات الوجود مستندين إلى ما تقوله بعض التقارير الأمريكية ويردده بعض السذج من الكتاب.
إنه لمن التحايل الواضح التذرع بدعوى الوحدة الوطنية لمسخ عقيدة البلاد وزلزلة كيانها. في وقت الذي يشتهر فيه أن أهم شروط المواطنة الالتزام بالدستور ، والمطالبة بمخالفة الدستور فضلاً عن المطالبة بتغييره هي خروج على واجب المواطنة في كل بلاد العالم، لا سيما إذا صدرت من فئة قليلة تريد أن تضطهد الأكثرية وتقيد حريتها في العمل السياسي بل في التعبير والاعتقاد ؟!!
وإن واقع الشيعة المشهود واضح في بيان مدى صدق دعوى الشراكة في الوطن فهم في كل مرة يشعرون أن الحكومة مشغولة أو ضعيفة يتمردون و يثورون .. !!
كما أن الأوصاف التي أطلقها كاتبو العريضة على علماء السنة كافية في التعبير عن الهدف الذي يسعون إليه وهو إذلال أهل السنة أو استئصالهم وليس التعايش معهم ، ومن هذه الأوصاف الواردة في العريضة (( المغرضين .. ، المنتفعين .. ، الكراهية والبغضاء القائمة على بعض التوجهات المذهبية .. ، الفتاوى التحريضية .. ، الشحن الطائفي .. ، التعصب .. ، الحقد .. ، الكراهية والنفور .. ، .. الخ ))، في حين أن أكثر الموقعين معرّفون بوصف (( عالم دين )) .
هذا ما طفح به القلم في عريضتهم المختصرة ، ولا شك أن ما تخفي صدورهم أكبر ، وهذا ما قدموه لولي عهد المملكة الذي يعلمون تقديره واحترامه لعلماء بلاده، فماذا يقولون إذا كتبوا للأمريكان أو للمنظمات الدولية لتحريضهم على البلاد حكومةً وعلماء وشعباً ؟؟؟
وهل هذا أسلوب من يريد الحوار أم الانتقام ؟؟؟(1/310)
إن ما طالب به هؤلاء هو في حقيقته تغيير دستور البلاد . وفي كل بلاد العالم التي تحتكم إلى دساتير وضعية لا يستطيع حزب أن يغيّر الدستور إلا إذا ملك أغلبية الثلثين فأكثر من نواب الأمة أو صوّت الشعب للتعديل بنفس الأغلبية في استفتاء عام ، أما أن يكتب أشخاص ورقات ويجمعوا عليها توقيعات فتنقلب الأمة على دستورها فهي سابقة خارقة لا نظير لها أبداً .
ولو أن أهل السنة أو الإسماعيلية أو غيرهم في إيران جمعوا ملايين التوقيعات لما غيّرت جمهورية إيران دستورها الذي ينص على التمذهب بالمذهب الشيعي الإثنا عشري دون غيره من مذاهب الشيعة أو السنة. وإذا كان هذا حال الدساتير الوضعية فهل يملك أحد أن يغير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعقيدة أهل السنة والجماعة أو إبطال ما يعارض مذهب الشيعة منها أو تعليق العمل به . ولا سيما في دولة ما قامت أصلاً ولا اجتمع الناس حولها إلا على هذا الدستور الفريد المعصوم الذي ما عاداه جبار إلا قصمه الله ، وما القرامطة والصليبيون والتتار إلا أمثلة لذلك .
إن هذا التغيير لو حدث كما يطالب هؤلاء سيحوّل حكومة هذه البلاد إلى إحدى حكومتين لا ثالث لهما :
1- إما حكومة شيعية تضطهد من يخالف عقيدة الشيعة من السنة والطوائف الأخرى ، وهذه هو معنى ألا يتحدث أحد ولا يفتي ولا ينشر شيئاً يخالف عقيدة الشيعة . أما الشيعة فلهم الحرية المطلقة في هذا كما تضمنت المطالب .
2- وإما حكومة علمانية لا دينية تفتح باب الصراع الديني على مصراعيه باسم الحرية ، وهذا سيؤدي إلى سقوط شرعيتها وإيقاد نار الحرب الأهلية التي إذا اشتعلت فلن يطفئها أحد . وهذا ليس من مصلحة الشيعة أنفسهم فإن الأكثرية إذا استثيرت سوف تفعل ما قد يصل إلى استئصال الأقلية من الوجود وما حدث في لبنان عبرة لمن اعتبر ، مع أن نسبة الشيعة هنا لا تساوي شيئاً إذا قيست بنسبة بعض القرى النصرانية في لبنان قبل الحرب الأهلية التي خسرت الكثير بعدها .
إن الشيعة يهددون تلميحاً وتصريحاً بأنه إذا لم تعطهم الحكومة ما يريدون فسوف يتحالفون مع العدو الأجنبي وهذا يكشف عن حقيقة ما يريدون وأنه الابتزاز وليس الوحدة الوطنية !!. إنهم هم الذين قدموا للأمريكان نماذج من مناهج التعليم يقولون إنها ضد اليهود والنصارى لكي يساعدهم الأمريكان في تغيير المناهج التي تخالف عقائد الشيعة وليس وراء هذا من ابتزاز للدين والوطن .
ومعلوم أن التحالف بين الأقليات وبين أعداء الأمة سُنّةٌ متّبعة ، فتاريخ الدروز مع الإنجليز ، والنصيرية مع الفرنسيين ، لا يختلف أبداً عن تاريخ الموازنة مع اليهود في لبنات ، أو اليهود مع الحلفاء في تركية ، والنتيجة في كل الأحوال تدمير عقيدة الأكثرية وكيانها ووجودها .
الشيعة فرق شتى يقاتل بعضها بعضاً ويكفره في كل مكان ، والمتقدمون بالطلب هم فئة منهم فقط ، فلينتبه إلى أساليبهم في التنافس والمزايدة في المطالب بغرض كسب الأتباع وليس الحرص على حقوقهم المزعومة ، وقد اعترف حمزة الحسن بأن عريضة المطالب تضم شيوعيين وعلمانيين ، فإذا كان الموقعون غير متفقين فيما بينهم على منهج دراسي أو دَعَوي فماذا يريدون أن يفرضوا على الأمة كلها - ومنها الفرق الشيعية التي تناصبهم العداء - ؟
بعض الناس ينافق الشيعة ويتحدث هو الآخر عن حقوقهم بنفس لغتهم وهو لا يدري ما هي الحقوق وإلى أين تنتهي ، وهو بذلك يوقظ فتنة وشقاقاً دون أن يشعر ، ولو أنه كان في منصب إداري واستجاب لما يريدون هم أو غيرهم فسيجد نفسه مسخّراً لتنفيذ مطالب متناقضة من كل طائفة ، وفي النهاية لا بد أن يضع حداً يقف عنده الجميع . وهذا الحد يجب أن يوضع الآن على أساس من الدستور المحكم كتاب الله وسنة رسوله وسنة الخلفاء الراشدين في أهل البدع .
وأسوأ من هذا أن تستجيب الحكومة لهذه الطائفة أو تلك، فتبدأ سلسلة من التنازلات لا حدّ لها ، ومن أخطر الأمور على وحدة الأمة أن يصبح في البلد مناهج مختلفة للتعليم ، وأجهزة مختلفة للقضاء ، وما أشبه ذلك من مقدمات التقسيم والتفتيت .
ومعلوم أن للشيعة تاريخاً طويلاً مع من يولِّيهم ويدنيهم ويجعلهم يتحكمون في أمور الأمة ، وليس ما حدث أيام " بني بويه " ثم ما فعله " ابن العلقمي " من الانحياز لهولاكو والإشارة بقتل الخليفة العباسي الذي هو من أهل البيت إلا نماذج من ذلك .
إذا تحدث بعض الشيعة المقيمين في الخارج عن الظلم والاضطهاد .. الخ ، في قناة الجزيرة أو غيرها، فيجب على أصحاب المراكز في الحكومة والكتاب الأثرياء من الشيعة أن يردوا عليهم ويكذبوهم ، وإلا ما فائدة مداهنتهم وإعطائهم فوق ما يستحقون من المناصب والمناقصات .
وما جدوى فتح الإعلام لهم ؟ أم أن هذا توزيع للأدوار بينهم ؟
ويبقى هنالك أمران :
الأول : أنه لا إكراه في الدين ، فالاعتقاد خارج عن سيطرة البشر أصلاً ، وهداية التوفيق لا يملكها إلا الله وحده ، ولكن واجب الحاكم المسلم ألا يدع فئة من الرعية تجاهر بأعظم الذنوب وهو الشرك بالله تعالى ، وتعلن شعائر مجوسية قديمة مثل اللطم والضرب في المآتم وأمثالها من الأعمال التي تتنافى مع الإنسانية ، والتي أصبح كثير من شباب الشيعة - ولله الحمد - يرفضها . والمجاملة في هذا غش للشيعة أنفسهم ولا يجوز للراعي غش الرعية ولو كان ذلك بطلب منهم .
الثاني : أن الشريعة توجب العدل بين المواطنين على أسس لا تخالف المشروعية العليا للأمة ، وليس هذا مقام التفصيل ولكن أذكر على سبيل المثال :
1- العدل في الحقوق الدنيوية : مثل الخدمات التي تقدمها وزارة البلديات والطرق وبناء المدارس والمستشفيات ونحوها .(1/311)
2- المساواة في الأجور : إذا كان العمل واحداً وهذا متحقق في وزارة الخدمة المدنية . أما تخصيص بعض الولايات لبعض الناس وفقاً للشروط الشرعية فهذا من الشريعة ، ألا ترى أن الشيعة أنفسهم يخصصون الإمامة والنيابة عنها بآل البيت وحدهم ؛ بل في بيت واحد منهم ولو كان طفلاً !!
3- العدل في حماية جناب التوحيد : مثل معاقبة من نشر أو روّج لكتاب أو عقيدة تتنافى مع العقائد القطعية في الإسلام ، كدعوى : أن القرآن محرّف ، أو الاستهزاء بالدين ، أو ما فيه استغاثة بغير الله تعالى ووجوب إحالته إلى القضاء بتهمة نشر الكفر وترويجه سواءً كان سنياً أو شيعياً .
4- المساواة في تعزير من سب أحد الخلفاء الراشدين الأربعة : سواء كان سنياً أو شيعياً ، وأن من سبّ أو نشر ما فيه سب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب كما يعاقب من سبّ أو نشر ما فيه سب لآل البيت .
5- فتح باب المجادلة بالتي هي أحسن : مع تشديد الرقابة على المطبوعات والمواد الإعلامية ووضع ضوابط عامة لضمان العدل في الأحكام ، مثل إلزام كل من يكتب عن طائفة أو فرد بتوثيق ما يقول من مصادره ، والتزام الموضوعية في البحث والحوار ، والبعد عن الافتراء والتجريح الشخصي ، وإلاّ فمن حق أجهزة القضاء أو الحسبة حظر تلك المادة العلمية أو الإعلامية أو معاقبة الكاتب أو هما معاً .
6- أن الفقر الذي يعاني منه بعض عوام الشيعة ليس سببه أهل السنة بل شيوخهم الذين ينهبون خمس دخولهم ولهذا يجب على الحكومة تحرير أموال الناس من تسلط أكلة السحت بأي اسم كان وبيان أنه لا يجب في أموال الناس إلا ما أوجبه الله ورسوله ، وهو ما سار عليه الخلفاء الراشدون الأربعة وأئمة أهل البيت الذين كانوا هداة ولم يكونوا جباة . ويجب عليها مراقبة الحسابات ومصادرة تلك الأموال بتحويلها إلى الأوقاف العالمة ، وهذا مع أنه مقتضى الشريعة هو ما فعلته الدول المعاصرة التي أبطلت دفع العشور للكنيسة .
ثم إن أولى الناس بالمطالبة بالمساواة وإعطائهم حقهم هم أبناء منطقة تهامة ، التي تمتد ما بين جدة إلى اليمن ، وما بين منحدرات جبال السراة إلى البحر الأحمر ، ولا يوجد بها عشر ما في مناطق الشيعة من الخدمات ، ولا يشغلون واحداً بالمائة مما يشغله الشيعة من مناصب عليا مع كثرتهم في الجيش وغيره .
وقس على ذلك مناطق أخرى في الشمال والجنوب ، والمواطنون يعلمون أن المناصب العليا تكاد تكون محصورة في أربع مناطق أو خمس من المملكة ، والمناطق العشر الباقية محرومة من ذلك ، ولو أننا أعدنا تقسيم المناصب بحسب المناطق والسكان لفقد الشيعة أكثر ما لديهم الآن ، وأي استجابة للشيعة في هذا الشأن لا بد أن تستتبع مطالبة من المناطق الأخرى الأكثر عدداً والأكثر حرماناً . وإذا جمع الشيعة 400 توقيع فيمكن لغيرهم أن يجمع 4000 أو 400000 توقيع في أيام قليلة !!
كما أن الاستجابة لضغوط الأقلية الشيعية ستدفع للاستجابة لضغوط الأقلية الصوفية التي تقيم علاقات مباشرة مع أسر عربية حاكمة ترى أنها أحق بحكم الحجاز وتفتح الباب للمطالبة بالتدويل ( مع ما لمطالب الأشراف من قبول وصدى بدلالة النصوص على حقهم في الإمامة هم وسائر قريش ) .
لا سيما مع تقصيرنا في التواصل مع إخواننا المسلمين في العالم ، وجمع كلمتهم وتوحيدها ضد العدو المشترك للإسلام والمسلمين .
أخيراً نقول ..
إننا لا نعني بهذا تجاهل المشكلة ، بل نقول إنها فرصة للتباحث والجدال بالتي هي أحسن ، وإنقاذ عامة الشيعة من تسلط رجال الدين على دينهم ودنياهم. وذلك بإلزامهم بظاهر ما يقولون ، مثل دعواهم أنهم لا يسبون الصحابة ، وأنهم لا يدعون غير الله ، وانهم لا يعتقدون أن القرآن محرف ، وأنهم لا يأكلون أموال الناس بالباطل ... الخ
فإذا صرحوا بهذا والتزموا به فمن حق الدولة أن تعاقب من يخالف ذلك وتمنع تداول ونشر الكتب والمطبوعات التي تشتمل على تلك المخالفات ، ومن حق العلماء بل من واجبهم أن يكفروا من يعتقد هذه العقائد ، وأن ينشروا فتاواهم وكتبهم في ذلك ، أما أن يتبرأ شيوخ الشيعة من هذه العقائد جهراً ويفرضوها على الناس سرّاً ، وفي الوقت نفسه يطالبون الدولة بمنع الفتاوى والردود فهذا ليس تناقضاً فحسب ؛ بل هو عقيدة التقية التي ما عرف التاريخ أخبث منها .
إن حرصنا على هداية الشيعة في الدنيا ونجاتهم من عذاب الآخرة مع تأييدنا لمطالبهم الدنيوية ينبع من إخلاصنا لله ونصحنا لخلق الله ومحبة الخير والهدى للبشر كافة ، ومن هذا المنطلق نحن على استعداد للحديث مع من يريد الحق بلا مراء ولا مكابرة ولا تقيِّة ، ونبدأ قبل كل شيء بتحقيق التوحيد والبراءة من الشرك وسلامة الصدر من الغلّ للذين سبقونا بالإيمان ، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون الأربعة ، ونعيش كما عاشوا أشداء على الكفار رحماء بينهم . ثم نتباحث في القضايا السياسية .
أما المطالب الدنيوية فتأخذ مجراها العادي لدى كل مؤسسة حكومية مثلما يفعل غيرهم من المواطنين ، وكل ذلك يجب أن يتم من غير تدخل أو تأثير العدو الخارجي ، سواء فيما اتفقنا عليه أو اختلفنا عليه . بل لا أرى أن يكون للحكومة أو أية جهة رسمية تدخل فيه إلا بعد رفع التوصيات إليها .
والله من وراء القصد ،،،
المصدر موقع المسلم http://www.almoslim.net/
هذه المقالة وصلتنا مباشرة من الشيخ سفر حفظه الله وأقر نشرها في موقع المسلم اليوم السبت 28/4/1424 ، لكن فوجئ الشيخ كما فوجئنا بنشرها في عدد من المنتديات الحوارية. والنسخة المنشورة هنا هي النسخة الأصلية المعتمدة، وأي نسخة تخالفها فلا اعتبار لها.
-================(1/312)
طاغوت العصر
الحمد لله وأشهد أن لاإله إلاالله وحده لاشريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وبعد .هاهو رمضان قد أظلّنا من جديد واستنشق المؤمنون الموحّدون عبير أنفاس هذا الشهر العظيم ،ولكن هذا العبير قد جاء وياللأسف مشوبا برائحة الدماء والبارود ، لقد كان رمضان يشرق على الأمة الإسلامية وهي عزيزة الجناب لم تقف على الأبواب ولم تستعطف الأعداء ولم تخضع للكافرين واليوم كيف يشرق علينا رمضان؟يشرق على جرح فلسطين الذبيحة وعلى آلام أفغانستان الجريحة وعلىأصوات الثكالى واليتامى في العراق وقوات الصليبيين تطوّق كعبتنا من كل الجهات بقواتها وقواعدها مهدّدة عقيدتنا وحضارتنا وأرضنا وشعوبنا وتاريخنا ومستقبلنا ،تحاصرنا الفتن وتجتاحنا الأحزان والألام وتنحرنا المصائب ويقتلنا القهر والإستبداد فتعزّ الكلمات ويتأبّى البيان ويحتار اللسان وفي الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((والذي نفسي بيده، لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه، ويقول: يا ليتني كنت مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدِّين إلا البلاء)) رواه مسلم.(1/313)
صدقت ياحبيبنا يارسول الله هذا هو حال الأمة اليوم إلاأهل الغفلة والضياع،آه لو أنّ الحرف سيف! آه لوأنّ الكلمة بندقيّة والجملة قنبلة والفقرة صاروخ لنردّ به عن أنفسنا وإخوتنا ذلاّ لم يسمع بمثله أحد،الناس يذلّون عن قلّة ولسنا قلّة بل نحن مليار من البشر والناس يذلّون عن فقر ولسنا فقراء بل نحن أغنى شعوب الأرض والناس يذلّون عن ضعف ولسنا ضعفاء ويشهد لنا بذلك مخازن أسلحتنا وأننا نحن العرب أكبر مستورد للسلاح في العالم وإن بعض التقارير تقدّر ثمن السلاح الذي استوردته دول الخليج فقط منذ بداية الصراع العربي الإسرائيلي بألف مليار دولار بينما لا يتجاوز ما استوردته إسرائيل خلال المدّة ذاتها ثلاثين مليارا فقط فنحن لسنا فقراء ولسنا ضعفاء ولسنا قلّة ومع ذلك فنحن مهزومون نحن مقهورون ،لقد وضعتنا أمريكا في المكان الذي أرادت أن تضعنا فيه شعوبا بالملايين مختبئة وراء البراميل نتوسّل إليها أن لاتطلق علينا النار ونقول لها مات الولد مات الوطن مات العرب ولكنّها لاتبالي وتطلق علينا النار وينتهي الأمر بنا كماانتهى الأمر بمحمد الدرة وغيره من آلاف الشهداء ،مع الفارق الكبير فهو قد نال الشهادة ونحن مازلنا نتجرّع غصص الهوان والتخاذل والإضطراب .. مشكلتنا نحن المسلمين ليست أننّا إرهابيّين! مشكلتنا أنّنا لم نمارس الإرهاب بالقدر الكافي تجاه أعداء الله ،تجاه أمريكا طاغوت العصر وفرعون العصر التي يقول حالها أنا ربكم الأعلى و هذا هو منطق الطغاة والفراعنة، في جميع العصور، منطق الفراعنة، مبني على القوة المادية التي يملكونها، ولا يملكها غيرهم، مبني على الكبرياء والجبروت، لكن مصيرهم كما قال الله تبارك وتعالى (فلمّا نسوا ماذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) ومصيرهم كما قال الهادي صلى الله عليه وسلم ((إنّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) (وكذلك أخذ ربّك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنّ أخذه أليم شديد) وقد وصف القرآن الكريم لنا نموذجا للفراعنة والطغاة، وهو فرعون مصر الجبار، وجنده ووزراؤه فقد ادعى الألوهية والربوبية، وأنكر أن يكون لقومه إله سواه، كما قال الله تعالى عنه (فكذب وعصى. ثم أدبر يسعى. فحشر فنادى. فقال أنا ربكم الأعلى) وقال عنه: (يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري) ولعل حال أمريكا الذي تمارسه مع العالم يوضح هذا المعنى أوضح بيان في هذا العصر لا، بل إن الله يأمر الناس بالإيمان به، وينهاهم عن الشرك به، ولكن لا يأذن لأحد أن يكره أحدا على الإيمان به: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) ولكن أمريكا تكره الدول في العالم على اتباع سياستها، ومن خرج عن ذلك، أنزلت به أشد العذاب، ومن عادة الطغاة أن يتخذوا كل سبب يؤدي إلى تنازع الناس، ليتمكنوا من السيطرة عليهم، ويستفردوا بظلم من يريدون الاعتداء عليه، فلا يجد من ينصره، كما قال تعالى عن فرعون ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين) وهاهي أمريكا اليوم تفرق بين الشعوب وحكامها وتفرق بين الدول المتجاورة والمتباعدة، من أجل أن تهيمن عليها جميعا، وتستضعف من تشاء منها، تحقيقا لهيمنتها وتثبيتا لظلمها. ففرعون في الماضي كان فرعونا لبلد واحد، هو مصر، أما فرعون هذا العصر أمريكا فهي فرعون الأرض كلها و هي (فرعون العصر) تحاول أن تضرب بسوط ظلمها العالم كله، ولسان حالها يقول، كما قال فرعون مصر: ( أنا ربكم الأعلى(ولا غرابة في حقد اليهود وأهل الكتاب على المسلمين، وإعداد العدة للهجوم عليهم والسيطرة على بلدانهم، لأن الله تعالى قد سجل عليهم ذلك في كتابه، وتاريخهم في الماضي والحاضر شاهد على عداوتهم وعدوانهم على المسلمين، كما قال تعالى (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) ولكن الطامة الكبرى هو مافعله المسلمون أنفسهم حين أعانوا القاتل السفاح على قتلهم .حين امسكوا له بالضحية ليذبحها المجرم بدم بارد بينما ينتظر الآخرون الدورو الخوف من سطوة دولة كبرى لا طاقة لهم بها يمل قلوبهم اقتداء بمن قال الله تعالى عنهم ( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) هذا هو الحال فما واجب المسلمين نحو هذا الغزو الصليبي الذي بدأ ولانعلم متى سينتهي؟ أهم الواجبات أن يحقق المسلمون بينهم أصلين لا يفترقان، وهما:الإيمان والأخوة، كما قال تعالى(إنما المؤمنون إخوة) ويجب عليهم البراءة من أعداء الله الكافرين وقد دلت الآيات القرآنية الكثيرة على وجوب موالاة المؤمنين، ومعاداة أعدائهم الذين يعتدون عليهم، وأن من تولاهم فهو منهم في ظلمهم، كما قال تعالى (ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) ونهى سبحانه المؤمنين أن يوالوا أقرب المقربين إليهم نسبا، عندما يفضلون الكفر بالله على الإيمان به، وأن من تولى أقاربه بالمناصرة لهم أو إظهار محبته لدينهم، فهو منهم، فقال تعالى (ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا ءاباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) وعلى المسلمين اليوم أن يحدّدوا عدوهم ثم ينطلقوا لقتاله مستعينين بالله عزوجل كما قال تعالى: (ياأيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) وقد أشار القرآن الكريم إلى نوعين من أنواع الجهاد في(1/314)
سبيل الله وهما جهاد المجموعات وجهاد الجماعات قال تعالى(ياأيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) إذن هما حالتان الأولى وهي جهاد المجموعات وهي المذكورة بقوله تعالى (فانفروا ثبات) والثانية جهاد الجماعات وهي المذكورة في قوله تعالى ( أو انفروا جميعا) وهذه الحالة الثانية لاتحتاج إلى بيان لأنها معروفة وهي سير الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد ومعه آلاف من الصحابة كما في غزوة بدر وتبوك والخندق وغير ذلك أما جهاد المجموعات أو الثبات كما ورد في القرآن جمع ثبة أي المجموعة من الرجال فمعناها أن يؤلّف المؤمنون جماعة من أنفسهم ثم يشرعوا بقتال العدو على شكل كراديس وخلايا ومجموعات صغيرة لأن هذه قد تكون أنكى في العدو وأكثر تحركا من الجيوش الكبيرة فإذا عجزت الأمة والجماعات عن القتال والجهاد فإنّ الواجب لايسقط عنهم ولكنّه يتحول إلى النوع الثاني من الجهاد وهو جهاد المجموعات أو الثبات وهذا النوع من الجهاد معروف في تاريخ الإسلام فمجموعة محمد بن مسلمة اغتالت كعب بن الأشرف زعيم اليهود ومجموعة عبد الله بن عتيك قتلت سلاّم بن أبي الحقيق زعيم خيبر وعبد الله بن أنيس قتل سفيان بن خالد الهذلي الذي كان يعدّ الجيوش لغزو المدينة ومجموعة محمد بن مسلمة أسرت ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة فعندما ردّ النبي صلى الله عليه وسلم أبابصير الذي جاءه مسلما من عند المشركين بموجب ميثاق الحديبية هرب أبو بصير من المشركين بعد أن قتل واحدا منهم فعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و قال يارسول الله أما أنت فقد وفّت ذمّتك وأنا خلّصت نفسي وامتنعت بديني فقال الرسول صلى الله عليه وسلم((ويل أمّه مسعّر حرب لو كان معه رجال )) وفهم أبو بصير من هذه الإشارة أنه يريد منه أن يشكّل مجموعة تقوم بعمليات جهادية ضد المشركين وكوّن جماعة له واختبؤا في شعاب الجبال يهاجمون قريشا ورجالها وقوافلها حتى اضطّروهم إلى مفاوضة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلغاء البند الذي ينصّ على أنّ من جاء من المشركين مسلما ردّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وعلينا أن نعلم أنّ الابتلاء سنة ماضيةمن سنن الله تعالى يبتلينا ويمحصنا ليتخذ منا شهداء، كما قال تعالى (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) وعلينا الثقة بنصر الله للمجاهدين في سبيله، إذا توكلوا على الله، وأعدوا ما يقدرون عليه، واستعانوا بالصبر والمصابرة، ونصروا دينه، وإن كان عدوهم أشد قوة مادية منهم قال تعالى(قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) ونذكر من يقف في صف اليهود والصليبيين خوفا منهم ونسيانا لله تعالى بأنهم سيندمون، عندما يفتح الله على المجاهدين في سبيله بالنصر المبين (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) وأذكرعلماء الإسلام في أنحاء الأرض أن يبينوا للمسلمين الحق في مناصرة المسلمين للكافرين على إخوانهم المسلمين، فقد كلفهم الله البيان، وأوعد من كتم هذا البيان، أو لبّس الحق بالباطل، بالطرد من رحمته، وبأليم عقابه (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم) ونقول للجميع وبأعلى صوتنا إنّ الإرهاب الذي تدعو أمريكا حلفاءها للتحالف معها ضدّه إنّما هو الإسلام عينه الإسلام السويّ المعتدل لا الإسلام الأصولي المتطرّف وإنّ الحرب لن تنتهي في العراق و لاتستهدف العراق وسلاحه ونفطه وشعبه فقط بل إنّها عملية تطويق للكعبة وتركيع لأمة الإسلام واستهداف لديننا وعقيدتنا وإيماننا ولذلك فإننا نحذّر جميع الأطراف من أن ينخرطوا في هذا العمل الظالم ونصرخ بأعلى مانطيق ونقول لهم إن أيّ تعاون مع أمريكا في هذا الصدد إنما هو قبول بالحرب على الإسلام وهذا مانسمّيه في شريعتنا الكفر والإرتداد. وإن أي ثغرة تفتح لتوجّه منها السهام إلى الأمة أو أيّ قاعدة تسخّر لصالح الأمريكان في ضرب أي بلد مسلم تعتبر خيانة عظمى لهذه الأمة وخروجا سافرا على مبادئها وارتدادا عن دينها وتعويقا لجهود المخلصين من أبنائها فشعوب المسلمين ودينهم ومقدّساتهم وأرضهم ليست مطيّة لأمريكا ولا لحكام الأرض ،
بلي الجديد ، ومسنا القرح *** فمتى تفيق أخي .. متى تصحو؟
وَ لوعتاه ..كم انقضت حقب *** وامتد ليل ما له صبح !!
وبغى وحوش ليس يردعهم *** خلق ، ولا دين ، ولا نصح(1/315)
هناك حقيقة أيها الإخوة ينبغي أن يزداد وعي المسلمين بها وهي أن هذه الدنيا ليست بدار قرار كل الناس تبني آمالها فتعمل وتفكّر من خلال الدنيا و((الدنيا لاتعدل عند الله جناح بعوضة)) كما يقول الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم وكلّكم ترون الأموات وهم يمشون ولا أحد يبقى فيها الدنيا زائفة برّاقة خدّاعة ((الدنيا سجن)) كما ورد في الحديث الصحيح ولذلك ماينبغي لحب الدنيا أن يقف حجر عثرة في طريق الأمة وفي طريق قول كلمة الحق للأسف أصبح همّ الكثيرين إذا جمع الناس لهم وحشدوا الحشود ضدّهم هو الإنبطاح الكامل أمام العدو ولو كان ذلك على حساب دينهم وعقائدهم ومبادئهم وأوطانهم ...! أيّ تفكير هذا أيّ كرامة وأيّ مبدأ وأيّ انحراف عن سبيل المؤمنين الذي خطّه الله تبارك وتعالى في كتابه . ما هو سبيل المؤمنين عندما يجمع لهم الناس الجموع؟ (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل *فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم*إنّما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين )
أيّها القراء: إن النصر للإسلام وإن الرفعة لهذه الأمة وإن التمكين لهذا الدين وهذه الحرب التي تقرع أمريكا اليوم طبولها ستنقلب عليها بإذن الله وستصحو الشعوب من سباتها وستجاهد في سبيل الله مجموعات وجماعات وستشتعل الأرض تحت أقدام الطغاة وستكون هذه الحرب كحركات السائل الناري في باطن الأرض ثم تكون الرجفة ثم تكون الزلزلة ثم يتفجّر البركان ويقذف حممه ثم تتفتّح أبواب جهنّم الدنيا فلا يبقى فيها طاغية إلا ودخلها وصدق تعالى إذ يقول (أما الزبد فيذهب جفاء وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض )
الشيخ محمود نبيه الدالاتي
===============
لقاء ملتقى أهل الحديث مع فضيلة الشيخ المحدّث: عبدالله بن عبدالرحمن السعد
ترجمة موجزة للشيخ ( عبدالله السعد )
أسمه ونشأته: عبدالله بن عبدالرحمن السعد.
بعد المرحلة الابتدائية والمتوسطة التحق بالمعهد العلمي بالرياض التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
ثم التحق بكلية أصول الدين بالرياض، وتخرج منها.
وقد مَنَّ الله (سبحانه وتعالى) على الشيخ عبدالله منذ نعومة أظفاره بالحفظ والضبط وحبه لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فاشتغل بعلم الحديث والأثر وبرّز فيه.
وهو اول من عرف بالدعوة إلى منهج المتقدمين في الحديث في هذا العصر وقد واجه الشيخ كثيرا من المعاناة بسبب ذلك.
والشيخ (بارك الله في عمره) مشهور بجهوده الدعوية فله جولات متعددة في الدعوة والوعظ في مناطق متعددة.
والشيخ له دراية برجال الحديث وله فيهم تفصيل حسن قلما تجده عند غيره ممن يحكم على الرجال بحكم واحد بدون تفصيل.
وله دراية بعلل الحديث ومشكلاته على منهج االأئمة المتقدمين.
وللشيخ حفظه الله مقدمات مفيدة على كتب متعددة من ذلك:
تقديمه لكتاب (( منهج المتقدمين بالتدليس )) للشيخ ناصر الفهد.
وكتاب (( تيسير ذي الجلال والإكرام بشرح نوا قض الإسلام )) للشيخ سعد بن محمد القحطاني.
وكتاب (( الإنابة )) للشيخ حمد بن عبد الله الحميدي.
وكتاب (( طبقات المكثرين من رواية الحديث )) عادل بن عبد الشكور الزرقي.
وكتاب (( شرح كتاب الصيام من العمدة )) لشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرها.
وللشيخ (حفظه الله) ثبت بمروياته عن شيوخه وقد اجاز به جمع من طلاب العلم.
شيوخه:
1) سماحة الشيخ/ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز (رحمه الله تعالى).
2) سماحة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين (رحمه الله تعالى).
3) سماحة الشيخ/ عبدالله بن عبدالرحمن بن جبرين (حفظه الله).
4) سماحة الشيخ/ عبدالله بن عبدالرحمن الغديان (حفظه الله).
5) فضيلة الشيخ/ عبدالله بن عبدالعزيز العقيل (حفظه الله).
6) فضيلة الشيخ/ إسماعيل الأنصاري (رحمه الله تعالى).
7) فضيلة الشيخ/ صالح المنصور (رحمه الله تعالى)، وغيرهم كثير.
دروسه: وقد اشتغل الشيخ عبدالله بتدريس كتب الحديث، وله من الشروح العديد من الأشرطة منها:
-) شرح جامع أبي عيسى الترمذي.
-) شرح سنن أبي داود.
-) شرح سنن النسائي.
-) شرح المنتقى لإبن الجارود.
-) شرح الموقظة للإمام الذهبي.
-) شرح نواقض الإسلام.
-) شرح الأصول الثلاثة.
-) شرح كتاب التوحيد.
وله العديد من الدروس العلمية في الكتب الحديثية ومنها:
-) صحيح الإمام مسلم.
-) وشرح علل الترمذي لابن رجب.
-) وشرح علل الخلال.
-) وشرح بلوغ المرام.
-) وشرح الاقتراح لابن دقيق العيد.
-) وشرح كتاب التمييز للإمام مسلم.
-) شرح كتاب الإلزامات للإمام الدارقطني.
-) وأصول دراسة الأسانيد.
وللشيخ عبدالله طلبة متعددون في مختلف مناطق المملكة ولله الحمد والمنة .
مقدّمة الأجوبة لفضيلة الشيخ: عبدالله السعد (حفظه الله)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فأشكر الإخوان في ملتقى أهل الحديث على النشاط الذي يقومون به من الدعوة إلى السنة وإلى نشر العلم بين الناس، وبحمد الله يبلغني عنهم ما يسر الخاطر و يشرح النفس، والله أسأل أن يزيدهم من فضله وأن يعينهم على ما يقومون به، وأذكّرهم ونفسي أولاً بالاهتمام بالسنة على وجه العموم وبالذات أعني السنة التي يقصدها أو التي قصدها أهل العلم بقولهم: إن فلاناً من أهل السنة أو الكتب ألّفت في السنة مثل: كتاب السنة لعبدالله بن الإمام أحمد أو مثل كتاب السنة لابن أبي عاصم أو شرح السنة للبغوي وأمثال هذه الكتب التي ألفت في السنة.(1/316)
والمقصود بالسنة هنا: بيان الإيمان وبيان العقيدة السليمة وبيان التوحيد الذي جاء في كتاب الله و جاء في سنة رسوله (صلى الله عليه وسلّم)، فلا شك أنه يجب على كل مسلم أن يهتم بهذا الأمر غاية الاهتمام وأن يدعو الناس إلى ذلك وأن لا ينشغل بما هو دونه؛ ينشغل به عن هذا الأمر العظيم، فلا يخفى أن التوحيد وأمور العقيدة هي أساس الدين: ما يتعلق بالشهادتين: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله هو أساس الدين، والذي كل ما أوجبه الله (جل وعلا) علينا إنما يرجع إليه، ولذلك ربنا (جل وعلا) يقول لرسوله الكريم (عليه الصلاة والسلام): "فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك"، فأمره (جل وعلا) بأن يعلم بأنه لا معبود بحق إلا الله، وأن يستغفر لذنبه. مع أنه (عليه الصلاة والسلام) هو المبعوث بالتوحيد وهو الذي دعا الناس إلى شهادة ألا إله إلا الله، ولكن ربنا (جل وعلا) مع ذلك كله يذكره بهذا الأمر العظيم وبهذا الركن الركين والأساس الكبير الذي ينبني عليه كل ما طالب (عز وجل) به عباده، وما أمرهم به (سبحانه وتعالى) من أصول الدين وفروعه فكلها ترجع إلى هذا الأمر. ولذلك ربنا (جل وعلا) أيضاً قال لرسوله (عليه الصلاة والسلام) -وهذا أيضاً خطاب لجميع أمته من بعده- قال لهم (جل وعلا)أو قال لرسوله (صلى الله عليه وسلّم): "قل هو الله أحد"، أي: يا محمد! وحّد ربك؛ قل هو أن الله (عز وجل) واحد، واحد في ربوبيته وألوهيته وفي أسمائه وصفاته (سبحانه وتعالى)، قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. كما أنه قال له (جل وعلا): "قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد" إلى آخر السورة، دعاه إلى أن يظهر دينه ويظهر عقيدته ويظهر ما أنزله الله (جل وعلا) عليه وأن يتبرأ من الكفار والمشركين وأنه لا يعبد ما يعبده الكفار والمشركين. نعم ... كما أنه قال (جل وعلا) له: "قل الله أعبد مخلصاً له ديني". إلى غير ذلك من النصوص التي فيها الأمر بهذا الركن العظيم والأساس الكبير الذي كل ما شرعه الله (جل وعلا) إنما يرجع إليه ويعود إليه، والذي لا يستقيم للإنسان قول ولا عمل ولا فعل إلا باستقامة هذا الأمر. ولذلك ربنا (عز وجل) يقول: "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا"، وقال (جل وعلا): "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً"، هؤلاء عملوا و لكن مع ذلك ربنا (عز وجل) جعل عملهم هباءً منثوراً، لأن هذا العمل لم يكن مبنياً على عقيدة مستقيمة ولا على توحيد صحيح فلذلك أصبحت أعمالهم هباءً منثورا، عافانا الله وإياكم من ذلك.
فأدعو نفسي وأدعو الإخوان في (ملتقى أهل الحديث) وأدعو كل مسلم إلى أن يهتم بهذا الأمر وبهذا الأساس، وأن يبذل غاية وسعه في تفهم هذه القضية وهذا الأمر العظيم الكبير الذي لا يستقيم الدين إلا به.
الأجوبة على أسئلة الملتقى
س1: أيهما أولى بالحفظ مختصر صحيح مسلم أو بلوغ المرام؟
الجواب: أقول: لا شك أن حفظ النصوص الشرعية؛ لا شك أن هذا أمر مطلوب وشيء مرغب فيه، وأول ذلك هو ما يتعلق بكتاب الله (جل وعلا)، ثم بعد ذلك هو ما يتعلق بسنة رسوله (صلى الله عليه وسلّم).
وفيما يتعلق بالسنة هناك طريقان أو منهجان:
1) المنهج الأول: هو أنّ الإنسان يبدأ بالتدريج، يبدأ أولاً بالأربعين النووية مثلاً، ثم بعد ذلك بعمدة الأحكام، ثم بعد ذلك مثلاً ببلوغ المرام، وهكذا.
2) أو يبدأ بمختصر مسلم، ثم يضيف إليه زوائد البخاري على مسلم، وهكذا.
والمنهج الأول هو أولى وأحسن: وذلك أنه ينبغي له أن يبدأ بالأربعين النووية ثم يتفقه بها، ولا يذهب إلي حفظ غيرها قبل أن يتفقه في هذه النصوص التي حفظها، ولذلك كان هكذا منهج الصحابة (رضي الله عنهم): كانوا إذا حفظوا خمس آيات من القرآن الكريم علموا ما فيها من العلم وعملوا بما دلت عليه من العمل، ثم بعد ذلك تجاوزوها إلى غيرها.
هذا هو المنهج السليم: أن الإنسان يبدأ بالأربعين النووية ويتفقه فيها ويعرف ما دلت عليه من الأحكام، ثم بعد ذلك عمدة الأحكام ويتفقه أيضاً بما دلت عليه من أحكام، وبعد ذلك بلوغ المرام، وهكذا. هذه الطريق أولى وهذه السبيل أقوم.
ويلاحظ على بعض الإخوان أنهم يحفظون ويحفظون ولا يهتمون بالتفقه فيما حفظوا، ولا شك أن المقصود من الحفظ هو الفهم. ومعرفة ما دلت عليه هذه النصوص، فهذا هو المقصود الأعظم. وأما كون الإنسان يحفظ ويحفظ ولا يفهم: فلا شك أن هذا الطريق وهذا المسلك فيه تقصير وفيه نقص.
فلا شك أن الأولى والذي ينبغي هو الحفظ وبعد ذلك التفقه والفهم -فهم ما حفظ-، ثم بعد ذلك يحفظ ما بعده، وهكذا.
فكما ذكرت في جواب هذا السؤال: أنه يبدأ بالأربعين أحسن، ويبدأ بعد ذلك بعمدة الأحكام، وبلوغ المرام، أو المحرر (مثلاً).
ثم إذا أراد أن يستزيد فليحفظ مختصر مسلم ثم بعد ذلك زوائد البخاري، أو يبدأ بالبخاري ثم زوائد مسلم. ويكتفي بذلك! لأني لاحظت أو سمعت أن بعض الإخوان أيضاً يحفظ أكثر وأكبر من هذا المقدار، ولا شك أن هذا طيب ولكن لا يخفى ضعف الحفظ وضعف الهمم، ومثل هذا عندما يكون ديدنه الحفظ، هذا سوف يجعله يقصر في جانب الفهم ومعرفة مادلت عليه هذه النصوص.
ومما ذُكر عن عبدالله بن عمر (وهذا جاء معلقاً) أنّ عبدالله بن عمر (رضي الله عنه) جلس في حفظ سورة البقرة ثمان سنين أو سبع سنوات.
فأوصي الإخوان أنهم لا يكثرون من الحفظ بدون فهم يهتمون بالفهم ثم بعد ذلك يحفظون شيئاً آخر، وهكذا.
س2: كيف نجمع بين حديث البراء (رضي الله عنه) في خروج روح المؤمن بسهولة وفيه "تخرج نفسه تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء"، وحديث: "إن للموت لسكرات"؟(1/317)
الجواب: لا شك أن النصوص الشرعية لا تختلف لأنها من لدن حكيم عليم خبير (سبحانه وتعالى)، ولكن أحياناً الإنسان قد يستشكل الجمع بين هذا النص ونصٍ آخر لأنه يظن أن هناك اختلافاً ما بين هذا النص والنص الآخر. وهذا طبعاً راجع إلى ذات هذا الشخص؛ لم يتبين له وجه الجمع ما بين هذه النصوص. وقد أثر عن الإمام أبي بكر ابن خزيمة (رحمه الله تعالى) أنه قال: "لا يأتيني أحد بنص أو يأتيني بنصين متعارضين (طبعاً متعارضين فيما يرى هذا الشخص) إلا وأجمع بينهما". فلا شك أن النصوص متفقة وليست بمختلفة.
وفيما يتعلق بهذا السؤال الذي جاء السؤال عنه، فلا شك أن للموت سكرات وقد حصل هذا للرسول (صلى الله عليه وسلّم)، فإذاً ما بالك بغيره، فلا شك أن الموت يحصل قبل أن تقبض روح المؤمن، يحصل له سكرات قبل أن تقبض روحه، وهذا لا ينافي ما جاء في حديث البراء بن عازب. وحديث البراء بن عازب طبعاً قد صححه جمع من أهل العلم، وممن صحح هذا الحديث: أبو نعيم صاحب الحلية وغيرهم من أهل العلم. فهذا لا ينافي ما جاء في حديث البراء بن عازب أن روح المؤمن تخرج مثل ما تخرج القطرة من في السقاء، فهذا (والله أعلم) عند قبض الروح قبل أن تكون السكرات التي تكون قبل قبض الروح، هذا الذي يظهر لي ويبدو، والله أعلم.
س3: حديث المرأة التي نذرت أن تضرب على رأس الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالدف وإقرار الرسول (صلى الله عليه وسلم) لها، هل يدل على جواز سماع الرجال للدف؟
الجواب: من المعلوم أن آلات المعازف محرمة ولا تجوز، وقد جاء في صحيح البخاري من حديث أبي مالك الأشعري (رضي الله عنه) أن الرسول (صلى الله عليه وسلّم) قال: "ليستحل طائفة من أمتي الحرير الخمر والحر و المعازف"، أو كما قال (صلى الله عليه وسلم). فالمعازف جمع معزفة وهي حرام كما جاء في هذا الحديث، وأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أخبر أن طائفة من أمته سوف تستحل هذه المعازف، وهذا يدل على حرمتها وأنها لا تجوز.
وقد رخص الشارع للنساء فقط لإستعمال المعازف في حالات ثلاث:
1) الحالة الأولى، حالة العرس.
2) الحالة الثانية، في العيد، كما جاء في حديث عائشة المتفق على صحته.
3) الحالة الثالثة، عند قدوم غائب، كما جاء في هذا الحديث الذي رواه أبو داود وغيره وهو حديث صحيح، ولو كان الضرب بالدف لا يجوز لما رخص الرسول (صلى الله عليه وسلم) لهذه المرأة، لأنه لا يجوز الوفاء بالنذر المحرم أو بالنذر في شيء حرام، فدل على ترخيص الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالوفاء في هذا النذر؛ وقال لهذه المرأة: "أوفي بنذرك" دلّ هذا على أن هذا الشيء يجوز، وأنّ هذا فعل بحضرة الرسول (صلى الله عليه وسلّم) وأن هذا الشيء لا بأس به، لدلالة الحديث الصحيح عليه.
س4: قوله تعالى: "فاقتلوا المشركين حيث وجتموهم"، وحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله .. الحديث"، هل هذه النصوص ناسخة لقوله تعالى: "لا إكراه في الدين"؟ البعض يستدل بالآية والحديث على أن الإسلام انتشر بالسيف: فكيف نرد عليهم؟
الجواب: لا شك أن الله (عز وجل) قد أمرنا بجهاد الكفار والمشركين وأنه إمّا أن يسلموا -وهذا هو المطلوب والمقصود-؛ وإما أن يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون فيدخلوا تحت حكم المسلمين، كما قال (عز وجل): "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر"، وإمّا أن يمتنعوا من دفع الجزية: فهنا الواجب قتالهم كما جاء هذا في حديث بريدة بن الحصين الذي خرجه الإمام مسلم أن الرسول (صلى الله عليه وسلم): كان إذا أرسل سرية كان يوصيهم بتقوى الله ويقول: اغزوا في سبيل الله، و قاتلوا من كفر بالله .. إلى آخر الحديث، أو كما قال (صلى الله عليه وسلم).
فهذا هو الواجب، ففي قوله تعالى: "لا إكراه في الدين" المقصود بذلك: أن الإنسان لا يكره على أن يترك دينه ويدخل في دين الإسلام إلا باقتناع، لكن يكره في جريان أحكام الإسلام عليه ويلزم بذلك. إما أن يسلم كما تقدم في حديث بريدة وهذا هو المقصود؛ وإما أن يدفع الجزية فتجري عليه أحكام الإسلام ويكون خاضعاً لحكم المسلمين.
فإذا أبى فلا شك أنه يجب قتاله إذا كان المسلمون قادرون، فهنا يجب عليهم أن يقاتلوا من أبى أن يسلم أو أبى أن يدخل تحت حكم المسلمين فتجري عليه أحكام أهل الإسلام، فهنا الواجب قتاله في هذه الحالة.
فيكون "لا إكراه في الدين" أي: لا يكره على الدخول في دين الإسلام إلا باقتناع منه، ولكنه يكره أن تجري عليه أحكام الإسلام يكره على هذا إكراهاً وإلا فإنه يقاتل وهذا من الإكراه.
س5: ما رأيكم بمن يقول أن مستدرك الحاكم لم ينفرد بإخراج حديث صحيح؟
الجواب: ما أدري ماذا يقصد هذا الأخ السائل في قوله: إن مستدرك الحاكم لم ينفرد بحديث صحيح.
إذا كان يقصد أنه لا يوجد حديث تفرد به الحاكم عن باقي كتب الحديث ويكون صحيحاً بل يكون ضعيف؛ فإذا كان يقصد هذا الشيء فأقو ل: هذا هو الغالب لكن ليس هو الدائم، وإنما هذا هو الغالب.
س6: ما رأيكم بالإكثار من دراسة علم المصطلح وقراءة المطولات فيه؟
الجواب: فيما يتعلق بدراسة علم المصطلح والإكثار من ذلك وقراءة المطولات. لاشك أن علم المصطلح من العلوم المهمة، لكن كما تقدم أن علم المصطلح هو في الحقيقة وسيلة لا غاية: وسيلة إلى معرفة الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، فيعمل بالصحيح ويترك الحديث الضعيف، فلا يكون الاهتمام بهذا الشيء أكثر من الاهتمام بإمور التوحيد وقضايا العقيدة ومعرفة ما يتعلق بإقامة الصلاة وكيفية صلاة الرسول (صلى الله عليه وسلّم) وفيما يتعلق بأحكام الطهارة، يعني فيما يتعلق بالعلم الواجب على الإنسان، لاشك أن العلم الواجب هذا مقدم.(1/318)
فكما أشرت في بداية الكلمة أن بعض الإخوان قد يلاحظ عليه أنه يهتم بقضايا المصطلح على حساب قضايا التوحيد والعقيدة أو على حسان التفقه في ما يجب عليه أن يؤديه فيما يتعلق بصلاة وفيما يتعلق بصيام وفيما يتعلق بطهارة أوفيما يتعلق بحج. فلا شك أن التفقه في هذه القضايا وهذه المسائل لا شك أنه هو الذي ينبغي أن يقدم كما قدمه الشارع.
وفيما يتعلق بقراءة المطولات في كتب المصطلح: لاشك أن كتب المصطلح في الغالب أنها مفيدة وأن كل كتاب قد يتميز عن غيره بشيء آخر لا يوجد في الكتاب الثاني، وهكذا. لكن غالباً أن كثيراً من هذه الكتب أو أن بعض هذه الكتب يغني بعضها عن البعض الآخر، فلو أقتصر الإنسان على بعض الكتب منها فهذا قد يغنيه عن كثير من الكتب التي ألفت في المصطلح. فمن هذه الكتب المهمة عندنا: كتاب معرفة علوم الحديث للحاكم، وكتاب الكفاية للخطيب البغدادي، وكتاب شرح العلل لابن رجب، وكتاب الموقظة للذهبي، وكتاب نخبة الفكر. فمثل هذه الكتب تغني عن كثير من الكتب التي ألفت في المصطلح ولو أن الشخص أيضاً أطلع على غيرها من الكتب لاشك أن هذا شيء حسن وطيب.
لكن الشيء المهم هو ينبغي له أن يتتبع كلام الأئمة المتقدمين وكلام الحفاظ السابقين من كتب العلل والجرح والتعديل وكتب التخريج وما شابه ذلك. فيتتبع كلام هؤلاء الحفاظ حتى يفهم هذا العلم ويتمكن في هذا الفن ويدخل طبعاً في هذا مقدمة الإمام مسلم في صحيحه وأيضاً العلل الصغير للترمذي ورسالة أبي داود إلى أهل مكة وأمثال هذه الرسائل التي كتبها الأئمة المتقدمون. فأقول ينبغي له أن يحرص على مثل هذه الكتب.
س7: ما رأيكم بدراسة المطولات من علم الأصول؟
الجواب: لاشك أن علم الأصول أيضاً علم مهم وعلم مفيد، لكن ينبغي له أن ينتبه أن الذين ألفوا في الأصول ينقسمون إلى قسمين أو الكتب المؤلفة في الأصول أنها تنقسم إلى قسمين:
1) كتب ألفها السلف أو من سار على طريقة السلف، ككتاب الرسالة للإمام الشافعي ومن سار على منهجه وطريقته ككتاب الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي، وكذلك أيضاً المدخل للبيهقي، ومقدمة كتابه دلائل النبوة، وكذلك أيضاً مقدمته في كتاب المعرفة له، وأيضاً كذلك كتاب جامع بيان العلم وفضله لأبي عمر بن عبدالبر فأيضاً في هذه الكتب أو في هذا الكتاب في الحقيقة فيه أيضاً كلام فيما يتعلق بعلم الأصول. وكذالك غيره من كلام متناثر للأئمة السابقين وقواعد وأشياء يذكرونها تتعلق بعلم أصول الفقه.
2) القسم الثاني من الكتب التي ألقت في علم الأصول: الكتب التي ألفها أناس ليسوا على مذهب أهل السنة والجماعة، ومن المعلوم أن كثيراً من المعتزلة أو الأشاعرة وأمثالهم ألفوا في علم الأصول فهذه الكتب فيها أشياء لا تنبغي، وفيها أخطاء، وبعض هذه الكتب تقلل عند المسلم من هيبة النصوص الشرعية، ومن اتباع هذه النصوص. وحتى أن في بعض هذه الكتب يقولون أن الشخص لا يحق له أن يعمل بآية أو بحديث حتى تنتفي عنها الاحتمالات العشرة، ويقصدون بذلك: أن هذا النص قد يكون منسوخ وهناك ما ينسخه، إذاً عليه أن يبحث عن الناسخ وأيضاً يقولون قد يكون هذا النص مجمل وهناك ما يفسره، أو يقولون إن هذا النص مطلق وهناك ما يقيده أو إن هذا النص عام وهناك ما يخصصه، وهكذا. فبالتالي قد يصدون الشخص عن العمل بما دلت عليه النصوص الشرعية، فبعض هذه الكتب تقلل من هيبة النص الشرعي في قلب المسلم. فهذه الكتب ينبغي الانتباه إليها وعدم الإكثار من القراءة فيها لما تقدم ذكره. ثم أيضاً كثير من المباحث أو قد توجد مباحث في هذه الكتب لا فائدة منها مباحث كلامية مباحث نظرية وليست بعملية فتكون الفائدة منها قليلة، بالإضافة إلى أن هذه الكتب فيها أيضاً ما يخالف العقيدة الصحيحة. فلذلك لا ينبغي الإكثار من القراءة في هذه الكتب، بل كما تقدم الكتب السابقة ينبغي الاستفادة منها.
ثم أن هناك أمر مهم جداً وهو عندنا ما يسمى بعلم القواعد الفقهيه، وهذا العلم أي علم القواعد الفقهيه علم مهم جداً، وفائدته كبيرة بحيث يجمع كثير من المسائل الجزئية تحت قاعدة تعم هذه المسائل تحت قاعدة كلية تندرج فيها كثير من المسائل الجزئية، فعلم القواعد الفقهيه هذا علم مهم وعلم مفيد، فينبغي الإكثار من القراءة في هذه الكتيب التي تتحدث عن القواعد الفقهية.
ثم أيضاً فيه قضية مهمة وهي: ينبغي للشخص عندما يقرأ في كلام الأئمة أن ينتبه إلى كيفية استنباطهم للأحكام من الأدلة وكيفية (مثلاً) جمعهم ما بين النصوص عندما يظن أنه وقع فيها اختلاف للناظر. فأقول أنه ينبغي عندما الإنسان يقرأ (مثلاً) للإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم (مثلاً) ينبغي له أن ينتبه كيف يستنبطون الأحكام من النصوص الشرعية وكيف يرجحون ويوازنون ما بين الأدلة. فينبغي الانتباه إلى هذه القضية، يعني يوجد كثير من الناس عندما يقرأ (مثلاً) يكون قصده هو معرفة قول هذا العالم هل هو يرجح هذا القول أو يرجح القول الثاني، وهكذا. هذا لاشك أنه مطلوب، ولكن هناك أمر مهم جداً وهو: كيف استنبط هذا العالم هذه الفائدة وكيف أخذها من هذا النص الشرعي.
والمقصود من علم الأصول هو أن يتوصل الإنسان إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة، هذا هو المقصود من علم أصول الفقه، فأقول عندما الإنسان يقرأ لأهل العلم ولكبار أهل العلم ينبغي له أن ينتبه كيف استنبطوا هذه الفوائد وهذه الأحكام، وكيف تعاملوا مع هذه النصوص، وكيف يتعاملون عندما يحصل في مسألة من المسائل خلاف، وكيف يرجحون، وكيف يستدلون فينبغي الانتباه إلى كل هذا فإن هذا مفيد جداً.
س8: ما صحة لفظة "يوم الجمعة" في حديث قراءة سورة الكهف؟(1/319)
الجواب: جاء حديث أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) في استحباب قراءة سورة الكهف. وحديث أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) وقع فيه اختلاف في أمرين:
1) في رفعه ووقفه، والراجح هو الوقف، لكن مثل هذا ما يقال بالرأي فيكون له حكم الرفع.
2) أنه وقع اختلاف ما بين هشيم وما بين سفيان الثوري وشعبة، ففي رواية هشيم عن حصين تقييد قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة هذا في رواية هشيم عن حصين، وأما رواية شعبة والثوري: فلم يقيدا قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة وإنما: من قرأ سورة الكهف أضاء له نور ما بين الجمعتين، أو كما جاء في الحديث بدون أن يقيد ذلك بيوم الجمعة، ورواية شعبة والثوري أرجح والله أعلم. وذلك لأنهما من كبار الحفاظ، ولاجتماعهما على هذه اللفظة مع أن هشيم من أثبت الناس في حصين هشيم بن بشير، لا شك أنه حافظ ومن كبار الحفاظ وأثبت الناس في حصين بن عبدالرحمن السلمي، ولكن اجتماع شعبة والثوري مع جلالة قدرهما ومكانتهما في العلم والحفظ والإتقان: فروايتهم أرجح.
لكن لو أن الإنسان قرأ سورة الكهف يوم الجمعة يكون عمل بكلا الروايتين برواية هشيم ورواية شعبة والثوري لأنه إن كانت رواية شعبة والثوري هي الأرجح فيكون أيضاً عمل باللفظ الذي رواه شعبة والثوري لأن رواية شعبة والثوري كما تقدم بدون أن يقيد هذا بيوم. فمن قرأ سورة الكهف ينطبق عليه الفضل الذي جاء في الحديث. وإن كانت رواية هشيم هي الراجحة يكون أيضاً قد عمل برواية هشيم فقرأها في يوم الجمعة.
س9: ما القول الراجح في ابن لهيعة؟
الجواب: عبدالله بن لهيعة الحضرمي المصري من كبار أهل العلم في بلاد مصر في زمانه، وكان قاضي مصر (رحمه الله)، وكان مكثراً جداً من الحديث والرواية، فهو من أهل العلم والفضل، ولكنه رحمه الله لم يكن بالمتقن ولم يكن أيضاً بالحافظ (رحمه الله)، وخاصةً في حديثه المتأخر، فلذلك وقعت أحاديث منكرة في حديثه ووقع في أوهام في روايته، وهذا مرجعه إلى أشياء منها:
1) عدم إتقانه وحفظه.
2) أنه ما كان يحدث من كتابه، هو حدث قديماً فيما سبق من حياته حدث من كتابه ثم بعد ذلك لم يحدث من كتابه، وإنما يقرأ من كتب الناس أو يأتي إليه أناس ويقولون هذا من حديثك فيقرؤون عليه، ثم بعد ذلك يروون هذه الأحاديث، فلا شك أن مثل هذا أوقعه في أوهام وأخطاء.
3) تدليسه: فكان يدلس، وأحياناً كان يسقط راويين، فهذا أيضاً من الأسباب التي أدت إلى أن يقع في حديثه ما وقع من المنكرات والأخطاء.
والخلاصة في حديثه رحمه الله أنه على ثلاثة أقسام:
1) القسم الأول: وهو أصح حديثه وهو ما حدث به قديماً، وممن سمع منه قديماً عبدالله بن وهب، والدليل على هذا هو حديث، أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: "لو أن القرآن كان في إيهاب لما احترق". هذا الحديث حدث به ابن لهيعة. قال ابن وهب: لم يكن ابن لهيعة يرفع الحديث من قبل، يعني ثم بعد ذلك رفعه. ورفع هذا الحديث منكر فعبدالله ابن وهب سمع هذا الحديث من ابن لهيعة قديماً ولم يكن يرفعه، ثم سمعه منه عبدالله بن يزيد المقرئ. وعبدالله بن يزيد المقرئ أيضاً ممن روى عنه قديماً ولكن ابن وهب أقدم من عبدالله بن يزيد المقرئ وأكثر ملازمة لعبدالله بن لهيعة، ولذلك بيّن عبدالله بن وهب أن هذا الحديث ما كان ابن لهيعة يرفعه من قبل، يعني ثم بعد ذلك رفعه، فسمعه منه عبدالله بن يزيد المقرئ فرفع هذا الحديث منكر. وهذا القسم لا يحتج به. وسوف يأتي بإذن الله لماذا لا يحتج به.
2) القسم الثاني من حديث عبدالله بن لهيعه: هو ما حدث به قديماً، وما رواه قبل أن تحترق كتبه. ومن سمع منه من كتابه، فهذا القسم الثاني هو يلي القسم الأول وأقوى من القسم الذي سوف يذكر وهو القسم الثالث. والسبب في هذا القسم هو أن ابن لهيعة (رحمه الله) احترقت كتبه، فزاد ضعفه بعد احتراق هذه الكتب.
وبالمناسبة فقد أختلف هل احترقت كتبه أم لم تحترق: فهناك من نفى أن تكون كتبه قد احترقت. ووجه الجمع (والله أعلم) أن كثيراً من كتبه قد احترقت أو جزء من كتبه قد احترق وبعضها لم يحترق. وهناك ما يدل على ذلك، جاء ما يدل على أن بعض كتبه بقيت، وحتى سمع من ابن لهيعة من كتبه من سمع منه أخيراً، فجزء من كتبه قد احترق.
فهذا الذي حصل زاده ضعفاً، وأيضاً كما ذكرت فيما سبق أن ابن لهيعة كما ذكر في ترجمته من قبل بعض أصحابه أنه حدث من كتبه قديماً ثم بعد ذلك ما أخرج كتبه إلا من يأتي إليه ويسأله أو يقف على بعض كتبه فيسمع منه من كتابه وإلا فيما بعد أخذ يكثر من الحديث من حفظه فلذلك ازداد ضعفاً على الضعف الموجود فيه. فلذلك يقال أن من سمع منه قديماً ومن روى عنه قبل أن يتغيرقبل أن تحترق كتبه ومن سمع منه من كتابه أو من كتب عمن كتب عنه مثل قتيبة بن سعيد. قتيبة بن سعيد كتب عمّن كتب عنه ولذلك أثنى الإمام أحمد على رواية قتيبة بن سعيد.
3) القسم الثالث، من سمع منه أخيراً بعد احتراق كتبه وسمع منه من حفظه.
فهذه أقسام حديث ابن لهيعة.
طبعاً كل هذه الأقسام لا يحتج بها. لماذا؟ لأن جل الحفاظ، أكثر الحفاظ على تضعيف عبدالله بن لهيعة مطلقاً، كما قال يحيى بن معين: "كان ضعيفاً قبل الاختلاط وبعده". فجلّ الحفاظ على تضعيف حديثه مطلقاً بدون تفصيل، ولذلك قال أبو الحسن الدرقطني: "يعتبر برواية العبادلة عنه"، ما قال: "تُصحح"، وإنما قال: "يُعتبر" يعني لأنهم سمعوا منه قبل أن تحترق كتبه.(1/320)
ثم أمر آخر: وهو أن لابن لهيعة أحاديث منكرة حتى من رواية العبادلة ومنهم عبدالله بن وهب، والدليل على هذا هو عندما تقرأ في كتاب العلل لابن أبي حاتم تجد أحاديث عديدة أنكرها أبو حاتم الرازي على عبدالله بن لهيعة، وهي من رواية ابن وهب. فلعبدالله بن لهيعة أحاديث منكرة حتى من رواية من سمعوا منه قديماً. فعندما تقرأ في كتب العلل وغيرهم من كتب أهل العلم تجد أحاديث كثيرة أنكرت على ابن لهيعة مع أنه من رواية القدماء عنه.
وأما من قوى ابن لهيعة من رواية العبادلة فالجواب عن ذلك أولاً بما تقدم، والأمر الثاني: أن الذين نقل عنهم تقوية حديث العبادلة عنه هم الحافظ عبدالغني المصري والساجي وهما لا شك أنهما من كبار الحفظ لكنهما ليسا مثل يحي بن معين أو مثل الإمام أحمدو مثل أبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم من كبار الحفاظ. فلا شك أن مثل هؤلاء يقدمون على الساجي وعلى الحافظ عبدالغني المصري.
ثم قد يكون قصد الحافظ عبدالغني المصري أن ما رواه عنه العبادلة هو صحيح؛ يقصد (والله أعلم): أن رواية العبادلة من حديث ابن لهيعة. لأن هناك من روى عن ابن لهيعة أحاديث ليست من حديثة وذلك كما ذكرت: يأتي إليه أناس يقرؤون عليه أحاديث وهو يسكت ثم بعد ذلك يروونها عنه وتكون هذه الأحاديث ليست من حديثه. فلعل قصد الحافظ عبدالغني الغني المصري والساجي كذلك: أنهم يقصدون أن رواية العبادلة هي من حديث ابن لهيعة نفسه وليست من غير حديث ابن لهيعة.
وكما ذكرت فإن لعبدالله بن لهيعة أحاديث منكرة حتى ممن سمع منه قديماً وهذه الأحاديث المنكرة كثيرة في الحقيقة وليست بالقليلة. فالراجح أنه لا يحتج به وكما قال الدارقطني أنه يعتبر برواية العبادلة عنه.
والخلاصة أن رواية ابن وهب في الأصل أنها أقوى ممن روى عنه من غيره أو ممن روى عنه غيره لما ذكرت قبل قليل، ثم بعد ذلك من سمع منه قديماً غير عبدالله بن وهب، ثم بعد ذلك أضعف حديثه من سمع منه أخيراً إلا ما استثني ممن كتب عنه (مثلاً) ممن كتب من كتب ابن لهيعة ذاتها كما ذكرت مثل قتيبة بن سعيد أو محمد بن رمح، فأيضاً هذا مما استثني، أو مثل نظر بن عبدالجبار أيضاً، هذا ممن أستثني. وأثني على روايته كما أثنى عليها حماد بن صالح المصري.
نعم الخلاصة أن حديث ابن لهيعة لا يكتب ولا يحتج به لكن رواية القدماء عنه أقوى.
س10: ما المنهج الصحيح في تقوية الطرق الضعيفة؟
الجواب: طبعاً لا يخفى أنّ الأحاديث على قسمين: أحاديث ثابتة بذاتها، وإمّا أحاديث ثابتة بمجموع طرقها. والسؤال هو عن هذا القسم الثاني. فهناك أحاديث إنما تثبت بمجموع الطرق وليس في كل طريق لذاته.
وأحب أن أنبه قبل أن أكمل الجواب بإذن الله أن هناك من يعزو للمتقدمين بأنهم لا يرون تقوية الطرق بالشواهد والمتابعات، وهذا غير صحيح: هناك من يرى أن لا يتقوى الحديث بالشواهد وهذا ليس من مذهب المتقدمين. نعم هذا من منهج أبي محمد بن حزم (رحمه الله) فهو يرى أن الخبر إذا كانت جميع طرقه ضعيفة أنها لا تتقوى وأن هذا الخبر لا يثبت مهما بلغت هذه الطرق إذا كان كل طريق لوحده ضعيف وهناك ممن يسير على هذا المنهج. وأما المنهج الصحيح فهو أن الأسانيد إذا تعددت والطرق تكاثرت فهنا يقوى الخبر: لكن هذا بشروط، وقبل أن أذكر الشروط أقول: ومما يدل على أن الأئمة المتقدمين يرون ذلك أنهم يقولون: يكتب حديث فلان للاعتبار، ويكتب في الشواهد، وكما قال الدارقطني: أن رواية العبادلة يعتبر بها، وكما قال أبو عيسى الترمذي في كتاب العلل الصغير في معنى الحسن عنده أو مقصوده بالحسن: "هو أن يروى من غير وجه ويكون في إسناده كذاب وأن لا يكون شاذاً". وقد تكلم الإمام الشافعي متى يتقوى المرسل تكلم على ذلك في كتابه الرسالة. فإذاً: الأئمة المتقدمون يرون ذلك.
ولكن فرق بين منهج الأئمة المتقدمين وبين منهج من تأخر في ذلك أن: الأئمة المتقدمون ما كانوا يتوسعون في ذلك بخلاف المتأخرين أو كثير من المتأخرين، وهذا الذي أقصده، لا أقصد كل المتأخرين، وإنما أقصد كثير منهم، أو جمع كبير منهم، أنهم توسعوا في تقوية الحديث الضعيف بمجموع طرقه حتى وصل بهم إلا أنهم يقوون الأحاديث المنكرة والباطلة والأحاديث البينة الضعف.
ومن ذلك (مثلاً) أنّ الرسول (صلى الله عليه وسلّم) كان يخلل لحيته، وهذا الحديث ضعيف ولا يصح من جميع طرقه، ولذلك جاء عن الإمام أحمد وجاء كذلك عن أبي حاتم الرازي أن هذا الخبر لا يصح. و(مثلاً) حديث التسمية عند الوضوء "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" أيضاً هذا الحديث له طرق كثيرة ولا يصح منها شيء ضعفه أيضاً الإمام أحمد وأيضاً أبو بكر بن المنذر، وأيضاً هذا ظاهر كلام ابن حبان وقبله البخاري والترمذي بينما تجد أن هذه الأحاديث قد قواها وصححها أو حسنها جمع ممن تأخر من أهل العلم. فالفرق بين منهج الأئمة المتقدمين وبين من تأخر أنهم لا يتوسعون في تقوية الأخبار الضعيفة بل لهم شروط.
ومن هذه الشروط:
1) أن يكون هذا الضعف يسيراً لا يكون هذا الضعف شديداً، وأيضاً هذا يقوله من تأخر ولكن عند التطبيق قد لا يلتزمون بهذا الشرط، فلا بد أن يكون هذا الضعف ليس بالشديد، أن يكون (مثلاً) فيه راوٍ معروف بالحفظ ثم اختلط، فإن جاء ما يشهد له وهنا يتقوى وهذا يدل على أنه قد حفظ هنا أو تسيء الحفظ ولا يكون سيئ الحفظ جداً، فلا بد أن لا يكون هذا الضعف شديداً، أو يكون مرسل لكبار التابعين وجاء من طرق أخرى مراسيل مثله أو أسانيد موصولة فيها ضعف فهنا يتقوى، وهكذا.(1/321)
2) فيما يتعلق بالمتن فلا بد أن يكون المتن الذي يشهد لهذا مثله أو يوافقه في أكثر ألفاظه، لأنه لوحظ أن هناك من يقوي الأخبار بطريقة وهي أنه يأتي بالحديث الضعيف ويقول(مثلاً) أن هذه الكلمة من هذا الحديث أو هذه الجملة يشهد لها الحديث الفلاني وهذه الجملة يشهد لها الحديث الفلاني وهذه الجملة يشهد لها الححديث الفلاني، وهكذا، وبالتالي يكون الخبر ثابتاً، لا هذا غير صحيح. وإنما لابد أن يكون المتن الذي يراد به تقوية هذا الخبر، أي المتن الذي جاء في الطريق الأخرى، أن يكون هو مثل المتن الذي جاء في الطريق الأولى، أو في أكثر ألفاظه بحيث يغالب على الظن أن هذا الحديث واحد: رواه فلان وكذلك رواه فلان، فهذا أيضاً لا بد من ملاحظته في الحكم على الحديث وعند تقويته لابد من هذه الملاحظة.
كذلك عندما تكون الزيادة شاذة أو يكون الخبر منكراً ومعلولاً فهنا أيضاً ينبغي الانتباه لهذا، ومثل هذا لا يقوى الخبر. الخبر في مثل هذه الحالة لا يقوى ولا يتقوى.
س11: ما رأيكم في حديث "السلطان ظل الله في الأرض"؟
الجواب: هذا الحديث قد رواه ابن أبي عاصم وغيره ولكنه لا يصح، هذا الحديث ضعيف ولا يصح، والأحاديث الصحيحة لم يأت فيها أن السلطان ظل الله في أرضه.
س12: ما قولكم في زيادة "يحيي ويميت" في التسبيح عقب الصلاة؟
الجواب: أنا لا أعرف خبراً صحيحاً فيه هذه الزيادة وتكون ثابتة وهي زيادة "يحيي ويميت". من المعلوم أن زيادة يحيي ويميت جاءت في أحاديث كثيرة، لكن أنا ما أعلم في خبر من الأخبار أن هذه الزيادة التي جاءت وهي "يحيي ويميت" أنها صحيحة سواء كان ذلك في التهليل عندما الإنسان يهلل عشراً [أو أكثر أو غير ذلك]، ما أعلم أن هذه الزيادة صحيحة بل كل ما جاءت إما ضعيفة أو شاذة غير محفوظة.
س13: ما هو الأمثل في الحفظ: التركيز على السند أم المتن؟
الجواب: أقول لا شك أن الإسناد وسيلة لا غاية، والغاية هو المتن، هذه هي الغاية، فإذن يكون التركيز على المتن لاشك أنه هو المقصود، وهو الأولى، وأما كون الإنسان يركز على الإسناد ويدع المتن فلاشك أن هذا خطأ.
س14: هل القول برأي أبي عمرو ابن الصلاح في مسألة التصحيح والتضعيف المشهورة، هل القول بذلك أمر مبتدع لا يجوز تقليده فيه؟
الجواب: أما ما يتعلق بالتصحيح والتضعيف في العصور الأخيرة أو العصور التي تلت عصور الرواية إلى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة، فلاشك أن هذا أمر مطلوب، وأمر باقي وهذا قول جل أهل العلم، وما قاله ابن الصلاح (رحمه الله) لاشك أن هذا فيه، نظر والصواب هو خلافه، هذا هو الصواب، ولم يزل أهل العلم يصححون ويضعفون، وهذه المسائل من مسائل الاجتهاد، فإذا كانت من مسائل الاجتهاد فالإنسان عليه أن يبذل وسعه في معرفة كون هذا الحديث صحيح أو ضعيف، ومن المعلوم أن هناك أحاديث لم يحكم عليها أهل العلم السابقين، فإذن ما لذي ينبغي علينا حتى نعرف صحة هذه الأحاديث من ضعفها أننا نسلك طريقتهم ونسير وفق منهجهم، وبالتالي نحكم على هذا الحديث بما يليق بحاله.
س15: ما صحة حديث حصار العراق اثنا عشرة سنة؟
الجواب: هذا الحديث غير صحيح، وأنا أول مرة أسمع بهذا الحديث، وإنما الذي جاء في صحيح مسلم أنه "منعت العراق قفيزها ودرهمها ومنعت الشام أيضاً ومصر"، فهذا الحديث الذي جاء في صحيح مسلم، وهذا الحديث قال بعض أهل العلم: أنه وقع فيما سبق، والذي قال هذا صديق حسن خان (رحمه الله تعالى) وقال وهذا بسبب استيلاء الكفار. من المعلوم أن العراق وغيرها من الدول سيطر عليها الكفار، مثل العراق سيطر عليه البريطانيون ومثل سوريا سيطر عليها الفرنسيون، فقال صديق حسن خان (رحمه الله) أن هذا وقع فيما سبق.
س16: ما رأيكم بخروج طلبة العلم في الفضائيات والتلفاز؟
الجواب: هناك رسالة بحمد الله ألفت في هذه المسألة، وهذه الرسالة للأخ طلال بن سيف، وبين حكم هذه القضية وهذه المسألة، ووصل إلا المنع من الخروج. ولا شك هذا هو الصحيح وذلك لأن الصورة أولاً لا تجوز فالصورة محرمة. والأمر الثاني أن أصحاب هذه الفضائيات هم أناس من الفجرة والفسقة وأن الغالب على ما يخرج في هذه الفضائيات هو الشر والفساد. ولذلك هم يخرجون أمثال هذه البرامج من أجل التعمية على الناس ومن أجل -في الحقيقة- فتنة الناس، فيخرجون بعض البرامج لمدة ساعة أو نحوها ثم يكون الغالب أو الباقي هو الشر والفساد. وإذا كان الله منع رسوله (صلى الله عليه وسلّم) من الصلاة في مسجد الضرار وقال جل وعلا: "ولا تقم فيه أبداً" لأن مسجد الضرار لم يؤسس على طاعة الله. ومنع ربنا عز وجل رسوله (صلى الله عليه وسلم) أن يصلي فيه لله في هذا المسجد لأنه لم يؤسس على تقوى من الله ورضوان: فهذه القنوات لم تؤسس على تقوى من الله ولا رضوان وفيها من المفاسد والشرور الشيء الكثير.
س17: ما هي شروط التكفير المعين؟
الجواب: التكفير إما أن يكون على جهة التعيين وإما أن يكون على جهة العموم، ويظن بعض الناس جهلاً منهم أن المعين لا يكفر لذاته فهذا غير صحيح، إذا ثبت بالدليل أن هذا الشخص قد فعل فعلاً أو قال قولاً يوجب كفره وردته وقامت عليه الحجة في ذلك فلا شك أن هذا يحكم بكفره لذاته ولعينه.
وهذه المسألة فيها تفصيل مطول فنضرب بعض الأمثلة ويتضح بعض التفصيل:(1/322)
فلو أن إنساناً (مثلاً) استهزأ بالدين وسب رب العالمين والعياذ بالله فلا شك أن هذا كافر بعينه ولا يقال نقيم عليه الحجة، لأن الحجة أصلاً قائمة عليه، لأنه لا يخفى على إنسان حرمة مسبة الله والعياذ بالله، وأن هذا الذنب أنه من عظائم الذنوب ومن الذنوب العظيمة الكبيرة، فهذا لا يخفى على أحد، وهناك ذنوب لابد فيها من إقامة الحجة يعني (مثلاً ) إنسان توّه أسلم وقال إن الخمر حلال، فهذا الشخص لا بد من إقامة الحجة عليه لأن هذا مما يغلب على الظن أنه خفي عليه، لأنه الرجل توّه أسلم، أو إنسان في مكان بعيد عن المسلمين فيجهل أشياء هي معلومة من الدين بالضرورة، فهنا لابد من إقامة الحجة فيها على هذا الشخص فإذا عاند فهنا يكفر، فمثلاً إنسان ما يدري بأن حكم تارك الصلاة بأنه كفر فلا بد من إقامة الحجة عليه، لكن إنسان بين المسلمين: فهذا غالباً أنه لا يخفى عليه أن ترك الصلاة كفر فمن تركها فيكون كافراً بعينه من كانت حالته مثل الذي ذكرنا.
س18: هل نستطيع أن نهزم اليهود في هذا الزمان وبنفس الأسلحة التي معنا؟
الجواب: هذا السؤال مهم فجواباً عليه أقول وبالله التوفيق: أنّ ربنا (عز وجل) وعد بنصر عباده إذا هم نصروه (سبحانه وتعالى)، انقادوا لأمره واتبعوا شريعته، فلا شك أن ربنا (عز وجل) سوف ينصرهم كما قال تعالى: "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"، وكما قال جل وعلا: "وكان حقاً علينا نصر المؤمنين". فجعل ربنا (عز وجل) ذلك من الحق عليه (سبحانه وتعالى) أنه ينصر عباده المؤمنين. ونصرة الله (عز وجل) بنصرة أوامره وتطبيق شريعته. وكما نصر ربنا (جل وعلا) عباده المؤمنين في عهد عهد رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلّم) وفي الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ومن المعلوم أن الكفار كانوا أكثر عدداً وأكثر عدة؛ مع ذلك نصر الله عباده المؤمنين عليهم. فكذلك في هذا الوقت وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. لكن بقي أن الإنسان ينصر دين الله (جل وعلا) وينصر أوامر الله بأن يطبقها ويتبعها، فمن فعل ذلك فلا شك أنه سوف ينصر ولن يتخلف وعد الله (سبحانه وتعالى).
س19: شخص في غيبوبة لمدة طويلة سنة أو أكثر هل يقضي جميع الصلوات التي فاتته؟
الجواب: إذا كان الإنسان في غيبوبة وفاتته جميع الصلوات: أختلف أهل العلم هل يقضي أو لا يقضي هذا في المدة التي ليست بالكثيرة وأما إذا كانت المدة طويلة كما جاء في هذا السؤال: سنة كاملة فهذا ما يقضي. بعض أهل العلم حدد المدة في القضاء ثلاثة أيام، قال: إذا كانت المدة أكثر من ثلاثة أيام فإنه لا يقضي وما كان دونها فإنه يقضي. وثبت عن ابن عمر في الموطأ (رضي الله عنه) إنه أغمي عليه حتى خرج وقت الصلاة فلم يقضها. وإلى هذا ذهب الإمام مالك والشافعي، قالوا لأن مناط التكليف العقل وهذا غير مكلف وهذا عقله ليس معه إذن هو ليس بمكلف. وذهب بعض أهل العلم كما ذكرت بتحديد ثلاثة أيام فمن كان دون ثلاثة أيام فهذا يقضي ومن كان أكثر من ذلك فهذا لا يقضي. وأما في سؤال هذا السائل فإن المدة طويلة جداً فإنه لا يقضي طبعاً. جاء عن عمّار بن ياسر أنه عندما أغمي عليه أنه قضى لكن كانت مدة قصيرة أما إذا كان مدة طويلة فإنه لا يقضي.
س20: هل يصح أن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) حرق عبدالله بن سبأ. وما هو حكم ذلك؟ وهل يجوز الحكم بالقتل بالنار؟
الجواب: لم يثبت أن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قد حرق عبد الله بن سبأ، وإنما طلبه ففر منه واختفى من علي (رضي الله عنه). وإنما حرق علي (رضي الله عنه) أناساً من الغالية غير عبدالله بن سبأ غلوا فيه حتى ادعوا فيه الألوهية –والعياذ بالله– فحرقهم بالنار، كما جاء ذلك في صحيح البخاري. وأنكر عبدالله بن العباس ذلك وذكر أنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) قال: "لا يعذب بالنار إلا رب النار" فاتفق علي وابن عباس على قتل هؤلاء. لكن الخلاف في هذه الوسيلة: ولا شك أن حديث ابن عباس دلّ على أنه لا يجوز استعمال هذه الوسيلة وهي التحريق. وأما فعل علي (رضي الله عنه) فالذي يظهر أنه خفي عليه هذا الحديث لا شك أن الذي يظهر أنه خفي عليه هذا الحديث وهو الغالب على الظن. وإنما فعل ذلك بتحريق هؤلاء لأن هؤلاء وقعوا في ذنب عظيم وفي شرك وخيم -نسأل الله العافية والسلامة-، فتعظيماً لأمر الله (جل وعلا) حرق هؤلاء بالنار.
س21: إذا لم نجد في الراوي إلا توثيق ابن حبان والعجلي أو أحدهما فما العمل؟(1/323)
الجواب: طبعاً لا يخفى أن ابن حبان (رحمه الله) عنده أن الثقة الذي لم يجرح، والعجلي (رحمه الله) قريب مذهبه من مذهب ابن حبان، وأنه يتوسع في توثيق المجاهيل وبالذات إذا كانوا من طبقة كبار التابعين وطبقة التابعين. وهذا يظهر لمن تتبع كلام العجلي، إذا تتبع الإنسان كلام العجلي: لو تتبع مائتين راوي أو ثلاثمائة راوي ممن ذكرهم العجلي في كتابه الثقات وحكم بتوثيقهم العجلي فلو تتبع هذا العدد مائتين أو ثلاثمائة سوف تجد هذا ظاهراً ولذلك نص المعلمي (رحمه الله تعالى) على هذا. والعجلي (رحمه الله) لا شك أنه من كبار أهل العلم والفضل (رحمه الله)، لكن فيما يتعلق بتوثيق المجاهيل هو هذا الشيء يسلكه، نعم، ويتوسع فيه. وكذلك أيضا يتساهل ببعض الضعفاء فيوثقهم أيضاً كما أنه أحياناً قد يكون الشخص لا يصل إلى درجة أن يقال عنه ثقة ثبت أو ثقة يصل إلى درجة الصدوق أو الثقة الذي له أوهام فيقول عنه مثلاً: ثقة أو ثقة ثبت، وما شابه ذلك. فهو عنده (رحمه الله) شيء من التساهل في هذا. وعند التحقيق أن هناك أيضاً غير العجلي وابن حبان يفعلون ذلك منهم ابن جرير الطبري في كتابه (تهذيب الآثار) ممن أيضاًَ يفعل ذلك ويتوسع في هذا الأمر، منهم أبوعبدالله الحاكم في كتابه (المستدرك) أحياناً يفعل ذلك: يصحح حديث المجهول، نعم، وغير هؤلاء. فهناك من يسلك هذا المنهج، نعم، وطبعاً لا يخفى أن أيضاً بعض الأئمة كيحيى بن معين أو النسائي أحياناً أو أبوزرعه أحياناً قد يوثقون أيضا أناس ليسو بالمشهورين وفي الحقيقة أن هذه المسألة فيها ثلاثة مذاهب:
1) من يتوسع في ذلك كابن حبان والعجلي.
2) وفي طرف يقابل هذا الطرف وهو: التضييق في هذا والتشديد في ذلك كما يفعل ذلك ابن حزم وابن القطان الفاسي حتى أنهم قد يجهلون أناس من الثقات أو أناس لابأس بهم.
3) والقول الوسط هو مذهب ابن معين والنسائي وغيرهم: أنهم قد يوثقون أحياناً من ليس بالمشهور، ولكن وفق شروط: إذا استقام حديث هذا الشخص فهنا قد يوثقونه ويقبلونه. وهناك أمثله كثيرة على هذا من تتبع (الميزان) للذهبي يجد أنه ينبّه على هذا. وقد نبه أيضاً المعلمي على هذا في كتابه (التنكيل). والمسألة تحتاج إلي بسط أكثر لكن لعله يكتفى بما تقدم.
س22: هل هناك فرق بين الحديث الحسن والحديث الجيد؟
الجواب: الحديث الجيد أحياناً يطلق بمعنى الصحيح وأحياناً يطلق بمعنى دون الصحيح، فهذا يختلف باختلاف من يحكم على هذا الحديث بأنه جيد. فينبغي معرفة هذا الشخص وماذا يقصد بالحديث الجيد. فأحياناً يكون الجيد بمعنى الصحيح ويكون مثل الصحيح والمقصود به الصحيح وأحياناً لا ما يُقْصَد، يقصد دون ذلك لكن لا يقال عن حديث جيد إلا أن يكون هذا الحديث ثابتاً.
س23: ما هي نصيحتكم لمن يريد أن يقرأ في كتب العلل؟
الجواب: نصيحتي لهذا الشخص أنه يتدرج في القراءة في هذه الكتب. يبدأ مثلاً في كتاب (التمييز) للإمام مسلم فإنه كتاب نفيس جداً، وكتاب مبسط، وشرح فيه الإمام مسلم كيفية تعليل الأخبار وبيّن أن الخبر إمّا أن يعل من جهة الإسناد أو من جهة المتن، وذكر أمثلة وأفاض في ذكر الأمثلة. فيبدأ بهذا الكتاب. ثم بعد ذلك ليقرأ في (العلل الكبير) للترمذي. ثم بعد ذلك ليقرأ في (العلل للدار قطني). ثم بعد ذلك ليقرأ في كتب العلل كعلل أبي حاتم وغيرها. يعني مثلاً علل ابن أبي حاتم من أصعب كتب العلل لأنك تجد عبارات مختصره فيقال مثلاً: هذا حديث باطل، هذا حديث منكر، أحياناً أو كثيراً ما [لا] يبيّن وجه النكارة فقد يصعب على الإنسان فهم كلام أبى حاتم: لماذا حكم على هذا الحديث بأنه منكر أ و باطل؟ وما السبب الذي دعاه إلى ذلك؟ فلذلك يحتاج حتى يفهم كلام أبى حاتم أو أبي زرعه إلي مقدمات فإذا سار على ما ذكرت لعل بإذن الله يفهم كلام أبي حاتم وأمثاله.
س24: ما حكم المولودين في الردة هل هم كفار أصليون أم مرتدون؟ وهل تحل ذبائحهم وكيف نتعايش معهم؟ مثال على ذلك تاركي الصلاة عمداً.
الجواب: تارك الصلاة عمداً وهو بين المسلمين هذا يعتبر مرتداً، وهو إنسان في مكان بعيد ما يدري عن حكم تارك الصلاة فهذا يكون مرتداً في هذه الحالة هذا يكون مرتداً والعياذ بالله، وبالتالي لا تجوز ذبيحته لا يجوز الأكل من ذبيحته وأمثال هؤلاء الذين وقعوا في الردة -نسأل الله العافية والسلامة- كما تقدم هم في هذه الحالة كفار وأشد من الكفار لأن المرتد أشد من الكافر الأصلي، ولاشك أن الواجب إقامة الحد عليهم. لكن هذا الإنسان لا يملك إقامة الحدّ وإنما يملك أنه يدعوهم ويذكرهم ويبين لهم. فعليه أن يفعل ذلك وأن يعاملهم معاملة الكفار لأنهم وقعوا في الردة.
س25: ما صحة حديث: "من استمع إلى آية من كتاب الله كتبت له حسنة مضاعفة ومن تلاها كانت له نوراً يوم القيامة"؟
الجواب: ما أذكر درجة هذا الحديث.
س26: هل بناء بيت في الجنة لمن صلى ثنتي عشرة ركعة لمن داوم عليها أم يكفي ليوم واحد؟
الجواب: لا، الذي يظهر -والله أعلم- أنه من حافظ عليها. كما جاء في الحديث من حافظ على ثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة يعني تقييدها باليوم والليلة هذا يفيد الاستمرار على المحافظة، قد الإنسان في بعض الأحيان يفوته أو يكون مريضاً وما شابه ذلك: فهنا معذور، فإذا كان الغالب عليه فإن شاء الله يرجى أن ينطبق عليه هذا الحديث.
س27: ذكرت حفظك الله في أحد الأشرطة فتوى لك أن حديث الاعتماد على اليد عند القيام منكر (وهذا غالب ظني). أنا يا شيخ أعمل بسنية جلسة الاستراحة وأجلسها منفرداً لا مأموماً إذا كان إمامي لا يفعلها، وإماماً إذا أميت طلبة علم ولكن عند الاعتماد بعد الجلسة أعتمد على صدور قدمي ولا أعتمد على يدي لأن حديث العجن منكر.(1/324)
ولكني قرأت في البخاري هذا الحديث صحيح البخاري ج: 1 ص: 283 :باب كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة: حدثنا معلى بن أسد قال حدثنا وهيب عن أيوب عن أبي قلابة قال جاءنا مالك بن الحويرث فصلى بنا في مسجدنا هذا فقال: إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة ولكن أريد أن أريكم كيف رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) يصلي، قال أيوب: فقلت لأبي قلابة: وكيف كانت صلاته، قال: مثل صلاة شيخنا هذا يعني عمرو بن سلمة، قال أيوب وكان ذلك الشيخ يتم التكبير وإذا رفع رأسه عن السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام.
فهل هذا الحديث يدل على أن يعتمد الإنسان على يديه إذا قام أي يعجن وما الفرق بينه وبين حديث العجن؟
الجواب: جواباً على سؤال هذا الأخ. أقول يبدو أن هذا الأخ فهمني خطأً: فالاعتماد عند القيام على اليدين هذا أنا أذهب إليه للحديث الذي ذكر وهو: حديث أيوب عن قلابة عن مالك بن الحويرث أن الرسول (صلى الله عليه وسلّم) كان يعتمد على الأرض عند القيام، وفسر هذا الاعتماد الإمام الشافعي وغيره بالاعتماد على اليدين، وهذا لاقرب (والله اعلم). لأن الإنسان قدميه على الأرض، فقول الراوي: "يعتمد على الأرض" إذاً بيديه، فالسنة هو الاعتماد على اليدين عند القيام. وأما الحديث الذي ضعفته فهو حديث ابن عمر (رضي الله عنهما) أنه كان يعتمد على يديه كهيئة العاجن، هذا الحديث لا يصح. لكن فيما يتعلق بالنزول ينزل على ركبتيه، كما جاء في حديث وائل بن حجر (رضي الله عنه) وإن كان فيه ضعفاً، ولكن يشهد له ما ثبت عن عمر (رضي الله عنه) موقوفاً عليه ولم يثبت عن أحد من الصحابة ما يخالفه ما جاء عن ابن عمر (رضي الله عنهما) أنه كان ينزل على يديه هذا لا يصح.
س28: يقول بعض الفضلاء: لا داعي لحفظ الأسانيد في هذا العصر لأن الإنسان كُفى ذلك من خلال كتب التخريج بل يكتفي بحفظ المتن فقط وراوي الحديث أما السند فيكفي البحث عنه فما رأيكم فيما قال؟
الجواب: طبعاً هذا، يعني، لاشك أنه غير صحيح، ولاشك -بحمد الله- كل الدين محفوظ، فالقرآن الكريم محفوظ، والسنة النبوية محفوظة. فإذا قلنا أنا كفينا وأن هذا الشيء محفوظ الأسانيد. حتى الباقي القرآن والمتن كلها محفوظة لكن لاشك طبعاً الإسناد ليس هو مثل المتن كما تقدم، الإسناد وسيلة لا غاية، الغاية هو المتن. فإذا كان الإنسان بحمد الله يشتغل في هذا العلم واهتم بهذا العلم فهذا يحتاج إلى أن يعرف الأسانيد وإذا أمكن حفظه فهذا طيب وحسن.
س29: ما الذي يكفي الإنسان في كتب العقيدة قراءة وحفظاً؟
الجواب: هذا السؤال مهم جداً وذلك كما تقدم أن العقيدة هي الأساس وهي الأمر الأول الذي ينبني عليه باقي الأمور، فينبقي لطالب العلم أن يهتم بها غاية الاهتمام. فيبدأ مثلاً بـ (ثلاثة الأصول)، ثم بعد ذلك بـ (كشف الشبهات)، ثم بعد ذلك كتاب (مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد)، ثم بعد ذلك ليقرأ فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته ككتاب (الواسطية)، ثم (الحموية)، ثم (التدمرية). فإذا قضى ذلك كله وأراد أن يتوسع أكثر فليقرأ المجلدات الأولى من (الدرر السنية) فإنها مفيدة جداً. وإذا أمكن أن يقرأ كل (الدرر السنية) فهذا أحسن وأكمل. وكذلك أيضاً إذا أراد الزيادة فليقرأ في المجلدات الأولى من (مجموع فتاوى الإمام بن تيمية)، وإن اطلع على كل الفتاوى فهذا أكمل وأحسن.
س30: ما صحة هذا الحديث: عن فضالة بن عبيد أن النبي (صلى الله عليه وسلّم): كان يأمرنا بالاحتفاء أحياناً. وهل أعله أحد من المتقدمين؟ وهل يصح في هذا الباب شيء وجزاكم الله خيراً.(1/325)
الجواب: بالنسبة لجواب هذا السؤال وهو حديث فضالة بن عبيد أن النبي (صلى الله عليه وسلّم) كان يأمرنا بالاحتفاء أحياناً: فهذا الحديث رواه أبو داود من حديث عبدالله بن بريد بن الحصين. هذا حديث رواه أبو داود والإمام أحمد من حديث عبدالله بن بريدة بن الحصين أن رجلاً من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلّم) رحل إلى فضالة بن عبيد، وفيه ذكر هذا الحديث الذي معنا. وهذا الحديث إسناده صحيح إلى عبدالله بن بريد بن الحصين لكن بقي هل عبدالله بن بريده سمع من هذا الرجل الذي لم يسمه أو سمع من فضالة بن عبيد؟ لم يثبت أن عبدالله بن بريده سمع من فضاله بن عبيد. وهذا الرجل لم يسمه عبدالله بن بريدة، فهذا الحديث في إسناده نظر من حيث الاتصال. وكذلك في إسناده نظر من حيث المتن، وذلك أنه في حديث عبدالله بن بريدة بن الحصين عن هذا الرجل الذي هو من الصحابة ورحل إلى فضالة بن عبيد في هذا الحديث أن الرسول (صلى الله عليه وسلّم) نهى عن الترجل إلا غباً، فهذه الزيادة "نهى عن الترجل إلا غباً" هذه جاءت في أحاديث عديدة، جاءت في هذا الحديث وجاءت كذلك في حديث عبدالله بن المغفل أن الرسول (صلى الله عليه وسلّم) نهى عن الترجل إلا غباً أو نهى أن يمتشط أحدنا كل يوم، وجاءت أيضاً عن رجل من الصحابة رواه أبو داود. فقوله نهى أن يمتشط أحدنا كل يوم هذا صحيح هذا جاء في أحاديث عديدة أو عدة أحاديث، وأمّا أمرنا أن نحتفي أحياناً: فهذه إنما جاءت في الحديث السابق. ويؤيد عدم صحتها: أن حديث فضالة بن عبيد الذي تقدم السؤال عنه قد جاء له طريق آخر عند الإمام أحمد من حديث عبدالله بن شقيق العقيلي وليس فيه هذه الزيادة وهي "أمرنا أن نحتفي أحياناً" وإنما فيه النهي عن الإرفاء أو عن الترفه: كان ينهانا عن كثير من الارفاء يعني الترفه، وجاء تفسير هذا -والله أعلم- بالامتشاط كل يوم، والمقصود هنا بالامتشاط هنا هو ما جاء في رواية أخرى نهى عن الترجل إلا غباً، وهو دهن الشعر وتنظيفه وترجيله: فهذا جاء النهي عنه أن يفعله الإنسان في كل يوم، وأما مجرد التمشيط -والله أعلم- فهذا لا بأس به، لأن هذا ليس مثل الأول، الترجيل هو: دهن الشعر كما ذكرت وتنظيفه وتمشيطه فهذا يحتاج إلى وقت فهذا الذي جاء النهي عنه.
والخلاصة أن هذه الزيادة: "أمرنا بالاحتفاء أحياناً" في صحتها نظر لما تقدم، وأيضاً قد جاء في صحيح مسلم أن الرسول (صلى الله عليه وسلّم) قال: استكثروا من النعال فإن الرجل لا يزال راكباً ما أنتعل.
س31: ما قول فضيلتكم فيما لو صرح أحد المدلسين بالتحديث، ثم أنكره أحد الأئمة؟
الجواب: عندما يصرح من هو موصوف بالتدليس يصرح بالتحديث فإذا ثبت الإسناد إليه الأصل قبول تصريحه بالتحديث هذا هو الأصل ولكن عندما يأتي أحد الأئمة كما في هذا السؤال وينكر هذا التصريح بالتحديث هذا يوجب التوقف ويجعل الباحث يتأمل ويراجع الطرق أكثر فإنكار هذا الحافظ أو الإمام هذا التصريح بالتحديث معناه أن هذا التصريح لم يثبت وأنّ أحد الرواة هو الذي أخطأ رواية هذا التصريح ولذلك أحياناً الحفاظ يردون بعض التصريح الذي يأتي من طريق مبارك بن فضالة فيما يرويه عن الحسن عندما يكون هناك تصريح في التحديث ما بين الحسن وما بين الصحابي الذي روى عنه الحسن فتجد بعض الحفاظ ينكر هذا التصريح ويعدون أن هذا نوع من التدليس من مبارك بن فضالة فالراوي أحياناً يخطئ. فأقول عندما ينكر أحد الأئمة هذا التصريح ينبغي للباحث أن يتأمل وينظر ولا يستعجل حتى يتأكد، فإنكار هذا الإمام يفيد أن هذا التصريح خطأ، هذا هو الأصل.
س32: أيهما أقوى المرسل الصحيح أم المسند الضعيف؟
الجواب: هذا السؤال في الحقيقة مجمل لأنه أحياناً قد يكون المرسل أقوى من المسند الضعيف وأحياناً بالعكس يكون المسند الضعيف أقوى من المرسل. وذلك عندما يكون هذا المرسل مثلاً لأحد كبار التابعين بالذات –مثلا ً- مراسيل سعيد بن المسيب التي يغلب عليها الصحة ويأتي طريق مسند وفيه ضعف واضح وبين فإذا كان هذا الضعف شديداً فلا شك أن هذا المرسل يكون أقوى من هذا المسند الضعيف، وأحياناً كما ذكرت بالعكس قد يكون المسند الضعيف أقوى من المرسل وذلك عندما يكون هذا المرسل لأحد صغار التابعين – مثلاً – كأن يكون مرسلاً للزهري أو للأعمش فهذه المراسيل شديدة الضعف وجاء طريق مسند وفيه ضعف ولكن هذا الضعف ليس بالشديد ضعف يسير فيكون هذا المسند أقوى – مثلاً – يكون في هذا المسند عبدالله بن محمد بن عقيل وعبدالله بن محمد بن عقيل لا يحتج به لكنه ليس ببيّن الضعف وإنما له أحاديث تستنكر وله أوهام وله أحاديث أخرى صحيحة بدليل أنها جاءت من طرق أخرى فيكون هذا المسند الذي فيه ضعف أقوى من هذا المرسل ففي الحقيقة أحياناً وأحياناً. ما يحكم بحكم عام. وإنما كل حديث يحكم عليه لوحده عند المقارنة بينه وبين هذا المرسل مثلاً. وأما حكم عام فهذا لا يمكن كما تقدم لأنه أحياناً يكون المسند الذي فيه ضعف أقوى وأحياناً المرسل أقوى.
س33: إذا وصف أحد المتأخرين الراوي بالتدليس ولم يسبقه أحد من الأئمة. فما قولكم في ذلك؟(1/326)
الجواب وبالله التوفيق: أن هذا المتأخر عندما وصف هذا الروي بالتدليس ينبغي أن يُتأكد ما نوع هذا التدليس، لأنه في الحقيقة أن التدليس كلمة واسعة جداً تطلق على أشياء كثيرة تدليس يطلق على تدليس الإسناد المعروف ويطلق أيضاً على الإرسال كما أنه يطلق أيضاً على تدليس الشيوخ هو أن يسمي شيخه باسم ليس بالمشهور به ويطلق كذلك على تدليس التسوية ويطلق كذلك على تدليس المتون وكذلك يطلق على ما يسمى بتدليس البلدان. ففي الحقيقة أن التدليس أنواع متعددة وكلمة عامة واسعة فأقول: ينبغي أن يتأكد ما نوع هذا التدليس ويبحث عن دليل لوصف هذا الراوي بالتدليس. يعني – مثلاً- بعض أهل العلم يسمي الإجازة وما شابه ذلك إذا لم تبين يسميها تدليساً ولعل من هذا الباب وصف ابن سعد لعبدالله بن وهب حافظ مصر وصفه بالتدليس، والتدليس الذي يقصده ابن سعد والعلم عند الله هو أن عبدالله بن وهب كان يتوسع يروي عن الشخص بالإجازة ويأخذ كتاب أحد الشيوخ فيطلب منه أن يروي عنه فإذا أجازه بذلك رواه فيبدو أن وصف ابن سعد له بالتدليس هو من هذا القبيل فالخلاصة أنه ينبغي يتأكد ويبحث عن الدليل.
س34: بالنسبة لمسألة التفرد، لو تفرد أحد الحفاظ الثقات الأثبات ممن هو في طبقة تبع تبع الأتباع ومن دونهم (كالإمام أحمد والبخاري) فهل يعد ذلك علة في الحديث؟
الجواب: التفرد هو في الأصل كثيراً ما يكون علة في صحة هذا الحديث وفي عدم صحته، ويكون علة بأمور:
1) أن يكون هذا المتفرد من المتأخرين يعني كما في هذا السؤال مثل طبقة الإمام أحمد، ومن المعلوم أن هذه الطبقة يندر فيها التفرد لأن الأحاديث كثرت وانتشرت وتعددت حتى أن الحديث يكون له طرق كثيرة لأن الأحاديث انتشرت وكثرت، بخلاف ما يكون التفرد في طبقة التابعين أو أتباعهم. أما في طبقة الإمام أحمد وأمثاله فهذا يندر وجوده وإذا وجد غالباً أنه لا يصح كما نص على مثل ذلك الذهبي في كتابه الموقظة.
2) ومن التفرد أيضاً الذي يرد به الخبر عندما يكون المتفرد ليس من ثقات هذا الشيخ أو ليس من أصحابه الحفاظ الملازمين له يعني مثل الزهري له أصحاب كثر حفاظ ملازمين له فعندما يأتي واحد ليس بمشهور ومعروف بذلك يتفرد بشيء ففي مثل هذه الحالة لا يقبل وفي الحقيقة أن مسألة التفرد هذه مسألة تحتاج إلى زيادة كلام. ولعله يرجع إلى كلام الأئمة في ذلك يرجع إلى كلام الذهبي في الموقظة.
س35: ما قول فضيلتكم في أحاديث التنعل قائماً؟
الجواب: هذا الحديث لا بأس بإسناده وهو أن الرسول (صلى الله عليه وسلّم) نهى عن الانتعال قائماً وهو محمول -والله أعلم- على النعال التي تحتاج إلى فك وربط، من المعلوم أن بعض النعال وهي الأحذية أو ما يسمى بالأحذية بعضها يحتاج إلى فك وربط؛ فهذه تحتاج إلى أن الإنسان يجلس أولى له وأحسن وأريح له فهذا الحديث محمول والله أعلم على ذلك. وأظن بعض أهل العلم قد نص على هذا الشيء.
س36: ما قول فضيلتكم في حديث كفارة المجلس؟
الجواب: حديث كفارة المجلس له طرق كثيرة، ولعله والله أعلم ثابت بمجموع هذه الطرق، نعم، بعض هذه الطرق معلولة كما في قصة البخاري ومسلم لكن للحديث طرق أخرى عديدة فأقول لعله بمجموع هذه الطرق ثابت.
س37: قول إمام من أئمة الحديث " أكتب عنه " وذلك حينما يسأل عن راو معاصر له، ماذا يعني ذلك، وهل هو توثيق؟
الجواب: إذا قال أكتب عنه ففي الحقيقة هذا تقوية منه لهذا الراوي والإمام مسلم قد يستعمل مثل هذا، فقد يقول اكتبوا عن هذا الراوي ويعني بذلك توثيقه كما نص على ذلك الحاكم، فمثل هذا تقوية لهذا الراوي وقد يكون أحياناً توثيق.
س38: هل كثرة مؤلفات الشخص تدل على علمه وفضله مع أنا نرى الكثير من أهل عصرنا لهم مؤلفات وتحقيقات وليس لها أثر عليهم أرجو التوضيح أكثر حول المسألة بارك الله فيك ؟
الجواب: أقول مثل ما ذكر هذا السائل في سؤاله، ليس كل إنسان له مؤلفات كثيرة يكون هذا دليلاً على علمه وفضله، كما أنه بالعكس: ليس كون الإنسان ليس عنده مؤلفات فيكون هذا دليل على عدم علمه وعدم فضله. فمن المعلوم أن هناك جمع من أهل العلم ليس عندهم مؤلفات وهم من أهل العلم والفضل، كما أنه بالعكس يوجد من يكون عنه مؤلفات كثيرة فهذا أيضاً لا يدل على علمه وفضله. فكما أشار هذا الأخ السائل في سؤاله. فكثرة المؤلفات أو عدم ذلك هذا لا يدل على العلم أو عدم العلم أو الفضل أو عدم الفضل.
س39: هل يكتفي طالب الحديث بالأخذ بتصحيحات العلماء الذين عرفوا بالحديث سواء من المتقدمين أو المتأخرين، أم يبحث عن طرق الحديث ويخرجه ثم يستأنس بحكمهم على ذلك الحديث؟
الجواب: عندما الشخص يريد أن يبحث عن حكم حديث ما فهذا الباحث إما أن يكون عنده علم بالحديث وإما أن لا يكون عنده علم، فإن كان عنده علم في الحديث فعليه أن ينظر هو وأن يبحث في كلام الأئمة وبالذات من تقدم منهم، ويستفيد أيضاً من كلام المتأخرين من أهل العلم الذين حكموا على هذا الحديث أو جمعوا طرق هذا الحديث. وأيضاً ينبغي له أن ينظر ويقارن ما توصل إليه بما حكم به أهل العلم على هذا الحديث، وبالتالي سيتعلم ويستفيد فائدة كبيرة من هذا المنهج وهذه الطريقة. وأما إذا كان الباحث ليس عنده علم فهذا لا شك يكتفي بكلام أهل العلم في الحكم على هذا الحديث. ولكن أنصح مثل هذا الشخص أن يرجع بالذات إلى من تقدم من الحفاظ ويستفيد من كلام من تأخر وكل واحد له كلام سواء من تقدم أو من تأخر ينبغي له أن يستفيد من عنده، لكن لا شك من تقدم هم أعلم فليحرص أعلى كلم الأئمة السابقين مع الاستفادة من كلام أهل العلم المتأخرين.
س40: من المعروفين لديكم بارك الله فيكم بأنهم على منهج المتقدمين من أهل هذا العصر؟(1/327)
الجواب: أقول بحمد الله أن هناك جمع من أهل العلم هم يهتمون بكلام الأئمة السابقين ويتتبعون كلام الحفاظ ويسيرون وفق منهجهم ويسلكون طريقتهم فهناك مجموعة من أهل العلم الذين هم على هذا المسلك والذين هم على هذه الطريقة.
س41: ما القاعدة التي يعرف بها المرسل الخفي من التدليس؟
الجواب: بالنسبة للمرسل الخفي والتدليس طبعاً لا يخفى أن المرسل كما تقدم يسمى تدليس ويوصف من يفعله بأنه مدلس كما يوصف أحياناً بأنه يرسل، ولا شك أن بينهما فرقاً من حيث التعامل. فإذا كان الراوي يدلس تدليس الإسناد وذلك بأن يروي عن شخص قد سمع منه أحاديث سمعها من شخص آخر فيحذف من حدثه ويروي مباشرةً عن هذا الشخص فهذا هو تدليس الإسناد أو التدليس المعروف أو في الغالب إذا أطلق ينصرف إليه فهذا يعامل معاملةً أخرى غير معاملة الشخص الذي يرسل. فمعاملة الشخص الذي يرسل يُنظر فإن ثبت سماعه من هذا الراوي فتحمل أحاديثه على السماع والاتصال إلا لدليل يدل على خلاف ذلك بعني مثلاً الحسن البصري فالأئمة الحفاظ يتعاملون معه على أنه إذا ثبت سماعه من أحد الصحابة إذاً باقي أحاديثه تكون محمولة على السماع والاتصال وإذا لم يثبت سماعه من أحد من الصحابة تكون أحاديثه منقطعة حتى لو جاء التصريح بالتحديث لأن الحسن (رحمه الله) من المعلوم أنه يتأول (رحمه الله) فيقول خطبنا ابن عباس ويعني بذلك خطب أهل البصرة وهو لم يثبت سماعه من ابن عباس –فمثلاً- كل ما يرويه عن ابن عباس فهذا منقطع إلا إذا جاء دليل يخالف ذلك يعني –مثلاً – رواية الحسن عن سمرة: الحسن ثبت في القول الصحيح أنه سمع من سمرة حديث العقيقة كما جاء في صحيح البخاري عندما جاء رجل إلى محمد بن سيرين وهو حبيب بن الشريد يحدثه بحديث عن الحسن عن سمرة في حديث العقيقة فقال: أذهب واسأل الحسن ممن سمعه فذهب وسأله فقال: سمعته من سمرة، باقي الأحاديث التي رواها عن سمرة وهي كثيرة يعني قد تكون بالمكرر أكثر من مئة حديث فهذه الأحاديث أختلف الحفاظ هل كلها سمعها أو لم يسمعها أو بعضها دون بعض مع أن هناك من الأئمة من يرى أن الحسن لم يسمع من سمرة ولا حديث فأقول أن رواية الحسن عن سمرة لا تحمل على السماع والاتصال لما تقدم. لكن من رواه عن غيره ممن ثبت سماعه منهم كأنس بن مالك فكل ما يرويه الحسن عن أنس فهذا محمول على السماع والاتصال إلا إذا دل دليل على خلاف ذلك. نعم، فهذه القاعدة في ذلك فيما يتعلق بهذه المسألة وفيما يتعلق بالتدليس أنا تكلمت على هذا في مقدمة كتاب ( منهج المتقدمين في التدليس).
س42: ما قولكم بارك الله فيكم في هذه الأحاديث ؟
( أ ) من أدرك تكبيرة الإحرام لصلاة الفجر أربعين ليلة برئ من النفاق (في الترمذي):
الجواب: هذا الحديث ضعفه الترمذي والأقرب أنه موقوف على أنس كما جاء عند عبدالرزاق في كتابه المصنف.
( ب ) أمتي هذه أمة مرحومة جُعل عذابها في دنياها أو نحو هذا اللفظ.
الجواب: هذا جاء في حديث أبو موسى الأشعري وقد جاء من طرق متعددة وهذا لا ينافي أحاديث الشفاعة والتي فيها أنه يعذب أناس من هذه الأمة يعذبون في النار ثم يخرجون بشفاعة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام)، وبالذات نبينا محمد (عليه الصلاة والسلام)، وبشفاعة الملائكة وبشفاعة الأولياء والصالحين وبشفاعة الأفراط لآبائهم. فأقول هذا لا ينافي الأحاديث التي جاءت في الشفاعة فهي لا شك أصح وأكثر وأكبر كما جاء في تاريخ البخاري الكبير لكن حديث أبو موسى (رضي الله عنه) حديث صحيح وأصله في صحيح مسلم.
( جـ ) من قرأ قل هو الله أحد عشر مرات بنى الله له قصراً في الجنة.
الجواب: هذا الحديث ضعيف جاء من طريقين وكلاهما لا يصح.
( د ) أمر بعبد من عباد الله أن يجلد في قبره مئة جلدة ..حتى خفف إلى واحدة فلما جلد اشتعل عليه (قلبه) ناراً .. الطبراني من حديث ابن عمر، والطحاوي من حديث ابن مسعود (مع أن الطحاوي قد تفرد بهذا الإسناد في كل الطبقات فهل يكفي هذا لإعلال الحديث مع وجود جعفر الضبعي وعاصم بن بهدلة).
الجواب: لعله قبره وليس قلبه كما جاء في السؤال. بالنسبة لهذا الحديث لا أدري عن صحته ولكن فيما يتعلق بجعفر بن سليمان الضبعي أختلف فيه، وثقه قوم وتكلم فيه آخرون، وخرج له الإمام مسلم في صحيحه عدة أحاديث فجعفر بن سليمان له أحاديث مستقيمة وله أحاديث أنكرها بعض الأئمة عليه وعاصم بن بهدلة أيضاً مختلف فيه على جلالته في القراءة لكن في الحديث مختلف فيه له بعض الأوهام والأخطاء وحديثه ينقسم إلى أقسام لعله ليس هذا موضع ذكر هذه الأقسام لكن الأصل أنه لا بأس به فهو حسن الحديث هذا هو الأصل إلا في بعض مروياته هذا من حيث الرجلين؛ وأما من حيث الحديث فكما ذكرت لم أدرسه من قبل.
( هـ ) مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره (أنا خرجت الحديث وكل طرقه ضعيفة فما رأيكم يا شيخ ، وأيضاً هل المتن منكر أم لا)؟
الجواب: هذا الحديث كما ذكر السائل جاء من طرق متعددة وبعض أهل العلم قواه كالسخاوي ونقل عن ابن عبدالبر أنه حسنه، لكن من المعلوم أن التحسين بالذات عند المتقدمين أن أمره واسع، يعني يطلق على عدة أمور، والأقرب في هذا الحديث كما توصل إليه السائل أنه لا يصح وأن الصواب في هذا الحديث أنه مرسل عن الحسن البصري. هذا الأقرب (والله أعلم) وبالتالي لا يصح. وأما المتن: فهذا المتن لو ثبت الإسناد لكان صحيحاً وقد جاءت أحاديث تفيد أنه سوف يكون في آخر هذه الأمة تمكين لهذا الدين ونصر لعباد الله المؤمنين وذلك بخروج المهدي ونزول عيسى بن مريم (صلى الله عليه وسلم).
( و ) حديث الأوعال:
الجواب: هناك من صححه كأبي بكر بن خزيمة، وإلى ذلك يميل الإمام بن تيمية وهناك من ضعفه وهذا هو الأقرب والله أعلم. وفيه ثلاث علل:(1/328)
1) أن الأحنف بن قيس لم يثبت له سماع من العباس بن عبدالمطلب، وهذا تعليل البخاري.2) عبدالله بن عميرة فيه جهالة. كما قال الحربي.
2) والاضطراب الذي وقع في إسناده على سماك كما قال ابن حجر أو البخاري قال أن عبدالله بن عميرة لم يثبت له سماع من الأحنف.
فهذا الحديث لا يصح لما تقدم وبحمد الله فيما يتعلق بإثبات العلو لله جل وعلا فهذا ثابت بالكتاب والسنة والفطرة والعقل.
( حـ ) أن الرعد ملك والبرق سوطه (وقد ذكر السيوطي في الدر روايات كثيرة ، فما درجة هذا الحديث).
الجواب: بعض طرقه رواه ابن أبي حاتم في كتاب التفسير وهناك من أهل العلم ممن قواه ولكن بالنسبة لي ليس عندي حكم فيه.
( ط ) حديث ركعتي الإشراق.
الجواب: لعل السائل يقصد "من صلى الصبح ثم جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس وصلى ركعتين كتب له أجر حجة وعمره تامة تامة" هذا الحديث قواه جمع من أهل العلم وضعفه جمع آخر والأقرب أنه لا يصح وأبو عيسى الترمذي ما صححه، وابن حبان ضعف بعض طرقه، وهذا الحديث له طرق كثيرة وكلها لا تصح. والأقرب أنه لا يتقوى ومما يدل أيضاً على ضعفه غير ضعف أسانيده غير ما تقدم هو ما جاء في صحيح مسلم من حديث سماك عن جابر بن سمرة أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) "كان يجلس عندما يصلي الصبح حتى تطلع الشمس حسناً، وعند أبي داود حتى تطلع الشمس حسناء" وهذا الحديث قد رواه عن سماك شعبة بن الحجاج ورواه أيضاً أبو الأحوص. فهذا الحديث حديث صحيح وهذا من قديم حديث سماك وقد صححه كما تقدم الإمام مسلم . الشاهد من هذا الحديث أنه ما ذكر أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يصلي بعد جلوسه ركعتين. وما أعرف عن الصحابة أنهم كانوا يصلون ركعتين. نعم جاء بأن عبيد بن عمير عندما كان يذكر أنه كان يقوم ناس في وقت السنة كانوا يصلون، يعني يصلون صلاة الضحى أما صلاة الإشراق فهذه غير صحيحة وإنما صلاة الضحى. فهذا الحديث لا يصح لكن لا شك أن الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح أو في أي وقت هذا مرغب فيه كما جاءت بذلك الأحاديث وكون الإنسان يصلي ركعتين أو أكثر بعد ارتفاع الشمس أيضاً بنيّة سنة الضحى هذا قد جاءت به النصوص. لكن الكلام على الحديث السابق باللفظ الذي تقدم ذكره لا يصح.
س43: أين أجد تقسيمات مرويات الرواة الذي تذكرونه دائماً في دروسكم، هل هو اجتهاد شخصي ؟ وهل يمكن أن نجده مطبوعاً في كتاب لكم؟
الجواب: بالنسبة للتقسيمات التي أذكرها أحياناً في الحكم الراوي، هذه إما أن يكون أهل العلم ذكروها نصوا عليها صراحةً وإما أن تؤخذ من جمع كلام أهل العلم في الراوي فمثلاً ما تقدم الكلام فيه على عبدالله بن لهيعة أصل التقسيم ذكره أهل العلم أو ذكره بعض أهل العلم فرقوا ما بين من روى عنه بعد الاختلاط أو قبل احتراق كتبه ومن روى عنه بعد احتراق كتبه. وبالمناسبة أن الذين رووا عن ابن لهيعة قبل احتراق كتبه هم جمع كبير ليس خاصاً بالعبادلة، فأقول أصل هذا التقسيم ذكره بعض أهل العلم وأنا فرقت أيضاً بين من روى عنه قديماً فجعلت عبدالله بن وهب أقوى من غيره وهذا لما ذكرت أن عبدالله بن يزيد المقرئ ذكر بأنه روى عنه قديماً لكن عبدالله بن وهب أقدم فذكر في الحديث الذي تقدم ذكره وهو أن القرآن لو كان في إيهاب لما احترق قال عبدالله بن وهب أن ابن لهيعة ما كان يرفعه في ما سبق يعني رفعه فيما بعد فاستفدت من هذا أن ابن وهب أقوى في ابن لهيعة من عبدالله بن يزيد المقرئ مثلاً فأقول هذا من التنصيص لبعض الحفاظ أو يؤخذ من جمع كلام الحفاظ في هذا الراوي فمثلاً أبو معاوية جمع من الحفاظ قدم أبو معاوية في روايته عن الأعمش وبعض الحفاظ تكلم في أبي معاوية في روايته عن غير الأعمش كهشام ابن عروة مثلاً فيقال أن حديث أبي معاوية ثلاثة أقسم:
1) ما رواه عن الأعمش وهو مقدم فيه.
2) ما رواه عن غير الأعمش ولا يكون هذا الذي روى عنه تُكلم في رواية أبي معاوية عنه كهشام بن عروة مثلاً.
3) رواية أبي معاوية عن من تُكلم في رواية أبي معاوية عنه فهذا كما ذكرت يُؤخذ من كلام الحفاظ.
س44: ما رأيكم في الخلاصة التي خرج بها الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب عن أحوال الرواة ؟ وهل يصح أن يعتمد عليها طالب العلم عند الحكم على الحديث ؟
الجواب: كتاب التقريب للحافظ ابن حجر (رحمه الله) كتاب مفيد جداً وكتاب قيم ويستفيد منه طالب العلم كثيراً وذلك لم حوى من كلام الحافظ ابن حجر على آلاف من الرواة الذين ذكروا في هذا الكتاب وأن هؤلاء الرواة أكثرهم من المشاهير وهم كلهم من رجال الكتب الستة فهم من أشهر الرواة. فهذا الكتاب كتاب قيم ومفيد لطالب العلم لكن لا شك أن هذا الكتاب لا يكفي في الحكم على الراوي وذلك لأن الحافظ (رحمه الله) أراد أن يختصر ما في تهذيب التهذيب وغيره من كتب الرجال فيعطي حكم مختصر على هذا الراوي فهناك بعض الأشياء التي ما يذكرها وذلك إما أنه رحمه الله أراد أن يعطي حكماً مختصراً فإذا فصل فإنه لم يعط حكماً مختصراً في الراوي، أو قد تفوت الإنسان وما شايه ذلك فأقول لا يكتفى في الحكم على الراوي بما جاء في حكم الحافظ ابن حجر وإنما يستفاد منه ويُرجع أيضاً إلى كتب الرجال وكتب الجرح والتعديل ويُتتبع كلام الأئمة في الحكم على هذا الراوي.
س45: ماذا ظهر لكم في مصطلح (مقبول) الذي يستخدمه الحافظ في حال بعض لرواه ؟ وكما لا يخفى عليكم أنه استخدمه في بعض رواة الصحيحين.(1/329)
الجواب: الحافظ عندما يستخدم مصطلح مقبول يقصد به (لين) كما ذكر هو (رحمه الله) في مقدمة التقريب، ثم هذا اللين إما أن يكون ضعف في هذا الراوي فحكم عليه باللين وهذا قليل في استخدامه لكلمة مقبول، وإما أن يكون هذا اللين جاء من عدم شهرة هذا الراوي أي أن هذا الراوي ليس فيه توثيق معتبر وإنما فيه توثيق ابن حبان أو العجلي مثلاً فيقول عنه أنه مقبول وكم ذكرت هو قد نص في المقدمة أن معنى مقبول عنده أي حيث يتابع وإلا فلين.
س46: لا يخفى أن من معتقد أهل السنة والجماعة أن الصحابة (رضوان الله عليهم) كلهم عدول ثقات، ولكن نجد في بعض الروايات أن بعض الصحابة -من الذين تأخر إسلامهم- قد وقعوا في أمور تنافي التعريف المشهور للعدالة. وهذا كالذي يروى مثلا عن سمرة بن جندب أو المغيرة بن شعبة (رضوان الله عليهما). فهل هذه الروايات عنهم صحيحة؟ فإن لم يصح شيء منها، فالسؤال ساقط من أصله. وإلا فما توجيهها لتوافق ما تقرر في اعتقاد أهل السنة؟
الجواب: أولاً أشكر هذا الأخ السائل على دعواته التي ذكرها وأسأله جل وعلا أن يوفقنا وإياه وأن يقبل منا ومنه وكما ذكر هذا السائل أن الصحابة لا شك أنهم عدول بثناء الله (جل وعلا) عليهم غي كتابه الكريم وثناء الرسول (صلى الله عليه وسلم) عليهم في سنته فهم عدول (رضي الله تعالى عنهم) وما جاء مما فيه قادح في بعضهم فهذا إما أن يكون غير ثابت أصلاً مثل القصة التي تحكى في اجتماع إبي موسى مع عمرو بن العاص رضي الله عنهما في الصلح وأنه ذكر أن عمرو بن العاص خدع أبو موسى وأنه قال له لنخلع الاثنين يعني علي ومعاوية (رضي الله عن الجميع) ثم بعد أن اتفق معه على ذلك قال تكلم يا أبا موسى فأنت أقدم مني إسلام وأفضل مني وما شابه ذلك فأخبر أبو موسى أنه خلع علي (رضي الله عنه) وأنه عندما جاءت النوبة لعمرو بن العاص أنه ثبت معاوية فهذا لم يصح وإ نما أرادوا أن يتفقوا على الصلح ولم يحصل هذا الصلح ولم يقع فأقول أن هناك أخبار غير صحيحة. وإما أن تكون هذه الأشياء التي قد يظن أنها قادحة في بعض الصحابة أنها من قبيل الاجتهاد والتأول، يعني مثل ما حصل من خروج عائشة (رضي الله عنها) وكذلك الزبير (رضي الله عنه) وطلحة بن عبيدالله (رضي الله عنه) في معركة الجمل كانوا متأولين وأرادوا الإصلاح بين طائفة علي (رضي الله عنه) وبين طائفة معاوية (رضي الله عنه) وأرادوا أيضاً أن يتتبعوا قتلة عثمان ونحو ذلك فقد خرجوا وهم قد تأولوا في خروجهم فلذلك عائشة عندما سمعت نباح الكلاب أرادت أن ترجع فقالوا لها كيف ترجعين ولعل الله أن يصلح بك بين طائفتين من المسلمين أو لعل الله أن يصلح بك بين المسلمين فاستمرت في مسيرها. فالشاهد من هذا أنهم أرادوا الإصلاح فهم تأولوا في ذلك ولا شك أن المجتهد المصيب له أجران والمخطئ له أجر واحد. أو تكون هذه الأشياء قد تابوا منها ورجعوا عنها كما حصل لماعز (رضي الله عنه) لما وقع فيه فتاب وطلب من الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يقيم عليه الحد وكما حصل من المرأة الغامدية عندما أيضاً طلبت من الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يقيم عليها الحد. فيحمل على ما تقدم. فالصحابة (رضي الله عنهم) عدول وثقات رضي الله عنهم أجمعين.
س47: من المعلوم أن بعض الكتب الحديثية المشهورة مفقودة (مثل مسند بقي بن مخلد، أو قسم من صحيح ابن خزيمة). وهنا سؤال يطرح بإلحاح: هل يمكن أن تكون هذه الكتب قد انفردت بأحاديث (أو على الأقل بطرق وأسانيد) لا توجد في الكتب المشهورة؟ فإن كان الجواب: لا، كان ذلك بعيداً، لأنه يلزم منه أن يكون أصحاب هذه الكتب ما زادوا على أن كرروا ما في الكتب الأخرى. والاستقراء في الكتب التي كانت مفقودة ثم وجدت، أو كانت مخطوطة ثم طبعت، يثبت العكس. فكم هي المتون والأسانيد التي اطلعنا عليها في هذه الكتب بعد أن لم تكن معروفة لدينا.. وإن كان الجواب: نعم، كان ذلك منافياً لما تقرر من أن الله (عز وجل) قد حفظ السنة من الضياع. فالرجاء منكم إزالة هذا الإشكال.
الجواب: لا شك أن الدين محفوظ بحفظ الله له فقوله (جل وعلا): "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" هذا يشمل ويلزم منه حفظ السنة النبوية لأن السنة النبوية تفسر وتبين القرآن الكريم وألا إذا لم تحفظ السنة فهذا يودي إلى عدم حفظ القرآن لأن السنة تبين القرآن فإذا كان ليس هناك ما يبين القرآن إذاً فهو غير محفوظ فلا شك أن القرآن والسنة محفوظان بحفظ الله (عز وجل) لهما وبالتالي يتبين جواب سؤال هذا الأخ أو استشكاله: فبحمد الله من كتب الحديث وكتب الآثار الموجود منها الشيء الكثير والشيء الكبير. وليعلم هذا الأخ أن أغلب الأحاديث الصحيحة إنما هي في الكتب الستة، أغلب الأحاديث الصحيحة إنما هي في الكتب الستة. نعم موجود في غير الكتب الستة أحاديث كثيرة صحيحة لكن الأكثر والأغلب هو موجود في الكتب الستة ومثلاً ابن خزيمة الذي جاء السؤال عنه أن ربعه الموجود وثلاثة أرباعه غير موجود فأقول: كثيراً ما يتفق ابن خزيمة مع ابن حبان في رواية الأحاديث إما أن يرويها ابن حبان عن ابن خزيمة مباشرةً أو يرويها عن شيوخ آخرين فأغلب ما في ابن خزيمة هو موجود في صحيح ابن حبان كما أنه أغلب ما هو موجود في مسند بقي بن مخلد موجود في مسند الإمام أحمد أو في مصنف أبي بكر بن أبي شيبة لأن بقي بن مخلد من رواة أبي بكر بن أبي شيبة. فلا شك أن الدين محفوظ بحفظ الله له.
س48: ما هي الفوائد التي تنصحون بأن يستخرجها من أراد القيام بجرد الكتب التالية: فتح الباري لابن حجر وسميه لابن رجب –المحلى لابن حزم– شرح السنة للبغوي – نيل الأوطار للشوكاني – المغني لابن قدامة – تفسير ابن كثير.(1/330)
الجواب: طبعاً هذه الكتب بينها اختلف في الموضوعات يعني تفسير ابن كثير هذا في تفسير كلام الله (جل وعلا) وبعضها في الحديث في شرح كلام الرسول (صلى الله عليه وسلم) كفتح الباري لابن رجب ولابن حجر وبعضها في الفقه ككتاب المغني لابن قدامة فاختلاف الموضوعات هذا يؤدي إلى اختلاف الفوائد التي تستخرج منها والتي ينبغي أن ينبه عليها أو تقصد من قراءة وجرد هذه الكتب لكن السمة العامة لهذه الكتب هو أنه ينبغي للشخص أن ينتبه إلى أمرين:
1) ما فيها من فوائد وهذا واضح.
2) تتبع مناهج الأئمة ومسالكهم من خلال هذه الكتب لأن هذه الكتب تجمع كلام أهل العلم من الصحابة ومن التابعين ومن أتباع التابعين وهلم جراً. فمثلاً ما يتعلق في فتح الباري لابن رجب: يذكر كلام الأئمة والحفاظ فينبغي تتبع مناهجهم حتى الإنسان يسلك ويسير وفق هذه المناهج أو كتاب المغني لابن قدامة يعني ينبغي هنا عندما يذكر كلام أهل العلم في المسائل العلمية ينبغي أيضاً تتبع مناهجهم في المسائل العلمية ومعرفة القواعد الفقهية فمن المعلوم أن كتاب المغني فيه قواعد فقهية كثيرة وفيه مسائل أصولية عديدة فأيضاً ينتبه إلى مثل هذا وفيما يتعلق بفتح الباري لابن رجب وابن حجر فيما يتعلق بالصناعة الحديثية يتتبع الفوائد التي تكون في ذلك أو في كتاب المحلى لابن حزم يعرف كيف يستدل بطريقته ومنهجه والأشياء التي يذكرها فكل هذا ينبغي للشخص أن ينتبه له في قراءته فهذه كتب موسوعات فيها من الفوائد ومن الأشياء المفيدة الشيء الكثير.
س49: ما رأيكم في كتاب تحرير تقريب التهذيب ؟
الجواب: هذا الكتاب لم أطلع عليه فلذلك ولم أقرأ فيه لكن بالنسبة لأحد المؤلفين وهو بشار عواد له كلام جميل في الحكم على الرواة أو نقل كلام الحفاظ من الكتب الأخرى فيستفاد من هذا الكتاب ومن غيره من الكتب التي الفت في الصناعة الحديثية والحكم على الرواة.
السؤال الأخير: ما حكم التسمية عند الوضوء؟
الجواب: تقدم فيما سبق أن أحاديث التسمية على الوضوء أنها لاتصح واغلب الحفاظ السابقين ضعفوها كالإمام أحمد كما ذكرت وابن المنذر وكذلك ابن الجوزي وهذا ما يستفاد من كلام البخاري والترمذي وهناك من قواها والأقرب أنها لاتصح لأمرين :
1) لأن الأحاديث أسانيدها كلها ضعيفة ولا تتقوى بمجموع طرقها.
2) أن الصحابة قد نقلوا لنا صفة وضوء النبي (صلى الله عليه وسلم) بالأسانيد الصحيحة كحديث عثمان الثابت في الصحيحين وحديث عبدالله بن زيد الثابت في الصحيحين وحديث ابن عباس في البخاري وغيره من الأحاديث وليس فيها ذكر التسمية، فلو كان التسمية ثابتة لجاءت في هذه الأحاديث الصحيحة فلذلك الأقرب أنها لا تتقوى وأحب أن أنبه على قضية قد يغفل عنها وهي أنه ينبغي أن يفرق بين أمرين:
الأول: عندما يأتي إليك شخص وهو ليس بالحافظ له أوهام وأخطاء فيخبرك عن شيء حصل فهنا تشك في ثبوت ما أخبرك به هذا الشخص وذلك لأنه عنده بعض الأوهام والأخطاء والأغلاط، وعندما يأتي ثاني مثله يخبرك بمثل ما أخبرك به الأول فهنا يقوى عندك هذا الخبر بمجموع هذين الطريقين وعندما يأتي ثالث تجزم ثبوت هذا الأمر.
الثاني: الذي ينبغي أن يفرق به هذه المسألة عن الأولى هو عندما يأتي إليك عشرة من الناس سبعة منهم حفاظ من أهل الإتقان وثلاثة منهم عندهم ضعف وعندهم خطأ فالسبعة اتفقوا على شيء الثلاثة زادوا رووا نفس ما رووا السبعة وزادوا شيء آخر فهنا لن تقبل رواية هؤلاء الثلاثة لأمرين:
1) أن فيهم ضعف.
2) أن هذا الضعف لاينجبر باجتماعهم وذلك لأن هذه الزيادة ما جاءت في رواية هؤلاء الحفاظ السبعة فلو كان هذا الشيء ثابت لجاء في رواية هؤلاء الحفاظ السبعة فيكون عندنا تعارض وتضاد بين رواية جمع من الحفاظ وبين رواية جمع من الرواة الذين فيهم ضعف. فعندما يكون هناك تعارض فهنا تقدم رواية الأحفظ والأوثق فكذلك هنا في حديث التسمية جاءت أحاديث كثيرة تبين صفة وضوء الرسول (صلى الله عليه وسلم) وليس فيها أنه سمى فدل على ضعف هذه الأحاديث وأنها لا تتقوى بالإضافة إلى ضعف طرقها. هناك أحاديث أخرى لكن ليس فيها دلالة على التسمية وهذه الأحاديث جاءت في حديث أنس وابن مسعود نحو حديث أنس وهو أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) في مره من المرات عندما قل عندهم الماء وحضرت الصلاة أوتي بإناء فيه قليل من الماء ما كادت أن تدخل يد النبي (صلى الله عليه وسلم) فيه فعندما قال: بسم الله، أخذ الماء ينبع من بين أصابعه (صلى الله عليه وسلم) فهذه التسمية ليست للوضوء إنما للبركة في الماء لأنه لم تأت إلا في مثل هذا. ولذلك جاء في حديث ابن مسعود حي على الطهور المبارك والبركة من الله فهنا ذكر التسمية من باب البركة في هذا الماء لعل الله أن يبارك فيه ولذلك أخذ ينبع من بين إصابته فهذه الأحاديث قد استدل بها بعض أهل العلم كالنسائي على مشروعية التسمية والأقرب أنه ليس فيها ذلك لما تقدم هذا وبالله التوفيق.
================
أحكام أهل الذمة باقية لم تنسخ
محمد بن شاكر الشريف
لقد أصبحت اليوم قضايا الإسلام وأحكامه الشرعية مرعى خصباً وكلأ مباحاً ، ترعاه السوائم من كل لون وجنس ، ويشعر المرء بكثير من الضيق والضجر ، والغضب ، وذلك عندما يطالع في كثير مما يكتب أو يستمع إلى كثير مما يقال ، فيجد الجهل و الجور والحيف في تناول الأمور الشرعية ، لكن هذه الحالة التي يكاد يعيشها المرء يوميا وذلك بفعل الدخلاء والمتطفلين على الكلام في أمور الإسلام تزداد أكثر وأكثر ، ويزداد حرها ولهيبها اللافح ، عندما يقع ذلك الخلط والتخليط ، والحيف ، والجور ، والتحريف من رجل مشهور يشار إليه من بين الناس ، أومن جماعة مشهورة لها رصيدها عند الناس .(1/331)
وقد يكون الدافع أحياناً لهذه الرغبة في تحصيل منفعة شخصية ، أو حفاظاً على منصب زائل ، أو دفعاً لمضرة متوهمة ، وقد يكون الدافع أحياناً لذلك هو الرغبة في عمل ما يسمونه » مصالحه « مع بعض الأنظمة الحاكمة بغير ما أنزل الله ، أو إنهاء أزمة معه ، أو الحصول على ما يسمونه » بعض المكاسب « من مثل السماح بدخول الانتخابات ، أو إصدار مجلة ، أو غير ذلك .
وبغض النظر عن مناقشتنا لتلك الرغبات ، وما إذا كانت مقبولة أو مرفوضة، فإن الذي ينبغي أن يكون واضحاً للجميع أنه لا يمكن أن تكون تلك» المساومات « على حساب الإسلام ، وعلى حساب أحكامه ، وشرائعه ومناهجه وثوابته ، وإلا فإن الحركة الإسلامية الناضجة لن تغفر هذه » المساومات « لأصحابها ، وسوف تعزلهم ، وفي النهاية سوف تلفظهم ، ولن يحصد المرء غير ما زرع أقول الذي دعاني إلى كتابة ذلك ، هو ما قرأته في جريدة الحياة يوم الأحد بتاريخ 30/2/ 1415 ص5 العدد 11494 من بيان أصدرته جماعة إسلامية كبيرة ، لها رصيدها ، ولها ريادتها في مجال العمل الإسلامي .
ولا يعنيني الآن رغم كثرة ما تعرض له بيان الجماعة غير موضعين :
الموضع الأول : قول بيان الجماعة : (إنهم ينتمون إلى أهل السنة والجماعة ، ويعتبرون أنفسهم جماعة من المسلمين ، وإن عقيدتهم ، وفكرتهم من حيث النقاء والأصالة لا تشوبها شائبة ، كما إن مناهجهم واضحة ، ومتميزة من حيث اعتمادها على الكتاب والسنة ، والفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات ) .
ونحن هنا لا يعنينا أن ننقب وراء هذا الكلام في تراث الجماعة لنرى مدى صوابه من خطئه ، ويكفينا هذا الإعلان الذي يمثل أصلاً قويماً ، ينبغي أن يقوم عليه أي عمل إسلامي ، وهو يمثل في الوقت نفسه مقياساً لمدى قرب العمل الإسلامي أو بعده عن حقيقة الإسلام .
إن إعلان مثل هذا الأصل من أي جماعة تعمل للإسلام ، لابد أن يلقى الترحيب والإشادة ، ويستقبل بالسرور والسعادة من أولئك الذين يهمهم أمر الإسلام ويعيشون له ، وينبغي تشجيع أصحابه على التمسك به وإعانتهم عليه وانطلاقاً من تشجيعنا لتلك الجماعة على الالتزام بهذا الأصل ، الذي أعلنوه ومساعدتنا لهم للمضي فيه قدماً ، ننتقل إلى الموضع الثاني لنناقشه انطلاقاً من الأصل المذكور .
الموضع الثاني : فقد جاء في بيان الجماعة أن » الشريعة الإسلامية أباحت لغير المسلمين حرية العقيدة ، والعبادة ، وإقامة الشعائر ، وحرية الأحوال الشخصية، وعملت على حماية ذلك إلى أبعد مدى « ..
ويمضي البيان إلى أن يقول عن جماعته أنها » ترى أن المواطنة ، أو الجنسية التي تمنحها الدولة لرعاياها حلت محل مفهوم أهل الذمة ، وأن هذه المواطنة أساسها المشاركة الكاملة ، والمساواة التامة في الحقوق والواجبات ، مع بقاء مسألة الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ومواريث طبقاً لعقيدة كل مواطن وبمقتضى هذه المواطنة ، وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده ترى » الجماعة « أن للنصارى الحق في أن يتولوا باستثناء منصب رئيس الدولة كل المناصب الأخرى من مستشارين ، ومديرين ، ووزراء ، ويمثل النصارى مع المسلمين في مصر نسيجاً اجتماعياً وثقافياً وحضارياً واحداً تداخلت خيوطه وتآلفت ألوانه ، وتماسكت عناصره « ، وقد يتعجب المرء ويتساءل هل من الممكن أن يكون الذي كتب تلك الفقرة ، هو نفسه الذي كتب الفقرة السابقة التي نقلناها ؟ !
شيء عجيب حقاً لكن على أي الأحوال ننتقل الآن إلى مناقشة تلك الفقرة الأخيرة على ضوء الأصل الذي ذكرت الجماعة أنها متمسكة به .
أولاً : هل أباحت الشريعة الإسلامية فعلاً لغير المسلمين حرية الاعتقاد .. إلى آخر ما قال البيان ، مع العلم أن » غير المسلمين « وهو التعبير الذي آثر بيان الجماعة استخدامه يشمل اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والشيوعيين ، وعبدة الأوثان ، وعبدة الأبقار ، وكل كافر أو مشرك .
فأين نجد تلك الإباحة في » الكتاب والسنة ، والفهم الصحيح ، الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات « ؟ إن الشريعة لم تبح قط الكفر بالله أو الشرك به ولم تبح قط التعبد بالعبادات الباطلة المبتدعة ، ولم تبح قط فعل المنكرات والمعاصي ، وإنما الخلاف قد وقع بين أهل العلم في شأن أهل الكتاب : اليهود والنصارى وما سواهما من الكفار ، هل يعاملون معاملة أهل الكتاب ، أم ليس إمامهم إلا الإسلام أو السيف؟ لأدلة عندهم في ذلك لامجال للحديث عنها هنا ولم تكرههم الشريعةعلى الدخول في الإسلام { لا إكراه في الدين } أما » الإباحة « فلا ، وفرق كبير بين » الإباحة « وبين عدم الإكراه ، فإن » المباح « هو الذي يستوي فيه الأمران : الفعل أو الترك ، والكفر والشرك أكبر الكبائر فكيف يقال : إن الشريعة أباحت ذلك ؟ !
لكن لنقل : إن بيان الجماعة لم يقصد » الإباحة « بالمعنى الوارد في أصول الفقه ، وإنما أراد فعلاً عدم إكراه » غير المسلم « على ترك دينه والدخول في الإسلام ، بل تركت له الخيار بين الدخول في الإسلام أو البقاء على دينه .
ثانياً : لنفترض أن أصحاب البيان يأخذون بقول أهل العلم الذين يرون أن ذلك الحكم غير مختص بأهل الكتاب ، وأن جميع الكفار يشملهم الخيار في الدخول في الإسلام أو البقاء على دينهم ، لكن على أي نحوٍ جاء هذا الخيار سواءً أكان لأهل الكتاب فقط ، أو لجميع الكفار ؟(1/332)
إن مقتضى » الكتاب والسنة والفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات أن ذلك لا يكون إلا بأن يصبح هؤلاء من » أهل الذمة « فيلتزموا بأحكام » أهل الذمة « ، » ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون « أما كتاب ربنا الكبير المتعال ففيه قوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } [التوبة : 29] .
وأما سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-المؤيد من ربه ، والذي لا ينطق عن الهوى ففيها الكثير نذكر منها حديث بريدة الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه وفيه : » اغزوا باسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله .... . ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ... فإن هم أبوا فسلهم الجزية ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم .. « [1]
فالكتاب والسنة « يبينان أن السيف لا يرفع عمن يرفع عنه من الكفار إلا ببذل الجزية عن يد وهم صاغرون ، وذلك التزام بأحكام » أهل الذمة « .
وأما » الفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات « ، فارجع إليه وانظر في جميع كتب أهل العلم الفقهية بدون استثناء لتجد الآيات والأحاديث وأحكام » أهل الذمة « المبنية عليها ولتعلم أن دار الإسلام ، لا يقيم فيها كافر إقامة دائمة إلا إذا خضع لأحكام » أهل الذمة « ، وبمقتضى هذا الخضوع يأمن أهل الذمة على أنفسهم وأهليهم وأموالهم .
وعلى هذا فقول بيان الجماعة : » إن المواطنة أو الجنسية التي تمنحها الدولة لرعاياها حلت محل مفهوم أهل الذمة « ، لم يعتمد على الكتاب ولا على السنة ولا على الفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات ، بل جاء مناقضاً لكل ذلك .
إن ما يقوله البيان هنا يعنى أن مصطلح » أهل الذمة « والأحكام المرتبطة به قد انتهى ، وأن بيان الجماعة قد استخرج له شهادة الوفاة ، وكفنه ودفنه في ثياب » المواطنة والجنسية « لكنها شهادة مزورة وثياب دنسة ، وستبقى الأحكام الشرعية ثابتة شامخة رغم كل البيانات .
فيا أصحاب البيان : خبرونا ماذا تفعلون بنصوص كتاب ربنا وسنة نبينا وبعمل الخلفاء الراشدين وأقوال الأئمة وتصانيف العلماء التي تحدثت عن أهل الذمة وأحكامهم ، ماذا تفعلون بهذا ؟ أتقولون : إن بيانكم نسخ تلك الأحكام ؟ ! وهل يملك أحد من المسلمين أن ينسخ أحكام الشرع ، أو أن يبدلها ويغيرها حسب هواه ؟ !
وربما قد يعجب بعض القراء ، وقد يستغرقون في الضحك الشديد ويقولون :
(ياعم : أين أنت الآن ، وفيم تتكلم ، وعن أية جزية أو صغار ، وأين هذا الجهاد الذي تتحدث عنه ، وهل نستطيع أن نفرض ذلك على الكفار ، ونحن الذين في الحقيقة نكاد ندفع لهم الجزية عن يد ونحن صاغرون) .
وأنا أقول لصاحب مثل هذا الكلام :
أولاً : أن ذلك ليس كلامي جئت به من عند نفسي ، وإنما هو نصوص الشرع وأقوال أهل العلم ، ونحن جميعاً مطالبون بالالتزام بذلك وعدم الخروج عنه .
ثانياً : أن المرء منا قد تمر به فترات ضعف أو عجز وسواء أكان هذا الضعف أو العجز خارجاً عن إرادته فيكون معذوراً ، أو كان ضعفاً وعجزاً ناتجاً عن تقصير وجبن وخور فلا يكون معذوراً لا يتمكن معها من الصدع بكلمة الحق أو الجهر بها أو العمل لها وإلزام الآخرين بها ، لكن ليس البديل عن ذلك هو التحريف والتبديل ، فإذا لم يتمكن المرء من قول الحق أو فعله فلا أقل من الصمت ، أما النطق بالباطل والدعوة إليه وتزيينه للناس فمن من المسلمين يقبله ؟ !
وإذا لم يستطع جيلنا القيام بذلك على الوجه المطلوب ، فلا أقل يا أخي من أن نترك للأجيال القادمة المفاهيم صحيحة غير مبدلة والثوابت غير محرفة فلعل الله سبحانه يحقق على أيديهم ما عجز جيلنا عن تحقيقه (وإن كان لنا أمل في الله تعالى أن يحقق نصر الإسلام على يد هذا الجيل) .
ثالثاً : ونمضي مع البيان حيث يذكر : » وإن هذه المواطنة أساسها المشاركة الكاملة والمساواة التامة في الحقوق والواجبات « وهذه هي النتيجة المنطقية طالما تم إلغاء أحكام أهل الذمة وهي في نفس الوقت تمثل الطلب الذي طالما ألح الكفار في الحصول عليه ، وهو المساواة التامة في دار الإسلام بين المسلمين والكفار ، فياسبحان الله ما أشد ظلم هذه المساواة التامة وما أكثر مرارتها !
لكننا نمضي مع البيان ليفسر لنا هذه المشاركة الكاملة والمساواة التامة حتى يكون كلامه هو الشاهد عليه ، يقول بيان الجماعة : » وبمقتضى هذه المواطنة وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده ، ترى (الجماعة) أن للنصارى الحق في أن يتولوا باستثناء منصب رئيس الدولة كل المناصب الأخرى من مستشارين ومديرين ووزراء .
لقد أصبحت » المواطنة « في فقه تلك الجماعة أصلاً شرعياً ، وقاعدة تُفَرّع عليها الأحكام وتؤخذ منها التفاصيل ، فها هو ذا يقول : » وبمقتضى هذه المواطنة« ولم ينس البيان أن يضيف إلى هذا الأصل أصلاً آخر ليناقض به الأحكام الشرعية ألا وهو قوله : » وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده «
فهل تلك الحجج الباردة التي قدمها البيان : » (المواطنة « ) وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده « هل تصلح تلك الحجج ، لمعارضة الأحكام الشرعية الثابتة !!(1/333)
وقد نظرت في هذه الفقرة فوجدت أن كاتبها يتعامل مع العواطف وليس مع أصول ثابتة يرجع إليها ، وذلك أنه قصر تولى المناصب علىالنصارى « دون أن يذكر » اليهود « وهم الذين يشملهم مع النصارى لفظ » أهل الكتاب « باتفاق أهل العلم ، فما هي القاعدة يا أصحاب البيان « التي استندتم إليها لإخراج اليهود من تولي المناصب ؟ ! وما النصوص الشرعية من » الكتاب والسنة والفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات « التي تستندون إليها في التفرقة بين اليهود والنصارى ؟ ! الذي يبدو لي أن الكاتب أهمل ذكر اليهود رغم عدم وجود أدلة يستند إليها في ذلك لأنه مازال يعيش في أجواء الحرب التي كانت بين المسلمين واليهود ، وربما كان يخشى من ردة الفعل الشعبي عند ذكر اليهود ، لكن أقول لك يا أخي : لا تخشَ شيئاً ، فالآن قد انتهت الحرب وحل السلام ، ولم يعد بين المسلمين واليهود حروب ، وبالتالي فلا تخشَ من ضياع التأييد الشعبي وكن منطقياً مع نفسك ، وأعلنها قل حتى يستقيم لك منطقك : » وبمقتضى هذه المواطنة ، وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده ترى (الجماعة) أن للنصارى واليهود الحق أن يتولوا .... « إلى آخر ما جاء في الفقرة ، بل وأضف البقية الباقية من غير المسلمين وأنا أقول لأصحاب البيان : طالما أنكم أقررتم أن المواطنة أو الجنسية حلت محل مفهوم أهل الذمة ، فلماذا لا تقرون للمواطن اليهودي الذي يتمتع بجنسية إحدى الدول العربية والإسلامية بالحق في تولى المناصب الوزارية والاستشارية ؟ !
إنه لشيء ممتع حقاً من وجهة نظر بيان الجماعة أن نرى دولة مسلمة :
رئيسها مسلم ، ورئيس وزرائها يهودي ، والوزراء خليط من المسلمين واليهود والنصارى ، ولا بأس أن يكون رئيس مجلس الشورى نصرانياً ، حتى تكون هناك عدالة ومساواة في توزيع المناصب العليا لا سيما وأن لهم المشاركة الكاملة والمساواة التامة في الحقوق والواجبات كما ذكر البيان فتكون رئاسة الدولة للمسلمين، ورئاسة الوزراء لليهود ورئاسة مجلس الشورى للنصارى ! !
وعلى كلٍ فنحن نطالبكم بالكتاب والسنة أو الفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات أو اختلفوا فيه ، والذي يبيح للنصارى جميع المناصب باستثناء رئاسة الدولة .
أما نحن فنبرأ إلى الله تعالى من ذلك ، ولا نقول بظُلم أهل الذمة ولا بالاعتداء عليهم ، ولكن لا ننزلهم إلا حيث أنزلتهم الشريعة ، ولا نعطي لهم شيئاً حرمهم الله ورسوله منه .
ومساعدة منا لكم على الالتزام بالحق ، نذكر لكم من النصوص الشرعية والفهم الصحيح لأهل العلم ما يبين بطلان ما ذكرتموه في الفقرة السابقة ، وإن كان المرء ليس في حاجة إلى ذكر تلك الأدلة ، لأن ما ذكرتموه في الفقرة السابقة هو من الكلام الذي يقال عنه : مجرد حكايته كاف في بيان بطلانه ، بل إن الرجل المسلم العامي صاحب الفطرة السليمة التي لم تدنس بمثل ما جاء في البيان إذا سمع ذلك الكلام الذي ذكرتموه ، فلابد أن يمجه ويرفضه ويستغربه ، وإذا لم تصدقوني فانزلوا إلى الشارع المسلم ، وسلوا الناس وسوف تعرفون النتيجة .
يقول الله تبارك وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض ، ومن يتولهم منكم فإنه منهم .. } [المائدة : 51]
يقول ابن كثير رحمه الله : » ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ، الذين هم أعداء الإسلام وأهله قاتلهم الله ... ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } « أليس من الموالاة لأهل الكتاب اليهود والنصارى ، جعلهم وزراء أو أعضاء في مجلس الشورى (مستشارين) ، إذا كنتم لا توافقون على ذلك فلننظر إلى ذلك الأثر الوارد عن عمر بن الخطاب الخليفة الراشد الذي جعل الله الحق على قلبه ولسانه في فقه تلك الآية : » عن عياض الأشعري أن عمر رضي الله عنه أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد ، وكان له (أي لأبي موسى) كاتب نصراني ، فرفع إليه ذلك ، فعجب عمر ، وقال : إن هذا لحفيظ ، هل أنت قارئ لنا كتاباً في المسجد جاء من الشام ؟
فقال : إنه لا يستطيع ، فقال عمر أجنب هو ؟ قال : لا ، بل نصراني ، قال :
فانتهرني وضرب فخذي ، ثم قال : أخرجوه ثم قرأ { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ... } ، قال أبو موسى : والله ما توليته وإنما كان يكتب ، فقال عمر رضي الله عنه : أما وجدت في أهل الإسلام من يكتب ؟ ! ، لا تدنهم إذ أقصاهم الله ، ولا تأتمنهم إذ خونهم الله ، ولا تعزهم بعد أن أذلهم الله « [2] فانظروا كيف رفض الخليفة الملهم اتخاذ كاتب نصراني يطلع على أمور المسلمين واحتج على ذلك بالآية المذكورة ، وأنتم لا تجعلونه كاتباً فقط ، بل تجعلونه رئيساً للوزراء ووزيراً ومستشاراً ومديراً وهلم جرا .
يقول بيان الجماعة في فقرته الأخيرة » ويمثل النصارى مع المسلمين في مصر نسيجاً اجتماعياً وثقافياً وحضارياً واحداً تداخلت خيوطه وتآلفت ألوانه وتماسكت عناصره « ، وإني لأتعجب : هل هذا كلام شرعي يعبر عن رؤية جماعة إسلامية أم أنه موضوع إنشاء من النوع الذي يقال في المجاملات ، وهل من الممكن أن تكون هناك مجاملات على حساب الدين ؟ ، الشيء الغريب والعجيب في آن :(1/334)
أن النصارى أنفسهم لا يقبلون هذا الكلام ولا يرتضونه ؛ لأن هذا الكلام يعنى أن ذاتية النصارى وذاتية المسلمين قد ذابتا وتداخلتا معاً ، وكونتا نسيجاً واحداً مما يعني ضياع الشخصية المستقلة أو التنازل عنها ، وإذا كنت لا تصدقني فسل وأظنك تعلم قبل كثيرين غيرك ماذا يفعل كبير النصارى في بلدك ضد الإسلام والمسلمين ، وعلى كلٍ أنا لا أمنعك الحق في أن تعبر عن أحاسيسك وأشواقك أنت وجماعتك تجاه النصارى ، وابذل لهم كل ما تستطيع من تنازل أو لين في القول ، لكن عليك ألا تتعدى بهذه الأحاسيس والأشواق إطار جماعتك إلى المسلمين كلهم ، فما أظن أن أحداً خولك الحديث باسم المسلمين في بلدك .
ثم أقول : وهب أن الذي ذكرته أنت صحيح وهو غير صحيح لكن نفترض ذلك أنه كان هو الواقع فعلاً ، فهل وجود الاختلاط وعدم التمايز بين المسلمين والنصارى يذكر على سبيل المدح أم يذكر على سبيل الذم وعلى سبيل تنبيه المسلمين على التمايز عن الكفار والابتعاد عن مشابهتهم أو التشبه بهم ؟ ! ألم تسمعوا عن » الشروط العمرية التي اشترطها عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الذمة ، والتي فيها منع تشبه أهل الذمة بالمسلمين والتي تحول دون حدوث ذلك النسيج المزعوم .
ألم تسمعوا عن كتاب صنفه العالم الجليل شيخ الإسلام ابن تيمية « وهو يحذر فيه أشد التحذير من ذلك النسيج الواحد الذي تدعونه ، إنه كتاب » اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم « فارجعوا إليه فلعله يردكم عن إدعاء ذلك النسيج.
على كل حال إن لم تكونوا قد سمعتم بهذا ولا بذاك ، فلا علينا أن نسمعكم بعض أحاديث الرسول المصطفى التي تحرص على تمييز المسلمين عن غيرهم من الكافرين سواء أكانوا من أهل الكتاب ، أومن غيرهم ، و تحول بين المسلم وحدوث ذلك النسيج (الحضاري والاجتماعي والثقافي) الموحد .
يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- : منكراً على المسلمين ما يقع منهم من مشابهة ومتابعة وموافقة لليهود والنصارى ، ومنفراً لهم من ذلك وحاضاً على تركه، يقول : » لتتبعُن سَنَن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جُحْر ضب تبعتموهم ، قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ « [3]، قال ابن حجر رحمه الله : » قوله : قال فمن : هو استفهام إنكار ، والتقدير : فمن هم غير أولئك « [4]
ويقول -صلى الله عليه وسلم- » من تشبه بقوم فهو منهم « [5] قال ابن تيمية : » إسناده جيد وأقل أحواله : أنه يقتضي تحريم التشبه بهم « وقال صلى الله عليه وسلم : » إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم « [6] ولا يُكَمّل رد السلام ، بخلاف المسلم الذي يقال له : وعليكم السلام ورحمة الله ، أليس في هذه الأحاديث منعٌ للنسيج الثقافي والحضاري والاجتماعي الواحد ، ألا يشعر المسلم من مثل هذه التوجيهات حرص الإسلام على إقامة حاجز نفسي بين المسلم وغيره، يمنعه من الانجذاب نحوه ، وإذابة الفوارق بينه وبين غيره .
وفي النهاية أقول لأصحاب البيان : ما الغرض ، ومن المستفيد ، ومن يرتضي ذلك البيان ؟
فإن كان الغرض أن يرضى عنكم » الأسياد « المحليون أو غيرهم ، فأنا أقول لكم تصديقاً لقول ربي مادمتم ترفعون شعار الإسلام ، ولو تنازلتم عن أمور كثيرة ، فلن يرضوا عنكم ، كما قال تعالى : { ولن ترضي عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } [البقرة : 120 ] أما إن كان الغرض هو الدفاع عن الإسلام ، فإن ذلك لا يمكن أن يتم عبر العبث بأحكامه أو التنازل عنها .
وأما المستفيد ، فلا يستفيد من هذا البيان إلا أعداء الله ورسوله والمؤمنين لأن أي محاولة لتغيير أو تحوير في ثوابت الإسلام ومفاهيمه لن تصب إلا في مصلحتهم، ولن تؤدي إلا إلى تزييف وعي الشعوب المسلمة ، وبالتالي رواج الأباطيل بينها ، وسهولة انقيادها للطواغيت .
وأما الرضا ، فإن هذا البيان لا يرضي الله ولا رسوله ولا المؤمنين ؛ لأنه لايمكن الرضا بما فيه خروج على أحكام الشريعة .
وأخيراً فلي رجاء : هل أطمع في بيان آخر يتم فيه الرجوع إلى الحق والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ، ولأن يكون المرء ذيلاً في الحق خير له من أن يكون رأساً في الباطل ، آمل ذلك ، لا سيما أنكم إناس مسلمون تحبون الله ورسوله وتودون خدمة دينكم ، وإن شاء الله لن يخيب ظني فيكم ولعل هذا البيان كان فرصة لنا لنقدم هذه الأمور التي ربما تكون قد غابت عن بعضهم ، لا سيما وأن بعض المناوئين لأحكام الشريعة ، يبثون مثل هذه الأقوال في مقالاتهم وأحاديثهم .
والله الموفق والهادي إلى صراط مستقيم .
________________________
(1) صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير ح/1731 .
(2) تفسير ابن كثير 2/108 ، فتح الباري 13/196 .
(3) البخاري كتاب الاعتصام بالسنة باب/14 ، ح/7320 .
(4) فتح الباري 13/201 .
(5) أبو داود 4/314 ، مسند أحمد 3/142 وصحح إسناده أحمد شاكر والألباني .
(6) البخاري كتاب الاستئذان باب 22 ، ح/6258 .
===============
تلبيس مردود في قضايا حيَّة
1 - المساواة والحرية 2- لا إكراه في الدين 3- الإسلام والرق 4- المرأة
5- الميراث 6- الطلاق 7- تعدد الزوجات 8- حقيقة الجهاد 9- أمم الأرض والقوة
احصل على نسخة من الموضوع على ملف وورد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :
فقد وصلتني أسئلة من أحد المراكز الإسلامية في بلاد الغرب أثارتها مؤسسة صليبية تنصيرية تسمي نفسها (( الآباء البيض )) .
وحينما اطَّلعت عليها ما وسعني إلا القيام بالإجابة عليها .
وطبيعة الأسئلة وما يقرأ فيها مما بين السطور في الظروف التي تعيشها التوجهات الإسلامية في أوساط الشباب وغير الشباب أشعرتني بلزوم الإجابة .(1/335)
كما أن هذا التوجه الكنسي في إثارة هذه الأسئلة وأمثالها له أبعاد لا تخفى وحلقة في سلسلة لا تنقطع يدركها القارئ للتاريخ والمعايش للتحركات النصرانية والتطويرات المتسارعة لجهودهم وتنوع أساليب هجومهم على الأصعدة كافة .
فاستعين بالله الكريم رب العرش العظيم على ذلك نصرة لدين الله وغيرة على أهل الإسلام وجهاداً بالقلم واللسان إن شاء الله .
والقضايا المثارة في الأسئلة يمكن تصنيفها حسب المواضيع الرئيسية التالية :
- المساواة .
- الحرية (( حرية الدين - الرق )) .
- المرأة .
- تطبيق الشريعة .
- الجهاد .
توطئة :
1- هذه الأسئلة لم تكن وليدة الساعة ولكنها أسئلة وشُبَهٌ قديمة قِدَمَ الهجوم على الإسلام .
وإن المطلع عليها وعلى أمثالها مما هو مبثوث هنا يدرك أن واضعيها على مختلف إعصارهم وأغراضهم لا يريدون الجواب ولا يقصدون تلمس الحق ولكنهم يلقونها في وسط ضجيج كبير يثيرونه في عمق المجتمع وفي ساحاته الفكرية ثم ينطقون بسرعة خاطفة وقد وضعوا أصابعهم في آذانهم خوفاً من أن يسمعوا أو يدركوا جواباً سليماً . فكأن مبتغاهم إلقاء متفجرات موقوتة في أشد الساحات ازدحاماً ثم يفرون على عجل قبل أن تنفجر فيصيبهم شيء من شظاياها .
2- كم هو جميل أن يتفق على مُسلَّمات بين المتحاورين ليكون منها المنطلق وإليها المردّ .
ولكن إحساس الباحث أن المقصد من وراء إثارة هذه الأسئلة هو التشكيك وزرع الشبه بل من أجل استعداء الآخرين باسم الانتصار للمرأة ومحاربة التفرقة العنصرية والدندنة حول المساواة وحقوق الإنسان وغير ذلك من الدعاوي العريضة وأنت خبير بأنها مبادئ بل دعاوي لها بريقها عند المستضعفين والمغلوب على أمرهم ولكنها عند التحقيق والتدقيق سراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً بل يجد كبيراً مستكبراً يحتضن صغيراً محقوراً يربّت على كتفه ليأكله حالاً أو يحتفظ به ليسمن رقيقة من القانون والمدنية أفرزتها التقنية المعاصرة في جملة ما أفرزته.
3- عند الحوار يجب أن يتقرر النموذج الأمثل الذي ينبغي أن يحتذى ليكون مرجعاً في التمثيل وهدفاً يسعى إلى بلوغه .
وحيث إن هذه الأسئلة صدرت من مؤسسة تنصيرية اسمها (( الآباء البيض )) فهل تريد هذه المؤسسة أن تكون المبادئ النصرانية هي النموذج المحتذى به ؟ لا أظن ذلك لأن الجميع من النصارى وغيرهم يعلم واقع النصرانية من خلال كتابها المقدس ومن خلال ممارسات البابوات والرهبان في الماضي والحاضر ، وفي ثنايا إجاباتي هذه قد أُلمح إلى نموذج من الانحرافات النصرانية والكنيسة .
وإن كانت اليهودية هي الأنموذج فحقيقة النصرانية وبابواتها وأحبارها ومراجعها يرون أن اليهودية محرفة وغير صالحة .
أما إذا كان الأنموذج هو الحضارة الغربية المعاصرة فما شأن البابوات وأتباعهم بها ؟ وإن كانوا معجبين بها وعندهم قناعة ليعرضوها على الناس ويدعوهم إليها فهذه تبعية مخجلة لأن هذه الحضارة - كما يعلم القاصي والداني - من أهم الأسباب المقررة في ازدهارها بُعْدُها عن الكنيسة ورجالاتها وقد شردت هاربة منها هروباً لا رجوع بعده إلا إذا أرادت هذه الحضارة أن تنتكس في رجعية القرون الوسطى كما يقولون .
أما الكاتب هنا فلا يرى نموذج هذه الحضارة صالحاً ليكون المحتذى إذ أن فيه انحرافاً ظاهراً وبؤساً على البشرية يحيط العالم بسببه خوف وإرهاب وتوتر وقلق يوشك أن ينتهي إلى تدمير حقيقي شامل يعم الحضارة وصنَّاعها . وفيه غير الانحراف مبادئ جوفاء من حقوق الإنسان والمساواة لا واقع لها وإن كان لها شيء من الواقعية فهو مختص بالرجل الأبيض أما من عداه فليس إلا ... قانون الغاب أو مبدأ (( الغاية تبرر الوسيلة )) .
وبهذا يتقرر - مع الأسف - أنه ليس ثمة أرضية مشتركة أرضية مشتركة مقنعة ننطلق منها لنصل إلى نتيجة مقنعة .
4- جميع الأسئلة المثارة لا يوجد لها جواب في الديانة النصرانية والعقيدة المسيحية فكيف تثيرها مؤسسة تنصيرية ؟
فقضايا الرق وقضايا المرأة والحروب المقدسة والتفرقة بين معتنقي النصرانية وغيرهم كلها مقررة في الديانة النصرانية ومن حق القارئ أن يعرف ما هو جواب المسيحية على ذلك .
وحيث إن الجواب بالسلب فلماذا لا يتركون الدعوة إلى النصرانية لأنها تتبنى كل هذه القضايا المثارة ؟
ولكنها أثيرت هذه الأيام باعتبارها معايب ونقائص يقصد منها النيل من الإسلام والمسلمين .
5- وأمر أدهى وأمرّ وهو شعور المطلع على هذه الأسئلة بعدم التجرد من قبل واضعيها .
فاتِّباع الهوى فيها هو المسيطر على مجريات الأسئلة مع تبني أحكام وتصورات مسبقة لديهم .
6- إنه ليحزنني أن تكون هذه المقدمة التي أدخل بها إلى هذا الموضوع وأجوبته ، ومع هذا فليعلم كل مطلع وليستيقن كل ناظر أني سأبذل قصارى الجهد في قصد الحق والتماسه خوفاً من الله عز وجل ورجاءً فيما عنده وأداءً للأمانة ونصحاً للبشرية كلها .
7- وأنبه المطلع الكريم أن هذه الإجابة قصد بها خطاب غير المسلمين ممن لا يدينون بالاستدلال بالنصوص الشرعية - كتاباً وسنة - ومن ثم جاءت المناقشة والحوار أقرب لمخاطبة العقل ومحاورة الفكر والنظر من أي شيء آخر .
على أنه قد جرى إيراد حشد من النصوص الشرعية حين اقتضى الأمر ذلك كما يلحظ في موضوع الرق وغيره .....
وأقول بكل ثقة واعتزاز إن ديني هو الإسلام وإيماني به لا يتزعزع والقرآن كلام الله حقيقة ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام من أنبياء الله ومن أولي العزم من الرسل . والله قد بعث في كل أمة رسولاً . والإسلام هو دين الله الخاتم الذي لا يقبل ديناً غيره .(1/336)
والله المستعان وعليه التكلان ولا حول لا قوة إلا بالله العلي العظيم .
هذا وقد أجريت تغييراً في ترتيب الأسئلة وصنفتها حسب موضوعاتها ولم ألتزم ترتيبها الأصلي. وسوف أثبت في آخر الأجوبة مجموعة الأسئلة حسب ترتيب واضعيها .
المساواة
المساواة في البشر ترجع إلى مدى تطابقهم وتماثلهم في الصفات الخَلْقية والخُلُقية فكلما تطابقت هذه الصفات أو تقاربت كانت المساواة والمماثلة أدق وأقرب وإذا تفاوتت لزم التفاوت في الآثار .
وأخذاً من هذه المقدمة فمن المتعذر الجزم بالتساوي المطلق بين بني البشر غير أننا نقول إن الأصل هو التساوي في الحقوق والواجبات لوجود الحد الأدنى من التماثل في القدرات البدنية والكفاءات الذهنية التي تجعلهم قادرين على فهم النظم والقوانين واستيعابها وتطبيقها والاستجابة لها والمحاسبة عليها ولكن من المعلوم أن أصل خلقة البشر جاءت على التفاوت في المواهب والأخلاق مما يجعل هناك موانع جبلية واجتماعية وسياسية على نحو ما هو مثار في الأسئلة .
وبعض هذه الموانع قد يكون مؤقتاً وقد يكون دائماً وبعضها قد يكون قليل الحصول وقد يكون أغلبياً .
غير أن أثر كل مانع مقصور على نفسه فلا يمنع المساواة في الحقوق الأخرى . فصاحب الخُلُق الفاضل لا يساوي دنيء الخلق في مجاله لكنه لا يمنع التساوي معه في الحقوق الأخرى ، والذكي لا يساوي الغبي ، والمرأة ليست كالرجل في صفاتها ومواهبها وقدراتها (( وسيأتي للكلام عن المرأة موضوع مستقل إن شاء الله )) .
هذه بعض الموانع الجبلّية الخَلْقية .
ومن الموانع الاجتماعية أي الموانع التي اتفق عليها المجتمع نتيجة للتجارب وممارسة الحياة وهي في حقيقتها راجعة إلى القناعة العقلية المؤكدة للتفاوت في هذه الصفات . منع التساوي بين العالم والجاهل فإن الناس متفقون على أن الجاهل لا يستحق الصدارة في المسئوليات والاعتماد عليه في قضايا الأمة وشؤون المجتمع .
ومن الموانع السياسية ما يتفق عليه أهل الحكم والإدارة من منع بعض الفئات من تولي مسئوليات في الدولة لأسباب سياسية أو عسكرية وهو أمر معترف به بين الأمم من غير إنكار وذلك كمنع الأجنبي من تولي مسئولية من المسئوليات الحكم في الدولة حيث تقصر هذه الولايات والوظائف على الوطنيين ومثله حق الانتخاب والمنع من بعض الحرف والاستثمار .
والتنظيم الخاص بالعسكريين والدبلوماسيين ومنعهم من الزواج بالأجنبيات وأمثال ذلك كثير، ويندرج في ذلك منع الذميين في دولة الإسلامية من تولي بعض الولايات .
ومثله منع أهل الذمة من الزواج بالمسلمات مما سيأتي له مزيد تفصيل .
ويمكن اعتبار المثالين الأخيرين من الموانع الشرعية لأن هذه أحكام مقررة في الشريعة الإسلامية وهي ترجع – كما يلاحظ القارئ – إلى أمور منطقية أعراف اجتماعية صحيحة .
هذه أمثلة يمكن من خلالها فهم الضوابط ومن ثمَّ القناعة بعدم إمكان المساواة المطلقة بين الناس .
بل لو قيل بالمساواة المطلقة لترتب على ذلك أمور لا يطيقها البشر ولأدَّى بالناس إلى إهمال مواهبهم وإهدار طاقاتهم وذلك فساد قبيح ظاهر يؤول إلى اختلال نظام العالم في إلقاء المميزات والحقوق التي تقود إلى البناء والإصلاح وتقدم العالم . وانهيار الشيوعية الذي نشهده هذه الأيام برهان ماثل لأهل العقل والحكمة .
وإذا كان الأمر كذلك فإن التفاوت في المواهب واستغلالها وطريقة الاستفادة منها يترتب عليه تفاوت مادي فيما يستحقه كل صاحب موهبة يفيد منها أهله ومجتمعه . ومن أجل هذا برز الترتيب الوظيفي في رؤساء المصالح ومديريها ومن دونهم .
والشريعة الإسلامية وتمشياً مع الفطرة السليمة – لا يمكن أن تدعو إلى مساواة تُلْغِي فيها هذه الفروق الفردية والمواهب الشخصية والتمايز الموجودة بين بني الإنسان مما له أثر في صلاح العالم أفراداً ومجموعات وذلك الصلاح والإصلاح هو غاية الشريعة ومقصدها .
إذن هذا هو التفاوت المؤثر والمقتضي للمنع من المساواة عند وجوده .
أما التمايز بسبب الجنس أو اللون أو اللغة فهو غير مؤثر في شريعة الإسلام ألبتّة لكنه مشار إليه في الشريعة على أنه آية من آيات الله الدالة على عظمته وكمال قدرته واستحقاقه للعبادة سبحانه .
ولهذا النوع من التمايز وظيفة أخرى نبه إليها الإسلام ، وهي وظيفة التعارف والتآلف وفي النص القرآني الكريم : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا...} [ سورة الحجرات ، الآية : 13 ] .
يؤكد هذا في دين الإسلام أنه من المتقرر عند المسلمين أن الله لم يخلق شعباً فوق الشعوب ولم يميز قوماً على قوم ، وقيمة الإنسان عند الله وعند الناس ما يحسنه ويقوم به من عمل صالح وجهد طيب في طاعة الله وإتباع أمره ، وهو ما يصطلح عليه في الشريعة : (( التقوى )) ، وفي النص القرآني : { إِنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ } . [ سورة الحجرات ، الآية : 13 ] .
ويقرر ذلك نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم بقوله : (( أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم وليس لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أبيض ولا أبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى ...)) . [ أخرجه أحمد والترمذي عن أبي نضرة وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح ] .
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم : (( أي الناس أحب إلى الله ؟ قال أنفع الناس للناس )) .
أخرجه الطبراني وغيره بألفاظ متقاربة ، وهذا لفظ الطبراني من حديث ابن عمر .
الحرية
سوف يكون الكلام في هذا المقام من عدة جوانب :
1- لا إكراه في الدين .
2- الحرية الدينية لغير المسلمين في بلاد الإسلام .
3- حكم الردة .
4- الرق .
مقدمة : حرية الفكر لا حرية الكفر :(1/337)
جاء في صيغة السؤال حول الحريات العبارات التالية :
(( كيف يمكن التوفيق بين حرية التفكير والاعتقاد التي منحها الله للإنسان ....... إلخ ))
والذي نقوله : إن حرية التفكير مكفولة وقد منح الله الإنسان الحواس من السمع والبصر والفؤاد ليفكر ويعقل ويصل إلى الحق وهو مسئول عن التفكير الجاد السليم ومسئول عن إهمال حواسه وتعطيلها كما أنه مسئول عن استخدامها فيما يضر .
أما حرية الاعتقاد فلم يمنحها الله سبحانه مطلقة بحيث يعتقد كل إنسان كما يشاء بل الله سبحانه يلزم العقلاء البالغين من البشر باعتقاد ربوبيته وألوهيته وطاعته والخضوع له وحده ولا يقبل منهم غير ذلك .
برهان ذلك : أن هذا العالم الرحب الذي نعيش فيه لم تبن جنباته كيفما اتفق ولم تُركم مواده بعضها فوق بعض بطريق الجزاف بل هو مخلوق مصنوع وفق نظام محكم وقانون دقيق ، فما يطير في الجو انخفاضاً وارتفاعاً محكوم بقانون ، وما يلقى في الماء من أجسام غوصاً وطفواً وسبحاً مضبوط بقانون . وما ينبت في الأرض من نبات فيختلف طعمه ولونه وثمره خاضع لقانون فكل ما في السماء وما في الأرض قد خلق مقروناً بالحق وما على من ينشد الحق والحقيقة إلا أن يتصفح صفحات هذا الكون الفسيح ليعرف من حقائقه ما يزيده بالخالق إيماناً وبصنع هذا العالم دقة وإتقاناً .
والإنسان لا يولد عالماً ولا عارفاً ولكنه يولد مزوداً بوسائل العلم والمعرفة عقلاً وسمعاً وبصراً خلق ليعر الحق ويستدل له ويستدل عليه لا ليعيش على الباطل ويسير في مساكله المعوجة .
والحرية في هذا الميدان مطلقة ما دام أنها في الكون وآياته وفيما تناله وسائل الإنسان وقدراته.
وبهذا الضابط نقول : إن حرية الفكر والتفكير مكفولة مطلقة .
ولكن حرية الشهوة مقيدة فمن غير المقبول في العقول الاندفاع وراء الرغبات والغرائز لأن طاقة الإنسان محدودة فإذا استنفذت في اللهو والعبث والمجون لم يبق فيها ما يدفعها إلى الطريق الجاد ويدلها على مسالك الحق والخير . وبناءً عليه فإن ما يرى في عالمنا المعاصر وحضارته المادية من إيجابيات خيرة فهي من حسن استخدام حرية الفكر والنظر وما يرى من أضرار وانتكاسات وقلاقل نفسية وغير نفسية فهي من إطلاق حرية الهوى والعبث .
ومن أجل هذا فإننا نقول بكل قوة وثقة : (( في الوقت الذي يطلق فيه للفكر حريته يجب أن تحجر النفوس عن أهوائها )) .
فعلينا ونحن نتحدث عن الحرية أن نفرق بين الأمرين ونميز بين النهجين .
الحرية الحقيقية :
حينما قلنا إن الإنسان ليس حراً في الاعتقاد بل يجب أن ينحصر اعتقاده في الله وحده رباً ومعبوداً لا يجوز أن يخضع لغيره أو يطيع سواه فيما يخالف أمر الله .
نقول ذلك لأن هذا هو ضامن الحرية الحقيقية على هذه الأرض ..... لماذا ؟
لأن البشرية منذ القدم وحتى اليوم وهي تعاني في كثير من ديارها من طواغيت متنوعة خضعت لها رؤوسها وذلت لها رقابها حتى اندثر كل معنى للحرية وغاب كل أثر للكرامة الإنسانية في نفوس هؤلاء الخاضعين لغير الله .
فالخضوع والخوف والرهبة والانقياد والاستسلام لا يكون إلا الله الذي له صفات الكمال المطلق فهو وحده الغني القادر المسيطر القاهر الحاكم العدل الذي لا يجوز عليه الظلم لأن الظلم أثر من آثار الضعف والحاجة ، والله منزه عن كل ذلك .
أما من خضع لغير الله فقد انتقص من حرية نفسه بمقدار خضوعه وذلته لغير ربه .
والطواغيت التي سلبت الناس حرياتهم كثيرة من أمثال علماء السوء والأحبار والرهبان والكهان والحكام والدرهم والدينار .
وترقى الأمر عند هذه الفئات حتى حرفوا الكتب المنزلة على الرسل لتتمشى مع أهوائهم وأدخلوا فيها ما ليس منها وترقى بهم الأمر إلى أن جعلوا لأنفسهم صلاحية منح الثواب وإنزال العقاب وإعطاء صكوك غفران بمحو الذنوب ودخول الفردوس الأعلى .
ومن صور ذلك في وقتنا المعاصر الطغيان المادي والتفسير المادي للتاريخ والحوادث ، واستعباد الشهوات والملذات .
ومن هنا فإن الدعوة إلى التوحيد والخضوع لله وحده دعوة لإقامة صرح الحرية ورفض ورفع قيود الظالمين عن أعناق البشر .
وبهذا تحمي حرية الإنسان من أن يسلبها أولئك المتطاولون المغرورون فلا يحني الإنسان رأسه أو تذل هامته لأحد من بني البشر أيًّا كان على الإطلاق لأنه خضوع للباطل وتعدٍ على الحرية .
لا إكراه في الدين :
الإكراه في الإسلام على الدين والعقيدة منفي من عدة جهات :
الأولى :
إن من آمن مكرهاً فإن إيمانه لا ينفعه ولا أثر له في الآخرة ، فلا بد في الإيمان أن يكون عن قناعة واعتقاد صادق واطمئنان قلب .
وقد جاء في القرآن الكريم : عن فرعون حين أدركه الغرق أنه أعلن الإيمان والتصديق بالله ربًّا ومعبوداً ولكن ذلك لم ينفعه:{.حَتَّى إِذّا أَدْركَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائِيل وأَنَا من المُسلِمِيِن .آلآن وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ المُفْسِدِين}.[ سورة يونس،الآيتان :90، 91 ]
وجاء في حكاية قوم آخرين : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُواْ ءآمنَّا بِاللهِ وَحْدهُ وكَفَرْنا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يكُ يَنَفعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأواْ بَأسَنَا } [ سورة غافر ، الآيتان : 84 ، 85 ] .
بل التوبة من الذنوب والمعاصي لا تكون مقبولة إلا إذا كانت عن اختيار وعزم صادق .
الثانية :
وظيفة الرسل والدعاة من بعدهم مقصورة على البلاغ وإيصال الحق إلى الناس ، وليسوا مسئولين عن هدايتهم واعتناقهم للدين واعتقادهم الحق فالمهمة هي البلاغ والإرشاد و المناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أما الاهتداء والإيمان فليس إلى الرسل ولا الدعاة .(1/338)
وهذا يؤكد جانباً من جوانب الحرية إلا وهو تحرر الإنسان من كل رقابة بينه وبين خالقه فالعلاقة مباشرة بين الإنسان وربه من غير واسطة أو تدخل من أحد مهما كانت منزلته سواء أكان ملكاًً أو نبياً أو غير ذلك .
ومما يؤكد ذلك في القرآن الكريم ما جاء في حق محمد صلى الله عليه وسلم : { فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} . [ سورة الغاشية ، الآيتان : 21 ، 22 ] .
الثالثة : واقع غير المسلمين في بلاد المسلمين :
عاش الذميون وغيرهم في كنف الدولة الإسلامية دون أن يتعرض أحد لعقائدهم ودياناتهم ، بل لقد جاء في الكتاب الذي كتبه النبي محمد صلى الله عليه وسلم في أول قدومه المدينة ليرسم به منهجاً ودستوراً في التعامل : [ ومن تبعنا من يهود فإنه له النصرة والأسوة ... لليهود دينهم وللمسلمين دينهم .... وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم ] .
وأقرهم على دينهم وأموالهم كما كان الحال مشابهاً مع نصارى نجران .
وصحابة الرسول من بعده ساروا على طريقه في معاملة غير المسلمين .
فكان من أقوال خليفته أبي بكر رضي الله عنه لبعض قواده : (( .. أنتم سوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له ... ))
ومن وصايا الخليفة الثاني عمر : (( .... أوصي بأهل الذمة خيراً أن يوفى لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم وألا يكلفوا فوق طاقاتهم ....... ))
ومن أقوال علي الخليفة الرابع : (( .... من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا ..... )).
وتاريخ الإسلام الطويل شاهد على أن الشريعة وأهلها قد كفلوا لإتباع الأديان الذين يعيشون في ظل الإسلام البقاء على عقائدهم ودياناتهم ولم يرغم أحد على اعتناق الإسلام . ومعلوم لدى القاصي والداني أن هذا لم يكن موقف ضعف من دولة الإسلام بل كان هذا هو مبدأها حتى حين كانت في أوج قوتها أمة فتية قادرة .
ولو أرادت أن تفرض على الأفراد عقيدتها بالقوة القاهرة لكان ذلك في مقدورها لكنها لم تفعل .
الرابعة :
المسلم إذا تزوج كتابية فإنه لا يلزمها بالتخلي عن دينها والدخول في الإسلام بل لها الحق الكامل في البقاء على ديانتها وحقوق الزوجية محفوظة لها كاملة .
حكم الردة :
الكلام عن الردة ينتظم عدة جوانب :
أولها : الإيمان بالإسلام المبني على الإكراه والجبر – غير معتد به – كما سبق – أي أنه لا يدخل الداخل فيه حقيقة إلا إذا كان عن اقتناع ورضاً وتبصر .
ذلك أن النظرة العاقلة المنصفة تؤكد كمال هذا الدين وتنزهه عن الباطل وتحقيقهُ لحاجات البشر وتوافقهُ مع الطبائع السليمة التي فطر الله الناس عليها .
الثاني : في تاريخ الإسلام الطويل لا يكاد يذكر مرتد ارتد عن هذا الدين رغبة عنه وسخطاً عليه وإن وجد فلا يخلو من أحد رجلين ، إما أن يكون لمكيدة يقصد بها الصد عن دين الله كما حصل من بعض اليهود في أول عهد الدعوة حينما تمالأ نفر منهم بأن يؤمنوا أول النهار ثم يكفروا آخره من أجل إحداث البلبلة في المؤمنين لأن اليهود أهل كتاب فإذا حصل منهم هذا يختلج في بعض النفوس الضعيفة أن هؤلاء اليهود لو لم يتبينوا خطأ في هذا الدين الجديد لما رجعوا عنه فكان مقصودهم الفتنة والصد عن دين الله . وإما أن يكون هذا المرتد رجلاً يريد أن يطلق لشهواته العنان ويتحلل من ربقة التكاليف .
الثالث : الخروج عن الإسلام يعتبر خروجاً على النظام العام ذلك إن الإسلام دين كامل كما يهتم بعلاقة الإنسان بربه فهو يهتم بعلاقته بغيره من بني جنسه بين المرء وزوجه وبينه وبين أقربائه وجيرانه وفيما بينه وبين أعدائه حرباً وسلماً في شمول منقطع النظير عبادة ومعاملة وجناية وقضاء إلى سائر ما تنقسم إليه قوانين الدنيا بل أوسع من ذلك . وبناءً على هذا فيجب النظر إلى الإسلام ككل متكامل وليس قاصراً فقط على علاقة العبد بربه كما يظنه غير المسلمين.
وإذا كان ذلك كذلك فالردة تعني الخروج على النظام .
الرابع : في جعل العقوبة على الردة إباحة دم المرتد زاجرٌ لمن يريد الدخول في هذا الدين مشايعة ونفاقاً للدولة أو لأهلها وباعثٌ له على التثبت في أمره فلا يعتنقه إلا على بصيرة وسلطان بَيِّن ، فالدِّين تكاليف وشعائر ويتعسر الاستمرار عليها من قبل المنافقين وأصحاب المآرب المدخولة .
الخامس : للإنسان قبل أن يؤمن بالإسلام الحق في أن يؤمن أو يكفر فإذا آثر أي ديانة من الديانات فلا اعتراض عليه ويبقى له حق الحياة والأمن والعيش بسلام ، وإذا آثر الإسلام ودخل فيه وآمن به فعليه أن يخلص له ويتجاوب معه في أمره ونهيه وسائر هديه في أصوله وفروعه .
ثم بعد ذلك نقول : هل من حرية الرأي أن يمكن صاحبها من الخروج على هذا المجتمع ونبذ قواعده ومشاقة أبنائه ؟ هل خيانة الوطن أو التجسس لحساب الأعداء من الحرية ؟ هل إشاعة الفوضى في جنباته والاستهزاء بشعائره ومقدساته من الحرية ؟ إن محاولة إقناع المسلمين بقبول هذا الوضع سفه . ومطالبة المسلمين بتوفير حق الحياة لمن يريد نقض بناء دينهم وتنكيس لوائهِ شيء عجيب !!
ونقول بكل قوة إن سرقة العقائد والنيل من الأخلاق والمثل أضحت حرفة لعصابات وطوائف من دعاة التنصير الكارهين للإسلام وكتابه ونبيه وأتباعه وما فتئوا يثيرون الفتن وأسبابها في كل ناحية من أجل هز كيان المجتمع وقلبه رأساً على عقب .(1/339)
ويؤكد حقنا في رفع الصوت عالياً ما نرمقه من المواقف المفضوحة في بلاد الحريات – فرنسا وبريطانيا وأمريكا – من المسلمين الذين بدأوا يظهرون تمسكاً بدينهم وظهورهم بالزي المحتشم رجالاً ونساءً مما أثار حفائظهم وبخاصة الفرنسيين في قضية الحجاب على الرغم من أن قوانينهم فيها نصوص تعطي الحق لأهل كل ديانة أن يلتزموا بدياناتهم ولكنهم بحجة الأمن والحفاظ على النظام العام كانت لهم تلك المواقف المكشوفة ومن حقنا كذلك أن نتذكر ما يجري لكثير من الأقليات المسلمة في روسيا وبلغاريا مما هو معلن فكيف بغير المعلن .
ثم إن عقوبة الإعدام موجودة في كثير من القوانين المعاصرة سواء لمهربي المخدرات أو غيرهم وهم لم يقولوا بها إلا لجدواها في القضاء على الجريمة والتخفيف منها وحماية لعموم المجتمع من سوئها ولم يقل أحد أن تشريع عقوبة الإعدام في حق هؤلاء المفسدين مصادم لحريتهم إذا كانوا قد تجاوزوا في حرياتهم حتى سطوا على حريات الآخرين أو نغصوا عليهم حياتهم الطبيعية الآمنة السوية .
وهناك إعدام من أجل الخيانة العظمى أو ما يشبهها ولم يكن هذا مصادماً للحرية أو محل نقد لدى هذه المؤسسة التنصيرية وأشباهها مما يذكِّر بما قلناه أول الحديث من الشك في حسن النية في إثارة مثل هذه التساؤلاة .
وفي الختام هذه الفقرة عن حرية الديانة والارتداد أنقل بعض الوقائع من مواقف الديانات الأخرى نحو المسلمين والتعسف والتعصب والحقد الدفين الذي يظهر واقعاً حياً حين تتاح له فرصة الظهور .
يقول الكاتب (( جيبون )) : (( إن الصليبيين خدّام الرب يوم استولوا على بيت المقدس في 15/7/1099م رأوا أن يكرموا الرب بذبح سبعين ألف مسلم ولم يرحموا الشيوخ ولا الأطفال ولا النساء في مذبحة استمر ثلاثة أيام بلياليها حطموا رؤوس الصبيان على الجدران وألقوا بالأطفال الرضع من سطوح المنازل وشووا الرجال والنساء بالنار و بقروا البطون ليروا هل ابتلع أهلها الذهب ... ثم يقول الكاتب : كيف ساغ لهؤلاء بعد هذا كله أن يضرعوا إلى الله طالبين البركة والغفران )) .
ويقول جوستاف لوبون : عن فعل الصليبيين بمسلمي الأندلس : (( لما أجلي العرب – يعني المسلمين – سنة 1610م اتخذت جميع الذرائع للفتك بهم فقتل أكثرهم وكان من قتل إلى ميعاد الجلاء ثلاثة ملايين من الناس في حين أن العرب لما فتحوا أسبانيا تركوا السكان يتمتعون بحريتهم الدينية محتفظين بمعاهدهم ورئاستهم .... وقد بلغ من تسامح العرب طوال حكمهم في أسبانيا مبلغاً قلما يصادف الناس مثله هذه الأيام )) .
وفي أيامنا هذه نقرأ في وثائق اليهود نحو أهل فلسطين : (( يا أبناء إسرائيل ، اسعدوا واستبشروا خيراً لقد اقتربت الساعة التي سنحشر فيها هذه الكتل الحيوانية في اصطبلاتها وسنخضعها لإرادتنا ونسخرها لخدمتنا )) .
وفي روسيا الشيوعية أغلقت الحكومة أربعة عشر ألف مسجد في مقاطعة تركستان وفي منطقة الأورال سبعة آلاف مسجد وفي القوقاز أربعة آلاف مسجد وكثير من هذه المساجد حولت إلى دور البغاء وحوانيت خمر واصطبلات خيول وحظائر بهائم وفوق ذلك التصفية الجسدية للمسلمين ويكفي أن نعلم أنهم قتلوا في ربع قرن ستة وعشرين مليون مسلم مع تفنن في طرق التعذيب والقتل .
والدول الشيوعية الدائرة في فلك روسيا حذت حذوها ففي يوغسلافيا أباد تيتو ما يقارب مليون مسلم .
وفي سنواتنا الحاضرة هذه تنصب الملاحقة والمتابعة لجميع الحركات الإسلامية والتوجهات الإسلامية في الفلبين وأندونيسيا وشرق أفريقيا بصور ظاهرة مفضوحة فضلاً عن الطرق الخفية في كثير البلاد .
فيا ترى أين الحرية ويا ترى من المتعصب ومن هو المتسامح .... ؟؟؟؟
الرق :
س : ما معنى الدفاع عن تفوق الإنسان الحر على العبد دون إدانة للعبودية أو القضاء عليها ؟
الخوض في الحديث عن الرق وإثارة الأسئلة حوله من قبل دعاة التنصير والصادين عن دين الإسلام مما يثير حفيظة المتعقل ومما يشير بأصابع الاتهام نحو الأغراض المستترة وراء هذه التساؤلات .
ذلك أن الرق في اليهودية والنصرانية مقرر ثابت على صور ظالمة وكتبهم بتفاصيل الحديث عنه والاستحسان له طافحة ، وعليه فإن أول ما يستلفت النظر : كيف يسعى الكنسيون للدعوة إلى التنصير ، والنصرانية تقول بالرق ومشروعيته ؟
وبمعنى آخر : كيف يثيرون أمراً هم غارقون فيه إلى الأذقان ؟
أما أمر الرق في الإسلام فمختلف تماماً إذا ما قورن بين النظرتين وإذا ما قورن كذلك بما عليه حال الرق حين مجيء الإسلام .
ولا يسع الباحث وهو ينظر في مثل هذه التساؤلات وقد بسط فيها دعاة التنصير ألسنتهم لينالوا من الإسلام ما وسعهم النيل .
أقول لا يسعه إلا أن يبسط القول في هذا الموضوع مشيراً إلى ما عند اليهودية والنصرانية والحضارة المعاصرة ثم نذكر ما في الإسلام .
وإن الإسلام قد تعرض في هذا لإفك كثير على حين نَجَا مجرمون عريقون في الإجرام لم تشر إليهم – مع الأسف – أصابع الإتاهم .
الإسلام والرق :
يقرر الإسلام أن الله عز وجل خلق الإنسان كامل المسئولية وكلفه بالتكاليف الشرعية ورتب عليها الثواب والعقاب على أساس من إرادته واختياره .
ولا يملك أحد من البشر تقييد هذه الإرادة أو سلب ذلك الاختيار بغير حق ومن اجترأ على ذلك فهو ظالم جائر .
هذا مبدأ ظاهر من مبادئ الإسلام في هذا الباب وحينما يثار التساؤل .(1/340)
كيف أبارح الإسلام الرق ؟ نقول بكل قوة وبغير استحياء أن الرق مباح في الإسلام ولكن نظرة الإنصاف مع التجرد وقصد الحق توجب النظر في دقائق أحكام الرق في الإسلام من حيث مصدره وأسبابه ثم كيفية معاملة الرق ومساواته في الحقوق والواجبات للحر وطرق كسب الحرية وكثرة أبوابها في الشريعة وبخاصة إذا ما قورنت بغيرها مع الأخذ بالاعتبار نوع الاسترقاق الجديد في هذا العالم المتدثر بدثار الحضارة والعصرية والتقدمية وسوف يلاحظ القارئ أنني سوف أستعين بكثير من نصوص القرآن وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته في هذا الموضوع نظراً لأهمية ذلك والتأكيد على أن الممارسات الخائطة لا يجوز أن تحسب على الإسلام .
وفي هذا الصدد نقول : إن الإسلام يقف من الرقيق موقفاً لم يقفه غيره من الملل والنحل ولو سارت الأمور على وجهها بمقتضى ذلك النهج لما كانت تلك الإشكالات وعلى رأسها استرقاق الأحرار عن طريق والخطف والغصب والاستيلاء بقوة أو بخدعة في القديم وفي الحديث مما استفحل معه الرق بطريقة شائنه ووجه قبيح . وما انتشر الرق ذلك الانتشار الرهيب في قارات الدنيا إلا عن طريق هذا الاختطاف بل كان المصدر الأعظم في أوربا وأمريكا في القرون الأخيرة .
والإسلام يقف بنصوص من هذا موقفاً حازماً حاسماً جاء في حديث قدسي : [ ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته ، رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه العمل ولم يعطه أجره ] أخرجه البخاري .
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة : من تقدم قوماً وهم له كارهون ، ورجل أتى الصلاة دباراً – بمعنى بعد خروج وقتها – ورجل اعتبد محرراً )) رواه أبو داود وابن ماجة كلاهما من رواية عبد الرحمن زياد الأفريقي .
ومن الطريف أنك لا تجد في نصوص القرآن والسنة نصاً يأمر بالاسترقاق بينما تحفل آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بالمئات من النصوص الداعية إلى العتق والتحرير.
كانت مصادر الرق ومنابعه كثيرة عند ظهور الإسلام بينما طرق التحرر ووسائله تكاد تكون معدومة فقلب الإسلام في تشريعاته النظرة فأكثر من مصارف الحرية والتحرر وسد مسالك الاسترقاق ووضع من الوصايا ما يسد تلك المسالك .
ولقد كان الأسر في الحروب من أظهر مظاهر الاسترقاق وكل حرب لابد فيها من أسرى وكان العرف السائد يومئذ أن الأسرى لا حرمة لهم ولا حق وهم بين أمرين إما القتل وإما الرق .
ولكن الإسلام حث على طريق ثالث من حسن معاملة الأسير وفك أسره .
في القرآن الكريم : { ويُطعِمُونَ الطَّعَام عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً ويتيِماً وأسيراً . إنَّما نُطعِمُكُمْ لِوجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً ولا شُكُوراً} [ سورة الإنسان ، الآية 8 -9 ] .
والآية في رقتها وحثها لا تحتاج إلى تعليق ونبي الإسلام عليه السلام في ميدان مكارم الأخلاق
يقول : (( عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني )) . رواه البخاري .
وفي أول مواجهة بين المسلمين وأعدائهم في معركة بدر انتصر فيها المسلمون ووقع فيها أسرى من كبراء العرب ، لقد سقطوا في الأسر كما يسقط الكبراء والأشراف في معارك الدول الكبرى من القياصرة والأكاسرة لو عوقبوا بعقاب شديد لكانوا له مستحقين فقد آذوا المسلمين أشد الإيذاء في أول قيام الدعوة الإسلامية غير أن القرآن الكريم يوجه النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه بقوله : { يا أيهُّا النَّبِي قُل لّمَن فِي أيْدِيكُم مِّن الأسْرى إن يَعْلَم ِ اللهُ في قُلُوبِكُمْ خيْراً يُؤْتِكُم خيْراً مِّما أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لكُمْ واللهُ غفُورٌ رحِيمٌ . وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فقدْ خَانُواْ الله مِن قبْلُ فأمْكنَ منْهُمْ واللهُ علِيمُ حَكيِمُ } [ سورة الأنفال ، الآيتان : 70 -71 ] .
لقد كان هؤلاء الأسرى قبل هذه المعركة ومن أول عهد البعثة يوقعون المظالم الفاجعة بجمهور المسلمين يريدون إفناءهم أو احتلالهم . فهل يا ترى من حسن السياسة أن يطلق سراح الأسرى فوراً ؟؟؟
معلوم أن هذا يتعلق بمصالح الدولة العامة العليا ولهذه تجد أن المسلمين في بدر قبلوا الفداء وفي الفتح قيل لأهل مكة : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، وفي غزوة بني المصطلق تزوج الرسول أسيرة من الحي المغلوب ليرفع من مكانتها حيث كانت ابنة أحد زعمائه فما كان من المسلمين إلا أن أطلقوا سراح جميع هؤلاء الأسرى .
ومن هذا تدرك الصورة المحدودة والمسالك الضيقة التي يلجأ إليها في الرق وهو لم يلغه بالكلية لأن هذا الأسير الكافر المناوئ للحق والعدل كان ظالماً أو معيناً على ظلم أو أداة في تنفيذه أو إقراره كانت حريته فرصة لفشو الطغيان والاستعلاء على الآخرين .
ومع كل هذا فإن فرصة استعادة الحرية لهذا وأمثاله في الإسلام كثيرة وواسعة .
كما أن قواعد معاملة الرقيق في الإسلام تجمع بين العدالة والرحمة .
فمن وسائل التحرير : فرض نصيب في الزكاة لتحرير العبيد وكفارات القتل الخطأ والظهار والأيمان والفطر في رمضان إضافة إلى مناشدة عامة في إثارة للعواطف من أجل العتق والتحرير ابتغاء وجه الله .
وهذه إشارات سريعة لبعض قواعد المعاملة المطلوبة عدلاً وإحساناً لهؤلاء :
1- ضمان الغذاء والكساء مثل أوليائهم :
روى أبو داود عن المعرور بن سويد قال : دخلنا على أبي ذر بالربذة فإذا عليه برد وعلى غلامه مثله فقال : يا أبا ذر لو أخذت برد غلامك إلى بردك فكانت حلة ، وكسوته ثوباً غيره ؟ قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليكسه مما يكتسي ولا يكلفه ما يغلبه ، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه)) . البخاري .
2- حفظ كرامتهم :(1/341)
روى أبو هريرة قال : قال أبو القاسم نبي التوبة : (( من قذف مملوكه بريئاً مما قال أقيم عليه الحد يوم القيامة ، إلا أن يكون كما قال )) . البخاري .
وأعتق ابن عمر مملوكاً له ، ثم أخذ من الأرض عوداً أو شيئاً فقال : مالي فيه من الأجر ما يساوي هذا سمعت رسول الله يقول : (( من لطم مملوكاً له أو ضربه فكفارته عتقه )). أبو داود ومسلم.
3- يتقدم العبد على الحر :
فيما يفضله فيه من شئون الدين والدنيا ، وقد صحت إمامته في الصلاة ، وكان لعائشة أم المؤمنين عبد يؤمها في الصلاة ...... بل لقد أمر المسلمون بالسمع والطاعة إذا ملك أمورهم عبد مادام أكفأ من غيره .
أن الحرية حق أصيل للإنسان ، ولا يسلب امرؤ هذا الحق إلا لعارض نزل به والإسلام – عندما قبل الرق في الحدود التي أوضحناها – فهو قيّد على إنسان استغلَّ حريته أسوأ استغلال .... فإذا سقط أسيراً أثر حرب عدوان انهزم فيها ، فإن إمساكه بمعروف مدة أسره تصرف سليم .
وإذا حدث لأمر ما أن استرق ثم ظهر أنه أقلع عن غيره ، ونسي ماضيه وأضحى إنساناً بعيد الشر قريب الخير . فهل يجاب إلى طلبه بإطلاق سراحه ؟ الإسلام يرى إجابته إلى طلبه ، ومن الفقهاء من يوجب ذلك ومنهم من يستحبه !!!
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالرقيق كثيراً ، فقد ثبت أنه لما وزع أسرى بدر على الصحابة قال لهم : [ استوصوا بالأسرى خيراً ] .
وروى أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دَعَك أُذُن عَبْدٍ له على ذنب فعله ، ثم قال له بعد ذلك : تقدم واقرص أذني ، فامتنع العبد فألح عليه ، فبدأ يقرص بخفة ، فقال له : اقرص جيداً ، فإني لا أتحمل عذاب يوم القيامة ، فقال العبد : وكذلك يا سيدي: اليوم الذي تخشاه أنا أخشاه أيضاً.
وكان عبد الرحمن بن عوف إذا مشى بين عبيدة لا يميزه أحد منهم – لأنه لا يتقدمهم ، ولا يلبس إلا من لباسهم .
ومر عمر يوماً فرأى العبيد وقوفاً لا يأكلون مع سادتهم ، فغضب وقال لمواليهم : ما لقوم يستأثرون على خدامهم ؟ ثم دعا الخدم فأكلوا معهم .
ودخل رجل على سلمان رضي الله عنه فوجده يعجن ، فقال له : يا أبا عبد الله ما هذا ؟ فقال بعثنا الخادم في شغل فكرهنا أن نجمع عليه عملين .
هذا مما أسداه الإسلام للرقيق من أيادٍ !
موقف اليهود من الرقيق :
ينقسم البشر عند اليهود إلى قسمين : بنو إسرائيل قسم ، وسائر البشر قسم آخر .
فأما بنو إسرائيل فيجوز استرقاق بعضهم حسب تعاليم معينة نص عليها العهد القديم .
وأما غيرهم ،فهم أجناس منحطة ، يمكن استعبادها عن طريق التسلط والقهر ، لأنهم سلالات كتبت عليها الذلة باسم السماء من قديم ، جاء في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج ( 2- 12 ) نصه :
(( إذا اشتريت عبداً عبرانياً فست سنين يخدم ، وفي السابعة يخرج حراً مجاناً ، إن دخل وحده ، فوحده يخرج ، إن كان بعل امرأة تخرج امرأته معه, إن أعطاه سيده امرأة وولدت له بنين وبنات فالمرأة وأولادها يكونون للسيد ، وهو يخرج وحده ، ولكن إذا قال العبد : أحب سيدي وامرأتي وأولادي لا أخرج حراً ، يقدمه سيده إلى الله ، ويقربه إلى الباب أو إلى القائمة ، ويثقب سيده أذنه بالمثقب يخدمه إلى الأبد ، وإذا باع رجل ابنته أمة لا تخرج كما يخرج العبيد ، إن قبحت في عين سيدها الذي خطبها لنفسه يدعها تفك ، وليس له سلطان أن يبيعها لقوم أجانب لغدره بها ، وإن خطبها لابنه فبحسب حق البنات يفعل لها ، إن اتخذ لنفسه أخرى لا ينقص طعامها وكسوتها ومعاشرتها ، وإن لم يفعل لها هذه الثلاث تخرج مجاناً بلا ثمن ))
أما استرقاق غير العبراني فهو بطريق الأسر والتسلط لأنهم يعتقدون أن جنسهم أعلى من جنس غيرهم ، ويلتمسون لهذا الاسترقاق سنداً من توراتهم فيقولون: إن حام بن نوح – وهو أبو كنعان- كان قد أغضب أباه ، لأن نوح سكر يوماً ثم تعرى وهو نائم في خبائه ، فأبصره حام كذلك ، فلما علم نوح بهذا بعد استيقاظه غضب ، ولعن نسله الذين هم كنعان ، وقال – كما في التوراة في سفر التكوين إصحاح 9 / 25- 26 – ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته ، وقال : مبارك الرب إله سام ، وليكن كنعان عبداً لهم . وفي الإصحاح نفسه / 27 / : (( ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام ، وليكن كنعان عبداً لهم )) .
وقد اتخذت الملكة (( إليزابيث )) الأولى من هذا النص سنداً يبرر تجارتها في الرقيق التي كانت تسهم فيها بنصيب كبير كما سيتبين قريباً .
موقف النصرانية من الرقيق :
جاء الدين المسيحي فأقرَّ الرق الذي أقره اليهود من قبل ، فليس في الإنجيل نص يحرمه أو يستنكره .
والغريب أن المؤرخ (( وليم موير )) يعيب نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبطل الرق حالاً ، مع تغاضيه عن موقف الإنجيل من الرق ، حيث لم ينقل عن المسيح ، ولا عن الحواريين ولا عن الكنائس شيئاً في هذه الناحية .
بل كان بولس يوصي في رسائله بإخلاص العبيد في خدمة سادتهم ، كما قال في رسالته إلى أهل أفسس .
وأضاف القديس الفيلسوف (( توما الأكويني )) . رأي الفلسفة إلى رأي الرؤساء الدينيين ، فلم يعترض على الرق بل زكاه ، لأنه على رأي أستاذه أرسطو حالة من الحالات التي خلق عليها بعض الناس بالفطرة الطبيعية .
وأقر القديسون أن الطبعة جعلت بعض الناس أرقاء .
وفي المعجم الكبير للقرن التاسع عشر (( لاروس )) : (( لا يعجب الإنسان من بقاء الرق واستمراره بين المسيحيين إلى اليوم ، فإن نواب الدين الرسميين يقرون صحته ويسلمون بمشروعيته )) .
وفيه : (( الخلاصة أن الدين المسيحي ارتضى الاسترقاق تماماً ، إلى يومنا هذا ، ويتعذر على الإنسان أن يثبت أنه سعى في إبطاله )) .(1/342)
وجاء في قاموس الكتاب المقدس للدكتور (( جورج يوسف )) إن المسيحية لم تعترض على العبودية من وجهها السياسي ولا من وجهها الاقتصادي ، ولم تحرض المؤمنين على منابذة جيلهم في آدابهم من جهة العبودية ، حتى ولا المباحثة فيها ، ولم تقل شيئاً ضد حقوق أصحاب العبيد ، ولا حركت العبيد إلى طلب الاستقلال ، ولا بحثت عن مضار العبودية ، ولا عن قساوتها ولم تأمر بإطلاق العبيد حالاً ، وبالإجماع لم تغير النسبة الشرعية بين المولى والعبد بشيء ، بل بعكس ذلك فقد أثبتت حقوق كل من الفريقين و واجباته )) .
وندعو جميع الآباء البيض النصارى والقارئ الكريم ليقارنوا بين تعاليم الإسلام وبين هذه التعاليم .
أوربا المعاصرة والرقيق :
من حق القارئ أن يسأل وهو في عصور النهضة والتقدم عن رائدة التقدم في هذه العصور .
وعدا من كانوا يموتون بسبب طرق الاصطياد هذه وفي الطريق إلى الشواطئ التي ترسو عليها مراكب الشركة الإنجليزية وغيرها فإن ثلث الباقين يموتون بسبب تغير الطقس ويموت 5، 4% أثناء الشحن و 12 % أثناء الرحلة فضلاً عمن يموتون في المستعمرات .
ومكثت تجارة الرقيق في أيدي شركات إنجليزية التي حصلت على حق احتكار ذلك بترخيص من الحكومة البريطانية ثم أطلقت أيدي جميع الرعايا البريطانيين في الاسترقاق ويقدر بعض الخبراء مجموع ما استولى عليه البريطانيون من الرقيق واستعبدوه في المستعمرات من عام 1680 / 1786م حوالي 2130000 شخص .
ومن قوانينهم السوداء في ذلك : من اعتدى على سيده قتل ومن هرب قطعت يده ورجلاه وكوي بالحديد المحمى إذا أبق للمرة الثانية قتل . ولا أدري كما يقال – ماذا صنعت بالرقيق ؟؟
عندما اتصلت أوربا بإفريقيا السوداء كان هذا الاتصال مأساة إنسانية تعرض فيها زنوج هذه القارة لبلاء عظيم طوال قرون خمسة . لقد نظمت دول أوربا وتفتقت عقليتها عن طرق خبيثة في اختطاف هؤلاء واستجلابهم إلى بلادهم ليكونوا وقود نهضتها وليكلفوهم من الأعمال مالا يطيقون وحينما اكتشفت أمريكا زاد البلاء لينؤوا بعبء الخدمة في قارتين بدلاً من قارة واحدة .
تقول دائرة المعارف البريطانية جـ2 / ص ( 779 ) مادة Slavery : (( إن اصطياد الرقيق من قراهم المحاطة بالأدغال كان يتم بإيقاد النار في الهشيم الذي صنعت منه الحظائر المحيطة بالقربة حتى إذا نفر أهل القرية إلى الخلاء تصيدهم الإنجليز بما أعدوا لهم من وسائل )) .
كيف سيهرب بعد ما نكل به وقطعت رجلاه ؟؟
ولكن الذي يبدو أن الجحيم الذي يعيشه أشد عليه من قطع يديه ورجليه مما يدعوه إلى محاولة الهرب مرة أخرى .
ومن قوانينهم يحرم التعليم على الرجل الأسود ويحرم على الملونين وظائف البيض .
وفي قوانين أمريكا : إذا تجمع سبعة من العبيد عُدَّ ذلك جريمة ويجوز للأبيض إذا مر بهم أن يبصق عليهم ويجلدهم عشرين جلدة .
ونص قانون آخر : أن العبيد لا نفس لهم ولا روح وليست لهم فطانة ولا ذكاء ولا إرادة وأن الحياة لا توجد إلا في أذرعهم فقط .
والخلاصة في ذلك أن الرقيق من جهة الواجبات والخدمة و الاستخدام عاقل مسئول يعاقب عند التقصير ومن جهة الحقوق شيء لا روح له ولا كيان بل أذرعة فقط .
وهكذا لم تستفق ضمائرهم إلا في هذا القرن الأخير وأي منصف يقارن بين هذا وبين تعاليم دين محمد صلى الله عليه وسلم الذي مضى له أكثر من 14 قرناً يرى أن إقحام الإسلام في هذا الموضوع أحق بالمثل السائر : (( رمتني بدائها وانسلت ........ )) .
المرأة
ما يقال في الرق يقال في المرأة فليس من حق اليهودية ولا النصرانية الحديث عن المرأة فما في دياناتهم في حق المرأة هو شيء نُكُر ، فقد هضموها حقوقها واعتبروها مصدر الخطيئة في الأرض وسلبت حقها في الملكية والمسئولية فعاشت بينهم في إهانة وإذلال واحتقار واعتبروها مخلوقاً نجساً .
وما الزوج عندهم إلا صفقة مبايعة تنتقل فيه المرأة لتكون إحدى ممتلكات الزواج . حتى انعقدت بعض مجامعهم لتنظر في حقيقة المرأة وروحها هل هي من البشر أو لا ؟؟
بل لعل الجاهلية العربية الأولى كانت أخف وطأة على المرأة من هذه النظرة اليهودية النصرانية المنسوبة إلى تعاليم السماء – معاذ الله .
ومن هنا يثور عجبنا من النصارى ليسألوا عن المرأة في الإسلام وموقعها من تشريعه ومجتمعه؟؟
فحضارة الغرب وما فيها من بهارج وبوارق تخدم الناظرين ليس للنصرانية ولا لليهودية صنع فيها .
ومع هذا فنحن المسلمين لا نجري خلف كل ناعق ولسنا بالراضين على ما عليه المرأة المعاصرة
إن المرأة في ديانتنا محل التقدير والاحترام من حيث هي الأم والأخت والبنت .
ونصوص الديانة عندنا صحيحة صريحة في بيان موقع المرأة وموضعها جاءت واضحة جلية منذ أكثرٍ من أربعة عشر قرناً حين كانت الجاهليات تعم الأرض شرقاً وغرباً على نحو مظلم وبخاصة في بخس المرأة حقها بل عدم اعترافه بأي حق لها ........
ويتأكد هنا ما قلته في مقدمة الإجابة على هذه التساؤلات ما هو الأنموذج الذي نتفق عليه ؟
اليهودية والنصرانية معلوم ما فيهما وهو غير مرضي من الجميع لأن الأسئلة المثارة ليس في الديانتين إجابة عنهما .
أما الحضارة المعاصرة ففيها وبخاصة فيما يتعلق بالمرأة شر كثير غير موجود في ديننا وما فيها من أمور مستحسنة فديننا لا يعارضها . ومن أجل مزيد من الإيضاح في ميدان التعليم .
إن من أكثر ما تميزت به هذه الحضارات الاهتمام بالعلم والتعليم والدعوة إلى ذلك والإكثار من البرامج والوسائل مما هو معروف ونقول بكل صراحة إن التعليم في ديننا محمود مطلوب بل منه ما هو فرض عين يأثم تاركه سواء كان ذكراً أو أنثى .
المرأة في التعليم كالرجل مما يحقق وظيفة كل جنس على نحو ما ذكرنا في الكلام على المساواة.(1/343)
ولكن من حقنا أن نتساءل : ما هي العلاقة بين التعليم والتبرج وإبداء الزينة وإظهار المفاتن ، وكشف الصدور والأفخاذ ؟؟
هل من وسائل التعليم لبس الملابس الضيقة والشفافة والقصيرة ؟
ميدان آخر : أية كرامة حين توضع صور الحسناوات في الدعاية والإعلان وفي كل ميدان ولا يروج عندهم إلا سوق الحسناء فإذا استنفدت السنون جمالها وزينتها أهملت كأي آلة انتهى مفعولها
ما نصيب قليلة الجمال في هذه الحضارة ؟ وما نصيب الأم المسنة والجدة العجوز ؟ ملجؤها دور الملاجئ حيث لا تزار ولا يسأل عنها وقد يكون لها نصيب من راتب تقاعد أو تأمين اجتماعي تأكل منه حتى تموت ولا رحم ولا صداقة ولا ولي حميم ولكن المرأة في الإسلام إذا تقدَّم بها السن زاد احترامها وعظم حقها أي أنها أدت ما عليها ، وبقي الذي لها عند أبنائها وأحفادها وأهلها والمجتمع .
أما حقها في المال والملك والمسئولية والثواب العقاب الدنيوي والأخروي فيستوي فيه الرجال والنساء . وأما ما اختلف فيه الرجل والمرأة في بعض الأحكام فأمر طبيعي متقرر فيما قلناه في الحديث عن المساواة على أننا سوف نفصل هنا في بعض ما أثير من أسئلة في قضايا الميراث والوصاية وغيرهما ؟؟
الميراث
إن نصيب الذكر في الميراث يختلف عن نصيب الأنثى وذلك يرجع لعدة أمور :
1- الميراث من جملة النظام العام في الإسلام فهو خاضع لعموم المسئوليات والأحكام المناطة بالذكر والأنثى وما اختلف فيه من أحكام فهو راجع إلى القاعدة العامة في عدم لزوم إطراد المساواة بين العاملين لأن لهم حسب أعمالهم ومسئولياتهم فالرجال وهم جنس واحد ليسوا بمتساوي الدخول والمرتبات لدى الجهات الحكومية أو غيرها في جميع الأنظمة وإنما التفاوت راجع إلى طبيعة أعمالهم ومؤهلاتهم وكفاءاتهم ولا تقوم الحياة إلا بهذا ولا يعتبر هذا مؤثراً في أصل المساواة .
2- زيادة الذكر في نصيبه راجعة إلى طبيعة التكاليف المناطة به في النظام الإسلام . فهو المسئول وحده عن تكاليف الزواج من مهر ومسكن ومن أجل مزيد إيضاح لهذا النظام لنفرض أن رجلاً مات وخلف ابناً وبنتاً وكان للابن ضعف نصيب أخته ثم أخذ كل منهما نصيبه وتزوجا فالابن مطالب بالتكاليف السابقة من مهر والسكن والنفقة مدى الحياة .
أما أخته فسوف تأخذ المهر من زوجها حين زواجها وليست محتاجة إلى شيء من نصيبها لتصرفه في زواجها أو نفقة بيتها .
ثم إن دية قتل الخطأ يتحمل الرجال من العصبة والأقارب مساعدة القاتل في دفعها دون النساء . ومن هذا يتضح ما على الرجال من تكاليف مالية ليست على النساء في نظام الإسلام .
من أجل هذا يجب أن نعلم أن الشريعة الإسلامية تختلف عن أنظمة البشر الجائرة التي تحكم كثيراً من بقاع العالم اليوم حيث فيها يتبرأ الأب من ابنته حين تبلغ سن الثامنة عشر لتخرج باحثة عن لقمة العيش وكثيراً ما يكون ذلك على حساب الشرف ونبيل الأخلاق . أما الفتاة في الإسلام فهي مرعية في كنف أبيها أو من يقوم مقامه شرعاً حتى تتزوج .
إن منهج الإسلام أحكاماً وأخلاقاً لا يجوز أن يكون تأمين العيش فيه على حساب العرض والشرف فما ضياع الشرف إلا ضياع للعالم كله ولئن وجد الشاب والشابة في نزواته وصبواته وفترة طيشه لذة عاجلة فإن عاقبتها الدمار والتشتت الأسري وتقطيع الأرحام وانتشار الفساد في الأرض وما نساء الشوارع وفتيات المجلات والأفلام في أوروبا وأتباع أوروبا إلا نتائج ذلك النظام الخاسر فهن إفرازات أخطاء البيوت الخربة والمسئولية الضائعة حينما ألقاها الرجال عن كواهلهم فوقعن حيث وقعن وتبع ذلك التنصل من مسئولية النسل والتربية الصحيحة وأصبح الفرد ذكراً أو أنثى لنفسه لا لأمته ولشهواته القريبة لا للهمم العليا وبهذه يسرع الفساد إلى المجتمع ويعم الخراب الديار .
3- الميراث ملحوظ فيه الجانب المادي فهو مرتب على نظام الزواج فهو كعملية الطرح بعد عملية الجمع لإخراج نتيجة صحيحة . أي أن الزيادة في الميراث ليست تفضيلاً ولكنها تعويض مادي بحت .
وبالنسبة للسؤال حول حق المرأة في الزواج من غير المسلم فهذا خاضع لعموم النظام التشريعي الإسلامي وكما قلنا في المساواة أن بعض الفئات من المجتمع قد تمنع من الزواج من فئات أخرى كالعسكري والدبلوماسي لأسباب تتعلق بالمصلحة العامة فلا غرابة في أنظمة الدنيا أن تشتمل على نوع من التفرقة في الحكم والتي لا تعني الإخلال بعموم مبدأ المساواة كما هو مشروح مفصل في جوابنا عن المساواة .
الطلاق
لم يعد أحد ينازع في العصر الحاضر بفاعلية الطلاق وحاجة الزوجين إليه حينما يتعذر بينهما العيش تحت سقف واحد بعد المحاولات الجادة في الإصلاح والتوفيق .
ويكفي الإسلام فخراً ومنقبة أنه شرع الطلاق وفصل أحكامه وأعطى فرص الرجعة في الطلاق ثلاث متفرقات يتخلل كل طلقة عدة معدودة بحساب مفصل في أحكام الشريعة مما يعجز نظام بشري أن يأتي بمثله حُكماً وحكمة ونظراً في طبيعة البشر والعلاقة بين الزوجين الذكر والأنثى والعيش في البيوت والرابط الاجتماعية .
وكل القوانين المتمدنة المعاصرة قالت بالطلاق وأخذت به رغماً عن النصرانية المحرفة التي زعمت أن الزواج عقد رُبط في السماء فلا يحل إلا في السماء .
إننا لا ننكر أن هناك أخطاءً في التطبيق يزاولها بعض الأزواج و بخاصة في المجتمعات التي يسود فيها الجهل والأمية ولا يجوز أن تنسحب أخطاء التطبيق على أصل النظام وقواعده وأحكامه ألا ترى أن في دنيا الناس من يصف له الطبيب دواءً بمقادير محددة ومواعيد معينة ثم يخالف المريض التعليمات ويسيء الاستعمال والمسئولية حينئذ تقع كاملة على المريض مادام عاقلاً راشداً .(1/344)
أما ما قيل في الأسئلة بإمكانية هجر الرجل لزوجته دون أن يقدم تبريراً لعمله ومن دون أن يعاني من أية نتائج لعمله هذا فهذا غير صحيح وليس بموجود في الإسلام ولا في تشريعاته وإذا رأت المرأة من زوجها نشوزاً أو إعراضاً فإما أن تعالجه مباشرة مع زوجها بمصالحة أو أي طريق من طرق العلاج الذي يًبقي على الحياة الزوجية ويحفظ للبيت تماسكه وإذا لم تجد كل هذه السبل فتلجأ للقضاء وإذا تبين للقاضي وجهة الحق مع المرأة فإنه يحكم بفسخ النكاح وافتراق الزوجين وإن لم يرض الزوج .
الحضانة
ما ورد في التساؤل من أن للأب حق الوصاية أو الولاية على الأبناء دائماً وإن كان الأطفال في حضانة الأم فهذا غير سديد وليس من حكم الشريعة وذلك لأمرين أساسيين :
أولهما : ليس في القرآن ولا في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم نص عام ينص على تقديم أحد الأبوين دائماً ولا في تخيير أحد الأبوين دائماً .
ثانيها : العلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقاً
وقد ترتب على ذلك خلاف في المدارس الفقهية مبني على النظر في مصلحة الطفل وعلى صلاحية الأبوين للحضانة والوصاية وقدرتهما على القيام بهذه المسئولية .
وهم متفقون على أنه لو كان أحدهما غير صالح لذلك فلا يجوز أن يتولى الحضانة أو الوصاية.
تعدد الزوجات
جاء في التساؤلات أن من مظاهر تفوق جنس على آخر قبول تعدد الزوجات مع تحريم تعدد الأزواج . وإيضاح الموقف من جهتين :
أولاهما : أن اختلاف الجنس البشري إلى ذكر وأنثى ترتب عليه اختلاف في الطبائع والقدرات وهذا الاختلاف الذي لا ينكر لا يجوز أن يكون دليلاً على تفوق جنس على آخر كما قررناه في الكلام على المساواة .
ثانيهما : جاءت الشريعة الإسلامية بإباحة تعدد الزوجات لأنه منسجم مع مجموعة تعاليمها وهو منسجم كذلك مع الطبيعة البشرية في كل من الذكر والأنثى .
أما أنه منسجم مع عموم تعاليم الشريعة فلأنها حرمت الزنا وشددت في تحريمه ثم فتحت باباً مشروعاً من وجه آخر ألا وهو النكاح ، وأباحت التعدد فيه ولا شك أن المنع من تعدد الزوجات يدفع إلى الزنا لأن عدد النساء يفوق عدد الرجال ويزداد الفرق كلما نشبت الحروب وفي وقتنا الحاضر تنوعت الأسلحة بحيث تقضي في المتحاربين بالعشرات بل المئات في هجمة واحدة أو طلقة مدفعية واحدة بل ينال ذلك حتى غير المتحاربين فقصر الزواج على امرأة واحدة يؤدي إلى بقاء عدد كبير من النساء دون زواج وحرمان المرأة من الزواج وبقاؤها عانساً ينتج سلبيات كبيرة من الضيق النفسي وبيع الأعراض وانتشار السفاح وضياع النسل .
ومن جهة أخرى فإن الرجل والمرأة مختلفان من حيث استعدادهما في المعاشرة فالمرأة غير مستعدة كل وقت للمعاشرة ففي الدورة الشهرية مانع قد يصل إلى عشرة أيام أو أسبوعين كل شهر وفي النفاس مانع هو في الغالب أربعون يوماً والمعاشرة في هاتين الفترتين محظورة شرعاً وفي حال العمل قد يضعف استعداد المرأة في ذلك أما الرجل فاستعداده واحد طوال الشهر والعام فإذا منع الرجل من الزيادة على الواحدة كان في ذلك حمل على الزنا في أحوال كثيرة .
ومما سبق يكون التشريع قد قدر الغرائز حق قدرها حسب الظروف من نقص الرجال وزيادة عدد النساء والأحوال التي تعترض المرأة فتقلل من استعدادها واستجابتها .
ومقصد آخر من مقاصد الزواج وهو حفظ النوع الإنساني واستمرار التناسل البشري وتكوين الأسرة المستقرة فإذا تزوج امرأة عقيماً ولم يبح له أن يتزوج غيرها فقد تعطلت الوظيفة عن أداء غرضها وتعطل الغرض من الزواج وإذا كان ذلك كذلك فإن بقاءها معه والإذن له بالزواج من أخرى خير من طلاقها ليتزوج أخرى ابتغاء الولد .
ثم إن قدرة الرجل على الإنجاب أوسع بكثير من قدرة المرأة ، فالرجل يستطيع الإنجاب إلى ما بعد الستين من العمر أما المرأة فيقف الإنجاب عندها في حدود الأربعين سنة فلو حرم على الرجل الزيادة على الواحدة لتعطلت وظيفة النسل أكثر من نصف العمر .
هذه هي النظرة في إباحة الشريعة للتعدد جاءت لدفع ضرر ورفع حرج ولتحقيق المساواة بين النساء ورفع مستوى الأخلاق .
ونحن أهل الشريعة نعلم أن القوانين الوضعية الأوروبية لم تعترف بهذا بل أنها جعلته محل تندر واستهجان ومجال طعن على الإسلام .
ولكننا بدأنا نلمس ظهور بعض القبول في نفوس مفكريهم ودعاة الإصلاح منهم . وبخاصة مع انتشار الحروب المدمرة وترمل الأعداد الكبيرة من النساء وزيادة أعداد النساء على الرجال .
ويكفي برهاناً لنا ورداً عليهم انتشار الخليلات فيما بينهم إذ يكون للرجل عدد من الخليلات يشاركن زوجته رجولته وعطفه وماله بل قد يكون لإحداهن في هذا كله أكثر من نصيب الزوجة.
يضم إلى ذلك شيوع الزنا وما ترتب عليه من أمراض وكثرة أبناء السفاح وقتل الأجنة في بطون الأمهات .
بل لقد بنوا علاقاتهم الجنسية على فوضى رهيبة فأولاد الزنا ولقطاء الفواحش تتفاحش نسبتهم حتى قاربوا في بعض أقطارهم نسبة الأولاد الشرعيين .
وحينما يرفعون عقيرتهم في النيل من تشريع التعدد فإن تنقل الرجل عندهم بين لفيف من النساء أمر مفهوم مقبول في أمزجتهم الفاسدة وقد ذكرت امرأة كندي – رئيس أمريكا السابق – أنه كان لزوجها بين / 200 إلى 300 / صديقة .
وطبقة الصعاليك عندهم يستطيعون السطو على المئات من النساء فما بالك بمن فوقهم .
والرجل عندهم يدور بين جيش من العشيقات دون حرج فإذا دار بين بضع زوجات داخل سياج من الأخلاق المحكمة والشريعة الكريمة وضع في قفص الاتهام بل الحرام .(1/345)
إن جورج كلمنصو نمر السياسة في فرنسا في وقته / 1841 – 1939م / وأحد رجالات أوربا المعدودين له عندهم في السياسة قدم راسخة وتغلب على خصوم كثير حظي بهذه المنزلة الدولية عندهم مع استفاضة خبثة وشهرته في نسبة الخنا إليه وكل ذلك لم يخدش شيئاً من عظمته عندهم .
لقد كانت له ثمانمائة عشيقة وكان له أربعون ابناً غير شرعي . ويقال : إنه عندما علم أن زوجته الأمريكية خانته نهض عند منتصف الليل ورماها في الشارع تهيم على وجهها في الليل البهيم . وتعجبوا لماذا حرم هذا الرجل على غيره ما استباحه لنفسه ؟؟ ويقول بعض المعلقين على هذه القصة كلمنصو مثل كل الذئاب البشرية – من أكثر الناس احتقاراً للمرأة ولم يقل أحد في المرأة أسوأ ولا أبشع مما قاله هو سواء على فراش اللهو أو على فراش المرض .
بقي أن نشير في خاتمة هذا الحديث إلى أن الشريعة حين أباحت التعدد اشترطت فيه وجوب العدل بين الزوجات في السكن والنفقة وكل مظاهر العلاقات وإذا لم يقم بالعدل أو خشي الظلم فإنه لا يجوز له أن يقدم على الزواج من أخرى .
كما أنه لا يجوز أن يتزوج الرجل بأكثر من أربع وهذا تحديد ظاهر لفوضى التعدد التي كانت سائدة في عصور الجاهلية .
وأخيراً فإن التعدد لمن استطاع العدل بين الزوجات جائز مشروع وليس بواجب متحتم .
تطبيق الشريعة
النظر في تطبيق الشريعة بالنسبة لغير المسلمين في بلاد الإسلام منظور إليه من شقين .
الأول : فيما يتعلق بالأحوال الشخصية وأحوال الأسرة فلكل ملة ما يعتقدون ، وتاريخ الإسلام الطويل عاش فيه اليهود والنصارى وغيرهم ولم يكن ثمة مشكلة قطعاً . لا في حال ضعف الدولة الإسلامية ولا في قوتها وكل الشعوب استقبلت المسلمين الفاتحين خير استقبال بدليل أنه عند ضعف الدولة لم يخرج أحد منهم عن إسلامه بل لازال إلى يومنا هذا مستمسكاً به مدافعاً عنه غيوراً عليه بما في ذلك الهندي والتركي والمغربي والعربي وسائر الأجناس .
بخلاف مواقفهم من الاستعمار الأوربي فكان الصراع على أشده منذ دخوله إلى خروجه ويسمى التخلص منه حرية واستقلالاً ولم يكن ذلك يوماً ما من الشعوب الإسلامية نحو الإسلام .
الثاني : فيما عدا الأحوال الشخصية ، فالنظرة المنصفة تقتضي أن ينظر إلى بقية الأحكام كسائر الأحكام في القوانين الأخرى من المعاملات والجنايات وهل القانون بجميع مواده إلا منعُ وإباحةُ ، ويدلك على التجني الظاهر أن واضح الأسئلة وصف تطبيق الشريعة بأنه دكتاتوري .
بينما كل القوانين حينما تطبق يجب أن تطبق بقوة وهو ما يسمى في مصطلحهم (( باحترام القانون )) فحين تحزم الدولة أو الحكومة النظام هل يكون هذا دكتاتورية .
وإنني أتساءل في تطبيق الشريعة في مصر أو السودان مثلاً ومن جملة الشعبين نصارى وحينما تكفل لهم أحكامهم الشخصية وشئونهم الأسرية بمقتضى ديانتهم كما أن للمسلمين أحكامهم الأسرية ماذا يريد النصارى في البلدين من قانون بعد ذلك – أي فيما عدا الأحوال الشخصية – هل يريدون قانوناً فرنسياً أو ألمانياً أو إيطالية أو إنجليزياً .
النظرة المنصفة والنظرة الوطنية المعقولة البعيدة عن التحيز أن يميلون إلى ما هو وطني مصري أو سوداني إن كانوا وطنيين .
فما الداعي لأن يفضل نصراني مصري القانون الفرنسي أو النصراني السوداني القانون الإنجليزي . ففيما عدا الأحوال الشخصية وأمور العبادات فإن أحكام الأنظمة والقوانين المدني منها والتجاري وقوانين العقوبة تختلف من قانون إلى قانون وقد تتفق في بعض المواد والأحكام ولعلك تدرك بهذا المدى التحيز والعنصرية ضد الشريعة الإسلامية والانحياز ..... لحضارة الرجل الأبيض .
إن اختلاف قوانين الدول فيما بينها أمر معروف مألوف . ولكن الإلحاح بالمطالبة بإبعاد الشريعة عن الحكم لا يخلو من أحد سببين .
* إما لأنها تعطي إتباعها الاستقلالية التامة والحرية المنشودة مع ما فيها من كمال وشمول وصلاح ومصلحة .
* وإما أنه تسلط محض يراد به الإثارة والبلبلة في المنطقة حتى لا تستقر ويسهل الاصطياد في الأجواء المتعكرة المضطربة .
وأي دكتاتورية في تطبيق الشريعة والكل يعلم من القاصي والداني أنه ما جرى استفتاء في تطبيق الشريعة إلا وكانت الأغلبية تنادي به ولكن الرجل الأبيض وحده لا يريد ذلك بدعوى حفظ حقوق الأقلية ويتساءل المتسائل أين حقوق الأكثرية في كثير من الدول الإفريقية التي يحكمها أقلية نصرانية متمكنة مسيطرة مدعومة من القوى الخارجية .
الحدود والعقوبات الجسدية :
إن الحدود والعقوبات - جسدية أو غير جسدية – ما هي إلا أحكام تنص عليها الشريعة كما ينص على مثلها أي قانون في الدنيا باعتبارها جزاءات توقع على المخالفين .
ويبقى النظر في المصالح المتحققة من جراء القانون ومدى إعطائه أثره ونتيجته كحافظ للأمن مثبت لاستقرار الناس في معاشهم وتنقلاتهم وأخلاقهم .
وليس من الإنصاف انتزاع مادة من قانون أو حكم من شريعة وإبرازه وكأنه مثلبة في هذا القانون أو ذاك . ولكن نظرة الإنصاف تقتضي النظر إلى النظام كله ، شروط الجريمة وتحققها وشروط إيقاع الجزاء وأسباب ذلك .
على سبيل المثال في هذه العقوبات المذكور من القطع والرجم إنك لن تجد في تاريخ الإسلام الطويل تنفيذاً لها إلا بعدد لا يجاوز أصابع اليد الواحدة ليس لأنها غير عملية وإنما من أجل الأمان الذي تحققه الشريعة في صرامة العقوبة ثم الشروط الموضوعة لتطبيقها حيث تدرء الحدود بالشبهات .
وحتى يكون الأمر أكثر واقعية نستشهد بالواقع المعاصر بقوانينه ونظمه .(1/346)
إن الأمم المعاصرة وبخاصة دول الغرب قد ملكت أسلحة فتاكة وأجهزة نفاذة وتقنيات متقدمة ووسائل دقيقة واستكشافات باهرة وبخاصة في مجال الجريمة ، بحوثاً ودراسات وطرق في الملاحقات وتتبع المجرمين إضافة إلى التوعية الإعلامية الواسعة للجمهور والاستنارة بالثقافة والتقدم العلمي والوعي المعرفي للأفراد والجماعات وعلى الرغم من كل ذلك فإن الجريمة تستفحل ويزداد المجرمون عتواً وطغياناً ، هذا من جهة . ومن جهة أخرى فإن تركيزهم منصب على استصلاح المجرمين وتهذيب الأشرار وقد أرادوا أن يجعلوا من السجون أماكن تهذيب وعنابر إصلاح واعتبروا المجرمين مرضى أحق بالعلاج منهم بالعقاب وألقوا باللائمة على عوامل الوراثة والبيئة والفساد الاجتماعي ، وهذا حق لا ينكر ولكن الأمر ليس مقصوراً على هذا الجانب وحده ، ذلك أن العضو المريض قد تكون المصلحة في بتره حتى لا يسري مرضه إلى الجسم كله وهذا أمر مقرر عقلاً ووقعاً .
والفساد الاجتماعي ما هو إلا من مجموع فساد الأفراد . أما السجون فقد غلظت فيها قلوب كثير من المجرمين وخرجوا منها في ضراوة أشد وشقاوة أعظم ومن اليسير أن يتعاون اللصوص والقتلة في رسم الخطط ويجعلوا من السجن ساحات ممهدة للتدريس وتقاسم المهمات يشاركهم في ذلك إخوان لهم في الغي خارج القضبان .
وأنت ملاحظ مدرك أن فكرة الهدف الإصلاحي للمجرمين والمعالجات اللينة قد مضى عليها أكثر من نصف قرن ومع هذا فالإجرام في تزايد مطرد فما كان هذا الهدف إلا وهماً وسراباً .
إن المجتمع الإنساني المعاصر بما فيهم العالم المتحضر قد بلغ ذروة من الاستهتار والاستباحة والاسترخاص للدماء والأموال والأعراض جعلت العقوبات في التشريعات الوضعية هزيلة بجانب سوء صنائع هؤلاء العتاة المجرمين ، أي رحمة أو تهذيب يستحقها هؤلاء القتلة والسفاكون ، وهل كان هؤلاء رحماء بضحاياهم الأبرياء ؟ وهل كانوا رحماء بالمجتمع كله بل تطور الأمر كما هو مشاهد إلى تطور المجرمين في وسائلهم فصاروا يشكلون العصابات التي تفوق أحياناً في إمكاناتها ووسائلها وتجهيزاتها الدول والحكومات ولا أدري أي عقاب سوف ينزله هؤلاء الرحماء بتجار المخدرات الذين لا نزال نسمع ازدياد أخبارهم واستفحال إجرامهم حتى أصبحوا ظاهرين غير متسترين بل صاروا يفاوضون الحكومات والجهات المختصة علناً!!
وبناءً على ما سبق فإن العلم والثقافة والحضارة في صورتها الراهنة عاجزة عن دفع الأخطار عن الإنسان الذي يعيش حياة الخوف والإرهاب على الأرض وفي الجو والبحر وفي المنزل والمكتب والمصنع والشارع .
ومجرم اليوم كما أسلفت مزود بالعلم والمعرفة ويتطور مع تطور أنظمة الشرطة وتجدد أساليب الملاحقة والمتابعة ويخطط كما يخطط رجال الأمن والكل في صراع لا يفصله إلا العقاب الزاجر العادل أفلا يفقهون .
وأخيراً فإن هناك عقوبات جسدية تطبقها بعض القوانين المعاصرة وأبرزها عقوبة الإعدام بل هذه العقوبة كانت ملغاة في بعض القوانين ثم عادوا إليها وفي كتابنا نحن المسلمين عبارة جامعة قاطعة : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمَاً لِقَوْم ٍ يُوقِنُونَ} . [ سورة المائدة ، الآية : 50 ] .
الجهاد في سبيل الله
الكلام في الجهاد سوف يتضمن حديثاً عن القوة وضرورتها للفرد والمجتمع والأمة ، ويتضمن كذلك بيان طبيعة الإسلام وافتراقه عن الديانات الأخرى ، ومفهوم الأمة الإسلامية واختلافها عن مفهوم الأمة السائد لدى كتاب الاجتماع ودارسي التاريخ ثم التنبيه كذلك على مغزى الجهاد في الإسلام واختلافه عن مفهوم كلمة الحرب أو القتال المجرد وسر اقتران لفظة (( الجهاد )) بلفظة أخرى تحدد مفهومها وهي (( في سبيل الله .....)) .
القوة :
القوة شيء محمود وأمر مطلوب وهي صفة تتعلق بها النفس البشرية وتحبها . والإنسان حينما يأخذ أموره بحزم وينجز أعماله ويدير شئونه بقوة فإنه منجز ما يريد سواء في ذلك القوة الفكرية العلمية أو القوة المادية .
فالبدن القوي والرأي القوي والشخصية القوية كلها صفات مستحبة .
ومعلوم أن وجه الاستحباب والاستسحان إذا كان في طرق الخير ووجوه المنفعة للنفس والناس أجمعين .
والدولة القوة تحفظ مهابتها مادامت هذه الصفة ملازمة لها .
وهذه سنة إلهية من السنن التي تبنى عليها الحياة فلا خير في حق لا نفاذ له ولا يقوم حق ما لم تسانده قوة تحفظه وتحيط به .
وما فتئت أمم الدنيا ودولها تعد لنفسها القوة بمختلف الأساليب والأنواع حسب ظروف الزمان والمكان وعصرنا الحاضر تفتقت أذهان أبنائه عن أنواع من القوى وأساليب من الاستعداد فاقت كل تصور ، هذه مقدمة في القوة وأهميتها .
ومقدمة أخرى تتعلق بطبيعة الإسلام وأهله ، أما الإسلام فيخطئ غير المسلمين وبخصوص النصارى والغربيون من بعدهم حين يظنون أن الإسلام ملة مقصورة على مجموعة من العقائد الغيبية والشعائر التعبدية مما يجعل الإسلام في مفهومهم لا يعدو أن يكون مسألة شخصية يختار الإنسان لنفسه ما شاء من عقيدة وديانة يعبد ربه بأي طريق رضيها لنفسه لا يعدو الأمر عندهم غير ذلك ولكن الإسلام معناه ومرماه غير ذلك فهو اعتقاد صحيح في القلب – إيماناً بالله إلهاً واحداً لا يستحق العبادة سواه موصوفاً بصفات الكمال منزهاً عن كل عيب ونقص – وهو إلى جانب ذلك شريعة حاكمة شاملة لكل ما يحتاجه البشر في نفسه ومجتمعه في سلمه وحربه في تعامله مع أهله والقريب والبعيد والعدو والصديق في شرائع وأحكام وآداب تشمل النظم السياسية والاجتماعية والخلقية والاقتصادية وسائر شئون الدنيا .(1/347)
وأما أهل الإسلام فليسوا أمة على المعنى المصطلح عندهم والذي يعني طائفة من الناس توافقت فيما بينها وتألفت في خصائص معينة ، ولكن أمة الإسلام تضم كل من اعتنق الدين من أي جنس أو لون أو قطر في الشرق وفي الغرب .
حقيقة الجهاد :
انطلاقاً من هذا الإيضاح لمفهوم النحلة والأمة . يتبين أن الإسلام ليس بتلك النحلة الضيقة وأهل الإسلام ليسوا بتلك النحلة الضيقة وأهل الإسلام ليسوا بتلك الأمة المنحصرة في نفسها وبناء عليه فإن الجهاد مشروع لنشر الحق وليدخل الناس في الإسلام كافة .
وفي هذا الصدد يحسن التنبيه إلى أن المصطلح الإسلامي هو (( الجهاد )) وليس الحرب أو القتال
فلفظ الحرب غالباً ما يراد به القتال الذي يشب لهيبه وتستعر ناره بين الرجال والأحزاب والشعوب لمآرب شخصية وأغراض ذاتية وأهداف مادية والقتال المشروع في الإسلام ليس من هذا القبيل وليس لهذا الأغراض ولا لتلك الأهداف .
الإسلام لا ينظر إلى مصلحة أمة دون أمة ولا يقصد إلى النهوض بشعب دون شعب ولا يهمه في قليل ولا كثير أن تملك أرض ويستولي عليها هذا القائد أو ذاك ولكن المقصود هو سعادة البشر وفلاحهم فكل توجه غير هذا وكل أهداف سوى هذا فلا اعتبار لها في الإسلام بل لابد من مقاومتها حتى يكون الدين كله لله والأرض كلها لله ويرثها الصالحون من عباد الله والجهاد الإسلامي يتوجه من أجل ذلك كله لا لتستبد أمة بالخيرات أو ينفرد شعب بالثروات بل لينتفع الجنس البشري كله بأجمعه بالسعادة البشرية تحت راية الإسلام .
ومن هنا فتستخدم القوى والوسائل لتحقيق ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ثم الجهاد بمعناه العميق .
بعد هذا الإيضاح لمعنى الجهاد وسر اختياره هذه الكلمة على غيرها من مرادفاتها والتي تعني بذل الجهد والطاقة لا بد من التنبيه إلى كلمة لصيقة بها في المصطلح الإسلامي ألا وهي عبارة (( في سبيل الله )) .
إنها تحدد بجلاء المقصود من هذه القوة الإسلامية ، إنه شرط لا ينفعك عنه أبداً بل لو انفك عنه لبطل المصطلح و لفسد الأمر واضمحل الهدف .
إن معنى (( في سبيل الله )) أن كل عمل يقوم به المسلم يقصد به وجه الله ثم المصالح العامة وسعادة الأمة فهو في سبيل الله ، فإنفاق المال في وجوه الخير والبر إذا قصد به المنفق منافع دنيوية أو ثناء الناس فهو ليس في سبيل الله حتى ولو دفعه إلى مسكين أو معوز .
(( في سبيل الله )) مصطلح يطلق على الأعمال التي تؤدى خالصة لوجه الله من غير أن يشوبها شيء من شوائب الأهواء والشهوات ، والجهاد ما قيد بهذا القيد إلا للدلالة على هذا المعنى . فالجهاد الإسلامي الحق لابد أن يكون مجرداً من كل غرض مبرءاً من كل هوى أو نزعات شخصية لا يقصد إلا تأسيس نظام عادل يقوم عليه الناس بالقسط ينشر الحق وينصر العدل .
وفي النص القرآني:{الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتلُون في سَبِيل ِالله والَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ الطَّاغُوت} . [ سورة النساء ، الآية : 76 ] .
وفي النص النبوي : (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ... )) البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد .
والقرآن والسنة مملوءان ببيان هذا المعنى وتأكيده وضرورة التزامه .
أمم الأرض والقوة :
إذا كان هذا هو مفهوم الإسلام وأمة الإسلام ومفهوم الجهاد في سبيل الله . كانت القوة أمراً لازماً للأمة والأفراد لتستقيم الحياة بمادياتها ومعنوياتها فلا غرو أن تكون الأمم والشعوب على طول التاريخ تحب القوة وتستعد بها لتحفظ مكانتها وتعيش حياتها كريمة مصانة .
وأحب أن أنبه في خاتمة المطاف إلى تلك القوى الشريرة التي صحبت الاستعمار في كل تاريخه ، تلك القوى والحروب التي أثارها المستعمرون على الأمم المستضعفة في مشارق الأرض ومغاربها وجاسوا خلال الديار يبحثون عن أسواق لبضائعهم وأراض لاستعمارهم ليستبدوا بمنابع الثروات ويفتشوا عن المناجم والمعادن وما تغله أرض الله الواسعة من حاصلات غذاء لبطونهم ومدداً لمصانعهم ومعاملهم من دون أصحابها الأصليين .
يبحثون عن ذلك وقلوبهم ملأى بالجشع ونفوسهم مفتوحة بالشره تتقدمهم دبابات مجنزرة وفوق رؤوسهم طائرات في جو السماء محلقة بآلاف مؤلفة من العساكر المدربة يقطعون على البلاد سبل رزقها وعلى أهاليها الوادعين طريقهم إلى الحياة الكريمة ، لم تكن حروبهم في سبيل الله ولكنها في سبيل الشهوات الذاتية والأهواء الأنانية . حملات وغارات على شعوب وادعة آمنة لم يكن ذنبها إلا أن الله قد أنعم عليهم بمعادن الأرض وكنوزها ، ومعادن في الباطن وخصباً في الظاهر . أو أن تكون سوقاً لبضائعهم ومتنزهاً لبني جلدتهم الذين لفظتهم أرضهم . والأدهى والأمر أنهم قد يغيرون على بلاد آمنة لمجرد أنها تقع في طريق بلاد قد استولوا عليها من قبل .
ولكن أظهروا في هذه الأيام تحضراً واستمساكاً بالقوانين الدولية والمواثيق فإنهم ما اطمئنوا إلى ذلك إلا بعد ما ثبتوا أقدامهم ورتبوا أنفسهم ولو اختل شيء من ذلك لما حفظوا عهداً ولما التزموا بقانون وإن لهم من البراعة في تفسير القوانين والتواءات العبارات ما يجعل لهم ألف مخرج وألف معبر ناهيك بما أعدوا به أنفسهم من فنون الأسلحة الفتاكة مما لا يخطر على بال الشيطان الرجيم من متفجرات نووية وهيدروجينية وجرثومية وكيميائية . ومع هذا تجد من يثير قضية الجهاد الإسلامي مصحوبة بتلفيق من صور شراسة الطبع والخلق والهمجية وسفك الدماء وما ألقى القنبلة الذرية في هيروشيما إلا أكبر دولة متقدمة .
فيا ليت أنهم قالوا كلمة صادقة لوجه الله وفي سبيل الله .
والله ولي التوفيق وهو يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم .
وكتبه
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
أسئلة حول الحريات(1/348)
كيف يمكن التوفيق بين حرية التفكير والاعتقاد التي منحها الله للإنسان وبين منعه (( مع استخدام العقوبة القصوى وهي القتل )) من تغيير دينه وإن كان هذا التغيير قد نجم عن قرار شخصي نابع عن تفكير عميق ولأسباب جدية ؟
المسلمون يعتبرون من الطبيعي جداً أن يعترف النصارى بحق إخوتهم في العقيدة في اعتناق الإسلام .. ألا يمكن للمسلمين الراغبين في دخول النصرانية من التمتع بالحق نفسه ، إقراراً للحرية التي منحها الله للإنسان ؟
هل الإسلام على استعداد - في البلاد الإسلامية - لمنح المسلمين تلك الحريات التي يتمتع بها المسلمون في البلاد المسيحية ، بما في ذلك دخول المساجد والتعبير الحر عن دينهم ودعوة الجماهير لاعتناق العقيدة المسيحية ؟
كيف يكون منطقياً التأكيد بأن الله قد منح الحرية بالتساوي للرجل والمرأة ، ثُمًَّ تُمنع المرأة المسلمة من اختيار الرجل الذي ترغب في الزواج منه ، إن لم يكن مسلماً ؟
كيف يمكننا تفسير العقوبات الجسدية كقطع يد السارق أو الجلد أو الرجم ، وهي المبينة في بعض الآيات القرآنية ؟
أسئلة حول المساواة :
ما معنى الدفاع عن تفوق الإنسان الحر على العبد ، دون إدانة للعبودية أو القضاء عليها ؟
لماذا يقال بأن الله قد خلق البشر سواسية في الحقوق والواجبات ، بينما تقبل عدم المساواة لأسباب دينية ؟ كما يعلن عن تفوق المسلم على غير المسلم وإن كان الأخير من ( أهل الكتاب ) أو من أتباع الديانات الأخرى أو من غير المؤمنين ؟
ونجد هذه اللامساواة في الميادين الحقوقية والاجتماعية ، اعتماداً على العقائد الدينية ، ونحن بدورنا نتساءل ، هل يتعارض التعايش - بالحقوق نفسها - بين المسلمين والنصارى واليهود وبقية الناس ، مؤمنين أم غير مؤمنين ، مع العقيدة الإسلامية ، وبخاصة بالنسبة لقضية تطبيق الشريعة دون تمييز على المسلمين وغير المسلمين ؟
ولماذا يقبل تفوق جنس على آخر ؟
وهو أمر نراه من خلال النقاط التالية :
1- قبول تعدد الزوجات مع تحريم تعدد الأزواج .
2- إمكانية هجر الرجل لزوجته دون أن يقدم تبريراً لعمله ومن دون أن يعاني من أية نتائج
لعمله هذا ، بينما لا تستطيع المرأة سوى الحصول وبصعوبة على الطلاق وعن الطريق
القانوني فقط .
3- للأب حق الوصاية أو الولاية على الأبناء دائماً وإن كان الأطفال في حضانة الأم .
4- بالنسبة للمواريث نجد أن نصيب المرأة ، وفي أغلب الأحيان ،هو أقل من نصف حصة
الرجل .
وأخيراً ، أين نجد الترابط المنطقي لله والذي خلق البشر وأحبهم جميعاً , بينما نجد - كما في النصوص القرآنية - يحث على قتال الكفار ؟
وفي الدول الإسلامية التي تطبق فيها الشريعة .. هل التعددية (( في كافة صورها الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية والعائلية )) ، هل ستعتبر هذه التعددية رحمة إلهية تضمن الحرية والمساواة ، أم أنه ستفرض الشريعة على الجميع بشكل دكتاتوري ، كما نراها حالياً في كثير من الدول الإسلامية ؟
أهم المصادر
1- سيرة ابن هشام .
2- مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية .
3- تاريخ ابن كثير (( البداية والنهاية )) .
4- حقوق الإنسان لمحمد الغزالي .
5- حقوق الإنسان وحرياته الأساسية - د . عبد الوهاب عبد العزيز الشيشاني .
6- أصول النظام الاجتماعي في الإسلام - محمد الطاهر بن عاشور .
7- هذا ديننا - محمد الغزالي .
8- التشريع الجنائي - عبد القادر عودة .
9- الجهاد في سبيل الله - أبو الأعلى المودودي .
10- هذه مشكلاتهم - محمد سعيد رمضان البوطي .
11- الكشاف الفريد عن معاول الهدم ونقائض التوحيد - خالد محمد علي الحاج
===============
أقوال العلماء في الرسالة المنسوبة إلى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الجهاد
بحث مختصر يبين سوء فهم دعاة العصرانية
ومروجي قصر الجهاد الشرعي على "الدفاع" فقط لكلام ابن تيمية في الرسالة السابقة
سليمان بن صالح الخراشي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فقد نُشر لقاء مع أحد الباحثين الفضلاء في إحدى الصحف أثبت فيه رسالة "قاعدة في قتال الكفار.." لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بدليل أن البعض قد نسخها ولم يُنكر نسبتها للشيخ، ثم استنبط منها -كما يقول-: "أن شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- خلص بما تقدم في هذه الرسالة المهمة ووضحه فيها: أن قتال الكفار وجهادهم لا لأجل الكفر ذاته، وإنما هو الدفاع عن الدين. أي أن الإسلام في أصله دفاعي وليس هجومياً"!
ونحن لا ننازعه في صحة نسبة هذه الرسالة من عدمها لشيخ الإسلام؛ لأن هذا أمر يخضع للأدلة، مما تختلف فيه أنظار الباحثين. إنما ننازعه في هذا الفهم "الخاطئ" لكلام شيخ الإسلام بأنه لا يرى "جهاد الطلب" !! وهو في ظني ما حدا ببعض العلماء أن ينكروا نسبة تلك الرسالة إليه -بشدة- دفعاً لمثل هذا الفهم الذي روج له دعاة العصرانية في هذا الزمان، وألصقوه زورًا بشيخ الإسلام.
وقد استند من نفى هذه الرسالة إلى عدة أمور -تستحق التأمل-:
الأول: ما يلاحظه الباحثون من كثرة الكذب والتزوير على شيخ الإسلام -رحمه الله-، سواء في رسائله أو فتاواه، إما من خصومه -وما أكثرهم!-، أو ممن يريد الترويج لأفكاره مستغلاً اسم الشيخ العَلَم. فقد نُسب إليه على سبيل المثال: ديوان شعري، ودعاء لختم القرآن، وفتوى بحياة الخضر، وفتوى القول بالتجسيم التي افتراها ابن بطوطة.. وغير ذلك. مما يجعل المنصف لا يتعجل بنسبة شيء للشيخ -رحمه الله- ما لم يتوثق من ذلك، لا سيما وقد أنكر هذه الرسالة كبار العلماء في هذا الزمان؛ وعلى رأسهم الشيخ سليمان بن سحمان، ومفتيا الديار السعودية: الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز -رحمهم الله جميعاً- كما سيأتي إن شاء الله.(1/349)
فلابد لمن يريد إثبات الرسالة بعد هذا أن يتحقق من: وجود سند لها إلى شيخ الإسلام، أو وجودها مكتوبة بخطه، أو إثبات تلاميذه والمهتمين بكتبه لها. وهي أمور لم تتحقق -حسب علمي- إلى الآن.
الثاني : أن المتأمل في الرسالة يلمح فيها نوع تصرف أو اختصار، لما يجده من مثل هذه العبارات التي تتكرر بين صفحاتها، "ثم ذكر" "ثم تكلم" "إلى أن قال" (انظر: ص119، 125، 127، 128، 136، 137 من نسخة الفقي)
ولهذا علق الشيخ محمد بن مانع -رحمه الله- في هامش نسخته عند مروره بأحد هذه المواضع: "يستفاد منه أن في الكلام اختصاراً"(1)
الثالث: أن لشيخ الإسلام -رحمه الله- كلاماً آخر في رسائله الثابتة عنه يخالف ما فهمه البعض من هذه الرسالة؛ وهو أنه ينكر جهاد "الطلب"، -سيأتي بعضه إن شاء الله-.
إذن: فبعض الذين أثبتوها وفرحوا بها! زعموا أن شيخ الإسلام لا يرى جهاد "الطلب" في هذه الرسالة.
والذين أنكروها أرادوا دفع هذا الزعم المغلوط الذي يعارض النصوص الشرعية، ويعارض كلام شيخ الإسلام الآخر.
والصواب -في ظني- أن يقال: بأنه حتى لو قيل بثبوت هذه الرسالة(2) فإنه ليس فيها ما ينفي جهاد "الطلب" كما تصور البعض ممن لم يفهموا مقصد شيخ الإسلام منها، فخلطوا بين أمرين.
فشيخ الإسلام قد أنشأ هذه الرسالة للرد على قول فقهي ضعيف يقول أصحابه بأن قتال الكفار هو لأجل "كفرهم"، ولهذا فهؤلاء يرون قتل "كل كافر" سواء كان قادرًا على القتال أو عاجزاً عنه، وسواء كان مسالماً أو محارباً، وسواء كان من الرهبان أو لم يكن، وسواء كان شيخاً كبيراً أو شاباً فتياً.
ولا يستثني هؤلاء من القتل إلا الصبيان لعدم بلوغهم، وكذا النساء؛ لأنهن يصبحن سبياً بنفس الاستيلاء عليهن؛ فهن كالمال.
ولهذا قال -رحمه الله- في أول هذه الرسالة مبيناً سبب كتابتها:
"فصل في قتال الكفار :
هل هو سبب المقاتلة أو مجرد الكفر؟
وفي ذلك قولان مشهوران للعلماء :
الأول : قول الجمهور، كمالك، وأحمد بن حنبل، وأبي حنيفة وغيرهم.
الثاني: قول الشافعي وربما علل به بعض أصحاب أحمد.
فمن قال بالثاني قال: مقتضى الدليل قتل كل كافر، سواء كان رجلاً أو امرأة، وسواء كان قادراً على القتال أو عاجزاً عنه، وسواء سالمنا أو حاربنا. لكن شرط العقوبة بالقتل أن يكون بالغاً، فالصبيان لا يقتلون لذلك. وأما النساء فمقتضى الدليل قتلهن، لكن لم يقتلن لأنهن يصرن سبياً بنفس الاستيلاء عليهن، فلم يقتلن لكونهن مالاً للمسلمين كما لا تهدم المساكن إذا ملكت.
وعلى هذا القول: يقتل الرهبان وغير الرهبان لوجود الكفر. وذلك أن الله علق القتل لكونه مشركاً بقوله (فاقتلوا المشركين) فيجب قتل كل مشرك، كما تحرم ذبيحته ومناكحته لمجرد الشرك. وكما يجب قتل كل من بَدَّلَ دينه لكونه بدله، وإن لم يكن من أهل القتال، كالرهبان. وهذا لا نزاع فيه. وإنما النزاع في المرأة المرتدة خاصة.
وقول الجمهور: هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار" انتهى كلام شيخ الإسلام، (ص 116، من طبعة الفقي) .
وقد رد -رحمه الله- على هذا القول الضعيف في رسائله الأخرى بما يوافق ما في هذه الرسالة لمن تأمله. فلا جديد فيها !
ومن أصرح ذلك وأوضحه ما ذكره في "السياسة الشرعية". يقول -رحمه الله-: "إذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين، وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة؛ كالنساء والصبيان، والراهب والشيخ الكبير، والأعمى والزَمِن(3)، ونحوهم، فلا يُقتل عند جمهور العلماء إلا أن يُقَاتِل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر، إلا النساء والصبيان لكونهم مالاً للمسلمين. والأول هو الصواب؛ لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله…"(4) -إلى أن قال متعرضاً للرد على ذاك القول الضعيف- : "ولهذا أوجبت الشريعة قتل الكفار، ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم، بل إذا أُسر الرجل منهم في القتال، أو غير القتال؛ مثل أن تلقيه السفينة إلينا، أو يضل الطريق، أو يؤخذ بحيلة؛ فإنه يفعل فيه الإمام الأصلح؛ من قتله أو استعباده، أو المن عليه، أو مفاداته بمال أو نفس، عند أكثر الفقهاء، كما دل عليه الكتاب والسنة"(5).
قلت: ففي هذا النص المهم ما يجلي حقيقة تلك الرسالة، ويبين أنها أنشئت للرد على هذا القول الفقهي الضعيف الذي يرى قتل الكفار لمجرد كفرهم دون استثناء إلا للنساء والصبيان فقط -كما سبق-، وهو ما رده شيخ الإسلام وبين مخالفته للكتاب والسنة سواء في تلك الرسالة أو في هذا الموضع من "السياسة الشرعية" أو في مواضع أخرى من "الفتاوى" -كما سيأتي إن شاء الله-.
ويبين هذا النص أيضاً أن شيخ الإسلام مع رده على ذاك القول الضعيف فإنه لا ينكر -كما يزعم البعض- شرعية جهاد "الطلب" ! وحاشاه من ذلك، وهو أمر مقرر بالنصوص ومجمع عليه بين العلماء(6)، ولهذا قال -كما سبق- "فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين". وهذا الجهاد إنما يكون "لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله".(1/350)
ومن المواضع التي رد فيها الشيخ –رحمه الله- على هذا القول الفقهي الضعيف بما يوافق الرسالة المنسوبة إليه ما جاء في الفتاوى (28/659-661) عندما سئل عن الرهبان فأجاب بقوله: ".. إنما نهي عن قتل هؤلاء؛ لأنهم قوم منقطعون عن الناس، محبوسون في الصوامع، يسمى أحدهم حبيسًا، لا يعاونون أهل دينهم على أمر فيه ضرر على المسلمين أصلاً، ولا يخالطونهم في دنياهم، ولكن يكتفي أحدهم بقدر ما يتبلغ به. فتنازع العلماء في قتلهم؛ كتنازعهم في قتل من لا يضر المسلمين لا بيده ولا لسانه؛ كالأعمى والزَمِن، والشيخ الكبير ونحوه؛ كالنساء والصبيان. فالجمهور يقولون: لا يُقتل إلا من كان من المعاونين لهم على القتال في الجملة، وإلا كان كالنساء والصبيان، ومنهم من يقول: بل مجرد الكفر هو المبيح للقتل، وإنما استثنى النساء والصبيان؛ لأنهم أموال .."
وانظر أيضاً: "الفتاوى" (20/101-103).
فلا جديد في الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام! فقد تعرض له كثيرًا في رسائله الأخرى بتوضيح لو تأمله من طار فرحاً برسالته لعلم أنه في وادٍ والشيخ في وادٍ آخر.
يقول الدكتور عبد الله القادري: "إذا كان الجهاد في سبيل الله شرع لرفع كلمة الله وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله ورفع الظلم عنهم، فإنه لا داعي للخلاف فيه: هل شرع لقتال من قاتل من الكفار أو شرع لمجرد الكفر؟ لأن رفع كلمة الله يقتضي قتال كل من صدّ عنه والقضاء عليه، سواء كان صده بالقتال أو بالرأي، أو بأي نوع من الأنواع . وأما من لم يصدّ عنه بأن دخل في دين الله أو خضع لحكمه فأدى الجزية وهو صاغر فإنه لا يقاتَل ولا يُكره على الدخول في هذا الدين كما مضى. ولعل هذه الإشارة كافية إلى ما كتبه سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان –رحمه الله- في الرد على رسالة نسبت لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- بعنوان (قاعدة في قتال الكفار هل هو لأجل كفرهم أو دفاعاً عن الإسلام؟) وقد أنكر المؤلف نسبة هذه الرسالة لابن تيمية. والذي يظهر من أسلوب الرسالة أنها له؛ لأن أسلوبه –رحمه الله- واضح فيها، ولكنه أنكر أن يكون القتال لمجرد الكفر وإنما لرفع كلمة الله وذلك بأن يكون الحكم الغالب هو حكم الله لا سلطان الكفار، وإذا كان الكفار مغلوبين وسلطانهم منتفياً، وهم يؤدون الجزية صاغرين، فإنهم حينئذ لا يقاتَلون لكفرهم؛ إذ قتالهم لكفرهم يقتضي إكراههم على الدخول في الإسلام، وهذا من الاعتداء الذي نهى الله عنه. ومعنى قتال المقاتلين عنده –رحمه الله- هو أن يقاتل من أعد نفسه لقتال المسلمين سواء باشروا القتال فعلاً أو لم يباشروا، والذين لا يقاتلون هم الذين لم يعدوا أنفسهم للقتال؛ كالرهبان والشيوخ، فأي غبار على هذه المعاني جعل المؤلف سليمان بن حمدان يرهق نفسه لإنكار نسبة هذه الرسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية؟ وإذا كانت بعض الجمل في الرسالة منكرة وقد نقلها –رحمه الله- عن بعض العلماء ولم يقرها لأنه قد بين رأيه في أول الرسالة وفي أثنائها، فإنه لا يسوغ نفي نسبة الرسالة إليه، وقد بين –رحمه الله- خلاصة رأيه في رسالته السياسة الشرعية"(7).
ويقول الدكتور علي بن نفيع العلياني: "يعمد أهل الدفاع إلى تعليل بعض علماء الإسلام قتل الكفار بأنه لأجل المحاربة ويحورونه بشكل مثير للعجب حتى يخيل للقارئ بأن هناك من علماء الإسلام من يقول إن الكفار لا يجاهَدون حتى يعتدوا على المسلمين!.
والحق أن المسلمين قبل أن يدخل الاستعمار بلادهم ويتخذ له صنائع منهم ما كانوا يعرفون هذا القول المنكر، بل الإجماع منعقد على وجوب تطلب الكفار في عقر دارهم وتخييرهم بين خصال ثلاث: الإسلام أو الجزية أو القتال –على خلاف في قبول الجزية من غير أهل الكتاب والمجوس-.
ولم يفهم أهل الدفاع تعليل بعض علماء الإسلام قتل الكفار بالمحاربة والمقاتلة أو تعمدوا كتمان ما فهموه. وذلك لأن العلماء الذين عللوا قتل الكفار بالمحاربة والمقاتلة نصوا على مرادهم، وهو تلمس الحكمة الشرعية في أمر الله سبحانه بقتال كل كافر باستثناء النساء والأطفال والرهبان والشيوخ العجزة، فقالوا: لو كان علة القتال الكفر لوجب قتل كل كافر، فإذًا العلة هي القدرة على المحاربة والمقاتلة، فإن من عنده الإطاقة على القتال فهو مصدر خطر على المسلمين، ولم يقل هؤلاء العلماء إن الكافر لا يقاتَل إلا إذا حارب بالفعل واعتدى، كما هو قول أهل الدفاع الذين يحرفون نصوص العلماء لكي يظهروا للناس بأنهم لم يخرقوا الإجماع، وأن هناك طائفة من العلماء تقول بقولهم"!! (8).
ويقول الأستاذ عبد الملك البراك رادًا على أحد من يتبنى الجهاد "الدفاعي"!: "إن الاختلاف الذي قد حصل بين الجمهور من جهة، والشافعي والظاهرية من جهة أخرى لم يكن أبداً في أصل تشريع الجهاد وحكمته وسببه أو علته.. وإنما كان الاختلاف في العلة الموجبة لاستباحة دماء الأعداء؛ فالجمهور على أنه لا يقتل إلا من كان قادراً على القتال، وأما من لم يكن كذلك كالنساء والأطفال والشيوخ وأصحاب الصوامع ونحوهم فلا يُقتلون؛ إلا في حالة واحدة وهي ثبوت حرابة هذه الأصناف، وحرابتهم تتخذ أشكالاً عدة؛ كالمساهمة الفعلية في القتال ضد المسلمين، والرأي والمشورة وإعداد الخطة لحرب الإسلام وأهله.. ونحوها.(1/351)
أما الشافعي وابن حزم الظاهري –رحمة الله عليهم- فقد خالفوا الجمهور في هذه المسألة؛ فأجازوا قتل كل من عدا النساء والصبيان من أهل الحرب، ولو لم يشتركوا في القتال؛ سواء كانوا رجالاً بالغين أو شيوخاً مسنين.. ولهذا فإن كتب الفقه الأمهات لما تعرض لهذا الاختلاف لا تذكر إطلاقاً أن الأمة قد اختلفت فيما بينها في الجهاد: هل يقام أو لا يقام، أو أن هناك شروطاً لابد منها حتى يؤدي المسلمون فريضة الجهاد !! بل إن هذه الكتب في مبحث الجهاد تذكر اتفاق الأمة على هذه الفريضة وفضلها المتقدم.. وأنها فريضة دائمة قائمة إلى قيام الساعة.. ثم عندما يأتي الحديث عن أصناف الكفار الذين يُقتلون يقرر العلماء وجود أصناف قد نصّ الشرع على عدم قتلهم.. وأن هذه مسألة مختلف فيها.. كما مرّ آنفاً.. وهذا الاختلاف إنما كان تبعاً لاختلاف العلماء في العلة الموجبة لاستباحة دماء هؤلاء الأعداء.." (9).
- قلت: ومما يؤكد تناقض من يدعي أن شيخ الإسلام ينفي جهاد "الطلب" أنه –رحمه الله- في هذه الرسالة المنسوبة إليه قد أشار إلى كتابه "الصارم المسلول" (كما في ص144) وأنت عندما تعود إلى "الصارم المسلول" تجد الشيخ يذكر جهاد "الطلب" ولا ينفيه! فقد قال –رحمه الله-: "لما نزلت سورة براءة أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتدئ جميع الكفار بالقتال…"(10) .
الخلاصة: أن شيخ الإسلام سواء ثبتت له هذه الرسالة أم لم تثبت، فإنه لا ينفي جهاد "الطلب" لقتال من منع نشر الإسلام كما توهم البعض؛ إنما يُنكر على من يرى قتال جميع الكفار لمجرد "كفرهم"، فلا يستثني سوى النساء والصبيان وهذا ما قرره في هذه الرسالة وفي رسائله الأخرى كما سبق.
أقوال العلماء في الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام
لما رأيت أن عددًا من الإخوة الفضلاء لم يطلع على ما قاله العلماء في هذه الرسالة فقد أحببت أن أجمع ما تيسر لي من أقوالهم؛ لكي يحيط القارئ علماً بالرأي الآخر الذي يرى عدم صحة نسبة هذه الرسالة لشيخ الإسلام.
وقد سبق أن سبب نشاطهم لهذا الرأي هو ما فهمه الفريق الآخر من أن شيخ الإسلام يقرر فيها نفي "جهاد الطلب".
والصواب في ظني –كما أوضحت- أن شيخ الإسلام لا يقول بهذا القول المزعوم. إنما يرد على قول ضعيف –كما سبق-، يلتقي الجميع على رده والإنكار على أصحابه.
1-الشيخ سليمان بن سحمان –رحمه الله-:
لما أُشيعت هذه الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام كان أول من تصدى لنفي نسبتها: الشيخ سليمان بن سحمان –رحمه الله-، في رسالة مفقودة –كما سيأتي-(11)
2-الشيخ سليمان بن حمدان –رحمه الله-:
ألف الشيخ سليمان بن حمدان –رحمه الله- رسالته الشهيرة "دلالة النصوص والإجماع على فرض القتال للكفر والدفاع" لبيان تزوير هذه الرسالة على شيخ الإسلام –رحمه الله-، ومناقضة ما فهمه البعض منها لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولإجماع المسلمين، بل ولنصوص شيخ الإسلام نفسه في كتبه الأخرى.(1/352)
يقول الشيخ ابن حمدان في مقدمة رسالته: "أما بعد فقد وقفت على رسالة منسوبة لشيخ الإسلام وعلم الهداة الأعلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى ورضي عنه، مضمونها أن قتال الكفار سببه المقاتلة لا مجرد الكفر، وأنهم إذا لم يقاتلونا لم يجز لنا قتالهم وجهادهم على الكفر، وأن هذا القول هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار، واستدل لما زعمه ببعض آيات شبه بها ولبس، وأولها على غير معناها المراد بها، مثل قوله تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) الآية، وقوله (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه)، وقوله (لا إكراه في الدين) وحديثين حرفهما لفظاً ومعنى، وضرب صفحاً عن الآيات المحكمة الصريحة التي لا تحتمل التأويل، والأحاديث الصحيحة التي تكاد تبلغ حد التواتر في الأمر بقتال الكفار والمشركين حتى يتوبوا من كفرهم ويقلعوا عن شركهم، وهذه طريقة أهل الزيغ والضلال يدعون المحكم ويتبعون المتشابه؛ كما أخبر الله عنهم في قوله تعالى (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) ولما رآها بعض من ينتسب إلى العلم وليس من أهل الدراية والفهم صادفت هوىً في نفسه فطار بها فرحاً ظاناً أنها الضالة المنشودة، وراجت لديه بمجرد نسبتها لشيخ الإسلام، فسعى في طبعها ونشرها، على كذبها وفشرها، وما علم المسكين أنه قد استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم، وأنها محض افتراء وتزوير على الشيخ، وقد نزه الله شيخ الإسلام عن هذا الخطل الواضح والجهل الفاضح، والخوض في شرع الله بغير علم ولا دراية ولا فهم، ولكن الأمر كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- للحارث بن الأحوص لما قال له: أتظن أن طلحة والزبير كانا على باطل؟ فقال له: يا حارثة إنه لملبوس عليك، إن الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله، فهذا الذي طبعها ونشرها ممن لا يعرف الحق إلا بالرجال، فهو ملبوس عليه كما قال أمير المؤمنين، لأنه لو عرف الحق في هذا الباب لما راجت عنده هذه الرسالة ولقابلها بالإنكار والرد، ونبذها نبذ النواة؛ لأنها تضمن إبطال فريضة دينية هي ذروة سنام الإسلام، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله"، وقد جاء في حديث مرسل "إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات والعقل الكامل عند حلول الشهوات"، فبالبصر النافذ تندفع الشبهة، وبالعقل الكامل تندفع الشهوة، وحيث إن ما جاء في هذه الرسالة مخالف لنصوص الكتاب والسنة ولما أجمعت عليه الأمة في الصدر الأول، ومخالف أيضاً لما نص عليه شيخ الإسلام نفسه في كتبه المشهورة المتداولة المعروفة لدى الخاص والعام؛ كالجواب الصحيح، والصارم المسلول، ومنهاج السنة، والسياسة الشرعية، وغيرها من كتبه التي سنذكر نصه فيها بالحرف، ونحيل على الكتاب ليسهل الوقوف عليه لمن أحب ذلك، وليعلم أن هذه الرسالة مزورة عليه ولا تصح نسبتها إليه بوجه من الوجوه، وأن من نسبها إليه فقد شارك المفتري في عمله وما يترتب عليه من إثم"(12).
قال الدكتور علي بن نفيع العلياني في رسالته "أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية" (ص346) بعد أن نقل إبطال ابن حمدان للرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام: "وقد اطلعت على الرسالة المذكورة فاتضح لي ما اتضح للشيخ سليمان بن حمدان رحمه الله من أن الرسالة منحولة على الشيخ وفيها عبارات كثيرة مأخوذة من كتبه، ولقد حرص واضعها على عدم ذكر جهاد الابتداء والطلب، بينما الناظر في مؤلفات ابن تيمية المشهورة يجد أن قوله في الجهاد لا يخالف إجماع المسلمين بل يوافقهم، وقد نقل بنفسه الإجماع كما تقدم قريباً، ونص على وجوب جهاد الابتداء والطلب في مواضع من كتبه. فقال في كتابه القيم "الجواب الصحيح": (… فإذا وجب علينا جهاد الكفار بالسيف ابتداء ودفعاً فلأن يجب علينا بيان الإسلام وأعلامه ابتداء ودفعاً لمن يطعن فيه بطريق الأولى والأحرى..)(13). وقال في كتابه "الصارم المسلول": (… لما نزلت براءة أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتدئ جميع الكفار بالقتال وثنيهم وكتابيهم سواء كفوا أم لم يكفوا) (14).
وبهذا تظهر براءة ابن تيمية من تلك الرسالة المخالفة للإجماع ولأقواله هو بنفسه". قلت: الرسالة كما سبق منشأة للرد على قول فقهي ضعيف، ولا علاقة لها بجهاد الطلب.
3-الشيخ عبدالرحمن بن قاسم – رحمه الله- :
لم يدخل الرسالة في مجموع الفتاوى قائلاً : " وقد أعرضت عن نزر قليل نُسب إليه ؛ كمنظومة في عقائد ، ونقل محرف لترك البداءة بقتال الكفار "(8/5) .
4-سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم –رحمه الله- :
جاء في مجموع فتاواه (6/ 198-201): "س: الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام: في "قتال الكفار" لأجل دفع شرهم.
ج: هذه جرى فيها بحث في مصر، وبيَّنا لهم بياناً تاماً في الموضوع، وأنها عرضت على مشايخ الرياض وأنكروها.
وهذه الرسالة حقيقتها أن بعضها من كلامه، ومحذوف منها شيء، ومدخل فيها شيء آخر.
وكلامه في "الصارم المسلول" و"الجواب الصحيح" وغيرهما يخالف هذا، وهو أنهم يقاتلون لأجل كفرهم، مع أن حاصلها يرجع إلى القول الأول بالنسبة إلى الواقع؛ فإن الكفار في هذه الأزمان الضرر حاصل منهم، أو متوقع. فهم يسعون في ضرر الإسلام وأهله: الدول، والطوائف".
5- سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- :(1/353)
لما نمى إلى علم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- تبني بعض معاصريه للقول بقصر الجهاد على الدفاع اعتمادًا على ما فهمه من هذه الرسالة. ألقى –رحمه الله- محاضرة نافعة بعنوان "ليس الجهاد للدفاع فقط" ثم نُشرت في مجموع فتاواه (3/171-201) بيَّن فيها بالتفصيل: حكم الجهاد في الإسلام وحالاته، مع التعرض لأحكام الجزية، ثم نبَّه على بطلان القول السابق ورد على شبهات أصحابه، وأوضح بطلان نسبته لشيخ الإسلام –رحمه الله-. وأكتفي بنقل ما يهم هذا المبحث.
يقول الشيخ عبد العزيز : " أما قول من قال بأن القتال للدفاع فقط، فهذا القول ما علمته لأحد من العلماء القدامى ، أن الجهاد شرع في الإسلام بعد آية السيف للدفاع فقط، وأن الكفار لا يُبدؤن بالقتال وإنما يشرع للدفاع فقط.
وقد كتب بعض إخواننا رسالة في الرد على هذا القول وفي الرد على رسالة افتراها بعض الناس على شيخ الإسلام ابن تيمية ، زعم فيها أنه يرى أن الجهاد للدفاع فقط . وهذا الكاتب هو فضيلة العلامة : الشيخ سليمان بن حمدان رسالة ذكر فيها أن هذا القول منقول عن بعض أهل الكوفة ، وإنما اشتهر بين الكتاب مؤخرا .. وأما العلماء فلم يشتهر بينهم ، وإنما المعروف بين العلماء أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما هاجر أذن له في القتال مطلقا ، ثم فرض عليه الجهاد وأمر بأن يقاتل من قاتل ، ويكف عمن كف ، ثم بعد ذلك أنزل الله عليه الآيات الآمرة بالجهاد مطلقا ، وعدم الكف عن أحد حتى يدخل في دين الله ، أو يؤدي الجزية إن كان من أهلها كما تقدم ..."
"وقد تعلق القائلون بأن الجهاد للدفاع فقط بآيات ثلاث :
الأولى: قوله جل وعلا : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا والجواب عن ذلك كما تقدم أن هذه الآية ليس معناها القتال للدفاع ، وإنما معناها القتال لمن كان شأنه القتال : كالرجل المكلف القوي ، وترك من ليس شأنه القتال : كالمرأة والصبي ونحو ذلك ، ولهذا قال بعدها : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ
فاتضح بطلان هذا القول ، ثم لو صح ما قالوا ، فقد نسخت بآية السيف وانتهى الأمر بحمد الله .
والآية الثانية التي احتج بها من قال بأن الجهاد للدفاع: هي قوله تعالى : لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ وهذه لا حجة فيها؛ لأنها على الأصح مخصوصة بأهل الكتاب والمجوس وأشباههم ، فإنهم لا يكرهون على الدخول في الإسلام إذا بذلوا الجزية ، هذا هو أحد القولين في معناها .
والقول الثاني أنها منسوخة بآية السيف ولا حاجة للنسخ بل هي مخصوصة بأهل الكتاب كما جاء في التفسير عن عدة من الصحابة والسلف فهي مخصوصة بأهل الكتاب ونحوهم فلا يكرهون إذا أدوا الجزية، وهكذا من ألحق بهم من المجوس وغيرهم إذا أدوا الجزية فلا إكراه ، ولأن الراجح لدى أئمة الحديث والأصول أنه لا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع ، وقد عرفت أن الجمع ممكن بما ذكرنا . فإن أبوا الإسلام والجزية قوتلوا كما دلت عليه الآيات الكريمات الأخرى .
والآية الثالثة التي تعلق بها من قال أن الجهاد للدفاع فقط: قوله تعالى في سورة النساء : فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً قالوا : من اعتزلنا وكف عنا لم نقاتله . وقد عرفت أن هذا كان في حال ضعف المسلمين أول ما هاجروا إلى المدينة ثم نسخت بآية السيف وانتهى أمرها ، أو أنها محمولة على أن هذا كان في حالة ضعف المسلمين فإذا قووا أمروا بالقتال كما هو القول الآخر كما عرفت وهو عدم النسخ .
وبهذا يعلم بطلان هذا القول وأنه لا أساس له ولا وجه له من الصحة ، وقد ألف بعض الناس رسالة افتراها على شيخ الإسلام ابن تيمية وزعم أنه لا يرى القتال إلا لمن قاتل فقط ، وهذه الرسالة لا شك أنها مفتراة وأنها كذب بلا ريب ، وقد انتدب لها الشيخ العلامة سليمان بن سحمان رحمة الله عليه ورد عليها منذ أكثر من خمسين سنة وقد أخبرني بذلك بعض مشايخنا ، ورد عليها أيضا أخونا العلامة الشيخ سليمان بن حمدان رحمه الله القاضي سابقا في المدينة المنورة كما ذكرنا آنفا ورده موجود بحمد الله وهو رد حسن واف بالمقصود . فجزاه الله خيرا . وممن كتب في هذا أيضا أخونا الشيخ صالح بن أحمد المصوعي رحمه الله فقد كتب فيها رسالة صغيرة ، فند فيها هذه المزاعم وأبطل ما قاله هؤلاء الكتبة بأن الجهاد في الإسلام للدفاع فقط .
وصنف أيضا أخونا العلامة أبو الأعلى المودودي رحمه الله رسالة في الجهاد وبين فيها بطلان هذا القول وأنه قول لا أساس له من الصحة " اهـ كلام الشيخ ابن باز – رحمه الله - .
إضافات وفوائد :
1- اضطراب كلام الصنعاني بسبب رسالة شيخ الإسلام !
لقد اطلع الصنعاني على الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام –رحمه الله-، وقام بتلخيصها في بحث له طبع حديثًا ضمن رسائل "ذخائر علماء اليمن" جمع القاضي عبد الله الجرافي، تحت عنوان "بحث في قتال الكفار"، عرض فيه لحجج الفريقين في المسألة الفقهية السابقة؛ إلا أنه توهم أن شيخ الإسلام في رسالته السابقة يميل إلى أن الجهاد شُرع للدفاع فقط! وأنه أول من اشتُهر عنه هذا القول! وهو ما مال إلى ترجيحه الصنعاني في تلخيصه لمن تأمل.
ثم قال: "وقد أشار العلامة الحسن بن أحمد الجلال رحمه الله في موضعين من شرحه ضوء النهار إلى اختيار أن هذا الأرجح من القولين؛ وهو أن سبب القتال ليس مجرد الكفر، بل الكفر مع الإضرار، ولم نعرف له سلفاً في ذلك حتى وقفنا على رسالة للعلامة المحقق أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله فيها تحرير القولين وذكر أدلة الفريقين .." (15)(1/354)
إلا أن الصنعاني –بعد هذا- أعاد النظر في هذه المسألة في حاشيته على "ضوء النهار" وعرض لأدلة الفريقين من جديد، ثم مال إلى القول الآخر! خشية أن يُنكر جهاد "الطلب"، وهو أمر مجمع عليه بين العلماء –كما سبق-، ولو فهم رسالة شيخ الإسلام –رحمه الله- لعلم أنه ليس فيها تعرض لمسألة حكم الجهاد "سواء طلبيًا أو دفاعيًا" كما أوضحت سابقاً.
ومما يبين أنه فهم من رسالة شيخ الإسلام أنه يرى أن الجهاد للدفاع فقط، قوله رادًا على هذا: "لأنه لو كان غزوه صلى الله عليه وسلم إلا لدفع شر الكفار لا لأجل الكفر؛ لم يخرج من المدينة في غزاة، ولا بعث سرية، بل يبقى في المدينة، فمن قصده دافعه فيها.." (16)
فالصنعاني توهم أن شيخ الإسلام ينصر القول بأن الجهاد للدفاع فقط فلهذا مال إليه أولاً، ثم تراجع عن ذلك خوفاً من مصادمة نصوص الشريعة والتفرد بقول يخرق إجماع المسلمين. ولو تأمل كلام شيخ الإسلام وقرنه بما يشابهه في فتاواه ورسائله الأخرى لعلم أنه قد أبعد النجعة في فهم كلامه –رحمه الله-.
2-الشوكاني يفهم الرسالة كفهم الصنعاني !
حيث تعرض لها في كتابه "نيل الأوطار" (5/250) عند حديثه عن "علامات البلوغ"، حيث قال محتجاً لمن قال بأن جهاد الكفار هو لأجل كفرهم: "ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغزو إلى البلاد البعيدة؛ كتبوك، ويأمر بغزو أهل الأقطار النائية مع كون الضرر ممن كان كذلك مأموناً".
ثم قال: "وذهبت طائفة أخرى إلى أن قتالهم لدفع الضرر.. ومن القائلين بهذا شيخ الإسلام ابن تيمية حفيد المصنف، وله في ذلك رسالة".
وفي ظني أن الشوكاني قد تابع الصنعاني في فهمه لرسالة شيخ الإسلام؛ لأنه كثيرًا ما يقتفي أثره. والله أعلم.
3-نقل مختصر مفيد عن الشيخ الألباني –رحمه الله- في بيان نوعي الجهاد:
قال –رحمه الله- في تعليقه على العقيدة الطحاوية (ص71-72): "اعلم أن الجهاد على قسمين: الأول فرض عين، وهو صد العدو المهاجم لبعض بلاد المسلمين، كاليهود الآن الذين احتلوا فلسطين: فالمسلمون جميعاً آثمون حتى يخرجوهم منها.
والآخر فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وهو الجهاد في سبيل نقل الدعوة الإسلامية إلى سائر البلاد حتى يحكمها الإسلام، فمن استسلم من أهلها فبها، ومن وقف في طريقها قوتل حتى تكون كلمة الله هي العليا، فهذا الجهاد ماض إلى يوم القيامة فضلاً عن الأول.
ومن المؤسف أن بعض الكتاب اليوم ينكره، وليس هذا فقط بل إنه يجعل ذلك من مزايا الإسلام! وما ذلك إلا أثر من آثار ضعفهم وعجزهم عن القيام بالجهاد العيني، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلَّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم" "الصحيحة" (11)".
4-المدرسة العصرانية تنكر جهاد الطلب !
قصر الجهاد في الإسلام على جهاد "الدفع" فقط هو مما أثارته المدرسة العصرانية الحديثة منذ الأفغاني ومحمد عبده وتلامذتهما؛ نتيجة صدمتهم وانهزامهم أمام الحضارة الغربية التي ألجأتهم إلى تبني بعض الأقوال الشاذة تحرجًا من أحكام الله التي لا يرضاها أعداء الإسلام؛ ومن ضمنها أحكام الجهاد.
ثم تعاقب تلاميذ هذه المدرسة والمتأثرون بها على نشر هذا القول الشاذ وإشاعته بين المسلمين .
انظر على سبيل المثال: "رسالة التوحيد" لمحمد عبده (ص 235)، و"فتاوى رشيد رضا" (ص 892، 1155)، و"القرآن والقتال" لمحمود شلتوت (ص126)، و"الدولة الإسلامية.." لمحمد عمارة (ص 136)، و"آثار الحرب في الفقه الإسلامي" لوهبة الزحيلي (ص110) و"الجهاد في الإسلام – كيف نفهمه؟" للبوطي (ص 94 وما بعدها)،… وغيرها من كتب العصرانيين.
وبعضهم قد اتكأ على الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام وفرح بها؛ كالشيخ عبد الله المحمود في رسالته "الجهاد المشروع في الإسلام"، ومحمد أبو زهرة في كتابه عن "ابن تيمية"، وصاحب رسالة "الفريضة المفترى عليها" (ص 364-369).
وانظر للرد عليهم بالتفصيل: رسالة الشيخ علي العلياني "أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية" (ص 318-349). و"ردود على أباطيل وشبهات حول الجهاد" لعبد الملك البراك، (ص 33-163). و"الجهاد والقتال في السياسة الشرعية" للدكتور محمد خير هيكل (1/748 وما بعدها).
5-الخطأ لا يعالج بمثله :
إذا كنا نواجه سوء فهم لحقيقة "الجهاد" الشرعي في الإسلام من قبل فئات من الشباب "المتحمس" الذي يريد أن يقحم الأمة في معركة غير متكافئة لم تأخذ العدة اللازمة لها إلى الآن فيعرضها لتسلط الأعداء عليها وغزوها في عقر دارها.
إن مواجهة مثل هذا الفهم الخاطئ لا تكون من خلال إنكار ثوابت وضروريات دينية؛ كإنكار جهاد "الطلب" مثلاً، فنحن بهذه الطريقة لا نعالج الخطأ إنما نزيده تعقيدًا، ونلجئ الطرف الآخر إلى أن يتشبث بخطئه ويتعصب له؛ لما يرى من تلاعبنا بالأحكام الشرعية أو تميعنا تجاهها.
إنما العلاج الشرعي لهذا الفكر يكون من خلال إبراز وتوضيح مسائل "الجهاد" الشرعي، وتبيين مخالفة أصحاب ذاك الفكر لها. ويكون هذا بواسطة علماء ثقات لهم قبولهم بين شباب الأمة. فمن المسائل التي ينبغي إبرازها وإيصالها للشباب في هذه الفترة:
1- أن جهاد "الطلب" لا يكون إلا بإذن الإمام. يقول الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله-: "لا يجوز غزو الجيش إلا بإذن الإمام مهما كان الأمر.. فلا يجوز لأحد أن يغزو دون إذن الإمام إلا على سبيل الدفاع .. وإنما لم يجز ذلك؛ لأن الأمر منوط بالإمام، فالغزو بلا إذنه افتئات وتعد على حدوده، ولأنه لو جاز للناس أن يغزوا بدون إذن الإمام لأصبحت المسألة فوضى"(17).
2- أنه يجوز عقد "المعاهدات" مع الكفار في حال ضعف المسلمين.(1/355)
3- أنه في حال ضعف المسلمين يُشرع الأخذ بالآيات المكية التي فيها الكف عن القتال، والتركيز على الدعوة. يقول الشيخ ابن باز -رحمه الله- متحدثاً عن واجب الإمام: "إن ضعف المسلمون استعمل الآيات المكية؛ لما في الآيات المكية من الدعوة، والبيان، والإرشاد، والكف عن القتال عند الضعف"(18).
4- مراعاة المصالح والمفاسد في مسائل "الجهاد" .
5- تحريم قتل المعاهدين، وما فيه من عقوبة شديدة جاءت بها النصوص الشرعية.
فهذه المسائل وغيرها -مما يعرفها من هم أقدر مني- لو تم إبرازها من خلال النشرات والمحاضرات والندوات لتم القضاء على كثير من أفكار "الغلو" -بإذن الله-.
مع التنبيه على أمور مهمة تُيسر هذا العلاج:
أ- أن يكون جهد الأمة منصباً -في هذه الفترة- على جهاد "الدفع" وإخراج الكفار من ديار المسلمين التي استباحوها.
ب- إعداد العدة، وأخذ الأسباب المقوية للأمة -بإذن الله-؛ كالتزود من الأسلحة الكافية، وتدريب الشباب على الحياة الجادة، وإبعادهم عن الملهيات والمنكرات، وعدم الركون إلى الحياة الدنيا.
ج- التصدي للفكر المنهزم المقابل لفكر الغلو الذي يروج له دعاة "العلمنة" و"العصرنة" و"أصحاب العقائد المنحرفة" ممن يمثلون "الطابور الخامس" بوارثة أسلافهم المنافقين. وذلك بإبعادهم عن وسائل التأثير، ومناصحتهم، والحزم معهم؛ لأن هذا الفكر المنهزم في حال انتشاره -لا قدر الله- فإنه ينخر في جسد الأمة ويُضعفها، ويجعلها لقمة سائغة للأعداء، كما تبين ذلك في تجارب سابقة(19).
فلنكن صفاً واحدًا في هذه البلاد خلف ولاة أمرنا وعلمائنا في التصدي لهذين الفكرين الخبيثين: فكر "الغلو"، وفكر "الانهزام"، فإنهما وجهان لعملة واحدة؛ هي تسلط الأعداء علينا.
أسأل الله أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء، وأن يكفينا شر الأشرار، ويقينا من الفتن الظاهرة والباطنة.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
-----------------------
(1) ونسخة ابن مانع -رحمه الله- محفوظة بمكتبته المودعة بمكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض.
(2) ولعله الراجح؛ لتوافقها مع رسائله الأخرى -كما سيأتي- ووضوح نَفَس شيخ الإسلام فيها. لكن مع ملاحظة ما اعتراها من تصرف واختصار جعل بعض عباراتها مضطربة. وهذا يميل إليه بعض العلماء والباحثين -كما سيأتي-.
(3) الزَمِن هو ذو العاهة الذي لا يستطيع المشي.
(4) السياسة الشرعية (ص 106).
(5) السابق (ص 107).
(6) بل كما قال الشوكاني إنه أمر "معلوم من الضرورة الدينية" (السيل الجرار: 4/518).
(7) الجهاد في سبيل الله: حقيقته وغايته، ص 615 - 616.
(8) أهمية الجهاد ..، ص 336 - 337.
(9) ردود على أباطيل وشبهات حول الجهاد، ص 35.
(10) "الصارم المسلول"، ص 112، عن "أهمية الجهاد.." للعدِني، ص 346.
(11) لعلها رسالة "الرد على المزور على شيخ الإسلام ابن تيمية". انظر : "الشيخ سليمان بن سحمان وطريقته في تقرير العقيدة" للشيخ محمد الفوزان (ص 141).
(12) دلالة النصوص والإجماع ..، ص 1-3.
(13) الجواب الصحيح 1/75.
(14) الصارم المسلول ص 112.
(15) ذخائر علماء اليمن ، ص 163.
(16) حاشية ضوء النهار (4/2506).
(17) الشرح الممتع (8/25).
(18) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (3/193).
(19) بينت في رسالتي "العصرانية قنطرة العلمانية" أن المستفيد الوحيد من انتشار هذا الفكر بوجهيه "العلماني" و"العصراني" في بلاد المسلمين هم الأعداء من "كفار" و"أهل بدع"؛ لأنه يتسنى لهم من خلاله إضعاف هيبة الدولة الإسلامية وتنازع أهلها وتفرقهم أحزاباً شتى، مما يسهل استباحتهم -والعياذ بالله-. فهل من مدكر؟!
================
بعض أحكام الردة والمرتدين
سؤال:
أنا مسرور لأني وصلت إلى موقعك هذا ، وقد ولدت مسلماً وتلقيت الكثير من التعليم الإسلامي بعد بلوغي ، وأحاول استيعاب وفهم أمور ديني .
وقد قرأت في بعض إجابتك المتعلقة بموضوع الردة أن عقوبة المرتد القتل ، لكني قرأت في أحد المواقع في الانترنت أن المرتد الذي يقتل هو الذي يتخذ موقفاً محارباً للدين . وأنا أميل إلى الرأي الثاني أكثر .
والسبب في ذلك أن لي اصدقاء ولدوا من عائلات إسلامية ويتسمون بأسماء إسلامية لكن بعضهم لا يعرف كيف يتوضأ وكيف يصلي ولكنهم يعرفون الشهادتين .
فهل يمكن أن نعتبر هؤلاء مرتدين ونقتلهم ؟.
الجواب:
الحمد لله
أولاً :
على المسلم أن لا يميل إلى قول دون قول لمجرد موافقة القول لهواه أو لعقله ، بل لا بد أن يأخذ الحكم بدليله من الكتاب والسنة ، ولا بد أن يقدِّم نصوص الشريعة وأحكامها على كل شيء مما عداها .
ثانيا :
الردة والخروج من الإسلام قد تكون بالقلب أو اللسان أو العمل .
فقد تكون الردة بالقلب كتكذيب الله تعالى ، أو اعتقاد وجود خالق مع الله عز وجل ، أو بغض الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقد تكون الردة قولاً باللسان كسبِّ الله تعالى أو رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وقد تقع الردة بعمل ظاهر من أعمال الجوارح كالسجود للصنم ، أو إهانة المصحف ، أو ترك الصلاة .
والمرتد شرٌّ من الكافر الأصلي .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - في الرد على الاتحادية الباطنية - :
"ومعلوم أن التتار الكفار خير من هؤلاء فإن هؤلاء مرتدون عن الإسلام من أقبح أهل الردة ، والمرتد شرٌّ من الكافر الأصلي من وجوه كثيرة" اهـ .
مجموع الفتاوى " ( 2 / 193 ) .
ثالثاً :
ليس كل مسلم وقع في الكفر يكون كافرا مرتداً ، فهناك أعذار قد يعذر بها المسلم ولا يحكم بكفره ، منها :
الجهل ، والتأويل ، والإكراه ، الخطأ .(1/356)
أما الأول : فهو أن يكون الرجل جاهلاً لحكم الله تعالى ، بسبب بعده عن ديار الإسلام كالذي ينشأ في البادية أو في ديار الكفر أو أن يكون حديث عهد بجاهلية ، وقد يدخل في هؤلاء كثير من المسلمين الذين يعيشون في مجتمعات يغلب فيها الجهل ، ويقل العلم ، وهم الذي استشكل السائل الحكم بتكفيرهم وقتلهم .
والثاني : هو أن يفسر الرجل حكم الله تعالى على غير مراد الشرع ، كمن قلد أهل البدع فيما تأولوه كالمرجئة والمعتزلة والخوارج ونحوهم .
والثالث : كما لو تسلط ظالم بعذابه على رجل من المسلمين فلا يخلي سبيله حتى يصرح بالكفر بلسانه ليدفع عنه العذاب ، ويكون قلبه مطمئناً بالإيمان .
والرابع : ما يسبق على اللسان من لفظ الكفر دون قصد له .
وليس كل واحدٍ ممن جهل الوضوء والصلاة يمكن أن يكون معذوراً وهو يرى المسلمين يقومون بالصلاة ويؤدونها ، ثم هو يقرأ ويسمع آيات الصلاة ، فما الذي يمنعه من أدائها أو السؤال عن كيفيتها وشروطها ؟ .
رابعاً :
المرتد لا يقتل مباشرة بعد وقوعه في الردة ، لا سيما إذا كانت ردته بسبب شبهة حصلت له ، بل يستتاب ويعرض عليه الرجوع إلى الإسلام وتزال شبهته إن كان عنده شبهة فإن أصر على الكفر بعد ذلك قتل .
قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (9/18) :
المرتد لا يُقْتَلُ حَتَّى يُسْتَتَابَ ثَلاثًا . هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ; مِنْهُمْ عُمَرُ , وَعَلِيٌّ , وَعَطَاءٌ , وَالنَّخَعِيُّ , وَمَالِكٌ , وَالثَّوْرِيُّ , وَالأَوْزَاعِيُّ , وَإِسْحَاقُ , وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ . . . . لأَنَّ الرِّدَّةَ إنَّمَا تَكُونُ لِشُبْهَةٍ , وَلا تَزُولُ فِي الْحَالِ , فَوَجَبَ أَنْ يُنْتَظَرَ مُدَّةً يَرْتَئِي فِيهَا , وَأَوْلَى ذَلِكَ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ اهـ .
وقد دلت السنة الصحيحة على وجوب قتل المرتد .
روى البخاري (6922) عن ابْن عَبَّاسٍ قَالَ : قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) .
وروى البخاري ( 6484 ) ومسلم ( 1676 ) عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) .
وعموم هذه الأحاديث يدل على وجب قتل المرتد سواء كان محاربا أو غير محارب .
والقول بأن المرتد الذي يقتل هو المحارب للدين فقط مخالف لهذه الأحاديث ، وقد جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السبب في قتله هو ردته لا محاربته للدين .
ولا شك أن بعض أنواع الردة أقبح من بعض ، وأن ردة المحارب أقبح من ردة غيره ، ولذلك فرّق بعض العلماء بينهما ، فلم يوجب استتابة المحارب ولا قبول توبته ، بل يقتل ولو تاب ، وأما غير المحارب فتقبل توبته ولا يقتل . وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
قال رحمه الله :
الردة على قسمين : ردة مجردة ، وردة مغلظة شرع القتل على خصوصها ، وكلتاهما قد قام الدليل على وجوب قتل صاحبها ؛ والأدلة الدالة على سقوط القتل بالتوبة لا تعمّ القسمين ، بل إنما تدل على القسم الأول - أي : الردة المجردة - ، كما يظهر ذلك لمن تأمل الأدلة على قبول توبة المرتد ، فيبقى القسم الثاني - أي: الردة المغلظة - وقد قام الدليل على وجوب قتل صاحبه ، ولم يأت نص ولا إجماع بسقوط القتل عنه ، والقياس متعذر مع وجود الفرق الجلي ، فانقطع الإلحاق ، والذي يحقق هذه الطريقة أنه لم يأت في كتاب ولا سنة ولا إجماع أن كل من ارتد بأي قول أو أي فعل كان فإنه يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه ، بل الكتاب والسنة والإجماع قد فرّق بين أنواع المرتدين ....
" الصارم المسلول " ( 3 / 696 ) .
والحلاّج من أشهر الزنادقة الذين تمّ قتلهم دون استتابة ، قال القاضي عياض :
وأجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية على قتل الحلاج وصلبه لدعواه الإلهية والقول بالحلول ، وقوله : " أنا الحق " مع تمسكه في الظاهر بالشريعة ، ولم يقبلوا توبته .
" الشفا بتعريف حقوق المصطفى " ( 2 / 1091 ) .
وعليه : فيتبين خطأ ما قاله الأخ السائل من كون المرتد لا يقتل إلا إن كان محارباً للدين ، والتفريق الذي ذكرناه عن شيخ الإسلام ابن تيمية لعله أن يزيل الإشكال ويوضح المراد .
والمحاربة للدين ليست قاصرة على محاربة السلاح فقط ، بل المحاربة تكون باللسان كسب الإسلام أو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوالطعن في القرآن ونحو ذلك . بل قد تكون المحاربة باللسان أشد من المحاربة بالسلاح في بعض الصور .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
المحاربة نوعان : محاربة باليد ، ومحاربة باللسان ، والمحاربة باللسان في باب الدين قد تكون أنكى من المحاربة باليد - كما تقدم تقريره في المسألة الاولى - ، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يَقتل من كان يحاربه باللسان مع استبقائه بعض من حاربه باليد ، خصوصاً محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته؛ فإنها إنما تمكن باللسان ، وكذلك الإفساد قد يكون باليد ، وقد يكون باللسان ، وما يفسده اللسان من الأديان أضعاف ما تفسده اليد ، كما أن ما يصلحه اللسان من الأديان أضعاف ما تصلحه اليد ، فثبت أن محاربة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم باللسان أشد ، والسعي في الأرض لفساد الدين باللسان أوكد .
" الصارم المسلول " ( 3 / 735 ) .
خامساً :
وأما ترك الصلاة : فالصحيح أن تاركها كافر مرتد . راجع السؤال (5208) .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
==============
هل انتشر الإسلام بالسيف؟
سؤال:
هل انتشر الإسلام بالسيف ؟.
الجواب:
الحمد لله(1/357)
سبق في السؤال رقم (34830) أن الجهاد نوعان : جهاد طلب ، وجهاد دفع .
ولا شك أن جهاد الطلب كان له أثر كبير في نشر الإسلام ، ودخول الناس في دين الله أفواجا .
ولذلك ملئت قلوب أعداء الإسلام رعباً من الجهاد .
جاء في مجلة العالم الإسلامي الإنجليزية : إن شيئاً من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربي ، ولهذا الخوف أسباب منها أن الإسلام منذ ظهر بمكة لم يضعف عددياً بل دائما في ازدياد واتساع . ثم إن الإسلام ليس ديناً فحسب ، بل إن من أركانه الجهاد اهـ .
وقال روبرت بين : إن المسلمين قد غزوا الدنيا كلها من قبل وقد يفعلونها مرة ثانية اهـ .
وقد أراد المستشرقون الطعن في الإسلام بأنه انتشر بالسيف .
وألف المستشرق توماس أرنولد كتابه (الدعوة إلى الإسلام) يهدف منه إلى إماتة الروح الجهادية عند المسلمين ، وبرهن بزعمه على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف ، وإنما انتشر بالدعوة السلمية المتبرئة من كل قوة .
وقد وقع المسلمون في الفخ الذي نُصِبَ لهم ، فإذا سمعوا من يتهجم على الإسلام بأنه انتشر بالسيف من المستشرقين ، قالوا : أخطأتم واسمعوا الرد عليكم من بني جلدتكم ، فهذا توماس يقول كذا وكذا .
وخرج الانهزاميون من المسلمين يدافعون عن الإسلام ، وأرادوا تبرئة الإسلام من هذه الفرية على زعمهم ، فنفوا أن يكون الإسلام انتشر بالسيف ، ونفوا مشروعية الجهاد في الإسلام إلا على سبيل الدفاع فقط ، وأما جهاد الطلب فلا وجود له عندهم . وهذا خلاف ما قرره أئمة الهدى علماء المسلمين ، فضلا عن مخالفته للقرآن والسنة .
قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (28/263) :
"فالمقصود أن يكون الدين كله لله ، وأن تكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الله اسم جامع لكلماته التي تضمنها كتابه ، وهكذا قال الله تعالى : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) فالمقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقوم الناس بالقسط في حقوق الله وحقوق خلقه ثم قال تعالى : ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ) فمن عدل عن الكتاب قوم بالحديد، ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف. وقد روى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضرب بهذا يعنى السيف من عدل عن هذا يعنى المصحف اهـ .
وقال ابن القيم رحمه الله في "الفروسية" (ص 18) :
( وبعثه الله تعالى - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - بالكتاب الهادي ، والسيف الناصر ، بين يدي الساعة حتى يعبد سبحانه وحده لا شريك له، وجعل رزقه تحت ظل سيفه ورمحه . . . فإن الله سبحانه أقام دين الإسلام بالحجة والبرهان ، والسيف والسنان ، كلاهما في نصره أخوان شقيقان اهـ .
وهذه بعض أدلة الكتاب والسنة والتي تدل دلالة بينة واضحة على أن السيف كان من أهم الأسباب التي أدت إلى انتشار الإسلام :
1- قال الله تعالى : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) الحج /40 . وقال : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) البقرة /251 .
2- وأمر الله تعالى بإعداد العدة لمجاهدة الكفار وإرهابهم ، قال تعالى : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ) الأنفال /60 .
فلو كان الإسلام لا ينتشر إلا بالدعوة السلمية فقط ، فمم يخاف الكفار ؟ أمن كلام يقال باللسان فقط ؟ وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( نصرت بالرعب مسيرة شهر ) وهل يرعب الكفار أن يقال لهم أسلموا ، فإن لم تسلموا فأنتم أحرار فيما تعتقدون وتفعلون . أم كان يرعبهم الجهاد وضرب الجزية والصغار . مما يحملهم على الدخول في الإسلام لرفع ذلك الصغار عنهم .
3- وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإسلام دعوة مقرونة بالسيف ، ويأمر بذلك قواده، لعل الناس إذا رأوا القوة وجد المسلمين في الدعوة إلى دينهم تزول عنهم الغشاوة .
روى البخاري (3009) ومسلم (2406) عن سَهْل بْنَ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ : لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلا يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَبَاتَ النَّاسُ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَى فَغَدَوْا كُلُّهُمْ يَرْجُوهُ فَقَالَ أَيْنَ عَلِيٌّ فَقِيلَ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الراية . فَقَالَ : أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا ؟ فَقَالَ : انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ ، فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ .
فهذه دعوة إلى الله سبحانه مقرونة بقوة السلاح .(1/358)
وروى مسلم (3261) عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ ، وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ، ثُمَّ قَالَ : اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ ، اغْزُوا ، وَلا تَغُلُّوا ، وَلا تَغْدِرُوا ، وَلا تَمْثُلُوا ، وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدًا ، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ . . . فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ . . . الحديث .
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أمراءه أن يدعو الكفار إلى الإسلام وهم يرفعون السيوف فوق رؤوسهم ، فإن أبوا الإسلام دفعوا الجزية وهم أذلة صاغرون ، فإن أبوا فما لهم إلا السيف ( فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ ) .
4- وقال صلى الله عليه وسلم : ( بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ ، لا شَرِيكَ لَهُ ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي ، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ ) أحمد (4869) . صحيح الجامع (2831) .
وكون السيف والقوة من أسباب انتشار الإسلام ، هذا لا يعيب الإسلام ، بل هو من مزاياه ومحاسنه أنه يلزم الناس بما فيه نفعهم في الدنيا والآخرة ، وكثير من الناس يغلب عليهم السفه وقلة الحكمة والعلم، فلو تُرِك وشأنه لعمي عن الحق ، ولانغمس في الشهوات ، فشرع الله الجهاد لرد هؤلاء إلى الحق ، وإلى ما فيه نفعهم ، ولا شك أن الحكمة تقتضي منع السفيه مما يضره ، وحمله على ما فيه نفعه .
وروى البخاري (4557) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) قَالَ : خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ [أي كنتم أنفع الناس للناس] تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ ، حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ. وهل يؤتى بالناس في السلاسل من غير جهاد ؟!
وهذا مما يُمدح عليه الإسلام ولا يذم ، فعلى الانهزاميين ( أن يتقوا الله في مسخ هذا الدين ، وإصابته بالهزال بحجة أنه دين السلم والسلام . نعم ، إنه دين السلم والسلام ، ولكن على أساس إنقاذ البشرية كلها من عبادة غير الله ، وإخضاع البشرية كافة لحكم الله ، إنه منهج الله وليس منهج عبد من العبيد ولا مذهب مفكر من البشر حتى يخجل الداعون إليه من إعلان أن هدفهم الأخير هو أن يكون الدين كله لله . إنه حين تكون المذاهب التي يتبعها الناس مذاهب بشرية من صنع العبيد وحين تكون الأنظمة والشرائع التي تصرف حياتهم من وضع العبيد أيضاً فإنه في هذه الحالة يصبح لكل مذهب ولكل نظام الحق في أن يعيش داخل حدوده آمنا ما دام أنه لا يعتدي على حدود الآخرين ويصبح من حق هذه المذاهب والأنظمة والأوضاع المختلفة أن تتعايش وألا يحاول أحدها إزالة الآخر . فأما حين يكون هناك منهج إلهي وشريعة ربانية وإلى جانبه مناهج ومذاهب من صنع البشر فإن الأمر يختلف من أساسه ، ويصبح من حق المنهج الإلهي أن يجتاز الحواجز البشرية ويحرر البشر من العبودية للعباد . . . ) فقه الدعوة لسيد قطب (217-222) . بتصرف يسير .
وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (12/14) : "الإسلام انتشر بالحجة والبيان بالنسبة لمن استمع البلاغ واستجاب له ، وانتشر بالقوة والسيف لمن عاند وكابر حتى غُلِب على أمره ، فذهب عناده فأسلم لذلك الواقع" اهـ .
تنبيه :
يجب أن يعلم أنه ليس معنى الجهاد في سبيل الله لدعوة الناس إلى الإسلام وإزالة معالم الشرك من الوجود ، ليس معنى هذا أن الإسلام يكره الناس على الدخول فيه ، كلا ، فإن الله تعالى يقول : (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) البقرة/256 .
ولذلك من رفض من المشركين الدخول في الإسلام تُرِكَ ودينَه ، ولكن بشروط نعقدها معه ، وهو ما يسمى بـ "عقد الجزية" أو "عقد الذمة" .
فلليهودي أن يبقى على يهوديته في دولة الإسلام ، وكذلك النصراني وغيرهم من أهل سائر الأديان .
وتاريخ المسلمين شاهد على بقاء غير المسلمين في دولة الإسلام من غير أن يكرهوا على تغيير دينهم . وقد اعترف بذلك كثير من المستشرقين أنفسهم .
قال المستشرق الألماني أولرش هيرمان:
" الذي لفت نظري أثناء دراستي لهذه الفترة – فترة العصور الوسطى- هو درجة التسامح التي تمتع بها المسلمون، وأخص هنا صلاح الدين الأيوبي،فقد كان متسامحاً جداً تجاه المسيحيين .
إن المسيحية لم تمارس الموقف نفسه تجاه الإسلام " انتهى .
(العالم) ، العدد 290، السبت 2 سبتمبر 1989م .
وقال هنري دي كاستري (مفكر فرنسي) :
"قرأت التاريخ وكان رأيي بعد ذلك أن معاملة المسلمين للمسيحيين تدل على ترفع في المعاشرة عن الغلظة وعلى حسن مسايرة ولطف مجاملة وهو إحساس لم يشاهد في غير المسلمين آن ذاك" انتهى .
وقال ول ديورانت (فيلسوف ومؤرخ أمريكي) :(1/359)
"كان أهل الذمة المسيحيون، والزردشتيون، واليهود، والصابئون يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد نظيرًا لها في المسيحية في هذه الأيام. فلقد كانوا أحرارًا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم.. وكانوا يتمتعون بحكم ذاتي يخضعون فيه لزعمائهم وقضاتهم وقوانينهم" انتهى .
وقال الدكتور جورج حنا من نصارى لبنان :
"إن المسلمين العرب لم يعرف عنهم القسوة والجور في معاملتهم للمسيحيين بل كانوا يتركون لأهل الكتاب حرية العبادة وممارسة طقوسهم الدينية، مكتفين بأخذ الجزية منهم" انتهى .
وأما إكراه النصارى للمسلمين على تغيير دينهم ، وقتلهم وتعذيبهم إن رفضوا ذلك ، فشواهده من التاريخ القديم والمعاصر واضحة للعيان ، وما محاكم التفتيش إلا مثال واحد فقط من هذه الوقائع .
ولعلنا نبين ذلك في أجوبة أخرى إن شاء الله .
ونسأل الله تعالى أن يعز دينه ، ويعلي كلمته .
انظر : "التسامح في الإسلام بين المبدأ والتطبيق" للدكتور شوقي أبو خليل ، "الإسلام خواطر وسوانح" .
والله تعالى أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
===============
هل تجوز له الهجرة إلى أوربا إذا لم يستطع إظهار دينه في بلده ؟
سؤال:
في بلدنا تمنع السلفية ويمنع التمسك بالأحكام الشرعية كاللحية وتقصير الثياب والصلاة في المسجد وخاصة الفجر والكلام بما يخالف المذهب المعمول به هنا وغير ذلك أريد أن أسأل عن الهجرة شروطها ومتى تجب ؟ وما هي الأماكن التي يهاجر إليها والتي لا يهاجر إليها ؟ وهل تجوز الهجرة إلى أوروبا وأمريكا ؟ كما أن البلدان العربية والإسلامية لا تسمح بالهجرة إليها .
الجواب:
الحمد لله
أولا :
ذكر أهل العلم أن من أقسام الهجرة المشروعة : الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ، ومن دار البدعة إلى دار السنة ، ومن الأرض التي يغلب عليها الحرام ، والهجرة فرارا من الأذى في البدن أو المال أو الأهل .
قال ابن العربي المالكي رحمه الله : " الهجرة وهي تنقسم إلى ستة أقسام :
الأول : الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام ، وكانت فرضا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم مع غيرها من أنواعها ، وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة ، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان .
الثاني : الخروج من أرض البدعة ، قال ابن القاسم : سمعت مالكا يقول : لا يحل لأحد أن يقيم ببلد يسب فيها السلف .
وهذا صحيح ، فإن المنكر إذا لم يقدر على تغييره نزل عنه ، قال الله تعالى : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) الأنعام/68 .
وقد كنت قلت لشيخنا الإمام الزاهد أبي بكر الفهري : ارحل عن أرض مصر إلى بلادك فيقول : لا أحب أن أدخل بلادا غلب عليها كثرة الجهل وقلة العقل ، فأقول له : فارتحل إلى مكة أقم في جوار الله وجوار رسوله ، فقد علمت أن الخروج عن هذه الأرض فرض لما فيها من البدعة والحرام ، فيقول : وعلى يدي فيها هُدَى كثير وإرشاد للخلق وتوحيد وصد عن العقائد السيئة ودعاء إلى الله عز وجل .
الثالث : الخروج عن أرض غلب عليها الحرام ؛ فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم .
الرابع : الفرار من الإذاية في البدن ، وذلك فضل من الله عز وجل أرخص فيه ، فإذا خشي المرء على نفسه في موضع فقد أذن الله سبحانه له في الخروج عنه والفرار بنفسه ليخلصها من ذلك المحذور ، وأول من حفظناه فيه الخليل إبراهيم عليه السلام لما خاف من قومه قال : ( إني مهاجر إلى ربي ) العنكبوت/26 ، وقال : ( إني ذاهب إلى ربي سيهدين ) الصافات/99 وموسى قال الله سبحانه فيه : ( فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ) القصص/21 .
الخامس : خوف المرض في البلاد الوخمة والخروج منها إلى الأرض النزهة ، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للرعاء حين استوخموا المدينة أن يتنزهوا إلى المسرح فيكونوا فيه حتى يصحوا ، وقد استثني من ذلك الخروج من الطاعون فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم .
السادس : الفرار خوف الأذية في المال ، فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه ، والأهل مثله أو آكد " انتهى من "أحكام القرآن" (1/611) باختصار . ولا شك أن هذه المقاصد متفاوتة في الحكم بحسب حال الشخص ، فقد تجب وقد تستحب .
والمتحصل من كلام أهل العلم أن الهجرة تجب على من عجز عن إظهار دينه ، واستطاع الهجرة . وأما من قدر على إظهار دينه ، فلا تجب عليه الهجرة ، وكذلك من عجز عن إظهار دينه وعجز عن الهجرة ، فقد عذره الله تعالى .
قال ابن قدامة رحمه الله مبينا أصناف الناس في حكم الهجرة : " فالناس في الهجرة على ثلاثة أضرب :
أحدها: من تجب عليه , وهو من يقدر عليها , ولا يمكنه إظهار دينه , ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار , فهذا تجب عليه الهجرة ; لقول الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ) . وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب . ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه , والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته , وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .(1/360)
الثاني: من لا هجرة عليه . وهو من يعجز عنها , إما لمرض , أو إكراه على الإقامة , أو ضعف ; من النساء والولدان وشبههم , فهذا لا هجرة عليه ; لقول الله تعالى : ( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ) . ولا توصف باستحباب ; لأنها غير مقدور عليها .
والثالث : من تستحب له , ولا تجب عليه . وهو من يقدر عليها , لكنه يتمكن من إظهار دينه , وإقامته في دار الكفر , فتستحب له , ليتمكن من جهادهم , وتكثير المسلمين , ومعونتهم , ويتخلص من تكثير الكفار , ومخالطتهم , ورؤية المنكر بينهم . ولا تجب عليه ; لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة . وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة مع إسلامه " . انتهى من "المغني" (9/236).
ثانيا :
علم مما تقدم أنه إذا لم يستطع المسلم إظهار دينه ، فإنه تجب عليه الهجرة عند القدرة ، فإن لم يستطع لعجزه أو مرضه أو عدم وجود جهة تسمح بانتقاله إليها ، فهو معذور ، وفرضه أن يتقي الله ما استطاع ، ويجتهد في أداء ما يستطيعه من أمور دينه ؛ قال الله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) البقرة/286، وقال : ( لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ) الأنعام/152.
وإذا لم توجد بلد يمكن فيها إظهار الدين كاملا - ممن تسمح بالهجرة إليها - ، فإنه يُبحث عن الأمثل فالأمثل ، وهذا من تقوى الله تعالى ، وامتثالِ أوامره ، وفعلِ الممكن المستطاع .
ثالثا :
إذا لم توجد دولة إسلامية يمكن الانتقال إليها ، وكان العيش في أوروبا أو أمريكا ، مما يمكّن المسلم من إظهار دينه ، أو ينجو فيه من الأذى المتوقع على بدنه أو أهله أو ماله ، بحيث يكون العيش فيها آمن من العيش في بلده الأصلي ، فلا حرج في ذلك ، على أن يقتصر على الإقامة دون أخذ الجنسية ، لما يترتب على أخذها من محظورات كبار ، وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء سؤالا نصه:
كثير من المسلمين الذين يقدمون إلى هذه الديار ينوون الإقامة وكذلك يحصلون على الجنسية الأمريكية فهل يجوز لهم ذلك علما بأنها ديار كفر وشرك وانحلال فكيف يعطون ولاءهم لحكومتها بالتنازل عن جنسية بلادهم الإسلامية وقبول جنسية هذه البلاد فما حكم الإسلام في ذلك علما بأنهم يبررون ذلك بنشر الإسلام؟
فأجابت: "لا يجوز لمسلم أن يتجنس بجنسية بلاد حكومتها كافرة ، لأن ذلك وسيلة إلى موالاتهم والموافقة على ما هم عليه من الباطل.
أما الإقامة بدون أخذ الجنسية فالأصل فيها المنع لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرا. إلا المستضعفين...) النساء/97، 98.
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنا برئ من كل مسلم يقيم بين المشركين ) ولأحاديث أخرى في ذلك، ولإجماع المسلمين على وجوب الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام مع الاستطاعة. لكن من أقام من أهل العلم والبصيرة في الدين بين المشركين لإبلاغهم دين الإسلام ودعوتهم إليه، فلا حرج عليه إذا لم يخش الفتنة في دينه، وكان يرجو التأثير فيهم وهدايتهم "انتهى" .
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي..... عبد الله بن قعود
"فتاوى اللجنة الدائمة" (2/69).
وجوَّزَ بعض أهل العلم أخذ الجنسية في حالة الاضطرار ، كالمطارد الذي لا يجد مأوى إلا في هذه البلاد ، قال الشيخ ابن جبرين حفظه الله : " من اضطر إلى طلب جنسية دولة كافرة كمطارد من بلده ولم يجد مأوى فيجوز له ذلك بشرط أن يظهر دينه ويكون متمكنا من أداء الشعائر الدينية ، وأما الحصول على الجنسية من أجل مصلحة دنيوية محضة فلا أرى جوازه.
والله أعلم" وللأهمية يراجع جواب السؤال رقم ( 13363)
نسأل الله تعالى أن يظهر دينه ، ويعلي كلمته ، ويحفظنا وإياكم والمسلمين بحفظه .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
==============
لماذا فتح المسلمون الأندلس ؟
سؤال:
فهم شخص يهودي من آية في القرآن الكريم أن الإسلام ينهى عن اعتراض الناس في ديارهم ، فلماذا في السابق كانت هناك فتوحات إسلامية ؟ خاصة عندما ذهب الفارس الإسلامي طارقُ بن زياد لفتح الأندلس ، مع أن سكانها كانوا في ديارهم ، وقال طارق بن زياد لجنوده : البحر من خلفكم ، والعدو أمامكم . أرجو من فضيلتكم توضيح ذلك ؟
الجواب:
الحمد لله
الأندلس حلقة من حلقات التاريخ الإسلامي العظيم ، بل هي منارة في تاريخ البشرية كلها ، حيث كانت مصدر العلم والمعرفة في الأرض لقرون متطاولة ، تعلمت منها أوروبا كلها دروس الحضارة والمدنية ، وكان فتحها - بلا شك - من أعظم أحداث القرن الهجري الأولى (92هـ الموافق 711م) ، وكان ذلك العهد أزهى وأرقى عهود بلاد الأندلس منذ بدء التاريخ ولعله إلى آخر الزمان .
ولأهمية هذا الموضوع ، كان لا بد من بيان بعض الأمور المهمة المتعلقة بهذا الحدث العظيم:
أولا :
إن أهم مقاصد الجهاد التي شرع من أجلها تبليغ رسالة التوحيد ، بكسر جميع الطواغيت التي تحول بينها وبين الناس ، ودعوة الناس إلى الإسلام من غير إكراه ولا إجبار ، بل عن طواعية واختيار .
يقول الله تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ) البقرة/193(1/361)
قال قتادة رحمه الله : " حتى لا يكون شركٌ ، "ويكون الدين لله" : أن يقال : لا إله إلا الله ، عليها قاتل نبيُّ الله ، وإليها دعا . " تفسير الطبري (3/567) .
ثانيا :
كانت " الأندلس " واسمها القديم " أيبيرية " خاضعةً للإمبراطورية الرومانية ، وفي مطلع القرن الخامس الميلادي - أي حوالي عام 410 م اجتاحتها قبائل " القُوط " الأريوسية المذهب ، وأسسوا فيها دولةً قُوطِيَّة عاصمتها " طليطلة " .
ومن هنا نفهم أن شعوب " الأندلس " الأصلية من الكنعانيين الكاثوليك كانت - قبل الفتح الإسلامي - خاضعة للنفوذ القوطي ، وتكوَّنَ سكانها من طبقات أربعة متناقضة متصارعة : طبقة القوط الحكام المستعمرين ، وطبقة الأعيان الرومانيين ومعهم الإقطاعيون ورجال الدين ، وطبقة اليهود ، وطبقة الشعب العامل من سكان البلاد الأصليين .
فهي بلاد محتلة مضطهدة أصلا ، ولم تكن تحت حكم سكانها الأصليين ، ولم يكن المسلمون هم المبتدئين للاحتلال ، إنما خلصوا البلاد من احتلال ظالم إلى بلد مسلم يختار أهله عقيدة المسلمين ، وينتسبون إلى دولتهم .
ثالثا :
زيادة على الاحتلال الذي فرضته القبائل القوطية الغربية على بلاد الأندلس ، كان التسلط والظلم والاضطراب سمةً بارزة في فترة حكمهم التي امتدت نحو ثلاثة قرون .
يقول حسين مؤنس في كتابه "فجر الأندلس" (ص/8،18-19) :
" لكن سلطانهم لم يستقر في البلاد أول الأمر بسبب ما ثار بينهم وبين أهل البلاد من منازعات دينية ، وبسبب ما شجر بين أمرائهم من خلافات ، ولهذا ظلت البلاد طوال القرن السادس نهبا للحروب الأهلية ، وما ينجم عنها من الفوضى وسوء الحال...- حتى كان آخر حكام القوط - واحد اسمه " رودريكو " ( لذريق )...والظاهر الذي لا تستطيع المناقشة إخفاءه أن الرجل كان يشعر باضطراب الأمر عليه ، وأنه ظل حياته متخوفا من وثبة تكون من أحد أعدائه الكثيرين ؛ لأن هؤلاء الأعداء لم يكونوا أولاد " غيطشة " وحدهم - الذين استولى " لذريق " على ملكهم - بل كانوا في واقع الأمر جلة الشعب الإيبيري الروماني واليهود ، أي معظم أهل البلاد التي اقتحمها القوط عليهم " انتهى باختصار .
وقد حاول كثير من المؤرخين الأسبان أن يدافعوا عن دولة القوط - تعصبا منهم في رفض الوجود الإسلامي في تلك البلاد - إلا أن كتب التاريخ مليئةٌ بالأدلة على ما ذكره الأستاذ حسين مؤنس في شأن رفض أهل البلاد حكم القوطيين ، حتى نقل في (ص/10) عن " رفائيل بالستيروس " المؤرخ الإسباني قوله : إن العرب لو لم يتدخلوا في سنة 711هـ في شؤون الجزيرة ، ويضعوا نهاية لهذا العصر المضطرب ، لَبَلَغَ القوطُ بإسبانيا مبلغا من السوء لا يسهل تصوره .
رابعا :
لما اشتد ظلم حكام القوط في تلك البلاد ، وضاق الشعب بهم ، أرسلوا إلى المسلمين يطلبون منهم تخليصهم والنجاة بهم ، فقد أجمعت المصادر العربية على ذكر إرسال حاكم " سبتة " واسمه " يوليان " أو جوليان " إلى موسى بن نصير يطلب منه دخول البلاد وتخليصهم من شر " لذريق " ، كما تذكر كثير من المصادر إرسال أبناء " غيطشة " إلى موسى بن نصير يستنجدون به على مَن غصبهم ملك أبيهم ، بل إن المصادر التاريخية الغربية تنسب إلى اليهود المضطهدين في " الأندلس " من قبل القوط استنجادَهم بِمَن وراء البحر من " الأفارقة " أو " المسلمين " ليخلصوهم من ظلم " لذريق " وأعوانه ، وهو أمر وإن أنكره بعض المؤرخين ، غير أن المتفق عليه بينهم أن اليهود تعرضوا في تلك الفترة إلى اضطهاد كاد يفنيهم ولا يبقي لهم أثرا . انظر "فجر الأندلس" لحسين مؤنس (ص/14)
وفي النصوص الباقية الموروثة كثير من الأدلة على أن الأندلسيين استقبلوا المسلمين استقبال الفاتحين ، ومن ذلك :
يقول صاحب كتاب "أخبار مجموعة في فتح الأندلس" (ص/24) متحدثاً عن الخدمات التي قدمها بعض الإسبان لموسى بن نصير :
" فلما نزل الجزيرة ، قيل له : اسلك طريقه ، قال : ما كنت لأسلك طريقه . قال له العلوج الأدلاء : نحن ندلك على طريق هو أشرف من طريقه ، ومدائن هي أعظم خطباً من مدائنه ، لم تُفتح بعد ، يفتحها الله عليك إن شاء الله " انتهى .
ويقول أيضاً :
" ثم سار إلى مدينة قرمونة ، فقدَّم إليها العلوج الذين معه ، وهي مدينة ليس بالأندلس أحصن منها ، ولا أبعد من أن ترجى بقتال أو حصار ، وقد قيل له حين دنا منها : ليست تُؤخذ إلا باللطف ، فقدَّم إليها علوجاً ممن قد أمنه واستأمن إليه ، مثل " يليان " ، ولعلهم أصحاب " يليان " ، فأتوهم على حال الأفلال ، معهم السلاح ، فأدخلوهم مدينتهم ، فلما دخلوها بعث إليهم الخيل ليلاً ، وفتحوا لهم الباب ، فوثبوا على حراسه ، ودخل المسلمون قرمونة " انتهى.
بل إن بعض أساقفة النصارى شاركوا في مساعدة المسلمين على الفتح ، منهم " أوباس " أسقف " إشبيلية " كما في كتاب "العرب لم يغزوا الأندلس" (ص/187)
وينقل صاحب كتاب "تاريخ النصارى في الأندلس" (ص/45) عن ما جاء في سيرة القديس " سانت ثيودارد" رئيس أساقفة " أربونة " الذي عاش حوالي سنة (266هـ) أنه لما دخل المسلمون لأول مرة إلى " لانجدوك " ، انحاز اليهود إليهم ، وفتحوا لهم أبواب مدينة
" طولوشة " .
والمسلمون يؤمنون بأن نصرة المظلوم وإحقاق العدل والسلم من أعظم مقاصد الجهاد في الشريعة الإسلامية ، دليل ذلك ما وقع في "سيرة النبي صلى الله عليه وسلم " من " حِلف الفضول " ، حيث تعاهدت القبائل على كف الظالم ونصرة المظلوم ولو كان كافرا .
يقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه "العلاقات الدولية في الإسلام" (83) :
" الإسلام ينظر إلى الرعايا الذين يُحكَمون بالظلم ويُقيدون في حرياتهم نظرة رحيمة عاطفة ، ينصرهم إذا استنصروه ، ويرفع عنهم نير الطغيان إن هم استعانوا به " انتهى .(1/362)
وذلك ما شهد به بعض اليهود حين أدركوا عظيم الفضل الذي أسداه المسلمون لهم في توفير حياة كريمة ، وحرية لم يشهدوا لها مثيلا عبر تاريخ وجودهم في أوروبا كلها .
يقول حاييم الزعفراني اليهودي في كتابه "ألف سنة من حياة اليهود في المغرب" (ص/13) :
" لقد عرفت اليهودية الأندلسية في مجموعها حياة أكثر رخاء ، وأكثر اطمئناناً ، كما لم تعرفها في مكان آخر " انتهى .
ويقول نسيم رجوان - رئيس تحرير جريدة اليوم الإسرائيلية - :
" كان اليهود قد عانوا خلال قرون الكثير من الشقاء والبؤس ، حيث كان الملوك الإسبان القساة الغلاظ بعيدين كل البعد عن الشفقة والرحمة . وعندما دخل المسلمون إسبانيا لم يكتفوا بتحرير اليهود من الاضطهاد ، ولكنهم شجَّعوا بينهم نشر حضارة كانت توازي بخصبها وعمقها أشهر الحضارات في مختلف العصور " انتهى نقلا عن كتاب "أهل الكتاب في المجتمع الإسلامي" (ص/49)
سادسا :
ويُتَوَّجُ ما سبق بالقطع واليقين ، حين نستحضر أن فتح تلك البلاد لم يستغرق إلا نحو ثلاثة سنين (92هـ - 95هـ) وصل فيها المسلمون إلى فرنسا ، ولم يشارك فيه إلا بضعة آلاف من الجنود ، مما يقطع لك بأن الأمر لم يكن فتحا عسكريا بالقدر الذي كان فتحا فكريا وعقائديا ، آمن فيه سكان " الأندلس " بعقيدة المسلمين ، واختاروا - عن حب وطواعية - التسليم لهذا الدين الجديد ، والتخلص من طغيان الكنيسة والإقطاع الذي كان سائدا قبل المسلمين ، وقد كتب في ذلك واحد من أشهر المؤرخين الإسبان ، واسمه " اغناسيو أولاغي " كتابا اشتهر في السبعينيات اسمه " الثورة الإسلامية في الغرب " ، ترجمه واختصره الأستاذ المؤرخ المحقق " إسماعيل الأمين " تحت عنوان " العرب لم يغزوا الأندلس " ، طباعة " رياض الريس للكتب والنشر " ، أراد فيه المؤلف بيان أن التحول إلى الإسلام في الأندلس لم يتم إلا عبر حركة الأفكار وتصارعها ، ثم هيمنة ما يسميه المؤلف بالفكرة/القوة ، التي شكلت عصب الحضارة العربية الإسلامية في ثلاثة أرباع العالم يومها ، ورغم ما في الكتاب من مغالاة في نقد كل ما اشتهر في تاريخ الأندلس ، إلا أن الذي يهمنا فيه بعض النصوص التي توحي بأن دخول الإسلام الأندلس لم يكن اعتراضا وقهرا ، بل كان فتحا للقلوب وتنويرا للعقول ، وليتحمل القارئ الكريم طول النص المنقول ، فإنه من أبدع النصوص التي كتبها أعداء الإسلام في أمر يثيره كثير من الحاقدين :
جاء في (ص/55- 66) :
" هكذا يتضاءل الغزو الأجنبي إلى حادث عرضي في حرب أهلية ، فهل يبقى من صلة بين هذا الحدث العسكري من جهة ، وبين اعتناق الأيبيريين الإسلام ، ثم نشوء حضارة إسلامية في أيبيريا من جهة ثانية ؟
في الأبحاث المتعلقة بخرافة الغزو جاءت الأرقام دقيقة ، وصل طارق بسبعة آلاف رجل لهزيمة رودريك ، وجاء موسى بن نصير على رأس ثمانية عشر ألف رجل ليخضع الأيبيريين لسلطانه ، أحدث خمسةٌ وعشرون ألف رجل هذا التحول الهائل في اللاتينية والمسيحية والزواج الأحادي ، في ضربة واحدة بدَّل الأيبيريون أعرافهم وتقاليدهم وديانتهم ، بعد هذا الإنجاز العظيم يبادر العرب دون أي تعزيز لقواتهم ومواقعهم إلى غزو فرنسا !
مع ذلك يبقى من المطلوب تفسير كيف يمكن أن تتم عملية تحويل شعوب أيبيريا المحصَّنة جغرافيا وطبيعيا بهذه السرعة ، ومن قبل حفنة ممن نسبت إليهم المعجزات ، خصوصا أن الأيبيريين والغزاة لم يكونا من أصل مشترك .
من البديهي أن جيشا من هذا النوع كان سيذوب بين الجموع إذا ما خاطر بنفسه وتوغل في عمق البلاد ، هذا فضلا عن أن الأيبيريين خلال تاريخهم الطويل لم يكونوا شعبا مسالما في مواجهة مثل هذا النوع من الأحداث ، ألم يكن من الممكن أن ينظموا حرب "العصابات" التي كانوا قد قدموا وصفتها إلى العالم بأكمله ؟!
ماذا فعل الأيبيريون في هذه الأثناء ؟ بعد سنة 711م لم يحدثنا التاريخ عنهم ، مع هذا فإن عشرة ملايين نسمة - على أقل تقدير - لم يختفوا هكذا بضربة سحرية في تلك الحقبة السعيدة ، لم يكن هناك وسائل إبادة جماعية ، وكان يلزم الفاتحون الكثير من الوقت والعمل لجزر هذا العدد بالسيف ، لا يمكن لأودية "أشتورش" الصغيرة استقبال هذا العدد من اللاجئين ، يكفي هذه الأودية أنها شكلت حصنا للمتمردين القلائل الذي سيشكلون فيما بعد نواة المملكة المسيحية ، هكذا تم إخفاء عشرة ملايين من الأيبيريين من صفحات التاريخ ، فإذا كان اجتياح أرض مسيحية من قبل " الكفار " قد بدا بهذه الضخامة ، بماذا يمكننا إذن أن نصف اعتناق شعبها الإسلام ، وتمثله الحضارة العربية الإسلامية ؟ إما أن يكونوا جميعهم قد قتلوا ، وإما تم استرقاقهم عبيدا ، أو لجؤوا إلى الجبال ، أو ببساطة قد تم تجاهل وجودهم من قبل المؤرخين.
لماذا وكيف اعتنقت الجماعات الإنسانية التي كانت متمركزة في المقاطعات البيزنطية في آسيا ومصر وأفريقيا الشمالية وشبه جزيرة أيبيريا إيمانا جديدا ومفهوما جديدا للوجود ؟
قد يسهل تحويل خرافة الغزوات العربية المستحيلة جغرافيا وتاريخيا إلى حقيقة ، ولكننا لا يمكننا أن ننكر أن حضارةً عربية إسلامية قد امتدت في جميع هذه الأصقاع .
يصاب الباحثون بالدهشة حين يعرفون من خلال الروايات عدد الغزاة : خمسة وعشرون ألف رجل أهلكوا عشرة ملايين !!
في الواقع استمرت عملية اعتناق الدين الإسلامي واكتملت خلال قرنين أو ثلاثة قرون ، فكان اعتناقا كاملا أو نهائيا ، لم يترك سوى بعض الجزر التي بدا وجودها مشكوكا فيه .
كيف إذًا يمكن تفسير هذه العودة عن المسيحية واعتناق الإسلام بقوة السلاح ؟
وماذا كانت نتيجتها ؟
بعض المؤرخين قَبِلَ الإجابة التقليدية الجاهزة عن هذه الأسئلة ، وبعضهم الآخر أصيب بتشوش فكري .(1/363)
لم يتمكن هؤلاء من فهم كيفية خضوع شعوب مصر والمقاطعات البيزنطية لما يسمونه بـ "قوانين البدو" ، لقد أثبت " كزافيي بلان هول " في كتابه " العالم الإسلامي " أن الإسلام كان دائما دين المدن ، مع هذا لنفترض أنهم أُخضعوا بالقوة من قبل جماعات البدو ، فلماذا تنازلوا لهؤلاء البدو عن كامل حضارتهم ؟
كانت المقاطعات البيزنطية تتمتع بحياة مدنية متقدمة ، وكانت المدن المزدهرة كبيرة ، كان عدد سكان أنطاكيا حوالي 300 ألف نسمة ، وكان من بين الأربع مائة أسقفية بيزنطية ثلاث مائة وواحد وسبعون أسقفية موجودة في آسيا ، من هنا تظهر أهمية النصر الإسلامي على المستوى الفكري .
هل يتعين علينا أن نتصور أن أبناء المدن قد فُتنوا بمدنية أولئك المتدفقين من تلك الوحشة الواسعة ؟ يبدو الأمر مستحيلا إذا لم يكن لدى هؤلاء البدو غير السيف .
التعصب الديني وسوء الفهم الناتجان أحيانا عن انعدام الوعي وأحيانا عن الإرادة الواعية والمتعاظمان مع الزمن أخفيا - تحت جملة من الأكاذيب والخرافات - قسما هاما من تاريخ انتشار الإسلام على طول السواحل الشرقية والجنوبية للبحر المتوسط ، وانسجاما مع مفهوم بدائي للتاريخ فسرت التحولات الروحية والاجتماعية والثقافية العملاقة في القرنين السابع والثامن - في عالمي الشرق والبحر المتوسط - كنتيجة لغزوات عسكرية فرضت اللغة والحضارة والدين بالسيف المعقوف !!
الإكراه لا يفسر كل شيء .
في الواقع : إن المؤرخين قد خلطوا بين انتشار الأفكار العبقرية التي تحملها حضارة ما ، وبين القدرات العسكرية التي لا تسمح إلا بنشوء إمبراطوريات وقتية تزول مع الزمن .
لقد خلطوا بين القوة العقلية والقوة المادية .
نستنتج من دراسة الحركات المشابهة أن انتشار الإسلام كان نتيجة الفكرة/القوة ، وليس نتيجة للقدرة على الهجوم العسكري المسلح ، فمثلما سيطرت " الهيلينية " فيما مضى ، ويسيطر الغرب اليوم ، فإن سيطرة الإسلام لا يمكن أن تكون إلا ثمرة لحركات أفكار/قوة.
أما الاستمرار في الاعتقاد بأن شعوبا تزدهم ( أي تغزوهم ) في بلادها حضارة هادمة ، قد تركت معتقداتها وغيرت عاداتها لأن حفنة من الفرسان الميامين قهرتها عسكريا ، فلا يوحي إلا بمفهوم صبياني سخيف للحياة الاجتماعية .
يجب أن يتقلص الجانب العسكري من الأحداث إلى دور ثانوي يتعلق بتفاصيل طرائف الحياة الشخصية . يجب فهم المشكلة في المجال الفكري والثقافي .
لم يكن هناك عدوان عسكري ، بل أزمة ثورية ، ودعوة حملها الفقهاء وليس الجنرالات .
إن العلماء وحدهم يدركون حركة الشعوب ويقدرون على قيادتها ، أما السيادة العسكرية فلا يمكن أن تستمر ثمانية قرون في الأندلس ، وإلى الأبد في مساحات شاسعة من العالم " انتهى باختصار .
( من المراجع التاريخية المستفاد منها : "البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب" لابن عذاري المراكشي (2-9) ، "نفح الطيب" للمقري 1/229-263 وغيرها ) .
وفي موقعنا بعض الإجابات المتعلقة بموضوع الجهاد ، يمكنكم مراجعتها ، وهي :
(21961) ، (26125) ، (34647) ، (43087)
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
==============
الجهاد والدعوة
المجيب د. رشيد بن حسن الألمعي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد
التصنيف الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ 16/1/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فضيلة الشيخ: سؤالي عن موضوع علاقة الجهاد والقتال في سبيل الله بالدعوة؟ والبساطة فقد سمعت بحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فيه: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن فعلوا فقد عصموا مني دماءهم ..." إلى آخر الحديث أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - فهل هناك تعارض بين ما جاء في الحديث وبين قول الحق تبارك وتعالى: "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"، أرجو الإفادة لأن هناك من أعداء المسلمين من يتشدق بأن الدعوة إلى الإسلام تكون بالسيف، لا أن السيف يلجأ إليه فقط إذا ما استعمله العدو أولا في إيذاء الدعاة، شكراً.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
أخي الكريم: أجيب على سؤالك هذا في نقاط، وأسأل الله أن يلهمني الصواب، وما توفيقي إلا بالله.
أولاً: الجهاد شعيرة من شعائر الإسلام وأحد مبانيه العظام، واعتقاد أن الإسلام حق يقتضي منا أن لا نخجل أو نستكين إذا عورضت بعض شعائره وشرائعه من مخالف كائناً ما كان ذلك المخالف، وإذا كانت الأمة تمر بمرحلة ضعف وتبعية فإن هذا لا يعني أن نخضع ثوابت ديننا للتغيير ونتخلى عن الإيمان بها.
ثانياً: من المتقرر في شريعتنا أنه لا إكراه في الدين، وشواهد هذا قائمة على مدى التاريخ الإسلامي، فقد عاش في حمى الإسلام طوائف من اليهود والنصارى، وجاوروا النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكرهوا على تغيير دينهم.
ثالثاً: من أراد أن ينتمي إلى الإسلام فعليه أن يعرف قبل انتمائه أنه سيكلف بتكاليف، ويلتزم بحكم هذا العهد والعقد بأمور إذا خالفها عرض نفسه للعقاب، وهذا من الأمور المسلمة حتى في الاتفاقات والأنظمة المعقودة بين الناس، في أمور الدنيا ولا ينكر ذلك إلا مكابر أو معاند، فلو أن شخصاً طلب منحه الجنسية من دولة ما من الدول؛ ومنحها فإنه بقدر ما يحظى بمزايا تلك الجنسية لابد وأن يتحمل تبعات ويلتزم بقوانين تلك الدولة، ومن خالف عوقب، ولا يقال بأن له مطلق العنان والحرية في أن يفعل ما يشاء.(1/364)
رابعاً: مفهوم الجهاد أوسع من مفهوم القتال، ونحن لم نؤمر أن نبدأ الناس في جهادنا معهم بالقتال، بل هناك أمور ومراحل تؤخذ تباعاً ولا يلجأ إلى القتال إلا عند الحاجة إلى ذلك.
خامساً: هناك قيد مهم جداً في الجهاد ينبغي أن لا يغفل ألا وهو: أن يكون جهاداً في سبيل الله، فمتى خرج عن هذا القيد لم يكن جهاداً يؤجر عليه طالبه.
سادساً: من المسلم أن القوانين البشرية التي تحكم أحوال الناس اليوم تحول - دون شك - بين الناس وبين رسالة الإسلام في صفائها ونقائها، ومهما زعموا من دعوى حرية الرأي، وحقوق الإنسان، فإن الواقع يشهد بأن تلك القوانين تحول بين الناس وبين معرفة الإسلام على حقيقته، ولو ترك الناس والإسلام لدخلوا في دين الله أفواجاً.
سابعاً: ليعلم أن الجهاد نوعان:
(1) جهاد دفاع عن النفس والمال ونحوهما مما ورد، وهذا لا يحتاج فيه إلى إذن إمام، وعلى كل من لزمه فعله.
(2) جهاد الطلب الذي يتضمن الذهاب إلى العدو لقتاله، فهذا لا يوكل إلى كل أحد أن يفعله كيفما اتفق، بل لابد له من ضوابط، واستعداد وإذن الإمام وغير ذلك من الشروط التي لابد من توافرها، وهذا النوع من الجهاد يغفل عن معرفة أحكامه كثير من المتحمسين للعمل الإسلامي ولابد للمنصف أن يراجع أحكام هذا النوع من الجهاد في مظانه من كتب العلم، ويتلقى الفتوى فيه عن العلماء المتفقهين في أحكامه، ومن لم يفعل ذلك جنى بفعله على الإسلام وأهله ما لا تحمد عقباه، والله المستعان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
==============
معنى لا إكراه في الدين
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف
التاريخ 30/1/1423
السؤال
أخذ بعض الناس هذه الأيام ينشر قوله تعالى:" لا إكراه في الدين " بين الناس زاعمين أن هذه الآية دليل على عدم صحة القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تقوم بعض الدول الإسلامية، وأنه ينبغي لهذه الدول أن تكفَّ عن إجبار الناس على الذهاب إلى المسجد وإجبار النساء على لبس الحجاب. هل يصح رأيهم؟ وإلا ما الدليل على خطئهم لنرشدهم إلى الصواب؟
الجواب
الشبه التي ذكرها السائل يتذرع بها بعض الناس داعين لتعطيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحق أن الآية لا دلالة فيها على ما ذكروا؛ إذ جاءت نهياً عن إكراه أحد من الناس على الدخول في الإسلام ابتداءً، وهو معنى:" لا إكراه في الدين" [البقرة:256] والمراد بالدين - هنا- الملة والعقيدة، فإذا دخل المرء في الإيمان وأعلن استسلامه لله - تعالى- جرت عليه أحكام الشريعة، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ هو من مقتضيات الإيمان، ومما فضل الله به هذه الأمة على الأمم قبلها، يقول تعالى:" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"[آل عمران:110] وقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تضمنت أشد التحذير من التهاون في هذه الفريضة، حتى إن العقوبة لتعم الأمة بأجمعها إن هي أخلَّت بها، منها ما رواه أحمد في مسنده والترمذي في جامعه -وصححه- من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:" والذي نفسي بيده لتأمُرنَّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتَدْعُنَّه فلا يستجيب لكم" وكذا ما رواه أبو داود في سننه (4339) بسند صحيح من حديث جرير بن عبد الله- رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:" ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا" فهذه النصوص وغيرها دلالتها ظاهرة على فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يستوي في ذلك المسلمون جميعاً كل بحسبه. وبالله التوفيق.
==============
إذا كان لا إكراه في الدين، فلِمَ شرع الجهاد؟!
المجيب سامي بن عبد العزيز الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ 13/2/1425هـ
السؤال
كيف نجمع بين قول الله سبحانه وتعالى "لا إكراه في الدين" وبين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" (البخاري 4/196) والحديث الآخر : "أخرجوا اليهود من جزيرة العرب"
وهذا الحديث الأخير يحتج به غير المسلمين على عداوة الإسلام للأديان الأخرى.
فكيف تجيبون على هذا الادعاء؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمن الحقائق التي تظافرت الأدلة الشرعية على تقريرها: أنه لا يكره أحدٌ على اعتناق الإسلام، بل الواجب أن تقام الحجة حتى يتبين الرشد من الغي. فمن شاء بعدُ أن يسلم فليسلم، ومن أبى إلا الكفر فلا يُكْرَه على الإسلام، ولا يُقتل إن استحبّ الكفر على الإيمان.
ومن أصرح الأدلة على ذلك:
قوله تعالى: "لا إكراه في الدين" [البقرة:256] أي لا يُكره أحدٌ على الدخول في الإسلام.
وقولُه تعالى: "ولو شاء ربك لآمن مَن في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين" [يونس:99].
وقوله: "فإن تولوا فإنما عليك البلاغ" سورة [آل عمران:20]، ومثله قوله تعالى: "ما على الرسول إلا البلاغ" سورة [المائدة:99]، وكلتا الآيتين مدنيتان.
ويتساءل بعضهم: إذا كان الأمر كذلك، فلِمَ شُرع الجهاد؟ وكيف تفسرون قتال الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته -رضي الله عنهم- للمشركين؟
والجواب: أن الجهاد شُرع لغاياتٍ ليس منها إكراهُ الناس على اعتناق الإسلام.(1/365)
فقد شُرِع أوَّلَ ما شرع دفاعاً عن المستضعفين المؤمنين الذين يُضطهدون في دينهم ويؤذَون في أنفسهم وأموالهم، ويُخرجون من ديارهم، (وهو ما يسمى بجهاد الدفع)، فقال تعالى: "أُذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِموا وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.." [الحج:39 – 40]
قال غير واحد من السلف: هذه أول آية نزلت في الجهاد، ثم نزل قوله تعالى: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم..الآية" سورة [البقرة: 190-191]
وشُرعَ سنداً لنشر الدعوة حتى تبلغ رسالتها إلى الناس كافةً "وهذا من جهاد الطلب الذي يأتي في مرحلة القوة وظهور الشوكة.
إن الدعوة في حقيقتها دعوةٌ سلمية...باللسان والبيان، فما صحبها السلاحُ لكي يُكره الناس على الدخول في دين الله، وإنما صحبها ليدفع كلَّ من يقف في طريقها ويناوئها.
وما أكثر تلك القوى المتنفِّجة بالباطل التي تقف في وجه دعوة الإسلام، وتصد الناس عن دين الله!
وما عسى الإسلام أن يفعل إذا هي وقفتْ في وجهه وحالت بينه وبين الناس؟
هل سيتركها لتحجبَ عن الناس دعوة الحق، وتمنَعهم اتّباعَها إذا اختاروها ؟
وإنها لفتنة: أن يُصد الناس عن سماع كلمة الحق، ويُسلبوا حرية اختيار الدين، وأعْظِمْ بها من فتنة؟! "والفتنة أشد من القتل" [البقرة:191] "والفتنة أكبر من القتل" [البقرة:217].
إنه ليس ثمَّة خيار للإسلام أمام هذه القوى إلا أن يجاهدها ويدكَّها؛ ليقرِّرَ للناس حريةَ الدعوة بعد أن كانوا محرومين منها تحت سطوة الطغاة ورهبة العتاة، يستعبدونهم ويمارسون الوصاية على عقولهم؟!
ولذا قال جل جلاله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين لله" سورة [البقرة:193].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه لهرقل الروم: "أما بعد؛ فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين" متفق عليه البخاري (7)، ومسلم (1773)، وإنما جعل عليه إثم الأريسيين ـ وهم رعاياه ـ ؛ لأنهم يأتمرون بأمره وينقادون بانقياده.
فلا بد إذاً أن تنداح لدعوة الإسلام هذه الموانعُ وتنزاحَ أمامه كل العقباتُ؛ ليسمع الناس دعوة الإسلام كما هي في صفائها وموافقتها للفطرة، لا كما كانوا يسمعونها من أعدائها مشوَّهةً بالأباطيل المختلقة. فإذا بلغتهم كما هي في حقيقتها فهم وما اختاروا لأنفسهم.
وشُرع الجهاد (في أعظم ما شُرع): ليفتح البلاد ويحطم ما نُصب فيها من الطواغيت الباغية، وما تقنِّنه من النظم المستبدة الجائرة؛ ليقيم مكانها نظامَ الإسلام (جهاد الطلب).
وهذا النوع من الجهاد يتطلب قوةً وقدرةً، ولا يتحقق إلا مع ظهور شوكة المسلمين وتحقق وحدتهم وتمكينهم في الأرض.
أما مع حال الضعف والتفرق ـ كما هو حال الأمة اليوم ـ فلا يجب عليهم إلا النوع الأول من الجهاد: وهو جهاد الدفع ـ أي دفع المعتدين على بلاد المسلمين ومقدساتهم وأموالهم ـ ، كما يجب عليهم في هذه الحال أن يأخذوا بأسباب القوة والمنعة، والاعتصام ونبذ الفرقة؛ فلا يمكن أن تقوم لدولة الإسلام قائمة ما لم تكن لها قوةٌ تحميها وتناضل عنها.
إن شريعة الإسلام يجب أن تحكم أرجاء الأرض، حتى لا يُظلم في كنفها مسلم ولا كافر، ولا عجب! فالكتاب إنما نزل ليقوم الناس بالقسط "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط..."الآية سورة [الحديد:25]، بيد أن الإسلام إنما ضمن للكافر هذا بشرطه، وشرطُه: أن يحترمَ شعائرَ الإسلام وعقائدَه، وأن يخضعَ لنظامه وشريعتِه.
إن إرضاخ البلاد والأقاليم لحكم الإسلام يعني ـ في أول ما يعنيه ـ إقامةَ العدل "ليقوم الناس بالقسط" الذي لا قيام له إلا بتحكيم شريعة الله في أرضه، لا لإكراه الكفارِ على الدخول فيه، فلهم أن يبقوا على دينهم، وأن يمارسوا شعائرهم في بيوتهم، لكنْ يقابل هذا الحقَّ واجبٌ عليهم لا بد وأن يلتزموه، وهو: أن يخضعوا لحكم الإسلام في مخالطتهم للمجتمع، وفي شؤونه الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، وأن يحترموا نظمَه ويسالموه، فلا يقاوموا دعوته ولا يفتنوا أهله.
ولو كان الجهاد لإرغام الكفار على الدخول في الإسلام لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكف عنهم إذا اختاروا الجزية، وَلَمَا نهى عن قتل النساء والصبيان في الغزو، وحين رأى مرةً امرأة مقتولةً في إحدى غزواته قال: "ما كان لهذه أن تُقاتِل" أحمد (5959)، فأشار إلى علة القتل، وهي المقاتلَة.
ولو كان الجهاد لأجل إرغام المشركين على الدخول في الإسلام لَمَا نهى خلفاؤه الراشدون عن قتل الرهبان إذا اعتزلوا الناس، ولم يعينوا على القتال بتدبير أو رأيٍ.
ويدل لذلك دلالة ظاهرة حديث بريدة بن حصيب : "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم، وكُفّ عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم...فإن هم أبوا فسلهم الجزيةَ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم..."الحديث رواه مسلم (1731).
وهذا الحديث عام في كل مشرك، من العرب وغيرهم، وإنما لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من مشركي العرب لأن آية الجزية إنما نزلت في السنة التاسعة حين لم يبق في الحجاز عربي مشرك محارب.(1/366)
والجزية التي تؤخذ من الكافر الذمي ليست ضريبةَ رفضه الدخول في الإسلام، وإنما هي مقابل حقن دمه وحماية المسلمين له مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم؛ ولذا كتب خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ لصلوبا بن نسطونا حينما دخل الفرات وأوغل فيها : "إني قد عاهدتكم على الجزية والمنعة، فلك الذمة والمنعة. وما منعناكم (أي حميناكم) فلنا الجزية، وإلا فلا".
وهذا أبو عبيدة رضي الله عنه لما أحس العجزَ عن حماية بعض أهل الذمة في بلادهم كتب إلى ولاته في تلك البلاد يأمرهم أن يردوا عليهم ما جُبي منهم من الجزية، وكتب إليهم أن يقولوا لهم: "إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا إليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط" أخرجه القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج.
إن الغاية العظمى من تشريع الجهاد هي أن تكون كلمة الله هي العليا، كما جاء في الحديث الصحيح أنه لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله" متّفقٌ عليه البخاري (123)، ومسلم (1904).
وهذه الغاية العظمى (أن تكون كلمة الله هي العليا) تحققها غايات الجهاد وبواعثه التي تقدم ذكرها آنفاً، وهي:
1- حماية الدعوة وضمان تبليغها للناس.
2- سحق الطواغيت وتحطيم النظم الباغية ودفعِ كل مَنْ يقف في طريق الدعوة ويمنع بلوغها إلى الناس.
3- إقامة نظام الإسلام في الأرض ليحتكم الناس إلى شريعته...
وكلٌ من هذه الغايات الثلاث تعمل في إعلاء كلمة الله.
على أن تشريع الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ليس مقتضاه أن يُسلم كلُّ من دعي إليه، بل مقتضاه أن يكون نظامُ الإسلام هو المهيمنَ والحاكمَ على حياة الناس، أما هم فيما يعتقدون فلهم الحرية المطلقة أن يعتقدوا ما شاءوا، ودولة الإسلام تحميهم مما تحمي منه أبناءها مقابل دفع الجزية.
وبعد تقرير أن "لا إكراه في الدين" [البقرة:256]، وبيان بواعث الجهاد في سبيل الله وغاياته، لا بد من الإجابة عما يُظَنّ أنه معارض لهذه الحقيقة أو ناسخٌ لها من الأدلة الشرعية.
يذكرون من ذلك قوله تعالى: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد.."الآية سورة [التوبة:5].
فقد ظن بعضهم أنها ناسخةٌ لآية "لا إكراه في الدين"، إذ مقتضى عمومها أن كل من بلغته الدعوة من الكفار فإنه لا يقبل منه إلا الإسلام، وإلا مضى فيه السيف.
والجواب: أن هذه الآية وإن كانت من آخر ما نزل ـ حيث نزلت في السنة التاسعة من الهجرة ـ لكن تأخر نزولها لا يقضي بنسخ ما تقدمها من الآيات، ومنها قوله تعالى: "لا إكراه في الدين".
والآية وإن وردت بلفظ العموم؛ لكنها من العام المخصوص، إذ خصّصت عمومها آياتٌ وأحاديث أخرى ـ سيأتي ذكرها ـ، فبقي عمومها مخصوصاً بمشركي العرب الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهدهم ونكثوا أيمانهم. وخرج من هذا العموم مَن عداهم ممن لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا على المسلمين أحداً، وكذلك أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان من غير العرب.
ويدل لذلك ما يلي:
أولاً: أن الله قال في أول سورة [براءة:1:6] "براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر.."، فأمهل هؤلاء المشركين أربعة أشهر، وأمر بقتلهم إذا انسلختْ هذه الأشهر الأربعة ولم يتوبوا، ثم استنثى منهم "إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم" [التوبة:4].
فدل هذا على أن قوله تعالى: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.." [البقرة:5] الآية ليست على عمومها، وإنما هي من العام المخصوص، فهي مخصوصة بمشركي العرب المحاربين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين نكثوا أيمانهم...
ويُشعِر بهذا دليلان:
الأول: قوله تعالى ـ في صدر سورة التوبة، بعد آية السيف ببضع آيات ـ "ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرَّة.."الآية [التوبة:13].
قال ابن العربي في أحكام القرآن ( 2/456) : (وتبين أن المراد بالآية : اقتلوا المشركين الذين يحاربونكم) أهـ.
الثاني: قوله تعالى ـ بعد آية السيف بآية ـ : "كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم" الآية [التوبة:7].
والمقصود بهذه الآية: هم بعض بني بكر من كنانة ممن أقام على عهده، ولم يدخل في نقض ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية من العهد، حين نقضته قريش بمعونتها لحلفائها من بني الديل على حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم من خزاعة. (ينظر : تفسير الطبري 10/82).
ثانياً: قوله تعالى "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" [التوبة:29].
وهي آية الجزية، نزلت عام تبوك، حين لم يبق عربي مشرك محارب في الحجاز، ولم يكن صلى الله عليه وسلم ليغزو النصارى عام تبوك بجميع المسلمين ويدع الحجاز وفيه من يحاربه (ينظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 19/20).
وقد أثبتت الآية لأهل الكتاب حق البقاء على دينهم بشرط دفع الجزية، فهي مخصِّصة لعموم قوله تعالى: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم"..الآية [التوبة:5].(1/367)
ثالثاً: حديث بريدة بن حصيب "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم، وكُفّ عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم...فإن هم أبوا فسلهم الجزيةَ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم..."الحديث وقد تقدم قريباً (سبق تخريجه).
والحديث يدل على أن المشركين ـ سواء من عبدة الأوثان من العرب أو من غيرهم، كما يقتضيه عموم اللفظ ـ إذا أبوا الدخول في الإسلام واختاروا دفع الجزية فإنه يجب قبولها منهم والكف عنهم، ولا يجوز قتلهم، ولا إكراههم على الإسلام.
فعموم هذا الحديث يدل على أن المقصود بـ (المشركين) في ما يسمى بآية السيف "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.." هم المشركون الذين كانوا يحاربون النبي صلى الله عليه وسلم، وينقضون عهدهم.
أما حديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله ، وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله" فهو حديث صحيح ـ ولا شك ـ رواه البخاري (25) ومسلم (20)وغيرهما.
ولكن الحديث ليس على عمومه، وليس المقصود بـ(الناس) جميع الكفار، من المشركين وأهل الكتاب، بل هو من العام المخصوص.
وكيف يُعمل بعمومه؟ وقد قال الله: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ...حتى يُعطوا الجزية ..."الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم، وكُفّ عنهم..."الحديث (سبق تخريجه).
وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لمن قالوا بأن الجزية تؤخذ من كل كافر، لا من أهل الكتاب خاصة، جواباً لهم عن الاستدلال بعموم هذا الحديث، فقال (مجموع الفتاوى 19/20): (مراده قتال المحاربين الذين أذن الله في قتالهم، لم يرد قتال المعاهدين الذين أمر الله بوفاء عهدهم) أهـ.
وأجاب عنه ابن حجر بعدة أجوبة (فتح الباري 1/97)، فقال ـ مع بعض الاختصار ـ: (الجواب من أوجه, أحدها : دعوى النسخ بأن يكون الإذن بأخذ الجزية والمعاهدة متأخرا عن هذه الأحاديث , بدليل أنه متأخر عن قوله تعالى "فاقتلوا المشركين"، ... ثالثها : أن يكون من العام الذي أريد به الخاص , فيكون المراد بالناس في قوله " أقاتل الناس " أي : المشركين من غير أهل الكتاب , ويدل عليه رواية النسائي بلفظ " أمرت أن أقاتل المشركين " ... رابعها : أن يكون المراد بما ذكر من الشهادة وغيرها التعبيرَ عن إعلاء كلمة الله وإذعان المخالفين, فيحصل في بعضٍ بالقتل وفي بعضٍ بالجزية وفي بعضٍ بالمعاهدة...) أهـ.
وأما حديث: "أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب" أحمد (1691) والدارمي (2498) بلفظ "أخرجوا اليهود الحجاز من جزيرة العرب..." فلا يدل على أن الكافر يرغم على الدخول في الإسلام، بل غاية ما يدل عليه ألا يؤذن لكافرٍ أن يستوطن جزيرة العرب.
أما بقاؤه فيها من غير قصد للاستيطان؛ كأن يقيم فيها لأجل العمل، أو للتجارة، أو للخدمة، فليس في الحديث ما يدل على النهي عن شيء من ذلك.
وهذا الحكم خاص بجزيرة العرب، أما غيرها من بلاد الإسلام مما فتحه المسلمون فلا يُخرج أهلها منها إن بقوا على الكفر، بل لهم أن يستوطنوها على أن يدفعوا الجزية مقابل حماية المسلمين لهم.
على أن بعض أهل العلم يرى أن الحديث وإن ورد فيه الأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، إلا أن المراد بعض الجزيرة لا كلها، وهو الحجاز خاصةً، بدليل أن عمر رضي الله عنه أخرج يهود خيبر وفدك ولم يخرج أهل تيماء، وهي من جزيرة العرب، قال النووي في شرح مسلم (10/212- 213) عند شرح حديث إجلاء عمر لليهود من خيبر، وفيه: "فأجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء" قال: (وفي هذا دليل أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب إخراجهم من بعضها، وهو الحجاز خاصة ؛لأن تيماء من جزيرة العرب لكنها ليست من الحجاز والله أعلم) أهـ .
وقال في (11/93-94) : (وأخذ بهذا الحديث مالك ،والشافعي وغيرهما من العلماء ، فأوجبوا إخراج الكفار من جزيرة العرب ،وقالوا : لا يجوز تمكينهم من سكناها ،ولكن الشافعي خص هذا الحكم ببعض جزيرة العرب،وهو الحجاز ،وهو عنده : مكة ،والمدينة ،واليمامة وأعمالها دون اليمن وغيره مما هو من جزيرة العرب، بدليل آخر مشهور في كتبه وكتب أصحابه) اهـ .
وقال ابن قدامة في "المغني" 13/242-244 ـ بعد أن ذكر رواية عن الإمام أحمد في (جزيرة العرب المدينة وما والاها) ـ :
(يعني أن الممنوع من سكنى الكفار به: المدينةُ وما والاها ـ وهو مكة، واليمامة، وخيبر، والينبع، وفدك، ومخاليفها، وما والاها ـ وهذا قول الشافعي ... فكأن جزيرة العرب في تلك الأحاديث أريد بها الحجاز، وإنما سمي حجازاً لأنه حجز بين تهامة ونجد، ولا يمنعون أيضا من أطراف الحجاز كتيماء وفدك ونحوهما؛ لأن عمر لم يمنعهم من ذلك) أهـ .
وقال ابن حجر (الفتح 6/198 ) : (لكن الذي يمنع المشركون من سكناه منها الحجاز خاصة، وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها، لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم جزيرة العرب؛ لاتفاق الجميع على أن اليمن لا يمنعون منها ،مع أنها من جملة جزيرة العرب ،هذا مذهب الجمهور) أهـ .
والمقصود أن منع اليهود والنصارى من استيطان جزيرة العرب إنما هو من خصائص الجزيرة، انفردت به دون سائر ديار الإسلام.
إن الإسلام بأدلته الصريحة يعلن بطلان الديانات الأخرى كلها؛ لأنها إما محرَّفة؛ كاليهودية والنصرانية، وإما وثنية شركية كالمجوسية والهندوسية ووو...إلخ.(1/368)
غير أنه ـ مع ذلك ـ أوجب علينا العدل معهم، ورغَّبنا في البر إليهم ترغيباً لهم في الإسلام ما لم يقاتلونا، ولم يخرجونا من ديارنا، كما قال تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" سورة [الممتحنة:8]
وأمر المسلمَ بمصاحبة والديه في الدنيا معروفاً ولو كانا مشركَين، اعترافاً بجميلهما، ومكافأة لمعروفهما.
وأمر بألا نُجادل أهل الكتاب ( اليهود والنصارى) إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، فقال تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم.." سورة [العنكبوت:46]
وأمرنا بإيفاء العقود والعهود معهم، وأن نستقيم لهم ما استقاموا لنا، وأعظمَ النبي صلى الله عليه وسلم قتل المعاهد منهم فقال: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة.."أخرجه البخاري (3166].
لقد أبطل الإسلام اليهودية والنصرانية؛ لأنها قد حُرِّفتْ ودخلها الشرك وافتراء الكذب على الله إلى غير ذلك من عظائم الأمور ـ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ـ.
ومع ذلك فقد أثنى على أتباعها الأولين الذين صدقوا أنبياءهم وناصروهم، ولم يقتلوهم، ولم يحرفوا الكلم عن مواضعه، ووعدهم ما وعد المسلمين ـ أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ـ فأعد لهم جنات ومغفرةً وأجراً عظيماً.
ولا يصح إسلام أحد من ملة محمد صلى الله عليه وسلم حتى يؤمن بالأنبياء والرسل كلهم ويصدِّق بكتبهم (غير المحرفة)، فقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل، ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً" سورة [النساء: 146]
كما أثنى القرآن كثيراً على موسى وعيسى عليهما السلام، وبرأ مريم الصديقة مما رماها به المفترون من اليهود.
ومما استفاض في القرآن والسنة: أن دعوة الرسل واحدة وإن اختلفت شرائعهم التفصيلية، ودعوتهم هي توحيد الله سبحانه: "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" سورة [الأنبياء:26].
وقال صلى الله عليه وسلم : "الأنبياء إخوة من علاّت، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد" رواه مسلم(4362) .
وأولاد العلات: هم الإخوة من الأب من أمهاتٍ شتى، فالأب رمز للتوحيد، والأمهات رمز للشرائع (الفروع).
فالدعوة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم لم تخرج عن أصل دعوة الأنبياء والمرسلين قبله، وهي: توحيد الله سبحانه، وإخلاص العبادة له وحده. ولا يضير في هذا أن تختلف شرائعهم؛ كتفاصيل العبادات من صلاة وصيام وحج، وأحكام الأطعمة والذبائح وسائر المعاملات، ونحو ذلك.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
=============
رجل الرحمة والمحبة والسلام (1/3)
د. بدران بن الحسن 22/3/1426
01/05/2005
بين يدي خير الأنام
سينصب كلامنا في هذا المقال على موضوع شخصية النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- باعتباره القدوة الحسنة المرتضاة من الله تعالى لكافة البشر، هذه الشخصية التي يُراد لها في وسائل الاعلام خاصة أن تبقى باهتة، في حين يُطبّل لأناس لا يتوفر فيهم معشار جزء من خلقه وأخلاقه صلى الله عليه وسلم.
وخاصة منذ أحداث 11/9 وما تلاها من هجوم على الإسلام والمسلمين، واتهامهم بل واتهام النبي - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - بأنه رجل حرب ونهب وسلب، وأنه كان غليظ القلب، وأن الاسلام دين العنف والرهبة والقتال، وصار رموز الكنيسة وغيرهم من رموز الأديان الأخرى يُنعتون بأنهم رجال المحبة والرحمة والسلام، وتناسى الناس في زحمة الكذب الاعلامي والتزوير في الحقائق التاريخية والدينية والثقافية شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الشخصية التي نالت القدر الأوفى من كل الشمائل والخلال النبيلة، والقيم الإنسانية العليا.
لقد كان ميلاد محمد -صلى الله عليه وسلم- إيذاناً ببدء ثورة شاملة، حررت الإنسان والزمان والمكان، ورفعت عنها إصر عبوديات وأغلال كثيرة كانت تعيق انطلاقها جميعاً، فأخذ الإنسان حريته بيده، وصاغ هوية زمانه ومكانه صياغة جديدة، فجرت عناصر الخير في كل شيء، كان احتجاجاً قبلياً على كل عناصر الخير، فوقف الإنسان على ربوة التاريخ يسدّد خطواته نحو الأشرف والأفضل، ووقف المكان ليُلهم ويحتضن وينبت الأروع والأنصع، ووقف الزمان ليفسح ويتيح للأكمل والأشمل!
ولد الهدى فالكائنات ضياء
وفم الزمان تبسّم وثناء
ولقد شكلت شخصية محمد -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- الرجل الذي اكتملت فيه كل الأخلاق الحميدة، وانتفت منه كل الأخلاق الذميمة، ولذلك خاطبنا الله بقول: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة). والمطّلع على سيرة النبي محمد -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- يدرك أنها كانت حقيقة تاريخية لا تجد الإنسانية غيره قدوة حسنة تقتدي بها، وهي تتلمس طريقها نحو عالم أكمل وأمثل، وحياة فُضلى، ومن الطبيعي ألا تجد الإنسانية مثلها الأعلى في شخصيات وهمية، وإلا فهي تضلّ طريقها المستقيم وتسير مقتدية بالخيال والأوهام، فمن حقنا إذاً أن نتخذ من سيرة النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- نموذجاً لسلوكنا في حياتنا.
وحياة محمد -صلى الله عليه وسلم- تكشف أمامنا المثلى الأعلى في جميع أحوال الحياة؛ في السلم والحرب، في الحياة الزوجية، مع الأهل والأصحاب، في الإدارة والرئاسة والحكم والسياسة، في البلاغ والبيان، بل في كل أوجه الحياة. فمحمد -صلى الله عليه وسلم- هو المثل الكامل.(1/369)
ولن تجد الإنسانية في غيره مثلاً حياً لها؛ فسيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- حقيقة تاريخية، يصدّقها التاريخ الصحيح ولا يتنكر لها، وهي سيرة جامعة محيطة بجميع أطوار الحياة وأحوالها وشؤونها، وهي سيرة متسلسلة لا تنقص شيئاً من حلقات الحياة، وهي أيضاً سيرة عملية قابلة للتطبيق، ذلك أن ما كان يدعو إليه محمد -صلى الله عليه وسلم- في القرآن والحديث كان يحققه بسيرته أولاً، وهذا ما شهد به معاصروه، فقالت عائشة -رضي الله عنها- وقد سئلت عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم: «كان خلقه القرآن»(1).
وفي مقالنا هذا، نحاول أن نتكلم عن خلال ثلاث هي الرحمة والمحبة والسلام، وتخصيصنا لهذه الخلال الثلاث بالحديث يأتي من محاولة كثير من الجهات ادّعاءها بهتاناً وزوراً، وقد كثر الحديث منذ أحداث 11/9 عنها ونسبتها إلى أي دين آخر ما عدا الإسلام، وكذلك نسبتها إلى أي شخصية أخرى ماعدا سيد الخلق وقدوة الرجال وحبيب الله ورحمة العالمين وأساس سلم العالم محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
محمد الرحمة المهداة
إن رحمة النبي -صلى الله عليه و سلم- بُعد مهم في شخصيته، وفي دعوته، ومن صميم شخصيته رسولاً ونبياً ومبلغاً عن ربه وهادياً للناس. وحينما نقرأ قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ونقف أمام الآية ندرك سعة رحمة هذا النبي الكريم، وكيف كان صلى الله عليه وسلم يفيض رحمة في خلقه وسلوكه وأدبه وشمائله. وإنه لتناسب وتآلف في أرقى مستوياته بين الرسالة والرسول في هذه الرحمة، حتى لا يُتصور أن يحمل عبء بلاغ هذه الرحمة إلى العالمين إلا رسول رحيم ذو رحمة عامة شاملة فياضة طبع عليها ذوقه ووجدانه، وصيغ بها قلبه وفطرته..(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) [التوبة: 128]. فهو مثل أعلى للرحمة الإلهية لذلك وصفه الله تعالى بأنه رؤوف رحيم.
لقد أرسله الله تعالى رحمة للعالمين.. رحمة شاملة للوجود بأجمعه. يستطيع المؤمنون الاستفادة من الرحمة التي كان يمثلها النبي -صلى الله عليه و سلم- ذلك لأنه (بالمؤمنين روؤف رحيم) ويستطيع الكافرون والمنافقون أيضاً -إلى جانب المؤمنين - الاستفادة من هذه الرحمة كذلك. فعندما قيل له: ادع على المشركين قال صلى الله عليه وسلم: "إني لم أُبعث لعانًا، وإنما بُعثت رحمة"(2).
كما أن رحمته شملت أسرته وأمته وأصحابه، فقد كان صلى الله عليه وسلم خير الناس وخيرهم لأهله وخيرهم لأمته، من طيب كلامه، وحُسن معاشرة زوجاته بالإكرام والاحترام، حيث قال عليه الصلاة والسلام: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" (3). كما أنه في تعامله مع أهله وزوجه كان يُحسن إليهم، ويرأف بهم ويتلطّف إليهم ويتودّد إليهم، فكان يمازح أهله ويلاطفهم ويداعبهم. كما كان يعين أهله ويساعدهم في أمورهم ويكون في حاجتهم، وكانت عائشة تغتسل معه صلى الله عليه وسلم من إناءٍ واحد، فيقول لها: (دعي لي)، وتقول له: دع لي (4).
وكان صلى الله عليه وسلم رحيماً بالجميع، بل إنه يسمع بكاء الصبي فيسرع في الصلاة مخافة أن تفتتن أمه. و كان صلى الله عليه وسلم يمر بالصبيان فيسلم عليهم (5). وجاء الحسن والحسين، وهما ابنا ابنته وهو يخطب الناس فجعلا يمشيان ويعثران فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر، فحملهما حتى ووضعهما بين يديه، ثم قال صدق الله ورسوله(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [لأنفال:28] نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما.
فرحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- جعلته لطيفاً رحيماً، فلم يكن فاحشاً ولا متفحّشاً، ولا صخّاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح. بل إن سيدنا أنس -رضي الله عنه- يقول: "خدمت النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، والله ما قال أفّ قط، ولا قال لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا" (6) ، وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادماً له، ولا امرأة ولا ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله"(7). وفي رواية "ما ضرب رسول الله شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله" .
ولذلك قال فيه القرآن الكريم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشاورهم في الأمر) [آل عمران:159] ، فقد كان منهجه الرحمة بالعباد والتخفيف من الإصر والغلال التي عليهم، وهو في هذا يقول صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)(8) .
وتتجلّى رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالمذنبين، وبمن لا يعرفون كيف تقضى الأمور فيعفو ويصفح ويعلم، عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مَه مَه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (لا تزرموه، دعوه) ، فتركوه حتى بال ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن" قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه عليه"(9).(1/370)
كانت رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل غضبه، بل إنه في الحرب كان يقاتل بشجاعة، ولكنه أيضاً كان صاحب شفقة عظيمة، كان سياسياً، ولكنه في الوقت نفسه صاحب مروءة كبيرة وقلب كبير. ففي غزوة أحد استشهد عمه حمزة أسد الله ورسوله رضي الله عنه، ومُزّق جسده تمزيقاً. كما مُزّق جسد ابن عمته عبد الله بن جحش تمزيقاً(10). وشُجّ رأسه المبارك صلى اله عليه وسلم، وكُسِرت رباعيّته، وغطّى الدم جسده الشريف(11).
وبينما كان المشركون جادّين في حملتهم لقتله كان أكثر رحمة بهم، وكان يدعو: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"(12). فهل يوجد أرحم من محمد في مثل هذه اللحظات.
وفي فتح مكة كيف تعامل مع من أخرجوه وظاهروا على إخراجه وإيذائه؟ وكيف تعامل مع من حاصروه في شعب أبي طالب وتسببوا في وفاة أحب زوجاته إليه خديجة الكبرى رضي الله عنها، وفي وفاة عمه أبي طالب؟ فكيف كانت معاملته لأهل مكة بعد كل هذا التاريخ المملوء عداوة وبغضاً؟
لقد دخل مكة بعشرة آلاف مقاتل، دخل على مركبه، والدرع على صدره، والمغفر على رأسه، والسيف في يده، والنبال على ظهره، ولكنه مع كل مظاهر لباس الحرب هذه كان أنموذجاً للرحمة.
سأل أهل مكة: «ما ترون أني فاعل بكم؟» فأجابوه: "خيراً أخٌ كريمٌ وابن أخ كريم" فقال لهم ما قاله يوسف عليه السلام لإخوته: (لا تثريبَ عليكم اليوم يَغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) (يوسف: 92) لقد قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطُلَقاء"(13).
هذا هو محمد النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذه رحمته التي شملت كل الناس، واستمرت دستوراً هادياً إلى أن تقوم الساعة، وليست تلك الرحمة الكاذبة التي تأتي ردود أفعال من أناس يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، كما أنها ليس تلك الرحمة ذات الوجهين التي تُطبّق على البعض، ويُحرم منها البعض، كما نراه في كثير من الشخصيات والنظم والقوانين الدولية والمحلية، التي تحاكم آخرين وتستثني آخرين. أو تلك المؤسسات والشخصيات التي ترأف وترحم الحيوان، ولكنها تشرّع لظلم الإنسان لأخيه الانسان.
|1|2|
1- مجلة «حضارة الإسلام» المجلد الأول، العدد السابع، السنة الأولى، 1960-1961، ص 63-69،
2- رواه الترمذي
3- رواه مسلم.
4- رواه الشيخان
5- رواه السيخان
6- رواه مالك والشيخان
7- رواه الترمذي
8- رواه مسلم
9- رواه البخاري، المغازي
10- اب هشام، السيرة النبوية، 3/103
11- رواه البخاري، المغازي: ومسلم، الجهاد
12- رواه البخاري، الانبياء؛ مسلم، الجهاد
13- ابن هشام، السيرة النبوية، 4/55؛ ابن كثير، البداية والنهاية، 4/344.7- رواه الترمذي
================
رجل الرحمة والمحبة والسلام (2/3)
د. بدران بن الحسن 21/4/1426
29/05/2005
أم لم يعرفوا رسولهم؟
يقول الله تعالى في محكم تنزيله: (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون) [المؤمنون: 69]، هذه الآية تشكل في الحقيقة مسوغًا هاماً لنا في تناول شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك أن معرفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سيرته وفي سنته وفي شمائله من أهم الأمور التربوية التي تساعدنا على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم. فإنه لا توجد سيرة أخرى أجدى بأن تُقتدى ويُحتفل بها مثل سيرته صلى الله عليه وسلم. وفي تاريخ البشرية كلها لا نجد حياةً نُقلت إلينا تفاصيلها، وحُفظت لنا وقائعها في وضوح كامل، وتفصيل عميم شامل كما حُفظت، وكما نُقلت إلينا حياة محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- رسول الله ورحمته المهداة إلى الناس أجمعين، فكل كلمة قالها، وكل خطوة خطاها، وكل بسمة تألّقت على محيّاه، وكل دمعة تحدرت من مآقيه، وكل مسعًى سار لتحقيقه، وكل مشاهد حياته حتى ما كان منها من خاصة أمره، وأسرار بيته، وأهله، نُقل إلينا موثّقاً بأصدق ما عرف التاريخ الإنساني من توثيق وتدوين.
ولا عجب في هذا، فمادام الله قد اختاره ليختم به النبوة والأنبياء، فمن الطبيعي أن تكون حياته منهجاً جليلاً لأجيال لا منتهى لأعدادها، وأن تكون هذه الحياة بكل تفاصيلها أشد وضوحاً، وتألقاً من فلق الصبح ورابعة النهار، لا بالنسبة إلى عصره فحسب، بل بالنسبة إلى كل العصور والأجيال.
إن حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وشمائله، وجوانب شخصيته، ونتائج دعوته درس لكل سالك إلى طريق الله، وكل قائد أو مربٍّ أو رب أسرة أو سالك أي سبيل من سبل الخير إلى أن ينقطع الزمان.
وفي الحلقة السابقة تناولنا صفة الرحمة في شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي هذه الحلقة ننتقل إلى صفة أخرى لا تقلّ تميّزاً عن الأولى، ولكن تسلك بنا طريقاً آخر لإدراك أحد أهم أبعاد شخصيته صلى الله عليه وسلم، وهو المحبة. فكيف كان النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل محبة؟ وما هي الجوانب التي شملها هذا الخلق العظيم؟ وما موقفنا نحن تجاه محبته؟
منهجه يدعو إلى مجتمع المحبة:
إنها لصورة قاتمة باهتة مخيفة تلك التي رسمها البعض للإسلام في أذهان الناس حتى صار الناس يخافون من الدين ومن التدين؛ لأنهم يظنونه شيئاً قاسياً لا يرحم، وأتباعه غلاظ لا يلينون، وأحكامه سيف قاطع على الرؤوس.
وقد استثمر المستشرقون الموقف، واتهموا النبي -صلى الله عليه وسلم- والإسلام بالحقد والكراهية، وكل أوصاف التجهم والتعصب والعنف، حتى لكأنها صارت حقيقة، وأُسقط في أيدينا، وظن بعضنا أن هذا الزيف حقيقة.
ولكن الحقيقة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نور يُستضاء به في ظلام الجاهلية، ومحبة خالصة تؤلف بين القلوب، وأن الإسلام شمس مضيئة أنارت ظلام الجاهلية، وهو دين الحب والأمل و الحياة واليسر، و شرائعه هي شرائع الحق والعدل، وأحكامه هي أحكام الحياة.(1/371)
وللقيمة الرفيعة لخلق الحب والمحبة في الحياة، وأهميته في تحقيق السعادة للفرد والأسرة والمجتمع والأمة والإنسانية، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- سعى لتحقيقه بوسائل متعددة، وربّى أصحابه وأمته على هذه النفسية الراقية، وحث على إشاعته بين الناس، ببناء كل العلاقات على أساس من الحب؛ حبّ الله، وحب الخير، وحب الصلاح والصالحين، وحب الإنسانية.
وبعبارة أخرى فإن نهجه صلى الله عليه وسلم، وحياته كلها دعوة للتحابب. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه مسلم في كتاب الإيمان : " لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا . أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم" .
وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أيضاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : الإمام العادل . وشاب نشأ بعبادة الله . ورجل قلبه معلّق في المساجد . ورجلان تحابّا في الله: اجتمعا عليه وتفرّقا عليه . ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال : إني أخاف الله . ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله . ورجل ذكر الله خالياً، ففاضت عيناه ". فمن الناس الذين يصلون إلى تلك المرتبة العالية يوم القيامة (ورجلان تحابا في الله ) فاجتمعا على حب الله وافترقا على حبه . بمعنى أن سبب اجتماعهما حب الله، واستمرا على ذلك حتى قضى الله أمراً كان مفعولاً فتفرّقا بموت أو سفر أو غيره، وهما صادقان في حبّ كل واحد منهما صاحبه لله تعالى، حال اجتماعهما وافتراقهما .
ليس هذا فحسب، بل إن شرائع الإسلام وأحكامه كلها دعوة للمحبة، فالزكاة مثلاً التي هي قرينة الصلاة وجوباً وأهمية، فإن المستفيد منها وهو الفقير يشعر بأنه ليس وحده في المجتمع، وإنما هو فرد في جماعة لا تنساه وتكفله، ومن هنا تتلاشى الأحقاد وتنبت المحبة والألفة، وهكذا تكون الجماعة كالجسد الواحد، الغني يدفع من مال الله الذي عنده فيجد البركة والنماء، والفقير يتناول رزق ربه فيسدّ حاجته، والمجتمع ينقى ويطهر من الأمراض الخبيثة.
ولهذا فإن حب الخير للناس مما يقوم عليه ويتقوى به إيمان المؤمن، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن رجلاً لم يعمل خيراً قط، وكان يداين الناس، فكان إذا أرسل غلامه للتقاضي يقول له: خذ ما تيسر، واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا، فلما هلك سأله الله تعالى: هل عملت خيراً قط؟! قال: لا إلا أنني كنت أداين الناس فكنت أقول لغلامي: خذ ما تيسر واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا، فقال الله له: قد تجاوزت عنك".
فهذه العلاقة بين المؤمن والمؤمن يحرص عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنها تهب الجماعة المسلمة قوتها وصلابتها؛ فلا تهون ولا تتفتت ولا تعبث بها الفتن، فيقول صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"، ويقول صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، فإن كل مؤمن هو لبنة في بناء المجتمع، يدخل الإيمان بينه وبين غيره كالمونة اللاصقة الجاذبة الموضوعة بين لبنات البناء، فيشتد البناء ويقوى وترتفع هامته، ثم إن من فيض الإيمان تنبعث الرحمة الهادية، التي ترجو ما عند الله، وإنه لحق، حيث يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولايسلمه ولا يخذله، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة". ذلك هو الحب الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- لبناء المجتمع عليه.
النبيّ الإنسان المحبّ:
وإذا التفتنا إلى حياته الخاصة صلى الله عليه وسلم في بيته ومع أولاده وأهل خاصته وجدناه المثل الأعلى في الحب والود والشفقة. فكان صلى الله عليه وسلم يحب الأطفال، ويقبّل أولاده، ويعطف عليهم، ويأمر بالمساواة في المحبة بينهم، كما كان يحب أهله وزوجاته، وهو القائل: "حبب إليّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة".
لقد كان صلى الله عليه وسلم يحترم ويود ويحب زوجاته، ويقدر مشاعرهن بطريقة لا يرقى إليها أي من المحبين الذين ادّعوا أو أحبّوا أهليهم وأولادهم.
لقد كان قدوة، بل خير قدوة صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعيش بين أزواجه رجلاً ذا قلب وعاطفة ووجدان، حياته مليئة بالحب، والحنان، والمودة، والرحمة.
ومما يذكر أنه كان مع عائشة -رضي الله عنها- التي يحبها كثيراً، يراها تشرب من الكأس فيحرص كل الحرص على أن يشرب من الجهة التي شربت منها، وهي صورة يندر أن يقوم به مدّعو الحب بيننا، إنه حب النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- للصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما.
ومِن تودّده لها وزيادة في حبها أنه كان يسابقها في وقت الحرب، يطلب من الجيش التقدم لينفرد بأم المؤمنين عائشة ليسابقها ويعيش معها ذلك الحب الزوجي الراقي.
وفي المرض، حين تقترب ساعة اللقاء بربه وروحه تطلع إلى لقاء الرفيق الأعلى، لا يجد نفسه إلا طالباً من زوجاته أن يمكث ساعة احتضاره صلى الله عليه وسلم إلا في بيت عائشة، ليموت ورأسه على صدرها، ذاك حبّ أسمى وأعظم من أن تصفه الكلمات أو تجيش به المشاعر.(1/372)
إنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرسم لنا طريقاً للحب فريداً من نوعه أوسع مما حصرته فيها مفاهيمنا المادية العلمانية التي تضيّق علينا واسعاً وتحرمنا من مشاعرنا. ولذلك فهو في حبه هذا لعائشة -رضي الله عنها- لا يجعله هذا الحب أن ينسى أو يتناسى حبه العظيم الخالد لخديجة الكبرى التي كانت أحب أزواجه إليه، والتي قدمت له في ساعة العسرة ما لم يقدمه أحد آخر.
وفي لحظة شعور امراة تسأله السيدة عائشة -رضي الله عنها- وتقول: ما لك تذكر عجوزاً أبدلك الله خيراً منها (تعني نفسها)؟! فيقول لها: لا والله، ما أبدلني زوجاً خيراً منها، ويغضب لذلك، ويبين لها أن حب خديجة لم يفارق قلبه أبداً، ذلك هو الحب الوفي الذي يريد أن يعلمنا إياه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنه يعلمنا أنه يحب عائشة، ولكن يحب أيضاً خديجة -رضي الله عنها- كما يحب زوجاته الأخريات رضي الله عنهن.
ومما تذكره كتب السيرة أنه صلى الله عليه وسلم حج بنسائه، فلما كان في بعض الطريق نزل رجل فساق بهن فأسرع، فقال النبي كذلك، سوقك بالقوارير -يعني النساء- فبينما هم يسيرون برك لصفية بنت حيي جملها، وكانت من أحسنهن ظهراً، فبكت وجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أخبر بذلك، فجعل يمسح دموعها بيده، وجعلت تزداد بكاء وهو ينهاها.
إنه لموقف جميل من الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- مع زوجته حين مسح دمعتها بيده، ثم أمر الناس بالوقوف والنزول، علماً بأنه لم يكن يريد أن ينزل. لم يحقر النبي -صلى الله عليه وسلم- مشاعر صفية وعواطفها، بل احترمها وأنزل القافلة كلها من أجلها. فكم منا من رجل مسح دموع زوجته وطيب خاطرها!
إنه محمد النبي الحبيب -صلى الله عليه وسلم- مسح الدمعة بيده، ومرّر يده الكريمة على خد زوجته في قمة من مشاعر الحب والاحترام والعناية والتقدير لعواطف المرأة ومشاعرها. والذين يتفاخرون اليوم من الغربيين ومن العلمانيين باحترام المرأة لم يبلغوا ولن يبلغوا ما قام به محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم بن محمد:
لقد ابتلي النبي -صلى الله عليه وسلم- بما لم يبتل به أحد، ولكنه كان المثل الأعلى في الاحتساب والصبر، وحين مات ابنه إبراهيم عليه السلام، اهتزت مشاعر الأبوة والحب، فيبكي ويحزن "إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع، وإنا يا إبراهيم على فراقك لمحزنون". يعلمنا عليه الصلاة والسلام كيف يكون الحب، وكيف يكون الحزن على فراق الحبيب، ولكن كل ذلك في حدود ما يرضي الله تعالى. إنهما حب وحزن نابعان من أب نبي بشر تتجلى فيه أعلى معاني الحب والرحمة والشفقة على فراق الأحبة، ولكنه حب لا ينسيه أنه مبلّغ عن الله، وأنّ أمانة الرسالة أعظم الأمانات. ولذلك حينما كسفت الشمس وظن بعض الناس أنها لموت إبراهيم، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تنكسفان لموت أحد أو حياته".
ويمتد حبه لأمته صلى الله عليه وسلم التي كان يبكي من أجلها في هدأة الليل، فقد كان يقف في سكون الليل وظلمته الحالكة ليصلي صلاة التائب على الرغم من أنه غُفر له ما تقدم وما تأخر من ذنبه، وكان في ذلك الليل يتذكر أمته ويسكب عليها الدموع، ويسأل الله: "أمتي، أمتي".
حاجة البشرية والحضارة للحبّ:
إن البشرية اليوم والحضارة الإنسانية التي يهيمن عليها النوذج الحضاري الغربي، وتهيمن عليها الأذواق الغربية والمفاهيم الغربية في كل شيء حتى في مفهوم الحب- قد فقدت الحياة فيها كرامتها وقداستها حينما حولت كل المعاني والقيم والعلاقات إلى أشكال وماديات ومظاهر.
ولفقدان الحب صار يُحتفل به مثل ما يُحتفل بأي شيء آخر، وخصصوا له يوماً، وكأن بقية الأيام ليست للحب، وفيه يتذكر العشاق بعضهم بعضاً من خلال تبادل الهدايا والبطاقات، أو أي شيء مادي، وصارت تنفق أموال طائلة في مناسبة عيد الحب، بل إن من الناس من يفلس بهذه المناسبة.
وارتبط الحب في المفاهيم الغربية المهيمنة بالجنس والعري وتبادل الغراميات المحرمة، أو تلك التعبيرات المزيفة الجافة الفارغة من أي معنى.
ولكن الحب الحقيقي الذي جاء محمد -صلى الله عليه وسلم- لتعليمنا إياه هو ذلك الحب المرتبط بالله تعالى وبنهجه في الحياة، وبما ارتضاه من علاقات ومعانٍ وقيم وتعبيرات عن المشاعر.
ونختم بهاتين الآيتين المعبرتين عن عمق الحب وأهمية ارتباطه بالله تعالى. يقول الله تعالى:(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة...)[الروم:21] ويقول عز وجل: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) [آل عمران: 31].
==============
رجل الرحمة والمحبة والسلام (3/3)
د. بدران بن الحسن 6/5/1426
13/06/2005
مقدمة:
في الحلقتين السابقتين تناولنا خلقي الرحمة والمحبة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورأينا كيف أنهما تتكاملان بينهما، وأنهما بلغتا درجة الكمال في شخصه صلى الله عليه وسلم، واتصفت بهما تصرفاته وأقواله كلها، وشملت كل جوانب الحياة، ومختلف مستويات الخطاب والممارسة، وشتى أصناف الناس.(1/373)
وفي هذه الحلقة الأخيرة من حديثنا عن (رجل الرحمة والمحبة والسلام) نفرد الحديث عن السلم والسلام في شخصه -صلى الله عليه وسلم- وفي سيرته ودعوته والدين الذي جاء به، ليدرك القارئ الكريم أن السلم والسلام - بلغة العصر- كان مشروعاً إستراتيجياً للنبي -صلى الله عليه وسلم- شاملاً للأشخاص والأزمان والأمكنة، ولم يكن إجراءات مرحلية، او تخطيطاً وقتياً لتفادي مشكلات معينة، بل لكي يدخل الناس (في السلم كافة) [البقرة: 208] ويعمّ السلام بأن (يكون الدين لله) الذي هو دين الإسلام والسلم، ذلك أن (الدين عند الله الإسلام)، ورب العباد يدعو إلى السلام، قال تعالى: (والله يدعوا إلى دار السلام) [يونس: 25].
السلم مبدأ ومسلك وغاية:
إنّ الإسلام دين السلم وشعاره السلام، فبعد أن كان عرب الجاهلية يشعلون الحروب لعقود من الزمن من أجل ناقة أو نيل ثأر ويهدرون في ذلك الدماء، جاء الإسلام وأخذ يدعوهم إلى السلم والوئام، ونبذ الحروب والشحناء التي لا تولّد سوى الدمار والفساد.
ولذلك فإن القرآن جعل غايته أن يدخل الناس في السلم جميعاً، فنادى المؤمنين بأن يتخذوه غاية عامة، قال الله -عز وجل- مخاطباً أهل الإيمان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) [البقرة: 208]، بل إن من صفات المؤمنين أنهم يردون على جهالات الآخرين بالسلم، فيكون السلم هنا مسلكاً لردّ عدوان الجاهلين، قال تعالى: (...وإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَما). ذلك أن مسلك السلم لا يستوي ومسلك العنف، ومسلك العفو لا يستوي ومسلك الانتقام، ومسلك اللين لا يستوي ومسلك الشدة والغلظة، ولذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو ويوصي دائماً أصحابه بالدفع بالتي هي أحسن، والإحسان إلى المسيئين، مصداقاً لما قال تعالى موصياً سيد الخلق أجمعين -صلى الله عليه وسلم-: (...وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) كما أنهم دعوا إلى الجنوح للسلم فقال تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) وشجع القرآن المسلمين على التزام السلم - وهذا وقت الحرب- وطالبهم بتلمّس السلم إن وجدوا رداً إيجابياً من الطرف الآخر، فقال تعالى: (فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا).
لا إكراه في الدين: سلم دون تلفيق
الإسلام رسالته واضحة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان واضحاً وسيبقى دينه واضحاً للعالمين، بأن هناك فرقاً بين احترام حرية الاخرين في اختيار ما يعتقدون، وبين التلفيق بين الأديان، أو قبول أديان الضلالة.
فالإسلام متناسق وواضح ومنسجم مع منطقه الداخلي ومع الحقيقة الموضوعية، ولذلك فإنه لا يقبل التلفيق بين الإديان، فالإسلام هو الحقيقة المطلقة، ولا يقبل بحال من الأحوال قبول العقائد الأخرى في منطق الإسلام، كما أن التأكيد على التمايز بين الحق والضلال واضح في منهجه -صلى الله عليه وسلم- وذلك في سورة الكافرون حيث يقول تعالى:(قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عباد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين)، ولكن في الوقت نفسه لا يصح بحال من الأحوال إجبار وإكراه الآخرين على قبوله، ولذلك بيّن القرآن الكريم أن (لا إكراه في الدين) لأنه (تبين الرشد من الغي).
بل إن القرآن نفسه به آيات كثيرة تدعو إلى احترام عقائد الآخرين حتّى ولو كانت فاسدة وغير صحيحة، وذلك لسماحة الإسلام حتى في مقابل أصحاب العقائد الضالّة التي لا قداسة لها في نظر الإسلام. فأمرنا الله تعالى بعدم إيذاء الكافرين وإثارتهم وإهانة دينهم أو أديانهم عبر سبّ آلهتهم فقال سبحانه: (وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْم)، بل دعانا إلى اتخاذ مسلك آخر أكثر إيجابية ومبدئية، وهو منهج الإحسان والدعوة بالحسنى بدل السبّ والشتم والشحناء؛ لأنه مناقض لمنهج الاسلام وغايته في تحقيق السلم، فقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُواعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُواعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين).
صفح من أجل السلم
من أجل تحقيق رسالته في السلم فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا مسلكاً مهماً آخر لتحقيق السلم، وذلك من خلال حثّنا على الصّفح وغضّ النظر عن إساءة الآخرين. ووضع القرآن الكريم لذلك آيات بينات تُعدّ دستورا خالداً يختلف عن تلك المقولات الجوفاء التي تترنم بها بعض الأديان، يقول تعالى: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). [التغابن: 14]، وقال سبحانه: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ). [النور: 22]، وقال تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الُْمحْسِنِينَ) [المائدة: 13]، وقال عزوجل: (وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتية فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر: 85]، وقال سبحانه: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الزخرف:89] ، وقال تعالى: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِه) [البقرة: 109]. هذا بالإضافة إلى الآيات التي تدل على الغفران والغضّ عن السيئة والمحبة والإحسان وما أشبه.(1/374)
ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- نموذجاً وقدوة في الصفح والعفو من أجل السلم مبدأ وغاية، لقد كانت المرحلة المكية من الدعوة النبوية فترة عصيبة أُوذي فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- في شخصه الكريم، وفي أهل بيته وفي صحابته، ولكنه لم يكن يرد الإيذاء، بل كان يردّ رداً جميلاً، فحين كان أبو لهب يرميه بالحجارة، وأم جميل تلقي في طريقه الأشواك، وبعض الكفار يلقي سَلَى الشاة على رأسه وهو قائم يصلي عند الكعبة، وبعضهم يبصق في وجهه الطاهر الشريف، وأبو جهل يشج رأسه وغيرها، كان صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"، ثم إنه لما انتصر على قوى الكفر والطاغوت ورجع إلى مكة فاتحاً كان أرحم بأهلها من الأم بولدها، وحقق السلم المطلق فلم تُرق قطرة دم في فتح مكة، ولما قال بعض أصحابه: "اليوم يوم الملحمة" قال: "بل اليوم يوم المرحمة"، وخاطب أهل مكة قائلاً: "ما تظنون أني فاعل بكم"، وقد أقدره الله عليهم، قالوا: "أخ كريم وابن أخ كريم"، فقال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وكان يوماً سجله التاريخ في تحقيق الفتح بالسلم، فهل هناك سلم مثلم سلم محمد صلى الله عليه وسلم.
الحج: دورة مكثفة لتعلم السلم
هناك صلة رائعة بين خليل الله إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء، وبين الحج وبين الإسلام وبين السلام. فالإسلام دين الحنيفية السمحة، وهو ملة أبينا إبراهيم، وهو الذي سمّانا المسلمين من قبل، وهو الذي أذن في الناس بالحج، فكان محمد -صلى الله عليه وسلم- النبي الخاتم الذي اكتملت على يديه الرسالة واختتمت النبوة وتمت به النعمة.
والعجيب في الأمر أن شعيرة الحج مرتبطة أيضا بتقديم الأضحية التي هي حيوان يقدم قربانا لله تعالى، وهي سنة سنها أبونا إبراهيم الخليل فدية عن ابنه اسماعيل الذبيح عليهما السلام.
وكأن الله تعالى يعلمنا أن الحنيفية السمحة جاءت لتحقيق السلم من خلال تخليص بني البشر من سفك الدماء وقتل النفس وافتدائها بالذبح العظيم الذي أمر الله تعالى به.
ولقد رسّخ الإسلام شعائر الحج ورتبها بطريقة تجعل الحاج في سلم شامل، ليس مع الناس فقط، بل مع كل شيء؛ الشجر والحجر والحيوان ومع الكون كله، تسليماً لرب العالمين.
إن الحج تجربة تمثّل ورشة مكثفة للتدريب على الشحن الروحي والتعبئة على السلم والتدريب على محاربة نوازع النفس السيئة. وإن الأضحية التي يقدمها الحاج والطواف بالبيت العتيق تمثل شعيرة خالدة تعبر عن ذلك الإعلان العالمي الإبراهيمي بالتوقف عن تقديم القرابين البشرية، وتوديع عقلية العالم القديم، في حل المشاكل بالعنف، لذا كان الحج في ترميزه المكثف، تدريباً سنوياً لشحن الانسان بالروح السلامية، فالمظهر متشح بالبياض، والكعبة أصبحت بيت الله الحرام، فيحرم ممارسة العنف بكل أشكاله وامتداداته، فلا جدال في الحج، الجدال بمعنى التنازع والتوتر، وينعم الجميع ببحيرة للسلام في أرض غير ذي زرع، ويأمن الطير والدواب والإنسان على أنفسهم من العدوان، بعد أن كان الناس يُتخطّفون من حولهم، ويمتد السلام من النفس إلى البدن فلا يُنتف الشعر أو تُقص الأظافر، وينتهي بتدشين تجربة على ظهر الأرض، سنوية لاتقبل الإلغاء أوالتأجيل، للسلام الزماني المكاني، في البيت الحرام من خلال الأشهر الحرم.
إن الحج يعلمنا أن العالم كله ينبغي أن يتحول إلى حرم آمن في كل وقت، ولذلك يأتي هذا التدريب السنوي لملايين من البشر على تحقيق مطلق السلم مع كل المخلوقات في البلد الأمين في الأشهر الحرم.
كما أنه يعلمنا السعي لتحقيق السلام العالمي من خلال هذه التجربة الإنسانية الفريدة، التي يتم فيها التدريب سنوياً على السلام والسلام المطلق مع المكان والزمان والكائنات، وهو بذلك يذكرنا أننا يبنبغي أن نوسع من هذه الورشة والدورة المكثفة وننقلها إلى المستوى الإنساني الأوسع، بتبني الأسلوب السلمي في بقية الأماكن وبقية الأوقات ومع مختلف القضايا.
الجهاد مسلك لتحقيق السلم
معنى الجهاد:
الجهاد كلمة شاملة تعني لغوياً الجد والمبالغة وبذل الوسع والمجهود والطاقة كما في قوله تعالى: (والذين لا يجدون إلاّ جهدهم). وتعني دينياً تحقيق الإيمان الحقيقي وما يتمخّض عنه، ومقارعة كل ما يبغضه الله من كفر وانحلال وفسوق، ومن ثم قال ابن تيمية: "الجهاد حقيقة الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان" (كتاب العبودية، ص104). وقد وردت كلمة الجهاد في القرآن الكريم في مواضع كثيرة،، ومما ورد في القرآن الكريم من استخدام لكلمة (جهاد) قوله تعال: (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات، وأولئك هم المفلحون) [التوبة: 88]، وقوله: (يا أيها النبي جاهد الكفّار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنّمُ وبئس المصير) (التوبة، 72)، وقوله: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم جهاداً كبيراً) [الفرقان: 52].
أهميّة الجهاد في منهج نبي الرحمة والمحبة والسلام:(1/375)
إن الجهاد في معنى القتال هو أحد المسالك التي سنها النبي -صلى الله عليه وسلم- بوحي من الله تعالى من أجل أن يعم السلام وينتشر الخير ويدفع تسلط الطواغيت والظلمة والكافرين، إنقاذاً للمظلومين، وتحقيق لحرية الناس وحقهم في العيش في امن وسلام، وقد أمر الله تعالى نبيه الكريم بجهاد الكفار والمنافقين بوقله: (يا أيّها النبي جاهد الكفّار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنهم وبئس المصير)، وقوله تعالى: (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهُم لعلهم ينتهون)(التوبة: 12)، كما أمرنا أن نعد العدة من أجل ردع الظالمين وإرهابهم حتى لا يروّعوا الآمنين، فقال تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدوّ الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم).[ الأنفال: 60].
كما ربط الله تعالى بين القتال وبين ذكر الله تعالى، فقال عز وجل: (يا أيّها الذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) [الأنفال: 45]، وحرّم الله استدبار العدو الكافر بقوله: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولُّوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلاّ متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواهُ جهنم وبئس المصير). [الأنفال: 15-16]، داعياً إلى بذل الغالي والنفيس من أجل تحقيق السلم الذي يأتي من خلال انتشار معاني حب الله والجهاد في سبيله، وإلى تفضيل ذلك على الآباء والأبناء والأموال والعشيرة على الدنيا الفانية والشهوات والهوى، فقال عز من قائل: (قُل إن كان آباؤكُم وأبناؤُكُم وإخوانُكُم وأزواجُكم وعشيرتُكُم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكنُ ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتّى يأتي الله بأمره واللهُ لا يهدي القوم الفاسقين)[ التوبة: 24].
وقد وهب الله سبحانه المجاهدين درجات عليا وجزى المستشهدين في سبيله جزاءً أوفى قائلاً بمنح الجنة للمجاهدين في سبيله بأموالهم وأنفسهم: (إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنّة) [التوبة: 111]، ومبشراً الشهداء بأنهم أحياءٌ عند ربهم يرزقون: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يُرزقون) [آل عمران: 169]، (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون) [البقرة:154] كل هذا ليس رغبة في القتال من أجل القتال، وليس رغبة في سفك الدماء، ولكنه دفع للعدوان حينما تنتفي الدوافع والمسالك السلمية لتحقيق السلم، وأن يكون الدين لله. ولذلك فإن الله تعالى يشدد على المؤمنين بأن يكون جهادهم على وعي تام بمبادئه وغاياته، فلا قتال لمن أراد السلم، قال تعالى: (ولا تقولوا لمن القى اليكم السلم لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا) [النساء: 94]، وقال تعالى: (وان جنحوا للسلم فاجنح لها) [الأنفال: 61]، كما أن المنهج النبوي يؤكد عدم العدوان بقوله تعالى: (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) [النساء: 90] لأن القتال يكون لمن بدأ بالعدوان ومن أجل إنهاء العدوان فقط، قال تعالى: (فقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) وقال سبحانه: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم) [الممتحنة: 8].
لماذا جاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
كما سبق القول فإن الإسلام دين محمد -صلى الله عليه وسلم- ومنهجه لم يفرض الجهاد رغبة في السيطرة والتوسع، أو كسباً للمنافع الدنيوية، أو إرغاماً للناس على تركهم عقائدهم السابقة والدخول في الدين الجديد، أو حبّاً في اظهار القوة والتفوق الحربي، وإنما شُرع دفعاً للظلم، ومقاومة للباطل ومقارعة للكفر، ونشراً للعدل والحرية والسلام عن طريق كسر الأطواق المضروبة حولها، وتحقيقاً لأهداف الدعوة إلى الله، ودفاعاً عن الأعراض والأوطان والأموال.
والمتتبع لسيرته صلى الله عليه وسلم يجد أنه ما قاتل إلا لتحقيق السلم ونشر العدل وبناء الأخوة بين الناس من خلال رد العدوان وكسر طوق الظالمين. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أُخرجوا من ديارهم بغير حق، فأمرهم الله تعالى بقتال من يعتدي عليهم، وباخراج من يحاول إخراجهم من ديارهم وأراضيهم، (وأخرجوهم من حيث أخرجوكم) [البقرة:191]، ولكن في إطار العدل والسلم كمسلك وغاية، فقال تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين] [البقرة: 190].
كما أن الجهاد شُرع لفتح الطريق أمام الفضيلة والخير والعدل والسلم إذا وقف أهل الباطل في طريق السلام العالمي، ومن أجل أن تتحقق الحرية والأمن والسلام للمستضعفين في الأرض، قال تعالى: (ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرّجال والنساء والولدان، الذين يقولون ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلُها وأجعلْ لنا من لدنك وليّاً واجعل لنا من لدنك نصيرا) [النساء: 75].
وبما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء رحمة للناس كافة، كما قال تعالى: (وما أرسلناك إلاّ كافةً للنّاس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون). [سبأ: 28]، وأرسل دينه رحمةً لجميع مخلوقاته، ومن ثمّ فإنّ الوقوف في وجه الدين، وحرمان البشر من عطائه الروحي والمادي مرفوضٌ في شرع الإسلام، وإنّ المسلمين مطالبون بحرب من يقف في وجه حرية انتشار الحق والخير والعدل (وقاتلوهُم حتّى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين كلُّه لله).[الأنفال: 39].(1/376)
هذه إذن بعض دوافع شرع الجهاد، وهي واضحة في أنها مسلك لتحقيق السلم وفتح الآفاق أمام الناس حتى لا تكون هناك فتنة او سفك للدماء بغير وجه حق. وذلك بعض مما أمكن بيانه من شمائله صلى الله عليه وسلم، فهو بحق رجل المحبة والرحمة والسلام
==============
الإكراه وعقوبة الردة
المجيب أ.د. عبد الرحمن بن زيد الزنيدي
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف
التاريخ 19/1/1425هـ
السؤال
غير المسلم مخير بين الإسلام أو البقاء على دينه، بينما المسلم إذا لم يرغب في استمرارية إسلامه يكون مرتدا،ً و بذلك تطبق عليه عقوبة المرتد وهي القتل بعد الاستتابة. إلا يدخل هذا المسلم في قول الله -تعالى-: " لا إكراه في الدين ...". أرجو منكم توضيح هذه المسألة بالتفصيل. و جزاكم الله خيراً.
الجواب
منهج الإسلام أن التدين مبناه على الاختيار ولا قيمة في الإسلام لإسلام ظاهري بينما الباطن مطمئن بالكفر فلا إكراه في الدين، ولهذا لا يرغم أهل الكتاب على الدخول في الإسلام في ظل الدولة الإسلامية، بل تحفظ حقوقهم حيث يعيشون بسلام في المجتمع المسلم ومتميزين عن الأكثرية المسلمة ومسالمين بها.
الإسلام في المجتمع المسلم ليس فلسفة نظرية ولا رؤية اجتهادية مؤقتة، إنه خيار المجتمع كله فكراً ونظام حياة، فإذا ارتد فرد بعد الدخول في الإسلام فإنه يكون مسيئاً إلى الإسلام وداعياً للتفلت منه ومعادياً للمجتمع، وعادة ما يفعل هذا عملاء لأعداء الأمة أو متربصون بها شراً "وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون" آل عمران: 72].
فالارتداد في المجتمع المسلم هو في حقيقته خروج عليه وخيانة وطنية، ولهذا قال -صلي الله عليه وسلم- في حديث: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، وذكر منهم: "والتارك لدينه المفارق للجماعة" رواه البخاري(6878)، ومسلم(1676) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- فقرن الردة بمفارقة الجماعة، ولهذا المرتد الذي لا يعلن ارتداده ولا يدعو إليه لا يعاقب، والمنافقون - وهم كفار لم يعلنوا كفرهم- كانوا يعيشون مع الرسول - صلى الله عليه وسلم- وصحابته - رضي الله عنهم- وهم معروفون له، وبعضهم معروف لكثير من الصحابة من خلال فلتات ألسنتهم أو مواقفهم ولم يعاقبوا على نفاقهم. والله أعلم.
===============
معالم حول أوضاع غير المسلمين في الدولة الإسلامية
د. عصام أحمد البشير
مدخل :
بعد الاستعمار الأروبي لكثير من الدول الأفريقية نتجت الحدود الجغرافية المعرفة حالياً للدول.. والتي جمعت الناس علي أساس جغرافي بحت لا يراعي العقيدة أو الدين .. ونتج عن ذلك أن كل الدول الإسلامية (التي تسكنها أغلبية مسلمة ) بها نسبة متفاوته من الأقليات الدينية الأخري تختلف من دولة إلى أخري .. الأمر الذي يتطلب توضيح موقف الإسلام من غير المسلمين وأهل الكتاب خاصة .
أولاً : الإسلام وأهل الكتاب :
أولى الإسلام الكتابيين معلمة متميزة إذ أباح طعامهم ومؤاكلتهم {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم (1)} كما أباح مصاهرتهم والزواج منهم {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من والذين أوتوا الكتاب من قبلكم }وأعطاهم حرية الاعتقاد والعبادة والكسب.
وبالرغم من أن الإسلام يرى أهل الكتاب كفاراً { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} إلا أنه يفرق بين نوعين منهم :
1. المحاربين : الذين يعادون المسلمون ويقاتلونهم , وهؤلاء لهم أحكامهم التي تنظم العلاقة بهم وتبين طريقة معاملتهم حرباً , إذ لا عدوان ولا غدر ولا تمثيل بجثة و لاقطع لشجر ولاهدم لبناء ولاقتل لصبي أو امرأة ولا شيخ إنما يقاتل من يقاتل .
2. المسالمين أو المعاهدين : وهم الذين رضوا أن يعيشوا في ظل الدولة الإسلامية محتفظين بدينهم ولهم عهد مع المسلمين . وهذا العهد يمكن أن يكون مؤقتاً وهؤلاء يتم اليهم عهدهم إلي مدتهم ويمكن أن يكون عهداً دائماً مؤبداً, وهؤلاء هم أهل الذمة بمعني أن لهم ذمة الله ورسوله .
ثانياً : أسس التعامل مع المسالمين والمعاهدين من أهل الكتاب :-
إن التعامل مع المسالمين من أهل الكتاب من ثوابت إسلامية ترتكز علي اللآتي :
1. الاعتراف بأن الاختلاف بين بني البشر في الدين واقع بمشيئة الله تعالي , فقد منح الله الإنسان الحرية والاختيار في أن يفعل ويدع, أن يؤمن أو يكفر : {فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر }(2) .
والمسلم يوقن أن مشيئة الله لا راد لها ولا معقب . كما أنه لا يشاء إلا ما فيه الخير والحكمة علم الناس ذلك أو جهلوه . ولهذا ينحصر دوره في البلاغ المبين قولاً وعملاً دون إجبار أو إكراه {ولو شآء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً , أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين }(3) .
2. وحدة الأصل الإنساني والكرامة الآدمية : انطلاقاً من قوله سبحانه وتعالي :{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أنقاكم} , وقوله {ولقد كّرمنا بني آدم وحملناهم في البّر والبحر ورزقناهم من الطّيبات} . فالناس أكرمهم عند الله اتقاكم , أبوهم واحد , والرابطة الأنسانية بينهم قائمة شاءوا أم أبوا, هذه الرابطة تترتب عليها واجبات شرعية كالقيام للجنازة أيا كانت عقيدة صاحبها .. روى البخاري أن النبي صلي الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام فقيل له إنها جنازة يهودي فقال: أليست نفساً (4) .
3. التعارف : لقوله سبحانه وتعالي {ياأيها الناس إنا خلقنكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ,إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وكما ورد في الحديث (وأشهد أن(1/377)
- كلهم - أخوة ) فالتعارف أساس دعا إليه القرآن , وضرورة أملتها ظروف المشاركة في الدار أو الوطن بالتعبير العصري , وإعمال لروح الأخوة الإنسانية بدلاً من إهمالها .
والروابط الاجتماعية بين البشر كثيرة , عبرت عنها الآية {قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} إذ حوت : الرابطة العائلية والرابطة القومية ورابطة الإقامة (الوطن) ورابطة المصلحة والرابطة الإسلامية .
4. التعايش : إذ إن حياة المتشاركين لا تقوم بغير تعايش سمح : بيعاً وشراء .. قضاء واقتضاء .. ظعناً وإقامة .. وتاريخ المسلمين حافل بصور التعامل الراقي مع غير المسلمين . وقد حدد الله سبحانه وتعالي أساس هذا التعايش بقوله {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} . إن غير المسلم إذا لم يبدأ بحرب , ولم يظاهر علي إخراج فما من سبيل معه غير التعايش الجميل الملتزم بالبر وهو جماع حسن الخلق , والقسط هو العدل والفضل والإحسان
5. التعاون : كثير من القضايا العامة تشكل قاسماً مشتركاً بين المسلمين وأهل الكتاب ويمكن التعاون فيها , من ذلك :-
أ. الإعلاء من شأن القيم الإنسانسة والأخلاق الأساسية فالعدل والحرية والمساواة والصدق والعفة كلها قيم حضارية تشترك فيها الأديان والحضارات وترسيخها في المجتمع في المجتمعات هدف مشترك يمكن التعاون عليه .
ب. إيجاد القواسم المشتركة بين الاسلام والمسيحية والتركيز عليها والانطلاق منها نحو التعايش والتسامح والتواصل الحضاري .فأهل الكتاب من النصارى هم أقرب إلى المسلمين من غيرهم من اليهود والمشركين والملحدين والوثنيين .
ث. مناصرة المستضعفين في الأرض وقضايا العدل والحرية ومحاربة الظلم ومن ذلك اضطهاد السود والملونين في أميركا واضطهاد الأقليات الدينية وسائر الشعوب المقهورة في فلسطين وكوسوفا والشيشان ونحوه, فالإسلام يناصر المظلومين من أي جنس ودين . والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال عن (حلف الفضول) الذي تم في الجاهلية : (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم , ولو أدعى به في الاسلام لأجبت)(5) .
ج. التعاون لمواجهة دعاة المادية الذين ينكرون الغيب ودعاة الإحاد الذين يجحدون وجود الله ودعاة الإباحية الذين يروجون للعري والتحلل الجنسي والشذوذ والإجهاض .
إن النقاط المشتركة بين المسلمين وأهل الكتاب كثير والأخطار التي تنهدهم معاً ليست قليلة .ويمكن أن تشكل هذه القواسم المشتركة منطلقاً للتعايش والتعاون .
ح. المجادلة بالتي هي أحسن في أمور الخلاف مع أهل الكتاب : لقوله تعالي {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} وهذا النص القرآني عام في كل جدل يمكن أن يحدث بين المسلمين وأهل الكتاب وأولي ما يتبع حين فيه يكون عام في كل الجدال في أمر ديني فإنه يعصم من إيغار الصدر وأيقاد نار العصبية وزرع البغضاء .. إن عفه اللسان واجبة حتى مع المشركين {الاتسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم }.
خ. موقف الإسلام من أهل الكتاب هو موقف الداعي لذلك يجب أن يتأسس علي الرحمة فالرفق بضعيفهم وسد خلة فقيرهم وإطعام جائعهم وكساء عاريهم ولين القول لهم علي سبيل التلطف واحتمال إيذائهم في الجوار مع القدرة علي إنزاله بهم لطفاً لا خوفاً والدعاء لهم بالهداية وأن يجعلوا من أهل السعادة , ونصيحتهم في جميع أمورهم , في دينهم ودنياهم , وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم , وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم , كل ذلك مما ندب إليه الشرع, لذلك ... تجوز الصدقة عليهم فقد ثبت عنه صلي الله عليه وسلم أنه تصدق علي أهل بيت من اليهود , وتجوز زيارتهم وعيادة مريضهم , فقد روي البخاري عن أنس ان النبي صلي الله عليه وسلم عاد يهوديا وعرض عليه الاسلام فأسلم فخرج وهو يقول (الحمد الله الذي أنقذه بي من النار)
و. المسلم ليس مكلفاً أن يحاسب الكافرين علي كفرهم , أو يعاقب الضالين علي ضلالهم , فهذا ليس إليه , وليس موعده هذه الدنيا . وإنما حسابهم إلي الله في يوم الحساب , وجزاؤهم متروك إليه في يوم الدين , قال تعالي {وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعلمون * الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تحتلفون}(6) .
وقال يخاطب رسوله في شأن أهل الكتاب {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم , وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب , وأمرت لأعدل بينكم , الله ربنا وربكم , لنا أعمالنا ولكم أعمالكم , ولاحجة بيننا وبينكم , الله يجمع بيننا وإليه المصير(7) } وبهذا يستريح ضمير المسلم , ولايجد في نفسه أي أثر للصراع بين اعتقاده بكفر وبين مطالبته ببره والإقساط إليه , وإقراره علي ما يراه من دين واعتقاد .
ثالثاً : مفاهيم يجب أن تصصح :
هنالك العديد من المفاهيم التي يجب أن تجلي بوضوح في العلاقة بأهل الكتاب مثل مفهوم موالاة من حاد الله , وأهل الذمة ,و الجزية ونحوها .
أ. الموالاة والمحاد ه :
إن القرآن الكريم يزخر بنصوص تنهي عن موالاة غير المسلمين , وتقرر أن الولاء عندما يقع النزاع إنما يكون لله ولرسوله , غير أن هذا الأصل محاط بضوابط تحول دون تحوله إلي عدواة دينية أو بغضاء محتدمة أو فتنة طائفة مثل :(1/378)
1. النهي ليس عن اتخاذ المخالفين في الدين أولياء بوصفهم شركاء وطن أو جيران دار أو زملاء حياة , وإنما هو عن توليهم بوصفهم جماعة معادية للمسلمين تحآد الله ورسوله , لذلك تكررت في القرآن عباره (من دون المؤمنين ) للدلالة على أن المنهي عنه هو المولاة التي يترتب عليها انحياز المؤمن إلى معسكر أعداء دينه وعقيدته .
2. المودة المنهي عنها هي مودة المحادين الله ورسوله الذين {يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} لا مجرد المخالفين ولو كانوا سلماً للمسلمين .
3. غير المسلم الذي لا يحارب الإسلام قد تكون مودته واجبة كما في شأن الزوجة الكتابية وأهلها الذين هم أخوال الأبناء المسلمين .. فمودتهم قربة وقطيعتهم ذنب .
4. الإسلام يعلي من شأن الرابطة الدينية ويجملها أعلى من كل رابطة سواها ولكن ذلك لايعني أن يرفع المسلم راية العداوة في وجه كل غير مسلم لمجرد المخالفة في الدين أو المغايرة في العقيدة .
(ب) أهل الذمة :
الذمة في اللغة تعني العهد والأمان والضمان , وفي الشرع تعني عقداً مؤبداً يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم وتمتعهم بأمان الجماعة الإسلامية وضمانها بشرط بذلهم الجزية وقبولهم أحكام دار الإسلام في غير شؤونهم الدينية . وهذا العقد يوجب لكل طرف حقوقاً ويفرض عليه واجبات , وليست عبارة أهل الذمة عبارة تنقيص أو ذم , بل هي منها عبارة توحي بوجوب الرعاية والوفاء تديناً وامتثالاً للشرع , وإن كان بعضهم يتأذي منها فيمكن تغييره لأن الله لم يتعبدنا به وقد غير سيدنا عمر لفظ الجزية الذي ورد في القرآن استجابه لعرب بني تغلب من النصارى الذين انفوا من الاسم وطلبوا أن يؤخذ منهم ما يؤخذ باسم الصدقة وإن كان مضاعفاً فوافقهم عمر وقال: (هؤلاء قوم حمقى رضوا المعنى وأبو الاسم ).
ومما يجب إدراكه عن الذمة ما يلي :
*. فكرة عقد الذمة ليست فكرة إسلامية مبتداء , وإنما هي مما وجده الإسلام شائعاَ بين الناس عند بعثة النبي صلي الله عليه وسلم فأكسبة مشروعية , وأضاف إليه تحصيناً جديداً بأن حول الذمة من ذمة العاقد أو ذمة المجير إلي ذمة الله ورسوله والمؤمنين ,أي ذمة الدولة الإسلامية نفسها . وبأن جعل العقد مؤبداً لا يقبل الفسخ حماية للداخلين فيه من غير المسلمين .
*. الدولة الإسلامية القائمة اليوم تمثل نوعاً جديداً من أنواع السيادة الإسلامية لم يعرض لأحكامها الفقهاء السابقون لأنها لم توجد في زمانهم , وهي السيادة المبنية على أغلبية مسلمة لا على فتح هذه الدولة بعد حرب المسلمين لأهلها . وهذه الأغلبية مشاركها في إنشاء الدولة وإيجادها أقلية أو أقليات غير مسلمة , الأمر الذي يتطلب اجتهاداً يناسبها في تطبيق الأصول الإسلامية عليها وإجراء الاحكام الشرعية فيها , والابأس أن يكون عقد المواطنة بديلاًعن هذا المصطلح سيما والقوم في السودان أهل عهد .
(ث) الجزية :
وهي ضريبة سنوية علي الرؤوس تتمثل في مقدار زهيد من المال على الرجال البالغين القادرين .حسب ثرواتهم , والجزية لم تكن ملازمة لعقد الذمة في كل حال كما يظن بعضهم , بل استفاضت أقوال الفقهاء في تعيينها وقالوا إنها بدل عن اشتراك غير المسلمين في الدفاع عن دار الإسلام , لذلك أسقطها الصحابة والتابعون عمن قبل منهم الاشتراك في الدفاع عنها ,فعل ذلك سرقة بن عمرو مع أهل أرمينية سنة 22ه وحبيب بن مسلمة الفهرى مع أهل إنطاكية وأبرمة مندوب أبي عبيدة بن الجراح وأقره أبو عبيدة فيمن معه من الصحابة , وصالح المسلمون أهل النوبة على عهد الصحابي عبد الله بن أبي السرح على غير جزية بل علي هدايا تتبادل في كل عام وصالحوا أهل قبرص في زمن معاوية على خراج وحياد بين المسلمين والروم
غير المسلمين من المواطنين الذين يؤدون واجب الجندية , ويسهمون في حماية دار الإسلام لا تجب عليهم الجزية . والصغار الوارد في آية التوبة يقصد به خضوعهم لحكم القانون وسلطان الدولة .
رابعاً : حقوق وواجبات أهل الكتاب في الواقع المعاصر :
أهل الكتاب ارتضوا أن يعيشوا تحت رعاية الدولة المسلمة فلهم بذلك من الحقوق مثل ما للمسلمين , وعليهم من الواجبات مثل ما علي المسلمين إلا ما استثني بنص , قال الإمام علي كرم الله وجهه : (إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا)
حقوق أهل الكتاب :
لأهل الكتاب جملة من الحقوق منها :
1. حق الحماية من الاعتداء الخارجي والحماية من الظلم الداخلي (من آذي ذمياً فقد آذاني ومن أذاني فقد آذى الله ) فلا يصيبهم أذى في أبدانهم ولا أموالهم ولا أعراضهم .
2. حق التأمين عند العجز والشيخوخة والفقر , قال سيدنا عمر بن الخطاب : (ما أنصفناه إذا أخذنا منه الجزية شاباً ,ثم نخذله عند الهرم) .
3. حرية التدين {لا إكراه في الدين} ومن ذلك ممارسة شعائرهم الدينية في دور عبادتهم .
يرى بعض الفقهاء المعاصرين (8) في شأن بناء الكنائس ما يلي :-
أولاً : علي غير المسلمين أن يراعوا مشاعر المسلمين وحرمة دينهم فلا يظهروا شعائرهم وصلبانهم في الأمصار الإسلامية . ولا يحدثوا كنيسة في مدينة إسلامية لم يكن فيها كنيسة من قبل ذلك، لما في الإظهار والإحداث من تحدي الشعور الإسلامي مما قد يؤدي إلي فتنة واضطراب .
ثانياً : للآتي :
أ. قوله سبحانه وتعالي : {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً } يدل علي أن من أساليب الإذن بالقتال حماية حرية العبادة
ب. العهود التي أقامها الرسول صلي الله عليه وسلم وأصحابه مع اليهود والنصاري تضمنت الحفاظ علي دور عبادتهم , مثلاً
1. عهد الرسول صلي الله عليه وسلم لأهل نجران أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وزملتهم وبيعهم(1/379)
2. عهد سيدنا عمر لأهل إيلياء فيه نص على الأمان على كنائسهم فلا تسكن ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبها .
3. عهد سيدنا خالد بن الزليد لأهل عانات أن يضربوا نواقيسهم في أي وقت شاؤوا من ليل أو نهار , وإلا في أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان في أعيادهم .
ث. واقع حال المسلمين يدل علي جواز إقامة الكنائس في ظل الدولة المسلمة. روى المقريزي أن جميع كنائس القاهرة المذكورة محدثة في الإسلام بلا خلاف .
ثالثاً : من علماء المسلمين من أجاز لأهل الكتاب إنشاء الكنائس والبيع وغيرها من المعابد في الأمصار التي فتحها المسلمون عنوة إذا أذن لهم الإمام بذلك بناء علي مصلحة رآها ,وقد ذهب لذلك الزيدية والإمام أبو القاسم من أصحاب مالك .
حرية العمل والكسب وحرية تولي وظائف الدولة ونحو ذلك إلا ما استثني بنص لعدم جواز تولي الكتابيين للوظائف التي تغلب عليها الصيغة الدينية كالإمامة التي هي , رئاسة الدين والدنيا وخلافة النبي صلي الله عليه وسلم ولا يعقل أن يقوم بها غير مسلم , وقيادة الجيش وإمرة الجهاد الذي هو ذروة سنام الاسلام , والقضاء بين المسلمين الذي يقتضي العلم بشريعة الله والإيمان بها للحكم بين الناس والولاية على الصدقات ونحو ذلك .
ضمانات الوفاء بحقوق أهل الكتاب
إن الضمانات لتنفيذ هذه الحقوق وكفالة تلك الحريات تتمثل في أمرين :
ضمان العقيدة : فالمسلمون يحرصون على الالتزام بعقيدتهم وتطبيق أحكام دينهم , لا يمنعهم من ذلك عواطف القرابة والموادة ولا يصدهم عن ذلك مشاعرة العدواة والشنآن , وقال تعالي : {يايها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو علي أنفسكم أو الوالدين والأقربين } {ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } .
ضمان الجتمع المسلم بدستوره وسلوكه :
فالمجتمع الإسلامي مسؤول بالتضامن عن تنفيذ الشريعة وتطبيق أحكامها في كل الأمور، ومنها ما يتعلق بغير المسلمين , فإذا قصر بعض الناس أو انحرف أو جار وتعدي ,وجد في المجتمع من يرده إلى الحق , ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر , ويقف بجانب المظلوم المعتدي عليه , ولو كان مخالفا له في الدين .
قد يوجد هذا كله دون أن يشكوا الذمي إلي أحد , وقد يشكوا ما وقع من ظلم . فيجد من يسمع لشكواه , وينصفه من ظالمة , مهمها يكن مركزه ومكانه في دنيا الناس .
فله أن يشكو إلي الوالي أو الحاكم المحلي , فيجد عنده النصفة والحماية , فإن لم ينصفه فله أن يلجأ إلى من هو فوقه .. إلى خليفة المسلمين وأمير المؤمنين , فيجد عنده الضمان والأمان , حتى لو كانت القضية بينة وبين الخلفية نفسه، فإنه يجد الضمان لدى القضاء المستقل العادل والذي له حق محاكمة أي مدعٍ عليه .
واجبات أهل الكتاب :
واجبات أهل الكتاب تنحصر في أمور معدودة هي :
1. أداء التكاليف المالية .
2. التزام أحكام القانو ن الإسلامي في المعاملات المدنية ونحوها .
3. احترام شعائر المسلمين ومشاعرهم .
أداء التكاليف المالية : من جزية واخرج وضرائب وغيرها .وقد سبق الحديث عن الجزية . وأهل الكتاب في تكليفهم بالخراج والضرائب الأخرى سواء والمسلمين , فليس فيها شيء يجب باختلاف الدين وإنما تجب على أنواع الأموال والتجارات والأرضي المزروعة دون نظر إلي صاحب أي منها : أمسلم هو أم غير مسلم .
التزام أحكام القانون الإسلامي :
والواجب الثاني علي أهل الكتاب / إن يلتزموا أحكام الإسلام , التي تطبق علي المسلمين لأنهم بمقتضي العهد أصبحوا يحملون جنسية الدولة الإسلامية , فعليهم أن يتقيدوا بقوانينها التي لا تمس عقائدهم وحريتهم الدينية .
فليس عليهم تكاليف من التكاليف التعبدية للمسلمين أو التي لها صبغة تعبدية أو دينية , مثل الزكاة التي هي ضريبة وعبادة في الوقت نفسه , ومثل الجهاد الذي هو خدمة عسكرية وفريضة إسلامية , ومن أجل ذلك فرض الإسلام عليهم الجزية بدلاً من الجهاد والزكاة
كما عرفنا - رعاية لشعورهم الديني أن يفرض عليهم ما هو من عبادات الإسلام وليس عليهم في أحوالهم الشخصية والاجتماعية أن يتنازلوا عما أحله لهم دينهم , وأن كان قد حرمه الإسلام, كما في الزواج والطلاق وأكل الخنزير وشرب الخمر . فالإسلام يقرهم علي ما يعتقدون حله , ولا يتعرض لهم في ذلك بإبطال ولا عتاب .
فالمجوسي الذي يتزوج إحدى محارمه , واليهودي الذي يتزوج بنت أخيه , والنصراني الذي يأكل الخنزير ويشرب الخمر , لايتدخل الإسلام في شئونهم هذه ما داموا يعتقدون حلها فقد أمر المسلمون أن يتركوهم وما يدينون , فإذا رضوا بالاحتكام إلي شرع المسلمين في هذه الأمور حكمنا فيهم بحكم الإسلام لقوله تعالي {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولأتتبع أهواؤهم }(9) .
مراعاة شعور المسلمين :
والواجب الثالث عليهم : أن يحترموا شعور المسلمين , والذين يعيشون بين ظهرانيهم وأن يراعوا هيبة الدولة التي تظلهم بحمايتها ورعايتها .
فلا يجوز لهم أن يسبوا الإسلام أو رسوله أو كتابه جهرة , ولا أن يروجوا من العقائد والأفكار ما ينفي عقيدة الدولية ودينها , ما لم يكن ذلك جزءا من عقيدتهم كالتثليت والصلب عند النصاري , علي أن يقتصروا في ذلك علي أبناء ملتهم لا يذيعونه في أبناء المسلمين ليفتنوهم عن دينهم .
ولا يجوز لهم أن يتظاهروا بشرب الخمر وأكل لخنزير , ونحو ذلك مما يحرم في دين الإسلام . كما لا يجوز لهم أن يبيعوها لأفراد المسلمين , لما في ذلك من إفساد المجتمع الإسلامي وعليهم ألا يظهروا الأكل والشرب في نهار رمضان , مراعاة لعواطف لمسلمين .
خامساً : الفوارق بين طبيعة الدولة المعاصرة والقديمة .(1/380)
أ. كانت الدولة في السابق تقوم علي أساس العقيدة الدينية في العصر الحديث تقوم علي أساس قومي أو علي أساس ديني قومي كما هو الحال في السودان حيث نص على أن المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات .
ب. كانت الدولة الإسلامية في الصدر الأول قوة سياسية وعسكرية راحجة , كما كانت قوة بشرية عددية مرجوحة . وأما الآن فقد انقلب الوضع إذ أصبح المسلمون قوة عددية راجحة .وقوة عسكرية مجروحة .
ج. كانت الحرب في السابق تجري دفاعاً عن العقيدة ضد خصوم الدين لذلك وقع عبؤها علي المسلمين وحدهم , لكن تجري الحرب دفاعاً عن أرض الوطن وأبناء الوطن وأبناء الوطن فُيلقى عبؤها على المسلمين وغير المسلمين من أبناء الوطن .
د. كانت الدولة الإسلامية في الصدر الأول دولة نافذة فقد كان المسلمون قوة سياسية وعسكرية تملك ان تقرر ما تراه دون معارضية دولية أو مهددات لأمنها القومي .أما اليوم فقد آلت أوضاع المسلمين السياسية والعسكرية – في الموزاين العالمية – إلى ضعف غير خاف حيث يخشى المسلمون من عدم استقرار الأوضاع في بلادهم بسبب عدم مساواة غيرهم بهم واستغلال القوى الخارجية الطامعة لهذا الأمر
خ. الدولة الإسلامية في السابق كانت تواجة أقلية محدوة من غير المسلمين تنازعها السيادة , أما اليوم فإن الأقلية لم تعد كذلك إذا نظرنا للتيار العالمي الذي تمثلة والجهات الأجنبية التي يمكن أن تنهض لنصرتها .
سادساً : التكيف الشرعي للواقع المعاصر :
يمكن القول (في ظل هذه الظروف الغالبة ) أنه يمكن الخروج من الأصل لاعتبارات يقدرها الشرع . ومن هذه الاعتبارات :-
التكليف وفق الوسع والمستطاع (لاتكليف إلا بمقدور ) : لقوله تعالي {فاتقوا الله ما استطعتم(10) } {لايكلف الله نفساً إلا وسعها} . وقوله صلي الله عليه وسلم (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (12) ) وقد أسلم النجاشي ملك الحبشة في زمن الرسول صلي الله علية وسلم ومع هذا لم يستطع أن يقيم حكم الإسلام في مملكته لأنه لو فعل ذلك خلعه قومة ولم ينكر عليه الرسول الكريم .
2. ارتكاب أخف الضررين : والأصل فيه قوله صلي الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها (لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لبنيت الكعبة علي قواعد إبراهيم (13) ) فترك صلي الله عليه وسلم ما يراه واجباً خشية أن تثور فتنة من التغير في بناء الكعبة وهم لم ترسخ أقدامهم في الإسلام بعد .
3. النزول من المثال المنشود إلي الممكن الموجود :
إن هنالك مثلاً علياً تعبدنا بها الشرع المسلم ليرنوا إليها المسلم بقلبه ويسعى إليها بحركته ولكن الواقع كثيراً ما يغلبه فيعجز عن الوصول إليها فيضطر للنزول عنها إلي ما دونها تحت ضغط الضرورة وعملاً بالممكن الموجود بعد تعذر الصعود إلي المثال المنشود . إن النزول إلي الممكن الموجود يدعونا إلي إعمال كثيرة من القواعد الأصولية مثل :
الضرورات تبيح المحظورات
الحاجة التي تنزل منزل الضرورة .. عامة كانت أو خاصة
لا ضرر ولأضرار .
رفع الحرج
عموم البلوى من موجبات التسير .
السياسة الشرعية القائمة على فقه الموازنات
اختيار الأيسر
فقد بين القرآن الله تعالي أقام أحكام شرعة علي اليسر لا علي العسر وعلي التخفيف لا التغليظ وعلي رعاية الظروف المخففة والضرورات القاهرة والحاجات الملحة . قال تعالي {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } , وقال تعالي {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم } , { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } . ومن ثم أجاز الفقهاء للفرد المسلم وللمجتمع المسلم النزول للضرورات حتى لا تتعطل مصالح الخلق وتضيع حقوقهم ويذهب دينهم .
سنة التدرج :
ومن ذلك التدرج, فكل شيء يبدأ صغيراً ثم يقوى, فالإنسان لا يولد بالغاً عاقلاً بل يبدأ وليداً رضيعاً فصبياً فشاباً فكهلاً .. الخ .. وقد راعى الشرع هذه السنة في فرض الفرائض كما تدرج بهم في تحريم المحرمات رحمة بهم وتيسيراً وقد لا يستطيع الإنسان رغم طموحه الوصول إلي الأهداف الكبيرة مرة واحدة ولكنه الوصول إليها شيئاً بعد شيء وفق قدراته وظروفه .
ومن ثم وإذا نظرنا إلي واقعنا وما نحن فيه من ضعف وإلي واقع أعدائنا وما يملكون من قوة نري حال الضعف علينا مما يجب أن نرفضه في حال القوة وقد قال تعالي { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا } فأشار سبحانه إلي أن الضعف من أسباب التخفيف وأن كان علي المسلم أن يتطلع أبداً إلي القوة والمؤمن القوي خيرُ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف .
وفي تاريخنا الإسلامي أمثلة ونماذج , ففي سيرة خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو الذي أحيا سنن الهدي وأقام معالم الدين ونشر معاني الخير مما لا يجهله أحد ولاينساه التاريخ ولكنه لم يستطع أن يفعل كل ما يريد بدليل أنه لم يعد الخلافه شورى كما هو الأصل في الإسلام ويخرجها من بني أمية , فقد قال له ابنه
عبد الملك : وكان شاباً تقياً متحمساً , قال له يوماً : يا أبت ما لي أراك متباطئاً في إنفاذ الأمور؟ فو الله ما أبالي لو غلت بي وبك القدر في سبيل الله .
يريد الابن المتحمس أن يجعل أبوه الإصلاح المنشود ولا يبالي بما يحدث بعد ذلك من عواقب ما دام ذلك في سبيل الله .(1/381)
فقال له الأب الحكيم : لا تعجل يا بني فان الله تعالي ذم الخمر في القرآن في آيتين ثم حرمها في الثالثة وإني أخشى أن أحمل الناس على الحق جمله فيدفعوه جملة فيكون وراءه فتنة. فاستصحابا لكل ذلك ومع تقدير لمل قرره الفقهاء من الحق الموافق لواقعهم في منع لستحداث الكنائس فان الأمر الذي يمكن أن يصار إليه هو السماح بذلك وفق ضوابط تحددها الدولة منعاً من إقامتها لغير ضرورة وصوناً للمجتمع المسلم من أن تتغير ملامحه أو تستفز مشاعره مما يكون وراءه فتنة عظيمة خاصة وأن آراء الفقهاء في ذلك واضحة جلية مما يجعل منها مادة لدى بعض الجماعات المتشددة للإثارة والتشكيك في مصداقية الدولة و توجهها الحضاري أو إثارة العوام في إزلتها بالقوة .
1- سورة المائدة / آية 5
2- سورة هود / الآية / 118
3- البخاري كتاب الجنائز , باب من قام الجنازة يهودي - ح رقم 1229
4- سورة يونس /الاية/99
5- سيرة بن هشام , والكلام عن هذا الحلف ذكر في البداية لابن كثير باسناد صحيح , وفي دلائل البيهقي ورواه الحميدي ,وابن سعد عن طريق الواقدي .
6- سورة الحج / الآية / 69
7- سورة الشوري / الآية / 15
8- كالدكتور يوسف القرضاوي ولاستاذ محمد سليم العوا
9- سورة المائدة / الآية 49
10- سورة التغابن / الآية 16
11- متفق عليه
12- متفق عليه
=============
رداً على ما جاء في بيان المثقفين الأمريكان على أي أساس نُقتل ونُحارب؟!
سهيلة زين العابدين حمَّاد 7/3/1423
19/05/2002
لقد ركَّز معهد القيم بالولايات المتحدة الأمريكية في بيانه الذي وقَّع عليه ستون مثقفاً أمريكياً ،والذي أعطاها هذا العنوان " على أي أساس نُقَاتل؟" تبرير حرب الإدارة الأمريكية على ما أسمته إرهاباً أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م بأنَّها حرب أخلاقية تستهدف الحفاظ على المبادئ والقيم الخمسة التي يؤمن بها الموقعون على البيان ،طالبين من المسلمين رجالاً ونساءً أن ينضموا معهم في تأييد هذه الحرب وتبني القيم الأمريكية .
هذا ولمّا كان البيان قد كشف مدى تضليل الإعلام الغربي الذي تسيره الصهيونية العالمية للمثقفين الأمريكان ممن وقَّعوا على هذا البيان الذي حوى على كثير من المغالطات والمتناقضات رأيتُ من واجبي كمثقفة مسلمة وصاحبة فكر وحاملة أمانة القلم أن أفتح باب الحوار مع موقعي هذا البيان ،ومع أي مثقف أمريكي أو أوربي يريد أن يتحاور معي حول مبادئ الإسلام وقيمه وعلاقة الغرب به ،لأصحح له الرؤى ،وأوضح له معالم صورة الإسلام التي عكف الاستشراق الغربي على مدى ثمانية قرون ،والصحافة الصهيونية على مدى قرن من الزمان على تشويهها وتضييع معالمها .
وأتمنى أن يكون ردي على بيان مثقفي أمريكا بمثابة بيان مثقفي العرب والمسلمين في كل مكان ،فمن يجد في هذا الرد من مثقفي الأمة يمثل رأيه فإنَّني أدعوه أن يضم توقيعه إلى توقيعي .
والنقاط التي سوف نناقشها في هذا البيان هي :
أولاً :المرتكزات الأساسية التي تقوم عليها القيم التي نؤمن بها نحن المسلمين والمنبثقة من أسس العقيدة الإسلامية.
ثانياً : القيم الأمريكية والمبادئ الخمسة التي يدافعون عنها .
ثالثاً : أحداث سبتمبر ،وإعلان الغرب الحرب على كل ما هو إسلامي،والتي وصفها البيان الأمريكي بالحرب العادلة والحرب الأخلاقية،وأنَّها لصالحنا نحن المسلمين.
رابعاً : موقفنا من سياسة الإدارة الأمريكية تجاه إسرائيل ،وتجاه الدول الإسلامية بما فيها الدول العربية،وفي حربها على ما أسمته بالإرهاب.
خامساً : النظام الإسلامي في الحكم،ودعوة البيان إلى فصل الدين عن الدولة ،والحكم بالحكم العلماني الوضعي.
أولاً: المرتكزات الأساسية للقيم التي نؤمن بها والمنبثقة من العقيدة الإسلامية :
1- الإيمان بأنَّ الله هو الخالق الرازق المحيي والمميت ،وهو الحي الذي لا يموت،وهو الواحد (الأحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ) (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) فنحن هنا نختلف مع استناد مؤسسي الولايات المتحدة إلى دعوى دينية أساسية أنَّ جميع البشر خلقوا على صورة الله،فالإنسان خلق بنفحة من روح الله ،ولكنه لم يخلق على صورة الله.كما نؤمن بأنَّ الله هو القاهر فوق عباده ،وليس أية قوى بشرية ،فأية قوة بشرية مهما بلغت من قوة فلن تكون فوق قوة الله فتستبد معتقدة بأنَّها هي القوة الأوحد ( وهو القاهر فوق عباده ) ( فعَّال لما يُريد) فنحن نؤمن إيمانا كاملاً بأنَّ الحياة والموت والرزق ،وكل شئ بيد الله وحده ،ولا يستطيع أي كائن كان مهما بلغ من قوة وبطش أن ينزع الحياة والرزق منَّا بدون إرادة الله ،فالإسلام قد حرَّر الإنسان من عبودية الخلق الذي ظل عبداً لأسياده ألوف السنين ،ولم يذق طعم الحرية إلاَّ بالإسلام ،انظروا إلى أحوال شعوب الأرض قبل بزوغ فجر الإسلام كم عانت من اضطهاد وظلم واسترقاق البشر من حكام وإقطاعيين! فالعالم لم يعرف العدالة والحرية والمساواة إلاَّ من الإسلام، ولذا فنحن نحب خالقنا الذي حررنا من كل أنواع وصنوف العبودية للخلق، ولا نخشى ولا نخاف إلاَّ إيَّاه الذي جعل العزة للمؤمنين كما جعلها له ولرسوله ،إذ قال عزَّ وجل (( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)) (المنافقون :8)،فالمسلم الحق لا يرضى بالذل والخنوع والخضوع ،إنَّه يرفضُ الضيم،فعلاقة الإنسان في الإسلام بربه علاقة جد وثيقة قائمة على العبادة له طاعةً ومحبةً ومراقبته في كل قول وعمل خوفاً من عقابه ،وطمعاً في رحمته وثوابه،ورغبة برؤيته يوم القيامة والفوز بالجنة.(1/382)
2- الإنسان كائن مكلف وصاحب رسالة ،يقول تعالى : (( وإذْ قَال رَبُّكَ للمَلاَئِكِةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأْرْضِ خَلِيفَةً قَالُوُا أَتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِد فِيها وَيَسْفِكُ الدَّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّح بَحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَالاَ تَعْلَمُونَ )) ( البقرة 30)،ويقول تعالى : (( إنَّا عَرَضنَا الأَمانةَ عَلى السَّمَاوَاتِ والأْرْضِ والجِبَال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشَفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَها الإِنْسانُ إِنَّه كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)) ( الأحزاب :72). والإنسان لا يكون ظلوماً جهولاً إلاّ إذا كان ذا عقل ،فيعرف به أعباء هذه الأمانة ،ومع هذا يتعدى حدودها ؛إذ ظلم نفسه بتحمل أعباء يعرفها ويتعدى حدودها ،وجهول لأنَّه يتعدى تلك الحدود لجهله بها. وهنا يتضح لنا سبب اختيار الله للإنسان لمسؤولية الاستخلاف . فالعقل والتفكير مناط التكليف ؛ لذا اشترط التكليف بالعقل ،فإن انعدم العقل سقط التكليف ،لذا نجده سقط عن الصغير والمجنون والمعتوه ،فالإنسان مكلف بعمارة الأرض ،وبأمانة الاستخلاف لأنَّه ذو عقل ،ووجود عقل يعني وجود فكر ،ودور العقل في هذه القضية جد عظيم ،وهو موضع اعتبار الإسلام وتعظيمه ليكون في الدرجة الأولى من الأهمية والفعالية والعطاء ،ومن الوصول بالإنسان إلى مداخل الحق والخير ،وتمكينه من استيعاب الحقائق التي تملأ أرجاء هذا الكون المعمور ،وفي طليعتها حقيقة الإيمان بالله الذي يملأ وجوده الكون وما فيه لتكون له الهيمنة المطلقة التي تحيط بأرجاء الوجود من أطرافه ،ومن أقصاه إلى أقصاه ،وقد ورد ذكر العقل في القرآن الكريم ومشتقاته ثمان وأربعين مرة ؛إذ يدعو فيها أن يتفكر العقل في ملكوت الله ،وفي خلائقه المنتشرة ،وفي تركيبة هذا الكون الزاخر المعمور حتى يصل العقل إلى التصديق المطمئن بوجود الإله الخالق المهيمن الأعظم.
3- عبادة الله هي المهمة العليا لهذا الإنسان ،وقد بيَّن هذا قوله تعالى : (( ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنْسَ إلاَّ ليَعْبُدُون)). فالإنسان خلق لعبادة الله ،ولتحقيق أمانة الاستخلاف وعمارة الأرض ،فهذه الآية والآيتان السابقتان عن أمانة الاستخلاف تدحض العبثية الوجودية التي تقول بعبثية الخلق ،وأنَّ الإنسان مادام سيموت فلا هدف من حياته ،ولا قيمة لأي عمل يعمله.(1/383)
4- أنَّه مسيّر ومخيَّر ،ومميز أي لديه القدرة على التمييز بين الخير والشر ،فالنفس البشرية كما تعرف الله بالفطرة ،فهي تعرف الخير والشر بالفطرة .. مصداقاً لقوله تعالى : ((وَنفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فألْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاها )) ( الشمس : 8) ،ويقول تعالى : (( وّهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن))،وهنا يأتي الاختيار فمادام الإنسان قادراً على التمييز بين الخير والشر ،فهو حر الاختيار ؛إذ بيّن الله جلَّ شأنه له لخير والشر ،وطريق كل منهما ،وله أن يختار أيهما يسلك ثُمَّ يتحمَّل مسؤولية اختياره فيثاب ويجازى خيراً على الخير ،ويعاقب في الدنيا والآخرة إن سلك طريق الجريمة والشر ،وهنا يأتي دور المجتمع في معاقبة من أجرم في حق العباد وفي حق المجتمع.،فالإنسان في التصور الإسلامي مسيَّر ومخيَّر ،مُسيَّر في بعضِ جوانب حياته وفق طبيعته التي خلقه عليها ،فهو مسير بخضوعه لسنن الكون التي لا يستطيع الخروج عنها كقوانين الجاذبية ،والضغط الجوي ،وقوانين الجسم من الهضم والدورة الدموية ،وقوانين الحرارة ،وغيرها من السنن الكونية ،وهذا من رحمة الله بالإنسان ؛إذ لو لم يكن مسيراً في قوانين الجسم كيف يستطيع أن يُسيِّر أجهزة جسمه لتؤدي وظائفها وهو نائم؟،فالإنسان في بعض جوانب حياته مسيَّر ؛بخضوعه لسنن الكون ،ولكنه من جهة أخرى له قدرة وإرادة حرة تختار ما تريد من الأفعال والتصرفات ،ولكنها مسؤولة عن هذا الاختيار ،وهنا الفرق بين حرية الإرادة في التصور الإسلامي ،وحرية الإرادة في الوجودية الملحدة ،الفرق هو العقوبة على من يتجاوز حدود الاختيار فيظلم نفسه ،أو يظلم غيره ،وحدود الاختيار محددة في الحلال والحرام ،وعلى الإنسان أن يختار الحلال ،فإذا ارتكب محرماً عوقب على قدر جريمته فإن سرق أكثر من ثلاث مرات قطعت يده ، وإن شرب الخمر جلد ،وإن ارتكب فاحشة الزنا إن كان محصناً أي متزوجاً يُرجم حتى الموت ،وإن كان غير متزوج يجلد مائة جلدة ، ،ومن قتل يقتل ،بقول تعالى : (( يا أَيُّها الذين آمنوا كتبَ عليكمُ القِصَاصُ في القْتَلى)) ( البقرة : 178) .ومن ارتد عن الإسلام يستتاب ،فإن لم يُتب يقتل لقوله صلى الله عليه وسلم (أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه ،فإن عاد ،وإلاَّ فاضربه عنقه ،صحيح أنَّه(( لا إكراه في الدين)) كما قال تعالى،فالإنسان حر في اختيار دينه وعقيدته ،ولكنه مادام قد اختار الإسلام ديناً وهو خاتمة الأديان السماوية نولا دين سماوي بعده فعليه الالتزام به ،ويتحمل مسؤولية هذا الاختيار ،وإلاَّ فإنَّ ارتكب معصية أو جريمة يحرمها الإسلام ؛يدَّعي هرباً من العقوبة أنّه ارتد عن الإسلام فراراً من العقوبة ،فيصبح المجتمع في فوضى بكثرة الجرائم إن لم تكن هناك عقوبة رادعة للمرتد،وتروْن أنه لا توجد عقوبة في اليهودية لمن تركها ،لأنَّه سيأتي دين سماوي بعدها هو المسيحية ،فمن ترك اليهودية واعتنق المسيحية فلا عقوبة عليه في الديانة اليهودية ،ولا توجد عقوبة في الديانة المسيحية لمن تركها لأنه سيأتي دين سماوي بعدها هو الإسلام،فمن ترك اليهودية أو المسيحية واعتنق الإسلام فلا عقوبة عليه،بل عليه الدخول في الدين الإسلامي لأنَّه خاتمة الأديان ،ولم يجبر الإسلام يهودياً ولا نصرانياً الدخول في الإسلام فالذين أسلموا منهم أسلم من تلقاء نفسه بعد اقتناع بأنه الدين السماوي الخاتم وأنَّه الدين الحق ،فالإسلام دخل في شرق ووسط وغرب أفريقيا ،وفي شرق وجنوب شرق آسيا عن طريق التجَّار ،إذ أسلم أهالي تلك البلاد عندما وجدوا في التجار المسلمين الصدق والأمانة وعدم الغش،والوفاء بالعهد،وغيرها من الأخلاق الحميدة ،وهي صفات أوجبها عليهم الإسلام ،فالإسلام دين الأخلاق ،فالرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( إنَّما بُعثتُ لأتمم الأخلاق ) ،وقد وصفه الله عزَّ وجل في قوله تعالى ((وَإَنَّك لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم))فالمستشرقون الذين زعموا أنَّ الإسلام انتشر بحد السيف زعمهم باطل ،يدحضه الوقائع والحقائق التاريخية .ويؤكد هذا قوله تعالى لنبيه الكريم : (( ادْعُ إلى سَبيلِ رَبَّكَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ وَجَادِلهُمْ بالتي هي أحسنُ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِين)) (النحل: 125)،وقوله لرسوله الكريم أيضاً (( لو كُنْتَ فَظَّا غَلِيظَ القَلْبِ لا نفَضُّوا مِنً حَوْلِكَ))
فالإسلام هو خاتمة الأديان السماوية ،لذا كانت هناك عقوبة على المرتد عنه بعدما اختاره ديناً بلا إكراه، ألا تعلمون أنَّ الإدارة الأمريكية تتدخل في هذه الأمور الشرعية ،وتطالب بعض الدول الإسلامية بعدم تنفيذ عقوبة المرتد على المرتدين عن الإسلام تمهيداً لتنفيذ مخطط تنصير المسلمين ؟
كما حرَّم الإسلام الانتحار ،لأنَّ فيه اعتراضاً على قضاء الله وقدره ،وفيه قتل نفس التي حرَّم الله قتلها إلاَّ بالحق ،والإنسان مسؤول عن صيانة نفسه وحمايتها، يقول تعالى : (( ولاَ تَقْتُلُوا أَنْفَسَكُم إنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيما))
هذه الجرائم الكبرى التي يعاقب عليها الإسلام حماية للأنفس والأعراض والأموال ،والمجتمعات الإباحية لا تعتبر الزنا جريمة لأنَّهم لا يؤمنون بالإنسانية المترفعة عن مستوى الحيوان.(1/384)
ولقد ساوى الإسلام بين المرأة والرجل في الحدود والعقوبات ،كما ساوى بين جميع الناس في الحقوق المدنية ،وشؤون المسؤولية والجزاء والعقاب ،يقول صلى الله عليه وسلم ( لا تفلح أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي ) ،وقال ( إنَّما أهلك الذين من قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه ،وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد ،وأيم والله لو فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها) ،ويقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه في أول خطبة له بعد مبايعته بالخلافة : ( ألا إنَّ أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له ،وأضعفكم عندي من القوي حتى آخذ الحق منه .) وحرص على تكرار هذا المعنى نفسه أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه في أول خطبة له بعد توليه الخلافة : ( أيها الناس ! إنَّه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له ،ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه ) ،وجاء في رسالة عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري ،وهي الرسالة التي جمع فيها معظم أحكام الإسلام في القضاء : ( آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك ـ أي سو بين المتقاضين في جميع هذه الأمور ـ حتى لا يطمع شريف في حيفك ،ولا ييأس ضعيف من عدلك) . ويقول في وصيته للخليفة من بعده : ( اجعل النَّاس عندك سواء ،لا تبال على من وجب الحق ،ثُمَّ لا تأخذك في الله لومة لائم ،وإياك والمحاباة فيما ولاَّك الله ) .
5- إنَّ الإنسان مسؤول عن اختياره ليثاب إن أحسن ويعاقب ويجازى إن أخطأ،والرجل والمرأة متساويان في الجزاء والثواب ،كماهما متساويان في الإنسانية وفي تحمل أمانة الاستخلاف، وفي القصاص والحدود والعقوبات،يوضح هذا قوله تعالى : (( مَنْ عَمِلَ صَالِحَاً مِّنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون) وهو هنا يرد القرآن الكريم على ما أثير من تساؤلات في أحد المجامع الكنسية بروما التي منها :
هل المرأة إنسان ذو روح خالدة ؟ وهل هي أهل لأن تتلقى الدين ،وهل تصح منها العبادة ؟ وهل يتاح لها أن تدخل الجنة في الآخرة ؟؟
ثُمّ قرَّر المجتمعون ( أنَّ المرأة مجرد حيوان نجس لا روح له ولا خلود ،ولكن يجبُ عليها العبادة والخدمة ،كما يجب تكميم فمها كالبعير وكالكلب العقور لمنعها من الضحك والكلام لأنَّها أحبولة الشيطان )
6- الإنسان في الإسلام مادة وروح معاً ،فهو قبضة من طين ونفخة من روح الله ،يقول تعالى : (( إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين فإذ سوَّيته ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين)) (سورة ص :71-72)
وقد وازن الإسلام بين الروح والجسد فلم يبخس للجسد حقاً ليوفي حقوق الروح،فيحرم المباح ،ولم يبخس للروح حقاً ليوفي حقوق الجسد، فيبيح المحرمات ،ويتضح هذا التوازن في قوله تعالى : (( وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)) ( القصص : 77) ،هذا التوازن عجزت عن تحقيقه سائر الأديان والفلسفات ،وهنا تتجلى معجزة الإسلام فالإنسان في التصور الإسلامي موحد من حيث طبيعته بين النواحي المادية والروحية والحاجات النفسية.فالإسلام لا يؤمن بحيوانية الإنسان أي ماديته "كالداروينية"التي نشأت عنها المذاهب المادية كالماركسية والفرويدية القائمة على التفسير الجنسي الحيواني للسلوك الإنساني ،وغير ذلك من المذاهب القائمة على مادية الإنسان وحيوانيته ،والتي شملت كل اتجاهات الفكر الغربي،كما لا يؤمن برهبانية الإنسان كالبوذية والهندوكية التي تمخَّضت عنها الفلسفة المثالية كفلسفة أفلاطون في العصور القديمة وفلسفة هيجل في القرن التاسع عشر،وإنَّما يؤمن الإسلام بأنَّ الإنسان مادة وروح لا يمكن فصل هذين العنصرين عن بعضهما البعض.
والإنسان مخلوق مكرَّم ((ولقد كرَّمنا بني آدم )) (المائدة : 33) ،ومن مظاهر هذا التكريم:(1/385)
- العلم : (( وعلَّم آدم الأسماء كلها ثُمَّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين)) (البقرة:31) ،وقال جلّ شأنه ((علَّم الإنسان مالم يعلم ))(العلق:5) ،كما علَّمه البيان (( الرحمن .علَّم القرآن .خلق الإنسان. علَّمه البيان)) (الرحمن :1-4)،وقد زوَّد الخالق جلَّ شأنه الإنسان بأهم أدوات التعلم وهي العقل والسمع والبصر والفؤاد ،وعلى الإنسان أن يُحسن استخدامها ،وإلاَّ فهو والأنعام سواء يقول تعالى : (( ولقدْ ذّرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرَاً مِنَ الجِنِّ والإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاّ يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُم أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُون بِها وَلَهُم أَذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِها أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمُ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُون))بل حثه على استخدام المنهج العلمي باستخدام أدوات البحث العلمي في قوله تعالى ((ولا تقفُ ما ليس لك به علم إنَّ السمعَ والبصرَ والفؤاد كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عنْه مسؤولا)) ولقد تحدى القرآن الكريم العقائد الموروثة والأفكار الجاهلية بالمنهج العلمي فقال جلَّ شأنه (( قل هاتوا بُرهانكم إنْ كُنْتُم صادقين)) ( البقرة:170)وقوله تعالى : (( قُلْ هَلْ عِنْدَكُم مِنْ عِلِمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتبِعُونَ إلاَّ الظَّن وإنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تخْرُصُون)) ( الأنعام : 148) فالمنهج العلمي أول ما جاء به الإسلام وطبَّقه الحسن بن الهيثم في بحوثه وكشوفه العلمية قبل فرنيسس بيكون الذي نُسب إليه المنهج العلمي . ولأهمية العلم فلقد جعله الإسلام فريضة على كل مسلم ومسلمة ،ألا تعلمون أنَّ أول كلمة في القرآن نزلت هي كلمة "إقرأ"التي جاء فيها قوله تعالى ((إقرأ باسم ربِّك الذي خلق .خَلَقَ الإنْسَان مِنْ عَلَقْ. أقرأ ورَبُّكَ الأَكْرَم. الَّذي عَلَّم بِالقَلَمِ.عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم)) (العلق:1_5)،وألا تعلمون أنَّ الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم قد جعل فداء كل أسير من أسرى المشركين في غزوة بدر ،وهي أول معركة بين المسلمين ومشركي قريش هو تعليم عشرة من الصبيان في المدينة المنورة ؟ إنَّه دين حضاري وإنساني قائم على العلم واحترام أهل العلم وتكريمهم ،فقلد جعل العلماء ورثة الأنبياء ،وهم أكثر خشية لله لأنَّهم على علم بقدرته عارفون به ،يقول تعالى (( إنَّمَا يخشى اللهَ منْ عِبَادِه العُلَمَاءُ)) وبين أنَّ أهل العلم لا يتساوون مع الذين لا يعلمون ،يقول تعالى : (( قُلْ هَلْ يسْتَوِي الذينَ يَعْلَمُون وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُون)) ( الزمر : 9)،بل يرفع الله أهل العلم درجات ،يقول تعالى : (( يَرْفَعُ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُم والَّذِينَ أُوتُوا العِلَم دَرَجَاتٍ))( المجادلة : 11) ،وقد حثَّ الإسلام على طلب العلم وجعله طريقاً إلى الجنة ،فلقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن طريق أبي هريرة رضي الله عنه ،أنَّ رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم قال : ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له طريقاً إلى الجنة)،فهذا فضل العلم والعلماء في الإسلام ،والذي ينكرونه عليه متهمينه بأنَّه ضد العلم ،وأنَّه يدعو إلى التخلف والرجعية ،فليتبصروا ويتأملوا في هذه الآيات القرآنية ،وفي واقع الأمة الإسلامية عندما تمّسكت والتزمت بالإسلام أية حضارة شيّدتها ،وأي علم وصلت وارتفعت إليه؟فموقف الإسلام من العلم وتشجيعه عليه ،ورفع مكانة العلماء ،ومساواة البشر جميعاً في طلبه فجَّر في المسلمين طاقات الإبداع ،وأضاف مفهوماً جديداً إلى مفهوم العلم لم يكن يلقى اهتماماً عند اليونانيين ،وهو استخدام العلم في كشف أسرار العالم الطبيعي ،وقهر الإنسان للمادة ،والسيطرة عليها ، واستخدم المسلمون الرياضيات في حل المشكلات الواقعية التي تواجه الإنسان ،وبرعوا في استخدام الأرقام ووضع علم الحساب ،واكتشاف الصفر في كتابة الأرقام ،واخترعوا علم الجبر ،وتفوقوا في الهندسة التحليلية ،وابتكروا حساب المثلثات ،وكانت هذه أول مرة تستخدم فيها الرياضيات للتعبير عن قوانين العالم الطبيعي ،وفي علم الطبيعة ابتكر ابن الهيثم علم الضوء ،كما اكتشف ابن سيناء الجاذبية الأرضية قبل إسحاق نيوتن بسبعة قرون ،وللأسف الغرب نسب هذا الاكتشاف إلى إسحاق نيوتن ،وفي مجال الطب فلقد اكتشف ابن النفيس الدورة الدموية الصغرى ،كما عرف العرب التغذية عن طريق شق العلوم بالحقن ،وهم أول من عرف الخدمة السريرية ،والتعقيم وانتقال العدوى في بعض الأمراض ،وعرفوا الجراثيم وطرق وقايتهم من الأمراض شبيهة بطرق الوقاية المعروفة اليوم .وفي علم الصيدلة فلقد اجمع مؤرخو العلوم أنّ علماء العرب والمسلمين هم الذين وضعوا قواعد علم الصيدلة وفصلوها عن الطب ؛إذ كان الطب والصيدلة مهنة واحدة.ورجع تفوق للعلماء المسلمين في علم الصيدلة إلى تفوقهم في الكيمياء وعلم النبات. هذا ويعتبر جابر بن حيَّان هو مؤسس علم الكيمياء ،وحتى أصبح في أوربا في العصور الوسطى يطلق على علم الكيمياء " علم جابر"،أو "بصنعة جابر" وكتابه "الخالص" كان يدرس في أوربا لعدة قرون ،وممّا لاشك فيه فإن إنجازات العلماء المسلمين في علم الكيمياء كان لها أثر كبير في صناعة الأدوية ،وفي كثير من الصناعات منها صناعة الأسلحة.أمَّا إنجازات المسلمين في علمي الفلك والجغرافيا فقلد ساعد على تطور علوم لأرض والفضاء.(1/386)
إنَّ إنجازات المسلمين في كل العلوم لا تعد ولا تحصى ،وما ذكرناه على سبيل المثال لا الحصر لنبين لكم أنّ الإسلام هو الذي دفع بالمسلمين إلى كل هذه الاكتشافات العلمية لأنّ هؤلاء العلماء أول شيء يتعلمونه هو العلوم الدينية من حفظ القرآن الكريم ،ودراسة تفسيره ،ومن حفظ الأحاديث النبوية ،ودراسة الأحكام الفقهية الشرعية ،ثُمَّ ينطلقون في دراساتهم للعلوم التي يرغبون في دراستها ،ومعهم الذخيرة النفيسة من العلم التي ترشدهم وتلهمهم وتؤهلهم لطرق كل العلوم ،والنبوغ فيها فأسهموا في إنشاء حضارة فريدة تميّزت على كل الحضارات ،وأصبح المسلمون يمثلون أكبر قوة في العالم ،فمثلاً : ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع وعلم العمران،وصاحب العديد من النظريات الاقتصادية التي سبق بها آدم سميث استقى نظرياته الاجتماعية والعمرانية والاقتصادية من القرآن الكريم ،ومن السنة الشريفة ،وقد كان عالماً فقيهاً ،وقاضياً تولى القضاء في مصر .فالعالم لم يعرف الحضارة العلمية إلاَّ عن طريق الإسلام الذي دفع بالمسلمين إلى ذلك ،فالعلوم الدينية تخرج العلماء والمفكرين والمخترعين لمن يدرسها حق دراستها ،ولا تُفرِّغ الإرهاب ،كما تزعم الحملة على الإرهاب التي وصفها بيانكم بأنَّها حرب أخلاقية!
والذي يُفرِّغ العنف والإرهاب أفلام العنف والإرهاب التي تنتجها سينما هوليود التي يسيطر عليها اليهود الصهاينة،فلمَ لا يوجه الانتقاد إلى تلك الأفلام التي تعرض في محطات التلفاز الأمريكية؟أيضاً لماذا لم يقدَّم الانتقاد للمناهج الدراسية الدينية في إسرائيل التي تدعو إلى إباحة أعراض ودماء وأموال غير اليهود من الأميين ،والتي تغرس في نفوس صغارها على التمايز على سائر الأمم ،وأنَّهم شعب الله المختار ، وأنَّ دولة إسرائيل الكبرى تمتد من النيل إلى الفرات ،بل حتى مناهج الحساب يُحرِّضون فيها على قتل الفلسطينيين ،فمن المسائل الحسابية التي تدرس للطلبة في إسرائيل مثلا : يوجد ثمانية فلسطينيون فكم فلسطينياً ينبغي أن تقتلهم ليبقى ثلاثة أحياء؟
- من مظاهر التكريم الإلهي للإنسان أنَّه خلقه سوي الخلقة ،يقول تعالى : (( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم))
- من هذا التكريم أنَّه سخَّر له ما في الكون ،يقول تعالى : (( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جمِيعاً مِّنه إَّن فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكْرُون)) . فهذا التصور الذي يحمله الإسلام للإنسان من تسخير الكون له وليس العكس .فإنَّ الطبيعة هي المسخَّرة للإنسان ،وليس هو المسخَّر لها ،فالقول بأنَّ الإنسان سخر للوجود أدَّى إلى استعباد الإنسان ،فأصبح الكون بالنسبة للإنسان سيداً معبوداً . وإقرار هذه الحقيقة أنّ الكون مسخر للإنسان فيه تحرر الإنسان من عبودية الخلق.فالمبدأ الأساسي الذي تقوم عليه العقيدة لإسلامية هو أنّ الله وحده هو المعبود ،وليس أحد سواه ،فلا الشمس ولا القمر ،ولا الليل ولا النهَّار ،ولا البحار ،ولا المال ولا الحيوان ولا النار ،ولا القوم ،ولا العشيرة ،ولا الوطن ،ولا الإنسان المعبود ،فليس في الكون شيء معبود ،بل الكل ،كل الكائنات الموجودة في هذا الكون عابد له يدين له بالتعظيم ،ويقر له بالألوهية والوحدانية والعبودية ،يقول تعالى : (( وَهُوَ اللهُ لاَ إِلَه إِلاَّ هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولى والآخِرِة ولَه الحُكُمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون)) ( القصص : 70). وهكذا كرَّم الله الإنسان ؛إذ حرَّره من عبودية الخلق ليكون عبداً للخالق جلَّ شأنه ،وهي عبودية تشريف وتكريم وإعزاز لأنَّه بهذه العبودية يرتفع ويسمو وتنبتُ في نفسه الطمأنينة ،ويتطهر جسده من أردان الرذائل والخبائث ،ويرتقي بآدميته إلى الفضائل والعفاف ،فلا يخشى إلاَّ الله ،ولا يذل نفسه إلاَّ لله ،ويجعل عمله خالصاً لله ،فيتحرر من الخديعة والكذب والنفاق والرياء ،ويراقب الله في أعماله وأقواله ،فلا يخون ،ولا يسرق ،ولا يزني ،ولا يقتل فيعيش سعيداً عزيزاً مكرماً مطمئن النفس قرير العين ،فيسلم من آفات وأمراض هذا الزمان ،وكل زمان ؛إذ يتخلص بإخلاص العبودية لله ممَّا تعاني منه البشرية أفراداً وجماعات من الويلات والنكبات التي تنصب على رأسها صباً كالقلق والخوف ،والهم ،والاكتئاب ، والانتحار ، والأنانية ،والجشع ، وسُعار الجنس ، والطلاق ، والاغتصاب ، والإرهاب ،وتفسخ الأسرة وتفككها ، وانحلال المجتمع ،كل هذه الأمراض والمفاسد تعاني منها البشرية الشاردة عن دين الله ،والتي تعلق العصيان على الله سبحانه وتعالى ،وذلك لتصورها المخبول القاصر أنَّها تستطيع أن تحظى بالسعادة والخير بانفرادها بالتشريع وانفصالها عن صراط الله في شرعه ودينه ،لهذا كانت الغاية العليا من خلق الإنسان عبادة الله جلَّ شأنه ، يقول تعالى : (( وما خلقتُ الجن والإنس إلاَّ ليعبدون))
7- أنَّ الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء ،يمر بها الإنسان ليصل إلى الآخرة ،وأنَّ الحياة الآخرة هي الحياة الدائمة لا موت فيها ،ولقد وصف الحياة الدنيا : بأنّها حياة لهو ومملوءة بالزينة والزخرف والشهوات(( اعلموا أنَّما الحيَاةُ الدُّنَيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَال والأَوْلادِ)) (0الحديد :20) ،وأنَّها متاع مؤقت ،ومكان عبور لا يجوز اتخاذها غاية ،يقول تعالى : (( إذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمَاً )) ( طه : 104)،وأنَّها دار تعب وكدح وجد ،يقول تعالى : (( يَا أُيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحَاً فَمُلاَقِيه)) ( الانشقاق : 6)(1/387)
8- الإيمان أنَّ الكون ميدان للنشاط الإنساني ؛إذ يستخدم فيه الإنسان طاقاته وإمكاناته ويسخره لمنفعته ،وأنَّ إرادة الله وراء ما يحدث في هذا الكون ،وأنّ الكون مسير ومدبر دائماً بقدرة الله ،يقول تعالى : (( ومِنْ آياتِهِ أنْ تَقُومَ السَّمَاءُ والأرْضُ بِأمْرِهِ)) ،وأنَّ الكون كله قانت لله : (( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاواتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهنَّ وَإِنْ مِّنْ شَيءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)) (الإسراء : 44)،وأنَّ كثيراً مما في هذا الكون سخر للإنسان ،يقول تعالى : (( هو الذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرْضِ جَمِيعَاً ثُمَّ اسْتَوى إِلى السَّمَاءِ)) ( البقرة: 29)
هذه أهم المرتكزات التي تمثل عقيدتنا الإسلامية ،والتي تنبثق منها قيمنا ومبادئنا ولعلكم تجدون فيها إجابة إلى كثير من التساؤلات منها البحث عن الحقيقة في مقصد الحياة ومصيرها .
ثانياً:القيم الأمريكية والمبادئ الخمسة التي تدافعون عنها:
في البداية فنحن نتفق معكم في أنَّ الاستهلاكية كطريقة حياة ،وتصور الحرية على أنَّها تعني عدم وجود قيود ،والتصور السائد أنَّ الفرد مستقل قائمٌ بذاته ،فليس له مسؤولية كبيرة نحو الآخرين والمجتمع ،وضعف العلاقة الزوجية والحياة الأسرية ،من القيم الأمريكية المضرة وغير الجميلة ،وأنَّ وسائل هائلة للتسلية والإعلام تعظِّم هذه القيم ،وتنشرها بدون توقف في جميع أنحاء العالم سواءً لقيت هذه القيم الترحيب أم لا ،ولكن الذي نضيفه بهذا الصدد ،وقد فاتكم الإشارة إليه ،أنّ هذه القيم الضارة ،وغيرها كالعلاقات غير الشرعية ،وما ينجم عنها من حمل غير شرعي تقوم بفرضه مؤتمرات المرأة العالمية التي تنظمها الأمم المتحدة ،وما يتمخض عنها من اتفاقات دولية كاتفاقية إزالة كافة أشكال التمييز بين الرجل والمرأة ،والتي يضغط على دول العالم الثالث ،الذي ندرج نحن ضمنه على التوقيع عليها وتنفيذها ،ومثل هذه الاتفاقية تلزم الدولة على جعل أنظمة العمل لديها تلزم المرأة العمل في المحاجر والمناجم ،وفي الأعمال الليلية ،ممَّا يعرض المرأة إلى الابتزاز الجنسي ،ويحرم أفراد أسرتها منها في وقت هي أمس الحاجة إليها ،وهذا يؤثر تأثيراً كبيراً على كيان الأسرة ،وقد يخلخله ويضعفه ،وقد يؤدي أيضاً إلى انهياره.
بل الأكثر من هذا فإنّ الممولين الأجانب للجمعيات الخيرية النسائية ذات التوجه العلماني ،وهم في أغلبهم يهود صهاينة يتسترون في جنسيات أمريكية وأوربية ،بل منهم من يتبع الحكومة الأمريكية مباشرة يدفعون بالقيادات النسائية في هذه الجمعيات المطالَبة بالخروج عن ثوابت الإسلام في العلاقات الأسرية كإلغاء قوامة الرجل ،وإلغاء العدة والاكتفاء بالكشف الطبي ،وإلغاء حد الزنا ،وعدم تطليق الزوج لزوجته عند اكتشافها غير بكر ،وغير ذلك من الأمور التي تشيع الفاحشة في المجتمعات ،وتدعو إلى الانفلات الجنسي.ومن هذه الهيئات الأمريكية الممولة : هيئة المعونة الأمريكية (A.I.D)،وأموال المعونة الأمريكية التي تأتي مرة باسم ( U.N.I )ومرة باسم (سيريا) ،ومرة باسم ((A.I.Dتتبع جميعها الحكومة الأمريكية مباشرة،وهناك مؤسسات أمريكية أخرى لا تندرج تحت اسم المعونة الأمريكية A.I.D))،ولكنها تتبع الحكومة الأمريكية مثل المنحة المحلية للديمقراطية في واشنطن التي تقول عنها مديرة قسم برامج الشرق الأوسط : " أنَّه تمَّ تكوينها بناءً على مبادرة من إحدى لجان الكونجرس ".
وإن كان من مبادئكم الخمسة التي تدافعون عنها حرية الاعتقاد والحرية الدينية من الحقوق غير القابلة للانتقاص جميع البشر ،فمن باب أولى أن يعطى لهذا الإنسان الحرية في العمل الذي يمتهنه ويحترفه ،ولكن ما رأيكم في أنَّ منظمة العمل الدولية رفضت إقرار نظام العمل في مصر الذي رفضت فيه النساء العمل في المحاجر والمناجم ،وفي الأعمال الليلية مبينات أسباب رفضهن هذه الأعمال بأنَّها تعرضهن للتحرش الجنسي ،وأنَّ أسرهن في أمس الحاجة إليهن في تلك الأوقات،كما لو اطلعتم على وثيقة بكين تجدون فيها فرض القيم التي قلتم عنها أنَّها قيم ضارة ،بل الأكثر منها ضرراً تقرها هذه الوثيقة لتعمل بها دول العالم الثالث ،كما تجد منظمو مؤتمر السكان الذي عقد في القاهرة في التسعينيات من القرن الماضي حاولوا أن يوصوا بإقرار الإجهاض ،لولا أن تصدى لهذه التوصية علماء الدين في الأزهر ،وفي عالمنا الإسلامي.
لقد نظَّم الإسلام العلاقات الأسرية ،وجعل الزوجية تقوم على أركان ثلاث هي : السكن والمودة والرحمة ،يقول تعالى (( ومِنْ آيَاتِه أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُم أَزْوَاجَاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَل بَيْنَكُم مَوَدَةً وَرَحْمة إنَّ ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقوْمٍ يَتَفكَّرُون)) (الروم : 21)
وجعل للزوجة مثل ما للزوج من حقوق وما عليهما من واجبات تجاه الآخر ،يقول تعالى (( ولَهُنَّ مثل الذي عليهِنَّ بالمعروف))،وألزم الرجل بالنفقة على زوجه ولو كانت غنية ،ومقابل ذلك جعل له القوامة ،وهي تكليف عليه مسؤوليات وتبعات والتزامات ،ومن مسؤوليات القوامة تحقيق الأمن والأمان ،وتقديم النصح والإرشاد ،فهي لا تعني الاسترقاق والاستعباد ،كما فهمها البعض،وأثار بعض المستشرقين حولها الكثير من الشبهات ،فهي مبنية على والتفاهم على أمور البيت والأسرة،وليس منشؤها تفضيل عنصر الرجل على عنصر المرأة ،ثُمَّ أنَّ جميع الأديان والأعراف في جميع المجتمعات جعلت القوامة للرجل باستثناء مجتمع شاذ هو مجتمع التبت ،فلماذا كل هذا التحامل على القوامة في الإسلام ؟ ،يقول تعالى : (( الرِّجَال قَوَّامُون عَلى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهم )) (النساء : 34)(1/388)
وأمر أن تكون العشرة الزوجية بالمعروف ،يقول تعالى : (( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيَئَاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرَاً كَثِيرَاً))( النساء: 19)،فإن استحالت الحياة الزوجية بين الزوجين يكون الطلاق بمعروف ،يقول تعالى : (( الطَّلاُقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحَسَان)) (البقرة 229)،والطلاق هو أبغض الحلال عند الله ،وقد شرِّع الطلاق في الإسلام لئلا يعيش الزوجان معاً بالإكراه،فتتحول حياتهما إلى شجار وخناق ،وينعكس ذلك على الأولاد ،ولئلاّ يدفع ذلك الزوج إلى خيانة زوجه ،ويرتكب الفواحش ،وقد يدفع ذلك بالزوجة إلى فعل ما حرَّمه الله .وتتضح هذه الحكمة أمامنا في المجتمعات الغربية التي تحرم الطلاق ؛إذ كثرت فيها الخيانات الزوجية ،فالزوجة تخون زوجها ،والزوج كذلك ،والنتيجة اختلاط الأنساب ،ووجود أطفال غير شرعيين ،وإباحة جنسية ،وانهيار الأخلاق والقيم والفضائل.
وهناك أيضاً حملات من بعض المستشرقين على الطلاق في الإسلام !
والروابط لأسرية والعائلية قوية في الإسلام ،فالإسلام يحث على الترابط الأسري ،وينهى عن قطع الأرحام ،وأوصى بالبر إلى الوالدين ،وقرنه بعبادته ،بل نهى عن التأفف منهما ،يقول تعالى : ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوُا إِلاَّ إِيَاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانَاً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وّقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمَاً .وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً )) ( الإسراء : 23-24)،فهل يوجد سمو ورقة في المشاعر الإنسانية مثل هذه المشاعر؟
فلقد ألزم الأولاد بالبر بالوالدين والإحسان إليها ورعايتهما والإنفاق عليهما إن احتاجا إلى ذلك ،كما ألزم الأب بالإنفاق على أولاده وبناته ،إلى أن يعمل الأولاد بعدما يتمُّون تحصيلهم العلمي ،وينفق على البنات إلى أن يتزوجن،ولا يحق للأب إكراه ابنته على الزواج ،ولا يصح عقد الزواج إلاَّ بموافقة ورضا المتزوج بها ،بل يعد عقد الزواج باطلاً إذا أكرهت الفتاة على الزواج .
إنَّ النظام الأسري في الإسلام وضعه وشرَّعه الخالق ،ولا يرقى أي نظام إليه ،فلمَ يتدخل الآخر الغربي في نظامنا الأسري ؟ويريد أن يصدِّر إلينا قيمه الضارة وغير الجميلة كما وصفها بيانكم؟
في العقد الثاني من القرن العشرين أصدر " أسوالد اشبنغلر " كتاباً بعنوان " تدهور الحضارة الغربية" ،فإن كان حال الحضارة الغربية قبل ثمانين عاماً في طريها إلى الانهيار ،فما هي حالها الآن ؟
ولماذا يحاول الغرب أن يفرض علينا انهيار حضارته،بكل ما فيها من قيم ضارة ،فنسير وفق ما يسير ،ونفكر مثل ما يفكر ،ونعتقد مثل ما يعتقد ،ونسلك ذات السلوك الذي يسلكه بفرض العولمة علينا ؟
نعود إلى ذات المبدأ ،وهو : "حرية الاعتقاد والحرية الدينية من الحقوق غبر القابلة للانتقاص لجميع البشر" هل تروْن أنّ هذا المبدأ ملتزمون به مع كل الأديان؟(1/389)
نحن نرى أن هناك انتقاصاً من العالم الغربي لمعتقدي الديانة الإسلامية ، فدماؤنا تهدر ،وأعراضنا تنتهك ،وأراضينا تُغتصب، وأموالنا تصادر وتجمد ،وأسرانا لديكم يعاملون معاملة أدنى بكثير من الحيوانات ،ولا يحق لنا أن نقول "لا " لمغتصبينا ،بل لا يحق لنا أن ندافع عن أراضينا التي اغتصبت ،ولا عن أعراضنا التي انتهكت ،ولا عن دمائنا التي هدرت في مذابح دير ياسين وجنين والخليل ونابلس ،وبيت لحم ورام الله في فلسطين ، ومدرسة بحر البقر في مصر ،وفي مخيمات صبرا وشاتيلا ،وقانا في لبنان هذه المذابح التي قام بها اليهود الصهاينة،فلو قمنا بذلك أصبحنا إرهابيين ،لقد أصبح حق المقاومة المشروعة للدفاع عن الأرض المغتصبة في عرفكم إرهاباً في الوقت ذاته أعطيتم لأنفسكم حق إعلان الحرب على من أوهمتكم إدارتكم بأنهم هم الذين قاموا بتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر ،ووصفتم هذه الحرب بأنَّها حربٌ أخلاقية عادلة ،ولكن مقاومة الفلسطينيين للصهاينة الذين احتلوا أراضيهم ،وهدَّموا بيوتهم على سكانها ،وجرَّفوا أراضيهم ،وضربوهم بالصواريخ والقنابل ،وبالدبابات ،وكلها أسلحة أمريكية،وقتلوا النساء والأطفال والشيوخ ،وحاصروهم في بيوتهم ،ومنعوهم من التجول إلا ساعات قلائل بعد عدة أيام ليشتروا حاجاتهم الضرورية من الطعام،وحالوا دون إنقاذ الجرحى وإسعافهم ،بل حالوا دون دفن الشهداء ،وحرقوا المساجد والكنائس ،وقتلوا الرهبان وقارع أجراس كنيسة المهد مهد المسيح عليه السلام ،وحاصروا كنيسة المهد أربعين يوماً ،ودمروا فيها ما دمَّروا ،وحرقوا فيها ما حرقوا ،ومع هذا يوصف قائدهم من قبل الرئيس "جورج بوش " بأنَّه رجل سلام ،ولم تطبق أية عقوبة على إسرائيل ،مع أنَّها نقضت الاتفاقيات التي وقعتها معها السلطة الفلسطينية ،ورغم عدم امتثالها لقرارات الأمم المتحدة ،ورفضها دخول لجنة تقصي الحقائق في جنين التي تكونت بقرار من الأمم المتحدة ،وما كان من الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان إلاَّ أن يعلن حل اللجنة دون أن تطبق أية عقوبة على إسرائيل في حين أنَّ العراق فقد مليون طفل من جراء الحصار الاقتصادي الذي فرضته عليه الولايات المتحدة منذ أحد عشر عاماً بدعوى أنَّها تمتلك أسلحة الدمار الشامل ،وأنَّها لم تسمح للمفتشين الدوليين القيام بأعمالهم ،في حين نجد إسرائيل تملك سلاحاً نووياً ،وأسلحة الدمار الشامل ،وتضرب بالقوانين الدولية ،والاتفاقيات التي أبرمتها عرض الحائط،ولا تطبق عليها أية عقوبة ،بل يوصف شارون بأنّه رجل سلام ،ويوصف العراق بأنَّه محور شر !
هل تروْن أنَّ المبدأ الأول الذي أعلنتموه في بيانكم ،وجميع القيم التي أعلنتموها تطبق على جميع الناس دون تمييز،أم أنَّ المسلمين بصورة خاصة مستثنون ،فهم محرومون منها ،بدليل أنَّ العقوبات الدولية مطبقة فقط على الدول العربية والإسلامية مثل العراق وليبيا والسودان ،والباكستان التي رفع عنها الحصار مقابل السماح للولايات المتحدة الأمريكية بجعل لها قواعد عسكرية في الباكستان ،وأن تتعاون الباكستان مع الولايات المتحدة في القضاء على طالبان ،في حين إسرائيل إلى الآن لم تطبق عليها أية عقوبة دولية ،وهي أكثر دول العالم انتهاكاً لحقوق الإنسان ،وأكبر دولة إرهابية ،وهي رأس الشر في العالم فهي محتلة أرضاً لاحق لها ولا في بوصة منها كما أعلن ذلك الحاخام " ديفيد وايس" الناطق الرسمي لحركة "ناطوري كارتا"،والذي صرَّح أنَّ قيام دولة إسرائيل غير شرعي لأنَّها ضد الله ،فالله حكم على اليهود بعدم إقامة دولة لهم عقاباً لهم على ما ارتكبوه من خطايا وذنوب ،وصرَّح أيضاً أنَّ أرض فلسطين بأكملها من حق الفلسطينيين ،وأنَّه لن يكون هناك سلام مع إسرائيل ،وأنَّ إسرائيل ينبغي أن تزول ليعم السلام في المنطقة ،وأنَّ اتفاقيات السلام لن تجدي مع إسرائيل لأنَّها دولة صهيونية ،والصهيونية قائمة على الدم ،وأنَّ ما تقوم به إسرائيل مع الفلسطينيين من قتل وتدمير وتخريب لأراضيهم وممتلكاتهم جرائم كبرى ،فهذه شهادة من حاخام يهودي ،وأدلتنا على وعروبة فلسطين والقدس ،وعدم شرعية قيام دولة إسرائيل ،وأنَّه لا حق لها ولا في شبر من الأراضي الفلسطينية أدلة كثيرة منها : أنَّ التوراة التي يزعمون أنَّ الله وعدهم فيها بفلسطين ،وأنَّها أرض الميعاد ،لقد حرَّفها اليهود ،فالتوراة المتداولة كتبها عزرا الوراق ،وكهنة اليهود على مدي 1100 عام ،وقد ثبت تحريفها بتناقضها عندما وضعها علماء الديان الغربيون تحت مجهر النقد التاريخي ،وأدلة تناقضها كثيرة لا حصر لها ،وقد بَّين الدكتور موريس بوكاي بعض هذه التناقضات عندما قارن بعض الأحداث في التوراة والإنجيل والقرآن ،ووجد أنَّ القرآن الكريم يخلو من المتناقضات فاعتنق الإسلام .
ولو فرضنا جدلاً أن هذا الوعد قد أُعطي لهم ،فقد كتب الله عليهم عدم إقامة دولة ،وهذا ورد في توراتهم ،وهو ما تستند عليه جماعة "ناطوري كارتا" بعدم شرعية قيام دولة إسرائيل ،وأنَّها دولة ضد الله ،ثُمَّ أين هم بنو إسرائيل ؟ فلقد أثبتت دراسات علم الإنسان
التي قام بها العالم الأنثربولوجي البريطاني "جيمس فنتون" عن يهود بني إسرائيل أنَّ95% من اليهود ليسوا من بني إسرائيل التوراة،وإنَّما هم أجانب أو مختلطون ،وقراءة منا في تأريخهم الأنثروبولوجي توضح لنا هذه الحقيقة ،،وتوضح لنا أنَّ ال 5% الباقية هي مختلطة بجنسيات أخرى بالتزاوج ! ثُمَّ أنَّ الحق التاريخي أسقطه القانون الدولي بالتقادم ،فلو فرضنا جدلاً أنَّ لليهود حقاً تاريخياً في فلسطين ،فلماذا لم يسقطه القانون الدولي ،وقد مضى على ما يدعونه من حق ألوف السنين ؟
ألا ترون أنَّ المجتمع الدولي يُبيح لليهود ما يُحرَّمه على غيرهم؟(1/390)
هذا ونحن إذا قرأنا تأريخ اليهود نجد أنَّهم أمة بلا أرض ولا وطن ،ولذا سمُّوا بالعبرانيين ،وهم لم يؤسسوا ولا مدينة في فلسطين و في غيرها ،واسم أورشليم،وتعني مدينة السلام ،وشكيم"نابلس"،وسبسطية "السامرة ،وغزة "حبرون" وصهيون،اسم تل كنعاني بنيت عليه القدس ،وغيرها من الأسماء ليست أسماء عبرية ،وإنَّما هي أسماء كنعانية عربية ،وإن وردت في التوراة فلا يعني هذا أنَّها عبرية ،واللغة العبرية ذاتها مأخوذة من الآرامية ،وهي من اللغات العربية ،فحتى اللغة العبرية ليست في أصولها يهودية ،فتاريخ اليهود يقول إنَّهم أخذوا كل شئ حتى اللغة التي يتكلمون بها ،والحروف التي يكتبونها بها ،فهم لم يسهموا بشيء سوى السطو على ما ليس لهم ،ومنهم.
إنَّ الحق التاريخي الذي يدَّعونه باطل، ،ويؤيد بطلانه شهادة الحاخام " وايس "بأنَّ ليس من حق اليهود ولا في بوصة من أرض فلسطين ،وأنَّ أرض فلسطين بأكملها من حق الفلسطينيين.
هذا ونؤكد لكم بأنَّه لو قامت السلطة الفلسطينية بمحاصرة كنيسة المهد ـ وهي لن تفعل ذلك لأنَّ ديننا يحترم الديانات السَّماوية ـ لقام العالم المسيحي بأسره بإعلان حرب صليبية ثانية على العالم الإسلامي ،ولكن اليهود متميزون ،ولو قاموا بهدم كنيسة المهد ،فلن يعمل العالم المسيحي أي شيء ،وأحداث كنيسة المهد تؤكد هذا القول ،لذا فأنا أدعوكم أن تراجعوا مع إدارتكم مبادئكم قبل أن تعلنوا أنَّها مطبقة على جميع الناس بلا تمييز،كما أود أن أذكركم بسكان أمريكا الأصليين " الهنود الحمر " هل حفظ مؤسسو الولايات المتحدة حقوقهم في الحرية والمساواة ،وفي العيش بأمان في بلادهم ،أم قضي عليهم وصِّوروا في أفلام "رعاة البقر" بأنَّهم متوحشون وقطَّاع طريق ،وقتلة ولصوص،تماماً كما يحاول الإعلام الصهيوني لديكم أن يُصوِّر الفلسطينيين بذلك ،وهاهم يصورون المجاهدين الفلسطينيين الذين لجأوا إلى كنيسة المهد ،وأُبعِدوا من بلادهم بناءً على طلب إسرائيل المدللة لدى الغرب بأسره يعاملون كإرهابيين ومجرمين شديدي الخطر ؟؟؟!
وهل مؤسسو الولايات المتحدة التزموا بمبدأ احترام حقوق جميع البشر في الحرية والمساواة عندما اختطفوا الرجال والنساء من الإخوة الأفارقة ،واستخدموهم كعبيد أرقاء وأذلوهم الإذلال كله حتى قامت في الجنوب ثورة الزنوج؟
فهنا نرجوكم للمرة الثانية أن تراجعوا هذه العبارة التي وردت في بيانكم " فمؤسسو الولايات المتحدة أكدوا أنَّ جميع الأفراد يستوون في الاحترام والحرمة ،وأنَّ هذا المعنى ثابت بعلم ضروري " .
لقد جاء من ضمن مبادئكم الخمسة قولكم "إنَّ القتل باسم الله مخالف للإيمان بالله ،وهو أعظم غدر لشمولية معنى الإيمان لدى البشر"
ونقول لكم: هناك فرق كبير بين قتل النفس بغير حق ،وبين قتال عدو يقاتلك وهو مغتصب لأرضك أو يريد اغتصابها منك ،وعليك أن تدافع عن نفسك ،فقتل النفس بغير حق محرم في كل الأديان ،وقد حرَّم الله قتل النفس بغير حق ،يقول تعالى : (( ولا تَقتلوا النفسَ التي حرَّم الله إلاَّ بالحق )) ( الأنعام :151)
وقتل المدنيين الأبرياء في أفغانستان والعراق والصومال والفلبين وفياتنام ،وأمريكا اللاتينية ،وشن حروب على تلك الدول بلا مبررات شرعية ،وإنَّما لفرض الهيمنة والسيطرة عليها،هو المخالف للإيمان بالله. ولكن في حالة الاعتداء على أراضي المسلمين وأوطانهم ومقدساتهم وجب على المسلمين الجهاد والقتال في سبيل الله دفاعاً عنها ،وباسم الله ،وعندئذ يكون القتال باسم الله مردداً "الله أكبر" من صميم الإيمان وليس مناهضاً للإيمان،يقول تعالى : (( وقاتلوا في سبيلِ اللهِ الذين يُقَاتِلونكم ولا تعتدوا إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المعْتَدِين)) (البقرة : 190)،وبيَّن الله عزَّ وجل أنَّ القتال فرض علينا وهو كره لنا ،ولكن لا بد من الدفاع عن ديننا وأنفسنا وممتلكاتنا وأعراضنا ،يقول تعالى : (( كُتبَ عليكمُ القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم )) ( البقرة :216)،كما نهانا عن عدم موالاة من قاتلنا وأخرجنا من ديارنا أو من يناصر على إخراجنا من ديارنا ،ووصف من يواليهم بالظالمين ،في حين جعل البر والإحسان إلى من لم يقاتلنا ويخرجنا من ديارنا أساس العلاقة بيننا وبينهم ،يقول تعالى : (( لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عنِ الذين لمْ يُقَاتِلوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّنْ دِيَارِكُمْ أنْ تَبرُّوهُم وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِم إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسُطِين.إِنَّما يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذِّينَ قَاتَلُوكُم فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلى إِخْرَاجِكُمَ أَنْ تَوَلَّوهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون.)) 0الممتحنة :8)
وما يقوم به الفلسطينيون اليوم من مقاومة للاعتداء الصهيوني هو جهاد في سبيل الله دفاعاً عن المسجد الأقصى ،وعن أراضيهم ووطنهم المغتصب ،وليس إرهاباً كما تصفه الإدارة الأمريكية والدولة الصهيونية،وإنَّ كل فلسطيني يقتله اليهود كأنهم بقتله قتلوا الناس جميعاً فقد كتب الله هذا عليهم ـ إن كانوا من بني إسرائيل كما يدَّعون ـ يقول تعالى : ((كّتَبْنا على بني إسرائيل أنَّه من قَتَلَ نَفْسَاً بغير نفس أو فسادٍ في الأرضِ فَكَأنَّما قتل النَّاسَ جميعاً ومن أحياها فكَأَنَّما أحيا النَّاسَ جَمِيعاً))( المائدة : 32)
أمَّا الذين يجاهدون في سيبل الله ويقتلون ،فهم شهداء أحياء عند ربهم مثواهم الجنة خالدين فيها،يقول تعالى : (( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتَاً بَلْ أَحَيَاءٌ عِنْدَ رَبَّهِمْ يُرْزَقُون .فَرِحِينَ بِمَا أَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ )) ( آل عمران : 169_170) .(1/391)
إنَّ القتال في الإسلام يقوم على أسس أخلاقية عادلة ،فلا يأخذ العدو على غرة ،ونهى عن قتل النساء والأطفال والشيوخ والمدنيين ،فلقد روى رباح بن ربيعة أنَّه خرج مع رسول الله صلى الله علية وسلم في غزوة غزاها ،فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بامرأة مقتولة فوقف أمامها ثمَّ قال : ( ما كانت هذه لتقاتل ! ثُمّ نظر في وجه أصحابه وقال لأحدهم (الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفاً ـ أي أجيراً ـ ولا امرأة) رواه مسلم.
ولقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه في غزوة مؤتة،وهو يتأهب للرحيل : ( ألا تقتلنَّ امرأة ولا صغيراً ضرعاً ـ أي ضعيفاً ـ ولا كبيراً فانياً ،ولا تحرقنَّ نخلاً ولا تقلعنَّ شجراً ولا تهدموا بيتاً ) ،وعن ابن عبَّاس رضي الله عنه : أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه قال : (لا تقتلوا أصحاب الصوامع)
وقد أوصى أبو بكر رضي الله عنه ـ أول خليفة للمسلمين ـ قائده أسامة بقوله : ( لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ،ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ،ولا شيخاً كبيراً ،ولا امرأة ، ولا تقهروا نخلاً ولا تحرقوه ،ولا تقطعوا شجرة مثمرة ،ولا تذبحوا شاة ،ولا بقرة ،ولا بعيراً إلاَّ لمأكلة)
كما حرَّم الإسلام الإجهاز على الجرحى والتمثيل بجثث القتلى،وعدم إصابة المدنيين ،كما حثَّ على الإحسان في معاملة الأسرى ،وجعل الإحسان إليهم علامة الإيمان ،يقول تعالى : (( ويُطْعِمون الطَّعام على حبِّهِ مِسْكِينَا وَيَتِيمَاً وَأَسِيرَاً .إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُم جَزاءاً وَلاَ شُكُوراً )) ( الإنسان: 8-9)،ولا يجوز قتلهم ،ولا جرحهم ،ولا تعذيبهم ،وحثَّ على إطلاقهم بالمن عليهم أو فدائهم بينما نجد لم تظهر اتفاقيات أو معاهدات دولية لتنظيم معاملة الأسرى إلاَّ في أواخر القرن الثامن عشر ،وبالتحديد في سنة 1875م،وقد استقي معظمها من الإسلام.
ويرتفع الإسلام بالمسلم إلى ذروة الإنسانية وأكرم آفاقها حين يأمره بأن يعمل على توفير الأمن للمشرك الخائف ،وحمايته ،وإيصاله إلى بلده ومأمنه ،وفي ذلك يقول جلَّ شأنه : ( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنْ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُون ) ( التوبة : 6)
وقد أعطى الإسلام المرأة حق إجارة لمحارب مثلها مثل الرجل تماماً ، وقصة إجارة أم هانئ رضي الله عنها لاثنين من المحاربين يوم فتح مكة تبيِّن ذلك،فعندما أراد أخوها سيدنا علي كرَّم الله وجهه قتلهما ،ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكت له ، فقال لها عليه الصلاة والسلام " ما كان له ذلك ،قد أجرنا من أجرت وأمنَّا من أمّنتِ"
هذه أحكام الإسلام في القتال، وهي أحكام ـ كما ترون ـ أخلاقية عادلة ،ولا توجد أية شريعة تضاهيها خلقاً وعدالة ،ومع هذا نجد هناك محاولات من الغرب إسقاط الجهاد وإلغاؤه ووصفه بالإرهاب ،وإلغاء حق المقاومة المشروع ليعم قانون الغاب ،فيعتدي القوي على الضعيف ،ولا يحق للضعيف الدفاع عن نفسه،لأنّه عندئذ سيصبح إرهابياً ،وبالتالي يعم العالم الظلم والغبن والقهر.
في حين يسكت العالم بأسره عن جرائم اليهود في فلسطين ،أتعلمون ما هي أخلاقيات الحرب لدى اليهود وفق التوراة الذي حرَّفوه وفق أهوائهم ،والتلمود الذي كتبه كهنتهم ،وقدسوه وعدَّوه جزءاً من التوراة؟
إنَّ فكرة الحروب عند اليهود فكرة أساسية تعبر عن علاقتهم بغيرهم من الأمم ،وهم يعتقدون أنَّهم أرقى الشعوب،وأنَّ هذه منحة ربَّانية ،أعطاهم الرب إيَّاها : ( أنتم أولاد الرب إلهكم ،لأنَّكم شعبٌ مقدس للرب إلهك،وقد اختارك الرب لكي تكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب على جميع الأرض ) "سفر التثنية :14"
ومن ثمَّ فإنَّ حروبهم تدميرية لم يحظرها دينهم الذي حرَّفوه عليهم ،بل أباحها ومجَّدها ،ولم يضع القيود عليها ،فإذا حاربوا استباحوا أعداءهم ،فقتلوا الرجال ،واستعبدوا النساء والأطفال وأحرقوا البيوت (فضرباً تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف وتحُرِّمها،بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف .تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها ،وتُحرق بالنار المدينة ،وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك فتكون تلاً إلى الأبد لا تبنى بعد )"التثنية :إصحاح13: 16-17"
وجاء في الإصحاح العشرين من نفس السفر : ( حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح ،فإن أجابتك إلى الصلح ،وفّتحت لك ،فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويُستعبد لك ، وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً ،فحاصرها ،وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف ،وأمَّا النساء والأطفال والبهائم ،وكل ما في المدينة غنيمة تغنمها لنفسك ،وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك )
هذه أخلاقيات الحرب عند اليهود،وشتَّان بين أخلاق القتال عند المسلمين وعند اليهود! ومع هذا لم توصف اليهودية قط بالإرهاب ، واليهود بالإرهابيين ،ولم يحارب التوراة والتلمود،كما يحارب القرآن الكريم والسنة النبوية ،ولم يحارب القتال عند اليهود ،بينما يحارب الجهاد في الإسلام ،ويعمل على إسقاطه ،وتغييبه حتى تدخل الغرب في توصيات أحد المؤتمرات الإسلامية وحذف كلمة جهاد منها.(1/392)
فالحرب على الجهاد في الإسلام تستهدف قتل روح الجهاد لدى المسلمين ،ليستسلموا لمن يريد السيطرة عليهم ،وعلى ثرواتهم دون أدنى مقاومة ،وليحقق اليهود الصهاينة مخططهم في تكوين دولة إسرائيل الكبرى التي تمتد من النيل إلى الفرات ومن لبنان إلى الجزيرة العربية ،تمهيداً لتحقيق سيطرتها على العالم ،كما جاء في بروتكولاتهم ؛ إذ جاء في البروتوكول الرابع عشر "حينما نمكن لأنفسنا سنكون سادة الأرض لن نبيح قيام أي دين غير ديننا، أي الدين المعترف بوحدانية الله الذي ارتبط باختياره إيانا كما ارتبط به مصير العالم، ولهذا السبب يجب علينا أن نحطم كل عقائد الإيمان، وإذ تكون النتيجة المؤقتة لهذا هي إننا ملحدون، فلن يدخل هذا في موضوعنا: ولكنه سيضرب مثلاً للأجيال القادمة التي ستصغي إلى تعاليمنا على دين موسى الذي وكل إلينا بعقيدته الصارمة ـ واجب إخضاع كل الأمم تحت أقدامنا"
وليتسنى لهم تقويض الأديان يسعون للسيطرة على المقدسات الدينية للإسلام والمسيحية. كما تبين لنا أن بروتوكولات صهيون هي امتداد لتعاليم التلمود والتوراة المحرفة، وكما جاء في بروتوكولات صهيون أنهم ليحكموا العالم لابد أن يعملوا على تقويض الأديان ومن هنا كانت بداية لمخططها التلمودي الماسوني الصهيوني لهدم الأديان.
عداء اليهود للمسيح والمسيحية:
ولنتأمل نظرة التلمود إلى المسيح عليه السلام، مما جاء في التلمود عن المسيح عليه السلام الآتي:
1ـ إن يسوع الناصري موجود في لجات العسكري بندرا بمباشرة الزنا .
ومما جاء فيه أيضاً "يسوع المسيح أرتد عن الدين اليهودي وعبد الأوثان وكل مسيحي يتهود فهو وثني عدو الله لليهودي"
ومع هذا فبنو إسرائيل الذين أرسل الله إليهم عيسى لم يؤمنوا به كما لم يؤمنوا بنبي قبله، وكادوا لعيسى وحاربوه وطاردوه ووشوا به وجاء في التلمود "قتل المسيحي من الأمور الواجب تنفيذها وان العهد مع المسيحي لا يكون عهداً صميماً يلتزم به اليهودي… إن الواجب أن يلمس اليهودي ثلاث مرات رؤساء المذهب النصراني وجميع الملوك الذين يظهرون العداوة ضد بني إسرائيل" وجاء في التلمود عن الكنائس "إن الكنائس النصرانية بمقام قاذورات وأن الواعظين فيعها أشبه بالكلاب النابحة."
ولهذا نجدهم لم يحترموا الكنائس ،فحاصروا كنيسة المهد،حيث ولد المسيح عليه السلام ،وقتلوا الراهب ،وقارع الأجراس بها ،وخمسة عشر شهيداً ،فإسرائيل لا تحترم المقدسات الدينية ؛لذا فهي ليست أهلاً أن تستولي على القدس ،بينما المسلمون يحترمون كل الأديان ،وكما رأينا كيف أنَّ الله جل شأنه بيَّن لنا في القرآن الكريم أنَّ لمعابد اليهود وكنائس وصوامع المسيحيين حرمة المساجد ،فالمسلمون هم أقدر على صيانة وحماية كل المقدسات ،وتاريخهم عبر العصور يشهد بذلك . ويكفي أنْ أذكر كيف أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعطى أهل بيت المقدس أماناً على معابدهم وكنائسهم وعقائدهم وأموالهم ،وممَّا جاء نصه في هذا العهد الآتي : ( بسم الله الرحمن الرحيم .هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان . أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها .إنَّه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقض منها ،ولا من خيرها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم ،ولا يسكن بإلياء معهم من اليهود )
هذا بعض ما جاء في عهد الأمان الذي أعطاه خليفة المسلمين الراشد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه لأهل القدس.
ثالثاً : أحداث سبتمبر ،وإعلان الحرب على كل ما هو إسلامي:
أحداث سبتمبر التي ورد ذكرها في بيانكم عشر مرات،وتبريركم بأن الحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة الأمريكية على ما أسمته بحرب الإرهاب ؛ بأنَّها حرب لابد منها ،وأنها حرب عادلة وأخلاقية ، مما حدا بأحد المثقفين العرب أن يصف بيانكم بأنَّه " بيان حرب"،ونحن نتفق معه في تسميته بهذه التسمية .
لقد سلَّمتم بأنَّ هذه الأحداث قد دبَّرها وخطط لها ونفذها تنظيم القاعدة ،رغم أنَّه إلى الآن لم توجد أدلة أكيدة تدينهم ،وأشرطة الفديو التي عُرضت لقائد التنظيم وبعض أعضائه أشرطة مزورة ،كما جاء في البيان الذي أعلنه الخبير الفني فؤاد علاَّم في القاهرة الذي أخضع تلك الأشرطة للتحليل المخبري الفني .
هذا وكما يبدو فقد استخدمت وسائل التقنية الحديثة ،كاستخدام بصمات الصوت في عمل هذه الأشرطة ،وقد ألصقت تهمة هذه الأحداث بهذا التنظيم في الساعات الأولى من حدوث الحادث من قبل القيام بأية تحقيقات ،نحن هنا لا ندافع عن تنظيم القاعدة ،ولكن الذي نقوله إنَّ هذه الأحداث تفوق إمكانية التنظيم المتواضعة،بدليل أنَّه عندما هوجم من قبل الطائرات الأمريكية لم يبد أية مقاومة ،فلقد كانت الطائرات الأمريكية تصول وتجول في الأجواء الأفغانية ،مما ينفي عن القاعدة امتلاكها لأسلحة نووية وبيولوجية وكيماوية كما ذكرتكم في بيانكم ،فإن كانت تلك الأسلحة بحوزتهم لمَ لم يستخدموها في معركة حاسمة بالنسبة لهم ،وهي معركة وجود؟
إنَّ الإدارة الأمريكية أعطت لهذا التنظيم حجماً أكبر من حجمه بكثير.
ونتيجة لهذا الحادث قد تعرض الملايين من المسلمين الذين يعيشون في أمريكا وأوربا أبَّان الأحداث إلى غضب العامة ومضايقتهم ،بل بعضهم تعرَّض للقتل ،والبعض إلى تخريب ممتلكاته ،فقد عاشوا في رعب وخوف وقلق ،وبات معظمهم ملازمين منازلهم ،ولا يخرجون منها إلاَّ للضرورة ،ولا يستطيعون استخدام وسائل المواصلات العامة،إضافة إلى تعرض أي عربي يسافر إلى بلد أوربي أو أمريكي ،أو حتى آسيوي إلى الاعتقال والاستجواب ،أي أصبح جميع العرب ولا سيما السعوديين عرضة إلى الاعتقال والاستجواب!(1/393)
إنَّ أحداث الحادي عشر من سبتمبر متورطة فيها المخابرات الأمريكية مع الموساد ،وألصقوها بتنظيم القاعدة لينفذوا المخطط الذي وضع قبل أحداث سبتمبر ،وبالتحديد عام 1993م ، أي منذ إعلان بريماكوف وزير خارجية روسيا ؛إذ كشف أحد المحللين السياسيين العرب أبعاد المخطط الأمريكي للسيطرة على أفغانستان ،فقال: لقد أعلن "بريماكوف وزير خارجية روسيا أنَّه بعد سقوط الاتحاد السوفيتي لابد من إنشاء تحالف استراتيجي بين روسيا والصين والهند للقضاء على تغلغل الولايات المتحدة في آسيا،وكلها دول نووية ،فرأت الإدارة الأمريكية أنَّه لابد من السيطرة على أفغانستان قلب هذا المثلث هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنَّ الثروة النفطية التي ظهرت في بحر قزوين وآسيا الوسطى وأفغانستان،وقد صرَّح وزير الطاقة الأفغاني في حكومة طالبان السيد " أحمد جان" بأنَّه توجد في أفغانستان إمكانات نفطية وغاز طبيعي ،فدعته شركة النفط الأمريكية " يونوكال"،لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية ،واهتمت به لإقناعه بإعطائها حق التنقيب ، ومد خط أنابيب البترول ،ولكن الملاَّ عمر رفض إعطاء هذا الحق لشركة أمريكية ،فرأت الإدارة الأمريكية إزالة حكم طالبان ،والإتيان بحكومة عميلة لها ،فتنقب الشركات الأمريكية عن البترول وتمد خط أنابيب البترول،والأمر الثالث فإن أأمن الطرق وأقصرها لخط أنابيب بترول بحر قزوين يمر بأفغانستان وينتهي بشواطئ باكستان .
لهذه الأسباب جميعها إضافة إلى محاربة الإسلام والقضاء عليه ،كانت أحداث سبتمبر ،وكان إعلان الإدارة لأمريكية الحرب ضد الإرهاب والبدء بأفغانستان ،وأيضاً لتكون لها قواعد عسكرية في المنطقة التي بها دولاً تملك سلاحاً نووياً وهي الصين والهند والباكستان ،وأيضاً لتكون قريبة من إيران وكوريا الشمالية اللتين اعتبرتهما الإدارة الأمريكية من قوى الشر الثلاثة في العالم،ولتقضي تماماً على البقية الباقية في العراق بضربها بالطائرات والصواريخ إلى أن تضمن عدم وجود مقاومة فتنزل بربع مليون جندي لينتشروا داخل العراق لتفتيته إلى دويلات صغيرة على أساس عرقي ومذهبي لتتناحر فيما بينها،وهذا ما ذكره السيد "جورج جلاوي" G.Gallaway عضو البرلمان البريطاني في حديث له لقناة الجزيرة ،ولتقوم أمريكا بحملتها على الإسلام والقضاء على حزب الله في لبنان بدعوى أنَّه إرهابي،والقضاء على الجمعيات الخيرية الإسلامية ،وتجفيف مصادرها بتجميد أموالها في البنوك معلنة حرباً شرسة على الإسلام تنفيذاً لمخطط وضع في الستينيات من القرن الماضي عندما أعلن بابا الفاتيكان في المجمع المسكوني الذي عقد عام 1965م باستقبال الألفية الثالثة بلا إسلام ،وقد أعلن نائب الرئيس الأمريكي في حفل الأكاديمية البحرية بولاية ماريلاند عام 1992أنهم أخيفوا في هذا القرن من ثلاث تيارات،وهي النازية والشيوعية والأصولية الإسلامية ،وتمكنوا من الخلاص من النازية والشيوعية ،ولم يبق أمامهم سوى الأصولية الإسلامية،فما أعلنه الرئيس الأمريكي أعقاب الأحداث قيام حرب صليبية على الإسلام لم تكن زلة لسان ،وإنَّما هي بالفعل حرباً صليبية ثانية على الإسلام ،وكل الشواهد والأحداث تثبتُ ذلك ،هذا من جهة أهداف الولايات المتحدة الأمريكية من افتعال تلك الأحداث .
أمَّا من جهة الموساد والصهيونية العالمية ،فاليهود والصهاينة يخططون لتقويض الأديان ليسيطروا على العالم وفق ما جاء في بروتوكولاتهم ،وما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية من محاربة كل ما هو إسلامي ،حتى التدخل في المناهج الدينية في البلاد الإسلامية لإلغائها يحقق هذا الهدف الصهيوني ،وأيضاً ما حدث من اجتياح شارون لأراضي السلطة الفلسطينية في أواخر شهر مارس عقب قمة بيروت بحجة محاربة الإرهاب والقضاء عليه دليل كاف ،فما قام به أرائيل شارون في فلسطين من تنفيذ مخططه في تصفية جميع عناصر المقاومة في فلسطين بدعوى أنَّهم إرهابيون يجب القضاء عليهم ،ومحاصرة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات،ولا يُفك حصار الرئيس عرفات إلاَّ بأمر من الرئيس الأمريكي يؤكد أنَّ هناك مخططاً مرسوماً شارك فيه الصهاينة مع المخابرات الأمريكية،ولعلّ ما أثير مؤخراً في الولايات المتحدة حول علم الرئيس بوش بتعرض الولايات المتحدة الأمريكية لعمليات إرهابية يؤكد أنَّ هذه العملية مدبرة ،وممّا يؤكد ذلك أيضاً الآتي :
1- عدم مساءلة وزير الدفاع الأمريكي ورئيس المخابرات الأمريكية ،ورئيس الولايات المتحدة نفسه ؛إذ كيف يضرب مبنى وزارة الدفاع،وبعد ثلث ساعة من ضرب البرجين ،ولم تتخذ وزارة الدفاع أية إجراءات دفاعية تجاه الطائرة المتجهة إلى مبناها ،مع أنَّها منطقة محظور الطيران فيها ،ولم تتنبه أجهزة الرادار ،ولم تعلم بالعملية المخابرات الأمريكية ،معنى هذا أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية بكل ثقلها وهيمنتها وقوتها لا تملك القدرة على صد أي هجوم عليها ،فهي تقف على أرض هشة ! ألا يستدعي هذا مساءلة كل الأطراف المعنية ؟وإقالة وزير الدفاع الأمريكي ورئيس المخابرات الأمريكية ،بدلاً من أن يسند إلى الأخيرة التحقيق في هذه الأحداث ؟ هل فضيحة الرئيس الأمريكي جونسون في وتر جيت التي أدت إلى استقالته من الحكم أخطر على الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية من أحداث سبتمبر؟ وهل فضيحة الرئيس كلنتون مع مساعدته في البيت الأبيض " مونيكا" أخطر على أمن الولايات المتحدة الأمريكية من أحداث الحادي عشر من سبتمبر حتى يقدم الرئيس كلنتون للمساءلة بشأنها ،في حين لم يُساءل الرئيس الأمريكي "جورج بوش" عن القصور الذي حدث نتيجة هذه الأحداث ؟(1/394)
نحن في بلادنا عندما حدث حريق في أحد مدارس البنات المتوسطة بمكة المكرمة ،ومات على إثره ثلاثة عشر طالبة أحيل الرئيس العام لتعليم البنات إلى التقاعد ،وألغيت الرئاسة العامة لتعليم البنات ،ودمج تعليم البنات مع وزارة المعارف المسؤولة عن تعليم البنات !
وفي مصر عندما حدث حريق في بعض عربات قطار الصعيد وتوفي حوالي ثلاثمائة وخمسين راكباً ،أُقيل على إثره وزير المواصلات !بينما يتعرض أكبر برجين تجاريين في العالم مع مبنى وزارة دفاع أكبر قوة في العالم إلى مثل ذاك الهجوم ،ولا يقال وزير الدفاع الأمريكي من منصبه ،وكذلك رئيس المخابرات الأمريكية الذي لم يُحقق معه ،وإنَّما يسند إليه التحقيق في الحادث ؟؟
هذه تساؤلات ينبغي أن نتوقف عندها .
2- ما كشفه أحد المواقع الفرنسية في الإنترنت عن تورط 120 إسرائيلياً في عملية تجسس على الولايات المتحدة الأمريكية متخفين في هيئة رسَّامين تشكيليين ،وتبيَّن تورط بعضهم في أحداث سبتمبر ،ولم تتخذ السلطات الأمريكية حيالهم أية إجراءات قانونية ضدهم ،واكتفت بإخراجهم سراً من البلاد .
3- عدم حضور أكثر من أربعة آلاف يهودي يعملون في المركزين التجاريين يوم الحادث ،يؤكد أنَّ الحادث مدبراً من قبل الموساد.
4- ما أعلنه أحد المسؤولين الأمريكان في محاضرة حضرها ألف أمريكي أثبت فيها أنَّ الحادث مدبراً ،وأنَّ العرب والمسلمين لا دخل لهم فيما حدث.
5- السعوديون الذين نسب لهم المشاركة في عمليات التفجير ،وأنهم هم الذين قادوا تلك الطائرات ثبت ما أعلنته المخابرات الإيرانية من أن بيانات شركات الطيران بأسماء ركاب للطائرات المختطفة لم يكن بها أسماء لركاب سعوديين ،ثم أضيفت فيما بعد إلى قوائم الركاب أسماءٌ لسعوديين الذين وُجّهتُ لهم الاتهامات،وتبيَّن أنَّ من هؤلاء من توفاه الله قبل الحادث بسنوات ،ومنهم من يعيش في السعودية أثناء الحادث ،وأنَّ هؤلاء قد فقدوا جوازات سفرهم ،وهذا يؤكد أنَّ جوازات سفرهم سرقت منهم لإلصاق العملية بهم ،والهدف من جعل تسعة عشر سعودي يقومون بهذه العملية ،هو الادعاء أنَّهم ينتمون إلى تنظيم القاعدة الذي يديره ويرأسه "أسامة بن لادن" الذي كان يحمل الجنسية السعودية ليقضوا على هذا التنظيم هذا أولاً ، وليتمكنوا من أفغانستان هذا ثانياً ،وليبرروا هجومهم السافر على الإسلام هذا ثالثاً ،وليبرروا أيضاً الهجمة الشرسة التي شنتها الصحافة الأمريكية الصهيونية على المملكة العربية السعودية ،هذا رابعاً ،وليعطوا لأنفسهم الحق في التدخل في المناهج الدينية التي تدرس في المملكة بدعوى أنَّها تفرغ الإرهاب ،هذا خامساً.
6- تبين من تقارير خبراء الطيران ،أنَّ الطيران في منطقة ناطحات السحاب بصورة خاصة تحتاج إلى مهارة خاصة في الطيران ،لكثرة التعريجات والمنحيات التي ينبغي على الطائرة تلافيها ،إضافة إلى ما أكَّده زعيم عربي ،وهو طيَّار حربي سابق ،أنَّ ضرب البنتاجون على هذا المستوى المنخفض يحتاج إلى طيَّار حربي ماهر وتدريب خاص على المنطقة ذاتها أو ما يشابهها ،والتقارير التي أعلنتها الإدارة الأمريكية عن السعوديين والعرب الذين اتهموا بتورطهم في الأحداث تبين أنهم لم يبلغوا العشرين ربيعاً ،كما تبين مدى تواضع التدريبات التي تلقوها على الطيران ،وكذلك تواضع نوعية الطائرات التي تدربوا عليها ،بل ذكرت في بعض التقارير أنَّ الواحد منهم كان يتلقى تدريبه ،ثمَّ يقوم هو بتدريب زملائه.
7- وجود في الطائرات المختطفة طيَّارين أمريكيين ممن شاركوا في الحرب الفياتنامية،فلم لم يوجه إلى هؤلاء تهمة التفجيرات ؟ ثُمَّ لماذا وجد هؤلاء الطيارون الأربع في الطائرات المختطفة ؟ هل كان وجودهم بمحض الصدفة ؟
8- اختفاء الصناديق السوداء للطائرات المختطفة ،أو القول بتلفها ـبعدما أعلن عن العثور عن بعض ما في تلك الصناديق ـ في حين لم تتلف جوازات سفر السعوديين الذين اتهموا بالتفجيرات ،وكذلك لم تتلف الأوراق المكتوب فيها بعض الأدعية .
9- لقد صدر مؤخراً كتاب في فرنسا جاء فيه أنَّ البرجين قد فجرا "بالرمونت كنترول ،وأنَّ المتفجرات كانت موجودة في أسفل البرجين لأنَّه لو تفجَّرت من أعلى لما تفجر الجزء السفلي،وهذه النظرية يؤيدها ما حدث للبرج الذي اخترقته الطائرة الإيطالية في نابولي ،فالمبنى لم يدمر فيه ولا طابق ،وكان الدَّمار الذي لحق به ،هو مجرد تحطيم واجهات جزء من المبنى ،وتحطيم زجاج ،نوافذ ذلك الجزء.(1/395)
10- عجز الإدارة الأمريكية عن تقديم أدلة وبراهين تثبت أنّ من العرب والمسلمين متورطين في هذه الأحداث ،أمَّا عن الأشرطة المرئية التي نسبتها إلى بن لادن وتنظيمه، فهي أشرطة مزيفة كما قرر الخبراء المختصون،وقولها بوجود أدلة سرية قول مردود ،لا توجد أدلة سرية في أية قضية من القضايا ،وخاصة كقضية دولية مثل هذه القضية التي ترتب عليها إشعال فتيل الحرب على دول وشعوب مستضعفة لا حول لها ولا قوة ،ولا ذنب لها في كل ما تخططه الولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها إسرائيل للقضاء على الإسلام والسيطرة على مدخرات الشعوب العربية والإسلامية ،ومساعدة اليهود في تحقيق مخطط دولتهم التي تمتد من النيل إلى الفرات ،ومن الأرز إلى النخيل.وأمَّا الذين يتساءلون كيف تدمر الولايات المتحدة الأمريكية أكبر مركزين تجاريين لديها ،وتقتل الآلاف ،وتضرب مبنى وزارة دفاعها؟ ،نقول هنا إنها ضحت بالقليل من أجل الكثير ،فهي تريد بترول الخليج وبحر قزوين ،ومناطق نفوذ في آسيا الوسطى ،وإيجاد حكومات عميلة لها ولإسرائيل في فلسطين والعراق ،وغيرهما من الدول العربية المخطط ضربها ،وفي سبيل القضاء على الإسلام ،ألم يقل الحاخام اليهودي رابي ديفيد وايس الناطق الرسمي لحركة ناطوري كارتا في برنامج "بلا حدود " في قناة الجزيرة أنّ الصهاينة يفجرون المعابد اليهودية بأنفسهم ،وينسبون ذلك إلى العرب والفلسطينيين ليقولوا لليهود وللعالم أنَّ العرب إرهابيون يكرهونهم وأنهم يدمرون معابدهم.
ولعلَّ تفجير المعبد اليهودي في تونس من تدبير الموساد،وإلصاق هذه العملية بالعرب ،وأنَّها عملية إرهابية لصرف الأنظار عن حصار وضرب شارون لكنيسة المهد وقتل الرهبان،ولتأليب الرأي العام العالمي ضد الفلسطينيين والعرب بعدما أبدى تعاطفه معهم؟فهذا دأبهم ،وهذا ديدنهم.
نحن هنا ندعوكم أن تتأملوا في هذه الأسباب ،وأن تفكروا فيها بجدية ،وأنَّكم قبل أن تعلنوا أنَّ الحرب المعلنة على الدول الإسلامية لمقاومة الإرهاب ـ وكأن العالم كله يخلو من الإرهاب ،ولا يوجد إرهاب إلاَّ في دول الإسلام ـ بأنَّها حرب أخلاقية عادلة ولابد منها أن تطالبوا بمساءلة هؤلاء المسؤولين ،فأين هم حتى تتعرض أكبر قوة في العالم إلى مثل هذا الهجوم ،وكأنَّها دولة نائمة ضعيفة لا تملك أية وسيلة لحماية نفسها من أي هجوم تتعرض له ،وهجوم من قبل أفراد وليس دول،وكأنِّي بها حكومة طالبان التي لم تقاوم الصواريخ والطائرات الأمريكية !!!
ونود هنا أن نصحح لكم معلومة ،وهي أن تنظيم القاعدة لم يؤسس منذ عشرات السنين كما ذكرتم في بيانكم،وإنَّما لم يمض علية عقدين من الزمان ،وكانت الولايات المتحدة وراء تكوين هذا التنظيم ودعمه لأنَّه كان يخدم أهدافها في القضاء على الاتحاد السوفيتي ،وبعدما نفذّ مهمته،وأصبح يشكل خطراً على مصالحها ،أصبح تنظيماً إرهابياً ،بل أصبح العدو الأول للولايات المتحدة الأمريكية.
كما ندعوكم مراجعة ما جاء في بيانكم عن وصف حرب الولايات المتحدة الأمريكية على الإرهاب أنها حرب عادلة .
فأين العدل في هذه الحرب ،وقد أعلنت على الشعب الفلسطيني الأعزل ،وهل مقاومة الاحتلال ،والجهاد في سبيل التحرر يعد إرهاباً ؟إن كان كذلك فهذا يعني أنَّ كفاح الشعوب ضد الاستعمار والاحتلال إرهاب أي أنَّ كفاح الشعب الأمريكي للتحرر من الاستعماريْن البريطاني والفرنسي إرهاب ،وكفاح الشعب الفرنسي ضد الاحتلال النازي إرهاب أيضاً،وبهذا المنطق الأمريكي يكون الأمريكان أنفسهم والفرنسيون في مقدمة الإرهابيين وبالتالي يعني أيضاً إباحة الاحتلال والاستعمار !!
وأين العدل في محاربة الإرهاب ،وهناك جماعات إرهابية مسيحية ،ويهودية في داخل الولايات المتحدة ،وفي بريطانيا ،وفي اليابان ،وفي إيطاليا،وفي أسبانيا ،وفي كثير من الدول الأوربية ،فلماذا الدول الإسلامية هي المستهدفة ؟ أليس هذا يؤكد أنَّ أحداث سبتمبر مفتعلة؟
وأين العدل في ترويع الملايين من الأفغان،وخروجهم من بلادهم في البرد القارص ليعيشوا في خيام كلاجئين وتقفل أمامهم كل الحدود،وقتل الألوف من المدنيين الأفغان من شيوخ وأطفال ونساء ،وهم لا يعلمون من هو بن لادن ،ومن هي أمريكا ؟ إنَّ 70% من الشعب الأفغاني أميون لا يقرأون ولا يكتبون ،وكفاهم معاناة من حروب على مدى 25 عاما ،وجاءت الحرب الأمريكية التي وصفتموها بالأخلاقية والعادلة لتقضي على البقية الباقية من هذا الشعب الفقير الذي بات لا يجد اللقمة التي يأكلها.
إنّ الدين الإسلامي المتهم بالإرهاب من قبل الصحافة الغربية التي تسيرها الصهيونية العالمية ،ومن قبل أحد موقعي هذا البيان ، يُحرِّم في حالة الحرب قتل المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ وهدم البيوت وقطع الأشجار ،ويحرَّم قتل أصحاب الصوامع ، كما سبق الإسلام القانون الدولي كثيراً في أحكام الحروب ،كعدم مباغتة العدو وأخذه على غرة فلقد ثبت أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقاتل قوماً قبل أن يدعوهم إلى الإسلام ،أو دفع الجزية ،فإن امتنعوا قاتلهم ،وكذلك عدم قتال المدنيين من النساء والشيوخ والأطفال من أهالي المحاربين لهم ،وعدم تدمير منازلهم وحرق نخيلهم ،وقد سبق الإشارة إلى ما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم جيشه في غزوة مؤتة ،وكيف حرَّم الإسلام الإجهاز على الجرحى والتمثيل بجثث القتلى،وعدم إصابة المدنيين ،كما حثَّ على الإحسان في معاملة الأسرى ،وجعل الإحسان إليهم علامة الإيمان ،فكيف تكون الحال في السلم؟
لقد أمرنا أن تكون مناظراتنا مع أهل الكتاب بالتي هي أحسن ،يقول تعالى : (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاَّ بالتي هي أحسن ))(1/396)
ونهانا عن سب عقائد المخالفين لديننا ،يقول تعالى : ( ولاَ تَسُّبُّوا الَّذين يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُّبُّوا اللهَ عَدْوَاً بِغيْرِ عِلم )
وجعل لأماكن عبادات اليهود والمسيحيين حرمة كحرمة المساجد يجب حمايتها والدفاع عنها،وليس ضربها بالطائرات والصواريخ كما فعلت أمريكا بضربها المساجد في أفغانستان يقول تعالى : ( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدَّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيها اسْمُ اللهِ كثيراً)
وقد حفظ الإسلام لأهل الذمة حقوق المواطنة والجنسية ،والذميون أولئك الذين كانوا من سكان البلاد التي فتحها المسلمون ،وفضَّلوا البقاء فيها فدخلوا في ذمة المسلمين ،وقد حفظ الإسلام لهم حريتهم في ممارسة عباداتهم وعقائدهم ،ولهم أن يتمتعوا بكل الحقوق في العلم والعمل والتجارة والكسب والتنقل مثلهم مثل المسلمين تماماً.
وأوجب الإسلام حماية الذِّمي ،فدمه وماله مصونان ،وحريته وكرامته محترمتان ،وقد أكَّد الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا في أحاديث منها : ( من آذى ذمياً فأنا خصمه يوم القيامة ،ومن خاصمته خصمته.)
كما أنَّ الخليفة عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه كان يسأل عمال أوَّل من يسألهم عن أحوال أهل الذمة ،وكيف أنَّه أمر بضرب ابن والي مصر عمرو بن العاص رضي الله عنه لأنَّه أساء إلى ذمي ،ثُمَّ قال قولته الخالدة ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟)
فهذه أخلاق الإسلام وقيمه في تعامله مع أهل الكتاب في السلم والحرب الذي يُتهم بالإرهاب والعنف .
فأين العدل في ضرب القوات الأمريكية المساجد في أفغانستان ،وانتهاك حرمات بيوت الله ،وقتل المصلين بها ؟
أين العدل في معاملة الأسرى ،فالمتهم الأمريكي يحاكم محاكمة عادلة في الولايات المتحدة الأمريكية بذات التهمة المتهم فيها الأسرى المسلمون في جوانتنامو ،الذين يعاملون معاملة أدنى من معاملة الحيوانات،بل الحيوانات المفترسة مكرَّمة لديكم أكثر منهم ،ويجعلونهم منكسي الرؤوس إذلالاً لهم ،ولم تطبق قوانين معاملة الأسرى عليهم ،نحن لسنا مع تنظيم القاعدة ،ولكن هؤلاء الأسرى بشر ومسلمون ،ومنهم أولاد لأسر عربية ومسلمة ،فهم مسلمون في النهاية ،كما نحن بصدد عدالة الحروب وأخلاقياتها ،فالرسول صلى الله عليه وسلم الذي وصفه السيد صموئيل هنتنتجتون ـ وهو أحد موقعي بيانكم ـ بالقسوة والعنف لقد أحسن معاملة أسرى بدر ،وهم من كفار قريش الذين اضطهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين ،وعذَّبوهم ،وحاصروا الرسول عليه الصلاة والسلام وبني هاشم رجالهم ونساءهم وأطفالهم ثلاثة سنوات، وأخرجوهم من ديارهم وأجبروهم على الهجرة إلى الحبشة ،وحرَّضوا القبائل على الرسول ثم هاجر الرسول والمسلمون من مكة إلى المدينة بعدما تآمروا على قتل الرسول عليه الصلاة والسلام تاركين أموالهم وممتلكاتهم،وجعل فداء الأسرى أن يقوم كل أسير ممن يعرف الكتابة تعليم عشرة من فتيان المدينة الكتابة ،فلم يعذبهم ،ولم يضطهدهم ،مع أنَّهم وثنيون لا يؤمنون بالله .
وأين العدل والأخلاق عندما قتلت القوات الأمريكية مع القوات البريطانية في5 نوفمبر م العام المنصرم في قلعة "جانجي " في مزار شريف في أفغانستان 450أسيراً مكبلين من خلف ظهورهم ،وهؤلاء قد سلَّموا أنفسهم للأمم المتحدة وليس للولايات المتحدة وقد نقلت صورهم القناة الثانية الفرنسية ،وشهد هذه المذبحة بعض مراسلي الصحف منهم مراسل"سندي تايميز الذي وصفها بأنها كانت على قدر كبير من الوحشية ،وقد اعتبر هذه المذبحة السيد رمزي كلارك وزير العدل الأسبق الأمريكي بأنّها جريمة حرب،وذكر أنَّه لم يحقق في هذه الجريمة لأنّ الكل يخشى أن يوصف بالإرهاب إن دافع عن حقوق هؤلاء الأسرى؟
وأين العدل والأخلاق عندما قتلت الإدارة لأمريكية في حربها لأفغانستان في الفترة من 7أكتوبر إلى3 ديسمبر عام 2001م (3767 )قتيلاً من الأطفال والنساء والشيوخ والعزل من المدنيين ،هذا ما ذكره البروفسور الأمريكي "مارك دبليو هيرالود من جامعة نيوهامسشير "،إضافة إلى تدمير آلاف القرى ،وهدم المنازل ،وخروج الملايين من بلادهم بحثاً عن الأمان؟
لقد قلتم في بيانكم إنَّ المبرر الأخلاقي للحرب هو صيانة الأبرياء من الضرر الأكيد،وهنا نسأل ما ذنب الملايين من الأبرياء الذين سيذهبون ضحية لهذه الحرب التي لا يعلم مداها إلاَّ الله ،والتي كما يبدو من بيانكم أنَّها ستشمل الدول الإسلامية التي يوجد بها تنظيم القاعدة ؟
إنَّ الولايات المتحدة في حروبها السابقة قد قتلت أكثر من سبعة ملايين من البشر ، منهم ثلاثة مليون ونصف في كوريا الشمالية ، ومليون في الفلبين،وبقال أنها حرب مع أسبانيا ،ولكنَّها كانت مع الفلبينيين ،ومليون في فيتنام ومليون ونصف في العراق أكثرهم من الأطفال في سن الخامسة،،وأنَّ الولايات المتحدة كان لها أكثر من75 تدخلاً عسكريا في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية منذ عام 1945إلى الآن ، هذا ما صرَّح به وزير العدل الأمريكي الأسبق السيد رمزي كلارك الذي أمضي 25 عاماً وهو يتنقل بين دول العالم التي كانت ضحية حروب أو حصار الولايات المتحدة الأمريكية ،وذلك في حديث له في قناة الجزيرة،وقال أيضاً :" لقد أعلنت الإدارة الأمريكية أنَّ القتلى في بنما أقل من مائة بينما كانوا 2500 ،كذلك القتلى في جراندا كان العدد أكبر مما ذكرتهم ،فما تقوم به الإدارة الأمريكية هو أعمال انتقامية ضد السكان ،وأصبح الآن لا يوجد بلد في العالم يشعر بالأمان، لأنّ الإدارة الأمريكية لا تحترم القوانين. "(1/397)
فيا ترى كم من ملايين البشر سيكونون ضحية هذه الحرب من بني الإسلام ،وذلك في سبيل القضاء على عدو مبهم غير معروف؟وكم من المليارات من الدولارات التي سوف تخسرها الشعوب الإسلامية من الدمار الذي سوف تلحقه بها هذه الحروب ؟وكم من ملايين البشر الذين سوف يصابون بأمراض خطيرة كالسرطان من جراء ما ستحدثه هذه الحروب من تلوث بيئي نتيجة آلاف الأطنان من المتفجرات التي سوف تقذف في أراضيها ؟ وكم من ملايين البشر الذين سوف يصابون بأمراض نفسية من جراء ما ستخلفه هذه الحروب من مآسٍ ؟وكم من المليارات من الدولارات التي سيدفعها الشعب الأمريكي من قوت يومه في هذه الحرب، ولن تنجح في القضاء على هذا العدو المبهم ،فهي الآن لم تتمكن من زعيم التنظيم ،ومن رئيس طالبان ،كما سبق وأن فشلت في القضاء على صدام حسين ،وهي الآن تبرر ضربها للعراق لإسقاط نظام صدام ،مع أنَّ هذا الأمر يعد شأناً داخلياً ،ويخالف القوانين الدولية ،ولكن الإدارة الأمريكية هي وإسرائيل سواء يعتقدان أنَّهما فوق القانون.
وبعد كل هذا هل تعتقدون أنَّ حرب الإرهاب التي أعلنتها الإدارة الأمريكية ،والتي تستهدف إعلان الحرب على الإسلام والدول الإسلامية هي حربٌ لصالحنا نحن المسلمين؟وأنَّها حرب عادلة ،وحرب أخلاقية ،وأنَّ مبرراتها ذات جدوى ومقنعة لذوي الفكر والرأي أمثالكم؟
ألا تعلمون أنَّ مائتين من أساتذة القانون الأمريكان من جامعة " ييل "قدَّموا مذكرة تعبر عن عدم رضاهم عما تقوم به الإدارة الأمريكية في حربها على الإرهاب ،مبينين أن في ذلك مخالفة للقوانين الدولية، في حين أنّكم تصفونها بأنها حرب أخلاقية عادلة؟
وهل تعتقدون أنَّ المثقفين المسلمين إلى هذه الدرجة من السذاجة والبلاهة والغباء حتى يقتنعوا من أنَّ الحرب الأمريكية على الإسلام والمسلمين لتحقيق مصالحها بدعوى محاربة الإرهاب لصالحنا،وكل هذه الحقائق مكشوفة أمامهم ؟؟
للأسف أنَّكم ضحية إعلام مضلل تسيره وتسيطر عليه الصهيونية العالمية ،لأنّ هذا يخدم مصالحها ،يقول السيد رمزي كلارك في حديثه لقناة الجزيرة حول هذا الموضوع : " إنَّ الشعب الأمريكي ضحية تلاعب وسائل الإعلام الأمريكية ،إنَّ المجتمع الأمريكي مجتمع مادي ،ويخشى كل واحد أن يفقد وظيفته ،فنخاف ونصدق ما تقوله الحكومة لنا من أنَّها ضد الشر والإرهاب ،والإعلام يدفع إلى الجنس والعنف ،والشعب الأمريكي لا يدرك ما هو حاصل ،وكثر هم الذين لا يريدوا أن يعرفوا لأنَّهم لو عرفوا فسوف يتألمون ،يقال إنَّنا دولة ديمقراطية ،ولكن الحقيقة ليست كذلك، فالفرد يشعر بالعجز والتحجيم بسبب تركز القوة الاقتصادية في يد فئة معينة".
رابعاً: موقفنا من سياسة الإدارة الأمريكية تجاه إسرائيل ،وتجاه الدول الإسلامية ما فيها الدول العربية ،وفي حربها على ما أسمته بالإرهاب:
" لقد جاء في بيانكم لا تشرع الحرب في مواجهة الخطر أو القليل المشكوك فيه ،ولا في مواجهة الخطر الذي يمكن إزالته بطريقة المفاوضة أو الدعوة إلى العقل أو الشفاعة أو غيرها من الطرق السلمية ،لكن عندما يكون الخطر على حياة الأبرياء خطراً حقيقياً يقينياً فحينئذ يكون اللجوء إلى استخدام القوة مبرراً أخلاقياً لا سيما عندما يكون الدافع للمعتدي هو العداوة المتصلبة حيث لا يستهدف الحوار ،ولا الامتثال لأمر ما ،وإنَّما يهدف الدمَّار"
وهذه حال الشعب الفلسطيني مع إسرائيل ففي اليوم التالي الذي أعلنت فيه قمة بيروت اعتماد المبادرة السعودية للسلام ،ردَّت إسرائيل باجتياح أراضي السلطة الفلسطينية ومحاصرة الشعب الفلسطيني ورئيسه ،وقتل الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ وهدم البيوت على سكانها ،ويعتبر الشعب الفلسطيني بأكمله من المدنيين ،فهو شعب أعزل لا يملك سلاحاً ،والذي يهرَّب له السلاح من إخوانهم العرب من الدول المجاورة يتعرضون للسجن ويحاكمون ،ويحكم عليهم بالسجن سنين طويلة ،ولكنكم للأسف الشديد في الوقت الذي تبيحون لدولتكم حربها ضد ما أسمته إرهاباً تُحرَّمون على الشعب الفلسطيني حق الدفاع عن نفسه ،وتصفون جهاده ومقاومته بالإرهاب ،وتمارس الإدارة الأمريكية ضغوطها على الحكومات العربية لتدين العمليات الاستشهادية في فلسطين ،وهي تكاد الوسيلة الوحيدة التي يمتلكها الشعب الفلسطيني في مقاومته ،فهو لا يمتلك ولا دبابة واحدة أمام مئات الدبابات التي يجتاح بها أراضيه عدوه المغتصب أرضه ،ولا يمتلك طائرة مروحية واحدة أمام ألوف المروحيات التي يمتلكها عدوه ،والتي يقذف منها مئات القذائف،وهو لا يملك السلاح الذي يصدها به ،ولا يملك صاروخاً واحداً ،وإسرائيل،تملك ألوف الصواريخ ،وهي تحارب الفلسطينيين بأسلحة أمريكية،فلم يجد أطفالهم وسيلة للمقاومة إلاّ الحجارة ،ولم يجد شبابهم من النساء والرجال سوى جعل أجسادهم قنابل بشرية تفجر نفسها في العدو ،وقد أجمع علماء الإسلام وفقهاؤه أنَّ هذه العمليات هي أعلى مراتب الاستشهاد.(1/398)
إنَّ اليهود في إسرائيل جميعهم مغتصبي أراضي وديار الفلسطينيين ،وقد جاءوا من شتى بقاع العالم وهم يعلمون بأنَّ لا أرض لهم ولا دار ،وأنهم سيأخذون الأراضي والديار من فلسطينين يقتلون أو يطردون ويبعدون من أراضيهم وبيوتهم،فاليهودي أتى إلى فلسطين وهو يعلم بأنَّه لص ،جاء إلى فلسطين ليسرق بيت وأرض الفلسطيني ، وأيضاً جاء وهو يعلم أنَّه سوف يجند في الجيش الإسرائيلي ،وأنَّه سيكون في أية لحظة جندياً في هذا الجيش ،فلا يوجد مدنيون يهود في فلسطين كلهم عسكريون نساءً ورجالاً في ملابس مدنية وفي أية لحظة سوف يدعون للقتال ،سيخلعون الملابس المدنية ويرتدون الملابس العسكرية ،أقربها العشرون ألف احتياطي الذين دعاهم شارون للقتال عند اجتياحه الأخير لأراضي السلطة الفلسطينية ، هؤلاء الجنود قبل الاستدعاء كانوا يرتدون الملابس المدنية ،وبعدها بساعات تحولوا إلى عسكريين بارتدائهم الملابس العسكرية ،فهم لصوص يجوز قتلهم ،إنَّ أي واحد منكم لو داهم بيته لصاً ليسرقه ،ويستولي على بيته هل يقاتل هذا اللص ،أم يستسلم له ،ويقول له خذ داري وأرضي فانعم بها ،أما أنا فأعيش مشرداً ذليلاً ،لأنَّني لا أستطيع قتالك، فقتلي لك يعد إرهاباً ،وهذه جريمة كبرى في نظر الإدارة الأمريكية يعاقبني المجتمع الدولي عليها بأمر من تلك الإدارة !!
هل هذا منطق ؟
إنَّه منطق الغاب ،وهو الذي تريد إدارتكم أن تفرضه على العالم باعتبارها القوة الأوحد،وفاتها أنَّ الله عزَّ وجل ،وهو الأقوى منها ،وقادر في أقل من طرفة عين أن يذهب بكل قوتها،كما فعل بكل الطغاة المتجبرين.
إنَّ الإدارة الأمريكية تُدعم بالأموال والسلاح حروب إسرائيل ضد الفلسطينيين وقتلهم من قيمة الضرائب التي يدفعها الشعب الأمريكي ليقدم له العلاج والتعليم ،وكل الخدمات التي يحتاجها والذي يوجد 35 مليون منه تحت خط الفقر،وتدفع أمواله لإسرائيل لتقتل بها الفلسطينيين الأبرياء!
إنَّ الإدارة الأمريكية في تدخلاتها العسكرية دائما تناصر الطغاة والديكتاتوريين على شعوبهم المستضعفة،وقد كشف عن هذه الحقائق السيد رمزي كلارك ،وزير العدل الأمريكي الأسبق في حديثة للجزيرة؛إذ قال "في عام 1953م أعدنا الشاه إلى الحكم ،وكانت مأساة عظيمة للشعب الإيراني ،،وفي الكونغو وجنوب وسط أفريقيا جعلنا موبوتو في الحكم الذي حرم الشعب من ثرواته 37 عاماً،،وفي شيلي أسهمنا في قتل سليفادور ،وأمسكنا الحكم للجنرال "بنشي" السلطة حكم البلاد بقبضة من حديد وأسميناه معجزة ،لأنَّه كان يخدم مصالحنا الاقتصادية،وفي الفلبين أعدنا ماركوس الدكتاتوري للحكم "
وهاهي الآن تناصر إسرائيل ،وتصف شارون الذي أحدث مذابح " صبرا وشاتيلا،في الثمانينات من القرن الماضي ،ومذابح نابلس والخليل وبيت لحم ورام الله وجنين في الأيام الماضية بأنَّه رجل سلام ؟؟
إنَّ انحياز الإدارة الأمريكية الدائم تجاه إسرائيل،هي والدول الأوربية واستخدامها حق الفيتو لصالح إسرائيل يعرقل عملية السلام في المنطقة ،ولن يجعل أمام الشعوب العربية في نهاية الأمر سوى استخدام القوة ،وحينئذ وفق ما جاء في بيانكم "سيكون استخدام القوة مبرراً أخلاقياً لاسيما عندما يكون الدافع للمعتدي هو العداوة المتصلبة حيث لا يستهدف الحوار ولا الامتثال لأمر ما ،وإنَّما يهدف إلى الدمار " وهاهي إسرائيل ترفض قيام دولة فلسطينية بعدما صفَّت المقاومة الفلسطينية وقتلت عناصرها النشطة ،ولم تستجب لاتفاقيات مدريد وأسلو التي وقعتها ،وكذلك لم تستجب لرغبة الإدارة الأمريكية في إقامة دولة فلسطينية !
فهل يا ترى ستوقع الولايات المتحدة عقوبة على إسرائيل لخرقها هذه الاتفاقيات ،ورفضها الإذعان لرغبة الإدارة الأمريكية ،كما تفعل مع أي دولة عربية أو إسلامية ؟
أشك في ذلك ،فالذي أراه أنَّ إسرائيل هي التي باتت القوة العظمى في العالم ،فلم تعمل للولايات المتحدة ،ولا للمنظمات الدولية ،و لا للاتحاد الأوربي أي حساب!!
ويرجع هذه في رأيي إلى الأسباب التالية :
1- سيطرة التراث اليهودي على العقلية المسيحية ،وعلى المسيحيين أن يتحرروا من سيطرة التراث اليهودي عليهم، هذه الحقيقة يدركها مفكرو الغرب وعلماؤه ومؤرخيه، وقد حلل المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي الشخصية اليهودية ومدى سيطرة الفكر اليهودي على الإنسان المسيحي، ويوضح هذا في كتابه "مشكلة اليهودية العالمية" فيقول: "وهم يعتبرون غيرهم أقل منهم منزلة، وأنهم الشعب المختار، أما شعوب العالم فهي في مركز منحط يطلقون علي أفرادها كلمة "الأمميين" وهم بتعبير الشاعر البريطاني كبلينج Kippling سلالات دنيا لا شريعة لها" ثم يقول:(1/399)
"وتقبلت الكنيسة المسيحية دون مناقشة تفسير اليهود لتاريخهم كما ورد في التوراة، بما تضمه بين طياتها من المطاعن ضد الشعوب التي احتكوا بها كالفينيقيين، والفلسطينيين، والآرمويين ، والموابين، والمعموريين، والدمشقيين، وانفرد اليهود في هذا الميدان بإقدامهم على رفع سجل تاريخهم إلى منزلة التقديس، ونجاحهم نجاحاً لا يبارى في إيهام مئات الملايين من البشر على مدى الأحقاب، أو يناقشه مناقشة علمية عقاب الله في الدنيا والآخرة، ومن الناحية الأخرى لا يوجد لأعداء اليهود القدامى من ينهض للدفاع عن قضيتهم إلا أصوات العلماء والباحثين الخافتة، وتعتبر المذاهب المسيحية على اختلافها التاريخ اليهودي تاريخاً مقدساً للمسيح، ومهما يكن نصيب الفرد المسيحي من الاستفادة الفكرية، ومقدار تحرره الذهني، فيصعب عليه بمكان أن يتخلص من التراث اليهودي في المسيحية، لأنه كامن في شعوره الباطني، ويوجه مسار تفكيره، وبالتالي فإذا كانت الكشوف الأثرية تهدم ادعاءات اليهود، وتلقي أضواء صادقة على المجتمعات الأخرى، فما برحت جمهرة المسيحيين تأخذ التاريخ اليهودي كما ورد في التوراة قضية مسلماً بها"
2-سيطرة اللوبي الصهيوني على اقتصاد وإعلام الدول الغربية ،ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وتغلغله في المنظمات والمؤسسات الحكومية والدولية،وبات المستقبل السياسي لأية شخصية أمريكية مرهوناً بمدى دعمها لإسرائيل ،بل بات من يريد أن يضحي بمستقبله السياسي ،بل وبعمره فليؤيد الفلسطينيين أو يبدي تعاطفاً معهم ،وإلاَّ ما تفسيركم لقتل الرئيس جون كنيدي في الستينيات ؟
وما تفسيركم أيضاً لإعلان السيد كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة حل لجنة تقصي الحقائق في جنين المكونة بموجب قرار من الأمم المتحدة لأنَّ شارون رفض التعاون مع هذه اللجنة ،دون أن يتخذ أي قرار ضد إسرائيل ،وأنا أدعوكم أن تقرأوا كتاب " اليهودي العالمي " للمليونير الأمريكي " هنري فورد " لتروا بأنفسكم مدى تغلغل اللوبي الصهيوني في بلادكم،ومدى سيطرته على القرار السياسي فيها ،وتوجيه دفته حيث يريد،ولتروا بأنفسكم دناءة الوسائل التي يستخدمها الصهاينة في سبيل تحقيق أهدافهم ،من تلك الوسائل ،القتل والاغتيال لكل من يرونه يشكل خطراً عليهم حتى العلماء المسلمين الذين لديهم اكتشافات أو بحوث علمية تهدد مصالحهم ،ولا سيما إن كانت في الذرة . ولعلكم تذكرون حادث اغتيال الوزير اللبناني السابق بعدما أعلن أنَّ لديه أدلة تدين شارون في مذابح صبرا وشاتيلا ،وأنَّه سوف يقدِّم تلك الأدلة للمحكمة في بلجيكا حيث رفعت قضية لمحاكمته ،فالصهاينة هم أكبر كيان إرهابي في العالم ،وإن كنتم جادون حقاً في مكافحة الإرهاب فابدأوا بمكافحة الصهيونية ،ونحن عندئذ سنكون معكم .
3- الاعتقاد أنَّ إسرائيل تحمي مصالح الغرب الأمريكي والأوربي في منطقة الشرق الأوسط،وهذا اعتقاد خاطئ ،فإسرائيل هي التي تستخدم الولايات المتحدة ،والدول الأوربية لخدمة مصالحها هي،ومصالح الغرب الأمريكي والأوربي مع الشعوب العربية والمسلمة ،وليس مع اسرائيل.
إنَّ مبادئ الحرية والعدل والمساواة التي تنادون بها لن تكون على أرض الواقع مالم تتحرروا من سيطرة الصهيونية ،والتراث الفكري اليهودي ،والمطامع في خيرات الآخرين ،والعداء للإسلام ومحاربته تحت مسميات أخرى كالإرهاب.
خامساً:النظام الإسلامي في الحكم ،ودعوة البيان إلى فصل الدين عن الدولة ،والحكم بالحكم العلماني الوضعي :
قلتم في بيانكم أنَّكم دولة علمانية ،وأشرتم إلى مقولة "إبراهام لنكولن"الرئيس العاشر للولايات المتحدة الأمريكية في خطاب التنصيب الثاني عام 1865م " لله شؤونه الخاصة "ولعلكم تهدفون من هذه الإشارة إلى إبعاد الدين الإسلامي عن الحكم .
هذا وإن كان أحد مؤسسي الولايات المتحدة اختار النظام العلماني ليكون نظام الحكم في دولته ،فنحن لا نتدخل في اختياره ،وإن كنا ندرك أنَّ وجود النظام العلماني ،هو الذي أحدث هذا الخلل في ميزان العدل في العالم ،وهو الذي قلب الموازين،فينصر الظالم على المظلوم ،وجعل الغاصب المحتل مرتكب المذابح البشرية في صبرا وشاتيلا ،وفي نابلس وجنين رجل سلام ،ووصف الذين يدافعون عن أراضيهم المغتصبة ويقاومون المحتل بحجارة صغيرة ،وبتفجير أنفسهم في عدوهم لعدم امتلاكهم سلاحاً يقاتلون به بالإرهابيين،ويُعاملون كإرهابيين.
وكلنا يدرك أنَّ النظام العلماني جاء في الغرب المسيحي كردة فعل لتسلط الكنيسة ورجالها ،وهذه مسألة خاصة بالديانة المسيحية لا تنطبق على الإسلام ،زيادة إلى أنَّ الديانة المسيحية ديانة عبادية ،تقتصر تشريعاتها على تنظيم علاقة الإنسان بربه ،وليست بشمولية الإسلام،باعتبار الإسلام هو خاتمة الأديان السماوية ،فجاء تشريعاته كاملة ومتكاملة شاملة جميع شؤون الحياتين الدنيوية والأخروية للأفراد والجماعات ،والشعوب والحكومات ،كما نظَّم علاقة الأفراد والجماعات بمن لا يدين بدينهم ،ولم يترك هذا التشريع صغيرة ولا كبيرة في حياة الأفراد والجماعات إلاَّ ونظَّمها ،فلقد نظَّم علاقة الفرد بوالديه وبزوجه وبأولاده ذكور وإناث ،وبأقاربه وبجيرانه ،وبخدمه ،وبحكَّامه ،وبمن من لا يدين بدينهم لذا جاء قوله تعالى في آخر آية نزلت في القرآن الكريم (( اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً))(1/400)
والمسلمون لا يستطيعون أن يتخلوا عن الإسلام كنظام حياة في جميع شؤونهم الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والعلمية والتعليمية والإعلامية والثقافية والفكرية ،إنَّ لسان الإنسان المسلم لا ينقطع عن ذكر الله منذ لحظة يقظته في الصباح إلى لحظة منامه ،في مأكله ومشربه ،في حله وترحاله ،بل حتى عندما يعطس يذكر الله ،فديننا علمنا ماذا نقول في كل خطوة نخطوها ،فكيف نستطيع أن نتخلى عن تنظيمه لمور حياتنا ،صحيح أنَّ الغرب قد صدَّر إلينا العلمانية والماركسية والاشتراكية والوجودية،وغيرها من المذاهب والفلسفات الفكرية القائمة على الإلحاد ،وإنكار وجود الله،كما صدَّر لنا الهامبرجر والجينز وأصبح من المسلمين من يؤمن بهذه المذاهب،ولكنه في النهاية كمسلم لا يخلو كلامه من ذكر الله .
ثُمَّ ما يضير الغرب تطبيق النظام الإسلامي في الحكم ؟
الغرب يوجه انتقاداً إلى الحكومات الإسلامية بأنها حكومات غير ديمقراطية ،ألا تعرفوا بأن الإسلام هو أول من نادي بالديمقراطية ،وطَّبقها في الحكم ؟
سأوضِّحُ لكم هذا من خلال توضيح الأسس التي يقوم عليها الحكم في الإسلام :
1- الحرية : ولقد حرَّر الإسلام الإنسانية من كل ألوان العبودية للخلق عندما أعلن أنَّ الله هو المعبود الوحيد ولا معبود سواه ،ولعل مقولة عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه لابن والي مصر عندما ضرب القبطي : (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) كانت بمثابة ميثاق لأسس الحرية الإنسانية وتخليصها من كل أصناف العبودية للخلق ،وقد احترم لإسلام الحرية الدينية ،وحرية الملكية ،وحرية اختيار الحاكم ،وحرية مراقبته وإبداء الرأي .
2-الشورى :وهي من الدعائم الأساسية التي يرتكز عليها نظام الحكم في الإسلام ،وقد أوجب الشورى على أولي الأمر ،وذلك في الوحي المكي والمدني ،ففي القرآن الكريم سورة سميت باسم "سورة الشورى" ،وهي سورة مكية يقول تعالى فيها : (( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم وممَّا رزقناهم ينفقون )) ( آية 38) ففي هذه الآية قرن الله نظام الشورى بالصلاة ولصدقة ليدل على أنَّ الشورى بين ولاة الأمر من أسس الإسلام ،وأنَّ الاستبداد ليس من شأن المؤمنين.وفي الوحي المدني ركَّزَّ جلَّ شأنه على مبدأ الشورى وألزم رسوله الكريم بالالتزام به ،وفي هذا إشارة إلى أنَّه مهما بلغ قدر الحاكم وعلمه ومكانته فهو ملزم بالشورى مادام نبي الله قد ألزم بالشورى وهو يوحى إليه فيقول تعالى مخاطباً رسوله : (( فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ))( آل عمران : 159)وقد ثبت أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان دائم التشاور مع أصحابه ،وكثيراً ما نزل عند رأيهم ،من ذلك : استشارته لهم في اختيار المكان الذي ينزل فيه المسلمون يوم بدر ،وأخذه برأي الحباب بن المنذر ،واستشارته لهم فيما يعمل بشأن الأسرى في الغزوة ذاتها ،فوافق على رأي أبي بكر رضي الله عنه الذي أشار عليه بالفداء ،ونزوله على رأي الشباب بالخروج في يوم أحد ،كما أخذ رأي زوجه أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها في موقف الصحابة رضوان الله عليهم من صلح الحديبية ،وفي هذا تأكيد على أنّ الشورى من حق المرأة كما هي من حق الرجل ،والخطاب القرآني في الآيتين الكريمتين جاء في صيغة العموم شاملاً الذكور والإناث معاً ،كما هو معتاد في مجمل الأحكام والتشريعات،وأكد عليه أخذ الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطّاب رضي الله عنه برأي المرأة عندما جمع المسلمين ليأخذ رأيهم في تحديد المهور ،فحاجته امرأة قرشية بالآية القرآنية رقم 20 في سورة النساء (( وإنْ أَردتمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَأَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارَاً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئَاً أَتَأخذُونَهُ بُهْتَانَاً وإِثْمَاً مُّبِينَا)) فاعتلى المنبر معلناً على الملأ قولته الشهيرة : ( أخطأ عمر وأصابت امرأة )
3-البيعة:وهي من الأسس الأولية في نظام الحكم في الإسلام يقول تعالى : (( إنَّ الذين يُبَايعونك إنَّما يُبَايِعُون اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهم فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ على نَفْسِهِ وَمنْ أَوْفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله فَسَيُؤتِيهِ أَجْرَاً عَظِيمَاً)) ( الفتح : 10)،كما أعطى للمرأة حق البيعة وخصَّها بالبيعة تأكيداً على إعطائها هذا الحق الأساسي ، يقول تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّنَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المؤُمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللهِ شّيْئَاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِيِنَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسَتَغْفَرَ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )) ( الممتحنة: 12)،وهنا نرى أنَّ الإسلام أعطى للمرأة حقوقاً سياسية قبل جميع الأنظمة السياسية ،فلقد ساوى بين المرأة والرجل في هذا الحق السياسي الخطير الذي يعد من أهم ركائز نظامه السياسي ،وقد طبَّق هذا الرسول صلى الله عليه وسلم وقد بايعته الأنصاريات في العقبة ،كما بايعنه عندما قدم المدينة المنورة.(1/401)
4- العدل: هو هدف وغاية الحكم الإسلامي ، يقول تعالى : (( إنَّ اللهَ يأمركم أنْ تُؤدَّوا الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِها وإذا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنَ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إَنَّ اللهَ نِعمَاً يَعِظَكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعَاً بَصِيراً )) ( النساء : 58)،ويقول تعالى : (( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُم بِالقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِين )) ( المائدة : 42)،وأمثلة تطبيق العدل في الإسلام كثيرة لا حصر لها منها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر يمشي بين الصفوف لتعديلها ،وفي يده قدح ،فمرّض برجل خارج عن الصف فطعنه بالقدح في بطنه ليعتدل فقال الرجل ،وهو سواد بن زمعة ،لقد أوجعتني يا رسول الله وقد بعثك الله بالحق والعدل فاستخلص لي حقي منك ،فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : هذا بطني فاقتص منه :فاعتنقه الرجل ،وقبَّل بطنه ،فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم ما الذي دفعك إلى هذا يا سواد ؟ فقال : أحببت أن يكون آخر عهدي بالدنيا هو ملامسة جلدي لجلدك ،فدعا له رسول الله.والناس سواء في تطبيق العدل على اختلاف ألوانهم ودياناتهم من ذلك : حدث أنَّ ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه فاتح مصر وواليها من قبل الخليفة عمر بن الخطّاب قد نازع شاباً من دهماء المصريين الأقباط المسيحيين في ميدان سباق ،فأقبلت فرس المصري فحسبها محمد بن عمرو فرسه وصاح : "فرسي ورب الكعبة" ،ثُمَّ اقتربت وعرفها صاحبها فغضب محمد بن عمرو ووثب على الرجل يضربه بالسوط ويقول له : خذها وأنا ابن الأكرمين ،وبلغ ذلك أباه فخشي أن يشكوه المصري فحبسه زمناً ..ومازال محبوساً حتى أفلت وقدم إلى الخليفة لإبلاغه شكواه...
قال أنس بن مالك راوي القصة : فوالله ما زاد عمر على أن قال له أجلس ...ومضت فترة إذا به في خلالها قد استقدم عمراً وابنه من مصر فقدما ومثلا في مجلس القصاص ،فنادى عمر رضي الله عنه :" أين المصري ؟ …دونك الدرة فاضرب بها ابن الأكرمين"
فضربه حتى أثخنه ،ونحن نشتهي أن يضربه .فلم ينزع حتى أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه ،وعمر رضي الله عنه يقول : اضرب ابن الأكرمين ! ..ثُمَّ قال : " أجلها على صلعة عمرو ! فوالله ما ضربك ابنه إلاَّ بفضل سلطانه …قال عمرو رضي الله عنه فزعاً : يا أمير المؤمنين قد استوفيت واشتفيت ، وقال المصري معتذراً : يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني ..فقال عمر رضي الله عنه :"أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتى يكون أنت الذي تدعه .والتفت إلى عمرو مغضباً قائلاً له تلك القولة الخالدة :" أيا عمرو ! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً )
وهناك قصة سيدنا علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه مع اليهودي الذي وجد درعه عنده الذي فقده وهو متجهاً إلى صفين ،ولما انقضت الحرب ورجع إلى الكوفة وجده في يد يهودي ،فقال نصير إلى القاضي ،فتقدم علي رضي الله عنه فجلس إلى جنب القاضي شريح ،وقال : " لولا أنَّ خصمي يهودي لاستويت معه في المجلس ،ولكني سمعتُ رسول الله صلى عليه وسلم يقول : "أصغروهم من حيث أصغرهم الله "فقال شُريح قل يا أمير المؤمنين ،فقال :" نعم هذه الدرع التي في يد هذا اليهودي درعي لم أبع ولم أهب ،فقال شُريح : إيش تقول يا يهودي ؟ قال: "درعي وفي يدي ،فقال شريح: ألك بينة يا أمير المؤمنين ؟ قال : "نعم ،قنبر والحسن يشهدان أنَّ الدرع درعي ،فقال شُريح: شهادة الابن لا تجوز للأب ،فقال علي رضي الله عنه : " رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :"الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ،فقال اليهودي : " أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه ،وقاضيه قضى عليه ،أشهد أنَّ هذا هو الحق ،وأشهد أن لا لإله إلاَّ الله وأشهد أنَّ محمداً رسول الله ،وأنَّ الدرع درعك)
ومن أعظم فضائل الإسلام أنّه أوجب العدل مع الأعداء ،وقال تعالى : (( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِين للهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمِنَّكُم شَنْآن قَوِمٍ على أَلاَّ تِعْدِلُوا اعدْلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقْوى وّاتَّقُوُا اللهَ إنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون)) ( المائدة : 8).
5-المساواة : كان التمايز بين الناس ولا يزال سائداً في بعض جهات العالم،فاليهود زعموا أنَّهم وحدهم شعب الله المختار ،وفرَّقوا في تشريعاتهم بين اليهود وغيرهم ،فحرَّموا الربا بشدة بينهم ،وأباحوه مع غيرهم ،كما أباحوا دماء وأعراض غير اليهود ،وبعض الأديان تقر نظام الطبقات كالديانة البراهمية التي تقسم الأمة إلى أربع طوائف ،وفي فرنسا قبل الثورة الفرنسية كان يوجد عدم مساواة في توزيع المناصب العمومية ،وعدم وجود رقابة عليها،والثورة الفرنسية إن نادت بمبدأ المساواة فهي أخذته من الإسلام وجميع حركات الإصلاح الديني التي شهدتها أوربا كانت من تأثرها بالإسلام الذي عرفته عن طريق الأندلس والحروب الصليبية وصقلية.ولكن النزعة العنصرية لا تزال موجودة في أوربا وأمريكا ،فألمانيا النازية قبل الحرب العالمية الثانية أسرفت في الدعوة إلى العنصرية فقسمت الجنس البشري إلى طبقات ،وجعلت الجنس الآري في مقدمتها ،وأمريكا التي تزعم أنها دولة قامت على الديمقراطية قد اضطهدت الهنود الحمر السكان الأصليين لأمريكا ،كما اضطهدت الزنوج الذين اختطفوا من بلادهم ليكونوا عبيداً وأرقاء للبيض حتى قامت ثورة الزنوج احتجاجاً على التمييز العنصري.(1/402)
ونحن إذا نظرنا إلى ما شرَّعه الإسلام من مبدأ المساواة،رأينا أنَّه لم يصل أي تشريع سماوي أو وضعي في مبلغ الحرص على مبدأ المساواة إلى ما وصل إليه الإسلام ،فقد قرر الإسلام مساواة الناس أمام القانون ،ومساواتهم في الحقوق العامة المدنية والسياسية والاجتماعية ،فلا فضل لعربي على عجمي ،ولا أبيض على أسود ،ولا لغني على فقير ،ولا لوجيه على صعلوك ،وبذلك قضى الإسلام على نظام الطوائف ،وأساليب التفرقة بين الطبقات في الحقوق والواجبات ،ولذلك جعل الخالق جلّ شأنه " التقوى" أساس التفاضل: ((يا أيها النَّاس إنَّا خلَقْناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم )) ( الحجرات: 13)
وقد ساوى الإسلام بين المرأة والرجل في الإنسانية رداً على ما أثارته المجامع الكنسية من تساؤلات هل المرأة إنسان ،فقال تعالى : ((هو الذي خَلَقَكُم مِّنْ نفسٍ واحِدة وجعل منها زَوْجَها )) (الأعراف :189)،وجعلها شقيقة الرجل ،كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( إنَّما النساء شقائق الرجال )وكرَّمها كأم وزوجة ،وأخت وابنة ،وجعل الإحسان إلى بنتين أو ثلاث ،أو أختين أو ثلاث الجنة ،بل جعل من كانت له ابنة لم يهنها ولم يئدها ولم يؤثر ولده عليها دخل الجنَّة ،وألزم الرجل بالنفقة على المرأة ولو كانت غنية ،كما ساوى بينها وبين الرجل في والعبادات والحدود والعقوبات،وفي الجزاء والثواب ،وساوى بينها وبين الرجل في حق التعلم والعمل ،إذ لم يُحرِّم عليها العمل لأنَّها قد تحتاج إليه ،ولم يوجبه ،وفي نفس الوقت لم يستحسنه ويحبذه ،وذلك لأنَّه سيكون على حساب زوجيتها وأمومتها ،وتربية أولادها، واعترف بأهليتها الحقوقية المالية الكاملة مثلها مثل الرجل تماماً ،ولا يحق للزوج التدخل في تصرفاتها المالية،كما حافظ على شخصيتها ،فلا تفقد اسمها واسم عائلتها بالزواج ؛إذ تظل منتسبة لأبيها ،وأزال عنها تهمة الخطيئة الأزلية التي ألحقتها بها الأديان والتشريعات القديمة في قوله تعالى : (( وعصى آدم ربَّه فغوى))،كما ساوى بينها وبين الرجل في كثير من الحقوق السياسية كحق البيعة والشورى والولاية ،وإجارة المحارب ،والمشاركة في القتال أن دعت الحاجة ،والمشاركة أيضاً في الغنائم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وعمارة الكون ،وإن كانت المرأة المسلمة لم تحصل على بعض حقوقها ،فهذا يرجع إلى تحكم العادات والأعراف والتقاليد ،وليس إلى الإسلام.
وقد أكَّد رسول الله صلى الله علي وسلم على مبدأ المساواة بأقواله وأفعاله الكثيرة فمن أقواله ( الناس سواسية كأسنان المشط)،وقال في حجة الوداع : ( أيها الناس : إنَّ ربكم واحد ،وأباكم واحد ،ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ،ولا لأسود على أحمر ،ولا لأحمر على أسود إلاَّ بالتقوى)،فهنا ألغى التفاخر بالأنساب والتعاظم بالأباء والأجداد ،فأبوهم جميعاً واحد هو آدم عليه السلام ،وألغى التفرقة العنصرية والتمايز بالألوان ،فلم يفرق في الحقوق والمعاملات بين أبيض وأسود ،ولا بين حر ومولى ،فقد ولى بلالاً على المدينة،وفيها كبار الصحابة ،وبلال رضي الله عنه مملوك أسود سابق أشتراه أبو بكر رضي الله عنه وأعتقه ،كما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ولى "باذان" الفارسي لى اليمن ،ولمَّا مات ولى ابنه مكانه .
ولقد سار على نهجه الخلفاء الراشدون من بعده ،وقد سبق وأن ذكرنا أمثلة لذلك.
وهكذا نجد كيف وضع الإسلام حقوق الإنسان وطبَّقها واحترمها ،قبل أن ينادي بها فلاسفة الغرب الذين وضعوا ميثاق حقوق الإنسان بأربعة عشر قرناً ،والتي أصبحت هذه الحقوق تنهك من قبل القوى العظمى التي تَتخذها ذريعة للتدخل في شؤون الدول الصغرى والضعيفة لبسط السيطرة والنفوذ عليها ،وليس لحماية حقوق الإنسان.
6-الحرص على العمران وعدم الفساد: ولقد نهى الله المسلمين إذا تولوا الحكم عن الفساد في الأرض ،يقول تعالى : (( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم .أولئك الذين لعنهم الله فأصَّمهم وأعمى أبْصارهم )) ( محمد : 22-23)هذا والمتتبع لغزوات الرسول صلى الله عيه وسلم ،ثُمَّ للفتوحات الإسلامية لم يجد فيها تدميراً أو تخريباً للبلاد المفتوحة ،كما رأينا من قبل في جيوش الأمم الأخرى كاجتياح الجماعات الجرمانية في أوربا ،والقوط في الأندلس ،والتتار في المشرق الإسلامي،ولعل هذا من أهم أسباب إسلام أهالي البلاد المفتوحة.فالإسلام دين بناء وحضارة ،وليس دين هدم وتخريب وتدمير خلاف ما نراه اليوم مما يحدثه اليهود الصهاينة في الأراضي الفلسطينية من قتل وتدمير وحرق وتخريب وتجريف الأراضي ،واقتلاع لأشجار الزيتون في الأراضي الفلسطينية وجنوب لبنان .
7-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : وهذا من الأسس والركائز الأساسية في الحكم ،يقول تعالى : (( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )) ( آل عمران : 104)والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حق للرجل والمرأة معاً ، يقول تعالى : (( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهَوْن عن المنكر)) ولقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عدة وصايا منها قوله : ( الدين نصيحة ) فسأله الصحابة لمن : قال ( لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)(1/403)
وقد سار الخلفاء الراشدون على هذا المنهج من ذلك قول أبي بكر في أول خطبة ألقاها يوم توليه الخلافة ؛إذ قال : ( قد وليت ولستُ بخيركم ،فإن رأيتموني على حق فأعينوني ،وإن رأيتموني على باطل فسددوني ،أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم ،فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم )،ويقول عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه ( أيها الناس فمن رأى فيَّ اعوجاجاً فليقوِّمه )وتقدم إليه رجل وقال : ( لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوَّمناه بسيوفنا )،فرد عليه عمر رضي الله عنه قائلاً ( الحمد لله أن كان في أمة عمر من يقوِّم اعوجاج عمر بالسيف)
هذه هي الديمقراطية في الإسلام ،وهذه الحرية في إبداء الرأي ،وفي مراقبة الحاكم ومحاسبته إن أخطأ.
وهذه هي الركائز الأساسية لنظام الحكم في الإسلام ،فهي قائمة على العدل والشورى والبيعة والمساواة والدعوة إلى احترام العمران والنهي عن الفساد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وهو كما يتضح من أسسه نظام واضح يجمع بين الدين وأمور الحياة الدنيا فالدين الإسلامي دين ودولة.
وكما تبيَّن لكم أنَّ الأقليات التي تعيش في كنف الإسلام ،وبين رعايا الدول الإسلامية لا يخشى على كافة حقوقها المدنية والقانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ،وأكبر دليل عهد الأمان الذي أعطاه عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه لأهل بيت المقدس ،كذلك ولو ذهبنا إلى مصر نجد أنَّ العرب المسلمين أعطوا الحرية الدينية للقبط ،يؤيد ذلك ما فعله عمرو بن العاص رضي الله عنه بعد استيلائه على حصن بابلبيون ،إذ كتب بيده عهداً للقبط بحماية كنيستهم ،ولعن كل من يجرؤ من المسلمين على إخراجهم منها ،وكتب أماناً للبطريق بنيامين ،وردَّه إلى كرسيه بعد أن تغيب عنه زهاء ثلاث عشرة سنة ،وأمر عمرو رضي الله عنه باستقبال بنيامين عندما قدم الإسكندرية أحسن استقبال ،وألقى على مسامعه خطاباً بليغاً ضمنه الاقتراحات التي رآها ضرورية لحفظ كيان الكنيسة ،فتقبلها عمرو رضي الله عنه ، ومنحه السلطة التامة على القبط والسلطان المطلق لإدارة شؤون الكنيسة .
ولم يفرق العرب في مصر بين الملكانية واليعاقبة من المصريين ،الذين كانوا متساوين أمام القانون ،والذين أظلهم العرب بعدلهم وحموهم بحسن تدبيرهم ،وقد ترك العرب للمصرين ،وأخذوا على عاتقهم حمايتهم ،وأمنوهم على أنفسهم ونسائهم وعيالهم ،فشعروا براحة كبيرة لم يعهدوها منذ زمن طويل ،بل كانوا يعانون من ظلم البيزنطيين الذين كانوا يضطهدون الياعقبة لأنهم يختلفون معهم في المذهب ،يوضح هذا قول المستشرق البريطاني سير توماس أرنولد في كتابه " الدعوة إلى الإسلام " : ( يرجع النجاح السريع الذي أحرزه غزاة العرب قبل كل شيء إلى ما لقوه من ترحيب الأهالي المسيحيين الذين كرهوا الحكم البيزنطي ،لما عرف به من الإدارة الظالمة ،وما أضمروه من حقد مرير على علماء اللاهوت ،فإنَّ الياعقبة الذين كانوا يكونون السواد الأعظم من السكان المسيحيين عوملوا معاملة مجحفة من أتباع المذهب الأرثوذكسي التابعين للبلاط ،الذين ألقوا في قلوبهم بذور السخط والحنق الذيْن لم ينسهما أعقابهم حتى اليوم )
كما أنَّ السلطان محمد الفاتح أعطى ـ حين دخل القسطنطينية فاتحاً ـ لبطريرك المدينة السلطان الداخلي على رعيته من النصارى ،بحيث لا تتدخل الدولة في عقائدهم ولا عباداتهم.
كما يروي لنا التاريخ أنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية طلب إلى أمير التتار إطلاق سراح الأسرى ،فأجابه الأمير التتاري إلى إطلاق سراح أسرى المسلمين وحدهم دون المسيحيين واليهود فأبى شيخ الإسلام رحمه الله ذلك وقال : " لا بد من إطلاق سراح الذميين من أهل الكتاب ، فإنَّهم أهل ذمتنا ،لهم ذمة الله ورسوله ،فأطلق الأمير سراحهم جميعاً .
وأيضاً اعتراف الحاخام اليهودي " ديفيد وايس " الناطق الرسمي لحركة "ناطوري كارتا "إنَّ الدول الإسلامية أحسنت استضافة اليهود،وأود أن أشير هنا إلى أنَّ اليهود وصلوا إلى منصب الوزارة في الدولة المرينية في المغرب ،فاليهود في المغرب كان لهم دور كبير في الحياة السياسية في الدولة المرينية ،فكان خليفة بن ميمون ابن زمامة حاجباً للسلطان في عهد السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق ،وتولت أسرة بني وقَّاصة اليهودية قهرمة القصر السلطاني في عهد السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق ،وفي عهد آخر سلاطين بني مرين ،السلطان عبد الحق بن أبي سعيد المريني تولى منصب الوزارة اثنان من اليهود هما هارون وشاويل ،وقد أدى تحكم اليهود في الدولة عن طريق هذين الوزيرين إلى مقتل السلطان عبد الحق المريني وسقوط الدولة المرينية،وهذا يبن مدى غدر اليهود بمن يحسن إليهم .
وتصريح البابا "شنودة" أنَّه يفضل العيش في كنف الحكومة المسلمة في مصر على أن يكون تحت رعاية دولة مسيحية في مصر ،وذلك لأنَّ هناك مخطط لتجزئة مصر وتفتيتها إلى دولة نوبية في الجنوب ،ودولة مسيحية في صعيد مصر ،ودولة إسلامية في شمال الدلتا ،وهو مخطط كبير لتفتيت العالم الإسلامي ،وقد وضع هذا المخطط المستشرق اليهودي البريطاني الأمريكي " برنارد لويس "
فما الذي يضير من تطبيق الحكم الإسلامي الذي يحفظ حقوق كافة البشر؟
هذا النظام الذي وضعه الخالق ،وهو أعلم بما يصلح لهم ،فهو أدرى بشؤون خلقه،وبما يصلح لهم،يقول تعالى : (( إنَّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما)) (النساء : 105)
الخاتمة :(1/404)
وكما تروْن فنحن أمة تدعو إلى الخير والبر والإحسان والتسامح ،وديننا دين سماوي حضاري يدعو إلى الحرية والعدل والمساواة ،وينبذ التمييز العنصري ،ويحترم الحرية الدينية للآخرين ،ونحن أمة تحترم الأديان السماوية وأنبياءها وكتبها ،ولم ينل مسلم من أي نبي من الأنبياء فأيماننا لا يكمل إلاَّ بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله باليوم الآخر وبالقدر خيره وشره ، في حين نجد كثيراً من المستشرقين يهود ومسيحيين قد نالوا من نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم ووصفوه بما لا يليق ،وقالوا عنه أنَّه كاهن وساحر،ومجنون ،وقاطع طريق ،وغير ذلك من الصفات ، بينما نحن ننزه أنبياء الله ورسله بمن فيهم النبي موسى عليه السلام ،والنبي عيسى عليه السلام مما وصفهم به اليهود في التوراة المحرفة بما لا يليق بهم .
ونحن أمة ليست لها مطامع في أراض الغير ،ولا في خيراتهم ،وتريد أن تعيش حرة كريمة وذات سيادة على أراضيها ،ولا سلطان للغير عليها ،وتريد أن تبني نفسها وتنمي مجتمعها وتسهم في بناء الحضارة الإنسانية على قيم سامية تسمو بالنفس الإنسانية ،وترتقي بها إلى مراتب عليا من السلوك الإنساني القائم على احترام آدمية الإنسان وإنسانيته وحريته وكافة حقوقه مع مراعاة الجانب الروحي في النفس الإنسانية ،وتحقيق أمانة الاستخلاف في عمارة الأرض ،والغاية العليا من خلق الله للإنسان وهو عبادته ،وتريد أن تقيم علاقاتها بالأمم الأخرى على الأسس القويمة التي وضعها الإسلام ،ولكن لازال هناك من تلك الأمم الأخرى من يطمع في أراضينا وما فيها من خيرات ،ويريد أن يبسط نفوذه علينا تارة بالقوة العسكرية ،وتارة أخرى بالتهديد ،وبالضغوط الدولية ،وتارة ثالثة بإثارة الخلافات فيما بيننا اتباعاً لسياسة فرِّق تسد ،ونحن هنا نستساءل :
لماذا نُحارب ؟ لماذا نُقتل ؟ لماذا أصبح قانون الغاب هو السائد في العالم في القرن الحادي والعشرين ،وكأنَّنا في بدء الخليقة ؟ لماذا أصبح القوي يأكل الضعيف ويذله ويمتهنه ،ويفرض هيمنته عليه بالقوة العسكرية أو بالتهديد بها ؟ لماذا أصبح المجتمع الدولي ينصر الظالم على المظلوم ؟ ينصر الغاصب المحتل على المسلوب أرضه وكرامته ؟ لماذا أصبح الضعيف محروماً من حق الدفاع عن نفسه ،عن بلده عن أرضه ووطنه ،وإن فعل بات مجرماً إرهابياً يُقتل أو يُحاكم ويُسجن أو يُبعد ويُطرد من بلده ؟ لماذا كل هذه الحرب على الإسلام ،وهو دين سماوي منزل من رب الكون وخالقه ،وهو دين شامل وكامل يهدف خير البشرية ،وأنزل للناس كافة رحمة للعالمين،وفيه حل لكل ما تعانيه البشرية من تيه وشتات وخوف وقلق وطمع وجشع،وقتل وسفك دماء،واغتصاب للأعراض ،وانتهاك للحرمات،وتدمير للعمران،وتشريد للنساء والشيوخ والأطفال ،ومن سيطرة المادة على كل ألوان الحياة ،والمبدأ الميكافلي " الغاية تبرر الوسيلة"؟
لماذا أصبح الإنسان المسلم منا الملتزم بالإسلام خلقاً وعملاً يعد إرهابيا ؟ولكي ينفي عن نفسه تهمة الإرهاب يعلن أنه ليبرالي ،أو علماني أو شيوعي ..الخ،المهم ألاَّ يكون إسلامياً؟
لماذا باتت كل الأبواب في عالمنا الإسلامي تفتح للعلمانيين وتغلق أمام الإسلاميين؟
وأخيراً لمَ لا يدعنا الآخر نعيش في أمن وأمان واطمئنان نعبد الله الواحد الأحد ونحكم في بلادنا بما أنزل الله و نعمر هذا الكون ،ونبني ونشيد لنؤدي رسالتنا في هذه الحياة ؟
ليتكم تجيبون عن هذه التساؤلات
=============
حِكْمَةُ الجهادِ في الإسلامِ
أحمد بن محمد الشرقاوي
أستاذ التفسير وعلوم القرآن المشارك بجامعة الأزهر
وكلية التربية للبنات بالقصيم
بسم الله الرحمن الرحيم
في ظل الحرب الشعواء والحملة الهوجاء على هذه الفريضة المُغيَّبة وآخر ما أثير حول الجهاد ما أثاره باب الفاتيكان حول رسالة الإسلام وخرافة السيف متغاضيا ومتناسيا جرائم الحروب الصليبية والاحتلال الغربي لبلاد المسلمين ، مع تدليله العجيب لوليدة الاستعمار وركيزته في قلب العالم الإسلامي إسرائيل قوَّض الله بنيانهَا وزلزل أركانها وأرانا في اليهودِ وأشياعهم عجائب قدرته .
وبعد فهذه الفرية التي افتراها رئيس عباد الصليب ومن قبل رددها أسلافه هي حلقة في سلسلة الافتراءات الصليبية على الدين الحق ونحن في هذه الصفحات نلقي الأضواء على شريعة الجهاد في الإسلام والله المستعان
تعريف الجهاد :
الجهاد في اللغة : بذل الجهد واستفراغ ما في الوسع ، وهو مشتق من الجَهد : التعب والمشقة ، أو من الجُهد : وهو الطاقة ، لأن المجاهد يبذل طاقته . [1]
قال ابن منظور : " جاهد العدو مجاهدة وجهادا قاتله " [2].
أما الجهاد في الشرع : فلقد ذكر العلماء له عدة تعريفات منها :
عرفه القسطلاني بقوله : "هو قتال الكفار لنصرة الإسلام وإعلاء كلمته " . [3]
ما ذكره ابن حجر في الفتح قال : " الجهاد : بذل الجهد في قتال الكفار ، ويطلق أيضا على مجاهدة النفس والشيطان والفساق ، فأما جهاد النفس فعلى تعلم أمور الدين ثم على العمل بها وعلى تعليمها ، وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من شبهات وما يزينه من شهوات ، وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب ... " [4] إلى آخر ما ذكره رحمه الله .
الحكمة من مشروعية الجهاد :
** الجهاد هو السبيل :
هو السبيل إلى العزة والكرامة والوحدة والقوة.
فرضه الله U على أمة الإسلام رغم ما فيه من مشقة وبذل وتضحية وعناء وما ذاك إلا لما اشتمل عليه من ثمرات يانعة وفوائد رائعة وحكم بالغة ونعم سابغة ونتائج حاسمة .(1/405)
قال تعالى في سورة البقرة { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } {216}
وقال سبحانه في سورة النساء { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا {74} وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا {75} الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ
الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا {76} أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ
كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً {77} }
:" إن الجهاد هو السبيل هذا ما يجب أن نعنيه تماما ونسير ونعمل على ضوئه فضعف الإيمان قد أوصل المسلمين إلى ما وصلوا إليه من هوان وتفكك وتحكم لأعداء الله في مقدراتهم بل وفتنة بعضهم عن دينهم ، وبعث الإيمان في القلوب من جديد هو المنطلق الأساسي للنهوض وبعث الحياة في الأمة الإسلامية ، لتستعيد قوتها وتتحرر وتأخذ مكانتها التي اختارها الله لها كخير أمة أخرجت للناس وكأساتذة للبشرية بهذا الدين الحق كي يخرجوهم من الظلمات إلى النور ، ومع قوة الإيمان والعقيدة لابد من قوة الوحدة والترابط بين المسلمين لتوحيد الجهود ، ثم تأتى قوة الساعد والسلاح حينما لا يجدي غيرها ، وهذا هو دور الجهاد " [5].
** الجهاد هو الحياة :
لا قيمة للحياة إن لم تكن في ظلال الأمن والعزة ، والحرية والعدالة ، وسائر المعاني السامية والحقوق الإنسانية التي يدعو الإسلام إلى تحقيقها .
وقد يتساءل البعض ويقول : إذا كان الإسلام هو دين الرحمة والسلام ، والدين الذي كرم الإنسان وحافظ على حقه في الحياة فلماذا الجهاد الذي تراق فيه الدماء وتزهق فيه الأرواح ؟ والجواب : إن الإسلام حقاً دين الحياة ، الحياة الطيبة الكريمة الهادئة والهانئة والآمنة المطمئنة ، ولكن هناك أعداء للحياة وأعداء للحرية ، إن تركوا على حالهم فسوف يسلبون الناس أبسط حقوقهم ، لذلك فإن الجهاد موجه إلى هذه الطائفة التي تحارب الناس في حرياتهم وتلجم ألسنتهم وتحجر على عقولهم ، وحين لا تجدي الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة مع هؤلاء فإن آخر العلاج الكى وإن هذه القلوب القاسية والعقول المتحجرة والنفوس الأمارة لا يصلحها إلا السيف ،
والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا *** فالحرب أجدى على الدنيا من السلم
والشر إن تلقه بالخير ضقت به ذرعاً *** وإن تلقه بالشر ينحسم
** الجهاد خير للبشرية
المولى U يأمر بما فيه النفع والخير ؛ لعلمه U بما يصلح العباد ويسعدهم وقد فرض الله الجهاد رغم ما فيه من مشقة وبذل وتضحية وعناء ، وما ذلك إلا لما للجهاد من ثمرات يانعة وظلال وارفة ونتائج حاسمة وخيرات عميمة للطائفة المؤمنة.
والدليل على ذلك قول الحق U في سورة البقرة { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } {216} 0
ومن خيرية الجهاد للمؤمنين أنه سبيل لإحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة ، فهو مضمار إلى طاعة الله ورضوانه بتحصيل أجر الجهاد وبه تغفر الذنوب وترفع الدرجات.
** الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا :
لقد شرع الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ، لم يشرع لأهداف توسعية أو لمطامع سياسية ، وإنما شرع لأسمى غاية وأسمى مقصد ، شرع لتكون كلمة الله هي العليا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحم الله : " وإن كان أصل القتال المشروع هو الجهاد ومقصوده أن يكون الدين كله لله ،وأن تكون كلمة الله هي العليا فمن منع من هذا قوتل باتفاق ، وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزمنى ونحوهم فلا يقتل عند الجمهور إلا أن يقاتل بقوله أو بفعله ، وإن كان بعضهم يرى مقاتلة الجميع بمجرد الكفر إلا النساء والصبيان لكونهم مالا للمسلمين والأول هو الصواب لأن القتال لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله كما قال تعالى (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْوَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ {190})(1/406)
وفي السنة عنه e أنه رأى في بعض مغازيه امرأةً مقتولة، فأنكر ذلك، ونهي عن قتل النساء والصبيان. [6] ...؛ وذلك لأن الله احتاج من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق كما قال تعالى(وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) ) [7] أي أن القتل وإن كان فيه من الشر والفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه ، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين كانت مضرة كفره على نفسه ، ولهذا قال الفقهاء إن الداعية إلى بدعة مخالفة للكتاب والسنة يعاقب بما لا يعاقب به الساكت ؛ ولهذا أوجبت الشريعة قتل الكفار ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم كمن أسر في قتال أو غير قتال فإنه يفعل به الإمام الأصلح من قتله أو استعباده أو المن عليه أو مفاداته بمال أو نفس عند أكثر الفقهاء كما دل عليه الكتاب والسنة وإن كان من الفقهاء من يرى المن عليه ومفادته منسوخا " [8] .
وقال ابن القيم رحمه الله : " فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم استجاب له ولخلفائه من بعده أكثر الأديان طوعا واختيارا، ولم يكره أحدا قط على الدين ، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله.
وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله، ولم يكرهه على الدخول في دينه امتثالا لأمر ربه سبحانه حيث يقول: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).
وهذا نفي في معنى النهي، أي: لا تكرهوا أحدا على الدين، نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان لهم أولاد، قد تهودوا وتنصروا قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أسلم الآباء، وأرادوا إكراه الأولاد على الدين، فنهاهم الله سبحانه عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختارون الدخول في الإسلام.
والصحيح أن الآية على عمومها في حق كل كافر، وهذا ظاهر على قول من يجوز أخذ الجزية من جميع الكفار، فلا يكرهون على الدخول في الدين، بل إما أن يدخلوا في الدين وإما أن يعطوا الجزية.
كما يقوله أهل العراق وأهل المدينة، وإن استثنى هؤلاء بعض عبدة الأوثان، ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تبين له أنه لم يكره أحدا على دينه قط، وإنه إنما قاتل من قاتله.
وأما من هادنه فلم يقاتله ما دام مقيماً على هدنته لم ينقض عهده، بل أمره الله تعالى أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له، كما قال تعالى: (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ولما قدم المدينة صالح اليهود وأقرهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدؤوه بالقتال قاتلهم، فمن على بعضهم، وأجلى بعضهم، وقتل بعضهم، وكذلك لما هادن قريشا عشر سنين لم يبدأهم بقتال حتى بدءوا هم بقتاله، ونقضوا عهده.
فعند ذلك غزاهم في ديارهم، وكانوا هم يغزونه قبل ذلك كما قصدوه يوم أحد، ويوم الخندق، ويوم بدر أيضا، هم جاءوا لقتاله، ولو انصرفوا عنه لم يقاتلهم.
و(المقصود) أنه صلى الله عليه وسلم لم يكره أحدا على الدخول في دينه البتة، وإنما دخل الناس في دينه اختيارا وطوعا، فأكثر أهل الأرض دخلوا في دعوته لما تبين لهم الهدى، وأنه رسول الله حقا. [9]
• وإضافة لما سبق ذكره نؤكد : أن الجهاد ضرورة لبقاء الأمة المسلمة آمنة مطمئنة عزيزة قوية ، مرهوبة الجانب بعيدة عن أطماع الطامعين وأحقاد الحاقدين من الكافرين والمنافقين .
وترك الجهاد سبب للمذلة والهوان وضياع الدار وتسلط الكافرين وتحكمهم في رقاب المسلمين وتدخلهم في شئون حياتهم ، وهذا هو ما نراعه واقعاً عملياً في هذا العصر وصدق المولى U إذ يقول في سورة التوبة { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }{39}.
روى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عمر t عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لئن تركتم الجهاد وأخذتم بأذناب البقر وتبايعتم بالعينة ليلزمنكم الله مذلة في رقابكم لا تنفك عنكم حتى تتوبوا إلى الله وترجعوا على ما كنتم عليه " .[10]
وعنه t قال: -قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا يعني ضن الناس بالدينار والدرهم تبايعوا بالعين واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم.[11]
** الجهاد لرفع الظلم عن المظلومين :
عاش المسلمون في العهد المكي ثلاث عشرة سنة مضطهدين مستضعفين من قبل رؤوس الكفر وصناديد الظلم ، وتحمل المسلمون من صنوف العذاب وألوان الأسى ما لا تتحمله الشم الرواسي ، وواجهوا ذلك كله بإيمان ويقين وعزم لا يلين (فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) [12] .
ولم يؤمر المسلمون برد العدوان ولم يؤذن لهم بذلك بل دعوا إلى الصبر والثبات ، فعَنْ أبي عبد اللَّه خباب بن الأرت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: شكونا إِلَى رَسُول اللَّهِ e وهو متوسد بردة له في طل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: e قد كان مِنْ قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمِنْشار فيوضع عَلَى رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عَنْ دينه! واللَّه ليتمن اللَّه هذا الأمر حتى يسير الراكب مِنْ صنعاء إِلَى حضرموت لا يخاف إلا اللَّه والذئب عَلَى غنمه ولكنكم تستعجلون! [13](1/407)
ولكن المسلمين كانوا مأمورين بالجهاد الدعوي وذلك بمقارعة الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان ومجاهدة النفس ابتغاء مرضاة الله وسعيا إلى إعدادها وتهذيبها قال تعالى في سورة الفرقان وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا {51} فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا {52} وقال سبحانه في سورة العنكبوت وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {69} .
ولما هاجر الرسول e هو ومن آمن معه إلى المدينة وصار للمسلمين قوة ومنعة شرع الجهاد ونزلت آياته لتعلن بداية عهد جديد مع أعداء الله تعالى قال تعالى في سورة الحج ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ {39} الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِإلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {40} الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ {41} .
قال ابن عباس: نزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة . [14]
من هنا يتبين لنا أن القتال شرع :
• لتكون كلمة الله هي العليا ؛ وذلك بتمهيد الطريق أمام دعوة الحق ؛ فلا يقف في طريقها حاقد أو مارق .
• الدفاع عن الأوطان والأعراض والأموال والأنفس وإخراج العدو المغتصب ، وفي هذه الحالة يتعين الجهاد على أهل البلد المعتدى عليهم ، وعلى من جاورهم إذا اقتضى الأمر ذلك .
• القضاء على النظم الجاهلية المتسلطة التي تحول دون وصول دعوة الله عز وجل وتكره الناس على عبادة غير الله وتقف للمسلمين بالمرصاد وتهدد أمنهم وكيانهم وتسعى إلى تشتيتهم وتمزيقهم .
• كسر شوكة أعداء الله : فلقد أثبت التاريخ والواقع بأنهم كلما قويت شوكتهم وثبوا على العالم الإسلامي واستغلوا ضعف المسلمين وفرقتهم وصدق الله عز وجل إذ يقول ( كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلا ًّوَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ {8} اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {9} لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ {10}سورة التوبة .
( إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ {2}) سورة الممتحنة
• الجهاد هو السبيل للحياة الطيبة ، الحياة الآمنة المطمئنة ، الحياة الكريمة الأبية .
• تخليص الشعوب غير المسلمة من ظلم الحكام وجورهم وتسلط أهل الفسق والضلال عليهم ونشر العدالة والحرية في أرجاء الكون انطلاقا من غاية الرسالة السامية التي بينها عز وجل في قوله { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين {107}} [15]
هذه الرسالة السامية التي قاتل الصحابة من أجلها ولذلك لما سأل الفرس أحد الصحابة :فقال له ما جاء بكم إلى بلادنا ؟ قال : " جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل وسماحة الإسلام "
• بالجهاد ينال المسلم إحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة قال تعالى في سورة التوبة { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ {52}.
• الجهاد من أجل الطاعات وأعظم القربات إلى الله تعالى فقد سئل رسولنا صلى الله عليه وسلم : مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ؟ قَالَ: "لاَ تَسْتَطِيعُوهُ" قَالَ: فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً. كُلّ ذَلِكَ يَقُولُ: "لاَ تَسْتَطِيعُونَهُ". وَقَالَ فِي الثّالِثَةِ: "مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ الصّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللّهِ. لاَ يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلاَ صَلاَةٍ. حَتّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللّهِ تَعَالَىَ". [16]
وصدق الله عز وجل إذ يقول { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا {95} دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا {96} } ، فالجهاد ميدان من ميادين التنافس في الخيرات والسبق إلى الصالحات .
==================(1/408)
حرية الرأي في الإسلام
ما أكثر الأصوات المؤيدة والمناصرة والداعمة التي ترتفع بحزم وقوة كلما أثيرت قضية تتعلق بالدين والقيم ، حيث نرى الناس - من كل الطوائف دون استثناء - يجتمعون في أضخم تجمع بشري للدفاع عن الثقافة والمثثقفين الذين تنتهك حرمتهم في عقر ديارهم ويمنعون من التعبير والإبداع الذي لا يجد له الشغل الشاغل للإعلام المرئي والمسموع ، هذا الإعلام الذي لا يكتفي بالدفاع عن ( المثقف ) بل إن بعض أحهزته تحضر - وعلى نفقتها الخاصة - ( مثقفين ) من خارج البلد ( وكأن الموجودين لا يفون بالغرض ) وذلك بهدف بحث مواضيع فكرية وإسلامية تمس العقيدة والشريعة الإسلامية وتؤدي إلى إثارة الفتنة بين المسلمين .
إن ما يلفت النظر في هذه القضية نقاط عدة منها :
1- أن أبرز من يقوم بهذه الأعمال هم علمانيون مهما كان انتماؤهم الطائفي ، وهم يسعون بجهد متواصل إلى أن " يكفّ المسلمون عن إسلامهم ويكفّ علماء الدين عن دراسة الدين والدعوة إليه وأن يكف المفكرون الإسلاميون عن استلهام الدين في مختلف شؤون الحياة ، ، لأنهم يخشون- كما يخشى العالم بأسره - من المدّ الإسلامي الذي أصبح بعد انهيار الشيوعية الخطر الأول الذي يهدد القُوى الغربية الذين يدافعون عن مصالحها في لبنان .
وهم من أجل تنتفيذ هدفهم التدميري هذا يستخدمون الوسائل المتاحة لهم كافة فيستضيفون الأشخاص الذين أجمع علماء الأمة على تكفيرهم ، ويتحدثون معهم في مواضيع فكرية لا يفقهها المتكلم ولا المحاور ولا حتى المُشاهد ، والهدف طبعاً لا يُخفى على المسلم البسيط الذي يدرك أن الحرب انواع وهي وإن انتهت على الأرض فهي لم تنته في مَيدان العقول والأفكار .
كما أن لرجال الأعلام أيضاً ضيوفاً من ( المثقفين )وضعوا دينهم جانباً وشمّروا عن سواعد أقلامهم وموهبتهم الروائية والشعرية للدفاع عن حرية الرأي والكلمة والإبداع مستخدمين كل وسائل السخرية والاستهزاء والتطاول على المقامات الدينية الإسلامية معتبرين ان الرأي الصادر عن العلماء هو رأي شخصي وليس حكم الإسلام .
2- أن من يتبجّح بالحرية دون إدراك لمعناها الأدبي والشرعي ولحدودها - إلا كونها تُطلق العِنان للجاهل والكافر على حد سواء- يخدع نفسه قبل ان يخدع الآخرين لأنه يريد أن يثبت أن ما يفعله هو دليل عقلانية وتنوير وإعمال الفكر ، بينما في الحقيقة إن ما يسعى إليه هو إطلاق العنان لغرائزه وأهوائه التي تقرّبه للبهيمية ، لذلك فهو يسعى لإيجاد ستار عقلي يبيح له هذا الفعل ، وقد أحسن الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي حين وصف الملحد بقوله : " إن المُلحد الذي يمارس أمامك حياة التحلل والإلحاد ليس مشدوداً إلى حياته بسبب فكر مجرد كما تظن ، ولكنه مشدود إليها بأهواء نفسية مستحكمة" .
وهؤلاء الملحدون الذين حرمهم الله عز وجل من الهداية وقال فيهم : " ولو شئنا لآتينا كل نفس هُداها ولكن حقَّ القول مني لأملأن جهنم من الجِنّة والناس أجمعين " السجدة ، 13.
إنما منحهم هذه المنزلة نتيجة ممارستهم لحريتهم في الاعتقاد الشخصي ، لأن الإيمان فعل قلبي ولا يمكن ان يكون بالإكراه ، لهذا قال عز وجل : " لا أكراه في الدين" البقرة،256 . وقال أيضاً : " ولو شاء ربّك لآمن مَن في الأرض كلّهم جميعاً أفأنت تركه الناس حتى يكونوا مؤمنين " يونس ، 99.
إن الإيمان بالله عز وجل شرف وتكريم وهؤلاء لا يستحقون هذا الشرف لهذا حرمهم الله منه ، إلا أنه سبحانه وتعالى جعل حرية المعتقد عند هؤلاء مشروطة بعدم نشر الفساد بين المسلمين وعدم الاعتداء على حرمة هذا الدين .
لهذا فهناك فرق بين حرية المعتقد وحرية الرأي والتعبير في الإسلام ، فحرية الرأي في الإسلام تستلزم شروطاً ومبادئ لا يمكن التغافل عنها منها :
أ- أن إبداء الرأي في مواضيع إسلامية لا بد أن يكون صادراً عن مسلم عاقل يتمتع بالأهلية كما يتمتع بمقدرة ثقافية علمية ، فليس من حق أي انسان ان يتكلم في موضوع يجهل أبعاده .
ب- أن إبداء الرأي في مواضيع إسلامية يجب أن يصدر عن المعنيين بالأمر، فليس من حق الإنسان ان يُدلي برأيه في موضوع لا يخصّه ولا يربطه به صلة مباشرة ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مِن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " رواه الترمذي .
ج- أن إبداء الرأي يجب أن لا يتطاول على الإسلام والمقدَّسات الدينية للمسلمين ، لهذا فحرية إبداء الرأي يجب أن تخضع للقاعدة الفقهية الهامّة المستقاة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لاضرر ولا ضرار " .
إن العبث بالنصوص الشرعية المتمثلة في القرآن والسُّنة على وجه التحديد ، ينبغي أن يظل بمنأى عن الذين بتذرعون بحرية التعبير أو البحث ، ويرّوجون لدعاوى تستهدف تعطيل النصوص وإجهاضها باسم تاريخية النصوص ، أو نسبية الأحكام الشرعية ، أو غير ذلك من مداخل العدوان على عقيدة المجتمع وضميره " .
3- أن مما يساهم بشكل غير مباشر في ازدياد هذه الموجة التهجّمية على الإسلام هو غياب الدَّور الذي أناطه الإسلام بكل مسلم ، الا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيما تتجمع ألوف الأصوات لدعم المنكر يختفي الصوت الذي يدافع ويبرر ويدعو ويرشد ، مما جعل الآخرين يتمادَوْن في غيهم لعدم وجود من يردعهم وقد استخدم احدهم مثلاً شعبياص عندما تهجم على مقام الإفتاء نعيده إليه هنا " يا فرعون من فَرعنَك ؟ قال : ما لقيت حدا يردني ".
ألا يكفي انتهاك حرمة القرآن سبباً للوقوف في وجه اعدء هذا الدين ؟ ألا يجب على كل مسلم نصرة هذا الدين بما أُتيح له من وسائل ؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " رواه مسلم .(1/409)
لماذا يريد المسلم اليوم ان يقفز إلى الاستنكار بالقلب ويتخلى عن باقي الوسائل التي لا تزال متاحة أمامه ؟
إن اعداء الإسلام يستخدمون سلاح اللسان ويتمسكون به ويقاتلون من أجله ، فلماذا لا يستخدمه المسلمون ليدافعوا عن أنفسهم وعقيدتهم ويسيتفيدوا من حرية الرأي التي يريد الآخرون احتكارها لنفسهم ؟
إن من أسباب فقدان النصر الجُبن والضعف وعدم التوكل على الله عز وجل ، قال سبحانه وتعالى : " ولينصرن الله من ينصره " الحج ، 40.
إن المسلم اليوم يتوكل على الله في حظوظه وشهواته ولا يتوكل عليه في نصرة دينه وإعلاء كلمته ، ولا يقوم بواجبه الديني في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا يظنن أحد أن الجهاد يكون فقط بالسلاح بل إن " الجهاد بمفهومه الواسع يعني أي حركة إيجابية للمسلم ( وفق منهج الله ) يقاوم بها أي فكرة أو سلوك او نظام منحرف داخل نفسه أو داخل المجتمع ( المحلي والعالمي )" .
إن المسلمين اليوم لم يكتفوا بترك هذه السنن بل منهم مَن وقف في صَفّ الكفار والملحدين إما جهلاً بدينه أو جُبناً وتمسكاً بمصالح دنيوية وصل إليها ، وقد وصف ابن تيمية حال مثل هؤلاء بقوله : " كثيراً ما يجتمع في كثير من الناس أمران بُغض الكفر وأهله وبُغض نَهيهم وجهادهم ، كما يحب المعروف وأهله ولا يحب أن يأمر به ولا يجاهد عليه بالنفس والمال ، وقد قال تعالى : " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون " الحجرات ، 15.
وقال تعالى : " قل إن كان آباؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتى يأتي الله بامره والله لا يهدي القوم الفاسقين " التوبة ، 24.
وفي الختام نذكر بعاقبة تَرك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفاً من أن يمسّنا عذاب الله الذي حذّر منه رسوله عليه الصلاة والسلام بقوله : "والذي نفسي بيده لتامُرُنّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو ليوشكن أن يبعث الله عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعُوُنه فلا يستجاب لكم " رواه أحمد .
د. نهى قاطرجي
============
قوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) فهل يعني أن ألإنسان مُخيّر في اختيار الدِّين ؟
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
عضو مركز الدعوة والإرشاد بالرياض
السؤال :
قال الله تبارك وتعالى : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ )
هذه الآية تدل على أن اختيار الدين من الأديان السماوية من جانب العباد يكون اختياريا وليس جبريا .
فلماذا خلق الله عز وجل الجنة والنار ؟
لان هذا الخلق يجبرون الناس أن يتخذوا دينا
وهذا يدل على أن اختيار الدين كان جبريا حتى لا يدخل النار
جزاكم الله خيرا وأحسن جزاء
في الدنيا والآخرة
الجواب :
أولاً : اختيار دِين سماوي ليس على إطلاقه أنه اختياري ، بل اختيار دِين الإسلام فحسب ، إذ لا يُقبَل من أحد دِين غير دِين الإسلام بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
ومن الأدلة على ذلك :
قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
وقوله صلى الله عليه وسلم : والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به ، إلا كان من أصحاب النار . رواه مسلم .
ولأن دِين الإسلام ناسخ لما قَبْله من الأديان ، لأنه خاتمة الأديان .
قال تعالى : (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) .
ثانياً : قوله تعالى : (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ليس معناه أنه لا يُجبر أحد ولا يُكرَه على دِين الإسلام ، لأمور ، منها :
الأول : قوله تعالى في بقية هذه الآية : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) .
وهذا يُفيد أن الإيمان هو الملجأ وهو الْمُنقِذ .
وهو كقوله تعالى : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) فليس هذا على سبيل التخيير ، فإن الله قال في تتمة الآية : (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) فهذا بيان لسبيل الفريقين ، ولِحَال الطائفتين : المؤمنين والكفّار .
فهذا سبيل النجاة ، وذلك سبيل الهلاك
وهذا على سبيل التهديد ، وليس على سبيل الاختيار .
كما أن الإنسان ليس حُرّاً في اختيار دِين من الأديان ، ولا في اختيار الكُفْر ، لأن الكُفر شر وضلال ، وصاحبه في النار .
وهذا كما يقول الْمُربِّي لابنه : هذا صواب وهذا خطأ .
وهو - قطعاً - لا يُريد منه اختيار الخطأ .
ولله المثل الأعلى .
الثاني : أن هذه الآية منسوخة في حق غير أهل الكتاب .
قال الشعبي : هذا في أهل الكتاب لا يُجْبَرُون على الإسلام إذا بَذَلُوا الجزية .
وقد ذَكَر القرطبي في الآية ستة أقوال ، فليُراجَع : الجامع لأحكام القرآن .
الثالث : أن دِين الإسلام من الوضوح ، وكونه دِين الفِطرة - أي مُوافِق للفِطَر - لا يَحتاج معه إلى إكراه وإجبار .(1/410)
قال ابن جُزيّ في قوله تعالى : ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) : المعنى أن دين الإسلام في غاية الوضوح وظهور البراهين على صحته بحيث لا يحتاج أن يكره أحد على الدخول فيه ، بل يَدخل فيه كل ذي عقل سليم من تلقاء نفسه دون إكراه ، ويدل على ذلك قوله : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) أي قد تبين أن الإسلام رشد ، وأن الكفر غَيّ ، فلا يَفتقر بعد بيانه إلى إكراه . اهـ .
وقال ابن كثير : ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) : أي لا تُكْرِ هوا أحداً على الدخول في دين الإسلام فإنه بَيِّن واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يُكرَه أحد على الدخول ، فيه بل من هداه الله للإسلام وشَرَحَ صدره ونوّر بصيرته دَخَلَ فيه على بَيِّنة ، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يُفيده الدخول في الدين مُكرَها مَقسُورا . اهـ .
والله تعالى أعلم .
=============
الشبهة الأولى : (( وجوب ترك الاحتساب بحجة تعارضه مع الحرية الشخصية ))
الدكتور /فضل ألهى
يقول بعض الناس :
" يجب علينا أن نترك الناس وشأنهم ولا نتدخل في شؤونهم الخاصة بأمرهم بالمعروف الذي لا يرغبون في فعله ، ونهيهم عن المنكر الذي يرغبون فيه ، لأن هذا يتعارض مع الحرية الشخصية الثابتة في الإسلام " .
ويستدلّ هؤلاء على صحة رأيهم بقوله عز وجل :( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ) .
كشف النقاب عن حقيقة هذه الشبهة :
سنبيّن بعون الله تعالى حقيقة هذه الشبهة ضمن العناوين التالية :
عدم وجود الحرية الشخصية المزعومة .
المفهوم الإسلامي للحرية الشخصية .
الخطأ في فهم الآية : (( لا إكراه في الدين )).
ثبوت وجوب الحسبة بنصوص الكتاب والسنة .
قيام الرسول بالاحتساب .
تشريع الحدود والتعزيرات ينقض الشبهة .
أولاً: عدم وجود (( الحرية الشخصية )) المزعومة .
لنا أن نسأل أصحاب هذا القول : أين تلك (( الحرية الشخصية )) المزعومة ؟ . أفي مشارق الأرض أم في مغاربها ؟هل وجدتموها في أنظمة شرقية أم في أنظمة غربية ؟ كلا ، لا عند هؤلاء ، ولا عند أولئك . يُطالب المرء بالخضوع والامتثال لقواعد و أنظمة على رغم أنفه حيثما حل وارتحل.
هل يُسمح لأحد في الشرق أو الغرب أن يعبر التقاطع والإشارة حمراء ؟ هل يُعطى في الغرب لأحد حق بناءبيت بماله الذي اكتسبه بكد جبينه على الأرض التي اشتراها بخالص ماله كيفما شاء من غير مراعاة الضوابط التي وضعتها أمانة تلك المدينة التي هو فيها ؟ و الأمر في الشرق أدهى وأمرّ ، ليس له أن يملك بيتاً .
ثانياً : المفهوم الإسلامي للحرية الشخصية :
الحرية الشخصية التي منحها الإسلام للعباد هي أنه أخرج العباد من عبودية العباد ، ولا يعني هذا إخراجهم من عبودية رب العباد ، ما أحسن ما عبر القرآن الكريم عن هذا : ((ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون )) .
فالمطلوب في الإسلام أن يتحرر العبد من كل من سوى الله ويصير عبداً منقاداً مطيعاً مستسلماً لله الواحد الخالق المالك المدبر . وهذا ما عبّر عنه سيدنا ربعي بن عامر ( مجيباً على سؤال رستم بقوله : (( الله ابتعثنا ، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله )).
ومن النصوص التي تدلّ على أن المؤمنين مطالبون بالاستسلام لله تعالى والعمل بجميع أوامره وترك جميع نواهيه قوله تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة )).
يقول الحافظ ابن كثير في تفسير الآية : (( يقول الله تعالى آمراً عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه ، والعمل بجميع أوامره ، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك )).
وبيّن المولى عز وجل أنه لا يبقى لمؤمن ولا مؤمنه أدنى خيار بعد مجيء أمر الله تعالى و أمر رسوله ، قال تعالى: (( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً )).
وصوّر لنا السميع البصير مبادرة المؤمنين إلى امتثال أوامره وأوامر رسوله حيث يقول عز من قائل (( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا و أولئك هم المفلحون )).
فأين أصحاب (( الحرية الشخصية )) المزعومة من أولئك؟.
ثالثا: الخطأ في فهم الآية : (( لا إكراه في الدين )) :
ليس معنى الآية بأن للناس كلهم فعل ما يشاؤون وترك ما يشاؤون ، وليس لأحد إلزامهم على فعل الخير الذي تركوه أو اجتناب الشر الذي فعلوه ، بل المراد بالآية - والله أعلم بالصواب - كما يقول الحافظ ابن كثير : (( أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في الإسلام)).
وحتى هذا ليس لغير المسلمين كلّهم بل رجّح كثير من المفسرين بأن هذا الحكم خاص بأهل الكتاب ومن شابههم. وأما عبدة الأوثان من مشركي العرب ومن شابههم فلا يُقبَل منهم إلاّ الإسلام أو القتال معهم . وفي هذا يقول الإمام ابن جرير الطبري بعد نقله أقوالاً مختلفة في تفسير الآية : (( وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : نزلت هذه الآية في خاص من الناس ، وقال : عني بقوله تعالى ذكره : (( لا إكراه في الدين )) أهل الكتاب والمجوس وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق ، وأخذ الجزية منه )).(1/411)
ثم يقول مبيّناً سبب ترجيح هذا القول : (( وكان المسلمون جميعاً قد نقلوا عن نبيّهم ( أنه أكره على الإسلام قوماً فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام ، وحكم بقتلهم أن امتنعوا منه، وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب ، وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر ومن أشبههم ، وأنه ترك إكراه آخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه ، وإقراره على دينه الباطل ، وذلك كأهل الكتابين ومن أشبههم )).
قد آن لنا أن نسأل أصحاب هذه الشبهة : أيهود أنتم أم نصارى ، فيُكتُفى بقبول الجزية منكم ، فلا يأمركم أحد بمعروف تتركونه ولا ينهاكم عن منكر تفعلونه ؟.
رابعاً : ثبوت وجوب الحسبة بنصوص الكتاب والسنة :
إن هؤلاء أخذوا آية واحدة وحاولوا تأويلها وفق أهوائهم وتجاهلوا تلك النصوص الكثيرة الصريحة الواضحة التي لا تترك مجالاً للشك والتردد في فرضيّة الحسبة . أين هؤلاء من تلك النصوص التي وردت فيها صيغة أمر للقيام بالاحتساب ، وصيغة نهي للمنع عن تركه ؟ وذلك مثل قوله تعالى: (( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ))، ومثل قوله : (( مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يُستجاب لكم )). ومثل قوله : (( لا يمنعن رجلاً منكم مخافة الناس أن يتكلّم بالحق إذا رآه وعلمه )).
وكيف يؤول هؤلاء النصوص التي قُرِن الإيمان فيها بالاحتساب ، فحُكِم فيها بقوة الإيمان وضعفه مع قوة الاحتساب وضعفه ؟ وذلك مثل قوله : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، وإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان )).
وبماذا يفسر هؤلاء تلك النصوص التي تجعل (( التواصي بالحق )) من شروط نيل الفوز والفلاح ؟ وذلك مثل قوله تعالى : (( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)).
وكيف يتجرأ هؤلاء على تحريف النصوص التي وعد الله تعالى ورسوله ( فيهما بالعذاب على ترك الاحتساب ؟ وذلك مثل قوله تعالى : (( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب )).
إلا يستحي هؤلاء من تكذيب ما أخبر به من هو أكبر شيء شهادة وأصدق قيلا عن نزول اللعنة على ترك الاحتساب ؟ وذلك في قوله عز من قائل : (( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون )).
أليس في هذا وذلك ما يمنع هؤلاء من القول : (( إن الاحتساب يتعارض مع الحرية الشخصية الثابتة في الإسلام ؟ )) فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ؟
خامساً : قيام الرسول الكريم بالاحتساب :
لنا أن نسأل أصحاب هذا القول : على من أنزلت الآية : (( لا إكراه في الدين ))؟ أعليكم أنزلت أم على سيّد الأولين والآخرين إمام الأنبياء وقائد المرسلين ؟ أأنتم أعلم بمرادها أم هو الذي أسند إليه أمر بيان المنزل ؟ ، يقول تعالى : (( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون )).
وهل أمر عليه الصلاة والسلام الناس بالمعروف ونهاهم عن المنكر أم تركهم وشأنهم مراعياً مبدأ الحرية الشخصية المخترعة ؟ لقد قام ( بالاحتساب في البيت والشارع ، وفي المسجد والسوق ، وفي الحضر والسفر ، وفي الحرب والسلم . ويغنينا في هذا المقام عن ذكر أمثلة احتسابه وصف أصدق القائلين اللطيف الخبير له بقوله : (( يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر )).
ونستفسر أصحاب هذه الشبهة أيضاً : أُمِرنا باقتداء من ؟ أ أُمِرنا باقتداء من اتخذ إلهه هواه أم أُمِرنا بالتأسي بمن كان آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر . تعالوا ، فلنقرأ جميعاً قول الباري سبحانه وتعالى : (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً )).
سادساً : تشريع الحدود والتعزيرات ينقض هذه الشبهة :
ماذا سيكون موقف هؤلاء من الحدود والتعزيرات التي شُرِعت لمعاقبة مرتكبي بعض الجرائم ؟ أيردون تلك النصوص الثابتة الصريحة التي جاء فيها بيانها ؟ .
ومن تلك النصوص- على سبيل المثال - ما جاء فيها من عقوبة الزاني : (( البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثّيب بالثيب جلد مائة والرجم )).
وما جاء فيها عمن تزوج امرأة أبيه عن معاوية بن قرة عن أبيه -رضي الله عنه - قال : (( بعثني رسول الله ( إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أضرب عنقه ، وأصفي ماله )).
وما جاء عمن عَمِل عَمَل قوم لوط عليه السلام : (( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به )).
وما بينه الناطق بالوحي الأمين الصادق المصدوق ( عن حكم من ارتد عن الإسلام بقوله : (( من بدّل دينه فاقتلوه )).
ولو كان لمبدأ الحرية الشخصية المختلفة أساس في الإسلام كما يدعي أولئك ما كان مرتكبو هذه الجرائم ليُجْلَدُوا ويُغَرَّبوا أو يُجْلَدُوا ويُرْحَمُوا ، أو يُقتَلوا ، وكان لهم أن يحتجوا: (( هذا مايخصنا نحن ، وليس لأحد حق التدخل في شؤوننا الخاصة )).
بهذا يتضح بعون الله تعالى بطلان رأي من قال بترك الاحتساب بحجة منافاته للحرية الشخصية .
المصدر : كتاب شبهات حول الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر …. تأليف: الدكتور /فضل ألهى
===============(1/412)
محمد الفاتح = شارون !!..هذه هي القشة يا خالص (1-2)
الحمد لله صاحب المن والفضل القائل ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) ، والقائل ( ياأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ...) ، والصلاة والسلام على خير البشرية .. الرحمة المهداة والنعمة المسداة القائل وهو الصادق المصدوق ( ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل )
أما قبل …
فلم أعقد النية على نشر هذا المقال على الشبكة العنكبوتية إلا لثلاثة أمور :
أولا : أني لازلت أجزم بأن هذا الكاتب - أي خالص جلبي - أفاك أثيم ، يكذب الكذبة فيتم بها المائة .. وأن جل مقالاته اجترار لأفكار من حظيرة جودت سعيد و البوطي وممن حولهم ممن مردوا على الحربائية ، وما منشورات دار ( رياض الريس ) مني ببعيد( كيف تفقد الشعوب المناعة ضد الاستبداد) ، ( أيها المحلفون الله لا الملك ) …
والمثل يقول : خالصٌ بالإشارة يفهم .
ثانيا : أن هذا المقال المردود عليه ، استخدمت معه ما تواتر عليه العرف الإعلامي من أن القارئ إذا أراد أن ينشر ردا على مقال ؛ فلا ينشره في أي مطبوعة إلا بعد أن يراسل المطبوعة التي نشرت المقال المردود عليه فإن لم تنشره حق له نشره في أي مكان ..
وبطبيعة الحال راسلت الصحيفة التي عودتنا على صدرها الرحب ، وشفافية الطرح ، ومصداقية الكلمة ، والانفتاح على الرأي الآخر بعد أن انتقلت إليها عدوى ( المحايد ) … فأبت نشره لأنها مازالت - رغم هذا كله - تئن من وطأة المصطلح التسعيني ( خضراء الدمن ) .. وتعتبرني أحد من ساهموا في تأصيل المصطلح !! ولاغرو .. فمدعي الرشد ونديمه صاحب ( إتلاف ) عصا من عُصيّة ، وهل تلد الحية إلا الحية ؟
ثالثا : ما أجده من رواج لفكر ذلك ( المتعصرن ) وبالمناسبة لا أعني بهذا المصطلح ( العصرانية ) التي تتدوال في الآونة الأخيرة .. إنما هو مصطلح ( شخصي ) استلهمته من آلات عصر الفاكهة والقليل من الخضار ، فأصبح مرادف لما آلت إليه الفاكهة بعد عصرها من شح وهزال وأحيانا زوال !!
أقول : دفعني لهذا الأمر ما رأيته من رواج لفكر خالص بين الأحداث وأصحاب المراهقة الفكرية ، الذين تقلبوا في قانون نيوتن ورد فعله .. فغدا خالص لديهم المفكر والمنظر وصاحب الجبة ، يذكرونني بالمثل القائل - إن لم تخني الذاكرة وقوموني إن أخطأت - : (( الغربان على أشكالها تقع )) ، وأصبح (( اللاعنف )) و (( اللاإكراه )) أسمى شعاراتهم التي يتشدقون بها صباح مساء .. فهنيئا لهم ، ولعلهم ينتدبون شيخهم خالص جلبي لوزارة الداخلية ليقترح عليهم تضمين ذلك الشعار في الحملة المرورية القادمة بدلا من شعار ( حتى لا تروح الروح ) ، من باب التأصيل والمنهجية للأتباع !!
وقد قام الأخ الفاضل سليمان الخراشي (1) بتأليف رسالة قيمة في كشف عوار ( المتعصرن ) وطلابه فجزاه الله خيرا على ذلك المجهود .
تلك الأمور - وغيرها أضمرتها في نفسي - جعلتني أقوم بنشر هذا الرد مزجيا الشكر لكل من الشيخين عدنان النحوي ومحمد العبدة بإفادتهما لي حول هذا الموضوع .. والله سبحانه هو المستعان .
ثم أما بعد …
فلقد نشر الكاتب خالص جلبي في جريدة "الشرق الأوسط" في العدد(8310) بتاريخ 10 جمادى الآخرة 1422هـ الموافق 29 /8/2001م يوم الأربعاء مقالاً بعنوان ( لا إكراه في السياسة ) ..
فعجبت كيف يتساءل الكاتب عن فتح القسطنطينية سنة 1453م على يد القائد المسلم محمد الفاتح ويقول هل كان فتحها إسلامياً ؟! وأعجب كيف ينكر على المسلمين فرحتهم بهذا النصر ويحزن لدموع الذين هزموا فيها! وعجبت أن الكاتب قرن ما وقع من بعض النكبات للمسلمين في قرون تالية بعد فتح المسلمين بسبب ذلك الفتح ، وعجبت من بعض الروايات التي يذكرها عن ملابسات الفتح ، ومن تشبيهها بتهجير (ستالين) للمسلمين الشيشان! أو بأعمال (شارون) في فلسطين .
ولابد من تذكير الكاتب بأمور أوجزها بما يلي :
نطمئن خالصا أن فتح القسطنطينية سنة 1453م سيظل شرفاً عظيماً للمؤمنين مدى الدهر ، وشرفاً للإنسان حين يحمل له الفتح أعظم رسالة وأوفر خير وأوسع باب للنجاة. وسيظل هذا الفتح العظيم شرفاً لمحمد الفاتح الذي من الله عليه بتحقيق بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرويه بشر بن سحيم رضي الله عنه في التاريخ الكبير للبخاري وفي المستدرك للحاكم وفي المسند للإمام أحمد :
( لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش جيشها ) ولذلك تسابق الخلفاء المسلمون إلى فتح القسطنطينية لينالوا أجر تحقيق بشرى الرسول صلى الله عليه وسلم هذه. فعلى أبوابها استشهد الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري ،وهو يسعى لتحقيق بشرى مشرقة في التاريخ الإسلامي .
ولا يكون نصر لفريق إلا وتكون هزيمة لفريق آخر ، ولا تكون فرحة في جانب إلا وتكون حسرة في الجانب الآخر . وهل يريد الكاتب أن ينتصر المسلمون دون أن ينهزم المشركون . كما إني أطمئنه إلى أن الله أحل لنا أن نفرح بنصر الله ، فالنصر من عند الله ، ينصر من يشاء ، إلا إذا كان الكاتب يحل فرحة الإنتصار لغير المسلمين ولا يحلها للمسلمين :
(... ويومئذٍ يفرح المؤمنون.. بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الحكيم)
( قاتلوهم يعذبهم الله بأيدكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين)(1/413)
وليت الكاتب شارك المسلمين فرحتهم بالنصر ، وبالفتح الإسلامي المبين .. ولا أدري لماذا أغفل الكاتب كيف أنجد البابا وحكام جينوا " قسطنطين دراغاريس" بجيش عظيم ، وكيف أن نصارى القسطنطينية لم يسكبوا الدموع لأنهم كانوا يعانون من ظلم ملكهم وفساده ، وانتشرت بينهم رسالة مشرقة صادقة عن عدل الإسلام ، وعدل محمد الفاتح ، حتى قام أحد وزراء النصارى "توتاراس" ينادي في شوارع المدينة قائلا ً(( أود من سويداء قلبي أن أشاهد في القسطنطينية تاج السلطان من أن أرى بها إكليل بابا أو قلنسوة كاردينال )) ! .. فالإسلام – يا خالص - قد فتح قلوب أهل المدينة قبل أن يفتح الجيشُ المدينة َ ، ومسح الإسلام الذي دخل القلوب الدموع التي كانوا يذرفونها من ظلم ملكهم .
إن الفتح – يا خالص - كان إسلامياً يُرضي الله ورسوله والمؤمنين ، وأنقذ المظلومين المقهورين ، الذين كانوا يصبون دموعهم قبل الفتح لابعد الفتح . وعسى أن يتلطف المثقف خالص بمراجعة معلوماته عن الإسلام أولاً ثم عن فتح القسطنطينية .
كأنما فتّحوا غُلْفَ القلوب بها : فتحاً من الله لافَتْحاً من القُضُب
قسْطنطِنيّةُ هذا النّور فانتفضي : وكبّري واسجدي لله واقتربي
لولا فتوح رسول الله قلت هنا : فتح الفتوح وهذي زهرة الغَلبِ
تسابق الخلفاء المسلمون لها : على الزمان سباق الصادق الأربِ
فلم ينلها سوى هذا الفتى قَدَراً : لله عِفيه في تُرْكٍ وفي عَرَبِ
ولقد ذهب الكاتب بعيداً وأساء كل الإساءة وخالف العلم والحقائق حين هبط فشبّه محمد الفاتح حيناً بستالين وحيناً بشارون ! عجباً كل العجب! حتى لو وسوس له الشيطان بهذا الخطأ ، لكان هناك ألف سبب يمنعه من إطلاق هذه الأقوال . وما كان لرجل مسلم يأخذ حقائق تاريخه من ظنون أعدائه ويدع الحديث الشريف وتاريخ الصحابة ، وحسبك أبو أيوب الأنصاري .
وستظل القسطنطينية غاية من غايات الفتوح الإسلاميّة . فهذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يرويه معاذ بن جبل رضي الله عنه في سنن أبي داوود عن فتح آخر لهذه المدينة قبيل ظهور الدجال :
(( الملحمة العظمى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر . وفي حديث آخر جاء فيه (( ... وخروج الملحمة فتح القسطنطينية ، وفتح القسطنطينية خروج الدجال )) ثم ضرب بيده على فخذ الذي حدثه أو منكبه ، ثم قال : إن هذا لحق كما أنك هنا ...)) !!
إن القسطنطينية تمثل بشرى بعد بشرى للمؤمنين ، ونصرا بعد نصر ، وفتحا بعد فتح .
وأعجب لماذا يغضب خالص من أمر يفرح له عيسى عليه السلام . فالرسول عيسى عليه السلام وسائر الأنبياء لم يأمروا ببيع ولا كنائس ، وإنما أقاموا مساجد يعبد فيها الله ويسجد الصادقون فيها لربهم جل وعلا .
كنيسة آلت إلى مسجد *** هدية السيد للسيد
هكذا يا جلبي يفهم تاريخ المسلمين ، وبهذه الروح لا بأسلوب يحمل الغيظ لكل خير يصيب المسلمين ، والغيظ لكل آسى يصيب غيرهم .. ولم أعهد هذا إلا فيما ذكره ربي (( إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ... )) .
لذا .. لا مجال لأن تقرن كنيسة القيامة في القدس بكنسية القسطنطينية التي قلت إنها قامت على الظلم الكبير حين أفرغ جوستنيان خزينة الدولة من اجل بنائها في تنافس ظالم على الدنيا وأطماعها .. تنافس بين ظالمين لم يأخذوا من النصرانية إلا شعارها.
إن محمدا الفاتح قائد مسلم لبى داعي الله ، فحمل أعظم رسالة لدى البشرية ، رسالة الإسلام ، ليبلغها للناس كافة . هذا أمر الله له ، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم .
ولقد كانت الفتوح الإسلامية عملا فريدا في التاريخ البشري كله .. تحمل النداء الرباني الذي نادى به ربعي بن عامر(( لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة )) كل ذلك – يا خالص – على ميزان رباني لا علماني !
ودونك عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية وجد محمد الفاتح وحامل وصيته يوصي ابنه أورخان وصيته الرائعة التي تكتب بماء الذهب فيقول (( اعلم يا بني أن نشر الإسلام وهداية الناس إليه وحماية أعراض المسلمين وأموالهم أمانة في عنقك سيسألك الله عنها...)) فهل قصر فهمهم عن هذا ؟
إن فتح القسطنطينية – بتوفيق الله – كان له أبعد الأثر في عزة الإسلام والمسلمين وكفاه أن ساهم بشكل فاعل في تأخير العدوان المستمر والمحاولات النامية الجادة ضد الإسلام والمسلمين . فالحرب دائرة لم تتوقف إلا عند انطلاقة كانطلاقة فتح القسطنطينية ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ... ) .
ليطمئن خالص وليبتلع بطيخة الصيف ؛ ففرحة المؤمنين ببشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست (( بظاهرة الوعي الانتقائي والعمى التاريخي )) كما زعم . إنما هي ظاهرة الوعي الممتد والبصيرة المؤمنة . لا ضير من أن ننقد تاريخنا ، ونظهر الحسن والقبيح .. ولكن على أساس ميزان واضح وثابت .. ميزان رباني غير علماني ، وبروح إيمانية وليس بروح مدمرة ، فالنقد يهدف إلى البناء والإصلاح لا التدمير والإفساد ..
وإن أعجب فعجب من قول خالص عن الخليفة المسلم (( وتدثر الخليفة مرتاحا بين الغلمان والحريم بعباءة كسروية )) !! ولاغرو .. فوسوسة الشيطان تزين الباطل في بعض النفوس ، وتظهر الأزمات النفسية من خلال لحن القول .. فهل من العدل تشبيه المؤمنين بالكافرين والوثنيين !(1/414)
إن المغالاة بتصوير فتح القسطنطينية وتحويله إلى عملية ذبح ، وطرد لعلمائها محاولة غير عادلة ؛ فالحرب قتال ، سيُقتل أناس من هنا وهناك ، فليست العملية ذبح أهلها ، وإنما ذبح المقاتلين من قسطنطين وجنوده ، ففر من فر من أعوانه الظالمين حتى غدا فتح القسطنطينية بشرى لأهلها وخيرا كبيرا ونورا وهداية ونجاة مما كانوا فيه من فتنة وظلم وضلال.
لقد كتب الله على المؤمنين القتال ، وليس القتال هو الذي يكره الناس على الإيمان ، فلا إكراه في الدين . ولكنه يزيل الحجب والعقبات التي تحول دون أن يرى الناس نور الإسلام ليؤمنوا به ، ويزيل ( الصد عن سبيل الله ) لإنقاذ البشرية من عذاب الآخرة ، هذا بميزان من يؤمن بالآخرة ويؤثرها على الدنيا ، لا بميزان ( الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ... )
يبدو أن خالصا وشيخه جودت لم يفقها من آي الله جل وعلا إلا كلمة ( لا إكراه ) ، فحولها يدندنان وعليها يتكئان ... نعم ( لا إكراه في الدين ) ليست بذريعة لأن يترك الناس هملا لا يبين لهم الحق بدلا ، ولا يجاهد من أجل ذلك الحق ، فالله سبحانه لا يرضى لعباده الكفر ، وأمر عباده المؤمنين بإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذنه .
والنصوص الثابتة التي يعقلها أصحاب البصيرة تبين أن من مات على غير دين الإسلام فهو خالد مخلد في نار جهنم .. وهذا القرآن الكريم بين يديك – يا خالص - ؛ أفيترك الناس إلى أهوائهم وشهواتهم وشياطينهم يزينون لهم الفتنة والفساد والضلال ، حتى يموتوا هالكين ، فتقر عين كاتبنا الكريم ؟!
(( إن تاريخنا ليس مقدسا )) ولكن الحق الذي يحمله والرسالة التي يحملها هي المقدسة، يحملها بشر تجري عليهم سنن الله . تدرس عيوبهم وأخطاؤهم لتجنٌّبها ، ولا يظلموا لأجلها فينسى فضلهم وجهادهم وصلاتهم وعبادتهم فيشبهون بكسرى ، وتربط حياتهم ( بالغلمان والحريم ) .. إنه أسلوب الهدم والظلم لا النقد والنصح . والأخطاء في تاريخنا يعرفها الكثيرون وليس أ. جلبي وحده ، والفرق يكمن في أن الذين درسوها من خلال منهج الله كانوا يرجون صلاح الأمة لا تمزيقها ، ويرجون بناء المستقبل لا هدمه .
سك النقود باسم هارون الرشيد أو غيره ليست بجريمة نهدم بها تاريخنا كله ، والدعوة لهم من على المنابر لا يجعلهم جميعا من عتاة المجرمين ... كلمات وألفاظ بحاجة إلى مراجعة وتقويم وإعادة نظر في عقلية قائلها.
إن أسلوب خلط الأمور الذي عمد إليه خالص عندما انتقل إلى دراسة الواقع اليوم ، غلب عليه الأسلوب المغري المخفي للمغالطات الواسعة ، فالأحداث الكبيرة التي ذكرها لا يحكم عليها بألفاظ عائمة ليُعزى كل شر فيها (( للعسكر )) فقط !! .. فالعكسر أو الجيش أو المقاتلون إذا انطلقوا عن إيمان ورسالة وصدق التزام على نهج رباني ، يصبح الجيش ضروريا لا غنى عنه . وهل من أمة استغنت عن الجيش لحماية نفسها وأرضها ، وهل من عقيدة تحمي نفسها دون أن تعد العدة كما أمر الله .
ولقد استخدم الكاتب كلمة ( العنف ) وكأن العنف لا يصدر في واقعنا اليوم إلا عن المسلمين ، فهم وحدهم الملومون في فلسطين والبوسنة والشيشان وكشمير وأفغانستان ، كان عليهم أن يلقوا السلاح ، ويقولون سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا ، فيداسوا بالأقدام أو يساقوا كالنعام ! كما يريد الكاتب !!
فهل غاب عن ناظريك يا خالص ( براءة ) الطرف الآخر ، فغدت مجازره – بنظرك – حدائق يانعة ، وظلمه عدل ، وقتاله أصل مشرع !!
هلا وجهت كلمتك لهم ، ودرست تاريخهم فلربما ظفرت بفاتح من عندهم تنتقده وتضعه في ميزانك الجائر الذي طففت به لا من الناحية الإيمانية ، ولا العلمية ، ولا الأدب مع قادة نصروا الله فنصرهم ، ونصروا دينه فأعزهم.
لقد ذكر الكاتب قضايا كثيرة من القديم والحديث في صورة مشوهة . كل قضية بحاجة إلى دراسة أمينة على ميزان أمين . فلم يكن أحد ليعجب الكاتب لأنه – حسب رأيه – كان له عسكر ، وجيش ، ودولة !! فالجريمة هي القوة لدى المسلمين ، أما الآخرون فمباح لهم أن يملكوا كل سلاح ليفتكوا ويبيدوا قطيعا من الأغنام تظل واقفة تنظر الجزار يحد شفرته !
ليتك تطلب من كبار المعتدين في الأرض اليوم أن يوقفوا أسلحة الدمار الشامل التي يملكونها ، ودعك من المسلمين فعسى الله أن يمدهم بعونه ، وهم يجابهون الواقع اليوم أما زحف ( عسكر الأعداء ) وهم لا ( عسكر ) لهم !
وليتك يا خالص تخلص نفسك من ميزانك ، وتستقيم على ميزان لا يبخس الناس أشياءهم ، يحب المؤمنين فينصح ولا يدمر ، ويكره الكفر والكافرين ولا ينصرهم ، ولا يشبه محمد الفاتح بستالين مرة وبشارون مرة ، وبآخرين مرات !!
(( إن شدة استحكام القوة أو أفكار القوة ليست في مفاصل الفكر الغربي ليفسدوا في الأرض )) كلا ! إن القوة وأفكار القوة مستحكمة في مفاصل الأمم والشعوب كلها ، فهي لدى البعض لجمع ثروات الأرض لذواتهم ونشر الفساد لغيرهم ، ولدى البعض الآخر تكون القوة لحمل رسالة ربانية أمرهم الله أن يعدوا ما استطاعوا من قوة وعزيمة .
إن قضيتنا الأولى – يا خالص – هي قضية الإيمان الصادق والتوحيد الصافي والدين الحق الذي تحتاجه البشرية كلها لتنقذ نفسها مما هي فيه من صراع مستمر وحرب وإبادة ، وعدوان بعد عدوان ، ولتنقذ نفسها من عذاب الآخرة .
وليست قضيتنا الأولى الاشتراكية أو الديمقراطية أو الشيوعية أو الرأسمالية أو غيرها من المصطلحات التي يتخفى تحتها الظالمون … إنها مذاهب بشرية متناحرة ، والإسلام دين الله ! فمن خرج عن هذا الدين الحق أهلك نفسه ، ولو حمل بطاقة دنيوية إسلامية .
ودونك الفذلكة :(1/415)
أ. خالص .. كفاك تعلقا بفكرة ( اللاعنف ) و كفاك تشكيكا بمبدأ الجهاد ، وكفاك ترديدا وانتصرا لأقوال المستشرقين ومن ناصرهم من اللاحقين في هجومهم الشرس على الفتوحات العثمانية والدولة الأموية التي لم تأت إلا من غيظهم وحقدهم ...ودع عنك ترنمك بنشيد السلم العالمي ، والحنين إلى أيام غاندي ونهرو وطاغور ومياه الغانج المقدسة .. واستيقظ من سبات الوهم ، والحلم الشاعري ، والطوباوية ( اللاواقعية ) .
أ. خالص .. إن التعلق بالسلام أمر طيب ، والتنفير من الحروب شعور نبيل ، إلا أنه أمر غير واقعي وغير شرعي، بل هي فكرة خيالية محضة، تنافي مبدأ الصراع الذي ذكره القرآن الكريم ((ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)) .. و تنافي مبدأ الجهاد في الإسلام، وهي غير واقعية لأن من طبيعة البشر التغالب والعدوان إن لم يردعهم رادع، والدول الكبيرة القوية تأكل الضعيفة إن لم يكن عسكرياً فاقتصادياً. والبشرية لن تبلغ رشدها إلا إذا حكمها الإسلام... وهاهي الأيام التي راهنت عليها وأساتذتك تثبت لنا وترينا دعاة السلام من أتباع غاندي وقد داست دباباتهم مسلمي كشمير ، ويعدون العدة مع التحآلف المشؤوم لضرب باكستان .. فأين تلك الشعارات، وهل أغنى رفات غاندي الملقى في مياه الغانج المقدسة ؟
أ. خالص .. إن العثمانيين بشر ، لهم أخطاؤهم ولاشك لكن (( يكفيهم في ميزان الله أنهم توغلوا في أوروبا الصليبية ، وفتحوا للإسلام ما فتحوا من أراض وقلوب .. ويكفيهم أنهم حموا العالم الإسلامي من غارات الصليبيين خمسة قرون متوالية .. ويكفيهم أنهم منعوا قيام الدولة اليهودية على أرض الإسلام - محمد قطب - ))
وكأني بالسيد سيد - رحمه الله - يسائلك في معالمه فيقول (( ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة ، أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض ؟! وكيف كانوا يدفعون هذا المد أمام تلك العقبات المادية من أنظمة الدولة السياسية ، وأنظمة المجتمع المختلفة التي تحميها القوة المادية للدولة كذلك ؟! إنها لسذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير الإنسان في الأرض كل الأرض ، ثم تقف أمام هذه العقبات ... لتجاهد باللسان والبيان !! ))
فهل من مدكر ؟
أسأل الله لي ولك ولجميع المسلمين الهداية والرشاد ... إنه سميع مجيب
أبو عبدالعزيز الظفيري
===============
هل سيشهد العالم موت الأزهر ؟ [1]
موسى محمد هجاد الزهراني
والله لو طوفت البلاد كلها طولاً وعرضاً لا تجد بلداً يحب الهداية للناس ويساعدهم على ذلك بكل فخر ووسيلة مثل بلادنا ، بلاد الحرمين الشريفين ، حماها الله من عبث العابثين وكيد الحاقدين ، وأدع من يريد أن يقول عني مايشاء يقل ما يشاء .
لقد صعقت عندما أخبرني العم (محمد الفيومي) وهو رجلٌ قارب الرابعة و السبعين من عمره خبر مظاهرة الفيوم التي تجمهر فيها المئات من النصارى الأقباط مطالبين بإرجاع فتاتين طبيبتين اعتنقتا الإسلام قبل أيام إلى حضيرة الكنيسة ، وربقة الكفر ، بعد أن أنقذهما الله منه ، فوضعت يدي على قلبي أنتظر أن تصدر فتوى من شيخ الأزهر الحالي المعروف بعشقه الشديد لهذه الطائفة ، تأمر بإرجاعهما إلى الأقباط [2]، كما فعل مع امرأة القسيس ( وفاء قسطنطين) [3] التي أسلمت في رمضان المنصرم 1425هـ ، بحجة ( لا إكراه في الدين ) .. وأعجب له أشد العجب وهو رجل يكاد يحفظ تفسير القرءان العظيم لابن كثير من الغلاف إلى الغلاف ،كيف يفسر هذه الآية بما يتفق مع توجهات المؤسسة الرسمية ، وأقباط مصر ؟
ثم إني لا أعجب ، بل أكاد أصعق عندما علمت من أحد الثقات نبأ تنصر امرأة مسلمة وذهاب زوجها إلى هذا الشيخ ليشكو عليه الحال ، فما كان منه إلاّ أن قال له :
( وعايزني أعمل لك أيه ؟ أجيب أمن الدولة علشان يرجعوها لك ، هيه حرة ، لا إكراه في الدين .. من حقها من حقها من حقها !) ..
وفي المقابل يعتصم البابا ومعه حفنة من أولي الأردية السوداء ، حتى تتم لهم مطالبهم ، ونحن - يا عيني - لا بواكي لنا .
أي أمة هذه التي يقر قضاتها العودة إلى الكفر بعد أن أنقذ الله منه ؟ ولماذا لا يعاملون المسلمين على الأقل بالمثل ، فيرجعون المرأة التي تنصرت إلى دينها ؟..
وتسمع أموراً لا علم بها أعداء الرسالة الأوَل ، لما أرضتهم .. من قيام الجيوش والأجهزة الأمنية في هذا الدولة بالسعي لإماتة الدعوة إلى الله تعالى التي بعث الله تعالى بها الأنبياء وختم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا دين إلا الإسلام ، ولا نبي إلا نبينا صلى الله عليه وسلم ، مع الإيمان بالرسل جميعا فلا نفرق بين أحد منهم ، ولا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة ، لا يهودي ، ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلتُ به ، إلا كان من أصحاب النار ) [4]
وهؤلاء ( يسارعون فيهم ... )
* * *
قيل إن شيخ الأزهر هذا طلب هذه الأخت المسلمة ليتحدث معها ، فقلت في نفسي :
ماذا سيقول لها ؟ هل سيقول إنك أخطأتِ حينما اخترت طريق الحق ، وتركتِ طريق الضلالة ، وأنه ينبغي عليك أن تعودي إلى الكفر ، وعبادة البابا ، والصليب ، وأكل الخنازير !.. أو أنه سيقول لها :(1/416)
إن هذه البعثات الدعوية التي يبعثها الأزهر إلى أصقاع الأرض ولاسيما افريقيا السوداء ومناطقها وأدغالها .. كلها كذبٌ ولا اعتبار لها ! وليس هدفها إلا الفسحة وتبذير الأموال وحفظ ماء وجه الأزهر لا الدعوة إلى الله !. ماذا سيقول لها ؟ . وهل فعلا سيشهد العالم موت الأزهر ؟! الذي أصبح يجاهر بالتراجع إلى الخلف عبر رموز تنتقى بعناية للقيام بهذه الطامة ! وهذا الوزر الكبير .. هذا رجل من كبار رجالات الأزهر يتدى مشاعر الموحدين من المؤمنين ، النابذين لعبادة الأضرحة والقبور والطواف حولها يقول : (وانا باقول لمن يحرم الصلاة في المساجد اللي فيها قبور .. تعالوا بصوا وشوفوا .. أهوه .. قبر جوهر الصقلي مدفون هناك في الزاوية اللي هناك .. في الأزهر .. وا دي احنا بنصلي فيه .. عندكم مانع ؟!! ) .. وعلمت من كبار طلاب الأزهر أن هناك ما لا يقل عن أربعة قبور موجودة في الجامع الأزهر .. فهل سيشهد العالم موت الأزهر ؟ ..
يعيب هؤلاء على دعوة الشيخ : محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه ، ويسمونها الدعوة الوهابية المتشددة ، ونحن نقول : نفتخر بهذا التشدد الذي لولاه لكنا إلى اليوم نعبد قبر زيد بن الخطاب في نجد ، ونعبد أشجار نجد وقبورها ، وصنم ذي الخلصة بدوس ، والكعبة اليمانية ، .. أهذا ما يغيظكم ؟! ( قل موتوا بغيظكم ) .. نحن نفخر بأن دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب قد أنتجت أخياراً يحملون همّ الإسلام ، ويبذلون الأموال الطائلة لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، يعيشون مع الناس في هموهم حتى في أقاصي الأرض .. حتى في سجون (قوانتنامو ) ! التي سئل عنها شيخ الأزهر فقال : ( ما عرفش أيه معنى قوانتنامو دي ، وما ليش علاقة بالموضوع ) ! .. وفي المقابل تنتعش البدع والمحدثات التي يفتتح محافلها ، ويبارك إقامتها ، من ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم المزعوم ، إلى ليلة النصف من شعبان ، إلى الإسراء والمعراج ، إلى تسمية الأقباط إخواننا ، إلى تهنئتهم بأعيادهم ، إلى البتاكي على موت البابا ( يوحنا بولس الثاني ) إلى التهنئة للبابا الجديد الحاقد على الإسلام ( بنديكت السادس عشر ) .. والقائمة طويلة .. فبالله عليكم ، إذا استمر الوضع على ما هو عليه :
ألايشهد العالم موت الأزهر ؟ ..
القاهرة
23 / محرم / 1426هـ
-------------------------------------
[1] - أخبرني أحد الإخوة أن هناك مقالاً للشيخ الدكتور / محمد سعيد رمضان البوطي بهذا العنوان ، لم أطلع عليه إلى الآن .
[2] - علمت يقيناً بعدها أن أمن الدولة أرجعت الفتاتين إلىة الكنيسة لتي قامت على الفور بحلق رأسيهما بالموس على الصفر ( الزيرو ) كما يعبرون .. فأسأل الله تعالى أن يبتهما على دينه ويخرجهما من الكفر سالمتين ، وأن ينصرهما على أعدائهما من النصارى الحاقدين والمستسلمين من المتخاذلين المسلمين .
[3] - بعد إسلامها (فاطمة الزهراء ) .
[4] - (صحيح) رواه أبو هريرة ، في مسلم 20 ، ومسند أحمد ، والسلسلة الصحيحة 157، وصحيح الجامع 2/ 7063.
================
الإسلام في عيون غربية منصفة - (1)
د.عبد المعطي الدالاتي
أتابع في هذه المقالة ما كنت بدأت في مقالة " القرآن الكريم في عيون غربية منصفة" وأرجو من القارىء الكريم أن يراجع مقدمة تلك المقالة .
تقول الشاعرة (ساروجين نايدو) :
"لقد كان الإسلام في المسجد عند أداء الصلاة ، وفي ساحة الحرب إذ يقاتل المسلمون صفاً ، وكانت عدالة الإسلام تطبق خمس مرات في اليوم ، عندما كان الأمير والفقير يركعان ويسجدان كتفاً إلى كتف … لقد شدتني مرات ومرات وحدة الإسلام التي لا تتجزأ والتي تجعل من الإنسان أخاً للإنسان … "(1).
ويقول الأمير البريطاني تشارلز : "إن الإسلام يمكن أن يعلمنا طريقة للتفاهم والعيش في العالم ، الأمر الذي فقدته المسيحية ، فالإسلام يرفض الفصل بين الإنسان والطبيعة ، والدين والعلم ، والعقل والمادة"(2).
وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه : "لا إكراه في الدين ، هذا ما أمر به القرآن الكريم ، فلم يفرض العرب على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام ، فبدون أي إجبار على انتحال الدين الجديد اختفى معتنقو المسيحية اختفاء الجليد، إذ تشرق الشمس عليه بدفئها ! وكما تميل الزهرة إلى النور ابتغاء المزيد من الحياة ، هكذا انعطف الناس حتى من بقي على دينه ، إلى السادة الفاتحين"(3) .
ويقول غوستاف لوبون في " التمدن الإسلامي" :
"كل ما جاء في الإسلام يرمي إلى الصلاح والإصلاح ، والصلاح أنشودة المؤمن ، وهو الذي أدعو إليه المسيحيين" .
ويقول المستشرق بول دي ركلا :
"يكفي الإسلام فخراً أنه لا يقر مطلقاً قاعدة (لا سلام خارج الكنيسة) التي يتبجح بها كثير من الناس ، والإسلام هو الدين الوحيد الذي أوجد بتعاليمه السامية عقبات كثيرة تجاه ميل الشعوب إلى الفسق والفجور"(4).
الإسلام دين التسامح:
يقول المستشرق بارتلمي سانت هلر :
" إن دعوة التوحيد التي حمل لواءها الإسلام ، خلصت البشرية من وثنية القرون الأولى"(5).
ويقول العلامة الكونت هنري دي كاستري : "درست تاريخ النصارى في بلاد الإسلام ، فخرجت بحقيقة مشرقة هي أن معاملة المسلمين للنصارى تدل على لطف في المعاشرة ، وهذا إحساس لم يُؤثر عن غير المسلمين .. فلا نعرف في الإسلام مجامع دينية ، ولا أحباراً يحترفون السير وراء الجيوش الغازية لإكراه الشعوب على الإيمان"(6).(1/417)
ويبين الشاعر غوته ملامح هذا التسامح في كتابه (أخلاق المسلمين) فيقول: "للحق أقول : إن تسامح المسلم ليس من ضعف ، ولكن المسلم يتسامح مع اعتزازه بدينه ، وتمسكه بعقيدته" .
ويؤكد هانوتو إعجابه بروعة التسامح الإسلامي فيقول : "إننا مدينون للمسلمين بالعدل والسلم والتساهل الديني ، ومن الواجب أن ندرس هذا الدين ونبذل جهدنا في فهمه، وعلينا أن نتخذ (لا إكراه في الدين) شعاراً "(7).
ويقول المستشرق لين بول : "في الوقت الذي كان التعصب الديني قد بلغ مداه جاء الإسلام ليهتف (لكم دينكم ولي دين) ، وكانت هذه المفاجأة للمجتمع البشري الذي لم يكن يعرف حرية التدين ، وربما لم يعرفها حتى الآن"(8).
الإسلام ملاذ الإنسانية:
يقول المفكر آرثر هاملتون :
"لو توخى الناس الحق لعلموا أن الدين الإسلامي هو الحل الوحيد لمشكلات الإنسانية"(9)..
ويؤكد هذا المعنى عالم القانون مارسيل بوازار :
"إن دخول الإسلام إلى الساحة العالمية ، وإعادة الأمر إلى نصابه بتحقيق التوازن المطلوب ، ليس هو مجرد مشاركة فعالة ، وإنما هو إنقاذ للوضع البشري المنهار" .
ويقول الفيلسوف جورج برناردشو : "الإسلام هو الدين الذي نجد فيه حسنات الأديان كلها ، ولا نجد في الأديان حسناته ! ولقد كان الإسلام موضع تقديري السامي دائماً ، لأنه الدين الوحيد الذي له ملكة هضم أطوار الحياة المختلفة ، والذي يملك القدرة على جذب القلوب عبر العصور(10).. قد برهن الإسلام من ساعاته الأولى على أنه دين الأجناس جميعاً ، إذ ضم سلمان الفارسي وبلالاً الحبشي وصهيباً الرومي فانصهر الجميع في بوتقة واحدة "(11).
ويقول شاعر فرنسة (لامارتين) : "الإسلام هو الدين الوحيد الذي استطاع أن يفي بمطالب البدن والروح معاً ، دون أن يُعرِّض المسلم لأن يعيش في تأنيب الضمير … وهو الدين الوحيد الذي عباداته بلا صور ، وهو أعلى ما وهبه الخالق لبني البشر"(12).
***
" من كتاب " ربحت محمدا ولم أخسر المسيح "
------------------
(1) (مثاليات الإسلام) ساروجيني نايدو (169) .
(2) (الإسلام والغرب) محاضرة الأمير تشارلز في مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية عام 1993 .
(3) (شمس الله تسطع على الغرب) زيغريد هونكه (364-366) .
(4) عن (مقدمات العلوم والمناهج) أنور الجندي (8 / 133 ) .
(5) عن (مقدمات العلوم والمناهج) (8 / 119 ) .
(6) عن (التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام) محمد الغزالي (194 - 196) .
(7) عن (الإسلام والمسيحية مع العلم والمدنية) الإمام محمد عبده (162) وهو كتاب قيم ننصح بقراءته.
(8) عن (الإسلام) د. أحمد شلبي (296) .
(9) عن (محمد في الآداب العالمية المنصفة) محمد عثمان (62) .
(10) من رسالته (نداء للعمل) .
(11) عن (الإسلام) د. أحمد شلبي (294) .
(12) (السفر إلى الشرق) لامارتين (47) .
==============
دراسة مسيحية : الإسلام لم ينتشر بحد السيف
صدرت مؤخراً دراسة لباحث مسيحي مصري هو الدكتور نبيل لوقا بباوى تحت عنوان : (انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والافتراء) رد فيها على الذين يتهمون الإسلام بأنه انتشر بحد السيف وأجبر الناس على الدخول فيه واعتناقه بالقوة.
وناقشت الدراسة هذه التهمة الكاذبة بموضوعية علمية وتاريخية أوضحت خلالها أن الإسلام ، بوصفه دينا سماويا ، لم ينفرد وحده بوجود فئة من أتباعه لا تلتزم بأحكامه وشرائعه ومبادئه التي ترفض الإكراه في الدين ، وتحرم الاعتداء على النفس البشرية ، وأن سلوك وأفعال وفتاوى هذه الفئة من الولاة والحكام والمسلمين غير الملتزمين لا تمت إلى تعاليم الإسلام بصلة.
وقالت الدراسة : حدث في المسيحية أيضاً التناقض بين تعاليمها ومبادئها التي تدعو إلى المحبة والتسامح والسلام بين البشر وعدم الاعتداء على الغير وبين ما فعله بعض أتباعها في البعض الآخر من قتل وسفك دماء واضطهاد وتعذيب ،مما ترفضه المسيحية ولا تقره مبادئها ، مشيرة إلى الاضطهاد والتعذيب والتنكيل والمذابح التي وقعت على المسيحيين الكاثوليك ، لا سيما في عهد الإمبراطور دقلديانوس الذي تولى الحكم في عام 248م ، فكان في عهده يتم تعذيب المسيحيين الأرثوذكس في مصر بإلقائهم في النار أحياء على الصليب حتى يهلكوا جوعا ، ثم تترك جثثهم لتأكلها الغربان ، أو كانوا يوثقون في فروع الأشجار ، بعد أن يتم تقريبها بآلات خاصة ثم تترك لتعود لوضعها الطبيعي فتتمزق الأعضاء الجسدية للمسيحيين إربا إربا.
وقال بباوي: إن أعداد المسيحيين الذين قتلوا بالتعذيب في عهد الإمبراطور دقلديانوس يقدر بأكثر من مليون مسيحي إضافة إلى المغالاة في الضرائب التي كانت تفرض على كل شيء حتى على دفن الموتى ، لذلك قررت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر اعتبار ذلك العهد عصر الشهداء ، وأرخوا به التقويم القبطي تذكيرا بالتطرف المسيحي. وأشار الباحث إلى الحروب الدموية إلتي حدثت بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا ، وما لاقاه البروتستانت من العذاب والقتل والتشريد والحبس في غياهب السجون إثر ظهور المذهب البروتستانتي على يد الراهب مارتن لوثر الذي ضاق ذرعا بمتاجرة الكهنة بصكوك الغفران.
وهدفت الدراسة من رواء عرض هذا الصراع المسيحي إلى :(1/418)
أولاً : عقد مقارنة بين هذا الاضطهاد الديني الذي وقع على المسيحيين الأرثوذكس من قبل الدولة الرومانية ومن المسيحيين الكاثوليك وبين التسامح الديني الذي حققته الدولة الإسلامية في مصر ، وحرية العقيدة الدينية التي أقرها الإسلام لغير المسلمين وتركهم أحراراً في ممارسة شعائرهم الدينية داخل كنائسهم ، وتطبيق شرائع ملتهم في الأحوال الشخصية ، مصداقا لقوله تعالى في سورة البقرة : { لا إكراه في الدين }، وتحقيق العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين وغير المسلمين في الدولة الإسلامية إعمالا للقاعدة الإسلامية لهم ما لنا وعليهم ما علينا ، وهذا يثبت أن الإسلام لم ينتشر بالسيف والقوة لأنه تم تخيير غير المسلمين بين قبول الإسلام أو البقاء على دينهم مع دفع الجزية ( ضريبة الدفاع منهم وحمايتهم وتمتعهم بالخدمات) ، فمن اختار البقاء على دينه فهو حر ، وقد كان في قدرة الدولة الإسلامية أن تجبر المسيحيين على الدخول في الإسلام بقوتها أو أن تقضي عليهم بالقتل إذا لم يدخلوا في الإسلام قهراً ، ولكن الدولة الإسلامية لم تفعل ذلك تنفيذاً لتعاليم الإسلام ومبادئه ، فأين دعوى انتشار الإسلام بالسيف ؟
ثانياً: إثبات أن الجزية التي فرضت على غير المسلمين في الدولة الإسلامية بموجب عقود الأمان التي وقعت معهم ، إنما هي ضريبة دفاع عنهم في مقابل حمايتهم والدفاع عنهم في مقابل حمايتهم والدفاع عنهم من أي اعتداء خارجي ، لإعفائهم من الاشتراك في الجيش الإسلامي حتى لا يدخلوا حرباً يدافعون فيها عن دين لا يؤمنون به ، ومع ذلك فإذا اختار غير المسلم أن ينضم إلى الجيش الإسلامي برضاه فإنه يعفى من دفع الجزية.
وتقول الدراسة: إن الجزية كانت تأتي أيضاً نظير التمتع بالخدمات العامة التي تقدمها الدولة للمواطنين مسلمين وغير مسلمين ، والتي ينفق عليها من أموال الزكاة التي يدفعها المسلمون بصفتها ركناً من أركان الإسلام ، وهذه الجزية لا تمثل إلا قدرا ضئيلا متواضعاً لو قورنت بالضرائب الباهظة التي كانت تفرضها الدولة الرومانية على المسيحيين في مصر ، ولا يعفى منها أحد ، في حيث أن أكثر من 70% من الأقباط الأرثوذكس كانوا يعفون من دفع هذه الجزية ، فقد كان يعفى من دفعها: القُصّر والنساء والشيوخ والعجزة وأصحاب الأمراض والرهبان.
ثالثاً: إثبات أن تجاوز بعض الولاة المسلمين أو بعض الأفراد أو بعض الجماعات من المسلمين في معاملاتهم لغير المسلمين إنما هي تصرفات فردية شخصية لا تمت لتعاليم الإسلام بصلة ، ولا علاقة لها بمبادئ الدين الإسلامي وأحكامه ، فإنصافاً للحقيقة يعني ألا ينسب هذا التجاوز للدين الإسلامي ، وإنما ينسب إلى من تجاوز ، وهذا الضبط يتساوى مع رفض المسيحية للتجاوزات التي حدثت من الدولة الرومانية ومن المسيحيين الكاثوليك ضد المسيحيين الأرثوذكس ، ويتساءل قائلاً : لماذا إذن يغمض بعض المستشرقين عيونهم عن التجاوز الذي حدث في جانب المسيحية ولا يتحدثون عنه بينما يضخمون الذي حدث في جانب الإسلام،ويتحدثون عنه ؟؟ ولماذا الكيل بمكيلين ؟ والوزن بميزانين ؟!
وأكد الباحث أنه اعتمد في دراسته القرآن والسنة وما ورد عن السلف الصالح من الخلفاء الراشدين - رضي الله عنه - لأن في هذه المصادر وفي سير هؤلاء المسلمين الأوائل الإطار الصحيح الذي يظهر كيفية انتشار الإسلام وكيفية معاملته لغير المسلمين.
مجلة الكوثر ، العدد 47، 1424هـ
===============
سياسة نصرانية جديدة ؟؟؟!!!...
تذكر بما صنعه بولص - اليهودي - بدين المسيح عيسى عليه السلام.........
----------
في كل مناسبة وحادثة ذات علاقة يردد قادة العالم النصراني، من ساسة ومفكرين: أنه لا خلاف بينهم وبين الإسلام، وأن الإسلام دين محترم، له تاريخه، ودوره، ووجوده..
والمسلم الذي يقرأ القرآن، يقف أمام هذه الظاهرة النصرانية الجديدة تجاه الإسلام سائلا:
أحقا يعتقدون ما يقولون؟..
أحقا يعتقدون أن لا خلاف بينهم وبين الإسلام؟..
أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مكيدة من المكائد؟.
وحق للمسلم أن يسيء الظن بهؤلاء النصارى، فتاريخهم مع الإسلام والمسلمين قديما وحديثا غير مشرف، حتى في الوقت الذي يدعون فيه التسامح مع الإسلام، هم من جهة أخرى يطعنون ويدمرون بلاد الإسلام.
وإذا كان التاريخ شاهدا عليهم، فإن كلامهم أيضا شاهد عليهم، فهم حينما يزعمون أنه لا خلاف مع الإسلام، يعمدون إلى تقسيم الإسلام إلى: معتدل، ومتطرف؛ ويعلنون أن خلافهم مع المتطرف؛..
مع ملاحظة أن مصطلح الاعتدال والتطرف موجود عندنا أيضا، لكن ليس بمعنى ما عندهم ولا بلفظه، فهو عندنا: توسط وغلو، ونحن نختلف معهم تماما في تفسير تلك المصطلحات، وإيضاح هذا:
أن الإسلام المعتدل عندهم هو في أهم ما يطلبون: الذي يلغي الجهاد تماما، ويقبل بفكرة وحدة الأديان، ويساوي بين الإسلام وسائر الأديان، فلا يكفر اليهود والنصارى وغيرهم؛..
وأما الإسلام المتطرف فهو: الذي يؤمن بالجهاد ويدعو إليه، ولا يقبل إلا الإسلام، ويرفض فكرة تسويته باليهودية والنصرانية، ويكفر غير المسلمين..
وكما رأينا، فإن ما يصفونه بالإسلام المعتدل هو عندنا ليس بإسلام أصلا، بل هو الكفر، وما يصفونه بالإسلام المتطرف هو عندنا حقيقة الإسلام..
فلا بد إذن من التنبه إلى اختلاف مضامين المصطلحات بيننا وبينهم.
لكن لماذا يقولون ذلك؟، وماذا يريدون؟..
وهل هم بحاجة إلى مخادعة المسلمين، وهم القوة الأولى في الأرض اليوم؟.
والجواب:(1/419)
نعم هم القوة الأولى في الأرض اليوم، لكنهم قد جربوا من قبل ضرب الإسلام من الخارج، عبر الحروب الصليبية والاستعمار، ففشلوا، فغير الخطة إلى الضرب من الداخل، وإحداث إسلام جديد يتوافق معهم ولا يخالفهم.. هم يخافون من الإسلام مهما كان ضعيفا، فقد تعلموا أن هذا الضعيف قد ينقلب قويا في أية لحظة..
قد لا يكون مهما أن نشغل أنفسنا بالرد على مزاعمهم وتقسيمهم للإسلام إلى: معتدل ومتطرف، لأننا نعلم أنهم مهما بلغوا فلن يبلغوا أن يكونوا علماءنا وفقهاءنا، فأحكام ديننا لا نأخذه من أعداء ديننا، لكن الذي يحمل على الرد وتفنيد تلك المزاعم إيمان طائفة من المسلمين - وبعضهم يعد في طائفة العلماء - بها، وسعيهم في تقريرها، والتدليل لها، فتراه يقسم المسلمين إلى معتدلين ومتطرفين، ليس بالمعنى الذي نقصده، بل على المعنى الذي يقصده أئمة الكفر، من قادة العالم النصراني، من ساسة ومفكرين..
وهذه هي الفتنة..
إن من نتائج مزاعم قادة العالم النصراني- ومن يقلدهم من المسلمين - حول انتفاء الخلاف بينهم وبين الإسلام: إمكانية أن يتعايش المسلمون الكافرون بسلام، من غير كراهية ولا ضغائن ولا حروب..
فهل حقا يمكن أن يكون هذا؟..
، هذا هو السؤال مهم، فالإجابة عليه يحدد مصير الفكرة، فإن كانت بالإيجاب فالدعوى صحيحة، وإلا فلا، فكيف لنا أن نعرف إن كان يمكن أن يتعايش المسلمون والكافرون بسلام، بلا حروب؟..
للجواب نقول: نعم يمكن معرفة جواب ذلك بالبيان التالي:
الشر، الكراهية، الحروب.. كلها بسبب الاختلاف، ولو وجد الاتفاق ما وقع كل ذلك، أظن أن هذا لا خلاف فيه. إذن لنصل إلى التعايش السلمي الكامل فعلينا أن نمحو الخلاف بين البشر، فهل يمكن ذلك؟..
الجواب: لا، فالاختلاف من طبع البشر، وحقيقة من حقائق الدنيا، والقرآن يدل على هذا أيضا، قال تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}..
والخلاف على نوعين: خلاف لا يفضي إلى عداوة، وخلاف يفضي إلى العداوة..
فأما الذي لا يفضي إلى عداوة، فهو الذي يكون في الفروع وفي القضايا الجانبية، هكذا ينبغي..
أما الذي يفضي إلى العداوة، فهو الذي يكون في المباديء والأسس والاعتقاد، ودليل هذا:
تاريخ الحروب، كلها أو غالبها، سببها الاختلاف في الاعتقاد والمباديء، كالحرب بين الفرس والروم، والحرب بين المسلمين والنصارى، واليهود، والمجوس، وأهل الوثن.. وكذا الحروب العالمية..
إذن مع الخلاف العقدي لا يمكن التعايش السلمي المطلق، والتاريخ كما قلت شاهد على هذا..
إن الشيطان قد نذر بالإغواء، فلا يمكن أن يقف بلا عمل، إن مهمته الإضلال والشر، ومن ثم ينقسم الناس إلى ضلال أشرار، وأهل حق أخيار.. وهذا فريقان نقيضان، لا يجتمعان أبدا، ولا يتفقان، وهما موجودان أبدا، فكيف يدعي هؤلاء إمكانية تعايش العالم بلا عداوات؟!.
فالخير موجود، والشر موجود، وإذا كان كذلك استحال الأمن المطلق، والسلام الدائم، والمحبة والانسجام بين أهل الخير وأهل الشر؟؟!!..
إن قادة الغرب يعلمون كل هذا، لكنها المكيدة، والعجب أن ينساق بعض المسلمين!!!!!!…
ولقد جاء القرآن بحقائق في هذا الباب، تتفق مع التاريخ والواقع، فكل من يقرأن القرآن الكريم لا يمكن أن يصدق تلك المزاعم: أن الغرب الكافر لا يختلف مع الإسلام، بل يقبل التعايش معه..
إن القرآن يقول غير هذا، إنه يقول:
- إن عداوة الكفار للمسلمين راسخة باقية، وإن أخفوا بغضاءهم، فهو يبدو على ألسنتهم.
- أنهم لا يتورعون من أذى المسلمين متى قدروا ذلك.
- أنهم يرضون المسلمين في الظاهر، أما قلوبهم فتأبى.
- أنهم يحسدون المؤمنين على ما اختصهم الله به من الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
- أنهم لن يرضوا عن المؤمنين إلا إذا تبعوا ملتهم.
وهذه هي الأدلة:
- قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون * ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور * إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها}.
- وقال:{إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون}.
- قال:{كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثر فاسقون}.
- وقال: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق}.
- وقال: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم}.
- وقال: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}.
- قوال: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}.
وأمام هذه النصوص الصريحة، والشواهد التاريخية، والحقائق الفطرية، لا يسعنا إلا أن نرد ونكذب دعاوى قادة الغرب من أنه لا خلاف بينهم وبين الإسلام..
* *
هنا مسألة:
لا بد من التفريق بين رد دعوى أنه لا خلاف بين الكفر والإسلام، وبين مسألة التعايش بين المسلمين والكفار، فالآيات والشواهد والأدلة والحقائق تدل على أن الخلاف بين الكفر والإسلام واقع وحقيقي وجذري وأصلي، ولا يمكن الاتفاق..
وأما التعايش السلمي بين المسلمين والكفار فذلك ممكن في حالة واحدة، إذا كان الحكم للمسلمين، ففي الدولة الإسلامية التي تحكم بشرع الله تعالى يمكن أن يعيش المسلمون والكفار بسلام، ذلك لأن الإسلام يأمر العدل وعدم الظلم، حتى مع الكفار، قال تعالى:(1/420)
{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}.
فالكفار منهم المحاربون، ومنهم من ليس كذلك، ومنهم أهل ذمة يعيشون تحت حكم المسلمين، وفي هذه الحالة، عاش أهل الذمة في بلاد الإسلام مع المسلمين في سلم وأمن، يجدون كل أنواع البر والقسط، كما أمر الله تعالى، فالمسلم يتجرد من الهوى، ويفعل ما أمر الله تعالى به، لذا فقد استوعبت البلاد الإسلامية كل الأديان والملل، فلم تؤذ طائفة لأجل دينها، بل التاريخ يشهد بما نعم به كل هؤلاء الكفار من الخير والأمن في البلاد الإسلامية، وهم يشهدون، فعلى الرغم من الخلاف العقدي، إلا أن المسلمين يدركون أمر الله تعالى:
{ لا إكراه في الدين}..
فلا يجبر إنسان على تغيير دينه الذي نشأ عليه، بل يدعى بالحكمة والموعظة الحسنة، فإن استجاب فبها ونعمت، وإلا فله أن يبقى على دينه، شرط أن يلتزم حكم الإسلام فيه، فإن التزم فليس للمسلمين عليه سبيل.. وهكذا يمكن أن يتعايش الكفار مع المسلمين في بلاد المسلمين، تحت حكم الإسلام..
أما في بلاد الكفار، أو إذا كانت السيطرة للكفار في كل حال، فالتعايش مستحيل، والدليل: تلك النصوص القرآنية، التي تدل على استحالة صفاء قلوب أهل الكفر على أهل الإيمان، واستحالة سلامة المسلمين من شر الكفار، إلا إذا تبعوا دينهم، فإذا كان الملك والحكم بأيديهم فلا يتورعون أبدا من ظلم المسلمين والعدوان عليهم، وقتلهم، أو إخراجهم من دينهم..
هذه هي الحقيقة، وكل من يجادل فيها، فهو يتعامى عن الحقائق..
وإذا نظرنا إلى العالم اليوم والغرب محكم قبضته عليه، نعلم أنه من المحال أن يتعايش المسلمون والكافرون بسلام، وكيف يكون ذلك، والغرب يدلل كل يوم على كذب دعواه: بالحروب التي يثيرها في كل مكان، خاصة في بلاد الإسلام، فيقتل الأبرياء، ويدمر القرى والمساكن.. لا أدري كيف يجرؤ على هذه الدعوى، ودعوى أنه لا يختلف مع الإسلام، وهو يفعل كل هذا الشر والعدوان بالمسلمين؟!.
لكن فعلهم هذا يؤكد حقيقة استحالة التعايش السلمي، وكذب دعواهم أنهم لا يختلفون مع الإسلام.. قد يحتج بعضهم بحال المسلمين الذين يعيشون في بلاد الغرب بسلام وأمن.. ونقول:
نعم وجدوا ذلك لأنهم قبلوا العيش تحت قوانينهم، التي لاشك تتعارض في مبادئها وأصولها مع الإسلام، ومن ثم تعذر على المسلمين هناك تطبيق الإسلام شاملا، والعمل بموجبه، بل طبقوه بالقدر الذي سمح به القانون، ولو أرادوا أن يحققوا الإسلام ويمتثلوه كما أنزل، فلا شك أنهم سيخرقون القانون، وإذا فعلوا فلن يجدوا أمنا ولا سلما..
أبو سارة
=============
الحرب الصليبية الحذرة
د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
أكاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام
بيَّن كتاب ضحايا بريئة أن تحقيق هذه الأهداف التنصيرية، لا يأتي ارتجالاً، بل من خلال مؤسسات أكاديمية متخصصة تمد يد العون للمنصر، وتمكنه من التعامل بالأبجديات النفسية والاجتماعية والدينية للفئة المستهدفة
نادرا ما أمسك بكتاب يستهويني فأجد نفسي في حيرة منه، فلا أدري عند أي نقطة فيه أتوقف، أو عن أي قضية أثيرت فيه أتحدث، إلا إن كتاباً وضع بين يدي منذ فترة، استحق هذه الحيرة عن جدارة، فهو كتاب غني بمعلوماته يبحر بك في بحر هائج، والويل لك أيها القارئ لو كنت مثلي لا تجيد السباحة، إذ ستعتقد تارة أنك مهاجم وتارة ستراه من تصنيف أكاديمي يضع الحقائق ثم يحللها ثم يستنبط ما وراءها بحيادية مطلقه،كتاب لا يهادن في إيضاح ما يعتقد أنه الحقيقة، إذ لا يعمد لإخفاء جانب من جوانب الصورة مهما كانت قاتمة الملامح موجعة،هذا هو كتاب " ضحايا بريئة "من تأليف الدكتور(محمد بن عبد الله السلومي).
لقد خرجت من قراءتي لهذا الكتاب بإن الطبيب المحنك قد يضطر لبتر أحد أعضائك رغبة في إبقاء بقية الأعضاء سليمة، أو رغبة في إبقائك حيا ترزق، وبطبيعة الحال قبولك بإجراء مثل هذه الجراحة يستند في المقام الأول على مبدأ الرضا لا على الاستحسان، فقد نعتمد كمجتمعات إسلامية على إجراءات متشددة تفرضها ظروف دخيلة علينا، عمد على إيجادها أبناء لنا ضلوا الطريق فحصدنا الحصرم، الذي لا نستسيغ حتى تذوقه، ولكن لا حيلة لنا في ذلك، على الأقل في الوقت الحالي.(1/421)
إلا أن الكاتب يشير إلى أن حال الجمعيات الخيرية الإسلامية داخل العالم الإسلامي بما فيها المملكة العربية السعودية، وفي غيرها من المجتمعات يستحسن ألا يستمر، فالحس الإنساني لهذه الجمعيات، والذي توقف بسبب الأحداث التي أحدثها القلة القليلة من أبنائنا، لا يمكن أن يقدر، والدعم الشعبي الذي كان دوما ينافس الدعم الحكومي في المجال الخيري بدأ يضمحل، والخوف أن يتلاشى تماما إذ استمر الوضع كما هو عليه.. كما يعمد إلى إلقاء الضوء على حقائق وإحصائيات مروعة عن أهداف جمعيات نصرانية خيرية منظمة، ومدعومة من أعلى المستويات، جمعيات تهدف إلى في المقام الأول لتنصير مسلمي العالم، سواء في المجتمعات المنكوبة الفقيرة، وحتى في غيرهما من المجتمعات الإسلامية، كما بين أنها تعمد لتحقيق ذلك بشتى الوسائل، وقد ذكر ما أورده مؤلفو كتاب "الهلال الخيري" من أن منظمة الدعوة الإسلامية في السودان كتبت في تقرير لها صدر عام 1995م عن خطورة نشاط المنظمات الدولية التنصيرية في إفريقيا خلال 15 سنة مضت، إذ كانت ترفع الشعار التالي: (تخلوا عن دين الإسلام وسوف نقوم نحن بتحريركم من الجوع والفقر والخوف والمرض) كما ذكر التقرير أن جيوش الإرساليات التنصيرية عبرت أفريقيا تحمل الغذاء في يدها اليسرى والصليب في يدها اليمنى.
وجدير بالملاحظة هنا عقد مقارنة على أرض الواقع بين أهداف هذه الإرساليات التنصيرية وبين أهداف الجمعيات الخيرية الإسلامية، التي لا تشترط اعتناق المقبلين عليها لنيل المساعدة الدخول في الإسلام، هذا ما أورده (كارين فون هيبل) من كلية لندن للدراسات الإسلامية عن الارتباط بين العمل الخيري الإسلامي والعقيدة الإسلامية، فكان مما قال: (إن المؤسسات الخيرية الإسلامية والعاملين فيها يلتزمون التزاما تاما بما يأمرهم به دستورهم "القرآن الكريم" (لا إكراه في الدين) وبالتالي لم يثبت عليهم -كوقائع وأحداث - ممارسة الإكراه، أو الربط بين إدخال الناس في الإسلام مقابل الغذاء أو التعليم أو الدواء) ففي حين يقترن الإحسان مع الإكراه في الدين في تلك الجمعيات الخيرية التنصيرية، وبالتحديد بالتخلي عن الدين الإسلامي، نجد تجرد الجمعيات الإسلامية الخيرية من أي إلزام للمتلقي، فهذه الجمعيات تكتفي بعرض الإسلام كدين وسلوك دون ربط تقديم مساعداتها للمتلقي بإسلامه، هذا الواقع شهد به كاتب غربي تابع لمؤسسة أكاديمية بريطانية.
لقد بين كتاب ضحايا بريئة أن تحقيق هذه الأهداف التنصيرية لتلك الجمعيات لا يأتي ارتجالا أو اعتباطا، بل يأتي من خلال مؤسسات أكاديمية متخصصة تمد يد العون للمنصر، وتمكنه من التعامل بالأبجديات النفسية والاجتماعية والدينية للفئة المستهدفة،والتي تتوجه في المقام الأول بتنصير مسلمي العالم، فعلى سبيل المثال لا الحصر، ذكر الدكتور محمد السلومي، (جامعة كولمبيا الدولية الأمريكية) ودورها المتخصص في إعداد خريجين يعملون بعد التخرج لتنصير العالم الإسلامي، سواء من خلال المؤسسات الإغاثية العالمية، أو تحت أي غطاء، إذ تقوم هذه الجامعة بتقديم دروس خاصة في التنكر والتخفي لتيسير تنصير المسلمين، وهو ما تسمية بعض المجلات الأمريكية (الحرب الصليبية الحذرة) هذا ما نشرته مجلة "الأم جونز " عام 2002م.
كما ذكر الدكتور" السلومي" أن عدد المبشرين المدربين لهذا الغرض بلغ (3000) مبشر دربوا لتنصير المسلمين، وانتشروا في (50) دولة إسلامية، وأنهم يضعون أنفسهم في سياق المجتمع الذي يخاطبونه، إذ يتحول الواحد منهم إلى مسلم في مظهره، حتى يصل إلى مفاتيح قلوب المسلمين، وقد يظهرون للمسلمين بأسماء مسلمة ويطلقون لحاهم ويرتدون الجلاليب، أما نساؤهم فقد يرتدين الحجاب حبا وطواعية رغبة في التقرب للمجتمع الإسلامي ومن ثم استدراجه لتغيير دينه، بل إنهم دربوا على أداء الصلاة الإسلامية وصيام رمضان مع المسلمين!
أما الادعاء بأن الجمعيات الإسلامية الخيرية بمجملها تمول الإرهاب، فرأي مكذوب، فالإرهاب سمة غربية لا شرقية إسلامية، وبشهادة أهله، بل بشهادة أكثر المتعصبين للغرب المدافعين عنه، المصفقين لمزيد من إرهابه، فها هو الدكتور السلومي في الكتاب المشار إليه ينقل عن "هنتنجتون" صاحب فكرة وكتاب (صدام الحضارات)، قوله الذي جاء فيه: لقد تغلب الغرب على العالم ليس من خلال تفوقه في الأفكار أو القيم أو الديانة، ولكن بسبب تفوقه في تطبيق العنف المنظم.. الغربيون غالبا ما ينسون هذه الحقيقة، أما غير الغربيين فلا ينسون..).
أما أنا فأعتقد أن بعض القنوات الإعلامية التي تعلن أنها إسلامية..إما نسيت تلك الحقيقة.. أو تناست أو أنسيت فالأمر سيان، إعلامها يمكن وصفه بالفاسد المنحل،فقد اختارت أن تحارب الإسلام وتصمه بغير ما فيه، وفي أي شهر.. في شهر القرآن الكريم!
هذا الإعلام اختار أن يعمم ويخفي نور الإيمان في قلوب أهله، اختار أن يعيب ديننا ويصمه بالإرهاب، كما اختار أن يشوه صور موتانا، حتى الأبطال منهم، ولا أعلم، في الغد القريب هل سيعمد هذا الإعلام إلى وصم من فارقونا من أشهر بما ليس فيهم، بدعوى الحرية..؟! وهل سيمكن من ذلك؟! أم أعتقد أننا نقبل بما يلحق بتاريخنا القديم دون الحديث منه، وأننا في حين لا نقبل بتشويه تاريخنا الحديث نقبل تشويه التاريخ القديم.
=============
جريمة الردّة
د/ هاني بن عبد الله بن محمد الجبير
P
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه .
أمّا بعد :(1/422)
فإن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليدل الناس على الإسلام الذي هو أكمل الشرائع ، وأمره ( أن يقاتل الناس حتى يدخلوا في الإسلام ويلتزموا طاعة الله ورسوله . ولم يؤمر أن ينقب عن قلوبهم ولا أن يشق من بطونهم ، بل يُجرى عليهم أحكام الله في الدنيا إذا دخلوا في دينه ، ويجرى أحكامه في الآخرة على قلوبهم ونياتهم ، فأحكام الدنيا على الإسلام ، وأحكام الآخرة على الإيمان .
ولهذا قبل إسلام الأعراب ، ونفى عنهم أن يكونوا مؤمنين ، وقبل إسلام المنافقين ظاهرًا ، وأخبر أنّه لا ينفعهم يوم القيامة شيئًا ، وأنّهم في الدرك الأسفل من النار .
فأحكام الله تعالى جارية على ما يظهر للعباد ما لم يقم دليل على أن ما أظهروه خلاف ما أبطنوه )([17]) .
فانقسم الناس تجاه دعوته إلى المؤمنين الصادقين ، والكفار الظاهرين ، والمنافقين المستترين ، فعامل كلاً بما أظهر ، ثم إن أهل الإيمان انقسموا بحسب تفاوت درجاتهم في الإيمان والعمل الصالح إلى درجات كما قال تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير } ( سورة فاطر آية 32 ) .
وحكم على من أظهر كفره من المنافقين ، أو كفر من المسلمين بالقتل كفًّا لشرهم درعًا لغيرهم فإنّ محاربتهم للإسلام بألسنتهم أعظم من محاربة قاطع الطريق بيده وسنانه فإن فتنة هذا في الأموال والأبدان ، وفتنة هذا في القلوب والإيمان ، وهذا بخلاف الكافر الأصلي ؛ فإن أمره كان معلومًا ، وكان مظهرًا لكفره غير كاتم له ، والمسلمون قد أخذوا حذرهم منه ، وجاهروه بالعداوة والمحاربة ، ولو ترك ذلك الزنديق لكان تسليطًا له على المجاهرة بالزندقة والطعن في الدين ومسبّة الله ورسوله وأيضًا فإن من سب الله ورسوله وكفر بهما فقد حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادًا فجزاؤه القتل حَدًّا ولا ريب أن محاربة الزنديق لله ورسوله وإفساده في الأرض أعظم محاربة وإفسادًا فكيف تأتي الشريعة بقتل من صال على عشرة دراهم ولا تأتي بقتل من صال على كتاب الله وسنة نبيّه بين أظهر المسلمين من أعظم المفاسد . ([18])
وبين يديك - أخي القارئ الكريم - ورقات قليلة في جريمة الردّة تعرض جانبًا من نظرة الإسلام إليها وإلي عقوبتها سائلاً الله تعالى أن ينفع بها .
تعريف الردّة :
الردّة في اللغة : الرجوع عن الشيء والتحول عنه ، سواء تحوّل عنه إلى ما كان عليه قَبْل ، أو لأمرٍ جديد .
ويقال : ارتدّ عنه ارتدادًا ، أي : تحوّل .
ويقال : ارتد فلانٌ عن دينه إذا كفر بعد إسلامه . ([19])
وتدل في الاصطلاح الشرعي : على كفر المسلم بقول أو فعل أو اعتقاد . ([20])
وقوع الردَّة وحصولها :
الردّة عن الإسلام والتحوّل عنه - أعاذنا الله منها وثبتنا على دينه - أمر ممكن الحصول فقد ذكرها الله تعالى في كتابه محذرًا منها ، ومبينًا عاقبتها ؛ قال تعالى : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } ( سورة البقرة آية 217 ) .
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا من يرتدَّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } ( سورة المائدة آية 54 ) .
وقال تعالى : { من كفر بالله بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } ( سورة النحل آية 109 ) .
في آيات كثيرة تبين هذه المعنى .
كما أخبر تعالى عن وقوع الكفر من طائفة من الناس بعد إيمانهم .
قال تعالى : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبيّن لهم الهدى الشيطان سَوّل لهم وأملى لهم } ( سورة محمد آية 25 ) .
وقال : { ولئن سألتهم ليقولُن إنما كنا نخوص ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } ( سورة التوبة آية 65 ، 66 ) .
وقال : { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } ( سورة التوبة آية 74 ) .
وقال : { إنّ الذين آمنوا ثم كفروا ثم أمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً } ( سورة النساء آية 137 ) .
كما وقعت الردة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف نذكر منها : قصّة عبيد الله بن جحش فإنّه كان قد أسلم وهاجر مع زوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى الحبشة فرارًا بدينه .
قالت أم الحبيبة : رأيت في النوم عبيد الله زوجي بأسوأ صورةٍ وأشوهها ، ففزعت وقلت : تغيّرت والله حالُهُ ! . فإذا هو يقول حيث أصبح : إنّي نظرت في الدين ، فلم أر دينًا خيرًا من النصرانية ، وكُنت قد دنت بها ، ثم دخلت في دين محمد ، وقد رجعتُ ، فأخبرتُهُ بالرؤيا ، فلم يحفِل بها ، وأكبَّ على الخمر .. حتى مات . ([21])
ومنها ما حصل عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة : " مما استفاض به النقل عند أهل العلم بالحديث والتفسير والسِّير أنّه كان رجال قد آمنوا ثم نافقوا ، وكان يجرى ذلك لأسباب : منها أمر القبلة لما حوّلت ارتدّ عن الإيمان لأجل ذلك طائفة ، وكانت محنة امتحن الله بها الناس . قال تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } ( سورة البقرة آية 143 ) "([22])(1/423)
ومنها ما حصل في غزوة تبوك أن قال رجل في غزوة تبوك : ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونًا ، وأكذبنا ألسنةً وأجبننا عند اللقاء ، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته فقال : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب . فقال { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . ([23])
وقريب من هذا ما حصل لهشام بن العاص رضي الله عنه فإنّه أسلم وتواعد على الهجرة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم إنّه حبس عنه وفتن فافتتن .
قال ابن إسحاق وحدثني نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر في حديثه قال : فكنا نقول : ما الله بقابلٍ ممن افتتن صرفًا ولا عدلاً ولا توبة ، قومٌ عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاءٍ أصابهم ! .
قال : وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم . فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنّه هو الغفور الرحيم } ( سورة الزمر آية 53 ) .
فقدم المدينة بعد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم . ([24])
وسيأتي في ثنايا المقال مواقف ونصوص أخرى تدل على حصول الردة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأنها لم ترتبط بعداوة الإسلام وحربه ولكنها كانت مع ذلك ردّة موجبة للخروج عن الإسلام وموجبة لتجريم فاعلها ولو لزم داره .
بل إن المنافقين في الصدر الأول كان منهم من آمن ثم نافق بعد إيمانه ، وهذه ردّة أيضًا .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة : " وكذلك لما انهزم المسلمون يوم أحد وشجّ وجه النبي صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته ، ارتد طائفةٌ نافقوا .. قال تعالى : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا } ( سورة آل عمران آية 166 ، 167 ) . فإن ابن أبيّ لما انخزل عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد انخزل معه ثلث الناس ، قيل : كانوا ثلاثمائة ، وهؤلاء لم يكونوا قبل ذلك كلهم منافقين في الباطن ؛ إذ لم يكن لهم داع إلى النفاق ...
وفي الجملة : ففي الأخبار عمّن نافق بعد إيمانه ويطول ذكره "([25]) .
عظم جريمة الردّة :
إنّ أهم مقصد جاء الإسلام بتحقيقه في الناس هو تحقيق توحيد الله والإيمان به ونفي الشرك والكفر والتحذير منهما ، وقد جاءت أيضًا بحفظه في نفوس من اعتنقه وذلك أن العالَم لا يستقيم بدونها ، فضياعها مهلك للبشر ، وإذا تأمل الإنسان حال البشريّة عند بعثة المصطفى عليه الصلاة والسلام فسيجد أنّه بعث على فترةٍ من الرسل في زمن تخبطت فيه البشريّة كما وصفوا في الحديث القدسي : ( إنّي خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنّهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم([26]) عن دينهم ، وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطانًا وإنّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلاّ بقايا من أهل الكتاب .. ) ([27]) .
وهؤلاء البقايا مات أكثرهم قبل مبعثه([28]) ، فصار الناس في جاهليّة جهلاء من مقالات مبدّلة أو منسوخة أو فاسدة قد اشتبهت عليهم الأمور مع كثرة الاختلاف والاضطراب .
( فهدى الله الناس ببركة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من البينات والهدى ، هدايةً جلّت عن وصف الواصفين وفاقت معرفة العارفين ، حتى حصل لأمته المؤمنين عمومًا ولأولي العلم منهم خصوصًا ، من العلم النافع والعلم الصالح ، والأخلاق العظيمة ، والسنن المستقيمة ، ما لو جمعت حكمة سائر الأمم علماً وعملاً إلى الحكمة التي بُعث بها لتفاوتا تفاوتًا يمنع معرفة قدر النسبة بينهما فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى ) . ([29])
ولذا صار الشرك بالله تعالى أعظم الذنوب . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال : قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم ؟ قال : ( أن تجعل لله ندًا وهو خلقك ) قلت : ثم أيّ ؟ قال : ( أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ) قلت : ثم أيّ ؟ قال : ( أن تزاني حليلة جارك ) ([30]) .
وعند تأمل حال أمة ليس فيها سلطان للدين ولا رقيب منه وكيف يتسلط بعضهم على بعض عند ذلك ، لأن أهواء الناس تتفاوت وتختلف وكل شخص سيفعل ما يراه مصلحةً له بحسب هواه ، وإن منعه وازع من السلطان في العلن ، فلن يتحفظ في السرّ ، وعند ضعف الوازع السلطاني ؛ عن الاعتداء على الأموال والأنفس والأعراض ، فترى النفوس تغتال والأموال تختلس والأعراض تنتهك ، والشاهد الجلي لهذا حال الدول غير المسلمة إذا ضعفت فيه السلطة فتحصل الاغتيالات وانتهاب الأموال وانتهاك الأعراض . ([31])
ولذا كانت البيعة التي يأخذها النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال والنساء تتضمن أن لا يشركوا ولا يزنوا ولا يقتلوا كما في سورة الممتحنة وكتب الحديث . ([32])
بل ( ويكثر في السياق القرآني مجيء النهي عن هذه المنكرات الثلاثة متتابعةً : الشرك والزنا وقتل النفس ، ذلك أنها كلها جرائم قتل في الحقيقة ! الجريمة الأولى قتل للفطرة ، والثانية جريمة قتل للجماعة , والثالثة جريمة قتل للنفس المودة ، إن الفطرة التي لا تعيش على التوحيد : فطرة ميتة .. ومن ثَمّ يجعل الإسلام عقوبة هذه الجرائم هي أقسم العقوبات ؛ لأنّه يريد حماية مجتمعه من عوامل الدمار .. ) ([33]) .
والتساهل في هذه العقوبة يؤدي إلى زعزعة النظام الاجتماعي القائم على الدين ، فكان لابد من تشديد العقوبة لاستئصال المجرم من المجتمع ومنعًا للجريمة وزجرًا عنها وشدة العقوبة تولّد في نفس الإنسان من العوامل الصارفة عن الجريمة ما يكبت العوامل الدافعة إليها ، ويمنع من ارتكاب الجريمة في أغلب الأحوال . ([34])(1/424)
ومن المعلوم أن العقوبات تتناسب مع الجرائم فكلما ازدادت بشاعة الجريمة استلزمت عقابًا موازيًا لها في الشدة . ([35]) ومن المبادئ المتفق عليها لدى التشريعات الجنائية مبدأ مقارنة جسامة الجريمة بجسامة العقوبة ، وكلما زادت العقوبة في جسامتها دل على ارتفاع جسامة الوصف القانوني للجريمة .
ويطلق على هذا المبدأ : مبدأ التناسب بين الجريمة والعقوبة .
أسباب الردّة :
عند تأمل التأريخ والواقع نجد جملة أسباب ودوافع أدت إلى حصول حوادث الردّة ، وهي إن كانت على مرّ التأريخ حوادث جزئية وقليلة إلا أننا يمكن من خلال تأملها استلهام جملة من الأسباب الدافعة أو المساعدة على حصول الردة .
ومن هذه الأسباب :
1- كيد الكفار بالمسلمين :
فمن مكر الكفار وكيدهم القديم أن يدخل طائفة منهم في الإسلام - ظاهرًا - حتى إذا سكن إليهم المسلمون ، عادوا فارتدوا معلنين السَّخَط على الدين وعدم الرضى به ، ليفتنوا المسلمين عن دينهم ويصدونهم عن سبيله .
وقد ذكر الله تعالى هذه المكيدة منهم في كتابه قال تعالى : { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون } ( سورة آل عمران آية 72 ) .
قال قتادة : قال بعضهم لبعض : أعطوهم الرضا بدينهم أوّل النهار واكفروا آخره ، فإنّه أجدر أن يصدقوكم ، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيهم ما تكرهون ، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم . ([36])
قال السُّدي : كان أحبار قرى عربيّة أثني عشر حبرًا ، فقالوا لبعضهم : ادخلوا في دين محمد أوّلَ النهار وقولوا : نشهد أن محمد حق صادق ، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا : إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم ، فحدثونا أن محمدًا كاذب ، وأنكم لستم على شيء وقد رجعنا إلى ديننا فهو أعجب إلينا من دينكم ، لعلهم يشكّون ، يقولون هؤلاء كانوا معنا أوّل النهار ، فما بالهم ؟
فأخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك . ([37])
2- ضعف الإيمان فلا يثبت عند المحن :
فمن خالط الإيمان قلبه فإنّه لا يتزحزح عنه لأي طارئ ، وقد سأل هرقل أبا سفيان ابن حرب قبل أن يسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة يستكشف بها حقيقة حاله فكان مما سأله هل يرتدّ أحد منهم – أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ فقال أبو سفيان : لا . فقال هرقل : وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب . ([38])
وفي رواية زاد : لا يسخطه أحد ، وفي رواية : وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبًا فتخرج منه . ([39])
ولما ذكر شيخ الإسلام ابن تيميّة من اتخذل من المسلمين يوم أحد مع عبد الله بن أبي قال : " أولئك كانوا مسلمين وكان معهم إيمان .. فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق ماتوا على هذا الإسلام الذي يثابون عليه ، ولم يكونوا من المؤمنين حقًّا الذين امتحنوا فثبتوا على الإيمان ، ولا من المنافقين حقًّا الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة ، وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم ، إذا ابتلوا بالمحن التي يتضعضع فيها أهل الإيمان ينقص إيمانهم كثيرًا وينافق أكثرهم أو كثير منهم . ومنهم من يظهر الردّة . إذا كان العدوّ غالبًا ؛ وقد رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة .
وإذا كانت العافية ، أو كان المسلمون ظاهرين على عددهم كانوا مسلمين ..) ([40]) .
ولهذا كانت فائدة المحنة والابتلاء أن يظهر الصادق من الكاذب .
قال تعالى : { أحسب الناس أن يتركوا أ، يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين } ( سورة العنكبوت آية 2 ، 3 ) .
وقال تعالى : { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم } ( سورة محمد آية 31 ) .
3- الافتتان بما لدى الكفار :
وهذا الافتتان يتخذ صورًا عديدة يجمعها ويربط بينها ضعف الشخصية الإيمانية والاقتناع التام بصدق المبدأ .
فمن ذلك الفتنة بما قد يمكّن للشخص من شهوات ، ولما حاصر النصارى عكا سنة ست وثمانين وخمسمائة استمرت أمداد الفرنج تقدم عليهم من البحر كل وقت حتى أنَّ النساء ليخرجن بنيّة راحة الغرباء في الغربة ؟! ، فقدم إليهم مركب فيه ثلاثمائة امرأة حسناء بهذه النيّة ، حتى إنّ كثيرًا من فسقة المسلمين تحيّزوا إليهم لأجل هذه النسوة . ([41])
وذكر ابن كثير([42]) أيضًا قصة مجاهد يدعى : عبده بن عبد الرحيم وأنّه في بعض الغزوات نظر إلى امرأة من نساء الروم فهويها وتنصّر من أجلها فاغتمّ المسلمون بسبب ذلك فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو معها فقالوا : يا فلان ما فعل قرآنك ؟ فقال : اعلموا أنّي نسيت القرآن كله إلا قوله : { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين * ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون } ( سورة الحجر آية 2 ، 3 ) .
ومنها : الافتتان بما لديهم من إتقان لأعمال الحياة الدنيا ، ومهارتهم فيها ، مع عجز المسلمين عن ذلك ، ( فظنوا أن من قدر على تلك الأعمال أنّه على الحق ، وأنّ من عجز عنها متخلّف وليس على الحق ، وهذا جهل فاحش ... فقد أوضح جل وعلا في قوله تعالى : { يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون } ( سورة الروم آية 7 ) .
أن أكثر الناس لا يعلمون ويدخل فيهم أصحاب هذه العلوم الدنيويّة دخولاً أوليًا ؛ لأنهم لا يعلمون شيئاً عمن خلقهم .. ورزقهم ، ولم يعلموا شيئًا عمن مصيرهم الأخير ، ومن غفل عن جميع هذا فليس معدودًا من جنس من يعلم .. بل علمهم في غاية الحقارة بالنسبة لما فاتهم ) ([43]) لأنه لا يجاوز ظاهر الحياة الدنيا .
4- سعي اليهود والنصارى :(1/425)
وهذا السبب أوضح من استشهد عليه أو أقرره فقد بيّنه الله تعالى أتم بيان بقوله : { ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم } ( سورة البقرة آية 120 ) .
وقال عن الكفار : { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } ( سورة البقرة آية 217 ) .
قال : { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } ( سورة آل عمران آية 100 ) .
وقال : { ودَّ كثير من أهل الكتاب لو يردوكم من بعد أيمانكم كفارًا } ( سورة البقرة 109 ) .
ويظهر هذا بجلاء في المساعي التنصريّة التي لا تزال تمارس نشاطاتها في العالم الإسلامي بصورة مباشرة حينًا ، وبدعم التوجيهات غير الدينيّة من داخل بلاد الإسلام أحيانًا أخرى .
وهي مساعٍ عظيمة جدًا ينفق عليها بسخاء كبير . ([44])
واستعملوا لتحقيقها عدة طرق : من التطبيب ، والتعليم ، ونشر الفتن والحروب ، والأعمال الاجتماعية وغيرها .
ويتأكد هذا الأمر عندما نعلم مدى تأثير الدين في الحياة الأمريكية حتى يمتزج بجميع نواحي الحياة ، وحتى يصبح من أقوى العوامل في نجاح المرشح في الانتخابات وفي فشله أيضًا . ([45])
عقوبة المرتد :
المسلم باعتناقه للإسلام يعصم دمه وماله في الدنيا ، وأما قبل إسلامه فإنّ الأصل أنه مباح الدم إلا إذا طرأ له عهد أو ذمة أو أمان أو مانع يمنع من قتله .
فكل شخص لم يعتنق الإسلام فالأصل أنّه مباح الدم إلا لعارض .
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى ) ([46]) .
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وصلّوا صلاتنا ، واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ) ([47]) .
فقوله : عصموا مني دماءهم ، وقوله : حرمت علينا دماؤهم ، يدل ( على أنه كان مأمورًا بقتل من أبى الإسلام ..فإذا نطق بالشهادتين عُصم دمه وصار مسلمًا فإذا دخل في الإسلام فإن أقام الصلاة وآتي الزكاة وقام بشرائع الإسلام فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم ) ([48])
ويدل لذلك قوله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } ( سورة البقرة آية 193 ) . وقوله : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } ( سورة التوبة آية 5 ) .
فالإسلام ه والعاصم عن إباحة دم الإنسان في الأصل وأما غيره من الأسباب التي تمنع من قتل غير المسلم فهي أسباب طارئة تنتهي بانتهاء غايتها .
والمسلم نفسه متى ترك الإسلام عاد للحال التي كان عليها من حل الدم والمال بل هو أشد ؛ لأن ضرره أعظم ، ولأنه قد قامت عليه من الحجّة ما هو أبلغ من غيره .
وشيخ الإسلام ابن تيمية ذكر بعض أسباب القتل وكان منها : الكفر وبيّن أن من الفقهاء من جعل نفس الكفر مبيحًا للدم ، ومنهم من جعله وجود الضرر منه أو عدم النفع فيه ، قال بعد ذلك : ( أما المرتد فالمبيح عنده هو الكفر بعد الإيمان ، وهو نوع خاصٌّ من الكفر ، فإنّه لو لم يقتل لكان الداخل في الدين يخرج منه فقتله حفظ لأهل الدين واللدين ، فإنّ ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه ، بخلاف من لم يدخل فيه ، فإنّه إن كان كتابيًا فقد وجد إحدى غايتي القتل في حقّه وإن كان وثنيًا .. ولم يمكن استرقاقه ولا أخذ الجزية منه بقي كافرًا لا منفعة في حياته لنفسه ؛ لأنه بزداد إثماً ، ولا للمؤمنين ؛ فيكون قتله خيرًا من إبقائه ) ([49]) .
إذا تقررت هذه القاعدة من أن أكبر عاصم لمال الإنسان ودمه هو الإسلام فإننا نعلم أن خروج الإنسان عن الإسلام بعده رافع لهذه العصمة ، ولذا جاء الشرع في نصوص كثيرة جدًا تبيّن حد المرتد وأنّه القتل .
فمنها قوله تعالى : { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمّوا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرًا لهم وإن يتولوا يعذبهم عذابًا أليمًا في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير } ( سورة التوبة آية 74 ) فبين تعالى أن من كفر بعد إسلامه إن تاب وإلا يعذّب عذابًا أليمًا في الدنيا والآخرة .
وعذابه في الدنيا هو الحد .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة : ( .. ولكونهم أظهروا الكفر والردة ، لهذا دعاهم إلى التوبة فقال : { فإن يك خيرًا لهم وإن يتولوا } عن التوبة { يعذبهم عذابًا أليمًا في الدنيا والآخرة } وهذا لمن أظهر الكفر فيجاهده الرسول بإقامة الحد والعقوبة ) ([50]) .
وقال ابن الجوزي : ( قوله تعالى : { وإن يتولوا } أي يعرضوا عن الإيمان { يعذبهم الله عذابًا أليمًا في الدنيا } بالقتل وفي الآخرة بالنار ) ([51]) .
وقد أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في نصوص نبويّة كثيرة ..
فمنها : عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من بَدّل دينه فاقتلوه ) ([52]) .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا إذ دخل رجلان وافدين من عند مسيلمة فقال لهما رسول الله : ( أتشهدان أني رسول الله ؟ ) فقالا له : أتشهد أنت مسيلمة رسول الله ؟ فقال : ( آمنت بالله ورسله لو كنت قائلاً وافدًا لقتلتكما ) ([53]) .
وجاء من حديث نعيم بن مسعود الأشجعي : أما والله لو لا أنّ الرسل لا تُقتل لضربت أعناقكما . ([54])(1/426)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : ارتدت امرأة عن الإسلام فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام وإلاّ قتلت فعرضوا عليها الإسلام فأبت إلا أن تقتل ، فقُتلت . ([55])
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خَطَل وقد كان مسلمًا ثم ارتد مشركًا . ([56])
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيّب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) ([57]) .
وروت عائشة رضي الله عنها مثله عن النبي صلى الله عليه وسلم .([58])
وعن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه ، أو زنى بعد إحصانه ، أو قتل نفسًا بغير نفس )([59]).
وفي رواية : ( أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل )([60]) .
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : لقيت خالي أبا بردة ومعه الراية ، فقالت : إلى أين ؟ فقال : أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجلٍ تزوّج امرأة أبيه أن أقتله ، أو أضرب عنقه . ([61]) وزاد في رواية : وآخذ ماله ، أو : أصفي ماله ، أو : أخمّس ماله .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة : " إنّ تخميس ماله دَلَّ على أنّه كان كافرًا إلا فاسقًا ، وكفره بأنّه لم يحرم ما حرّم الله ورسوله "([62]) لأنه كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن ربّه ، وجحود لآية من القرآن .
وفي السنة من النصوص الواردة في قتل الساحر ما ينضم إلى ما تقدَّم أيضًا .
وثبت القتل للمرتد من فعل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم .ورضي عنهم .
فقد أُتي علي بن أبي طالب رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم بالنار . ([63])
وورد ذلك عن ابن عمر وعثمان وأبي بكر رضي الله عنهم . ([64])
ولما قدم معاذ بن جبل على أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما إذا رجل عنده موثق ، قال : ما هذا ؟ قال : كان يهوديًا فأسلم ، ثم تهوّد ، قال : أجلس حتى يقتل ، قضاء الله ورسوله ، فأمر به فقتل . ([65])
والحكم بقتل المرتد محل إجماع من المسلمين ([66])، فلم يقع في أصله خلاف ، وإن حصل اختلاف في فروعه كالاستتابة ومدتها وأنواع المكفرات .
ولكن هذا القتل لا يكون إلا بأمر حاكم ، لأن مرجع تنفيذ الأحكام إليه ، عند جمهور أهل العلم ، كما لا يقبل حتى يستتاب ويصرّ على ردّته ، ولابد من تحقق الردّة بثبوت موجبها وتحقق شروطها وانتفاء موانعها من الخطأ والإكراه ونحو ذلك . ([67])
ومعنى ما سبق أن إثبات الحد الشرعي شيء ، وتطبيقه في الواقع شيء آخر ، فإن تنزيل الأحكام على الوقائع مختص بأهله .
شبهات حول حد الردّة :
يظهر مما سبق أن الحكم بقتل المرتد حدًا حد شرعيٌّ ثابت بالنص النبوي قولاً وفعلاً وبإجماع المسلمين ودَلّ عليه كتاب الله تعالى : - تفقهًا - وعمل الصدر الأول من الأمّة .
وهو متّسق مع قاعدةٍ كلية وهي إباحة دم الكافر إلا بطروء ما يعصمه .
وكل ما سبق مثبتٌ - بلا شك - أن القتل للمرتد واجب من واجبات الدين .
إلا أن هذا العصر لما شهد إعراض بعض الأمم عن تطبيق هذا الحد ، أخذ بعضهم يبحث عن وسائل يجعل هذا الحد محل تردد وأورد لذلك شبهات وتوصّل بعد ذلك إلى تحريم الردّة ولكن جعل عقوبتها تعزيريّة عائدة لرأي الإمام إما بالقتل أو بالسجن أو بغيرهما . ([68])
وآخر بحث مثله عن شبهات وتوصل بعد عرضها والكلام حولها إلى أنّه لا عقوبة على الردة ! ([69])
ومجمل الشبهات التي أوردها هؤلاء هي :
أن عقوبة الردة وردت في أحاديث آحاد ، والحدود لا يثبت بحديث آحاد .
وقد تبيّن مما سبق أن حد الردة محل إجماع ، والإجماع يرفع الحكم إلى القطعيات ، كما أنّه ورد بعدة طرق وأخرجه صاحب الصحيح مما يجعله محفوفًا بالقرائن التي ترفعه إلى إفادة العلم كما قرره الحافظ ابن حجر في نزهة النظر([70]) . وقد نقل أيضًا في نفس الموضع الإجماع على وجوب العمل بما في الصحيح .
ثم إن أحاديث الآحاد لم يتوقف علماء الصدر الأول من الإسلام عن الأخذ بها سواء في العلميات أو العمليات ، ولم يقسّم الحديث إلى آحاد ومتواتر إلا الجهميّة في القرن الثالث الهجري . ([71])
ولذا قال ابن حبان رحمه الله : " فأما الأخبار فإنّها كلها أخبار آحاد ؛ لأنّه ليس يوجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرٌ من رواية عدلين روى أحدهما عن عدلين ، وكل واحد منهما عن عدلين ، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما استحال هذا ، وبطل ، ثبت أنَّ الأخبار كلها أخبار آحاد . وأن من تنكّب عن قبول خبر الآحاد فقد عمد إلى ترك السُّنن كلها لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد "([72]) .
كما أنّ حد الزاني المحصن وشارب الخمر وتفصيلات حدود السرقة وزنا البكر كلها إنّما ثبتت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآحاديّة .
ومع كل ذلك فإنَّ لدينا على هذا الحد دليل من القرآن تقدم ، وإجماع مَرّ معنا .
ونظير هذه الشبهة : أن هذا الحكم لم يذكر في القرآن .
وهو مع الإشارة إليه في القرآن ، ومع اعتقادنا أنَّ السنة مصدر التشريع فإني ذاكر حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إذ لعن الواشمات والمتنمّصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله . فقالت امرأة قرأت القرآن يقال لها أم يعقوب : ما هذا ؟ فقال عبد الله : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدتُهُ . قال : والله لو قرأتيه لقد وجدتيه { وما آتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا } ( سورة الحشر آية 7 ) . ([73])(1/427)
ولاشك عند كل مسلم سليم الاعتقاد أنَّ الحديث حجة بنفسه فهو عليه الصلاة والسلام { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحيٌ يوحى } ( سورة النجم آية 3-4 ) .
ومن الشبهات أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقب أحدًا من المرتدين بقتله .
وقد تبين مما سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من ارتد وعاقب بذلك . ([74])
بل عاقب به من لم يحارب المسلمين ولم يقاتلهم .
الردّة وحريَّة الاعتقاد :
لا شك أنّ كل مسلم يعلم أنّ الإسلام هو الدين الحقّ وأنّ ما عداه باطل { ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين }( سورة آل عمران آية 85 ) .
لذا فإن على كل عاقل أن يسلم لله رب العالمين ، فإن لم يسلم فقد تنكّب الصراط المستقيم وخالف مقتضى العقل ، وداعي الفطرة .
ولا يعني هذا منع الإنسان من التفكير ، بل هو بتفكيره السليم منقادٌ للإيمان بالله تعالى .
وعلى هذا فليس للإنسان حريّة في الاعتقاد ، بل مطلوب منه الإيمان ، ولكن لا يُكره عليه ، فإن أُكره فإنّ إيمانه لا ينفقه ؛ لأنّه لم يكن عن قناعةٍ واطمئنان قلب .
قال تعالى : { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لمّا رأوا بأسنا }( سورة غافر آية 84 ، 85 ) .
أي : أنهم ما عاينوا وقوع العذاب بهم وحدوا الله وكفروا بالطاغوت ، ولكن حيث لا تقال العثرات ولا تنفع المعذرة .
إنَّ الله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب لبيان الحق ودلالة الخلق وإقامة البراهين والآيات والمعجزات التي تدل كل صاحب تفكير سليم إلى الإيمان { قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا الله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنّة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } ( سورة سبأ آية 46 ) .
وهذا فيه حريّة ظاهرة إذ لا إكراه على اعتناق الإسلام مع أنّه المخلص للبشريّة من ضلالاتها ، وسائر مشكلاتها ، { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } ( سورة البقرة آية 256 ) .
وشاهد هذا حال أهل الذمة الذين أقرهم المسلمون على دينهم دون أن يعرض أحد لهم ، وإباحة الشرع للمسلم أن يتزوج كتابيّة ولو بقيت على دينها دون أن يجبرها على التخلي عنه .
أما من دخل في الإسلام فإنّه قد التزم أحكام الإسلام وعقيدة الإسلام والتي منها أن من ارتدّ عنه قتل ، فهو بدخوله في الإسلام التزم بأحكامه التي منها عقوبته عند الإخلال به .
وإذا كانت الإنسان مخيرًا في دخول أي بلد ، فإذا ما دخلها لزمه الانقياد لأنظمتها وإلا استحق العقوبة على إخلاله ، وليس له أن يحتج بأنّه كان مخيرًا قبل دخوله لها .
مع أن المرتدّ بردته ارتكب عدة جرائم ؛ جريمة في حق نفسه إذ أضلها ، وجريمة باستخفافه بعقيدة أمته ونظامها الذي يرتكز على الإسلام ، وجريمة بتشكيكه لضعاف العقيدة في عقيدتهم ، وهذا كله مؤدٍّ إلى اضطراب المجتمع واهتزازه كما أنّه أعلن وجاهر بجريمته ولم يسرّ بها ؛ لأنه لو أسرّ ردته صار منافقًا ، وما أعلنها صار مرتدًا مجاهرًا . ([75])
وكل هذه الجرائم جرائم متناهية في البشاعة ، فاستحق العقوبة الشرعيّة على جرائمه تلك . إن القوانين الوضعيّة تقتل الخائن لها والمحطّم لنظمها دون أن تتذرع بأنّه يمارس حريته الشخصيّة فكيف بمن يجرم في حق نفسه ومجتمعه وعقيدة أمته ؟!
وبعد فقد كان من المناسب بيان أصول المكفرات وشروط الحكم بالكفر على من وقع فيه فلعل أحدًا من المختصين أن ينبري لبيانها أو بيان شيء من المهم منها والله الموفق والهادي لا إله إلا هو .
-=================
مشروع إصلاح ونهضة الأمة الإسلامية وتحرير البلاد والعباد
بقلم محمد بن جمعة السعيد
بسم الله الرحمن الرحيم
أهل الحل والعقد في الشريعة الإسلامية تعريفها : إن جماعة أهل الحل والعقد لا تعد حزبا بل هم يديرون أمور الأمة وفقا لما تقتضيه الشريعة الإسلامية التي تهيمن على الوجود السياسي تأسيسا وحركة ومقصدا وعلى قمتهم رؤساء السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والعسكرية
شروط أهل الحل والعقد : الإسلام والعقل والذكورة والحرية والعدالة والعلم والرأي والحكمة والقوة والأمانة والأخلاق . وهم حكام وأمراء الأمة وعلماء المسلمين والفقهاء المجتهدون وأهل الاختصاص والخبراء والفنيون وقادة المجاهدين وقادة الجند والمستشارون والنصحاء وأهل الاختيار , يضاف إليهم الآن جميع حملة شهادة الدكتوراه من كافة الاختصاصات (ذكورا وإناثا ) أما حاكم المسلمين فمهمته إجمالا حراسة الدين وسياسة الدنيا فيه وحماية مصالح المسلمين وأرضهم .
الشروط الواجب توفرها في الحاكم :
1- أن يكون هو وزوجته وأصولهما مسلمين .
2- العدالة والأمانة على شروطها الجامعة والشدة والحزم والقوة في قول الحق .
3ـ العلم بأحكام الشريعة المؤدية إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام وأن يحمل الشهادة الجامعية كحد أدنى وأن يتمتع بالخبرة السياسية
3- والحربية والإدارية والقوة الجسمية والنفسية قدر الإمكان والمستطاع .
4- سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معه مباشرة ما يدرك بها بشكل لايؤثر في الرأي والعمل .
5ـ أن لا يقل عمره عن ثلاثين عاما ولا يزيد عن ستين عاما حين انتخابه أو اختياره أو ترشيحه .
6ـ سلامة الأعضاء من نقص وعطلة يمنع استيفاء الحركة وسرعة النهوض .
7- الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية الدين وأرض المسلمين وجهاد العدو مقداما جسورا غير ضعيف.
8- الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح وحمايتها وان يكون جيد الفهم والتصور والذكاء .(1/428)
9 ـ الكفاية والذكورة فلا تنعقد الإمامة لامرأة وان اتصفت بجميع صفات الكمال وخصال الاستقلال لورود النص القاطع المانع عن رسول الله (ما افلح قوم ولّوا عليهم امرأة ) وعدم جواز إمامة المرأة للرجال في الصلاة .
10ـ أن تكون مدة ولايته محددة بمدة زمنية أو فترة انتخابية معينة ، وأن يتم اختياره بشكل سري وخطي تحت إشراف القضاء من بين عدة مرشحين ، ويجوز أن يفتح باب الترشيح لكل من يجد بنفسه القدرة وتحمل مسؤولية المسلمين وتتم الانتخابات على عدة مراحل كما يفضل أن يتم اختياره بالتناوب بين الأقاليم فمرة من السعودية ومرة من أندونيسيا ومرة من إيران وهكذا من بقية بلاد المسلمين دون استثناء وهذا اجتهاد البعض سيأتي بعد قليل الرأي الفقهي
مفهوم الأحزاب في الفقه الإسلامي :
قال تعالى : (أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه )وقال عز وجل :(فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون) وقال جل وعلا (ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً) . وقال سبحانه ( بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) وقال (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم ) . صدق الله العظيم .
إن الرؤية الإسلامية ترفض مفهوم الحزب سواء كان سياسياً أو دينيا وهو التعلق بالسعي للوصول إلى السلطة من خلال المنافسة والصراع السياسي فالنصوص صريحة في المنع ، فمن سأل الإمارة والسلطة وحرص عليها تسد عليه أبوابها قال صلى الله عليه وسلم ( إنا لا نولي على هذا العمل أحداً سأله ، ولا أحداً حرص عليه ) هذا المنع من طلب الإمارة هو في حقيقته رفض للصراع من أجل السلطة . هذا الصراع يؤدي إلى نتائج لها خطرها على الأمة فالآليات الحزبية كما هي في واقع الممارسة ترفضها الرؤية الإسلامية وإن الحرص على الإمارة دليل اعتبارها امتيازاً وسلطة وسيطرة وتمتعاً ، وهي مفاهيم رفضها الإسلام لأنه يضع الإمارة موضع الواجب والعبء الثقيل والمسؤولية أمام الله ثم أمام الأمة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم هي علاقة بين اثنين يقف كل منهما من الآخر موقف المساواة لا يفصل أي منهما عن الآخر أي عقبات اجتماعية أو نظامية وإن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في توجهه للحاكم ومحاسبته على تجاوزه إذ أن واجب كل فرد في الأمة أن يقوم به مباشرة دون وسيط ، وإن رفض الحاكم لتنفيذ مقتضى هذا الواجب خروج عن الشرعية ونهى الإسلام عن أن يحتجب الحاكم عن رعيته أو يغلق بابه دون الرعية .
نظام الحكم في الإسلام : جاء في الصفحة (44) من كتاب الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للعلامة الفقيه مصطفى الزرقا عضو مجمع الفقه لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة وأستاذ جامعي رحمه الله ما يلي ( إن الحكم في دولة الإسلام يجب أن يقوم على أساس الشورى وهذا مبدأ تضمنه القرآن الكريم وطبقه الرسول طوال حياته وأوصى أصحابه به ، فلا يجوز أن يكون الحكم استبدادياً لا انتخابات فيه أوملكياً وراثياً ، فالشريعة الإسلامية تتنافى مع مبدأ وراثة الحكم ، بل على الأمة أن تختار دائماً الأكثر كفاءة للسلطة العليا كل فترة وأخرى وعليه فإن النظام الملكي الو راثي والاستبدادي محرم وباطل وغير شرعي ، وقد بين الرسول لأصحابه أن فساد نظام الحكم في الدولة الإسلامية يكون عندما يتحول عن طريق الخلافة والشورى فيصبح ملكاً عضوضاً أي يعض على الأمة عضا ويفرض عليها فرضاً كما أوجبت الشريعة الإسلامية الشعور بالمسؤولية عن انحراف الحكام ولزوم مراقبتهم ، فقرر الرسول : ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) وقال (لا طاعة إلا في المعروف ). وقال خليفته : ( إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني) وقرر الأئمة الأربعة بعدم جواز توريث الحكم أو الخلافة وبطلان ذلك شرعاً لمخالفته القرآن والسنة النبوية كالنظام الملكي الوراثي وإن مال الخزينة هو من الأمة وإليها ، مرصود لمصالحها فقط وليس للحاكم حق فيه أو في ثروات الأمة الباطنية إلا مرتبه فقط المقرر لمعيشته بصورة معتدلة دون بذخ أو ترف ) .
المعارضة في الفقه الإسلامي : جوهرها التصدي للانحراف عن النموذج الإسلامي الأمثل لنظام الحكم وقواعد الممارسة السياسية كما أرستها الشريعة الإسلامية فالمعارضة سلوك لا يرتبط بشكل معين للحياة السياسية ولا تحتاج إلى تنظيم حزبي لأنه يجب أن يقوم به الفرد دون اشتراط انتمائه أو عضويته في تنظيم معين ، ومن ناحية أخرى فإن المعارضة لا تقوم على حق مستمر من الإرادات الشعبية التي أوصلت شخصاً ما أو حزباً ما إلى الحكم ولكنها واجب تكليفي بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن ثم لا يعنيها الوصول إلى السلطة بقدر ما يعنيها تصحيح الخطأ ووقف المنكر الذي قامت لتعارضه .
فالمعارضة في نظرية السياسة الغربية مختلفة عن مفهومها في الفقه السياسي الإسلامي من الوجوه الآتية :
الشريعة بأوامرها ونواهيها موجهة إلى الحاكم والمحكوم على السواء ، ومن ثم فإن ذلك التصور الغربي لمصطلح المعارضة الذي يقوم على انقسام الحياة السياسة من طرفين : أحدهما يقوم بدور الحكومة والآخر يقوم بدور المعارضة ، يواجهه التصور الإسلامي الذي يصير فيه الفرد حاكماً ومحكوماً في أن واحد حيث أن كل فرد راع وكل فرد مسؤول عن رعيته ، ومن ثم المعارضة ليست دوراً بقدر ما هي موقف يتخذه الفرد بغض النظر عن كونه حاكماً أو محكوماً متى ظهرت دواعيه الشرعية المتمثلة أساساً في القيام بالشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . النظرة العضوية التكاملية المسيطرة على التصور الإسلامي للوجود السياسي والاجتماعي والتي من أهم آثارها .(1/429)
أن يكون لكل عضو في هذا الجسد دوره ولديه الصفات والمؤهلات الكفيلة بتمام تأديتها ومن ثم فإن الاتجاه نحو وضع الشرائط والصفات على النحو السابق هو أهم ضامن لتمام تأدية العضو لوظيفته وبحيث يصبح فقد هذه الشرائط بمثابة فقدان للأهلية والصلاحية التي تكفل للعضو البقاء في وظيفته ، ومن ثم فإن هذا الجسد السياسي الإسلامي إن كان يعرف توزيع الأدوار بين حكومة مرة ومعارضة مرة أخرى، فكل دور له أهله الذين لديهم الصفات والشرائط الكفيلة بتمام تأديته لهذا الدور ومن ثم فلا يمكن تصور تبادل الأدوار إلا إذا تم تصور إمكانية تبادل الصفات والشرائط المطلوبة لتمام تأدية الدور ومن ثم فإن شرعية المعارضة تعتمد على اتصافها بصفات معينة هي صفات القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحيث إذا فقدت هذه الصفات فقدت المعارضة شرعيتها وأصبحت معارضة المعارضة نهياً عن المنكر واجباً .
والفرد في قيامه بالمعارضة ( في الرؤية الإسلامية ) إنما يقوم بهذا عن ولاية مباشرة بما عليه من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالمسلم ولي المسلمين ونائبهم ويمثلهم جميعاً في كل ما يتعلق بتطبيق الشريعة بماله من هذه الولاية وتتمثل فيما يملكه الفرد المسلم من رفع دعوى دون أن يقال لا مصلحة شخصية لك ولا صفة ، بعكس الدعوى في النظم العلمانية والقوانين الوضعية حيث لا مصلحة ولا صفة فلا دعوى .
إن الفكر السياسي الغربي ينظر إلى المعارضة من خلال مبدأ الحرية الذي يصير تعبيراً عن حرية الفرد في أن يقرر بنفسه الطريقة والأسلوب الذي يعيش وفق حريته ولو خالفت الجماعة ، أما الرؤية الإسلامية ترفض ذلك ، فالإسلام كل متكامل لا يقبل التجزؤ أوالتبعيض ، ومن ثم فهو يؤخذ كله أو يترك كله ، والحرية تقتصر على الدخول تحت مظلة الشريعة ولا تتعداه إلى جهة الإنسان ( لا إكراه في الدين ) . ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) أما بعد قبول الدخول تحت مظلته فعليه الالتزام بالخضوع الكامل للقواعد الآمرة والناهية المنزلة ولا يعني ذلك أن حرية الإنسان منقوصة ، بل إن كمالها يتمثل في العبودية لله وحده وهذا يحمل معنى تحرره من كافة أنواع العبودية ، وتجعل الهيمنة العليا للإرادة الإلهية على كل من الحاكم والمحكوم ، وبهذا يقف كلاهما على قدم المساواة أمام القانون الإلهي ، وهذا يعني أن السلطة مقيدة بالأحكام الشرعية والخلاصة أن أهل الحل والعقد مكلفون بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعبيراً عن المعارضة لكل ما يخالف الشرع باعتبارهم جماعة قادرة على ذلك ، وإن هذا لا يعفي الأفراد من القيام بأداء هذا الواجب ولا سيما حين يقصر أهل الحل والعقد عن القيام بها لسبب ما والقيام بهذا الواجب لا يتوقف على الانتماء إلى تنظيم معين أو انطلاقاً من الإرادة الشعبية التي تتمثل في الهيئة الناخبة . والأحزاب السياسية أفرزتها الخبرة الغربية ، وبالنظر إلى هذا الوجه فإنه رغم أن نشأتها كانت على أساس ديني وبسبب خلافات دينية ومن أجل مصالح وأهداف دينية إلا أن ازدهار فكرة الفصل بين الدين والسياسة وتبني مبدأ العلمانية في النظم السياسية الغربية جعل هذا الفصل بين الدين والسياسة ، وتبنى مبدأ العلمانية في النظم السياسية الغربية جعل هذا الفصل يمتد إلى النظام الحزبي بحيث تصير الأحزاب من حيث طبيعتها تعبيراً عن العلمانية . ودلالة هذا فيما نحن بصدده ألا يتعدى طرف على اختصاصات الآخر ، وقيام جماعة دينية بنشاط سياسي فيه خروج على هذا المفهوم ،لأن العمل السياسي والتنظيمات السياسية اختصاص أصيل للدولة طبقاً للمبدأ . ولذلك كان طبيعياً أن يشجب الداعون لمبدأ الفصل بين الدين والدولة كل محاولة لقيام جماعة دينيةذات صبغة سياسية وهذا ما تؤمن به الغالبية العظمى من الأحزاب السياسية الحديثة القومية النزعة والعلمانية المذهب أما الرؤية الإسلامية ترفض هذا الفصل بين الدين والسياسة حيث أن الإسلام. عقيدة وشريعة والسياسة جزء من أحكامه ، وبمعنى آخر فإن الدين يحتوي على السياسة والسياسة فرع من فروع الدين مما سبق نخلص إلى أنه لا يمكن بحال اعتبار جماعة أهل الحل والعقد تنظيماً سياسياً بالمعنى الحزبي لأن الرؤية الإسلامية ترفض الحزب السياسي تعريفاً ووظيفة وموقفاً من الدين ، أما أهل الحل والعقد فهي جماعة تدير شؤون الأمة وتنطلق من الشريعة وتستهدفها .
الطبيعة العقدية للبيعة واختيار الحاكم : إن العقد والبيعة تقتضي عاقداً أو مبايعاً وهم أهل الحل والعقد ومعقوداً عليه وهو الخليفة أو الإمام أو الحاكم . والعقد ذو مضمون إسلامي يحدد التزامات طرفي العقد وهي لا تنعقد إذا لم تكن قائمة على الرضا والاختيار الحر لا يدخله إكراه ولا أجبار فالعقد ليس بيعة ذات طبيعة شكلية من قبيل تصفيق الأيدي وإنما من حيث جوهرها تعني الرضا ثم الانقياد ، وهناك التزامات متبادلة بين الطرفين فالبيعة هي العهد على الطاعة ، مادام الحاكم مطيعاً لله مطبقاً شرعه المتجلى ذلك في قول الخليفة أبي بكر: ( أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم ) وقول الرسول الكريم ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) .(1/430)
أما طريقة تعيين ولي العهد أو الاستخلاف فهي سوابق تاريخية وهي بمثابة ترشيح لهذا المنصب لا أكثر ولم يدخل كل من عمر وعثمان في الخلافة إلا بعد مبايعة المسلمين لهم مبايعة انعقاد عن رضا واختيار وهي إجراءات اجتهادية غير ملزمة . وإن ما حدث في السقيفة من ترشيح أبي بكر وما اتخذه أبو بكر في شأن العهد إلى عمر ( ترشيحه ) بالخلافة من بعده ، أو ما فعله عمر في جعلها شورى بين أهل الشورى الستة هذه كلها من قبيل الإجراءات الاجتهادية المتعلقة بطرق الترشيح لرئاسة الدولة والتي لم يرد بخصوصها نص ملزم من القرآن الكريم أو السنة وإنما هذه إجراءات تقع في منطقة العفو المتروكة لاجتهاد الناس حسب مقتضيات ظروفهم ومستوى تطورهم الحضاري والنظمي على وجه الخصوص ، بدليل أن اجتهاد عمر في السقيفة بمبايعة أبي بكر اختلف عن اجتهاده وهو خليفة بالعهد إلى أهل الشورى وهو في هذا وذلك يختلف عن اجتهاد أبي بكر في عهده إلى عمر ، فهي كلها طرق وإجراءات اجتهادية في كيفية الترشيح وذلك بخلاف البيعة التي بموجبها تتم المبايعة للخليفة مبايعة انعقاد .ويمكن اعتماد آليات الديمقراطية مثل انتخاب الحاكم والمسؤلين والمجالس . أما المبايع له ( الحاكم ) فيلتزم بالحكم بالعدل وتدبير أمور الأمة ومصالحها على مقتضى النظر الشرعي وقد أوجب الله الوفاء بالعقود . قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) .
وقد اتفق جميع علماء المسلمين أن للأمة أو أحد مجالسها التشريعية أو القضائية أو التنفيذية خلع الخليفة أو الحاكم لسبب يوجبه وإن أدى ذلك إلى الفتنة ( احتمل أدنى المضرتين ) دون أن يكون للحاكم الحق في حل المجلس أو فرض أوامره وقراراته عليه أو سجن المعارضين لرأيه. وإن أول أساس ارتكز عليه نظام الحكم هو أن واضع أصول الأحكام هو الله وحده فليس لبشر أن يشرع أصولاً قانونية غير التي سنها الله ، أما في القضايا التي لم يرد فيها نص فقد فوضت الشريعة مهمة سن قوانينها إلى أولى الأمر من العلماء الذين هم أهل للاجتهاد والدليل على اختصاص الله بالتشريع قوله سبحانه ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ) . ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) . وأمر الله تعالى بإتباع أحكام الشريعة ونهى عن إتباع ما يخالفها ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تتذكرون ) ويحرم الله تحريماً قاطعاً الخروج على نصوص الشريعة فحذر من رفض التحاكم بها ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، الظالمون ، الفاسقون ) . والمؤمن الذي يختار من الأحكام غير ما أختاره الله ورسوله محمد فهو ضال ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً ) .
وقد جاء في كتاب كنوز الإسلام للدكتور محمد فائز المط ص 270 ما يلي : ( جعل الإسلام الإمارة انتخاباً لا إرثاً ، يُنتخب الحاكم من أفضل الناس وأعلمهم في كافة مجالات الحياة ووضع الإسلام بين يدي الحاكم دستوراً كاملاً مثالياً لا يحتاج إلى تبديل أو تعديل وهو القرآن والسنة وفرض عليه أن ينفذه بحذافيره وأوجب على الشعب طاعته ما طبق هذا الدستور) . لذلك إذا أخلَّ أحد طرفي العقد بالتزاماته اختلت الشرعية الإسلامية ووجب تدخل الوظيفة الرقابية انطلاقاً من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء في مواجهة الرعية العاصية أو الحاكم الجائر حتى تصل إلى عزله من سدة الحكم ، وهي فكرة عزل الإمام حيث أن العقد قام على أساس اختيار الحاكم في مركزه رئيساً للدولة والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان رئيسيان : جرح في عدالته أو أن يطرأ على بدنه نقص سواء في الحواس أو الأعضاء أو التصرف (العقل) أو غير ذلك من شروط الترشيح للحاكم كما أن الخليفة أو الحاكم يكون مسؤولا مسؤولية سياسية تقتضي منه أن يكون تصرفه على الرعية منوطاً بالمصلحة وأن يلتزم بالقيم الإسلامية في ممارسته وسلوكه السياسي ، ومسؤلا مسؤولية جنائية عن تصرفاته التي تخل بعدالته ، فإن ذلك يقتضي عزل الخليفة أو الحاكم أو الإمام أو الملك .
الجهة التي لها حق عزل الحاكم : إن الجهة التي عقدت العقد هي التي تملك حله والخليفة متى زاغ عن العدالة وخرج عن شرع الله كانت الأمة عياراً عليه في العدول إلى غيره وهم :
1- أهل الحل والعقد وهم مجالس الوزراء والشورى (العلماء )والشعب أو الأمة (البرلمان) ومجلس القضاء الأعلى
2ـ المحكمة الدستورية العليا التي تحكم بكتاب الله وسنة رسوله . قال تعالى ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله ) . وتفصل المحكمة النزاع بالرد إلى الأصول الشرعية فإن انتهت إلى حكم بالعزل وجبت الطاعة من قبل الحاكم ويحق لأي شخص من هذه المجالس رفع قضية العزل إلى المحكمة أو إلى المجلس ذاته .ويدخل في مفهوم أهل الحل والعقد أيضا :
1- الفقهاء المجتهدون(أهل الاجتهاد) وهم العلماء المتخصصون في دراسة الشريعة الإسلامية وحازوا مستوى من المعرفة والعلم بها يؤهلهم أو يوفر لهم ملكة الاجتهاد والتمكن من استنباط الأحكام من أدلتها الشرعية
2- أهل الاختصاص من الخبراء والفنيين والعلميين وأرباب المهارات والكفاءات العلمية والإدارية . قادة المجاهدين وأمراء الجند بحيث تظل القوة العسكرية محكومة بضوابط العقيدة في استخدامها وتظل تؤدي دور الوسيلة المساندة للعقيدة
3 - الإسلامية فقط وليس للحاكم تجاوز هذه الحدود فتصير حينئذ طغياناً غير شرعي .(1/431)
4ـ المستشارون والنصحاء و( أهل الشورى ) وهم الذين يملكون صلاحية أو أهلية تقديم الرأي والنصيحة في أوسع المعاني في أمر من الأمور وهم أصحاب الشهادات والاختصاصات العالية من كافة نواحي النشاط البشري .
5ـ أهل الاختيار وهم الذين يناط بهم اختيار الأصلح للمراكز التمثيلية من بين المرشحين لها .
ويتوجب على أهل الحل والعقد كل جلسة فصل واحد أو أكثر من المجلس إذا تبين فساده أو خيانته بالاقتراع السري الخطي وموافقة ثلثي الأعضاء .ويكون لهذا المجلس التشريعي مهمة كشف الأخطاء واقتراح الحلول للحكومة والأمة بشكل عام ومراقبة المسؤولين وإبطال قراراتهم الغير شرعية ومنها التبعية للغرب أوالسماح بوضع قواعد عسكرية أجنبية أواعطائهم امتيازات لسرقة البترول والمعادن لأنها من حق الأمة .
أما مؤسسات الحل والعقد في النموذج الإسلامي لنظام الحكم فهي :
المؤسسة التنفيذية التي تقوم على الحركة بموجب الحكم الشرعي قصداً إلى تحقيق مصالح الأمة الدينية والدنيوية وهذه تضم مؤسسة الخلافة( رئاسة الدولة) والوزارة والإمارة على الأقاليم ومؤسسة الاجتهاد التشريعي ومؤسسة القضاء والرقابة ( المظالم والحسبة ) ومؤسسة الدعوة والهداية . وبناء عليه فإن دور أهل الحل والعقد أوسع نطاقاً من دور الصفوة السياسية فهو شامل لشؤون الدين والدنيا والآخرة ( عبادات ومعاملات ) ويمتد ليشمل في غايته الضرورات الخمس( حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال) بحيث يجمع في توازن مقصود بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة في أطار المفهوم الشرعي للمصلحتين كذلك فإنه يجمع في شموله بين المصلحة الدينية والمصلحة الدنيوية على المستوى الجماعي وبين مطالب الروح والجسد على المستوى الفردي . وقصده جلب المنافع ودفع المضار التي قصدها الشارع وهدفهم النهائي الأساسي هو ( تعبيد الناس لإله الناس ) من خلال تحقيق منهج الله في صورته التطبيقية التي تجعل الإنسان ينشىء ويعمر ، ويغير ويطور ، ويصلح وينمي تحقيقاً لعمارة الأرض ، قال تعالى : ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) . وفي النهاية نخلص إلى أن الدعوة والمناداة بإقامة نظام الحكم الإسلامي بمقاصده وأبعاده الوظيفية والمؤسسية والعقيدية الذي قوامه أهل الحل والعقد ليست عودة إلى أدراج الماضي نحو نمط أو تصور تاريخي بعينه للخلافة كما قد يتصور البعض وليست أيضاً دعوة إلى نظام تيوقراطي تتسلط فيه طبقة من رجال الدين وتدعي احتكارها للحقيقة الدينية وتلقيها عن الله ، وإنما هي دعوة واقعية لنظام فعّال قادر على أن يلبي حاجات الأمة ومصالحها المحددة نحو الغاية التي من أجلها استخلفها الله في هذه الأرض ألا وهي تعبيد الناس لرب الناس ، ملك الناس إله الناس فإذا لم يطبق الخليفة الشريعة أو أفسد في الأرض خُلع تلقائياً ولا طاعة له فالوالي غير الصالح ليس أهلاً للولاية ، ونظراً لانحياز الأمم المتحدة إلى إسرائيل يفضل الانسحاب منها وتفعيل جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي تمهيداً للوحدة الشاملة إن شاء الله .
قواعد الإصلاح والتجديد في فكر الإمام الغزالي:
الأساس في وجود الأمة المسلمة هو إخراجها لحمل رسالة الإسلام إلى العالم كله وحين قعد المسلمون عن تبليغ الرسالة امتلأت الأرض بالفتنة والفساد الكبير وأصبح المسلمون وغيرهم ضحايا هذا القعود . وما دام المسلمون مسؤولين عن حمل رسالة الإصلاح إلى العالم ، وما داموا قاعدين عن حمل هذه الرسالة ، فإنه من الواجب أن يجري البحث في أسباب القعود من داخل المسلمين أنفسهم . وما دامت الحاجة ماسة إلى تلمس أسباب القعود فإن الغاية من هذا التلمس يجب أن تستهدف التشخيص وتقديم العلاج لا مجرد توترات سلبية تقوم على التلاوم وتبادل الاتهام . لذلك لا بد من اعتماد النقد الذاتي وعدم إلقاء المسؤولية على القوى الأجنبية الاستعمارية المهاجمة التي جذبتها عوامل الضعف الداخلي وقابلية الهزيمة من خارج . وهذا منهج يتفق مع المبدأ الإسلامي القائل ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) الشورى . والقائل كذلك ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) الأنفال .
فلابد من معالجة قابلية الهزيمة بدل التباكي على مظاهر الهزيمة أي البحث في القابلية للاستعمار بدل توجيه اللوم إلى الاستعمار فالمشكلة كل المشكلة في فساد المحتويات الفكرية والنفسية عند المسلمين في أمور العقيدة والاجتماع وما سوى ذلك هي مضاعفات تزول بزوال المرض الأساسي .
ومنهج الإصلاح يبدأ بالإصلاح الفكري والنفسي أولاً وهذا مبدأ قرآني واضح ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) الرعد . وكذلك الإصلاح السياسي والعسكري وغير ذلك من الإصلاحات .
وتطبيق واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطهير المجتمع الإسلامي من الأمراض التي تفترسه من الداخل وضرورة إعداد المسلمين لاستئناف الجهاد وحمل رسالة الإسلام حتى تبلغ الدعوة أقصى العالم وتتوطد دعائم الإيمان والسلام فيه . وهذا لن يتم إلا بعد المصالحة بين المذاهب والطوائف والقوميات الإسلامية وتوحيد الجهود والأفكار والتخلص من علماء الدنيا علماء السوء الذي قصدهم من العلم التقرب إلى السلطان و المسؤولين السياسين والتنعم بالدنيا والتوصل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها وبالتالي فساد رسالة العلماء وانتشار الشكلية الدينية في المجتمع الإسلامي ـ البعد عن قضايا المجتمع والاشتغال بقضايا هامشية لا طائل تحتها والتعصب المذهبي واختفاء الفضائل العلمية . وتفتيت وحدة الأمة وظهور الجماعات والمذاهب وانتشار التدين السطحي والفئات التي مثلته .(1/432)
لذلك لا بد من العمل على إيجاد جيل جديد من العلماء والمربين ووضع منهاج جديد للتربية والتعليم وإحياء رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوب نقد السلاطين الظلمة وتحريم التعامل معهم ومع حاشيتهم والمسؤولين التابعين لهم ولا بد أيضاً من محاربة المادية الجارفة والسلبية الدينية وتصحيح التصور السائد عن الدنيا والآخرة . والدعوة للعدالة الاجتماعية ومحاربة التيارات الفكرية المنحرفة والإسراع في الإعداد العقائدي للجهاد والحرص على تنمية ولاء الجندي لله سبحانه وتعالى وبذل نفسه في سبيله وتكريس طاقاته له مع الحذر الشديد من شرك الولاء لقائد أو سلطان أو حاكم ، فهذا كله شرك يفسد الجهاد ويحبطه وإعادة بناء الجيش والقوات المسلحة بحيث نرفع من معنويات العسكري والامتناع عن إهانته أو شتمه أو توبيخه وزرع حب الشهادة في سبيل الله بنفسه لأنها الطريق للنصر في المعركة والفوز بالجنة ، وإعداد الشعب إعداداً إسلامياً وتطهير الحياة الدينية والثقافية من التيارات الفكرية المنحرفة كالباطنية وآثار الفلسفة اليونانية والممارسات الفاطمية للعبادات والشعائر وضرورة صبغ الإدارة بالصبغة الإسلامية وتطبيق العدل وسيادة القانون على الجميع حكاماً ومحكومين وتحقيق التكافل الاجتماعي ونبذ الخصومات القومية والطائفية والمذهبية وتعبئة القوى الإسلامية وتنسيق جهودها ضمن منهاج عمل موحد وقيادة متكاملة متعاونة وإقامة المنشآت العلمية والاقتصادية والمرافق العامة وبناء القوة العسكرية والعناية بالصناعات الحربية والثقيلة . والقضاء على الدويلات المتناثرة في الوطن العربي وتحقيق الوحدة الإسلامية ، واختيار خليفة للمسلمين حتى ولو اقتصرت على الوطن العربي كخطوة أولى ، مع المحافظة على الأقليات غير الإسلامية وعدم المساس بشعائرها الدينية طالما هي موالية للأنظمة الإسلامية فهم أهل الذمة وقد أوصانا الرسول بهم خيراً مع تشجيعهم بالدخول إلى الإسلام دون إكراه . ولابد من التخلص من الاستبداد والملك العضوض والانتقال إلى تطبيق الشورى والتداول السلمي للسلطات .
وإن المبادئ الأساسية هي :
1ـ أن يبدأ التغيير في محتويات الأنفس أي الإصلاح الفكري والنفسي في الميادين الاجتماعية والسياسية والإدارية والعسكرية والاقتصادية والتربوية والقضائية وسائر ميادين الحياة الخارجية
2ـ إن التغيير لا يحدث إلا إذا قام القوم مجتمعين وليس الأفراد بتغيير ما بأنفسهم
3ـ أن تتم الإحاطة الكاملة بحلقات السلوك الذي يفرز الظواهر الاجتماعية والرسوخ بتفاصيلها وتركيبها .
4 ـ إن فترات القوة والمنعة في التاريخ الإسلامي إنما ولدت حين تزاوج عنصران هما الإخلاص في الإرادة والصواب في التفكير والعمل فإن غاب أحدهما أو كلاهما أو طلّق أحدهما الآخر فلا فائدة من الجهود التي تبذل والتضحيات التي تقدم .
5ـ إن التاريخ كله ـ الإسلامي وغير الإسلامي ـ برهن على أنه حين تقوم شبكة العلاقات الاجتماعية على أساس الولاء الشامل لأفكار الرسالة التي تتبناها الأمة وتعيش من أجلها فإن كل فرد في المجتمع يصبح مصاناً ومحترماً سواءً كان حياً أو ميتاً ومهما اختلفت آراؤه مع الآخرين ويوجه الصراع إلى خارج المجتمع وتتوحد الجهود وتثمر . أما عندما تتشكل شبكة العلاقات طبقاً لمحاور الولاء الفردي أو العشائري أو المذهبي أو الطائفي أو الإقليمي أو الحزبي وطبقاً للدوران في فلك الأشخاص والأشياء فإن الإنسان يصبح أرخص شيء داخل المجتمع وخارجه ويدور الصراع داخل المجتمع نفسه ويمزقه إلى شيع يذيق بعضها بأس بعض ثم يكون من نتائج ذلك أن تجذب روائح الضعف الطامعين من خارج .
والله يغير ما بقوم من أحوال سيئة إذا تغيرت القيادة الفاسدة المستبدة بالحكم خاصة علماء الدنيا وفقهاء السلطان في العالم الإسلامي وبالتالي يغير الناس ما بأنفسهم من معتقدات وتصورات وقيم وتقاليد وعادات متخلفة . قال تعالى على لسان سيدنا شعيب عليه السلام : ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت) . أخيرا أقول إن فلسطين سقطت بيد الصهاينة بعد سقوط الخلافة الإسلامية في القسطنطينية ولن تعود إلى أهلها إلا بعودة الخلافة الإسلامية مجددا إن شاء الله والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والله ثم الوطن من وراء القصد.
المراجع :
1- دور أهل الحل والعقد للدكتور الفقيه فوزي خليل من جمهورية مصر العربية الاسلامية .
2ـ المدخل إلى الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للعلامة الفقيه مصطفى الزرقا الأستاذ الجامعي في كليتي الشريعة والحقوق بجامعة دمشق والمستشار لدى حكومة المملكة العربية السعودية عضو مجمع الفقه لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة
3ـ الأحكام السلطانية لأبي الحسن الماوردي
4- روح الدين الإسلامي للعلامة عفيف عبد الفتاح طبارة ـ لبنان
5ـ كتب الإمام أبي حامد الغزالي
عوامل النهضة والنصر لدى الشيخ عبد القادر الكيلاني والدكتور ماجد عرسان الكيلاني :(1/433)
يقول ابن تيمية ( إنَّ أهم آثار السنة الإلهية في العدل أن الملك والإسلام مع الظلم لا يدوم ، وأن الملك والكفر مع العدل يدوم . والأمة التي تتفوق في المعرفة تتفوق في القوة ) . لذلك فإن الجيوش الغربية الغازية للدول الإسلامية تهدف إلى تنفيذ المخططات الهادفة إلى نشر الثقافة المسيحية المتصهينة والقضاء على الثقافة الإسلامية ، ونهب خيرات الشعوب العربية المتخلفة بعد أن أقامت دول الطوائف على أنقاض الدولة العثمانية طبقاً لمعاهدة سايكس ـ بيكو ومثيلاتها واستمرت مِزَقُ الأمة تفتخر بالانتماء إلى هذه الدول الممزقة وتدافع عنها ، لتتبين أن يد الله أ أي عونه وعطاءه ـ إنما هي مع الجماعة وأن الوحدة سنة وجود تنظيم عوالم الإنسان والحيوان والنبات والجماد. ويقول الفقيه العلامه الشيخ عبد القادر الكيلاني :
إن الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق قانون إلهي من قوانين النصر والفلاح في كل مواجهة والمواجهة الحقيقية التي يحتاجها العالم العربي والإسلامي هي التي تجري على مرحلتين الأولى مواجهة مع الذات يقوم بها العلماء والساسة وعامة الأمة بغية تحريرها من التبعية الثقافية الغربية والاعتماد الفعلي على الغير وتمكينها من اكتشاف الهوية وتحقيق الانتماء إلى ماضي الازدهار والمنعة وتحليل الحاضر واستشراف مسارات المستقبل ودروبه . فإذا انتصرت الأمة في هذه المواجهة فستكون مؤهلة لبدء المواجهة الثانية مع الغير المعتدي بثقة واستقلالية وجدارة ، ولسوف تنتهي بها المعركة إلى النصر المادي والفتح الاجتماعي . أما الفرقة الناجية فهي التي تسلك ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو : أن لا يترك الدنيا بالكلية ولايقمع الشهوات بالكلية . أما الدنيا فيأخذ منها قدر الزاد . وأما الشهوات فيقمع منها ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل ولا يتبع كل شهوة ولا يترك كل شهوة . بل يتبع العدل ولايترك كل شيء من الدنيا ولا يطلب كل شيء من الدنيا بل يعلم مقصود كل ما خلق من الدنيا ويحفظه على حد مقصوده . فيأخذ من القوت ما يقوي به البدن على العبادة ومن المسكن ما يحفظه عن اللصوص والحر والبرد ومن الكسوة كذلك . حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله تعالى بهمة واشتغل بالذكر والفكر والعلم وبناء الأرض طول العمر ، ويظل محافظاً على حد الاعتدال والتوسط في الشهوات حتى لا يجاوز حدود الورع والتقوى .(1/434)
واعتمد الشيخ الكيلاني أسلوباً يقوم على أمرين الأول اعتماد التعليم المنظم والتربية الروحية والثاني الوعظ والدعوة بين الجماهير ويعتبر السبب الأساسي للفساد الذي ضرب المجتمع الإسلامي ألا وهو دوران الشريعة في فلك السياسة وخضوع العلماء والفقهاء للحكام وشهوات الدنيا . وعن هذا المرض تفرعت مضاعفات وأمراض أخرى تفشت في ميادين الحياة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها ، كما شن حملة شديدة على العلماء واعتبرهم تجاراً يتاجرون بالدين ويساهمون في ارتكاب المحظورات ويعيب عليهم تقربهم من السلاطين والمسؤولين وطمعهم بما في أيديهم ومن مواعظه وخطبه في انتقاد العلماء قوله ( يا سلاّبين الدنيا بطريق الآخرة من أيدي أربابها يا جهالاً بالحق ، أنتم أحق بالتوبة من هؤلاء العوام ، أنتم أحق بالاعتراف بالذنوب من هؤلاء ، لاخير فيكم ، لو كان عندكم ثمرة العلم لما سعيتم إلى أبواب السلاطين والمسؤولين في حظوظ نفسك وشهواتها ، ياخونة في العلم والعمل يا أعداء الله ورسوله يا قاطعي عباد الله عز وجل أنتم في ظلم ظاهر ونفاق ظاهر . هذا النفاق إلى متى ؟ يا علماء كم تنافقون الملوك والسلاطين حتى تأخذوا رضاهم وتنالوا حطام الدنيا وشهواتها ولذاتها ؟ أنتم وأكثر الملوك في هذا الزمان ظلمة خونة في مال الله عز وجل وفي عباده . يا عباد الله المسلمين هؤلاء علماء الدنيا ، الذين يُفرحون نفوسكم ويذلون للملوك ويصيرون بين أيديهم كالذر لا يأمروهم بأمره ولاينهونهم عن نهيه . وإن فعوا كان قولهم نفاقاً وتكلفاً ، طهَّر الله الأرض منهم ومن كل منافق أو يهديهم إلى بابه . يا خُطّاب المساجد لابارك الله فيكم يا منافقون ليس لكم صنعة البناء ولا آلته ، أنسيتم أن الأنبياء كانوا يعملون بأيديهم ولهم صنعة يشاركون بها في بناء الأرض ، إن من يعظم الحكام كمن يعبد الأصنام . أنسيتم قوله تعالى ( إنما المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ) وانتقد الحكام وحذر الناس من الانصياع لهم بما يخالف الشريعة فكان يقول( صارت الملوك لكثير من الناس آلهة يعظمونهم ، وحكمهم حكم من يعظم الأصنام ويعبدها ) وحرص عبد القادر أن يبقى بعيداً عن موطن الشبهات أو التقرب للحكام ، وعرف عنه أنه ما ألم بباب حاكم أو والي قط وأنه كان يرفض هداياهم ويوزع تبرعاتهم على الفقراء قبل أن تتناولها يده ) وتصدى للتطرف الباطني والتيارات الفكرية المنحرفة كالروافض . وحمل أيضاً على المتطرفين من الصوفية وانتقد ما شاع بينهم من حكايات الصالحين وتحريك الأصابع واللسان فقط بالشكر والتسبيح والتهليل وإنما التصوف الصحيح صفاء وصدق معامله وعمل صالح وبناء الأرض وطلب العلم تنفيذاً لقوله تعالى ( اعملوا آل داوود شكراً ) فالكلام بدون عمل يصدقه لا قيمة له والإيمان له مضمونان فكري ـ وجداني لا يتوقف عند الاعتقاد النظري إنما يشترط أمرين آخرين هما العمل والإخلاص فبالعمل ينتفي النفاق وبالإخلاص ينتفي الرياء ، والإخلاص المقصود هو التوجه بالعمل لله وحده . والمضمون الثاني اجتماعي ـ فلا يصح إيمان عبد جاره جائع . وجعل العدل الاجتماعي وتوزيع الثروات توزيعاً عادلاً هو المقياس الحقيقي للتدين والإيمان ، كما أن وظيفة الحاكم المسلم إذا كان مؤمناً حقاً ـ هي نشر دعوة التوحيد وحماية الدين والسهر على تحقيق العدل . خاصة في مجال الاقتصاد وتوزيع ثروات الأمة وأن لا يخص الحاكم نفسه أكثر من أدنى فرد في الأمة . وعليه تأسيس جماعات لحمل رسالة الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا بد من تحليل الأصول الاجتماعية ـ الاقتصادية وإبراز خطورة الظلم وكبت الحريات وتهيئة المناخ لظهور المؤسسات التربوية العلمية الإدارية الحضارية التي تعيد العدل واحترام الإنسان مكانهما في محور نظام القيم وممارسات الحياة القائمة . فالمجتمعات التي لا تتيح للأفكار أن تعبّر عن نفسها في عالم الظاهر أي الواقع ، ترتد فيها الأفكار إلى عالم الباطن والميتافيزيقا أي الغيب الذي لا وجود له وتلون ثقافتها وقيمها بالأساطير والأوهام التي تتحدث عن عدل موهوم ورخاء متخيل . نعم لقد أدرك ذلك سيدنا عمر بن الخطاب ببصيرته وتجرده هذه التفاعلات الفكرية المفسدة التي يفرزها الظلم والحرمان والقهر وكم الأفواه وكبت الحريات وإقصاء الآخرين فكان يقول لولاته الذين يرسلهم إلى الأمصار : ( ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم .. ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم ) أما حفيد الشيخ عبد القادر كيلاني الدكتور ماجد عرسان الكيلاني فيقول في كتابه القيم (هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس ) في التاريخ قوانين تحكم الأحداث والظواهر وتوجهها الوجهة التي يقتضيها منطق القانون . والذين يتقنون فقه هذه القوانين وتطبيقها هم الذين يستمرون في الحياة ويتفوقون في ميادينها . وهذا يعني أن الأمة التي يتولى أمورها حكام وفقهاء يفقهون بناء المجتمعات وانهيارها ويحسنون تطبيق هذه القوانين فإنهم يقودون أممهم إلى التقدم والنصر لا محالة . أما الأمة التي يتولى زمام أمورها حكام وخطباء صنعتهم الكلام فقط يحسنون التلاعب بالمشاعر والعواطف فإنها تظل تتلهى بالأماني التي يحركها هؤلاء الحكام والخطباء حتى إذا جابهت التحديات لم يفقهوا ما يصنعون وآل أمرهم إلى الفشل وأحلوا قومهم دار البوار . إن صحة المجتمعات ومرضها أساسهما صحة الفكر أو مرضه ويكون المجتمع في أعلى درجات الصحة حين يكون الولاء للأفكار هو المحور الذي يتمركز حوله سلوك الأفراد وعلاقاتهم وسياسات المجتمع بينما يدور الأشخاص والأشياء في فلك الأفكار . في هذه الحالة يتسلم مركز القيادة الأذكياء العلماء الذي يحسنون فقه التحديات واتخاذ القرارات . وحين يكون الولاء للأشخاص هو المحور وتدور(1/435)
الأفكار والأشياء في فلك الأشخاص وهم القادة السياسيون ورجال الدين فإن السمة الغالبة للمجتمع تصبح هيمنة محبي الجاه والنفوذ وأصحاب القوة ويسخرون الأفكار والأشياء لمصالحهم الشخصية أو لعشائرهم أو لطوائفهم أو لأحزابهم . أما حين يصبح الولاء للأشياء هو المحور ويدور الأفكار والأشخاص في فلك الأشياء فإن الهيمنة في المجتمع تكون لأرباب المال والتجارات وصانعي الشهوات وتسود ثقافة الترف والاستهلاك وتتمزق شبكة العلاقات الاجتماعية . ففي عهد الرسول والصحابة كان الولاء للفكرة ثم انتقل في العهد الأموي والعباسي إلى الولاء للأشخاص حين بدأ رجال القوة العصبية من طلقاء مكة الذي أسلموا بعد فتح مكة وعفا عنهم الرسول وبرزت الصراعات الأسرية من أجل الخلافة . ثم انتقل التطور الآن إلى محور الولاء للأشياء وتنافس الناس في جمع الثروات وتكديس الممتلكات .لذلك حين تفشل جميع محاولات الإصلاح وتتحول الجهود المبذولة على سلسلة من الاحباطات والانتكاسات المتلاحقة فإن المطلوب هو القيام بمراجعة تربوية سياسية شاملة جريئة وصريحة وفاعله ، يكون من نتائجها إعادة النظر في كل الموروثات الثقافية التي تلي نصوص القرآن والحديث الصحيح ، وإعادة النظر في كل العملية التربوية والسياسية والإدارية ، وبالتالي فإن القوانين التي أنزلها الله المتمثلة بالشريعة الإسلامية هي العلاج إلى صحة المجتمعات وقيام الراقي من الحضارات ، إلا أن الإسلام لا يؤدي هذا الدور الحضاري إلا إذا تولى قيادته السياسية وفقهه أولو الألباب النيرة والإرادات العازمة النبيلة والعلماء الملتزمون بهذه الشريعة المطالبة بإقامة الشورى والعدل والحرية والمساواة وبناء الحضارة .
ويجب التعرف على المواد الخام من البشر الصالحين ليكونوا أنصاراً للدعوات وجنداً للرسالات وأفضل العناصر لذلك هي جماهير العامة في المدن وأهل الريف والبادية خاصة كونهم على الفطرة . وبذلك تتحقق قوة المجتمعات من خلال نضج وتكامل عناصر القوة كلها في دائرة فاعلة وتناسق صحيح ، وهذه العناصر هي المعرفة والثروة والقدرة القتالية ، وقد حذرنا رسول الله من خطورة الانشقاق بين هذه العناصر فقال : (( ألا إن الكتاب ( المتمثل بالشرع والعلم النافع ) والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب )) . لذلك وحتى تنجح العملية والتجربة يجب أن يدور الحكام والأمراء في فلك العلماء المصلحون وليس العكس كما هو الآن أي حين تتبع وتدور كافة القيادات الاقتصادية والعسكرية والإدارية والسياسية في فلك القيادة الفكرية فسيكون النجاح المصير المحتوم . لذلك بعدما فتح القائد صلاح الدين الأيوبي القدس جاء الناس يهنؤوه بالنصر فقال لهم : " ادعوا الله لهؤلاء مجلس الشورى وهم العلماء الجالسون بجانبي أمثال موفق الدين ومحمد ابنا قدامه وابن نجار وغيرهم كثير " فهم الموجهون الحقيقيون والمستشارون الفكريون للسلطان .
أما في العصر الحديث فنجد السر في قوة الدول الكبرى هو تكامل المعرفة والقدرة القتالية والثروة واعتماد صانعي القرار ورجال التخطيط التنفيذ في دوائر الاقتصادية والعسكرية محل ما يقدمه لهم رجال الفكر والخبراء والعلماء العاملون في مراكز البحوث والدراسات ففي الولايات المتحدة حوالي عشرة آلاف مركز بحوث ودراسات متخصصة في بحث الشؤون السياسية والاجتماع والاقتصاد والثقافة والتربية والعلوم العسكرية والقضاء والتجارة وشؤون الأقليات والأقطار الأخرى وهؤلاء ينتقون من الأوائل في صفوفهم منذ الدراسة الابتدائية حتى تخرجوا من أعلى مراتب الدراسات الجامعية بتقدير A أي بعلامة مئة بالمئة أو قريب منها . وكذلك الأمر في إسرائيل يتكامل ممثلو المعرفة والقدرة القتالية والثروة بشكل محكم ورائع .(1/436)
أما الدول العربية فقد وصلت منذ زمن طويل إلى ما حذر منه رسول الله حين قال ( في آخر الزمن يكثر في أمتي الخطباء ويقل الفقهاء والعلماء ) .. والسلطات الحاكمة المستبدة افتقرت إلى النضج السياسي بسبب افتقارها إلى مراكز المعرفة وهذا أدى إلى إفراز نتائج سلبية هي : النتيجة الأولى لجوء السلطات الحاكمة إلى إقامة المؤسسات البوليسية كالأمن والمخابرات والمؤسسات الإعلامية , حيث ترصد حركات جماعة وأحزاب الإصلاح وتعتقل الناشطين من أعضائها , وتلحق بهم وبأسرهم ألوان الأذى النفسي والجسدي والضرر المعيشي بينما تقوم الثانية بتتبع عورات حركات الإصلاح والتشهير بمساقطها , والتشكيك بمقاصدها وتشويه سمعة أعضائها والنتيجة الثانية نشوء بيئة عامة مشحونة بالقلق والتوتر وانتفاء الأمن وعدم الثقة وشيوع الخوف , وانعكست آثارها السلبية على الأخلاق العامة وصار الطابع المميز لشبكة العلاقات العامة هو انتشار النفاق وفساد الذمم والانتهازية وانتقاص إنسانية الإنسان في جميع المواقف والميادين والنتيجة الثالثة حيرة الجماهير ودهشتها أمام الصراع الجاري بين السلطة وحركات الإصلاح والنتيجة الرابعة حذر الخيرِّين من ممثلي الثروة وترددهم عن التعاون مع حركات الإصلاح والخوف من مفاجآت السلطة وانفعالاتها ولذلك لم يتجاوبوا مع سياستها ووعودها . والنتيجة الخامسة هي انقسام جماعات الإصلاح إلى قسمين : قسم مال إلى مهادنة السلطة وتملقها ورضي بالا عطيات التي تجود بها تحت ستار التعددية والديمقراطية , وقسم اختار السلبية التي تصاعدت وانتهت إلى التطرف والصدام المسلح مع السلطات الرسمية الحاكمة مما أدى إلى تجريم مسارات الإصلاح وسلبها شعبيتها وقتل فاعليتها . ثم كانت المحصلة النهائية لتفاعل هذه النتائج الخمسة هي استنزاف المقدرات وتبديد الطاقات وتوجيه عناصر القوة الأربعة عناصر المعرفة والثروة والمهارات السياسية والقدرة القتالية إلى نحور أهلها وجعلهم يخربون بيوتهم بأيديهم , وتظل الحاجة الملحة قائمة إلى الاستراتيجية الصافية التي تنتقي الألوف من أولي الألباب ممن يكونون أوائل الصفوف الدراسية ويحصلون على ما يزيد عن تسعين بالمئة في امتحان الثانوية ثم يجري إعدادهم وتربيتهم ليكونوا فريقين : فريق يتسلم القيادة الفكرية وتتجمع في مراكز الدراسات والبحوث ليتفكروا في مشكلات العالم الإسلامي ويبصروا قوانين الله في بناء المجتمعات وهدمها . وفريق يتسلم القيادة السياسية ويحول هذه القوانين إلى سياسات وخطط واستراتيجيات وبذلك تتكامل الطاقات والمؤسسات ويظهر جيل العلم والإيمان جيل صلاح الدين الجديد وتعود القدس للمسلمين وينتشر الإسلام في العالم ونبني حضارة إسلامية روحية تفوق حضارة الغرب المادية ، وبذلك نكسب الدنيا والآخرة ونرضي الله سبحانه الذي كلف الأمة الإسلامية أن تنشر الدعوة في أرجاء الأرض فكان لهذا التكليف حكمة معينة في تقدير الله وكانت له كذلك مقتضيات ، فأما الحكمة فهي كون الرسول هو خاتم الأنبياء وقد أرسل إلى البشرية كافة وإلى آخر الزمان ، وإن أمته تحمل رسالته من بعده بخصوصيتها هاتين أنها للبشر كافة وللزمن المقبل كله ، وأما ما يترتب على ذلك فهو فرض الجهاد على هذه الأمة لتوصيل الدعوة إلى آفاق الأرض ، ولم يكن الجهاد من أجل فرض العقيدة على الناس إذ لا إكراه في الدين ، إنما كان الجهاد من أجل أمر آخر هو إزالة العقبات التي تحول بين الناس وبين الاستماع إلى الحق كما هو على حقيقته متمثلة تلك العقبات في نظم جاهلية تحميها جيوش جاهلية ، فإذا أزيلت هذه العقبات فالناس أحرار يختارون لأنفسهم ما يقتنعون به بغير إكراه فالإسلام بهذا هو أكبر حركة تحريرية في تاريخ البشرية تحرر الإنسان من العبوديات الزائفة كلها مثل العبودية للأصنام والعبودية للقبيلة والعبودية للآباء والأجداد والعبودية للهوى والشهوات والعبودية للطواغيت ، فالإسلام هو الوجه المقابل للجهل بحقيقة الله الواحد الصمد المقصود بقضاء حوائج الكائنات كلها ، وبالله المستعان على ما يصفون والحمد لله رب العالمين .
ـ المرجع كتاب هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس للعلامة الدكتور ماجد عرسان الكيلاني
==================
غير المسلمين في المجتمع المسلم
د. منقذ بن محمود السقار
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن مما يشهد بالقيمة الحضارية والثقافية لأمة ما ، ما تحققه من مبادئ إنسانية زاهية، تتجاوز حدودها لتعم بإنسانيتها الآخرين ، ولو خالفوا في الدين والجنس واللغة.
وقد اصطفى الله نبينا r للرسالة، وجعله رحمة إلى الناس أجمعين ] وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ (الأنبياء: 107)، فكانت رسالة الإسلام أول رسالة عالمية، تجاوزت حدود الزمان والمكان واللغة والجنس ((وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثتُ إلى الناس عامة )).[76]
فرسالته r هي الرسالة التي جعلها الله خاتمة الرسالات المهيمنة عليها، ودعا الناس إلى الإيمان بها، لأنها الحق الذي ارتضاه الله للبشرية ديناً ] إن الدين عند الله الإسلام[ (آل عمران: 19) ]ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين[ (آل عمران: 85).(1/437)
لكن الله تبارك وتعالى شاء بمشيئته وحكمته أن يخلق الإنسان كائنا فريداً متميزاً بالاختيار، فقدر سبحانه أن ينقسم الناس إلى مؤمن مصدق ، وكافر جاحد ] هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير [ (التغابن: 2)، ولو شاء الله لألزم الإنسانية دينه فطرة وقهراً، فلا تملك في قبوله حولاً ولا طولاً، لكنه سبحانه وتعالى لم يشأ ذلك ]ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم [ ( هود : 118- 119).
قال ابن كثير عن قول الله تبارك وتعالى ]ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك[: "أي: ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم ..".[77]
إذاً فاختلاف الناس في أديانهم قدر الله وسنته الماضية في خلقه ]وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين[ (يوسف: 103).
ولنا أن نتساءل عن مصير أولئك الذين آثروا إرث الأجداد على الهدي المستبان، وقالوا: ] إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [، كيف يتعامل الإسلام مع هؤلاء؟ وكيف يحكم فيهم إذا سكنوا ربوعه وتفيؤوا ظلاله؟
وسنهدف للإجابة عن هذه الأسئلة في هذا البحث من خلال دراسة نصوص الكتاب والسنة، وتبصر معانيها بهدي العلماء، فقهاء الأمة، وتطبيقات سلفنا الكرام خلال قرون الإسلام الظافرة، والتي كانت في مجملها جواباً عملياً عن هذه الأسئلة، فكانت اجتهاداتهم المشكورة تجسيداً لنظام الإسلام العادل في التعامل مع غير المسلمين.
وما أحرانا اليوم ونحن ندعو الأمة المسلمة إلى الوحدة من جديد أن نبدد مخاوف الآخرين الذين يعيشون داخل العالم الإسلامي، فوحدتنا لن تؤدي إلى شيء مما يفرقونه ويحذرونه.
وهذه المخاوف نبددها باستدعاء التجربة التاريخية الفريدة التي عاشها أجدادهم ضمن المجتمع المسلم طوال قرون رغيدة، حفظت للأحفاد حتى اليوم وجودهم وكينونتهم داخل مجتمعنا وحضارتنا.
والموضوع الذي نحن بصدده رسالة نتقدم بها إلى أولئك الذين دأبوا على اتهام الإسلام بالانغلاق، ووصموه بما يكذبه التاريخ ولا تعشى عنه الأبصار.
إنه لمن العجب أن يوسم الإسلام بالصفة ونقيضها، فلئن اتهمه بعضهم بالعنف فإن آخرين عابوا عليه نزعته التسامحية ورأوها سبب أفول الدولة الإسلامية، يقول الكونت هنري دي كاستري في كتابه "الإسلام": "تطرف المسلمون في المحاسنة؛ لأنها سهلت العصيان للعصاة، ومهدت لبعض الأسر المستقلة في المغرب الخروج على الجماعة في بلاد الأندلس وبلاد المغرب، وانتهى الأمر - مع المحاسنة - إلى انحلال عناصر المملكة العربية، ومن المرجح أن المسلمين لو عاملوا الأندلسيين كما عامل المسيحيون الأمم السكسونية والواندية؛ لأخلدت إلى الإسلام واستقرت عليه".[78]
ولِم نستبق سطور البحث لنصل إلى نتيجته، لِم لا ندع التاريخ يقول كلمته المنصفة في دورتنا الحضارية الفذة التي قدمها المسلمون في تعاملهم مع الآخرين، مستلهمين أسسها وعظمتها من كتاب ربهم وسنة نبيهم r.
وتنتظم هذه الدراسة في تمهيد ومبحثين وخاتمة:
التمهيد: وفيه أعرّف بأنواع الكافرين في بلاد المسلمين والأحكام العامة لكل منهم.
المبحث الأول : وأذكر فيه حقوق غير المسلمين وضماناتهم في المجتمع المسلم، وأعرض لتطبيقات ذلك في التاريخ الإسلامي.
المبحث الثاني: وأتناول فيه مسألة الجزية في الإسلام، وأبين الحق في هذه الشرعة والمقصود منها.
الخاتمة : وألخص فيها أهم ما توصلت إليه الدراسة من نتائج.
وإذ أشكر الله على توفيقه فإني أنسب توفيق هذا العمل إلى أهله، فنشكر السادة العلماء ، وبخاصة أولئك الذين أفدت من كتبهم وأشرت إليها في قائمة المراجع، فقد كانت دراساتهم القيمة شمعة أضاءت لي الطريق، كما كانت الركن الركين الذي قامت على أساساته هذه الدراسة، فلهم مني الشكر والاعتراف بالجميل والسبق.
وأسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
د. منقذ بن محمود السقار
مكة المكرمة - صفر - 1427هـ
mongiz@maktoob.com
التمهيد
قبل الشروع في تبيان حكم الإسلام في غير المسلمين المقيمين في بلاد المسلمين أرى ضرورة التعريف بأنواعهم وتبيان الملامح الرئيسة والأحكام العامة لكل منهم.
الكفر: وصف يشمل كل من كذب الرسول عليه الصلاة والسلام، في شيء مما جاء به، أو صدقه وامتنع عن الدخول في الإسلام، يقول ابن تيمية: " الكفر يكون بتكذيب الرسول r فيما أخبر به، أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم".[79] فالمقصود به ما سوى المسلمين من أهل الملل والأديان.
والكفار تجاه المجتمع المسلم على أنواع: أولها الحربي، وهو المقيم في بلاد الكفر المحاربة للمسلمين، ولا تعلق له بمبحثنا إلا إذا دخل بلاد المسلمين بهدنة أو أمان، فلا يصير حينذاك حربياً، بل معاهداً أو مستأمناً. قال ابن القيم: "الكفار إما أهل حرب وإما أهل عهد؛ وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمة، وأهل هدنة، وأهل أمان".[80]
والأصل في ألفاظ الأمان والعهد والذمة أنها ألفاظ عامة، تشمل المستأمنين والمعاهدين وغيرهم ممن هم في بلاد الإسلام بعقد ذمة أو هدنة أو أمان، فذمَّة المسلمين وعهودهم وأمانهم ثابتة لكل هذه الأصناف.
والأصل في معاملة هذه الأصناف جميعاً قوله تعالى : ]يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود [ (المائدة: 1).
ورغم ترادف ألفاظ الذمة والهدنة والأمان وغيرها؛ فإن الفقهاء فرقوا بينها من الناحية الاصطلاحية، فخصوا كل واحد منها بنوع.(1/438)
فأهل الذمة هم المقيمون تحت ذمَّة المسلمين بدفع الجزيَّة حصراً، قال ابن القيم: "ولفظ الذمة والعهد يتناول هؤلاء [أهل الذمة وأهل الهدنة وأهل الأمان] كلهم في الأصل , وكذلك لفظ الصلح ، فإن الذمة من جنس لفظ العهد والعقد.
وقولهم: هذا في ذمة فلان، أصله من هذا، أي: في عهده وعقده .. ولكن صار في اصطلاح كثير من الفقهاء أهل الذمة عبارة عمن يؤدي الجزية ، وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة، وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله، إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله".[81] ومقصوده رحمه الله بجريان أحكام الإسلام أي العامة منها، وإلا فإنه لا يعرض لهم في خاصة أمورهم وما تعلق بدينهم من شرائع.
قال سليمان البجيرمي: " ذمة المسلمين أي عهدهم وأمانهم وحرمتهم".[82]
وأما أهل العهد من غير المسلمين فهم الذين صالحهم الإمام أو هادنهم، قال ابن القيم: "أهل الهدنة فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم، سواء كان الصلح على مال أو غير مال، لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة، ولكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين، وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة".[83]
وأما المستأمن فهو من أهل بلاد الحرب يدخل بلاد المسلمين بأمان لغرض ما ، لا على وجه الديمومة، قال النووي: "المستأمن هو الحربي الذي دخل دار الإسلام بأمان".[84]
وفصّل ابن القيم فقال: "وأما المستأمن فهو الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها، وهؤلاء أقسام: رسل وتجار ومستجيرون، وحكم هؤلاء ألا يهاجروا ولا يقتلوا، ولا تؤخذ منهم الجزية".[85]
والأصل في الأمان أن يكون من الوالي، ولو أعطاه أحد المسلمين ثبت له ، فقد أجارت زينب بنت النبي e أبا العاص بن الربيع , فأمضاه عليه الصلاة والسلام.[86]
كما أمضى r جوار أم هانىء لأحمائها، فقال لها: ((قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانىء, إنما يجير على المسلمين أدناهم)). [87]
وعليه فأي مسلم أمّن حربياً دخل بلاد المسلمين ثبت أمانه - كائناً من كان - ، لأن ((ذمة المسلمين واحدة, يسعى بها أدناهم, فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين , لا يُقبل منهم صرف ولا عدل)).[88]
ويلحق بالمستأمن من كان له شبهة عهد أو ادعاه، قال محمد بن الحسن الشيباني: "لو خرج من دار الحرب كافر مع مسلم، فادعى المسلم أسره، وادعى الآخر الامان؛ فالقول قول الحربي".[89]
وبمثله لو ادعى أنه رسول، قال ابن قدامة : "إذا دخل حربي دار الإسلام بغير أمان , وادعى أنه رسول قُبِل منه, ولم يجز التعرض له؛ لقول النبي e لرسولي مسيلمة : (( لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما))".[90] وذلك أن العادة جارية بذلك.
وكل ما يشتبه على الحربي أنه أمان؛ يصير أماناً له، قال ابن قدامة: "وإن أشار إليه [مسلم] بالأمان فهو آمن .. وإن قال له: قف أو قم أو ألق سلاحك فقال أصحابنا: هو أمان؛ لأن الكافر يعتقده أماناً، فأشبه قوله: لا تخف".[91]
وممن يأمن بأمان المسلمين في بلادهم؛ التجار. قال أحمد: " إذا ركب القوم في البحر فاستقبلهم فيه تجار مشركون من أرض العدو يريدون بلاد الإسلام لم يعرضوا لهم ولم يقاتلوهم، وكل من دخل بلاد المسلمين من أهل الحرب بتجارة بويع، ولم يسأل عن شيء".[92]
وهكذا فالكافر إذا دخل بلاد المسلمين بعهد أو امان، أو أقام بينهم؛ فهو في ذمة المسلمين وعهدهم، والله يقول: ]وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً[ (الإسراء: 34).
المبحث الأول: حقوق غير المسلمين في المجتمع المسلم
تمتع غير المسلمين - المقيمون في بلاد المسلمين – بسلسلة من الضمانات التي منحها لهم المجتمع المسلم بهدي من كتاب الله وسنة رسوله r.
ولسوف نعرض لأهم هذه الضمانات، ونوثقها بشهادة التاريخ ونصوص الفقهاء، حراس الشريعة، ورثة النبي r.
ومن هذه الضمانات:
أولاً : ضمان حرية المعتقد
يعتقد المسلمون أن دينهم هو الحق المبين، وأن ما عداه إنما هي ديانات حُرفت ونُسخت بالإسلام أو ضلالات وقع فيها البشر جهلاً منهم بحقيقة الدين والمعتقد.
وقد عمل المسلمون على استمالة الأمم والشعوب التي اختلطوا بها إلى الإسلام، وذلك بما آتاهم الله من حجة ظاهرة وخلق قويم ودين ميسر تقبله الفطر ولا تستغلق عن فهم مبادئه العقول.
ولم يعمد المسلمون طوال تاريخهم الحضاري العظيم إلى إجبار الشعوب أو الأفراد الذين تحت ولايتهم، وذلك تطبيقاً لمجموعة من المبادئ الإسلامية التي رسخت فيهم هذا السلوك:
أً. حتمية الخلاف وطبيعته
إن التعدّد في المخلوقات وتنوّعها سنة الله في الكون وناموسه الثابت، فطبيعة الوجود في الكون أساسها التّنوّع والتّعدّد.
والإنسانية خلقها الله وفق هذه السنة الكونية، فاختلف البشر إلى أجناس مختلفة وطبائع شتى، وكلّ من تجاهل وتجاوز أو رفض هذه السُّنة الماضية لله في خلقه، فقد ناقض الفطرة وأنكر المحسوس.
واختلاف البشر في شرائعهم هو أيضاً واقع بمشيئة الله تعالى ومرتبط بحكمته، يقول الله: ]لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً[ (المائدة: 48).
قال ابن كثير : "هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث اللّه به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد ".[93]
وقال تعالى: ]ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم [ ( هود : 118– 119).
قال ابن حزم: "وقد نص تعالى على أن الاختلاف ليس من عنده، ومعنى ذلك أنه تعالى لم يرض به، وإنما أراده تعالى إرادة كونٍ، كما أراد الكفر وسائر المعاصي".[94](1/439)
وقال ابن كثيرعن قول الله ]ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك[ : "أي: ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم .. قال الحسن البصري: الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك، فمن رحم ربك غير مختلف".[95]
ولما كان الاختلاف والتّعدّد آية من آيات الله، فإنّ الذي يسعى لإلغاء هذا التّعدّد كلية، فإنما يروم محالاً ويطلب ممتنعاً، لذا كان لابد من الاعتراف بالاختلاف.
ب. مهمة المسلمين الدعوة إلى الله لا أسلمة الناس
أدرك المسلمون أن هداية الجميع من المحال، وأن أكثر الناس لا يؤمنون، وأن واجب الدعاة الدأب في دعوتهم وطلب أسباب هدايتهم. فإنما مهمتهم هي البلاغ فحسب، والله يتولى حساب المعرضين في الآخرة، قال الله مخاطباً نبيه r: ] فإن تولوا فإنما عليك البلاغ[ (النحل: 82). وقال تعالى: ]فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصيرٌ بالعباد[ (آل عمران: 20).
قال القرطبي: " فإن تولوا أي أعرضوا عن النظر والاستدلال والإيمان؛ فإنما عليك البلاغ، أي ليس عليك إلا التبليغ، وأما الهداية فإلينا".[96]
قال الشوكاني في سياق شرحه لقول الله تعالى: ] فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب[ (الرعد: 40): " أي: فليس عليك إلا تبليغ أحكام الرسالة، ولا يلزمك حصول الإجابة منهم، لما بلّغته إليهم، ]وعلينا الحساب[ أي: محاسبتهم بأعمالهم ومجازاتهم عليها، وليس ذلك عليك".[97]
وقال تعالى: ]فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر[ (الغاشية: 21-22).
ولذلك فإن المسلم لا يشعر بحالة الصراع مع شخص ذلك الذي تنكب الهداية وأعرض عن أسبابها، فإنما حسابه على الله في يوم القيامة ، فقد قال الله تعالى لنبيه r : ]ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء [ (البقرة: 272). وقال له وللأمة من بعده: ]فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير[ (الشورى: 15).
ج. التكريم الإلهي للإنسان، ومبدأ عدم الإكراه على الدين
خلق الله آدم عليه السلام، وأسجد له ملائكته ] وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً [ (الإسراء: 61)، وندبه وذريته من بعده إلى عمارة الأرض بمنهج الله: ] إني جاعل في الأرض خليفة[ (البقرة: 30).
ووفق هذه الغاية كرم الله الجنس البشري على سائر مخلوقات الله ] ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً [ (الإسراء: 70).
وأكد نبينا r وصحبه احترام النفس الإنسانية ، ففي الخبر أن سهل بن حنيف وقيس بن سعد كانا قاعدين بالقادسية، فمروا عليهما بجنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض، أي من أهل الذمة فقالا: إن النبي r مرت به جنازة فقام. فقيل له: إنها جنازة يهودي؟! فقال: ((أليست نفساً)).[98]
ومن تكريم الله للجنس البشري ما وهبه من العقل الذي يميز به بين الحق والباطل }وهديناه النجدين { (البلد: 10) ، وبموجبه وهبه الحرية والإرادة الحرة لاختيار ما يشاء} إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً { (الإنسان: 3)} ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين { (يونس: 99).
وعليه فالإنسان يختار ما يشاء من المعتقد} لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي{ (البقرة: 256) ، والله يتولى في الآخرة حسابه } وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها{ (الكهف: 29).
قال ابن كثير : "أي لا تُكرِهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته؛ دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره؛ فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً".[99]
و يقول تعالى: }قل الله أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم و أهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين{ (الزمر: 14- 15)، ويقول: ]وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون[ (الحج: 68-69).
وقد امتثل سلفنا هدي الله، فلم يلزموا أحداً بالإسلام إكراهاً، ومن ذلك أن عمر بن الخطاب قال لعجوز نصرانية: أسلمي تسلمي، إن الله بعث محمداً بالحق قالت: أنا عجوز كبيرة، والموت أقرب إليّ! فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا: ] لا إكراه في الدين[ (البقرة: 256).[100]
والإيمان ابتداء هو عمل قلبي، فليس بمؤمن من لم ينطو قلبه على الإيمان، ولو نطق به كرهاً فإنه لا يغير في حقيقة قائله ولا حكمه، وعليه فالمكره على الإسلام لا يصح إسلامه، ولا تلزمه أحكامه في الدنيا، ولا ينفعه في الآخرة.
قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة: "لم ينقل عن النبي r ولا عن أحد من خلفائه؛ أنه أجبر أحداً من أهل الذمة على الإسلام ... وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم؛ لم يثبت له حكم الإسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعاً؛ مثل أن يثبت على الإسلام بعد زوال الإكراه عنه، وإن مات قبل ذلك فحكمه حكم الكفار، وإن رجع إلى دين الكفر لم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام .. ولنا أنه أكره على ما لا يجوز إكراهه عليه، فلم يثبت حكمه في حقه، كالمسلم إذا أكره على الكفر والدليل على تحريم الإكراه قول الله تعالى : ] لا إكراه في الدين [ (البقرة: 256)".[101](1/440)
وبمثله قال الفقيه الحنبلي ابن قدامة: "وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم؛ لم يثبت له حكم الإسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعاً".[102]
وهذا ما حصل بالفعل زمن الحاكم بأمر الله الذي يصفه ترتون بالخبل والجنون، وقد كان من خبله أن أكره كثيرين من أهل الذمة على الإسلام، فسمح لهم الخليفة الظاهر بالعودة إلى دينهم، فارتد منهم كثير سنة 418هـ. [103]
ولما أُجبر على التظاهر بالإسلام موسى بن ميمون فر إلى مصر، وعاد إلى دينه، ولم يعتبره القاضي عبد الرحمن البيساني مرتداً، بل قال: "رجل يكره على الإسلام، لا يصح إسلامه شرعاً"، وعلق عليها الدكتور ترتون بقوله: "وهذه عبارة تنطوي على التسامح الجميل".[104]
لقد فقه المسلمون هذا ووعوه، فتركوا لرعاياهم من غير المسلمين حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر التعبدية، ولم يأمروا أحداً باعتناق الإسلام قسراً وكرهاً.
ثانياً: حرية ممارسة العبادة وضمان سلامة دورها
وإذا لم يجبر الإسلام من تحت ولايته على الدخول فيه؛ فإنه يكون بذلك قد ترك الناس على أديانهم، وأول مقتضياته الإعراض عن ممارسة الآخرين لعباداتهم، وضمان سلامة دور العبادة.
وهذا – بالفعل - ما ضمنه المسلمون في عهودهم التي أعطوها للأمم التي دخلت في ولايتهم أو عهدهم، فقد كتب النبي r لأهل نجران أماناً شمل سلامة كنائسهم وعدم التدخل في شؤونهم وعباداتهم ، وأعطاهم على ذلك ذمة الله ورسوله، يقول ابن سعد: "وكتب رسول الله e لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم: أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانهم، وجوار الله ورسوله، لا يغير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته". [105]
ووفق هذا الهدي السمح سار الخلفاء الراشدون من بعده r ، فقد ضمن الخليفة عمر بن الخطاب نحوه في العهدة العمرية التي كتبها لأهل القدس، وفيها: "بسم الله الرحمن الرحيم ؛ هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان ، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ، ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أن لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من حيزها ، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم .
ولا يكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم .. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين ".[106]
وبمثله كتب عمر لأهل اللُد.[107]
وبمثله أيضاً كتب عياض بن غنم t لأهل الرقة، ولأسقف الرها.[108]
وقد خاف عمر من انتقاض عهده من بعده فلم يصل في كنيسة القمامة[109] حين أتاها وجلس في صحنها، فلما حان وقت الصلاة قال للبترك: أريد الصلاة. فقال له البترك: صل موضعك. فامتنع عمر t وصلى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفرداً، فلما قضى صلاته قال للبترك: (لو صليتُ داخل الكنيسة أخذها المسلمون بعدي، وقالوا: هنا صلى عمر).
وكتب لهم أن لا يجمع على الدرجة للصلاة، ولا يؤذن عليها، ثم قال للبترك: أرني موضعاً أبني فيه مسجداً فقال: على الصخرة التي كلم الله عليها يعقوب، ووجد عليها دماً كثيراً، فشرع في إزالته".[110]
وحين فتح خالد بن الوليد دمشق كتب لأهلها : "بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها أماناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم ، لهم بذلك عهد الله وذمة رسول الله e والخلفاء والمؤمنين".[111]
وتضمن كتابه t لأهل عانات عدم التعرض لهم في ممارسة شعائرهم وإظهارها: "ولهم أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار، إلا في أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم".[112]
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: "لا تهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار".[113]
قال أبو الوليد الباجي: " إن أهل الذمة يقرون على دينهم ويكونون من دينهم على ما كانوا عليه، لا يمنعون من شيءٍ منه في باطن أمرهم، وإنما يمنعون من إظهاره في المحافل والأسواق".[114]
وقال الفقهاء المسلمون بتأمين المسلمين لحقوق رعاياهم في العبادة، فقرروا أنه "يحرم إحضار يهودي في سبته، وتحريمه باق بالنسبة إليه، فيستثنى شرعاً من عمل في إجازة، لحديث النسائي والترمذي وصححه: ((وأنتم يهود عليكم خاصة ألا تعدوا في السبت)).[115]
ويمتد أمان الذمي على ماله ، ولو كان خمراً أو خنزيراً ، وينقل الطحاوي إجماع المسلمين على حرية أهل الذمة في أكل الخنازير والخمر وغيره مما يحل في دينهم، فيقول: "وأجمعوا على أنه ليس للإمام منع أهل الذمة من شرب الخمر وأكل لحم الخنازير واتخاذ المساكن التي صالحوا عليها، إذا كان مِصراً ليس فيه أهل إسلام (أي في بلادهم التي هم فيها الكثرة)".[116]
قال مالك: "إذا زنى أهل الذمة أو شربوا الخمر فلا يعرض لهم الإمام؛ إلا أن يظهروا ذلك في ديار المسلمين ويدخلوا عليهم الضرر؛ فيمنعهم السلطان من الإضرار بالمسلمين".[117]
وحين أخل بعض حكام المسلمين بهذه العهود اعتبر المسلمون ذلك ظلماً، وأمر أئمة العدل بإزالته وإبطاله، ومنه أن الوليد بن عبد الملك لما أخذ كنيسة يوحنا من النصارى قهراً، وأدخلها في المسجد، اعتبر المسلمون ذلك من الغصب، فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكا إليه النصارى ذلك، فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاد في المسجد عليهم، فاسترضاهم المسلمون، وصالحوهم، فرضوا.[118]
كما شكا النصارى إلى عمر بن عبد العزيز في شأن كنيسة أخرى في دمشق كان بعض أمراء بني أمية أقطعها لبني نصر، فردها إليهم.[119](1/441)
ومن أمارات تسامح المسلمين مع غيرهم أنهم لم يتدخلوا في الشؤون التفصيلية لهم ، ولم يجبروهم على التحاكم أمام المسلمين وإن طلبوا منهم الانصياع للأحكام العامة للشريعة المتعلقة بسلامة المجتمع وأمنه.
وينقل العيني عن الزهري قوله: "مضت السنة أن يرد أهل الذمة في حقوقهم ومعاملاتهم ومواريثهم إلى أهل دينهم؛ إلا أن يأتوا راغبين في حكمنا، فنحكم بينهم بكتاب الله تعالى".[120]
كما ينقل عن ابن القاسم: " إن تحاكم أهل الذمة إلى حاكم المسلمين ورضي الخصمان به جميعاً؛ فلا يحكم بينهما إلا برضا من أساقفهما، فإن كره ذلك أساقفهم فلا يحكم بينهم، وكذلك إن رضي الأساقفة ولم يرض الخصمان أو أحدهما لم يحكم بينهما".[121]
وقد بين المرداوي المراد من التزام الأحكام الإسلامية فقال: "لا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين : بذل الجزية والتزام أحكام الملة من جريان أحكام المسلمين عليهم .. يلزم أن يأخذوهم بأحكام المسلمين في ضمان النفس والمال والعرض وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه".[122]
شهادات المؤرخين الغربيين على سماحة المسلمين مع غيرهم
وإن خير شاهد على التزام المسلمين بهذه المبادئ، تلك الشهادات التاريخية المتتابعة التي سجلها مؤرخو الغرب والشرق عن تسامي المسلمين عن إجبار أحد - ممن تحت سلطانهم – في الدخول في الإسلام.
يقول ول ديورانت: "لقد كان أهل الذمة، المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم". [123]
ويقول: "وكان اليهود في بلاد الشرق الأدنى قد رحبوا بالعرب الذين حرروهم من ظلم حكامهم السابقين .. وأصبحوا يتمتعون بكامل الحرية في حياتهم وممارسة شعائر دينهم .. وكان المسيحيون أحراراً في الاحتفال بأعيادهم علناً، والحجاج المسيحيون يأتون أفواجاً آمنين لزيارة الأضرحة المسيحية في فلسطين .. وأصبح المسيحيون الخارجون على كنيسة الدولة البيزنطية، الذين كانوا يلقون صوراً من الاضطهاد على يد بطاركة القسطنطينية وأورشليم والاسكندرية وإنطاكيا، أصبح هؤلاء الآن أحراراً آمنين تحت حكم المسلمين".[124]
يقول توماس آرنولد : "لم نسمع عن أية محاولة مدبرة لإرغام غير المسلمين على قبول الإسلام أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين المسيحي".[125]
وينقل معرب "حضارة العرب" قول روبرتسن في كتابه "تاريخ شارلكن": "إن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وإنهم مع امتشاقهم الحسام نشراً لدينهم، تركوا مَن لم يرغبوا فيه أحراراً في التمسك بتعاليمهم الدينية".
وينقل أيضاً عن الراهب ميشود في كتابه "رحلة دينية في الشرق" (ص 29) قوله: "ومن المؤسف أن تقتبس الشعوب النصرانية من المسلمين التسامح ، الذي هو آية الإحسان بين الأمم واحترام عقائد الآخرين وعدم فرض أي معتقد عليهم بالقوة". [126]
وينقل ترتون في كتابه "أهل الذمة في الإسلام" شهادة البطريك " عيشو يابه " الذي تولى منصب البابوية حتى عام 657م:" إن العرب الذين مكنهم الرب من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون. إنهم ليسوا بأعداء للنصرانية ، بل يمتدحون ملتنا ، ويوقرون قديسينا وقسسنا، ويمدون يد العون إلى كنائسنا وأديرتنا ".[127]
ويقول المفكر الأسباني بلاسكوا أبانيز في كتابه "ظلال الكنيسة" (ص 64) متحدثاً عن الفتح الإسلامي للأندلس: "لقد أحسنت أسبانيا استقبال أولئك الرجال الذين قدموا إليها من القارة الإفريقية، وأسلمتهم القرى أزمتها بغير مقاومة ولا عداء، فما هو إلا أن تقترب كوكبة من فرسان العرب من إحدى القرى؛ حتى تفتح لها الأبواب وتتلقاها بالترحاب .. كانت غزوة تمدين، ولم تكن غزوة فتح وقهر .. ولم يتخل أبناء تلك الحضارة زمناً عن فضيلة حرية الضمير، وهي الدعامة التي تقوم عليها كل عظمة حقة للشعوب، فقبلوا في المدن التي ملكوها كنائس النصارى وبيع اليهود، ولم يخشَ المسجد معابد الأديان التي سبقته، فعرف لها حقها، واستقر إلى جانبها، غير حاسد لها، ولا راغب في السيادة عليها".[128]
ويقول المؤرخ الإنجليزي السير توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام": " لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة ، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة ، ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة ، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح ". [129]
وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه : " العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها؛ سمح لهم جميعاً دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى، أو ليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال؟ ومتى؟".[130]
يقول المؤرخ الإسباني أولاغي: "فخلال النصف الأول من القرن التاسع كانت أقلية مسيحية مهمة تعيش في قرطبة وتمارس عبادتها بحرية كاملة".
يقول القس إيِلُوج : "نعيش بينهم دون أنْ نتعرض إلى أيّ مضايقات، في ما يتعلق بمعتقدنا". [131](1/442)
بل ينقل المؤرخون الغربيون باستغراب بعض الحوادث الغريبة المشينة في تاريخنا، وهي على كل حال تنقض ما يزعمه الزاعمون المفترون على الإسلام، تقول المؤرخة زيغرد: "لقد عسّر المنتصرون على الشعوب المغلوبة دخول الإسلام حتى لا يقللوا من دخلهم من الضرائب التي كان يدفعها من لم يدخل في الإسلام".[132]
ويقول ول ديورانت في سياق حديثه عن الخليفة عمر بن عبد العزيز: " وبينما كان أسلافه من خلفاء الأمويين لا يشجعون غير المسلمين في بلاد الدولة على اعتناق الإسلام، حتى لا تقل الضرائب المفروضة عليهم، فإن عمر قد شجع المسيحيين، واليهود، والزرادشتيين على اعتناقه، ولما شكا إليه عماله القائمون على شؤون المال من هذه السياسة ستفقر بيت المال أجابهم بقولهِ: (والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا، حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا)".[133]
ويبين لنا توماس أرنولد أن خراج مصر كان على عهد عثمان اثنا عشر مليون دينار، فنقص على عهد معاوية حتى بلغ خمسة ملايين، ومثله كان في خراسان، فلم يسقط بعض الأمراء الجزية عمن أسلم من أهل الذمة، ولهذا السبب عزل عمر بن عبد العزيز واليه على خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي ، وكتب: "إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً".[134]
إذا كان الحال كما عرفنا، فما السر في تقبل الشعوب للإسلام وإقبالها عليه؟
وينقل الخربوطلي عن المستشرق دوزي في كتابه "نظرات في تاريخ الإسلام" قوله: "إن تسامح ومعاملة المسلمين الطيبة لأهل الذمة أدى إلى إقبالهم على الإسلام وأنهم رأوا فيه اليسر والبساطة مما لم يألفوه في دياناتهم السابقة ".[135]
ويقول غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب" : " إن القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن ، فقد ترك العرب المغلوبين أحراراً في أديانهم .. فإذا حدث أن انتحل بعض الشعوب النصرانية الإسلام واتخذ العربية لغة له؛ فذلك لما كان يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عهد بمثله، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم تعرفها الأديان الأخرى".[136]
ويقول: "وما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحاتهم وفي سهولة اقتناع كثير من الأمم بدينهم ولغتهم .. والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل العرب ، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم ".[137]
ويوافقه المؤرخ ول ديورانت فيقول: "وعلى الرغم من خطة التسامح الديني التي كان ينتهجها المسلمون الأولون، أو بسبب هذه الخطة اعتنق الدين الجديدَ معظمُ المسيحيين وجميع الزرادشتيين والوثنيين إلا عدداً قليلاً منهم .. واستحوذ الدين الإسلامي على قلوب مئات الشعوب في البلدان الممتدة من الصين وأندنوسيا إلى مراكش والأندلس، وتملك خيالهم، وسيطر على أخلاقهم، وصاغ حياتهم، وبعث آمالاً تخفف عنهم بؤس الحياة ومتاعبها".[138]
ويقول روبرتسون في كتابه "تاريخ شارلكن": "لكنا لا نعلم للإسلام مجمعاً دينياً، ولا رسلاً وراء الجيوش، ولا رهبنة بعد الفتح، فلم يُكره أحد عليه بالسيف ولا باللسان، بل دخل القلوب عن شوق واختيار، وكان نتيجة ما أودع في القرآن من مواهب التأثير والأخذ بالأسباب ".[139]
ويقول آدم متز: "ولما كان الشرع الإسلامي خاصاً بالمسلمين، فقد خلَّت الدولة الإسلامية بين أهل الملل الأخرى وبين محاكمهم الخاصة بهم، والذي نعلمه من أمر هذه المحاكم أنها كانت محاكم كنسية، وكان رؤساء المحاكم الروحيون يقومون فيها مقام كبار القضاة أيضاً، وقد كتبوا كثيراً من كتب القانون، ولم تقتصر أحكامهم على مسائل الزواج، بل كانت تشمل إلى جانب ذلك مسائل الميراث وأكثر المنازعات التي تخص المسيحيين وحدهم مما لا شأن للدولة به".[140]
ويقول أيضاً: "أما في الأندلس، فعندنا من مصدر جدير بالثقة أن النصارى كانوا يفصلون في خصوماتهم بأنفسهم، وأنهم لم يكونوا يلجؤون للقاضي إلا في مسائل القتل".[141]
لكن الخربوطلي ينقل عن الدكتور فيليب في كتابه "تاريخ العرب" حديثه عن رغبة أهل الذمة في التحاكم إلى التشريع الإسلامي، واستئذانهم للسلطات الدينية في أن تكون مواريثهم حسب ما قرره الإسلام.[142]
ثالثاً : حسن العشرة والمعاملة الحسنة
أمر الله في القرآن الكريم المسلمين ببر مخالفيهم في الدين، الذين لم يتعرضوا لهم بالأذى والقتال، فقال: ]لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين[ (الممتحنة: 8).
قال الطبري: "عنى بذلك لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم .. وقوله: } إن الله يحب المقسطين { يقول : إن الله يحب المنصفين الذين ينصفون الناس ويعطونهم الحق والعدل من أنفسهم، فيبرون من برهم، ويحسنون إلى من أحسن إليهم".[143]
والبر أعلى أنواع المعاملة ، فقد أمر الله به في باب التعامل مع الوالدين ، وقد وضحه رسول الله e بقوله : (( البر حسن الخلق )).[144]
قال القرافي وهو يعدد صوراً للبر أمر بها المسلم تجاه أهل الذمة: " ولين القول على سبيل اللطف لهم والرحمة، لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته، لطفاً منا بهم، لا خوفاً وتعظيماً ، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة، نصيحتهم في جميع أمور دينهم، وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم .. وكل خير يحسُن من الأعلى مع الأسفل أن يفعله، ومن العدو أن يفعله مع عدوه، فإن ذلك من مكارم الأخلاق .. نعاملهم – بعد ذلك بما تقدم ذكره - امتثالاً لأمر ربنا عز وجل وأمر نبينا r".[145](1/443)
وقد تجلى حسن الخلق عند المسلمين في تعاملهم مع غيرهم في كثير من تشريعات الإسلام التي أبدعت الكثير من المواقف الفياضة بمشاعر الإنسانية والرفق.
فقد أوجب الإسلام حسن العشرة وصلة الرحم حتى مع الاختلاف في الدين ، فقد أمر الله بحسن الصحبة للوالدين وإن جهدا في رد ابنهما عن التوحيد إلى الشرك، فإن ذلك لا يقطع حقهما في بره وحسن صحبته: ]وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً[ (لقمان: 15).
قال ابن كثير: " إن حرصا عليك كل الحرص، على أن تتابعهما على دينهما؛ فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعك ذلك أن تصاحبهما في الدنيا ]معروفاً[ أي محسناً إليهما".[146]
وقد جاءت أسماء بنت الصديق إلى رسول الله r تقول: يا رسول الله ، قدمت عليّ أُمّي وهي راغبة ، أفأَصِلُ أُمي؟ فأجابها الرحمة المهداة : (( صِلِي أُمَّك)).[147]
قال الخطابي: "فيه أن الرحم الكافرة توصل من المال ونحوه كما توصل المسلمة، ويستنبط منه وجوب نفقة الأب الكافر والأم الكافرة؛ وإن كان الولد مسلماً".[148]
قال محمد بن الحسن: "يجب على الولد المسلم نفقة أبويه الذميين لقوله تعالى: ]وصاحبهما في الدنيا معروفاً[ (لقمان: 15)، وليس من المصاحبة بالمعروف أن يتقلب في نعم الله، ويدعهما يموتان جوعاً، والنوازل والأجداد والجدات من قبل الأب والأم بمنزلة الأبوين في ذلك، استحقاقهم باعتبار الولاد بمنزلة استحقاق الأبوين".[149]
وفي مثل آخر لصلة الرحم – وإن كانت كافرة - يقول عبد الله بن مروان: قلت لمجاهد: إن لي قرابة مشركة، ولي عليه دين، أفأتركه له؟ قال: نعم. وصِله.[150]
ويمتد البر وصلة الرحم بالمسلم حتى تبلغ الرحم البعيدة التي مرت عليها المئات من السنين، فها هو r يوصي أصحابه بأهل مصر خيراً ، براً وصلة لرحم قديمة تعود إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حيث قال r : ((إنكم ستفتحون مصر .. فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها؛ فإن لهم ذِمة ورحِماً)).[151]
قال النووي: " وأما الذمة فهي الحرمة والحق , وهي هنا بمعنى الذمام ، وأما الرحم فلكون هاجر أم إسماعيل منهم".[152]
ومن البر وصلة الأرحام عيادة المريض ، فقد عاد النبي r عمه أبا طالب في مرضه[153]، وعاد أيضاً جاراً له من اليهود في مرضه، فقعد عند رأسه. [154]
ومن صور البر التي تهدف إلى كسب القلوب واستلال الشحناء؛ الهدية، وقد أهدى النبي r إلى مخالفيه في الدين، من ذلك ما رواه ابن زنجويه أن رسول الله أهدى إلى أبي سفيان تمر عجوة، وهو بمكة، وكتب إليه يستهديه أدماً، فأهدى إليه أبو سفيان.[155]
وقبِل r في خيبر هدية زينب بنت الحارث اليهودية، لكنها هدية غدر لا مودة، فقد أهدت له شاة مشوية دست له فيها السم.[156]
وفي مرة أخرى دعا يهودي النبي r إلى خبز شعير وإهالة سنخة، فأجابه r.[157]
كما قبِل النبي r هدايا الملوك إليه، فقِبل هدية المقوقس، وهدية ملك أيلة أكيدر، وهدية كسرى. [158]
قال ابن قدامة : "ويجوز قبول هدية الكفار من أهل الحرب لأن النبي e قبل هدية المقوقس صاحب مصر".[159]
وأهدى النبيُّ r عمر بن الخطاب t حُلّةً ثمينة، فأهداها عمر t أخيه بمكة كان يومئذ مشركاً.[160]
قال النوويّ: " وفي هذا دليل لجواز صلة الأقارب الكفار , والإحسان إليهم, وجواز الهدية إلى الكفار".[161]
ويروي البخاري في الأدب المفرد عن مجاهد أنه سمع عبد الله بن عمرو t يقول لغلام له يسلخ شاة: يا غلام إذا فرغت فابدأ بجارنا اليهودي. فقال رجل من القوم : اليهودي أصلحك الله!؟ فقال : سمعت النبي e يوصي بالجار، حتى خشينا أنه سيورثه.[162]
وحين تحدث الفقهاء عن حقوق الضيف رأوا وجوبها لكل ضيف، سواء كان مسلماً أم غير مسلم، قال أبو يعلى: "وتجب الضيافة على المسلمين للمسلمين والكفار لعموم الخبر، وقد نص عليه أحمد في رواية حنبل، وقد سأله إن أضاف الرجل ضيفان من أهل الكفر؟ فقال: قال r : ((ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم))، دل على أن المسلم والمشرك مضاف .. يعم المسلم والكافر".[163]
ومن حق الضيافة إكرام الضيف على قدر الاستطاعة ، وقد صنعه النبي r لما جاءه عدي بن حاتم، يقول عدي: "أتيتُ رسول الله r وهو جالس في المسجد، فقال القوم: هذا عدي بن حاتم. وجئتُ بغير أمان ولا كتاب، فلما دُفعتُ إليه أخذ بيدي .. حتى أتى بي داره، فألقت له الوليدة وسادة، فجلس عليها". [164]
ومن أعظم أنواع البر وصوره؛ دعاءُ النبي r لغير المسلمين، وهو بعض رحمته r للعالمين، ومنه دعاؤه لقبيلة دوس ، وقد قدم عليه الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه فقالوا: يا رسول الله إن دوساً قد كفرت وأبت ؛ فادع الله عليها، فقيل : هلكت دوس - أي ستهلك بدعائه عليها - فقال e : (( اللهم اهد دوساً، وائت بهم)).[165]
ولما قيل له r في موطن آخر: يا رسول اللّه، ادع على المشركين .. قال: ((إنّي لم أبعث لعّاناً، وإنّما بعثت رحمةً)).[166]
رابعاً : العدل في معاملتهم ورفع الظلم عنهم
إن من أهم المُثل ومكارم الأخلاق التي جاء الإسلام لحمايتها وتتميمها؛ العدل، والعدل غاية قريبة ميسورة إذا كان الأمر متعلقاً بإخوة الدين أو النسب، وغيرها مما يتعاطف له البشر.
لكن صدق هذه الخُلة إنما يظهر إذا تباينت الأديان وتعارضت المصالح، وهو ما يعنينا في هذا المبحث، فما هو حكم الإسلام في العدل مع غير المسلمين، وهل حقق المسلمون ما دعاهم إليه دينهم أم خالفوه؟
لقد أمر القرآن الكريم بالعدل، وخصَّ - بمزيد تأكيده – على العدل مع المخالفين الذين قد يظلمهم المرء بسبب الاختلاف والنفرة، قال تعالى: ] يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى[ (المائدة: 8).(1/444)
قال القرطبي: " ودلت الآية أيضاً على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه، وأن يُقتصر بهم على المستحق من القتال والاسترقاق، وأن المُثلة بهم غير جائزة ، وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا، وغمّونا بذلك؛ فليس لنا أن نقتلهم بمثله قصداً لإيصال الغم والحزن إليهم ".[167]
وقال البيضاوي: "لا يحملنكم شدة بغضكم للمشركين على ترك العدل فيهم، فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل، كمُثلة وقذف وقتل نساء وصِبية ونقض عهد، تشفياً مما في قلوبكم ]اعدلوا هو أقرب للتقوى[ أي: العدل أقرب للتقوى ".[168]
وأعلم الله تعالى المؤمنين بمحبته للذين يعدلون في معاملتهم مع مخالفيهم في الدين الذين لم يتعرضوا لهم بالأذى والقتال، فقال: ]لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين[ (الممتحنة: 8). فالعدل مع الآخرين موجب لمحبة الله.
وحذر النبي r من ظلم أهل الذمة وانتقاص حقوقهم، وجعل نفسه الشريفة خصماً للمعتدي عليهم، فقال: ((من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة)).[169]
وأكد أن ظلم غير المسلم موجب لانتقام الله الذي يقبل شكاته ودعوته على ظالمه المسلم ، فقال r ((اتقوا دعوة المظلوم - وإن كان كافرًا - فإنه ليس دونها حجاب)).[170]
ولمزيد التأكيد يوصي رسول الله r المسلمين بعدم التعرض للمستضعفين من غير المسلمين بالظلم والتسلط، فيقول: ((لعلكم تقاتلون قوماً فتظهرون عليهم، فيتقوكم بأموالهم دون أنفسهم وذراريهم، فيصالحونكم على صلح، فلا تصيبوا منهم فوق ذلك ، فإنه لا يصلح لكم)).[171]
لذا لما سأل رجل ابن عباس فقال: إنا نمر بأهل الذمة، فنصيب من الشعير أو الشيء؟ فقال الحبر ترجمان القرآن: (لا يحل لكم من ذمتكم إلا ما صالحتموهم عليه).[172]
ولما كتب النبي كتاب صلحه لأهل نجران قال فيه: ((ولا يغير حق من حقوقهم ، ولا سلطانهم ولا شيء مما كانوا عليه، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين)). [173]
أما منتهى الظلم وأشنعه، فهو قتل النفس بغير حق، لهذا جاء فيه أشد الوعيد وأعظمه، يقول r : ((من قتل معاهَداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً )).[174]
قال ابن حجر: "المراد به من له عهد مع المسلمين، سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم".[175]
ومن الطريف أن الخوارج الذين استباحوا دماء المسلمين وأوغلوا فيها توقفوا عن قتل أهل الذمة خشية نقض عهدهم. قال ابن حجر: " الخوارج لما حكموا بكفر من خالفهم استباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذمة فقالوا: نفي لهم بعهدهم".[176]
وقال r : ((أيما رجل أمّن رجلاً على دمه، ثم قتله، فأنا من القاتل بريء، وإن كان المقتول كافراً)).[177]
قال ابن القيم: " المستأمن يحرم قتله، وتضمن نفسه، ويقطع بسرقة ماله".[178]
ويقول القرطبي: "الذمي محقون الدم على التأبيد، والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقِق ذلك: أنّ المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أنّ مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه، إذ المال إنّما يحرم بحرمة مالكه". [179]
وقد ذهب جمع من العلماء على أن المسلم يقتل بقتله النفس المعصومة من غير المسلمين، وتأولوا الحديث الوارد في النهي عن ذلك.
ويروي عبد الرزاق عن إبراهيم النخعي أن رجلاً مسلماً قتل رجلاً من أهل الذمة من أهل الحيرة على عهد عمر، فأقاد منه عمر. [180]
ويروي الشافعي في مسنده أن رجلاً من المسلمين أُخذ على عهد علي t وقد قتل رجلاً من أهل الذمة، فحكم عليه بالقصاص، فجاء أخوه، واختار الدية بدلاً عن القود، فقال له علي: "لعلهم فرقوك أو فزّعوك أو هددوك؟" فقال: لا ، بل قد أخذت الدية، ولا أظن أخي يعود إلي بقتل هذا الرجل، فأطلق علي القاتل، وقال: "أنت أعلم، من كانت له ذمتنا، فدمه كدمنا، وديته كديتنا". [181]
ويحدث ميمون بن مهران أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض أمرائه في مسلم قتل ذميّاً، فأمره أن يدفعه إلى وليه، فإن شاء قتله، وإن شاء عفا عنه. يقول ميمون: فدفع إليه، فضرب عنقه، وأنا أنظر.[182]
ولئن اختلف الفقهاء في مسألة قتل المسلم بالذمي؛ فإنهم لم يختلفوا في عظم الجناية وشناعة الفعل، كما لم يختلفوا في وجوب العدل مع مخالفيهم في الدين ووجوب كف الأذى والظلم عنهم.
قال r : (( إن الله عز وجل لم يُحِلَّ لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ، ولا ضَرْبَ نسائهم ، ولا أكلَ ثمارهم ، إذا أعطوكم الذي عليهم )).[183]
ويرى ابن عابدين في حاشية الدر المختار وجوب " كف الأذى عن الذمي، وتحرم غيبته كالمسلم".[184]
ويفسر ابن عابدين ذلك بقوله: "لأنه بعقد الذمة وجب له ما لنا، فإذا حرمت غيبة المسلم حرمت غيبته، بل قالوا: إن ظلم الذمي أشد". [185]
قال القرافي: "عقد الذمة يوجب حقوقاً علينا لهم، لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمة الله تعالى وذمة رسوله r ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عِرْض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك؛ فقد ضيع ذمة الله تعالى وذمة رسوله r وذمة دين الإسلام".[186](1/445)
وشواهد عدل المسلمين مع أهل ذمتهم كثيرة، منها العدل معهم في خصومتهم مع الخلفاء والأمراء، ومنه خصومة الخليفة علي بن أبي طالب t مع يهودي في درعه التي فقدها ثم وجدها عند يهودي، فاحتكما إلى شريح القاضي، فحكم بها لليهودي، فأسلم اليهودي وقال: "أما إني أشهد أن هذه أحكام أنبياء! أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه، فيقضي لي عليه! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، الدرع درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق من صفين، فخرجت من بعيرك الأورق". فقال علي t: أما إذ أسلمت فهي لك.[187]
ومنه أيضاً قصة القبطي مع عمرو بن العاص والي مصر وابنه، وقد اقتص الخليفة للقبطي في مظلمته، وقال مقولته التي أضحت مثلاً: "يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟".[188]
ولما كان ابن رواحة t يخرص ليهود خيبر حاولوا رشوته فأبى، وقال: (وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم، قد خرصت عشرين ألف وسق من تمر، فإن شئتم فلكم، وإن أبيتم فلي). فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض، قد أخذنا، فاخرجوا عنا.[189]
ومن عجيب الأخبار، أخبار عدل الخلفاء مع أهل ذمة الله ورسوله والمؤمنين ؛ أن عمير بن سعد t ترك ولاية حمص لإساءته إلى ذمي، فقد قال للخليفة مستعتباً عن الرجوع إلى الإمارة: (إن ذلك لسيء، لا عملت لك، ولا لأحد بعدك، والله ما سلِمت، بل لم أسلم، قلت لنصراني: أخزاك الله، فهذا ما عرضتني به يا عمر، وإن أشقى أيامي يوماً خلفت معك يا عمر)، ولم يجد الخليفة بُداً من قبول هذه الاستقالة، فتقبلها على مضض وهو يقول: (وددت أن لي رجلاً مثل عمير بن سعد استعين به على أعمال المسلمين). [190]
وفي تاريخ دمشق أن عميراً t قال للخليفة عمر: " فما يؤمنني أن يكون محمد r خصمي يوم القيامة، ومن خاصمه خصمه".[191]
ولما ولي أمير العدل عمر بن عبد العزيز أمر مناديه أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، فقام إليه رجل ذمي يشكو الأمير العباس بن الوليد بن عبد الملك في ضيعة له أقطعها الوليد لحفيده العباس، فحكم له الخليفة بالضيعة، فردها عليه.[192]
وفي أحيان أخرى لم يأخذ المسلمون العدل من خصومهم، بل عفوا وتجاوزوا كما جرى زمن معاوية بن أبي سفيان حين نقض أهل بعلبك عهدهم مع المسلمين، وفي أيدي المسلمين رهائن من الروم، فامتنع المسلمون من قتلهم، ورأوا جميعاً تخلية سبيلهم، وقالوا:
"وفاء بغدر خير من غدر بغدر". قال هشام: وهو قول العلماء، الأوزاعي وغيره.[193]
ولم يخلُ تاريخنا - على وضاءته - من بعض المظالم التي وقعت للمسلمين ولغيرهم، وقد استنكرها فقهاء الإسلام، ورأوا فيها جوراً وخروجاً عن رسوم الشريعة، ومنه أن هشام بن حكيم بن حزام t مرّ على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله e يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)). قال: وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه، فحدثه، فأمر بهم فخُلوا. [194]
ولما خاف الخليفة الوليد بن يزيد من نصارى قبرص أجلاهم منها، فاستفظع المسلمون ذلك، واعتبروه من الظلم ، يقول إسماعيل بن عياش : "فاستفظع ذلك المسلمون، واستعظمه الفقهاء، فلما ولي يزيد بن الوليد ردهم إلى قبرص ، فاستحسن المسلمون ذلك من فعله، ورأوه عدلاً".[195]
كما حطَّ عمر بن عبد العزيز عن أهل قبرص ألف دينار زادها عبد الملك عما في عهد معاوية t لهم، ثم ردها عليهم هشام بن عبد الملك، فلما كانت خلافة أبي جعفر المنصور أسقطها عنهم، وقال: "نحن أحق من أنصفهم، ولم نتكثر بظلمهم".[196]
ومثله صنع الأوزاعي فقيه الشام حين أجلى الأمير صالح بن عليٍّ بن عبد الله بن عباس أهل ذمة من جبل لبنان، فكتب إليه الأوزاعي: "فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة، حتى يُخرَجوا من ديارهم وأموالهم؟ وحكم الله تعالى: ]ألا تزر وازرة وزر أخرى[ (النجم: 38)، وهو أحق ما وقف عنده واقتدي به ، وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله r فإنه قال: ((من ظلم ذميًا أو كلَّفه فوق طاقته فأنا حجيجه)) ... فإنهم ليسوا بعبيد، فتكونَ في حِلٍ من تحويلهم من بلد إلى بلد، ولكنهم أحرار أهلُ ذمة".[197]
وما زال العلماء والخلفاء يتواصون بحقوق الذمة، كل يحذر أن تخفر ذمة الله وذمة نبيه r وهو شاهد، لأجل ذلك حرصوا على تفقد أحوالهم ومعرفة أمورهم، ومن ذلك أن وفداً من أهل الذمة جاء إلى عمر، قال عمر للوفد: (لعل المسلمين يفضون إلى أهل الذمة بأذى وبأمور لها ما ينتقضون بكم؟) فقالوا: ما نعلم إلا وفاء وحسن ملكة".[198]
ويرسل عمر كتاباً إلى عامله أبي عبيدة، فيقول موصياً بأهل الذمة: "وامنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم، وأكل أموالهم إلا بحلها، ووف لهم بشرطهم الذي شرطت لهم في جميع ما أعطيتهم". [199]
ولما جاءه مال الجباية سأل t عن مصدره مخافة العنت والمشقة على أهل الذمة، ففي الأثر عنه t "أنه أتي بمال كثير، أحسبه قال: من الجزية. فقال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس؟ قالوا: لا، والله ما أخذنا إلا عفواً صفواً. قال: بلا سوط ولا نوط؟ قالوا: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني ". [200]
ولما جاء عمر t الشام تلقاه المقلسون من أهل أذرعات بالسيوف والريحان يلعبون بين يديه. فكره عمر لعبهم، وأمر بمنعهم . فقال له أبو عبيدة : يا أمير المؤمنين هذه سُنتهم، وإنك إن منعتهم منها يروا أن في نفسك نقضاً لعهدهم . فقال عمر : دعوهم .
وفي رواية ابن زنجويه أنه قال: (دعوهم ، عمر وآل عمر في طاعة أبي عبيدة).[201] فقد كره t مساءتهم، وأن يظنوا به النقض، فأذعن لقول أبي عبيدة.(1/446)
ولما تدانى الأجل به t لم يفُته أن يوصي المسلمين برعاية أهل الذمة فقال: (أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً، وأن يوفي لهم بعهدهم ، وأن يقاتلوا من ورائهم ، وألا يكلفوا فوق طاقتهم). [202]
وكتب إلى واليه في مصر: "واعلم يا عمرو أن الله يراك ويرى عملك، فإنه قال تبارك وتعالى في كتابه : ] واجعلنا للمتقين إماماً [ (الفرقان: 74) يريد [أي من المؤمن] أن يُقتدى به، وأن معك أهل ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله r بهم، وأوصى بالقبط فقال : ((استوصوا بالقبط خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً))، ورحِمُهم أن أم إسماعيل منهم، وقد قال r : ((من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته؛ فأنا خصمه يوم القيامة)) احذر يا عمرو أن يكون رسول الله r لك خصماً، فإنه من خاصمه خَصَمه".[203]
وكتب علي بن أبي طالب t بلسان الوجِل من ربه إلى عماله على الخراج: "إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة، شتاءً ولا صيفاً، ولا رزقاً يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضربن أحداً منهم سوطاً واحداً في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عَرَضاً في شيء من الخراج، فإنا إنما أمرنا الله أن نأخذ منهم العفو، فإن أنت خالفت ما أمرتك به يأخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتُك". [204]
ولما فتح المسلمون دمشق ولي قسم منازلها بين المسلمين سبرة بن فاتك الأسدي، فكان ينزل الرومي في العلو، وينزل المسلم في السفل؛ لأنْ لا يضر المسلم بالذمي.[205]
ويدخل فقيه عصره أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة على الخليفة هارون الرشيد يذكره برعاية أهل الذمة وتفقد أحوالهم، ويستميل قلبه بذكر قرابته من رسول الله r صاحب ذمتهم، فيقول: "وقد ينبغي يا أمير المؤمنين - أيدك الله - أن تتقدم بالرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد r ، والتفقد لهم حتى لا يظلموا، ولا يؤذوا، ولا يكلفوا فوق طاقتهم، ولا يؤخذ من أموالهم إلا بحق يجب عليهم". [206]
وقد شهد المؤرخون بسمو حضارتنا في هذا الباب، فقد اعترف بريادتنا له نصارى حمص حين كتبوا إلى أبي عبيدة بن الجراح t: " لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم"، ثم أغلقوا أبواب المدينة في وجه الروم إخوانهم في العقيدة.[207]
وتنقل المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها الماتع " شمس العرب تسطع على الغرب" شهادة مهمة من بطريك بيت المقدس، فتقول: " فبطريرك بيت المقدس يكتب في القرن التاسع لأخيه بطريرك القسطنطينية عن العرب: إنهم يمتازون بالعدل، ولا يظلموننا البتة، وهم لا يستخدمون معنا أي عنف".[208]
خامساً : التكافل الاجتماعي
لعل من أهم الضمانات التي يقدمها الإسلام لغير المسلمين - الذين يقيمون في المجتمع المسلم - كفالتهم ضمن نظام التكافل الإسلامي.
فإن الله عز وجل بعث نبيه r رحمة للعالمين ]وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ (الأنبياء: 107)، وقد أمر r المسلمين أن يتصفوا بصفة الرحمة، في تعاملهم فيما بينهم ومع غيرهم، بل وحتى مع الحيوان ، فقال r (( لا يرحم الله من لا يرحم الناس)) [209]، وكلمة الناس لفظة عامة تشمل كل أحد ، دون اعتبار لجنس أو دين .
قال ابن بطال: "فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق , فيدخل المؤمن والكافر والبهائم والمملوك منها وغير المملوك ".[210]
وحث الإسلام أيضاً المؤمنين وألزمهم بالإحسان والبر في معاملة من لا يعتدي على المسلمين، فقال تبارك وتعالى: ] وأحسنوا إن الله يحب المحسنين [ (البقرة: 195).
وقد جعل الإسلام دفع الزكاة إلى مستحقيها من المسلمين وغيرهم ركناً من أركان الإسلام، فقال تعالى: ] إنما الصدقات للفقراء والمساكين [ (التوبة: 60) قال القرطبي: " ومطلق لفظ الفقراء لا يقتضي الاختصاص بالمسلمين دون أهل الذمة .. وقال عكرمة: الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين فقراء أهل الكتاب". [211]
ويقول السرخسي: "لنا أن المقصود سد خلة المحتاج ودفع حاجته بفعل هو قربة من المؤدي، وهذا المقصود حاصل بالصرف إلى أهل الذمة، فإن التصديق عليهم قربة بدليل التطوعات، لأنّا لم ننه عن المبرة لمن لا يقاتلنا، قال الله تعالى : ] لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين [ (الممتحنة: 8)".[212]
ولئن كان الخلاف بين الفقهاء قوياً في بر أهل الذمة من أموال الزكاة المفروضة، فإنهم أجازوا دفع الكفارة الواجبة إلى أهل الذمة، بل قدمهم الكاساني فيها حتى على المسلم ، لأنها " وجبت لدفع المسكنة، والمسكنة موجودة في الكفرة، فيجوز صرف الصدقة إليهم، كما يجوز صرفها إلى المسلم، بل أولى، لأن التصدق عليهم بعض ما يرغبهم إلى الإسلام ويحملهم عليه".[213]
وأمر القرآن الكريم ورغَّب بالصدقة على غير المسلمين، فقد روى أبو عبيد أن بعض المسلمين كان لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير، وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم، يريدوهم أن يسلموا ، فنزلت : ] ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم[ (البقرة: 272).[214]
وقد جاء في مراسيل سعيد بن المسيب أن رسول الله r تصدق بصدقة على أهل بيت من اليهود، فهي تجري عليهم ".[215]
وعليه قد أجاز فقهاء الشريعة التصدق على أهل الذمة، يقول أبي رزين: كنت مع سفيان بن سلمة، فمر عليه أسارى من المشركين، فأمرني أن أتصدق عليهم، ثم تلا هذه الآية: ]ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً[ (الإنسان: 8).
يقول أبو عزيز بن عمير: كنت في الأسارى يوم بدر، فقال رسول الله r : ((استوصوا بالأسارى خيراً))، وكنت في نفر من الأنصار، وكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني الخبز، بوصية رسول الله r إياهم. [216](1/447)
كما أجاز الفقهاء الوقف لهم، واعتبروه من وجوه البر التي يحبها الله، يقول محمد بن الحسن الشيباني: " ويصح [الوقف] على أهل الذمة؛ لأنهم يملكون ملكاً محترماً، وتجوز الصدقة عليهم .. وإذا جازت الصدقة عليهم جاز الوقف عليهم كالمسلمين، وروي أن صفية زوج النبي r وقفت على أخ لها يهودي، ولأن من جاز أن يقف عليه الذمي جاز أن يقف المسلم عليه كالمسلم، ولو وقف على من ينزل كنائسهم وبيعهم من المارة والمجتازين من أهل الذمة وغيرهم؛ صح".[217]
وهذا كما رأينا بعض البر والعدل الذي حثَّ عليه القرآن الكريم ، حين ذكر أهل الذمة المسالمين الذين لا يعتدون على المسلمين، فقال: } لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين { ( الممتحنة: 8 ).
ويفصل الإمام القرافي في شرحه للبر والعدل المأمور به في معاملة غير المسلمين، فيقول: "وأما ما أمر به من برِّهم من غيرمودة باطنية، فالرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم ، وإطعام جائعهم، وكساء عاريهم .. وصون أموالهم، وعيالهم، وأعراضهم، وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم، وإيصالهم لجميع حقوقهم...".[218]
ويقول القرشي المالكي في شرحه على مختصر خليل: "دفع الضرر وكشف الأذى عن المسلمين أو ما في حكمهم من أهل الذمة من فروض الكفايات، من إطعام جائع وستر عورة، حيث لم تفِ الصدقات ولا بيت المال بذلك".[219]
ووفق هذا الهدي سلك أصحاب النبي r من بعده ، فكتب خالد بن الوليد t لنصارى الحيرة : " وجعلتُ لهم أيما شيخ ضعف عن العمل ، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه؛ طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله".[220]
وروى ابن زنجويه بإسناده أن عمر بن الخطاب رأى شيخاً كبيراً من أهل الجزية يسأل الناس فقال: (ما أنصفناك إن أكلنا شبيبتك، ثم نأخذ منك الجزية، ثم كتب إلى عماله أن لا يأخذوا الجزية من شيخ كبير).[221]
وفي رواية أن عمر أخذ بيده وذهب به إلى منزله، فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال : (انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم ] إنما الصدقات للفقراء والمساكين [ والفقراء هم المسلمون ، وهذا من المساكين من أهل الكتاب)، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه.[222]
وكان مما أمر به رضي الله عنه : "من لم يطق الجزية خففوا عنه، ومن عجز فأعينوه".[223]
ومر t في الجابية على مجذومين من أهل الذمة، فأمر أن يعطوا من صدقات المسلمين، وأن يجرى عليهم القوت من بيت المال.[224]
وكتب الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز إلى واليه عدي بن أرطأة : "وانظر من قِبَلك من أهل الذمة قد كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب؛ فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه".[225]
وقد سجل هذه الرعاية الفريدة المستشرق بارتولد في كتابه "الحضارة الإسلامية"، فقال :" إن النصارى كانوا أحسن حالاً تحت حكم المسلمين، إذ أن المسلمين اتبعوا في معاملاتهم الدينية والاقتصادية لأهل الذمة مبدأ الرعاية والتساهل ".[226]
المبحث الثاني : الجزية
ما يزال البعض - ممن حرم التحقيق والإنصاف - يعيب على المسلمين ما قرره القرآن من الجزية على الذين رفضوا الدخول في الإسلام، }قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون { (التوبة: 29) واعتبروا ذلك نوعاً من الإكراه على الإسلام، واعتبروها جزاء على الكفر، وأنها نوع من الظلم لأهل الذمة، وزاد نفورهم من هذه الشرعة حين قرؤوا قوله تعالى: ] وهم صاغرون [ فأخطؤوا في فهمها.
ولسوف نعرض في هذه الدراسة لمعنى الجزية والصغار، والحكمة منها ومقدارها، كما نلقي إيماءة على تاريخها:
أ. الجزية في اللغة والاصطلاح والتاريخ الإنساني
الجزية في اللغة مشتقة من مادة (ج ز ي)، تقول العرب: "جزى ، يجزي، إذا كافأ عما أسدي إليه"، والجزية مشتق على وزن فِعلة من المجازاة، بمعنى "أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن"، وقال ابن المطرز: بل هي من الإجزاء "لأنها تجزئ عن الذمي". [227]
وعلى كلا المعنيين فهي ليست – كما زعم بعض الفقهاء وتلقفها المتربصون - عقوبة ينالها الكافر على كفره، فإن عقوبة الكفر لن تكون بضعة دنانير.
ولو كانت الجزية عقوبة على الكفر لما أسقطت عن النساء والشيوخ والأطفال لاشتراكهم في صفة الكفر، بل لو كان كذلك لزاد مقدارها على الرهبان ورجال الدين، بدلاً من أن يُعفوا منها.
قال الباجي: "الجزية تؤخذ منهم على وجه العوض، لإقامتهم في بلاد المسلمين والذبِّ عنهم والحماية لهم".[228]
وقد تبين لنا قبلُ أن الله هو يتولى حساب من كفر به في الآخرة: }قل الله أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين{ (الزمر: 14-15).
وأما الجزية عند أهل الاصطلاح فعرفها ابن قدامة بقوله: "هي الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام".[229]
الجزية قبل الإسلام
لم يكن الإسلام بدعاً بين الأديان، كما لم يكن المسلمون كذلك بين الأمم؛ حين أخذوا الجزية من الأمم التي دخلت تحت ولايتهم، فإن أخذ الأمم الغالبة للجزية من الأمم المغلوبة أشهر من علم ، والتاريخ البشري أصدق شاهد على ذلك.(1/448)
وقد نقل العهد القديم والجديد شيوع هذه الصورة ، ففي إنجيل متى أن المسيح عليه السلام قال لسمعان: " ماذا تظن يا سمعان؟ ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية، أمن بنيهم أم من الأجانب؟ قال له بطرس من الأجانب. قال له يسوع: فإذاً البنون أحرار" (متى 17/24-25).
ويذكر العهد القديم شرعة الجزية في شرائع التوراة ، وأن الأنبياء عليهم السلام أخذوا الجزية من الأمم المغلوبة حين غلبوا على بعض الممالك ، كما صنع النبي يشوع مع الكنعانيين حين تغلب عليهم "فلم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر، فسكن الكنعانيون في وسط افرايم إلى هذا اليوم، وكانوا عبيداً تحت الجزية" (يشوع 16/10)، وقد جمع لهم بين العبودية والجزية.
وفي المسيحية أمر المسيح أتباعه بدفع الجزية للرومان، وسارع هو إلى دفعها ، فقد ذكر إنجيل متى أنه قال لسمعان بطرس: " اذهب إلى البحر وألق صنارة، والسمكة التي تطلع أولاً خذها، ومتى فتحت فاها تجد أستاراً، فخذه وأعطهم عني وعنك" (متى 17/24-27).
ويذكر إنجيل متّى أنه في مرة أخرى سئل: "أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟ .. فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر، وما للّه للّه" (متى 22/17-21).
ويعتبر العهد الجديد أداء الجزية للسلاطين حقاً مشروعاً، بل ويعطيه قداسة، ويجعله أمراً دينياً، إذ يقول بولس: "لتخضع كل نفس للسلاطين، السلاطين الكائنة هي مرتبة من الله، حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة ... إذ هو خادم الله، منتقم للغضب من الذي يفعل الشر، لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط، بل أيضا بسبب الضمير، فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضاً، إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه، فأعطوا الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، والخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام" (رومية 13/1-7).
ب. شرعة الجزية في الإسلام
إن أصل شرعة الجزية في الإسلام قوله تعالى: }قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون { (التوبة: 29)، وأول ما نلحظه أن الآية خطاب إلى المؤمنين تأمرهم بأخذ الجزية من المقاتلين دون غيرهم.
قال القرطبي: "قال علماؤنا: الذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من المقاتلين ... وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون، دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني".[230]
قال مالك: "مضت السنة أن لا جزية على نساء أهل الكتاب ولا على صبيانهم، وأن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال الذين قد بلغوا الحلم، وليس على أهل الذمة ولا على المجوس في نخيلهم ولا كرومهم ولا زروعهم ولا مواشيهم صدقة".[231]
قال ابن حجر: " لا تؤخذ من شيخ فانٍ ولا زمِن ولا امرأة ولا مجنون ولا عاجز عن الكسب ولا أجير ولا من أصحاب الصوامع والديارات في قولٍ, والأصح عند الشافعية الوجوب على من ذكر آخراً [أي أصحاب الصوامع]". [232]
وقد كتب عمر بذلك إلى أمراء الأجناد: (لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي)[233] أي ناهز الاحتلام، وهو من يقدر عادة على حمل السلاح.
والتزم بذلك أمراء الإسلام ، ومنهم عمرو بن العاص والي مصر، فقد اصطلح مع المقوقس (على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط ديناران ديناران، عن كل نفس، شريفهم ووضيعهم، من بلغ الحلم منهم، ليس على الشيخ الفاني ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا النساء شيء).[234]
ويشهد آدم متز بالتزام المسلمين بذلك في البلاد التي تحت سلطانهم، فيقول: " فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، فلا يدفعها ذوو العاهات، ولا المترهبون وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار". [235]
وبمثله شهد ول ديورانت: " ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي ذي لون خاص، وأداء ضريبة عن كل شخص تختلف باختلاف دخله، وتتراوح بين دينار وأربعة دنانير .. ويعفى منها الرهبان، والنساء، والذكور الذين هم دون البلوغ، والأَرِقَّاء، والشيوخ، والعَجَزة، والعُمي، والشديد الفقر". [236]
ومن النص السابق والشهادتين اللتين بعده يبين لنا أن المبلغ المدفوع للجزية لم يكن كبيراً يعجز عن دفعه الرجال، بل كان ميسوراً يطيقه كل أحد.
ففي زمن النبي r لم تجاوز جزية الفرد الدينار الواحد في كل سنة، فحين أرسل النبي معاذاً إلى اليمن أخذ من كل حالم منهم ديناراً، يقول معاذ: (بعثني النبي r إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً، أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة [هذه زكاة على المسلمين منهم]، ومن كل حالم ديناراً، أو عدله مَعافر[للجزية]).[237] والمعافري: الثياب.
وعلى عهد عمر بن الخطاب r كانت الجزية على أهل الذهب: أربعة دنانير، وعلى أهل الورِق: أربعين درهماً؛ مع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام.[238]
وقد تفاوت مقدار الجزية في عصور الإسلام، وقد مر معنا أن عمرو بن العاص أوجب على أهل مصر دينارين فقط في كل سنة ، تدفع عن الرجال دون النساء والأطفال والشيوخ، فيما لم تتجاوز جزية الشخص الواحد الأربعة دنانير زمن الدولة الأموية.
والذي يظهر من هذا التفاوت أن مقدار الجزية متروك للإمام، قال ابن أبي نجيح: قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جعل ذلك من قبل اليسار.[239](1/449)
لكنه على كل حال لن يجاوز هذه المبالغ البسيطة التي تراعي حالة الناس ويسارهم، ولا تكلفهم فوق طاقتهم، وهو ما نفهمه من وصية عمر للخليفة بعده بأهل الذمة، إذ يقول: ( وألا يكلفوا فوق طاقتهم). [240]
قال ابن حجر: "ويستفاد من هذه الزيادة أن لا يؤخذ من أهل الجزية إلا قدر ما يطيق المأخوذ منه ". [241]
وفي هذا الصدد ينقل آدم متز عن المؤرخ بنيامين قوله: "إن اليهود في كل بلاد الإسلام يدفعون ديناراً واحداً".[242]
ويقول دربير في كتابه "المنازعة بين العلم والدين": "إن المسلمين ما كانوا يتقاضون من مقهوريهم إلا شيئاً ضئيلاً من المال لا يقارن بما كانت تتقاضاه منهم حكوماتهم الوطنية".[243]
ويقول مونتسكيو في كتابه "روح الشرائع" : "إن هذه الأتاوات المفروضة كانت سبباً لهذه السهولة الغريبة التي صادفها المسلمون في فتوحاتهم، فالشعوب رأت – بدل أن تخضع لسلسلة لا تنتهي من المغارم التي تخيلها حرص الأباطرة – أن تخضع لأداء جزية خفيفة يمكن توفيتها بسهولة، وتسلمها بسهولة كذلك".[244]
وأما من عجز عن دفع هذا المبلغ الزهيد، فإن الفقهاء أسقطوها عنه، يقول ابن القيم: " تسقط الجزية بزوال الرقبة أو عجزها عن الأداء ".[245]
قال القاضي أبو يعلى: "وتسقط الجزية عن الفقير وعن الشيخ وعن الزَمِن".[246]
وفي مقابل هذه الدنانير المعدودات فإن المسلمين يلتزمون بالدفاع عن أهل الذمة وحمايتهم، ولو أدى ذلك إلى إزهاق أرواحهم في سبيل حماية أهل ذمتهم.
فقد ضمنه كتاب النبي r لربيعة الحضرمي، إذ يقول: "وأن نَصْرَ آل ذي مرحب على جماعة المسلمين ، وأن أرضهم بريئة من الجور". [247]
وبمثله ضمن عبادة بن الصامت للمقوقس عظيم القبط ، حين قال: " نقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إن كنتم في ذمتنا ، وكان لكم به عهد علينا ...".[248]
وكتب خالد لأهل بعض النواحي في العراق : "فإن منعناكم فلنا الجزية، وإلا فلا حتى نمنعكم".[249]
قال أبو الوليد الباجي: " وذلك أن الجزية إنما تؤخذ منهم على وجه العوض لإقامتهم في بلاد المسلمين والذب عنهم والحماية لهم". [250]
وأكد فقهاء الإسلام على حق أهل الذمة بالحماية، واعتبروا قيام المسلمين به من الوفاء بالعهود الذي تحرسه الشريعة وتأمر به.
قال الماورديّ: "ويلتزم ـ أي الإمام ـ لهم ببذل حقَّين: أحدهما: الكفُّ عنهم. والثانِي: الحماية لهم، ليكونوا بالكفِّ آمنين، وبالحماية محروسين". [251]
وقال النوويّ: "ويلزمنا الكفُّ عنهم، وضمان ما نُتلفه عليهم، نفسًا ومالاً، ودفعُ أهلِ الحرب عنهم". [252]
قال ابن قدامة: "الجزية تجب على أهل الذمة في كل عام، وهي بدل عن النصرة".[253]
وينقل القرافي عن ابن حزم إجماعاً للمسلمين لا تجد له نظيراً عند أمة من الأمم، فيقول: "من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله r؛ فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة".[254]
ويعلق القرافي فيقول: "فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال صوناً لمقتضاه عن الضياع إنه لعظيم".[255]
ولا يسقط واجب المسلمين بحماية أهل الذمة وهم في ديار الإسلام، بل يمتد إلى إطلاق أسراهم الذين غُلبنا عليهم، يقول ابن النجار الحنبلي: "يجب على الإمام حفظ أهل الذمة، ومنع من يؤذيهم، وفكُّ أسرهم، ودفع من قصدهم بأذى". [256]
ولما أغار أمير التتار قطلوشاه على دمشق في أوائل القرن الثامن الهجري، وأسر من المسلمين والذميين من النصارى واليهود عدداً، ذهب إليه الإمام ابن تيمية ومعه جمع من العلماء، وطلبوا فك الأسرى، فسمح له بالمسلمين، ولم يطلق الأسرى الذميين، فقال له شيخ الإسلام: "لابد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، ولا ندع لديك أسيراً، لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة، فإن لهم ما لنا، وعليهم ما علينا"، فأطلقهم الأمير التتري جميعاً. [257]
وهذه الأحكام الشرعية لا تختص بأهل الذمة، بل تسري على كل من كان ببلاد المسلمين من المعاهدين والمستأمنين، فإنهم جميعاً أهل ذمة كما سبق بيانه، يقول السرخسي: "قد بيَّنا أنّ المستأمنين فينا إذا لم يكونوا أهل منعة؛ فحالهم كحالِ أهل الذمّة في وجوب نصرتِهم على أمير المسلمين، ودفع الظلم عنهم؛ لأنّهم تحت ولايته.
ألا ترى أنّه كان يجب على الإمام والمسلمين اتّباعهم لاستنقاذهم من أيدي المشركين الذين قهروهم ما لم يدخلوا حصونَهم ومدائنهم، كما يجب عليهم ذلك إذا وقع الظهور على المسلمين، أو على أهل الذمّة؟ وكذلك لو أنّ هؤلاء المستأمنين كانوا من أهل دار الموادعة، دخلوا إلينا بتلك الموادعة".[258]
وحين عجز المسلمون عن حماية أهل الذمة ردوا إليهم ما أخذوه من الجزية لفوات شرطها، وهو الحماية، فقد روى القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج وغيره من أصحاب السير عن مكحول أن الأخبار تتابعت على أبي عبيدة بجموع الروم، فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين، فكتب أبو عبيدة لكل والٍ ممن خلَّفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جُبي منهم من الجزية والخراج، كتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم ؛ إن نصرنا الله عليهم". [259](1/450)
وحين قام أهل الذمة بالمشاركة بالذود عن بلادهم أسقط عنهم المسلمون الجزية، كما صنع معاوية t مع الأرمن، يقول لوران المؤرخ الفرنسي في كتابه "أرمينية بين بيزنطة والإسلام" : "إن الأرمن أحسنوا استقبال المسلمين ليتحرروا من ربقة بيزنطة، وتحالفوا معهم ليستعينوا بهم على مقاتلة الخزر، وترك العرب لهم أوضاعهم التي ألفوها وساروا عليها، والعهد أعطاه معاوية سنة 653م، إلى القائد تيودور رختوني ولجميع أبناء جنسه ماداموا راغبين فيه، وفي جملته: (أن لا يأخذ منهم جزية ثلاث سنين، ثم يبذلون بعدها ما شاؤوا، كما عاهدوه وأوثقوه على أن يقوموا بحاجة خمسة عشر ألف مقاتل من الفرسان منهم بدلاً من الجزية، وأن لا يرسل الخليفة إلى معاقل أرمينيا أمراء ولا قادة ولا خيلاً ولا قضاة... وإذا أغار عليهم الروم أمدهم بكل ما يريدونه من نجدات. وأشهد معاويةُ الله على ذلك). [260]
ولما تعهد الجراجمة (قريباً من أنطاكيا) بالقيام بالدفاع عن ثغرهم مع المسلمين، وأن يكونوا عيوناً للمسلمين وأعواناً لهم؛ أسقط عنهم أبو عبيدة t الجزية، بل صالحهم على أن ينفلوا مع المسلمين إذا غنموا في حربهم إلى جانب المسلمين.[261]
وبمثله صالح t أهل السامرة فأسقط عنهم الجزية ، يقول البلاذري: "كانوا عيوناً وأدلاء للمسلمين على جزية رؤوسهم".[262]
وأما أهل جرجان، فقد نقل الطبري أن سويد بن مقرن رفع الجزية عمن يقوم بحمايتها منهم، وكتب لهم بذلك كتاباً جاء فيه: " إن لكم الذمة، وعلينا المنعة، على أن عليكم من الجزاء (أي الجزية) في كل سنة على قدر طاقتكم، على كل حالم، ومن استعنا به منكم فله جزاؤه (جزيته) في معونته عوضاً من جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، ولا يغير شيء من ذلك هو إليهم؛ ما أدوا وأرشدوا ابن السبيل ونصحوا وقروا المسلمين، ولم يبد منهم سل ولا غل ".[263]
ومثله ما كتبه عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب لأهل أذربيجان ، فقد أعطاهم "كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية، على قدر طاقتهم ليس على صبي ولا امرأة، ولا زمِن ليس في يديه شيء من الدنيا، ولا متعبد متخل ليس في يديه من الدنيا شيء ... ومن حشر منهم في سنة (أي دعي للمشاركة في الدفاع) وضع عنه جزاء تلك السنة".
ثم يضيف الطبري بأن عتبة قدم بالكتاب على الخليفة عمر " وذلك أن عمر كان يأخذ عماله بموافاة الموسم في كل سنة، يحجر عليهم بذلك الظلم، ويحجزهم به عنه".[264]
ومثله أيضاً كتب سراقة بن عمرو لأهل أرمينيا، فقد تضمن عهدهم: " أن ينفروا لكل غارة، وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينب؛ رآه الوالي صلاحاً؛ على أن توضع الجزاء عمن أجاب إلى ذلك .. والحشر عوض من جزائهم، ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء .. فإن حشروا وضع ذلك عنهم ".[265]
لذا حق لآدم ميتز أن يرى الجزية أشبهت ما نسميه اليوم بالخدمة العسكرية، إذ يقول: " وكانت هذه الجزية أشبه بضريبة الدفاع الوطني، فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح ". [266]
ويوافقه المؤرخ توماس أرنولد، فيقول: "ولم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة على المسيحيين - كما يريدنا بعض الباحثين على الظن - لوناً من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدونها مع سائر أهل الذمة. وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش، في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين". [267]
ويقول ول ديورانت: " ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح .. وكان الذميون يعفون في نظير هذه الضريبة من الخدمة العسكرية .. وكان لهم على الحكومة أن تحميهم ". [268]
وينقل الدكتور علي الخربوطلي عن فان فلوتن قوله بأن "الضرائب ليست فادحة بالنسبة لما كانت تقوم به الحكومة العربية من بناء الطرق وحفر الترع وتوطيد الأمن وما إلى ذلك من ضروب الإصلاح، والحقيقة أن الجزية لم تكن عقاباً لأهل الذمة، فهي نظير إعفائهم من الجندية وفي مقابل حماية المسلمين لهم".[269]
وحين يعجز دافع الجزية عنها فإنها تسقط عنه، لا بل يدفع له من بيت مال المسلمين ما يكفيه ويقوته – كما سبق بيانه – ، ويقول أبو الوليد الباجي: " إذا اجتمعت على الذمي جزية سنتين أو أكثر لم تتداخل في قول الشافعي، وتتداخل في قول أبي حنيفة، وتجب عليه جزية سنةٍ واحدةٍ، والظاهر من مذهب مالكٍ أنه إن كان فر منها أخذ منه للسنين الماضية، وإن كان ذلك لعجزٍ لم تتداخل، ولم يبق في ذمته ما يعجز عنه من السنين .. وهذا القول مبني على أن الفقير لا جزية عليه ولا تبقى في ذمته". [270]
قال القرطبي: "وأما عقوبتهم إذا امتنعوا عن أدائها مع التمكين فجائز، فأما مع تبين عجزهم فلا تحل عقوبتهم، لأن من عجز عن الجزية سقطت عنه، ولا يكلف الأغنياء أداءها عن الفقراء". [271]
وأما عن تفسير قوله: ] عن يدٍ [ فقال ابن حجر: " أي عن طيب نفس , وكل من أطاع لقاهرٍ وأعطاه عن طيب نفس من يد فقد أعطاه عن يد . وقيل معنى قوله : ] عن يد [ أي نعمة منكم عليهم , وقيل: يعطيها من يده ولا يبعث بها".[272]
وأما الأمر بالصغار الوارد في قوله: } وهم صاغرون {، فهو معنى لا يمكن أن يتنافى مع ما رأيناه في أقوال النبي r من وجوب البر والعدل، وحرمة الظلم والعنت، وهو ما فهمه علماء الإسلام ، ففسره الشافعي بأن تجري عليهم أحكام الإسلام، أي العامة منها، فالجزية علامة على خضوع الأمة المغلوبة للخصائص العامة للأمة الغالبة.(1/451)
وفسره التابعي عكرمة مولى ابن عباس بصورة دفع الجزية للمسلمين، فقال: "أن يكونوا قياماً، والآخذ لها جلوساً"، إذ لما كانت اليد المعطية على العادة هي العالية، طلب منهم أن يشعروا العاطي للجزية بتفضلهم عليه، لا بفضله عليهم، يقول القرطبي في تفسيره: "فجعل يد المعطي في الصدقة عليا، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى، ويد الآخذ عليا".[273]
وقال ابن القيم: " لما كانت يد المعطي العليا، ويد الآخذ السفلة؛ احترز الأئمة أن يكون الأمر كذلك في الجزية، وأخذوها على وجه تكون يد المعطي السفلى، ويد الآخذ العليا".[274]
وأما ما نقل عن بعض الفقهاء من صور مستقبحة في معنى الصغار فهي مما استقبحه العلماء وأنكروه، ومنه ما نقله تقي الدين الحصني الشافعي عن بعضهم بقولهم: "وتؤخذ على وجه الصغار والإهانة؛ بأن يكون الذمي قائماً، والمسلم جالساً، ويأمره أن يخرج يده من جيبه، ويحني ظهره، ويطأطئ رأسه، ويصب ما معه في كفة الميزان، ويأخذ المستوفي بلحيته، ويضرب في لهزمته، وفي مجمع اللحم بين الماضغ والأذن".
وتعقبها النووي بقوله: "هذه الهيئة باطلة، ولا نعلم لها أصلاً معتمداً، وإنما ذكرها بعضهم .. فالصواب الجزم ببطلانها، وردها على من اخترعها، ولم ينقل أنه عليه الصلاة والسلام ولا أحد من الخلفاء الراشدين فعل شيئاً منها".[275]
ولما ذكر ابن القيم صوراً شبيهة ذكرها الفقهاء عقّب بقوله: "وهذا كله مما لا دليل عليه ولا هو مقتضى الآية، ولا نقل عن رسول الله ولا عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك، والصواب في الآية أن الصغار هو التزامهم لجريان أحكام الملة عليهم وإعطاء الجزية، فإن التزام ذلك هو الصغار".[276]
ونقل النووي عن جمهور العلماء قولهم: "تؤخذ برفق كأخذ الديون". [277]
وليست الحماية السبب الوحيد الذي لأجله شرعت الجزية، بل ذكر العلماء أموراً ، منها أن الجزية والصغار وسيلة ضغط محدودة تدفع الذمي إلى التفكر في الإسلام والاطلاع على محاسنه والاهتداء إليه والفوز بالجنة.
قال ابن حجر: "قال العلماء: الحكمة في وضع الجزية أن الذل الذي يلحقهم ويحملهم على الدخول في الإسلام مع ما في مخالطة المسلمين من الاطلاع على محاسن الإسلام".[278]
خاتمة
- الإسلام دين الله الخاتم الذي أرسل به الله تعالى محمداً e رحمة للعالمين ، وارتضى دينه من بين سائر الأديان ديناً.
- الإسلام سبق إلى رعاية حرية الإنسان في البقاء على دينه، وأن لا يكره على تركه، كما ضمن حرية العبادة وسلامة دورها.
- أهل الذمة والأمان والعهد مصطلحات أطلقها الفقهاء المسلمون على غير المسلمين المقيمين أو الوافدين إلى بلاد الإسلام، وتفيد أن هؤلاء في عهد المسلمين وذمتهم وحمايتهم.
- اعترف الإسلام بوجود الأديان تجانساً مع اعترافه بحتمية الخلاف وبقدرة الإنسان على التمييز والاختيار.
- الإكراه على الإسلام سوءة لم يصنعها المسلمون طوال تاريخهم بسبب قطعية النصوص المحرمة لذلك، وقد شهد لهذا المؤرخون الغربيون وغيرهم.
- حرص فقهاء الإسلام وملوكهم على رعاية أهل الذمة وحراسة حقوقهم فرقاً من وعيد النبي e لمن ظلمهم واعتدى عليهم.
- الله يحب المسلم الذي يعدل ويبر أهل الذمة بصور البر المختلفة من صلة وهدية وعيادة وضيافة وإكرام.
- أدركت الأمم عظمة الإسلام وسماحة دين الفاتحين ، فأحسنت استقبالهم وكانت عوناً لهم على حفظ الثغور ورد العدوان.
- شمل الإسلام بتعاليمه أهل الذمة في نظامه التكافلي، فتحول الذمي من دافع للجزية إلى مكفول من قبل المجتمع المسلم.
- الجزية نظام عرفته الأمم قديماً كما شرعته الكتب المقدسة عند اليهود والنصارى، بيد أن الإسلام سما بهذه الشريعة، وأضاف إليها ضمانات فريدة في مقابل دنانير معدودة سارع المغلوبون إلى دفعها.
فهرس المصادر والمراجع
• الأحكام السلطانية، أبو يعلى الفراء الحنبلي، دار الفكر، 1406هـ.
• أحكام أهل الذمة، ابن قيم الجوزية، تحقيق: يوسف أحمد البكري وشاكر العاروري، دار ابن حزم، الدمام، 1408هـ.
• الإسلام وأهل الذمة، علي حسن الخربوطلي، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1389 هـ.
• الأموال، أبو عبيد القاسم بن سلام، تحقيق: محمد خليل هراس، ط2، دار الفكر للطباعة والنشر، 1395هـ.
• الأموال، حميد بن زنجويه، تحقيق: د. شاكر ذيب فياض ، مركز الملك فيصل لبحوث والدراسات الإسلامية، 1406هـ.
• أهل الذمة في الإسلام، د. أ.س. ترتون، ترجمة وتعليق: حسن حبشي، ط3، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994م.
• تاريخ الأمم والملوك، محمد بن جرير الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ.
• تاريخ عمر، أبو الفرج ابن الجوزي، تحقيق: علي محمد عمر، دار البيان العربي.
• تحفة الأحوذي، محمد عبد الرحمن المباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت.
• تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ، دار الفكر ، بيروت، 1401هـ.
• جامع البيان، محمد بن جرير الطبري، دار الفكر، بيروت، 1405هـ.
• الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني، ط2، دار الشعب، القاهرة، 1372هـ.
• الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، آدم متز، تعريب: محمد عبد الهادي أبو ريدة، ط4، دار الكتاب العربي، بيروت، 1387هـ.
• حضارة العرب، غوستاف لوبون، ترجمة: عادل زعيتر، مطبعة عيسى البابي الحلبي.
• حقوق غير المسلمين في بلاد الإسلام، صالح حسين العايد، دار أشبيليا، 1422هـ.
• الخراج، أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، المطبعة السلفية، القاهرة، 1346هـ.
• روح الدين الإسلامي، عفيف طبارة، ط17، دار العلم للملايين، 1978م.
• سماحة الإسلام، أحمد الحوفي، إصدارات المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1391م.(1/452)
• شرح السير الكبير، محمد بن الحسن الشيباني، تحقيق: صلاح الدين المنجد، [بدون معلومات نشر].
• شرح النووي على صحيح مسلم، النووي، ط2، دار إحياء التراث، بيروت، 1392هـ.
• شمس العرب تسطع على الغرب، زيغريد هونكه، ترجمة: فاروق بيضون وكمال دسوقي، ط 10، دار صادر، بيروت، 1423هـ.
• الطبقات الكبرى، ابن سعد، دار صادر ، بيروت.
• غير المسلمين في المجتمع المسلم، يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، 1397هـ.
• فتح الباري بشرح صحيح البخاري، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.
• فتوح البلدان، أحمد بن يحيى البلاذري، مؤسسة المعارف ، بيروت، 1407هـ.
• فتوح مصر وأخبارها، أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الحكم، طبع في مدينة ليدن.
• الفروق، أحمد بن إدريس الصنهاجي القرافي [بدون معلومات نشر].
• فن الحكم في الإسلام، مصطفى أبو زيد فهمي، المكتب المصري الحديث.
• قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل، الندوة العالمية للشباب الإسلامي،1412هـ.
• قصة الحضارة، ول ديورانت، ترجمة محمد بدران، ط2، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1964م.
• المنتقى شرح موطأ إمام دار الهجرة، أبو الوليد الباجي، مطبعة دار السعادة، 1331هـ.
الفهرس
مقدمة
التمهيد
المبحث الأول: حقوق غير المسلمين في المجتمع المسلم
أولاً : ضمان حرية المعتقد
أ. حتمية الخلاف وطبيعته
ب. مهمة المسلمين الدعوة إلى الله لا أسلمة الناس
ج. التكريم الإلهي للإنسان، ومبدأ عدم الإكراه على الدين
ثانياً: حرية ممارسة العبادة وضمان سلامة دورها
شهادات المؤرخين الغربيين على سماحة المسلمين مع غيرهم
ثالثاً : حسن العشرة والمعاملة الحسنة
رابعاً : العدل في معاملتهم ورفع الظلم عنهم
خامساً : التكافل الاجتماعي
المبحث الثاني : الجزية
أ. الجزية في اللغة والاصطلاح والتاريخ الإنساني
ب. شرعة الجزية في الإسلام
خاتمة
فهرس المصادر والمراجع
الفهرس
====================
منهج المستشرق برنارد لويس في دراسة الفكر السياسي الإسلامي
إعداد
د. مازن بن صلاح مطبقاني
29ذي الحجة 1418هـ (26أبريل 1998م)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أتقدم بجزيل الشكر للمجمع الثقافي بأبو ظبي وعلى رأسه الأستاذ خلفان مصبح على كريم دعوتهم لي لتقديم هذه المحاضرة. وأشكر الدكتور وليد العكو على جهوده في الاتصال بي وتسهيل أموري الخاصة بالسفر. إنني سعيد أن أكون بين إخواني الكرام هنا في الإمارات العربية المتحدة التي طالما تطلعت لزيارتها لما أعرفه فيها من نشاطات علمية مباركة حتى إن منظمة اليونسكو قد اختارت الشارقة لتكون العاصمة الثقافية للعالم العربي. وإن أبو ظبي شقيقة الشارقة لا تقل عنها أبداً في نشاطاتها الثقافية.
أما موضوع المحاضرة فيتعلق بأحد أعلام المستشرقين في العصر الحاضر ومنهجه في دراسة الفكر السياسي الإسلامي. وأود في البداية أن أعرّف بقسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة. فقد أنشأت عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وَحدة الاستشراق والتنصير عام 1400هـ(1980م)، وعمل فيها كل من الأساتذة الأفاضل الدكتور محمد فتحي عثمان والدكتور جعفر شيخ إدريس والدكتور قاسم السامرائي والدكتور السيد محمد الشاهد والدكتور إبراهيم عكاشة، وقد تم نشر عدة أعمال من إنتاج أساتذة هذه الوحدة منها: كتاب الدكتور إبراهيم عكاشة حول التنصير في البلاد العربية، وترجمة كتاب الدكتور عبد اللطيف الطيباوي حول المستشرقين الناطقين باللغة الإنجليزية. وكانت هذه الوحدة مقدمة التفكير في إنشاء قسم أكاديمي في كلية الدعوة يهتم بدراسة أعمال المستشرقين ومراكز الاستشراق ودراسة التنصير. وهذا القسم يقبل الطلاب في مرحلة الدراسات العليا فقط بعد أن يتمكنوا من الدراسات الإسلامية في المرحلة الجامعية، وأحياناً يعطي الطلاب سنة تأهيلية تأصيلاً لهم في هذه العلوم.
وقد حصل على الدكتوراه ثلاثة من منسوبي الكلية كانت الرسالة الأولى حول كتابات برنارد لويس ومنهجه في دراسات الجوانب الفكرية في التاريخ الإسلامي، والثانية حول الجوانب العقدية في دائرة المعارف الإسلامية التي أنتجها المستشرقون، والثالثة حول مناهج المنصرّين البروتستانت في النصف الثاني من القرن العشرين. وقد أنجزت عشرات البحوث التكميلية في شتى فروع المعرفة في العلوم الإسلامية التي خاض فيها المستشرقون. وقد أصدر القسم الكتاب الدوري الأول ولدى القسم وحدة المعلومات التي تضم آلاف المقالات حول الدراسات الاستشراقية.
هذا القسم له نشاط علمي بارز في الصحافة المحلية، كما تم تمثيل هذا القسم في المؤتمر العالمي الخامس والثلاثين للدراسات الأسيوية والشمال أفريقية الذي عقد في بودابست بالمجر، وكذلك في المؤتمر الدولي للدراسات الاستشراقية الذي عقد في تطوان بالمغرب، وفي المؤتمر العالمي الأول حول الإسلام والقرن الواحد والعشرين الذي عقد في ليدن بهولندا. وأسمح لنفسي بالرغم من أنني أحد أعضاء هذا القسم لأقول بأن جامعة الإمام كان لها الريادة في العالم الإسلامي بإنشاء هذا القسم الهام، وقد فكر الأزهر مؤخراً في إنشاء مركز للدراسات الاستشراقية ، وأرجو أن يفيد من تجربة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
ولا بد قبل الحديث عن منهج لويس أن نعرّف بهذا المستشرق فهو برنارد لويس، مستشرق بريطاني ولد في لندن في 16 مايو 1916م، وقد بلغ الثمانين منذ سنتين واحتفل به مركز موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بندوة دامت يومين.(1/453)
تلقى تعليمه في لندن حتى حصل على البكالوريوس في الآداب من قسم التاريخ بجامعة لندن، ثم التحق بجامعة باريس معهد الدراسات السامية وحصل منها على دبلوم الدراسات السامية، ثم عاد إلى جامعة لندن لينال درجة الدكتوراه عن رسالته في أصول الإسماعيلية واشرف عليه المستشرق هاملتون جب.
التحق بالجيش البريطاني في أثناء الحرب العالمية الثانية وأعيرت خدماته إلى وزارة الخارجية، ثم عاد إلى الجامعة ليدرّس حتى وصل إلى منصب رئيس قسم التاريخ بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن من 1957م حتى عام 1974م، حيث انتقل بعدها إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليحصل على الجنسية الأمريكية عام 1982م، عمل أستاذاً زائراً في العديد من الجامعات الأمريكية، وحضر الكثير من الندوات والمؤتمرات حول الدراسات العربية والإسلامية، كما قدم المشورة للكونجرس الأمريكي عام 1974م، وكان ذلك قبل حصوله على الجنسية الأمريكية، وقد قامت وزارة الخارجية الإسرائيلية بنشر شهادته أو محاضرته في الكونجرس بعد إلقائها بأسبوعين.
له العديد من المؤلفات من أشهرها :
1- العرب في التاريخ
2-الإسلام في التاريخ
3-اللغة السياسية في الإسلام
4-أصول الإسماعيلية
5- اللون والعرق في الإسلام أو اللون والعرق في الشرق الأوسط.
6- الحشاشون أول فرقة ثورية في الإسلام
7-الساميون واللاساميون
8-الغرب والشرق الأوسط.بالإضافة إلى عدد كبير من البحوث التي نشرت في الدوريات المتخصصة ومنها على سبيل المثال في مجال هذا البحث :
1- "الشيوعية والإسلام" ، نشرت في مجلة شؤون دولية.
2- "الديموقراطية في الشرق الأوسط"، نشرت في مجلة شؤون الشرق الأوسط.
3- "عودة الإسلام"، نشرت في مجلة Commentary، ونشرت مترجمة في مجلة الدعوة المصرية (النمسا).
4- "المفاهيم الإسلامية للثورة"، نشرت في كتاب الثورة في الشرق الأوسط.
5- "الدولة والفرد في المجتمع الإسلامي"، بحث ألقي في ندوة في فرنسا ونشر مترجماً في مجلة الثقافة الجزائرية.
6- "الحضارة الغربية: نظرة من الشرق"، محاضرة توماس جيفرسون التاسعة عشرة .
7- "الشرق الأوسط: نظرة جديدة"، في مجلة شؤون خارجية.
وكتب كثيراً في الصحف والمجلات الغربية وبخاصة مجلة ذا نيو ريبابليك وأتلانتك الشهري وكومنتري اليهودية وغيرها.
أوصى لويس بأن تعطى مكتبته -وهي مكتبة كبيرة- لمركز موشيه ديان بعد وفاته. ويقضي لويس شهرين سنوياً في تل أبيب([279]).
إن لويس متخصص في التاريخ الإسلامي وبخاصة الدولة العباسية، ولكنه اهتم بالإسلام عموماً، وإن كان قد تحول إلى دراسة القضايا المعاصرة في العالم الإسلامي عندما ظهر في الغرب اهتمامُ بالقضايا المعاصرة. ومن أبرز ما يهم الغرب في العالم الإسلامي الفكر السياسي. ولا يمكن أن يتم فهم الفكر السياسي المعاصر وبخاصة للجماعات الإسلامية التي يطلق عليها الغرب خطأً "الأصولية الإسلامية" إلاّ بدراسة الفكر السياسي كما جاء في الكتاب والسنة وكما جاء في اجتهادات علماء الإسلام وفقهاؤه.
اتصلت بالبروفيسور لويس في أثناء إعداد بحث الدكتوراه وطلبت منه موعداً للقائه فأبى إعطائي موعداً حتى يقرأ جزءاً من رسالتي (أي فصل منها)، ولمّا أخبرته أنني ما زلت في طور جمع المادة العلمية أصر على أن وقته ثمين ولا يستطيع إعطائي الموعد حتى يتأكد أنني باحث موضوعي ولست من الذين يكتبون الكتابة المتعصبة. وأرسلت له خطة البحث باللغة الإنجليزية ولكنها لم تكن كافية في نظره. ولما علمت أنه لن يقتنع سافرت إلى برنستون وهناك أقنعت زملاءه بضرورة مقابلتي، وتمت المقابلة بالفعل، وقد سجلت اللقاء بآلة التسجيل وقام بمراجعة المادة وإقرارها.
ولما كانت السياسة والفكر السياسي من أبرز الموضوعات التي تناولها لويس في كتابته في التاريخ الإسلامي فلا بد من مقدمة موجزة عن مدى اهتمام الإسلام بشأن السياسة قبل الشروع في البحث في كتابات لويس في هذا الموضوع.
لقد اهتم الإسلام بالسياسة منذ بداية تكون الجماعة الإسلامية الأولى في دار الأرقم بن أبي الأرقم حيث كانت تعمل تحت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أذن لمجموعة من المسلمين الذين عانوا الاضطهاد بالهجرة إلى الحبشة في السنة الخامسة وبعدها. ولا يمكن أن تقوم جماعة بمثل هذا العمل لو لم يكن لديها تنظيم معين. ثم اتضحت بعض أبعاد الجماعة الإسلامية في بيعة العقبة الأولى ثم الثانية. وكانت الثانية قد أوضحت بعض الأفكار السياسية المهمة ومما ورد في بيعة العقبة الثانية: " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، وأن لا ننازع الأمر أهله وعلى أثرة منّا، وأن نقول الحق لا نخشى في الله لومة لائم".
وبعد أن هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم أخذت الجماعة الإسلامية وضع الفكر السياسي الإسلامي موضع التطبيق؛ وذلك في الصحيفة التي كتبها الرسول صلى الله عليه وسلم بين المسلمين والكفار من أهل المدينة ثم بين المسلمين واليهود في المدينة. وفي هذه الأثناء كانت آيات القرآن الكريم تتوالى في النزول توضح معالم المنهج الإسلامي في السياسة وفي الاقتصاد وفي شؤون الحياة كلها.(1/454)
ويكفي تدليلاً على أهمية السياسة والفكر السياسي في الإسلام أن قصة موسى عليه السلام مع فرعون وردت أكثر من سبعين مرة في القرآن الكريم وكانت في غالبها في سياقات سياسية. فمن قال إن الإسلام لا يهتم بالسياسة فما عليه إلاّ أن يطلع على هذه القصص وتفسيرها ليعرف كم هو مهم أن يعيش الناس تحت ظل حكومة تعاملهم بالعدل وترعى شؤونهم وتساوي بينهم ولا تأكل أموالهم. ألم يذكر القرآن الكريم عن فرعون قوله )ونادى فرعون في قومه أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي(([280])، وذكر طغيان فرعون في قوله تعالى:) ما أريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد(([281]).
ولويس في اهتمامه بالفكر السياسي الإسلامي لا ينطلق من كونه باحث متخصص في الفقه أو الفكر السياسي أو القانون، ولكنه كتب بطريقة المؤرخ لذي يرى بعض أحداث التاريخ الإسلامي فيبحث في كتب الأحكام السلطانية والفقه ما ينطبق عليها، أو يجد فكرة في أحد كتب الفقه فيروح يبحث لها عن شواهد واستدلالات في أحداث التاريخ، وأحياناً يكون لديه فكرة جاهزة عن المنهج الإسلامي في الحكم فيبحث في كتب التاريخ والفقه ولا يتوانى عن الرجوع إلى كتب الأدب ليبرر وجهة نظره.
أما هذا البحث فينقسم إلى ثلاثة محاور :
المحور الأول: المشروعية في الفكر السياسي الإسلامي عند لويس
المحور الثاني: العلاقات بين الفرد والدولة ف الفكر السياسي الإسلامي
المحور الثالث: لويس والحركات الإسلامية المعاصرة.
المحور الأول: المشروعية في الفكر السياسي الإسلامي.
تناول لويس مسألة المشروعية في الفكر السياسي الإسلامي من خلال حديثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقيامه برئاسة الأمة وحدود السلطات التي كانت له في هذا العمل. وفيما يأتي أبرز العبارات التي وردت في وصفه للرسول صلى الله عليه وسلم وسلطاته. فقد قارن لويس بين الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه "لم يمت على الصليب، وكان إلى جانب النبوة جندياً ورجل دولة بل رئيس دولة ومؤسس إمبراطورية"([282])، وقد وصف لويس الرسول صلى الله عليه وسلم في موضع آخر بأنه " شيخ الأمة لأولئك الذين آمنوا به بحق، ليست سلطته مشروطة أو مقبولة بدون اعتراضات من قبل القبيلة التي يمكن أن تسحبها في أي وقت، ولكنه حق ديني مطلق. إن مصدر السلطة انتقل من الرأي العام إلى الله الذي أناطها برسوله المختار"([283]).
وقد بحث لويس مسألة هل الحكومة الإسلامية حكومة دينية انطلاقاً من القول المنسوب لعيسى عليه السلام (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، فهذا يؤكد في نظره على وجود سلطتين إحداهما دينية والأخرى دنيوية هما الكنيسة والدولة بينما امتزجت هاتان السلطتان في الإسلام يدل على ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد مارس القيادة السياسية والزعامة الدينية ([284]).
ويواصل لويس محاولته تفسير معنى الحكومة الإسلامية حيث يتحدث عن تقليدين سياسيين في الإسلام يطلق على أحدهما التقليد "الساكن" والآخر " النشط"، وأن كلاً من التقليدين مستمدان من الكتاب والسنة. فالتقليد الساكن يتمثل في كون الرسول صلى الله عليه وسلم حاكماً ورجلاً سياسياً، ولكنه قبل أن يكون كذلك كان " متمرداً" و"معارضاً" للنظام الحاكم في مكة، وقاد معارضته ضد الطبقة الحاكمة الوثنية في مكة، وفي وقت من الأوقات خرج إلى المنفى وكوّن ما يمكن أن يطلق عليه في المصطلح المعاصر "حكومة المنفى"، وكان هذا العمل من قيام النبي e بالتمرد مثالاً احتذته كل الحركات الثورية في التاريخ الإسلامي ، وكان من ذلك على سبيل المثال قيام الدولة العباسية، وقيام الدولة الفاطمية ثم ثورة الخميني في العصر الحاضر([285]).
ويرى لويس أن حجة من ينفي عن الحكومة الإسلامية أن تكون حكومة دينية وذلك لعدم وجود كنيسة أو بابا أو مجالس كنسية في الإسلام، أما الذين يرون أن حكومة الإسلام دينية فيبررون ذلك بوجود نوع من عمل القسس بالمعنى الاجتماعي حيث يوجد " طبقة من العلماء المحترفين الذين اكتسبوا مكانتهم من العلم وليس من التكريس الكنسي، والذين عملوا كرجال دين من عدة نواح. ويمثل هؤلاء الله عز وجل وشريعته من النواحي العملية وبالتالي يمارسون السلطة بالمعنى الحقيقي وإن لم تكن السلطة السياسية الكاملة"([286]). ويضيف لويس قائلاً: "الإسلام من ناحية المبدأ ،وإن لم يكن في التطبيق، ثيوقراطي بمعنى آخر وأكثر عمقاً، والثيوقراطية تعنى حرفياً حكم الله، وبهذا المعنى كانت حكومة الإسلام دينية من الناحية النظرية، ففي روما " كان قيصر هو الله"، وفي النصرانية "تعايش القيصر مع الله "، وفي الإسلام "الله هو القيصر حيث إنه وحده الرئيس الأعلى للدولة ومصدر السيادة، وهكذا صاحب التشريع، فالدولة هي دولة الله، والقانون هو قانون الله، والجيش جيش الله، وبالطبع فالأعداء هم أعداء الله"([287]).
المناقشة
إن مكانة الرسول e عند المسلمين لا تقارن بعيسى عليه السلام فإن الأنبياء جميعاً إنما أرسلهم الله عز وجل لتطبيق شرع الله في الأرض ) وما أرسلنا من رسول إلاّ ليطاع بإذن الله(([288])، ولكن تختلف ظروف رسالتهم فعيسى عليه السلام عمل تحت حكم روماني قاهر فلم يستطع أن يقف في وجه تلك الدولة، وإنما كان همه أن يعيد اليهود إلى شريعتهم مع تعديلات في هذا التشريع وفقاً لما أمره الله سبحانه وتعالى. أما رسولنا e فقد تمكن من إنشاء دولة ووضع لها الأسس والقواعد لأن رسالته هي الرسالة الخاتمة.
أما زعم لويس بتأسيس الرسول e إمبراطورية فتلك مقارنة فاسدة فالإمبراطور هو الذي يحكم دولة استعمارية توسعية لصالح شعب أو عرق كما هو الحال في الإمبراطوريات السابقة أو اللاحقة.(1/455)
وثمة خطأ منهجي آخر وهو سوء الفهم أو الجهل وهو وصف الرسول e بأنه "شيخ الأمة"، فلو كانت المسألة كذلك لما واجه تلك العقبات والعراقيل. وقد عرض كفار قريش عليه أن يكون ملكاً عليهم وأن يتخلى عن الرسالة فأبى ذلك أشد الإباء([289]). وإن السبب في محاولة قريش أن تعرض على الرسول ما عرضت أنها فهمت أن دعوة التوحيد تقضي "نزع السلطان الذي كان يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام ورده كله إلى الله السلطان على الضمائر والسلطان على الشعائر، والسلطان على الحياة ..السلطان في المال ، والسلطان في القضاء والسلطان في الأرواح والأبدان"([290]).
أما بخصوص رأي لويس بانتقال السلطة من الرأي العام إلى الله ثم إلى الرسول e فأمر يخالف حقيقة الواقع فلويس مؤرخ متمرس في التاريخ الإسلامي، ولا شك أنه عرف عن بيعة العقبة الأولى والثانية وبيعة الرضوان. وأن البيعة تراض بين طرفين . وقد أورد القرآن الكريم بيعة النساء في قوله تعالى: ) يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك( الآية([291])، لاشك أن سلطة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت حقاً دينياً فهو المتلقي للوحي عن ربه، ولا بد للأمة أن تطيع رسولها ومع ذلك فقد كانت تلك السلطة والطاعة مع دروس في توزيع السلطة، وفي الشورى وفي تشجيع المواهب الفردية. لقد ربّى الرسول e أعظم نخبة تولت قيادة البشرية بعد أن استطاعت إسقاط إمبراطوريتي الفرس والروم. إن مشيخة القبيلة أو الأمة لا يمكن أن تكون نتائجها مثل النتائج التي تحققت على يدي الرسول e وصحبه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
ولنلتفت الآن إلى مسألة كون الحكومة الإسلامية دينية أو لا؛ فإن لويس وقع في أخطاء منهجية عديدة، منها أولاً إسقاط النظرة الغربية عند تناول الفكر السياسي الإسلامي، ففكرة الحكومة الدينية فكرة غربية إذ لم يعرف الإسلام صراعاً بين سلطة دينية وأخرى دنيوية، فقد فهم المسلمون أن الإسلام ينظم شؤون حياتهم جميعها من أدق تفاصيلها حتى مسألة الحكم والخلافة: )قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين(([292]). ولم يكن هذا الصراع ليقع في النصرانية لولا أن المسيح عليه السلام واجه الدولة الرومانية القوية وطائفة من اليهود الحاقدين وإلاّ فإن المسيح جاء بشريعة تجمع بين الدنيا والدين، فهو لم يلغ الشرائع التي كانت موجودة بل جاء بشريعة ليتمها.ويكملها. وأما العبارة المنسوبة للمسيح عليه السلام (أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) التي يحلو للويس أن يكررها للاستدلال على الفصل بين السلطتين، فهو خطأ منهجي آخر لأنه يمارس بتر النصوص من سياقها، فإن القصة التي وردت فيها هذه العبارة تؤكد على ضرورة طاعة السلطة مهما كانت ظالمة وقد جاء في رسالة بطرس ( لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة لأنه ليس سلطان إلاّ من الله والسلاطين الكائنين :مرتبة من الله حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله)([293])، واستمر الصراع بين السلطتين حتى قويت الكنيسة واكتسبت سلطة ضخمة وثراء، ووصل بها الأمر إلى أن أصبحت دولة داخل دولة، وأصبح للبابا رأس الكنيسة اليد الطولى في مواجهة الحكام.
ومن أخطاء لويس المنهجية مقارنته بين الله والقيصر وهي مقارنة فاسدة، فقد تصح مثل هذه المقارنات في عقلية مشبعة بالنزعة المادية ، وكما يقول سليمان ناينق وسميرعبده أنه: " ما كان لباحث يهودي مثل لويس يفترض فيه أنه مؤمن بالله أن يجعل قيصر في درجة مع الله عز وجل. وما تعايش السلطتين عند النصارى إلاّ لأن رجال الدين النصارى اضطروا للخنوع وإلاّ فإنهم عندما قويت شوكتهم استبدوا بقيصر وحكموا عليه بالخنوع كما فعل جريجوري السابع بالملك هنري الرابع. وكانوا يجمعون الضرائب ويسيِّرون الجيوش وغير ذلك من السلطات الدنيوية"([294]).
وبالنسبة لمكانة العلماء فقد نظر لويس إلى المسألة من زاوية واحدة وبوجهة نظر معينة وأخذ يحشد لها الأدلة من هنا وهناك؛ فهذا الدين قام على العلماء، ولم يكن ثمة فرق بين العلماء والحكام ، فالخلفاء الراشدون كانوا أعلم الناس بالإسلام، وجاء بعدهم خلفاء بني أمية وكان كثير منهم على درجة عالية من الفقه والدين مثل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وعبد الملك ابن مروان، وعمر بن عبد العزيز، وظل الخلفاء في الغالب على درجة طيبة من العلم بالإسلام، ولذلك كان هؤلاء يعرفون للعلماء قيمتهم ومكانتهم السامية حين كانوا ينصحون الحكام . وبلغ من مكانة العلماء ما ورد عن أبي جعفر المنصور حينما لقي سفيان الثوري فقال له " يا سفيان لم لا تأتنا فنستشيرك فما أمرتنا بشيء صرنا إليه وما نهيتنا عن شيء تركناه"، وهنا سأله الثوري كم بلغت نفقتك في الحج – مستعظماً تلك النفقة_ ثم ذكّره بأن نفقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة لم تزد على ثمانية عشر ديناراً.
ولمّا ولي المسلمين حكام قلت درجة معرفتهم بهذا الدين كان لا بد من وجود العلماء إلى جوارهم لتقديم النصح والتوجيه والمشورة. ولم يؤلف العلماء في التاريخ الإسلامي طبقة ترتزق بالعلم إنما عملوا في شتى مجالات الحياة حتى يخلصوا للعلم ولطلبه، وكانوا علماء وجنوداً مجاهدين وقادة. وكان منهم من وقف في وجه الحكام الظلمة حتى ابتلي عدد منهم بالسجن والتعذيب. ونحج عدد منهم في إيقاف الحكام عند حدهم([295]).(1/456)
وقول لويس إن الله هو المشرع وبالتالي فهو الرئيس الأعلى للدولة ومصدر السيادة، وكذلك مصدر التشريع فالدولة دولة الله، والجيش جيش الله وبالطبع فالأعداء هم أعداء الله، فإن لويس هنا لم يأت بجديد بل كرر افتراضات مستشرقين سبقوه ومن هؤلاء سانتيلانا الذي قال في بحث له في الفكر السياسي: "إن الإسلام هو حكومة الله المباشرة يحكمها الله الذي يرعى شعبه دائماً، فالدولة في الإسلام يمثلها الله، حتى الموظفون العموميون هم موظفون عند الله"([296])، فالخطأ المنهجي الأول هنا أن لويس نقل عن غيره دون ذكر المصدر، أما الخطأ الثاني فإنه لم يقدم الدليل على افتراضاته. والواقع كان عكس ذلك تماماً فلم يدَّع حاكم مسلم أنه خليفة الله أو يحكم باسم الله، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول في أول خطبة له بعد توليه السلطة: " لقد وليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني.."([297]) " فالخليفة منفذ للشريعة، خاضع لأحكامها، وهو معين من قبل الأمة تنتخبه ولها الحق أن تعزله."([298]) بينما يقصد من الثيوقراطية أنها "حكومة الإله أو الآلهة الذين يكونون ممثلين برجال (كهنوت) أو زعماء روحيين مقدسين. ومن أمثلتها حكومة البابوات في العصور الوسطى فيكون لهؤلاء الرؤساء سلطات روحية ولهم حق الغفران والحرمان، وتجب طاعتهم المطلقة وأقوالهم قانون لأنهم يمثلون الإرادة الإلهية"([299]).
ويرى الباحثان سليمان ناينج وسمير عبد ربه بأن ما كتبه لويس حول هذه المسألة يعد تمثيلاً سيئاً لطبيعة الإسلام فلا يمكن مقارنة الله بالقيصر أو بأي شكل أو هيئة بشرية أخرى وأن الله لا يعين وكيلاً عنه في الأرض فكل إنسان هو خليفة الله في الأرض والمجتمع الإسلامي يختار قادته وفقاً لتعاليم الشريعة ([300])، والسيادة في الإسلام تنبع من مصدرين هما الشريعة والأمة ([301])، فالله عز وجل أرسل رسله بالشريعة فإذا ما صح اتباعها فلا شك أنهم أقرب إلى هذه الحقيقة التي يوردها لويس بأسلوبه الساخر، فالأنظمة الأخرى والقائمة على شرائع من صنع البشر لن تنال شرف هذا اللقب الذي حازته الأمة الإسلامية زمناً طويلاً وآن لها أن تعود إليه قريباً بإذن الله.
المحور الثاني: العلاقات بين الفرد والدولة في الفكر السياسي الإسلامي:
يتهم لويس العقلية الإسلامية بأنها عقلية ذرية أي لا تستطيع أن تنظر إلى الأمور نظرة شاملة وأنها عقلية تجريدية، ولكن لويس في دراسته للفكر السياسي الإسلامي وقع فيما اتهم به المسلمون ظلماً ، وأكثر ما تتجلى العقلية الذرية هذه في نظرته إلى العلاقة بين الفرد والدولة التي تناولها في أكثر من بحث. ففي هذه البحوث أخذ بعض المصطلحات من الفكر السياسي الغربي وحاول أن يبحث عن مصطلحات مماثلة لها في الفكر الإسلامي، أو قام بابتداع بعض المصطلحات وراح يحشد لها الأدلة من أي مصدر كان سواء من الحديث الضعيف أو من مصدر مجهول أو من كتب الأدب وغير ذلك .
لقد وجد لويس أن موقف أهل السنة والجماعة بعدم الخروج على الحاكم إذا انحرف عن الطريق الصحيح ما لم يرو كفراً بواحاً وسيلة ليوجه سهام نقده بأن الإسلام يطلب من أتباعه أن يكونوا خانعين أذلاء. ويستشهد لويس بحديث (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ولكن هذا الأمر يصطدم في نظره بأمرين أولهما "أن المشرعين نادراً ما ناقشوا كيف يتم فحص التزام الحكومة بالشريعة ، ومتى تكون مخطئة وبالتالي لم يضعوا أجوبة لذلك، والثاني أنهم لم يضعوا أجهزة أو إجراءات لقياس مدى التزام الحكومة بالشريعة"([302]).
ويقول لويس في موضع آخر: " كان واجب الطاعة في الأيام العظيمة للتاريخ الإسلامي القديم قاصراً على الخلفاء الشرعيين الذين هم وكلاء الله في الأرض ورؤساء المجتمع الديني وفي حالة تمسكهم بالشرع فقط، ولكن مع تراجع الخلافة ونمو الدكتاتورية جعل الفقهاء والمشرعون المسلمون تعاليمهم موافقة للحالة المتغيرة، وجعلوا واجب الطاعة يمتد لأية سلطة فعلية مهما كانت عاصية أو متوحشة. وقد سيطر على الفكر السياسي الإسلامي في الألف سنة الأخيرة مبدأ " الطغيان أفضل من الفوضى ومن اشتدت وطأته وجبت طاعته"([303]).
ولتأكيد نظرته هذه ينقل لويس نصاً عن ابن جماعة حول البيعة القهرية جاء فيه " في زمن الاضطرابات يصبح من الضروري الاعتراف بالحاكم لمنع مزيد من الاضطرابات، فإذا خلا الوقت من إمام فتصدى لها من هو من أهلها ولا يقدم في ذلك كونه جاهلاً أو فاسقاً في الأصح [ أو حتى كونه عبداً أو امرأة لا اعتبار له] وأضاف لويس بأن ما هو أسوأ من حكم العبد أو المرأة كما قال ابن جماعة هو حكم الكافر . وقد حدثت هذه الحالة حينما استولى النورمنديون على جزيرة صقلية مما دعا فقيه من مدينة مازارا لوضع قاعدة تقضي بقبول حكم النصراني وطاعته ما دام يبدي تسامحاً تجاه المسلمين.([304])
ويصر لويس على البحث عن نصوص حول ضرورة الإذعان للسلطة مهما كان الأمر ويستشهد لذلك بنصوص أوردها ابن بطة ومنها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( وإن ظلمك فاصبر وإن حرمك فاصبر) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (اصبر وإن كان عبداً حبشياً) ويعلق لويس قائلاً: " من المؤكد أن هذين القولين الذين ينسب أحدهما إلى الخليفة عمر وينسب الثاني إلى الرسول[ صلى الله عليه وسلم] هما قولان منحولان والغرض منهما هو تبرير الآراء التي أخذت تشيع في تلك الفترة."([305])(1/457)
وفي مجال تأثر الفكر السياسي الإسلامي بالفكر السياسي الغربي يتناول لويس مسألة حقوق الفرد أو حقوق المواطن فيقول: "يمكن أن يكون للمواطن حاجات وآمال ولكن ليس له حقوق، إن هذه الفكرة بالذات مصدرها الغرب، وظهرت لأول مرة في القرن التاسع عشر عندما بدأ الكتّاب في تركيا وفي مصر في استخدام مثل هذه التعبيرات "حقوق الحرية" و"حقوق المواطن"، .ويضيف إنه ثمة مقولة عربية قديمة مفادها أن الخليفة إذا كان عادلاً فسوف يكافأ، وعليك أن تكون شاكراً، وإذا لم يكن عادلاً فإنه سيعاقب وعليك أن تكون صبورا" ([306]).
ويقول لويس عن الحرية السياسية: " بالرغم من وجود آثار حرية بدوية باقية في النظرية القانونية الإسلامية التقليدية، فإن تجربة الإسلام السياسية في معظمها استبدادية ، فعلى المواطن واجب ديني هو الطاعة المطلقة وبدون سؤال لصاحب السيادة، وليس له حقوق سوى أن يعيش حياة إسلامية طيبة، وعلى الحاكم المسلم أن يراعي الشريعة "القانون المقدس" لإمكانية إقامة الحياة الإسلامية الطيبة. أما ما سوى ذلك فللحاكم أن يفعل ما يشاء..ويضيف لويس أن النظرية الإسلامية لم تعترف مطلقاً بأي مصدر للسلطة سوى الله أو القوة والبديل الوحيد لمصدر السلطة هو القوة"([307]).
المناقشة:
من أبرز المميزات التي حرص الإسلام على تربية المسلمين عليها عزة النفس والكرامة وأن لا يخضع مسلم إلاّ لله عز وجل، وأن يتساوى المسلمون فيما بينهم، فقد دخل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه على رستم " فجلس معه على سريره ووسادته فوثبوا عليه …فقال : كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوماً أسفه منكم، إنا معشر العرب سواءُ، لا يستعبد بعضنا بعضاً إلاّ أن يكون محارباً لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأنّ هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه… علمت أن أمركم مضمحل، وأنكم مغلوبون، وأنّ ملكاً لا يقوم على هذه السيرة، ولا على هذه العقول"([308]).
إن الطاعة للسلطان مشروطة بطاعة الله عز وجل أما تشكك لويس بالقدرة على فحص التزام الحكومة بالشريعة الإسلامية إنما يدل على جهل لويس أو تجاهله، فالعلماء المسلمون ما آتاهم الله من علم وفهم وإدراك لا يحتاجون إلى إجراءات أو أجهزة لذلك. ولما كان نظام الحكم أو شكله لم يتحدد بنصوص شرعية فلا بد للمسلمين أن يتخذوا من أشكال الحكومة ما يناسبهم . ومع ذلك فقد استطاع العلماء المسلمون على مدى التاريخ الإسلامي إبلاغ صوتهم ورأيهم إلى الحكام عبر منابر المساجد أو في حلقات دروسهم أو بمواجهة الحكام مباشرة. وإن نفي لويس وجود إجراءات لمعرفة خروج الحاكم عن الشريعة ومحاسبته تكفلها حقوق الفرد المسلم التي يمكن تلخيصها فيما يأتي :
حق اختيار الحاكم : فمن حق الفرد المسلم أن يشارك في اختيار رئيس الدولة - البيعة العامة- وفي هذا يقول ابن تيمية "الإمامة تثبت بمبايعة الناس لا بعهد السابق له"([309])، وهذه البيعة تجعل الحاكم في مركز النائب والوكيل عن الأمة.([310])
2- حق المشاورة : نص القرآن الكريم على وجوب الشورى ) وشاروهم في الأمر(([311])، وثمة سوابق تاريخية أهمها سيرة النبي e تؤكد هذا الحق للأمة.
3- حق مراقبة رئيس الدولة، وما دامت الأمة قد اختارت الحاكم فمن حقها مراقبته وتقويمه إذا انحرف ، وأول مراحل التقويم النصيحة وفقاً لما جاء في الحديث الشريف (الدين النصيحة.. قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)([312]).
والإسلام أسبق في محاسبة الحاكم ففي أول خطبة خطبها أبو بكر الصديق رضي الله عنه أرسى هذا الحق "إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم"([313])، وذكر الطبري في تاريخه أن عمر بن الخطاب كان يخطب محذراً عماله من تجاوز مهمتهم في التعليم ومما قاله :" فمن فُعل به شي سوى ذلك فليدفعه إليّ فو الذي نفس عمر بيده لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه"([314]).
وقد تفوق الإسلام على التشريعات الأخرى؛ فقد قسمت الحقوق في الإسلام إلى ثلاثة حقوق أحدها حق خالص لله عز وجل، وهو حق التشريع ثم حق غالب مثل حق القذف فهو أساساً حق لله، ولكن للفرد فيه نصيب وذلك بصون عرضه، ثم حق للعبد ولله فيه نصيب مثل القصاص. وفي حالة الاعتداء على أي من الحقوق فإنه يتولد واجب الدفاع الشرعي، وكما يقول المستشار الدكتور علي جريشة: "إن الدفاع الشرعي لم تعرفه النظم الوضعية إلاّ حديثاً وعرفته قاصراً على مجال الحقوق الخاصة. وفي هذا المجال يشوبه الكثير من القصور"([315]). وقد عالج المسلمون مسألة " الدفاع الشرعي العام" تحت عنوان "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" أو "الحسبة"، وأوضحوا بأن واجب إنكار المنكر واجب كفائي إي إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإن لم يقم به ذلك البعض الكفائي فقد أثمت الأمة كلها بترك الواجب، ويضيف جريشة بأن "شُرّاح القانون العام لم يستطيعوا أن يرتفعوا ب (مقاومة الظلم) وهي إحدى صور الدفاع الشرعي العام في الإسلام لم يستطيعوا أن يرتفعوا به أكثر من مرتبة الحق، فقد أعلنت الثورة الفرنسية في إعلان حقوق الإنسان الصادر سنة 1799م أن حقوق الإنسان هي :الحرية والملكية والمساواة ومقاومة الظلم. وبقي الإسلام منفرداً بجعل مقاومة الظلم وغيره من صور المنكر في المجتمع واجباً وليس مجرد حق، فيرتفع بالمجتمع إلى مستوى من الإيجابية لا يصل إليه نظام آخر ويحقق بذلك كفالة القضاء على كل انحراف يظهر من جانب السلطة"([316])
الحرية والتأثر بالفكر السياسي الغربي:(1/458)
يمكننا أن نبدأ الرد على لويس بالتأكيد على إصراره على الحكم على الشعوب الأخرى وتاريخها انطلاقاً من المعايير الغربية، وأن ما يناسب أمة من الأمم ليس من الضروري أن يناسب أمة أخرى. وإن أبزر النقاط التي ورد فيها هذا الخطأ المنهجي الذي يمكن أن نطلق عليه إسقاط المصطلحات الحديثة على أمور تاريخية أو مصطلحات أمة أو مفاهيمها على أمة أخرى في موضوع الحقوق والحريات.
فقد زعم لويس أن مفهوم "الحقوق " عند الغربيين لم يعرفه المسلمون، كما لم يعرف المسلمون من هذه الحقوق "حق الحرية"، وهنا يتعمد لويس تجاهل معنى الإسلام ومبادئه الأساسية. فإن معنى "لا إله إلاّ الله " نفي كل أنواع العبوديات عن الإنسان وإعطاؤه الحرية في أعز مجال ألا وهو مجال العقيدة، فمن مبادئ الإسلام عدم إكراه أحد على اعتناقه (لا إكراه في الدين)([317])، وتأتي الحريات الأخرى تبعاً لذلك. فالحرية التي أعطاها الإسلام للمسلم وللذمي لم توجد في أي نظام آخر سوى حرية الانحراف والضلال التي قدمتها الحضارة الغربية حتى أضحت تشكو منها([318])؛ فالإسلام يكفل العمل بالأجر المناسب، كما يكفل للمسلم حرية الرأي التي جهدت الدساتير الغربية في إثباتها وكانت شيئاً طبيعياً في الإسلام.
ومن الأمثلة على حرية الرأي ما ورد من نقاش بعد فتح العراق حول تقسيم أرض السواد أو إبقائها بين أيدي أصحابها ويؤدون عنها الخراج. وكان رأي عمر بن الخطاب رضي الله أن تبقى الأرض في أيدي مالكيها، ولكن فريقاً من المسلمين وعلى رأسهم بلال بن رباح رضي الله عنه كانوا متحمسين لتوزيع الأرض بين الجند الفاتحين. ولم يكره أو يعاقب الخليفة على أنه خالفه في الرأي، بل كان يدعو أن يشرح الله صدر بلال للرأي الآخر([319]).
كما أورد لويس مقولة عربية قديمة عن الحاكم العادل والحاكم الظالم، وليس من المنهج العلمي أن يحاكم الفكر السياسي إلى مقولات مجهولة الهوية ولا تعني شيئاً. فالمقولة تزعم أن الحاكم العادل سيجد المكافأة ولكن لم يحدد لويس ممن، وكذلك العقوبة للحاكم الظالم ممن؟، فإذا كان المقصود أن الجزاء والعقاب من الله وما على المسلم إلاّ أن يكون شاكراً في حالة الحاكم العادل وصابراً في الحالة الثانية. فهذه مخالفة واضحة لأسس العقيدة الإسلامية التي تدعو إلى رفض الظلم وإلى إنكار المنكر وإلى مقاومة الفساد. إن التسليم برأي لويس يجعل المسلم شخصاً سلبياً وما تحركت في عروقه الدماء إلاّ في بداية القرن التاسع عشر عندما بدأ بالاحتكاك بالغرب.
المحور الثالث: لويس والحركات الإسلامية المعاصرة.
تعد الحركات الإسلامية المعاصرة أو ما يطلق عليه الإسلام السياسي من أبرز القضايا في الفكر السياسي المعاصر. وقد اهتم لويس بهذه القضية عندما وجد أن الاتجاه في الغرب عموماً يميل إلى الاهتمام بالحركات الإسلامية وأن هذا يقدمه إلى المسؤولين في العالم الغربي وجهات صناعة القرار السياسي والاقتصادي على أنه خبير في قضايا العالم الإسلامي المعاصرة.
ولعل ظهور ما يمسى الحركات الإسلامية المعاصرة قد جاء في أثناء مقاومة البلاد الإسلامية للاحتلال الأجنبي، ولكن هذه الحركات اندمجت في الحكومات التي قامت بعد انتهاء الاحتلال واستعادة الاستقلال. غير أن ظروف البلاد العربية الإسلامية بعد الاستقلال استدعت من المسلمين أن ينظموا أنفسهم في حركات تدعو إلى العودة للإسلام بعد أن جاء الاستقلال بالكثير من الانحرافات في السياسة والاقتصاد والثقافة والتعليم وغيرها من المجالات.
يصر الباحثون الغربيون ومن بينهم لويس على تسمية هذه الحركات ب "الأصولية الإسلامية" بالرغم من أن بعض الباحثين الغربيين قد أدركوا الخطأ في ذلك حيث يقول جيل كيبل عن المصطلح الإنجليزية "الأصولية"Fundamentalism والفرنسي Integrisme " إنهما تبسيطيتان يختزلان الظاهرة ويحرفانها، وهما يعيقان معرفتنا بتلك الظاهرات في مجملها، ثم إن عجزنا الإجمالي عن تفسير أو تأويل الحركات الإسلامية اليوم إنما يعيد إلى حد بعيد إلى استخدامنا هذه النظارات القديمة التي نضعها على أعيننا لأننا لا نجد في عجالة أمرنا خيراً منها يمكن كل ما تقوم به هو زيادة التشويش في إدراكنا"([320]).
ويلاحظ أن لويس وغيره من الكتاب الغربيين خلطوا بين الأصولية الغربية بكل ما فيها من رفض للمجتمعات الغربية وانحلالها وانحرافها نحو المادية الطاغية وبين الحركات الإسلامية التي تنادي بالعودة إلى تطبيق الإسلام في حياة المسلمين في النواحي الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأولاً وقبل كل شيء في النواحي العقدية. ولذلك فهم يخلطون حقاً بين الإسلام وبين ما يتخيلون أنه "أصولية " بالمعنى الغربي، كما يصمون كل دعوة إلى الإسلام على أنها تطرف وتشدد.
وتأتي أهمية تناول كتابات لويس حول تيار الحركة الإسلامية للمكانة العلمية البارزة التي حققها لويس بصفته مؤرخاً مختصاً في التاريخ الإسلامي، وبصفته خبيراً في شؤون العالم الإسلامي (الشرق الأوسط)، ولأن كتاباته تصل إلى أعلى المستويات في مصادر صنع القرار السياسي في الغرب، ولأن لويس يتميز بغزارة الإنتاج والنشاط المتواصل في نشر فكره.(1/459)
يبدي لويس تردده في نعت الحركات الإسلامية بالأصولية لأن هذا المصطلح نشأ في الغرب لوصف الحركات البروتستانتية، ولكنه يعود ليجد أن معظم المسلمين ينطبق عليهم هذا المصطلح وهذا ما يقوله: " كل المسلمين –مبدئياً- أصوليون في موقفهم من نص القرآن، ويختلف الأصوليون المسلمون عن غيرهم من المسلمين، وبالطبع من الأصوليين النصارى في التمسك الشديد بالتعاليم والأساليب التقليدية بالإسلام، وتقيدهم الحرفي المفرط بالإسلام، إنهم يعتمدون ليس فقط على القرآن ولكن أيضاً على السنة النبوية. وعلى التراث الإسلامي من الكتابات العقدية والشرعية. إن هدفهم ليس أقل من القضاء التام على كل التشريعات المستوردة المتطورة، والنظام الاجتماعي وإحلال الشريعة كاملة مكانها ذلك. وتتضمن الشريعة بقوانينها وعقوباتها وتشريعاتها وصيغة الحكومة التي تقرها([321]).
أما أسباب نجاح أو انتشار الحركات الإسلامية (الأصولية) فيرجع إلى وجود الحكومات الفردية التي تمنع وجود الأحزاب السياسية وبالتالي تستطيع الحركات الإسلامية أن تتجمع في المساجد وفي المناسبات الدينية، وهذا أمر لم تستطع الحكومات عمل شيء لإيقافه([322]).
ونتوقف عند أخطاء لويس المنهجية هنا فالحركات الإسلامية التي تسعى إلى استعادة مكانة الإسلام في المجتمعات الإسلامية ليست " أصولية"؛ ذلك أن "الأصولية الغربية تسع ىكما يقول جيل كيبل إلى "مكافحة العلمانية وإحداث تغيرات في المجتمعات الغربية التي طغت عليها المادية وانهارت فيها القيم والأخلاق"، أما العالم الإسلامي فلم يصبح فيه علمانياً إلاّ النخب المتغربة وبصورة جزئية أيضاً، بينما تولدت حركات معاودة التنصير في مجتمعات عاشت في غالبيتها العظمى ومنذ أكثر من قرن علمنة دنيوية عميقة، وقد تجلت هذه العلمية في المجالات القانونية والتنظيمية([323]).ويذكر كيبل أن الأصولية اليهودية أيضاً قد وصلت إلى قناعة بأن الثقافة الغربية تتصف بخواء وعبثية كاملين، وأن هدفها الوحيد هو إشباع رغبات الفرد داخل سياق من المادية لا حدود لها([324]).
ويرى لويس أن الحركات الإسلامية أو "الأصولية" إنما هي حركات ضد الغرب وضد الحضارة الغربية وقد انتقد هذا التفكير الباحث الأمريكي جون اسبوزيتو حيث كتب يصف مثل هذه الكتابات بأنها تقوم على " الطرح الانتقائي والتحليلات المتعلقة بالإسلام وتطورات الأحداث في العالم الإسلامي ..بأنها تفشل في توضيح القصة بكاملها وفي أن تعطي الصورة المتكاملة للتوجهات الإسلامية… ونتيجة لذلك فإن الإسلام وحركة التجديد يتم تبسيطهما بسهولة في تلك القوالب البسيطة والفجة التي تصور الإسلام بأنه ضد الغرب وبأنه صراع الإسلام ضد التقدم أو الغضبة الإسلامية والتطرف والتشدد والإرهاب([325]).
موقف الحركات الإسلامية من الغرب والحضارة الغربية
يزعم لويس أن "عداء الأصولية يتركز ضد عدوين هما العلمانية والتحديث، وأن الحرب ضد العلمانية حرب صريحة وواعية، أما الحرب ضد التحديث ففي معظمها ليست واعية ولا صريحة وموجهة ضد عملية التغيير بكاملها التي حدثت في العالم الإسلامي في القرن الأخير، وحولت البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للبلاد الإسلامية"، ويؤكد لويس أن الغرب هو مصدر هذا التغيير ولما كانت أمريكا هي زعيمة الغرب فإن الكراهية والغضب يوجهان إليها. ويرى لويس أن نوبة الغضب والحركة التي يواجهها الغرب تجاوزت بكثير مستوى القضايا والسياسيات والحكومات التي تمارسها ولا بد أن هذا الأمر لا يقل عن صدام حضاري. وينصح لويس الغرب أن يقوم بدراسة الإسلام تاريخاً وتراثاً وحاضراً وعلى المسلمين أن يفعلوا الشيء نفسه بالنسبة للحضارة الغربية ومن ثم يختارون([326]).
ويزيد لويس توضيح هذا العداء أو الاستعداء للغرب ضد الحركات الإسلامية حين يقول: "وحدث بعد ذلك تغير كبير عندما بحث قادة الصحوة الإسلامية المتنامية عن عدوهم وحددوه بأنه أعداء الله وحددوا موقعهم واسمهم في العالم الغربي، وفجأة أو هكذا بدا الأمر أن أمريكا هي العدو الأول أو الشيطان، أو تجسيد لإبليس والمعارض الشيطاني لكل ما هو خير وبخاصة للمسلمين"([327]).
ويعيد لويس الصراع بين الحركات الإسلامية والغرب إلى جذوره التاريخية في الصراع مع الحضارة اليونانية والرومانية ومن وجهة نظره "أن القرون الطويلة التي مر بها الإسلام جعلته يتحول إلى نموذج جامد من السلوك والاعتقاد، ولكن إذا كان المعدن أكثر صلابة، فكذلك المطرقة حيث أن التحدي اليوم أكثر تطرفاً بالمقارنة وأكثر عنفاً ونفاذاً، ولا يأتي ذلك من عالم مغلوب بل من عالم غالب"([328]).
المناقشة :
لقد وقع لويس في عدة أخطاء منهجية في حديثه عن أصل الصراع بين الإسلام والغرب أولها المغالطات التاريخية، فالمواجهة الأولى بين الإسلام والنصرانية أو الغرب المتمثل في الدولة الرومانية كانت نقطة انطلاقة دعوة الإسلام، وكانت المواجهة قوية في الناحيتين المادية والعسكرية. أما المواجهة على صعيد العقيدة والفكر والحضارة فقد استطاع الإسلام احتواء هذه الحضارات بقوته الذاتية أولاً، وبالنموذج الإنساني الرفيع في التطبيق. أما المواجهة الحالية فتختلف جذرياً ذلك أن الغرب يفرض أو يحاول أن يفرض فكره وثقافته وحضارته وعقيدته ومسلماته بالقوة وبشتى الوسائل التي أتاحتها له التقنية الغربية. وأما زعمه أن استخدام الإسلام لقرون عديدة حوّله إلى نموذج جامد من السلوك والاعتقاد فأمر لم يقدم لويس دليلاً عليه كما لم يوضح معنى الجمود ولا يصف الإسلام بالجمود إلاّ جاهل به أو من يقصد تشويهه.(1/460)
ومن أخطائه المنهجية أيضاً نظرة الاستعلاء عند ما يصف لويس الإسلام بالمعدن الصلب ويصف الهجمة الغربية بالمطرقة، ويتأكد ذلك حين يصف المسلمين بالعالم المغلوب وهو هنا يخلط بين الإسلام وأوضاع المسلمين؛ إذ لا يمكن إنكار أن المسلمين في وضع المغلوب في العصر الحاضر، ولكن هذا لا ينطبق على الإسلام الذي هو رسالة الله الأخيرة لعباده وهو قوة الغد العالمية مهما كانت قوة المطرقة " الحضارة الغربية" وهو ما يؤمن به المسلمون للنصوص التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها (لا تقوم الساعة حتى لا يبقى بيت حضر أو مذر إلاّ وفيه شيء من لا إله إلاّ الله بعز عزيز أو ذل ذليل)، وكذلك حديث نزول عيسى وكسر الصليب وارتفاع راية لا إله إلاّ الله من جديد.. وغيرها من المبشرات.
وثمة أخطاء منهجية أخرى في حديث لويس عن عداء الحركات الإسلامية "الأصولية" للتحديث والعلمانية. وهذه من مزاعم لويس التي لم يقدم عليها الدليل بل إنه ناقض نفسه حينما ذكر أن الثورة الإيرانية مثلاً أخذت ببعض الوسائل الغربية في الحكم كالبرلمانات والتصويت. فالعداء للعلمانية قضية مسلم بها ذلك أن الإسلام لا يفصل بين الدين والحياة، وهو يعلم أن الإسلام منهج متكامل للحياة في السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع وفي كل مجالات الحياة. أما العلمانية التي ترى أن ينحصر دور الإسلام في العبادات والطقوس فأمر لا شك أن الحركات الإسلامية تعاديه بل يعادي ذلك كل مسلم متمسك بدينه لأنه يتلو قول الحق سبحانه وتعالى ) قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين(
وقد خلط لويس بين التحديث والتغريب فالمسلمون لم يكونوا قط ضد المدنيّة وإلاّ لما تعلم المسلمون في القرن الأول صناعة الأسلحة من الفرس والروم ثم تفوقوا عليهما. ولما أخذ المسلمون بكثير من أساليب الإدارة والحكم بعد أن هذبوها وفقاً للشريعة الإسلامية. وقد شهدت الحضارة الإسلامية في عصورها الزاهرة الصناعات. والمسلمون يستندون إلى كتاب الله العزيز في الأخذ بأسباب المدنية وعمارة الأرض. ومن ذلك ما كتبه عبد الحميد بن باديس في تفسير قوله تعالى )أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون( حيث فسرها بقوله: " والذي أفهمه ولا أعدل عنه هو أن المصانع جمع مصنع من الصنع كالمعامل من العمل، وأنها مصانع حقيقية للأدوات التي تستلزمها الحضارة ويقتضيها العمران. وهل كثير على أمة توصف بما وصفت به في الآية أن تكون لها مصانع بمعناها العرفي عندنا؟ بل وإن المصانع لأول لازم من لوازم العمران وأول نتيجة من نتائجه"([329]).
ونقف عند زعمه معاداة الحركات الإسلامية "الأصولية" للغرب، وبخاصة أمريكا التي تتزعم الغرب الآن فقد قدم جون اسبوزيتو- وهو حريص على مصلحة الغرب- شهادته أمام الكونجرس موضحاً أسباب هذا العداء وهي:
أولاً:أن أمريكا أخضعت كل سياساتها في المنطقة لصالح إسرائيل في الصراع العربي الإسرائيلي.
ثانياً: التدخل الأمريكي في صراعات محلية داخلية.
ثالثاً: فشل الولايات المتحدة في التمييز بين الحركات الإسلامية المعتدلة والمتشددة ووصم الجميع بالتطرف والعنف.
رابعاً: أن الأمريكيين يفترضون أن المزج بين الدين والسياسة سيؤدي إلى ظهور حركات استبدادية ([330]).
نموذج لمنهج لويس في دراسة الحركات الإسلامية (الإخوان المسلمون)
يعرّف لويس حركة (الإخوان المسلمون) بأنها "جمعية نصف علنية واسعة الانتشار تقوم على أساس الخلايا السرية والفتوة ذات الطابع العسكري، وشبكات ضخمة واسعة من المؤسسات الثقافية الراديكالية"([331]). وأنها كانت أقرب ويقول في بحث آخر إن بداياتها كانت غامضة، ولكن يبدو أنها نشأت في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات وأنها كانت مهتمة في البداية بالنشاطات الدينية والاجتماعية حيث بعث مؤسسها الدعاة إلى المساجد والأماكن العامة الأخرى في جميع أنحاء مص، وقد قام الإخوان بنشاط واسع في الميادين التعليمية والاجتماعية والخيرية والدينية في المدن والأرياف ، ومارسوا بعض الأعمال الاقتصادية. أما عن نشاطهم السياسي فيرى لويس أنه بدأ عام 1936م بعد توقيع المعاهدة المصرية وتبني قضية الفلسطينيين العرب ضد الصهاينة، وضد الحكم البريطاني واستطاعوا أن يمدوا نشاطاتهم إلى الدول العربية الأخرى ([332])، وقال في موضع آخر إنها بدأت نشاطها السياسي بعد عام 1940م.
ويتناول لويس صلة الجماعة بالملك فاروق فيزعم أن الجماعة حظيت بدعم الملك الذي كان لا يحب الوفد ولكن بعد عودة متطوعي الجماعة من فلسطين بعد حرب 1948م وما قيل عن تدبيرهم لخطة للإطاحة بالملك فاروق قام الأخير بتوجيه ضربة إليهم بواسطة رئيس وزرائه النقراشي([333])، ويعلق لويس قائلاً يبدو أن الجماعة قد أصبح لديها قوة مسلحة قادرة على القيام بدور ما في الأحداث. ولهذا قام النقراشي بحل الجماعة ومصادرة ممتلكاتها وإلقاء القبض على كثيرين من أعضائها. وقد اغتيل النقراشي عام 1948م، وبعد ذلك بقليل اغتيل المشرف العام في ظروف لم يتم الكشف عنها حتى الآن.([334])
كما تحدث لويس عن علاقة الجماعة بالثورة المصرية مشيراً إلى أن عدداً من الضباط المشاركين في الثورة كانوا قد انتموا إلى الإخوان ومنهم جمال عبد الناصر. وقد حلّت الثورة الجماعية في يناير 1954م، وجاءت المعاهدة ليعود الإخوان إلى إبداء تذمرهم من المعاهدة. وينسب لويس محاولة اغتيال جمال عبد الناصر إلى أحد الإخوان مما أدى إلى زيادة التوتر بين الإخوان والثورة ومحاكمة أعداد كبيرة منهم وتنفيذ الإعدام في ستة منهم ، وأصبح التنظيم غير شرعي ومع ذلك فقد استمر في نشاطه([335]).(1/461)
ويجمل لويس صورة (الإخوان المسلمون) بقوله: "والصورة التي تعكس الإخوان المسلمون هي صورة العنف والتعصب الأعمى، وليست كلها من صنع أيديهم، فلقد ضخمها وبالغ فيها أعداؤهم"([336]).
المناقشة:
كان لابد لبرنارد لويس أن يتحدث عن الإخوان المسلمون فهم من أكبر الحركات الإسلامية في العصر الحاضر إن لم يكونوا أكبر حركة إسلامية في العصر الحاضر، وقد أصبح لها امتدادها في جميع أنحاء العالم الإسلامي كما أن الإنتاج الفكري للمنتسبين لهذه الحركة يغطى مساحة واسعة من الإنتاج الفكري في العالم الإسلامي. ولم يكن لويس باحثاً أصيلاً مدققاً في ما كتبه عن هذه الحركة بالرغم من أنه سبقه عدد كبير من الباحثين الغربيين الذين كتبوا عن هذه الحركة. ولم تخرج بعض آراء لويس عن آراء من سبقه من المستشرقين.
وأول أخطائه المنهجية أنه ادعى أن بدايات الحركة كانت غامضة وأنه يمكن أن تكون قد تأسست في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات، مع أن التاريخ الدقيق لهذه الحركة معروف تماماً منذ البدايات، وقد صدر لهذه الحركة العديد من الإصدارات من كتب ومجلات مما يجعل الباحث قادراً على تجلية هذه الأمور التي يدعي لويس غموضها. وهذا الخطأ المنهجي الذي يقع فيه لويس وغيره من المستشرقين إنما يقصد منه التقليل من شأن الموضوع مدار البحث فهو حين يضفي الغموض على قضية من القضايا يجعل ذلك مبرراً لوضع فرضاياته التي لا تستند إلى أي دليل، فليس من المعقول أن يجهل تاريخ حركة الإخوان وقد بدأت الدراسات الاستشراقية حول هذه الحركة في وقت مبكر.
أما ربط قبول الشعب المصري لحركة الإخوان بكره الطبقات الكادحة المظلومة لمستغليها من السادة المتغربين مثلما تكره الغربيين أنفسهم، فثمة عدة أخطاء منهجية في ذلك أولها: التمسك بالتفسير المادي لأحداث التاريخ أو الأحداث المعاصرة، وهي شبهة قديمة أطلقها لويس وغيره على أوائل الذين اتبعوا الدين الإسلامي. وقد سبق لويس إلى هذه الفكرة اليهودي ناداف سافران الذي يقول عن الإخوان" وعندما سبب التدهور الاقتصادي بؤساً وفقراً في المجتمع المصري، قدمت الحركة للجماهير برنامجها الاجتماعي الذي تقوم عمده على مفهوم وحدة الأمة ومسؤولياتها الجماعية عن أحوال الأمة"([337]). وممن قال بهذا الرأي جورج لينتشاوسكي حيث كتب يقول: "ولقد اتجه حسن البنا في بادئ الأمر إلى الطبقات المظلومة والفقيرة، ثم بعد ذلك انتشرت دعوته في الأوساط المثقفة. وهو منذ البداية يحاول أن يكسب تعاون ذوي النفوذ"([338]).
كانت دعوة الإخوان كما هو الحال في أي دعوة إلى العودة إلى الإسلام تتوجه إلى جميع طبقات الشعب ولا يعيبها أبداً إن توجهت للطبقات "الكادحة" و "المطحونة" أو الفقيرة لأن هذه الطبقات لم يفسدها التغريب، ولذلك فهي أقرب إلى قبول الحق والدعوة إلى الله. وقد كانت قيادة الأحزاب المتغربة تتظاهر بأنها تحارب الاستعمار فيما هي في الحقيقة تقلده، وتتبع خطواته، وقد صرح مانفرد هالبرن Manfred Halpern بأن الإخوان قد وعدوا بتوجيه معركتهم أساساً ضد الحكام والرأسماليين الأجانب([339])، ومع ذلك فقد توجه حسن البنا إلى جميع طبقات المجتمع وفي ذلك يقول البنا إنه عندما بدأ دعوته في الإسماعيلية كان قد قرر دراسة الناس والأوضاع دراسة دقيقة ومعرفة عوامل التأثير في هذا المجتمع الجديد، وقد عرفت أن هذه العوامل أربعة : العلماء أولاً، وشيوخ الطرق ثانياً ، والأعيان ثالثاُ، والأندية رابعاً([340]).
ومن أخطاء لويس المنهجية تجاهل الحقائق فوصفه لجماعة الإخوان بأنها "نصف علنية" غير صحيح فالجمعية علنية ولم يقدم لويس الدليل على الافتراضات الأخرى التي ذكرها من الحديث عن الخلايا السرية والفتوة والطابع العسكري. ولكن جهل لويس للإسلام أو تجاهله له جعله ينظر إلى هذه الأمور هذه النظرة القاصرة. فالتدريب العسكري إن وجد عند الإخوان فإنه جزء من التربية الإسلامية فإن الرسول e ما أن استقر في المدينة المنورة حتى بدأ في إرسال السرايا من المهاجرين، ثم بدأت التدريبات العسكرية قريباً من جبل سليع بالمدينة المنورة في المنطقة التي كانت تعرب بباب الشامي.
وقد حدد لويس بداية دخول جماعة الإخوان في المعترك السياسي بعام 1936م، أو بعد عام 1940م، فهذا التحديد التاريخي خطأ من أكثر من جهة وهو أن الإسلام لا يفصل بين السياسة والحياة. ألم يدرك لويس وغيره كيف أن القرآن الكريم تناول قضايا الحكم والسياسة في حديثه عن داود وسليمان عليهما السلام؟ ألم يدرك أن القرآن تحدث عن طالوت الذي جعله الله ملكاً على اليهود وكيف أنهم اعترضوا على ذلك بأنه لم يؤت سعة في المال؟ )ولم يؤت سعة من المال(([341]). ألا يعلم لويس كم مرة ذُكر فيها فرعون في القرآن الكريم وأن كثيراً من السياقات التي وردت سياسية بحتة؟ ألا يعرف قصة يوسف عليه السلام وتوليه المسؤوليات المالية في مصر؟(1/462)
وثانياً أن حركة الإخوان انطلقت من الإسماعيلية وكان هدفها الأول التأكيد على هوية الفرد المسلم وإشعاره بكيانه وذاتيته. وقد روى الشيخ حسن البنا نفسه العديد من القصص حول تحول العمال من تابعين أذلاء إلى موظفين يحرصون على كرامتهم([342]). وقد بلغ ذلك عن طريق التعليم والخطب والمحاضرات والمواعظ وإنشاء المدارس والمساجد. وقد استطاع البنا أن يصل بدعوته في فترة التأسيس إلى خارج الإسماعيلية بإنشاء شُعَبٍ في عدة مناطق. كما واجهت الدعوة موجة من العداء شارك فيها بعض النصارى. وقد قوّم زكريا سليمان بيومي هذه الفترة الأولى وبين أن السياسة لم تنفصل مطلقاً عن فكرة الدعوة بقوله: " فقد أثبت الشعب المصري بتأييده السريع للإخوان استمرار تمسكه لا بالدين الإسلامي من حيث هو عقيدة وتراث وحضارة وتقاليد فحسب، وإنما لكونه فكرة سياسية كذلك"([343]).
وكان انتقال البنا بدعوته إلى القاهرة حدثاً سياسياً في حد ذاته، كما عقدت الجماعة مؤتمرين في عام واحد، تناول الأول منهما موضوع التنصير، وكان من توصياته إرسال خطاب إلى الملك فؤاد يطلب منه اتخاذ موقف ضد هذه الجماعات ويرى سليمان بيومي في هذا الأمر احتكاك البنا بالقوى السياسية في القصر باعتبارها مسؤولة عن الشؤون الدينية([344])، وقد فات بيومي أن الجماعات التنصيرية كان لها ارتباطاتها الخارجية وأنها كانت تقوم بدور سياسي. أما المؤتمر الثاني فقد اتخذ قراراً بإنشاء شركة طباعة، وبحث قضايا النشر والدعاية التعليمية([345]).
وبعد سبعين سنة على بداية جماعة الإخوان المسلمون تتكرر الاتهامات لهذه الجماعات بالسعي للإطاحة بالأنظمة الحاكمة لتبرير ضرب هذه الحركات. فقد كان موقف الإخوان من الحكومة المصرية في العهد الملكي هو السعي إلى تطبيق الإسلام وتأييد الدعوة إليه وفي ذلك يقول البنا :"فموقفنا إذا من وزارة علي باشا ماهر هو موقفنا من أية وزارة، موقف قديم لا يتغير من الوزارات ولا بتبدل الوزراء، فمن أيد الفكرة الإسلامية وعمل لها واستقام في نفسه وفي بيته وتمسك بتعاليم القرآن في حياته الخاصة والعامة كنّا له مؤيدين ومشجعين….ولن نحدد موقفنا ولن نصدر حكماً إلاّ على أعمال لا أقوال"([346]).
ويورد لويس بعض الحقيقة حين يعترف بأن صورة العنف والتعصب الأعمى التي يوصف بها الإخوان ليست كلها من صنع أيديهم حيث ضخمها وبالغ فيها أعداؤهم. فهذا يتضمن أن الإخوان يتحملون جزءاً من المسؤولية ، ولم يبد لويس رأيه فما إذا كان الإخوان فعلاً يتصفون بالعنف والتعصب وكن حديثه عنهم في أماكن متعددة من أنها حركة نصف علنية تعمل من خلال الخلايا السرية وغير ذلك يؤكد أن لويس لا ينفي التعصب والعنف عن الجماعة. ولكن هذه الافتراضات لا صحة لها لو درس لويس حياة الإخوان وفكرهم ومبادئهم. وكان على لويس المؤرخ الذي يدعي الموضوعية أن لا يكتفي بهذه العبارة الموجزة عن عنف الإخوان المزعوم فيوضح أن العنف كان سمة من سمة الحكومات في تعاملها مع الإخوان. ومن السهل على لويس وغيره من المستشرقين أن يصف الحركات الإسلامية بالعنف والاستبداد فهذا أمر طبيعي في رؤية الاستشراق للحركات الإسلامية عامة.
الخاتمة
الاهتمام بالفكر السياسي الإسلامي من أبرز الموضوعات التي تناولها المستشرقون بالبحث ذلك أن من أبرز ما يميز أمة عن أخرى هو فكرها السياسي وأوضاعها السياسية. ويرى الدكتور عبد الله النفيسي أن السياسة تؤثر في شؤون الحياة جميعها من تعليم واقتصاد وثقافة وتعليم وبرامج ثقافية وغير ذلك. وقد تحدث ابن باديس ذات مرة في تونس مشيراً إلى أن العلم لا ينهض بحق إلا ّ إذا نهضت السياسة . ولا تنفصل السياسة في الإسلام عن التصور العقدي لمكانة الإنسان في هذا الكون وعلاقته بعناصر الكون المختلفة .
وقد اهتم لويس بجانب الفكر السياسي انطلاقاً من تخصصه في التاريخ الإسلامي ولكنه وقع في العديد من الأخطاء المنهجية من أبرزها ما يأتي :
أولاً : إسقاط النظرة الغربية على الفكر السياسي الإسلامي.
ثانياً: إسقاط المصطلحات المعاصرة على قضايا فكرية
ثالثاً: تشويه الحقائق أو تجاهلها أو الجهل بها.
رابعاً: اعتماد بعض المصادر التي لا يصح الاستناد إليها في بحث مثل هذه القضايا.
خامساً : الانطلاق من وجهات نظر مسبقة والبحث عن أدلة لها دون التحقق من صحة هذه الأدلة أو البراهين.
سادساً: تكرار أفكار وآراء غيره من المستشرقين دون الإشارة إليها كما فعل مثلاً مع افتراضاته حول حركة (الإخوان المسلمون)
سابعاً: عدم الاعتماد على المصادر الإسلامية الأصيلة بالنسبة للفكر السياسي الإسلامي ، كما أغفل لويس مصادر الحركات الإسلامية المعاصرة مثلما فعل في دراسته حول الإخوان المسلمين أو الحركات الإسلامية الأخرى( الأصولية )
وقد ناقش البحث منهج لويس في دراسة الفكر السياسي الإسلامي وأوضح الأخطاء المنهجية التي وقع فيها. وأثبت الباحث أن للمسلمين فكر سياسي ينطلق من العقيدة الإسلامية ومن السوابق التاريخية منذ بداية دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ثم إنشائه الدولة في المدينة المنورة إلى قيام الخلافة الراشدة.
ولا بد من الإشارة إلى أن البحث لم يتضمن بعض القضايا التي ناقشها لويس في الفكر السياسي الإسلامي مثل قيام الخلافة الإسلامية الراشدة وذلك لأن لويس لم يكن أصيلاً في هذا البحث حيث كرر شبهات وأخطاء غيره من المستشرقين من أمثال كايتياني وتوماس آرنولد ولامانس وغيرهم.(1/463)
إننا بحاجة إلى معرفة الفكر السياسي الإسلامي من مصادره في الوقت الذي تسعى الدول الغربية وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية تصدير نموذجها وديموقراطيتها القائمة على الانتخابات التي تحددها المصالح المادية للقائمين على الحملات الانتخابية والشركات التي تمول هذه الحملات.
بينما يقوم الفكر السياسي الإسلامي على تولية الأصلح وفقاً للمعايير الإسلامية .
==================
شخصية الرسول صلى اتلله عليه وسلم
أبو محمد مور كِبِي
خريج كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية
بالجامعة الإسلامية (المدينة النبوية)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن كل من تأمل شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجرد وإنصاف يدرك حقيقة, هي أنه صلى الله عليه وسلم أكبر شخصية عرفه التاريخ.
ولعلك أول ما تقرأ هذا الكلام أو تسمعه ستقول: هذا مجرد دعوى, وليس عليها أي دليل مقنع؛ بل فاعل ذلك هو فلان أو فلان؛ ممن تعرفهم أو تأثرت بهم, لكن اسمح لي أن أطرح عليك سؤالا واحدا, وحسن ظني بك أنك عاقل ومنطقي, وأنك مؤهل لخوض أية مناقشة علمية جادة, إذن فلا تغمض عينيك لتكتفي بما عندك ولا تسمع ما عند الآخر, بل من دلائل رجاحة عقلك أن تستمع إلى الآخر وإن خالفك في الرأي, فإن كان الحق فيما يقوله استفدته منه وهو ربح, وإن كان فيما كنت تعتقد ازددت عليه يقينا وهو ربح, ولكن كن متجردا تريد الحق حقا.
والسؤال الذي أطرحه عليك وآمل منك الجواب عنه بإنصاف هو: بما أنك منطقي ومنصف مع الناس, هل نفيك لما قلته مبني على علم صحيح عن محمد وتاريخه, أو هو مبني على قيل وقالوا ؟
أو على تصوير مشوه له ولتاريخه ؟
أو هو مبني على ما تراه وتسمعه يوميا من أحداث وتهم تلصق بالإسلام والمسلمين؛ حتى أوجد ذلك منك ردة فعل, ولذلك لا يمكنك قبول ما قلت ؟
أو أنك - بكل صراحة - من العصبيين الذين ينظرون إلى العرب نظر دون, ويرون أنهم أحقر من أن يكون منهم ذاك الرجل ؟
وأنا - إن شاء الله - سأبين لك رجاحة ما قلته في حديثي معك, إن منحتني فرصة لبيان ذلك, بأن تنظر معي في شخصيته صلى الله عليه وسلم من خلال خمسة جوانب مهمة جدا في التحقق من صدق ما قلته:
الجانب الأول: ما الوقت الذي بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم ؟
الجانب الثاني: أي قوم عايشهم, وعلى أي مستوى كانوا من الحضارة.
الجانب الثالث: ما حال بقية العالم آنذاك, وهل كان ثم ما يغني عن نظام جديد أو لا ؟
الجانب الرابع: مقارنة الوضع قبل, بالوضع بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ للتحقق من هل حدث بالفعل تغير وانقلاب - سلبا أو إيجابا- في سير العالم أم لا ؟
الجانب الخامس: مقارنة الوسائل التي استعملها النبي صلى الله عليه وسلم لتغيير ذاك النظام السائد في ذلك الوقت؛ لمعرفة هل الحكمة كانت تقتضي استعمالها - بعجالتها - لإحداث التغيير الذي كان لا بد منه ؟
أم تقتضي إبقاء المجتمع على الوضع المتفكك الذي كان عليه ؟
هذه التساؤلات الخمسة, يمهد لنا الجواب عنها الطريق إلى تصور مدى التجديد والإصلاح اللذين حدثا في سيران العالم بمجيء هذا الرجل العظيم, وهل كان العالم في حاجة إليهما أم لا ؟
وأنه أكبر شخصية عرفه التاريخ البشري.
الجانب الأول: هل الوقت الذي بعث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم كان مناسبا للانقلاب والإصلاح اللذين أوجدهما في العالم ؟
إن الوقت الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فترة من الوحي السماوي, وكان الناس قد سلطوا عقولهم وأيديهم على البقية الموروثة من تعاليم الرسل بالتغيير والتبديل؛ حتى اندثرت تلك التعاليم بالكلية من بعض المجتمعات, وبالأغلبية من البعض الآخر.
ودعوات الرسل التي ظهرت قبل, لم تشمل الشعوب جمعاء, فلم تتصف أي واحدة منها بالعالمية والشمولية التي لا تخص شعبا دون شعب, بل كانت كلها منحصرة في ساحة قوم دون غيرهم.
الأمر الذي أوجد فراغا روحيا في العالم لم يكن من تغطيته بد, وواقع الحال في ذلك الوقت شاهد بأن الأديان والأنظمة السائدة آنذاك لم يكن لها أن تصد ذاك الفراغ الموجود, وأن صده يتطلب دينا قويا مع نظام جديد؛ ليوجه سير العالم نوح الأكمل والأفضل.
فاليهودية التي كانت موجودة في الوقت, لم تصلح لصد هذا الفراغ؛ لأنها دين لا تعبه بضلال غير اليهود أو رشادهم, بل إن اليهود جعلوا منها رمزا للعنصرية والفوقية على سواهم, ويستغلون الجهل المطبق على العالم؛ لفرض تسلطهم على الناس واستعبادهم, وهذا ما زال ولا يزال هو دأبهم.
ودين الأمة الغضبية الذين انسلخوا من رضوان الله كانسلاخ الحية من قشرها، وباؤا بالغضب والخزي والهوان، وفارقوا أحكام التوراة ونبذوها وراء ظهورهم واشتروا بها القليل من الأثمان، فترحل عنهم التوفيق وقارنهم الخذلان واستبدلوا بولاية الله وملائكته ورسله وأوليائه ولاية الشيطان. (1)
فكيف يصد فراغا, أو يهدي ضلالا ؟
واليهود لم يكن لهم قوى منبثقة من دينهم تكنهم من سياسة الأرض بنظام عادل, وكل ما عندهم إنما هو امتصاص واستغلال قوة غيرهم, بالتملق والتطفل على الإمبراطورات المسيطرة على الناس, واستمالتها حتى تكون في صالح اليهود.
وأما النصرانية, فعلى الرغم من كونها دينا لبعض العرب في ذلك الوقت؛ إلا أنها لم تتصف بالشمولية والعالمية اتصافا ذاتيا, بل شموليتها - إن كانت - شيء أحدث فيها بعد موت عيسى عليه السلام, فإنه كان يخاطب برسالته قومه بني إسرائيل لا غيرهم.(1/464)
وكذلك الحواريون بعده, لم يخرجوا بدعوته إلى الشعوب الأخرى؛ بل ظلت بينهم حينا من الدهر؛ إلى أن انضم إليهم رجل يدعى "بولس" فهو الذي أخرج النصرانية خارج بني إسرائيل, ولام الحواريين على إخفاءها فيما بينهم؛ جاهلا أو متجاهلا أنها دين جاء لشعب لا العالم.
ودين أسس بنيانه على عبادة الصلبان والصور المدهونة في السقوف والحيطان، وأن رب العالمين نزل عن كرسي عظمته فالتحم ببطن أنثى وأقام هناك مدة من الزمان، بين دم الطمث في ظلمات الأحشاء تحت ملتقى الأعكان، ثم خرج صبياً رضيعًا يشب شيئاً فشيئاً ويبكي ويأكل ويشرب ويبول وينام ويتقلب مع الصبيان، ثم أودع في المكتب بين صبيان اليهود يتعلم ما ينبغي للإنسان هذا وقد قطعت منه القلفة حين الختان، ثم جعل اليهود يطردونه ويشردونه من مكان إلى مكان، ثم قبضوا عليه وأحلوه أصناف الذل والهوان، فعقدوا على رأسه من الشوك تاجاً من أقبح التيجان، وأركبوه قصبة ليس لها لجام ولا عنان، ثم ساقوه إلى خشبة الصلب مصفوعاً مبصوقاً على وجهه وهم خلفه وأمامه وعن شمائله وعن الأيمان.
ثم أركبوه ذلك المركب الذي تقشعر منه القلوب مع الأبدان، ثم شدت بالحبال يداه ومع الرجلين، ثم خالطهما تلك المسامي التي تكسر العظام وتمزق اللحمان, وهو يستغيث: يا قوم ارحموني! فلا يرحمه منه إنسان, هذا وهو مدير العالم العلوي والسفلي الذي يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن ثم مات ودفن في التراب تحت صم الجنادل والصوان ، ثم قام من القبر وصعد إلى عرشه وملكه بعد أن كان. ما كان.(1)
ودين وصل إلى هذه الحقارة في أمر ربه وإلهه, فكيف يقدر على المنع من ضلال الناس ؟
وأما بقية العالم فكانت قفرا؛ يملأه المجوس و الصابئة و المشركون بضروب من الضلالات والحماقات. بلغ بهم الانحطاط إلى عبادة كل مخلوق؛ بحثا عن الإله الخالق, والذي يتشوفون إلى عبادته؛ إلا أن الطريق مجهولة عندهم, فكانون بحاجة إلى من يهديهم إليها.
لأن الإنسان بفطرته مجبول على أن يكون عبدا؛ لكن لخالقه, وإلا استعبده أرذل مخلوق؛ كالشيطان, أو الهوى, أو غيرهما من المخلوقات.
وفي هذا الوقت حدث صراع بين أناس من النصارى وآخرين وثنيين؛ حتى وصل الأمر ببعض النصارى إلى محاولة الاعتداء على الكعبة المشرفة, فأدبهم الله وصان بيته؛ لا نصرا للوثنية على النصرانية, ولكن نصرا لدين آخر لم يظهر بعد؛ إلا أن هذا البيت رمز له, وعلامة تدل عليه.
فكان في هذه الحادثة إيذان بحدوث انقلاب قريب في سيران الأمور.
فكان مولد النبي الذي سيتم الانقلاب المأذون على يديه في السنة التي عقبت هذه الواقعة, وفي قرية البيت نفسها, فكانت كالتوطأة لظهوره.
ومن سنن الله أنه إذا أراد شيئا هيأ أسبابه, وكل الأسباب المقتضية لظهور من يشمل الناس بدعوة إلى إصلاح الخلل, وتوحيد الشمل, كانت مجتمعة في ذلك الوقت.
هذا فيما تعلق بضرورية بعثته, وهناك شيء آخر يحسن الإيماء إليه, وهو كونه صلى الله عليه وسلم عاش في ذلك الوقت المظلم, وأولئك القوم البُهْم, بالإضافة إلى أنه أمي؛ لا يقرأ ولا يكتب, ولا سبق له اتصال لا باليهودية ولا بالنصرانية, ثم جاء بتعاليم وتشريعات يعجز العقل البشري أن يأتي بمثلها على مر الأيام. لهو برهان باهر على أنه النبي الذي آن خروجه في ذلك الحين.
وقول القائل: إن هذه التعاليم والشرائع من منتجات عقليات ذلك الوقت؛ مع أنه كلما تطورت العقول, كلما تأكدت من قصورها عن الإتيان بمثلها, فهذا القول أقبح شتم للعقلية البشرية.
وهو قول لا يقبله عاقل من قائله إلا بدليل, وليس ثمة دليل أبين وألزم من أن يثبت قائله قدرته على الإتيان بمثلها, أو بما هو خير منها؛ لأنهم يقولون إن العقل تطور منذ ذلك الحين إلى أيامنا:? قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ?
والدعاوى إذا لم يقيموا عليها بيناتٍ أصحابها أدعياء
وسيتبين لك هذه الحقيقة أكثر فيما يأتي - إن شاء الله -.
الجانب الثاني: القوم الذين بعث فيهم النبي الكريم عليه الصلاة والسلام
إن القوم الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعيشون في جاهلية عمياء, وذلك في جميع أمورهم؛ سواء منها ما تعلق بأمر الإله المعبود, أو بحياتهم العادية.
وكانوا قبل ذلك يدينون بدين إبراهيم عليه السلام؛ منذ أن نشأت ذريته في مكة وانتشرت في جزيرة العرب، فكانوا يعبدون الله ويوحدونه ويلتزمون بشعائر دينه الحنيف، حتى طال عليهم الأمد ونسوا حظًا مما ذكروا به، إلا أنهم بقي فيهم التوحيد وعدة شعائر من هذا الدين، حتى جاء عمرو بن لُحَيٍّ رئيس خزاعة، وكان قد نشأ على أمر عظيم من المعروف والصدقة والحرص على أمور الدين، فأحبه الناس ودانوا له، ظنًا منهم أنه من أكابر العلماء وأفاضل الأولياء .
ثم إنه سافر إلى الشام، فرآهم يعبدون الأوثان، فاستحسن ذلك وظنه حقًا؛ لأن الشام محل الرسل والكتب، فقدم معه بهُبَل وجعله في جوف الكعبة، ودعا أهل مكة إلى الشرك بالله فأجابوه، ثم لم يلبث أهل الحجاز أن تبعوا أهل مكة؛ لأنهم ولاة البيت وأهل الحرم .
وكان هبل من العقيق الأحمر على صورة إنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يدًا من ذهب، وكان أول صنم للمشركين وأعظمه وأقدسه عندهم .(1)
وصبغوا بهذه الوثنية البقية الباقية لديهم من آثار الحنفية؛ كشعائر الحج وغيرها.
ولا شك أن عقيدة القوم هي الموجه الأول لزمام أمرهم, فالانحراف في العقيدة يستدعي الانحراف في العبادة والسلوك والشعائر, وفي سائر قطاع الحياة.
والإنسان الذي وصل به الدناءة والسخافة إلى عبادة إله صنعه من تمر وعجين, فإن جاع أكله, كيف يرقى ؟
وأية حضارة يبنيها هذا الإنسان ؟(1/465)
وكانوا قوما من البدو, جل أو كل ما عندهم من أنشطة إنما هي محصورة في التجارة ورعي الغنم, لا ينظم حياتهم قانون ولا دولة؛ إلا القهر والغلبة, ونمط حياتهم يقلد فيه الأبناء الآباء, مصونا من أدنى نقد أو تمحيص. هذا وتأثرهم بالعالم الخارجي لا يكاد يكون شيئا مذكورا.
وكانت روح العصبية الجاهلية تسودهم, يتعصب الرجل لبني قومه, ويغضب لهم ولا يسأل"فيم" ؟ ولذا كانت نار الحرب متأججة بينهم, يشعلها أتفه حادثة تقع بين القبيلتين. يقوم الرجل فيقوم له القبيلة, وتقوم لها الأحلاف, فيتسع بذلك دائرة الحرب بينهم.
وهذه القبائل كانت تختار لأنفسها رؤساء يسودونها، وأن القبيلة كانت حكومة مصغرة، أساس كيانها السياسي الوحدة العصبية، والمنافع المتبادلة في حماية الأرض ودفع العدوان عنها .
وكانت درجة رؤساء القبائل في قومهم كدرجة الملوك، فكانت القبيلة تبعًا لرأي سيدها في السلم والحرب، لا تتأخر عنه بحال، وكان له من الحكم والاستبداد بالرأي ما يكون لدكتاتور قوي؛ حتى كان بعضهم إذا غضب غضب له ألوف من السيوف لا تسأله : فيم غضب، إلا أن المنافسة في السيادة بين أبناء العم كانت تدعوهم إلى المصانعة بالناس من بذل الندى وإكرام الضيف والكرم والحلم، وإظهار الشجاعة والدفاع عن الغيرة، حتى يكسبوا المحامد في أعين الناس، ولاسيما الشعراء الذين كانوا لسان القبيلة في ذلك الزمان، وحتى تسمو درجتهم عن مستوى المنافسين .(1)
وكان للسادة والرؤساء حقوق خاصة، لا يشاركهم فيها العامة.
وفي هذا القوم بعث هذا الرجل ليصنع منهم قادة البشرية طرى, ومهندس الحضارة غدا.
فأي مهمة هذه ؟!
وأي تحدٍ هذا ؟!
الجانب الثالث: حال بقية العالم في الوقت ذاك
هكذا كان حال القوم الذين بعث منهم هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام, أما بقية العالم فما حالها في هذا الحين ؟
فما كان يقال عنها حضارات في ذلك الوقت, لا تعدو عن امبراطريات مسيطرة على بعض مناطق العالم, ولم يكن لها من أطماع سوى بث نفوذها العسكري على الأرض؛ وليس تحريرها بدين صحيح, وسياستها بنظام عادل.
وفرق بين دولة تهدف إلى مصالحها المادية فحسب, وأخرى ترمي إلى حفظ مصالح رعيتها المادية والمعنوية.
فالناس تحت تلك القيادات بين سادة وعبيد، أو حكام ومحكومين، فالسادة كان لهم كل الغُنْم، والعبيد عليهم كل الغُرْم، وبعبارة أوضح : إن الرعايا كانت بمثابة مزرعة تورد المحصولات إلى الحكومات، والحكومات كانت تستخدمها في ملذاتها وشهواتها، وجورها، وعدوانها .
والناس كانوا يذوقون من الذل والهوان ألوانا, وفي ظلمة الجهل يتخبطون عميانا، والظلم ينصب عليهم من كل جانب، وما في استطاعتهم التذمر والشكوى، بل كانوا يسامون الخسف والجور والعذاب ضروبا ساكتين، فقد كان الحكم استبداديا، والحقوق ضائعة مهدورة , وليس هناك رحمة للرعية, ولا حكم بالسوية, أو عدل في القضية.
وأما الأديان فقد أخبرناك سالفا عن حقيقة أمرها, وأنها بجميعها كانت تقصر عن تأدية هذا الدور, لأنها ليست له, ولما داخلها من تزييف و تحريف كثيرَين.
فكان لا بد للعالم من نظام جديد؛ يخرجه من هذا التدهور, ويقذفه نحو التطور, وذلك في جميع المجالات.
وكان طبيعة العلاج تقتضي أن يكون نظاما مزدوجا, يرسو على أساسين أصيلين, هما قوام أمور الناس في الدنيا والآخرة: الدين الصحيح, والنظام العادل.
وأن يكون كل واحد منهما أصيلا؛ لا أن يكون أحدهما أصيلا والآخر أجنبيا مستعارا لظروف طارئة, أو أغراض جانفة.
وكان ذلك هو شأن بعض الدول الموجودة في الوقت, حيث جعلت من الدين آلة تتغفل بها الناس؛ حتى يدينوا لها بالانقياد والانسياق. فأوجدت لذلك تحالفا بين رجال الدولة ورجال الدين, وهو تحالف خطير, ينتهي بإكراه الدين إلى الرعية, وينزع عن قلوبهم الثقة برجاله؛ كما حدث ذلك في الأزمنة الأخيرة في أوروبا, حيث كان المجتمع منقطعا إلى أثرياء رؤساء, وفقراء أجراء, وانتصبت الكنيسة وسيطا بين الطبقتين؛ ليكون دورها تَغفيل وتنويم الفقراء المستعبَدين, وتهدئة ثورتهم ضد الأثرياء المستعبِدين.
الأمر الذي جر المجتمع الأوروبي إلى فقد ثقته برجال الدين كليا, وإقصائهم عن كل ما هو من أمور الدولة بعيدا. هنالك حرموا على أنفسهم, وعلى غيرهم, ربط الدولة بدين القوم, وحبسوا مفهوم الدين في بعض الشعائر التعبدية فقط, وأخطئوا بلا شك؛ لأن تجربتهم هذه إنما تخصهم ودينهم؛ لا غيرهم ودينهم, لكنهم "دكتاتوريون" في الفكر, وهي أخطر أنواعها.
ومن نتائج فشل الكنيسة الفاضح في القيام بدورها في المجتمع الأوروبي, نفورهم من الدين, والنظر إليه كموضع استغلال لخيرات الشعب لا حفظها وتنميتها؛ حتى قال أحدهم: "الدين أفيوم الشعب" والعجب أنهم مع ادعاءهم الفكر والتحقيق غفلوا عن حقيقة هي: أن خلو مجتمعاتهم عن دين صحيح يصلح أزمتهم المعنوية, ويصد الفراغ الروحي في الناس, هو الذي تركهم وكأنهم حمرٌ مستنفرة, فرت من قسورة, تتجهمهم العقائد الفتاكة من كل جانب.
ومن أخطر هذه العقائد: الشيطانية(1) التي عمت الدول الأوروبية, ويقوى شوكها يوما بعد يوم؛ خاصة في أوساط الشباب, وهي نحلة شريرة خطرة؛ بما تطمح إليه من أهداف عنصرية نازية, وغيرها كثير.
في الوقت الذي يجندون الجنود, ويخططون الخطوط؛ لمنع الإسلام من الانتشار في مجتمعاتهم, وهم لا يعرفون أو يعترفون أن الخطر الذي يتخوفون منه ليس من الإسلام الذي قد أساءوا قراءته وتفسيره؛ بل من هذه النحل التي تلعب بعقولهم.
وهذه المواصفات التي قلت قريبا إن طبيعة العلاج المناسب كانت تقتضيها, فإنها- إذا تأملتها - كلها مجتمعة في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث جاء بإصلاح الدين, وإصلاح الدنيا, والجمع بين مصلحة الروح والجسد.(1/466)
وحث على القيام بالأمرين, وأن كل واحد منهما ممد للآخر, ومعين عليه.
وجعل العلم, والدين, والولاية, والحكم متآزرات متعاضدات. فالعلم والدين يُقَوّمان الولايات, وتنبني عليهما السلطة والأحكام. وقيّد صلى الله عليه وسلم الولايات كلها بالعلم والدين الذي هو الحكمة, وهو الصراط المستقيم, وهو الصلاح والفلاح والنجاح.
فحيث كان الدين والسلطة مقترنين متساعدين فإن الأمور تصلح, كما أن الأحوال تستقيم.
وحيث فصل أحدهما عن الآخر اختل النظام, وفقد الصلاح والإصلاح, ووقعت الفرقة, وتباعدت القلوب, وأخذ أمر الناس في الانحطاط.(1)
فكان صلى الله عليه وسلم يقول في دعاءه : ( اللهم أصلح لي ديني الذي فيه عصمة أمري, وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي, وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي ...) هذه الشمولية كانت من أبرز خصائص دعوته عليه الصلاة والسلام.
وسأبين لك في درج الحديث طائفة أخرى من خصائص شخصية هذا الرجل عليه الصلاة والسلام.
الجانب الرابع: مقارنة الوضع قبل بالذي بعد بعثة هذا الرجل الكريم صلى الله عليه وسلم
إذا قارنا الوضع السائد في الناس قبل ظهور النبي الكريم, بالوضع الذي تركهم عليه, اتضح أن هذا الرجل صلى الله عليه وسلم هو الذي رقي بالبشر نحو الأكمل والأفضل, لأن كمال البشر بكمال أخلاقه, لا بكمال بنيته الجسمية وهيئته.
وهذا الكمال في الخلق هو الذي يضمن لهم سلامة واستقرار مجتمعهم بنطاقه الواسع, ويكفي أبسط تأمل في أحوال المجتمعات السابقة والحاضرة؛ لإدراك ما للخلق من علاقة عميقة, وصلة وثيقة, بصلاح المجتمع وبقاءه.
فالخلق من الركائز الأولية لبناء المجتمع, وأي مجتمع عدمها –أي الركيزة-, فعاقبته الاندثار والدمار بلا شك؛ لأن المجتمع ليس إلا عبارة عن أفراد جمعتهم الحياة في مكان واحد, والذي يحدد, ويوجه علاقة كل فرد بالآخرين؛ إنما هو خلقه الذي منه ينطلق سلوكه, وتوجهاته, وجميع تصرفاته في حياته, فيصح القول إذاً بأن الخلق هو الموجه, والمؤثر المباشر في سير المجتمع سلبا و إيجابا.
وهذا كاف في الكشف عن خطورة الخلق ومنزلته في المجتمع, وأن الرقي بالبشر لا يتم إلا بالنهوض بخلقه نحو الأكمل, فأكمل البشر أكملهم خلقا, وليس أقواهم جسما.
وأنه مهما تفوق الإنسان, وعلا في الماديات مع سُفالة أخلاقه ورذالتها, فإنه ينحط ولا يرقى, ويهلك المجتمع ولا يبقى.
وهو - صلى الله عليه وسلم- الذي علمنا أن كمال الإنسان ليس في كمال أو جمال جسمه دون خلقه, حيث كان إذا نظر إلى نفسه في المرآة - وكان من أحسن الناس خَلقا- حمد الله وشكره على ما أنعم به عليه من جمال وكمال الخلقة, وسأله كذلك أن يحسِّن له خُلقه؛ إذ بذلك يكون الكمال المتوازن. فكان صلى الله عليه وسلم يقول: (الحمد لله الذي خلقني فسواني, اللهم كما أحسنت خَلقي, حسِّن خُلقي)
وأيّما مجتمع انخلع عن الخلق الفاضل, انقلب عيش أبناءه كحياة الأنعام في الغابة؛ حجرة عن أي ضابط أو نظام يقيدها.
ومن هنا قال أحدهم:
إنما الأمم إلا أخلاقها ما بقيت -- فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ولما كان سر رسالة النبي الكريم يكمن في الحفاظ على بقاء المجتمع البشري, وليس فحسب, بل وإصلاحه, وتطويره نحو الأفضل؛ كي يتحقق له النجاح والفلاح في الدارين, جعل إصلاح أخلاقهم في المقدمة من الغايات التي يسعى ليحققها:
« إنما بعثت لأتمم محاسن الأخلاق(1)»
فحصر الغاية من بعثته في هذه المهمة, وكأنه لم يُبعث إلا لها. وهذا غاية في التنبيه على أهمية الخلق, ومكانته في رسالته التي يحملها إلى الناس.
وما قال هذا أحد قبله ولا بعده !
لماذا هو وحده ؟
لأنه هو المتمم المصلح: (إن مثلي ومثل الأَنْبِيَاء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل النَّاس يطوفون به، ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة قَالَ: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)
فإنه آخر لبنة يكمل بها البنية. فالبنية بنية الرسالة, والرسالة رسالة صنع البشر.
وهذا له مؤهلاته ومتطلباته, إلا أن الله قد اختاره, وأعده, وأمده, فكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا, وأرجحهم عقلاً، وأصدقهم قولاً وفعلاً، أدبه ربه – عز وجل -فأحسن تأديبه، ورباه فأحسن تربيته، وعلمه فعصم تعليمه: ? وإنك لعلى خلق عظيم ? {القلم: 4} أجل ! والتاريخ خير شاهد. ? لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ? {الأحزاب: 21 }? فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر? { آل عمران:159 }
? لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ?
{ التوبة: 128 }
إن مما يقوله الحكماء: أن رب البيت أدرى بما فيه. وأنه لا يُحسن تربية العباد أحد مثل رب العباد.
فإنه بالفعل كان يربي الناس؛ ليس بما يهواه أو يشتهيه, بل بالوحي المعصوم. الأمر الذي يفسر لك كونه من قوم, نشأ فيهم وترعرع, ثم يخالفهم تماما على العادات الجاهلية التي كانوا عليها, وأخذ يبدلها بتعاليم وآداب ما عرفها الأجداد ولا الأقران, وهي أزكى وأسمى ما تحلى به إنسان.
وسأورد لك جملا من تعاليمه العالية؛ مع شيء من التعليل, لاستخراج بعض الحكم منها, لأن معرفة هذه العلل والحكم يجعل النفس يركن أكثر إلى هذه التعاليم, وإلا فكلها حكم؛ سواء اطلعنا على وجهها أم لا.
لأن طريقته عليه الصلاة والسلام أنه كان يأمر الناس بما فيه صلاحهم, ولا يشغلهم بالكلام في أسباب الكائنات كما تفعل المتفلسفة, فإن ذلك كثير التعب قليل الفائدة أو موجب للضرر.
ومثاله عليه الصلاة والسلام مثال طبيب دخل على مريض فرأى مرضه فعلمه, فقال له: اشرب كذا, واجتنب كذا, ففعل ذلك فحصل غرضه من الشفاء.(1/467)
والمتفلسف قد يطول مع هذا المريض الكلام في سبب ذلك المرض وصفته وذمه وذم ما أوجبه, ولو قال له المريض: فما الذي يشفيني منه ؟ لم يكن له بذلك علم.
ولهذا ترى ضعفة العقول يغترون بكلام الفلاسفة؛ لما فيه من الثرثرة والفضفضة التي لا تسمن ولا تغني من جوع, بل يزيدهم حيرة إلى حيرتهم. وأنت - أيها اللبيب - إن أردت لغلتك روياً, فانهل من معين هذا الرجل, ففيه نيل الطلب وبلوغ الأرب.
- كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه لا يسلم عليه, وإنما يقول: حييت صباحاً وحييت مساء. وكان ذلك تحية القوم بينهم, فلما جاء النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أبدلهم بهذه التحية خيرا منها: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
"السلام" ؟!! نعم السلام! فعلمهم أن أحدهم إذا التقى أخاه دعا له من الله بالسلام, والرحمة, والبركة.
فأي شيء بعد هذا ؟
ومن أين له هذا ؟
وهل يدعو للناس بالسلام من لا يريد بهم السلام ؟
وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم ويقول: قد دخلت !! ونحو ذلك.
فيشق ذلك على الرجل ولعله يكون مع أهله, فلما جاء عليه الصلاة والسلام غير ذلك كله في ستر وعفة, وجعله نقياً نزهاً من الدنس والقذر والدرن: ? يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ? { النور: 27}
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه, ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر, ويقول «السلام عليكم, السلام عليكم» وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور.
وجاء رجل فوقف على بابه صلى الله عليه وسلم يستأذن, فقام على الباب مستقبل الباب,
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم « هكذا عنك ـ أو هكذا ـ فإنما الاستئذان من النظر»
هذا حتى لا يقع عينه على بعض ما بداخل البيت, وفرارا من ذلك فد شَرع لهم الاستئذان.
وعلمهم كذلك أن أحدهم إذا استأذن على أخيه فلم يأذن فلا يلح ويلح عليه؛ ليحرجه, وإنما عليه أن ينصرف بعد الثالث. نعم ثلاث مرات تكفي ! لأنك لا تدري ما المانع له من أن يأذن لك بالدخول ؟ وكونك تنصرف لما لم يمكنه استقبالك يخفف عنه كثيرا, والالتزام بهذه الآداب يقوي عواصر المحبة والود بين أفراد المجتمع.(1)
وكذلك في النكاح, فإنه غير كثيرا من العادات الجاهلية التي توارثها قومه خلفا عن سلف, فغيرها كلها بنظام محكم ومضبوط بقيود وشروط معلومة, مفيدة للجميع.
كان أنكحتهم في الجاهلية على أنحاء عديدة, أذكر لك منها أربعاً :
النكاح الأول: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها, وهو الذي أبقى عليه الإسلام, وإنما زاده نظافة ونضارة.
النكاح الثاني : كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها : أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدًا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نَجَابة الولد، فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع.
النكاح الثالث : يجتمع الرهط دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت، ووضعت ومر ت ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان،
فتسمى من أحبت منهم باسمه، فيلحق به ولدها . لا يستطيع أن يمتنع منه الرجل.
النكاح رابع : يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها،وهن البغايا،كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به، ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك، فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح أهل الجاهلية كله إلا نكاح الإسلام اليوم , وهو النوع الأول.(1)
ونكاح خامس كان بالإرث: كانوا إذا مات الرجل وترك امرأته, ورثها ابنه الأكبر بعد موته بلا صداق, فإذا كان الولد الأكبر لا يريد الزواج به, أي لا يرغب فيها زوجها بعض إخوانه, وإذا لم يريدوا زواجها غيرهم زوجوها وأخذوا صداقها أو عضلوها حتى تفتدي بما ورثته أو تموت فيرثوها. فجاء الإسلام ونهى عن هذا الفعل الإجرامي:
? يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ? ? ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ?(1) تأمل في هذا التنظيف, أيها اللبيب ! تدرك أن الإسلام هو الذي حرر المرأة وشرفها, ولا حرمها ولا حقرها.
فالحرمان حيث كانت تحرم من جميع حقوقها, كما كان أهل الجاهلية يفعلون.
والتحقير والإهانة –كما هو الشأن في الغرب- حيث صارت المرأة ألعوبة تتناقلها الأيدي, وبضاعة تختار بالذوق والتشهي, وآلة لقضاء اللذات والتسلي؛ عارية عن حرمتها, وحشمتها, وعفتها,وكرامتها, وحصانتها التي كانت لها, والأطم أن أقصيت بعيدا عن مهنتها الشريفة, وهي مهنة صنع الأجيال. كل ذلك, وأوهموها أنهم حرروها, بل ضيعوها.
فالمرأة نفيسة وضعيفة. والنفيس يحفظ, والضعيف يمنع. (خيركم خيركم للنساء) (استوصوا بالنساء خيرا)
وقومه في الجاهلية كانت روح الفوقية والطبقية قوية في نفوسهم, وهو؛ مع أنه كان من أنسبهم, كان يجالس الموالي والعبيد بلا ترفع أو حرج.
وكان يربي جميع أتباعه على المساواة والأخوة في الدين.
مرّ به الملأ من قريش يوما من الأيام, وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب وغيرهم, من ضعفاء المسلمين, فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك ؟(1/468)
أهؤلاء الذين مَنّ الله عليهم من بيننا ؟
أنحن نصير تبعاً لهؤلاء ؟
اطردهم فلعلك إن طردتهم أن نتبعك, فنهاه ربه عن طردهم : {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين }(2) رغم أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصا على أن يستجيب قومه لدعوته, لكن على الحق.
وكذلك هو الذي محا العصبية الجاهلية من نفوس هؤلاء الذين كانوا كما ترى؛ حتى انمحت بالكلية.
ويوما حدث شيء –وهو طبيعي- بين بلال الحبشي الأسود, وأبي ذر الغفاري, فقال له أبو ذر: يا ابن السوداء !
فشكاه بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فغضب النبي غضبا شديدا, ولما جاء أبو ذر عاتبه, وقال له: "أعيرته بأمه ؟, إنك امرؤ فيك جاهلية(1)" ، فتأثر أبو ذر بموقف النبي صلى الله عليه وسلم تؤثرا شديدا, وتحسَّر وندم كثيرا، وقال: وددت –والله- لو ضرب عنقي بالسيف، وما سمعت ذلك من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-
ووضع خده على التراب ثم قال: يا بلال؛ ضع قدمك على خدي، لا أرفعه حتى تضعه، فذرفت عينا بلال الدموع، وقال: يغفر الله لك يا أبا ذر، والله ما كنت لأضع قدمي على جبهة سجدت لله رب العالمين، ويتعانقان ويبكيان, وقد ذهب ما في القلوب.
وكان أبو ذر الغفاري رضي الله عنه يُلبس خادمه ويُطعمه ويُسكنه من نفس ما يلبس ويطعم ويسكن.
? يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ? {الحجرات: } (يا أيها الناس إن ربكم واحد, ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى(2)) ( إن الله أوحى إلي: أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد و لا يبغي أحد على أحد(3) )
أين كان مدعي "الحرية" و "المساواة" في هذا الوقت ؟
رأيناهم بعد ذلك بقرون, متوغلين في أقصى غابات أفريقيا؛ بحثا عن "عبيد" يأخذونهم قهرا من أوطانهم ليبيعوهم في الأسواق. وهؤلاء الذين كانوا –بالأمس القريب- يبيعون ويشترون, لما امتصوا الدماء حتى ارتووا, أفاقوا يعلموننا اليوم "الحرية" و "المساواة"
فالنبي صلى الله عليه وسلم رقي بهؤلاء إلى الكمال, فكانوا خير أمة أخرجت للناس, بعد أن كانوا في أسفل السافلين.
وما فارق الحياة الدنيا إلا وقد علمهم جميع محاسن الدنيا والآخرة, وما ترك أمرا من أمور حياتهم إلا وأدبهم أدبه على أكمله وأحسنه.
فمن الآداب التي علمهم عند قضاء الحاجة: التعوذ بالله من الشر الموجود في هذه الأماكن؛ لأنها أماكن يسكنها الشياطين, والإنسان يخلو فيها, فكان بحاجة إلى عصمة الله له من كل شر في هذه الأماكن.
الأدب الثاني: أن يقدم رجله اليسرى عندما يدخل في هذه الأماكن, لأنها أماكن النجاسات والأقذار, فناسب أن يدخل بالرجل اليسرى لأنها دون اليمنى في الفضل.
الثالث: عندما يقضي حاجته أن لا يستقبل أو يستدبر القبلة التي يستقبلها في صلاته, لأنها جهة الكعبة المشرفة التي يخصصها لصلواته, ولذا عندما يكون في مثل هذا الحال لا يحسن منه أن يستقبلها كما يفعل في الصلاة, وهذا من مظاهر الاحترام.
الرابع: الاستنجاء بالماء أو الحجر أو ما هو في معنى مما ينقي كالمنديل مثلا. ولعلك تقول: كيف يتنظف إنسان من الحجار ؟
وسأقول لك: هذا من يسر الشريعة الإسلامية ومرونته, فإنها لو حصر التنقية في الماء دون غيره لكان فيه حرج على من يعز عندهم الماء مثل سكان البادية, أو من لا يجده بالكلية. وتعلم أن بين الماء والحجر أشياء كثيرة يمكن التنظيف بها, فكل ما استعمل منها فحسن؛ إلا العظم والروث.
وكذا نهاه أن لا يستعمل يده اليمنى لإزالة النجاسة, لأن اليد اليمنى خصصت للأمور المحترمة؛ كالمصافحة والأكل وغير ذلك.
الخامس: أن من كان في الغابة مثلا, أو الصحراء يختلف عمن هو في العمران, فأمر كلا منهما بما يناسبه ليستر عورته, لأن الإسلام يحافظ على كرامة الإنسان مهما كان, ولذا أمر من كان في مكان فيه أشجار أن يستتر بشجرة عن الأنظار؛ لكن وجَّهه بتوجيه آخر, هو أن لا يقضي حاجته تحت شجر مثمرة؛ لأن الناس كثيرا ما يقصدون هذه الشجر للانتفاع بها, ولا تحت شجرة مظلة؛ يقصدها الناس للاستظلال بظلها.
وكذلك أمر من كان في الصحراء أن يستر عورته؛ بالإبعاد عن الأنظار, وأن لا يرفع ثوبه حتى بدنو من الأرض.
السادس: أن لا يقضي حاجته في طريق الناس. واعلم أن ذلك إذا كان عندك من أبعد الأمور, فغيرك ممن يعيش في أمكنة تختلف كل الاختلاف عن مكان عيشك, قد يقع منهم هذا الأمر, فهم بحاجة إلى مثل هذه التعاليم. لأن الإسلام دين جميع الناس, وجميع الأمكنة.
وهذا النهي ليس خاصا بالطريق فحسب, وكذلك كل مكان يعتاده الناس, وليس خاصا لقضاء الحاجة؛ كما تقدم في الشجرة المثمرة والمظلة.
السابع: أمره إذا فرغ من قضاء حاجته وخرج أن يقول: "غفرانك" وهذا سؤال من الله المغفرة, لأن النجاسة نوعان: حسية, ومعنوية. فإنه لما تطهر وتخلى عن النجاسة الحسية فكر في نجاسته المعنوية التي هي ذنوبه وسيئاته, فسأل الله أن يطهره منها كما يسر له التطهر من الحسية, فكان هذا تناسبا حسنا.
وهكذا في جميع أمورهم. ففي السفر مثلا: علمهم أن الأفضل أن لا يسافر أحدهم وحده؛ بل الأفضل أن يكون ثلاثة فأكثر, ووجههم إذا كانوا ثلاثة أن يؤمروا أحدهم عليهم أثناء سفرهم؛ لما في ذلك من التيسير عليهم, وجمع كلمتهم؛ حتى لا يحدث بينهم الخلاف والتنازع في أمورهم.
وهذا يعلمه كل من جربه.(1/469)
وفي الجماع: أرشدهم إلى آداب سامية: أولا "وفي بضع أحدكم صدقة" قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال: (أريتم لو وضعها في الحرام أكان عليه فيها وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) هذا إرشاد إلى مقصد من أعظم مقاصد النكاح, وهو العفاف عن الحرام.
فيقضي الإنسان شهوته في هذا المحل الطاهر المباح ليكفه ذلك عن الحرام الخبيث,والزنا سرطان خبيث يأكل المجتمع الذي انتشر فيه من داخله, وأقبح أنواعه هو الذي يكون في بيت الزوجية.
خلافا لمن ينظر إليه كأي حاجة من الحوائج تقضى:
ومن يهن يسهل الهوان عليه ---- وما لجرح بميت إيلام
وأرشدهم إلى ما ينبغي من المداعبة بين الزوج والزوجة؛ لما فيه من إثارة كل منهما, ويقرب وصول كل من الطرفين إلى المطلوب من قضاء شهوته. وبما أن الرجل هو الأسرع وصولا إلى ذلك, نبهه على إلقاء مطلوب الطرف الآخر في البال؛ كيلا يحرمها من نصيبها؛ بل لا يقوم وإنما يتريث معها حتى تقضي حاجتها, وإذا كانا قد أخذا حظا وافيا من المداعبة كفيا ذلك.
وكذلك أرشد الرجل إلى الوضوء بين كل جماع, أي بين الفواصل التي تكون بين جماع وآخر؛ لأن ذلك أنشط للعود, ولما فيه من مس الماء الذي يطلق الجسم من فتوره الذي يعقب الإنزال, وهو كذلك تطهر يجدد النشاط كالأول أو يكاد.
كذلك آداب: الأكل, والشرب, ومجالسة الإخوان ومصاحبتهم, وإكرام الضيف, وطرق الأهل, ولبس الملابس, وانتعال الحذاء, والنوم, والاستيقاظ, و....., و....., إلى أشياء يطول عدها مما هو من أمور الناس في معايشهم. ففي كلها يرشدهم ويعلمهم آدابا لم تكن معروفة في حضارة من الحضارات, ولا دين من الأديان.
وهكذا جعل من بهؤلاء سُرُجا يستضاء بها, ونُجُما يهتدى بها.
الجانب الخامس: النظر في الوسائل التي استعملها النبي صلى الله عليه وسلم لفعل هذا الإصلاح والتغيير.
يتمحض من دراسة تاريخ البشرية, أن توحيد الأرض تحت نظام واحد, من التشتت والفوضى ليس بمهمة سهلة؛ خاصة وأن ينطلق من ذلك القطاع الجاف؛ الخالي عن كل نظام وحضارة(1), فإنها مهمة تضطر إلى عوامل, ووسائل قوية؛ لتنال نجاحا. أربع منها ضروري اكتمالها لدى من ستتم هذه المهمة على يديه:
1) لا بد أن يكون ذا شخصية بارزة جذابة, تتسم بالتكامل والاتزان في جميع الجوانب؛ ليكون قدوة يقتدى بها, وأسوة يتأسى بها, لا أن يبرز في جانب ويغمض في آخر, أو يُفْرط هنا ويفرِّط هناك.
كما هو الشأن في بعض الرجال الذي ينوه بأمره الغربيون, وتجده مكبا طول حياته على مادة ليبرز فيها, وقد تكون مما يعلمه العاديون من الناس اليوم, أو لا يكون لذلك الأمر أية علاقة بمكونات شخصيات الرجال؛ بل بما يحطمها, إلا أنهم قوم انقلبت عندهم المعايير, وتلطخ منظارهم بالهوى والتشهي؛ لا الحق والتهدي. أما ذاك فهو قائد للأبد, وهاد للبشر, والقائد له مؤهلاته, والهادي له مواصفاته.
وقد اجتمعت في شخصيته صلى الله عليه وسلم مؤهلات من أقواها: الاختيار, والإعداد, والإرسال, والإمداد من الله تعالى.
فإنه المختار الذي اختاره الله من خير نسب بني آدم؛ من صميم سلالة إبراهيم, الذي جعل الله في ذريته والنبوة والكتاب, فلم يأت نبي بعد إبراهيم إلا من ذريته, وجعل له ابنين إسماعيل, وإسحاق, وذكر في التوراة هذا وهذا.
وبشر في التوراة بما يكون من ولد إسماعيل, ولم يكن في ولد إسماعيل من ظهرت فيما بشرت به النبوات غيره, ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث فيهم رسولا منهم, ثم من قريش, صفوة بني إبراهيم, ثم من بني هاشم صفوة قريش, ومن مكة أم القرى, وبلد البيت الذي بناه إبراهيم, ودعا الناس إلى حجه, ولم يزل محجوجا من عهد إبراهيم, مذكورا في كتب الأنبياء بأحسن وصف.
وكان صلى الله عليه أكمل الناس تربية ونشأة, أدبه ربه فأحسن تأديبه, فلم يزل معروفا بالصدق والبر والعدل, ومكارم الأخلاق, وترك الفواحش والظلم, وكل وصف مذموم, مشهودا له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة, وممن آمن به وممن كفر بعد النبوة, لا يعرف له شيء يعاب به, لا في أقواله, ولا في أفعاله, ولا في أخلاقه, ولا جرب عليه كذبة قط, ولا ظلم, ولا فاحشة, وكان خلقه وصورته من أكمل الصور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله.
والنظر في سيرته وصفاته, لا يبقي أدنى شك عند كل عاقل, في كونه هو المؤهل لأن يكون قائد البشرية نحو فلاحها وصلاحها للأبد.
وهاك قطوف من حياته الطاهرة, وسيرته العطرة, عليه الصلاة والسلام(1):
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: « كان رسول الله أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا ليس بالطويل الذاهب ولا بالقصير (2)»
وعنه رضي الله عنه قال: «كان بعيد ما بين المنكبين عظيم الجمة إلى شحمة أذنيه عليه حلة حمراء ما رأيت شيئا قط أحسن منه (3)»
وعن كعب بن مالك قال: « كان النبي إذا سر استنار وجهه حتى كأنه فلقة قمر (4)»
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: « كان رسول الله ضخم الرأس والقدمين لم أر قبله ولا بعده مثله وكان بسط الكفين ضخم اليدين »
وعن أنس رضي الله عنه قال: « كان رسول الله ليس بالطويل البائن ولا بالقصير ولا بالأبيض الأمهق ولا بالآدم ولا بالجعد القطط ولا بالسبط(5) »
وعنه رضي الله عنه قال: « كان رسول الله أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ إذا مشى تكفأ وما مسست ديباجة ولا حريرا ألين من كف رسول الله ولا شممت مسكا ولا عنبرة أطيب من رائحة(6)»
وعن جابر رضي الله عنه قال: « كان رسول الله لا يسلك طريقا فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرقه(7) »(1/470)
وفي حديث أم معبد المشهور لما مر بها النبي في الهجرة هو وأبو بكر ومولاه ودليلهم وجاء زوجها فقال: « صفيه لي يا أم معبد » فقالت: « رأيت رجلا ظاهر الوضاءة حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن(1) »
وعن أنس رضي الله عنه قال: « كان رسول الله أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله راجعا وقد سبقهم إلى الصوت وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبي طلحة عري في عنقه السيف وهو يقول لن تراعوا » وقال: « وجدناه بحرا أو إنه لبحر(2) »
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: « كان رسول الله أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة(3) »
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا إذا احمر البأس نتقي به وإن الشجاع منا الذي يحاذي به يعني رسول الله(4) »
قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من أحسن الناس خلقا. فأرسلني يوما لحاجة فقلت: والله لا أذهب. وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله –صلى الله عليه وسلم-. قال: فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق فإذا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قابض بقفاي من روائي. فنظرت إليه وهو يضحك. فقال: ( يا أنيس ! اذهب حيث أمرتك ) . فقلت نعم أنا أذهب يا رسول الله. قال أنس: والله لقد خدمنه سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء تركت هلا فعلت كذا وكذا (5) »
و عن جابر قال: « ما سئل رسول الله شيئا فقال لا(6) »
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: « كان رسول الله أشد حياء من العذراء في خدرها وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه(7) »
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وذكر رسول الله قال: « لم يكن فاحشا ولا متفحشا, وكان يقول: (إن من خياركم أحسنكم أخلاقا )(8)»
وعن أنس رضي الله عنه قال: « لم يكن رسول الله سبابا ولا فحاشا ولا لعانا كان يقول لأحدنا عند المعتبة: (ماله تربت جبينه)(1) »
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: « ما خير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة الله(2) »
وعنها قالت: « ما ضرب رسول الله بيده شيئا قط لا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله(3) »
وعنها وقد سئلت عن خلق رسول الله فقالت: « كان خلقه القرآن(4) »
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: « بعثت لأتمم صالح الأخلاق(5) »
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: « قام رسول الله حتى تورمت قدماه فقيل: يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ » قال: ( أفلا أكون عبدا شكورا )(6) »
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: « ما عاب رسول الله طعاما قط إن اشتهاه أكله وإلا تركه (7)»
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن أنس بن مالك قال: « ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهته لذلك(8) »
وعن أنس رضي الله عنه قال: « كان غلام يهودي يخدم النبي فمرض فأتاه النبي فقال: (أتشهد أن لا إله إلا الله ؟ )
فنظر الغلام إلى أبيه فقال له أبوه: « أطع أبا القاسم » فأسلم فقال النبي: (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)(9) »
وعن أنس رضي الله عنه « أن امرأة كان في عقلها شيء. فقالت: يا رسول الله إن لي حاجة. فقال: ( يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك ) فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها (10) »
وعن أنس رضي الله عنه قال: « كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله فتدور به في حوائجها حتى تفرغ ثم يرجع(1) »
عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال «كان رسول لله – صلى الله عليه وسلم – يكثر الذكر ويقل اللغو ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له حاجته(2) »
فأين هذه التعاليم مما تعوّده الأمم سابقا من ضرب الفيافي بين الزعماء والأذلاء, والسجود لهم والانحناء, والتقرب إليهم بمعسول الكلام وعظيم الثناء, ومنحهم بعضا من صفات الرب الإله, وصرف المبالغ الطائلة على بناء مقابرهم وزخرفة أضرحتهم لزيارتها في الأعياد والمناسبات. وهؤلاء كانوا يطرون من يطرونه, ويعظمون من يعظمونه؛ تدينا, والغريب أن نرى هذه المظاهر في دول تدعي نبذ الدين وترك تقديس رجاله !! فإذا بها تتعبدهم لزعمائها من في حياتهم وبعد مماتهم !!
و عن أنس رضي الله عنه قال: « ما رأيت أرحم بالعيال من رسول الله(3) »
و عنه رضي الله عنه قال: « مر رسول الله على صبيان فسلم عليهم(4) »
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: « كان رسول الله لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام وكانوا يتحدثون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم(6) »
وعنه كان: « طويل الصمت قليل الضحك وكان أصحابه ربما تناشدوا عنده الشعر والشيء من أمورهم فيضحكون ويتبسم(7) »
وعن عائشة رضي الله عنها وسألها الأسود ما كان رسول الله يصنع في أهله ؟
فقالت: « كان يكون في مهنة أهله-تعني خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج(8) »
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: « ما شبع رسول الله ثلاثة أيام تباعا من خبز برحتى مضى لسبيله(9) »
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: « قال رسول الله : (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا)(1) »(1/471)
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: « اضطجع النبي على حصير فأثر الحصير بجلده فجعلت أمسحه عنه وأقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ألا آذنتنا فنبسط لك شيئا يقيك منه تنام عليه»
فقال: ( ما لي وللدنيا ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها ) (2) »
ومتى رفع وخفض المنصف في هذه الصفات, وكيف أنها متكاملة ومتوازنة, قطع بأنها شيء مُكسب وليس بمكتسب, وأن المتصف بها إنما كان نموذجا يحتذيه البشر ليرتفع في كل جانب.
فالخصائص التي اجتمعت في شخصيته كثيرة, الواحدة منها كافية في صنع الرجال الذين يملئون التاريخ.
فلو أنه – على قولهم إن القرآن من وضعه وليس وحيا من الله – جلس طول حياته ليضع هذا الكتاب الذي عجز جميع الإنس والجن عن الإتيان بأقصر سورة فيه, مع أنه لا يقرأ ولا يكتب.
هذا وحده لو فعله لكان عديم النظير.
وهو – على قولهم إنه مقاتل قائد جيش – لو قضى حياته كلها في حشد الجموع, وإرسال الجيوش؛ لتطهير جزيرة العرب من الوثنية الجاهلية, وتحريرها من نظام التمزق والقهر والغلبة, مع أنه ليس بيده ولا بيد آباءه ملك قومه؛ لتتحد تحت لا إله إلا الله محمد رسول لكان شيئا معجزا.
ولو أنه اكتفى طول حياته بتربية هؤلاء الرجال الذين كانوا قد تضلعوا من الجاهلية, واجتثاث الرواسب الجاهلية من نفوسهم؛ ليحل محلها هذه التعاليم العالية التي فعلت بهم أئمة وقادة للناس؛ لكفاه ذلك.
ولو أنه أنفق حياته كلها في الدعوة إلى دينه, وإقناع الناس ليتركوا الأديان الأخرى ويدخلوا في دينه, وكل ما يتطلبه ذلك من قوة الحجج, والسلامة من التناقض, ومواجهة من يعاديه من أهل الكتاب والمنافقين والمجوس والصائبة والوثنيين وغيرهم, بالأدلة والحجج التي تقف في وجوههم. حتى انتصر عليهم دينه, ونال من الانتشار ما لم يسبق له مثيل, وتبعه من الناس من كل جنس وصنف من لا يحصيهم إلا الله, وقبلوا دعوته بقناعة ورضا, وأحبوه أكثر من النفس والمال والأولاد, لو أنه أنفق حياته كلها ليتحقق له هذا لكان معجزا. كيف وإنما حققه في 23 سنة فحسب ؟
ولو أنه سعى طول حياته ليقيم دولة أو ملكا يحاذي دولة وملك الروم والفارس لكفاه ذكرا أن يتحقق له ذلك, كيف وقد قام له دولة ذاب فيها تلك الدول بما فيها, ولم يكن في يده في يوم من الأيام من القوة والأعداد ما يقارب قوة تلك الدول وأعدادها, ومع ذلك قد حصل ذلك كما كان قد وعد به أتباعه.
ولو أنه مكث طول حياته في إلقاء التعليمات والتوجيهات التربوية العالية إلى البشر؛ لينتفعوا بها في استقامة حياتهم لكفى ذلك في كونه مربيا وحكيما لا يعرف له نظير.
ولو أنه بقي مدة حياته مع أهله في عيشه السعيد معهم, المليء بالتعليمات التي تطيب بها الحياة.
وما كان عليه معهم من لطف ورحمة وحب وحنان وعدل وبر وخير وصلاح و...... و......, لكان كافيا ليكون الوالد والزوج الذي يقتضى به.
ولو أنه بقي طول حياته في عبادته لربه, والزهد والصلاح وقراءة القرآن والبكاء من خشية ربه؛ لكفى ليكون إمام العباد والصالحين.
كيف وقد اجتمع ذلك وأكثر في شخصيته صلى الله عليه وسلم ؟
2) أن يكون صاحب دعوة شاملة مبرهنة بالحجج القاطعة, والأدلة الساطعة, مقرونة بالتحدي والإعجاز؛ لقصم ظهور الملحدين, وقطع طمع المبطلين, ولأنها دعوة من شأنها معايشة الظروف, ومناسبة العصور, ومخاطبة الصنوف.
ودعوة كهذه لا تقوم إلا على أساس النبوة, والأمر كذلك فإن الرجل خاتم النبيين, قد أرسله الله إلى الناس كافة, وهذه النبوة ليست مجرد ادعاء عار عن الحق وتبعه عليه الناس,
لا وكلا !!!
الأمر ليس بهذا الهون, لأن الرجل كان أميا من قوم أميين, لا يعرف, لا هو, ولا هم, ما يعرفه أهل الكتاب, التوراة والإنجيل, ولم يقرأ شيئا عن علوم الناس, ولا جالس أهلها, ولم يدع نبوة إلى أن أكمل الله له أربعين سنة, فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها, وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره, وأخبرنا بأمر, لم يكن في بلده وقومه, من يعرف مثله, ولم بعرف قبله ولا بعده, ولا في مصر من الأمصار, ولا في عصر من الأعصار, من أتى بمثل ما أتى به, ولا من ظهر كظهوره, ولا من أتى من آيات بمثل ما أتى به, ولا من دعا إلى شريعة أكمل من شريعته.
والذين اتبعوه, لم يتبعوه لرغبة ولا لرهبة, فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم, ولا جهات يوليهم إياها, ولا كان له سيف, بل كان السيف والمال والجاه مع أعدائه.
وقد آذوا أتباعه بأنواع الأذى, وهم صابرون محتبسون, لا يرتدون عن دينهم لما خالط قلوبهم من حلاوة الإيمان والمعرفة.
وهو صلى الله عليه وسلم - مع ظهور أمره وطاعة الخلق له وتقديمهم له على الأنفس والأموال - مات ولم يخلف درهما ولا دينارا ولا شاة ولا بعيرا له إلا بغلته وسلاحه, ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعا من شعير, ابتاعها لأهله.
وكان بيده عقار ينفق منه على أهله, والباقي يصرفه في مصالح المسلمين, فحكم بأنه لا يورث, ولا يأخذ ورثته شيئا من ذلك.(1/472)
وهو في كل وقت, يظهر على يديه من عجائب الآيات وفنون الكرامات ما يطول وصفه ويخبرهم بخبر ما كان وما يكون, ويأمرهم بالمعروف, وينهاهم عن المنكر, ويحل لهم الطيبات, ويحرم عليهم الخبائث, ويشرع الشريعة شيئا بعد شيء, حتى أكمل الله دينه الذي بعث به, وجاءت شريعته أكمل شريعة, لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به, ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه, لم يأمر بشيء فقيل: ليته لم يأمر به, ولا نهى عن شيء فقيل: ليته لم ينه عنه, وأحل الطيبات, لم يحرم شيئا منها كما حرم في شرع غيره, وحرم الخبائث, لم يحل منها شيئا كما استحله غيره, وجمع محاسن ما عليه الأمم فلا يذكر في التوراة, والإنجيل, والزبور, نوع من الخبر عن الله وعن ملائكته وعن اليوم الآخر, إلا وقد جاء به على أكمل وجه؛ وأخبر بأشياء ليست في الكتب.
فليس في الكتب إيجاب لعدل, وقضاء بفضل, وندب إلى الفضائل, وترغيب في الحسنات, إلا وقد جاء به, وبما هو أحسن منه.
وإذا نظر اللبيب في العبادات التي شرعها, وعبادات غيره من الأمم, ظهر فضلها ورجحانها, وكذلك في الحدود والأحكام وسائر الشرائع.(1)
وآيته الكبرى صارخة بصدقه, وقد تحدى بها الإنس والجان؛ مع كونه أميا لا يقرأ ولا يكتب, فما أجاب لتحديه ألد أعداءه إلى الآن, وهم لو استطاعوا بيان كذبه لما ترددوا فيه ثانية, لكنهم لم يفعلوا, وإنما بقوا يصيحون ويقولون: "دعاية" !!! أ هم رجال ؟
? قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ? {الإسراء:88}
أخبر بهذا في أول أمره إذ كانت هذه الآية في سورة « سبحان » وهي مكية, صدرها بذكر الإسراء الذي كان بمكة باتفاق الناس.
وقد أخبر خبرا وأكده بالقسم عن جميع الثقلين, إنسهم وجنهم, أنهم إذا اجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن, لا يأتون بمثله, بل يعجزون عن ذلك, وهذا فيه آيات لنبوته.
و إقدامه على هذا الخبر العظيم عن جميع الإنس والجن إلى يوم القيامة, بأنهم لا يفعلون هذا بل يعجزون عنه, لا يفعله من يطلب الناس أن يصدقوه إلا وهو واثق بأن الأمر كذلك, إذ لو كان عنده شك في ذلك لجاز أن يظهر كذبه في هذا الخبر, فيفسد عليه ما قصده, وهذا لا يقدم عليه عاقل, مع اتفاق الأمم, المؤمن بمحمد والكافر به, على كمال عقله ومعرفته وخبرته إذ ساس العالم سياسة لم يسسهم أحد بمثلها.
ثم لم يكن تحديه في أمر يفوت بفوات أوانه, بل جعله في هذا القرآن المتلو المحفوظ إلى يوم القيامة, الذي يقرأ به في الصلوات, ويسمعه العام والخاص, والولي والعدو دليل على كمال ثقته بصدق هذا الخبر, وإلا لو كان شاكا في ذلك, لخاف أن يظهر كذبه عند خلق كثير, بل عند أكثر من اتبعه ومن عاداه, وهذا, لا يفعله من يقصد أن يصدقه الناس, فمن يقصد أن يصدقه الناس, لا يقول مثل هذا ويظهره هذا الإظهار, ويشيعه هذه الإشاعة, ويخلده هذا التخليد, إلا وهو جازم عند نفسه بصدقه.
ولا يتصور أن بشرا يجزم بهذا الخبر إلا أن يعلم أن هذا مما يعجز عنه الخلق إذ علم العالم بعجز جميع الإنس والجن إلى يوم القيامة, هو من أعظم دلائل كونه معجزا وكونه آية, على نبوته فهذا من دلائل نبوته في أول الأمر عند من سمع هذا الكلام وعلم أنه من القرآن الذي أمر ببلاغه إلى جميع الخلق وهو - وحده - كاف في العلم بأن القرآن معجز.
دع ما سوى ذلك من الدلائل الكثيرة على أنه معجز, مثل عجز جميع الأمم عن معارضته مع كمال الرغبة والحرص على معارضته.
وعدم الفعل مع كمال الداعي يستلزم عدم القدرة.
فلما كان دواعي العرب وغيرهم على المعارضة تامة. علم عجز جميع الأمم عند معارضته, وهذا برهان ثان يعلم به صدق هذا الخبر وصدق هذا الخبر آية لنبوته, غير العلم بأن القرآن معجز, فإن ذلك آية مستقلة لنبوته وهي آية ظاهرة باقية إلى آخر الدهر, معلومة لكل أحد وهي من أعظم الآيات فإن كونه معجزا يعلم بأدلة متعددة, والإعجاز فيه وجوه متعددة, فتنوعت دلائل إعجازه وتنوعت وجوه إعجازه وكل وجه من الوجوه, هو دال على إعجازه وهذه جمل, لبسطها تفصيل طويل, ولهذا قال تعالى: ? وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ? {العنكبوت: 51}
فهو كاف في الدعوة والبيان, وهو كاف في الحجة والبرهان.
هذا, لو كان الرجل طامعا في الملك وأعراض الدنيا, لأمكن القول بأنه أتى بدعايات فارغة لنيل مأربه, ولم يكن يغتم لانكشاف أباطيله بعد ذلك, إلا أن الرجل أزهد الناس عن الدنيا: ( ما لي وللدنيا ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها )
و لو كان هذا الكتاب من وضعه بالفعل؛ كما يقولون, وقد تحدى به الإنس الجن فلم يقدروا على الإتيان بمثله, لكان فخره بأنه من وضعه الخاص, ولم يشاركه فيه أحد, أعظم وأولى من أن ينسبه إلى غيره ويصرح بأنه ليس له فيه إلا مجرد التبليغ.
وفي هذا المعنى أيضا, أنه لما فصل الحق في أمر عيسى عليه السلام, قال: ? فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ? {آل عمران:61}
ولو كان يعلم أنه غير صادق لما أقدم على فضح نفسه, لأنهم لو أجابوه لكان فيه بيان كذبه على كل حال, وهو عكس قصده, وإذا لم يجيبوه في حياته فقد يجيبون أتباعه من بعده, فكان فيه إيقاع لهم في الحرج والضيق !
ولما نزلت عليه هذه الآية, بادر إلى الخروج بأهله دون توقف أو تردد, وطالبهم بذلك فامتنعوا, وهم لو تيقنوا كذبه وصدقهم لما كان لامتناعهم عن إظهار صدقهم وكذبه الذي تحداهم به أي معنى.(1/473)
وهذا لو كان في جزئية من عقيدتهم لَعِيب عليهم إعراضهم عنها؛ مع القدرة على كشف الحق فيها, كيف وهو في أس عقيدتهم ؟!!
وعجزهم – على مر الأيام - عن إسقاط هذه التحديات التي تصرخ في الآفاق بصدق ما جاء به هذا الرجل, وكذب ما هم عليه, من أكبر الآيات على أن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكل الذين أصروا على التكذيب بدعوة هذا الرجل؛ رغم وضوحها وقوتها, لا يصح منهم تصديق رسول آخر من رسل الله.
ذلك لأن الطريق الذي يعلم به نبوة موسى وعيسى يعلم به نبوته بطريق الأولى.
فإذا قالوا: عُلمت نبوة موسى والمسيح بالمعجزات وعُرفت المعجزات بالنقل المتواتر إلينا.
قيل لهم: معجزات محمد أعظم, وتواترها أبلغ, والكتاب الذي جاء به محمد أكمل, فإن معجزة كل من موسى وعيسى عليهما السلام كانت في إطار محدود لم تجاوزه لتخاطب العالم بأكمله, وإنما سمع بها من لم يشهدها في حينها ومكانها عن طريق النقل, ومحمد صلى الله عليه وسلم قد ثبت له من هذا الجنس الشيء الكثير, ونقل نقلا أفيض وأصح. ثم خص بالمعجزة الخالدة التي أعجز الإنس والجان.
فإن ساغ لقائل أن يقول هو مع هذا كاذب مفتر, كان على هذا التقدير الباطل غيره أولى أن يقال فيه ذلك, فيبطل بتكذيبهم محمدا جميع ما معهم من النبوات إذ حكم أحد الشيئين حكم مثله فكيف بما هو أولى منه ؟(1)
وهناك شيء آخر, وهو أنهم لما قالوا إن هذا الرجل كاذب, وظالم, وباغ, و...., و.....,
إلى ما هنالك من التهم التي يلصقونها به, مع إيمانهم بأن لهذا الكون خالقا وربا ومالكا, وأنه ما وُجد صدفة هكذا - كما يقوله الفلاسفة الدهريون -, فإنهم بهذا التكذيب قد شتموا رب العالم ومالكه أقبح شتم.
ستقول لي: كيف ذلك ؟
وأجيبك: بأنهم إن قالوا : إن محمداً ملك ظالم قهر الناس بسيفه وليس برسول من عند الله، وقد أقام ثلاثاً وعشرين سنة يدعي أنه رسوله الله أرسله إلى الخلق كافة، ويقول : أمرني الله بكذا ونهاني عن كذا وأوحى إلى كذا ، ولم يكن من ذلك شيء.
وهو يدأب في تغيير دين الأنبياء ومعاداة أممهم ونسخ شرائعهم ، فلا يخلو إما أن يقولوا: إن الله سبحانه كان يطلع على ذلك ويشاهده ويعلمه أو تقولوا إنه خفي عنه ولم يعلم به ،
فإن قالوا: لم يعلم به نسبوه إلى أقبح الجهل وكان من علم ذلك أعلم منه ، وإن قالوا: بل كان ذلك كله بعلمه ومشاهدته واطلاعه عليه فلا يخلو إما أن يكون قادراً على تغييره والأخذ على يديه ومنعه من ذلك أو لا، فإن لم يكن قادراً فقد نسبوه إلى أقبح العجز المنافي للربوبية، وإن كان قادراً وهو مع ذلك يعزه وينصره ويؤيده ويعليه ويعلي كلمته، ويجيب دعاءه ويمكنه من أعدائه ويظهر على يديه من أنواع المعجزات والكرامات ما يزيد على الألف ولا يقصده أحد بسوء إلا أظفره به ولا بدعوة إلا استجابها له فهذا من أعظم الظلم والسفه الذي لا يليق نسبته إلى آحاد العقلاء فضلاً عن رب الأرض والسماء فكيف وهو يشهد له بإقراره على دعوته وبتأييده وبكلامه وهذه عندهم شهادة زور وكذب.
وإن فروا من ذلك وقالوا: معاذ الله أن يفعل الله هذا بكاذب مفتر بل هو نبي صادق من اتبعه أفلح وسعد, لكنه بعث إلى الأميين الذين لا كتاب لهم ؟
قيل لهم : غلبتم كل الغلب، فإنه قد علم الخاص والعام أنه أخبر أنه رسول الله إلى جميع الخلق ، وإن من لم يتبعه فهو كافر من أهل الجحيم ، وقاتل اليهود والنصارى وهم أهل كتاب ، وإذا صحت رسالته وجب تصديقه في كل ما أخبر به.(1)
وأختم هذا الحديث بالنقاش الذي دار بين هرقل ملك الروم, وأبي سفيان, وكان وقتئذ على الكفر:
قال أبو سفيان(2): جئ بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل, فأرسل إليه في ركب من قريش؛ وكانوا تِجَاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله عليه الصلاة والسلام مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش, فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟
قال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً. فقال: أدنوه مني، وقرِّبوا أصحابَه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائلٌ هذا عن هذا الرجل، فإن كَذَبني فكذِّبوه.
فقال أبو سفيان : وأيم الله لولا مخافة أن يؤثر على الكذب لكذبت.
ثم قال لترجمانه : سله كيف حسبه فيكم ؟ قال قلت : هو فينا ذو حسب قال : فهل كان من آبائه من ملك قلت : لا .
قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا ، قال : ومن اتبعه ، أشراف الناس أم ضعفاؤهم ؟ قلت : بل ضعفاؤهم ، قال : أيزيدون أم ينقصون ؟ قلت : لا بل يزيدون ، قال : فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟ قال قلت : لا
قال : فهل قاتلتموه ؟ قلت نعم، قال فكيف كان قتالكم إياه ؟ قال قلت : يكون الحرب بيننا وبينه سجالا يصيب منا ونصيب منه، قال : فهل يغدر ؟ قلت لا ونحن منه في مدة ما ندري ما هو صانع فيها، قال : فواله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه ، قال: فهل قال هذا القول أحد قبله ؟ قلت لا.
قال لترجمانه: قل له إني سألتك عن حسبه فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها، وسألتك هل كان في آبائه ملك ؟ فزعمت أن لا، فقلت لو كان في آبائه ملك لقلت يطلب ملك آبائه، وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم ؟ فقلت بل ضعفاؤهم ، وهم أتباع الرسل.
وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فزعمت أن لا ، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله عز وجل(1)، وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطة له ؟ فزعمت أن لا وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب ، وسألتك هل يزيدون أم ينقصون ؟ فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم .(1/474)
وسألتك هل قاتلتموه ؟ فزعمت أنكم قاتلتموه فيكون الحرب بينكم وبينه سجالاً ينال منكم وتنالون منه ، وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة .
وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أنه لا يغدر ، وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله ؟ فزعمت أن لا ، فقلت لو قال هذا القول أحد من قبله قلت رجل ائتم بقول قيل قبله .
ثم قال : فبم يأمركم ؟ قلت : يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف.
قال: إن يكن ما تقول حقاً إنه لنبي، وقد كنت أعلم أنه خارج ولكن لم أكن أظنه منكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه وليبلغن ملكه ما تحت قدمي.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه: فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.
وهذا في غنى عن تعليق.
3) أن يكون الرجل معززا بالقوة المعنوية والمادية معا؛ لتقف بهما في وجوه كل مكابر معاند, يترصد لدعوته, ويروم قطع طريق الناس عنها, وتوفر إحدى هاتين القوتين مع تخلف الأخرى خلل وضعف.
وهذه النقطة يسيل لها لعاب البعض؛ لذا يحسن إماطة الغبش وإزاحة الغبار عنها.
فأقول: إن لله في كونه سننا لا تتبدل ولا تتخلف, ومنها أنه تعالى لحكمة بالغة قد جعل لكل شيء سببا وطريقا يؤتى إليه, فهو القادر على أن ينصر رسوله على كل من وقف لصد دعوته؛ دون أن يلجئه إلى الأسباب المادية أو المعنوية: ? ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض ?
{ محمد:4} ولو كان الأمر كذلك لأخرجه عن العادة الجارية في الكون, وعن طبيعة البشرية, إلى الملكية, فيعتذر الناس بذلك عن الاقتداء به ونهج منهجه؛ لأنهم دون ذلك بمراحل.
لكنه القائل: ?إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي? {الكهف: 110}
وهو الذي قيل له ? ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ? {الفرقان: 7}
فيجيب: ? لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسول ? {الإسراء: 95} فإنه بشر وليس بملك, وأرسل إلى البشر لا إلى الملائكة.
ومن تلك السنن أن جعل لكل نبي عدوا من المجرمين: ?وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين? {الفرقان: 31} وهو عدو مجرم ينصب الصدود والعراقيل للحيلولة دون استجابة الناس لدعوته, فكان لزاما أن يأخذ بالأسباب المادية والمعنوية لتنحية هذا العدو وتأمين خطره, وإن أدى الأمر في بعض الأحيان – لا كلها - إلى إراقة الدماء, لأنها وإن كانت مفسدة من وجه, إلا أنها مفسدة اقتضى ارتكابها تحصيل مصلحة أكبر منها بكثير, وهي هداية الناس التي تحقق لهم الفلاح والسعادة وفي هذه وتلك.
ولا شك أن تحصيل مصلحة بارتكاب مفسدة دونها عقل وعدل, وكذلك درء مفسدة بتفويت مصلحة دونها عقل وعدل.
ولا يتوقف عاقل في قطع عضوه المتآكل إذا توقف عليه حياة وسلامة بقية الجسد, والقطع - وإن أراده القاطع - إلا أنه ليس مرادا لذاته, وإنما هو مراد لغيره, فلم يكن هناك أي تعارض بين هذا وهذا. القطع من حيث هو قطع ضرر, ولا بد منه لأنه الوسيلة, والقطع من حيث هو وقاية وسبب برء منفعة, وهي الغاية.
فإن من أقبح الجهل أن يقصر أحد نظره على لفظ: "قطع عضو" وكراهته إلى النفوس دون التعمق في نوعيته ونتائجه المترتبة عليه.
وكذلك الشدة في محل اللين حمق وخرق, واللين في محل الشدة ضعف وخور:
إذا قيل حلم قل فللحلم موضع
وحلم الفتى في غير موضع جهل
وأصور لك ذلك بالتمثيل(1): فالأمم المتحدة مثلا, يقولون إنها هيئة سلمية تسعى لاستقرار السلام بين الأمم, ولذا يحق له التدخل في بعض القضايا الجارية بين الشعوب للحيلولة دون تفاقم الأمر, والسعي لإعادة الأمن, فرسالتها سلمية بحتة, ولا يجرأ أي منا مثلا على وصفها بالشدة أو الإرهاب أو نحو ذلك من الأوصاف التي تتناقض وأهدافها السلمية, ولكن هل معنى ذلك أنها لا تستعمل القوة بحال من الأحوال, وإن توقف عليه تحقيق أهدافها السلمية ؟
وهل لا يلومها العقلاء إذا توقف عن استعمال القوة لوقف عدوان المعتدي على شعب من الشعوب؛ إذا استلزم وقفه ذلك ؟
وهل الضرر الناتج من ردع هذا الجاني شيء يذكر في جانب الأضرار التي ستلحق الشعوب إذا لم يكن ثمة قوة عادلة وحيادية تمنع من الاعتداء عليها: ? ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العلمين ? {البقرة: 251}
فمن الحكمة إذاً أن يتصف من له مثل هذه الرسالة بالشمولية والاعتدال والتوازن, وليس أن ينحصر في ميدان ليغيب عن ميادين, أو يركز اهتمامه في قضية ويهمل قضايا أخرى.
فطبيعة رسالة محمد عليه الصلاة والسلام, والعقبات التي كانت تحول دون إبلاغها, كانت تقتضي منه هذه الشمولية مع التوازن والاعتدال في القوة والسلم أكثر.
يتبن لك ذلك أكثر إذا عرفت أصناف المناوئين لدعوته, فإنهم لا يخرجون عن رجلين:
إما جاهل لا يتصور فحوى دعوته تصورا صحيحا, وهو حال أكثر الناس، فإن من جهل شيئاً عاداه وعادى أهله؛ كما هو حال كثير من الغربيين الذين قد أحكمت القبضة عليهم القوى الإعلامية في الغرب, والتي لا تعرض دعوة النبي الكريم إلا مشوهة, ولا تعرِّف المسلمين إلا "إرهابيين",
وفي الوقت نفسه, تقطع عنهم كل مصدر خارج عن لعبتهم.
وهذه القوى وراءها أيدٍ خفية, وهي المتحكم في الرأي العام الغربي بالقلب والتصريف, ومن المؤسف أن لا يكاد ينفلت عنها مصدر معتبر عندهم.(1/475)
وهذا الاحتكار لمصدرية المعلومات, مع الحصار الثقافي المعرفي, أكبر خطر يهدد الغرب بكليته؛ إذ تصورهم للعالم الخارجي ينبني على جهاز خاضع لأغراض وأهواء رجال.
وهذا الجاهل الذي نتحدث عنه جهله مركب, وهو بحاجة إلى دواءين ضروريين إن رام لمرضه برءا:
الدواء الأول: أن يعترف بجهله وسوء تصوره لهذه الدعوة, وليس أن يركب رأسه ليبقى على خطأه إذا كان منصفا مع نفسه, ومع الناس الذين يتفرع موقفه منهم عن هذا التصور الخاطئ. هذا الاعتراف هو الذي يفتح له الطريق إلى:
الدواء الثاني: أن يُصحَّح له خطأ تصوره هذا, ثم إن أراد الله به خيرا فتح صدره لاستجابة هذه الدعوة العظيمة. وأما إن صحب جهلُه بغضَ من دعا بهذه الدعوة, ومعاداته له وحسده, كان المانع من القبول أقوى, يتطلب دواء أقوى.
فإن انضاف إلى ذلك توهمه أن الحق الذي دعي إليه يحول بينه وبين جاهه وعزه وشهواته وأغراضه قوي المانع من القبول جداً, وقد يحمله بعض ذلك أو كله على معاداة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ومحاربته.
وأحسن من يضرب مثلا لذلك هم النصارى, فإنهم لجهلهم أطبقوا على أن الإله الحق – سبحانه وتعالى عما يقولون – صلب وصفح وسمر ووضع الشوك على رأسه ودفن في التراب ، ثم قام في اليوم الثالث وصعد وجلس على عرشه يدبر أمر السموات والأرض ، فلا يكثر عليهم إذاً أن يطبقوا على جحد دعوة من جاء لبيان غلط عقيدتهم هذه, وأنها كفر وضلال ؟
وكيف ينكر لأمة أطبقت على صلب معبودها وإلهها ثم عمدت إلى الصليب فعبدته وعظمته، وكان ينبغي لها أن تحرق كل صليب تقدر على إحراقه، وان تهينه غاية الإهانة إذ صلب عليه إلهها, أن تجحد حق عبده ورسوله وتكفر به ؟
وكيف يكثر على أمة قالت في رب الأرض والسموات: إنه هبط بذاته من السماء ، والتحم في بطن مريم ، فاخذ منها حجاباً ، وهو مخلوق من طريق الجسم ، وخالق من طريق النفس، وهو الذي خلق جسمه وخلق أمه، وأمه كانت قبله بالناسوت، وهو كان من قبلها باللاهوت ، وهو الإله التام ، والإنسان التام، ومن تمام رحمته تبارك وتعالى على عباده أنه رضي بإراقة دمه عنهم على خشبة الصليب، فمكن أعداءه اليهود من نفسه ليتم سخطه عليهم، فأخذوه وصلبوه وصفعوه وبصقوا في وجهه, كيف يكثر على أمة كهذه أن تقول في عبده ورسوله إنه ساحر وكاذب وملك مسلط ونحو هذا ؟(1)
الرجل الثاني: هو المكابر المعاند الذي قد اتضح عنده وجاهة هذه الدعوة وصدقها, وهو عابد لهواه والشيطان اللذين حالا دون قبوله الحق حيث ظهر. فهذا الرجل هو الذي يحارب ويعادي هذه الدعوة, وإن جر معه الرجل الأول؛ إلا أن ذاك جاهل مخدوع, وهو عالم مصدود, وما صده إلا عبادته لهواه والشيطان. الأمر الذي يفسر لك تفاني هذا الصنف في محاولة إطفاء نور دعوة
النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
وأحسن مثال لهذا, عداوة اليهود لهذه الدعوة منذ بدايتها, فإنهم كانوا على علم بأنها حق؛ لأنهم قد أخبروا بأمرها وأمر صاحبها حتى كانوا منهما على بصيرة, إلا أنهم كانوا يتمنون أن يخرج منهم لا العرب؛ كما قد تعودوه, إلا أن القدر الإلهي جانب أمنيتهم, فكان أن خرج ذلك الداعي من غيرهم, فأخذهم الكبر والحسد عن تصديقه وطاعته, و منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا, ما زالت عداوته تحرق قلوبهم, وهم يستعملون كل ما يمكنهم من وسيلة لدفع الناس إلى أن يقفوا منه موقفهم.
واعلم أن الحسد من أكبر أسباب رد الحق والصد عنه، فانه داء كامن في النفس، ويرى الحاسد المحسود قد فضل عليه وأوتي ما لم يؤت نظيره فلا يدعه الحسد أن ينقاد له ويكون من أتباعه.
وهل منع إبليس من السجود لآدم إلا الحسد ؟!
فإنه لما رآه قد فضل عليه ورفع, غص بريقه واختار الكفر على الإيمان بعد أن كان بين الملائكة.
وهذا الداء بالذات, هو الذي منع اليهود أيضا من الإيمان بعيسى ابن مريم, وقد علموا علماً لا شك فيه أنه رسول الله جاء بالبينات والهدى, فحملهم الحسد على أن يختاروا الكفر على الإيمان وأطبقوا عليه.
هذا وقد جاء المسيح بحكم التوراة ولم يأت بشريعة يخالفهم ولم يقاتلهم، وإنما أتى بتحليل بعض ما حرم عليهم تخفيفاً ورحمة وإحسانا ، وجاء مكملاً لشريعة التوراة، ومع هذا اختاروا كلهم الكفر على الإيمان ، فكيف يكون حالهم مع نبي جاء بشريعة مستقلة ناسخة لجميع الشرائع ، مبكتاً لهم بقبائحهم، ومنادياً على فضائحهم، وقد قاتلوه وحاربوه وهو في ذلك كله ينصر عليهم ويظفر بهم ويعلو هو وأصحابه, وهم معه دائماً في سفال، فكيف لا يملك الحسد والبغي قلوبهم؟
وأين يقع حالهم معه من حالهم مع المسيح وقد أطبقوا على الكفر به من بعد ما تبين لهم الهدى ؟ (1)
وكل من تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم عرف أن استعماله للقوة ليس لإكراه الناس على دينه قط: ? لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ? {البقرة:256}
وأنه إنما قاتل من قاتله وأما من هادنه فلم يقاتله مادام مقيما على هدنته لم ينقض عهده، بل أمره الله تعالى أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له : ? فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ? {التوبة: 7}
ولما قدم المدينة صالح اليهود وأقرهم على دينهم ، فلما حاربوه ونقضوا عهده – كعادتهم - وبدؤوه بالقتال قاتلهم لتأمين خطرهم.
وكذلك لما هادن قريشا عشر سنين لم يبدأهم بقتال حتى بدأوا هم بقتاله ونقضوا عهده، فعند ذلك غزاهم في ديارهم، وكانوا هم يغزونه قبل ذلك كما قصدوه يوم أحد ويوم الخندق، ويوم بدر أيضاً هم جاءوا لقتاله ولو انصرفوا عنه لم يقاتلهم.
وإذا دققنا النظر في التوجيهات التي كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يمليها على جنوده, والغايات التي كانت نصب عينيه, أيقنا بأن المثل العليا والرغبة في هداية الناس كانت تمثل الروح المهيمنة على دعوته وجهاده.(1/476)
وإن تخفيض الضرائب على سكان المناطق المفتوحة, وإبقاء الأملاك الشخصية والمحافظة على البنية الاقتصادية لها يدل على أنه كان تتحكم في مواقف هذا النبي روح الهداية والإعمار, لا الغواية والدمار.
ودراسة الواقع التاريخي لانتشار الإسلام تكشف عن حقيقة اعتناق الناس للإسلام منذ عصر السيرة, وأنه كان يتم في ظروف السلم بنطاق أوسع بكثير من ظروف القتال, فعدد من أسلم بعد الحديبية أضعاف عدد من أسلم قبل الصلح.
وقد استمر انتشار الإسلام بعد انحسار سلطانه العسكري والسياسي, وما زال يمتد في العصر الحديث ويدخل فيه الآلاف والآلاف من جميع قارات العالم, فلا شك إذاً في تهافت مقولة إن الإسلام انتشر بالسيف.(2)
والذين يتشبثون بهذا الهُراء إنما ألجأهم إليه الهروب من القول بأن الاتساع الواسع, والفتوحات العظيمة التي حققها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بسرعتها فائقة, من آياته الدالة على صدق دعوته.
وأنت يكفيك أن تنظر إلى منبع هذا الدين الذي جاء به, وكيف ألف جزيرة العرب على افتراق قلوبها, وكثرة ضغائنها وتعاديها, وكيف ألفهم وجمع قاصيهم لدانيهم, وأزال تلك العداوات, وأحل الأخوة الإيمانية محلها.
ثم اندفعوا في أقطار الأرض يفتحونها قطرا قطرا, وفي مقدمة هذه الأقطار أُمَّةُ فارس والروم أقوى الأمم وأعظمها ملكا, وأوسعها نفوذا, وأشدها قوة, وأكثرها عددا وعدة, ففتحوهما وما وراءها بفضل دينهم, وقوة إيمانهم, ونصر الله ومعونته لهم, حتى وصل الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها.
فصار هذا يعد من آيات الله, وبراهين دينه, ومعجزات نبيه, وبهذا دخل الخلق فيه أفواجا ببصيرة وطمأنينة, لا بقهر وفتنة.
فإذا نظرت نظرة إجمالية إلى هذا الأمر عرفت أن هذا هو الحق الذي لا يقوم له الباطل مهما عظمت قوته وتعاظمت سطوته.
هذا يعرف ببداهة العقول, ولا يرتاب فيه منصف, وهو من الضروريات.
بخلاف ما يقوله طائفة من كتاب العصر الذين دفعهم جحدهم للحقائق إلى التفوه بمثل هذا.
فزعموا أن انتشار الإسلام وفتوحاته الخارقة للعادة مبني على أمور مادية محضة, وحللوها بمزاعمهم الخاطئة, لأنهم قد أهدروا تأثير الأمر الإلهي في الأمور, فراحوا يحللون كل ما يحدث بتحليلاتهم المادية البحتة, وهو غلط بلا شك, لأن المحلل لا يهتدي إلى الحق فيما يحلله إلا إذا شمل تحليله جميع جوانبه, أما أن يقصر نظره في جانب فقط, وإن رأى ما يخرج عنه لواه ليكون منه, فهذا ليس بتحليل منصف.
وهم بصفتهم محللين, وإن لم يؤمنوا – أو يحبوا- بالتأثير الإلهي في الأمور, كان عليهم أن يضعوا هذا الجانب تحت الأشعة, بما أن من يحللون أمرهم هم يؤمنون به, ويعللون به جميع انجازاتهم, و ليس لهم أن يلغوا هذا الجانب نهائيا ليحصروا نظرهم في جانب آخر, ويحللوا الأمور بتحليلات مادية يكذب الواقع إمكانها, فهذا تضليل وليس بتحليل.
وهم يعللون انتشار وانتصار الإسلام بضعف دولة الكاسرة ودولة الرومان, وقوة المادة في العرب.
وهذا مجرد تصوره كاف في إبطاله. فأي قوة في العرب تؤهلهم لمقاومة أدنى حكومة من الحكومات في ذلك الوقت ؟ فضلا عن الحكومات الكبيرة الضخمة, فضلا عن مقاومة أضخم الأمم في وقتها على الإطلاق وأقواها وأعظمها عددا وعدة في وقت واحد, حتى مزقوا الجميع كل ممزق, وحلت محل أحكام هؤلاء الملوك الجبابرة أحكام القرآن والدين العادلة, التي قبلها وتلقاها بالقبول كل منصف مريد للحق.
فهل يمكن تفسير هذا الفتح المنتشر المتسع الأرجاء بتفوق العرب في الأمور المادية المحضة ؟
وإنما يتكلم بهذا من يريد القدح في الدين الإسلامي, أو راج عليه كلام الأعداء من معرفة للحقائق.
ثم بقاء هذا الدين على توالي النكبات, وتكالب الأعداء على محقه وإبطاله بالكلية, من آيات الإسلام, وأنه دين الله الحق, فلو ساعدته قوة كافية ترد عنه عداء العادين وطغيان الطاغين لم يبق على وجه الأرض دين سواه, ولقبله الخلق من غير إكراه ولا إلزام, لأنه دين الحق, ودين الفطرة, ودين الصلاح والإصلاح, ولكن تقصير أهله وضعفهم, وتفرقهم, وضغط أعدائهم عليهم هو الذي أوقف سيره, وصبر الأمر كما ترى.
وأغلق القوس لأرجع إلى الكلام عن رحمة هذا الرجل صلى الله عليه وسلم, فإنها كانت من أسرار تقبل الناس لدعوته, والتفافهم حوله, وحبهم العميق له: ?فبما رحمة من الله لنت لهم, ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ? {آل عمران: 159}
وهو الذي تمكن من أعداءه الذين صبوا عليه وأصحابه جميع أنواع العذاب, وسلبوا أموالهم، وديارهم، وأجلوهم عن بلادهم ، لكنه- صلى الله عليه وسلم- قابل كل تلك الإساءات بالعفو والصفح والحلم قائلاً: (يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم ؟)
قالوا : خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم،
فقال-صلى الله عليه وسلم : ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) .
وقد أنزل الله عليه: ? وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ? {النحل: 126} فاختار أن يعفو عنهم ويصبر على ما كان منهم, وأن لا يعاقب فقال: (نصبر ولا نعاقب)(2)
وهو الذي أرسل إليه أحد أصحابه عند موت ابنه ليحضر عليه الصلاة والسلام, فلما جاء رفع إليه الصبي ونفسه تتقعقع ففاضت عيناه, فقيل له: يا رسول الله ما هذا ؟
فقال: (هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده. وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)(3)
وهو الذي كان يقبل الأطفال, فرآه يوما رجل يقبل الحسن بن علي فقال له: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً. فنظر إليه صلى الله عليه وسلم فقال: (من لا يرحم لا يُرحم)(4)
وهو الذي مر بقرية نمل قد أحرقت, فغضب وقال: (إنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله عز وجل)(5)(1/477)
وهو القائل في الحيوان فضلا عن البشر: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) (6)
وهو الذي سأله رجل فقال: يا رسول الله. إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها. أو قال: إني لأرحم الشاة أن أذبحها.
فقال صلي الله عليه وآله وسلم: (والشاة إن رحمتها رحمك الله)(7) رواه أحمد وصححه الحاكم.
وهو الذي كان يسير ذات يوم مع خادمه " أنس بن مالك"، لابسا بردا نجرانيا (رداء كان يلتحف به)، وكان حاشية هذا البرد غليظة، فأدركه أعرابي فجذبه من ردائه جذبًا شديدًا، حتى تأثر عاتقه صلى الله عليه وسلم من شدة الجذبة، ثم قال له في غلظة وسوء أدب : يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه النبي الكريم متبسما صلى الله عليه وسلم في حلم وعفو ورحمة، ثم أمر له بعطاء .
وهو الذي كان يغرس الرحمة في قلوب أصحابه, ويحببها إليهم فقال: "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش. فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثري من العطش. فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي. فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه فسقي الكلب فشكر الله له فغفر له قالوا: يا رسول الله. وإن لنا في البهائم أجرا؟!
فقال: ( في كل ذات كبد رطبة أجر )(1)
وكان عليه الصلاة والسلام يقول: ( الراحمون يرحمهم الرحمن. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )(3)
وكان ذات يوم في سير مع أصحابه بأرض الحجاز، فمروا بوادِ به شجر كثير الشوك، في وقت الظهيرة، قد اشتد الحر,فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- السير بالتوقف في هذا المكان لينالوا قسطًا من الراحة، فتفرق القوم تحت الأشجار ليستظلوا بها، وكان هو- صلى الله عليه وسلم- ينام تحت ظل شجرة كثيرة الأوراق قد علق بها سيفه، فجاء أعرابي فأخذ سيفه ثم أيقظه
وقال له: من يمنعك منى ؟!،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (في ثبات وثقة بالله) : الله !
فارتعد الأعرابي بشدة، حتى وقع السيف من يده ، فأخذه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، وقال له : من يمنعك مني ؟
فقال الرجل لا أحد.
ولم يقابل النبي الكريم إساءة هذا الأعرابي له بمثلها، بل- صلى الله عليه وسلم- عفا عنه فعاد الرجل إلى قومه فقال: " جئتكم من عند خير الناس "(1).
وهذا غيض من فيض, وكله يشهد لهذا النبي الكريم بأنه: (رحمة مهداة) وأنه غرس معاني الرحمة في قلوب أصحابه, وأوصاهم بها وملأ تعاليمه بذكرها, وشمل بها كل ذي روح من إنسان وحيوان, وسبق بها كل لوائح حقوق الإنسان الحديثة, وكل جمعيات البر والرفق بالحيوان مما يحسبه الناس من خصائص الحضارة الغربية وعطائها.
فلا عجب أن كانت بعثته رحمة ? وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ? { الأنبياء: 107}
وأن يعبر هو عن جوهر رسالته لقوله: ? يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة(4) ?(5)
وقبل إقفال الباب على هذه النقطة يجدر لفت الانتباه إلى حقيقة مهمة جدا, وهي: أن في جانب الحملة العدوانية التشويهية الممنهجة لدعوة النبي الكريم- كما هو مشاهد اليوم في الغرب-
إن في جانب هذه الحملة عاملا آخر سبب كثيرا في سوء تصور دعوة الإسلام لدى الكثير من غير المسلمين, وهو واقع حياة غالبية المسلمين السيئ, والذي لا يساعد في تحبيب الإسلام إلى غيرهم.
هذا شيء, وشيء آخر هو تصرفات جنونية ترد من بعض من ينتسب إلى دعوة الإسلام, وهي مضرة جدا للإسلام والمسلمين. فكانت موضع اهتمام واستغلال فائقين لدى أعداء الإسلام, ليجعلوا منها مصداقا لتهمهم الكاذبة المصلقة بعرض النبي الكريم صلى الله عليه وسلم,
وهو بريء من ذلك كله.
ولهذا يفرح أعداء الدعوة الإسلامية أن يروا مثل هذه التصرفات تقع من بعض من قل فهمه للإسلام؛ ليصيحوا بها في الآفاق : إرهاب !!! إرهاب !!! وهم الذين صنعوا الظروف التي دفعت إلى مثل تلك الحماقات, وإن تطلب الأمر إعمال من يفعله لهم, ليكون لهم مبررا لما يفعلون بالمسلمين أولا, ودليلا على أنهم "إرهابيون" "عنفيون" ثانيا.
والحقيقة المرة: أن كثيرا من المسلمين اليوم قد انقطعوا عن الإسلام وتعاليمه - تعلما وتطبيقا - كل الانقطاع, ولذا لا يحسن ممن يروم التعرف على الإسلام, وتعاليمه ومبادئه السامية, وعلى نبيه الكريم؛ ليعلم أي رجل كان, أن يقلب نظره في حال المسلمين الراهن هنيهة, ثم يلتف ويقول: هذا هو الإسلام !! لا.
بل الأوجه لهذا الذي يقصد فهم الإسلام صحيحا,وتصوره بعيدا عن أي مؤثر أجنبي, أن يعمد بكل إنصاف وتجرد إلى كتب المسلمين الموثقة لدى علمائهم -لا جهالهم- ليقرأ منها الإسلام, ويسأل عما أشكل عليه رجلا منهم يحسن فهم الإسلام وليس من يُسيئه.
والعجيب من هؤلاء الذي يحاولون تشويه صورة النبي صلى الله عليه, فيتهمونه بأنه كان يستعمل القوة ضد أعداءه, أنهم مع ادعاءهم التحضر والتمدن هم الذين لا يترددون؛ لتحقيق أغراضهم الخاصة, في إشعال الحروب الطاحنة التي يروح ضحيتها آلاف الأنفس دون أدنى مبرر, والأمثلة على ذلك يصعب حصرها.
أ ليسوا هم الذين يبالغون في التسلح بهذه الأسلحة التي قد يكفي الواحد منها لإبادة شعوب بأكملها, في الوقت الذي يشاهدون الملايين من بني البشر يموتون بسبب الفقر وسوأ حالتهم المعيشية, وهم ينفقون مليارات في التفنن في هذه الأسلحة ؟
بل الأمَرّ أنهم الذين يشعلون أغلب هذه الحروب الأهلية التي لا يكاد ينجو منها دولة, وذلك لإقصاء من لا يهوونه عن الحكم, وفرض من يشتهون, أو لزعزعة بعض مناطق العالم؛ حتى يجدوا مبررا للتدخل من أجل حل المشاكل وإعادة الاستقرار, فيفتحون بذلك الباب للتمركز العسكري وفرض سيطرتهم على تلك المناطق.(1/478)
وحالة الفقر المدقع التي يعيشها القارة الإفريقية أقرب دليل للتيقن من أن هؤلاء الغربيين لا إنسانية عندهم, ولا رحمة في قلوبهم.
لأنهم هم الذين احتلوا هذه القارة, واستعبدوا أهلها, ثم غصبوا, واستنفدوا جل أو كل خيراتها, ثم قطعوها إلى دويلات متناحرة على حدودها, ثم لما منحوهم الاستقلال المزعوم, سلموا السلطات في كثير من دولها لأناس لا يتأهلون لذلك, ونحَّوا المؤهلين حتى لا ينقطع كبلهم عن الأعناق, وحتى لا يستفيد القارة من خيراتها لتتقدم وتتطور.
جرهم ذلك إلى اغتيال العديد من ذوي الشخصيات البارزة في أفريقيا, أو تحريض الناس ضدهم بالتهم وتشويه السمعة. ومنذ ذلك الوقت أحكموا القبض على هذه القارة الفقيرة؛ حتى تظل أبد الدهر تحت أقدامهم.
وما من شر يوجد في هذه القارة إلا وهم السبب المباشر أو غير المباشر فيه, وكل ما يقولون ويولولون على فقر وسوء أحوال هذه القارة, فإنما هو سب وشتم قبيحان لهم ولتاريخهم.
والنفاق كل النفاق أن تراهم اليوم يتظاهرون بالرحمة والإنسانية تجاه الأفارقة, وكأنهم نسوا ما حدث بالليل.
والإنسان الذي هو إنسان إذا اطلع على حقيق الكارثة التي حدثت في رواندا (Rouanda)
وبروندي (Burundi), وهو يعرف مدى مسئولية هؤلاء الغربيين فيها؛
ليتسائل ويقول: أ لهم قلوب ؟!!
أتدري أنهم لما احمرت الحرب العالمية الثانية(1), وأحاط بهم الألمان من كل جانب, لجئوا إلى أفريقيا, وطلبوا منها الغوث, والإمداد البشري. فأخذوا 80.000 من أبنائها؛ لتضحيتهم وجعلهم في المقدمة, والأماكن الخطرة, وقتل منهم الآلاف؛ حتى يعود لهم حريتهم واستقلالهم.
ثم ما تتوقع أن قابل الغربيون بتضحية هؤلاء الذين أهرقوا دماءهم في ساحة القتال وقدموا نحورهم دونهم ؟
إياك أسأل! ما عساك أن يكون جزاء هؤلاء الذين عرفوا ب ( Tirailleurs Sénégalais ) ؟
دع التاريخ يجيب عن سؤالك المحرج: قتل منهم من لا يحصون كثرة, ودفنوا هنالك في
( NORMANDIE ) ( VERDUN ), ( MARNE ) , ( SALONE ), ( TOULON ), BIRHAKEIM ) وغيرها؛ لا الذين سقطوا فيها ولا أهاليهم طعموا ثمرة التضحية التي قدموها للغرب !!!
ثم رجعوا بمن بقي منهم, والجرحى فيهم كثير –نفسيا أو حسيا-, وقد ملأهم الغضب والأسف؛ جاهلين أن نهاية مطافهم أمر وأمر!
وهو أنهم بعد كل ما حصل منهم, كانوا يتوقعون أن يكون جزاء الإحسان هو الإحسان, لكن لما مدوا أيديهم ليسألوا حقهم وجزاء تضحيتهم, رجع عليهم السلاح الذي كان بالأمس يصوب معهم نفس الهدف؛ ليقتل منهم الكثير, ولما رأوا أهاليهم بعد!!!
وهم يحاولون تبرير هذا الغدر المنتن بأنهم تمردوا!
لكن للسائل أن يسأل: ما الذي أغضب هؤلاء الذين لا يستحقون أن يغضبوا حتى تمردوا عليهم, وقد أراقوا دماءهم من أجلهم ؟
وهل من الممكن أن يصدر منهم تمرد يستحق أن يقابل بشتم؛ فضلا عن قتلهم ؟
ثم لم يسووا في المعاملة والمكافئة بين الغربيين الذين شاركوا فيها, والأفارقة الذين كانوا معهم جنبا إلى جنب. أين مبدأ المساواة الذي ينادون به في الآفاق ؟
هؤلاء الذين سودوا تاريخ العالم ببغيهم وعدوانهم, هم الذين وصل بهم الجرأة والحماقة إلى اتهام نبي الرحمة بالعنف واستعمال القوة في دعوته !!! ألا يستحيون ؟!!
أ ليسوا هم الذين يبيدون القرى بأكملها في حروبهم العدوانية هذه, ويموت فيها المئات من الأطفال والنساء وكبار السن؛ ثم لا يكون منهم إلا إطلاق بضع كلمات غابرة: "نحن متأسفون لهذه الحادثة التي تخرج عن إرادتنا" ونفوس الأبرياء تذهب هدرا ؟!!!
أ ليسوا هم الذي يطلقون الرصاص المعد للدبابات, والغازات الملوثة على الأطفال في فلسطين ؟
طفل لا يجاوز السابعة من عمره, خرج يعبر عن يأسه وآلامه المتراكمة؛ بإلقاء حصى صغيرة على هؤلاء الجنود المحتلين لأرضه, والذين حرموه حق العيش في سلام, والجنود الذين قد تسلحوا إلى الأسنان, فما كان من هؤلاء إلا أن صوبوا أسلحتهم بكل شراستها ودقتها إلى الطفل وهو يستغيث, ويتقي منهم بكل ما يصيب؛ لكن كان نصيبه الموت, فقتلوه بهذا الرصاص الذي يقطع العروق, ويمزق القلوب, ويكسر العظام, أ يفعل هذا إنسان ؟
وما هي إروشيما (Hiroshima) ونغازكي (Nagasaki) ؟
وماذا فعلوا في فيتنام (Vietnam) ؟
وماذا حدث ويحدث بالفعل في شيشان ؟
وغير ذلك من الأمور التي يتقطع القلب بتذكرها فضلا عن ذكرها. إلا أن المؤسف في الأمر أنهم بالوسائل الإعلامية والترويجية التي يملكونها, قد استطاعوا اللعب بعقول الناس, وقلب الحقائق في أنظارهم, أو تغطيتها عنها.
5) فمن الضروري أن يكون ذاك الرجل صاحب سياسة ونظام عادل يصلح به أمور الناس.
ولما كانت سياسات الناس إنما تستمد من نتائج أفكارهم, وهي قاصرة؛ قد تستحسن الشيء اليوم, وتستنكرها غدا, أو ترى النفع فيما فيه الضر, والعكس كذلك, كان من لوازم تلك السياسة أن تستمد وتستقى من الوحي الإلهي المعصوم؛ لتكون صالحة لكل زمان ومكان.
ولأن الناس لا يفصل بين نزاعهم إلا كتاب منزل من السماء, وإذا ردوا إلى عقولهم فلكل واحد منهم عقل(1).
الأمر الذي يفسر لك سبب الصراع الساخن في عالمنا اليوم, والذي يعبر عنه بعضهم باصطدام الحضارات, ولا اصطدام, وإنما كل ما هناك أن الغربيين ومن نحى منحاهم, زعموا أنهم أعقل البشر, ولذا يستفرغون أقصى وسعهم للانفراد بالتحكم في سير العالم, وأن لا يشاركهم فيه غيرهم.(1/479)
فإنهم لا يسمحون لأية نظرية مؤثرة في توجهات الناس وهي مخالفة لأهوائهم, أن تقوى على وجه الأرض, فقد حاولوا حتى استطاعوا تمييع جميع نظريات العالم إما بالقوة أو المكر حتى سايرت أهوائهم, فلم يبق أمامهم إلا الإسلام صامدا, ومع أنه دين, إلا أنه منهج حياة للعالمين, ولهذا تراهم اليوم أعلنوا الحرب ضد الإسلام والمسلمين بالفكر والمكر تارة, والقهر والنحر أخرى.
بيان كمال السياسة الإسلامية, وأنها الأصلح للبشر في كل زمان ومكان
لما كان المصالح البشرية التي بها نظام الدنيا راجعة إلى ثلاثة أمور:
الأول: درء المفاسد, وحاصله: دفع الضرر عن ستة أمور:
1- الدين: وقد جاء الإسلام بالمحافظة على الدين, وجعله في المقدمة من مقاصده؛ لأن الناس بلا دين صحيح لن يقوموا بالغاية التي من أجلها جيء بهم إلى هذا الكون.
وبما أن الإنسان مكون من بدن وروح, وهو حيوان كغيره ببدنه, وإنسان مفضل على غيره بروحه, فإنه لا بد إذاٌ إن أراد الحفاظ على إنسانيته أن يهتم بحياة روحه كما يهتم بحياة بدنه وأكثر, والروح له غذاء يغذيه؛ كما أن للبدن غذاء يغذيه, فمتى انقطع الغذاء عن أحدهما هلك بلا شك.
والإسلام يحافظ على هذه الحياة أكثر مما يحافظ على حياة البدن؛ لأنها أهم, وهذا من مميزات هذا الدين العظيم: ? يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ? {الأنفال: 24}
أقبل على الروح واستكمل فضائلها --- لأنك بالروح لا بالجسم إنسان
وحفظ الدين نفسه يضمن لنا حفظ الأمور الخمسة الآتية: النفس, والعقل, والعرض, والمال, والنسل, وما تفرع عنها, فإن حفظها من أعظم أهداف الدين.
ومن حفظ الدين صد جميع الأبواب التي يدخل منها الانحرافات العقدية والفكرية على المجتمع. أما ترك الأفكار والعقائد المنحرفة الهدامة تختطف أبناء المجتمع واحدا بعد واحد, وترمي بهم إلى ما يستقذره البهائم؛ من أنواع الضلالات والانحرافات؛ باسم حرية الأفكار!! فهذا لا يفعله قيادة مسئولة.
نعم ? لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ? {البقرة: 256} وكذلك ? قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر? {الكهف: 29} وهذا لا يعنى إطلاق الصراح للأفكار والنظريات الهدامة أن تغزو المجتمع, لا !, ولكن على القيادة – إن كانت مسئولة- أن تغرس في نفوس أبناءها العقيدة الصحيحة, وأن تقف حيلولة دون انحرافهم في العقيدة والفكر؛ لأن الدين هو أنفس ما يملكونه, فإذا لم تحفظها لهم, فماذا تحفظ ؟!
2- الأنفس: وشرع في الإسلام القصاص؛ محافظة على الأنفس, وإلا ذهبت الأنفس هدرا: ? ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ? [البقرة:179]?كتب عليكم القصاص في القتلى ? [البقرة: 178], ? ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ? [الإسراء: 33] ? ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ? {النساء: 29}
ولا يتوقف حفظ النفس عند المنع من قتلها فحسب؛ بل ومن أي اعتداء عليها بدون حق؛ سواء كان على مستوى الأفراد أو المجتمعات؛ خلافا لسياسة الدول الغربية.
ففي الوقت الذي ينادون فيه بحقوق الإنسان وحريته, نجدهم يبيدون الشعوب ويعتدون عليها دون أي حق.
ونجدهم يبررون جرائمهم بدعوى "الحرية" و "حقوق الإنسان " إلا أن الإنسان الذي له هذا "الحق" وهذه "الحرية" إنسان خاص عندهم, وليس كل إنسان, وتفسيرهم للحرية والحقوق إنما هو بما يتمشى وأهوائهم, لا العدل والمساواة.
والحرية التي يزعمونها في بلدانهم, إنما هي لامبالاتية وهمجية تنبئ بفشل أنظمتهم في سياسة أمور الناس, وتربية المجتمع على مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب.
لأن من أكبر مقاصد وضع الأنظمة, وسن السياسات, وتشكيل الحكومات, أن تحفظ للمجتمعات حياتها, وأمنها, وتطورها نحو الأفضل والأكمل في الماديات والمعنويات, وليس أن يصل بها في الماديات إلى القمر, ويخر بها في المعنويات إلى ما تحت الأرض. ومتى كان عجز النظام عن تأدية هذا الدور, وترك الناس شذر مذر كالأنعام, حرية ؟
وهم أبعد الناس من مبدأ المساواة والعدالة بين الشعوب, بل العنصرية هي المهيمنة على نظرهم نحو حقوق الآخرين, وإنما ينادون بهذه "الحقوق" والحرية" حيث كانت "الحقوق" أو "الحرية" لهم, أما إذا كانت لغيرهم فلا "حق" ولا "حرية" , وإلا فالشعوب التي يستعبدونها قوة أو فكرا, هم أيضا يستحقون "الحقوق" والحرية"
وإلا؛ لماذا نرى أمريكا التي تترأس تشكيل هذه المحاكم الدولية وإقامتها لمعاقبة من يسمونهم: "مجرمون" لماذا تستثني من صلاحيتها محاكمةَ الأمريكي ؟
ولماذا لا تقبل من أية سلطة خارج أمريكا أن تطالب بمحاكمة الأمريكي؛ مهما اشتد جرائمه ؟
وكأن الفرد الأمريكي فرد خاص !
أ هذا العدل والمساواة ؟
ومع ذلك تبعهم على جورهم بقية دول الغرب؛ إذ لو رفضوا هذا الظلم لما قامت هذه المحاكم في يوم من الأيام. نعم العالم بحاجة إلى قوة دولية تحافظ على أمن الدول ومصالحها؛ لكن على أساس العدالة والمساواة؛ لا الظلم والمحاباة.
ودعاياتهم "الحرية" و "الحقوق" أصبحت آلة قوية يستخدمونها لتضليل الشعوب, وتغطية الأعين عن جورهم وعدوانهم على الناس, أو للضغط على ما لا يشتهون من حكومات, وتحريض العامة عليها.
وليس من الضروري أن يوافقهم الناس الذين يطالبونهم بهذه "الحقوق" و "الحرية" على مفهومهم لها, ففرضها إذاً على الناس كافة بمفهومهم الخاص تحكم واستبداد, بل قد سبب هذا الفرض في تفكك وزعزعة الكثير من الدول؛ كما هو الشأن في غير واحد من مناطق العالم.
3- العقول: وقد جاء الإسلام بالمحافظة عليها أحسن المحافظة: ? يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ? {المائدة: 90}(1/480)
وفي الحديث : ( كل مسكر حرام, وما أسكر كثيره فقليله حرام(1) ), ولأجل المحافظة على العقول وجب الحد على شارب الخمر.
وهذا الحديث قاعدة كلية تطرد في جميع المواد التي يتضرر عقل الإنسان بتعاطيها.
ومما يحزن أن نرى اليوم هؤلاء الذين يدعون أنهم أكمل الناس عقلا, قد أهانوا هذا العقل كل هوان, وعطلوا دوره في حياة الناس.
4- النسل : وللمحافظة عليه شرع الإسلام حد الزنا : ? الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ? {النور:2}
وليس حفظ النسل مقتصرا على المنع من خلطه وتدنيسه فقط, بل ومن الضياع والانقراض.
ولهذا شرع الإسلام النكاح, وقننه, ونظمه؛ صيانة له من الانحلال. لأنه ببقاءه طاهرا نظيفا سيبقى المجتمع طاهرا نظيفا, وإلا فلا.
فيا عجبا من قوم يحافظون كل الحفاظ على أنساب الحيوان الخسيس وبقاءه, ويقضون على أنساب البشر الشريف وسر بقاءه؛ بالعديد من الأساليب والوسائل المدهشة !!!
فأباحوا اللواط, والدعارة, وجميع أنواع الشذوذ الجنسية التي يترفع عن يعضها الحيوانات, بل الجنس لا يعدو عندهم آلة لقضاء الشهوة الحيوانية فحسب, وعلى أي طريق كان.
ومفهوم حفظ النسل البشري أوسع مما يتصور البعض, وحتى أنماط الحياة التي يسلكها المجتمعات تدخل فيه.
فكان لزاما على الأنظمة التي تسعى للحفاظ على النسل البشري أن توجه المجتمع بكامله نحو النمط الذي يساعد على حفظ هذا النسل؛ لا على ضياعِه وانقراضِه.
وليس منه في شيء, ما هو عند بعض دول الغرب, حيث أباحوا للرجل المتزوج الكونَ مع أية امرأة يشتهيها, دون أدنى رابط من روابط النكاح, بل هو زنى وسفاح, ولو أراد أن يتزوجه لتكون زوجته الثانية, فإن كان بينهم أولاد من ذلك النكاح الطيب, كان لهم أب رسمي وأم رسمية, وظفروا بتربيتهما وعنايتهما الضروريتين, ويقوى به مجتمعهم, منعوه من النكاح !!!
أي اصنعوا كل شيء إلا النكاح !!! أيساعد مثل هذا النظام على حفظ صلاح المجتمع ؟
نظام يرضى للمرأة أن يصل بها الذل والهوان إلى أن تتاجر بنفسها, ولا يرضى لها أن يجمعها زوجها بامرأة أخرى في نكاح حلال طاهر طيب, وإن اتفق عليه جميع الأطراف(1) !
وكذلك للحفاظ على النسل؛ منع الإسلام من الاعتداء على الأولاد بالقتل أو غيره, وذلك منذ أن كونه إنسانا, بأن ينفق فيه الروح وهو في بطن أمه, فإنه إنسان له ما لغير من حقوق, خلافا لمن قصر نظره إلى "الحقوق" على حالة ما بعد الولادة:
? ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ? {الأنعام: 151}. ? ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئاً كبيراً ? {الإسراء: 31}
5- الأعراض: للمحافظة عليها شرع الإسلام جلد القاذف ثمانين: ? والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمنين جلدة ? {النور: 4}.
ومتى لم يكن هذا التأديب اُنتهكت الأعراض, وتُجرأ عليها بدون حق.
وكذلك حرم الغَيبة والبَهت, والاستطالة على أعراض الناس بجميع أنواعها.
6- الأموال: بحفظها من الضياع والتبذير والاحتكار وسوء الاستعمال. والمال بمفهومه الواسع يراد به جميع الخيرات المادية بمختلف أنواعها. ? والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله ? {المائدة: 38} ? ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ? {النساء: 5} ? ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ? {النساء: 29}
والنظام المالي الإسلامي هو الكفيل الوحيد للناس الحفاظ على أموالهم لا الذهاب بها. وأقرب مصداق لذلك أنه أمر بالحجر على الإنسان من التصرف في ماله إذا كان تصرفه مضرا به أو بغيره.
وهو من محاسن الشريعة, حيث منعت الإنسان من التصرف في ماله الذي كان في الأصل مطلق التصرف فيه, ولكن لما كان تصرفه ضرره أكثر من نفعه وشره أكبر من خيره حََجَر عليه الشارع حجراً للتصرف في ميدان المصالح, وإرشادا للعباد أن يسعوا في كل تصرف نافع غير ضار.(1)
وتضيع هذه المصالح الضرورية إذا لم يكن للناس نظام يتكفل لهم الحفاظ عليها.
الأمر الثاني: جلب المصالح, وهذه المصالح على مراتب ينضوي تحتها جميع المصالح المتبادلة بين العباد؛ كالمآكل, والمشارب, والملابس, والمناكح, والبيوع, والإجارات وغيرها.
وهذه المصالح أيضا قد حافظ عليها النظام السياسي الإسلامي حق المحافظة, لأنه لا بد للناس منها في تعايشهم. ومتى درست الفقه الإسلامي قطعت بذلك, لأنه ما ترك جزئية من هذه المصالح إلا وفصلها تفصيلا.
وقد أباح الشريعة الإسلامية البيوع, والإجارات, والشركات, وأنواع المعاملات التي تتبادل فيها المعوضات بين الناس في الأعيان والديون والمنافع وغيرها.
فقد جاءت الشريعة الكاملة بحل هذا النوع, وإطلاقه للعباد, لاشتماله على المصالح في الضروريات والحاجبات والكماليات, وفَسَحَت للعباد فسحا صلحت به أمورهم وأحوالهم, واستقام معايشهم.
وشرطت الشريعة في حل هذه الأشياء الرضا من الطرفين, واشتمال العقود على العلم, ومعرفة المعقود عليه, وموضوع العقد, ومعرفة ما يترتب عليه من الشروط.
ومنعت من كل ما فيه ضرر وظلم من أقسام الميسر والربا والجهالة.
فمن تأمل المعاملات الشرعية, ورأى ارتباطها بصلاح الدين والدنيا, شهد لله بسعة الرحمة وتمام الحكمة, حيث أباح لعباده سبحانه جميع الطيبات, من مكاسب ومطاعم ومشارب, وطرق المنافع المنظمة المحكمة.(2)
وحديث واحد يكفي في جعل معاملات الناس على الخير والصلاح, وهو ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا . أو قال : حتى يتفرقا ؛ فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما(1) )(1/481)
أي صدق البائع في إخبار المشترى مثلا وبين العيب إن كان في السلعة , وصدق المشتري في قدر الثمن مثلا وبين العيب إن كان في الثمن , ويحتمل أن يكون الصدق والبيان بمعنى واحد وذكر أحدهما تأكيد للآخر (2).
هذا الحديث قاعدة كلية مطردة في جميع معاملات الناس, وليس قاصرا على البيع فحسب, بل يجب أن تنبني المعاملات كلها على هذين الأصلين العظيمين.(3) ولو أن الناس التزموا بهذه القاعدة العظيمة لصلحت جميع معاملاتهم.
الثالث: التحلي بمكارم الأخلاق, والجري على محاسن العادات: ومن فروعه تحريم المستقذرات, وما شرعه بين الخلف من الحقوق التي هي صلاح وخير وإحسان وعدل وقسط وترك للظلم.
وذلك كالحقوق التي أوجبها وشرعها للوالدين, والأولاد, والأقارب, والجيران, والأصحاب, والمعاملين, ولكل واحد من الزوجين على الآخر.
وكلها حقوق وضروريات وكماليات, تستحسنها الفطر والعقول الزاكية, وتتم بها المخالطة, وتتبادل فيها المصالح والمنافع, وبحسب حال صاحب الحق ومرتبته.
وكلما فكرت فيها رأيت فيها الخير وزوال الشر, ووجدت فيها من المنافع العامة والخاصة, والإلفة وتمام العشرة: ما يشهدك أن هذه الشريعة كفيلة بسعادة الدارين.
وترى فيها هذه الحقوق تجري مع الزمان والمكان والأحوال والعرف, وتراها محصلة للمصالح, حاصلا فيها التعاون التام على أمور الدين والدنيا, جالبة للخواطر, مزيلة للبغضاء والشحناء.
وكل هذه المصالح فلا يكون شيء أشد محافظة عليها بالطرق الحكمية السليمة من دين الإسلام
فتبين بهذا أن اتباع سياسة الإسلام كفيل للمجتمع بجميع مصالحه.(4)
وكذلك الحدود التي شرعها الإسلام, وينظر إليها البعض نظرة قاصرة, حيث لم يجاوز نظره موضع الألم من جسم الجاني, بغض النظر عن المصالح المترتبة عليها, من إقامة العدل, ومجازاة الظالم وردعه, وكبح الطامعين في الإتيان بمثل جريمته عنه, وغير ذلك كثير.
ذلك لأن الجرائم والتعدي على الحقوق من أعظم الظلم الذي يخل بالنظام, ويختل به الدين والدنيا, فوضع الشارع للجرائم والتجرئات حدودا تردع عن مواقعتها, وتخفف من وطئتها, من القتل, والقطع, والجلد, وأنواع التعزيرات التي ليست غايات, وإنما هي وسائل يحافظ بها على حياة الناس ومصالحهم.
وكلها فيها من المنافع والمصالح الخاصة والعامة ما يعرف به العاقل حسن الشريعة الإسلامية وكمالها, وأن الشرور لا يمكن أن تقاوم وتدفع دفعا كاملا إلا بالحدود الشرعية التي رتبها الشارع بحسب الجرائم قلة وكثرة, وشدة وضعفا.(1)
مبدأ العدل والمساواة في النظام الإسلامي
إننا إذا فحصنا الأنظمة السائدة اليوم في العالم, نجد أنها دائرة بين أمرين: ظلم الضعفة الفقراء, وتوغيلهم فيما هم فيه, أو ظلم الأقوياء الأغنياء وإعلان الحرب ضدهم, أو الأمرين معاً.
والنظام الوحيد الذي يطبق مبدأ المساواة بين الراعي والرعية, والضعيف والكبير, والناس فيه سواسية كأسنان المشط, ولم يعط لأحد امتيازات ويحرم منها غيره بدون حق، ويطبق الأحكام على الناس جميعًا, هو الإسلام.
واقرأ إن شئت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم, وتاريخ خلفاءه الذين تخرجوا في مدرسته, كيف كان تطبيقهم لهذا المبدأ, ولا يحابون فيه أحدا كائنا من كان.
ففي فتح مكة حدث أن سرقت امرأة من كبرى قبائل قريش, فضاق قومه بذلك ذرعا ليقينهم أن الخبر إذا بلغ الحاكم صلى الله عليه وسلم سيقيم عليها الحد, فتناجون الأمر بينهم ثم أمروا أسامة بن زيد ليشفع لها من الرسول صلى الله عليه وسلم, وهو حب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وابن حبه, فجاء يشفع فيها إلي رسول الله صلى الله عليه وعلى وسلم فغضب عليه
النبي صلى الله عليه وعلى وسلم غضبا شديدا, وأنكر شفاعته قائلاً : (أتشفع في حد من حدود الله ) وهذا استفهام إنكار واستفهام استغراب أن تقع الشفاعة في حد من حدود الله من هذا الصحابي الجليل, ثم قام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فخطب وقال: ( إنما ضل الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه, وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد, وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها (2))
وفي هذا الحديث إقرار لمبدأ المساواة أمام أحكام الشريعة وتحذير للحكام من أن يقيموا الحدود على الضعفاء دون الأقوياء الذين يحاولون بالوساطات والضغوط تخطي الأحكام.. ولا شك أن بقاء الدول واستقرار المجتمعات منوط بالدرجة الأولى بإقرار العدالة وإنما يجد خصوم الدول السبيل إلى القضاء عليها من خلال الظلم الذي يقع منها فهو مبرر قوي لاجتماع المظلومين وحافز للتضحية من أجل إسقاطها.(3)
وقد كان هلاك الأمم السابقة أنهم كانوا ينفذون العقوبة على الضعفاء والفقراء، ولا ينفذونها على الأقوياء والأغنياء ، فجاء الإسلام وسوى بين الناس في الحقوق والواجبات .وقد طبق رسول الله- صلى الله عليه وسلم حدود الله على الجميع بلا استثناء، حتى إنه- صلى الله عليه وسلم- أقسم لو أن فاطمة بنته سرقت لقطع - صلى الله عليه وسلم- .
و يوم بدر كان المسلمون يتعاقب كل ثلاثة على بعير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو لبابة وعلي بن أبي طالب يتعاقبون على بعير واحد ، فقالا : نحن نمشي عنك يا رسول الله، فقال :
( ما أنتما بأقوى مني ، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما)(2).
وقبل موته صلى الله عليه وسلم وقف أمام الناس وقال: ( أيها الناس، من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد مني اليوم ـ أي فليقتص مني اليوم ـ، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد مني اليوم، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليستقد مني اليوم قبل أن لا يكون هناك دينار ولا درهم ) من تتصور من هؤلاء القادة "الديمقراطيين" أن يجرأ على هذا ؟(1/482)
فالإسلام هو النظام الوحيد الذي يضمن للعالم الحكم بالسوية, ونسخ الطبقية في الحقوق والواجبات، والفوارق بين الأفراد في المعاملات، بالأخوة والمساواة في جميع ذلك.
وقد بان فشل هذه الأنظمة التي تدعي الحفاظ على حقوق جميع الرعية بالسوية, وأن هذه الدعوى يناقضها واقعها، وسياستها، وقوانينها.
فحقوق الإنسان التي تتنازع الأمم شرف وضعها، قد وضعها وطبقها النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بقرون، وسار على نهجه الخلفاء الراشدون من بعده، وكثير من فضلاء الأمة الإسلامية الذين أناروا تاريخ العالم؛ مثل عمر بن عبد العزيز وغيره.
وفيما يأتي نماذج من عدالة هؤلاء, وتطبيقهم مبدأ المساواة بلا استثناء :
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول للناس : « أما والله ما أرسل عمّالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم ؛ ولكن أرسلتهم ليعلّموكم دينكم وسنة نبيكم ، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إليّ ، فوالذي نفسي بيده إذن لأقصنّه منه، وقد رأيت رسول الله صلوات الله وسلامه عليه يقصّ من نفسه ».
وتخاصم عمر رضي الله عنه - وكان أمير المؤمنين - ورجل أمام شريح، فاختار خصمه شريحا للفصل بينهما ، فحكم شريح على عمر، فعيّنه عمر قاضيًا على الكوفة.
وأسلم ملك نصارى العرب جبلة بن الأيهم بن جبلة في زمان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه, فلما بلغ عمر إسلامه فرح بإسلامه، ثم بعث يستدعيه ليراه بالمدينة . ، فركب في خلق كثير من قومه . قيل : مائة وخمسين راكباً .
فلما سلم على عمر رحب به عمر وأدنى مجلسه، وشهد الحج مع عمر في هذه السنة، فبينما هو يطوف بالكعبة إذ وطء إزاره رجل من بني فزارة فانحل، فرفع جبلة يده فهشم أنف ذلك الرجل .
ومن الناس من يقول : إنه قلع عينه، فاستعدى عليه الفزاري إلى عمر ومعه خلق كثير من بني فزارة، فاستحضره عمر فاعترف جبلة .
فقال له عمر : أقدته منك ؟
فقال : كيف، وأنا ملك وهو سوقة ؟ .
فقال : إن الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله إلا بالتقوى .
فقال جبلة : قد كنت أظن أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية .
فقال عمر : دع ذا عنك، فإنك إن لم ترضِ الرجل أقدته منك .
وأصر عمر على حتمية الاقتصاص منه؛ حتى أدى الأمر إلى فرار الرجل إلى الشام, والخروج عن الإسلام, كل ذلك وأمير المؤمنين يرى أن عليه الأخذ بحق هذا المظلوم الضعيف.
ولقد لقن عمر رضي الله عنه الناس بموقفه هذا درسا في غاية الأهمية, وهو أن عز الإسلام إنما هو في التزام العدالة والمساواة, وإن أدى ذلك إلى نفور بعض من في نفسه الكبر والتعالي على الناس عنه.
ضاع درع عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه, وهو أمير على المؤمنين في ذلك الوقت, فبحث عنه حتى وجده عند يهودي، فادعى كل واحد منهما أن الدرع له, فاحتكما إلى شريح ، فسأل عليّ بن أبي طالب البيّنة فعجز عن إقامتها ، فوجّه اليمين إلى خصمه اليهودي فحلف، فقال شرح : البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر ، وحكم بالدرع لليهودي ، فاستغرب اليهودي ذلك الأمر، وقال : قاضي أمير المؤمنين يحكم لي عليه! ، وأسلم .
إن شئت المزيد من هذه النماذج المتفردة ارجع إلى تاريخهم, فإنه مملوء بها. وكون هؤلاء الأفذاذ هكذا واحد من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم الكثيرة.
وفي الختام أقول: يتمحض من استظهار هذه الجوانب الخمسة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم شخصية لم يعرف التاريخ له مثيلا, وأن العالم - بما فيه من المؤمنين والكافرين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم - مدين له بالاحترام والتوقير؛ للتغيير والإصلاح اللذين أوجدهما في العالم بأكمله. وأن عدم الاعتراف بهذه الحقيق عناد ومكابرة.
والله أعلم, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أخوكم في الله: أبو محمد مور كِبِي, خريج كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية (المدينة النبوية)
البريد الإلكتروني: morkebe@hikmah.org
الموقع الخاص: www.guiss.net
داكار - السنغال.
================
نظرات شرعية في فكر الدكتور حسن الترابي
سليمان بن صالح الخراشي
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن باز إلى حضرة الأخ الكريم الدكتور حسن الترابي وفقه الله لما فيه رضاه آمين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..... أما بعد :
فأشفع لمعاليكم بهذا نسخة من الرسالة الواردة إلي ممن سمى نفسه (عبد البديع صقر ) صاحب مؤسسة الإيمان، المؤرخة في 24/11/1400هـ راجيًا من معاليكم بعد الاطلاع عليها التكرم بالإفادة عن صحة ما نسب إليكم فيها من الآراء ؛ لنعرف الحقيقة والشبهة التي أوجبت لكم هذه الأقوال إن صحت نسبتها إليكم ؛لمناقشتكم فيها على ضوء الأدلة .
ونسأل الله لنا ولكم وللمسلمين الهداية والتوفيق وصلاح النية والعمل
إنه خير مسؤول . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .. وبعد :
فهذه نظرات شرعية في فكر الدكتور حسن الترابي - هداه الله - ، الذي أثر على كثيرين من محبي الإسلام في هذا الزمان ، سواء في بلده ( السودان ) ، أو في بلاد أخرى ، فاغتروا بفكره الحركي وتناسوا لأجله جميع انحرافاته الخطيرة - كما سيأتي - ، فلم يعرجوا عليها أو يناصحوه في شأنها إلا قليل منهم لم يرضوا لأنفسهم أن يغشوا الأمة أو يغرروا بشبابها ، مجاملة له أو خشية على انقسام الحركة الإسلامية - كما يقال - .(1/483)
وقد آثرت جعل هذه النظرات تعريفا للقارئ بأهم الردود التي صدرت في التنبيه على أخطاء الترابي وانحرافاته ، من خلال تهذيب المهم منها ؛ ليكون شباب الإسلام على علم بها ؛ فيتجنبوها ويرشدوا من وقع فيها ؛ ولعلها تكون موقظة لبعض الدعاة عندنا الذين سبق لهم ثناء وتزكية للترابي ! أن يراجعوا موقفهم . وهذا العمل مساهمة مني في ( تصفية ) الساحة الإسلامية في هذا الجانب ؛ تمهيدًا لعودتها - إن شاء الله - أمة متحدة ذات عقيدة واحدة .. وما ذلك على الله بعزيز . فأقول مستعينًا بالله :
تعريف بالدكتور الترابي :
وُلد د. حسن عبد الله الترابي سنة 1932 من عائلة دينية من الطبقة المتوسطة، وتتلمذ على يد والده، شيخ طريقة صوفية أقلية، فحفظ القرآن الكريم صغيرا بعدة قراءات، وتعلم علوم اللغة العربية والشريعة في سن مبكرة على يد والده، وجمع في مقتبل حياته أطرافا من العلوم والمعارف لم تكن ميسرة لأبناء جيله خاصة في السودان.
تزوج الترابي من وصال الصديق المهدي شقيقة رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي زعيم حزب الأمة.
تدرج في سلك التعليم حتى حصل على إجازة الحقوق من جامعة الخرطوم، ثم على الماجستير من جامعة بريطانية في 1957، ثم الدكتوراة من السوربون الباريسية في 1964، وأجاد الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وحصَّل صنوفا شتى من المعارف والثقافات الغربية مما أثر في فكره - كما سيأتي - .
وبعد عودته إلى وطنه تولى الترابي عمادة كلية الحقوق بجامعة الخرطوم .
أصبح الترابي الأمين العام لجبهة الميثاق الإسلامية لدى تشكيلها. وعن هذه الجبهة انبثقت جماعة الإخوان المسلمين في السودان، واعتُقل ثلاث مرات خلال السبعينيات، في ظل نظام الرئيس جعفر نميري، ومع ذلك شغل في 1979 منصب النائب العام، وأيد الترابي قرار نميري إقرار الشريعة الإسلامية في 1983، وبعد سقوط نظام نميري في 1986، شكّل الجبهة القومية الإسلامية .
انفصل الترابي عن جماعة الإخوان ، وتصاعدت الخلافات بينهم نظرًا لخروجه عن نهج الجماعة وطريقتها في الدعوة والتربية ، وانحرافاته التجديدية ! التي خرج بها عن إجماع المسلمين ؛ مما أدى بهم إلى التشهير به والرد عليه .
في يونيو 1989، تحالف الترابي مع الفريق عمر البشير، لقلب الحكومة المنبثقة عن انتخابات ديموقراطية بقيادة صهره زعيم حزب الأمة الصادق المهدي، وطبع اتجاه الترابي السياسة الخارجية للسودان على خلفية دعم المدّ القومي الإسلامي؛ بهدف التحرر من الهيمنة الأميركية الصهيونية. وفي أبريل 1991، أسس المؤتمر الشعبي الإسلامي الذي نُصِّب أمينًا عامًا له، ليشكل منبرًا للقضايا الإسلامية، وعقد المؤتمر الذي يضم حركات وتنظيمات إسلامية من العالم أجمع دورتين في ديسمبر 1993، وفي أبريل 1995 في الخرطوم .وفي فبراير 2000، أغلقت السلطات مقر المؤتمر.
انتُخب الترابي رئيسًا للمجلس الوطني (البرلمان) في 1996 و1998، لكن علاقاته توترت مع البشير، الذي عارض هيمنته على المؤتمر الوطني، الذي حلّ محل الجبهة القومية الإسلامية التي تم حلها في 1989، وتحول في ما بعد إلى حزب سياسي بموجب قانون التوالي السياسي، الذي أتاح تشكيل أحزاب سياسية، وبدأ العمل به مطلع 1999.
ووجه البشير الذي تتلمذ على يد الترابي ضربة قاصمة لأستاذه مع إقصائه عن رئاسة المجلس الوطني وحله في 12 ديسمبر 1999، وإعلان حال الطوارئ وتعليق بعض مواد الدستور. وجاء القرار بعد 48 ساعة من تصويت النواب على تعديلات هدفها الحد من صلاحيات رئيس الدولة.
وفجّر القرار الصراع على السلطة بين الرجلين، وداخل المؤتمر الوطني. وبدأ العد العكسي للتحالف بين قطبي السلطة في السودان. ووافق الترابي في 23 يناير 2000 على مقترحات المصالحة والتعايش مع البشير، مكتفيًا بمهام تنظيمية داخل الحزب، بعيدًا عن مقاليد الحكم، مع اتجاه البشير للتقارب مع جيرانه العرب والأفارقة، وأبعد أنصار الترابي عن المناصب الحكومية مع تشكيل الحكومة، وتعيين حكام جدد للولايات في 24 يناير 2000.
من تآليفه :
1 - الصلاة عماد الدين .
2 ـ المشكلة الدستورية.
3 ـ الإيمان
4- المصطلحات السياسية في الإسلام.
5- ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية.
6- الصحوة الإسلامية والدولة القطرية في الوطن العربي.
7 - خصائص الحركة الإسلامية المعاصرة.
8 - تجديد أصول الفقه الإسلامي.
9- المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع .
( المرجع : مجلة المجتمع ، العدد 136 - موقع اسلام اون لاين - موقع قناة الجزيرة - مع إضافات يسيرة ) .
ملخص ردود العلماء والدعاة على الترابي :
1- رد الدكتور مفرح بن سليمان القوسي :
قال - حفظه الله - في كتابه " الموقف المعاصر من المنهج السلفي في البلاد العربية " ( ص 226 - 233 ) :
( الدكتور حسن عبد الله الترابي : وهو من أبرز الإسلاميين العقلانيين الذين تبنوا الدعوة إلى التحديث في الفكر الإسلامي المعاصر لمواكبة التطور ومواءمة ظروف العصر ، وذلك في كتبه وأبحاثه ومحاضراته وندواته داخل بلده السودان وخارجها : فنجده يدعو إلى إحداث فقه جديد يلائم واقع المسلمين الجديد ، ويكشف عن بعض ملامح الفقه الذي يريده ، فيقول : " ونحن أشد حاجة لنظرة جديدة في أحكام الطلاق والزواج نستفيد فيها من العلوم الاجتماعية المعاصرة ، ونبني عليها فقهنا الموروث ، وننظر في الكتاب والسنة مزودين يكل حاجات عصرنا ووسائله وعلومه ... "
ويصف عصر الصحابة بأنه عصر طغيان الفرد وعصابات الفكر ، فنراه يقول : " إن الصحابة عاشوا عهداً للبشرية تضعف فيه وسائل الاتصال المادية بين الناس ، ويسود فيه طغيان الفرد وعصابات الفكر "(1/484)
ويدعو إلى الانطلاق والانفلات وترك المحافظة على منهج السلف الصالح في الأخذ بالأحوط والأسلم والأضبط ، ويرفض الدعوة إلى الاعتدال ، فيقول : " واقرأ إن شئت لمتأخرة العلماء تجدهم يؤثرون الأسلم والأحوط والأضبط ... وهذه الروح في تربيتنا الدينية لا بد من أن نتجاوزها الآن ، ولا نتواصى اليوم بالمحافظة ، بل لا ينبغي إطلاقاً الدعوة إلى الاعتدال ، لأننا لو اعتدلنا نكون قد ظلمنا ، ولو اقتصدنا نكون قد فرطنا .... ، وإني لا أتخوف على المسلمين كثيراً من الانفلات بهذه الحرية والنهضة "
ويدعو إلى تجديد الفقه وأصوله ، فهما غير مناسبين _ في نظره _ للوفاء بحاجات المسلمين المعاصرة لما يلي :
1- لأن الفقه مؤسس على علم محدود بطبائع الأشياء وحقائق الكون وقوانين الاجتماع .
2- ولأنه فقه تقليدي لا رسمي ولا شعبي .
3- ولافتقار كتب الفقه إلى إرشاد المسلم إلى ما يجب عليه اتباعه في أمور التجارة والفن والسياسة ، حيث يقول : " قد يعلم المرء اليوم كيف يجادل إذا أثيرت الشبهات في حدود الله ، ولكن المرء لا يعرف اليوم كيف يعبد الله في التجارة والسياسة أو يعبد الله في الفن ، كيف تتكون في نفسه النيات العقدية التي تمثل معنى العبادة ، ثم لا يعلم كيف يعبر عنها عملياً بدقة "
4- ولأن مقولات نظرية عقيمة لا تلد فقهاً البتة بل تولد جدلاً لا يتناهى ونظر مجرد كله مبالغة في التشعيب والتعقيد بغير طائل ، حيث يقول : " لابد أن نقف وقفه مع علم الأصول تصله بواقع الحياة ، لأن قضايا الأصول في أدبنا الفقهي أصبحت تؤخذ تجريداً حتى غدت مقولات نظرية عميقة لا تكاد تلد فقهاً البتة بل تولد جدلاً لا يتناهى " ويقول تحت عنوان " حاجتنا لمنهج أصولي " : " .... لكن جنوح الحياة الدينية عامة نحو الانحطاط وفتور الدوافع التي تولد الفقه والعمل في واقع المسلمين أديا إلى أن يؤول علم أصول الفقه- الذي شأنه أن يكون هاديًا للتفكير – إلى معلومات لا تهدي إلى فقه ولا تولد فكراً ، وإنما أصبح نظراً مجرداً يتطور كما تطور الفقه كله مبالغة في التشعيب والتعقيد بغير طائل ، وقد استفاد ذلك العلم فائدة جليلة من العلوم النظرية التي كانت متاحة حتى غلب عليه طابع التجريد والجدل النظري العقيم ، وتأثر بكل مسائل المنطق الهيليني وبعيوبه كذلك " ويكثر الترابي في كتبه ومحاضراته من ترديد عبارات : " الأنابيش " و " الفقه التقليدي " و " علم الأصول التقليدي " و "
القياس التقليدي " و " نظام الإسلام التقليدي " ، وما شابه ذلك من العبارات التي توهم القاري بأن الفقه الإسلامي والعلوم الإسلامية شيء من العادات والتقاليد ، وليست ديناً مستنداً إلى أدلة ومبنياً على أصول شرعية .
ويركز كثيرًا على التوسع في مفهوم الأصول التي أصلها العلماء والأئمة المتقدمون ، ويصر على تسمية كل أصل بذلك ، فيقول مثلاً : " الأصول الواسعة " و " القياس الواسع " و " الاستصحاب الواسع " و " الاجتهاد الحر " ويتهم الترابي _ وهو بصدد تبرير دعوته إلى تجديد الفقه وأصوله _ الفقهاء المسلمين بالانغلاق وضيق الأفق ، وبأن الحياة العامة وشؤون الاقتصاد والسياسة تدور من حولهم وهم لا يشعرون ، ومما قاله بهذا الشأن قوله : " إن الفقهاء ما كانوا يعالجون كثيراً من قضايا الحياة العامة ، إنما كانوا يجلسون مجالس العلم المعهودة ، ولذلك كانت الحياة العامة تدور بعيداً عنهم ولا يأتيهم إلا المستفتون من أصحاب الشأن الخاص في الحياة ... والنمط الأشهر في فقه الفقهاء والمجتهدين كان فقه فتاوى فرعية ... ، فالفتاوى المتاحة تهدي عادة الفرد كيف يبيع ويشتري ، أما قضايا السياسة الشرعية الكلية وكيف تدار حياة المجتمع بأسره إنتاجاً وتوزيعاً ، استيراداً وتصديراً ، علاجاً لغلاء المعيشة أو خفضاً لتكاليفها ، هذه مسائل لم يعن بها أولياء الأمور ، ولم يسائلوا عنها الفقهاء ليبسطوا فيها الفقه اللازم " واتهمهم كذلك بإغفال حق طاعة ولاة الأمر في كتبهم ومصنفاتهم ، فنراه يقول : " إن أصول القرآن الكريم تجعل لولاة الأمر حق الطاعة من بعد طاعة الله والرسول ، ولقد سكت الفقهاء عن هذا الحق ، فلا نكاد نجد له أثراً البتة في كتب أصول الفقه أو أصول الأحكام "
كما اتهمهم بأنهم احتكروا الدين واتخذوه سراً من الأسرار حجبوه عن الناس ، وأصبحوا بذلك وسطاء بين العباد وربهم ، أو سلطة مركزية تستبد بأمر الاجتهاد الذي يرى فتح بابه لكل الناس بما فيهم العوام ، فنراه يقول : " اتسم فقهنا التقليدي بأنه فقه لا شعبي ، وحق الفقه في الإسلام أن يكون فقهاً شعبياً ، ذلك أن التحري عن أمر الدين الذي ليس من حق طائفة أو طبقة من رجال الدين ، وأن الإسلام لا يعرف التدين الذي يحتكره رجال ويتخذون الدين سراً من الأسرار يعكفون عليه ، يحجبونه عن الناس ويصبحون – من أجل ذلك السر المحجوب عن الناس – وسطاء بين العباد وربهم ، أويصبحون سلطة مركزية يستبدون بأمر الاجتهاد دون الناس "
ويعد الترابي ( أهلية الاجتهاد ) شيئاً نسبياً وإضافياً ، وأنها جملة مرنه ليس لها ضوابط ولا شرائط ، وأن الجمهور هم الحكم في تمييز الذي هو أعلم ، متخذين من أعرافهم مقاييس لتقويم المجتهدين والمفكرين ، فنراه يقول تحت عنوان(أهليةالاجتهادوإطاره):(1/485)
" تقدير أهلية الاجتهاد مسألة نسبية وإضافية ، ولكن بعض الكتاب المتنطعين في الضبط والتحفظ يتوهمون أنها درجة معينة تميز طبقة المجتهدين من عامة الفقهاء ، وما الاجتهاد إلا وظيفة في استعمال العلم والعقل يتربى عليها المتعلم ويترقى نضوجاً ورشداً ، وتتفاوت فيها طبقات المفكرين الذين ينبغي أن يعمر بهم المجتمع المسلم ، فإذا عنينا بدرجة الاجتهاد مرتبه لها شرائط منضبطة ، فما من شيء في دنيا العلم من هذا القبيل ، وإنما أهلية الاجتهاد جملة مرنة من معايير العلم والالتزام تشيع بين المسلمين ليستعملوها في تقويم قادتهم الفكريين ... وقد ينظم المجتمع أحياناً ضوابط شكلية مثل الشهادات ليكون حمل شهادة الجامعة مثلاُ أمارة لأهلية بدرجة معينة ، وحمل الشهادة الأعلى إيذاناً باستحقاق ثقة أعلى وهكذا ، وربما يترك الأمر أمانة للمسلمين ليتخذوا بأعرافهم مقاييس تقويم المفكرين . ومهما تكن المؤهلات الرسمية فجمهور المسلمين هو الحكم وهم أصحاب الشأن في تمييز الذي هو أعلم وأقوم ، وليس في الدين كنيسة أو سلطة رسمية تحتكر الفتوى " . ولذا يدعو إلى الاحتكام إلى عوام الناس _ ولو كانوا جهالاً _ لضبط الاختلاف والتفرق بين المذاهب!
ويرفض الترابي قياس الفقهاء والأصوليين المعروف والمنضبط بضوابط وشروط دقيقة ، لأن تلك الضوابط والشروط _ في نظره _ قيود وضعها مناطقه الإغريق ثم اقتبسها الفقهاء عنهم ، ويدعو إلى قياس فطرى حر _ على حد تعبيره _ ، فنراه يقول تحت عنوان ( نحو أصول واسعة لفقه اجتهادي ) : " يلزمنا أن نطور طرائق الفقه الاجتهادي التي يتسع فيها النظر بناء على النص المحدود ، وإنما لجأنا للقياس لتعدية النصوص وتوسيع مداها فما ينبغي أن يكون ذلك هو القياس بمعاييره التقليدية ، فالقياس التقليدي أغلبه لا يستوعب حاجاتنا بما غشيه من التضييق انفعالاً بمعايير المنطق الصوري التي وردت على المسلمين مع الغزو الثقافي الأول الذي تأثر به المسلمون تأثراُ لا يضارعه إلا تأثرنا اليوم بأنماط الفكر الحديث " ، ويقول أيضاً تحت عنوان ( القياس المحدود ) : " القياس _ كما أوردنا تعريفاته وضوابطه الضيقة في أدبنا الأصولي _ لا بد فيه من نظر حتى نكيفه ونجعله من أدوات نهضتنا الفقهية ،وعبارة القياس واسعة جدا ؛ تشمل معنى الاعتبار العفوي بالسابقة ، وتشمل المعنى الفني الذي تواضع عليه الفقهاء من تعدية حكم أصل إلى فرع بجامع العلة المنضبطة إلى آخر ما يشترطون في الأصل والفرع ومناط الحكم ، وهذا النمط المتحفظ من القياس يقتصر على قياس حادثة محدودة على سابقة محدودة معينة ثبت فيها حكم بنص شرعي فيضيفون الحكم إلى الحادثة المستجدة ، ومثل هذا القياس المحدود ربما يصلح استكمالاً للأصول التفسيرية في تبين الأحكام والآداب والشعائر ، ولكن المجالات الواسعة من الدين لا يكاد يجدي فيها إلا القياس الفطري الحر من تلك الشرائط المعقدة التي وضعها له مناطقه الإغريق ، واقتبسها الفقهاء الذين عاشوا مرحلة ولع الفقه بالتعقيد الفني وولع الفقهاء بالضبط في الأحكام "
وينحى الترابي في تجديد " الإجماع " منحى لم يقل به أحد من قبل ، ولم يخطر ببال عالم من علماء المسلمين القدامى أو المعاصرين ، حيث يصور " الإجماع " بصورة الاستفتاء أو التصويت من قبل عامة الناس على أمر من الأمور ، وذلك على غرار ما تطرحه الدولة في الأنظمة الغربية على الناس من مسائل لأخذ آرائهم فيها ، فنراه يقول بعد تأكيده على ضرورة الاتفاق على مناهج أصولية موحدة : " وتعود تلك المناهج الموحدة إلى مبدأ الشورى الذي يجمع أطراف الخلاف ، ومبدأ الإجماع الذي يمثل سلطان جماعة المسلمين ، والذي يحسم الأمر بعد أن تجري دورة الشورى فيُعمد إلى أحد وجوه الرأي في المسألة فيعتمده ، إذ يجتمع عليه السواد الأعظم من المسلمين ، ويصبح صادراً عن إرادة الجماعة وحكماً لازماً ينزل عليه كل المسلمين ، ويسلمون له في مجال التنفيذ ولو اختلفوا على صحته النسبية " ويقول أيضاً : " يمكن أن نرد إلى الجماعة المسلمة حقها الذي كان قد باشره عنها ممثلوها الفقهاء ، وهو سلطة الإجماع ، ويمكن بذلك أن تتغير أصول الفقه والأحكام ، ويصبح إجماع الأمة المسلمة أو الشعب المسلم ، وتصبح أوامر الحكام كذلك أصلين من أصول الأحكام في الإسلام " ويقول كذلك : " يمكن أن نحتكم إلى الرأي العام المسلم ونطمئن على سلامة فطرة المسلمين حتى ولو كانوا جهالاً في أن يضبطوا مدي الاختلاف ومجال التفرق " !!
ولم يقتصر الترابي في دعوته إلى التجديد على التشريع فقط ، بل تعداه إلى مجال الاعتقاد ، حيث يرى أن قضايا الاعتقاد مسائل فكرية ، وأن الفكر يتغير بتغير الزمان والمكان ، فالعقيدة إذن متجددة ومتغيرة ، وعلى المسلمين أن يختاروا ما يناسبهم من المناهج بحسب الظروف والملابسات التي يعيشونها ، فنراه يقول : " ولما كان الفكر الإسلامي في كل قرن فكراً مرتبطاً بالظروف القائمة فلا نصيب من خلود بعدها إلا تراثاً وعبرة ، سواء في ذلك فقه العقيدة أو فقه الشريعة " ويؤكد ذلك ما يروى عنه أنه قال في محاضرة ألقاها بجامعة الخرطوم بعنوان ( تحكيم الشريعة ) : " إنه في إطار الدولة الواحدة والعهد الواحد يجوز للمسلم _ كما يجوز للمسيحي _ أن يبدل دينه " !!
2 - رد الدكتور محمد رشاد خليل :
كتب الدكتور محمد رشاد خليل ثلاث مقالات في مجلة المجتمع ( العدد : 587 - 588 - 589 ) للرد على نظرية الترابي في التطور ، وقد تطرق فيها إلى نشوء هذه النظرية عند الغربيين ، وأسباب ذلك .. إلا أنه لم يكمل مقالاته تلك بعرض أقوال الترابي والرد المباشر عليه . وقد انتقيت منها الآتي : يقول الدكتور رشاد :(1/486)
( قرأت مقال د. حسن الترابي في العدد 573 من المجتمع فشعرت بقلق ، وأردت أن أعرف المزيد عن فكره فجاءني بعض الأخوة ببعض كتاباته ومحاضراته زادتني معرفة بفكره ، وزادتني قلقاً : وفكرت في الرد ثم تريثت لعل الله يكفيني ذلك ، ثم خرجت علينا المجتمع في عددها رقم 584 بلقاء معه مصحوباً بدعوة للمناقشة والحوار ، فرأيت أن المواجهة قد وجبت .
ولقد كنت منذ زمن أرصد تسلل الفكر التطوري إلى كتابات المسلمين ، وأرصد معها كلمة التطور حتى في كتابات الذين لا يؤمنون بهذا الفكر ، وكنت أشعر بالقلق من جراء هذا الاستعمال الذي أشاع هذا المصطلح ومهد لقبوله عند المسلمين بقصد وبغير قصد .
عندما قرأت كتابات الدكتور حسن ومحاضراته عرفت ان الأمر قد أخذ منعطفاً خطيراً ، وأن التصدي للتصحيح بالمناقشة أصبح واجباً لأن الأمر في كتابات الدكتور حسن لم يعد مجرد تسلل يتلصص على استحياء ، ولم يعد مجرد خطأ لغوي قاد إليه التساهل و إنما أسفر كمنهج محدد وكدعوة صريحة .
ولقد كانت البلوى على فداحتها أمراً محدود الخطر طالما أن دعوى التطور لم تتجاوز كتابات العلمانيين الذين يدقون لها الطبول منذ أمد بعيد ...
وكان الأمل معقوداً على الدعاة المسلمين المتسلحين بمنهج الإسلام أن يتصدوا لهذه الدعوى بالقول والعمل ، وأن يوقفوا مدها، وأن يعيدوا بناء عقول المسلمين وحياتهم على أساس من هدى الإسلام ومنهجه الخالص ...
أما وقد انتقلت عدوى التطور إلى صفوف الدعاة المسلمين وأصبح بعضهم يبشر بمنهج التطور في صفوف المسلمين فإن البلوى قد تحولت إلى خطر داهم يحتاج إلى المواجهة والتصحيح.
وإذا كان الدعاة المسلمين سيستسلمون للضغط الذي لا نشك في عنفه من الفكر العلماني الإلحادي ، ويحاولون تطويع الإسلام والمسلمين باسم التجديد ، فإن معنى هذا كما يقول الدكتور محمد كامل حسين : أن حصون الحركة الإسلامية سوف تهدم من الداخل ، وأن الأمل الذي يعقده المسلمون عليها لتخليصهم سوف يتحول إلى سراب .
... وخلاصة القول فإن فلسفة التطور بجميع أشكالها القديمة والحديثة هي فلسفة مادية استبعدت الإله الخالق تماما من حسابها في تفسير العالم ، وهي تصر بلا هوادة على تفسير الكون والحياة والإنسان والمجتمع تفسيرا ماديا خالصا ، مستبعدة تماما تدخل أي عامل من خارج هذا العالم المادي .
وعلى هذا الأساس فهي تفسر الدين والأخلاق على اعتبار أنهما ظاهرتان اجتماعيتان لا تفسران إلا من خلال حركة المجتمع في وسطه المادي والثقافي الخاص به ..... ) .
ثم ذكر تطور حركة التطور في الغرب وأسباب ظهورها.
3- رد الأمين الحاج محمد أحمد :
رد الشيخ الأمين الحاج على الترابي بكتابين مهمين : الأول " مناقشة هادئة لبعض أفكار الدكتور الترابي " ، والثاني " الرد القويم لما جاء به الترابي والمجادلون عنه من الافتراء والكذب المهين " .
وقد لخصت كتابه الأول في الآتي : يقول الحاج :
( هذه مناقشة هادئة لبعض أفكار أحد دعاة التجديد من العصرانيين وهو الدكتور حسن عبد الله الترابي ، في ضؤ الكتاب والسنة ، وما أجمع عليه سلف هذه الأمة ، زادها الله تشريفاً وتعظيماً ومهابة ورفعة .
- ( من الآثار السيئة لفكر دكتور الترابي التجديدي الدعوة إلى التقارب الديني ، بين النصارى واليهود والمسلمين ؛ حيث يقول الترابي : ( إن الوحدة الوطنية تشكل واحدة من أكبر همومنا ، وإننا في الجبهة الإسلامية نتوصل إليها بالإسلام على أصول الملة الإبراهيمية ، التي تجمعنا مع المسيحيين ، بتراث التاريخ الديني المشترك ، وبرصيد تأريخي من المعتقدات والأخلاق ، وإننا لا نريد الدين عصبية عداء ولكن وشيجة إخاء في الله الواحد ) هذه الدعوة شبيهة بالدعوة الماسونية التي هدفها الأول إبعاد الدين عن الحياة ، واليهود والنصارى ليس لهم دين إنما هي مجموعة انحرافات ، وإنما الخاسر الأول والأخير هو المسلم ، صاحب الدين الحق ) .
- ( كذلك من الآثار السيئة لعدم وضوح الرؤية في جانب العقيدة وعدم تحديد الهوية ، وعدم الالتزام بمنهج السلف ، موالاة الشيعة والدعوة إلى التقارب معهم وفتح المجال لهم ، بإنشاء مراكز ثقافية ، وإقامة الاحتفالات الدينية ، وتمكينهم من الاتصال ببعض مشايخ الصوفية وشباب الحركة الإسلامية ، وفتح قنوات اتصال بين هؤلاء وبين السفارة الإيرانية وإيران لحضور بعض الاحتفالات وللقيام ببعض الزيارات ، وتوزيع بعض النشرات والكتيبات ، كل هذا ليزول الحاجز النفسي بين أهل السنة وبين سابي الصحابة ، ومكفريهم ، ولاعني الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وفي كل ذلك ضرر بليغ وفساد كبير للإسلام وللمسلمين ) .
( كذلك من الآثار السيئة لفكر حسن الترابي ـ وهو ناتج عن عدم وضوح الرؤيا في الجانب العقدي أيضاً وبسبب الفراغ الروحي لدى الحركة الإسلامية السودانية ـ فتح المجال للمتصوفة ؛ وذلك برعاية مجلس التصوف وقيام مؤتمر للصوفية تحت شعار " الذكر والذاكرين " وحضور الحوليات والموالد ، وزيارة رجال الطرق ، وإكرامهم ، وإعزازهم ، وفتح المجال في الإذاعة والتلفزيون للمديح المليء بالشركيات ، والمصحوب بالآلات الموسيقية ، وتمجيد الصوفية في كثير من اللقاءات الرسمية ) . ثم ذكر الحاج انحرافات الترابي في مجال المرأة : تجويزه مصافحتها للأجنبي ، تجويزه الاختلاط ، تجويزه سفرها دون محرم ، تجويزه تقلدها للإمامة العظمى !! ، تجنيدها وتدريبها عسكريًا في الجيش ! ، تجويزه عملها سكرتيرة للرجال . تجويزه للموسيقى ، رده للأحاديث الصحيحة التي لا توافق عقله ) .(1/487)
أما كتابه الثاني ( الرد القويم .....) فقد لخص فيه محاضرة الدكتور جعفر شيخ إدريس التي رد بها على الترابي بعنوان ( العلمانية في ثياب إسلامية ) ، ثم ذكر أهم انحرافات الترابي . وقد لخصتها في الآتي :
( 1- إباحته للردة ، وعدم إقامة الحد على المرتد .
2- قوله عن سلمان رشدي : " لو كان عندنا في السودان لما حكمنا عليه بالردة "
3- زعمه أن اليهود والنصارى ليسوا كفاراً الكفر الإعتقادي !! إنما كفرهم من قبيل الكفر العملي .
4- يدعو إلى توحيد الأديان على أساس الملة الإبراهيمية وتحت راية الحزب الإبراهيمي !
5- يزعم أن أبا البشر حواء وليس أدم !
6 - لا يؤمن بنزول عيسي عليه السلام آخر الزمان !
7- استعماله للألفاظ القبيحة مع أنبياء الله عليهم السلام والصحابة الكرام رضي الله عنهم ؛ كقوله بأن : " يونس شرد " " وإبراهيم كان " يبحث عن ربه " أو قوله عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم : " الرسول صلى الله عليه وسلم بشر مثلنا يوح إليه ، ما حيفسر القرآن لهذا اليوم : لأنه لا يعرف هذا اليوم " ! ، وكقوله عن ابن عباس رضي الله عنهما " ابن عباس زروه " .
8 - زعمه أن الصحابة ليسوا عدولاً كلهم.
9 - قوله عن حديث " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم .. " بأنه : " يأخذ فيه برأي الطبيب الكافر ، ولا يأخذ فيه بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم " !
10 - إنكاره لجهاد الطلب !
11 - إنكاره لعصمة الأنبياء ! وحصره العصمة في عصمتهم من الناس فقط .
12-إباحته للغناء ، وتضليله الشباب بقوله : إن الاشتغال بالغناء والموسيقى عبادة !! ( كما في رسالته : حوار الدين والفن )
13- زعمه أن العقيدة لا ينبغي أن تكون سلفية ! ) .
4 - رد الدكتور محمود الطحان :
رد الدكتور محمود على الترابي بكتاب عنوانه " مفهوم التجديد بين السنة النبوية وبين أدعياء التجديد المعاصرين " ، قال فيه مبينًا المآخذ على حركة الترابي التجديدية :
( - اتصافها بالعمومات من غير تمثيل :
اتسمت هذه الحركة بسمة الكلام العام من غير تمثيل ، وهذه سمة تدل على أنه ليس هناك مشكلة واضحة تحتاج إلى حكم جديد ، وإلا لضرب بها المثل ، وأما الكلام العام ، فهو دعوى تحتاج إلى بينة )
( - سلوكها طريق المغالطة ، واصطياد الرعاع .
لقد سلكت هذه الدعوة في عرض ما تريد من أفكار طريق المغالطة والغوغائية وذلك بغية اجتذاب الرعاع من الناس ، ومن ليس لديهم القدرة على المناقشة العلمية المبنية على اطلاع واسع على التشريع الإسلامي ، والثروة الفقهية العظيمة التي خلفها سلف الأمة العظيم . وإلى القاري بعض الأمثلة على ذلك :
المثال الأول : يقول الدكتور الترابي : " قد يعلم المرء اليوم كيف يجادل إذا أثيرت الشبهات في حدود الله ، ولكن المرء لا يعرف كيف يعبد الله في التجارة أو السياسة ، أو يعبد الله في الفن ، كيف تتكون في نفسه النيات العقدية التي تمثل معنى العبادة ، ثم لا يعلم كيف يعبر عنها عمليا . وليس ثمة من مفت يُفتك كيف تسوق عربة أو تدير مكتباً ! ولكن الكتب القديمة تفتك حتى كيف تقضي حاجتك ! "
إن هذا الكلام لا يحتاج إلى أي تعليق ، حتى يدرك من لديه إلمام قليل بكتب الفقه الإسلامية التي يعبر عنها ب " الكتب القديمة " فساد هذا الكلام ، ومخالفته الواضحة للواقع ، وافتراءه على الكتب الإسلامية القديمة
فهل صحيح أن كتب الفقه القديمة تفتي الذي يرجع إليها كيف يقضي حاجته وكيف يتطهر ، ولا تفتيه في أمور التجارة والسياسة ؟ إذن أين أبواب البيوع والرهن والتجارة والإجارة والسَلم والقرض والربا والصرف وما إلى ذلك من الأبواب التي تفتي في موضوع التجارة الداخلية والخارجية الموجودة في كل كتاب فقه قديم ؟ وأين أبواب الإمامة الكبرى ، وأبواب الحظر والإباحة ؟
أما كيف يعبد المسلم الله في الفن ، فربما لا يجد الإنسان الفتوى الصريحة فيها داخل كتب الفقه القديمة ، لأننا ما ندري ما حدود الفن الذي يقصده الدكتور الترابي الذي يعبد المسلم الله به !! أهو الرقص والغناء ، أو الموسيقى أو التمثيل أو ... ؟! لأن كلمة الفن كلمة غامضة بالنسبة لنا نحن علماء المسلمين ، ما ندري ماذا يدخل فيها .
ومع هذا فإن كتب الفقه القديمة نجد الفتوى في حكم الغناء والسماع والموسيقى وأخذ الأجرة عليها . ينظر في هذا أبواب الكراهية والاستحسان ، أو أبواب الحظر والإباحة في جميع كتب الفقه القديمة من جميع المذاهب الفقهية المتبوعة ) .
( - نظرتها السوداء إلى كل قديم من الفقه وأصوله ، والصحابة والسلف : إن الناظر في هذه الحركة تبدو له في مواضع كثيرة مما قاله أصحابها أنهم ينظرون نظرة سوداء إلى كل قديم ، سواء كان فقها أو أصول فقه ، وسواء كان صحابة أو سلفا) .
( - اعتبارها العقيدة الإسلامية والأحكام الفقهية مرتبطة بالظروف القائمة في كل قرن ، وليست ثابتة :
لقد اعتبر الدكتور الترابي الأفكار الإسلامية المتعلقة بالاعتقاد ، وكذلك الأفكار الإسلامية المتعلقة بالأحكام الشرعية العملية ، أفكاراً غير ثابتة ، وأنها مرتبطة بالظروف القائمة في كل قرن ، لذلك فينبغي أن تتغير وتتبدل من عصر إلى عصر ، وأنه لا نصيب لها من الخلود والبقاء . وهذا ما قاله في هذا الصدد : " وإذا كان الفكر الإسلامي في كل قرن فكراً مرتبطاً بالظروف القائمة ، فلا نصيب من خلود بعدها إلا تراثاً وعبرة ، وسواء في ذلك فقه العقيدة ، أو فقه الشريعة ".
وهذه أفكار في منتهى الخطورة ، إذ تجعل الأفكار الإسلامية أفكاراً هشة جدا ، مردها وارتباطها الوحيد هو الظروف ، فتتلون بحسب الظروف التي تحكمها . وليست هي الحاكمة والمهيمنة .(1/488)
وهذه الفكرة الخطيرة يكثر من تردادها الدكتور الترابي في محاضراته ونشراته ، وهي فكرة تثير الريب والتساؤلات ، وتجعل الدين ألعوبة للحكام ) .
( - وصفها بأن الفقه كان تقليدياً ، لا رسمياً ، ولا شعبياً وأن الفقهاء وسطاء بين العباد وبين ربهم) .
( - تشبيهها الفقهاء برجال الكنيسة ، وتشبيهها الفقه الإسلامي بالفقه الإنجليزي )
( - اعتبارها أنه من حسن حظها ظهورها في بلد ضعيف الثقافة الإسلامية :
وإن مما يثير العجب والدهشة في هذه الحركة أنها تعتبر ضعف الثقافة الإسلامية في مكان ظهورها من حسن حظها . وأنه نعمة لا نقمة ! فقد قال الدكتور الترابي : " من حسن حظنا في السودان أننا في بلد ضعيف التاريخ والثقافة الإسلامية الموروثة ، وقد تبدو تلك لأول وهلة نقمة ، ولعلها ببعض الوجوه نعمة ! إذ لا تقوم مقاومة شرسة لتقدم الإسلام المتجدد " !
هكذا يا دكتور ترابي ، من حسن حظك وحظ دعوتك أنك تقول ما تريد باسم الإسلام وباسم تجديده في بلد ضعيف الئقافة الإسلامية ، وتعلل ذلك بأنه لكي لا تقوم مقاومة شرسة لتقدم ما تسميه ب " الإسلام المتجدد "!
( - عيبها على العلماء القدامى إيثارها الأحوط . ودعوتها للتفلت وعدم المحافظة :
الأمر الخطير في هذه الحركة أنها تعيب على العلماء القدامى إيثارهم في بعض المسائل الخلافية الأحوط والأسلم والأضبط ، ثم تدعو إلى الانطلاق والانفلات وترك المحافظة على طريقة سلفنا الصالح في طريقة البحث ، وفي التطبيق ، حتى إن الدكتور الترابي لا يرضى بالدعوة إلى الاعتدال ، وإنما يريد الدعوة إلى الانطلاق والحرية بدون تحفظ ) .
( - اعتبارها أهلية الاجتهاد جملة مرنة ، وأن الجمهور هو الحكم في ذلك : تعتبر هذه الحركة أن أهلية الاجتهاد شيئ نسبي وإضافي ، وأنها جملة مرنة ليس لها ضوابط ولا شرائط ، وأن الجمهور هم الحكم في تمييزالذي هو أعلم ، متخذين من أعرافهم مقاييس تقويم المجتهدين والمفكرين ، ولنسمع إلى الدكتور الترابي ماذا يقول : " فإذا عنينا بدرجة الاجتهاد مرتبة لها شرائط منضبطة ، فما من شيئ في دنيا العلم من هذا القبيل ! وإنما أهلية الاجتهاد جملة مرنة من معايير العلم والالتزام ، تشيع بين المسلمين ليستعملوها في تقويم قادتهم الفكريين ! " ثم يقول : " وقد ينظم المجتمع أحياناً ضوابط شكلية مثل الشهادات ، ليكون حمل شهادة الجامعة أمارة لأهلية بدرجة معينة ، وحمل الشهادة الأعلى إيذانا باستحقاق ثقة أعلى ، وهكذا ، وربما يترك الأمر أمانة للمسلمين ، ليتخذوا بأعرافهم مقاييس تقويم المفكرين .
ومهما تكن المؤهلات الرسمية ، فجمهور المسلمين هو الحكم ، وهم أصحاب الشأن في تمييز الذي هو أعلم وأقوم ، وليس في الدين كنيسة أو سلطة رسمية تحتكر الفتوى " ويقول أيضاً : " وتقدير أهلية الاجتهاد مسألة نسبية وإضافية ، ولكن بعض الكتاب المتنطعين في الضبط يتوهمون أنها درجة معينة تميز طبقة المجتهدين من عامة الفقهاء " هكذا بكل بساطة ، أهلية الاجتهاد جملة مرنة ، والحكم فيها إلى عامة الناس ! متى كان هذا ؟ في أي علم من العلوم أو الفنون الأخرى ؟ أيجوز أن تكون كلمة " عالم بالقوانين والدساتير " كلمة مرنة ، والحكم فيها لعامة الناس وجمهورهم ؟ أيجوز أن تكون كلمة " عالم كبير ، أو خبير بالطب وجراحة القلب " كلمة مرنة ، والحكم فيها للجمهور ؟ .. وهكذا في جميع العلوم والفنون . فإذا كان لا يجوز ذلك في العلوم والفنون الأخرى ، فلم يجوز في العلوم الشرعية وحدها ، ويسمح أن يدعيها كل دعي ويمتطي صهوتها كل غبي ؟!
( - أبرز الأصول التي دعا الدكتور الترابي إلى تجديدها :
إن من أبرز الأمور التي دعا الدكتور الترابي إلى تجديدها في علم أصول الفقه الإسلامي ما يلي :
1- الإجماع
2- أمر الحاكم
3- القياس
4- الاستصحاب
1- أما الإجماع : فقد نحا الدكتور الترابي في تجديده نحواً لم يسمع به أحد من المسلمين ، ولم يخطر ببال عالم من علماء المسلمين القدامى أو المعاصرين !! وكل من يقرأ تصويره للإجماع الجديد الذي يقترحه ، لا يتردد لحظة أنه الاستفتاء أو التصويت من قبل عامة الناس على أمر من الأمور الذي تطرحها الدولة في الأنظمة الغربية على الناس ليأخذوا رأيهم .
يقول الترابي : " فإذن يمكن أن نحتكم إلى الرأي العام المسلم ، ونطمئن إلى سلامة فطرة المسلمين ، حتى ولو كانوا جهالا في أن يضبطوا مدى الاختلاف ومجال التفرق "
ويقول أيضاً : " .. ويدور بين الناس الجدل والنقاش حتى ينتهي في آخر الأمر إلى حسم القضية ، إما أن يتبلور رأي عام ، أو قرار يجمع عليه المسلمون ، أو يرجحه جمهورهم وسوادهم الأعظم " هكذا صار الإجماع ـ بعد تطويره وتجديده ـ عند الدكتور الترابي ، جدلاً ونقاشاً بين الناس ـ كل الناس ـ وتصويتا في نهاية الأمر ، فما صوت له جمهورهم وسوادهم الأعظم كان حكماً لا زماً ينزل عليه كل المسلمين !
سبحان الله ! متى كان عامة الناس يرجع إليهم في الأمور العلمية الدقيقة التي تحتاج إلى بحث ؟ وهل جدل العامة ونقاشهم مبني على أصول علمية ، أم هو لغط وسفسطة ، كل يتكلم كما يحلو له ؟ أليست هذه غوغائية ؟ أليست هذه الطريقة التي اكتوينا بنارها من بعض الحكام والدكتاتوريين الظالمين ؟ فإنه كلما أرادوا شيئاً أتوا بمشروع ، وطرحوه للتصويت عليه من قبل عامة الناس ، أو الشعب ، ليأخذوا عليه الموافقة ، ثم يصبح قانوناً ملزماً ).
( 2- وأما أمر الحاكم ـ أو ولي الأمر ـ فقد اهتم به الترابي كثيراً ، وأولاه من العناية ما يلفت النظر ، وتهجم على الفقهاء والأصوليين القدامى بحجة أنهم أغفلوا حق الحاكم في التشريع وإصدار الأحكام ، ودعا بإصرار إلى إعادة هذا الحق إليه )(1/489)