المفصل في شرح آية لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ
قال تعالى :{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (256) سورة البقرة
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
مقدمة هامة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين 0
أما بعد :
فإن الإسلام هو الرسالة الأخيرة الخاتمة لكل رسالات السماء والناسخة لها
قال تعالى :
( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33)
ومن ثم فقد أوجب الله سبحانه وتعالى على الأمة الإسلامية الجهاد في سبيل الله تعالى ،لتحرير البشرية جمعاء من عبادة العباد ليكونوا عبيدا لله وحده لا شريك له ،ولإقامة العدل في الأرض ، ومنع الشر والفساد فيها 0
قال تعالى :
( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة:29)
وقال تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة:193)
وقال تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (لأنفال:39)
ومن ثم لا بد من إزالة جميع العقبات التي تقف دون تحقيق هذه الغاية الرفيعة في الأرض ، حتى تصل هذه الرسالة العظيمة والخاتمة إلى كل الناس ، وعندها فلينظروا فيها بمحض إرادتهم دون ضغط ، أو إكراه من أحد، وليختاروا ما يريدون ،فإن اختاروا الإسلام فبه ونعمت ، وإن أبوا إلا البقاء على دينهم السابق فليدفعوا الجزية للمسلمين ، وليتركوا من شاء الدخول في الإسلام منهم أن يدخل فيه دون قسر ولا إكراه 0
وهذه الآية التي نحن بصددها ، هي آية محكمة
وهي قوله تعالى :
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } {265} البقرة
تأتي في هذا الإطار الذي قلناه
ومعناها هنا أنها تحرم على المسلمين إجبار الناس على الدخول في الإسلام ، لأنه لا قيمة لمن يدخل مجبرا في الإسلام ، وقد عمل المسلمون بموجبها عبر تاريخهم الطويل في تعاملهم مع الناس 0
================
وقد ظن قوم محسوبون على الإسلام والمسلمين، أن هذه الآية ناسخة لآيات الجهاد (( جهاد الطلب ))
وكذلك ناسخة لكثير من الحدود (( كحد الردة )) على حد زعمهم ، باسم حرية العقيدة
وهذا التفسير الباطل لهذه الآية ليس مردُّه إلى علماء المسلمين القدامى ؛ من مفسرين وفقهاء ومحدِّثين ، معاذ الله 0
ولكن مردَّه إلى ثقل الواقع الذي يعيشه هؤلاء ، وانبهارهم بالحضارة الغربية (( التي لم تصدر للعالم سوى الشر والفساد والدمار ))
فراحوا يؤولون النصوص الشرعية المحكمة ، تأويلات بعيدةً عن مفهومها وغاية نزولها ، وبعد ذلك يدَّعون أنهم أصحاب فكر حر ، أو أصحاب الفكر الإسلامي العالمي ، أو أصحاب حوار الأديان !!!
أو أصحاب حوار الطرشان 000
وما أكثرهم اليوم على الفضائيات العربية ، تحت اسم باحث في الفكر الإسلامي ، باحث في حوار الحضارات ، باحث إستراتيجي ، باحث في 0000
وهؤلاء كما قال الله تعالى عنهم في كتابه العزيز :
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (4) المنافقون
فهم أجسام تعجب . لا أناسي تتجاوب !
وما داموا صامتين فهم أجسام معجبة للعيون . .
فأما حين ينطقون فهم خواء من كل معنى ومن كل حس ومن كل خالجة . .
(تسمع لقولهم كأنهم خشب) . .
ولكنها ليست خشبا فحسب . إنما هي (خشب مسندة) . .
لا حركة لها , ملطوعة بجانب الجدار !
هذا الجمود الراكد البارد يصورهم من ناحية فقه أرواحهم إن كانت لهم أرواح !
ويقابله من ناحية أخرى حالة من التوجس الدائم والفزع الدائم والاهتزاز الدائم:
(يحسبون كل صيحة عليهم) . .
فهم يعرفون أنهم منافقون مستورون بستار رقيق من التظاهر والحلف والملق والالتواء . وهم يخشون في كل لحظة أن يكون أمرهم قد افتضح وسترهم قد انكشف . والتعبير يرسمهم أبدا متلفتين حواليهم ; يتوجسون من كل حركة ومن كل صوت ومن كل هاتف , يحسبونه يطلبهم , وقد عرف حقيقة أمرهم !!
وبينما هم خشب مسندة ملطوعة إذا كان الأمر أمر فقه وروح وشعور بإيقاعات الإيمان . .
إذا هم كالقصبة المرتجفة في مهب الريح إذا كان الأمر أمر خوف على الأنفس والأموال !
وهم بهذا وذاك يمثلون العدو الأول للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين:
(هم العدو فاحذرهم) . .
هم العدو الحقيقي . العدو الكامن داخل المجتمع الإسلامي , المختبئ في الصف . وهو أخطر من العدو الخارجي الصريح .(فاحذرهم) . .
(قاتلهم الله أنى يؤفكون) . .
فالله مقاتلهم حيثما صرفوا وأنى توجهوا . والدعاء من الله حكم بمدلول هذا الدعاء , وقضاء نافذ لا راد له ولا معقب عليه . . وهذا هو الذي كان في نهاية المطاف . (( الظلال ))
===============(1/1)
وكذلك لا يجوز لنا شرعا إن كنا مسلمين ( حقا ) أن نلوي عنق النصوص الشرعية لنبرر هزيمة المسلمين ، وبعدهم عن دينهم الحنيف ، مهما أصابنا من فتنة وبلاء ومحنة 0
قال تعالى محذرا من خالف أمره :
( .... فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63)
ومن ثم نقول :
هذه الآية الكريمة ليست ناسخة لغيرها، بل مبينة ومقيدة لغيرها ليس إلا ، فنحن لا نجبر الناس على الدخول في الإسلام ،ولكننا مأمورون بتبليغ دين الله تعالى لكل الناس أينما كانوا 0
ومن ثم فنحن مأمورون بإزالة جميع العقبات والحواجز التي تحول بيننا وبين إيصال هذه الرسالة للناس ، حتى يكون الدين كله لله 0
فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِى تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِى وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِى وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ "أخرجه أحمد برقم(5233 ) وهو صحيح .
ومع هذا فإن هذه الآية الكريمة ليست عامة؛ بل من العام المخصوص ، فلم يقل أحد من علماء المسلمين ممن يعوَّلُ على قوله غير ذلك 0
===============
فهناك أنواع كثيرة من الإكراه ، قد أمر بها الشرع الحنيف 0
ومن ثم فإنَّ الإكراه ينقسمُ إلى خمسة أقسام :
إكراه حرام ، وهو مثل إجبار غير المسلم على الدخول في الإسلام ، أو إجبار المسلم على معصية الله تعالى
وإكراه مكروه ، وإكراه مباح ، وإكراه مستحب ، وإكراه واجب ( فرض ) كإجبار المسلم على طاعة الله ؛ كالصلاة، وإجباره على أداء حقوق الناس 0
ومن ذلك العقوبات ، فكلها تقوم على القوة ، ومنها إقامة الحد على المرتد 0
صحيح أننا لم نجبره على الدخول في الإسلام ، ولكنه إذا دخل حرًّا مختارا فيه فلا يجوز له تركه ، ومن ثم نعاقبه على ترك الإسلام ، كحدٍّ من حدود الله تعالى 0
فقد روى الترمذي برقم( 1530 ) عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيًّا حَرَّقَ قَوْمًا ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلاَمِ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ". وَلَمْ أَكُنْ لأُحَرِّقَهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ ". فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ صَدَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ حَسَنٌ. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِى الْمُرْتَدِّ. وَاخْتَلَفُوا فِى الْمَرْأَةِ إِذَا ارْتَدَّتْ عَنِ الإِسْلاَمِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ تُقْتَلُ وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِىِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ تُحْبَسُ وَلاَ تُقْتَلُ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِىِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ.
=================
وهذه العقوبة لها شروطها المحددة لها شرعا ، وقد تكلمنا عنها في شرح الحديث المذكور مفصلا 0
وهي ليست من باب السياسة الشرعية، الذي يتغير بتغير الأزمان ، بل حدٌّ ثابت مقطوع به بإجماع العلماء 0
كما أننا لا نسمح بالإلحاد والكفر في داخل دار الإسلام ، بحجة حرية الرأي ، أو احتجاجا بهذه الآية الكريمة، كما يحلوا لهؤلاء العصرانيين ( المتفلتين ) حيث إنهم يبيحون السماح بإنشاء أحزاب كافرة ، داخل دار الإسلام ، ويسمحون للملحدين والمبتدعين بنشر إلحادهم وفسوقهم، باسم حرية الرأي، تقليدا للغرب الكافر الضال المنحرف عن كل خلق قويم ، تحت مسميات مختلفة ما أنزل الله بها من سلطان 0
وهذا مخالف مخالفة صريحة لدين الله تعالى ، وللغاية الأساسية من إرساله إلى الناس جميعا 0
قال تعالى :
( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (التوبة:47)
وقال تعالى :{ يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا (27) } سورة النساء
فهذا المنهج هو منهج الله الذي سنه للمؤمنين جميعا . وهو منهج ثابت في أصوله , موحد في مبادئه , مطرد في غاياته وأهدافه . .
هو منهج العصبة المؤمنة من قبل ومن بعد . ومنهج الأمة الواحدة التي يجمعها موكب الإيمان على مدار القرون .
بذلك يجمع القرآن بين المهتدين إلى الله في كل زمان ومكان ; ويكشف عن وحدة منهج الله في كل زمان ومكان ; ويربط بين الجماعة المسلمة والموكب الإيماني الموصول , في الطريق اللاحب الطويل . وهي لفتة تشعر المسلم بحقيقة أصله وأمته ومنهجه وطريقه . .
إنه من هذه الأمة المؤمنة بالله , تجمعها آصرة المنهج الإلهي , على اختلاف الزمان والمكان , واختلاف الأوطان ; والألوان وتربطها سنة الله المرسومة للمؤمنين في كل جيل , ومن كل قبيل .
(ويتوب عليكم) . .
فهو - سبحانه - يبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم , ليرحمكم . . . ليأخذ بيدكم إلى التوبة من الزلل , والتوبة من المعصية . ليمهد لكم الطريق , ويعينكم على السير فيه . .
(والله عليم حكيم) . .
فعن العلم والحكمة تصدر هذه التشريعات . ومن العلم والحكمة تجيء هذه التوجيهات . العلم بنفوسكم وأحوالكم . والعلم بما يصلح لكم وما يصلحكم . والحكمة في طبيعة المنهج وفي تطبيقاته على السواء . .
(والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما) . .
وتكشف الآية الواحدة القصيرة عن حقيقة ما يريده الله للناس بمنهجه وطريقته , وحقيقة ما يريده بهم الذين يتبعون الشهوات , ويحيدون عن منهج الله - وكل من يحيد عن منهج الله إنما يتبع الشهوات - فليس هنالك إلا منهج واحد هو الجد والاستقامة والالتزام , وكل ما عداه إنْ هو إلا هوى يتبع , وشهوة تطاع , وانحراف وفسوق وضلال .
فماذا يريد الله بالناس , حين يبين لهم منهجه , ويشرع لهم سنته ?
إنه يريد أن يتوب عليهم . يريد أن يهديهم . يريد أن يجنبهم المزالق . يريد أن يعينهم على التسامي في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة .
وماذا يريد الذين يتبعون الشهوات , ويزينون للناس منابع ومذاهب لم يأذن بها الله , ولم يشرعها لعباده ?
إنهم يريدون لهم أن يميلوا ميلا عظيما عن المنهج الراشد , والمرتقى الصاعد والطريق المستقيم .
وفي هذا الميدان الخاص الذي تواجهه الآيات السابقة:ميدان تنظيم الأسرة ; وتطهير المجتمع ; وتحديد الصورة النظيفة الوحيدة , التي يحب الله أن يلتقي عليها الرجال والنساء ; وتحريم ما عداها من الصور , وتبشيعها وتقبيحها في القلوب والعيون . . في هذا الميدان الخاص ما الذي يريده الله وما الذي يريده الذين يتبعون الشهوات ?
فأما ما يريده الله فقد بينته الآيات السابقة في السورة . وفيها إرادة التنظيم , وإرادة التطهير , وإرادة التيسير , وإرادة الخير بالجماعة المسلمة على كل حال .
وأما ما يريده الذين يتبعون الشهوات فهو أن يطلقوا الغرائز من كل عقال:ديني , أو أخلاقي , أو اجتماعي . .
يريدون أن ينطلق السعار الجنسي المحموم بلا حاجز ولا كابح , من أي لون كان . السعار المحموم الذي لا يقر معه قلب , ولا يسكن معه عصب , ولا يطمئن معه بيت , ولا يسلم معه عرض , ولا تقوم معه أسرة . يريدون أن يعود الآدميون قطعانا من البهائم , ينزو فيها الذكران على الإناث بلا ضابط إلا ضابط القوة أو الحيلة أو مطلق الوسيلة !
كل هذا الدمار , وكل هذا الفساد , وكل هذا الشر باسم الحرية , وهي - في هذا الوضع - ليست سوى اسم آخر للشهوة والنزوة !
وهذا هو الميل العظيم الذي يحذر الله المؤمنين إياه , وهو يحذرهم ما يريده لهم الذين يتبعون الشهوات . وقد كانوا يبذلون جهدهم لرد المجتمع المسلم إلى الجاهلية في هذا المجال الأخلاقي , الذي تفوقوا فيه وتفردوا بفعل المنهج الإلهي القويم النظيف . وهو ذاته ما تريده اليوم الأقلام الهابطة والأجهزة الموجهة لتحطيم ما بقي من الحواجز في المجتمع دون الانطلاق البهيمي , الذي لا عاصم منه , إلا منهج الله , حين تقره العصبة المؤمنة في الأرض إن شاء الله . (( الظلال ))(1/1)
وقال تعالى عن دعاوى الكفار والفجار في كل زمان ومكان :
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)} العنكبوت
قال السعدي :
يخبر تعالى عن افتراء الكفار ودعوتهم للمؤمنين إلى دينهم، وفي ضمن ذلك، تحذير المؤمنين من الاغترار بهم والوقوع في مكرهم، فقال: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا } فاتركوا دينكم أو بعضه واتبعونا في ديننا، فإننا نضمن لكم الأمر { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } وهذا الأمر ليس بأيديهم، فلهذا قال: { وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ } لا قليل ولا كثير. فهذا التحمل، ولو رضي به صاحبه، فإنه لا يفيد شيئا، فإن الحق للّه، واللّه تعالى لم يمكن العبد من التصرف في حقه إلا بأمره وحكمه، وحكمه { أن لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }.
ولما كان قوله: { وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ } قد يتوهم منه أيضا، أن الكفار الداعين إلى كفرهم -ونحوهم ممن دعا إلى باطله- ليس عليهم إلا ذنبهم الذي ارتكبوه، دون الذنب الذي فعله غيرهم، ولو كانوا متسببين فيه، قال: [مخبرا عن هذا الوهم]
{ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ } أي: أثقال ذنوبهم التي عملوها { وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ } وهي الذنوب التي بسببهم ومن جرائهم، فالذنب الذي فعله التابع [لكل من التابع]، والمتبوع حصته منه، هذا لأنه فعله وباشره، والمتبوع [لأنه] تسبب في فعله ودعا إليه، كما أن الحسنة إذا فعلها التابع له أجرها بالمباشرة، وللداعي أجره بالتسبب. { وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } من الشر وتزيينه، [وقولهم] (2) { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ }. تفسير السعدي - (ج 1 / ص 627)
============
وهذا الشرح المفصل لهذه الآية مستقى من كتب التفسير الأساسية قديما وحديثا ، ومن كتب الفقه الإسلامي ، ومن كتب الأصول ، والسياسة الشرعية ، ومن كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله 0
هذا وقد قسمته لأربعة أبواب رئيسة وتحت كل باب مباحث عديدة
الباب الأول -نص الآية القرآنية وشرحها :
فقد ذكرت شرحها من سائر كتب التفسير القديمة والحديثة ، وكلها متفقة من حيث الجملة ، و مختلفة في بعض التفاصيل ، وقد نافت على الثلاثين تفسيرا
الباب الثاني -أقوال الفقهاء :
وقد ذكرت فيه عامة أقوال أهل العلم القدامى في الاستدلال بهذه الآية
الباب الثالث -الخلاصة في أحكام الإكراه :
وقد استخلصت ذلك من الموسوعة الفقهية من مجلداتها الخمسة والأربعين ، وهي تشمل جميع أنواع الإكراه
الباب الرابع -أقوال المعاصرين :
ذكرت فيه أهم أقوال العلماء المعاصرين الأجلاء ، الذين لم يسقطوا على الطريق ، ولم تفتنهم حضارة الغرب العفنة .
وقد ذكرت ردودا كثيرة للرد على شبه المفتونين بحضارة الغرب أو المنافقين أو الكافرين
وأهم المصادر لهذا الباب :
فتاوى اللجنة الدائمة
فتاوى العلامة ابن باز
فتاوى الفوزان
فتاوى الزحيلي
فتاوى الإسلام سؤال وجواب
الشبكة الإسلامية
صيد الفوائد
الإسلام اليوم
مجلة البيان
مجلة التوحيد
وغيرها كثير
============
أسأل الله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره ، وأن يجعلنا من الوقافين عند حدود الله تعالى
قال تعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (36) سورة الأحزاب
جمعه وأعده
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
13 رمضان 1428 هـ الموافق 25/9/2007 م(1/1)
الباب الأول
نص الآية القرآنية وشرحها
قال تعالى :
« لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {265} البقرة
( د ) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ الْمُقَدَّمِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي السِّجِسْتَانِيَّ ح و حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ وَهَذَا لَفْظُهُ ح و حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَكُونُ مِقْلَاتًا فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ قَالَ أَبُو دَاوُد الْمِقْلَاتُ الَّتِي لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ
أبو داود(2682) والطبر ي 3/14-18 و ابن كثير 1/311و3123 والإحسان (140) والبيهقي 9/186 والنسائي(11048) ابن أبي شيبة(12550 33759) والحلية 9 /34 وابن سعد6/158 والإصابة (1760 و9766) والمحلى 1/26 و8/286 و9/425 و11/160 و194 و195 و196
صحيح
( وهذا لفظه ) : أي لفظ ابن بشار ( عن شعبة ) : أي أشعث وابن أبي عدي ووهب بن جرير كلهم عن شعبة ( مقلاتا ) : بكسر الميم وسكون القاف المرأة التي لا يعيش لها ولد , وأصله من القلت وهو الهلاك , كذا في مرقاة الصعود ( فتجعل على نفسها ) : أي تنذر ( أن تهوده ) : بفتح أن مفعول تجعل , فإذا عاش الولد جعلته في اليهود , كذا في معالم التنزيل ( فلما أجليت ) : بصيغة المجهول جلا عن الوطن يجلو وأجلى يجلي إذا خرج مفارقا , وجلوته أنا وأجليته كلاهما لازم ومتعد ( بنو النضير ) : قبيلة من يهود ( فقالوا ) : أي الأنصار ( لا ندع ) : أي لا نترك ( لا إكراه في الدين ) : أي على الدخول فيه ( قد تبين الرشد من الغي ) : أي ظهر بالآيات البينات أن الإيمان رشد والكفر غي . قال في معالم التنزيل : فقال النبي صلى الله عليه وسلم " قد خير أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختاروهم فأجلوهم معهم " انتهى . قال الخطابي : في الحديث دليل على أن من انتقل من كفر وشرك إلى يهودية أو نصرانية قبل مجيء دين الإسلام فإنه يقر على ما كان انتقل إليه , وكان سبيله سبيل أهل الكتاب في أخذ الجزية منه وجواز مناكحته واستباحة ذبيحته , فأما من انتقل من شرك إلى يهودية أو نصرانية بعد وقوع نسخ اليهودية وتبديل ملة النصرانية فإنه لا يقر على ذلك . وأما قوله سبحانه وتعالى { لا إكراه في الدين } فإن حكم الآية مقصور على ما نزلت فيه من قصة اليهود وأما إكراه الكافر على دين الحق فواجب , ولهذا قاتلناهم على أن يسلموا أو يؤدوا الجزية ويرضوا بحكم الدين عليهم انتهى . قال المنذري : وأخرجه النسائي . عون المعبود
*************
وفي الدرالمنثور :
آية 256
أخرج أبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وابن منده في غرائب شعبه وابن حبان وابن مردويه والبيهقي في سننه والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا لا ندع أبناءنا. فأنزل الله {لا إكراه في الدين}.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن سعيد بن جبير في قوله {لا إكراه في الدين} قال: نزلت في الأنصار خاصة. قلت: خاصة، كانت المرأة منهم إذا كانت نزورة أو مقلاة تنذر: لئن ولدت ولدا لتجعلنه في اليهود تلتمس بذلك طول بقاءه، فجاء الإسلام وفيهم منهم، فلما أجليت النضير قالت الأنصار: يا رسول الله أبناؤنا وإخواننا فيهم، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. {فنزلت لا إكراه
في الدين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد خير أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فهم منهم، فأجلوهم معهم".
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الشعبي قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يعيش لها ولد، فتنذر إن عاش ولدها أن تجعله مع أهل الكتاب على دينهم، فجاء الإسلام وطوائف من أبناء الأنصار على دينهم، فقالوا: إنما جعلناهم على دينهم، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا، وإن الله جاء بالاسلام فلنكرهنهم، فنزلت {لا إكراه في الدين} فكان فصل ما بينهم إجلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، فلحق بهم من لم يسلم، وبقي من أسلم.
وأخرج سعيد بن منمصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان ناس من الأنصار مسترضعين في بني قريظة فثبتوا على دينهم، فلما جاء الإسلام أراد أهلوهم أن يكرهوهم على الإسلام، فنزلت {لا إكراه في الدين}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من وجه آخر عن مجاهد قال "كانت النضير أرضعت رجالا من الأوس، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلائهم قال أبناؤهم من الأوس: لنذهبن معهم ولندينن دينهم، فمنعهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام، ففيهم نزلت هذه الآية {لا إكراه في الدين} ".
وأخرج ابن جرير عن الحسن. أن ناسا من الأنصار كانوا مسترضعين في بني النضير، فلما أجلوا أراد أهلوهم أن يلحقوهم بدينهم، فنزلت {لا إكراه في الدين}.
وأخرج ابن إسحق وابن جرير عن ابن عباس في قوله {لا إكراه في الدين} قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلا مسلما، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية، فأنزل الله فيه ذلك.(1/4)
وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن عبيدة "أن رجلا من الأنصار من بني سالم بن عوف كان له ابنان تنصرا قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فقدما المدينة في نفر من أهل دينهم يحملون الطعام، فرآهما أبوهما فانتزعهما وقال: والله لا أدعهما حتى يسلما، فأبيا أن يسلما، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟ فأنزل الله {لا إكراه في الدين...} الآية. فخلى سبيلهما".
وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن السدي في قوله {لا إكراه في الدين} قال: نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الحصين، كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا، فرجعا إلى الشام معهم، فأتى أبوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابني تنصرا وخرجا فاطلبهما؟ فقال {لا إكراه في الدين} ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال: أبعدهما الله، هما أول من كفر، فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما، فنزلت (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم...) (النساء الآية 65) الآية. ثم نسخ بعد ذلك {لا إكراه في الدين} وأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة".
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} قال: وذلك لما دخل الناس في الإسلام، وأعطى أهل الكتاب الجزية.
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن قتادة في الآية قال: كانت العرب ليس لها دين، فأكرهوا على الدين بالسيف، قال: ولا يكره اليهود ولا النصارى والمجوس إذا أعطوا الجزية.
وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن في قوله {لا إكراه في الدين} قال: لا يكره أهل الكتاب على الإسلام.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن وسق الرومي قال: كنت مملوكا لعمر بن الخطاب، فكان يقول لي: أسلم فإنك لو أسلمت استعنت بك على أمانة المسلمين، فإني لا أستعين على أمانتهم بمن ليس منهم، فأبيت عليه فقال لي: {لا إكراه في الدين}.
وأخرج النحاس عن أسلم. سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: أسلمي تسلمي، فأبت فقال عمر: اللهم اشهد ثم تلا {لا إكراه في الدين}.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سليمان بن موسى في قوله {لا إكراه في الدين} قال: نسختها (جاهد الكفار والمنافقين) (التوبة الآية 73).
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن حميد الأعرج. أنه كان يقرأ {قد تبين الرشد} وكان يقول: قراءتي على قراءة مجاهد. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال {الطاغوت} الشيطان.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله. أنه سئل عن الطواغيت قال: هم كهان تنزل عليهم الشياطين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال {الطاغوت} الكاهن.
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال {الطاغوت} الساحر.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال {الطاغوت} الشيطان في صورة الإنسان، يتحاكمون إليه وهو صاحب أمرهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك بن أنس قال {الطاغوت} ما يعبد من دون الله.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس {فقد استمسك بالعروة الوثقى} قال:لا إله إلا الله.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أنس بن مالك في قوله {فقد استمسك بالعروة الوثقى} قال: القرآن.
وأخرج سفيان وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله {بالعروة الوثقى} قال: الإيمان. ولفظ سفيان قال: كلمة الإخلاص.
وأخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن سلام قال "رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت كأني في روضة خضراء، وسطها عمود حديد، أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة فقيل لي: اصعد عليه فصعدت حتى أخذت بالعروة، فقال: استمسك بالعروة
فاستيقظت وهي في يدي، فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أما الروضة فروضة الإسلام وأما العمود فعمود الإسلام، وأما العروة فهي العروة الوثقى، أنت على الإسلام حتى تموت".
وأخرج ابن عساكر عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر، فإنهما حبل الله الممدود، فمن استمسك بهما فقد تمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها".
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: القدر نظام التوحيد، فمن كفر بالقدر كان كفره بالقدر نقصا للتوحيد، فإذا وحد الله وآمن بالقدر فهي العروة الوثقى.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل. أنه سئل عن قوله {لا انفصام لها} قال: لا انقطاع لها دون دخول الجنة.
============
ويقول الطبري :
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ(1/5)
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين } . اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي مَعْنَى ذَلِك , فَقَالَ بَعْضهمْ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي قَوْم مِنْ الْأَنْصَار , أَوْ فِي رَجُل مِنْهُمْ كَانَ لَهُمْ أَوْلَاد قَدْ هَوَّدُوهُمْ أَوْ نَصَّرُوهُمْ ; فَلَمَّا جَاءَ اللَّه بِالْإِسْلَامِ أَرَادُوا إكْرَاههمْ عَلَيْهِ , فَنَهَاهُمْ اللَّه عَنْ ذَلِك , حَتَّى يَكُونُوا هُمْ يَخْتَارُونَ الدُّخُول فِي الْإِسْلَام . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِك : 4535 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي عَدِيّ , عَنْ شُعْبَة , عَنْ أَبِي بِشْر , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس قَالَ : كَانَتْ الْمَرْأَة تَكُون مِقْلَاتًا , فَتَجْعَل عَلَى نَفْسهَا إنْ عَاشَ لَهَا وَلَد أَنْ تُهَوِّدهُ ; فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِير كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاء الْأَنْصَار , فَقَالُوا : لَا نَدَع أَبْنَاءَنَا ! فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ } . 4536 - حَدَّثَنَا ابْن بَشَّار , قَالَ : ثنا مُحَمَّد بْن جَعْفَر , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ أَبِي بِشْر , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , قَالَ : كَانَتْ الْمَرْأَة تَكُون مَقْلَى وَلَا يَعِيش لَهَا وَلَد - قَالَ شُعْبَة : وَإِنَّمَا هُوَ مُقِلَّات - , فَتَجْعَل عَلَيْهَا إنْ بَقِيَ لَهَا وَلَد لَتُهَوِّدَنّه . قَالَ : فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِير كَانَ فِيهِمْ مِنْهُمْ , فَقَالَتْ الْأَنْصَار : كَيْفَ نَصْنَع بِأَبْنَائِنَا ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ } قَالَ : مَنْ شَاءَ أَنْ يُقِيم أَقَامَ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَذْهَبَ ذَهَبَ . 4537 - حَدَّثَنَا حُمَيْد بْن مَسْعَدَة , قَالَ : ثنا بِشْر بْن الْمُفَضَّل , قَالَ : ثنا دَاوُد , وَحَدَّثَنِي يَعْقُوب , قَالَ : ثنا ابْن عُلَيَّة , عَنْ دَاوُد , عَنْ عَامِر , قَالَ : كَانَتْ الْمَرْأَة مِنْ الْأَنْصَار تَكُون مِقْلَاتًا لَا يَعِيش لَهَا وَلَد , فَتَنْذِر إنْ عَاشَ وَلَدهَا أَنْ تَجْعَلهُ مَعَ أَهْل الْكِتَاب عَلَى دِينهمْ . فَجَاءَ الْإِسْلَام وَطَوَائِف مِنْ أَبْنَاء الْأَنْصَار عَلَى دِينهمْ , فَقَالُوا : إنَّمَا جَعَلْنَاهُمْ عَلَى دِينهمْ , وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ دِينهمْ أَفَضْل مِنْ دِيننَا , وَإِذْ جَاءَ اللَّه بِالْإِسْلَامِ فَلَنُكْرِهَنّهم ! فَنَزَلَتْ : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين } فَكَانَ فَصْل مَا بَيْن مَنْ اخْتَارَ الْيَهُودِيَّة وَالْإِسْلَام , فَمَنْ لَحِقَ بِهِمْ اخْتَارَ الْيَهُودِيَّة , وَمَنْ أَقَامَ اخْتَارَ الْإِسْلَام . وَلَفْظ الْحَدِيث لِحُمَيْد . 4538 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : ثنا مُعْتَمِر بْن سُلَيْمَان , قَالَ : سَمِعْت دَاوُد , عَنْ عَامِر , بِنَحْوِ مَعْنَاهُ , إلَّا أَنَّهُ قَالَ : فَكَانَ فَصْل مَا بَيْنهمْ إجْلَاء رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النَّضِير , فَلَحِقَ بِهِمْ مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا وَلَمْ يُسْلِم مِنْهُمْ , وَبَقِيَ مَنْ أَسْلَمَ . * - حَدَّثَنَا ابْن الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : ثنا دَاوُد , عَنْ عَامِر بِنَحْوِهِ , إلَّا أَنَّهُ قَالَ : إجْلَاء النَّضِير إلَى خَيْبَر , فَمَنْ اخْتَارَ الْإِسْلَام أَقَامَ , وَمَنْ كَرِهَ لَحِقَ بِخَيْبَر . 4539 - حَدَّثَنِي ابْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , عَنْ أَبِي إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد الْحَرَشِيّ مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس قَوْله : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ } قَالَ : نَزَلَتْ فِي رَجُل مِنْ الْأَنْصَار مِنْ بَنِي سَالِم بْن عَوْف يُقَال لَهُ الْحُصَيْن ; كَانَ لَهُ ابْنَانِ نَصْرَانِيَّانِ , وَكَانَ هُوَ رَجُلًا مُسْلِمًا , فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَا أَسْتَكْرِههُمَا فَإِنَّهُمَا قَدْ أَبَيَا إلَّا النَّصْرَانِيَّة ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه فِيهِ ذَلِك . 4540 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ : ثنا حَجَّاج بْن الْمِنْهَال , قَالَ : ثنا أَبُو عَوَانَة , عَنْ أَبِي بِشْر , قَالَ : سَأَلَتْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ قَوْله : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ } قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ فِي الْأَنْصَار . قَالَ : قُلْت خَاصَّة , قَالَ : خَاصَّة . قَالَ : كَانَتْ الْمَرْأَة فِي الْجَاهِلِيَّة تَنْذِر إنْ وَلَدَتْ وَلَدًا أَنْ تَجْعَلهُ فِي الْيَهُود تَلْتَمِس بِذَلِك طُول بَقَائِهِ . قَالَ : فَجَاءَ الْإِسْلَام وَفِيهِمْ مِنْهُمْ ; فَلَمَّا أُجْلِيَتْ النَّضِير , قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , أَبْنَاؤُنَا وَإِخْوَاننَا فِيهِمْ , قَالَ : فَسَكَتَ عَنْهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ } قَالَ : فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَدْ خُيِّرَ أَصْحَابكُمْ , فَإِنْ اخْتَارُوكُمْ فَهُمْ مِنْكُمْ , وَإِنْ اخْتَارُوهُمْ فَهُمْ مِنْهُمْ " قَالَ : فَأَجْلَوْهُمْ مَعَهُمْ . 4541 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : ثِنَا عَمْرو , قَالَ : ثنا(1/6)
أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ قَوْله : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ } إلَى : { لَا انْفِصَام لَهَا } قَالَ : نَزَلَتْ فِي رَجُل مِنْ الْأَنْصَار يُقَال لَهُ أَبُو الْحُصَيْن : كَانَ لَهُ ابْنَانِ , فَقَدِمَ تُجَّار مِنْ الشَّام إلَى الْمَدِينَة يَحْمِلُونَ الزَّيْت ; فَلَمَّا بَاعُوا وَأَرَادُوا أَنْ يَرْجِعُوا أَتَاهُمْ ابْنَا أَبِي الْحُصَيْن , فَدَعَوْهُمَا إلَى النَّصْرَانِيَّة فَتَنَصَّرَا , فَرَجَعَا إلَى الشَّام مَعَهُمْ . فَأَتَى أَبُوهُمَا إلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ : إنْ ابْنَيَّ تَنَصَّرَا وَخَرَجَا , فَاطْلُبْهُمَا ؟ فَقَالَ : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ } وَلَمْ يُؤْمَر يَوْمئِذٍ بِقِتَالِ أَهْل الْكِتَاب . وَقَالَ : " أَبْعَدَهُمَا اللَّه ! هُمَا أَوَّل مَنْ كَفَرَ " . فَوَجَدَ أَبُو الْحُصَيْن فِي نَفْسه عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين لَمْ يَبْعَث فِي طَلَبهمَا , فَنَزَلَتْ : { فَلَا وَرَبّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنهمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنَفْسهمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } 4 65 ثُمَّ إنَّهُ نُسِخَ : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين } فَأُمِرَ بِقِتَالِ أَهْل الْكِتَاب فِي سُورَة بَرَاءَة . 4542 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , عَنْ عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْل اللَّه : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين } قَالَ : كَانَتْ فِي الْيَهُود يَهُود أَرْضَعُوا رِجَالًا مِنْ الْأَوْس , فَلَمَّا أَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجْلَائِهِمْ , قَالَ أَبْنَاؤُهُمْ مِنْ الْأَوْس : لَأَذْهَبَن مَعَهُمْ , وَلَأَدِينَن بِدِينِهِمْ ! فَمَنَعَهُمْ أَهْلُوهُمْ , وَأَكْرَهُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَام , فَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . 4543 - حَدَّثَنَا ابْن وَكِيع , قَالَ : ثنا أَبِي , عَنْ سُفْيَان , وَحَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إسْحَاق , قَالَ : ثنا أَبُو أَحْمَد جَمِيعًا , عَنْ سُفْيَان , عَنْ صَيْف , عَنْ مُجَاهِد : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين } قَالَ : كَانَ نَاس مِنْ الْأَنْصَار مُسْتَرْضِعِينَ فِي بَنِي قُرَيْظَة , فَأَرَادُوا أَنْ يُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَام , فَنَزَلَتْ : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ } . * - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : ثني الْحَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : قَالَ مُجَاهِد : كَانَتْ النَّضِير يَهُودًا فَأَرْضَعُوا . ثُمَّ ذَكَرَ نَحْو حَدِيث مُحَمَّد بْن عَمْرو , عَنْ أَبِي عَاصِم . قَالَ ابْن جُرَيْجٍ : وَأَخْبَرَنِي عَبْد الْكَرِيم , عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ دَانَ بِدِينِهِمْ أَبْنَاء الْأَوْس , دَانُوا بِدِينِ النَّضِير . 4544 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : لَنَا إسْحَاق , قَالَ : ثِنَا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ دَاوُد بْن أَبِي هِنْد , عَنْ الشَّعْبِيّ : أَنَّ الْمَرْأَة مِنْ الْأَنْصَار كَانَتْ تَنْذِر إنْ عَاشَ وَلَدهَا لَتَجْعَلَنّه فِي أَهْل الْكِتَاب فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام قَالَتْ الْأَنْصَار : يَا رَسُول اللَّه أَلَا نُكْرِه أَوْلَادنَا الَّذِينَ هُمْ فِي يَهُود عَلَى الْإِسْلَام , فَإِنَّا إنَّمَا جَعَلْنَاهُمْ فِيهَا وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ الْيَهُودِيَّة أَفْضَل الْأَدْيَان ؟ فَلَمَّا إذْ جَاءَ اللَّه بِالْإِسْلَامِ , أَفَلَا نُكْرِههُمْ عَلَى الْإِسْلَام ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ } . * - حُدِّثْت عَنْ عَمَّار , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ دَاوُد , عَنْ الشَّعْبِيّ مِثْله , وَزَادَ : قَالَ : كَانَ فَصْل مَا بَيْن مَنْ اخْتَارَ الْيَهُود مِنْهُمْ وَبَيْن مَنْ اخْتَارَ الْإِسْلَام , إجْلَاء بَنِي النَّضِير ; فَمَنْ خَرَجَ مَعَ بَنِي النَّضِير كَانَ مِنْهُمْ , وَمَنْ تَرَكَهُمْ اخْتَارَ الْإِسْلَام . 4545 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد فِي قَوْله : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين } إلَى قَوْله : { الْعُرْوَة الْوُثْقَى } قَالَ : قَالَ مَنْسُوخ . 4546 - حَدَّثَنِي سَعِيد بْن الرَّبِيع الرَّازِيّ , قَالَ : ثنا سُفْيَان , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , وَوَائِل , عَنْ الْحَسَن : أَنَّ أُنَاسًا مِنْ الْأَنْصَار كَانُوا مُسْتَرْضَعِينَ فِي بَنِي النَّضِير , فَلَمَّا أُجْلُوا , أَرَادَ أَهْلُوهُمْ أَنْ يُلْحِقُوهُمْ بِدِينِهِمْ , فَنَزَلَتْ : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين } . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ مَعْنَى ذَلِك : لَا يُكْرَه أَهْل الْكِتَاب عَلَى الدِّين إذَا بَذَلُوا الْجِزْيَة , وَلَكِنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى دِينهمْ . وَقَالُوا : الْآيَة فِي خَاصّ مِنْ الْكُفَّار , وَلَمْ يُنْسَ مِنْهَا شَيْء . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِك : 4547 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثِنَا سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ } قَالَ : أُكْرِهَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْعَرَب , لِأَنَّهُمْ كَانُوا أُمَّة أُمِّيّه , لَيْسَ لَهُمْ كِتَاب يَعْرِفُونَهُ , فَلَمْ يُقْبَل(1/7)
مِنْهُمْ غَيْر الْإِسْلَام , وَلَا يُكْرَه عَلَيْهِ أَهْل الْكِتَاب إذَا أَقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ أَوْ بِالْخَرَاجِ , وَلَمْ يُفْتَنُوا عَنْ دِينهمْ , فَيُخَلَّى عَنْهُمْ . * - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار , قَالَ : ثنا سُلَيْمَان قَالَ : ثنا أَبُو هِلَال , قَالَ : ثنا قَتَادَةُ فِي قَوْله , { لَا إكْرَاه فِي الدِّين } قَالَ : هُوَ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْعَرَب أُكْرِهُوا عَلَى الدِّين , لَمْ يُقْبَل مِنْهُمْ إلَّا الْقَتْل أَوْ الْإِسْلَام , وَأَهْل الْكِتَاب قُبِلَتْ مِنْهُمْ الْجِزْيَة وَلَمْ يُقْتَلُوا . 4548 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا الْحَكَم بْن بَشِير , قَالَ : ثنا عَمْرو بْن قَيْس , عَنْ جُوَيْبِر , عَنْ الضَّحَّاك فِي قَوْله : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين } قَالَ : أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقَاتِل جَزِيرَة الْعَرَب مِنْ أَهْل الْأَوْثَان , فَلَمْ يَقْبَل مِنْهُمْ إلَّا " لَا إلَه إلَّا اللَّه " , أَوْ السَّيْف . ثُمَّ أَمَرَ فِيمَنْ سِوَاهُمْ بِأَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ الْجِزْيَة ; فَقَالَ : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ } . * - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين } قَالَ : كَانَتْ الْعَرَب لَيْسَ لَهَا دِين , فَكُرِهُوا عَلَى الدِّين بِالسَّيْفِ , قَالَ , وَلَا يُكْرَه الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى وَالْمَجُوس إذَا أُعْطُوا الْجِزْيَة . 4549 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن عُيَيْنَةَ , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , قَالَ : سَمِعْت مُجَاهَدًا يَقُول لِغُلَامٍ لَهُ نَصْرَانِيّ : يَا جَرِير أَسْلِمْ ! ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا كَانَ يُقَال لَهُمْ . 4550 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْد , قَالَ : ثني أَبِي , قَالَ : ثني عَمِّي , قَالَ : ثَنِيّ أَبِي , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ ابْن عَبَّاس : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ } قَالَ : وَذَلِك لَمَّا دَخَلَ النَّاس فِي الْإِسْلَام , وَأَعْطَى أَهْل الْكِتَاب الْجِزْيَة . وَقَالَ آخَرُونَ : هَذِهِ الْآيَة مَنْسُوخَة , وَإِنَّمَا نَزَلَتْ قَبْل أَنْ يُفْرَض الْقِتَال . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِك : 4551 - حَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : أَخْبَرَنِي يَعْقُوب بْن عَبْد الرَّحْمَن الزُّهْرِيّ قَالَ : سَأَلْت زَيْد بْن أَسْلَم عَنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى ذِكْره : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين } قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّة عَشْر سِنِينَ لَا يُكْرِه أَحَدًا فِي الدِّين , فَأَبَى الْمُشْرِكُونَ إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ , فَاسْتَأْذَنَ اللَّه فِي قِتَالهمْ , فَأَذِنَ لَهُ . وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَال بِالصَّوَابِ قَوْل مَنْ قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي خَاصّ مِنْ النَّاس , قَالَ : عَنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْره : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين } أَهْل الْكِتَابَيْنِ وَالْمَجُوس , وَكُلّ مَنْ جَاءَ إقْرَاره عَلَى دِينه الْمَخَالِف دِين الْحَقّ , وَأَخَذَ الْجِزْيَة مِنْهُ . وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُون شَيْء مِنْهَا مَنْسُوخًا . وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا الْقَوْل أَوْلَى الْأَقْوَال فِي ذَلِك بِالصَّوَابِ لِمَا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابنَا كِتَاب اللَّطِيف مِنْ الْبَيَان عَنْ أُصُول الْأَحْكَام " مِنْ أَنَّ النَّاسِخ غَيْر كَائِن نَاسِخًا إلَّا مَا نَفَى حُكْم الْمَنْسُوخ , فَلَمْ يَجُزْ اجْتِمَاعهمَا . فَأَمَّا مَا كَانَ ظَاهِره الْعُمُوم مِنْ الْأَمْر وَالنَّهْي وَبَاطِنه الْخُصُوص , فَهُوَ مِنْ النَّاسِخ وَالْمَنْسُوخ بِمَعْزِلٍ . وَإِذْ كَانَ ذَلِك كَذَلِكَ , وَكَانَ غَيْر مُسْتَحِيل أَنْ يُقَال : لَا إكْرَاه لِأَحَدٍ مِمَّنْ أُخِذَتْ مِنْهُ الْجِزْيَة فِي الدِّين , وَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ تَأْوِيلهَا بِخِلَافِ ذَلِك , وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا قَدْ نَقَلُوا عَنْ نَبِيّهمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَكْرَهَ عَلَى الْإِسْلَام قَوْمًا , فَأَبَى أَنْ يَقْبَل مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَام , وَحَكَمَ بِقَتْلِهِمْ إنْ امْتَنَعُوا مِنْهُ , وَذَلِك كَعَبَدَةِ الْأَوْثَان مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَب , وَكَالْمُرْتَدِّ عَنْ دِينه دِين الْحَقّ إلَى الْكُفْر وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ , وَأَنَّهُ تَرَكَ إكْرَاه الْآخَرِينَ عَلَى الْإِسْلَام بِقَبُولِهِ الْجِزْيَة مِنْهُ , وَإِقْرَاره عَلَى دِينه الْبَاطِل , وَذَلِك كَأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ , وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ ; كَانَ بَيِّنًا بِذَلِك أَنَّ مَعْنَى قَوْله : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين } إنَّمَا هُوَ لَا إكْرَاه فِي الدِّين لِأَحَدٍ مِمَّنْ حَلَّ قَبُول الْجِزْيَة مِنْهُ بِأَدَائِهِ الْجِزْيَة , وَرِضَاهُ بِحُكْمِ الْإِسْلَام . وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْآيَة مَنْسُوخَة الْحُكْم بِالْإِذْنِ بِالْمُحَارَبَةِ . فَإِنْ قَالَ قَائِل : فَمَا أَنْت قَائِل فِيمَا رُوِيَ عَنْ ابْن عَبَّاس وَعَمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ : مِنْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْم مِنْ الْأَنْصَار أَرَادُوا أَنْ يُكْرِهُوا أَوْلَادهمْ عَلَى الْإِسْلَام ؟ قُلْنَا : ذَلِك غَيْر مَدْفُوعَة(1/8)
صِحَّته , وَلَكِنَّ الْآيَة قَدْ تَنْزِل فِي خَاصّ مِنْ الْأَمْر , ثُمَّ يَكُون حُكْمهَا عَامًّا فِي كُلّ مَا جَانَسَ الْمَعْنَى الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ . فَاَلَّذِينَ أُنْزِلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَة عَلَى مَا ذَكَرَ ابْن عَبَّاس وَغَيْره , إنَّمَا كَانُوا قَوْمًا دَانُوا بِدِينِ أَهْل التَّوْرَاة قَبْل ثُبُوت عَقْد الْإِسْلَام لَهُمْ , فَنَهَى اللَّه تَعَالَى ذِكْره عَنْ إكْرَاههمْ عَلَى الْإِسْلَام , وَأَنْزَلَ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِك آيَة يَعُمّ حُكْمهَا كُلّ مَنْ كَانَ فِي مِثْل مَعْنَاهُمْ مِمَّنْ كَانَ عَلَى دِين مِنْ الْأَدْيَان الَّتِي يَجُوز أَخْذ الْجِزْيَة مِنْ أَهْلهَا , وَإِقْرَارهمْ عَلَيْهَا عَلَى النَّحْو الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِك . وَمَعْنَى قَوْله : { لَا إكْرَاه فِي الدِّين } لَا يُكْرَه أَحَد فِي دِين الْإِسْلَام عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا أَدَلَّتْ الْأَلِف وَاللَّام فِي الدِّين تَعْرِيفًا لِلدِّينِ الَّذِي عَنَى اللَّه بِقَوْلِهِ : لَا إكْرَاه فِيهِ , وَأَنَّهُ هُوَ الْإِسْلَام . وَقَدْ يُحْتَمَل أَنْ يَكُون أُدْخِلَتَا عُقَيْبًا مِنْ الْهَاء الْمَنَوِيَّة فِي الدِّين , فَيَكُون مَعْنَى الْكَلَام حِينَئِذٍ : وَهُوَ الْعَلِيّ الْعَظِيم لَا إكْرَاه فِي دِينه , قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ . وَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْل أَشْبَه بِتَأْوِيلِ الْآيَة عِنْدِي .
قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ
وَأَمَّا قَوْله : { قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد } فَإِنَّهُ مَصْدَر مِنْ قَوْل الْقَائِل : رَشَدْت فَأَنَا أَرْشُد رُشْدًا وَرَشَدًا وَرَشَادًا , وَذَلِك إذَا أَصَابَ الْحَقّ وَالصَّوَاب . وَأَمَّا الْغَيّ , فَإِنَّهُ مَصْدَر مِنْ قَوْل الْقَائِل : قَدْ غَوَى فُلَان فَهُوَ يَغْوِي غَيًّا وَغَوَايَة . وَبَعْض الْعَرَب يَقُول : غَوَى فُلَان يَغْوَى . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ قِرَاءَة الْقُرَّاء : { مَا ضَلَّ صَاحِبكُمْ وَمَا غَوَى } 53 2 الْفَتْح , وَهِيَ أَفْصَح اللُّغَتَيْنِ , وَذَلِك إذَا عَدَا الْحَقّ وَتَجَاوَزَهُ فَضَلَّ . فَتَأْوِيل الْكَلَام إذًا : قَدْ وَضَحَ الْحَقّ مِنْ الْبَاطِل , وَاسْتَبَانَ لِطَالِبِ الْحَقّ وَالرَّشَاد وَجْه مَطْلَبه , فَتَمَيَّزَ مِنْ الضَّلَالَة وَالْغَوَايَة , فَلَا تُكْرِهُوا مِنْ أَهْل الْكِتَابَيْنِ , وَمَنْ أَبَحْت لَكُمْ أَخْذ الْجِزْيَة مِنْهُ , عَلَى دِينكُمْ , دِين الْحَقّ ; فَإِنَّ مَنْ حَادَ عَنْ الرَّشَاد بَعْد اسْتِبَانَته لَهُ , فَإِلَى رَبّه أَمْره , وَهُوَ وَلِيّ عُقُوبَته فِي مَعَاده .
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ(1/9)
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ يَكْفُر بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاَللَّهِ } . اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي مَعْنَى الطَّاغُوت , فَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ الشَّيْطَان . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِك : 4552 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار , قَالَ : ثِنَا عَبْد الرَّحْمَن , قَالَ : ثنا سُفْيَان , عَنْ أَبِي إسْحَاق , عَنْ حَسَّان بْن فَائِد الْعَبْسِيّ قَالَ : قَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب : الطَّاغُوت : الشَّيْطَان . * - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى , قَالَ : ثني ابْن أَبِي عَدِيّ , عَنْ شُعْبَة , عَنْ أَبِي إسْحَاق , عَنْ حَسَّان بْن فَائِد , عَنْ عُمَر , مِثْله . 4553 - حَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : ثِنَا هُشَيْم , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الْمَلِك , عَمَّنْ حَدَّثَهُ , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : الطَّاغُوت : الشَّيْطَان . 4554 - حَدَّثَنِي يَعْقُوب , قَالَ : ثنا هُشَيْم , قَالَ : أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا , عَنْ الشَّعْبِيّ , قَالَ : الطَّاغُوت : الشَّيْطَان . 4555 - حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا أَبُو زُهَيْر , عَنْ جُوَيْبِر , عَنْ الضَّحَّاك فِي قَوْله : { فَمَنْ يَكْفُر بِالطَّاغُوتِ } قَالَ : الشَّيْطَان . 4556 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ ثنا يَزِيد , قَالَ : ثِنَا سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ : الطَّاغُوت : الشَّيْطَان . 4557 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي قَوْله : { فَمَنْ كَفَرَ بِالطَّاغُوتِ } بِالشَّيْطَانِ . وَقَالَ آخَرُونَ : الطَّاغُوت : هُوَ السَّاحِر . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِك : 4558 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا عَبْد الْأَعْلَى قَالَ : ثِنَا دَاوُد , عَنْ أَبِي الْعَالِيَة , أَنَّهُ قَالَ : الطَّاغُوت : السَّاحِر . وَقَدْ خُولِفَ عَبْد الْأَعْلَى فِي هَذِهِ الرِّوَايَة , وَأَنَا أَذْكُر الْخِلَاف بَعْدُ . 4559 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار , قَالَ : ثنا حُمَيْد بْن مَسْعَدَة , قَالَ : ثنا عَوْف , عَنْ مُحَمَّد , قَالَ : الطَّاغُوت : السَّاحِر . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ الطَّاغُوت : هُوَ الْكَاهِن . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِك : 4560 - حَدَّثَنِي ابْن بَشَّار , قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر , قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيد , عَنْ أَبِي بِشْر , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , قَالَ : الطَّاغُوت : الْكَاهِن . 4561 - حَدَّثَنَا ابْن الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا عَبْد الْوَهَّاب , قَالَ : ثنا دَاوُد , عَنْ رَفِيع , قَالَ : الطَّاغُوت : الْكَاهِن . 4562 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثِنَا الْحُسَيْن , قَالَ : ثني حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ } قَالَ : كُهَّان تَنَزَّل عَلَيْهَا شَيَاطِين يُلْقُونَ عَلَى أَلْسِنَتهمْ وَقُلُوبهمْ . أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه , أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُول : وَسُئِلَ عَنْ الطَّوَاغِيت الَّتِي كَانُوا يَتَحَاكَمُونَ إلَيْهَا , فَقَالَ : كَانَ فِي جُهَيْنَة وَاحِد , وَفِي أَسْلَم وَاحِد , وَفِي كُلّ حَيّ وَاحِد , وَهِيَ كُهَّان يَنْزِل عَلَيْهَا الشَّيْطَان . وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل عِنْدِي فِي الطَّاغُوت : أَنَّهُ كُلّ ذِي طُغْيَان عَلَى اللَّه فَعُبِدَ مِنْ دُونه , إمَّا بِقَهْرٍ مِنْهُ لِمَنْ عَبَدَهُ , وَإِمَّا بِطَاعَةٍ مِمَّنْ عَبَدَهُ لَهُ , وَإِنْسَانًا كَانَ ذَلِك الْمَعْبُود , أَوْ شَيْطَانًا , أَوْ وَثَنًا , أَوْ صَنَمًا , أَوْ كَائِنًا مَا كَانَ مِنْ شَيْء . وَأَرَى أَنَّ أَصْل الطَّاغُوت : الطَّغْوُوت , مِنْ قَوْل الْقَائِل : طَغَى فُلَان يَطْغُو : إذَا عَدَا قَدْره فَتَجَاوَزَ حَدّه , كَالْجَبَرُوتِ مِنْ التَّجَبُّر , وَالْخَلَبُوت مِنْ الْخَلْب , وَنَحْو ذَلِك مِنْ الْأَسْمَاء الَّتِي تَأْتِي عَلَى تَقْدِير فَعَلَوْت بِزِيَادَةِ الْوَاو وَالتَّاء . ثُمَّ نُقِلَتْ لَامَهُ أَعْنِي لَامَ الطَّغْوُوت , فَجُعِلَتْ لَهُ عَيْنًا , وَحُوِّلَتْ عَيْنه فَجُعِلَتْ مَكَان لَامَهُ , كَمَا قِيلَ جَذَبَ وَجَبَذَ وَجَابِذ وَجَاذِب وَصَاعِقَة وَصَاقِعه , وَمَا أَشْبَهَ ذَلِك مِنْ الْأَسْمَاء الَّتِي عَلَى هَذَا الْمِثَال . فَتَأْوِيل الْكَلَام إذًا : فَمَنْ يَجْحَد رُبُوبِيَّة كُلّ مَعْبُود مِنْ دُون اللَّه فَيَكْفُرْ بِهِ ; { وَيُؤْمِن بِاَللَّهِ } يَقُول : وَيُصَدِّق بِاَللَّهِ أَنَّهُ إلَهه وَرَبّه وَمَعْبُوده , { فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } يَقُول : فَقَدْ تَمَسَّكَ بِأَوْثَق مَا يَتَمَسَّك بِهِ مَنْ طَلَبَ الْخَلَاص لِنَفْسِهِ مِنْ عَذَاب اللَّه وَعِقَابه . كَمَا : 4563 - حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن سَعِيد بْن يَعْقُوب الْكِنْدِيّ , قَالَ : ثنا بَقِيَّة بْن الْوَلِيد , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي مَرْيَم , عَنْ حُمَيْد بْن عُقْبَة , عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء : أَنَّهُ عَادَ مَرِيضًا مِنْ جِيَرَته فَوَجَدَهُ فِي السُّوق وَهُوَ يُغَرْغِر لَا يَفْقُهُونَ مَا يُرِيد , فَسَأَلَهُمْ : يُرِيد أَنْ يَنْطِق ؟ قَالُوا : نَعَمْ يُرِيد أَنْ يَقُول : آمَنْت بِاَللَّهِ وَكَفَرْت بِالطَّاغُوتِ . قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء : وَمَا عِلْمكُمْ بِذَلِك ؟ قَالُوا : لَمْ يَزَلْ يُرَدِّدهَا حَتَّى انْكَسَرَ لِسَانه , فَنَحْنُ نَعْلَم أَنَّهُ إنَّمَا يُرِيد أَنْ يَنْطِق بِهَا . فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء : أَفْلَحَ(1/10)
صَاحِبكُمْ , إنَّ اللَّه يَقُول : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاَللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَام لَهَا وَاَللَّه سَمِيع عَلِيم } . فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } وَالْعُرْوَة فِي هَذَا الْمَكَان مَثَل لِلْإِيمَانِ الَّذِي اعْتَصَمَ بِهِ الْمُؤْمِن , فَشَبَّهَهُ فِي تَعَلُّقه بِهِ وَتَمَسُّكه بِهِ بِالْمُتَمَسِّكِ بِعُرْوَةِ الشَّيْء الَّذِي لَهُ عُرْوَة يُتَمَسَّك بِهَا , إذْ كَانَ كُلّ ذِي عُرْوَة فَإِنَّمَا يَتَعَلَّق مَنْ أَرَادَهُ بِعُرْوَتِهِ . وَجَعَلَ تَعَالَى ذِكْره الْإِيمَان الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ الْكَافِر بِالطَّاغُوتِ الْمُؤْمِن بِاَللَّهِ وَمِنْ أَوْثَق عُرَى الْأَشْيَاء بِقَوْلِهِ : { الْوُثْقَى } وَالْوُثْقَى : " فُعْلَى " مِنْ الْوَثَاقَة , يُقَال فِي الذَّكَر : هُوَ الْأَوْثَق , وَفِي الْأُنْثَى : هِيَ الْوُثْقَى , كَمَا يُقَال فُلَان الْأَفْضَل وَفُلَانَة الْفُضْلَى . وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِك قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِك : 4564 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , عَنْ عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْله : { بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } قَالَ : الْإِيمَان . * - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , مِثْله . 4565 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو , قَالَ : ثِنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ , قَالَ : الْعُرْوَة الْوُثْقَى : هُوَ الْإِسْلَام . 4566 - حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إسْحَاق , قَالَ : ثنا أَبُو أَحْمَد , قَالَ : ثِنَا سُفْيَان , عَنْ أَبِي السَّوْدَاء , عَنْ جَعْفَر - يَعْنِي ابْن أَبِي الْمُغِيرَة - عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر قَوْله : { فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } قَالَ : لَا إلَه إلَّا اللَّه . * - حَدَّثَنَا ابْن بَشَّار , قَالَ : ثنا عَبْد الرَّحْمَن , قَالَ : ثنا سُفْيَان , عَنْ أَبِي السَّوْدَاء النَّهْدِيّ , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر مِثْله . 4567 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا أَبُو زُهَيْر , عَنْ جُوَيْبِر , الضَّحَّاك : { فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } مِثْله .
لَا انْفِصَامَ لَهَا
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { لَا انْفِصَام لَهَا } يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { لَا انْفِصَام لَهَا } لَا انْكِسَار لَهَا , وَالْهَاء وَالْأَلِف فِي قَوْله لَهَا عَائِد عَلَى الْعُرْوَة . وَمَعْنَى الْكَلَام : فَمَنْ يَكْفُر بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاَللَّهِ , فَقَدْ اعْتَصَمَ مِنْ طَاعَة اللَّه بِمَا لَا يُخْشَى مَعَ اعْتِصَامه خِذْلَانه إيَّاهُ - وَإِسْلَامه عِنْد حَاجَته إلَيْهِ فِي أَهْوَال الْآخِرَة , كَالْمُتَمَسِّكِ بِالْوَثِيقِ مِنْ عُرَى الْأَشْيَاء الَّتِي لَا يُخْشَى انْكِسَار عُرَاهَا . وَأَصْل الْفَصْم : الْكَسْر , وَمِنْهُ قَوْل أُعْشَى بَنِي ثَعْلَبَة : وَمَبْسِمَهَا عَنْ شَتِيت النَّبَا تِ غَيْرِ أَكَسَّ وَلَا مُنْفَصِمْ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِك قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِك : 4568 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , عَنْ عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْله { لَا انْفِصَام لَهَا } قَالَ : لَا يُغَيِّر اللَّه مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ . * - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : ثِنَا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , مِثْله . 4569 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { لَا انْفِصَام لَهَا } قَالَ : لَا انْقِطَاع لَهَا .
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّه سَمِيع عَلِيم } يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره : وَاَللَّه سَمِيع إيمَان الْمُؤْمِن بِاَللَّهِ وَحْده , الْكَافِر بِالطَّاغُوتِ عِنْد إقْرَاره بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّه , وَتَبَرُّئِهِ مِنْ الْأَنْدَاد وَالْأَوْثَان الَّتِي تُعْبَد مِنْ دُون اللَّه , عَلِيم بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيد اللَّه وَإِخْلَاص رُبُوبِيَّته قَلْبه , وَمَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنْ الْبَرَاءَة مِنْ الْآلِهَة وَالْأَصْنَام وَالطَّوَاغِيت ضَمِيره , وَبِغَيْرِ ذَلِك مِمَّا أَخْفَتْهُ نَفْس كُلّ أَحَد مِنْ خَلْقه لَا يَنْكَتِم عَنْهُ سِرّ , وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْر , حَتَّى يُجَازِيَ كُلًّا يَوْم الْقِيَامَة بِمَا نَطَقَ بِهِ لِسَانه , وَأَضْمَرْته نَفْسه , إنْ خَيْرًا فَخَيْرًا , وَإِنْ شَرًّا فَشَرًّا .
==============(1/11)
وفي الكشاف :
" لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميعٌ عليمٌ " " لا إكراه في الدين " أي لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر ولكن على التمكين والاختيار . ونحوه قوله تعالى : " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " يونس : 99 أي لو شاء لقسرهم على الإيمان ولكنه لم يفعل وبنى الأمر على الاختيار " قد تبين الرشد من الغي " قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة " فمن يكفر بالطاغوت " فمن اختار الكفر بالشيطان أو الأصنام والإيمان بالله " فقد استمسك بالعروة الوثقى " من الحبل الوثيق المحكم المأمون انفصامها أي انقطاعها . وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده والتيقن به . وقيل : هو إخبار في معنى النهي أي لا تتكرهوا في الدين . ثم قال بعضهم : هو منسوخ بقوله : " جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " التوبة : 73 وقيل : هو في أهل الكتاب خاصة لأنهم حصنوا أنفسهم بأداء الجزية وروي . أنه كان لأنصاري من بني سالم بن عوف ابنان فتنصرا قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأنصاري : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر فنزلت : فخلاهما .
===========
ويقول القرطبي :
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " لَا إِكْرَاه فِي الدِّين " الدِّين فِي هَذِهِ الْآيَة الْمُعْتَقَد وَالْمِلَّة بِقَرِينَةِ قَوْله : " قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ " . وَالْإِكْرَاه الَّذِي فِي الْأَحْكَام مِنْ الْإِيمَان وَالْبُيُوع وَالْهِبَات وَغَيْرهَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه , وَإِنَّمَا يَجِيء فِي تَفْسِير قَوْله : " إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ " [ النَّحْل : 106 ] . وَقَرَأَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن " قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ " وَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَن وَالشَّعْبِيّ , يُقَال : رَشَدَ يَرْشُد رُشْدًا , وَرَشِدَ يَرْشَد رَشَدًا : إِذَا بَلَغَ مَا يُحِبّ . وَغَوَى ضِدّه , عَنْ النَّحَّاس . وَحَكَى اِبْن عَطِيَّة عَنْ أَبِي عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ أَنَّهُ قَرَأَ " الرَّشَاد " بِالْأَلِفِ . وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن أَيْضًا " الرُّشُد " بِضَمِّ الرَّاء وَالشِّين . " الْغَيّ " مَصْدَر مِنْ غَوَى يَغْوِي إِذَا ضَلَّ فِي مُعْتَقَد أَوْ رَأْي , وَلَا يُقَال الْغَيّ فِي الضَّلَال عَلَى الْإِطْلَاق .
الثَّانِيَة : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة عَلَى سِتَّة أَقْوَال :
[ الْأَوَّل ] قِيلَ إِنَّهَا مَنْسُوخَة ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَكْرَهَ الْعَرَب عَلَى دِين الْإِسْلَام وَقَاتَلَهُمْ وَلَمْ يَرْضَ مِنْهُمْ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ , قَالَهُ سُلَيْمَان بْن مُوسَى , قَالَ : نَسَخَتْهَا " يَا أَيّهَا النَّبِيّ جَاهِدْ الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ " [ التَّوْبَة : 73 ] . وَرُوِيَ هَذَا عَنْ اِبْن مَسْعُود وَكَثِير مِنْ الْمُفَسِّرِينَ .
[ الثَّانِي ] لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَهْل الْكِتَاب خَاصَّة , وَأَنَّهُمْ لَا يُكْرَهُونَ عَلَى الْإِسْلَام إِذَا أَدَّوْا الْجِزْيَة , وَاَلَّذِينَ يُكْرَهُونَ أَهْل الْأَوْثَان فَلَا يُقْبَل مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَام فَهُمْ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ " يَا أَيّهَا النَّبِيّ جَاهِدْ الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ " . هَذَا قَوْل الشَّعْبِيّ وَقَتَادَة وَالْحَسَن وَالضَّحَّاك . وَالْحُجَّة لِهَذَا الْقَوْل مَا رَوَاهُ زَيْد بْن أَسْلَم عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَمِعْت عُمَر بْن الْخَطَّاب يَقُول لِعَجُوزٍ نَصْرَانِيَّة : أَسْلِمِي أَيَّتهَا الْعَجُوز تَسْلَمِي , إِنَّ اللَّه بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ . قَالَتْ : أَنَا عَجُوز كَبِيرَة وَالْمَوْت إِلَيَّ قَرِيب ! فَقَالَ عُمَر : اللَّهُمَّ اِشْهَدْ , وَتَلَا " لَا إِكْرَاه فِي الدِّين " .
[ الثَّالِث ] مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ فِي الْأَنْصَار , كَانَتْ تَكُون الْمَرْأَة مِقْلَاتًا فَتَجْعَل عَلَى نَفْسهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَد أَنْ تُهَوِّدهُ , فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِير كَانَ فِيهِمْ كَثِير مِنْ أَبْنَاء الْأَنْصَار فَقَالُوا : لَا نَدَع أَبْنَاءَنَا فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " لَا إِكْرَاه فِي الدِّين قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ " . قَالَ أَبُو دَاوُد : وَالْمِقْلَات الَّتِي لَا يَعِيش لَهَا وَلَد . فِي رِوَايَة : إِنَّمَا فَعَلْنَا مَا فَعَلْنَا وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ دِينهمْ أَفْضَل مِمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ , وَأَمَّا إِذَا جَاءَ اللَّه بِالْإِسْلَامِ فَنُكْرِههُمْ عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ : " لَا إِكْرَاه فِي الدِّين " مَنْ شَاءَ اِلْتَحَقَ بِهِمْ وَمَنْ شَاءَ دَخَلَ فِي الْإِسْلَام . وَهَذَا قَوْل سَعِيد بْن جُبَيْر وَالشَّعْبِيّ وَمُجَاهِد إِلَّا أَنَّهُ قَالَ : كَانَ سَبَب كَوْنهمْ فِي بَنِي النَّضِير الِاسْتِرْضَاع . قَالَ النَّحَّاس : قَوْل اِبْن عَبَّاس فِي هَذِهِ الْآيَة أَوْلَى الْأَقْوَال لِصِحَّةِ إِسْنَاده , وَأَنَّ مِثْله لَا يُؤْخَذ بِالرَّأْيِ .(1/12)
[ الرَّابِع ] قَالَ السُّدِّيّ : نَزَلَتْ الْآيَة فِي رَجُل مِنْ الْأَنْصَار يُقَال لَهُ أَبُو حُصَيْن كَانَ لَهُ اِبْنَانِ , فَقَدِمَ تُجَّار مِنْ الشَّام إِلَى الْمَدِينَة يَحْمِلُونَ الزَّيْت , فَلَمَّا أَرَادُوا الْخُرُوج أَتَاهُمْ اِبْنَا الْحُصَيْن فَدَعَوْهُمَا إِلَى النَّصْرَانِيَّة فَتَنَصَّرَا وَمَضَيَا مَعَهُمْ إِلَى الشَّام , فَأَتَى أَبُوهُمَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْتَكِيًا أَمْرهمَا , وَرَغِبَ فِي أَنْ يَبْعَث رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَرُدّهُمَا فَنَزَلَتْ : " لَا إِكْرَاه فِي الدِّين " وَلَمْ يُؤْمَر يَوْمئِذٍ بِقِتَالِ أَهْل الْكِتَاب , وَقَالَ : ( أَبْعَدَهُمَا اللَّه هُمَا أَوَّل مَنْ كَفَرَ ) فَوَجَدَ أَبُو الْحُصَيْن فِي نَفْسه عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين لَمْ يَبْعَث فِي طَلَبهمَا فَأَنْزَلَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ " فَلَا وَرَبّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنهمْ " [ النِّسَاء : 65 ] الْآيَة ثُمَّ إِنَّهُ نَسَخَ " لَا إِكْرَاه فِي الدِّين " فَأُمِرَ بِقِتَالِ أَهْل الْكِتَاب فِي سُورَة [ بَرَاءَة ] . وَالصَّحِيح فِي سَبَب قَوْله تَعَالَى : " فَلَا وَرَبّك لَا يُؤْمِنُونَ " حَدِيث الزُّبَيْر مَعَ جَاره الْأَنْصَارِيّ فِي السَّقْي , عَلَى مَا يَأْتِي فِي [ النِّسَاء ] بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
[ وَقِيلَ ] مَعْنَاهَا لَا تَقُولُوا لِمَنْ أَسْلَمَ تَحْت السَّيْف مُجْبَرًا مُكْرَهًا , وَهُوَ الْقَوْل الْخَامِس .
[ وَقَوْل سَادِس ] وَهُوَ أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي السَّبْي مَتَى كَانُوا مِنْ أَهْل الْكِتَاب لَمْ يُجْبَرُوا إِذَا كَانُوا كِبَارًا , وَإِنْ كَانُوا مَجُوسًا صِغَارًا أَوْ كِبَارًا أَوْ وَثَنِيِّينَ فَإِنَّهُمْ يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَام ; لِأَنَّ مَنْ سَبَاهُمْ لَا يَنْتَفِع بِهِمْ مَعَ كَوْنهمْ وَثَنِيِّينَ , أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تُؤْكَل ذَبَائِحهمْ وَلَا تُوطَأ نِسَاؤُهُمْ , وَيَدِينُونَ بِأَكْلِ الْمَيْتَة وَالنَّجَاسَات وَغَيْرهمَا , وَيَسْتَقْذِرهُمْ الْمَالِك لَهُمْ وَيَتَعَذَّر عَلَيْهِ الِانْتِفَاع بِهِمْ مِنْ جِهَة الْمِلْك فَجَازَ لَهُ الْإِجْبَار . وَنَحْو هَذَا رَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك . وَأَمَّا أَشْهَب فَإِنَّهُ قَالَ : هُمْ عَلَى دِين مَنْ سَبَاهُمْ , فَإِذَا اِمْتَنَعُوا أُجْبِرُوا عَلَى الْإِسْلَام , وَالصِّغَار لَا دِين لَهُمْ فَلِذَلِكَ أُجْبِرُوا عَلَى الدُّخُول فِي دِين الْإِسْلَام لِئَلَّا يَذْهَبُوا إِلَى دِين بَاطِل . فَأَمَّا سَائِر أَنْوَاع الْكُفْر مَتَى بَذَلُوا الْجِزْيَة لَمْ نُكْرِههُمْ عَلَى الْإِسْلَام سَوَاء كَانُوا عَرَبًا أَمْ عَجَمًا قُرَيْشًا أَوْ غَيْرهمْ . وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِي الْجِزْيَة وَمَنْ تُقْبَل مِنْهُ فِي [ بَرَاءَة ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا(1/13)
" فَمَنْ يَكْفُر بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاَللَّهِ " جَزْم بِالشَّرْطِ . وَالطَّاغُوت مُؤَنَّثَة مِنْ طَغَى يَطْغَى . - وَحَكَى الطَّبَرِيّ يَطْغُو - إِذَا جَاوَزَ الْحَدّ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ . وَوَزْنه فَعَلُوت , وَمَذْهَب سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ اِسْم مُذَكَّر مُفْرَد كَأَنَّهُ اِسْم جِنْس يَقَع لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِير . وَمَذْهَب أَبِي عَلِيّ أَنَّهُ مَصْدَر كَرَهَبُوتٍ وَجَبَرُوت , وَهُوَ يُوصَف بِهِ الْوَاحِد وَالْجَمْع , وَقُلِبَتْ لَامه إِلَى مَوْضِع الْعَيْن وَعَيْنه مَوْضِع اللَّام كَجَبَذَ وَجَذَبَ , فَقُلِبَتْ الْوَاو أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَتَحَرُّك مَا قَبْلهَا فَقِيلَ طَاغُوت , وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل النَّحَّاس . وَقِيلَ : أَصْل طَاغُوت فِي اللُّغَة مَأْخُوذَة مِنْ الطُّغْيَان يُؤَدِّي مَعْنَاهُ مِنْ غَيْر اِشْتِقَاق , كَمَا قِيلَ : لَآلٍ مِنْ اللُّؤْلُؤ . وَقَالَ الْمُبَرِّد : هُوَ جَمْع . وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَذَلِكَ مَرْدُود . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالطَّاغُوت الْكَاهِن وَالشَّيْطَان وَكُلّه رَأْس فِي الضَّلَال , وَقَدْ يَكُون وَاحِدًا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ " [ النِّسَاء : 60 ] . وَقَدْ يَكُون جَمْعًا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوت " [ الْبَقَرَة 257 ] وَالْجَمْع الطَّوَاغِيت . " وَيُؤْمِن بِاَللَّهِ " عَطْف . " فَقَدْ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى " جَوَاب الشَّرْط , وَجَمْع الْوُثْقَى الْوُثْق مِثْل الْفُضْلَى وَالْفُضْل , فَالْوُثْقَى فُعْلَى مِنْ الْوَثَاقَة , وَهَذِهِ الْآيَة تَشْبِيه . وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَة الْمُفَسِّرِينَ فِي الشَّيْء الْمُشَبَّه بِهِ , فَقَالَ مُجَاهِد : الْعُرْوَة الْإِيمَان . وَقَالَ السُّدِّيّ : الْإِسْلَام . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالضَّحَّاك , لَا إِلَه إِلَّا اللَّه , وَهَذِهِ عِبَارَات تَرْجِع إِلَى مَعْنًى وَاحِد . ثُمَّ قَالَ : " لَا اِنْفِصَام لَهَا " قَالَ مُجَاهِد : أَيْ لَا يُغَيِّر مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ , أَيْ لَا يُزِيل عَنْهُمْ اِسْم الْإِيمَان حَتَّى يَكْفُرُوا . وَالِانْفِصَام : الِانْكِسَار مِنْ غَيْر بَيْنُونَة . وَالْقَصْم : كَسْر بِبَيْنُونَةٍ , وَفِي صَحِيح الْحَدِيث ( فَيَفْصِم عَنْهُ الْوَحْي وَإِنَّ جَبِينه لَيَتَفَصَّد عَرَقًا ) أَيْ يُقْلِع . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : فَصْم الشَّيْء كَسْره مِنْ غَيْر أَنْ يَبِين , تَقُول : فَصَمْته فَانْفَصَمَ , قَالَ اللَّه تَعَالَى : لَا اِنْفِصَام لَهَا " وَتُفْصَم مِثْله , قَالَهُ ذُو الرُّمَّة يَذْكُر غَزَالًا يُشَبِّههُ بِدُمْلُجِ فِضَّة : كَأَنَّهُ دُمْلُج مِنْ فِضَّة نَبَه فِي مَلْعَب مِنْ جَوَارِي الْحَيّ مَفْصُوم وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مَفْصُومًا لِتَثَنِّيه وَانْحِنَائِهِ إِذَا نَامَ . وَلَمْ يَقُلْ " مَقْصُوم " بِالْقَافِ فَيَكُون بَائِنًا بِاثْنَيْنِ . وَأفْصَمَ الْمَطَر : أَقْلَعَ . وَأَفْصَمَتْ عَنْهُ الْحُمَّى .
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
لَمَّا كَانَ الْكُفْر بِالطَّاغُوتِ وَالْإِيمَان بِاَللَّهِ مِمَّا يَنْطِق بِهِ اللِّسَان وَيَعْتَقِدهُ الْقَلْب حَسُنَ فِي الصِّفَات " سَمِيع " مِنْ أَجْل النُّطْق " عَلِيم " مِنْ أَجْل الْمُعْتَقَد .
==============
ويقول ابن كثير :
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(1/14)
يَقُول تَعَالَى " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين " أَيْ لَا تُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى الدُّخُول فِي دِين الْإِسْلَام فَإِنَّهُ بَيِّنٌ وَاضِحٌ جَلِيٌّ دَلَائِله وَبَرَاهِينه لَا يَحْتَاج إِلَى أَنْ يُكْرَه أَحَد عَلَى الدُّخُول فِيهِ بَلْ مَنْ هَدَاهُ اللَّه لِلْإِسْلَامِ وَشَرَحَ صَدْره وَنَوَّرَ بَصِيرَته دَخَلَ فِيهِ عَلَى بَيِّنَة وَمَنْ أَعْمَى اللَّه قَلْبه وَخَتَمَ عَلَى سَمْعه وَبَصَره فَإِنَّهُ لَا يُفِيدهُ الدُّخُول فِي الدِّين مُكْرَهًا مَقْسُورًا وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ سَبَب نُزُول هَذِهِ الْآيَة فِي قَوْم مِنْ الْأَنْصَار وَإِنْ كَانَ حُكْمهَا عَامًّا وَقَالَ اِبْن جَرِير : حَدَّثَنَا اِبْن يَسَار حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي عَدِيّ عَنْ شُعْبَة عَنْ أَبِي بِشْر عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَانَتْ الْمَرْأَة تَكُون مِقْلَاة فَتَجْعَل عَلَى نَفْسهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَد أَنْ تُهَوِّدَهُ فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِير كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاء الْأَنْصَار فَقَالُوا : لَا نَدَع أَبْنَاءَنَا فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ " وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا عَنْ بُنْدَار بِهِ وَمِنْ وُجُوه أُخَر عَنْ شُعْبَة بِهِ نَحْوه وَقَدْ رَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم وَابْن حِبَّان فِي صَحِيحه مِنْ حَدِيث شُعْبَة بِهِ وَهَكَذَا ذَكَرَ مُجَاهِد وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالشَّعْبِيّ وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَغَيْرهمْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد الْجُرَشِيّ عَنْ زَيْد بْن ثَابِت عَنْ عِكْرِمَة أَوْ عَنْ سَعِيد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَوْله " لَا إِكْرَاه فِي الدِّين" قَالَ : نَزَلَتْ فِي رَجُل مِنْ الْأَنْصَار مِنْ بَنِي سَالِم بْن عَوْف يُقَال لَهُ الْحُصَيْنِيّ كَانَ لَهُ اِبْنَانِ نَصْرَانِيَّانِ وَكَانَ هُوَ رَجُلًا مُسْلِمًا فَقَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَا أَسْتَكْرِههُمَا فَإِنَّهُمَا قَدْ أَبَيَا إِلَّا النَّصْرَانِيَّة فَأَنْزَلَ اللَّه فِيهِ ذَلِكَ رَوَاهُ اِبْن جَرِير وَرَوَى السُّدِّيّ نَحْو ذَلِكَ وَزَادَ وَكَانَا قَدْ تَنَصَّرَا عَلَى أَيْدِي تُجَّار قَدِمُوا مِنْ الشَّام يَحْمِلُونَ زَبِيبًا فَلَمَّا عَزَمَا عَلَى الذَّهَاب مَعَهُمْ أَرَادَ أَبُوهُمَا أَنْ يَسْتَكْرِههُمَا وَطَلَبَ مِنْ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَبْعَث فِي آثَارهمَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَمْرو بْن عَوْف أَخْبَرَنَا شَرِيك عَنْ أَبِي هِلَال عَنْ أَسْبَق قَالَ : كُنْت فِي دِينهمْ مَمْلُوكًا نَصْرَانِيًّا لِعُمَر بْن الْخَطَّاب فَكَانَ يَعْرِض عَلَيَّ الْإِسْلَام فَآبَى فَيَقُول " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ " وَيَقُول يَا أَسْبَق لَوْ أَسْلَمْت لَاسْتَعَنَّا بِك عَلَى بَعْض أُمُور الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَة كَثِيرَة مِنْ الْعُلَمَاء أَنَّ هَذِهِ مَحْمُولَة عَلَى أَهْل الْكِتَاب وَمَنْ دَخَلَ فِي دِينهمْ قَبْل النَّسْخ وَالتَّبْدِيل إِذَا بَذَلُوا الْجِزْيَة وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ هِيَ مَنْسُوخَة بِآيَةِ الْقِتَال وَأَنَّهُ يَجِب أَنْ يُدْعَى جَمِيع الْأُمَم إِلَى الدُّخُول فِي الدِّين الْحَنِيف دِين الْإِسْلَام فَإِنْ أَبَى أَحَد مِنْهُمْ الدُّخُول وَلَمْ يَنْقَدْ لَهُ أَوْ يَبْذُل الْجِزْيَة قُوتِلَ حَتَّى يُقْتَل وَهَذَا مَعْنَى لَا إِكْرَاه قَالَ اللَّه تَعَالَى" سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْس شَدِيد تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ " وَقَالَ تَعَالَى " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ " وَقَالَ تَعَالَى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّار وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه مَعَ الْمُتَّقِينَ" وَفِي الصَّحِيح عَجِبَ رَبُّك مِنْ قَوْم يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّة فِي السَّلَاسِل يَعْنِي الْأُسَارَى الَّذِينَ يُقْدَم بِهِمْ بِلَاد الْإِسْلَام فِي الْوَثَائِق وَالْأَغْلَال وَالْقُيُود وَالْأَكْبَال ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ يُسْلِمُونَ وَتَصْلُح أَعْمَالهمْ وَسَرَائِرهمْ فَيَكُونُوا مِنْ أَهْل الْجَنَّة فَأَمَّا الْحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ حُمَيْد عَنْ أَنَس أَنَّ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِرَجُلٍ أَسْلِمْ قَالَ إِنِّي أَجِدُنِي كَارِهًا قَالَ وَإِنْ كُنْت كَارِهًا فَإِنَّهُ ثُلَاثِيّ صَحِيح وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيل فَإِنَّهُ لَمْ يُكْرِههُ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْإِسْلَام بَلْ دَعَاهُ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ نَفْسه لَيْسَتْ قَابِلَة لَهُ بَلْ هِيَ كَارِهَة فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ وَإِنْ كُنْت كَارِهًا فَإِنَّ اللَّه سَيَرْزُقُك حُسْن النِّيَّة وَالْإِخْلَاص. وَقَوْله " فَمَنْ يَكْفُر بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاَللَّهِ فَقَدْ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا اِنْفِصَامَ لَهَا وَاَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " أَيْ مَنْ خَلَعَ الْأَنْدَاد وَالْأَوْثَان وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْطَان مِنْ عِبَادَة كُلّ مَا يُعْبَد مِنْ دُون اللَّه وَوَحَّدَ(1/15)
اللَّه فَعَبَدَهُ وَحْدَهُ وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ " فَقَدْ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى " أَيْ فَقَدْ ثَبَتَ فِي أَمْره وَاسْتَقَامَ عَلَى الطَّرِيقَة الْمُثْلَى وَالصِّرَاط الْمُسْتَقِيم قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْح الْبَلَدِيّ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَص سَلَّام بْن سَلِيم عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ حَسَّان هُوَ اِبْن قَائِد الْعَبْسِيّ قَالَ : قَالَ عُمَر - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - إِنَّ الْجِبْتَ السِّحْرُ وَالطَّاغُوتَ الشَّيْطَانُ وَإِنَّ الشُّجَاعَةَ وَالْجُبْنَ غَرَائِزُ تَكُون فِي الرِّجَال يُقَاتِل الشُّجَاع عَمَّنْ لَا يَعْرِف وَيَفِرُّ الْجَبَانُ مِنْ أُمّه وَإِنَّ كَرَمَ الرَّجُلِ دِينُهُ وَحَسَبَهُ خُلُقُهُ وَإِنْ كَانَ فَارِسِيًّا أَوْ نَبَطِيًّا وَهَكَذَا رَوَاهُ اِبْن جَرِير وَابْن أَبِي حَاتِم مِنْ حَدِيث الثَّوْرِيّ عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ حَسَّان بْن قَائِد الْعَبْسِيّ عَنْ عُمَر فَذَكَرَهُ وَمَعْنَى قَوْله فِي الطَّاغُوت إِنَّهُ الشَّيْطَان قَوِيّ جِدًّا فَإِنَّهُ يَشْمَل كُلّ شَرّ كَانَ عَلَيْهِ أَهْل الْجَاهِلِيَّة مِنْ عِبَادَة الْأَوْثَان وَالتَّحَاكُم إِلَيْهَا وَالِاسْتِنْصَار بِهَا . وَقَوْله " فَقَدْ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا اِنْفِصَام لَهَا " أَيْ فَقَدْ اِسْتَمْسَكَ مِنْ الدِّين بِأَقْوَى سَبَب وَشَبَّهَ ذَلِكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا تَنْفَصِم هِيَ فِي نَفْسهَا مُحْكَمَة مُبْرَمَة قَوِيَّة وَرَبْطهَا قَوِيّ شَدِيد وَلِهَذَا قَالَ " فَقَدْ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا اِنْفِصَام لَهَا " الْآيَة قَالَ مُجَاهِد : الْعُرْوَة الْوُثْقَى يَعْنِي الْإِيمَان وَقَالَ السُّدِّيّ : هُوَ الْإِسْلَام وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَالضَّحَّاك : يَعْنِي لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَعَنْ أَنَس بْن مَالِك الْعُرْوَة الْوُثْقَى الْقُرْآن وَعَنْ سَالِم بْن أَبِي الْجَعْد قَالَ هُوَ الْحُبّ فِي اللَّه وَالْبُغْض فِي اللَّه وَكُلّ هَذِهِ الْأَقْوَال صَحِيحَة وَلَا تَنَافِي بَيْنهَا وَقَالَ مُعَاذ بْن جَبَل فِي قَوْله " لَا اِنْفِصَام لَهَا " دُون دُخُول الْجَنَّة وَقَالَ مُجَاهِد وَسَعِيد بْن جُبَيْر " فَقَدْ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا اِنْفِصَام لَهَا " ثُمَّ قَرَأَ " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ " وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَد : أَنْبَأَنَا إِسْحَاق بْن يُوسُف حَدَّثَنَا اِبْن عَوْف عَنْ مُحَمَّد بْن قَيْس بْن عُبَادَة قَالَ : كُنْت فِي الْمَسْجِد فَجَاءَ رَجُل فِي وَجْهه أَثَر مِنْ خُشُوع فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَوْجَزَ فِيهِمَا فَقَالَ الْقَوْم هَذَا رَجُل مِنْ أَهْل الْجَنَّة فَلَمَّا خَرَجَ اِتَّبَعْته حَتَّى دَخَلَ مَنْزِله فَدَخَلْت مَعَهُ فَحَدَّثْته فَلَمَّا اِسْتَأْنَسَ قُلْت لَهُ إِنَّ الْقَوْم لَمَّا دَخَلْت الْمَسْجِد قَالُوا كَذَا وَكَذَا قَالَ سُبْحَان اللَّه مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُول مَا لَا يَعْلَم وَسَأُحَدِّثُك لِمَ : إِنِّي رَأَيْت رُؤْيَا عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَصَصْتهَا عَلَيْهِ رَأَيْت كَأَنِّي فِي رَوْضَة خَضْرَاء - قَالَ اِبْن عَوْن فَذَكَرَ مِنْ خُضْرَتهَا وَسَعَتهَا - وَفِي وَسَطهَا عَمُود حَدِيد أَسْفَله فِي الْأَرْض وَأَعْلَاهُ فِي السَّمَاء فِي أَعْلَاهُ عُرْوَة فَقِيلَ لِي اِصْعَدْ عَلَيْهِ فَقُلْت لَا أَسْتَطِيع فَجَاءَنِي مُنْصِف - قَالَ اِبْن عَوْن هُوَ الْوَصِيف - فَرَفَعَ ثِيَابِي مِنْ خَلْفِي فَقَالَ اِصْعَدْ فَصَعِدْت حَتَّى أَخَذْت بِالْعُرْوَةِ فَقَالَ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ فَاسْتَيْقَظْت وَإِنَّهَا لَفِي يَدِي فَأَتَيْت رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَصَصْتهَا عَلَيْهِ فَقَالَ أَمَّا الرَّوْضَة فَرَوْضَة الْإِسْلَام وَأَمَّا الْعَمُود فَعَمُود الْإِسْلَام وَأَمَّا الْعُرْوَة فَهِيَ الْعُرْوَة الْوُثْقَى أَنْتَ عَلَى الْإِسْلَام حَتَّى تَمُوت قَالَ وَهُوَ عَبْد اللَّه بْن سَلَام أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَوْن فَقُمْت إِلَيْهِ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ بِهِ . " طَرِيق أُخْرَى وَسِيَاق آخَر " قَالَ الْإِمَام أَحْمَد : أَنْبَأَنَا حَسَن بْن مُوسَى وَعُثْمَان قَالَا : أَنْبَأَنَا حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ عَاصِم بْن بَهْدَلَة عَنْ الْمُسَيِّب بْن رَافِع عَنْ خَرَشَة بْن الْحُرّ قَالَ : قَدِمْت الْمَدِينَة فَجَلَسْت إِلَى مَشْيَخَة فِي مَسْجِد النَّبِيّ - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ شَيْخ يَتَوَكَّأ عَلَى عَصًا لَهُ فَقَالَ الْقَوْم : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُر إِلَى رَجُل مِنْ أَهْل الْجَنَّة فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا فَقَامَ خَلْف سَارِيَة فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقُلْت لَهُ : قَالَ بَعْض الْقَوْم كَذَا وَكَذَا فَقَالَ : الْجَنَّة لِلَّهِ يُدْخِلهَا مَنْ يَشَاء وَإِنِّي رَأَيْت عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُؤْيَا كَأَنَّ رَجُلًا أَتَانِي فَقَالَ اِنْطَلِقْ فَذَهَبْت مَعَهُ فَسَلَكَ بِي مَنْهَجًا عَظِيمًا فَعَرَضَتْ لِي طَرِيق عَنْ يَسَارِي فَأَرَدْت أَنْ أَسْلُكهَا فَقَالَ : إِنَّك لَسْت مِنْ أَهْلهَا ثُمَّ عَرَضَتْ لِي طَرِيق عَنْ يَمِينِي(1/16)
فَسَلَكْتهَا حَتَّى اِنْتَهَتْ إِلَى جَبَل زَلِق فَأَخَذَ بِيَدَيَّ فَدَحَا بِي فَإِذَا أَنَا عَلَى ذُرْوَته فَلَمْ أَتَقَارّ وَلَمْ أَتَمَاسَك فَإِذَا عَمُود حَدِيد فِي ذُرْوَته حَلْقَة مِنْ ذَهَب فَأَخَذَ بِيَدَيَّ فَدَحَا بِي حَتَّى أَخَذْت بِالْعُرْوَةِ فَقَالَ : اِسْتَمْسِكْ فَقُلْت نَعَمْ فَضَرَبَ الْعَمُود بِرِجْلِهِ فَاسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ فَقَصَصْتهَا عَلَى رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَأَيْت خَيْرًا أَمَّا الْمَنْهَج الْعَظِيم فَالْمَحْشَر وَأَمَّا الطَّرِيق الَّتِي عَرَضَتْ عَنْ يَسَارك فَطَرِيق أَهْل النَّار وَلَسْت مِنْ أَهْلهَا وَأَمَّا الطَّرِيق الَّتِي عَرَضَتْ عَنْ يَمِينك فَطَرِيق أَهْل الْجَنَّة وَأَمَّا الْجَبَل الزَّلِق فَمَنْزِل الشُّهَدَاء وَأَمَّا الْعُرْوَة الَّتِي اِسْتَمْسَكْت بِهَا فَعُرْوَة الْإِسْلَام فَاسْتَمْسِكْ بِهَا حَتَّى تَمُوت قَالَ فَإِنَّمَا أَرْجُو أَنْ أَكُون مِنْ أَهْل الْجَنَّة . قَالَ : وَإِذَا هُوَ عَبْد اللَّه بْن سَلَام وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ أَحْمَد بْن سُلَيْمَان عَنْ عَفَّان وَابْن مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة عَنْ الْحَسَن بْن مُوسَى الْأَشْيَب كِلَاهُمَا عَنْ حَمَّاد بْن سَلَمَة بِهِ نَحْوه وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه مِنْ حَدِيث الْأَعْمَش عَنْ سُلَيْمَان بْن مُسْهِر عَنْ خَرَشَة بْن الْحُرّ الْفَزَارِيّ بِهِ .
===============
وفي تفسير الرازي :
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1/17)
فيه مسألتان: المسألة الأولى: اللام في {الدّينِ } فيه قولان أحدهما: أنه لام العهد والثاني: أنه بدل من الإضافة، كقوله {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى} (النازعات: 41) أي مأواه، والمراد في دين الله. المسألة الثانية: في تأويل الآية وجوه أحدها: وهو قول أبي مسلم والقفال وهو الأليق بأصول المعتزلة: معناه أنه تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر، وإنما بناه على التمكن والاختيار، ثم احتج القفال على أن هذا هو المراد بأنه تعالى لما بيّن دلائل التوحيد بياناً شافياً قاطعاً للعذر، قال بعد ذلك: إنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه، وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء، إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان، ونظير هذا قوله تعالى: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29) وقال في سورة أخرى {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 3، 4) وقال في سورة الشعراء {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السَّمَاء ءَايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } ومما يؤكد هذا القول أنه تعالى قال بعد هذه الآية {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ } يعني ظهرت الدلائل، ووضحت البينات، ولم يبق بعدها إلا طريق القسر والإلجاء والإكراه، وذلك غير جائز لأنه ينافي التكليف فهذا تقرير هذا التأويل. القول الثاني: في التأويل هو أن الإكراه أن يقول المسلم للكافر: إن آمنت وإلا قتلتك فقال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ } أما في حق أهل الكتاب وفي حق المجوس، فلأنهم إذا قبلوا الجزية سقط القتل عنهم، وأما سائر الكفار فإذا تهودوا أو تنصروا فقد اختلف الفقهاء فيهم، فقال بعضهم: إنه يقر عليه؛ وعلى هذا التقدير يسقط عنه القتل إذا قبل الجزية، وعلى مذهب هؤلاء كان قوله {لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ } عاماً في كل الكفار، أما من يقول من الفقهاء بأن سائر الكفار إذا تهودوا أو تنصروا فإنهم لا يقرون عليه، فعلى قوله يصح الإكراه في حقهم، وكان قوله {لا إِكْرَاهَ } مخصوصاً بأهل الكتاب. والقول الثالث: لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب إنه دخل مكرهاً، لأنه إذا رضي بعد الحرب وصح إسلامه فليس بمكره، ومعناه لا تنسبوهم إلى الإكراه، ونظيره قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} (النساء: 94). أما قوله تعالى: {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ } ففيه مسألتان: المسألة الأولى: يقال: بان الشيء واستبان وتبين إذا ظهر ووضح، ومنه المثل: قد تبين الصبح لذي عينين، وعندي أن الإيضاح والتعريف إنما سمي بياناً لأنه يوقع الفصل والبينونة بين المقصود وغيره، والرشد في اللغة معناه إصابة الخير، وفيه لغتان: رشد ورشد والرشاد مصدر أيضاً كالرشد، والغي نقيض الرشد، يقال غوى يغوي غياً وغواية، إذا سلك غير طريق الرشد. المسألة الثانية: {تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ } أي تميز الحق من الباطل، والإيمان من الكفر والهدى من الضلالة بكثرة الحجج والآيات الدالة، قال القاضي: ومعنى {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ } أي أنه قد اتضح وانجلى بالأدلة لا أن كل مكلف تنبه لأن المعلوم ذلك وأقول: قد ذكرنا أن معنى {تَّبَيَّنَ } انفصل وامتاز، فكان المراد أنه حصلت البينونة بين الرشد والغي بسبب قوة الدلائل وتأكيد البراهين، وعلى هذا كان اللفظ مُجْرَى على ظاهره. أما قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ } فقد قال النحويون: الطاغوت وزنه فعلوت، نحو جبروت، والتاء زائدة وهي مشتقة من طغا، وتقديره طغووت، إلا أن لام الفعل قلبت إلى موضع العين كعادتهم في القلب، نحو: الصاقعة والصاعقة، ثم قلبت الواو ألفاً لوقوعها في موضع حركة وانفتاح ما قبلها، قال المبرد في الطاغوت: الأصوب عندي أنه جمع قال أبو علي الفارسي: وليس الأمر عندنا كذلك، وذلك لأن الطاغوت مصدر كالرغبوت والرهبوت والملكوت، فكما أن هذه الأسماء آحاد كذلك هذا الاسم مفرد وليس بجمع، ومما يدل على أنه مصدر مفرد قوله {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ } فأفرد في موضع الجمع، كما يقال: هم رضاهم عدل، قالوا: وهذا اللفظ يقع على الواحد وعلى الجمع، أما في الواحد فكما في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} (النساء: 60) وأما في الجمع فكما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} (البقرة: 257) وقالوا: الأصل فيه التذكير، فأما قوله: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا} (الزمر: 17) فإنما أنثت إرادة الآلهة. إذا عرفت هذا فنقول: ذكر المفسرون فيه خمسة أقوال الأول: قال عمر ومجاهد وقتادة هو الشيطان الثاني: قال سعيد بن جبير: الكاهن الثالث: قال أبو العالية: هو الساحر الرابع: قال بعضهم الأصنام الخامس: أنه مردة الجن والإنس وكل ما يطغى، والتحقيق أنه لما حصل الطغيان عند الاتصال بهذه الأشياء جعلت هذه الأشياء أسباباً للطغيان كما في قوله {رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاس} (إبراهيم: 36). أما قوله {وَيُؤْمِن بِاللَّهِ } ففيه إشارة إلى أنه لا بد للكافر من أن يتوب أولاً عن الكفر، ثم يؤمن بعد ذلك. أما قوله {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } فاعلم أنه يقال: استمسك بالشيء إذا تمسك به والعروة جمعها عرا نحو عروة الدلو(1/18)
والكوز وإنما سميت بذلك، لأن العروة عبارة عن الشيء الذي يتعلق به والوثقى تأنيث الأوثق، وهذا من باب استعارة المحسوس للمعقول، لأن من أراد إمساك شيء يتعلق بعروته، فكذا هاهنا من أراد إمساك هذا الدين تعلق بالدلائل الدالة عليه، ولما كانت دلائل الإسلام أقوى الدلائل وأوضحها، لا جرم وصفها بأنها العروة الوثقى. أما قوله {لاَ انفِصَامَ لَهَا } ففيه مسائل: المسألة الأولى: الفصم كسر الشيء من غير إبانة، والانفصام مطاوع الفصم فصمته فانفصم والمقصود من هذا اللفظ المبالغة، لأنه إذا لم يكن لها انفصام، فإن لا يكون لها انقطاع أولى. المسألة الثانية: قال النحويون: نظم الآية بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، والعرب تضمر (الَّتِى ) و (الَّذِى ) و (مَنْ ) وتكتفي بصلاتها منها، قال سلامة بن جندل:
والعاديات أسامي للدماء بها … …كأن أعناقها أنصاب ترحيب
يريد العاديات التي قال الله: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} (الصافات: 164) أي من له. ثم قال: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وفيه قولان: القول الأول: أنه تعالى يسمع قول من يتكلم بالشهادتين، وقول من يتكلم بالكفر، ويعلم ما في قلب المؤمن من الاعتقاد الطاهر، وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث. والقول الثاني: روى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة، وكان يسأل الله تعالى ذلك سراً وعلانية، فمعنى قوله {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يريد لدعائك يا محمد بحرصك عليه واجتهادك.
===============
وقال ابن الجوزي :
{لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ } في سبب نزولها أربعة أقوال. أحدها: أن المرأة من نساء الأنصار كانت في الجاهلية إذا لم يعش لها ولد، تحلف: لئن عاش لها ولد لتهودنه، فلما أجليت يهود بني النضير، كان فيهم ناس من أبناء الأنصار فقال الأنصار: يا رسول الله أبناؤنا. فنزلت هذه الآية. هذا قول ابن عباس، وقال الشعبي: قالت الأنصار: والله لنكرهن أولادنا على الإسلام، فإنا إنما جعلناهم في دين اليهود إذ لم نعلم دينا أفضل منه، فنزلت هذه الآية. والثاني: أن رجلا من الأنصار تنصر لهو ولدان قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما، وقال: والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا فاختصموا إلى النبي. فنزلت هذه الآية. هذا قول مسروق. والثالث: أن ناسا كانوا مسترضعين في اليهود فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بني النضير قالوا: والله ليذهبن معهم ولنذهبن بدينهم فمنعهم أهلوهم، وأرادوا إكراهمم على الإسلام فنزلت هذه الآية. والرابع: أن رجلا من الانصار كان له غلام اسمه صبيح كان يكرهه على الإسلام، فنزلت هذه الآية. والقولان عن مجاهد.
فصل
واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية. فذهب قوم إلى أنه محكم، وانه من العام المخصوص فانه خص منه أهل الكتاب بأنهم لا يكرهون على الإسلام بل يخيرون بينه، وبين أداء الجزية، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس، و مجاهد وقتادة. وقال ابن الأنباري: معنى الآية: ليس الدين ما تدين به في الظاهر على جهة الإكراه عليه، ولم يشهد به القلب وتنطوي عليه الضمائر إنما الدين هو المنعقد بالقلب، وذهب قوم إلى أنه منسوخ، وقالوا هذه الآية نزلت قبل الأمر بالقتال. فعلى قولهم يكون منسوخا بآية السيف وهذا مذهب الضحاك، والسدي، وابن زيد، والدين هاهنا: أريد به الإسلام والرشد الحق، والغي الباطل، وقيل: هو الإيمان والكفر فاما الطاغوت فهو اسم مأخوذ من الطغيان وهو مجاوزة الحد قال ابن قتيبة: الطاغوت واحد وجمع ومذكر ومؤنث قال الله تعالى: {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ } وقال:
{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا } الزمر: 17. والمراد بالطاغوت هاهنا خمسة أقوال. أحدها: أنه الشيطان، قاله عمر، و ابن عباس، و مجاهد، والشعبي، والسدي، و مقاتل في آخرين. والثاني: أنه الكاهن قاله سعيد بن جبير، و أبوالعالية. والثالث: أنه الساحر، قاله محمد بن سيرين. والرابع: أنه الأصنام، قاله اليزيدي، و الزجاج. والخامس: أنه مردة أهل الكتاب، ذكره الزجاج أيضا.
قوله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } هذا مثل للإيمان شبه التمسك به بالتمسك بالعروة الوثيقة. وقال الزجاج: معنى الكلام: فقد عقد لنفسه عقدا وثيقا والانفصام كسر الشيء من غير إبانه.
=============(1/19)
وفي تفسير الثعالبي :
وقوله تعالى اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي الدين في هذه الآية هو المعتقد والملة ومقتضى قول زيد ابن اسلم ان هذه الآية مكية وانها من ءايات الموادعة التي نسختها ءاية السيف وقال قتادة والضحاك بن مزاحم هذه الآية محكمة خاصة في اهل الكتاب الذين يبذلون الجزية وقوله تعالى تبين الرشد من الغي معناه بنصب الادلة ووجود الرسول صلى الله عليه وسلم الداعي الى الله والآيات المنيرة والرشد مصدر من قولك رشد بكسر الشين وضمها يرشد رشدا ورشدا ورشادا والغي مصدر من غوى يغوى إذا ضل في معتقد أو رأي ولا يقال الغي في الضلال على الإطلاق والطاغوت بناء مبالغة من طغى يطغي واختلف في معنى الطاغوت فقال عمر بن الخطاب وغيره هو الشيطان وقيل هو الساحر وقيل الكاهن وقيل الأصنام وقال بعض العلماء كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت / صفحة 505 / ع وهذه تسمية صحيحة في كل معبود يرضى ذلك كفرعون ونمروذ وأما من لا يرضى ذلك فسمي طاغوتا في حق العبدة قال مجاهد العروة الوثقى الإيمان وقال السدي الإسلام وقال ابن جبير وغيره لا إله إلا الله قال ع وهذه عبارات ترجع إلى معنى واحد والانفصام الانكسار من غير بينونة وقد يجئ بمعنى البينونة والقصم كسر بالبينونة ت وفي الموطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الوحي يأتيني أحيانا في مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت قال أبو عمر في التمهيد قوله فيفصم عني معناه ينفرج عني ويذهب كما تفصم الخلخال إذا فتحته لتخرجه من الرجل وكل عقدة حللتها فقد فصمتها قال الله عز وجل فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها وانفصام العروة أن تنفك عن موضعها واصل الفصم عند العرب أن تفك الخلخال ولا يبين كسره فإذا كسرته فقد قصمته بالقاف انتهى / صفحة 506 / ولما كان الإيمان مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات سميع من أجل النطق وعليم من أجل المعتقد قوله سبحانه ولي الذين آمنوا " الآية الولي من ولي فإذا لازم أحدا أحدا بنصره ووده واهتباله وكان فهو وليه هذا عرفه لفة ولفظ اية مترتب في الناس جميعا وذلك ان من آمن منهم فالله وليه أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ومن كفر بعد وجود الرسول صلى الله عليه وسلم فشيطانه ومغوية أخرجه من الإيمان إذ هو معد وأهل للدخول فيه ولفظ الطاغوت في هذه الآية يقتضي أنه اسم جنس ولذلك قال أولياؤهم بالجمع إذ هي أنواع
=============
وفي تفسير الألوسي :
( لا إكراه في الدين ( قيل : إن هذه إلى قوله سبحانه : ( خالدون ) من بقية آية الكرسي والحق أنها ليست منها بل هي كملة مستأنفة جيء بها إثر بيان دلائل التوحيد للإيذان بأنه لا يتصور الإكراه في الدين لأنه في الحقيقة إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا يحمله عليه والدين خير كله والجملة على هذا خبر باعتبار(1/20)
الحقيقة ونفس الأمر وأما ما يظهر بخلافه فليس إكراها حقيقيا وجوز أن تكون إخبارا في معنى النهي أي لا تكرهوا في الدين وتجبروا عيه حينئذ إما عام منسوخ بقوله تعالى ( جاهد الكفار والمنافقين ) وهو المحكى عن ابن مسعود وابن زيد وسليمان بن موسى أو مخصوص بأهل الكتاب الذين قبلوا الجزية وهو المحكى عن الحسن وقتادة والضحام وفى سبب النزول ما يؤيده فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رجلا من الأنصار من بنى سالم بن عوف يقال له الحصين كان له إبنان نصرانيان وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي صلى الله تعالى عليه مسلم : ألا استكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية فأنزل الله تعالى فيه ذلك وأل في ( الدين ) للعهد وقيل : بدل من الإضافة أي دين الله وهو ملة الإسلام وفاعل الإكراه على كل تقدير غيره تعالى ومن الناس من قال : إن المراد ليس في الدين إكراه من الله تعالى وقسر بل مبنى الأمر على التمكين والاختيار ولولا ذلك لما حصل الابتلاء ولبطل الامتحان فالآية نظير قوله تعالى : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) وإلى ذلك ذهب القفال ( قد تبين الرشد من الغي ( تعليل صدر بكلمة التحقيق لزيادة تقرير مضمونه أي قد تميز بما ذكر من نعوته تعالى التي يمتنع توهم اشتراك الغير في شيء منها الإيمان من الكفر والصواب من الخطأ و الرشد بضم الراء وسكون الشين على المشهور مصدر رشد بفتح الشين يرشد بضمها : ويقرأ بفتح الراء والشين وفعله رشد يرشد مثل علم يعلم وهو نقيض الغي وأصله سلوك طريق الهلاك وقال الراغب هو كالجهل إلا أن الجهل يقال اعتبارا بالاعتقاد والغي اعتبارا بالأفعال ولهذا قيل : زوال الجهل بالعلم وزوال الغي بالرشد ويقال لمن أصاب : رشد ولمن أخطأ غوى ويقال لمن خاب : غوى أيضا ومنه قوله ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لم يعدم على الغى ( لائما ) ( فمن يكفر بالطاغوت ( أي الشيطان وهو المروي عن عمر بن الخطاب والحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم وبه قال مجاهد وقتادة وعن سعيد بن جبير وعكرمة أنه الكاهن وعن أبى العالية أنه الساحر وعن مالك بن أنس كل ما عبد من دون الله تعالى وعن بعضهم الأصنام والأولى أن يقال بعمومه سائر ما يطغى ويجعل الاقتصار على بعض في تلك الأقوال من باب التمثيل وهو بناء مبالغة كالجبروت والملكوت واختلف فيه فقيل : هو مصدر في الأصل ولذلك يوحد ويذكر كسائر المصادر الواقعة على الأعيان وإلى ذلك ذهب الفارسي وقيل : هو اسم جنس مفرد فلذلك لزم الإفراد والتذكير واليه ذهب سيبويه وقيل : هو جمع وهو مذهب المبرد وقد يؤنث ضميره كما في قوله تعالى : ( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ) وهو تأنيث اعتباري واشتقاقه من طغى يطغى أو طغى يطغو ومصدر الأول الطغيان والثاني الطغوان وأصله على الأول طغيوت وعلى الثاني طغووت فقدمت اللام وأخرت العين فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا فوزنه من قبل فعلوت والآن فلعوت وقدم ذكر الكفر بالطاغوت على ذكر الإيمان بالله تعالى اهتماما بوجوب التخلية أو مراعاة للترتيب الواقعى أو للاتصال بلفظ الغي ( ويؤمن بالله ( أي يصدق به طبق ما جاءت به رسله عليهم الصلاة والسلام ( فقد استمسك ( أي بالغ في التمسك حتى كأنه وهو متلبس به يطلب من نفسه الزيادة فيه والثبات عليه ( بالعروة الوثقى ( وهي الإيمان قاله مجاهد أو القرآن قال أنس بن مالك أو كلمة(1/21)
الإخلاص قاله ابن عباس أو الاعتقاد الحق أو السبب الموصل إلى رضا الله تعالى أو العهد وعلى كل تقدير يجوز أن يكون في العروة استعارة تصريحية واستمسك ترشيح لها أو استعارة أخرى تبعية ويجوز أن يجعل الكلام تمثيلا مبينا على تشبيه الهيئة العقلية المنتزعة من ملازمة الحق الذي لا يحتمل النقيض بوجه أصلا لثبوته بالبراهين النيرة القطعية بالهيئة الحسية المنتزعة من التمسك بالحبل المحكم المأمون انقطاعه من غير تعرض للمفردات واختار ذلك بعض المحققين ولا يخلو عن حسن وجعل العروة مستعارة للنظر الصحيح المؤدي للاعتقاد الحق كما قيل ليس بالحسن لأن ذلك غير مذكور في حين الشرط أصلا ( لا انفصام لها ( أي لا انقطاع لها والانفصام والانقصام لغتان وبالفاء أفصح كما قال الفراء وفرق بعضهم بينهما بأن الأول إنكسار بغير بينونة والثاني انكسار بها وحينئذ يكون انتفاء الثاني معلوما من نفى الأول بالأولوية والجملة إما مستأنفة لتقرير ما قبلها من وثاقة العروة وإما حال من العروة والعامل ( استمسك ) أو من الضمير المستكن في ( الوثقى ) لانها للتفضيل تأنيث الأوثق و ( لها ) في موضع الخبر ( والله سميه ( بالأقوال ( عليم 256 ( بالعزائم والعقائد والجملة تذييل حامل على اليمان رادع عن الكفر والنفاق لما فيها من الوعد والوعيد قيل : وفيها أيضا إشارة إلى أنه لا بد في الإيمان من الاعتقاد والإقرار ( الله ولى الذين آمنوا ( أي معينهم أو محبهم أو متولى أمورهم والمراد من أراد الإيمان أو ثبت في علمه تعالى إيمانه أو آمن بالفعل ( يخرجهم ( بهدايته وتوفيقه وهو تفسير للولاية أو خبر ثان عند من يجوز كونه جملة أو حال من الضمير في ( ولى ) ( من الظلمات ( التابعة للكفر أو ظلمات المعاصى أو الشبه كيف كانت + ( ( إلى النور ( أي نور الإيمان أو نور الطاعات أو نور الإيقاف بمراتبه وعن الحسن أنه فسر الإخراج هنا بالمنع فالمعنى يمنعهم عن أن يدخلوا في شيء من الظلمات واقتصر الواقدى في تفسير الظلمات والنور على ذكر الكفر والإيمان وحمل كل ما في القرآن على ذلك سوى ما في الأنعام من قوله تعالى : ( وجعل الظلمات والنور ) فان المراد بهما هناك الليل والنهار والأول أن يحمل الظلمات على المعنى الذي بعم سائر أنواعها ويحمل النور أيضا على ما يعم سائر أنواعه ويجعل في مقابلة كل ظلمة مخرج منها نور مخرج إليه أنه سبحانه ليخرج من شاء من ظلمة الدليل إلى نور العيان ومن ظلمة الوحشة إلى نور الوصلة ومن ظلمة عالم الأشباح إلى نور عالم الأرواح إلى غير ذلك مما لا ولا وأفرد النور لوحدة الحق كما أن جمع الظلمات لتعدد فنون الضلال أو أن الأول إيماء إلى القلة والثانى إلى الكثرة { والذين كفروا } أي أرادوا الكفر أو ثبت كفرهم في علمه سبحانه أو كفروا بالفعل ( أولياؤهم ( حقيقة أو فيما عندهم ( الطغوت ( أي الشيطان أو الأصنام أو سائر المضلين عن طرق الحق والموصول مبتدأ أول و ( أولياؤهم ) مبتدأ ثان و ( الطاغوت ) خبره والجملة خبر الأول والجملة الحاصلة معطوفة على ما قبلها قيل : ولعل تغيير السبك للاحتراز عن وضع ( الطاغوت ) في مقابلة الاسم الجليل ولقصد المبالغة بتكرير الإسناد مع الإيماء إلى التباين بين الفريقين من كل وجه حتى من جهة التعبير أيضا وقرئ الطواغيت على جمع وصح جمعه على القول بأنه مصدر لأنه صار إسما لما يعبد من دون الله تعالى ( يخرجونهم ( بالوساوس وألقاه الشبه أو بكونهم بحالة جرت اعتقادهم فيهم النفع والضر وأنهم يقربونهم إلى الله تعالى زلفى والتعبير
عنهم بضمير العقلاء إما لأنهم منهم حقيقة أو إدعاء ونسبة الإخراج إليهم مجاز من باب النسبة إلى السبب فلا يأبى تعلق قدرته وإرادته تعالى بذلك ( من النور ( أي الفطرى الذي جبل عليه الناس كافة أو نور البينات المتتابعة التي يشاهدونها بتنزيل تمكنهم من الاستضاءة بها منزلة نفسها فلا يردأنهم متى كانوا في نور ليخرجوا منه وقيل : التعبير بذلك للمقابلة وقيل : إن الإخراج قد يكون بمعنى المنع وهو لا يقتضي سابقية الدخول وعن مجاهد إن الآية نزلت في قوم ارتدوا فلا شك في أنهم حينئذ أخرجوا من النور الذي كانوا فيه وهو نور الإيمان ( إلى الظلمت ( وهي ظلمات الكفر والانهماك في الغي وعدم الارعواء والاهتداء بما يترى من الآيات ويتلى والجملة تفسير لولاية الطاغوت فالإنفصال لكمال الإتصال ويجوز أن تكون خبرا ثانيا كما مر ( أولئك ( إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما يتبع ذلك من القبائح وجوز أن تكون إشارة إلى الكفار وأوليائهم وفيه بعد { أصحب النار } أي ملابسوها وملازموها لعظم ما هم عليه { هم فيها خلدون 257 ( ما كثون أبدا وفي هذا وعد وتحذير للكافرين ولعل عدم مقابلته بوعد المؤمنين كما قيل : للإشعار بتعظيمهم وأن أمرهم غير محتاج إلى البيان وأن شأنهم أعلى من مقابلة هؤلاء أو أن ما أعد لهم لا تفي ببيانه العبارة وقيل : إن قوله سبحانه ( ولي المؤمنين ) دل على الوعد وكفى به
==============(1/22)
وقال الشوكاني :
قد اختلف أهل العلم في قوله: 256- "لا إكراه في الدين" على أقوال: الأول إنها منسوخة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام، والناسخ لها قوله تعالى: "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين" وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين" وقال: " ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون "، وقد ذهب إلى هذا كثير من المفسرين. القول الثاني أنها ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، بل الذين يكرهون هم أهل الأوثان، فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وإلى هذا ذهب الشعبي والحسن وقتادة والضحاك. القول الثالث: أن هذه الآية في الأنصار خاصة، وسيأتي بيان ما ورد في ذلك. القول الرابع: أن معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف إنه مكره فلا إكراه في الدين. القول الخامس: أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا على الإسلام. وقال ابن كثير في تفسيره: أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا تحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً، وهذا يصلح أن يكون قولاً سادساً. وقال في الكشاف في تفسيره هذه الآية: أي لم يجبر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر، ولكن على التمكين والاختيار، ونحوه قوله: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" أي: لو شاء لقسرهم على الإيمان، ولكن لم يفعل، وبني الأمر على الاختيار، وهذا يصلح أن يكون قولاً سابعاً. والذي ينبغي اعتماده ويتعين الوقوف عنده: أنها في السبب الذي نزلت لأجله محكمة غير منسوخة، وهو أن المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت يهود بني نضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا فنزلت، أخرجه أبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه والبيهقي في السنن والضياء في المختارة عن ابن عباس. وقد وردت هذه القصة من وجوه، حاصلها ما ذكره ابن عباس مع زيادات تتضمن أن الأنصار قالوا: إنما جعلناهم على دينهم: أي دين اليهود، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا، وأن الله جاء بالإسلام فلنكرهنهم، فلما نزلت خير الأبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكرههم على الإسلام. وهذا يقتضي أن أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام إذا اختاروا البقاء على دينهم وأدوا الجزية. وأما أهل الحرب فالآية وإن كانت تعمهم، لأن النكرة في سياق النفي وتريف الدين يفيدان ذلك، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لكن قد خص هذا العموم بما ورد من آيات في إكراه أهل الحرب من الكفار على الإسلام. قوله: "قد تبين الرشد من الغي" الرشد هنا الإيمان، والغي الكفر: أي قد تميز أحدهما على الآخر. وهذا استئناف يتضمن التعليل لما قبله. والطاغوت فعلوت من طغى يطغي ويطغو: إذا جاوز الحد. قال سيبويه: هو اسم مذكر مفرد: أي اسم جنس يشمل القليل والكثير، وقال أبو على الفارسي: إنه مصدر كرهبوت وجبروت يوصف به الواحد والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين وعينه إلى موضع اللام كجبذ وجذب، ثم تقلب الواو ألفاً لتحركها وتحرك ما قبلها، فقيل: طاغوت، واختار هذا القول النحاس، وقيل: أصل الطاغوت في اللغة مأخوذ من الطغيان يؤدي معناه من غير اشتقاق، كما قيل: لآلئ من اللؤلؤ. وقال المبرد: هو جمع. قال ابن عطية: وذلك مردود. قال الجوهري: والطاغوت: الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال، وقد يكون واحداً. قال الله تعالى :"يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به" وقد يكون جمعاً. قال الله تعالى: "أولياؤهم الطاغوت" والجمع طواغيت: أي فمن يكفر بالشيطان أو الأصنام أو أهل الكهانة ورؤوس الضلالة أو بالجميع "ويؤمن بالله" عز وجل بعد ما تميز له الرشد من الغي فقد فاز وتمسك بالحبل الوثيق: أي المحكم. والوثقى فعلى من الوثاقة وجمعها وثق مثل الفضلى والفضل. وقد اختلف المفسرون في تفسير العروة الوثقى بعد اتفاقهم على أن ذلك من باب التشبيه والتمثيل لما هو معلوم بالدليل بما هو مدرك بالحاسة، فقيل: المراد بالعروة الإيمان، وقيل: الإسلام، وقيل: لا إله إلا الله، ولا مانع من الحمل على الجميع. والانفصام: الانكسار من غير بينونة. قال الجوهري: فصم الشيء كسره من غير أن يبين. وأما القصم بالقاف فهو الكسر مع البينونة، وفسر صاحب الكشاف الانفصام بالانقطاع.
==============(1/23)
وقال السعدي :
يخبر تعالى أنه لا إكراه في الدين لعدم الحاجة إلى الإكراه عليه، لأن الإكراه لا يكون إلا على أمر خفية أعلامه، غامضة أثاره، أو أمر في غاية الكراهة للنفوس، وأما هذا الدين القويم والصراط المستقيم فقد تبينت أعلامه للعقول، وظهرت طرقه، وتبين أمره، وعرف الرشد من الغي، فالموفق إذا نظر أدنى نظر إليه آثره واختاره، وأما من كان سيئ القصد فاسد الإرادة، خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل، ويبصر الحسن فيميل إلى القبيح، فهذا ليس لله حاجة في إكراهه على الدين، لعدم النتيجة والفائدة فيه، والمكره ليس إيمانه صحيحا، ولا تدل الآية الكريمة على ترك قتال الكفار المحاربين، وإنما فيها أن حقيقة الدين من حيث هو موجب لقبوله لكل منصف قصده اتباع الحق، وأما القتال وعدمه فلم تتعرض له، وإنما يؤخذ فرض القتال من نصوص أخر، ولكن يستدل في الآية الكريمة على قبول الجزية من غير أهل الكتاب، كما هو قول كثير من العلماء، فمن يكفر بالطاغوت فيترك عبادة ما سوى الله وطاعة الشيطان، ويؤمن بالله إيمانا تاما أوجب له عبادة ربه وطاعته { فقد استمسك بالعروة الوثقى } أي: بالدين القويم الذي ثبتت قواعده ورسخت أركانه، وكان المتمسك به على ثقة من أمره، لكونه استمسك بالعروة الوثقى التي { لا انفصام لها } وأما من عكس القضية فكفر بالله وآمن بالطاغوت، فقد أطلق هذه العروة الوثقى التي بها العصمة والنجاة، واستمسك بكل باطل مآله إلى الجحيم { والله سميع عليم } فيجازي كلا منهما بحسب ما علمه منهم من الخير والشر، وهذا هو الغاية لمن استمسك بالعروة الوثقى ولمن لم يستمسك بها.
================
وقال الشيخ صالح بن عثيمين :
{ 256 } قوله تعالى: { لا إكراه في الدين }؛ هذه الجملة نفي؛ لكن هل هي بمعنى النهي؛ أي لا تكرهوا أحداً على الدين؛ أو بمعنى النفي؛ أي أنه لن يدخل أحد دين الإسلام مكرَهاً؛ بل عن اختيار؛ لقوله تعالى بعد ذلك: { قد تبين الرشد من الغي }؟ الجواب: تحتمل وجهين؛ و «الإكراه» الإرغام على الشيء.
وقوله تعالى: { في الدين }؛ «الدين» يطلق على العمل؛ ويطلق على الجزاء؛ أما إطلاقه على العمل ففي مثل قوله تعالى: {ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة: 3] ، وقوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] ؛ وأمّا إطلاقه على الجزاء فمثل قوله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين} [الانفطار: 17، 18] أي يوم الجزاء؛ وقد قيل: «كما تدين تدان»؛ أي كما تعمل تجازى؛ والمراد بـ «الدين» هنا العمل؛ والمراد به دين الإسلام بلا شك؛ فـ «أل» هنا للعهد الذهني؛ يعني الدين المفهوم عندكم أيها المؤمنون؛ وهو دين الإسلام.
قوله تعالى: { قد تبين الرشد من الغي }؛ { تبين } هنا ضمنت معنى «تميَّز»؛ وكلما جاءت «مِن» بعد «تبين» فإنها مضمنة معنى التميز؛ أي تميز هذا من هذا.
وقوله تعالى: { الرشد من الغي }: هناك رشد، وغيّ؛ وهدى، وضلال؛ فـ؛ «الرشد» معناه حسن المسلك، وحسن التصرف: بأن يتصرف الإنسان تصرفاً يحمد عليه؛ وذلك بأن يسلك الطريق الذي به النجاة؛ ويقابل بـ «الغي» كما هنا؛ والمراد بـ{ الرشد } هنا الإسلام؛ وأما «الغي» فهو سوء المسلك: بأن يسلك الإنسان ما لا يحمد عليه لا في الدنيا، ولا في الآخرة؛ والمراد به هنا الكفر.
وتَبَيُّن الرشد من الغي بعدة طرق:
أولاً: بالكتاب ؛ فإن الله سبحانه وتعالى فرَّق في هذا الكتاب العظيم بين الحق، والباطل؛ والصلاح، والفساد؛ والرشد، والغي، كما قال تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} [النحل: 89] ؛ فهذا من أقوى طرق البيان.
ثانياً: بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنها بينت القرآن، ووضحته؛ ففسرت ألفاظه التي تشكل، ولا تعرف إلا بنص؛ وكذلك وضحت مجملاته، ومبهماته؛ وكذلك بينت ما فيه من تكميلات يكون القرآن أشار إليها، وتكملها السنة، كما قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [النحل: 44] .الطريق الثالث: هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وسلوكه في عبادته، ومعاملته، ودعوته؛ فإنه بهذه الطريقة العظيمة تبين للكفار، وغير الكفار حسن الإسلام؛ وتبين الرشد من الغيّ.
الطريق الرابع: سلوك الخلفاء الراشدين؛ وفي مقدمتهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ؛ فإن بطريقتهم بان الإسلام، واتضح؛ وكذلك من كان في عصرهم من الصحابة على سبيل الجملة لا التفصيل؛ فإنه قد تبين بسلوكهم الرشد من الغي.
هذه الطرق الأربع تبين فيها الرشد من الغي؛ فمن دخل في الدين في ذلك الوقت فقد دخل من هذا الباب؛ ولم يصب من قال: إن الدين انتشر بالسيف، والرمح.(1/24)
قوله تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى }؛ «الكفر» في اللغة مأخوذ من الستر؛ ومنه سمي «الكُفُرَّى» لوعاء طلع النخل؛ لأن الإنسان الكافر ستر نعمة الله عليه، وستر ما تقتضيه الفطرة من توحيد الله عز وجل؛ { فمن يكفر بالطاغوت } أي من ينكره، ويتبرأ منه؛ و «الطاغوت» فسره ابن القيم بأنه كل ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع؛ مشتق من «الطغيان»؛ وهو تجاوز الحد: قال تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} [الحاقة: 11] ؛ لأن الماء الذي أغرق الله به الكفار بنوح تجاوز الحد حتى وصل إلى ما فوق قمم الجبال؛ فالمعبود كالأصنام طاغوت؛ لأن الإنسان تجاوز بها حده في العبادة؛ و المتبوع كالأحبار، والرهبان الضالين طاغوت؛ لأن الإنسان تجاوز بهم الحد في تحليل ما حرم الله عز وجل، أو تحريم ما أحل الله عز وجل؛ والمطاع كالأمراء ذوي الجور والضلال الذين يأمرون بسلطتهم التنفيذية - لا التشريعية - طاغوت؛ إذاً { فمن يكفر بالطاغوت } من كفر بالأصنام؛ ومن كفر بأحبار، ورهبان السوء؛ ومن كفر بأمراء السوء الذين يأمرون بمعصية الله، ويلزمون بخلاف شرع الله عز وجل.
ولا يكفي الكفر بالطاغوت؛ لأن الكفر تخلٍّ، وعدم؛ ولا بد من إيجاد؛ الإيجاد: قوله تعالى: { ويؤمن بالله } بالجزم عطفاً على { يكفر }؛ والإيمان بالله متضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده؛ والإيمان بربوبيته؛ والإيمان بألوهيته؛ والإيمان بأسمائه، وصفاته إيماناً يستلزم القبول، والإذعان - القبول للخبر، والإذعان للطلب سواء كان أمراً، أو نهياً؛ فصار الإيمان بالله مركباً من أربعة أمور مستلزمة لأمرين؛ ثم اعلم أن معنى قولنا: الإيمان بوجود الله، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته المراد الإيمان بانفراده بهذه الأشياء: بالألوهية؛ والربوبية؛ والأسماء، والصفات؛ وبالوجود الواجب - فهو سبحانه وتعالى منفرد بهذا بأنه واجب الوجود.
قوله تعالى: { فقد استمسك بالعروة الوثقى } جواب { من } الشرطية؛ { استمسك } أي تمسك تمسكاً بالغاً { بالعروة الوثقى } أي المقبض القوي الذي ينجو به؛ والمراد به هنا الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله؛ لأن به النجاة من النار.
قوله تعالى: { لا انفصام لها } أي لا انقطاع، ولا انفكاك لها؛ لأنها محكمة قوية.
قوله تعالى: { والله سميع عليم }: سبق الكلام عليها مفصلاً.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أنه لا يكره أحد على الدين لوضوح الرشد من الغي؛ لقوله تعالى: { لا إكراه في الدين}؛ هذا على القول بأنها خبرية؛ أما على القول بأنها إنشائية فإنه يستفاد منها أنه لا يجوز أن يكره أحد على الدين؛ وبينت السنة كيف نعامل الكفار؛ وذلك بأن ندعوهم إلى الإسلام؛ فإن أبوا فإلى بذل الجزية؛ فإن أبوا قاتلناهم.
2 - ومنها: أنه ليس هناك إلا رشد، أو غي؛ لأنه لو كان هناك ثالث لذُكر؛ لأن المقام مقام حصر؛ ويدل لهذا قوله تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} [يونس: 32] ، وقوله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24] .
3 - ومنها: أنه لا يتم الإخلاص لله إلا بنفي جميع الشرك؛ لقوله تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله}؛ فمن آمن بالله، ولم يكفر بالطاغوت فليس بمؤمن.
4 - ومنها: أن كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت؛ لقوله تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله }؛ وجه هذا أنه سبحانه وتعالى جعل الكفر بالطاغوت قسيماً للإيمان بالله؛ وقسيم الشيء غير الشيء؛ بل هو منفصل عنه.
5 - ومنها: أنه لا نجاة إلا بالكفر بالطاغوت، والإيمان بالله؛ لقوله تعالى: { فقد استمسك بالعروة الوثقى }.
6 - ومنها: أن الأعمال تتفاضل؛ يؤخذ ذلك من اسم التفضيل: { الوثقى }؛ لأن التفضيل يقتضي مفضلاً، ومفضلاً عليه؛ ولا شك أن الأعمال تتفاضل بنص القرآن، والسنة؛ قال تعالى: { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً }؛ [الملك: 2] و{ أحسن } اسم تفضيل؛ وهذا دليل على أن الأعمال تتفاضل بالحُسن؛ وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: «أي العمل أحب إلى الله قال: الصلاة على وقتها»(1) وقال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: «ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه»(2)؛ ويلزم من تفاضل الأعمال تفاضل العامل: كلما كان العمل أفضل كان العامل أفضل؛ وتفاضل الأعمال يكون بعدة أمور: بحسب العامل؛ بحسب العمل جنسه، أو نوعه؛ بحسب الزمان؛ بحسب المكان؛ بحسب الكيفية، والمتابعة؛ بحسب الإخلاص لله؛ بحسب الحال.
مثاله بحسب العامل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم، ولا نصيفه»(3).
ومثاله بحسب العمل: جنسه، ونوعه ؛ فالصلاة مثلاً أفضل من الزكاة؛ والزكاة أفضل من الصيام؛ هذا باعتبار الجنس؛ ومثاله باعتبار النوع: الفريضة من كل جنس أفضل من النافلة؛ فصلاة الفجر مثلاً أفضل من راتبة الفجر.
ومثاله بحسب الزمان : قوله صلى الله عليه وسلم «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر»(4)، وقوله صلى الله عليه وسلم «من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً»(5).
ومثاله بحسب المكان قوله صلى الله عليه وسلم «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام»(6).
ومثاله بحسب الكيفية ؛ بمعنى أن كيفية العبادة تكون أفضل من كيفية أخرى، كالخشوع في الصلاة قال تعالى: {قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون: 1، 2] .
مثاله بحسب المتابعة : قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31] ؛ فكلما كان الإنسان للرسول أتبع كان عمله أفضل؛ لأن القاعدة أن الحكم المعلَّق بوصف يقوى بحسب ذلك الوصف.(1/25)
ومثاله بحسب الإخلاص أنه كلما كان العامل أشد إخلاصاً لله كان أكمل ممن خالط عمله شيء من الشرك؛ ومثاله بحسب الحال : العبادة بين أهل الغفلة، والإعراض أفضل من العبادة بين أهل الطاعة، والإقبال؛ ولهذا كان العامل في أيام الصبر له أجر خمسين من الصحابة لكثرة الإعراض عن الله عز وجل، وعن دينه؛ فلا يجد أحداً يساعده، ويعينه؛ بل ربما لا يجد إلا من يتهكم به، ويسخر به؛ ومن تفاضلها باعتبار الحال أن العفة من الشاب أفضل من العفة من الشيخ؛ لأن شهوة الشاب أقوى من شهوة الشيخ؛ فالداعي إلى عدم العفة في حقه أقوى من الداعي بالنسبة للشيخ؛ ولهذا كانت عقوبة الشيخ الزاني أشد من عقوبة الشاب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أشيمط زان وعائل مستكبر ورجل جعل الله بضاعة لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه»
7 - ومن فوائد الآية: إثبات اسمين من أسماء الله - هما «السميع العليم» ، وما تضمناه من صفة.
==============
ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله :
إن قضية العقيدة - كما جاء بها هذا الدين - قضية اقتناع بعد البيان والإدراك ؛ وليست قضية إكراه وغصب وإجبار . ولقد جاء هذا الدين يخاطب الإدراك البشري بكل قواه وطاقاته . يخاطب العقل المفكر ، والبداهة الناطقة ، ويخاطب الوجدان المنفعل ، كما يخاطب الفطرة المستكنة . يخاطب الكيان البشري كله ، والإدراك البشري بكل جوانبه ؛ في غير قهر حتى بالخارقة المادية التي قد تلجيء مشاهدها إلجاء إلى الإذعان ، ولكن وعيه لا يتدبرها وإدراكه لا يتعقلها لأنها فوق الوعي والإدراك .
وإذا كان هذا الدين لا يواجه الحس البشري بالخارقة المادية القاهرة ، فهو من باب أولى لا يواجهه بالقوة والإكراه ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديد أو مزاولة الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا اقتناع .
وكانت المسيحية - آخر الديانات قبل الإسلام - قد فرضت فرضا بالحديد والنار ووسائل التعذيب والقمع التي زاولتها الدولة الرومانية بمجرد دخول الإمبراطور قسطنطين في المسيحية . بنفس الوحشية والقسوة التي زاولتها الدولة الرومانية من قبل ضد المسيحيين القلائل من رعاياها الذين اعتنقوا المسيحية اقتناعا وحبا ! ولم تقتصر وسائل القمع والقهر على الذين لم يدخلوا في المسيحية ؛ بل إنها ظلت تتناول في ضراوة المسيحيين أنفسهم الذين لم يدخلوا في مذهب الدولة ؛ وخالفوها في بعض الاعتقاد بطبيعة المسيح !
فلما جاء الإسلام عقب ذلك جاء يعلن - في أول ما يعلن - هذا المبدأ العظيم الكبير:
لا إكراه في الدين . قد تبين الرشد من الغي . .
وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان ؛ واحترام إرادته وفكره ومشاعره ؛ وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه . . وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني . .
التحرر الذي تنكره على الإنسان في القرن العشرين مذاهب معتسفة ونظم مذلة ؛ لا تسمح لهذا الكائن الذي كرمه الله - باختياره لعقيدته - أن ينطوي ضميره على تصور للحياة ونظمها غير ما تمليه عليه الدولة بشتى أجهزتها التوجيهية ، وما تمليه عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها ؛ فإما أن يعتنق مذهب الدولة هذا - وهو يحرمه من الإيمان باله للكون يصرف هذا الكون - وإما أن يتعرض للموت بشتى الوسائل والأسباب !
إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق "الإنسان" التي يثبت له بها وصف "إنسان" . فالذي يسلب إنسانا حرية الاعتقاد ، إنما يسلبه إنسانيته ابتداء . . ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة ، والأمن من الأذى والفتنة . . وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة . والإسلام - وهو أرقى تصور للوجود وللحياة ، وأقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء - هو الذي ينادي بأن لا إكراه في الدين ؛ وهو الذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين . . فكيف بالمذاهب والنظم الأرضية القاصرة المعتسفة وهي تفرض فرضا بسلطان الدولة ؛ ولا يسمح لمن يخالفها بالحياة ؟!
والتعبير هنا يرد في صورة النفي المطلق: لا إكراه في الدين . . نفي الجنس كما يقول النحويون . . أي نفي جنس الإكراه . نفي كونه ابتداء . فهو يستبعده من عالم الوجود والوقوع . وليس مجرد نهي عن مزاولته . والنهي في صورة النفي - والنفي للجنس - أعمق إيقاعا وآكد دلالة .
ولا يزيد السياق على أن يلمس الضمير البشري لمسة توقظه ، وتشوقه إلى الهدى ، وتهديه إلى الطريق ،
وتبين حقيقة الإيمان التي اعلن أنها أصبحت واضحة وهو يقول:
قد تبين الرشد من الغي . .
فالإيمان هو الرشد الذي ينبغي للإنسان أن يتوخاه ويحرص عليه . والكفر هو الغي الذي ينبغي للإنسان أن ينفر منه ويتقي أن يوصم به .
والأمر كذلك فعلا . فما يتدبر الإنسان نعمة الإيمان ، وما تمنحه للإدراك البشري من تصور ناصع واضح ، ، وما تمنحه للقلب البشري من طمأنينة وسلام ، وما تثيره في النفس البشرية من اهتمامات رفيعة ومشاعر نظيفة ، وما تحققه في المجتمع الإنساني من نظام سليم قويم دافع إلى تنمية الحياة وترقية الحياة . . ما يتدبر الإنسان نعمة الإيمان على هذا النحو حتى يجد فيها الرشد الذي لا يرفضه إلا سفيه ، يترك الرشد إلى الغي ، ويدع الهدى إلى الضلال ، ويؤثر التخبط والقلق والهبوط والضآلة على الطمأنينة والسلام والرفعة والاستعلاء !
ثم يزيد حقيقة الإيمان إيضاحا وتحديدا وبيانا:
فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها . .
إن الكفر ينبغي أن يوجه إلى ما يستحق الكفر ، وهو الطاغوت . وإن الإيمان يجب أن يتجه إلى من يجدر الإيمان به وهو الله .(1/26)
والطاغوت صيغة من الطغيان ، تفيد كل ما يطغى على الوعي ، ويجور على الحق ، ويتجاوز الحدود التي رسمها الله للعباد ، ولا يكون له ضابط من العقيدة في الله ، ومن الشريعة التي يسنها الله ، ومنه كل منهج غير مستمد من الله ، وكل تصور أو وضع أو أدب أو تقليد لا يستمد من الله . فمن يكفر بهذا كله في كل صورة من صوره ويؤمن بالله وحده ويستمد من الله وحده فقد نجا . . وتتمثل نجاته في استمساكه بالعروة الوثقى لا انفصام لها .
وهنا نجدنا أمام صورة حسية لحقيقة شعورية ، ولحقيقة معنوية . .
إن الإيمان بالله عروة وثيقة لا تنفصم أبدا . . إنها متينة لا تنقطع . . ولا يضل الممسك بها طريق النجاة . . إنها موصولة بمالك الهلاك والنجاة . . والإيمان في حقيقته اهتداء إلى الحقيقة الأولى التي تقوم بها سائر الحقائق في هذا الوجود . . حقيقة الله . . واهتداء إلى حقيقة الناموس الذي سنه الله لهذا الوجود ، وقام به هذا الوجود . والذي يمسك بعروته يمضي على هدى إلى ربه ؛ فلا يرتطم ولا يتخلف ولا تتفرق به السبل ولا يذهب به الشرود والضلال .
والله سميع عليم . .
يسمع منطق الألسنة ، ويعلم مكنون القلوب . فالمؤمن الموصول به لا يبخس ولا يظلم ولا يخيب .
ثم يمضي السياق يصور في مشهد حسي حي متحرك طريق الهدى وطريق الضلال ؛ وكيف يكون الهدى وكيف يكون الضلال . .
يصور كيف يأخذ الله - ولي الذين آمنوا - بأيديهم ، فيخرجهم من الظلمات إلى النور . بينما الطواغيت - أولياء الذين كفروا - تأخذ بأيدهم فتخرجهم من النور إلى الظلمات !
إنه مشهد عجيب حي موح . والخيال يتبع هؤلاء وهؤلاء ، جيئة من هنا وذهابا من هناك . بدلا من التعبير الذهني المجرد ، الذي لا يحرك خيالا ، ولا يلمس حسا ، ولا يستجيش وجدانا ، ولا يخاطب إلا الذهن بالمعاني والألفاظ .
==============
ويقول أيضاً:
ولا بد هنا من بيان الشبهة التي قد تحيك في الصدور من هذا القول ، على حين أن الله سبحانه يقول: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي . .
ومع أن فيما سبق تقريره عن طبيعة الجهاد في الإسلام - وبخاصة فيما اقتطفناه من كتاب:"الجهاد في سبيل الله" للأستاذ أبي الأعلى المودودي ، ما يكفي للبيان الواضح . . إلا أننا نزيد الأمر إيضاحاً ، وذلك لكثرة ما لبس الملبسون ومكر الماكرون من أعداء هذا الدين !
إن الذي يعنيه هذا النص:
ويكون الدين كله لله . . هو إزالة الحواجز المادية ، المتمثلة في سلطان الطواغيت ، وفي الأوضاع القاهرة للأفراد ، فلا يكون هناك - حينئذ - سلطان في الأرض لغير الله ، ولا يدين العباد يومئذ لسلطان قاهر إلا سلطان الله . .
فإذا أزيلت هذه الحواجز المادية ترك الناس أفراداً يختارون عقيدتهم أحراراً من كل ضغط . على ألا تتمثل العقيدة المخالفة للإسلام في تجمع له قوة مادية يضغط بها على الآخرين ، ويحول بها دون اهتداء من يرغبون في الهدى ، ويفتن بها الذين يتحررون فعلا من كل سلطان إلا سلطان الله . .
إن الناس أحرار في اختيار عقيدتهم ، على أن يعتنقوا هذه العقيدة أفراداً ، فلا يكونون سلطة قاهرة يدين لها العباد . فالعباد لا يدينون إلا لسلطان رب العباد .
ولن تنال البشرية الكرامة التي وهبها لها الله ، ولن يتحرر "الإنسان" في "الأرض" ، إلا حين يكون الدين كله لله ، فلا تكون هنالك دينونة لسلطان سواه .
ولهذه الغاية الكبرى تقاتل العصبة المؤمنة:
حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله . .
فمن قبل هذا المبدأ وأعلن استسلامه له ، قبل منه المسلمون إعلانه هذا واستسلامه ، ولم يفتشوا عن نيته وما يخفي صدره ، وتركوا هذا لله:
فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير . .
ومن تولى وأصر على مقاومة سلطان الله قاتله المسلمون معتمدين على نصرة الله:
وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم . نعم المولى ونعم النصير . .
هذه تكاليف هذا الدين ؛ وهذه هي جديته وواقعيته وإيجابيته وهو يتحرك لتحقيق ذاته في عالم الواقع ؛ ولتقرير ألوهية الله وحده في دنيا الناس . .
إن هذا الدين ليس نظرية يتعلمها الناس في كتاب ؛ للترف الذهني والتكاثر بالعلم والمعرفة !
وليس كذلك عقيدة سلبية يعيش بها الناس بينهم وبين ربهم وكفى ! كما أنه ليس مجرد شعائر تعبدية يؤديها الناس لربهم فيما بينهم وبينه !
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان . . وهو منهج حركي واقعي ، يواجه واقع الناس بوسائل مكافئة . . يواجه حواجز الإدراك والرؤية بالتبليغ والبيان . . ويواجه حواجز الأوضاع والسلطة بالجهاد المادي لتحطيم سلطان الطواغيت وتقرير سلطان الله . .
والحركة بهذا الدين حركة في واقع بشري . والصراع بينه وبين الجاهلية ليس مجرد صراع نظري يقابل
بنظرية! إن الجاهلية تتمثل في مجتمع ووضع سلطة ، ولا بد - كي يقابلها هذا الدين بوسائل مكافئة - أن يتمثل في مجتمع ووضع وسلطة . ولا بد بعد ذلك أن يجاهد ليكون الدين كله لله ، فلا تكون هناك دينونة لسواه .
هذا هو المنهج الواقعي الحركي الإيجابي لهذا الدين . .
لا ما يقوله المهزومون والمخدوعون . . ولو كانوا من المخلصين الطيبين الذين يريدون أن يكونوا من "المسلمين" ، ولكن تغيم في عقولهم وفي قلوبهم صورة هذا الدين !
. . والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله . .
=============
ويقول أيضاً:
. إن الإسلام يقوم على قاعدة:لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي .
ولكن لماذا ينطلق إذن بالسيف مجاهدا ؛ ولماذا اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ؟ . .
إنه لأمر آخر غير الإكراه على العقيدة كان هذا الجهاد . . بل لأمر مناقض تماما للإكراه على العقيدة . .
إنه لضمان حرية الاعتقاد كان هذا الجهاد ! . .(1/27)
لأن الإسلام كإعلان عام لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعباد ؛ يواجه دائما طواغيت في الأرض يخضعون العباد للعباد . ويواجه دائما أنظمة تقوم على أساس دينونة العبيد للعبيد ؛ تحرس هذه الأنظمة قوة الدولة أو قوة تنظيمية في صورة من الصور ؛ وتحول دون الناس في داخلها ودون سماع الدعوة الإسلامية ؛ كما تحول دونهم ودون اعتناق العقيدة إذا ارتضتها نفوسهم ، أو تفتنهم عنها بشتى الوسائل . . وفي هذا يتمثل انتهاك حرية الاعتقاد بأقبح أشكاله . . ومن هنا ينطلق الإسلام بالسيف ليحطم هذه الأنظمة ، ويدمر هذه القوى التي تحميها . . ثم ماذا ؟ . . ثم يترك الناس - بعد ذلك - أحرارا حقا في اختيار العقيدة التي يريدونها . إن شاءوا دخلوا في الإسلام ، فكان لهم ما للمسلمين من حقوق ، وعليهم ما عليهم من واجبات ، وكانوا إخوانا في الدين للسابقين في الإسلام ! وإن شاءوا بقوا على عقائدهم وأدوا الجزية ، إعلانا عن استسلامهم لانطلاق الدعوة الإسلامية بينهم بلا مقاومة ؛ ومشاركة منهم في نفقات الدولة المسلمة التي تحميهم من اعتداء الذين لم يستسلموا بعد ، وتكفل العاجز منهم والضعيف والمريض كالمسلمين سواء بسواء .
إن الإسلام لم يكره فردا على تغيير عقيدته ؛ كما انطلقت الصليبية على مدار التاريخ تذبح وتقتل وتبيد شعوبا بأسرها - كشعب الأندلس قديما وشعب زنجبار حديثا - لتكرههم على التنصر . وأحيانا لا تقبل منهم حتى التنصر ، فتبيدهم لمجرد أنهم مسلمون . . وأحيانا لمجرد أنهم يدينون بمذهب نصراني مخالف لمذهب الكنيسة الرسمية . . وقد ذهب مثلا اثنا عشر ألفا من نصارى مصر ضحايا بصور بشعة إذ أحرقوا أحياء على نار المشاعل لمجرد مخالفتهم لجزئية اعتقادية عن كنيسة روما تتعلق بانبثاق الروح القدس من الآب فقط ، أو من الآب والابن معا !
أو يتعلق بما إذا كان للمسيح طبيعة واحدة لاهوتية ، أو طبيعة لاهوتية ناسوتية . . . إلى آخر هذه الجزيئات الاعتقادية الجانبية !
وأخيرا فإن صورة الانطلاق في الأرض لمواجهة من يلون المسلمين من الكفار تهول المهزومين روحيا في هذا الزمان وتتعاظمهم ؛ لأنهم يبصرون بالواقع من حولهم وبتكاليف هذا الانطلاق فيهولهم الأمر . . وهو يهول فعلا ! . . فهل هؤلاء الذين يحملون أسماء المسلمين ، وهم شعوب مغلوبة على أمرها ؛ أو قليلة الحيلة عموما ! هل هؤلاء هم الذين سينطلقون في الأرض يواجهون أمم الأرض جميعا بالقتال ، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ؟! إنه لأمر لا يتصور عقلا . . ولا يمكن أن يكون هذا هو أمر الله فعلا !
ولكن فات هؤلاء جميعا أن يروا متى كان هذا الأمر ؟ وفي أي ظرف ؟ لقد كان بعد أن قامت للإسلام دولة تحكم بحكم الله ؛ دانت لها الجزيرة العربية ودخلت في هذا الدين ، ونظمت على أساسه . وقبل ذلك كله كانت هناك العصبة المسلمة التي باعت أنفسها لله بيعة صدق ، فنصرها الله يوما بعد يوم ، وغزوة بعد غزوة ، ومرحلة بعد مرحلة . . وأن الزمان قد استدار اليوم كهيئته يوم بعث الله محمدا [صلى الله عليه وسلم ] ليدعو الناس - في جاهليتهم - إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . فجاهد والقلة التي معه حتى قامت الدولة المسلمة في المدينة . وأن الأمر بالقتال مر بمراحل وأحكام مترقية حتى انتهى إلى تلك الصورة الأخيرة . . وأن بين الناس اليوم وهذه الصورة أن يبدؤوا من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول . . ثم يصلوا - يوم أن يصلوا - إلى هذه الصورة الأخيرة بإذن الله . . ويومئذ لن يكونوا هم هذا الغثاء الذي تتقاسمه المذاهب والمناهج والأهواء ؛ والذي تتقاسمه الرايات القومية والجنسية والعنصرية . ولكنهم سيكونون العصبة المسلمة الواحدة التي ترفع راية:لا إله إلا الله . ولا ترفع معها راية أخرى ولا شعارا ، ولا تتخذ لها مذهبا ولا منهجا من صنع العبيد في الأرض ؛ إنما تنطلق باسم الله وعلى بركة الله . .
إن الناس لا يستطيعون أن يفقهوا أحكام هذا الدين ، وهم في مثل ما هم فيه من الهزال ! إنه لن يفقه أحكام هذا الدين إلا الذين يجاهدون في حركة تستهدف تقرير ألوهية الله وحده في الأرض ومكافحة ألوهية الطواغيت !
إن فقه هذا الدين لا يجوز أن يؤخذ عن القاعدين ، الذين يتعاملون مع الكتب والأوراق الباردة ! إن فقه هذا الدين فقه حياة وحركة وانطلاق . وحفظ ما في متون الكتب . والتعامل مع النصوص في غير حركة ، لا يؤهل لفقه هذا الدين ، ولم يكن مؤهلا له في يوم من الأيام !
وأخيرا فإن الظروف التي نزل فيها قول الله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ، واعلموا أن الله مع المتقين . .
تشير إلى أن أول المقصودين به كانوا هم الروم . . وهم أهل كتاب . . ولكن لقد سبق في السورة تقرير كفرهم الاعتقادي والعملي ، بما في عقيدتهم من انحراف ، وبما في واقعهم من تحكيم شرائع العبيد . .
وهذه لفتة لا بد من الوقوف عندها لفقه منهج هذا الدين في الحركة تجاه أهل الكتاب ، المنحرفين عن كتابهم ، المحتكمين إلى شرائع من صنع رجال فيهم ! . . وهي قاعدة تشمل كل أهل كتاب يتحاكمون - راضين - إلى شرائع من صنع الرجال وفيهم شريعة الله وكتابه ، في أي زمان وفي أي مكان !
ثم لقد أمر الله المسلمين أن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار وليجدوا فيهم غلظة ، وعقب على هذا الأمر بقوله:
إن الله يحب المتقين . .
ولهذا التعقيب دلالته . . فالتقوى هنا . . التقوى التي يحب الله أهلها . . هي التقوى التي تنطلق في الأرض تقاتل من يلون المسلمين من الكفار ؛ وتقاتلهم في "غلظة " أي بلا هوادة ولا تميع ولا تراجع . . حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .(1/28)
ولكنه ينبغي أن نعرف وأن يعرف الناس جميعا أنها الغلظة على الذين من شأنهم أن يحاربوا وحدهم - وفي حدود الآداب العامة لهذا الدين - وليست هي الغلظة المطلقة من كل قيد وأدب ! إنه قتال يسبقه إعلان ، وتخيير بين:قبول الإسلام ، أو أداء الجزية ، أو القتال . . ويسبقه نبذ العهد إن كان هناك عهد - في حالة الخوف من الخيانة - [ والأحكام النهائية تجعل العهد لأهل الذمة الذين يقبلون مسالمة الإسلام وأداء الجزية ؛ ولا عهد في غير هذه الحالة إلا أن يكون بالمسلمين ضعف يجعل الحكم المتعين في حالتهم هذه هو الحكم المرحلي الذي كان في حالة تشبه الحالة التي هم فيها ] .
وهذه آداب المعركة كلها ، من وصية رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] :
عن بريدة - رضي الله عنه - قال:كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال: اغزوا باسم الله ، في سبيل الله . قاتلوا من كفر بالله . اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا . فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم . ادعهم إلى الإسلام . فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم ، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم من الغنيمة والفيء شيء ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين . وإن هم أبوا فسلهم الجزية . فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم . فإن أبوا فاستعن بالله تعالى عليهم وقاتلهم . . . . . . [ أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي ] .
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال:وجدت امراة مقتولة في بعض مغازي رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] فنهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] عن قتل النساء والصبيان . . [ أخرجه الشيخان ] .
وأرسل النبي [صلى الله عليه وسلم ] معاذ بن جبل - رضي الله عنه - إلى أهل اليمن معلما فكانت وصيته له:
إنك تأتي قوما أهل كتاب ، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله . فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم بأن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة . فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم بأن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ، فترد على فقرائهم . فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم . واتق دعوة المظلوم ، فإنه ليس بينهما وبين الله حجاب .
وأخرج أبو داود - بإسناده - عن رجل من جهينة . أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] قال: لعلكم تقاتلون قوما فتظهرون عليهم فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وذراريهم ، فيصالحونكم على صلح ، فلا تصيبوا منهم فوق ذلك ، فإنه لا يصلح لكم .
وعن العرباض بن سارية قال: نزلنا مع رسول الله قلعة خيبر ، ومعه من معه من المسلمين . وكان صاحب خيبر رجلا ماردا متكبرا . فأقبل إلى النبي [صلى الله عليه وسلم ] فقال:يا محمد ! لكم أن تذبحوا حمرنا ، وتأكلوا ثمرنا ، وتضربوا نساءنا ؟ فغضب رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] وقال:يا ابن عوف اركب فرسك ، ثم ناد:إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن وأن اجتمعوا للصلاة . فاجتمعوا ، ثم صلى بهم ، ثم قام فقال:أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئا إلا ما في القرآن ! ألا وإني قد وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء ، إنها لمثل القرآن أو أكثر . وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ، ولا ضرب نسائهم ، ولا أكل ثمارهم ، إذا أعطوا الذي عليهم . ورفع إليه [صلى الله عليه وسلم ] بعد إحدى المواقع أن صبية قتلوا بين الصفوف ، فحزن حزنا شديدا ، فقال بعضهم:ما يحزنك يا رسول الله وهم صبية للمشركين ؛ فغضب النبي [صلى الله عليه وسلم ] ؛ وقال - ما معناه - إن هؤلاء خير منكم ، إنهم على الفطرة ، أو لستم أبناء المشركين . فإياكم وقتل الأولاد . إياكم وقتل الأولاد .
وهذه التعليمات النبوية هي التي سار عليها الخلفاء بعده:
روى مالك عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال: ستجدون قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له ، ولا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما
وقال زيد بن وهب:أتانا كتاب عمر - رضي الله عنه - وفيه:"لا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تقتلوا وليدا ، واتقوا الله في الفلاحين " .
ومن وصاياه ! " ولا تقتلوا هرما ولا امرأة ولا وليدا ، وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان ، وعند شن الغارات " .
وهكذا تتواتر الأخبار بالخط العام الواضح لمستوى المنهج الإسلامي في قتاله لأعدائه ، وفي آدابه الرفيعة ، وفي الرعاية لكرامة الإنسان . وفي قصر القتال على القوى المادية التي تحول بين الناس وبين أن يخرجوا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . وفي اليسر الذي يعامل به حتى أعداءه . أما الغلظة فهي الخشونة في القتال والشدة ؛ وليست هي الوحشية مع الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة ، غير المحاربين أصلا ؛ وليست تمثيلا بالجثث والأشلاء على طريقة المتبربرين الذين يسمون أنفسهم متحضرين في هذا الزمان . وقد تضمن الإسلام ما فيه الكفاية من الأوامر لحماية غير المحاربين ، ولاحترام بشرية المحاربين . إنما المقصود هو الخشونة التي لا تميع المعركة ؛ وهذا الأمر ضروري لقوم أمروا بالرحمة والرأفة في توكيد وتكرار فوجب استثناء حالة الحرب ، بقدر ما تقتضي حالة الحرب ، دون رغبة في التعذيب والتمثيل والتنكيل .
============(1/29)
البحر المحيط وفي
تفسير البحر المحيط - (ج 3 / ص 14)
{ لا إكراه في الدين } ذكر في سبب نزولها أقوال مضمون أكثرها : أن بعض أولاد الأنصار تنصر ، وبعضهم تهوّد ، فأراد آباؤهم أن يكرهوهم على الإسلام ، فنزلت . وقال أنس : نزلت فيمن قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أسلم» . فقال : أجدني كارهاً .
واختلف أهل العلم في هذه الآية : أهي منسوخة؟ أم ليست بمنسوخة؟ فقيل : هي منسوخة ، وهي من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف ، وقال قتادة ، والضحاك : هي محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية ، قالا : أمر بقتال أهل الأوثان لا يقبل منهم إلاَّ الإسلام أو السيف ، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل الجزية . ومذهب مالك : أن الجزية تقبل من كل كافر سوى قريش ، فتكون الآية خاصة فيمن أعطى الجزية من الناس كلهم لا يقف ذلك على أهل الكتاب . وقال الكلبي : لا إكراه بعد إسلام العرب ، ويقبل الجزية . وقال الزجاج : لا تنسبوا إلى الكراهة من أسلم مكرهاً ، يقال : أكفره نسبه إلى الكفر . قال الشاعر :
وطائفة قد أكفروني بحبهم ... وطائفة قالوا : مسيء ومذنب
وقيل : لا يكره على الإسلام من خرج إلى غيره . وقال أبو مسلم ، والقفال : معناه أنه ما بنى تعالى أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، وإنما بناه على التمكن والاختيار ، ويدل على هذا المعنى أنه لما بيّن دلائل التوحيد بياناً شافياً ، قال بعد ذلك : لم يبق عذر في الكفر إلاَّ أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه ، وهذا ما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الإبتلاء ، إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الإبتلاء .
ويؤكد هذا قوله بعد : { قَد تبين الرشد من الغي } يعني : ظهرت الدلائل ووضحت البينات ، ولم يبق بعدها إلاَّ طريق القسر والإلجاء وليس بجائز لأنه ينافي التكليف ، وهذا الذي قاله أبو مسلم والقفال لائق بأصول المعتزلة ، ولذلك قال الزمخشري : لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، ولكن على التمكين والإختيار ، ونحوه قوله : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } أي : لو شاء لقسرهم على الإيمان ، ولكنه لم يفعل ، وبنى الأمر على الأختيار .
والدين هنا ملة الإسلام واعتقاده ، والألف واللام للعهد ، وقيل : بدل من الإضافة أي : في دين الله .
{ قد تبين الرشد من الغيّ } أي : استبان الإيمان من الكفر ، وهذا يبين أن الدين هو معتقد الإسلام .
وقرأ الجمهور : الرشد ، على وزن القفل ، والحسن : الرشد ، على وزن العنق . وأبو عبد الرحمن : الرشد ، على وزن الجبل ، ورويت هذه أيضاً عن الشعبي ، والحسن ومجاهد . وحكى ابن عطية عن أبي عبد الرحمن : الرشاد ، بالألف .
والجمهور على إدغام دال ، قد ، في : تاء ، تبين . وقرىء شاذاً بالإظهار ، وتبين الرشد ، بنصب الأدلة الواضحة وبعثة الرسول الداعي إلى الإيمان ، وهذه الجملة كأنها كالعلة لانتفاء الإكراه في الدين ، لأن وضوح الرشد واستبانته تحمل على الدخول في الدين طوعاً من غير إكراه ، ولا موضع لها من الإعراب .
{ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } الطاغوت : الشيطان . قاله عمر ، ومجاهد ، والشعبي ، والضحاك ، وقتادة ، والسدّي . أو : الساحر ، قاله ابن سيرين ، وأبو العالية . أو : الكاهن ، قاله جابر ، وابن جبير ، ورفيع ، وابن جريح . أو : ما عبد من دون الله ممن يرضى ذلك : كفرعون ، ونمروذ ، قاله الطبري . أو : الأصنام ، قاله بعضهم .
وينبغي أن تجعل هذه الأقوال كلها تمثيلاً ، لأن الطاغوت محصور في كل واحد منها .
قال ابن عطية وقدّم ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت . إنتهى .
وناسب ذلك أيضاً اتصاله بلفط الغي ، ولأن الكفر بالطاغوت متقدّم على الإيمان بالله ، لأن الكفر بها هو رفضها ، ورفض عبادتها ، ولم يكتف بالجملة الأولى لأنها لا تستلزم الجملة الثانية ، إذ قد يرفض عبادتها ولا يؤمن بالله ، لكن الإيمان يستلزم الكفر بالطاغوت ، ولكنه نبه بذكر الكفر بالطاغوت على الانسلاخ بالكلية ، مما كان مشتبهاً به ، سابقاً له قبل الإيمان ، لأن في النصية عليه مزيد تأكيد على تركه .
وجواب الشرط : فقد استمسك ، وأبرز في صورة الفعل الماضي المقرون بقد الدالة في الماضي على تحقيقه ، وإن كان مستقبلاً في المعنى لانه جواب الشرط ، إشعاراً بأنه مما وقع استمساكه وثبت وذلك للمبالغة في ترتيب الجزاء على الشرط ، وأنه كائن لا محالة لا يمكن أن يتخلف عنه ، و : بالعروة ، متعلق باستمسك ، جعل ما تمسك به من الإيمان عروة ، وهي في الأجرام موضع الإمساك وشد الأيدي شبه الإيمان بذلك .
قال الزمخشري : وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر ، والاستدلال بالمشاهد المحسوس ، حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه ، فيحكم اعتقاده والتيقن .
والمشبه بالعروة الإيمان ، قاله : مجاهد . أو : الإسلام قاله السدّي أو : لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، والضحاك ، أو : القرآن ، قاله السدّي أيضاً ، أو : السنة ، أو : التوفيق . أو : العهد الوثيق . أو : السبب الموصل إلى رضا الله وهذه أقوال متقاربه .
{ لا انفصام لها } لا انكسار لها ولا انقطاع ، قال الفراء : الانفصام والانقصام هما لغتان ، وبالفاء أفصح ، وفرق بعضهم بينهما ، فقال : الفصم انكسار بغير بينونة ، والقصم انكسار ببينونة .
وهذه الجملة في موضع نصب على الحال من العروة ، وقيل : من الضمير المستكن في الوثقى ، ويجوز أن يكون خبراً مستأنفاً من الله عن العروة ، و : لها ، في موضع الخبر ، فتتعلق بمحذوف أي : كائن لها .
{ والله سميع عليم } أتى بهذين الوصفين لأن الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده الجنان ، فناسب هذا ذكر هذين الوصفين لأن الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، وقيل : سميع لدعائك يا محمد ، عليم بحرصك واجتهادك
==========(1/31)
وفي نطم الدرر
نظم الدرر للبقاعي - (ج 1 / ص 414)
ولما اتضحت الدلائل لكل عالم وجاهل صار الدين إلى حد لا يحتاج فيه منصف لنفسه إلى إكراه فيه فقال : { لا إكراه في الدين } وقال الحرالي : لما نقل سبحانه وتعالى رتبة الخطاب من حد خطاب الأمر والنهي والحدود وما ينبني عليه المقام به دين القيمة الذي أخفى لهم أمر العظمة والجبروت الجابر لأهل الملكوت والملك فيما هم فيه مصرفون إلى علو رتبة دين الله المرضي الذي لا لبس فيه ولا حجاب عليه ولا عوج له ، وهو اطلاعه سبحانه وتعالى عبده على قيوميته الظاهرة بكل باد وفي كل باد وعلى كل باد وأظهر من كل بادٍ وعظمته الخفية التي لا يشير إليها اسم ولا يجوزها رسم وهي مداد كل مداد بين سبحانه وتعالى وأعلن بوضع الإكراه الخفي موقعه في دين القيمة من حيث ما فيه من حمل الأنفس على كرهها فيما كتب عليها مما هو علم عقابها وآية عذابها ، فذهب بالاطلاع على أمر الله في قيوميته وعظمته كره النفس بشهودها جميع ما تجري فيه لها ما عليها . فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات بما استشعرته قلوبهم من ماء التوحيد الجاري تحت مختلفات أثمار أعمالهم فعاد حلوه ومره بذلك التوحيد حلواً ، كما يقال في الكبريت الأحمر الذي يقلب أعيان الأشياء الدنية إلى حال أرفعها - انتهى .
ثم علل سبحانه وتعالى انتفاء الإكراه عنه بقوله : { قد تبين الرشد } قال الحرالي : وهو حسن التصرف في الأمر والإقامة عليه بحسب ما يثبت ويدوم { من الغي } وهو سوء التصرف في الشيء وإجراؤه على ما تسوء عاقبته - انتهى . أي فصار كل ذي لب يعرف أن الإسلام خير كله وغيره شر كله ، لما تبين من الدلائل وصار بحيث يبادر كل من أراد نفع نفسه إليه ويخضع أجبر الجبابرة لديه فكأنه لقوة ظهوره وغلبة نوره قد انتفى عنه الإكراه بحذافيره ، لأن الإكراه الحمل على ما لم يظهر فيه وجه المصلحة فلم يبق منه مانع إلاّ حظ النفس الخبيث في شهواتها البهيمية والشيطانية { فمن } أي فكان ذلك سبباً لأنه من { يكفر بالطاغوت } وهو نفسه وما دعت إليه ومالت بطبعها الرديء إليه . وقال الحرالي : وهو ما أفحش في الإخراج عن الحد الموقف عن الهلكة صيغة مبالغة وزيادة انتهاء مما منه الطغيان - انتهى . { ويؤمن بالله } أي الملك الأعلى ميلاً مع العقل الذي هو خير كله لما رأى بنوره من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة وداوم على ذلك بما أفادته صيغة المضارع من يكفر ويؤمن { فقد استمسك } على بصيرة منه { بالعروة الوثقى } أي التي لا يقع شك في أنها أوثق الأسباب في نجاته بما ألقى بيده واستسلم لربه { ومن يسلم وجهه إلى الله } [ الحج : 31 ] ، والعروة ما تشد به العياب ونحوها بتداخلها بعضها في بعض دخولاً لا ينفصم بعضه من بعض إلا بفصم طرفه فإذا انفصمت منه عروة انفصم جميعه ، والوثقى صيغة فعلى للمبالغة من الثقة بشدة ما شأنه أن يخاف وهنه ، ثم بين وثاقتها بقوله : { لا انفصام لها } أي لا مطاوعة في حل ولا صدع ولا ذهاب . قال ابن القطاع : فصمت الشيء صدعته ، والعقدة حللتها ، والشيء عنه ذهب . وقال الحرالي : من الفصم وهو خروج العرى بعضها من بعض ، أي فهذه العروة لا انحلال لها أصلاً ، وهو تمثيل للمعلوم بالنظر والاحتجاج بالمشاهد المحسوس ليتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده فيه ويجل اغتباطه به ، فعلم من هذا أنه لم يبق عائق عن الدخول في هذا الدين إلا القضاء والقدر ، فمن سبقت له السعادة قيض الله سبحانه وتعالى له من الأسباب ما يخرجه به من الظلمات إلى النور ، ومن غلبت عليه الشقاوة سلط عليه الشياطين فأخرجته من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والحيرة .
ولما كان كل من الإيمان والكفر المتقدمين قولاً وفعلاً واعتقاداً قال مرغباً فيهما ومرهباً من تركهما : { والله } الذي له صفات الكمال { سميع } أي لما يقال مما يدل على الإيمان { عليم * } أي بما يفعل أو يضمر من الكفر والطغيان ومجاز عليه ، ولعل في الآية التفاتاً إلى ما ذكر أول السورة في الكفار من أنه سواء عليهم الإنذار وتركه وإلى المنافقين وتقبيح ما هم عليه مما هو في غاية المخالفة لما صارت أدلته أوضح من الشمس وهي مشعرة بالإذن في الإعراض عن المنافقين ، ولما قرر ذلك وأرشد السياق إلى شيء اقتضت البلاغة طيه إرشاداً إلى البعد منه والهرب عنه لبشاعته وسوء مغبته وهو ومن يؤمن بالطاغوت ويكفر بالله فلا يتمسك له والله يهويه إلى الجحيم ،
=============(1/32)
وفي التفسير الوسيط :
الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 473)
الإكراه معناه : حمل الغيرعلى قول أو فعل لا يريده عن طريق التخويف أو التعذيب أو ما يشبه ذلك . والمراد بالدين دين الإِسلام والألف واللام فيه للعهد .
والرشد : الاستقامة على طريق الحق مع تصلبه فيه ، مصدر رشيد يرشد ويرشد أي اهتدى . والمراد هنا : الحق والهدى .
والغي ضد الرشد . مصدر من غوى يغوي إذا ضل في معتقد أو رأى ، ويرى بعض العلماء أن نفي الإِكراه هنا خبر في معنى النهي ، أي : لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإِسلام فإنه بين واضح في دلائله وبراهينه ، فمن هداه الله له ونور بصيرته دخل فيه على بصيرة ، ومن أضله وأعمى قلبه لا يفيده الإِكراه على الدخول فيه .
وقال بعض العلماء إن الجملة هنا على حالها من الخبرية والمعنى : ليس في الدين - الذي هو تصديق بالقلب ، وإذعان في النفس - إكراه وإجبار من الله - تعالى - لأحد ، لأن مبني هذا الدين على التمكين والاختيار ، وهو مناط الثواب والعقاب ، لولا ذلك لما حصل الابتلاء والاختبار ، ولبطل الامتحان .
أو المعنى : كما يرى بعضهم - إن من الواجب على العاقل بعد ظهور الآيات البينات على أن الإِيمان بدين الإِسلام حق ورشد . وعلى أن الكفر به غي وضلال ، أن يدخل عن طواعية واختيار في دين الإِسلام الذي ارتضاه الله وألا يكره على ذلك بل يختاره بدون قسر أو تردد .
فالجملة الأولى وهي قوله - تعالى - : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } : تنفى الإِجبار على الدخول في الدين ، لأن هذا الإجبار لا فائدة من ورائه ، إذ التدين إذعان قلبي ، واتجاه بالنفس والجوارح إلى اله رب العالمين بإرادة حرة مختارة فإذا أكره عليه الإِنسان إزداد كرهاً له ونفوراً منه . فالإِكراه والتدين نقيضان لا يجتمعان ، ولا يمكن أن يكون أحدهما ثمرة للآخرة .
والجملة الثانية وهي قوله - تعالى - : { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } بمثابة العلة لنفي هذا الإكراه على الدخول في الدين ، أي قد ظهر الصبح لذي عينين ، وانكشف الحق من الباطل ، والهدى من الضلال وقامت الأدلة الساطعة على دين الإِسلام هو الدين الحق وغيره من الأديان ضلال وكفران وما دام الأمر كذلك فقد توافرت الأسباب التي تدعو إلى الدخول في دين الإِسلام ، ومن كفر به بعد ذلك فليحتمل نتيجة كفره ، وسوء عاقبة أمره .
ثم قال - تعالى - : { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى لاَ انفصام لَهَا } .
الطاغوت : اسم لكل ما يطغى الإِنسان ، كالأصنام والأوثان والشيطان وكل رأس في الضلال وكل ما عبد من دون الله . وهو مأخوذ من طغا يطغى - كسعى يسعى - طغياً وطغياناً ، أو من يطغو طغوا طغواناً ، إذا جاوز الحد وغلا في الكفر وأسرف في المعاصي والفجور .
والعروة : في أصل معناها تطلق على ما يتعلق بالشيء من عراه أي من الجهة التي يجب تعليهقمنها ، وتجمع على غرى . والعروة من الدلو والكوز مقبضه . ومن الثوب مدخل زره .
والوثقى : مؤنث الأوثق ، وهو الشيء المحكم الموثق . يقال وثق - بالضم - وثاقه أي : قوى وثبت فهو وثيق أي ثابت محكم .
والانفصام : الانكسار ، والقصم كسر الشيء وقطعة .
والمعنى : فمن خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة غير الله ، وآمن بالله - تعالى - إيماناً حالصاً صادقاً فقد ثبت أمره واستقام على الطريقة المثلى التي لا انقطاع لها وأمسك من الدين بأقوى سبب وأحكم رباط .
والفاء في قوله : { فَمَنْ يَكْفُر } للتفريع . والسين والتاء في استمسك للتأكيد والطلب ، وقوله : { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } فيه - كما يقول الزمخشري - تمثيل للمعلوم بالمنظور والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى بتصوره السامع كأنما ينظر إلأيه بعينه فيحكم اعتقاده والتيقن به ، وجملة { لاَ انفصام لَهَا } استئناف مقرر لما قبله أو حال من " العروة " والعامل " استمسك " .
ثم ختم - سبحانه الآية بقوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي سميع الأقوال ، وهمسات القلوب ، وخلجات النفوس ، عليم بما يسره الناس وما يعلنونه ، وسيجازيهم بما يستحقون من ثواب أو عقاب .
قال القرطبي ما ملخصه : قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله - تعالى - : { ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين } لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإِسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا الإِسلام . وقيل إنهاه لسيت بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة ، وأنهم لا يكرهون على الإِسلام إذا أدوا الجزية . . والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية : أسلمي أيتها العجوز تسلمي ، إن الله بعث محمداً بالحق .
قالت أنا عجوز كبيرة والموت إلى قريب . فقال عمر : اللهم اشهد وتلا : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } .
والذي تسكن إليه النفس أن هذه الآية محكمة غير منسوخة ، لأن التدين لا يكون مع الإِكراه - كما أشرنا من قبل - ولأن الجهاد ما شرع في الإِسلام لإِجبار الناس على الدخول في الإِسلام إذ لا إسلام مع إجبار ، وإنما شرع الجهاد لدفع الظلم ورد العدوان وإعلاء كلمة الله ، والرسول صلى الله عليه وسلم ما قاتل العرب ليكرههم على الدخول في الإِسلام وإنما قاتلهم لأنهم بدأوه بالعدواة .
ولأن الروايات في سبب نزول هذه الآية تؤيد أنه لا إكراه في الدين ، ومن هذه الروايات ما جاء عن ابن عباس أنه قال : نزلت في رجل من الأنجز من بني سالم بن عوف يققال له الحصين كان له ابنان نصرانيان وكان هو مسلما ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ألا استكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية فأنزل الله هذه الآية وفي رواية أخرى أنه حاول إكراههما على الدخول في الإِسلام فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الأنصاري : يا رسول الله أيدخل بعض النار وأنا أنظر إليه فنزلة هذه الآية .
ولأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا لم يمكن التوفيق بين الآيتين وهنا يمكن التوفيق بأن نقول : إن الآية التي معنا تنفى إكراه الناس على اعتقاد ما لا يريدون وآية { ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين } جاءت لحض النبي صلى الله عليه وسلم وحض أصحابه على قتال الكفار الذين وقفوا في طريق دعوته ، حتى يكفوا عن عدوانهم وتكون كلمة الله هي العليا .
==============(1/32)
وقال أبو السعود :
تفسير أبي السعود - (ج 1 / ص 312)
{ لا إِكْرَاهَ فِى الدين } جملةٌ مستأنفة جِيء بها إثرَ بيانِ تفرُّدِه سبحانه وتعالى بالشؤون الجليلةِ الموجبةِ للإيمان به وحده إيذاناً بأن مِنْ حق العاقلِ ألا يحتاجَ إلى التكليف والإلزام بل يختارُ الدينَ الحقَّ من غير ترددٍ وتلعثم وقيل : هو خبرٌ في معنى النهي أي لا تُكرِهوا في الدين فقيل : منسوخٌ بقوله تعالى : { جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ } وقيل : خاصٌّ بأهل الكتاب حيث حصَّنوا أنفسَهم بأداءِ الجزية ورُوي أنه كان لأنصاريَ من بني سالم بن عوفٍ ابنان قد تنصّرا قبل مبعثه عليه السلام ثم قدِما المدينة فلزِمهما أبوهما وقال : والله لا أدَعُكما حتى تُسلما فأَبَيا فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فخلاّهما { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } استئنافٌ تعليلي صُدّر بكلمة التحقيقِ لزيادة تقريرِ مضمونِه كما في قوله عز وجل : { قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً } أي إذ قد تبين بما ذُكر من نعوته تعالى التي يمتنع توهُّمُ اشتراك غيرِه في شيء منها الإيمانُ الذي هو الرشدُ الموصل إلى السعادة الأبدية من الكفر الذي هو الغيُّ المؤدي إلى الشقاوة السرمدية { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت } هو بناءُ مبالغة من الطغيان كالمَلَكوت والجَبَروت قُلب مكانُ عينه ولامِه فقيل : هو في الأصل مصدر وإليه ذهب الفارسيُّ وقيل : اسمُ جنسٍ مُفرَدٍ مذكر ، وإنما الجمعُ والتأنيثُ لإرادة الآلهةِ وهو رأيُ سيبويه ، وقيل : هو جمعٌ وهو مذهبُ المبرِّد وقيل : يستوي فيه المُفرَد والجمعُ والتذكيرُ والتأنيثُ أي فمن يعملْ إثرَ ما تميز الحقُّ من الباطل بموجب الحُججِ الواضحةِ والآياتِ البينة ويكفرْ بالشيطان أو بالأصنام أو بكل ما عُبد من دون الله تعالى أو صَدَّ عن عبادته سبحانه تعالى لِما تبيّن له كونُه بمعزل من استحقاق العبادة { وَيُؤْمِن بالله } وحدَه لِما شاهد من نعوتِه الجليلةِ المقتضيةِ لاختصاص الألوهيةِ به عز وجل الموجبةِ للإيمان والتوحيدِ ، وتقديمُ الكفرِ بالطاغوت على الإيمان به تعالى لتوقفه عليه فإن التخليةَ متقدّمةٌ على التحلية { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } أي بالغَ في التمسُّك بها كأنه وهو ملتبسٌ به يطلُبُ من نفسه الزيادةَ فيه والثباتَ عليه { لاَ انفصام لَهَا } الفصْم الكسرُ بغير صوت كما أن القَصْم هو الكسرُ بصوت ، ونفيُ الأول يدل على انتفاءِ الثاني بالأولوية ، والجملةُ إما استئنافٌ مقرِّر لما قبلها من وَثاقة العُروة وإما حالٌ من العروة والعاملُ استمسك أو من الضمير المستتر في الوثقى ولها في حيز الخبر ، أي كائن لها والكلامُ تمثيلٌ مبنيٌّ على تشبيه الهيئة العقليةِ المنتزَعةِ من ملازمة الاعتقادِ الحقِّ الذي لا يحتمل النقيضَ أصلاً لثبوته بالبراهين النيِّرة القطعية بالهيئة الحِسّية المنتزَعه من التمسُّك بالحبل المُحْكَم المأمونِ انقطاعُه فلا استعارةَ في المفردات ويجوز أن تكونَ العُروةُ الوثقى مستعارةً للاعتقاد الحقِّ الذي هو الإيمانُ والتوحيدُ لا للنظر الصحيح المؤدّي إليه كما قيل فإنه غيرُ مذكورٍ في حيز الشرط ، والاستمساكُ بها مستعاراً لِما ذكر من الملازمة أو ترشيحاً للاستعارة الأولى { والله سَمِيعٌ } بالأقوال { عَلِيمٌ } بالعزائم والعقائدِ ، والجملةُ اعتراضٌ تذييلي حاملٌ على الإيمان رادِعٌ عن الكفر والنفاق بما فيه من الوعد .
=================(1/32)
وفي تفسير الخازن :
تفسير الخازن - (ج 1 / ص 281)
قوله عز وجل : { لا إكراه في الدين } سبب نزول هذه الآية فيما يروى عن ابن عباس قال : كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة وهي التي لا يعيش لها ولد فكانت تنذر لئن عاش لها ولد ، لتهودنه فإذا عاش جعلته في اليهود فجاء الإسلام وفيهم منهم ، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم عدد من أولاد الأنصار فأرادت الأنصار استردادهم وقالوا هم أبناؤنا وإخواننا فنزلت الاية { لا إكراه في الدين } . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قد خير أصحابكم فأن أختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فأجلوهم معهم » وقيل : لرجل من الأنصار . من بني سالم بن عوف يقال له أبو الحصين ابنان متنصران قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الزيت فلزمهما أبوهما وقال لا أدعكما حتى تسلما فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا انظر فأنزل الله تعالى { لا إكراه في الدين } فخلى سبيلهما وقيل نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا بذل الجزية لم يكرهوا على الإسلام وذلك أن العرب كانت أمة أمية ولم يكن لهم كتاب يرجعون إليه فلم يقبل منهم إلاّ الإسلام أو القتل ونزل في أهل الكتاب لا إكراه في الدين يعني إذا قبلوا الجزية فمن أعطى الجزية منهم لم يكره على الإسلام فعلى هذا القول تكون الآية محكمة ليست بمنسوخة وقيل : بل الاية منسوخة وكان ذلك في ابتداء الإسلام قبل أن يؤمروا بالقتال ثم نسخت بآية القتال وهو قول ابن مسعود وقال الزهري سألت زيد بن أسلم عن قول الله تعالى لا إكراه في الدين قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحداً في الدين فأبى المشركون إلاّ أن يقاتلوا فاستأذن الله في قتالهم فأذن له ومعنى لا إكراه في الدين اي دين الإسلام ليس فيه إكراه عيله { قد تبين الرشد من الغي } يعني ظهر ووضح وتميز الحق من الباطل والإيمان من الكفر والهدى من الضلالة بكثرة الايات والبراهين الدالة على صحته { فمن يكفر بالطاغوت } يعني الشيطان ، وقيل : هو الساحر والكاهن ، وقيل هو كل ما عبد من دون الله تعالى ، وقيل : كل ما يطغى الإنسان فهو طاغوت فاعول من الطغيان { ويؤمن بالله } اي ويصدق بالله انه ربه ومعبوده من دون كل شيء كان يعبده وفيه إشارة إلى أنه لا بد للكافر أن يتوب أولاً عن الكفر ويتبرأ منه ثم يؤمن بعد ذلك بالله فمن فعل ذلك صح إيمانه وهو قوله تعالى : { فقد استمسك بالعروة الوثقى } أي فقد تمسك واعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين والوثقى تأنيث الأوثق وقيل العروة الوثقى السبب الذي يوصل إلى رضا الله تعالى وهو دين الإسلام { لا انفصام لها } أي لا انقطاع لها حتى تؤديه إلى الجنة والمعنى أن المتمسك بالدين الصحيح الذي هو دين الإسلام كالمتمسك بالشيء الوثيق الذي لا يمكن كسره ولا انقطاعه { والله سميع } يعني أنه تعالى يسمع قول من كفر بالطاغوت وأتى بالشهادتين { عليم } بما في قلبه من الإيمان وقيل معناه سميع لدعائك إياهم إلى الإسلام عليم بحرصك على إسلامهم .
==============(1/32)
وقال ابو بكر الجزائري :
أيسر التفاسير للجزائري - (ج 1 / ص 130)
شرح الكلمات :
{ لا إكراه في الدين } : لا يكره المرء على الدخول في الدين ، وإنما يعتنقه بإرادته واختياره .
{ الرشد } : الهدى الموصل إلى الإِسعاد والإِكمال .
{ الغي } : الضلال المفضي بالعبد إلى الشقاء والخسران .
{ الطاغوت } : كل ما صرف عن عبادة الله تعالى من إنسان أو شيطان أو غيرهما .
{ العروة الوثقى } : لا إله إلا الله محمد رسول الله .
{ لا انفصام لها } : لا تنفك ولا تنحل بحال من الأحوال .
{ الله وليّ الذين آمنوا } : مُتوليهم بحفظه ونصره وتوفيقه .
{ الظلمات } : ظلمات الجهل والكفر .
{ النور } : نور الإِيمان والعلم .
{ أولياؤهم الطاغوت } : المتولون لهم الشياطين الذين زينوا لهم عبادة الأوثان فأخرجوهم من الإِيمان إلى الكفر ومن العلم إلى الجهل .
معنى الآيتين :
يخبر الله تعالى بعد ذكر صفات جلاله وكماله في آية الكرسي أنه لا إكراه في دينه ، وذلك حين أراد بعض الأنصار إكراه من تهوّد أو تنصّر من أولادهم على الدخول في دين الإِسلام ، ولذا فإن أهل الكتابين ومن شابهما تؤخذ منهم الجزية ويقرون على دينهم فلا يخرجون منه إلا باختيارهم وإرادتهم الحرة ، أما الوثنيّون والذين لا دين لهم سوى الشرك والكفر فيقاتلون حتى يدخلوا في الإِسلام انقاذاً لهم من الجهل والكفر وما لا زمهم من الضلال والشقاء .
ثم أخبر تعالى أنه بإنزال كتابه وبعثه رسوله ونصر أوليائه قد تبين الهدى من الضلال والحق من الباطل ، وعليه فمن يكفر بالطاغوت وهو الشيطان الذين زين عبادة الأصنام ويؤمن بالله فيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فقد استمسك من الدين بأمتن عروة وأوثقها ، ومن يضرّ على الكفر بالله والإِيمان بالطاغوت فقد تمسك بأوهى من خيط العنكبوت ، والله سميع لأقوال عباده عليم بنياتهم وخفيات أعمالهم وسيجزي كلاً بكسبه . ثم أخبر تعالى أنه ولي عباده المؤمنين فهو يخرجهم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور العلم والإِيمان فَيكْمَلُون ويسْعَدُون ، وأن الكافرين أولياؤهم الطاغوت من شياطين الجن والإِنس الذين حسنوا لهم الباطل والشرور ، وزيّنوا لهم الكفر والفسوق والعصيان ، فأخرجوهم بذلك من النور إلى الظلمات فأهَّلوهم لدخول النار فكانوا أصحابها الخالدين فيها .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- لا يُكره أهل الكتابين ومن في حُكمهم كالمجوس والصابئة على الدخول في الإِسلام إلا باختيارهم وتقبل منهم الجزية فَيُقُّروْن على دينهم .
2- الإِسلام كلّه رشدن وما عداه ضلال وباطل .
3- التخلي عن الرذائل مقدَّم على التحلي بالفضائل .
4- معنى لا إله إلا الله ، وهي الإِيمان بالله والكفر بالطاغوت .
5- ولاية الله تعالى تُنَال بالإِيمان والتقوى .
6- نَصْرة الله تعالى ورعايته لأوليائه دون أعدائه .(1/32)
وقال ابن عطية :
المحرر الوجيز - (ج 1 / ص 309)
{ الدين } في هذه الآية المعتقد والملة ، بقرينة قوله { قد تبين الرشد من الغي } ، والإكراه الذي في الأحكام من الإيمان والبيوع والهبات وغير ذلك ليس هذا موضعه وإنما يجيء في تفسير قوله تعالى : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ، فإذا تقرر أن الإكراه المنفي هنا هو في تفسير المعتقد من الملل والنحل فاختلف الناس في معنى الآية ، فقال الزهري : سألت زيد بن أسلم عن قوله تعالى : { لا إكراه في الدين } فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحد في الدين ، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم ، فاستأذن الله في قالتهم فأذن له ، قال الطبري والآية منسوخة في هذا القول .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويلزم على هذا ، أن الآية مكية ، وأنها من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف ، وقال قتادة والضحاك بن مزاحم : هذه الآية محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية ويؤدونها عن يد صغرة ، قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل العرب أهل الأوثان لا يقبل منهم إلا لا إله إلا الله أو السيف ، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل الجزية ، ونزلت فيهم { لا إكراه في الدين } .
قال القاضي أبو محمد : وعلى مذهب مالك في أن الجزية تقبل من كل كافر سوى قريش أي نوع كان ، فتجيء الآية خاصة فيمن أعطى الجزية من الناس كلهم لا يقف ذلك على أهل الكتاب كما قال قتادة والضحاك . وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : إنما نزلت هذه الآية في قوم من الأوس والخزرج كانت المرأة تكون مقلاة لا يعيش لها ولد ، فكانت تجعل على نفسها إن جاءت بولد أن تهوده ، فكان في بني النضير جماعة على هذا النحو ، فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير قالت الأنصار كيف نصنع بأبنائنا ، إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه ، وأما إذ جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه ، فنزلت { لا إكراه في الدين } الآية ، وقال بهذا القول عامر الشعبي ومجاهد ، إلا أنه قال كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع ، وقال السدي نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين ، كان له ابنان ، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت ، فلما أرادوا الرجوع أتاهم ابنا أبي حصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا ومضيا معهم إلى الشام فأتى أبوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتكياً أمرهما ، ورغب في أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يردهما ، فنزلت { لا إكراه في الدين } ، ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب ، وقال : أبعدهما الله هما أول من كفر ، فوجد أبو الحصين في نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما ، فأنزل الله جل ثناؤه { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } [ النساء : 65 ] ، ثم إنه نسخ { لا إكراه في الدين } ، فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة .
قال القاضي أبو محمد : والصحيح في سبب قوله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون } ، حديث الزبير مع جاره الأنصاري في حديث السقي ، وقوله تعالى : { قد تبين الرشد من الغي } معناه بنصب الأدلة ووجود الرسول الداعي إلى الله والآيات المنيرة ، و { الرشد } مصدر من قولك رَشِد بكسر الشين وضمها يرشد رُشْداً وَرشَداً وَرَشَاداً ، و { الغي } مصدر من غوى يغوي إذا ضل في معتقد أو رأي ، ولا يقال الذي في الضلال على الإطلاق ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي « الرشاد » بالألف ، وقرأ الحسن والشعبي ومجاهد « الرَّشَد » بفتح الراء والشين . وروي عن الحسن « الرُّشُد » بضم الراء والشين ، و { الطاغوت } بناء مبالغة من طغى يطغى ، وحكى الطبري « يطغو » إذا جاوز الحد بزيادة عليه ، وزنه فعلوت ، ومذهب سيبويه أنه اسم مفرد كأنه اسم جنس يقع للكثير والقليل ، ومذهب أبي على أنه مصدر كرهبوت وجبروت وهو يوصف به الواحد والجمع ، وقلبت لامه إلى موضع العين ، وعينه موضع اللام فقيل : طاغوت ، وقال المبرد : هو جمع ، وذلك مردود .
واختلف المفسرون في معنى { الطاغوت } ، فقال عمر بن الخطاب ومجاهد والشعبي والضحاك وقتادة والسدي : { الطاغوت } : الشيطان . وقال ابن سيرين وأبو العالية : { الطاغوت } : الساحر : وقال سعيد بن جبير ورفيع وجابر بن عبد الله وابن جريج : { الطاغوت } : الكاهن . قال أبو محمد : وبين أن هذه أملثة في الطاغوت لأن كل واحد منها له طغيان ، والشيطان أصل ذلك كله ، وقال قوم : { الطاغوت } : الأصنام ، وقال بعض العلماء : كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت .
قال القاضي أبو محمد : وهذه تسمية صحيحة في كل معبود يرضى ذلك كفرعون ونمرود ونحوه ، وأما من لا يرضى ذلك كعزير وعيسى عليهما السلام ومن لا يعقل كالأوثان فسميت طاغوتاً في حق العبدة ، وذلك مجاز . إذ هي بسبب الطاغوت الذي يأمر بذلك ويحسنه وهو الشيطان ، وقدم تعالى ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت . و { العروة } في الأجرام وهي موضع الإمساك وشد الأيدي ، و { استمسك } معناه قبض وشد يديه ، و { الوثقى } فعلى من الوثاقة ، وهذه الآية تشبيه ، واختلفت عبارة المفسرين في الشيء المشبه { بالعروة } ، فقال مجاهد : العروة الإيمان . وقال السدي : الإسلام . وقال سعيد بن جبير والضحّاك : العروة لا إله إلا الله .
قال القاضي أبو محمد : وهذه عبارات ترجع إلى معنى واحد ، والانفصام : الانكسار من غير بينونة ، وإذا نفي ذلك فلا بينونة بوجه ، والفصم كسر ببينونة ، وقد يجيء الفصم بالفاء في معنى البينونة ، ومن ذلك قول ذي الرمة : [ البسيط ]
كأنه دملج من فضة نبه ... في ملعب من عذارى الحي مفصوم
ولما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات { سميع } من اجل النطق و { عليم } من أجل المعتقد .
==============(1/32)
وقال السعدي :
تفسير السعدي - (ج 1 / ص 110)
يخبر تعالى أنه لا إكراه في الدين لعدم الحاجة إلى الإكراه عليه، لأن الإكراه لا يكون إلا على أمر خفية أعلامه، غامضة أثاره، أو أمر في غاية الكراهة للنفوس، وأما هذا الدين القويم والصراط المستقيم فقد تبينت أعلامه للعقول، وظهرت طرقه، وتبين أمره، وعرف الرشد من الغي، فالموفق إذا نظر أدنى نظر إليه آثره واختاره، وأما من كان سيئ القصد فاسد الإرادة، خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل، ويبصر الحسن فيميل إلى القبيح، فهذا ليس لله حاجة في إكراهه على الدين، لعدم النتيجة والفائدة فيه، والمكره ليس إيمانه صحيحا، ولا تدل الآية الكريمة على ترك قتال الكفار المحاربين، وإنما فيها أن حقيقة الدين من حيث هو موجب لقبوله لكل منصف قصده اتباع الحق، وأما القتال وعدمه فلم تتعرض له، وإنما يؤخذ فرض القتال من نصوص أخر، ولكن يستدل في الآية الكريمة على قبول الجزية من غير أهل الكتاب، كما هو قول كثير من العلماء، فمن يكفر بالطاغوت فيترك عبادة ما سوى الله وطاعة الشيطان، ويؤمن بالله إيمانا تاما أوجب له عبادة ربه وطاعته { فقد استمسك بالعروة الوثقى } أي: بالدين القويم الذي ثبتت قواعده ورسخت أركانه، وكان المتمسك به على ثقة من أمره، لكونه استمسك بالعروة الوثقى التي { لا انفصام لها } وأما من عكس القضية فكفر بالله وآمن بالطاغوت، فقد أطلق هذه العروة الوثقى التي بها العصمة والنجاة، واستمسك بكل باطل مآله إلى الجحيم { والله سميع عليم } فيجازي كلا منهما بحسب ما علمه منهم من الخير والشر، وهذا هو الغاية لمن استمسك بالعروة الوثقى ولمن لم يستمسك بها.
=============(1/32)
وقال ابن أطفيش
تفسير اطفيش - إباضي - (ج 1 / ص 307)
{ لآ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ } لا تكرهوا فى الدين ، وهو خبر بمعنى النهى ، أو ليس من دين الله أن تكرهوا على الدخول فيه كالحبس أو الضرب أو الإيجاع أو الإعراء حتى يسلم ، أو لا يكره الله أحدا على الدين ، بل جعل الأمر اختياريا ، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وزعم بعض أن هذا إلى علم ، وبعض ، إلى خالدون ، ومن آية الكرسى { قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ } امتاز { مِنَ الْغَىِّ } الضلال فليختر العاقل ما يدخله الجنة منهما بلا حاة إلى إكراه . تنصّر ابنا أبى الحصين من بنى سالم بن عوف قبل البعثة فى جاهليتهما ، وقدما فى نفر من الأنصار يحملون الزيت فقال أبوهما : لا أدعكما حتى تسلما ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أيدخل بعضى النار وأنا أنظر ، فنزلت الآية ، فخلاهما ، وهذا قبل نزول القتال ، وإن كان بعده فقد عاهدوا أو أذعنا للجزية وليس القتال ، أو أخذ الجزية على الكفر إكراما فى الدين ، فلا نسخ فى الآية كما زعم من زعم ، ولا هى فى الكفار قبل نزول الجزية { فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ } ورسوله ، قدم ذكره على ذكر الإيمان لذكر لفظ الغى قبله ، ولتقدم التخلية على التحلية ، استحقاق ، ولأنه لا يتصور الإيمان بالله إلا بعد الكفر بالطاغوت ، وهذا اللفظ للمبالغة من الطغيان ، وجمع بينهما ، لأن الكفر بالطاغوت لا يوجب الإيمان بالله ، لإمكان خلو الذهن وعكسه ، وإن أوجبه ، لكن جمعا للمبالغة ، وهو فلعوت من طغى يطغى ، أو طغا يطغو ، أصله طغيوت أو طغووت ، قدم اللام على العين ، وأصله مصدر عند الفارسى ، بمعنى الطغيان ، سمى به الشيطان أو الأصنام ، أو كل من عبد من دون الله ، أو صد عن عبادة الله ، أو الساحر ، أو الكاهن ، أو كل ذلك ، وهذا أولى ، وقيل التاء أصله ، والوزن فاعول ، وعلى كل هو مفرد يطلق على الواحد والجماعة { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ } بالغ فى الإمساك ، بالسين والتاء ، أو هما للطلب ، لأن ما يحصل بالطلب يكون أكمل { بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } شبه دين الله والعمل به والوقوف معه بالعقدة القوية والتمسك بها ولزومها مطلقا ، أو تدليلا أو تصعداً ، أو سمى الدين عروة وثقى كتسمية الشجاع أسداً ، وفسر بعض العروة الوثقى بالدين ، وبعض بالإيمان ، وبعض بالقرآن ، وبعض بكلمة الإخلاص ، وبعض بالاعتقاد الحق ، أو السبب الموصل ، وبعض بالعهد ، والكلام استعارة تمثيلية ، أو العروة استعارة أصلية تصريحية مرشجة باستعارة تبعية هى استمسك { لاَ انْفِصَامَ لَهَا } لا انكسارها لها بلا قطع ، فضلا عن القطع وما بالقطع يكون بالقاف ، وذلك ترشيح لما قبله { وَاللهُ سَمِيعٌ } عليم بالأقوال { عَلِيمٌ } بما يعتقد ويعمل ، وذلك تهديد على الشرك والنفاق .
============(1/32)
وفي هميان الزاد:
هميان الزاد - إباضي - (ج 2 / ص 446)
{ لا إكْراهَ فى الدِّينِ } : أى لا يؤخذ أحد فيحبس ليسلم أى ضيف عليه بمنعه من ماله ويترك هو حتى يسلم ، وذلك إذا كان ابتدأ عليه ، وأما إن دخل الكتابى الذمى أمرا يؤذن بالإيمان فلا يترك حتى يسلم مثل أن يؤذن أو تقيم حتى يقول محمد رسول الله ، أو يدخل المسجد على ما بسطهُ فى شرح النيل ولا تشمله الآية لأنه لم دخل فى ذلك الأمر أشعر بالإيمان ، وإنما أمر بإتمامه إزالة للأشتباه ، إذ لا سبيل لقتله ، وأما غيره من أهل الكتاب والمجوس فسبيله أن يسلم أن يعطى الجزية وإلا قتل ، وأما غير أهل الكتاب والمجوس ، لأن لم يسلموا قتلوا فلا يحبس كتابى فى ذلك إكراه على الدين ، وكذا لا يكره مخالف أن يدين بديانتنا . قال ابن عباس : كانت المرأة من الأنصار إذا كان الولد لا يعيش لها نذرت إن عاش جعلتهُ فى اليهود فى دينهم ، زوجها أيضاً من الأنصار ، وقيل : إن الأنصار تزوجوا يهوديات ، فكن ينذرن أن يجعلن أولادهن فى دينهن ، فجاء الإسلام ، وفى اليهود جماعة فمن نذر به وجعل فيهم ، فلما ، أجليت النظير أردات الأنصار استردادهم ، وقالوا هم ، وقالو هم أبناؤنا وإخواننا ، فنزل :
{ لا إكراه فى الدين } الآية فقال صلى الله عليه وسلم : « قد خيركم أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختارهم فأجلوهم معهم » ، وعن سعيد بن جبير : كان قوم من أصحاب النبى صلى الله عليه سولم استرضعوا أولادهم فى اليهود زمان الجاهلية ، فلما أسلم الآباء وقد كبر أبناؤهم على اليهود ، أرادوا أن يكرهوا أبناءهم على الإسلام ، فنزلت الآية . قال مجاهد : أرضعت نظير رجالا من الأوس ، فلما مر النبى صلى الله عليهُ وسلم بإجلائهم قالوا لنذهبن معهم ولندينين بدينهم فمنعوهم أهلهم وأكرهوهم للإسلم ، فنزلت ، وقيل : كان لابن الحصين من الأنصار من بنى سالم بن عوف أبنان تنصرا ، قدم المدينة نفر من الأنصار يحملون الزيت من الشام بعد قدوم النبى لى الله عليه وسلم المدينة ، فقال أبو همالا أدعكما حتى تسلما فاختصموا إلى النبى صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله أيدخل بعضى النار وأنا أنظر؟ فنزلت . فجلاهما ، وقال ابن مسعود والزهرى وزيد بن أسلم : إن معنى الإكراه فى ادين نهى عن القتال ، أهل الكتاب والمجوس على الإسلام بالسيف ، بل تقبل عنهم الجزية إلا إن أبوا منهما قتلوا كتب النبى صلى الله عليه وسلم أو السيف ، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية وهى على أصلها ، أى لا إكراه فى الأحكام الشرعية من التوحيد وما جونه ، أى ليس فيها شئ يكره عليه ، أو المراد بالدين التوحيد ، ويجوز كونها بمعنى على ، أى لا إكراه ثابت على الدين ، أى على الدخول فيه واللفظ خبر ، ومعناه نهى ، أى لا تكرهوا فى الدين أو معناه أيضا خبر أى ليس من الحكمة أو من دين الله أن يكره كافر على الدين .
{ قَدْ تَبيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَىّ } : ظهرت بالآيات أن الإيمان هو الرشد ، وأن الكفر ضلال فى الدين ، والرشد يوصل إلى سعادة الدارين ، والضلال إلى شقاوتهما ، فمن أدرك عقله بادر إل الإسلام واجتنب الكفر بلا إكراه . والغىّ : مصدر غوى يغوى إذا ضل فى اعتقاد أورأى ، وأما فى غير ذلك كضلال فى الأرض أو غيرها كالحساب فلا يقال فيه غى .
{ فَمَن يَكفُر بالطَّاغُوتِ } : أى جحد استحقاقه العبادة وهو الشيطان ، وهو جنس الشياطين ، وهو قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه ومجاهد وقتادة ، وقيل الصنم ، والمراد جنس الأصنام ، وقيل الساحر وهو جنس السحرة ، وقيل الكاهن ، والمراد جنس الكهنة ، ويطلق على الواحد والجمع ، فلا حاجة إلى تأويل الجنس ، وقيل كل ما عبد من دون الله ونسب لأهل اللغة كلهم ، والمراد غير العاقل ، والعاقل الداعى إلى عبادة نفسه كالشيطان ونمرود وفرعون ، وأما من عبد امن دون الله إلى عبادة نفسه كالشيطان ونمرود وفرعون ، وأما من عبد من دون الله بلا رضاً منه كالملائكة وعيسى فلا يشمله هذا الاسم ، ثم رأيت من تعرض لذلك ، فزعم أنه يشمله فيسمى طاغوتا فى حق العبد ، كما أن الصنم وما ليس عاقلا وعبد من دون الله ليس فيه طغيان ، وإنما الطاغى عابده كالشمس والقمر ، وقيل كلما يطغى الإنسان فهو طاغوت ، وقيل كلما عبد من دون الله اوصد عن عبادة الله كالهوى فهو طاغوت ، ولفظ طاغوت مصدر مسى به وزنه فعلوت بتقديم اللام على العين ، وأصل هذا يغوت وطوغوت قلبت الياء أو الواو قيل الغين ألفا لتحركها بعد فتحة ، وأصل هذا طغوت ، أو طغيوت تقدمت الواو أو الباء على الغين فقلبت ألفا كما ترى .
{ يُؤْمنُ بِاللهِ } : بأن وحده وصدق رسله فيعبد الله وحده مخلصاً ، وأيما كافر آمن بالله وبغيره من الطواغيت فليس بؤمن .
{ فَقَدِ اسْتمسَك } أى تمسك تمساكا قويا ، فالاستفعال للمبالغة ويجوز إبقاءه على أصله وهو الطلب ، إما باعتبار ما تقدم تمسكه من القصد والإرادة ، وإما باعتبار أنه ليس على وثوق من السعادة ، لإمكان انقلابه إلى الكفر أو المعاصى وهو ما دام حيا يطلق أن يكون قد مسك بها .
{ بالعُرْوَةِ الوُثْقَى } : دين الله ، شبهه بالعروة الوثيقة من حبل صحيح أو حديد قوى لا يسقط من تمسك بها ، وقال مجاهد : العروة الوثقى الإيمان وهو التصديق بالله ورسله وكتبه ، وقال السدى : الإسلام أى العمل الصالح مع الإيمان ، وقال ابن جبير وغيره : لا إله إلا الله ، وذلك يجرع بعضه لبعض ، لأن الإيمان الكامل وقوله لا إله إلا الله يستلزمان العمل الصالح وقيل العروة الوثقى الإيمان النظر الصحيح ، وقبل الدلائل الدالة على هذا الدين القويم ، والوثقى مؤنث اسم التفضيل وهو الأوثق ففيه تفضيل .
{ لانْفِصَامَ لهَا } : أى لا نقطاع لها ، يقال فصمته فانفصهم مطاوع الفصم ، كما نفصم مطاوع فصم ، ومعناه الانكسار من غير تفرق ، واما الانفاص بالقاف فانكسار بتفرق ، فإذا لم يكن لها انفصام بالفاء فأحرى إلا يكون لها انقصام بالقاف ، وقد يطلق بالقاف على الانكسار بالتفرق وقوله صلى الله عليه وسلم فى حديث الوحى : « فينقصم عنى » محتمل له ومحتمل للاتصار باعتباره بقاء الموحى معه بعد ذهاب جبريل عليه السلام ، قال الحسن : لا انفصام لها دون أن تهجم بأهلها على الجنة .
{ وَاللّهُ سَميعٌ } : بالأقوال ، ومنها دعاءك يا محمد إياهم للإسلام .
{ عَليمٌ } : للأفعال والنّيات ، فهو معاقب للمنافق ومثيب لناوى الخير
===============(1/32)
وقال الطاهر بن عاشور :
التحرير والتنوير - (ج 2 / ص 434)
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
استئناف بياني ناشىء عن الأمر بالقتال في سبيل الله في قوله : { وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم } [ البقرة : 244 ] إذ يبدو للسامع أن القتال لأجل دخول العدو في الإسلام فبيّن في هذه الآية أنه لا إكراه على الدخول في الإسلام وسيأتي الكلام على أنّها محكمة أو منسوخة .
وتعقيب آية الكرسي بهاته الآية بمناسبة أنّ ما اشتملت عليه الآية السابقة من دلائل الوحدانية وعظمة الخالق وتنزيهه عن شوائب ما كفرت به الأممُ ، من شأنه أن يسوق ذوي العقول إلى قبول هذا الدين الواضححِ العقيدة ، المستقيم الشريعةِ ، باختيارهم دون جبر ولا إكراه ، ومن شأنه أن يجعل دوامهم على الشرك بمحل السؤال : أيُتْرَكون عليه أم يُكْرَهُون على الإسلام ، فكانت الجملة استئنافاً بيانياً .
والإكراه الحمل على فعل مكروه ، فالهمزة فيه للجعل ، أي جعله ذا كراهية ، ولا يكون ذلك إلاّ بتخويف وقوع ما هو أشدّ كراهية من الفعل المدعو إليه .
والدين تقدم بيانه عند قوله : { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 3 ] ، وهو هنا مراد به الشرع .
والتعريف في الدين للعهد ، أي دين الإسلام .
ونفي الإكراه خير في معنى النهي ، والمراد نفي أسباب الإكراه في حُكم الإسلام ، أي لا تكرهوا أحداً على أتباع الإسلام قسراً ، وجيء بنفي الجنس لقصد العموم نصاً . وهي دليل واضح على إبطال الإكراه على الدِّين بسائر أنواعه ، لأنّ أمر الإيمان يجري على الاستدلال ، والتمكين من النظر ، وبالاختيار . وقد تقرر في صدر الإسلام قتال المشركين على الإسلام ، وفِي الحديث : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها » . ولا جائز أن تكون هذه الآية قد نزلت قبل ابتداء القتال كله ، فالظاهر أنّ هذه الآية نزلت بعد فتح مكة واستخلاص بلاد العرب ، إذ يمكن أن يدوم نزول السورة سنين كما قدمناه في صدر تفسير سورة الفاتحة لا سيما وقد قيل بأنّ آخر آية نزلت هي في سورة النساء ( 176 ) { يبين الله لكم أن تضلوا } الآية ، فنسخت حكم القتال على قبول الكافرين الإسلام ودلت على الاقتناع منهم بالدخول تحت سلطان الإسلام وهو المعبّر عنه بالذمة ، ووضحُه عمل النبي وذلك حين خلصت بلاد العرب من الشرك بعد فتح مكة وبعد دخول الناس في الدين أفواجاً حين جاءت وفود العرب بعد الفتح ، فلما تم مراد الله من إنقاذ العرب من الشرك والرجوع بهم إلى ملَّة إبراهيم ، ومن تخليص الكعبة من أرجاس المشركين ، ومن تهيئة طائفة عظيمة لحمل هذا الدين وحماية بيضته ، وتبيّنَ هدى الإسلام وزال ما كان يحول دون أتِّباعه من المكابرة ، وحقّق الله سلامه بلاد العرب من الشرك كما وقع في خطبة حجة الوداع إنّ الشيطان قد يئس من أن يُعبد في بلدكم هذا لَمَّا تم ذلك كله أبطل الله القتال على الدين وأبقى القتال على توسيع سلطانه ، ولذلك قال ( سورة التوبة 29 )
{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وعلى هذا تكون الآية ناسخة لما تقدّم من آيات القتال مثل قوله قبلها { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلط عليهم } [ التوبة : 73 ] على أن الآيات النازلة قبلها أو بعدها أنواع ثلاثة :
أحدها : آيات أمرت بقتال الدفاع كقوله تعالى : { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } [ التوبة : 36 ] ، وقوله : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله } [ البقرة : 194 ] ، وهذا قتال ليس للإكراه على الإسلام بل هو لدفع غائلة المشركين .
النوع الثاني : آيات أمرت بقتال المشركين والكفّار ولم تغيّ بغاية ، فيجوز أن يكون إطلاقها مقيّداً بغاية آيةِ { حتى يعطوا الجزية } [ التوبة : 29 ] وحينئذ فلا تعارضه آيتنا هذه { لا إكراه في الدين } .
النوع الثالث : مَا غُيِّيَ بغاية كقوله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } [ البقرة : 193 ] ، فيتعين أن يكون منسوخاً بهاته الآية وآيةِ { حتى يعطوا الجزية } [ التوبة : 29 ] كما نُسخ حديثُ " أمرتُ أن أقاتل الناس " هذا ما يظهر لنا في معنى الآية ، والله أعلم .
ولأهل العلم قبلنا فيها قولان : الأول قال ابن مسعود وسليمان بن موسى : هي منسوخة بقوله { يأيها النبي جاهد الكفّار والمنافقين } [ التوبة : 73 ] ، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم أكره العرب على الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلاّ به . ولعلهما يريدان من النسخ معنى التخصيص . والاستدلال على نسخها بقتال النبي صلى الله عليه وسلم العربَ على الإسلام ، يعارضه أنّه عليه السلام أخذ الجزية من جميع الكفّار ، فوجه الجمع هو التنصيص . القول الثاني أنها محكّمة ولكنّها خاصة ، فقال الشعبي وقتادة والحسن والضحاك هي خاصة بأهل الكتاب فإنّهم لا يُكْرَهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية وإنّما يجبر على الإسلام أهل الأوثان ، وإلى هذا مال الشافعي فقال : إنّ الجزية لا تؤخذ إلاّ من أهل الكتاب والمجوسسِ . قال ابن العربي في الأحكام «وعلى هذا فكل من رأى قبول الجزية من جنسسٍ يَحمل الآية عليه» ، يعني مع بقاء طائفة يتحقق فيها الإكراه . وقال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد : نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا في الجاهلية إذا كانت المرأة منهم مِقلاتاً أي لا يعيش لها ولد تنذر إن عاش لها ولد أن تهوّده ، فلما جاء الإسلام وأسلموا كان كثير من أبناء الأنصار يهودا فقالوا : لا ندع أبناءنا بل نكرههم على الإسلام ، فأنزل الله تعالى : { لا إكراه في الدين } .
وقال السدي : نزلت في قصة رجل من الأنصار يقال له أبو حُصَين من بني سلِمة بن عَوف وله ابنان جاء تجّار من نصارى الشام إلى المدينة فدعَوْهما إلى النصرانية ، فتنصّرا وخرجا معهم ، فجاء أبوهما فشكا للنبيء صلى الله عليه وسلم وطلب أن يبعث من يردّهما مكرهين فنزلت { لا إكراه في الدين } ، ولم يؤمر يومئذ بالقتال ثم نسخ ذلك بآيات القتال . وقيل : إن المراد بنفي الإكراه نفي تأثيره في إسلام من أسلم كرهاً فراراً من السيف ، على معنى قوله تعالى : { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا } [ النساء : 94 ] . وهذا القول تأويل في معنى الإكراه وحمل للنفي على الإخبار دون الأمر .
وقيل : إنّ المراد بالدين التوحيد ودين له كتاب سماوي وإنّ نفي الإكراه نهي ، والمعنى لا تكرهوا السبايا من أهل الكتاب لأنّهنّ أهل دين وأكرهُوا المجوس منهم والمشركات .
وقوله : { قد تبين الرشد من الغيّ } واقع موقع العلة لقوله : { لا إكراه في الدين } ولذلك فصلت الجملة .
والرشد بضم فسكون ، وبفتح ففتح الهُدى وسداد الرأي ، ويقابله الغيّ والسفه ، والغيّ الضلال ، وأصله مصدرُ غَوَى المتعدي فأصله غَوْي قلبت الواو ياء ثم أدغمتا . وضُمّن تبيّن معنى تميز فلذلك عدي بمَن ، وإنّما تبيّن ذلك بدعوة الإسلام وظهوره في بلد مستقل بعد الهجرة .
وقوله : { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } تفريع على قوله : { قد تبيّن الرشد من الغي } إذ لم يبق بعد التبيين إلاّ الكفرُ بالطاغوت ، وفيه بيان لنفي الإكراه في الدين؛ إذ قد تفرّع عن تميّز الرشد من الغي ظهور أنّ متّبع الإسلام مستمسك بالعروة الوثقى فهو ينساق إليه اختياراً .
والطاغوت الأوثان والأصنام ، والمسلمون يسمّون الصَّنم الطاغية ، وفي الحديث : " كانوا يهلون لمناة الطاغية " ويجمعون الطاغوت على طواغيت ، ولا أحسبه ألاّ من مصطلحات القرآن وهو مشتق من الطغيان وهو الارتفاع والغلو في الكبر وهو مذموم ومكروه . ووزن طاغوت على التحقيق طَغَيُوت فَعَلُوت من أوزان المصادر مثل مَلَكوت ورَهَبوت وَرَحَمُوت فوقع فيه قلب مكاني بين عينه ولامه فصيرُ إلى فَلَعوت طيَغوت ليتأتى قلب اللام ألفاً فصار طَاغوت ، ثم أزيل عنه معنى المصدر وصار اسماً لطائفة مما فيه هذا المصدر فصار مثل مَلَكوت في أنه اسم طائفة مما فيه معنى المصدر لا مثل رَحَموت ورهبوت في أنّهما مصدران فتاؤه زائدة ، وجعل علماً على الكفر وعلى الأصنام ، وأصله صفة بالمصدر ويطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كشأن المصادر .
وعطف { ويؤمن بالله } على الشرط لأنّ نبذ عبادة الأصنام لا مزيّة فيه إن لم يكن عَوّضها بعبادة الله تعالى .
ومعنى استمسك تمسك ، فالسينُ والتاء للتأكيد كقوله : { فاستمسكْ بالذي أُوحيَ إليك } [ الزخرف : 43 ] وقوله : { فاستجاب لهم ربهم } [ آل عمران : 195 ] وقول النابغة : «فاستنكحوا أمّ جابر» إذ لا معنى لطلب التمسك بالعروة الوثقى بعد الإيمان ، بل الإيمان التمسك نفسه .
والعروة بضم العين ما يُجعل كالحلْقة في طرف شيء ليقبض على الشيء منه ، فللدّلوْ عروة وللكُوز عُروة ، وقد تكون العروة في حبل بأن يشدّ طرفه إلى بعضه ويعقد فيصير مثل الحلقة فيه ، فلذلك قال في «الكشاف» : العروة الوثقى من الحبل الوثيق .
و { الوثقى } المحكمة الشدّ . { ولا انفصام لها } أي لا انقطاع ، والفصم القطع بتفريق الاتصال دون تجزئة بخلاف القصم بالقاف فهو قطع مع إبانة وتجزئة .
والاستمساك بالعروة الوثقى تمثيلي ، شبهت هيأة المؤمن في ثباته على الإيمان بهيأة من أمسك بعروة وثقى من حَبل وهو راكب على صَعب أو في سفينة في هَول البحر ، وهي هيأة معقولة شبهت بهيأة محسوسة ، ولذلك قال في «الكشاف» «وهذا تمثيل للمعلوم بالنظَر ، بالمشاهَد» وقد أفصح عنه في تفسير سورة لقمان إذ قال «مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه» ، فالمعنى أنّ المؤمن ثابت اليقين سالم من اضطراب القلب في الدنيا وهو ناج من مَهاوي السقوط في الآخرة كحال من تمسك بعروة حبل متين لا ينفصم .
وقد أشارت الآية إلى أنّ هذه فائدة المؤمن تنفعه في دنياه بأن يكون على الحق والبصيرة وذلك ممّا تطلبه النفوس ، وأشارت إلى فائدة ذلك في الآخرة بقوله : { والله سميع عليم } الذي هو تعريض بالوعد والثواب .
=============(1/32)
وفي جامع لطائف التفسير
جامع لطائف التفسير - (ج 8 / ص 243)
قوله تعالى : { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما اتضحت الدلائل لكل عالم وجاهل صار الدين إلى حد لا يحتاج فيه منصف لنفسه إلى إكراه فيه فقال : {لا إكراه في الدين} وقال الحرالي : لما نقل سبحانه وتعالى رتبة الخطاب من حد خطاب الأمر والنهي والحدود وما ينبني عليه المقام به دين القيمة الذي أخفى لهم أمر العظمة والجبروت الجابر لأهل الملكوت والملك فيما هم فيه مصرفون إلى علو رتبة دين الله المرضي الذي لا لبس فيه ولا حجاب عليه ولا عوج له ، وهو اطلاعه سبحانه وتعالى عبده على قيوميته الظاهرة بكل باد وفي كل باد وعلى كل باد وأظهر من كل بادٍ وعظمته الخفية التي لا يشير إليها اسم ولا يجوزها رسم وهي مداد كل مداد بين سبحانه وتعالى وأعلن بوضع الإكراه الخفي موقعه في دين القيمة من حيث ما فيه من حمل الأنفس على كرهها فيما كتب عليها مما هو علم عقابها وآية عذابها ، فذهب بالاطلاع على أمر الله في قيوميته وعظمته كره النفس بشهودها جميع ما تجري فيه لها ما عليها.
فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات بما استشعرته قلوبهم من ماء التوحيد الجاري تحت مختلفات أثمار أعمالهم فعاد حلوه ومره بذلك التوحيد حلواً ، كما يقال في الكبريت الأحمر الذي يقلب أعيان الأشياء الدنية إلى حال أرفعها - انتهى.
ثم علل سبحانه وتعالى انتفاء الإكراه عنه بقوله : {قد تبين الرشد} قال الحرالي : وهو حسن التصرف في الأمر والإقامة عليه بحسب ما يثبت ويدوم {من الغي} وهو سوء التصرف في الشيء وإجراؤه على ما تسوء عاقبته - انتهى.
أي فصار كل ذي لب يعرف أن الإسلام خير كله وغيره شر كله ، لما تبين من الدلائل وصار بحيث يبادر كل من أراد نفع نفسه إليه ويخضع أجبر الجبابرة لديه فكأنه لقوة ظهوره وغلبة نوره قد انتفى عنه الإكراه بحذافيره ، لأن الإكراه الحمل على ما لم يظهر فيه وجه المصلحة فلم يبق منه مانع إلاّ حظ النفس الخبيث في شهواتها البهيمية والشيطانية {فمن} أي فكان ذلك سبباً لأنه من {يكفر بالطاغوت} وهو نفسه وما دعت إليه ومالت بطبعها الرديء إليه.
وقال الحرالي : وهو ما أفحش في الإخراج عن الحد الموقف عن الهلكة صيغة مبالغة وزيادة انتهاء مما منه الطغيان - انتهى.
{ويؤمن بالله} أي الملك الأعلى ميلاً مع العقل الذي هو خير كله لما رأى بنوره من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة وداوم على ذلك بما أفادته صيغة المضارع من يكفر ويؤمن {فقد استمسك} على بصيرة منه {بالعروة الوثقى} أي التي لا يقع شك في أنها أوثق الأسباب في نجاته بما ألقى بيده واستسلم لربه {ومن يسلم وجهه إلى الله} [ الحج : 31 ] ، والعروة ما تشد به العياب ونحوها بتداخلها بعضها في بعض دخولاً لا ينفصم بعضه من بعض إلا بفصم طرفه فإذا انفصمت منه عروة انفصم جميعه ، والوثقى صيغة فعلى للمبالغة من الثقة بشدة ما شأنه أن يخاف وهنه ، ثم بين وثاقتها بقوله : {لا انفصام لها} أي لا مطاوعة في حل ولا صدع ولا ذهاب.
قال ابن القطاع : فصمت الشيء صدعته ، والعقدة حللتها ، والشيء عنه ذهب.
وقال الحرالي : من الفصم وهو خروج العرى بعضها من بعض ، أي فهذه العروة لا انحلال لها أصلاً ، وهو تمثيل للمعلوم بالنظر والاحتجاج بالمشاهد المحسوس ليتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده فيه ويجل اغتباطه به ، فعلم من هذا أنه لم يبق عائق عن الدخول في هذا الدين إلا القضاء والقدر ، فمن سبقت له السعادة قيض الله سبحانه وتعالى له من الأسباب ما يخرجه به من الظلمات إلى النور ، ومن غلبت عليه الشقاوة سلط عليه الشياطين فأخرجته من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والحيرة.
ولما كان كل من الإيمان والكفر المتقدمين قولاً وفعلاً واعتقاداً قال مرغباً فيهما ومرهباً من تركهما : {والله} الذي له صفات الكمال {سميع} أي لما يقال مما يدل على الإيمان {عليم} أي بما يفعل أو يضمر من الكفر والطغيان ومجاز عليه ، ولعل في الآية التفاتاً إلى ما ذكر أول السورة في الكفار من أنه سواء عليهم الإنذار وتركه وإلى المنافقين وتقبيح ما هم عليه مما هو في غاية المخالفة لما صارت أدلته أوضح من الشمس وهي مشعرة بالإذن في الإعراض عن المنافقين. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 500 ـ 501}
قال ابن عاشور :
قوله تعالى : { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}
استئناف بياني ناشىء عن الأمر بالقتال في سبيل الله في قوله : { وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم } [ البقرة : 244 ] إذ يبدو للسامع أن القتال لأجل دخول العدو في الإسلام فبيّن في هذه الآية أنه لا إكراه على الدخول في الإسلام وسيأتي الكلام على أنّها محكمة أو منسوخة.
وتعقيب آية الكرسي بهاته الآية بمناسبة أنّ ما اشتملت عليه الآية السابقة من دلائل الوحدانية وعظمة الخالق وتنزيهه عن شوائب ما كفرت به الأممُ ، من شأنه أن يسوق ذوي العقول إلى قبول هذا الدين الواضحِ العقيدة ، المستقيم الشريعةِ ، باختيارهم دون جبر ولا إكراه ، ومن شأنه أن يجعل دوامهم على الشرك بمحل السؤال : أيُتْرَكون عليه أم يُكْرَهُون على الإسلام ، فكانت الجملة استئنافاً بيانياً. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 25}
قال الفخر :
اللام في {الدين} فيه قولان أحدهما : أنه لام العهد والثاني : أنه بدل من الإضافة ، كقوله {فَإِنَّ الجنة هِىَ المأوى} [ النازعات : 41 ] أي مأواه ، والمراد في دين الله.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 13}
فصل
قال ابن عاشور :
ونفي الإكراه خبر في معنى النهي ، والمراد نفي أسباب الإكراه في حُكم الإسلام ، أي لا تكرهوا أحداً على اتباع الإسلام قسراً ، وجيء بنفي الجنس لقصد العموم نصاً.
وهي دليل واضح على إبطال الإكراه على الدِّين بسائر أنواعه ، لأنّ أمر الإيمان يجري على الاستدلال ، والتمكين من النظر ، وبالاختيار.
وقد تقرر في صدر الإسلام قتال المشركين على الإسلام ، وفِي الحديث : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها ".
ولا جائز أن تكون هذه الآية قد نزلت قبل ابتداء القتال كله ، فالظاهر أنّ هذه الآية نزلت بعد فتح مكة واستخلاص بلاد العرب ، إذ يمكن أن يدوم نزول السورة سنين كما قدمناه في صدر تفسير سورة الفاتحة لا سيما وقد قيل بأنّ آخر آية نزلت هي في سورة النساء ( 176 ) { يبين الله لكم أن تضلوا } الآية (1) ، فنسخت حكم القتال على قبول الكافرين الإسلام ودلت على الاقتناع منهم بالدخول تحت سلطان الإسلام وهو المعبّر عنه بالذمة ، ووضحُه عمل النبي وذلك حين خلصت بلاد العرب من الشرك بعد فتح مكة وبعد دخول الناس في الدين أفواجاً حين جاءت وفود العرب بعد الفتح ،
فلما تم مراد الله من إنقاذ العرب من الشرك والرجوع بهم إلى ملَّة إبراهيم ، ومن تخليص الكعبة من أرجاس المشركين ، ومن تهيئة طائفة عظيمة لحمل هذا الدين وحماية بيضته ، وتبيّنَ هدى الإسلام وزال ما كان يحول دون أتِّباعه من المكابرة ، وحقّق الله سلامه بلاد العرب من الشرك كما وقع في خطبة حجة الوداع إنّ الشيطان قد يئس من أن يُعبد في بلدكم هذا لَمَّا تم ذلك كله أبطل الله القتال على الدين وأبقى القتال على توسيع سلطانه ، ولذلك قال ( سورة التوبة 29 )
{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وعلى هذا تكون الآية ناسخة لما تقدّم من آيات القتال مثل قوله قبلها { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } [ التوبة : 73 ] على أن الآيات النازلة قبلها أو بعدها أنواع ثلاثة :
__________________
(1) الراجح عند العلماء المحققين أن آخر آية نزلت هى قوله تعالى فى سورة البقرة {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله}
ولا يخلو بعض كلامه ـ رحمه الله ـ من نظر. والله أعلم.
أحدها : آيات أمرت بقتال الدفاع كقوله تعالى : { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } [ التوبة : 36 ] ، وقوله : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله } [ البقرة : 194 ] ، وهذا قتال ليس للإكراه على الإسلام بل هو لدفع غائلة المشركين.
النوع الثاني : آيات أمرت بقتال المشركين والكفّار ولم تغيّ بغاية ، فيجوز أن يكون إطلاقها مقيّداً بغاية آيةِ { حتى يعطوا الجزية } [ التوبة : 29 ] وحينئذ فلا تعارضه آيتنا هذه { لا إكراه في الدين }.
النوع الثالث : مَا غُيِّيَ بغاية كقوله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } [ البقرة : 193 ] ، فيتعين أن يكون منسوخاً بهاته الآية وآيةِ { حتى يعطوا الجزية } [ التوبة : 29 ] كما نُسخ حديثُ " أمرتُ أن أقاتل الناس " هذا ما يظهر لنا في معنى الآية ، والله أعلم.
ولأهل العلم قبلنا فيها قولان : الأول قال ابن مسعود وسليمان بن موسى : هي منسوخة بقوله { يأيها النبي جاهد الكفّار والمنافقين } [ التوبة : 73 ] ، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم أكره العرب على الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلاّ به.
ولعلهما يريدان من النسخ معنى التخصيص.
والاستدلال على نسخها بقتال النبي صلى الله عليه وسلم العربَ على الإسلام ، يعارضه أنّه عليه السلام أخذ الجزية من جميع الكفّار ، فوجه الجمع هو التنصيص.
القول الثاني أنها محكّمة ولكنّها خاصة ، فقال الشعبي وقتادة والحسن والضحاك هي خاصة بأهل الكتاب فإنّهم لا يُكْرَهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية وإنّما يجبر على الإسلام أهل الأوثان ، وإلى هذا مال الشافعي فقال : إنّ الجزية لا تؤخذ إلاّ من أهل الكتاب والمجوسِ.
قال ابن العربي في الأحكام "وعلى هذا فكل من رأى قبول الجزية من جنسٍ يَحمل الآية عليه" ، يعني مع بقاء طائفة يتحقق فيها الإكراه.
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد : نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا في الجاهلية إذا كانت المرأة منهم مِقلاتاً أي لا يعيش لها ولد تنذر إن عاش لها ولد أن تهوّده ، فلما جاء الإسلام وأسلموا كان كثير من أبناء الأنصار يهودا فقالوا : لا ندع أبناءنا بل نكرههم على الإسلام ، فأنزل الله تعالى : { لا إكراه في الدين }. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 26 ـ 27}
فصل
قال الفخر :
في تأويل الآية وجوه أحدها : وهو قول أبي مسلم والقفال وهو الأليق بأصول المعتزلة : معناه أنه تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، وإنما بناه على التمكن والاختيار ، ثم احتج القفال على أن هذا هو المراد بأنه تعالى لما بيّن دلائل التوحيد بياناً شافياً قاطعاً للعذر ، قال بعد ذلك : إنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه ، وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء ، إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان ، ونظير هذا قوله تعالى : {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [ الكهف : 29 ] وقال في سورة أخرى {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [ الشعراء : 3 ، 4 ] وقال في سورة الشعراء {لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السماء ءَايَةً فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين} ومما يؤكد هذا القول أنه تعالى قال بعد هذه الآية {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} يعني ظهرت الدلائل ، ووضحت البينات ، ولم يبق بعدها إلا طريق القسر والإلجاء والإكراه ، وذلك غير جائز لأنه ينافي التكليف فهذا تقرير هذا التأويل.
القول الثاني : في التأويل هو أن الإكراه أن يقول المسلم للكافر : إن آمنت وإلا قتلتك فقال تعالى : {لا إِكْرَاهَ فِى الدين} أما في حق أهل الكتاب وفي حق المجوس ، فلأنهم إذا قبلوا الجزية سقط القتل عنهم ، وأما سائر الكفار فإذا تهودوا أو تنصروا فقد اختلف الفقهاء فيهم ، فقال بعضهم : إنه يقر عليه ؛ وعلى هذا التقدير يسقط عنه القتل إذا قبل الجزية ، وعلى مذهب هؤلاء كان قوله {لا إِكْرَاهَ فِى الدين} عاماً في كل الكفار ، أما من يقول من الفقهاء بأن سائر الكفار إذا تهودوا أو تنصروا فإنهم لا يقرون عليه ، فعلى قوله يصح الإكراه في حقهم ، وكان قوله {لا إِكْرَاهَ} مخصوصاً بأهل الكتاب.
والقول الثالث : لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب إنه دخل مكرهاً ، لأنه إذا رضي بعد الحرب وصح إسلامه فليس بمكره ، ومعناه لا تنسبوهم إلى الإكراه ، ونظيره قوله تعالى : {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً} [ النساء : 94 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 13 ـ 14}
فصل
قال القرطبى :
اختلف العلماء في ( معنى ) هذه الآية على ستة أقوال :
( الأوّل ) قيل إنها منسوخة ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام ؛ قاله سليمان بن موسى ، قال : نسختها { ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين } [ التوبة : 73 ].
وروي هذا عن ابن مسعود وكثير من المفسرين.
( الثاني ) ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصةً ، وأنهم لا يُكرهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية ، والذين يُكرهون أهلُ الأوثان فلا يقبل منهم إلا الإسلام فهم الذين نزل فيهم { ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين } [ التوبة : 73 ].
هذا قول الشعبيّ وقتادة والحسن والضحاك.
والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية : أسلمِي أيتها العجوز تسلمي ، إن الله بعث محمداً بالحق.
قالت : أنا عجوز كبيرة والموت إليّ قريب! فقال عمر : اللهم اشهد ، وتلا { لاَ إكْرَاهَ في الدِّينِ }.
( الثالث ) ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال : نزلت هذه في الأنصار ، كانت تكون المرأة مِقلاتاً فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده ؛ فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع أبناءنا! فأنزل الله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي }.
قال أبو داود : والمِقلاتُ التي لا يعيش لها ولدٌ.
في رواية : إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه ، وأما إذا جاء الله بالإسلام فنُكرِههم عليه فنزلت : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } من شاء التحق بهم ومن شاء دخل في الإسلام.
وهذا قول سعيد بن جبير والشعبيّ ومجاهد إلا أنه قال : كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع.
قال النحاس : قول ابن عباس في هذه الآية أُولى الأقوال لصحة إسناده ، وأن مثله لا يؤخذ بالرأي.
( الرابع ) قال السدي : نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين كان له ابنان ، فقدم تجارٌ من الشام إلى المدينة يحملون الزيت ، فلما أرادوا الخروج أتاهم ابنا الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصّرا ومضيا معهم إلى الشام ، فأتى أبوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتكياً أمرهما ، ورغب في أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يردّهما فنزلت : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب ، وقال : "أبعدهما الله هما أوّل من كفر"! فوجد أبو الحصين في نفسه على النبيّ صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما فأنزل الله جل ثناؤه { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [ النساء : 65 ] ، الآية ثم إنه نسخ { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة "براءة".
والصحيح في سبب قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } حديث الزبير مع جاره الأنصاري في السَّقْي ، على ما يأتي في "النساء" بيانه إن شاء الله تعالى.
وقيل : معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف مُجْبَراً مُكْرهاً ؛ وهو القول الخامس.
وقول سادس ، وهو أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا إذا كانوا كباراً ، وإن كانوا مجوساً صغاراً أو كباراً أو وثنيين فإنهم يجبرون على الإسلام ؛ لأن من سباهم لا ينتفع بهم مع كونهم وثنيين ؛ ألا ترى أنه لا تؤكل ذبائحهم ولا توطأ نساؤهم ، ويدينون بأكل الميتة والنجاسات وغيرهما ، ويستقذرهم المالك لهم ويتعذّر عليه الانتفاع بهم من جهة الملك فجاز له الإجبار.
ونحو هذا روى ابن القاسم عن مالك.
وأما أشهب فإنه قال : هم على دين من سباهم ، فإذا امتنعوا أُجبروا على الإسلام ، والصغار لا دين لهم فلذلك أجبروا على الدخول في دين الإسلام لئلا يذهبوا إلى دين باطل.
فأما سائر أنواع الكفر متى بذلوا الجزية لم نكرههم على الإسلام سواء كانوا عرباً أم عجماً قريشاً أو غيرهم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 280 ـ 281}(1/32)
بحث
قال فى الميزان :
وفي قوله تعالى : {لا إكراه في الدين} ، نفى الدين الإجبارى ، لما أن الدين وهو سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها أخرى عملية يجمعها أنها اعتقادات ، والاعتقاد والإيمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها الإكراه والإجبار ، فإن الإكراه إنما يؤثر في الأعمال الظاهرية والأفعال والحركات البدنية المادية ، وأما الاعتقاد القلبي فله علل وأسباب أخرى قلبية من سنخ الاعتقاد والإدراك ، ومن المحال أن ينتج الجهل علما ، أو تولد المقدمات غير العلمية تصديقا علميا ، فقوله : لا إكراه في الدين ، إن كان قضية إخبارية حاكية عن حال التكوين أنتج حكما دينيا بنفي الإكراه على الدين والاعتقاد ، وإن كان حكما إنشائيا تشريعيا كما يشهد به ما عقبه تعالى من قوله : "قد تبين الرشد من الغي" ، كان نهيا عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرها ، وهو نهي متك على حقيقة تكوينية ، وهي التي مر بيانها أن الإكراه إنما يعمل ويؤثر في مرحلة الأفعال البدنية دون الاعتقادات القلبية.
وقد بين تعالى هذا الحكم بقوله : "قد تبين الرشد من الغي" ، وهو في مقام التعليل فإن الإكراه والإجبار إنما يركن إليه الآمر الحكيم والمربي العاقل في الأمور المهمة التي لا سبيل إلى بيان وجه الحق فيها لبساطة فهم المأمور وردائة ذهن المحكوم ، أو لأسباب وجهات أخرى ، فيتسبب الحاكم في حكمه بالإكراه أو الأمر بالتقليد ونحوه ، وأما الأمور المهمة التي تبين وجه الخير والشر فيها ، وقرر وجه الجزاء الذي يلحق فعلها وتركها فلا حاجة فيها إلى الإكراه ، بل للإنسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب ، والدين لما انكشفت حقائقه واتضح طريقه بالبيانات الإلهية الموضحة بالسنة النبوية فقد تبين أن الدين رشد والرشد في اتباعه ، والغي في تركه والرغبة عنه ، وعلى هذا لا موجب لأن يكره أحد أحدا على الدين.
وهذه إحدى الآيات الدالة على أن الإسلام لم يبتن على السيف والدم ، ولم يفت بالإكراه والعنوة على خلاف ما زعمه عدة من الباحثين من المنتحلين وغيرهم أن الإسلام دين السيف واستدلوا عليه : بالجهاد الذي هو أحد أركان هذا الدين.
وقد تقدم الجواب عنه في ضمن البحث عن آيات القتال وذكرنا هناك أن القتال الذي ندب إليه الإسلام ليس لغاية إحراز التقدم وبسط الدين بالقوة والإكراه ، بل لإحياء الحق والدفاع عن أنفس متاع للفطرة وهو التوحيد ، وأما بعد انبساط التوحيد بين الناس وخضوعهم لدين النبوة ولو بالتهود والتنصر فلا نزاع لمسلم مع موحد ولا جدال ، فالإشكال ناش عن عدم التدبر.
ويظهر مما تقدم أن الآية أعني قوله : "لا إكراه في الدين" غير منسوخة بآية السيف
كما ذكره بعضهم.
ومن الشواهد على أن الآية غير منسوخة التعليل الذي فيها أعني قوله : "قد تبين الرشد من الغي" ، فإن الناسخ ما لم ينسخ علة الحكم لم ينسخ نفس الحكم ، فإن الحكم باق ببقاء سببه ، ومعلوم أن تبين الرشد من الغي في أمر الإسلام أمر غير قابل للارتفاع بمثل آية السيف ، فإن قوله : "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" مثلا ، أو قوله : "وقاتلوا في سبيل الله" الآية لا يؤثران في ظهور حقية الدين شيئا حتى ينسخا حكما معلولا لهذا
وبعبارة أخرى الآية تعلل قوله : "لا إكراه في الدين" بظهور الحق ، هو معنى لا يختلف حاله قبل نزول حكم القتال وبعد نزوله ، فهو ثابت على كل حال ، فهو غير منسوخ. أ هـ {الميزان حـ 2 صـ 343 ـ 344}
قوله تعالى : {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي}
قال الفخر :
{تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} أي تميز الحق من الباطل ، والإيمان من الكفر والهدى من الضلالة بكثرة الحجج والآيات الدالة ، قال القاضي : ومعنى {قَد تَّبَيَّنَ الرشد} أي أنه قد اتضح وانجلى بالأدلة لا أن كل مكلف تنبه لأن المعلوم ذلك وأقول : قد ذكرنا أن معنى {تَّبَيَّنَ} انفصل وامتاز ، فكان المراد أنه حصلت البينونة بين الرشد والغي بسبب قوة الدلائل وتأكيد البراهين ، وعلى هذا كان اللفظ مُجْرَى على ظاهره. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 14}
وقال البيضاوى :
{ قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } تميز الإِيمان من الكفر بالآيات الواضحة ، ودلت الدلائل على أن الإِيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية والكفر غي يؤدي إلى الشقاوة السرمدية ، والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإِيمان طلباً للفوز بالسعادة والنجاة ، ولم يحتج إلى الإِكراه والإِلجاء. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 1 صـ 557}
وقال ابن عاشور :
وقوله : { قد تبين الرشد من الغيّ } واقع موقع العلة لقوله : { لا إكراه في الدين } ولذلك فصلت الجملة.
والرشد بضم فسكون ، وبفتح ففتح الهُدى وسداد الرأي ، ويقابله الغيّ والسفه ، والغيّ الضلال ، وأصله مصدرُ غَوَى المتعدي فأصله غَوْي قلبت الواو ياء ثم أدغمتا.
وضُمّن تبيّن معنى تميز فلذلك عدي بمَن ، وإنّما تبيّن ذلك بدعوة الإسلام وظهوره في بلد مستقل بعد الهجرة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 28}
قوله تعالى : {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت ويؤمن بالله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا}
قال ابن عاشور :
وقوله : { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } تفريع على قوله : { قد تبيّن الرشد من الغي } إذ لم يبق بعد التبيين إلاّ الكفرُ بالطاغوت ، وفيه بيان لنفي الإكراه في الدين ؛ إذ قد تفرّع عن تميّز الرشد من الغي ظهور أنّ متّبع الإسلام مستمسك بالعروة الوثقى فهو ينساق إليه اختياراً.
والطاغوت الأوثان والأصنام ، والمسلمون يسمّون الصَّنم الطاغية ، وفي الحديث : " كانوا يهلون لمناة الطاغية " ويجمعون الطاغوت على طواغيت ، ولا أحسبه إلاّ من مصطلحات القرآن وهو مشتق من الطغيان وهو الارتفاع والغلو في الكبر وهو مذموم ومكروه.
ووزن طاغوت على التحقيق طَغَيُوت فَعَلُوت من أوزان المصادر مثل مَلَكوت ورَهَبوت وَرَحَمُوت فوقع فيه قلب مكاني بين عينه ولامه فصيرُ إلى فَلَعوت طيَغوت ليتأتى قلب اللام ألفاً فصار طَاغوت ، ثم أزيل عنه معنى المصدر وصار اسماً لطائفة مما فيه هذا المصدر فصار مثل مَلَكوت في أنه اسم طائفة مما فيه معنى المصدر لا مثل رَحَموت ورهبوت في أنّهما مصدران فتاؤه زائدة ، وجعل علماً على الكفر وعلى الأصنام ، وأصله صفة بالمصدر ويطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كشأن المصادر.
وعطف { ويؤمن بالله } على الشرط لأنّ نبذ عبادة الأصنام لا مزيّة فيه إن لم يكن عَوّضها بعبادة الله تعالى.
ومعنى استمسك تمسك ، فالسينُ والتاء للتأكيد كقوله : { فاستمسكْ بالذي أُوحيَ إليك } [ الزخرف : 43 ] وقوله : { فاستجاب لهم ربهم } [ آل عمران : 195 ] وقول النابغة : "فاستنكحوا أمّ جابر" إذ لا معنى لطلب التمسك بالعروة الوثقى بعد الإيمان ، بل الإيمان التمسك نفسه.
والعروة بضم العين ما يُجعل كالحلْقة في طرف شيء ليقبض على الشيء منه ، فللدّلوْ عروة وللكُوز عُروة ، وقد تكون العروة في حبل بأن يشدّ طرفه إلى بعضه ويعقد فيصير مثل الحلقة فيه ، فلذلك قال في "الكشاف" : العروة الوثقى من الحبل الوثيق.
و { الوثقى } المحكمة الشدّ.
{ ولا انفصام لها } أي لا انقطاع ، والفصم القطع بتفريق الاتصال دون تجزئة بخلاف القصم بالقاف فهو قطع مع إبانة وتجزئة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 28 ـ 29}
قال أبو حيان :
قال ابن عطية وقدّم ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت. انتهى.
وناسب ذلك أيضاً اتصاله بلفط الغي ، ولأن الكفر بالطاغوت متقدّم على الإيمان بالله ، لأن الكفر بها هو رفضها ، ورفض عبادتها ، ولم يكتف بالجملة الأولى لأنها لا تستلزم الجملة الثانية ، إذ قد يرفض عبادتها ولا يؤمن بالله ، لكن الإيمان يستلزم الكفر بالطاغوت ، ولكنه نبه بذكر الكفر بالطاغوت على الانسلاخ بالكلية ، مما كان مشتبهاً به ، سابقاً له قبل الإيمان ، لأن في النصية عليه مزيد تأكيد على تركه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 292 ـ 293}
فصل
قال الماوردى :
{ فَمَن يَكْفُرُ بِالطَّاغُوتِ } فيه سبعة أقوال :
أحدها : أنه الشيطان وهو قول عمر بن الخطاب.
والثاني : أنه الساحر ، وهو قول أبي العالية.
والثالث : الكاهن ، وهو قول سعيد بن جبير.
والرابع : الأصنام.
والخامس : مَرَدَة الإنس والجن.
والسادس : أنه كل ذي طغيان طغى على الله ، فيعبد من دونه ، إما بقهر منه لمن عبده ، أو بطاعة له ، سواء كان المعبود إنساناً أو صنماً ، وهذا قول أبي جعفر الطبري.
والسابع : أنها النفس لطغيانها فيما تأمر به من السوء ، كما قال تعالى : { إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } [ يوسف : 53 ].
واختلفوا في { الطَّاغُوتِ } على وجهين :
أحدهما : أنه اسم أعجمي معرّب ، يقع على الواحد والجماعة.
والثاني : أنه اسم عربي مشتق من الطاغية ، قاله ابن بحر. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 327 ـ 328}
قال الفخر : والتحقيق أنه لما حصل الطغيان عند الاتصال بهذه الأشياء جعلت هذه الأشياء أسباباً للطغيان كما في قوله {رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس} [ إبراهيم : 36 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 15}
وقال أبو حيان :
ينبغي أن تجعل هذه الأقوال كلها تمثيلاً ، لأن الطاغوت محصور في كل واحد منها. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 292}
قال الفخر :
أما قوله {وَيُؤْمِن بالله} ففيه إشارة إلى أنه لا بد للكافر من أن يتوب أولاً عن الكفر ، ثم يؤمن بعد ذلك.
أما قوله {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} فاعلم أنه يقال : استمسك بالشيء إذا تمسك به والعروة جمعها عرا نحو عروة الدلو والكوز وإنما سميت بذلك ، لأن العروة عبارة عن الشيء الذي يتعلق به والوثقى تأنيث الأوثق ، وهذا من باب استعارة المحسوس للمعقول ، لأن من أراد إمساك شيء يتعلق بعروته ، فكذا هاهنا من أراد إمساك هذا الدين تعلق بالدلائل الدالة عليه ، ولما كانت دلائل الإسلام أقوى الدلائل وأوضحها ، لا جرم وصفها بأنها العروة الوثقى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 15}
فائدة
قال أبو حيان :
وجواب الشرط : فقد استمسك ، وأبرز في صورة الفعل الماضي المقرون بقد الدالة في الماضي على تحقيقه ، وإن كان مستقبلاً في المعنى لأنه جواب الشرط ، إشعاراً بأنه مما وقع استمساكه وثبت وذلك للمبالغة في ترتيب الجزاء على الشرط ، وأنه كائن لا محالة لا يمكن أن يتخلف عنه ، و: بالعروة ، متعلق باستمسك ، جعل ما تمسك به من الإيمان عروة ، وهي في الأجرام موضع الإمساك وشد الأيدي شبه الإيمان بذلك.
قال الزمخشري : وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر ، والاستدلال بالمشاهد المحسوس ، حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه ، فيحكم اعتقاده والتيقن.
والمشبه بالعروة الإيمان ، قاله : مجاهد.
أو : الإسلام قاله السدّي أو : لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، والضحاك ، أو : القرآن ، قاله السدّي أيضاً ، أو : السنة ، أو : التوفيق.
أو : العهد الوثيق.
أو : السبب الموصل إلى رضا الله وهذه أقوال متقاربه.
{ لا انفصام لها } لا انكسار لها ولا انقطاع ، قال الفراء : الانفصام والانقصام هما لغتان ، وبالفاء أفصح ، وفرق بعضهم بينهما ، فقال : الفصم انكسار بغير بينونة ، والقصم انكسار ببينونة. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 293}
قال ابن كثير :
قال مجاهد : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } يعني : الإيمان. وقال السدي : هو الإسلام وقال سعيد بن جبير والضحاك : يعني لا إله إلا الله. وعن أنس بن مالك : { بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } : القرآن. وعن سالم بن أبي الجعد قال : هو الحب في الله والبغض في الله.
وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها.
وقال معاذ بن جبل في قوله : { لا انْفِصَامَ لَهَا } أي : لا انقطاع لها دون دخول الجنة.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا } ثم قرأ : { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد : 11].
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن يوسف حدثنا ابن عون عن محمد عن قيس بن عباد قال : كنت في المسجد فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع ، فدخل فصلى ركعتين أوجز فيهما فقال القوم : هذا رجل من أهل الجنة. فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدثته فلما استأنس قلت له : إن القوم لما دخلت قبل المسجد قالوا كذا وكذا. قال : سبحان الله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم وسأحدثك لم : إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه : رأيت كأني في روضة خضراء
قال ابن عون : فذكر من خضرتها وسعتها وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء في أعلاه عروة ، فقيل لي : اصعد عليه فقلت : لا أستطيع. فجاءني مِنْصَف -قال ابن عون : هو الوصيف فرفع ثيابي من خلفي ، فقال : اصعد. فصعدت حتى أخذت بالعروة فقال : استمسك بالعروة. فاستيقظت وإنها لفي يدي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه. فقال : "أما الروضة فروضة الإسلام وأما العمود فعمود الإسلام وأما العروة فهي العروة الوثقى ، أنت على الإسلام حتى تموت". {المسند (5/452)}.
قال : وهو عبد الله بن سلام أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الله بن عون. { صحيح البخاري برقم (3813) وصحيح مسلم برقم (2484).} وأخرجه البخاري من وجه آخر ، عن محمد بن سيرين به. { صحيح البخاري برقم (7010)}.
أ هـ {تفسيرابن كثير حـ 1 صـ 683}
فائدة بلاغية
قال ابن عاشور :
والاستمساك بالعروة الوثقى تمثيلي ، شبهت هيأة المؤمن في ثباته على الإيمان بهيأة من أمسك بعروة وثقى من حَبل وهو راكب على صَعب أو في سفينة في هَول البحر ، وهي هيأة معقولة شبهت بهيأة محسوسة ، ولذلك قال في "الكشاف" "وهذا تمثيل للمعلوم بالنظَر ، بالمشاهَد" وقد أفصح عنه في تفسير سورة لقمان إذ قال "مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه" ، فالمعنى أنّ المؤمن ثابت اليقين سالم من اضطراب القلب في الدنيا وهو ناج من مَهاوي السقوط في الآخرة كحال من تمسك بعروة حبل متين لا ينفصم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 3 صـ 29}
قوله {لاَ انفصام لَهَا}
فصل
قال الفخر :
قال النحويون : نظم الآية بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ، والعرب تضمر ( التى ) و( الذى ) و( مَنْ ) وتكتفي بصلاتها منها ، قال سلامة بن جندل :
والعاديات أسامي للدماء بها.. كأن أعناقها أنصاب ترحيب
يريد العاديات التي قال الله : {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [ الصافات : 164 ] أي من له. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 15}
لطيفة
قال ابن كثير :
قال أبو القاسم البغوي : حدثنا أبو روح البلدي حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم ، عن أبي إسحاق عن حسان -هو ابن فائد العبسي-قال : قال عمر رضي الله عنه : إن الجِبت : السحر والطاغوت : الشيطان ، وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال يقاتل الشجاع عمن لا يعرف ويفر الجبان من أمه ، وإن كرم الرجل دينه ، وحسبه خلقه ، وإن كان فارسيًّا أو نبطيا. وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث الثوري عن أبي إسحاق عن حسان بن فائد العبسي عن عمر فذكره.
ومعنى قوله في الطاغوت : إنه الشيطان قوي جدًّا فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية ، من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها. أ هـ {تفسيرابن كثير حـ 1 صـ 683}
قوله تعالى {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
قال الفخر :
فيه قولان :
القول الأول : أنه تعالى يسمع قول من يتكلم بالشهادتين ، وقول من يتكلم بالكفر ، ويعلم ما في قلب المؤمن من الاعتقاد الطاهر ، وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث.
والقول الثاني : روى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة ، وكان يسأل الله تعالى ذلك سراً وعلانية ، فمعنى قوله {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يريد لدعائك يا محمد بحرصك عليه واجتهادك. هـ {مفاتيح الغيب حـ 7 صـ 15}
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :
قوله تعالى : {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ} هذه الآية تدل بظاهرها على أنه لا يكره أحد على الدخول في الدين, ونظيرها قوله تعالى : {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}, قوله تعالى : {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ}, وقد جاء في آيات كثيرة ما يدل على إكراه الكفار على الدخول في الإسلام بالسيف كقوله تعالى : {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}, وقوله : {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي الشرك, ويدل لهذا التفسير الحديث الصحيح : "أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله" الحديث, والجواب عن هذا بأمرين :
الأول - وهو الأصح - : أنّ هذه الآية في خصوص أهل الكتاب, والمعنى أنهم قبل نزول قتالهم لا يكرهون على الدين مطلقا, وبعد نزول قتالهم لا يكرهون عليه إذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون, والدليل على خصوصها بهم ما رواه أبو داود وابن أبي حاتم والنسائي وابن حبان وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه قال : "كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده, فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا : "لا ندع أبناءنا", فأنزل الله : {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}, المقلاة التي لا يعيش لها ولد, وفي المثل : "أحر من دمع المقلاة", وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه قال "نزلت {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له : (الحصين), كان له ابنان نصرانيان, وكان هو مسلما, فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : "ألا استكرههما فإنهما أبيا إلا النصرانية ؟ ", فأنزل الله الآية", وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير سأله أبو بشر عن هذه الآية ؟ فقال : نزلت في الأنصار, قال : خاصة ؟ قال : خاصة", واخرج ابن جرير عن قتادة بإسنادين في قوله : {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال : أكره عليه هذا الحي من العرب ؛ لأنهم كانوا أمة أمية ليس لهم كتاب يعرفونه فلم يقبل منهم غير الإسلام, ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقرّوا بالجزية أو بالخراج ولم يفتنوا عن دينهم فيخلى سبيلهم" وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله : {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان فلم يقبل منهم إلاَّ لا إله إلا الله أو السيف, ثم أمر فيمن سواهم أن يقبلوا منهم الجزية فقال : {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}, وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أيضا في قوله : {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}, قال : "وذلك لما دخل الناس في الإسلام, وأعطى أهل الكتاب الجزية",
فهذه النقول تدل على خصوصها بأهل الكتاب المعطين الجزية, ومن في حكمهم, ولا يرد على هذا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؛ لأن التخصيص فيها عرف بنقل عن علماء التفسير لا بمطلق خصوص السبب, ومما يدل للخصوص أنه ثبت في الصحيح : "عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل" .
الأمر الثاني : أنها منسوخة بآيات القتال كقوله : {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية, ومعلوم أن سورة البقرة من أول ما نزل بالمدينة, وسورة براءة من آخر ما نزل بها, والقول بالنسخ مروي عن ابن مسعود, وزيد بن أسلم, وعلى كل حال فآيات السيف نزلت بعد نزول السورة التي فيها {لا إِكْرَاهَ} الآية, والمتأخر أولى من المتقدم, والعلم عند الله تعالى. أ هـ {دفع إيهام الاضطراب صـ 44 ـ 46}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين . . . }.
نقل ابن عرفة عن ابن عطية الخلاف في سبب نزولها ثم قال : الظاهر عندي ( أنّها ) على ظاهرها ويكون خبرا في اللفظ والمعنى.
والمراد أنه ليس في الاعتقاد إكراه وهو أولى من قول من جعلها خبرا في معنى النّهي.
وكان أبو عمر ولد الأمير أبي الحسن على المريني في ( أيام ) مملكته جمع كل من كان في بلده من النّصارى وأهل الذمة وقال لهم : إما أن تسلموا أو ضربت أعناقكم ، فأنكر عليه ذلك فقهاء بلده ومنعوه وكان في عقله اختبال.
قيل لابن عرفة : من فسّر الدين بالإسلام لا يتمّ إلا على مذهب المعتزلة القائلين بأن الاعتقاد غير كاف.
فقال : قد قال الله تعالى : { إِنَّ الدين عِندَ الله الإسلام } وفسره في الحديث " بأنّ تشهد أن لاَ إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ".
قوله تعالى : { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي . . . }.
( قد ) للتوقع لأن المشركين كانوا يتوقعون بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعارضوها بقوله تعالى : { لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب } فجعل الخبيث مخرجا من الطيب ، وعكس هنا.
وأجيب : بأن هذا في أول الإسلام كان الكفر أكثر وتلك في آخر الإسلام كان الإيمان أكثر ودخل الناس في الدين أفواجا.
قوله تعالى : { فَمَن يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله . . . }.
قدم الكفر إما لأنّه من دفع المؤلم ، أو لأنه مانع ولا يتم الدليل على الشيء إلاّ مع نفي المانع المعارض ولذلك قال في الإرشاد : " النظر في الشيء يضاد العلم بالمنظور ويضاد الجهل به والشك فيه ".
فإذا كان الكافر مصمما على كفره استحال إيمانه وإذا ظهر له بطلان الكفر وبقي قابلا للإيمان ونظر في دلائله أنتجت له الإيمان.
قوله تعالى : { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى . . . }.
قال الزمخشري : هذا تمثيل للمعلوم بالنّظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس ( ونظرٌ في دلالات أنتجت له ) حتى يتصوره السّامع كأنّه ينظر ( إليه ) بعينه.
ابن عطية : هذا تشبيه واختلفوا في المشبه بالعروة فقال مجاهد : العروة الإيمان وقال السدى : الإسلام.
وقال سعيد بن جبير والضّحاك : ( العروة ) لا إله إلا الله.
قال ابن عرفة : إنما يريد المشبه خاصة ولو أراد المشبه به لكان تشبيه الشيء بنفسه.
قوله تعالى : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
قال ابن عطية : لما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات سميع من أجل النّطق وعليم من أجل المعتقد.
وقال الفخر : هذا دليل على أنّ اعتقاد القلب الإيمان غير كاف ولا بد من النطق.
قال ابن عرفة : لايتم هذا إلاّ على مذهب المعتزلة الذين ينكرون الكلام النفسي ونحن نقول : كلام النفس مسموع ولذلك نتصوره في الكلام القديم الأزلي وهم ينكرونه. هـ {تفسير ابن عرفة صـ 334}
بحث
الدين لا يُفرض :
لا يمكن للإسلام ولا للأديان الحقّة الأخرى أن تُفرض فرضاً على الناس لسببين :
1 ـ بَعدَ كلّ تلك الأدلّة والبراهين الواضحة والاستدلالات المنطقية والمعجزات الجلية لم تكن ثمة حاجة لذلك.
إنّما يستخدم القوّة من أعوزه المنطق والحجّة.
والدين الإلهي ذو منطق متين وحجّة قويّة.
2 ـ إنّ الدين القائم على أساس مجموعة من العقائد القلبية لا يمكن أن يُفرض بالإكراه.
إن عوامل القوّة والسيف والقدرة العسكرية يمكنها أن تؤثّر في الأجسام ، لا في الأفكار والمعتقدات.
يتّضح ممّا تقدّم الردّ على الإعلام الصليبي ـ المسموم ضدّ الإسلام ـ القائل "إنّ الإسلام انتشر بالسيف" ، إذ لا قول أبلغ ولا أفصح من (لا إكراه في الدين) الذي أعلنه القرآن.
هؤلاء الحاقدون يتناسون هذا الإعلان القرآني الصريح ، ويحاولون من خلال تحريف مفهوم الجهاد وأحداث الحروب الإسلامية أن يثبتوا مقولتهم ، بينما يتّضح بجلاء لكلّ منصف أنّ الحروب التي خاضها الإسلام كانت إمّا دفاعية ، وإمّا تحريرية ، ولم يكن هدف هذه الحروب السيطرة والتوسّع ، بل الدفاع عن النفس ، أو إنقاذ الفئة المستضعفة الرازحة تحت سيطرة طواغيت الأرض وتحريرها من
ربقة العبودية لتستنشق عبير الحرية وتختار بنفسها الطريق الذي ترتئيه.
والشاهد الحيّ على هذا هو ما تكرّر حدوثه في التاريخ الإسلامي ، فقد كان المسلمون إذا افتتحوا بلداً تركوا أتباع الأديان الأُخرى أحراراً كالمسلمين.
أمّا الضريبة الصغيرة التي كانوا يتقاضونها منهم باسم الجزية ، فقد كانت ثمناً للحفاظ على أمنهم ، ولتغطية ما تتطلّبه هذه المحافظة من نفقات ، وبذلك كانت أرواحهم وأموالهم وأعراضهم مصونة في حمى الإسلام.
كما أنّه كانوا أحراراً في أداء طقوسهم الدينية الخاصّة بهم.
جميع الذين يطالعون التاريخ الإسلامي يعرفون هذه الحقيقة ، بل إن المسيحيين الذين كتبوا في الإسلام يعترفون بهذا أيضاً.
يقول مؤلّف "حضارة الإسلام أو العرب" :
"كان تعامل المسلمين مع الجماعات الأُخرى من التساهل بحيث إنّ رؤساء تلك الجماعات كان مسموحاً لهم بإنشاء مجالسهم الدينية الخاصّة".
وقد جاء في بعض كتب التاريخ أنّ جمعاً من المسيحيين الذين كانوا قد زاروا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للتحقيق والاستفسار أقاموا قدّاساً في مسجد النبي في المدينة بكلّ حرّية.
إنّ الإسلام ـ من حيث المبدأ ـ توسّل بالقوّة العسكرية لثلاثة أمور :
1 ـ لمحو آثار الشرك وعبادة الأصنام ، لأنّ الإسلام لا يعتبر عبادة الأصنام ديناً من الأديان ، بل يراها انحرافاً ومرضاً وخرافة ، ويعتقد أنّه لا يجوز مطلقاً أن يسمح لجمع من الناس أن يسيروا في طريق الضلال والخرافة ، بل يجب إيقافهم عند حدّهم ؛ لذلك دعا الإسلام عبدة الأصنام إلى التوحيد ، وإذا قاوموه توسّل بالقوِّة وحطّم الأصنام وهدّم معابدها ، وحال دون بروز أي مظهر من مظاهر عبادة الأصنام ، لكي يقضي تماماً على منشأ هذا المرض الروحي والفكري.
وهذا يتبيّن من آيات القتال مع المشركين ، مثل الآية 193 من سورة البقرة : (وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة). وليس هناك أيّ تعارض بين الآية التي نحن بصددها وهذه الآية ، ولا نسخ في هذا المجال.
2 ـ لمقابلة المتآمرين للقضاء على الإسلام ، عندئذ كانت الأوامر تصدر بالجهاد الدفاعي وبالتوسّل بالقوّة العسكرية. ولعلّ معظم الحروب الإسلامية على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت من هذا القبيل ، مثل حرب أُحد والأحزاب وحنين ومؤته وتبوك.
3 ـ للحصول على حريّة الدعوة والتبليغ. حيث إنّ لكل دين الحقّ في أن يكون حرّاً في الإعلان عن نفسه بصورة منطقية ، فإذا منعه أحد من ذلك فله أن ينتزع حقّه هذا بقوّة السلاح. أ هـ {الأمثل حـ 2 صـ 261 ـ 263}
لطيفة
قال ابن القيم :
قال بشر بن منصور عن وهيب ابن الورد قال : خرج رجل إلى الجبانة بعد ساعة من الليل قال : فسمعت حسا ـ أو صوتا ـ شديدا وجيء بسرير حتى وضع وجاء شيء حتى جلس عليه قال : واجتمعت إليه جنوده ثم صرخ فقال : من لي بعروة بن الزبير ؟ فلم يجبه أحد حتى تتابع ما شاء الله من الأصوات فقال واحد : انا أكفيكه قال : فتوجه نحو المدينة وأنا ناظر ثم أوشك الرجعة فقال : لا سبيل إلى عروة وقال : ويلكم وجدته يقول كلمات إذا أصبح وإذا أمسى فلا نخلص إليه معهن قال الرجل : فلما أصبحت قلت لأهلي جهزوني فأتيت المدينة فسألت عنه حتى دللت عليه فإذا بشيخ كبير فقلت : شيئا تقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت ؟ فأبى أن يخبرني فأخبرته بما رأيت وما سمعت فقال : ما أدري غير أني أقول إذا أصبحت : آمنت بالله العظيم وكفرت بالجبت والطاغوت واستمسكت بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله سميع عليم وإذا أصبحت قلت ثلاث مرات وإذا أمسيت قلت ثلاث مرات. أ هـ {الوابل الصيب صـ 111}
==============(1/32)
وفي تفسير الكشف والبيان
تفسير الكشف والبيان - (ج 1 / ص 488)
قال المفسرون سبب نزول هذه الآية أن الكفار كانوا يعبدون الأصنام ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فأنزل الله تعالى هذه الآية لا إكراه في الدين الآية قال مجاهد نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يكنى أبو الحصين وكان له ابنان فقدم تجار الشام إلى المدينة يحملون الزيت فلما أراد الرجوع إلى المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا وخرجا إلى الشام فأخبر أبو الحصين رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم اطلبهما فانزل الله تعالى لا أكراه في الدين فقال صلى الله عليه وسلم أبعدهما الله فهما أول من كفر فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما فأنزل الله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم الآية قال وكان هذا قبل أن يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال أهل الكتاب ثم نسخ قوله لا إكراه في الدين وأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة وهكذا قال ابن مسعود وابن زيد أنها منسوخة بآية السيف وقال الباقون هي محكمة سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله لا إكراه في الدين قال كانت المرأة من الأنصار تكون مثقلا لا يعيش لها ولد ونذورا فتنذر لئن عاش لها ولد لتهودنه فجاء الإسلام وفيهم منهم فلما أجليت بنو النضير إذا فيهم أناس من الأنصار فقالت الأنصار يا رسول الله أبناؤنا وأخواننا فكست عنهم صلى الله عليه وسلم فنزلت لا إكراه في الدين الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خير أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختاروهم فاجعلوهم معهم قال وكان الفصل مابين الأنصار واليهود إجلاء بني النضير فمن لحق بهم اختارهم ومن أقام اختار الإسلام وقال المفسرون كان لرجل من الأنصار من بني سالم ابنان فتنصرا قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الطعام فأتاهما أبوهما فلزمهما وقال لا ادعكما حتى تسلما فأبيا أن يسلما فأختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر فأنزل الله تعالى لا إكراه في الدين الآية فخلى سبيلهما
ابن أبي حاتم عن مجاهد قال كان ناس مسترضعين في اليهود قريظة والنظير فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النضير فقال نسائهم من الأوس الذين كانوا مسترضعين فيهم لنذهبن معهم ولتذنبن بذنبهم فمنعهم أهلوهم وأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام فنزلت هذه الآية لا إكراه في الدين قتادة والضحاك وعطاء وأبو روق والواقدي معنى لا إكراه في الدين بعد إسلام العرب إذا قبلوا الجزية وذلك أن العرب كانت أمة أمية لم يكن لهم دين ولا كتاب فلم يقبل عنهم إلا الإسلام أو السيف وأكرهوا على الإسلام فلم يقبل منهم الجزية ولما أسلموا ولم يبق أحد من العرب إلا دخل في الإسلام طوعا أو كرها أنزل الله تعالى لا اكراه في الدين فأمر أن يقاتل أهل الكتاب والمجوس والصابئين على أن يسلموا أو أن يقروا بالجزية فمن أقر منهم بالجزية قبلت منه وخلى سبيله ولم يكره على الإسلام وقال مقاتل كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب فلما أسلمت العرب طوعا أو كرها قبل الخراج من غير أهل الكتاب فكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوي وأهل هجر يدعوهم إلى الإسلام إن من شهد شهادتنا وصلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا وكان بديننا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فإن أسلمتم فلكم مالنا وعليكم ما علينا ومن أبى الإسلام فعليه الجزية فكتب المنذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم إني قرأت كتابك على أهل هجر فمنهم من أسلم ومنهم من أبى فأما اليهود والمجوس فأقروا الجزية وكرهوا الإسلام فرضي النبي صلى الله عليه وسلم منهم بالجزية فقال منافقوا أهل المدينة زعم محمد أنه لم يؤمر بأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب فما باله قبله من مجوس هجر وقد رد ذلك على آبائنا وأخواننا حتى قتلهم فشق ذلك على المسلمين فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى لا إكراه في الدين يعني بعد إسلام العرب وروى شريك عن عبد الله بن أبي هلال عن وسق قال كنت مملوكا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وكنت نصرانيا وكان يقول يا وسق أسلم فإنك لو أسلمت لوليتك بعض أعمال المسلمين فإنه ليس يصلح أن يلي أمرهم من ليس على دينهم فأبيت عليه فقال لا إكراه في الدين فلما مات أعتقني وقال ابن أبي نجيح سمعت مجاهدا يقول لغلام له نصراني يا جرير أسلم ثم قال هكذا كان يقال أم لا يكرهون وقال الزجاج وغيره هو من قول العرب أكرهت الرجل إذا نسبته إلى الكره كما يقال أكفرته وأفسقته وأظلمته إذا نسبته إليها قال الكميت وطائفة قد أكفروني بحبكم وطائفة قالوا مسيء ومذنب ومعنى الآية لا تقولوا لمن دخل بعد الحرب في الإسلام أنه دخل مكرها ولا تنسبوا فمن دخل في الإسلام إلى الكره يدل عليه قوله ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا قد تبين الرشد من الغي قد ظهر الكفر من الإيمان والهدى من الضلالة والحق من الباطل عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أطاع الله ورسوله فقد رشد وعن مقاتل بن حسان قال زعم الضحاك أن الناس لما دخلوا في الإسلام طوعا أو كرها ولم يبق من عدو نبي الله من مشركي العرب أحد إلا دخلوا في الإسلام طوعا أو كرها وأكمل الدين نزل لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي من شاء أسلم ومن شاء أعطى الجزية وقرأ الحسن ومجاهد والاعرج الرشد بفتح الراء والشين وهما لغتان كالحزن والحزن والبخل والبخل وقرأ عيسى بن عمر الرشد بضمتين وقرأ الباقون بضم الراء وجزم الشين وهما لغتان كالرعب والرعب والسحت والسحت فمن يكفر بالطاغوت يعني الشيطان قاله ابن عمرو ابن عباس ومقاتل والكلبي وقيل هو الصنم وقيل الكاهن وقيل هو كل ما عبد من دون الله وقال أهل المعاني الطاغوت كل مايغطي الإنسان وهو فاعول من الطغيان زيدت التاء فيه بدلا من لام الفعل كقوله حانوت وتابوت وقال أهل الاشارة طاغوت كل امرى ء نفسه بيانه قوله إن النفس لأمارة بالسوء الآية ويؤمن بالله عن سعيد قال الإيمان التصديق والتصديق أن يعمل العبد مما صدق به من القرآن وعن ابن عباس قال أخبر الله تعالى إن الإيمان هو العروة الوثقى ولا يقبل عمل إلا به وعن ابن عباس أيضا قال أخبر الله تعالى أن الإيمان لا إله إلا الله فقد استمسك تمسك واعتصم بالعروة الوثقى بالعصمة الوثيقة المحكمة لا انفصام لها والله سميع عليم
==============(1/32)
وقال العز بن عبد السلام :
تفسير ابن عبد السلام - (ج 1 / ص 215)
{ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } في الكتابي إذا بذل الجزية ، أو نسخت بفرض القتال ، أو كانت المقلاة من الأنصار تنذر إن عاش لها ولد أن تهوّده رجاءً لطول عمره ، وذلك قبل الإسلام ، فلما أجلى الرسول صلى الله عليه وسلم بني النضير وفيهم أولاد الأنصار ، قالت الأنصار كيف نصنع بأبنائنا فنزلت قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { بِالطَّاغُوتِ } الشيطان ، أو الساحر ، أو الكاهن ، أو الأصنام ، أو مردة الإنس والجن ، أو كل ذي طغيان على الله تعالى عبده مَنْ دُونه بقهر منه أو بطا [ عة ] إنساناً كان أو صنماً . { بِالْعُرْوَةِ } الإيمان بالله تعالى . { لا انفِصَامَ } لا انقطاع ، أو لا انكسار ، أصل الفصم الكسر .
==============(1/32)
وقال البيضاوي :
تفسير البيضاوي - (ج 1 / ص 287)
{ لا إِكْرَاهَ فِى الدين } إذ الإِكراه في الحقيقة إلزام الغير فعلاً لا يرى فيه خيراً يحمله عليه ، ولكن { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } تميز الإِيمان من الكفر بالآيات الواضحة ، ودلت الدلائل على أن الإِيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية والكفر غي يؤدي إلى الشقاوة السرمدية ، والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإِيمان طلباً للفوز بالسعادة والنجاة ، ولم يحتج إلى الإِكراه والإِلجاء . وقبل إخبار في معنى النهي ، أي لا تكرهوا في الدين ، وهو إما عام منسوخ بقوله؛ { جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ } أو خاص بأهل الكتاب لما روي ( أن أنصارياً كان له ابنان تنصرا قبل المبعث ، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : الأنصاري يا رسول الله أيدخل بِعَقْبَيَّ النار وأنا أنظر إليه فنزلت فخلاهما ) . { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت } بالشيطان ، أو الأصنام ، أو كل ما عبد من دون الله ، أو صد عن عبادة الله تعالى . فعلوت من الطغيان قلبت عينه ولامه . { وَيُؤْمِن بالله } بالتوحيد وتصديق الرسل . { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } طلب الإِمساك عن نفسه بالعروة الوثقى من الحبل الوثيق ، وهي مستعارة لمتمسك الحق من النظر الصحيح والرأي القويم . { لاَ انفصام لَهَا } لا انقطاع لها يقال فصمته فانفصم إذا كسرته . { والله سَمِيعٌ } بالأقوال { عَلِيمٌ } بالنيات ، ولعله تهديد على النفاق .
==============(1/32)
وقال ابن عادل :
تفسير اللباب لابن عادل - (ج 3 / ص 252)
قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } : كقوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] وقد تقدَّم . وأل في « الدِّين » للعهد ، وقيل : عوضٌ من الإضافة أي « في دِينِ اللهِ » لقوله تعالى : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 41 ] ، أي : تأوي .
والجمهور على إدغام دال « قَد » في تاء « تَبَيَّن » ؛ لأنها من مخرجها .
والرُّشد : مصدر رشد بفتح العين يرشد بضمِّها ، ومعناه في اللُّغة ، إصابة الخير . وقرأ الحسنُ « الرُّشُد » بضمتين كالعنق ، فيجوز أن يكون هذا أصله ، ويجوز أن يكون إتباعاً ، وهي مسألة خلاف أعني ضمَّ عين الفعل . وقرأ أبو عبد الرحمن الرَّشد بفتح الفاء والعين ، وهو مصدر رشد بكسر العين يرشد بفتحها ، وروي عن أبي عبد الرَّحمن أيضاً : « الرَّشَادُ » بالألف .
ومعنى الإكراه نسبتهم إلى كراهة الإسلام . قال الزَّجَّاج : « لاَ تَنْسُبوا إلى الكَرَاهَةِ مَنْ أَسْلَمَ مُكْرِهاً » ، يقال : « أَكْفَرَهُ » نسبه إلى الكفر؛ قال : [ الطويل ]
1186- وَطَائِفَةٌ قَدْ أَكْفَرُوني بِحُبِّهِمْ ... وَطَائِفَةٌ قَالُوا مُسِيٌ وَمُذنِبُ
قوله : { مِنَ الغي } متعلِّقٌ بتبيَّن ، و « مِنْ » للفصل ، والتمييز كقولك : ميَّزت هذا من ذاك . وقال أبو البقاء : « في موضع على أنَّه مفعولٌ » وليس بظاهرٍ؛ لأنَّ معنى كونه مفعولاً به غير لائقٍ بهذا المحلِّ . ولا محلِّ لهذه الجملة من الإعراب؛ لأنَّها استئنافٌ جارٍ مجرى التّعليل لعدم الإكراه في الدين .
والتّبيين : الظهور والوضوح ، بان الشَّيء ، واستبان ، وتبيَّين : إذا ظهر ووضح ومنه المثل : تَبَيَّنَ الصُّبح لذي عينين .
قال ابن الخطيب : وعندي أنَّ الإيضاح ، والتعريف ، إنَّما سمِّي بياناً؛ لأنَّه يوقع الفصلة ، والبينونة بين المقصود وغيره .
والغيُّ : مصدر غوى بفتح العين قال : { فغوى } [ طه : 121 ] ، ويقال : « غَوَى الفَصِيلُ » إذا بَشِمَ ، وإذا جاع أيضاً ، فهو من الأضداد . وأصل الغيّ : « غَوْيٌ » فاجتمعت الياء والواو ، فأُدغمت نحو : ميّت وبابه .
والغيُّ : نقيض الرُّشد : يقال : غَوَى يَغْوِي ، غيّاً ، وغَوَايَةٌ إذا سلك خلاف طريق الرُّشد .
فصل في معنى « الدِّين » في الآية
قال القرطبيُّ : المراد « بالدِّينِ » في هذه الآية الكريمة المعتقد ، والملة بدليل قوله { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } .
قال سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس : كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة ، لا يعيش لها ولد ، فكانت تنذر لئن عاش لها ولد لتهودنَّه فإذا عاش ولدها جعلته في اليهوديَّة . فلمَّا جاء الإسلام ، وفيهم منهم ، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم عددٌ من أولاد الأنصار ، فأرادت الأنصار استردادهم ، وقالوا : أبناؤنا وإخواننا ، فنزلت : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قَدْ خَيَّرَ اللهُ أَصْحَابَكُمْ ، فإن اخْتَارُوكم فهم منكم ، وإن اخْتَارُوهم ، فأجلوهم مَعَهمْ » .
وقال مجاهد : كان ناسٌ مسترضعين في اليهود من الأوس ، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النّضير قال الذين كانوا مسترضعين فيهم : لنذهبنّ معهم ولندينن بدينهم ، فمنهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام فنزلت { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين . . .} .
وقال مسروقٌ : كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان متنصّران قبل مبعث النَّبي صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة في نفر من النَّصارى يحملون الطَّعام فلزمهما أبوهما ، وقال لا أدعكما حتى تسلما فأبيا أن يسلما فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « يَا رَسُولَ الله أَيَدْخُلُ بعضي النَّار وأنا أَنْظُرُ ، فأنزل الله تعالى { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } ، فخلى سبيلهما .
وقال قتادة وعطاء : نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية ، وذلك أنَّ العرب كانت أُمَّة أمّية لم يكن لهم كتاب ، فلم يقبل منهم إلاَّ الإسلام ، فلما أسلموا طوعاً ، أو كرهاً؛ أنزل الله تعالى { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } ؛ فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا ، أو يقرُّوا بالجزية ، فمن أعطى منهم الجزية ، لم يكره على الإسلام .
وقال ابن مسعود كان هذا في ابتداء الإسلام ، قبل أن يؤمر بالقتال ، فصارت منسوخة بآية السَّيف . ومعنى { تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } ، أي : تميَّز الحقّ من الباطل ، والإيمان من الكفر ، والهدى من الضّلالة بالحجج والآيات الظَّاهرة .
قوله : { بالطاغوت } متعلِّقٌ ب » يَكْفر « ، والطاغوت بناء مبالغةٍ كالجبروت والملكوت . واختلف فيه ، فقيل : هو مصدرٌ في الأصل ، ولذلك يوحَّد ويذكَّر ، كسائر المصادر الواقعة على الأعيان ، وهذا مذهب الفارسيّ ، وقيل : هو اسم جنس مفردٍ ، فلذلك لزم الإفراد والتَّذكير ، وهذا مذهب سيبويه رحمه الله . وقيل هو جمعٌ ، وهذا مذهب المبرّد ، وهو مؤنّث لقوله تعالى { والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت } [ البقرة : 257 ] قال أبو علي الفارسي : وليس الأمر كذلك ، لأن » الطَّاغُوتَ « مصدر كالرّغبوت ، والرَّهبوت ، والملكوت ، فكما أنَّ هذه الأسماء آحاد ، كذلك هذا الاسم مفردٌ ، وليس بجمع ومما يدلّ على أنَّه مصدر مفرد وليس بجمع قوله تبارك وتعالى : { أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت } ، فأفرد في موضع الجمع ، كما يقال هم رضاً ، وهم عدل انتهى . وهو مؤنَّث لقوله تعالى { والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا } [ الزمر : 17 ] .
وأجاب من ادَّعى التّذكير عن هذا الاستدلال بأنَّه إنما أنَّث هنا؛ لإرادة الآلهة وقال آخرون : ويكون مذكراً ، ومؤنثاً ، وواحداً وجمعاً قال تعالى في المذكر والواحد : { يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } [ النساء : 60 ] قوال في المؤنث : { والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا } [ الزمر : 17 ] وقال في الجمع : { يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات } [ البقرة : 257 ] . واشتقاقه من طغَى يَطْغَى ، أو من طَغَا يَطْغُو ، على حسب ما تقدَّم أول السورة ، هل هو من ذوات الواو أو من ذوات الياء؟ وعلى كلا التّقديرين ، فأصله طَغَيُوت ، أو طَغَوُوت لقولهم : » طُغْيان « في معناه ، فقلبت الكلمة بأن قدِّمت اللاّم وأُخِّرت العين ، فتحرَّك حرف العلَّة ، وانفتح ما قبله فقلب ألفاً ، فوزنه الآن فلعوت ، وقيل : تاؤه ليست زائدةً ، وإنَّما هي بدلٌ من لام الكلمة ، ووزنه فاعول من الطُّغيان كقولهم » حانوت « ، و » تابوت « ، والتاء فيهما مبدلة من » هَا « التأنيث .قال مكي « وقد يجُوز أن يكون أصلُ لامه واواً ، فيكون أصله طغووتاً؛ لأنه يقال : طَغَى يَطْغى ويَطْغو ، وطَغَيْتُ وطَغَوْتُ ، ومثله في القلب والاعتلال ، والوزن : حانوت؛ لأَنَّه من حَنا يحنو وأصله حَنَووت ، ثم قُلِب وأُعِلَّ ، ولا يجوزُ أن يكونَ من : حانَ يَحِين لقولهم في الجمعِ حَوانيت » انتهى قال شهاب الدين : كأنَّه لمَّا رأى أنَّ الواوَ قد تُبْدَل تاءً كما في تُجاه ، وتُخَمَة ، وتُراث ، وتُكَأة ، ادَّعى قَلْبَ الواوِ التي هي لامٌ تاءً ، وهذا ليس بشيءٍ .
وقدَّم ذِكْرَ الكفر بالطَّاغوت على ذِكْرِ الإِيمان باللهِ - تعالى - اهتماماً بوجوبِ الكفرِ بالطَّاغوتِ ، وناسبَهَ اتصالُهُ بلفظ « الغَيّ » .
فصل في المراد بالطاغوت
واختلف في الطَّاغوت فقال عمر ، ومجاهدٌ ، وقتادة : هو الشَّيطان .
وقال سعيد بن جبير : هو الكاهن . وقال أبو العالية : هو الساحر . وقال بعضهم : الأَصنام .
وقيل مردة الجنّ والإنس ، وكلُّ ما يطغى الإِنسان .
وقيل : الطَّاغُوتُ هو كلّ ما عُبِدَ مِنْ دون الله ، وكان راضياً بكونه معبُوداً ، فعلى هذا يكُونُ الشَّيطان والكهنة ، والسَّحرة ، وفرعون والنمروذ كلُّ واحد منهم طاغوتاً؛ لأنهم راضون بكونهم معبودين وتكونُ الملائكة ، وعزير ، وعيسى ليسوا بطواغيت ، لأنهم لم يرضوا بأن يكونوا معبودين .
قوله : { وَيْؤْمِن بالله } عطف على الشَّرط وقوله { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } جواب الشَّرط ، وفيه دليل على أنَّهُ لا بدّ للكافر من أن يتوب عن الكفر ، ثم يؤمنُ بعد ذلك .
وفيه دليل على أَنَّ درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح؛ لأنَّهُ قدّم الكُفر بالطَّاغوت [ على الإيمان باللهِ اهتماماً به فإن قيل الإيمان باللهِ مستلزم لِلْكُفر بالطَّاغُوت .
قلنا : لا نسلم ، قد يكفر بالطَّاغوت ] ولا يؤمن بالله واستمسك أي : استمسك واعتصم { بالعروة الوثقى } أي العقد الوثيق المحكم في الدِّين .
و « العُرْوَة » : موضعُ شَدِّ الأَيدي ، وأصلُ المادّةِ يَدُلُّ على التَّعلُّق ، ومنه : عَرَوْتُه : أَلْمَمْتُ به متعلِّقاً ، وَاعتراه الهَمُّ : تعلَّق به ، و « الوُثْقى » : فُعْلى للتفضيل تأنيث الأوثق ، كفُضْلى تأنيث الأفضل ، وجمعُها على وُثَق نحو : كُبْرى وكُبَر ، فأمَّا « وُثُق » بضمّتين فجمع وَثيق . وهذا استعارة المحسُوس للمعقول؛ لأَنَّ من أراد إمساك هذا الدِّين تعلّق بالدلائل وأوضحها الدّالة عليه ، ولما كانت دلائِلُ الإِسلام أقوى الدَّلائل وأوضحها وصفها الله تبارك وتعالى بأَنَّها العروة الوثقى .
قال مجاهِدٌ : « العُرْوَةُ الوثقى » الإيمان .
وقال السُّدِّي : الإِسلام .
وقال ابن عباسٍ ، وسعيد بن جبير والضحاك : لا إِله إلاَّ الله .
قوله : { لاَ انفصام لَهَا } كقوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] والجملةُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أن تكونَ استئنافاً ، فلا مَحَلَّ لها حينئذٍ .
والثاني : أنها حالٌ من العُرْوة ، والعاملُ فيها « اسْتَمْسَكَ » .
والثالث : أنها حالٌ من الضميرِ المستتر في « الوُثْقَى » . و « لها » في موضعِ الخبرِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : كائنٌ لها . والانفصامُ - بالفَاءِ - القَطْعُ من غير بَيْنُونة ، والقصمُ بالقافِ قَطْعُ بينونةٍ ، وقد يُستعمل ما بالفاءِ مكانَ ما بالقافِ .
والمقصودُ من هذا اللَّفظ المُبالغةُ؛ لأَنَّهُ إذا لم يكن لها انفِصَام ، فأن لا يكون لها انقطاع أولى ، ومعنى الآية : بالعُرْوَة الوثقى التي لا انفصام لها ، والعرب تُضْمِرُ « الَّتي » و « الذي » و « مَن » وتكتفي بصلاتها منها .
قال سلامة بن جندل : [ البسيط ]
1187- وَالعَادِيَاتُ أَسَالِيُّ الدِّمَاءِ بِهَا ... كَأَنَّ أَعْنَاقَهَا أَنْصَابُ تَرْجِيبِ
يريد والعاديات التي قال تعالى : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] أي من له .
قوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فيه قولان :
أحدهما : أنَّهُ تعالى يسمع قول من يتكلم بالشَّهادتين ، وقول من يتكلَّم بالكُفْر ، ويعلمُ ما في قلب المؤمِنِ من الاعتقاد الطاهر ، وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث .
الثاني : روى عطاء عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب إسلام أهل الكِتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة ، وكان يَسْأَلُ الله ذلك سِرّاً ، وعلانية ، فمعنى قوله { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يريدُ لدعائك يا محمَّد عليم بحرصك واجتهادك .
===============(1/32)
وقال إسماعيل حقي :
تفسير حقي - (ج 2 / ص 59)
{ لا اكراه فى الدين } قال بعضهم نزلت هذه الآية فى المجوس واهل الكتاب من اليهود والنصارى انه تقبل منهم الجزية ولا يكرهون على الاسلام ليس كمشركى العرب فانه لا يقبل منهم الا السيف او الاسلام ولا تقبل منهم الجزية ان اسلموا فيها والا قتلوا قال الله تعالى { تقاتلونهم او يسلمون } والمعنى لا اجبار فى الدين لان من حق العاقل ان لا يحتاج الى التكليف والالزام بل يختار الدين الحق من غير تردد وتلعثم لوضوح الحجة { قد تبين الرشد } هو لفظ جامع لكل خير والمراد ههنا الايمان الذى هو الرشد الموصل الى السعادة الابدية لتقدم ذكر الدين { من الغى } اى من الكفر الذى هو المؤدى الى الشقاوة السرمدية
قال الراغب الغى كالجهل يقال اعتبارا بالاعتقاد والغى اعتبارا بالافعال ولهذا قيل زوال الجهل بالعلم وزوال الغى بالرشد { فمن يكفر بالطاغوت } هو كل ما عبد من دون الله مما هو مذموم فى نفسه ومتمرد كالانس والجن والشياطين وغيرهم فلا يرد عيسى عليه الصلاة والسلام والكفر به عبارة عن الكفر باستحقاقه العبادة { ويؤمن بالله } بالتوحيد وتصديق الرسل لان الكفر بالانبياء والكتب يمنع حقيقة الايمان بالله لان الايمان بالله حقيقة يستلزم الايمان باوامره ونواهيه وشرائعه المعلومة بالدلائل التى اقامها الله لعباده وتقديم الكفر بالطاغوت على الايمان به تعالى لتوقفه عليه فان التخلية بالمعجمة متقدمة على التحلية بالمهملة { فقد استمسك بالعروة الوثقى } اى بالغ فى التمسك بالحلقة الوكيدة . وعروة الجسم الكبير الثقيل الموضع الذى يتعلق به من يأخذ ذلك الجسم ويحمله . والوثقى فعلى للتفضيل تأنيث الاوثق كفضلى تأنيث الافضل { لا انفصام لها } اى لا انقطاع وهو استئناف لبيان قوة دلائل الحق بحيث لا يعتريها شىء من الشبه والشكوك فان العروة الوثقى استعارة المحسوس للمعقول لان من اراد امساك هذا الدين نعلق بالدلائل الدالة عليه ولما كانت دلائل الاسلام اقوى الدلائل واوضحها وصفها الله بانها العروة الوثقى
قال المولى ابو السعود الكلام تمثيل مبنى على تشبيه الهيئة المنتزعة من ملازمة الاعتقاد الحق الذى لا يحتمل النقيض اصلا لثبوته بالبراهين النيرة القطعية بالهيئة الحسية المنتزعة من التمسك بالحبل المحكم المأمون انقطاعه فلا استعارة فى المفردات { والله سميع } بالاقوال { عليم } بالعزائم والعقائد يعلم غيها ورشدها وباطلها وحقها ويجرى كلا على وفق عمله وقوله وعقده وهو ابلغ وعد ووعيد
واعلم ان حقيقة الايمان كونه متعلقا بالله على وجه الشهود والعيان ومجازه كونه متعلقا به على وجه الرسم والبيان او بالطاغوت وحقيقة الكفر كونه متعلقا بالطاغوت ومجازه كونه متعلقا بوحدة الله او بنعمته فان الكفر ثلاثة اقسام كفر النعمة وكفر الوحدة وكفر الطاغوت وافراد الانسان ثلاثة اقسام ايضا اصحاب الميمنة وهم ارباب الجمال ومظاهره واصحاب المشأمة وهم ارباب الجلال ومظاهره والمقربون وهم اصحاب الكمال ومظاهره وقلوب الفريق الاول فى ايدى سدنة الجمال الآلهى من الملائكة المقربين وقلوب الفريق الثانى فى ايدى سدنة الجلال الآلهى من الشياطين المتمردين يستعملونها فى سبيل الشرور وقلوب الفريق الثالث فى يد الله المتعال يد الله فوق ايدى سدنة الجمال والجلال يقلبها كيف يشاء بين التجليات العاليات والعلوم والمعارف الآلهيات ولما تعلق ايمان هذه الفرق بالله على وجه الشهود والعيان وتعلق كفرهم بالطاغوت جليا او خفيا كان ايمانهم وكفرهم حقيقيين وجاوزوا من عالم المجاز الى عالم الحقيقة واما الفريق الثانى فقد تعلق ايمانهم بالطاغوت مطلقا او خفيا وكفرهم بالوحدة والنعمة فكان ايمانهم وكفرهم مجازيين لكن ايمانهم مردود ككفرهم لانه لم يتعلق بالله اصلا بل كان كله مقصورا على الطاغوت ولذا لم يتجاوزوا من عالم المجاز اصلا ولم يصلوا الى قرب عالم الحقيقة جدا فضلا عن وصولهم الى عالم الحقيقة قطعا واما الفريق الاول فلما تعلق ايمانهم بالله على وجه الرسم والبيان لا بالطاغوت الجلى جدا ولم يتعلق ايمانهم به على وجه الشهود ولم يتعلق ايمانهم به على الاخلاص حين تعلق به على وجه الرسم والبيان لتعلقه ايضا بالطاغوت الخفى وتعلق كفرهم بالطاغوت الجلى فقط لا بالطاغوت لا بالطاغوت الخفى كان ايمانهم وكفرهم مجازيين ايضا لكن ايمانهم لم يكن ككفرهم مردودا بل كان مقبولا من وجه لعدم تعلقه بالطاغوت الجلى اصلا فان غلب تعلقه بالله على تعلقه بالطاغوت الخفى عند خاتمته فيدخل فى الفلاح ثم فى الآخرة ان تداركه الفضل الآلهى فبها ونعمت فيغفر والا فيدخل الجحيم ويعذب بكفره الخفى ثم يخرج لعدم كفره بالله جليا ويدخل النعيم لايمانه بالله جليا وكفره بالطاغوت وهم ايضا لم يصلوا الى عالم الحقيقة بل انما وصلوا الى قربه ولذا جاوزوا الجحيم ودخلوا النعيم فى قرب عالم الحقيقة ولذا كانوا بالنسبة الى نفس الحقيقة موطنين فى عالم المجاز والفرقة لا فى عالم الحقيقة والوصلة واما الفريق الثانى فهم مخلدون فى النار ابدا لايمانهم بالطاغوت مطلقا وكفرهم بالله كذلك ثم سعادة الفريق الثالث على ما هو المنصوص فى القرآن قطعية الثبوت فى آخر النفس وشقاوة الفريق الثانى وسعادة الفريق الاول ليست قطعية الثبوت بل محتملة الثبوت فى آخر النفس بالنظر الى الافراد لجواز التبدل والتغير فى عاقبة الامر الدنيوى بالنظر الى افرادهم هذا ما التقطته من الكتاب المسمى باللائحات البرقيات لشيخى العلامة ابقاه الله بالسلامة
=============(1/32)
وقال الماوردي :
النكت والعيون - (ج 1 / ص 190)
قوله تعالى : { لآَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن ذلك في أهل الكتاب ، لا يُكْرَهُون على الدين إذا بذلوا الجزية ، قاله قتادة .
والثاني : أنها نزلت في الأنصار خاصة ، كانت المرأة منهم تكون مِقْلاَةً لا يعيش لها ولد ، فتجعل على نفسها ، إن عاش لها ولد أن تهوّده ، ترجو به طول العمر ، وهذا قبل الإسلام ، فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ، كان فيهم من أبناء الأنصار ، فقالت الأنصار : كيف نصنع بأبنائنا؟ فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس .
والثالث : أنها منسوخة بفرض القتال ، قاله ابن زيد .
{ فَمَن يَكْفُرُ بِالطَّاغُوتِ } فيه سبعة أقوال :
أحدها : أنه الشيطان وهو قول عمر بن الخطاب .
والثاني : أنه الساحر ، وهو قول أبي العالية .
والثالث : الكاهن ، وهو قول سعيد بن جبير .
والرابع : الأصنام .
والخامس : مَرَدَة الإنس والجن .
والسادس : أنه كل ذي طغيان طغى على الله ، فيعبد من دونه ، إما بقهر منه لمن عبده ، أو بطاعة له ، سواء كان المعبود إنساناً أو صنماً ، وهذا قول أبي جعفر الطبري .
والسابع : أنها النفس لطغيانها فيما تأمر به من السوء ، كما قال تعالى : { إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } [ يوسف : 53 ] .
واختلفوا في { الطَّاغُوتِ } على وجهين :
أحدهما : أنه اسم أعجمي معرّب ، يقع على الواحد والجماعة .
والثاني : أنه اسم عربي مشتق من الطاغية ، قاله ابن بحر .
{ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } فيها أربعة أوجه :
أحدها : هي الإيمان الله ، وهو قول مجاهد .
والثاني : سنة الرسول .
والثالث : التوفيق .
والرابع : القرآن ، قاله السدي .
{ لاَ انفِصَامَ لَهَا } فيه قولان :
أحدهما : لا انقطاع لها ، قاله السدي .
والثاني : لا انكسار لها ، وأصل الفصم : الصدع .
===================(1/32)
الباب الثاني
أقوال الفقهاء
وفي مشكل الآثار :
بَابٌ بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَمْرِهِ بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ) .
حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُرَّةَ بْنِ أَبِي خَلِيفَةَ , قَالَ : أَنْبَأَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ الْأَزْدِيُّ , قَالَ : حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ { لَئِنْ عِشْتُ لِأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَلَا يَبْقَى بِهَا إلَّا مُسْلِمٌ } . وَحَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ : ثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ : ثنا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ . وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ شَيْبَةَ قَالَ : ثنا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ قَالَ : ثنا سُفْيَانُ ثُمَّ ذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ . وَحَدَّثَنَا فَهْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ ثنا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ الْعَبْدِيُّ قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ قَالَ : ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْمُونٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ سَمُرَةَ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رضي الله عنه قَالَ : { إنَّ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ قَالَ أَخْرِجُوا يَهُودَ الْحِجَازِ وَأَهْلَ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } وَحَدَّثَنَا فَهْدٌ قَالَ : ثنا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ قَالَ : ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ : حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْمُونٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رضي الله عنه قَالَ : إنَّ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ . وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خُزَيْمَةَ وَفَهْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَا ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ : ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْمُونٍ مَوْلَى سَمُرَةَ عَنْ سَعْدِ بْنِ سَمُرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { أَخْرِجُوا يَهُودَ الْحِجَازِ } . قَالَ لَنَا : فَهْدٌ قَالَ الرَّمَادِيُّ يَعْنِي إبْرَاهِيمَ بْنَ بَشَّارٍ لَمْ يَرْوِ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هَذَا الشَّيْخِ إلَّا هَذَا الْحَدِيثَ . وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ قَالَ : ثنا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ سَمُرَةَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رضي الله عنه قَالَ : { آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْرِجُوا يَهُودَ الْحِجَازِ مِنْ مَدِينَةِ الْعَرَبِ وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ شِرَارِ الْعَرَبِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } . وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُد قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ : ثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَئِنْ عِشْتُ لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهَا إلَّا مُسْلِمٌ } وَقَالَ عُمَرُ : لَئِنْ عِشْتُ , لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهَا إلَّا مُسْلِمٌ . ثُمَّ رَجَعْنَا إلَى حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَوَجَدْنَا فِي إسْنَادِهِ شَيْئًا قَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ رُوَاتُهُ وَهُوَ ابْنُ سَمُرَةَ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ سَعْدُ بْنُ سَمُرَةَ وَقَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَأَبُو أَحْمَدَ سَعْدُ بْنُ سَمُرَةَ فَكَانَ ثَلَاثَةٌ أَوْلَى بِالْحِفْظِ مِنْ وَاحِدٍ فَتَأَمَّلْنَا هَذَا الْحَدِيثَ فَاحْتَجْنَا إلَى الْعِلْمِ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ مَا هِيَ ؟ . فَوَجَدْنَا مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ فِيمَا حَكَى لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الرَّازِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ نَصْرٍ , عَنْ هِشَامِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ : مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَأَمَّا أَرْضُ الْعَرَبِ يَعْنِي الَّتِي لَا يُتْرَكُ فِيهَا الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى يُقِيمُونَ بِهَا إلَّا مِقْدَارَ مَا يَقْضُونَ حَوَائِجَهُمْ مِنْ بَيْعِ تِجَارَاتِهِمْ الَّتِي قَدِمُوهَا بِهَا فَمِثْلُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ وَالرَّبَذَةِ وَوَادِي الْقُرَى هَذَا كُلُّهُ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ . قَالَ : هِشَامٌ وَقَرَأْت عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا يُجْمَعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَفَحَصَ عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى أَتَاهُ الثَّلْجُ - يُرِيدُ الْيَقِينَ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } فَأَجْلَى يَهُودَ نَجْرَانَ وَفَدَكَ . وَوَجَدْنَا عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَدْ أَجَازَ لَنَا عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّهُ قَالَ : فِي(1/32)
حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّهُ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ قَالَ قَالَ : أَبُو عُبَيْدَةَ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ بَيْنَ حَفْرِ أَبِي مُوسَى إلَى أَقْصَى الْيَمَنِ فِي الطُّولِ , وَأَمَّا الْعَرْضُ فَمَا بَيْنَ رَمْلِ يَبْرِينَ إلَى مُنْقَطَعِ السَّمَاوَةِ قَالَ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ مِنْ أَقْصَى عَدَنِ أَبْيَنَ إلَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّولِ , وَأَمَّا الْعَرْضُ فَمِنْ جُدَّةَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ إلَى أَطْرَارِ الشَّامِ قَالَ : أَبُو عُبَيْدٍ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فَيَرَوْنَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه إنَّمَا اسْتَجَازَ إخْرَاجَ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنْ الْيَمَنِ وَكَانُوا نَصَارَى إلَى سَوَادِ الْعِرَاقِ لِهَذَا الْحَدِيثِ , وَكَذَلِكَ إجْلَاؤُهُ أَهْلَ خَيْبَرَ إلَى الشَّامِ وَكَانُوا يَهُودَ . فَتَأَمَّلْنَا إجْلَاءَ الْيَهُودِ مِنْ هَذِهِ الْجَزِيرَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا فَوَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ مِنْهُ فِي إجْلَاءِ بَعْضِهِمْ وَهُمْ بَنُو النَّضِيرِ . وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ : ثنا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } قَالَ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْأَنْصَارِ لَا يَكَادُ يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ فَتَحْلِفُ لَئِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ لَتُهَوِّدَنَّهُ فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ إذَا فِيهِمْ أُنَاسٌ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْنَاؤُنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } قَالَ : سَعِيدٌ فَمَنْ شَاءَ لَحِقَ بِهِمْ وَمَنْ شَاءَ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَجْلَى مِنْ الْيَهُودِ مَنْ أَجْلَى فِي حَيَاتِهِ . فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِيمَنْ أُجْلِيَ مِنْهُمْ فِي خِلَافَتِهِ فَإِنَّا وَجَدْنَا أَحْمَدَ بْنَ دَاوُد بْنِ مُوسَى قَدْ حَدَّثَنَا قَالَ : ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَائِشَةَ قَالَ ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاتَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ حَتَّى أَجْلَاهُمْ إلَى قَصْرِهِمْ فَغَلَبَ عَلَى الْأَرْضِ وَالزَّرْعِ وَالنَّخْلِ فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَجْلُوا مِنْهَا وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ رِكَابُهُمْ وَلِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ وَالْحَلْقَةُ وَهِيَ السِّلَاحُ وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا لِأَصْحَابِهِ غِلْمَانٌ يَقُومُونَ عَلَيْهَا وَكَانُوا لَا يَفْرُغُونَ لِلْقِيَامِ عَلَيْهَا فَأَعْطَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ عَلَى أَنَّ لَهُمْ الشَّطْرَ مِنْ كُلِّ زَرْعٍ وَنَخْلٍ مَا بَدَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه غَالَوْا فِي الْمُسْلِمِينَ وَغَشُّوهُمْ وَرَمَوْا ابْنَ عُمَرَ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ فَفَدَعُوا يَدَيْهِ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه مَنْ كَانَ لَهُ سَهْمٌ مِنْ خَيْبَرَ فَلْيَخْرُصْ حَتَّى يَقْسِمَهَا بَيْنَهُمْ فَقَالَ رَئِيسُهُمْ لَا تُخْرِجْنَا وَدَعْنَا نَكُونُ فِيهَا كَمَا أَقَرَّنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عُمَرُ لِرَئِيسِهِمْ أَتَرَاهُ سَقَطَ عَنِّي قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكَ كَيْفَ بِكَ إذَا رَقَصَتْ بِك رَاحِلَتُك نَحْوَ الشَّامِ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا وَقَسَمَهَا عُمَرُ رضي الله عنه بَيْنَ مَنْ كَانَ شَهِدَ خَيْبَرَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ } . فَهَذَا الَّذِي رُوِيَ مِمَّا تَنَاهَى إلَيْنَا فِي السَّبَبِ الَّذِي بِهِ أَجْلَى عُمَرُ رضي الله عنه مَنْ أَجْلَى مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ . وَقَدْ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ : ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَحْوَلِ خَالِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ { أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثٍ فَقَالَ أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثَةِ فَمَا أَدْرِي قَالَهَا فَنَسِيتُهَا أَمْ سَكَتَ عَنْهَا عَمْدًا } . قَالَ : أَبُو جَعْفَرٍ فَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ خِلَافُ مَا قَدْ رَوَيْنَا قَبْلَهُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الَّذِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِجْلَائِهِمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ; لِأَنَّ الَّذِينَ أَمَرَ بِإِجْلَائِهِمْ مِنْهَا فِيمَا رَوَيْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَّا فِي هَذَا الْبَابِ هُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَاَلَّذِي فِي هَذَا هُمْ الْمُشْرِكُونَ وَهُمْ خِلَافُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى غَيْرَ أَنَّا نَخَافُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إنَّمَا أَتَى مِنْ قِبَلِ ابْنِ عُيَيْنَةَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ مِنْ حِفْظِهِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ(1/33)
يَكُونَ جَعَلَ مَكَانَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْمُشْرِكِينَ , وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ الْفِقْهِ مَا يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ أَوْلَى بِمَا حَفِظُوا فِي ذَلِكَ مِمَّا حَفِظَهُ الْوَاحِدُ مِمَّا خَالَفَهُمْ فِيهِ . وَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِمَّا قُلْنَاهُ فِي ذَلِكَ مَا قَدْ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ الْمُرَادِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا أَسَدُ قَالَ : ثنا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ قَابُوسِ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَا يَصْلُحُ قِبْلَتَانِ بِأَرْضٍ وَلَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ } فَدَلَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ بَعْدَ قَوْلِهِ لَا يَصْلُحُ قِبْلَتَانِ بِأَرْضٍ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ هُوَ الَّذِي كَانَ قَبْلَ إسْلَامِهِ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ وَهُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَا الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَرَبِ وَدَلَّ ذِكْرُهُ الْقِبْلَةَ أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ يَدِينُ بِدِينٍ لَا مَنْ لَا دِينَ لَهُ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَدِينُونَ بِمَا يَدِينُونَ بِهِ فَهُمْ ذَوُو قِبْلَةٍ وَالْمُشْرِكُونَ لَا يَدِينُونَ بِشَيْءٍ فَلَيْسُوا بِذَوِي قِبْلَةٍ وَفِي ذَلِكَ مَعْنًى آخَرُ لَطِيفٌ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُوقَفَ عَلَيْهِ , وَهُوَ أَنَّ الَّذِي كَانَ أَوْصَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنْ يُونُسَ إنَّمَا كَانَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا أَفْنَى اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الشِّرْكَ , وَأَهْلَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِدُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَقُتِلَ مَنْ أَبَى مِنْهُمْ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } فَكَانَ مَنْ أَسْلَمَ طَوْعًا وَكَرْهًا هُمْ الَّذِينَ أَسْلَمُوا , وَكَانَ مَنْ سِوَاهُمْ مِمَّنْ أَفْنَاهُمْ الْقَتْلُ فَلَمْ يَكُنْ حِينَ أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا أَوْصَى بِهِ مِمَّا ذَكَرْنَا أَحَدٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ بِإِخْرَاجِ مَعْدُومِينَ وَإِنَّمَا كَانَتْ وَصِيَّتُهُ صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِ مَوْجُودِينَ , وَهُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَاَللَّهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ .
=============
ويقول الجصاص :
قوله تعالى : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ }(1/34)
رُوِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ } وقوله تعالى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } . وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهَا خَاصَّةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يُقَرُّونَ عَلَى الْجِزْيَةِ دُونَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ ; لِأَنَّهُمْ لَا يُقَرُّونَ عَلَى الْجِزْيَةِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ . وَقِيلَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَعْضِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ , كَانُوا يَهُودًا فَأَرَادَ آبَاؤُهُمْ إكْرَاهَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ ; وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ . وَقِيلَ فِيهِ : أَيْ لَا تَقُولُوا لِمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ حَرْبٍ إنَّهُ أَسْلَمَ مُكْرَهًا ; لِأَنَّهُ إذَا رَضِيَ وَصَحَّ إسْلَامُهُ فَلَيْسَ بِمُكْرَهٍ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } أَمْرٌ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ , وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ ذَلِكَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ , فَكَانَ فِي سَائِرِ الْكُفَّارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ } وقوله تعالى : { وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وقوله تعالى : { وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } فَكَانَ الْقِتَالُ مَحْظُورًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إلَى أَنْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا عَانَدُوهُ بَعْدَ الْبَيَانِ أُمِرَ الْمُسْلِمُونَ بِقِتَالِهِمْ , فَنَسَخَ ذَلِكَ عَنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَسَائِرُ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِقِتَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ , وَبَقِيَ حُكْمُهُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ إذَا أَذْعَنُوا بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَدَخَلُوا فِي حُكْمِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَفِي ذِمَّتِهِمْ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْبَلْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ . وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ ثَابِتًا فِي الْحَالِ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْكُفْرِ ; لِأَنَّهُ مَا مِنْ مُشْرِكٍ إلَّا وَهُوَ لَوْ تَهَوَّدَ أَوْ تَنَصَّرَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَقْرَرْنَاهُ عَلَى دِينِهِ بِالْجِزْيَةِ ; وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا ثَابِتًا فِي سَائِرِ مَنْ انْتَحَلَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ حِينَ قَالَ : ( مَنْ تَهَوَّدَ مِنْ الْمَجُوسِ أَوْ النَّصَارَى أَجْبَرْته عَلَى الرُّجُوعِ إلَى دِينِهِ أَوْ إلَى الْإِسْلَامِ ) وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ ; لِأَنَّ فِيهَا الْأَمْرَ بِأَنْ لَا نُكْرِهُ أَحَدًا عَلَى الدِّينِ , وَذَلِكَ عُمُومٌ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَمُشْرِكُو الْعَرَبِ الَّذِينَ أُمِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقِتَالِهِمْ وَأَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ قَدْ كَانُوا مُكْرَهِينَ عَلَى الدِّينِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ مُكْرَهًا فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ , فَمَا وَجْهُ إكْرَاهِهِمْ عَلَيْهِ ؟ قِيلَ لَهُ : إنَّمَا أُكْرِهُوا عَلَى إظْهَارِ الْإِسْلَامِ لَا عَلَى اعْتِقَادِهِ ; لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ لَا يَصِحُّ مِنَّا الْإِكْرَاهُ عَلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } فَأَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْقِتَالَ إنَّمَا كَانَ عَلَى إظْهَارِ الْإِسْلَامِ , وَأَمَّا الِاعْتِقَادَاتُ فَكَانَتْ مَوْكُولَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى . وَلَمْ يَقْتَصِرْ بِهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْقِتَالِ دُونَ أَنْ أَقَامَ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةَ وَالْبُرْهَانَ فِي صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ , فَكَانَتْ الدَّلَائِلُ مَنْصُوبَةً لِلِاعْتِقَادِ وَإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ مَعًا ; لِأَنَّ تِلْكَ الدَّلَائِلِ مِنْ حَيْثُ أَلْزَمْتهمْ اعْتِقَادَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ اقْتَضَتْ مِنْهُ إظْهَارَهُ وَالْقِتَالُ لِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ , وَكَانَ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ الْمَصَالِحِ , مِنْهَا : أَنَّهُ إذَا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لَهُ فَإِنَّ مُجَالَسَتَهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَسَمَاعَهُ الْقُرْآنَ وَمُشَاهَدَتَهُ لِدَلَائِلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مَعَ تَرَادُفِهَا عَلَيْهِ تَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَتُوَضِّحُ عِنْدَهُ فَسَادَ اعْتِقَادِهِ . وَمِنْهَا : أَنْ يُعْلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِي نَسْلِهِمْ مِنْ يُوقِنُ وَيَعْتَقِدُ التَّوْحِيدَ , فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَلُوا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ فِي أَوْلَادِهِمْ مَنْ يَعْتَقِدُ الْإِيمَانَ . وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أُكَرِهِ مِنْ أَهْلِ(1/35)
الذِّمَّةِ عَلَى الْإِيمَانِ : إنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ وَلَا يُتْرَكُ وَالرُّجُوعَ إلَى دِينِهِ , إلَّا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ إنْ رَجَعَ إلَى دِينِهِ وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ ; لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُزِيلُ عَنْهُ حُكْمَ الْإِسْلَامِ إذَا أَسْلَمَ وَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ فِيهِ مُكْرَهًا دَالًا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لَهُ ; لِمَا وَصَفْنَا مِنْ إسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِقِتَالِ النَّبِيِّ وَقَوْلُهُ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إظْهَارَ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْقِتَالِ إسْلَامًا فِي الْحُكْمِ , فَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فِي الْحُكْمِ , وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُقْتَلُوا لِلشُّبْهَةِ . وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ أَسِيرًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَوْ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ فَأَسْلَمَ أَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا , وَلَمْ يَكُنْ إسْلَامُهُ خَوْفًا مِنْ الْقَتْلِ مُزِيلًا عَنْهُ حُكْمَ الْإِسْلَامِ , فَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قوله تعالى : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } يُحْظِرُ إكْرَاهَ الذِّمِّيِّ عَلَى الْإِسْلَامِ , وَإِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَحْظُورًا وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْلِمًا فِي الْحُكْمِ وَأَنْ لَا يَتَعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ ; وَلَا يَكُونُ حُكْمُ الذِّمِّيِّ فِي هَذَا حُكْمَ الْحَرْبِيِّ ; لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ يَجُوزُ أَنْ يُكْرَهَ عَلَى الْإِسْلَامِ لِإِبَائِهِ الدُّخُولَ فِي الذِّمَّةِ , وَمَنْ دَخَلَ فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَجُزْ إكْرَاهُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ . قِيلَ لَهُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ وَالطَّوْعِ لِمَنْ يَجُوزُ إجْبَارُهُ عَلَيْهِ , أَشْبَهَ فِي هَذَا الْوَجْهِ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ وَسَائِرَ مَا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ جَدِّهِ وَهَزْلِهِ . ثُمَّ لَا يَخْتَلِفُ بَعْد ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْإِكْرَاهُ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مُبَاحًا كَمَا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ أَكْرَهْ رَجُلًا عَلَى طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ , ثَبَتَ حُكْمُهُمَا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ ظَالِمًا فِي إكْرَاهِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ , وَكَوْنُهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لَا يُبْطِلُ حُكْمَ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقِ عِنْدَنَا , كَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَمْرِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ .
================(1/36)
بَابُ الِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } الْآيَةَ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ بِطَانَةُ الرَّجُلِ خَاصَّتُهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ أَمْرَهُ وَيَثِقُ بِهِمْ فِي أَمْرِهِ ; فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا أَهْلَ الْكُفْرِ بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ , وَأَنْ يَسْتَعِينُوا بِهِمْ فِي خَوَاصِّ أُمُورِهِمْ , وَأَخْبَرَ عَنْ ضَمَائِرِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ : { لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } يَعْنِي : لَا يُقَصِّرُونَ فِيمَا يَجِدُونَ السَّبِيلَ إلَيْهِ مِنْ إفْسَادِ أُمُورِكُمْ ; لِأَنَّ الْخَبَالَ هُوَ الْفَسَادُ . ثُمَّ قَالَ : { وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ } قَالَ السُّدِّيُّ : " وَدُّوا ضَلَالَكُمْ عَنْ دِينِكُمْ " وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : " وَدُّوا أَنْ تَعَنَّتُوا فِي دِينِكُمْ فَتَحْمِلُوا عَلَى الْمَشَقَّةِ فِيهِ " ; لِأَنَّ أَصْلَ الْعَنَتِ الْمَشَقَّةُ , فَكَأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ مَحَبَّتِهِمْ لِمَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ , وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ } وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعِمَالَاتِ وَالْكَتَبَةِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا مُوسَى اسْتَكْتَبَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَكَتَبَ إلَيْهِ يُعَنِّفُهُ , وَتَلَا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } , أَيْ لَا تَرُدُّوهُمْ إلَى الْعِزِّ بَعْدَ أَنَّ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى . وَرَوَى أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ عَنْ فَرْقَدِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَبِي دُهْقَانَةَ قَالَ : قُلْت لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : إنَّ هَهُنَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ لَمْ نَرَ رَجُلًا أَحْفَظَ مِنْهُ , وَلَا أَخَطَّ مِنْهُ بِقَلَمٍ , فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تَتَّخِذَهُ كَاتِبًا قَالَ : قَدْ اتَّخَذْتُ إذًا بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ . وَرَوَى هِلَالُ الطَّائِيُّ عَنْ وَسْقٍ الرُّومِيِّ قَالَ : كُنْت مَمْلُوكًا لِعُمَرَ فَكَانَ يَقُولُ لِي أَسْلِمْ فَإِنَّك إنْ أَسْلَمَتْ اسْتَعَنْتُ بِك عَلَى أَمَانَةِ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ أَسْتَعِينَ عَلَى أَمَانَتِهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ ; فَأَبَيْت , فَقَالَ : لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ ; فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَعْتَقَنِي فَقَالَ : اذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ انْتَحَلَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْعَرَبِ ,(1/37)
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ : ( مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا مِنْ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ فَذَبِيحَتُهُ مُذَكَّاةٌ إذَا سَمَّى اللَّهَ عَلَيْهَا . وَإِنْ سَمَّى النَّصْرَانِيُّ عَلَيْهَا بِاسْمِ الْمَسِيحِ لَمْ تُؤْكَلْ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ فِي ذَلِكَ ) . وَقَالَ مَالِكٌ : ( مَا ذَبَحُوهُ لِكَنَائِسِهِمْ أَكْرَهُ أَكْلَهُ , وَمَا سُمِّيَ عَلَيْهِ بِاسْمِ الْمَسِيحِ لَا يُؤْكَلُ وَالْعَرَبُ وَالْعَجَمُ فِيهِ سَوَاءٌ ) . وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : ( إذَا ذُبِحَ وَأُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ كَرِهْتُهُ ) , وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ . وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : وَبَلَغَنِي عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ : ( قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ; لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ سَيَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ ) . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : ( إذَا سَمِعْتَهُ يُرْسِلُ كَلْبَهُ بِاسْمِ الْمَسِيحِ أُكِلَ ) . وَقَالَ فِيمَا ذَبَحَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ لِكَنَائِسِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ : كَانَ مَكْحُولُ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا , وَيَقُولُ : هَذِهِ كَانَتْ ذَبَائِحَهُمْ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ ثُمَّ أَحَلَّهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ ; وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ . وَقَالَ الرَّبِيعُ عَنْ الشَّافِعِيِّ : ( لَا خَيْرَ فِي ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ ) قَالَ : ( وَمَنْ دَانَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَخَالَفَ دِينَ أَهْلِ الْأَوْثَانِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ وَتُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ عَجَمِيًّا , وَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَلَمْ يَدِنْ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ ) . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ الْقَوْلُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْعَرَبِ , لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِيهِ بَيْنَ مَنْ دَانَ بِذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ أَوْ بَعْدَهُ , وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ اعْتَبَرَ فِيهِمْ مَا اعْتَبَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي ذَلِكَ , فَهُوَ مُنْفَرِدٌ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ خَارِجٌ بِهَا عَنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } قَالَ : { كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْأَنْصَارِ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ فَتَحْلِفُ لَئِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ لَتُهَوِّدَنَّهُ , فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ إذَا فِيهِمْ نَاسٌ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْنَاؤُنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } } . قَالَ سَعِيدٌ : فَمَنْ شَاءَ لَحِقَ بِهِمْ وَمَنْ شَاءَ دَخَلَ الْإِسْلَامَ فَلَمْ يُفَرِّقْ فِيمَا ذَكَرَ بَيْنَ مَنْ دَانَ بِالْيَهُودِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَبَعْدَهُ وَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ نُسَيٍّ عَنْ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ : أَنَّ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَيْهِ أَنَّ نَاسًا مِنْ السَّامِرَةِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَيَسْبِتُونَ السَّبْتَ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ , فَمَا تَرَى ؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ : " إنَّهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ " . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ قَالَ : سَأَلْت عَلِيًّا عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ , فَقَالَ : ( لَا تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقُوا مِنْ دِينِهِمْ بِشَيْءٍ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ ) . وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كُلُوا مِنْ ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ وَتَزَوَّجُوا مِنْ نِسَائِهِمْ , فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ إلَّا بِالْوِلَايَةِ كَانُوا مِنْهُمْ وَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بَيْنَ مَنْ دَانَ بِذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَبَعْدَهُ , فَهُوَ إجْمَاعٌ مِنْهُمْ . وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَنْ دَانَ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ أَوْ بَعْدَهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ } , وَذَلِكَ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ , فَأَخْبَرَ تَعَالَى بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ أَنَّ مَنْ يَتَوَلَّاهُمْ مِنْ الْعَرَبِ فَهُوَ مِنْهُمْ , وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كِتَابِيًّا ; لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ , وَأَنْ تَحِلَّ ذَبَائِحُهُمْ , لقوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ هُمْ بَنُو إسْرَائِيلَ الَّذِينَ يَنْتَحِلُونَ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّة دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ الَّذِينَ دَانُوا بِدِينِهِمْ , وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَنْ دَانَ بِذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ(1/38)
وَبَعْدَهُ , وَيَحْتَجُّونَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ } , فَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ آتَاهُمْ الْكِتَابَ هُمْ بَنُو إسْرَائِيلَ ; وَبِحَدِيثِ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا تَحِلُّ ذَبَائِحُ نَصَارَى الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقُوا مِنْ دِينِهِمْ بِشَيْءٍ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْر ) أَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى قَوْلِهِمْ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ آتَى بَنِي إسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَلَمْ يَنْفِ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَنْ انْتَحَلَ دِينَهُمْ فِي حُكْمِهِمْ . وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ , لقوله تعالى : { لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } , فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ إلَّا بِالْوِلَايَةِ لَكَانُوا مِنْهُمْ وَقَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ وَحَظْرُ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ بَنِي إسْرَائِيلَ , لَكِنْ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُتَمَسِّكِينَ بِأَحْكَامِ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ ; لِأَنَّهُ قَالَ : إنَّهُمْ لَا يَتَعَلَّقُونَ مِنْ دِينِهِمْ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ , وَلَمْ يَقُلْ : لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ; فَقَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يَكُونُونَ إلَّا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَإِنْ دَانُوا بِدِينِهِمْ قَوْلٌ سَاقِطٌ مَرْدُودٌ . وَرَوَى هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ : { أَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : يَا عَدِيُّ بْنَ حَاتِمٍ أَسْلِمْ تَسْلَمْ فَقُلْت لَهُ : إنَّ لِي دِينًا , فَقَالَ : أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِك مِنْك قُلْت : أَنْتَ أَعْلَمُ بِدِينِي مِنِّي ؟ قَالَ : نَعَمْ أَلَسْت رَكُوسِيًّا ؟ قَالَ : قُلْت بَلَى قَالَ : أَلَسْت تَرْأَسُ قَوْمَك ؟ قَالَ : قُلْت : بَلَى قَالَ : أَلَسْت تَأْخُذُ الْمِرْبَاعَ ؟ قَالَ : قُلْت : بَلَى قَالَ : فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَك فِي دِينِك قَالَ : فَكَأَنِّي رَأَيْت أَنَّ عَلَيَّ بِهَا غَضَاضَةً , وَكَأَنِّي تَوَاضَعْت بِهَا . } وَرَوَى عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ غُطَيْفِ بْنِ أَعْيَنَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ : { أَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ ذَهَبٌ فَقَالَ : أَلْقَ هَذَا الْوَثَنَ عَنْك ثُمَّ قَرَأَ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كُنَّا نَعْبُدُهُمْ قَالَ : أَلَيْسَ كَانُوا يُحِلُّونَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَتُحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْكُمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ ؟ قَالَ : فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ } وَفِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ ضُرُوبٌ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا , أَحَدُهَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَسَبَ إلَى مُتَّخِذِي الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ أَرْبَابًا وَهُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى , وَلَمْ يَنْفِ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ عَرَبِيًّا , وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ : " أَلَسْت رَكُوسِيًّا " وَهُمْ صِنْفٌ مِنْ النَّصَارَى , فَلَمْ يُخْرِجْهُ عَنْهُمْ بِأَخْذِهِمْ الْمِرْبَاعَ , وَهُوَ رُبُعُ الْغَنِيمَةِ ; وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ دِينِ النَّصَارَى ; لِأَنَّ فِي دِينِهِمْ أَنَّ الْغَنَائِمَ لَا تَحِلُّ ; فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ التَّمَسُّكِ بِمَا يَنْتَحِلُهُ الْمُنْتَحِلُونَ لِلْأَدْيَانِ لَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ وَذَلِكَ الدِّينِ , وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ وَبَنِي إسْرَائِيلَ سَوَاءٌ فِيمَا يَنْتَحِلُونَ مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مُخْتَلِفِي الْأَحْكَامِ ; وَلَمَّا لَمْ يَسْأَلْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَمَّا انْتَحَلَهُ مِنْ دِينِ النَّصَارَى أَكَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ أَوْ بَعْدَهُ وَنَسَبَهُ إلَى فِرْقَةٍ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ انْتَحَلَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ أَوْ بَعْدَهُ ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
============
وفي المحلى :
47 - مَسْأَلَةٌ : وَحُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ قَامَتْ وَاسْتَبَانَتْ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَتْهُ النِّذَارَةُ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَبَرٍّ وَفَاجِرٍ . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ } وَقَالَ تَعَالَى : { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مِنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } .
958 - مَسْأَلَةٌ : وَلَا يُقْبَلُ مِنْ كَافِرٍ إلَّا الْإِسْلَامُ , أَوْ السَّيْفُ - الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ - حَاشَا أَهْلَ الْكِتَابِ خَاصَّةً(1/39)
, وَهُمْ الْيَهُودُ , وَالنَّصَارَى , وَالْمَجُوسُ فَقَطْ , فَإِنَّهُمْ إنْ أَعْطُوا الْجِزْيَةَ أُقِرُّوا عَلَى ذَلِكَ مَعَ الصَّغَارِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : أَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ كِتَابِيًّا مِنْ الْعَرَبِ خَاصَّةً فَالْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ . وَأَمَّا الْأَعَاجِمُ فَالْكِتَابِيُّ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ , وَيُقَرُّ جَمِيعَهُمْ عَلَى الْجِزْيَةِ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذَا بَاطِلٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } , وَقَالَ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فَلَمْ يَخُصَّ تَعَالَى عَرَبِيًّا مِنْ عَجَمِيٍّ فِي كِلَا الْحُكْمَيْنِ . وَصَحَّ أَنَّهُ عليه السلام أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجْرٍ ; فَصَحَّ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا خَالَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابَ رَبِّهِ تَعَالَى . فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ : { إنَّمَا أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ ثُمَّ تُؤَدِّي إلَيْهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ } فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا ; لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ الْعَرَبِ يُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ , وَأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْعَجَمِ لَا يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ . فَصَحَّ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ , وَأَنَّهُ عليه السلام إنَّمَا عَنَى بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ بَعْضَ الْعَجَمِ لَا كُلَّهُمْ , وَبَيَّنَ تَعَالَى مَنْ هُمْ , وَأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقَطْ . وَالْعَجَبُ كُلُّهُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَلَمْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ مُبَيِّنًا لِقَوْلِهِ عليه السلام : { تُؤَدِّي إلَيْكُمْ الْجِزْيَةَ } وَلَوْ قَلَبُوا لَأَصَابُوا وَهَذَا تَحَكُّمٌ بِالْبَاطِلِ . وَقَالُوا : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ؟ فَقُلْنَا : أَنْتُمْ أَوَّلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْعَرَبَ الْوَثَنِيِّينَ يُكْرَهُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ , وَإِنَّ الْمُرْتَدَّ يُكْرَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ . وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكْرَهَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ عَلَى الْإِسْلَامِ , فَصَحَّ أَنَّ [ هَذِهِ ] الْآيَةَ لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا وَإِنَّمَا هِيَ فِيمَنْ نَهَانَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نُكْرِهَهُ , وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ خَاصَّةً - وَقَوْلُنَا هَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .
===============
959 - مَسْأَلَةٌ : وَالصَّغَارُ هُوَ أَنْ يَجْرِيَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ , وَأَنْ لَا يُظْهِرُوا شَيْئًا مِنْ كُفْرِهِمْ , وَلَا مِمَّا يُحَرَّمُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وَبَنُو تَغْلِبَ وَغَيْرُهُمْ سَوَاءٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُفَرِّقَا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ , وَيَجْمَعُ الصَّغَارَ شُرُوطُ عُمَرَ رضي الله عنه عَلَيْهِمْ . نَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ نَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ النَّحَّاسِ نَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ أَبِي إسْحَاقَ الصَّفَّارُ نَا أَبُو الْفَضْلِ الرَّبِيعُ بْنُ تَغْلِبَ نَا يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي الْعَيْزَارِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ : كَتَبْت لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه حِينَ صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ فِيهِ : أَنْ لَا يُحْدِثُوا فِي مَدِينَتِهِمْ وَلَا مَا حَوْلَهَا دَيْرًا , وَلَا كَنِيسَةً , وَلَا قَلِيَّةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ , وَلَا يُجَدِّدُوا مَا خَرِبَ مِنْهَا , وَلَا يَمْنَعُوا كَنَائِسَهُمْ أَنْ يَنْزِلَهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَ لَيَالٍ يُطْعِمُونَهُمْ , وَلَا يُؤْوُوا جَاسُوسًا , وَلَا يَكْتُمُوا غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ , وَلَا يُعَلِّمُوا أَوْلَادَهُمْ الْقُرْآنَ , وَلَا يُظْهِرُوا شِرْكًا , وَلَا يَمْنَعُوا ذَوِي قَرَابَاتِهِمْ مِنْ الْإِسْلَامِ إنْ أَرَادُوهُ , وَأَنْ يُوَقِّرُوا الْمُسْلِمِينَ , وَيَقُومُوا لَهُمْ مِنْ مَجَالِسِهِمْ إذَا أَرَادُوا الْجُلُوسَ , وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ : فِي قَلَنْسُوَةٍ , وَلَا عِمَامَةٍ , وَلَا نَعْلَيْنِ , وَلَا فَرْقِ شَعْرٍ , وَلَا يَتَكَلَّمُوا بِكَلَامِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا يَتَكَنَّوْا بِكُنَاهُمْ , لَا يَرْكَبُوا سُرُجًا , وَلَا يَتَقَلَّدُوا سَيْفًا , وَلَا يَتَّخِذُوا(1/40)
شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ , وَلَا يَنْقُشُوا خَوَاتِيمَهُمْ بِالْعَرَبِيَّةِ , وَلَا يَبِيعُوا الْخُمُورَ , وَأَنْ يَجُزُّوا مَقَادِمَ رُءُوسِهِمْ , وَأَنْ يَلْزَمُوا زِيَّهُمْ حَيْثُمَا كَانُوا , وَأَنْ يَشُدُّوا الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ , وَلَا يُظْهِرُوا صَلِيبًا وَلَا شَيْئًا مِنْ كُتُبِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا يُجَاوِرُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَاهُمْ , وَلَا يَضْرِبُوا نَاقُوسًا إلَّا ضَرْبًا خَفِيفًا , وَلَا يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ حَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُخْرِجُوا سَعَانِينَ وَلَا يَرْفَعُوا مَعَ مَوْتَاهُمْ أَصْوَاتَهُمْ , وَلَا يُظْهِرُوا النِّيرَانَ مَعَهُمْ , وَلَا يَشْتَرُوا مِنْ الرَّقِيقِ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ خَالَفُوا شَيْئًا مِمَّا شَرَطُوهُ فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ , وَقَدْ حَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مَا يَحِلُّ مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ . وَعَنْ عُمَرَ أَيْضًا : أَنْ لَا يُجَاوِرُونَا بِخِنْزِيرٍ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَمِنْ الصَّغَارِ أَنْ لَا يُؤْذُوا مُسْلِمًا , وَلَا يَسْتَخْدِمُوهُ , وَلَا يَتَوَلَّى أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ السُّلْطَانِ يَجْرِي لَهُمْ فِيهِ أَمْرٌ عَلَى مُسْلِمٍ الحجر على الحر(1/41)
وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الْعُذْرِيُّ نا أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْوَيْهِ السَّرَخْسِيُّ نا إبْرَاهِيمُ بْنُ خُزَيْمٍ نا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ نا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ شَيْئًا - وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم , وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ , وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُحْجَرُ عَلَى حُرٍّ لَا لِتَبْذِيرٍ , وَلَا لِدَيْنٍ , وَلَا لِتَفْلِيسٍ , وَلَا لِغَيْرِهِ , وَلَا يَرَى حَجْرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ لَازِمًا - وَيَرَى تَصَرُّفَهُ فِي مَالِهِ وَإِقْرَارَهُ بَعْدَ حَجْرِ الْقَاضِي عَلَيْهِ لَازِمًا [ وَيَرَى تَصَرُّفَهُ فِي مَالِهِ وَإِقْرَارَهُ بَعْدَ حَجْرِ الْقَاضِي ] وَقَبْلَهُ سَوَاءٌ , كُلُّ ذَلِكَ نَافِذٌ إلَّا أَنَّهُ زَادَ فَقَالَ : مَنْ بَلَغَ وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ إلَّا أَنَّهُ إنْ بَاعَ شَيْئًا - كَثُرَ أَوْ قَلَّ - نَفَذَ بَيْعُهُ , وَإِنْ أَقَرَّ فِيهِ - كَثُرَ أَوْ قَلَّ - نَفَذَ إقْرَارُهُ , حَتَّى إذَا تَمَّتْ لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً دُفِعَ إلَيْهِ مَالُهُ - وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ - : وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ - : أَوَّلُ ذَلِكَ : أَنَّهُ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهَا قَبْلَهُ . وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ ; لِأَنَّهُ إذَا جَازَ بَيْعُهُ وَإِقْرَارُهُ فَأَيُّ مَعْنًى لِلْمَنْعِ لَهُ مِنْ مَالِهِ - هَذَا تَخْلِيطٌ لَا نَظِيرَ لَهُ . ثُمَّ تَحْدِيدُهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْ إحْدَى عَجَائِبِ الدُّنْيَا , وَمَا نَدْرِي بِأَيِّ وَجْهٍ يَسْتَحِلُّ فِي الدِّينِ مَنْعَ مَالٍ وَإِطْلَاقِهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآرَاءِ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ؟ وَأَعْجَبُ شَيْءٍ احْتِجَاجُ بَعْضِ مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَقْلِيدِهِ إيَّاهُ فَقَالَ : يُولَدُ لِلْمَرْءِ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ عَامًا وَنِصْفٍ فَيَصِيرُ أَبًا , ثُمَّ يُولَدُ لِابْنِهِ كَذَلِكَ فَيَصِيرُ جَدًّا , وَلَيْسَ بَعْدَ الْجَدِّ مَنْزِلَةٌ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا كَلَامٌ أَحْمَقُ بَارِدٌ - وَيُقَالُ لَهُ : هَبْك أَنَّهُ كَمَا تَقُولُ فَكَانَ مَاذَا ؟ وَمَتَى فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ مَنْ يَكُونُ جَدًّا وَبَيْنَ مَنْ يَكُونُ أَبًا فِي أَحْكَامِ مَالِهِمَا , وَفِي أَيِّ عَقْلٍ وُجِدَ تَمَّ هَذَا ؟ وَأَيْضًا : فَقَدْ يُولَدُ لَهُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ عَامًا , وَلِابْنِهِ كَذَلِكَ , فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ عَامًا . وَأَيْضًا : فَبَعْدَ الْجَدِّ أَبُو جَدٍّ , فَبَلَّغُوهُ هَكَذَا إلَى سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً , أَوْ إلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } فَظَهَرَ فَسَادُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ جُمْلَةً - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى الْحَجْرِ فَقَالَ مَالِكٌ : مَنْ كَانَ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ وَلَا يُحْسِنُ ضَبْطَ مَالِهِ : حُجِرَ عَلَيْهِ , فَلَمْ يَنْفُذْ لَهُ عِتْقٌ , وَلَا صَدَقَةٌ , وَلَا بَيْعٌ , وَلَا هِبَةٌ , وَلَا نِكَاحٌ , وَلَا يَكُونُ وَلِيًّا لِابْنَتِهِ فِي النِّكَاحِ وَكُلُّ مَا أَخَذَهُ قَرْضًا لَمْ يَلْزَمْهُ أَدَاؤُهُ وَلَا قُضِيَ عَلَيْهِ بِهِ - وَإِنْ رَشَدَ بَعْدَ ذَلِكَ . وَقَالَ : مَا فَعَلَ قَبْلَ أَنْ يَحْجُرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ فَفِعْلُهُ نَافِذٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ إلَى أَنْ يَحْجُرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ - وَأَجَازَ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَدْفَعَ نَفَقَةَ شَهْرٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ . قَالَ : فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ الرُّشْدُ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ نَافِذَ الْأَمْرِ حَتَّى يَفُكَّ الْقَاضِي عَنْهُ الْحَجْرَ , وَأَجَازَ لِمَنْ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ إعْطَاءَ كُلِّ مَا يَمْلِكُ فِي ضَرْبَةٍ وَفِي مَرَّاتٍ وَأَنْفَذَهُ عَلَيْهِ - وَهَذَا خَطَأٌ ظَاهِرٌ وَتَنَاقُضٌ شَدِيدٌ فِي وُجُوهٍ جَمَّةٍ - : أَحَدُهَا وَأَعْظَمُهَا - إبْطَالُهُ أَعْمَالَ الْبِرِّ الَّتِي نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهَا وَجَعَلَهَا مُنْقِذَاتٍ مِنْ النِّيرَانِ : كَالْعِتْقِ , وَالصَّدَقَةِ , وَإِبْطَالُهُ الْبَيْعَ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهَذَا صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى , وَتَعَاوُنٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ , لَا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى بِغَيْرِ بُرْهَانٍ , لَا مِنْ قُرْآنٍ , وَلَا سُنَّةٍ . وَثَانِيهَا - إبْطَالُهُ الْوَلَايَةَ لِمَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلِيًّا لَهَا فِي الْإِنْكَاحِ - فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ فِي حُكْمِ الصَّغِيرِ , وَالْمَجْنُونِ , اللَّذَيْنِ هُمَا غَيْرُ مُخَاطَبَيْنِ , وَلَا مُكَلَّفَيْنِ إنْقَاذَ أَنْفُسِهِمَا مِنْ النَّارِ , وَلَا وَلَايَةَ لَهُمَا , فَلْيُسْقِطُوا عَنْهُ الصَّلَاةَ , وَالصَّوْمَ , وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ مُكَلَّفًا مُخَاطَبًا مَأْمُورًا مَنْهِيًّا مَنْدُوبًا مَوْعُودًا مُتَوَعَّدًا : فَمَا بَالُهُمْ يَحُولُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا نَدَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ , وَجَعَلَهُ فِي يَدَيْهِ مِنْ الْوَلَايَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَنْكِحُوا(1/42)
الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } وَمَا الَّذِي أَسْقَطَ عَنْهُ هَذَا الْخِطَابَ وَأَوْقَعَ عَلَيْهِ الْخِطَابُ الصَّلَاةَ , وَالصَّوْمَ , وَالتَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ , وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ ؟ وَمَا نَدْرِي مَا هَذَا ؟ فَإِنْ قَالُوا : لَوْ عَلِمْنَا أَنَّهُ يَقْصِدُ بِذَلِكَ اللَّهَ تَعَالَى , لَمْ نَمْنَعْهُ . قُلْنَا لَهُمْ : مَا عِلْمُكُمْ بِهَذَا مِنْهُ , وَلَا جَهْلُكُمْ بِهِ مِنْهُ , إلَّا كَعِلْمِكُمْ بِهِ وَجَهْلِكُمْ مِنْ غَيْرِهِ , مِمَّنْ تُطْلِقُونَهُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ وَتُنَفِّذُونَهُ مِنْهُ , وَلَعَلَّهُ أَبْعَدُ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى , وَأَقَلُّ اهْتِبَالًا بِالدِّينِ , وَأَطْغَى مِنْ هَذَا الَّذِي حُلْتُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُقِرُّ بِهِ مِنْ رَبِّهِ تَعَالَى بِالظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ . وَثَالِثُهَا - إبْطَالُهُمْ أَمْوَالَ النَّاسِ الَّتِي يَأْخُذُهَا بِالْبَيْعِ أَوْ الْقَرْضِ اللَّذَيْنِ أَبَاحَهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ - وَهَذِهِ عَظِيمَةٌ مِنْ الْعَظَائِمِ مَا نَدْرِي أَيْنَ وَجَدُوا هَذَا الْحُكْمَ ؟ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ , وَهَذَا إيكَالٌ لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ , وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا أَيْضًا وَإِذَا أَسْقَطُوا عَنْهُ حُقُوقَ النَّاسِ اللَّازِمَةَ لَهُ مِنْ أَثْمَانِ الْبَيْعِ وَرَدِّ الْقَرْضِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ , فَلْيُسْقِطُوا عَنْهُ قِصَاصَ الْجِنَايَاتِ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ وَدِمَائِهِمْ , وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضُوا أَقْبَحَ تَنَاقُضٍ - وَهَذَا هُوَ التَّعَاوُنُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ جِهَارًا . وَرَابِعُهَا - وَهُوَ أَفْحَشُهَا فِي التَّنَاقُضِ : إنْفَاذُهُ مَا فَعَلَ مِنْ التَّبْذِيرِ الْمُفْسِدِ حَقًّا , وَبُيُوعِ الْغَبْنِ قَبْلَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي , وَرَدِّهِ مَا فَعَلَ مِنْ الصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ بَعْدَ حَجْرِ الْقَاضِي عَلَيْهِ , فَكَانَ حُكْمُ الْقَاضِي أَنْفَذَ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى , وَلَا كَرَامَةَ لِوَجْهِ الْقَاضِي كَائِنًا مَنْ كَانَ , فَمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ حُكْمَ الْقَاضِي مُحَلِّلًا وَلَا مُحَرِّمًا , إنَّمَا الْقَاضِي مُنَفِّذٌ بِسُلْطَانِهِ عَلَى مَنْ امْتَنَعَ فَقَطْ - لَا خَصْلَةَ لَهُ غَيْرُهَا وَلَا مَعْنًى سِوَى هَذَا - وَإِلَّا فَلْيَأْتُونَا بِآيَةٍ , أَوْ سُنَّةٍ , بِخِلَافِ هَذَا , وَيَأْبَى اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ - وَهَذَا كُلُّهُ لَا نَدْرِي مِنْ أَيْنَ أَخَذُوهُ ؟ وَخَامِسُهَا - إبْطَالُهُ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ وَإِنْ كَانَتْ رُشْدًا مَا لَمْ يَفُكَّ الْقَاضِي عَنْهُ الْحَجْرَ - وَهَذِهِ كَالَّتِي قَبْلَهَا . وَسَادِسُهَا - إجَازَتُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْوَلِيُّ نَفَقَةَ شَهْرٍ يُطْلِقُ يَدَهُ عَلَيْهَا , فَلَيْتَ شَعْرِي مِنْ أَيْنَ خَرَجَ هَذَا التَّقْسِيمُ الْعَجِيبُ ؟ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ إطْلَاقِ يَدِهِ عَلَى نَفَقَةِ شَهْرٍ وَبَيْنَ إطْلَاقِهَا عَلَى نَفَقَةِ سَنَةٍ أَوْ نَفَقَةِ سَنَتَيْنِ ؟ فَإِنْ قَالُوا : نَفَقَةُ شَهْرٍ قَلِيلَةٌ ؟ قُلْنَا : قَدْ يَكُونُ مَالٌ تَكُونُ نَفَقَةُ شَهْرٍ فِيهِ كَثِيرًا وَيَكُونُ مَالٌ نَفَقَةُ عَشْرَةِ أَعْوَامٍ فِيهِ قَلِيلًا , وَلَا يَخْلُو دَفْعُ مَالِهِ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا , أَوْ حَرَامًا , فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَدَفْعُهُ كُلُّهُ إلَيْهِ وَاجِبٌ , وَإِنْ كَانَ حَرَامًا فَقَلِيلٌ الْحَرَامِ حَرَامٌ - وَهَذَا بِعَيْنِهِ أَنْكَرُوا عَلَى أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إبَاحَتِهِمْ قَلِيلَ الْمُسْكِرِ وَتَحْرِيمِهِمْ كَثِيرَهُ ؟ وَسَابِعُهَا - إنْفَاذُهُمْ أَفْعَالَ الْفُسَّاقِ الظَّلَمَةِ الْمُتَعَدِّينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِكُلِّ بَائِقَةٍ الْمُبْتَاعِينَ لِلْخُمُورِ الْمُنْهَمِكِينَ فِي أَجْرِ الْفِسْقِ إذَا كَانُوا جَمَّاعِينَ لِلْمَالِ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَ بِالظُّلْمِ وَغَيْرِهِ , فَيُجِيزُونَ بَيْعَهُمْ وَشِرَاءَهُمْ وَهِبَاتِهِمْ - وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَغْلَبِ وَالْأَظْهَرِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى - وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى كُلِّ مَا يَمْلِكُونَهُ وَبَقَوْا بَعْدَهُ فُقَرَاءَ مُتَكَفِّفِينَ - : فَأَنْفَذُوا مِنْهُ التَّبْذِيرَ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى , وَالْبَسْطَ الَّذِي يَقْعُدُ عَلَيْهِ بَعْدَهُ مَلُومًا مَحْسُورًا , وَرَدَّهُمْ الْعِتْقَ , وَالصَّدَقَةَ بِدِرْهَمٍ , وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ عَظِيمٍ مِمَّنْ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ وَيَصِفُونَهُ بِأَنَّهُ لَا يُحْسِنُ ضَبْطَ مَالِهِ - فَأَيُّ تَنَاقُضٍ أَفْحَشُ مِمَّنْ يُجْعَلُ أَصْلُهُ بِزَعْمِهِ ضَبْطَ الْمَالِ وَحِفْظَهُ ؟ ثُمَّ يُجِيزُونَ مِنْ وَاحِدٍ إعْطَاءَ مَالِهِ كُلِّهِ حَتَّى يَبْقَى هُوَ وَعِيَالُهُ جَاعَةً وَيُنْفِذُونَهُ عَلَيْهِ , وَيَمْنَعُونَ آخَرَ مِنْ عِتْقِ : عَبْدٍ , وَصَدَقَةٍ بِدِرْهَمٍ , وَابْتِيَاعِ فَاكِهَةٍ يَأْكُلُهَا , وَوَرَاءَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَقُومُ بِأَمْثَالِهِ وَأَمْثَالِ عِيَالِهِ , ثُمَّ يَجْعَلُونَ أَصْلَهُ بِزَعْمِهِمْ دَفْعَ الْخَدِيعَةِ لَهُ عَنْ مَالِهِ . وَهُمْ يُجِيزُونَ الْخَدِيعَةَ الْمَكْشُوفَةَ فِي الْمَالِ الْعَظِيمِ لِغَيْرِهِ - فَمَا هَذَا الْبَلَاءُ , وَمَا هَذَا التَّخَاذُلُ , وَكَمْ هَذَا التَّنَاقُضُ ؟ وَالْحُكْمُ فِي الدِّينِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِلَا قُرْآنٍ ,(1/43)
وَلَا سُنَّةٍ , وَلَا قَوْلِ صَاحِبٍ , وَلَا قِيَاسٍ , وَلَا رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ يُعْقَلُ - وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْبَلَاءِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِمِثْلِ هَذَا كُلِّهِ , إلَّا أَنَّهُ قَالَ : إنْ كَانَ مُفْسِدًا فَجَمِيعُ أَفْعَالِهِ مَرْدُودَةٌ - حَجَرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَوْ لَمْ يَحْجُرْ , وَإِذَا رَشَدَ فَجَمِيعُ أَفْعَالِهِ نَافِذَةٌ - حَلَّ عَنْهُ الْقَاضِي الْحَجْرَ أَوْ لَمْ يَحِلَّ - وَكُلُّ مَا أَدْخَلْنَا عَلَى مَالِكٍ يَدْخُلُ عَلَيْهِ , حَاشَا مَا يَدْخُلُ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَقَطْ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَالْحَقُّ الْوَاضِحُ هُوَ مَا قُلْنَاهُ , وَهُوَ أَنَّ كُلَّ بَالِغٍ مُخَاطَبٌ مُكَلَّفٌ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ , فَحُكْمُهُمْ , كُلُّهُمْ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُمْ مَنْدُوبُونَ إلَى الصَّدَقَةِ , وَالْعِتْقِ , مُبَاحٌ لَهُمْ الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ وَالشِّرَاءُ , مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ إتْلَافُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ , وَإِضَاعَتُهُ وَالْخَدِيعَةُ عَنْهُ وَالصَّدَقَةُ بِمَا لَا يُبْقِي لَهُمْ غِنًى كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ } . وَكَمَا قَالَ عليه السلام : { الدِّينُ النَّصِيحَةُ ؟ قِيلَ لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } . وَكَمَا قَالَ عليه السلام : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّنَا } . وَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } وَكُلُّ مَنْ تَصَدَّقَ وَأَعْتَقَ , وَفَعَلَ الْخَيْرَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى - : نَفَذَ , وَلَمْ يَحِلَّ رَدُّهُ وَكُلُّ مَنْ أَعْتَقَ وَتَصَدَّقَ عَنْ غَيْرِ ظَهْرِ غِنًى - : رَدَّ وَبَطَلَ ; لِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ إلَّا مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ , وَلَا مَعْصِيَةَ إلَّا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ , فَالصَّدَقَةُ بِمَا لَا يُبْقِي غِنًى مَعْصِيَةٌ , وَالصَّدَقَةُ بِمَا يُبْقِي غِنًى طَاعَةٌ . وَكُلُّ مَنْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى فَخُدِعَ أَوْ خَدَعَ - : فَمَرْدُودٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَدِيعَةَ وَالْغِشَّ , وَكُلُّ مَنْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى فَلَمْ يَغْبِنْ وَلَا غَشَّ فَنَافِذٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْبَيْعَ . وَكُلُّ مَنْ أَنْفَقَ فِي مَعْصِيَةٍ فَلْسًا فَمَا فَوْقَهُ - فَمَرْدُودٌ . وَكُلُّ مَنْ أَنْفَقَ كَمَا أُمِرَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ - : فَنَافِذٌ لَازِمٌ , وَمَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ إبْطَالَ حَقٍّ وَلَا الْمَنْعَ مِنْ الطَّاعَةِ مِنْ أَجْلِ مَعْصِيَةٍ عَصَاهَا ذَلِكَ الْمَمْنُوعُ , أَوْ خِيفَ أَنْ يَعْصِيَهَا وَلَمْ يَعْصِ بَعْدُ كَمَا لَمْ يُبِحْ أَنْ تَنْفُذَ مَعْصِيَةٌ , وَأَنْ يَمْضِيَ بَاطِلٌ مِنْ أَجْلِ بَاطِلٍ عَمِلَ بِهِ ذَلِكَ الْمُخِلُّ وَمَعْصِيَتِهِ , بَلْ الْبَاطِلُ مُبْطَلٌ قَلَّ وُجُودُهُ مِنْ الْمَرْءِ أَوْ كَثُرَ , وَالْحَقُّ نَافِذٌ قَلَّ وُجُودُهُ مِنْ الْمَرْءِ أَوْ كَثُرَ - . هَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَنُ وَشَهِدَتْ لَهُ الْعُقُولُ , وَمَا عَدَا هَذَا فَبَاطِلٌ لَا خَفَاءَ بِهِ , وَتَنَاقُضٌ لَا يَحِلُّ , وَقَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ , وَالسُّنَنِ , وَالْعُقُولِ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : إنْ أَعْتَقَ الْمَحْجُورُ نَفَذَ عِتْقُهُ , وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى لَهُ فِي قِيمَتِهِ - فَكَانَتْ هَذِهِ طَرِيفَةً جِدًّا وَلَا نَدْرِي مِنْ أَيْنَ اسْتَحَلَّ إلْزَامَ الْعَبْدِ السَّعْيَ هَهُنَا فِي هَذِهِ الْغَرَامَةِ ؟ وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ , وَأَصْحَابُنَا : مَنْ بَلَغَ مُبَذِّرًا فَهُوَ عَلَى الْحَجْرِ كَمَا كَانَ ; لِأَنَّهُ مَجُورٌ عَلَيْهِ بِيَقِينٍ فَلَا يُفَكُّ عَنْهُ إلَّا بِيَقِينٍ آخَرَ . قَالُوا : فَإِنْ رَشَدَ ثُمَّ ظَهَرَ تَبْذِيرُهُ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ , لَكِنْ يَنْفُذُ مِنْ أَفْعَالِهِ مَا وَافَقَ الْحَقَّ وَيُرَدُّ مِمَّا خَالَفَ الْحَقَّ كَغَيْرِهِ سَوَاءٌ . قَالَ عَلِيٌّ : أَمَّا قَوْلُهُمْ : قَدْ لَزِمَهُ الْحَجْرُ بِيَقِينٍ , فَلَا يَنْحَلُّ عَنْهُ إلَّا بِيَقِينٍ آخَرَ - : فَقَوْلٌ صَحِيحٌ , وَالْيَقِينُ قَدْ وَرَدَ , وَهُوَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِالصَّدَقَةِ , وَأَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ بِالْعِتْقِ , بِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْبَيْعِ إذَا بَلَغَ , وَعَلَى النِّكَاحِ إذَا كَانَ مُخَاطَبًا بِسَائِرِ الشَّرَائِعِ وَلَا فَرْقَ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُونَ بِأَشْيَاءَ يَجِبُ إيرَادُهَا , وَبَيَانُ فَاسِدِ احْتِجَاجِهِمْ بِهَا , وَوَضْعِهِمْ النُّصُوصَ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا , وَبَيَانُ ذَلِكَ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : قَالُوا : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } قَالُوا : فَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ نَدْفَعَ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ مَعَ إينَاسِ(1/44)
الرُّشْدِ مِنْهُمْ , لَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا } فَنَهَى عَزَّ وَجَلَّ عَنْ إيتَاءِ السُّفَهَاءِ الْمَالَ , وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ إلَّا أَنْ يُرْزَقُوا مِنْهَا فِي الْأَكْلِ وَيُكْسَوْا , وَيُقَالَ لَهُمْ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ . وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } فَأَوْجَبَ الْوَلَايَةَ عَلَى السَّفِيهِ , وَالضَّعِيفِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى السَّرَفَ , وَالتَّقْتِيرَ , وَالتَّبْذِيرَ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } هَذَا كُلُّ مَا ذَكَرُوا مِنْ الْقُرْآنِ , وَكُلُّهُ حُجَّةٌ لَنَا عَلَيْهِمْ , وَمُخَالِفٌ لِأَقْوَالِهِمْ - عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - مَا نَعْلَمُ مِنْ الْقُرْآنِ حُجَّةً غَيْرَ هَذَا أَصْلًا . وَذَكَرُوا مِنْ السُّنَّةِ الْخَبَرَ الصَّحِيحَ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ } . وَذَكَرُوا خَبَرًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ نا عَمْرُو بْنُ هَارُونَ عَنْ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَبِيبَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَتَزَوَّجَ فَزَنَى فَالْإِثْمُ بَيْنَهُمَا } . مَا نَعْلَمُ لَهُمْ خَبَرًا غَيْرَ هَذَيْنِ , وَكِلَاهُمَا حُجَّةٌ لَنَا عَلَيْهِمْ , وَمُخَالِفٌ لِأَقْوَالِهِمْ عَلَى مَا نُبَيِّنُ [ بَعْدَ هَذَا ] إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَذَكَرُوا عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مَا رُوِّينَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَتَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَقَالَ لَهُ : إنَّ ابْنَ جَعْفَرٍ اشْتَرَى بَيْعًا كَذَا وَكَذَا فَاحْجُرْ عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ الزُّبَيْرُ : أَنَا شَرِيكُهُ فِي الْبَيْعِ ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ : كَيْفَ أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ فِي بَيْعٍ شَرِيكُهُ فِيهِ الزُّبَيْرُ ؟ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ حَدَّثَنِي عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ : قَالَ عُثْمَانُ لِعَلِيٍّ : أَلَا تَأْخُذُ عَلَى يَدَيْ ابْنِ أَخِيك - يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ - وَتَحْجُرُ عَلَيْهِ ؟ اشْتَرَى سَبْخَةً بِسِتِّينَ أَلْفًا مَا يَسُرُّنِي أَنَّهَا لِي بِنَعْلِي . وَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ الطُّفَيْلِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ : بَلَغَ ابْنَ الزُّبَيْرِ : أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَادَتْ بَيْعَ رُبَاعِهَا : فَقَالَ : لَتَنْتَهِيَنَّ , أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا ؟ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ نا سَعِيدُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ إذَا نَشَأَ مِنَّا نَاشِئٌ حَجَرَ عَلَيْهِ . وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الطَّائِفِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ يُنْكَرُ عَقْلُهُ أَيُحْجَرُ عَلَيْهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . وَمِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ كَتَبَ إلَى نَجْدَةَ بْنِ عُوَيْمِرٌ وَكَتَبْت تَسْأَلُنِي عَنْ الْيَتِيمِ مَتَى يَنْقَضِي يُتْمُهُ ؟ فَلَعَمْرِي , إنَّ الرَّجُلَ لَتَنْبُتُ لِحْيَتُهُ , وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الْأَخْذِ لِنَفْسِهِ , ضَعِيفُ الْعَطَاءِ مِنْهَا , وَإِذَا أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَصَالِحِ مَا يَأْخُذُ النَّاسُ فَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُ الْيُتْمُ , وَإِنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ الْيَتِيمِ الْيُتْمُ حَتَّى يَبْلُغَ وَيُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدٌ , وَإِذَا بَلَغَ النِّكَاحَ وَأُونِسَ مِنْهُ رُشْدٌ : دُفِعَ إلَيْهِ مَالُهُ , فَقَدْ انْقَضَى عَنْهُ يُتْمُهُ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : جَمَعْنَا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ كُلَّهَا ; لِأَنَّهَا مِمَّا رُوِّينَاهُ مِنْ طُرُقٍ كُلِّهَا رَاجِعٌ إلَى يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , فَاقْتَصَرْنَا عَلَى ذِكْرِ مَنْ رُوِيَ جَمِيعُهَا عَنْهُ فَقَطْ , وَكُلُّهَا صَحِيحُ السَّنَدِ . وَمِنْ طَرِيقٍ فِيهَا شَرِيكٌ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا } قَالَ : الْيَتِيمُ يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ(1/45)
بِحُلُمٍ وَعَقْلٍ وَوَقَارٍ - مَا نَعْلَمُ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم شَيْئًا غَيْرَ هَذَا , وَكُلُّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ , وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ , وَأَكْثَرُهُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِنَا . وَعَنْ التَّابِعِينَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } قَالَ : صَلَاحٌ فِي دِينِهِ وَحِفْظٌ لِمَالِهِ . وَعَنْ الشَّعْبِيِّ : إنْ كَانَ الرَّجُلُ لِيَشْمُطُ وَمَا أُونِسَ مِنْهُ رُشْدٌ . وَرُوِّينَا مِثْلَ قَوْلِهِمْ عَنْ شُرَيْحٍ , وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ , وَرَبِيعَةَ , وَعَطَاءٍ . وَرُوِّينَا عَنْ الضَّحَّاكِ : أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالٌ حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ صَلَاحٌ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ , عَنْ شُرَيْحٍ , وَلَا عَنْ الْقَاسِمِ مَنْعُهُ مِنْ عِتْقٍ , وَصَدَقَةٍ , وَبَيْعٍ , لَا يَضُرُّ مَالَهُ , إنَّمَا جَاءَ ذَلِكَ عَنْ رَبِيعَةَ , وَعَطَاءٍ فَقَطْ . قَالَ عَلِيٌّ : مَا نَعْلَمُ لَهُمْ عَنْ التَّابِعِينَ غَيْرَ هَذَا , وَبَعْضُهُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِنَا . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ مَا الرُّشْدُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ أُونِسَ مِنْهُ بِدَفْعِ مَالِهِ إلَيْهِ ؟ فَنَظَرْنَا فِي الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ الْمُبَيِّنُ لَنَا مَا أَلْزَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهُ , فَوَجَدْنَاهُ كُلَّهُ لَيْسَ الرُّشْدُ فِيهِ إلَّا الدِّينَ , وَخِلَافَ الْغَيِّ فَقَطْ , لَا الْمَعْرِفَةَ بِكَسْبِ الْمَالِ أَصْلًا , قَالَ تَعَالَى : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاَللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } وَقَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } . فَصَحَّ أَنَّ مَنْ بَلَغَ مُمَيِّزًا لِلْإِيمَانِ مِنْ الْكُفْرِ فَقَدْ أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ الَّذِي لَا رُشْدَ سِوَاهُ أَصْلًا , فَوَجَبَ دَفْعُ مَالِهِ إلَيْهِ , وَمَا يَشُكُّ مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا أَشَدَّ عِنَايَةً بِالْمَالِ , وَأَضْبَطَ لَهُ , وَأَكْثَرَ وَأَعْرَفَ بِوُجُوهِ جَمْعِهِ مِنْ مُوسَى عليه السلام , وَأَنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مَغْبُونًا فِي مَالِهِ . وَلَقَدْ أَتَى مُوسَى عليه السلام , وَالْخَضِرُ عليه السلام , إلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ فَاسْتَطْعَمَاهُمْ ؟ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا , فَبَاتَا لَيْلَتَهُمَا بِغَيْرِ قِرًى , وَمَا بَلَغَ فِرْعَوْنَ فِي مِلْكِهِ قَطُّ هَذَا الْمَبْلَغَ . وَكَذَلِكَ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْمُقَنْطِرَ مِنْ قُرَيْشٍ كَأَبِي لَهَبٍ , وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَابْنِ جُدْعَانَ : كَانُوا أَبْصَرَ وَأَسْرَعَ إلَى كَسْبِ الْمَالِ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَ مِنْ مُسَاعَاةِ الْإِمَاءِ , وَالرِّبَا , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ , وَعَمْرٌو النَّاقِدُ قَالَا جَمِيعًا : حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ : وَثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ هِشَامٌ : عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَ ثَابِتٌ : عَنْ أَنَسٍ , ثُمَّ اتَّفَقَ أَنَسٌ , وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَذَكَرَا حَدِيثَ تَلْقِيحِ النَّخْلِ , وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ } . فَصَحَّ أَنَّ الرُّشْدَ لَيْسَ هُوَ كَسْبَ الْمَالِ , وَلَا مَنْعَهُ مِنْ الْحُقُوقِ , وَوُجُوهِ الْبِرِّ , بَلْ هَذَا هُوَ السَّفَهُ , وَإِنَّمَا الرُّشْدُ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى , وَكَسْبُ الْمَالِ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي لَا تَثْلِمُ الدِّينَ , وَلَا تَخْلَقُ الْعِرْضَ , وَإِنْفَاقُهُ فِي الْوَاجِبَاتِ , وَفِيمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِلنَّجَاةِ مِنْ النَّارِ , وَإِبْقَاءُ مَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ , وَالْعِيَالِ , عَلَى التَّوَسُّطِ وَالْقَنَاعَةِ , فَهَذَا هُوَ الرُّشْدُ . وَقَالَ تَعَالَى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } وَهَكَذَا كُلُّ مَكَان فِي الْقُرْآنِ ذُكِرَ فِيهِ الرُّشْدُ . وَكَذَلِكَ لَمْ نَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ : أَنَّ الرُّشْدَ هُوَ الْكَيِّسُ فِي جَمْعِ الْمَالِ وَضَبْطِهِ , فَبَطَلَ تَأْوِيلُهُمْ فِي الرُّشْدِ بِالْآيَةِ , وَفِي دَفْعِ الْمَالِ بِإِينَاسِهِ . وَصَحَّ أَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِقَوْلِنَا , وَأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى يَقِينًا بِهَا : إنَّمَا هُوَ أَنَّ مَنْ بَلَغَ عَاقِلًا مُمَيِّزًا مُسْلِمًا وَجَبَ دَفْعُ مَالِهِ إلَيْهِ , وَجَازَ فِيهِ مِنْ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ مَا يَجُوزُ مِنْ فِعْلِ سَائِرِ النَّاسِ كُلِّهِمْ , وَيُرَدُّ مِنْ أَفْعَالِهِ مَا يُرَدُّ مِنْ أَفْعَالِ====(1/46)
سَائِرِ النَّاسِ كُلِّهِمْ , وَلَا فَرْقَ , وَأَنَّ مَنْ بَلَغَ غَيْرَ عَاقِلٍ , وَلَا مُمَيِّزٍ لِلدِّينِ , لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ مَالُهُ . وَلَوْ كَانَ الَّذِي قَالُوا فِي الرُّشْدِ , وَفِي السَّفَهِ قَوْلًا صَحِيحًا - وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ - لَكَانَ طَوَائِفُ مِنْ الْيَهُودِ , وَالنَّصَارَى , وَعُبَّادِ الْأَوْثَانِ ذَوِي رُشْدٍ , وَلَكَانَ طَوَائِفُ , مِنْ الْمُسْلِمِينَ سُفَهَاءَ , وَحَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ فِي الصَّرْفِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْعَقْدَ====(1/47)
- فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ مَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ هُوَ الَّذِي يُثْبِتُهُ . قَالَ عَلِيٌّ : وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ , وَلَا نُنْكِرُ هَذَا إذَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ فَقَدْ وَجَدْنَا النَّقْدَ وَتَرْكَ , الْأَجَلِ يُفْسِدُ السَّلَمَ عِنْدَهُمْ , وَيُصَحِّحُ الْبُيُوعَ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الرِّبَا حَتَّى لَا تَصِحَّ إلَّا بِهِ . فَكَيْفَ وَالْمَعْنَى فِيمَا رَامُوا الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَاحِدٌ ؟ وَهُوَ أَنَّ الْمُتَصَارِفَيْنِ لَمْ يَمْلِكَا شَيْئًا وَلَا تَبَايَعَا أَصْلًا قَبْلَ التَّقَابُضِ , وَكُلُّ مُتَبَايِعَيْنِ فَلَمْ يَتِمَّ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ أَصْلًا قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَوْ التَّخْيِيرِ - مُتَصَارِفَيْنِ كَانَا أَوْ غَيْرَ مُتَصَارِفَيْنِ - فَإِنْ تَفَرَّقَ كُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا بِأَبْدَانِهِمْ قَبْلَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْبَيْعُ , فَمَنْ كَانَ قَدْ عَقَدَ عَقْدًا أُبِيحَ لَهُ تَمَّ لَهُ بِالتَّفَرُّقِ , وَمَنْ كَانَ لَمْ يَعْقِدْ عَقْدًا أُبِيحَ لَهُ فَلَيْسَ هَهُنَا شَيْءٌ يَتِمُّ لَهُ بِالتَّفَرُّقِ . وَقَالُوا أَيْضًا : مُتَعَقِّبِينَ لِكَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَادِّينَ عَلَيْهِ : الْمُتَبَايِعَانِ إنَّمَا يَكُونَانِ مُتَبَايِعَيْنِ مَا دَامَا فِي حَالِ الْعَقْدِ لَا بَعْدَ ذَلِكَ , كَالْمُتَضَارَبِينَ وَالْمُتَقَاتَلِينَ فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَا مُتَبَايِعَيْنِ مُتَفَاسِخَيْنِ مَعًا ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ , وَلَا عِلْمَ , وَلَا دِينَ , وَلَا حَيَاءَ ; لِأَنَّهُ سَفْسَطَةٌ بَارِدَةٌ , وَنَعَمْ , فَإِنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَا يَكُونَانِ مُتَبَايِعَيْنِ إلَّا فِي حِينِ تَعَاقُدِهِمَا لَكِنَّ عَقْدَهُمَا بِذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالتَّفَرُّقِ أَوْ التَّخْيِيرِ بَعْدَ الْعَقْدِ , كَمَا أَمَرَ مَنْ لَا يُحَرِّمُ دَمَ أَحَدٍ إلَّا بِاتِّبَاعِهِ , أَوْ بِجِزْيَةٍ يَغْرَمُهَا - إنْ كَانَ كِتَابِيًّا - وَهُوَ صَاغِرٌ . وَمِنْ طَرِيفِ نَوَادِرِهِمْ احْتِجَاجُهُمْ فِي مُعَارَضَةِ هَذَا الْخَبَرِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ , وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ } . قَالُوا : فَالِاسْتِقَالَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ وَصِحَّةِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ . قَالَ عَلِيٌّ : قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ فَهَذَا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ وَلَسْنَا مِمَّنْ يَحْتَجُّ لِنَفْسِهِ بِمَا لَا يَصِحُّ , وَقَدْ أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ , وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مُوَافِقًا لِقَوْلِنَا , إلَّا فِي الْمَنْعِ مِنْ الْمُفَارَقَةِ خَوْفَ الِاسْتِقَالَةِ فَقَطْ فَلَسْنَا نَقُولُ بِهِ ; لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمَذْكُورَ لَا يَصِحُّ , وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِمَا فِيهِ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُفَارَقَةِ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ , وَلَيْسَتْ الِاسْتِقَالَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْخَبَرِ مَا ظَنَّ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ , وَإِنَّمَا هِيَ فَسْخُ النَّادِمِ مِنْهُمَا لِلْبَيْعِ - رَضِيَ الْآخَرُ أَمْ كَرِهَ - لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ اسْتَقَلْت مِنْ عِلَّتِي , وَاسْتَقَلْت مَا فَاتَ عَنِّي : إذَا اسْتَدْرَكَهُ . وَالْبُرْهَانُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا هَذَا وَعَلَى فَسَادِ تَأْوِيلِهِمْ وَكَذِبِهِ هُوَ أَنَّ الْمُفَارَقَةَ بِالْأَبْدَانِ لَا تَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِقَالَةِ الَّتِي حَمَلُوا الْخَبَرَ عَلَيْهَا , بَلْ هِيَ مُمْكِنَةٌ أَبَدًا , وَلَوْ بَعْدَ عَشْرَاتِ أَعْوَامٍ , فَكَانَ الْخَبَرُ عَلَى هَذَا لَا مَعْنَى لَهُ وَلَا حَقِيقَةَ , وَلَا فَائِدَةَ . فَصَحَّ أَنَّهَا الِاسْتِقَالَةُ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْهَا الْمُفَارَقَةُ بِلَا شَكٍّ , وَهِيَ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ الْمُوجِبُ لِلْبَيْعِ , الْمَانِعُ مِنْ فَسْخِهِ وَلَا بُدَّ , وَلَا يُمْكِنُ غَيْرُ هَذَا , وَلَا يَحْتَمِلُ لَفْظُ الْخَبَرِ مَعْنًى سِوَاهُ أَلْبَتَّةَ . فَصَارَ هَذَا الْخَبَرُ ثِقْلًا عَلَيْهِمْ عَلَى ثِقْلٍ , لِأَنَّهُمْ صَحَّحُوهُ وَخَالَفُوا مَا فِيهِ , وَأَبَاحُوا لَهُ مُفَارَقَتَهُ - خَشِيَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ أَوْ لَمْ يَخْشَ . قَالَ عَلِيٌّ : هَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ وَكُلُّهُ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ وَمُبْدِي تَخَاذُلَ عِلْمِهِمْ وَقِلَّةَ فَهْمِهِمْ وَنَحْنُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - نَذْكُرُ مَا هُوَ أَقْوَى شُبْهَةً لَهُمْ , وَنُبَيِّنُ حَسْمَ التَّعَلُّقِ بِهِ لِمَنْ عَسَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ قَالَ : وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ نا عَمْرٌو { عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لِعُمَرَ فَكَانَ يَغْلِبُنِي فَيَتَقَدَّمُ أَمَامَ الْقَوْمِ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ : بِعْنِيهِ ؟ قَالَ : هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَالَ : بِعْنِيهِ ؟ فَبَاعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم====(1/48)
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ } قَالُوا فَهَذَا بَيْعٌ صَحِيحٌ لَا تَفَرُّقَ فِيهِ وَهِبَةٌ لِمَا ابْتَاعَ عليه السلام قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِلَا شَكٍّ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذَا خَبَرٌ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ - : أَوَّلُهَا - أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَفَرُّقٌ فِيهِ التَّخْيِيرُ بَعْدَ الْعَقْدِ , وَلَيْسَ السُّكُوتُ عَنْهُ بِمَانِعٍ مِنْ كَوْنِهِ ; لِأَنَّ صِحَّةَ الْبَيْعِ تَقْتَضِيه وَلَا بُدَّ - وَلَمْ يُذْكَرْ فِي هَذَا الْخَبَرِ ثَمَنٌ أَيْضًا , فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُجِيزُوا الْبَيْعَ بِغَيْرِ ذِكْرِ ثَمَنٍ أَصْلًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ ثَمَنٌ . فَإِنْ قَالُوا : لَا بُدَّ مِنْ الثَّمَنِ بِلَا شَكٍّ ; لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِهِ ؟ قُلْنَا : وَلَا بُدَّ مِنْ التَّفَرُّقِ أَوْ التَّخْيِيرِ ; لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَكُونُ بَيْعًا , وَلَا يَصِحُّ أَصْلًا إلَّا بِأَحَدِهِمَا , وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِهَذَا الْخَبَرِ فِي إسْقَاطِ حُكْمِ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ مِنْ التَّخْيِيرِ بَعْدَ الْعَقْدِ , وَبَيْنَ مَنْ احْتَجَّ بِهِ فِي الْبَيْعِ بِالْمُحَرَّمَاتِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ ثَمَنٌ أَصْلًا , وَهَذِهِ هِبَةٌ لِمَا اُبْتِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ بِخِلَافِ رَأْي الْحَنَفِيِّينَ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ , وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْإِشْهَادِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - أَنَّهُ حَتَّى لَوْ صَحَّ لَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْبَيْعِ تَخْيِيرٌ وَلَا إشْهَادٌ أَصْلًا وَهُوَ لَا يَصِحُّ أَبَدًا - فَمَنْ لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ بَعْدَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { كُلُّ بَيِّعَيْنِ لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا أَوْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ } ؟ وَبَعْدَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِشْهَادِ , وَمَنْ ادَّعَى عِلْمَ ذَلِكَ فَهُوَ كَذَّابٌ أَفِكٌ يَتَبَوَّأُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ لِكَذِبِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَإِنْ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ قَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ ؟ فَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ الْبَيْعَ حِينَئِذٍ كَانَ يَتِمُّ بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا وَلَا خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ , وَإِنَّ الْإِشْهَادَ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا وَإِنَّمَا وَجَبَ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا حِينَ الْأَمْرِ بِهِ لَا قَبْلَ ذَلِكَ , وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقْطَعُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُخَالِفُ أَمْرَ رَبِّهِ تَعَالَى , وَلَا يَفْعَلُ مَا نَهَى عَنْهُ أُمَّتَهُ , هَذَا مَا لَا شَكَّ فِيهِ عِنْدَنَا , وَمَنْ شَكَّ فِي هَذَا أَوْ أَجَازَ كَوْنَهُ فَهُوَ كَافِرٌ , نَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ . وَكَذَلِكَ نَقْطَعُ بِأَنَّهُ عليه السلام لَوْ نَسَخَ مَا أَمَرَنَا بِهِ لَبَيَّنَهُ حَتَّى لَا يَشُكَّ عَالِمٌ بِسُنَّتِهِ فِي أَنَّهُ قَدْ نَسَخَ مَا نَسَخَ وَأَثْبَتَ مَا أَثْبَتَ . وَلَوْ جَازَ غَيْرُ هَذَا - وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ - لَكَانَ دِينُ الْإِسْلَامِ فَاسِدًا لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِمَّا يَحِلُّ لَهُ مِمَّا أَوْجَبَ رَبُّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ حَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا , إنَّ هَذَا لَهُوَ الضَّلَالُ الْمُبِينُ الَّذِي يُكَذِّبُهُ اللَّهُ تَعَالَى إذْ يَقُولُ : { تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } وَ { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } . وَقَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ , وَالدِّينُ كُلُّهُ رُشْدٌ وَخِلَافُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ غَيٌّ , فَلَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ كُلَّ ذَلِكَ لَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى كَذِبًا , وَالرَّسُولُ عليه السلام لَمْ يُبَيِّنْ , وَلَمْ يُبَلِّغْ وَالدِّينُ ذَاهِبًا فَاسِدًا - وَهَذَا هُوَ الْكُفْرُ الْمَحْضُ مِمَّنْ أَجَازَ كَوْنَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثِ - أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الرَّاوِيَ مِنْ الصَّحَابَةِ أَعْلَمُ بِمَا رَوَى وَابْنُ عُمَرَ هُوَ رَاوِي هَذَا الْخَبَرِ , وَهُوَ الَّذِي كَانَ لَا يَرَى الْبَيْعَ يَتِمُّ إلَّا بِالتَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ , فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِمْ أَعْلَمُ بِمَا رُوِيَ . وَسَقَطَ عَلَى أَصْلِهِمْ هَذَا تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ جُمْلَةً - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ } , وَمِنْ الْغَرَرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا خِيَارٌ لَا يَدْرِيَانِ مَتَى يَنْقَطِعُ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا كَلَامٌ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ - : أَحَدُهَا - أَنَّ الْعَقْدَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ , أَوْ التَّخْيِيرِ : لَيْسَ بَيْعًا أَصْلًا لَا بَيْعَ غَرَرٍ وَلَا بَيْعَ سَلَامَةٍ , كَمَا قَالَ عليه السلام : { إنَّهُ لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا مَا كَانَا مَعًا } فَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي بَيْعِ الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي - أَنَّهُ لَيْسَ كَمَا قَالُوا : مِنْ أَنَّ لَهُمَا خِيَارًا لَا يَدْرِيَانِ مَتَى يَنْقَطِعُ , بَلْ أَيُّهُمَا شَاءَ قَطْعَهُ قَطَعَهُ فِي الْوَقْتِ , بِأَنْ يُخَيِّرَ صَاحِبَهُ فَإِمَّا يُمْضِيَهُ فَيَتِمُّ الْبَيْعُ وَيَنْقَطِعُ====(1/49)
الْخِيَارُ , وَإِمَّا يَفْسَخُهُ فَيَبْطُلُ حُكْمُ الْعَقْدِ وَتَمَادِيهِ , أَوْ بِأَنْ يَقُومَ فَيُفَارِقَ صَاحِبَهُ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ ابْنُ عُمَرَ فَظَهَرَ بِرَدِّ هَذَا الِاعْتِرَاضِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالرَّأْيِ السَّخِيفِ , وَالْعَقْلِ الْهَجِينِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ - أَنَّهُ لَا يَكُونُ غَرَرًا شَيْءٌ أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِمَا نَهَى عَنْهُ مَعًا حَاشَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ , وَإِنَّمَا الْغَرَرُ مَا أَجَازَهُ هَؤُلَاءِ بِآرَائِهِمْ الْفَاسِدَةِ مِنْ بَيْعِهِمْ اللَّبَنَ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْ فِي ضُرُوعِ الْغَنَمِ شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ . وَبَيْعِ الْجَزَرِ الْمُغَيَّبِ فِي الْأَرْضِ الَّذِي لَمْ يَرَهُ إنْسِيٌّ وَلَا عَرَفَ صِفَتَهُ , وَلَا أَهُوَ جَزَرٌ أَمْ هُوَ مَعْفُونٌ مُسَوَّسٌ لَا خَيْرَ فِيهِ ؟ وَبَيْعِ أَحَدِ ثَوْبَيْنِ لَا يَدْرِي أَيَّهُمَا هُوَ الْمُشْتَرَى . وَالْمَقَاثِي الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ , وَالْغَائِبِ الَّذِي لَمْ يُوصَفْ وَلَا عُرِفَ - فَهَذَا هُوَ الْغَرَرُ الْمُحَرَّمُ الْمَفْسُوخُ الْبَاطِلُ حَقًّا . فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عُتْبَةَ الْيَمَامِيِّ عَنْ أَبِي كَثِيرٍ السُّحَيْمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا مِنْ بَيْعِهِمَا أَوْ يَكُونُ بَيْعُهُمَا بِخِيَارٍ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِمْ لَوْ صَحَّ , وَالتَّفَرُّقُ مِنْ الْبَيْعِ لَا يَكُونُ إلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا : إمَّا بِتَفَرُّقِ الْأَبْدَانِ فَيَتِمُّ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ وَيَتَفَرَّقَانِ مِنْهُ حِينَئِذٍ , لَا قَبْلَ ذَلِكَ , وَإِمَّا أَنْ يَتَفَرَّقَا مِنْهُ بِفَسْخِهِ وَإِبْطَالِهِ - : لَا يُمْكِنُ غَيْرُ هَذَا ؟ فَكَيْفَ وَأَيُّوبُ بْنُ عُتْبَةَ ضَعِيفٌ لَا نَرْضَى الِاحْتِجَاجَ بِرِوَايَتِهِ أَصْلًا وَإِنْ كَانَتْ لَنَا . وَأَتَى بَعْضُهُمْ بِطَامَّةٍ تَدُلُّ عَلَى رِقَّةِ دِينِهِ وَضَعْفِ عَقْلِهِ , فَقَالَ : مَعْنَى مَا لَمْ يَفْتَرِقَا : إنَّمَا أَرَادَ مَا لَمْ يَتَّفِقَا , كَمَا يُقَالُ لِلْقَوْمِ : عَلَى مَاذَا افْتَرَقْتُمْ ؟ أَيْ عَلَى مَاذَا اتَّفَقْتُمْ - فَأَرَادَ عَلَى مَاذَا افْتَرَقْتُمَا عَنْ كَلَامِكُمَا . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ - : أَوَّلُهَا : أَنَّ هَذِهِ دَعْوَى كَاذِبَةً بِلَا دَلِيلٍ , وَمَنْ لَكُمْ بِصَرْفِ هَذَا اللَّفْظِ إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ؟ وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقُولَ : هَذَا هُوَ السَّفْسَطَةُ بِعَيْنِهِ , وَرَدُّ الْكَلَامِ إلَى ضِدِّهِ أَبَدًا , وَلَا يَصِحُّ مَعَ هَذَا حَقِيقَةً , وَلَا يَعْجِزُ أَحَدٌ عَنْ أَنْ يَقُولَ كَذَلِكَ فِي كُلِّ مَا جَاءَ عَنْ الْقُرْآنِ , وَالسُّنَنِ . وَهَذِهِ سَبِيلُ الرَّوَافِضِ , إذْ يَقُولُونَ : إنَّ الْجِبْتَ وَالطَّاغُوتَ إنَّمَا هُمَا إنْسَانَانِ بِعَيْنِهِمَا , وَأَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً إنَّمَا هِيَ فُلَانَةُ بِعَيْنِهَا . وَالثَّالِثِ : أَنْ نَقُولَ لَهُمْ : فَكَيْفَ , وَلَوْ جَازَ هَذَا التَّأْوِيلُ لَكَانَ مَا رَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعًا , أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ الْبَيْعُ وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ , فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ } مُكَذِّبًا لِهَذَا التَّأْوِيلِ الْكَاذِبِ الْمُدَّعَى بِلَا دَلِيلٍ , وَمُبَيِّنًا أَنَّ التَّفَرُّقَ الَّذِي بِهِ يَصِحُّ الْبَيْعُ لَا يَكُونُ أَلْبَتَّةَ عَلَى رَغْمِ أُنُوفِهِمْ , إلَّا بَعْدَ التَّبَايُعِ , كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا كَمَا ظَنَّ أَهْلُ الْجَهْلِ مِنْ أَنَّهُ فِي حَالِ التَّبَايُعِ وَمَعَ آخِرِ كَلَامِهِمَا . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ طَائِفَةً مِنْ الصَّحَابَةِ لَا يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ , وَهُمْ يُعَظِّمُونَ هَذَا - وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ إلَّا رِوَايَةً عَنْ إبْرَاهِيمَ , ثُمَّ جَاءَ بَعْضُهُمْ بِعَجَبٍ وَهُوَ أَنَّهُمْ زَادُوا فِي الْكَذِبِ , فَأَتَوْا بِرِوَايَةٍ رُوِّينَاهَا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ : أَنَّ عُمَرَ قَالَ : الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ - وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُمَرَ - وَعَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ : إنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ صَفْقَةٍ أَوْ خِيَارٍ , وَالْمُسْلِمُ عِنْدَ شَرْطِهِ . وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ : الْبَيْعُ عَنْ صَفْقَةٍ أَوْ خِيَارٍ , وَلِكُلِّ مُسْلِمٍ شَرْطُهُ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : مِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا , وَمِنْ الْبُرْهَانِ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ الْحَيَاءِ :====(1/50)
الِاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ فِي مُعَارَضَةِ السُّنَنِ , وَكُلُّهَا عَلَيْهِمْ لِوُجُوهٍ - : أَوَّلِهَا - أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا يَصِحُّ ; لِأَنَّهَا مُرْسَلَاتٌ , أَوْ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ - وَهُوَ مَالِكٌ - عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَمَا أَدْرَاك مَا شَيْخٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ ؟ لَيْتَ شِعْرِي أَبِهَذَا يَحْتَجُّونَ إذَا وَقَفُوا فِي عَرْصَةِ الْقَضَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ عِيَاذُك اللَّهُمَّ مِنْ التَّلَاعُبِ بِالدِّينِ . ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهَا مُتَعَلَّقٌ , لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إبْطَالُ مَا حَكَمَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنَّهُ { لَا بَيْعَ إلَّا بَعْدَ التَّفَرُّقِ أَوْ التَّخْيِيرِ } . وَكَلَامُ عُمَرَ هَذَا لَوْ سَمِعْنَاهُ مِنْ عُمَرَ لَمَا كَانَ خِلَافًا لِقَوْلِنَا ; لِأَنَّ الصَّفْقَةَ مَا صَحَّ مِنْ الْبَيْعِ بِالتَّفَرُّقِ , وَالْخِيَارَ مَا صَحَّ مِنْ الْبَيْعِ بِالتَّخْيِيرِ , كَمَا قَالَ عليه السلام , وَحَكَمَ أَنْ { لَا بَيْعَ بَيْنَ الْبَيِّعَيْنِ إلَّا بِأَنْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ } فَكَيْفَ , وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ مِثْلُ قَوْلِنَا نَصًّا ؟ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا قُتَيْبَةُ نا لَيْثٌ - هُوَ ابْنُ سَعْدٍ - عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ : أَقْبَلْت أَقُولُ : مَنْ يَصْطَرِفُ الدَّرَاهِمَ ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَرِنَا ذَهَبَك ؟ ثُمَّ جِئْنَا إذَا جَاءَ خَادِمُنَا نُعْطِيك وَرِقَك ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : كَلًّا وَاَللَّهِ لَتُعْطِيَنَّهُ وَرِقَهُ أَوْ لَتَرُدَّنَّ إلَيْهِ دِرْهَمَهُ . فَهَذَا عُمَرُ يُبِيحُ لَهُ رَدَّ الذَّهَبِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ وَتَرْكِ الصَّفْقَةِ . فَإِنْ قِيلَ : لَمْ يَكُنْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا ؟ قُلْنَا : هَذَا خَطَأٌ ; لِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ النَّصْرِيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ الْتَمَسَ , صَرْفًا بِمِائَةِ دِينَارٍ ؟ قَالَ : فَدَعَانِي طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَتَرَاوَضْنَا حَتَّى اصْطَرَفَ مِنِّي وَأَخَذَ ذَهَبَهُ فَقَلَّبَهَا فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ : حَتَّى يَأْتِيَنِي خَازِنِي مِنْ الْغَابَةِ وَعُمَرُ يَسْمَعُ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : وَاَللَّهِ لَا تُفَارِقُهُ حَتَّى تَأْخُذَهُ . فَهَذَا بَيَانُ أَنَّ الصَّرْفَ قَدْ كَانَ قَدْ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا - فَصَحَّ أَنَّ عُمَرَ وَبِحَضْرَتِهِ طَلْحَةُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ يَرَوْنَ فَسْخَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ . ثُمَّ لَوْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ مَا ادَّعَوْهُ مَا كَانَ فِي قَوْلِهِ حُجَّةٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَلَيْهِ , وَكَمْ قِصَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ وَمَعَهُ السُّنَّةُ أَوْ لَيْسَ مَعَهُ ؟ أَوَّلُ ذَلِكَ هَذَا الْخَبَرُ نَفْسُهُ , فَإِنَّهُمْ رَوَوْا عَنْ عُمَرَ كَمَا تَرَى " وَالْمُسْلِمُ عِنْدَ شَرْطِهِ " وَهُمْ يُبْطِلُونَ شُرُوطًا كَثِيرَةً جِدًّا . وَنَسُوا خِلَافَهُمْ لِعُمَرَ فِي قَوْلِهِ : الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ . وَأَخْذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ الرَّقِيقِ مِنْ كُلِّ رَأْسٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارًا . وَإِيجَابِهِ الزَّكَاةَ فِي نَاضِّ الْيَتِيمِ . وَتَرْكِهِ فِي الْخَرْصِ فِي النَّخْلِ مَا يَأْكُلُ أَهْلُهُ - وَالْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ , وَأَزِيدَ مِنْ مِائَةِ قَضِيَّةٍ - فَصَارَ هَهُنَا الظَّنُّ الْكَاذِبُ فِي الرِّوَايَةِ الْكَاذِبَةِ عَنْ عُمَرَ : حُجَّةً فِي رَدِّ السُّنَنِ . فَكَيْفَ وَقَدْ رُوِّينَا هَذِهِ الرِّوَايَةَ نَفْسَهَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بَيْعٌ إلَّا عَنْ صَفْقَةِ وَتَخَايُرٍ - هَكَذَا بِوَاوِ الْعَطْفِ - وَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ , وَمُوَافِقٌ لِقَوْلِنَا , وَمُوجِبٌ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَرَ الْبَيْعَ إلَّا مَا جَمَعَ الْعَقْدَ , وَالتَّخْيِيرُ سِوَى الْعَقْدِ , وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا قَبْلُ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ , فَظَهَرَ فَسَادُ تَعَلُّقِهِمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ . وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ الثَّابِتِ عَنْهُ : مَا أَدْرَكْت الصَّفْقَةَ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ الْمُبْتَاعِ - : رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا مِنْ عَجَائِبِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَا الْخَبَرِ - : فَالْحَنَفِيُّونَ يَقُولُونَ : بَلْ هُوَ مِنْ الْبَائِعِ مَا لَمْ يَرَهُ الْمُبْتَاعُ أَوْ يُسَلِّمُهُ إلَيْهِ الْبَائِعُ - وَالْمَالِكِيُّونَ يَقُولُونَ : بَلْ إنْ كَانَ غَائِبًا غِيبَةً بَعِيدَةً فَهُوَ مِنْ الْبَائِعِ . فَمَنْ أَعْجَبُ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِخَبَرٍ هُوَ عَلَيْهِ لَا لَهُ , وَيُجَاهِرُ هَذِهِ الْمُجَاهَرَةَ ؟ وَمَا فِي كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا شَيْءٌ====(1/51)
يُخَالِفُ مَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالتَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ . فَقَوْلُهُ : مَا أَدْرَكْت الصَّفْقَةَ , إنَّمَا أَرَادَ الْبَيْعَ التَّامَّ بِلَا شَكٍّ . وَمِنْ قَوْلِهِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ : إنَّهُ لَا بَيْعَ يَتِمُّ أَلْبَتَّةَ إلَّا بِالتَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ , أَوْ بِالتَّخْيِيرِ بَعْدَ الْعَقْدِ . قَالَ عَلِيٌّ : فَظَهَرَ عَظِيمُ فُحْشِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , وَعَظِيمُ تَنَاقُضِهِمْ فِيهَا , وَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْمُرْسَلَ كَالْمُسْنَدِ , وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : بَلْ أَقْوَى مِنْهُ , وَيَحْتَجُّونَ بِهِ إذَا وَافَقَهُمْ . وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ الْخِيَارَ بَعْدَ الْبَيْعِ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ التَّخْيِيرَ لَيْسَ إلَّا بَعْدَ الْبَيْعِ , وَهُمْ يَقُولُونَ : الرَّاوِي أَعْلَمُ بِمَا رَوَى . وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ نا وَكِيعٌ نا قَاسِمٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ وَالتَّخْيِيرُ بَعْدَ الصَّفْقَةِ , وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَغْبِنَ مُسْلِمًا } . فَهَذَانِ مُرْسَلَانِ مِنْ أَحْسَنِ الْمَرَاسِيلِ , مُبْطِلَانِ لِقَوْلِهِمْ الْخَبِيثِ الْمُعَارِضِ لِلسُّنَنِ , فَأَيْنَ هُمْ عَنْهُ ؟ لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَقُولُوا مَا لَا يَفْعَلُونَ - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مَقْتِهِ قَالَ عَلِيٌّ : وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالسُّخْفِ قَالَ : هَذَا خَبَرٌ جَاءَ بِأَلْفَاظٍ شَتَّى فَهُوَ مُضْطَرِبٌ . قَالَ عَلِيٌّ : وَقَدْ كَذَبَ بَلْ أَلْفَاظُهُ كُلُّهَا ثَابِتَةٌ مَنْقُولَةٌ نَقْلَ التَّوَاتُرِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مُخْتَلِفًا أَصْلًا , لَكِنَّهَا أَلْفَاظٌ يُبَيِّنُ بَعْضُهَا بَعْضًا , كَمَا أُمِرَ عليه السلام بِبَيَانِ وَحَيِّ رَبِّهِ تَعَالَى .
==============(1/52)
1799 - مَسْأَلَةٌ : وَيُحْكَمُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ بِحُكْمِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ شَيْءٍ - رَضُوا أَمْ سَخِطُوا , أَتَوْنَا أَوْ لَمْ يَأْتُونَا - وَلَا يَحِلُّ رَدُّهُمْ إلَى حُكْمِ دِينِهِمْ , وَلَا إلَى حُكَّامِهِمْ أَصْلًا .
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ : سَمِعْت بَجَالَةَ التَّمِيمِيَّ قَالَ : أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ : أَنْ اُقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ , وَفَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمَجُوسِ , وَانْهَوْهُمْ عَنْ الزَّمْزَمَةِ . قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : أَهْلُ الذِّمَّةِ إذَا كَانُوا فِينَا فَحَدُّهُمْ كَحَدِّ الْمُسْلِمِ . وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إسْحَاقَ الْقَاضِي نا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ نا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي الْمَوَارِيثِ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ قَالَ : يُحْكَمُ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي كِتَابِنَا - وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ , وَأَصْحَابِنَا . وَرُوِّينَا غَيْرَ هَذَا - : كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ قَابُوسَ بْنِ مُخَارِقِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ كَتَبَ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي مُسْلِمٍ زَنَى بِنَصْرَانِيَّةٍ ؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَى الْمُسْلِمِ , وَتُرَدُّ النَّصْرَانِيَّةُ إلَى أَهْلِ دِينِهَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَمَالِكٍ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذَا لَا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ ; لِأَنَّ فِيهِ سِمَاكَ بْنَ حَرْبٍ - وَهُوَ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ - وَقَابُوسُ بْنُ الْمُخَارِقِ وَأَبُوهُ - مَجْهُولَانِ - فَبَطَلَ أَنْ يَصِحَّ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرُ مَا رُوِّينَا عَنْ عُمَرَ . وَقَالَ الْمُخَالِفُونَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } فَإِذَا حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ حُكْمِ دِينِهِمْ فَقَدْ أُكْرِهُوا عَلَى غَيْرِ دِينِهِمْ . فَقُلْنَا : إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ أَنْ لَا يُحْكَمَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ حُكْمِ دِينِهِمْ فَأَنْتُمْ أَوَّلُ مَنْ خَالَفَهَا فَأَقْرَرْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِخِلَافِ الْحَقِّ , وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا ; لِأَنَّكُمْ تَقْطَعُونَهُمْ فِي السَّرِقَةِ بِحُكْمِ دِينِنَا , لَا بِحُكْمِ دِينِهِمْ , وَتَحُدُّونَهُمْ فِي الْقَذْفِ بِحُكْمِ دِينِنَا لَا بِحُكْمِ دِينِهِمْ , وَتَمْنَعُونَهُمْ مِنْ إنْفَاذِ حُكْمِ دِينِهِمْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَتْلِ وَالْخَطَأِ , وَبَيْعِ الْأَحْرَارِ , فَقَدْ تَنَاقَضْتُمْ . فَإِنْ قَالُوا : هَذَا ظُلْمٌ لَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ . فَقُلْنَا لَهُمْ : وَكُلُّ مَا خَالَفُوا فِيهِ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فَهُوَ ظُلْمٌ لَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ . وَقَالُوا : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } فَقُلْنَا : هَذِهِ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَهَا قوله تعالى : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } فَقَالُوا : هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ عَلَى ذَلِكَ . قُلْنَا : نَعَمْ , رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { نُسِخَتْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ آيَتَانِ - : آيَةُ : الْقَلَائِدَ وقوله تعالى : { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُخَيَّرًا إنْ شَاءَ حَكَمَ بَيْنَهُمْ , وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ عَنْهُمْ فَرَدَّهُمْ إلَى أَحْكَامِهِمْ , فَنَزَلَتْ : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا فِي كِتَابِنَا } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا مُسْنَدٌ ; لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَ بِنُزُولِ الْآيَةِ فِي ذَلِكَ - وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ , وَعِكْرِمَةَ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وَالدِّينُ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ يَكُونُ الشَّرِيعَةَ , وَيَكُونُ الْحُكْمَ , وَيَكُونُ الْجَزَاءَ , فَالْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا إلَيْنَا . وَالشَّرِيعَةُ قَدْ صَحَّ أَنْ نُقِرَّهُمْ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَ إذَا كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ , فَبَقِيَ الْحُكْمُ , فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ حُكْمَ اللَّهِ كَمَا أَمَرَ . فَإِنْ قَالُوا : فَاحْكُمُوا عَلَيْهِمْ بِالصَّلَاةِ , وَالصِّيَامِ , وَالْحَجِّ , وَالْجِهَادِ , وَالزَّكَاةِ . قُلْنَا : قَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُلْزِمْهُمْ شَيْئًا مِنْ هَذَا فَخَرَجَ بِنَصِّهِ وَبَقِيَ سَائِرُ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَلَا بُدَّ . وَصَحَّ { أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَتَلَ يَهُودِيًّا قَوَدًا بِصَبِيَّةٍ مُسْلِمَةٍ وَرَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا } وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى حُكْمِ دِينِهِمْ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِآبِدَةٍ مُهْلِكَةٍ , وَهِيَ أَنْ قَالُوا : إنَّمَا أَنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّجْمَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } . فَقُلْنَا : هَذَا كُفْرٌ مِمَّنْ قَالَهُ , إذْ جَعَلَهُ عليه====(1/59)
الصلاة والسلام مُنَفِّذًا لِحُكْمِ الْيَهُودِ , تَارِكًا لِتَنْفِيذِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى , حَاشَا لَهُ مِنْ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَهَبْكَ أَنَّهُ كَمَا قُلْتُمْ فَارْجُمُوهُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ نَفْسِهِ , وَإِلَّا فَقَدْ جَوَّرْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَأَمَّا الْآيَةُ : فَإِنَّمَا هِيَ خَبَرٌ عَنْ النَّبِيِّينَ السَّالِفِينَ فِيهِمْ , لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا لَنَا نَبِيِّينَ , إنَّمَا لَنَا نَبِيٌّ وَاحِدٌ - فَصَحَّ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْنِيٍّ بِهَذِهِ الْآيَةِ . ثُمَّ نَقُولُ لَهُمْ : أَخْبِرُونَا عَنْ أَحْكَامِ دِينِهِمْ أَحَقٌّ - هِيَ إلَى الْيَوْمِ - مُحْكَمٌ أَمْ بَاطِلٌ مَنْسُوخٌ ؟ وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا - : فَإِنْ قَالُوا : حَقٌّ مُحْكَمٌ كَفَرُوا جِهَارًا , وَإِنْ قَالُوا بَلْ بَاطِلٌ مَنْسُوخٌ . قُلْنَا : صَدَقْتُمْ , وَأَقْرَرْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ رَدَدْتُمُوهُمْ إلَى الْبَاطِلِ الْمَنْسُوخِ الْحَرَامِ , وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ . وَقَالَ تَعَالَى : { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } وَلَيْسَ مِنْ الْقِسْطِ تَرْكُهُمْ يَحْكُمُونَ بِالْكُفْرِ الْمُبَدَّلِ أَوْ بِحُكْمٍ قَدْ أَبْطَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى , أَوْ حَرَّمَ الْقَوْلَ بِهِ وَالْعَمَلَ بِهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } . وَمِنْ رَدَّهُمْ إلَى حُكْمِ الْكُفْرِ الْمُبَدَّلِ وَالْأَمْرِ الْمَنْسُوخِ الْمُحَرَّمِ , فَلَمْ يُعِنْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى , بَلْ أَعَانَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ - وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلَانِ . وَقَالَ تَعَالَى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَالصَّغَارُ هُوَ جَرْيُ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ , فَإِذَا مَا تُرِكُوا يَحْكُمُونَ بِكُفْرِهِمْ فَمَا أَصْغَرْنَاهُمْ بَلْ هُمْ أَصْغَرُونَا - وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ .
2187 - مَسْأَلَةٌ : هَلْ تُقَامُ الْحُدُودُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ؟(1/60)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْخَبَرِ ؟ فَجَاءَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : لَا حَدَّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الزِّنَى وَجَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : لَا حَدَّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي السَّرِقَةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا حَدَّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الزِّنَى , وَلَا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ - وَعَلَيْهِمْ الْحَدُّ فِي الْقَذْفِ , وَفِي السَّرِقَةِ , إلَّا الْمُعَاهَدَ فِي السَّرِقَةِ , لَكِنْ يَضْمَنُهَا , وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبُهُ : لَا أَمْنَعُ الذِّمِّيَّ مِنْ الزِّنَى , وَشُرْبِ الْخَمْرِ - وَأَمْنَعُهُ مِنْ الْغِنَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ : لَا حَدَّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي زِنًى , وَلَا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ - وَعَلَيْهِمْ الْحَدُّ فِي الْقَذْفِ , وَالسَّرِقَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ , وَأَبُو سُلَيْمَانَ , وَأَصْحَابُهُمَا : عَلَيْهِمْ الْحَدُّ فِي كُلِّ ذَلِكَ حَدَّثَنَا حُمَامٌ نا ابْنُ مُفَرِّجٍ نا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ مُحَمَّدٍ نا الدَّبَرِيُّ نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ نا الثَّوْرِيُّ أَخْبَرَنِي سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ قَابُوسُ بْنُ الْمُخَارِقِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَسْأَلُهُ عَنْ مُسْلِمَيْنِ تَزَنْدَقَا , وَعَنْ مُسْلِمٍ زَنَى بِنَصْرَانِيَّةٍ , وَعَنْ مُكَاتَبٍ مَاتَ وَتَرَكَ بَقِيَّةً مِنْ كِتَابَتِهِ , وَتَرَكَ وُلْدًا أَحْرَارًا ؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ عَلِيٌّ : أَمَّا اللَّذَانِ تَزَنْدَقَا فَإِنْ تَابَا وَإِلَّا فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمَا - وَأَمَّا الْمُسْلِمُ الَّذِي زَنَى بِالنَّصْرَانِيَّةِ فَأَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ , وَارْفَعْ النَّصْرَانِيَّةَ إلَى أَهْلِ دِينِهَا - وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَأَعْطِ مَوَالِيهِ بَقِيَّةَ كِتَابَتِهِ , وَأَعْطِ وُلْدَهُ الْأَحْرَارَ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ : نا حُمَامٌ نا ابْنُ مُفَرِّجٍ نا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ نا الدَّبَرِيُّ نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ , وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ , كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ مُجَاهِدٍ : أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ لَا يَرَى عَلَى عَبْدٍ وَلَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ حَدًّا وَعَنْ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْيَهُودِيِّ , وَالنَّصْرَانِيِّ : لَا أَرَى عَلَيْهِمَا فِي الزِّنَى حَدًّا , قَالَ : وَقَدْ كَانَ مِنْ الْوَفَاءِ لَهُمْ بِالذِّمَّةِ أَنْ يُخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ دِينِهِمْ وَشَرَائِعِهِمْ , تَكُونُ ذُنُوبُهُمْ عَلَيْهِمْ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : فَلَمَّا اخْتَلَفُوا وَجَبَ أَنْ نَنْظُرَ فِي ذَلِكَ لِنَعْلَمَ الْحَقَّ فَنَتَّبِعَهُ ؟ فَنَظَرْنَا فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ : لَا حَدَّ عَلَى ذِمِّيٍّ ؟ فَوَجَدْنَاهُمْ يَقُولُونَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } وَوَجَدْنَاهُمْ يَقُولُونَ : قَدْ عَاهَدْنَاهُمْ عَلَى التَّرْكِ لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ , وَكَانَ كُفْرُهُمْ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ شَرِيطَةٍ مِنْ أَحْكَامِهِمْ , فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ مَا عُوهِدُوا عَلَيْهِ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : مَا تُعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةٌ غَيْرُ هَذَا ؟ فَلَمَّا نَظَرْنَا فِي ذَلِكَ وَجَدْنَاهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْحَنَفِيِّينَ , وَالْمَالِكِيِّينَ أَصْلًا , لِأَنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ عَامَّةٌ لَا خَاصَّةٌ , وَهُمْ قَدْ خَصُّوا فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِمْ الْحَدَّ فِي السَّرِقَةِ , وَفِي الْقَذْفِ لِمُسْلِمٍ , وَفِي الْحِرَابَةِ , وَأَسْقَطُوا الْحَدَّ فِي الزِّنَى , وَفِي الْخَمْرِ فَقَطْ , وَهَذَا تَحَكُّمٌ لَمْ يُوجِبْهُ قُرْآنٌ , وَلَا سُنَّةٌ لَا صَحِيحَةٌ وَلَا سَقِيمَةٌ وَلَا إجْمَاعٌ , وَلَا قَوْلُ صَاحِبٍ فَإِنْ قَالُوا : السَّرِقَةُ ظُلْمٌ , وَلَا يَقَرُّونَ عَلَى ظُلْمِ مُسْلِمٍ , وَلَا عَلَى ظُلْمِ ذِمِّيٍّ , وَالْقَذْفُ حُكْمٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يُحْكَمُ فِي ذَلِكَ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ ؟ قُلْنَا لَهُمْ : وَكَذَلِكَ الزِّنَى إذَا زَنَوْا بِامْرَأَةِ مُسْلِمٍ , أَوْ بِأَمَتِهِ , أَوْ بِامْرَأَةِ ذِمِّيٍّ أَوْ أَمَتِهِ , فَإِنَّهُ ظُلْمٌ لِلْمُسْلِمِ , أَوْ سَيِّدِهَا , وَظُلْمٌ لِلذِّمِّيِّ كَذَلِكَ , وَلَا يَقَرُّونَ عَلَى ظُلْمٍ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ خَصَّصْتُمْ الْآيَةَ بِلَا دَلِيلٍ وَتَرَكْتُمْ ظَاهِرَهَا بِلَا حُجَّةٍ فَإِنْ شَغَبُوا بِقَوْلِ عَلِيٍّ , وَابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - فِي ذَلِكَ ؟ قُلْنَا لَهُمْ : لَا حُجَّةَ لَكُمْ فِي ذَلِكَ , لِأَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ لَا تَصِحُّ , لِأَنَّهَا عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ - وَهُوَ ضَعِيفٌ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ - ثُمَّ عَنْ قَابُوسِ بْنِ الْمُخَارِقِ - وَهُوَ مَجْهُولٌ - ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ , لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَبْعَدُ , لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُمْ قَدْ خَالَفُوا(1/61)
ابْنَ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ , لِأَنَّ فِيهَا : لَا حَدَّ عَلَى عَبْدٍ , وَهُمْ لَا يَرَوْنَ هَذَا , وَلَا حَدَّ عَلَى ذِمِّيٍّ - وَهُمْ يَرَوْنَ الْحَدَّ عَلَيْهِ فِي الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : فَإِذْ قَدْ تَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ؟ فَقَدْ بَطَلَ التَّعَلُّقُ بِإِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى , وَوَجَبَ رَدُّهُمَا إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى , فَلِأَيِّ الْقَوْلَيْنِ شَهِدَ الْقُرْآنُ , وَالسُّنَّةُ فَهُوَ الْحَقُّ , وَعَلَى كُلِّ حَالٍ - فَقَدْ بَطَلَ كُلُّ قَوْلٍ شَغَبَ بِهِ الْحَنَفِيُّونَ , وَالْمَالِكِيُّونَ , وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ حُجَّةٌ أَصْلًا أَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ , وَلَوْ صَحَّ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ لَمَا كَانَ لِمَنْ أَسْقَطَ بِهَا إقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ مُتَعَلِّقٌ , لِأَنَّهُ إنَّمَا فِيهَا التَّخْيِيرَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ , لَا فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ جُمْلَةً , وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ حُكْمٌ عَلَيْهِمْ لَا حُكْمٌ بَيْنَهُمْ , فَلَيْسَ لِلْحُدُودِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَدْخَلٌ أَصْلًا , بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ - فَسَقَطَ التَّعَلُّقُ بِهَا جُمْلَةً وَأَمَّا عُهُودُ مَنْ عَاهَدَهُمْ عَلَى الْحُكْمِ بِأَحْكَامِهِمْ , فَلَيْسَ ذَلِكَ عَهْدُ اللَّهِ تَعَالَى , بَلْ هُوَ عَهْدُ إبْلِيسَ وَعَهْدُ الْبَاطِلِ , وَعَهْدُ الضَّلَالِ , وَلَا يَعْرِفُ الْمُسْلِمُونَ عُقُودًا وَلَا عُهُودًا إلَّا مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ , فَهِيَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِهَا , كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم { كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ } وَقَالَ عليه السلام { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } وَإِنْ قَالُوا : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } قُلْنَا : نَعَمْ , مَا نُكْرِهُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ , وَلَا عَلَى الصَّلَاةِ , وَلَا عَلَى الزَّكَاةِ , وَلَا عَلَى الصِّيَامِ , وَلَا الْحَجِّ , لَكِنْ مَتَى كَانَ لَهُمْ حُكْمٌ حَكَمْنَا فِيهِ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ , لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ } وَقَالَ تَعَالَى { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } ؟ فَافْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه السلام أَنْ لَا تَتَّبِعَ أَهْوَاءَهُمْ , فَمَنْ تَرَكَهُمْ وَأَحْكَامَهُمْ : فَقَدْ اتَّبَعَ أَهْوَاءَهُمْ , وَخَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ(1/62)
وَمَنْ قَالَ : بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَلَا بُدَّ , دُونَ ذِكْرِ اسْتِتَابَةٍ أَوْ قَبُولِهَا : كَمَا أَوْرَدْنَا عَنْ مُعَاذٍ , وَأَبِي مُوسَى , وَأَنَسٍ , وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَمَعْقِلِ بْنِ مُقَرِّنٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بِالِاسْتِتَابَةِ أَبَدًا وَإِيدَاعِ السِّجْنِ فَقَطْ : كَمَا قَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ مِمَّا قَدْ أَوْرَدْنَا قَبْلُ , وَوُجُوبُ الْقِتَالِ : هُوَ حُكْمٌ آخَرُ غَيْرُ وُجُوبِ الْقَتْلِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ , فَإِنَّ قِتَالَ مَنْ بَغَى عَلَى الْمُسْلِمِ , أَوْ مَنَعَ حَقًّا قِبَلَهُ , وَحَارَبَ دُونَهُ : فَرْضٌ وَاجِبٌ بِلَا خِلَافٍ - وَلَا حُجَّةَ فِي قِتَالِ أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه - أَهْلَ الرِّدَّةِ , لِأَنَّهُ حَقٌّ بِلَا شَكٍّ , وَلَمْ نُخَالِفْكُمْ فِي هَذَا , وَلَا يَصِحُّ - أَصْلًا - عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ ظَفِرَ بِمُرْتَدٍّ عَنْ الْإِسْلَامِ غَيْرِ مُمْتَنِعٍ بِاسْتِتَابَةٍ , فَتَابَ , فَتَرَكَهُ , أَوْ لَمْ يَتُبْ فَقَتَلَهُ - هَذَا مَا لَا يَجِدُونَهُ . وَأَمَّا مَنْ بَدَّلَ كُفْرًا بِكُفْرٍ آخَرَ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ كُفْرٍ إلَى كُفْرٍ ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَمَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ : أَنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمْ . قَالَ الشَّافِعِيُّ , وَأَبُو سُلَيْمَانَ , وَأَصْحَابُهُمَا : لَا يُقَرُّونَ عَلَى ذَلِكَ أَصْلًا . ثُمَّ اخْتَلَفُوا - فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : يُنْبَذُ إلَيْهِ عَهْدُهُ , وَيُخْرَجُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ , فَإِنْ ظُفِرَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ فَمَرَّةً قَالَ : إنْ رَجَعَ إلَى دِينِهِ الْكِتَابِيِّ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ أُقِرَّ عَلَى حُرِّيَّتِهِ وَتُرِكَ . وَمَرَّةً قَالَ : لَا يُتْرَكُ بَلْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ . وَبِهَذَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا - إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ إلْحَاقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ , بَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا قُتِلَ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : فَلَمَّا اخْتَلَفُوا نَظَرْنَا فِي ذَلِكَ : فَوَجَدْنَا مَنْ قَالَ : إنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى ذَلِكَ , يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } وَأَمْرِهِ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ مُخَاطِبًا لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } , إلَى آخِرِ السُّورَةِ . قَالُوا : فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْكُفْرَ كُلَّهُ دِينًا وَاحِدًا . قَالُوا : وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } فَكَانَ هَذَا ظَاهِرًا يَمْنَعُ مِنْ إكْرَاهِهِ عَلَى تَرْكِ كُفْرِهِ . قَالُوا : وَلَا يَخْلُو إذَا أُجْبِرَ عَلَى تَرْكِ الْكُفْرِ الَّذِي خَرَجَ إلَيْهِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ , وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا : إمَّا أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى دِينِهِ الَّذِي خَرَجَ عَنْهُ - كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ - أَوْ يُجْبَرَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ , كَمَا قَالَ هُوَ فِي قَوْلِهِ الثَّانِي , وَأَصْحَابُكُمْ , فَإِنْ أُجْبِرَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى دِينِهِ فَقَدْ أُجْبِرَ عَلَى اعْتِقَادِ الْكُفْرِ , وَعَلَى الرُّجُوعِ إلَى الْكُفْرِ . قَالُوا : وَاعْتِقَادُ جَوَازِ هَذَا كُفْرٌ ؟ قَالُوا : إنْ أُكْرِهَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى ذَلِكَ دُونَ سَائِرِ أَهْلِ الْكُفْرِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ , فَهُوَ كَافِرٌ , وَهُمْ كُفَّارٌ , وَلَا فَرْقَ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَهَذَا كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ مِنْ النُّصُوصِ , إلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ : أَرَأَيْت مَنْ أَحْدَثَ فِي نَصْرَانِيَّةٍ , أَوْ يَهُودِيَّةٍ , أَوْ مَجُوسِيَّةٍ : رَأْيًا لَمْ يَخْرُجْ بِهِ عَنْ جُمْلَتِهِمْ أَتُجْبِرُونَهُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ الرَّأْيِ وَالرُّجُوعِ إلَى جُمْلَتِهِمْ , أَوْ إلَى الْإِسْلَامِ ؟ وَأَرَأَيْتُمْ مَنْ خَرَجَ مِنْ مَلْكَانِيَّةٍ إلَى نُسْطُورِيَّةٍ , أَوْ يَعْقُوبِيَّةٍ , أَوْ قَادُونِيَّةٍ , أَوْ مَعْدُونِيَّةٍ , فَدَانَ بِعُبُودِيَّةِ الْمَسِيحِ , وَأَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ , وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ؟ أَتُجْبِرُونَهُ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى التَّثْلِيثِ , أَوْ إلَى الرُّجُوعِ إلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ خَرَجَ مِنْ رَبَّانِيَّةٍ إلَى عَامَانِيَّةٍ , أَوْ إلَى عِيسَوِيَّةٍ , أَتُجْبِرُونَهُ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلَى الْكُفْرِ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : هَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ التَّشْنِيعِ وَكُلُّ هَذَا عَائِدٌ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } فَحَقٌّ , وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ , لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَقَطْ , وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمُ إقْرَارِهِمْ , وَلَا حُكْمُ قَتْلِهِمْ , وَلَا حُكْمُ مَا يُفْعَلُ(1/63)
بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِمْ أَصْلًا . وَكَذَلِكَ قوله تعالى { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } إلَى آخِرِهَا لَيْسَ فِيهَا أَيْضًا إلَّا أَنَّنَا مُبَايِنُونَ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ فِي الْعِبَادَةِ , وَالدِّينِ , وَلَيْسَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهِمْ , لَا مِنْ إقْرَارِهِمْ وَلَا مِنْ تَرْكِ إقْرَارِهِمْ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لَنَا { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } فَمَنْ تَوَلَّاهُمْ مِنَّا فَهُوَ مِنْهُمْ , كَمَا قَالَ تَعَالَى إنَّ { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } . فَهَلَّا تَرَكُوا الْمُرْتَدَّ إلَيْهِمْ مِنَّا عَلَى رِدَّتِهِ ؟ بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ مِنْهُمْ , فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةً فِي إقْرَارِ الْمُرْتَدِّ مِنَّا إلَيْهِمْ عَلَى ذَلِكَ , ذَانِكَ النَّصَّانِ لَيْسَا بِحُجَّةٍ فِيمَا أَرَادُوا التَّمْوِيهَ بِإِيرَادِهِمَا مِنْ أَنَّ الْخَارِجَ مِنْهُمْ مِنْ كُفْرٍ إلَى كُفْرٍ يُقَرُّ عَلَى ذَلِكَ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ , لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ كُلِّهَا فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا ; لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى إكْرَاهِ الْمُرْتَدِّ عَنْ دِينِهِ , فَمِنْ قَائِلٍ : يُكْرَهُ وَلَا يُقْتَلُ , وَمِنْ قَائِلٍ , يُكْرَهُ وَيُقْتَلُ . فَإِنْ قَالُوا : خَرَجَ الْمُرْتَدُّ مِنَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ عَنْ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ ؟ قُلْنَا لَهُمْ : وَكَذَلِكَ إنْ خَرَجَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمْ مِنْ كُفْرٍ إلَى كُفْرٍ بِدَلِيلٍ آخَرَ عَنْ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ , وَإِلَّا فَهُوَ كَمَا قُلْتُمْ , وَإِنَّ الْمُحْتَجِّينَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } وَبِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينٌ } فِي أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَشَيْءٌ وَاحِدٌ : هُمْ أَوَّلُ مَنْ نَقَضَ الِاحْتِجَاجَ وَخَالَفَهُ , وَفَرَّقُوا بَيْنَ أَحْكَامِ أَهْلِ الْكُفْرِ , فَكُلُّهُمْ مُجْمِعٌ مَعَنَا عَلَى : أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ مَنْ تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ , وَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ , وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ , وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : لَا يَخْلُو مَنْ أُجْبِرَ عَلَى تَرْكِ الْكُفْرِ الَّذِي خَرَجَ إلَيْهِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى الْكُفْرِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ , وَإِمَّا أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الْإِسْلَامِ ؟ فَنَعَمْ : أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِهِمَا - وَاَلَّذِي نَقُولُ بِهِ : فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا بُدَّ , وَلَا يُتْرَكُ يَرْجِعُ إلَى الدِّينِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الْإِسْلَامِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا ؟ فَجَوَابُنَا - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ : أَنَّهُ إنْ لَمْ يَقُمْ بُرْهَانٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ إجْبَارِهِ , وَإِلَّا فَهُوَ قَوْلُكُمْ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ : إنْ خَرَجَ مِنْ فِرْقَةٍ مِنْ النَّصَارَى إلَى فِرْقَةٍ أُخْرَى فَإِنَّنَا لَا نَعْتَرِضُ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ بَعْدُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . فَبَقِيَ الْآنَ الْكَلَامُ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } فَوَجَدْنَا النَّاسَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ , وَالثَّانِي : أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ . فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ , فَيَحْتَجُّ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْبَلْ مِنْ الْوَثَنِيِّينَ ؟ فَيُقَالُ لَهُمْ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ - لَمْ يَخْتَلِفْ مُسْلِمَانِ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْبَلْ مِنْ الْوَثَنِيِّينَ مِنْ الْعَرَبِ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ - إلَى أَنْ مَاتَ عليه السلام - فَهُوَ إكْرَاهٌ فِي الدِّينِ , فَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا مَخْصُوصَةٌ , فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى خَاصَّةً , كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لِعَجُوزٍ نَصْرَانِيَّةٍ : أَيَّتُهَا الْعَجُوزُ أَسْلِمِي تَسْلَمِي , إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ إلَيْنَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ ؟ فَقَالَتْ الْعَجُوزُ : وَأَنَا عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ وَأَمُوتُ إلَى قَرِيبٍ ؟ قَالَ عُمَرُ : اللَّهُمَّ اشْهَدْ , لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ . وَبِمَا رُوِّينَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَتْ امْرَأَةٌ تَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إنْ عَاشَ وَلَدُهَا تُهَوِّدُهُ , فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ , فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا , فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } . فَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَاتَلَ الْكُفَّارَ
وَمَنْ قَالَ : بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَلَا بُدَّ , دُونَ ذِكْرِ اسْتِتَابَةٍ أَوْ قَبُولِهَا :(1/64)
إلَى أَنْ مَاتَ عليه السلام حَتَّى أَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ . وَصَحَّ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ فِي الدِّينِ , ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } الْآيَةَ إلَى قوله تعالى { فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } . وَنَزَلَ قوله تعالى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } إلَى قوله تعالى { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَأَيْنَ أَنْتُمْ مِنْ قوله تعالى { فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } . فَيُقَالُ لَهُمْ : لَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ " بَرَاءَةٌ " فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَإِنَّ " بَرَاءَةٌ " نَسَخَتْ كُلَّ حُكْمٍ تَقَدَّمَ , وَأَبْطَلَتْ كُلَّ عَهْدٍ سَلَفَ بِقَوْلِ تَعَالَى { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وَإِنَّمَا كَانَتْ آيَةُ النَّبْذِ عَلَى سَوَاءٍ أَيَّامَ كَانَتْ الْمُهَادَنَاتُ جَائِزَةً , وَأَمَّا بَعْدَ نُزُولِ { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } فَلَا يَحِلُّ تَرْكُ مُشْرِكٍ أَصْلًا , إلَّا بِأَنْ يُقْتَلَ , أَوْ يُسْلِمَ , أَوْ يُنْبَذَ إلَيْهِ عَهْدُهُ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَتْلِهِ حَيْثُ وُجِدَ , إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَبْنَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَيُقَرَّ عَلَى الْجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ , كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى , أَوْ يَكُونَ مُسْتَجِيرًا فَيُجَارَ حَتَّى يُقْرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ , ثُمَّ يُرَدَّ إلَى مَأْمَنِهِ وَلَا بُدَّ , إلَى أَنْ يُسْلِمَ , وَلَا يُتْرَكَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ , أَوْ رَسُولًا فَيُتْرَكَ مُدَّةَ أَدَاءِ رِسَالَتِهِ , وَأَخْذِ جَوَابِهِ , ثُمَّ يُرَدَّ إلَى بَلَدِهِ , وَمَا عَدَا هَؤُلَاءِ فَالْقَتْلُ وَلَا بُدَّ , أَوْ الْإِسْلَامُ , كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَصِّ الْقُرْآنِ , وَمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَإِنْ ذَكَرُوا : مَا أَنَا حُمَامٌ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَشْوَرِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْحُذَافِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ : حَيْثُ رُفِعَ إلَى عَلِيٍّ فِي يَهُودِيٍّ تَزَنْدَقَ وَنَصْرَانِيٍّ تَزَنْدَقَ ؟ قَالَ : دَعُوهُ يُحَوِّلُ مِنْ دِينٍ إلَى دِينٍ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : هَذَا لَمْ يَصِحَّ عَنْ عَلِيٍّ ; لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ وَلَمْ يُولَدْ ابْنُ جُرَيْجٍ إلَّا بَعْدَ نَحْوِ نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ عَامًا مِنْ مَوْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - وَلَا حُجَّةَ فِي أَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَمْ مِنْ قَوْلَةٍ لِعَلِيٍّ صَحِيحَةٍ قَدْ خَالَفُوهَا - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .
==============(1/65)
وَمَنْ قَالَ: بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَلا بُدَّ، دُونَ ذِكْرِ اسْتِتَابَةٍ أَوْ قَبُولِهَا:
كَمَا أَوْرَدْنَا عَنْ مُعَاذٍ , وَأَبِي مُوسَى , وَأَنَسٍ , وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَمَعْقِلِ بْنِ مُقَرِّنٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بِالِاسْتِتَابَةِ أَبَدًا وَإِيدَاعِ السِّجْنِ فَقَطْ : كَمَا قَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ مِمَّا قَدْ أَوْرَدْنَا قَبْلُ , وَوُجُوبُ الْقِتَالِ : هُوَ حُكْمٌ آخَرُ غَيْرُ وُجُوبِ الْقَتْلِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ , فَإِنَّ قِتَالَ مَنْ بَغَى عَلَى الْمُسْلِمِ , أَوْ مَنَعَ حَقًّا قِبَلَهُ , وَحَارَبَ دُونَهُ : فَرْضٌ وَاجِبٌ بِلَا خِلَافٍ - وَلَا حُجَّةَ فِي قِتَالِ أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه - أَهْلَ الرِّدَّةِ , لِأَنَّهُ حَقٌّ بِلَا شَكٍّ , وَلَمْ نُخَالِفْكُمْ فِي هَذَا , وَلَا يَصِحُّ - أَصْلًا - عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ ظَفِرَ بِمُرْتَدٍّ عَنْ الْإِسْلَامِ غَيْرِ مُمْتَنِعٍ بِاسْتِتَابَةٍ , فَتَابَ , فَتَرَكَهُ , أَوْ لَمْ يَتُبْ فَقَتَلَهُ - هَذَا مَا لَا يَجِدُونَهُ . وَأَمَّا مَنْ بَدَّلَ كُفْرًا بِكُفْرٍ آخَرَ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ كُفْرٍ إلَى كُفْرٍ ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَمَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ : أَنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمْ . قَالَ الشَّافِعِيُّ , وَأَبُو سُلَيْمَانَ , وَأَصْحَابُهُمَا : لَا يُقَرُّونَ عَلَى ذَلِكَ أَصْلًا . ثُمَّ اخْتَلَفُوا - فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : يُنْبَذُ إلَيْهِ عَهْدُهُ , وَيُخْرَجُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ , فَإِنْ ظُفِرَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ فَمَرَّةً قَالَ : إنْ رَجَعَ إلَى دِينِهِ الْكِتَابِيِّ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ أُقِرَّ عَلَى حُرِّيَّتِهِ وَتُرِكَ . وَمَرَّةً قَالَ : لَا يُتْرَكُ بَلْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ . وَبِهَذَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا - إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ إلْحَاقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ , بَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا قُتِلَ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : فَلَمَّا اخْتَلَفُوا نَظَرْنَا فِي ذَلِكَ : فَوَجَدْنَا مَنْ قَالَ : إنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى ذَلِكَ , يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } وَأَمْرِهِ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ مُخَاطِبًا لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } , إلَى آخِرِ السُّورَةِ . قَالُوا : فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْكُفْرَ كُلَّهُ دِينًا وَاحِدًا . قَالُوا : وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } فَكَانَ هَذَا ظَاهِرًا يَمْنَعُ مِنْ إكْرَاهِهِ عَلَى تَرْكِ كُفْرِهِ . قَالُوا : وَلَا يَخْلُو إذَا أُجْبِرَ عَلَى تَرْكِ الْكُفْرِ الَّذِي خَرَجَ إلَيْهِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ , وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا : إمَّا أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى دِينِهِ الَّذِي خَرَجَ عَنْهُ - كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ - أَوْ يُجْبَرَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ , كَمَا قَالَ هُوَ فِي قَوْلِهِ الثَّانِي , وَأَصْحَابُكُمْ , فَإِنْ أُجْبِرَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى دِينِهِ فَقَدْ أُجْبِرَ عَلَى اعْتِقَادِ الْكُفْرِ , وَعَلَى الرُّجُوعِ إلَى الْكُفْرِ . قَالُوا : وَاعْتِقَادُ جَوَازِ هَذَا كُفْرٌ ؟ قَالُوا : إنْ أُكْرِهَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى ذَلِكَ دُونَ سَائِرِ أَهْلِ الْكُفْرِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ , فَهُوَ كَافِرٌ , وَهُمْ كُفَّارٌ , وَلَا فَرْقَ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَهَذَا كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ مِنْ النُّصُوصِ , إلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ : أَرَأَيْت مَنْ أَحْدَثَ فِي نَصْرَانِيَّةٍ , أَوْ يَهُودِيَّةٍ , أَوْ مَجُوسِيَّةٍ : رَأْيًا لَمْ يَخْرُجْ بِهِ عَنْ جُمْلَتِهِمْ أَتُجْبِرُونَهُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ الرَّأْيِ وَالرُّجُوعِ إلَى جُمْلَتِهِمْ , أَوْ إلَى الْإِسْلَامِ ؟ وَأَرَأَيْتُمْ مَنْ خَرَجَ مِنْ مَلْكَانِيَّةٍ إلَى نُسْطُورِيَّةٍ , أَوْ يَعْقُوبِيَّةٍ , أَوْ قَادُونِيَّةٍ , أَوْ مَعْدُونِيَّةٍ , فَدَانَ بِعُبُودِيَّةِ الْمَسِيحِ , وَأَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ , وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ؟ أَتُجْبِرُونَهُ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى التَّثْلِيثِ , أَوْ إلَى الرُّجُوعِ إلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ خَرَجَ مِنْ رَبَّانِيَّةٍ إلَى عَامَانِيَّةٍ , أَوْ إلَى عِيسَوِيَّةٍ , أَتُجْبِرُونَهُ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلَى الْكُفْرِ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : هَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ التَّشْنِيعِ وَكُلُّ هَذَا عَائِدٌ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } فَحَقٌّ , وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ , لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَقَطْ , وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمُ إقْرَارِهِمْ , وَلَا حُكْمُ قَتْلِهِمْ , وَلَا حُكْمُ مَا يُفْعَلُ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِمْ أَصْلًا . وَكَذَلِكَ قوله تعالى { قُلْ يَا أَيُّهَا(1/66)
الْكَافِرُونَ } إلَى آخِرِهَا لَيْسَ فِيهَا أَيْضًا إلَّا أَنَّنَا مُبَايِنُونَ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ فِي الْعِبَادَةِ , وَالدِّينِ , وَلَيْسَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهِمْ , لَا مِنْ إقْرَارِهِمْ وَلَا مِنْ تَرْكِ إقْرَارِهِمْ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لَنَا { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } فَمَنْ تَوَلَّاهُمْ مِنَّا فَهُوَ مِنْهُمْ , كَمَا قَالَ تَعَالَى إنَّ { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } . فَهَلَّا تَرَكُوا الْمُرْتَدَّ إلَيْهِمْ مِنَّا عَلَى رِدَّتِهِ ؟ بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ مِنْهُمْ , فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةً فِي إقْرَارِ الْمُرْتَدِّ مِنَّا إلَيْهِمْ عَلَى ذَلِكَ , ذَانِكَ النَّصَّانِ لَيْسَا بِحُجَّةٍ فِيمَا أَرَادُوا التَّمْوِيهَ بِإِيرَادِهِمَا مِنْ أَنَّ الْخَارِجَ مِنْهُمْ مِنْ كُفْرٍ إلَى كُفْرٍ يُقَرُّ عَلَى ذَلِكَ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ , لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ كُلِّهَا فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا ; لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى إكْرَاهِ الْمُرْتَدِّ عَنْ دِينِهِ , فَمِنْ قَائِلٍ : يُكْرَهُ وَلَا يُقْتَلُ , وَمِنْ قَائِلٍ , يُكْرَهُ وَيُقْتَلُ . فَإِنْ قَالُوا : خَرَجَ الْمُرْتَدُّ مِنَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ عَنْ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ ؟ قُلْنَا لَهُمْ : وَكَذَلِكَ إنْ خَرَجَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمْ مِنْ كُفْرٍ إلَى كُفْرٍ بِدَلِيلٍ آخَرَ عَنْ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ , وَإِلَّا فَهُوَ كَمَا قُلْتُمْ , وَإِنَّ الْمُحْتَجِّينَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } وَبِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينٌ } فِي أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَشَيْءٌ وَاحِدٌ : هُمْ أَوَّلُ مَنْ نَقَضَ الِاحْتِجَاجَ وَخَالَفَهُ , وَفَرَّقُوا بَيْنَ أَحْكَامِ أَهْلِ الْكُفْرِ , فَكُلُّهُمْ مُجْمِعٌ مَعَنَا عَلَى : أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ مَنْ تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ , وَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ , وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ , وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : لَا يَخْلُو مَنْ أُجْبِرَ عَلَى تَرْكِ الْكُفْرِ الَّذِي خَرَجَ إلَيْهِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى الْكُفْرِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ , وَإِمَّا أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الْإِسْلَامِ ؟ فَنَعَمْ : أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِهِمَا - وَاَلَّذِي نَقُولُ بِهِ : فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا بُدَّ , وَلَا يُتْرَكُ يَرْجِعُ إلَى الدِّينِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الْإِسْلَامِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا ؟ فَجَوَابُنَا - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ : أَنَّهُ إنْ لَمْ يَقُمْ بُرْهَانٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ إجْبَارِهِ , وَإِلَّا فَهُوَ قَوْلُكُمْ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ : إنْ خَرَجَ مِنْ فِرْقَةٍ مِنْ النَّصَارَى إلَى فِرْقَةٍ أُخْرَى فَإِنَّنَا لَا نَعْتَرِضُ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ بَعْدُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . فَبَقِيَ الْآنَ الْكَلَامُ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } فَوَجَدْنَا النَّاسَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ , وَالثَّانِي : أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ . فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ , فَيَحْتَجُّ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْبَلْ مِنْ الْوَثَنِيِّينَ ؟ فَيُقَالُ لَهُمْ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ - لَمْ يَخْتَلِفْ مُسْلِمَانِ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْبَلْ مِنْ الْوَثَنِيِّينَ مِنْ الْعَرَبِ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ - إلَى أَنْ مَاتَ عليه السلام - فَهُوَ إكْرَاهٌ فِي الدِّينِ , فَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا مَخْصُوصَةٌ , فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى خَاصَّةً , كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لِعَجُوزٍ نَصْرَانِيَّةٍ : أَيَّتُهَا الْعَجُوزُ أَسْلِمِي تَسْلَمِي , إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ إلَيْنَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ ؟ فَقَالَتْ الْعَجُوزُ : وَأَنَا عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ وَأَمُوتُ إلَى قَرِيبٍ ؟ قَالَ عُمَرُ : اللَّهُمَّ اشْهَدْ , لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ . وَبِمَا رُوِّينَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَتْ امْرَأَةٌ تَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إنْ عَاشَ وَلَدُهَا تُهَوِّدُهُ , فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ , فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا , فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } . فَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَاتَلَ الْكُفَّارَ إلَى أَنْ مَاتَ عليه السلام حَتَّى أَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ . وَصَحَّ عَنْهُ(1/67)
الْإِكْرَاهُ فِي الدِّينِ , ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } الْآيَةَ إلَى قوله تعالى { فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } . وَنَزَلَ قوله تعالى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } إلَى قوله تعالى { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَأَيْنَ أَنْتُمْ مِنْ قوله تعالى { فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } . فَيُقَالُ لَهُمْ : لَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ " بَرَاءَةٌ " فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَإِنَّ " بَرَاءَةٌ " نَسَخَتْ كُلَّ حُكْمٍ تَقَدَّمَ , وَأَبْطَلَتْ كُلَّ عَهْدٍ سَلَفَ بِقَوْلِ تَعَالَى { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وَإِنَّمَا كَانَتْ آيَةُ النَّبْذِ عَلَى سَوَاءٍ أَيَّامَ كَانَتْ الْمُهَادَنَاتُ جَائِزَةً , وَأَمَّا بَعْدَ نُزُولِ { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } فَلَا يَحِلُّ تَرْكُ مُشْرِكٍ أَصْلًا , إلَّا بِأَنْ يُقْتَلَ , أَوْ يُسْلِمَ , أَوْ يُنْبَذَ إلَيْهِ عَهْدُهُ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَتْلِهِ حَيْثُ وُجِدَ , إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَبْنَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَيُقَرَّ عَلَى الْجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ , كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى , أَوْ يَكُونَ مُسْتَجِيرًا فَيُجَارَ حَتَّى يُقْرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ , ثُمَّ يُرَدَّ إلَى مَأْمَنِهِ وَلَا بُدَّ , إلَى أَنْ يُسْلِمَ , وَلَا يُتْرَكَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ , أَوْ رَسُولًا فَيُتْرَكَ مُدَّةَ أَدَاءِ رِسَالَتِهِ , وَأَخْذِ جَوَابِهِ , ثُمَّ يُرَدَّ إلَى بَلَدِهِ , وَمَا عَدَا هَؤُلَاءِ فَالْقَتْلُ وَلَا بُدَّ , أَوْ الْإِسْلَامُ , كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَصِّ الْقُرْآنِ , وَمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَإِنْ ذَكَرُوا : مَا أَنَا حُمَامٌ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَشْوَرِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْحُذَافِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ : حَيْثُ رُفِعَ إلَى عَلِيٍّ فِي يَهُودِيٍّ تَزَنْدَقَ وَنَصْرَانِيٍّ تَزَنْدَقَ ؟ قَالَ : دَعُوهُ يُحَوِّلُ مِنْ دِينٍ إلَى دِينٍ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : هَذَا لَمْ يَصِحَّ عَنْ عَلِيٍّ ; لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ وَلَمْ يُولَدْ ابْنُ جُرَيْجٍ إلَّا بَعْدَ نَحْوِ نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ عَامًا مِنْ مَوْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - وَلَا حُجَّةَ فِي أَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَمْ مِنْ قَوْلَةٍ لِعَلِيٍّ صَحِيحَةٍ قَدْ خَالَفُوهَا - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .
==============
وفي المبسوط :
قَالَ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ يُكْرَهُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ إلَّا , وَهُوَ يُرَدُّ إلَّا مَا جَرَى فِيهِ عِتْقٌ , أَوْ تَدْبِيرٌ , أَوْ وِلَادَةٌ , أَوْ طَلَاقٌ , أَوْ نِكَاحٌ , أَوْ نَذْرٌ , أَوْ رَجْعَةٌ فِي الْعِدَّةِ , أَوْ فِي الْإِيلَاءِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ 0(1/68)
فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَجُوزُ فِي الْإِكْرَاهِ , وَلَا تُرَدُّ , وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُكْرَهِ قَوْلًا مُنْعَقِدٌ عِنْدَنَا إلَّا أَنَّ مَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ مِنْهُ كَالْبَيْعِ , وَالْإِجَارَةِ يُفْسَخُ , وَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ مِنْهُ كَالطَّلَاقِ , وَالنِّكَاحِ , وَالْعَتَاقِ , وَجَمِيعِ مَا سَمَّيْنَا , فَهُوَ لَازِمٌ , وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَصَرُّفَاتُ الْمُكْرَهِ قَوْلًا يَكُونُ لَغْوًا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفَاتِ الصَّبِيِّ , وَالْمَجْنُونِ , وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِحَبْسٍ , أَوْ قَتْلٍ . وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ قوله تعالى { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } , وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْحُكْمِ لِمَا يُكْرَهُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ فِي الدِّينِ قَالَ : عليه الصلاة والسلام { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ , وَالنِّسْيَانُ , وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } , فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يُكْرَهُ عَلَيْهِ يَكُونُ مَرْفُوعًا عَنْهُ حُكْمُهُ , وَإِثْمُهُ , وَعَيْنُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ , وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ , فَالْإِكْرَاهُ الْبَاطِلُ عَلَيْهِ يَمْنَعُ حُصُولَ الْفُرْقَةِ كَالرِّدَّةِ , وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ انْعِقَادَ التَّصَرُّفَاتِ شَرْعًا بِكَلَامٍ يَصْدُرُ عَنْ قَصْدٍ , وَاخْتِيَارٍ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا , وَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِكَلَامِ الصَّبِيِّ , وَالْمَجْنُونِ , وَالنَّائِمِ , وَلَيْسَ لِلْمُكْرَهِ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا فِيمَا تَكَلَّمَ بِهِ بَلْ هُوَ مُكْرَهٌ عَلَيْهِ , وَالْإِكْرَاهُ يُضَادُّ الِاخْتِيَارَ , فَوَجَبَ اعْتِبَارُ هَذَا الْإِكْرَاهِ فِي انْعِدَامِ اخْتِيَارِهِ بِهِ لِكَوْنِهِ إكْرَاهًا بِالْبَاطِلِ , وَلِكَوْنِهِ مَعْذُورًا فِي ذَلِكَ , فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ قَصْدٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا الْتَحَقَ بِالْمَجْنُونِ بِخِلَافِ الْعِنِّينِ إذَا أَكْرَهَهُ الْقَاضِي عَلَى الْفُرْقَةِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ أَوْ الْمَوْلَى بَعْدَهَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ إكْرَاهٌ بِحَقٍّ لِانْعِدَامِ اخْتِيَارِهِ شَرْعًا . ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمَدْيُونَ إذَا أَكْرَهَهُ الْقَاضِي عَلَى بَيْعِ مَالِهِ نَفَذَ بَيْعُهُ , وَالذِّمِّيُّ إذَا أَسْلَمَ عَبْدُهُ , فَأُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ نَفَذَ بَيْعُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الْبَيْعِ بِغَيْرِ حَقٍّ قَالَ : وَعَلَى هَذَا قُلْت , وَإِذَا أُكْرِهَ الْحَرْبِيُّ عَلَى الْإِسْلَامِ صَحَّ إسْلَامُهُ , وَلَوْ أُكْرِهَ الْمُسْتَأْمَنُ , أَوْ الذِّمِّيُّ عَلَى الْإِسْلَامِ لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ ; لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ بِالْبَاطِلِ , وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ السَّكْرَانُ , فَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ شَرْعًا , فَهُوَ فِي الْمَعْنَى كَالْمُكْرَهِ بِحَقٍّ , فَيَكُونُ قَصْدُهُ , وَاخْتِيَارُهُ مُعْتَبَرًا شَرْعًا , وَلِهَذَا نَفَذَ مِنْهُ جَمِيعُ التَّصَرُّفَاتِ , وَلِهَذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِالطَّلَاقِ هُنَاكَ , وَلَا يَصِحُّ هُنَا إقْرَارُهُ بِالطَّلَاقِ بِالِاتِّفَاقِ , فَكَذَلِكَ إنْشَاؤُهُ , وَهَذَا بِخِلَافِ الْهَازِلِ ; لِأَنَّهُ قَاصِدٌ إلَى التَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ مُخْتَارٌ لَهُ , فَإِنَّ بَابَ الْهَزْلِ وَاسِعٌ , فَلَمَّا اخْتَارَ عِنْدَ الْهَزْلِ التَّكَلُّمَ بِالطَّلَاقِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْكَلِمَاتِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُخْتَارٌ لِلَّفْظِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِحُكْمِهِ , فَأَمَّا الْمُكْرَهُ , فَغَيْرُ مُخْتَارٍ فِي التَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ هُنَا ; لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ النَّجَاةُ إذَا تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ آخَرَ , وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَةً , وَهِيَ أُمُّ امْرَأَتِهِ , فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّا ادَّعَيْنَا هَذَا فِي الْأَقْوَالِ الَّتِي يَكُونُ ثُبُوتُهَا شَرْعًا بِنَاءً عَلَى اخْتِيَارٍ صَحِيحٍ , فَأَمَّا الْأَفْعَالُ فَتَحَقُّقُهَا بِوُجُودِهَا حِسًّا . ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْ الْمَجْنُونِ كَانَ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ أَيْضًا , فَكَذَلِكَ مِنْ الْمُكْرَهِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ; وَلِأَنَّ سَبَبَ الْإِكْرَاهِ مُحَافَظَةُ قَدْرِ الْمِلْكِ عَلَى الْمُكْرَهِ حَتَّى قُلْتُمْ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْعِتْقِ : الْمُكْرِهُ يَضْمَنُ الْقِيمَةَ لِلْمُكْرَهِ , وَكَمَا تَجِبُ مُحَافَظَةُ قَدْرِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ تَجِبُ مُحَافَظَةُ عَيْنِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ , وَلَا طَرِيقَ لِذَلِكَ سِوَى أَنْ يُجْعَلُ الْفِعْلُ عَدَمًا فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ , وَيُجْعَلُ هُوَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ , وَإِذَا صَارَ آلَةً لَهُ امْتَنَعَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ , وَالْعَتَاقِ , وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ : إنَّهُ فِي التَّكَلُّمِ لَا يَصْلُحُ آلَةً , فَإِنَّكُمْ جَعَلْتُمُوهُ آلَةً حَيْثُ أَوْجَبْتُمْ ضَمَانَ الْقِيمَةِ عَلَى الْمُكْرَهِ فِي الْعَتَاقِ , وَضَمَانُ نِصْفِ الصَّدَاقِ عَلَى الْمُكْرَهِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ , ثُمَّ إنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ آلَةً حَتَّى يَصِيرَ الْفِعْلُ مَوْجُودًا مِنْ الْمُكْرَهِ يُجْعَلُ آلَةً حَتَّى يَنْعَدِمَ الْفِعْلُ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ , فَيَلْغُو طَلَاقُهُ , وَعَتَاقُهُ . وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رَوَيْنَا مِنْ(1/69)
الْآثَارِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ , وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ , فَلَا يُلْغَى كَمَا لَوْ كَانَ طَائِعًا , وَبَيَانُهُ أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ كَلَامٌ , وَالْأَهْلِيَّةُ لِلْكَلَامِ يَكُونُ مُمَيِّزًا , وَمُخَاطَبًا , وَبِالْإِكْرَاهِ لَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ , وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مُخَاطَبٌ فِي غَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ , وَكَذَلِكَ فِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ حَتَّى يُنَوَّعُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ كَمَا قَرَّرْنَا , وَهَذَا ; لِأَنَّ الْخِطَابَ يَنْبَنِي عَلَى اعْتِدَالِ الْحَالِ , وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَحْوَالُ النَّاسِ , فَأَقَامَ الشَّرْعُ الْبُلُوغَ عَنْ عَقْلٍ مَقَامَ اعْتِدَالِ الْحَالِ فِي تَوَجُّهِ الْخِطَابِ , وَاعْتِبَارُ كَلَامِهِ شَرْعًا تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ , وَبِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ لَا يَنْعَدِمُ هَذَا الْمَعْنَى , وَالسَّبَبُ الظَّاهِرُ مَتَى قَامَ مَقَامَ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ دَارَ الْحُكْمُ مَعَهُ وُجُودًا , وَعَدَمًا , وَبَيَانُ الْمَحَلِّيَّةِ أَنَّهُ مَلَكَهُ , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا لَكَانَ تَصَرُّفُهُ مُصَادِفًا مَحَلَّهُ , وَلَيْسَ لِلطَّوَاعِيَةِ تَأْثِيرٌ فِي جَعْلِ مَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ مَحَلًّا , فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّصَرُّفَ صَادَفَ مَحَلَّهُ إلَّا أَنَّ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ يَنْعَدِمُ الرِّضَا مِنْهُ بِحُكْمِ السَّبَبِ , وَلَا يَنْعَدِمُ أَصْلُ الْقَصْدِ , وَالِاخْتِيَارِ ; لِأَنَّ الْمُكْرَهَ عَرَفَ الشَّرَّيْنِ , فَاخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا , وَهَذَا دَلِيلُ حُسْنِ اخْتِيَارِهِ , فَكَيْفَ يَكُونُ مُفْسِدًا لِاخْتِيَارِهِ , وَهُوَ قَاصِدٌ إلَيْهِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ قَصَدَ دَفْعَ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ , وَلَا يَتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ . وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْمَقْصُودِ إلَّا بِهِ يَكُونُ مَقْصُودًا , فَعَرَفْنَا أَنَّهُ قَاصِدٌ مُخْتَارٌ , وَلَكِنْ لَا لِعَيْنِهِ بَلْ لِدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُ , فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْهَازِلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَاصِدٌ إلَى التَّكَلُّمِ مُخْتَارٌ لَهُ لَا لِحُكْمِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ , وَهُوَ الْهَزْلُ , ثُمَّ طَلَاقُ الْهَازِلِ وَاقِعٌ , فَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الرِّضَا بِالْحُكْمِ بَعْدَ الْقَصْدِ إلَى السَّبَبِ , وَالِاخْتِيَارِ لَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ , وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَالَ الْمُكْرَهِ فِي اعْتِبَارِ كَلَامِهِ , فَوْقَ حَالِ الْهَازِلِ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْجِدِّ مِنْ الْكَلَامِ , وَالْهَزْلُ ضِدُّ الْجِدِّ , وَالْمُكْرَهُ يَتَكَلَّمُ بِالْجِدِّ ; لِأَنَّهُ يُجِيبُ إلَى مَا دُعِيَ إلَيْهِ , وَلَكِنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ , وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّدَّةِ , فَإِنَّهَا تَنْبَنِي عَلَى الِاعْتِقَادِ , وَهُوَ التَّكَلُّمُ بِخَبَرٍ عَنْ اعْتِقَادِهِ , وَقِيَامُ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ , وَأَنَّهُ فِي إخْبَارِهِ كَاذِبٌ , وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالطَّلَاقِ , وَالْإِقْرَارُ مُتَمَيِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ , وَالْكَذِبِ , وَإِنَّمَا يَصِحُّ مِنْ الطَّائِعِ لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ , فَإِنَّ دِينَهُ , وَعَقْلَهُ يَدْعُوَانِهِ إلَى ذَلِكَ . , وَفِي حَقِّ الْمُكْرَهِ قِيَامُ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَذِبٌ , وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ إذَا كَانَ كَاذِبًا , فَالْإِخْبَارُ بِهِ لَا يَصِيرُ صِدْقًا , فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ الْمُقِرُّ بِاخْتِيَارِهِ لَا يَصِيرُ كَائِنًا حَقِيقَةً , وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا هَزَلَ بِالرِّدَّةِ ; لِأَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لِاسْتِخْفَافِهِ بِالدِّينِ , فَإِنَّ الْهَازِلَ مُسْتَخِفٌّ لَا مَحَالَةَ إذْ الِاسْتِخْفَافُ بِالدِّينِ كُفْرٌ , فَأَمَّا الْمُكْرَهُ , فَغَيْرُ مُسْتَخِفٍّ , وَلَا مُعْتَقِدٍ لِمَا يُخْبِرُ بِهِ مُكْرَهًا , ثُمَّ إنْ وَجَبَ مُحَافَظَةُ قَدْرِ الْمِلْكِ عَلَى الْمُكْرَهِ , فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ مُحَافَظَةُ عَيْنِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ , وَهُوَ مُوسِرٌ , فَإِنَّهُ يَجِبُ مُحَافَظَةُ قَدْرِ الْمِلْكِ عَلَى السَّاكِتِ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ لَهُ عَلَى الْعِتْقِ , وَلَا يَجِبُ مُحَافَظَةُ عَيْنِ مِلْكِهِ بِإِبْطَالِ عِتْقِ الْمُعْتِقِ , وَهَذَا ; لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَى شَيْئَيْنِ : التَّكَلُّمُ بِالْعَتَاقِ , وَالْإِتْلَافُ , وَهُوَ فِي التَّكَلُّمِ لَا يَصْلُحُ آلَةً لَلْمُكْرِهِ ; لِأَنَّ تَكَلُّمَهُ بِلِسَانِ الْغَيْرِ لَا يَتَحَقَّقُ , وَفِي الْإِتْلَافِ يَصْلُحُ آلَةً لَهُ , فَجَعَلْنَا الْإِتْلَافَ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ , فَأَوْجَبْنَا الضَّمَانَ عَلَيْهِ , وَجَعَلْنَا التَّكَلُّمَ بِالطَّلَاقِ , وَالْعَتَاقِ مَقْصُورًا عَلَى الْمُكْرَهِ , فَحَكَمْنَا بِنُفُوذِ قَوْلِهِ بِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ آلَةً حَتَّى يَنْعَدِمَ التَّكَلُّمُ فِي جَانِبِهِ حُكْمًا . قُلْنَا هَذَا شَيْءٌ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ هُنَا , فَإِنَّ الْخِلَافَ فِي الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ , وَالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ سَوَاءٌ , وَعِنْدَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ لَا يَنْعَدِمُ الْفِعْلُ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ بِحَالٍ , ثُمَّ نَقُولُ لَيْسَ لِلْإِكْرَاهِ تَأْثِيرٌ فِي(1/70)
الْإِهْدَارِ , وَالْإِلْغَاءِ . ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ لَا يُجْعَلُ فِعْلُهُ لَغْوًا بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ التُّهْمَةِ , وَلَكِنْ يُجْعَلُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ , فَعَرَفْنَا أَنَّ تَأْثِيرَ الْإِكْرَاهِ فِي تَبْدِيلِ النِّسْبَةِ حَتَّى يَكُونَ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ , وَهَذَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَا يَصْلُح أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ , فَلَوْ اعْتَبِرْنَا ذَلِكَ لَانْعَدَمَ الْفِعْلُ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ كَانَ تَأْثِيرُ الْإِكْرَاهِ فِي الْإِلْغَاءِ , وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ , وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ , وَالْحَدِيثِ نَفْيُ الْإِثْمِ لَا رَفْعُ الْحُكْمِ , وَبِهِ نَقُولُ : إنَّ الْإِثْمَ يَرْتَفِعُ بِالْإِكْرَاهِ حَتَّى لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى إيقَاعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ , أَوْ الطَّلَاقِ حَالَةَ الْحَيْضِ لَا يَكُونُ آثِمًا إذَا ثَبَتَ أَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ تَنْعَقِدُ شَرْعًا , فَمَا لَا يَكُونُ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ بَعْدَ وُقُوعِهِ يَلْزَمُ مِنْ الْمُكْرِهِ , وَمَا لَا يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا يَكُونُ لَازِمًا مِنْهُ , وَالطَّلَاقُ , وَالْعَتَاقُ لَا يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا حَتَّى إنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُمَا , وَمَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ , وَيَعْتَمِدُ لُزُومُهُ تَمَامَ الرِّضَا قُلْنَا لَا يَكُونُ لَازِمًا إذَا صَدَرَ مِنْ الْمُكْرَهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ صَرِيحًا , أَوْ دَلَالَةً , فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ بِهِ , فَإِنْ بَاعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ الْعَبْدَ مِنْ غَيْرِهِ , وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ نَفَذَ عِتْقُهُ ; لِأَنَّ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ مَلَكَ بِالشِّرَاءِ , وَإِنْ كَانَ لِلْمُكْرَهِ حَقُّ الْفَسْخِ كَمَا كَانَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ مَالِكًا بِالشِّرَاءِ , وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْفَسْخ إلَّا أَنَّ عِتْقَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَنْفُذُ , وَعِتْقُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ نَافِذٌ قَبَضَهُ , أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُكْرَهِ , فَاسِدٌ , فَالْمُشْتَرِي مِنْهُ لَا يَصِيرُ مَالِكًا إلَّا بِالْقَبْضِ . فَأَمَّا بَيْعُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ , فَصَحِيحٌ , وَإِنْ كَانَ لِلْمُكْرَهِ حَقُّ الْفَسْخِ كَالْمُشْتَرِي إذَا قَبَضَ الْمَبِيعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ , وَبَاعَهُ صَحَّ بَيْعُهُ , وَإِنْ كَانَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْفَسْخِ , فَإِذَا صَحَّ الْبَيْعُ مَلَكَهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ , وَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ , وَيَصِيرُ بِالْعِتْقِ قَابِضًا لَهُ : يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُشْتَرِي بِإِيجَابِ الْبَيْعِ لِغَيْرِهِ يَصِيرُ مُسَلِّطًا لَهُ عَلَى الْعِتْقِ , وَهُوَ لَوْ أَعْتَقَ بِنَفْسِهِ نَفَذَ عِتْقُهُ , فَيَنْفُذُ عِتْقُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِتَسْلِيطِهِ أَيْضًا , ثُمَّ كَانَ لِلْمَوْلَى الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرَهَ قِيمَتَهُ إذَا كَانَ الْوَعِيدُ بِقَتْلٍ ; لِأَنَّ الْإِتْلَافَ صَارَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ , وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ , وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ , وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الَّذِي أَعْتَقَهُ ; لِأَنَّهُ أَتْلَفَ الْمَالِيَّةَ فِيهِ بِالْإِعْتَاقِ , وَالْعِتْقُ يَنْفُذُ مِنْ جِهَتِهِ حَتَّى يَثْبُتَ الْوَلَاءُ لَهُ , فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُكْرَهَ رَجَعَ الْمُكْرَهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ , وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي ; لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمُكْرِهِ بَعْدَ مَا ضَمِنَ لَهُ ; وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ , وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ , فَيَضْمَنُ أَيَّهمَا شَاءَ , فَإِنْ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ الْمُكْرَهَ , أَوْ الْمُكْرِهَ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ اسْتِرْدَادَ قِيمَتِهِ مِنْهُ كَاسْتِرْدَادِ عَيْنِهِ , وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعَيْنِ جَمِيعًا . , فَيَرْجِعُ هُوَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ , وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ بِالثَّمَنِ عَلَى مَوْلَاهُ , وَإِنْ ضَمِنَ الْمُكْرَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلَ , أَوْ ضَمِنَهُ الْمُكْرِهُ نَفَذَ الْبَيْعُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ , وَالْمُشْتَرِي الْآخَرِ , وَكَانَ الثَّمَنُ لَهُ ; لِأَنَّهُ كَانَ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ , وَكَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا فِيمَا بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّهُ كَانَ لِلْمُكْرَهِ حَقُّ الْفَسْخِ , فَإِذَا سَقَطَ حَقُّهُ بِوُصُولِ الْقِيمَةِ إلَيْهِ , وَقَدْ تَقَرَّرَ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ نَفَذَ الْبَيْعُ بَيْنَهُ , وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي الْآخَرِ . .
==============
وقال ابن العربي :
قوله تعالى : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ }(1/71)
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قِيلَ : إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ ; وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ . الثَّانِي : أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يُقَرُّونَ عَلَى الْجِزْيَةِ ; وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَنْ رَأَى قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْ جِنْسٍ تُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَيْهِ . الثَّالِثُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ ; كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ إذَا لَمْ يَعِشْ لَهَا وَلَدٌ تَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إنْ عَاشَ أَنْ تُهَوِّدَهُ تَرْجُو بِهِ طُولَ عُمُرِهِ , فَلَمَّا أَجْلَى اللَّهُ تَعَالَى بَنِي النَّضِيرِ قَالُوا : كَيْفَ نَصْنَعُ بِأَبْنَائِنَا ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ }
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قوله تعالى : ( لَا إكْرَاهَ ) :
عُمُومٌ فِي نَفْيِ إكْرَاهِ الْبَاطِلِ ; فَأَمَّا الْإِكْرَاهُ بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ مِنْ الدِّينِ ; وَهَلْ يُقْتَلُ الْكَافِرُ إلَّا عَلَى الدِّينِ ; قَالَ صلى الله عليه وسلم : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } . وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } وَبِهَذَا يُسْتَدَلُّ عَلَى ضَعْفِ قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ , فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ جَازَ الْإِكْرَاهُ بِالدِّينِ عَلَى الْحَقِّ , وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُكْرَهِ أَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ مَا أَظْهَرَ ؟ . الْجَوَابُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم يَدْعُو الْخَلْقَ إلَيْهِ , وَيُوَضِّحُ لَهُمْ السَّبِيلَ , وَيُبَصِّرُهُمْ الدَّلِيلَ , وَيَحْتَمِلُ الْإِذَايَةَ وَالْهَوَانَ فِي طَرِيقِ الدَّعْوَةِ وَالتَّبْيِينِ , حَتَّى قَامَتْ حُجَّةُ اللَّهِ , وَاصْطَفَى اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ , وَشَرَحَ صُدُورَهُمْ لِقَبُولِ الْحَقِّ ; فَالْتَفَّتْ كَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ , وَائْتَلَفَتْ قُلُوبُ أَهْلِ الْإِيمَانِ , ثُمَّ نَقَلَهُ مِنْ حَالِ الْإِذَايَةِ إلَى الْعِصْمَةِ , وَعَنْ الْهَوَانِ إلَى الْعِزَّةِ , وَجَعَلَ لَهُ أَنْصَارًا بِالْقُوَّةِ , وَأَمَرَهُ بِالدُّعَاءِ بِالسَّيْفِ ; إذْ مَضَى مِنْ الْمُدَّةِ مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ , وَكَانَ مِنْ الْإِنْذَارِ مَا حَصَلَ بِهِ الْإِعْذَارُ . جَوَابٌ ثَانٍ : وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُؤْخَذُونَ أَوَّلًا كُرْهًا , فَإِذَا ظَهَرَ الدِّينُ وَحَصَلَ فِي جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ , وَعَمَّتْ الدَّعْوَةُ فِي الْعَالَمِينَ حَصَلَتْ لَهُمْ بِمُثَافَنَتِهِمْ وَإِقَامَةِ الطَّاعَةِ مَعَهُمْ النِّيَّةُ ; فَقَوِيَ اعْتِقَادُهُ , وَصَحَّ فِي الدِّينِ وِدَادُهُ , إنْ سَبَقَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى تَوْفِيقٌ , وَإِلَّا أَخَذْنَا بِظَاهِرِهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمًا , وَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ , وَفِي ذَلِكَ تَفْرِيعٌ كَثِيرٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ " الْإِكْرَاهُ مِنْ الْمَسَائِلِ " , وَسَتَأْتِي مِنْهَا مَسْأَلَةُ إكْرَاهِ الطَّلَاقِ وَالْكُفْرِ فِي قوله تعالى : { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ فِي صِفَةِ الْبَيْعَةِ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْكُفَّارِ(1/72)
; وَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مَنْقُولَةً وَهِيَ الْيَوْمَ مَكْتُوبَةٌ ; إذْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يُكْتَبُ إلَّا الْقُرْآنُ . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي السُّنَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهَا , وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يُكَتِّبُ أَصْحَابَهُ وَلَا يَجْمَعُهُمْ لَهُ دِيوَانٌ حَافِظٌ , اللَّهُمَّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا : { اُكْتُبُوا لِي مَنْ يَلْفِظُ بِالْإِسْلَامِ لِأَمْرٍ عَرَضَ لَهُ } . فَأَمَّا الْيَوْمَ فَيُكْتَبُ إسْلَامُ الْكَفَرَةِ , كَمَا يُكْتَبُ سَائِرُ مَعَالِمِ الدِّينِ الْمُهِمَّةِ وَالتَّوَابِعِ مِنْهَا لِضَرُورَةِ حِفْظِهَا حِينَ فَسَدَ النَّاسُ وَخَفَّتْ أَمَانَتُهُمْ , وَمَرَجَ أَمْرُهُمْ , وَنُسْخَةُ مَا يُكْتَبُ : بسم الله الرحمن الرحيم : لِلَّهِ أَسْلَمَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ أَهْلِ أَرْضِ كَذَا , وَآمَنَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَشَهِدَ لَهُ بِشَهَادَةِ الصِّدْقِ , وَأَقَرَّ بِدَعْوَةِ الْحَقِّ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ . وَالْتَزَمَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِأَرْكَانِهَا وَأَوْصَافِهَا , وَأَدَّى الزَّكَاةَ بِشُرُوطِهَا , وَصَوْمَ رَمَضَانَ , وَالْحَجَّ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ , إذَا اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا , وَيَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ , وَيَتَوَضَّأُ مِنْ الْحَدَثِ , وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ مِنْ دُونِ اللَّهِ , وَتَحَقَّقَ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا قُلْت : وَإِنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ . وَإِنْ كَانَ يَهُودِيًّا قُلْت : وَإِنَّ الْعُزَيْرَ عَبْدُ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ صَابِئًا قُلْت : وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ عَبِيدُ اللَّهِ وَرُسُلُهُ الْكِرَامُ وَكُتَّابُهُ الْبَرَرَةُ الَّذِينَ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ . وَإِنْ كَانَ هِنْدِيًّا قُلْت : [ وَإِنَّ ] مَانِي بَاطِلٌ مَحْضٌ , وَبُهْتَانٌ صِرْفٌ , وَكَذِبٌ مُخْتَلَقٌ مُزَوَّرٌ . وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبٍ مِنْ الْكُفْرِ اعْتَمَدْته بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ بِالذِّكْرِ . وَتَقُولُ بَعْدَهُ : سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا , { إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا } { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } . تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا , وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ , وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبَّرَهُ تَكْبِيرًا . وَالْتَزَمَ أَلَّا يَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ , وَلَا يَسْرِقُ , وَلَا يَزْنِي , وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ , وَلَا يَتَكَلَّمُ بِالزُّورِ , وَيَكُونُ مَعَ إخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَأَحَدِهِمْ , وَلَا يُسْلِمُهُمْ وَلَا يُسْلِمُونَهُ , وَلَا يَظْلِمُهُمْ وَلَا يَظْلِمُونَهُ , وَعَلِمَ أَنَّ لِلدِّينِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَسُنَنًا , فَعَاهَدَ اللَّهَ عَلَى أَنْ يَلْتَزِمَ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْهَا عَلَى نَعْتِهَا بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَسَنَنٍ قَوِيمٍ وَاَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى مَا شَاءَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَشَهِدَ أَنَّهُ { مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } شَهِدَ عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ مَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ , وَهُوَ صَحِيحُ الْعَقْلِ فِي شَهْرِ كَذَا . وَقَدْ أَدْرَكَ التَّقْصِيرَ جُمْلَةٌ مِنْ الْمُؤَرِّخِينَ , وَكَتَبُوا مَعَالِمَ الْأَمْرِ دُونَ وَظَائِفِ النَّهْيِ , وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَذْكُرُ فِي بَيْعَتِهِ الْوَجْهَيْنِ , أَوْ يُغَلِّبُ ذِكْرَ وَظَائِفِ النَّهْيِ , كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ . وَكَتَبُوا أَنَّهُ أَسْلَمَ طَوْعًا , وَكَتَبُوا : وَكَانَ إسْلَامُهُ عَلَى يَدَيْ فُلَانٍ , وَكَتَبُوا أَنَّهُ اغْتَسَلَ وَصَلَّى . فَأَمَّا قَوْلُهُمْ : وَكَانَ إسْلَامُهُ طَوْعًا فَبَاطِلٌ , فَإِنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ مُكْرَهًا لَصَحَّ إسْلَامُهُ وَلَزِمَهُ , وَقُتِلَ بِالرِّدَّةِ . وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ; وَالْكُفَّارُ إنَّمَا يُقَاتَلُونَ قَسْرًا عَلَى الْإِسْلَامِ فَيُسْتَخْرَجُ مِنْهُمْ بِالسَّيْفِ . وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَتْلِ الْأَسْرَى أَوْ مُفَادَاتِهِمْ بِالْخَمْسَةِ الْأَوْجُهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِيهِمْ ; فَإِذَا أَسْلَمَ سَقَطَ حُكْمُ السَّيْفِ عَنْهُ . وَفِي الصَّحِيحِ : { عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إلَى الْجَنَّةِ بِالسَّلَاسِلِ } . وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ لَوْ جَنَى جِنَايَةً فَخَافَ مِنْ مُوجَبِهَا الْقَتْلَ وَالضَّرْبَ فَأَسْلَمَ سَقَطَ عَنْهُ الضَّرْبُ وَالْقَتْلُ , وَكَانَ إسْلَامُهُ كُرْهًا , وَحُكِمَ بِصِحَّتِهِ , وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِكْرَاهُ الْمُسْقِطُ لِلْإِسْلَامِ إذَا كَانَ ظُلْمًا وَبَاطِلًا , مِثْلُ أَنْ يُقَالَ لِلذِّمِّيِّ [ ابْتِدَاءً ] مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ وَلَا سَبَبٍ : أَسْلِمْ , وَإِلَّا(1/73)
قَتَلْتُك ; فَهَذَا لَا يَجُوزُ ; فَإِنْ أَسْلَمَ لَمْ يَلْزَمْهُ , وَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى دِينِهِ عِنْدَ أَمْنِهِ مِمَّا خَافَ مِنْهُ . وَإِذَا ادَّعَى الذِّمِّيُّ أَنَّهُ أُكْرِهَ بِالْبَاطِلِ لَزِمَهُ إثْبَاتُ ذَلِكَ , فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الطَّوَاعِيَةِ بِوَجْهٍ وَلَا حَالٍ فِي كُلِّ كَافِرٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : كَانَ إسْلَامُهُ عَلَى يَدِ فُلَانٍ فَأَنَّى عَلَّقُوهَا , وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ فِي كُتُبِ الْمُخَالِفِينَ ; لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فِي شُرُوطِهِمْ لِعِلَّةِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الرَّجُلَ إذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ الرَّجُلِ كَانَ لَهُ وَلَاؤُهُ , وَذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِمَذْهَبٍ لَنَا . وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَغَيْرِهَا . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : اغْتَسَلَ وَصَلَّى , فَلَيْسَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْعَقْدِ الْمَكْتُوبِ ; لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ صَلَاةٍ , فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ وَلَا وُضُوءَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ . وَأَمَّا إذَا كَانَ وَقْتَ صَلَاةٍ فَيُؤْمَرُ بِالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ فَيَفْعَلُهُمَا , وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَكْتُوبًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
============
وفي المغني :
( 7115 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ , كَالذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ , فَأَسْلَمَ , لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ , حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى إسْلَامِهِ طَوْعًا 0
, مِثْلُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ عَنْهُ . فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ , فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكُفَّارِ . وَإِنْ رَجَعَ إلَى دِينِ الْكُفْرِ , لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ وَلَا إكْرَاهُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ . وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيُّ , وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : يَصِيرُ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ , وَإِنْ رَجَعَ عَنْهُ قُتِلَ إذَا امْتَنَعَ عَنْ الْإِسْلَامِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ { : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . فَإِذَا قَالُوهَا , عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا . } وَلِأَنَّهُ أَتَى بِقَوْلِ الْحَقِّ , فَلَزِمَهُ حُكْمُهُ كَالْحَرْبِيِّ إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ . وَلَنَا , أَنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ عَلَيْهِ , فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ , كَالْمُسْلِمِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ , وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ الْإِكْرَاهِ قوله تعالى : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } . وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ - إذَا أَقَامَ عَلَى مَا عُوهِدَ عَلَيْهِ - , وَالْمُسْتَأْمَنَ لَا يَجُوزُ نَقْضُ عَهْدِهِ , وَلَا إكْرَاهُهُ عَلَى مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ . وَلِأَنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ عَلَيْهِ , فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ , كَالْإِقْرَارِ وَالْعِتْقِ . وَفَارَقَ الْحَرْبِيَّ وَالْمُرْتَدَّ ; فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُمَا , وَإِكْرَاهُهُمَا عَلَى الْإِسْلَامِ , بِأَنْ يَقُولَ : إنْ أَسْلَمْتَ وَإِلَّا قَتَلْنَاك . فَمَتَى أَسْلَمَ , حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ظَاهِرًا . وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ عَنْهُ , فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُ أُكْرِهَ بِحَقٍّ , فَحُكِمَ بِصِحَّةِ مَا يَأْتِي بِهِ , كَمَا لَوْ أُكْرِهَ الْمُسْلِمُ عَلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّى , وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ , فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ , فَإِنَّ مَنْ اعْتَقَدَ الْإِسْلَامَ بِقَلْبِهِ , وَأَسْلَمَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى , فَهُوَ مُسْلِمٌ عِنْدَ اللَّهِ , مَوْعُودٌ بِمَا وُعِدَ بِهِ مَنْ أَسْلَمَ طَائِعًا , وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ الْإِسْلَامَ بِقَلْبِهِ , فَهُوَ بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ , لَا حَظَّ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ , سَوَاءٌ فِي هَذَا مَنْ يَجُوزُ إكْرَاهُهُ , وَمَنْ لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ , فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ اعْتِقَادِهِ مِنْ الْعَاقِلِ , بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ , وَيَقُومُونَ بِفَرَائِضِهِ , وَلَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ .
==============
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
12 - مَسْأَلَةٌ : سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ عَلَى مَنْ أَكَلَ مِنْ ذَبِيحَةِ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ مُطْلَقًا , وَلَا يَدْرِي مَا حَالُهُمْ , هَلْ دَخَلُوا فِي دِينِهِمْ قَبْلَ نَسْخِهِ وَتَحْرِيفِهِ وَقَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمْ بَعْدَ ذَلِكَ , بَلْ يَتَنَاكَحُونَ , وَتُقَرُّ مُنَاكَحَتُهُمْ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ , وَهُمْ أَهْلُ ذِمَّةٍ يُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ , وَلَا يُعْرَفُ مَنْ وَلَّاهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ , فَهَلْ لِلْمُنْكِرِينَ عَلَيْهِمْ مَنْعُهُمْ مِنْ الذَّبْحِ لِلْمُسْلِمِينَ , أَمْ لَهُمْ الْأَكْلُ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ كَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ؟
أَجَابَ : رضي الله عنه :(1/74)
لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى أَحَدٍ أَكَلَ مِنْ ذَبِيحَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي هَذَا الزَّمَانِ , وَلَا يَحْرُمُ ذَبْحُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ , وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَهُوَ جَاهِلٌ مُخْطِئٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ , وَمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ لَا يُسَوَّغُ فِيهَا الْإِنْكَارُ إلَّا بِبَيَانِ الْحُجَّةِ , وَإِيضَاحِ الْمَحَجَّةِ , لَا الْإِنْكَارُ الْمُجَرَّدُ الْمُسْتَنِدُ إلَى مَحْضِ التَّقْلِيدِ . فَإِنَّ هَذَا فِعْلُ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْأَهْوَاءِ , كَيْفَ وَالْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَقَبْلَهُ قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا مُخَالِفٌ لِمَا عُلِمَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِمَا عُلِمَ مِنْ حَالِ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ لِهَذَا لَا يَخْرُجُ عَنْ قَوْلَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُحَرِّمُ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ مُطْلَقًا , كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الرَّافِضَةِ , وَهَؤُلَاءِ يُحَرِّمُونَ نِكَاحَ نِسَائِهِمْ وَأَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ , وَهَذَا لَيْسَ مِنْ أَقْوَالِ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْفُتْيَا , وَلَا مِنْ أَقْوَالِ أَتْبَاعِهِمْ , وَهُوَ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ , فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } . فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ الْآيَةُ مُعَارَضَةٌ بِقَوْلِهِ : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } . قِيلَ : الْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ الشِّرْكَ الْمُطْلَقَ فِي الْقُرْآنِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ , وَإِنَّمَا يَدْخُلُونَ فِي الشِّرْكِ الْمُقَيَّدِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ } . فَجَعَلَ الْمُشْرِكِينَ قِسْمًا غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَاَلَّذِينَ أَشْرَكُوا } . فَجَعَلَهُمْ قِسْمًا غَيْرَهُمْ , فَأَمَّا دُخُولُهُمْ فِي الْمُقَيَّدِ , فَفِي قوله تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . فَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ . وَسَبَبُ هَذَا : أَنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ بِهِ الرُّسُلَ لَيْسَ فِيهِ شِرْكٌ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } . وَقَالَ : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } , وَلَكِنَّهُمْ بَدَّلُوا وَغَيَّرُوا , فَابْتَدَعُوا مِنْ الشِّرْكِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ اللَّهُ سُلْطَانًا , فَصَارَ فِيهِمْ شِرْكٌ بِاعْتِبَارِ مَا ابْتَدَعُوا , لَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الدِّينِ . وقوله تعالى : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } هُوَ تَعْرِيفٌ لِلْكَوَافِرِ الْمَعْرُوفَاتِ اللَّاتِي كُنَّ فِي عِصَمِ الْمُسْلِمِينَ , وَأُولَئِكَ كُنَّ مُشْرِكَاتٍ لَا كِتَابِيَّاتٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَنَحْوِهَا . الْوَجْهُ الثَّانِي : إذَا قُدِّرَ أَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكَاتِ وَالْكَوَافِرِ يَعُمُّ الْكِتَابِيَّاتِ , فَآيَةُ الْمَائِدَةِ خَاصَّةٌ , وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْمُمْتَحِنَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , كَمَا فِي الْحَدِيثِ { الْمَائِدَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا } وَالْخَاصُّ الْمُتَأَخِّرُ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ , لَكِنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ إنَّهُ مُفَسِّرٌ لَهُ , فَتَبَيَّنَ أَنَّ صُورَةَ التَّخْصِيصِ لَمْ تَرِدْ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ , وَطَائِفَةٌ يَقُولُونَ إنَّ ذَلِكَ نُسِخَ بَعْدَ أَنْ شُرِعَ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : إذَا فَرَضْنَا النَّصَّيْنِ خَاصَّيْنِ , فَأَحَدُ النَّصَّيْنِ حَرَّمَ ذَبَائِحَهُمْ وَنِكَاحَهُمْ , وَالْآخَرُ أَحَلَّهُمَا , فَالنَّصُّ الْمُحَلِّلُ لَهُمَا هُنَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ هِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , فَتَكُونُ نَاسِخَةً لِلنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ , وَلَا يُقَالُ إنَّ هَذَا نَسْخٌ لِلْحُكْمِ مَرَّتَيْنِ ; لِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ لَمْ يَكُنْ بِخِطَابٍ(1/75)
شَرْعِيٍّ حَلَّلَ ذَلِكَ , بَلْ كَانَ لِعَدَمِ التَّحْرِيمِ , بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ , وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالتَّحْرِيمُ الْمُبْتَدَأُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِاسْتِصْحَابِ حُكْمِ الْفِعْلِ , وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ , وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ نَاسِخًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } الْآيَةَ ; مِنْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُحَرِّمْ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ إلَّا هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ , فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَفَتْ تَحْرِيمَ مَا سِوَى الثَّلَاثَة إلَى حِينِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ , وَلَمْ يَثْبُتْ تَحْلِيلُ مَا سِوَى ذَلِكَ , بَلْ كَانَ مَا سِوَى ذَلِكَ عَفْوًا لَا تَحْلِيلَ فِيهِ وَلَا تَحْرِيمَ , كَفِعْلِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ , وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ : { الْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ } . وَهَذَا مَحْفُوظٌ , عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ , أَوْ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ } , فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحَلَّهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ , وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ مَدَنِيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ , وَسُورَةُ الْأَنْعَامِ مَكِّيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ , فَعُلِمَ أَنَّ تَحْلِيلَ الطَّيِّبَاتِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ لَا بِمَكَّةَ , وقوله تعالى : { يَسْأَلُونَك مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ } إلَى قَوْلِهِ : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } , إلَى آخِرِهَا . فَثَبَتَ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ , وَقَبْلَ ذَلِكَ كَانَ إمَّا عَفْوًا عَلَى الصَّحِيحِ , وَإِمَّا مُحَرَّمًا ثُمَّ نُسِخَ , يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ حِلُّ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ , وَالْكَلَامُ فِي نِسَائِهِمْ كَالْكَلَامِ فِي ذَبَائِحِهِمْ , فَإِذَا ثَبَتَ حِلُّ أَحَدِهِمَا , ثَبَتَ حِلُّ الْآخَرِ , وَحِلُّ أَطْعِمَتِهِمْ لَيْسَ لَهُ مُعَارِضٌ أَصْلًا . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً , وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : قوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } , مَحْمُولٌ عَلَى الْفَوَاكِهِ وَالْحُبُوبِ . قِيلَ : هَذَا خَطَأٌ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذِهِ مُبَاحَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوس , فَلَيْسَ فِي تَخْصِيصِهَا بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَائِدَةٌ . الثَّانِي : أَنَّ إضَافَةَ الطَّعَامِ إلَيْهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ صَارَ طَعَامًا بِفِعْلِهِمْ , وَهَذَا إنَّمَا يُسْتَحَقُّ فِي الذَّبَائِحِ الَّتِي صَارَتْ لَحْمًا بِذَكَاتِهِمْ , فَأَمَّا الْفَوَاكِهُ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا مَطْعُومَةً لَمْ تَصِرْ طَعَامًا بِفِعْلِ آدَمِيٍّ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَرَنَ حِلَّ الطَّعَامِ بِحِلِّ النِّسَاءِ , وَأَبَاحَ طَعَامَنَا لَهُمْ , كَمَا أَبَاحَ طَعَامَهُمْ لَنَا , وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَ النِّسَاءِ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ , كَمَا أَبَاحَ طَعَامَهُمْ لَنَا , وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَ النِّسَاءِ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ , وَكَذَلِكَ حُكْمُ الطَّعَامِ وَالْفَاكِهَةِ , وَالْحَبِّ لَا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ . الرَّابِعُ : أَنَّ لَفْظَ الطَّعَامِ عَامٌّ , وَتَنَاوَلَهُ اللَّحْمَ وَنَحْوَهُ أَقْوَى مِنْ تَنَاوُلِهِ لِلْفَاكِهَةِ , فَيَجِبُ إقْرَارُ اللَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ , لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَرَنَ بِهِ قوله تعالى : { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } , وَنَحْنُ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُطْعِمَهُمْ كُلَّ أَنْوَاعِ طَعَامِنَا , فَكَذَلِكَ يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَأْكُلَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ طَعَامِهِمْ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ , بَلْ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَهْدَتْ لَهُ الْيَهُودِيَّةُ عَامَ خَيْبَرَ شَاةً مَشْوِيَّةً , فَأَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً , ثُمَّ قَالَ : { إنَّ هَذِهِ تُخْبِرُنِي أَنَّ فِيهَا سُمًّا } , وَلَوْلَا أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ حَلَالٌ لَمَا تَنَاوَلَ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ لَمَّا غَزَوْا خَيْبَرَ , أَخَذَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ جِرَابًا فِيهِ شَحْمٌ , قَالَ : قُلْت لَا أُطْعِمُ الْيَوْمَ مِنْ هَذَا أَحَدًا , فَالْتَفَتَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ , وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ طَعَامِ أَهْلِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ . وَأَيْضًا { فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجَابَ(1/76)
دَعْوَةَ يَهُودِيٍّ إلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ } , رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ , وَالْإِهَالَةُ مِنْ الْوَدَكِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ الذَّبِيحَةِ وَمِنْ السَّمْنِ وَنَحْوِهِ , الَّذِي يَكُونُ فِي أَوْعِيَتِهِمْ الَّتِي يَطْبُخُونَ فِيهَا فِي الْعَادَةِ , وَلَوْ كَانَتْ ذَبَائِحُهُمْ مُحَرَّمَةً لَكَانَتْ أَوَانِيهِمْ كَأَوَانِي الْمَجُوسِ وَنَحْوِهِمْ , وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْأَكْلِ فِي أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى رَخَّصَ أَنْ يُغْسَلَ . وَأَيْضًا فَقَدْ اسْتَفَاضَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَتَحُوا الشَّامَ وَالْعِرَاقَ وَمِصْرَ كَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ : الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى , وَإِنَّمَا امْتَنَعُوا مِنْ ذَبَائِحِ الْمَجُوسِ , وَوَقَعَ فِي جُبْنِ الْمَجُوسِ مِنْ النِّزَاعِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ الْجُبْنَ يَحْتَاجُ إلَى الْإِنْفَحَةِ , وَفِي إِنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ , فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ بِطَهَارَتِهَا , وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولَانِ بِنَجَاسَتِهَا , وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ . فَصْلٌ : الْمَأْخَذُ الثَّانِي : الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ هُوَ كَوْنُ هَؤُلَاءِ الْمَوْجُودِينَ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ , وَهُوَ الْمَأْخَذُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ السَّائِلِ , وَهُوَ الْمَأْخَذُ الَّذِي تَنَازَعَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ , وَهُوَ أَنَّ قوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } . هَلْ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ هُوَ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ مُتَدَيِّنٌ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ ؟ أَوْ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ آبَاؤُهُ قَدْ دَخَلُوا فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ : فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ : هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ , وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ , وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ , بَلْ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ صَرِيحًا . وَالثَّانِي : قَوْلُ الشَّافِعِيِّ , وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ . وَأَصْلُ هَذَا الْقَوْلِ : أَنَّ عَلِيًّا , وَابْنَ عَبَّاسٍ تَنَازَعَا فِي ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ , فَقَالَ عَلِيٌّ : لَا تُبَاحُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا نِسَاؤُهُمْ , فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ , وَرُوِيَ عَنْهُ . تَغُرُّوهُمْ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُومُوا بِالشُّرُوطِ الَّتِي شَرَطَهَا عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ , فَإِنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ , وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : بَلْ تُبَاحُ لقوله تعالى : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } . وَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يُحَرِّمُوا ذَبَائِحَهُمْ , وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ عَلِيٍّ وَحْدَهُ , وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ . فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ , وَمَالِكٍ , وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ , وَصَحَّحَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ , بَلْ هِيَ آخِرُ قَوْلَيْهِ , بَلْ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ : مَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَرِهَهُ إلَّا عَلِيًّا , وَهَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ , وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَالرَّأْيِ , كَالْحَسَنِ , وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ , وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ , وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَدَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ , وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ : كَانَ آخِرُ قَوْلِ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَى بِذَبَائِحِهِمْ بَأْسًا . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ عَلِيٍّ , وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ , وَأَحْمَدُ إنَّمَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ فِي بَنِي تَغْلِبَ , وَهُمْ الَّذِينَ تَنَازَعَ فِيهِمْ الصَّحَابَةُ , فَأَمَّا سَائِرُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ الْعَرَبِ , مِثْلُ تَنُوخَ وَبَهْرَاءَ , وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْيَهُودِ فَلَا أَعْرِفُ عَنْ أَحْمَدَ فِي حِلِّ ذَبَائِحِهِمْ نِزَاعًا , وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ , وَلَا عَنْ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ السَّلَفِ , وَإِنَّمَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ فِي بَنِي تَغْلِبَ خَاصَّةً , وَلَكِنْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ مَنْ جَعَلَ فِيهِمْ رِوَايَتَيْنِ كَبَنِي تَغْلِبَ , وَالْحِلُّ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ , وَمَا أَعْلَمُ لِقَوْلِ الْآخَرِ(1/77)
قُدْوَةً مِنْ السَّلَفِ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ [ قَالُوا ] بِأَنَّهُ : مَنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ غَيْرَ كِتَابِيٍّ , بَلْ مَجُوسِيًّا لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ وَمُنَاكَحَةُ نِسَائِهِ , وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَبُ مَجُوسِيًّا , وَأَمَّا الْأُمُّ فَلَهُ فِيهَا قَوْلَانِ , فَإِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ مَجُوسِيَّيْنِ حَرُمَتْ ذَبِيحَتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ , وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ , وَغَالِبُ ظَنِّي أَنَّ هَذَا غَلَطٌ عَلَى مَالِكٍ فَإِنِّي لَمْ أَجِدْهُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ . وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُخَرَّجَةِ عَنْ أَحْمَدَ فِي سَائِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ الْعَرَبِ . وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ , وَهُوَ الرِّوَايَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا هَؤُلَاءِ , فَأَمَّا إذَا جَعَلَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي بَنِي تَغْلِبَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعَرَبِ , أَوْ قِيلَ إنَّ النِّزَاعَ عَامٌّ , وَفَرَّعْنَا عَلَى الْقَوْلِ بِحِلِّ ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ وَنِسَائِهِمْ , كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ , فَإِنَّهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا عِبْرَةَ بِالنَّسَبِ , بَلْ لَوْ كَانَ الْأَبَوَانِ جَمِيعًا مَجُوسِيَّيْنِ أَوْ وَثَنِيَّيْنِ وَالْوَلَدُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِلَا رَيْبٍ , كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ .(1/78)
وَمَنْ ظَنَّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ تَحْرِيمَ نِكَاحِ مَنْ أَبَوَيْهِ مَجُوسِيَّانِ أَوْ أَحَدُهُمَا مَجُوسِيٌّ قَوْلٌ وَاحِدٌ فِي مَذْهَبِهِ , فَهُوَ مُخْطِئٌ خَطَأً لَا رَيْبَ فِيهِ , لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ أَصْلُ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , وَلِهَذَا كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَنَاقَضُ فَيُجَوِّزُ أَنْ يُقَرَّ بِالْجِزْيَةِ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ , وَيَقُولُ مَعَ هَذَا بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ نَصْرَانِيِّ الْعَرَبِ مُطْلَقًا , وَمَنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ غَيْرَ كِتَابِيٍّ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ , وَهَذَا تَنَاقُضٌ . وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ فَقَدْ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ , وَهُوَ آخِرُ كُتُبِهِ , فَذَكَرَ فِيمَنْ انْتَقَلَ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ , كَالرُّومِ , وَقَبَائِلَ مِنْ الْعَرَبِ , وَهُمْ تَنُوخُ , وَبَهْرَاءُ , وَمِنْ بَنِي تَغْلِبَ هَلْ تَجُوزُ مُنَاكَحَتُهُمْ وَأَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ , وَذَكَرَ أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِنِكَاحِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ , وَأَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى مُخَرَّجَةٌ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي ذَبَائِحِهِمْ , وَاخْتَارَ أَنَّ الْمُنْتَقِلَ إلَى دِينِهِمْ حُكْمُهُ حُكْمُهُمْ سَوَاءٌ كَانَ انْتِقَالُهُ بَعْدَ مَجِيءِ شَرِيعَتِنَا أَوْ قَبْلَهَا , وَسَوَاءٌ انْتَقَلَ إلَى دِينِ الْمُبَدِّلِينَ أَوْ دِينٍ لَمْ يُبَدَّلْ , وَيَجُوزُ مُنَاكَحَتُهُ وَأَكْلُ ذَبِيحَتِهِ . وَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَنْ أَبَوَاهُ مُشْرِكَانِ مِنْ الْعَرَبِ وَالرُّومِ , فَمَنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُشْرِكًا فَهُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ , هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ , فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ كَمَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ , فَإِنَّهُ يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ , قَالَ أَصْحَابُهُ : وَإِذَا أَقْرَرْنَاهُ بِالْجِزْيَةِ , حَلَّتْ ذَبَائِحُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ , وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا . وَأَصْلُ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرْته مِنْ نِزَاعِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي بَنِي تَغْلِبَ , وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَالْجُمْهُورُ أَحَلُّوهَا وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ . ثُمَّ الَّذِينَ كَرِهُوا ذَبَائِحَ بَنِي تَغْلِبَ تَنَازَعُوا فِي مَأْخَذِ عَلِيٍّ , فَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ عَلِيًّا إنَّمَا حَرَّمَ ذَبَائِحَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ آبَاءَهُمْ دَخَلُوا فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ , وَبَنَوْا عَلَى هَذَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ بِالنَّسَبِ لَا بِنَفْسِ الرَّجُلِ , وَأَنَّ مَنْ شَكَكْنَا فِي أَجْدَادِهِ , هَلْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَمْ لَا , أَخَذْنَا بِالِاحْتِيَاطِ فَحَقَنَّا دَمَهُ بِالْجِزْيَةِ احْتِيَاطًا , وَحَرَّمْنَا ذَبِيحَتَهُ وَنِسَاءَهُ احْتِيَاطًا , وَهَذَا مَأْخَذُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ عَلِيٌّ لَمْ يَكْرَهْ ذَبَائِحَ بَنِي تَغْلِبَ إلَّا لِكَوْنِهِمْ مَا تَدَيَّنُوا بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي وَاجِبَاتِهِ وَمَحْظُورَاتِهِ , بَلْ أَخَذُوا مِنْهُ حِلَّ الْمُحَرَّمَاتِ فَقَطْ , وَلِهَذَا قَالَ : إنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ , وَهَذَا الْمَأْخَذُ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الصَّوَابُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ هُمْ مَنْ كَانَ دَخَلَ جَدُّهُ فِي ذَلِكَ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ , وَالْقَوْلُ بِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَرَادَ ذَلِكَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ , بَلْ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ كَوْنَ الرَّجُلِ كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ هُوَ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ لَا بِنَسَبِهِ , وَكُلُّ مَنْ تَدَيَّنَ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ مِنْهُمْ , سَوَاءٌ كَانَ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ , وَسَوَاءٌ كَانَ دُخُولُهُ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ , وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ , كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ , وَهُوَ الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْ أَحْمَدَ , وَإِنْ كَانَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ , وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم , وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ نِزَاعًا . وَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ قَدِيمٌ , وَاحْتَجَّ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَنْ لَا يُقَرُّ الرَّجُلُ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ كَمَنْ هُوَ فِي زَمَانِنَا إذَا انْتَقَلَ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ , فَإِنَّهُ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ , وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُ ,(1/79)
وَهَذَا يُبَيِّنُ خَطَأَ مَنْ يُنَاقِضُ مِنْهُمْ . وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ , يَقُولُونَ : مَنْ دَخَلَ هُوَ , أَوْ أَبَوَاهُ , أَوْ جَدُّهُ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ أُقِرَّ بِالْجِزْيَةِ , سَوَاءٌ دَخَلَ فِي زَمَانِنَا هَذَا , أَوْ قَبْلَهُ . وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُونَ : مَتَى عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ إلَّا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ , كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ مَعَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ , وَالصَّوَابُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ , وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوهٌ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْصَارِ جَمَاعَةٌ تَهَوَّدُوا قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَلِيلٍ , كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ مِقْلَاتًا , وَالْمِقْلَاتُ الَّتِي لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ , كَثِيرَةُ الْقَلَتِ , وَالْقَلَتُ : الْمَوْتُ وَالْهَلَاكُ , كَمَا يُقَالُ : امْرَأَةٌ مِذْكَارٌ مِئْنَاثٌ إذَا كَانَتْ كَثِيرَةَ الْوِلَادَةِ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَالسُّمَّا الْكَثِيرَةُ الْمَوْتِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَنْذُرُ إنْ عَاشَ لَهَا وَلَدَانِ تَجْعَلُ أَحَدَهُمَا يَهُودِيًّا لِكَوْنِ الْيَهُودِ كَانُوا أَهْلَ عِلْمٍ وَكِتَابٍ , وَالْعَرَبُ كَانُوا أَهْلَ شِرْكٍ وَأَوْثَانٍ , فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْصَارِ تَهَوَّدُوا , فَطَلَبَ آبَاؤُهُمْ أَنْ يُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ } الْآيَةَ . فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانَ آبَاؤُهُمْ مَوْجُودِينَ تَهَوَّدُوا , وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا دُخُولٌ بِأَنْفُسِهِمْ فِي الْيَهُودِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَ مَبْعَثِ الْمَسِيحِ صلوات الله عليه , وَهَذَا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ , وَمَعَ هَذَا نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ إكْرَاهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَهَوَّدُوا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ عَلَى الْإِسْلَامِ , وَأَقَرَّهُمْ بِالْجِزْيَةِ . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي جَوَازِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لِمَنْ دَخَلَ بِنَفْسِهِ فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ . فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّوَابُ دُونَ الْآخَرِ . وَمَتَى ثَبَتَ أَنَّهُ يُعْقَدُ لَهُ الذِّمَّةُ ثَبَتَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِنَفْسِهِ لَا بِنَسَبِهِ , وَأَنَّهُ تُبَاحُ ذَبِيحَتُهُ وَطَعَامُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنَّ الْمَانِعَ لِذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْهُ إلَّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الصِّنْفَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , فَلَا يَدْخُلُونَ , فَإِذَا ثَبَتَ بِنَصِّ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ دَخَلُوا فِي الْخِطَابِ بِلَا نِزَاعٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ وَحَوْلَهَا كَانُوا عَرَبًا وَدَخَلُوا فِي دِينِ الْيَهُودِ , وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُفَصِّلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَكْلِ طَعَامِهِمْ , وَحِلِّ نِسَائِهِمْ , وَإِقْرَارِهِمْ بِالذِّمَّةِ بَيْنَ مَنْ دَخَلَ أَبَوَاهُ بَعْدَ مَبْعَثِ عِيسَى عليه السلام , وَمَنْ دَخَلَ قَبْلَ ذَلِكَ , وَلَا بَيْنَ الْمَشْكُوكِ فِي نَفْسِهِ , بَلْ حَكَمَ فِي الْجَمِيعِ حُكْمًا وَاحِدًا عَامًّا . فَعُلِمَ أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ طَائِفَةٍ وَطَائِفَةٍ , وَجَعْلَ طَائِفَةٍ لَا تُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ . وَطَائِفَةٍ تُقَرُّ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ , وَطَائِفَةٍ يُقَرُّونَ وَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ , تَفْرِيقٌ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الثَّابِتَةِ عَنْهُ . وَقَدْ عُلِمَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ الْمُسْتَفِيضِ , أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانَ فِيهِمْ يَهُودٌ كَثِيرٌ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَحِمْيَرَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعَرَبِ , وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ : { إنَّك تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ } , وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا وَعَدْلَهُ مَعَافِرَ , وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ دَخَلَ أَبُوهُ قَبْلَ النَّسْخِ أَوْ بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ وَفْدُ نَجْرَانَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ النَّصَارَى الَّذِينَ كَانَ فِيهِمْ عَرَبٌ كَثِيرُونَ أَقَرَّهُمْ بِالْجِزْيَةِ , وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ لَمْ يُفَرِّقْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ , وَأَصْحَابِهِ بَيْنَ بَعْضِهِمْ وَبَعْضٍ , بَلْ قَبِلُوا مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ , وَأَبَاحُوا ذَبَائِحَهُمْ , وَنِسَاءَهُمْ , وَكَذَلِكَ نَصَارَى الرُّومِ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ صِنْفٍ وَصِنْفٍ , وَمَنْ تَدَبَّرَ السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ عَلِمَ كُلَّ هَذَا بِالضَّرُورَةِ , وَعَلِمَ أَنَّ التَّفْرِيقَ قَوْلٌ مُحْدَثٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ كَوْنَ الرَّجُلِ مُسْلِمًا أَوْ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ(1/80)
الدِّينِ هُوَ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ لَا بِاعْتِقَادِهِ وَإِرَادَتِهِ وَقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ , لَا يَلْحَقُهُ هَذَا الِاسْمُ بِمُجَرَّدِ اتِّصَافِ آبَائِهِ بِذَلِكَ , لَكِنَّ الصَّغِيرَ حُكْمُهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا حُكْمُ أَبَوَيْهِ , لِكَوْنِهِ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ , فَإِذَا بَلَغَ وَتَكَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِالْكُفْرِ كَانَ حُكْمُهُ مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , فَلَوْ كَانَ أَبَوَاهُ يَهُودًا أَوْ نَصَارَى , فَأَسْلَمَ كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ فَكَفَرَ كَانَ كَافِرًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنْ كَفَرَ بِرِدَّةٍ لَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُرْتَدًّا لِأَجْلِ آبَائِهِ . وَكُلُّ حُكْمٍ عُلِّقَ بِأَسْمَاءِ الدِّينِ مِنْ إسْلَامٍ وَإِيمَانٍ , وَكُفْرٍ وَنِفَاقٍ , وَرِدَّةٍ وَتَهَوُّدٍ , وَتَنَصُّرٍ إنَّمَا يَثْبُتُ لِمَنْ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ , وَكَوْنُ الرَّجُلِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَوْ أَهْلِ الْكِتَابِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ , فَمَنْ كَانَ بِنَفْسِهِ مُشْرِكًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُ غَيْرَ مُشْرِكَيْنِ , وَمَنْ كَانَ أَبَوَاهُ مُشْرِكَيْنِ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ لَا حُكْمُ الْمُشْرِكِينَ , فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ يَهُودِيًّا , أَوْ نَصْرَانِيًّا وَآبَاؤُهُ مُشْرِكِينَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . أَمَّا إذَا تَعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُشْرِكِينَ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِأَجْلِ كَوْنِ آبَائِهِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ كَانُوا مُشْرِكِينَ فَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ قوله تعالى : { لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ } , وَقَوْلُهُ : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوْا } , وَأَمْثَالُ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ خِطَابٌ لِهَؤُلَاءِ الْمَوْجُودِينَ وَإِخْبَارٌ عَنْهُمْ , الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ , الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ مِنْ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ مَا جَرَى , لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ مُتَمَسِّكًا بِهِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ , فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا , وَلَا هُمْ مِمَّنْ خُوطِبُوا بِشَرَائِعِ الْقُرْآنِ , وَلَا قِيلَ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ , فَإِنَّهُمْ قَدْ مَاتُوا قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَنْ تَدَيَّنَ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمَوْجُودِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَهُمْ كُفَّارٌ تَمَسَّكُوا بِكِتَابٍ مُبَدَّلٍ مَنْسُوخٍ , وَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ كَمَا يُخَلَّدُ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْكُفَّارِ , وَاَللَّهُ تَعَالَى مَعَ ذَلِكَ سَوَّغَ إقْرَارَهُمْ بِالْجِزْيَةِ , وَأَحَلَّ طَعَامَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنْ يُقَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْقُرْآنِ هُمْ كُفَّارٌ , وَإِنْ كَانَ أَجْدَادُهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ عَذَابُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِأَخَفَّ مِنْ عَذَابِ مَنْ كَانَ أَبُوهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ , بَلْ وُجُودُ النَّسَبِ الْفَاضِلِ هُوَ إلَى تَغْلِيظِ كُفْرِهِمْ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى تَخْفِيفِ كُفْرِهِمْ , فَمَنْ كَانَ أَبُوهُ مُسْلِمًا وَارْتَدَّ كَانَ كُفْرُهُ أَغْلَظَ مِنْ كُفْرِ مَنْ أَسْلَمَ هُوَ ثُمَّ ارْتَدَّ . وَلِهَذَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَنْ وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ إذَا ارْتَدَّ , ثُمَّ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ , هَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ كَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ عِيسَى وَمُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا كَفَرَ بِهِمَا وَبِمَا جَاءَا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاتَّبَعَ الْكِتَابَ الْمُبَدَّلَ الْمَنْسُوخَ كَانَ كُفْرُهُ مِنْ أَغْلَظِ الْكُفْرِ , وَلَمْ يَكُنْ كُفْرُهُ أَخَفَّ مِنْ كُفْرِ مَنْ دَخَلَ بِنَفْسِهِ فِي هَذَا الدِّينِ الْمُبَدَّلِ , وَلَا لَهُ بِمُجَرَّدِ نِسْبَةِ حُرْمَةٍ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا عِنْدَ رَسُولِهِ , وَلَا يَنْفَعُهُ دِينُ آبَائِهِ إذَا كَانَ هُوَ مُخَالِفًا لَهُمْ , فَإِنَّ آبَاءَهُ كَانُوا إذْ ذَاكَ مُسْلِمِينَ , فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ فِي كُلِّ وَقْتٍ , فَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِكُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَهُوَ مُسْلِمٌ , وَمَنْ كَفَرَ بِشَيْءٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ فَلَيْسَ مُسْلِمًا فِي أَيِّ زَمَانٍ كَانَ . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَوْلَادِ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا كَفَرُوا مَزِيَّةٌ عَلَى أَمْثَالِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ الَّذِينَ مَاثَلُوهُمْ فِي اتِّبَاعِ الدِّينِ الْمُبَدَّلِ الْمَنْسُوخِ , عُلِمَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ , وَإِكْرَامُ هَؤُلَاءِ بِإِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ , وَحِلِّ ذَبَائِحِهِمْ , وَنِسَائِهِمْ دُونَ هَؤُلَاءِ , وَأَنَّهُ فَرْقٌ مُخَالِفٌ(1/81)
لِأُصُولِ الْإِسْلَامِ , وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْفَرْقُ بِالْعَكْسِ كَانَ أَوْلَى , وَلِهَذَا يُوَبِّخُ اللَّهُ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَا لَا يُوَبِّخُهُ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلَى أَجْدَادِهِمْ نِعَمًا عَظِيمَةً فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا , فَكَفَرُوا نِعْمَتَهُ , وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ , وَبَدَّلُوا كِتَابَهُ , وَغَيَّرُوا دِينَهُ , فَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ , وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ , وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ; ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ . فَهُمْ مَعَ شَرَفِ آبَائِهِمْ وَحَقِّ دِينِ أَجْدَادِهِمْ مِنْ أَسْوَأِ الْكُفَّارِ عِنْدَ اللَّهِ , وَهُوَ أَشَدُّ غَضَبًا عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّ فِي كُفْرِهِمْ مِنْ الِاسْتِكْبَارِ وَالْحَسَدِ وَالْمُعَانَدَةِ وَالْقَسْوَةِ وَكِتْمَانِ الْعِلْمِ , وَتَحْرِيفِ الْكِتَابِ , وَتَبْدِيلِ النَّصِّ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا لَيْسَ فِي كُفْرِ هَؤُلَاءِ , فَكَيْفَ يَجْعَلُ لِهَؤُلَاءِ الْأَرْجَاسِ الْأَنْجَاسِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَبْغَضِ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ مَزِيَّةً عَلَى سَائِرِ إخْوَانِهِمْ الْكُفَّارِ , مَعَ أَنَّ كُفْرَهُمْ إمَّا مُمَاثِلٌ لِكُفْرِ إخْوَانِهِمْ الْكُفَّارِ , وَإِمَّا أَغْلَظُ مِنْهُ إذْ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ كُفْرَ الدَّاخِلِينَ أَغْلَظُ مِنْ كُفْرِ هَؤُلَاءِ مَعَ تَمَاثُلِهِمَا فِي الدِّينِ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمَوْجُودِ . الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّ تَعْلِيقَ الشَّرَفِ فِي الدِّينِ بِمُجَرَّدِ النَّسَبِ ; هُوَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ , الَّذِينَ اتَّبَعَتْهُمْ عَلَيْهِ الرَّافِضَةُ وَأَشْبَاهُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ , فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ إلَّا بِالتَّقْوَى النَّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ } , وَلِهَذَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ يَمْدَحُ فِيهَا أَحَدًا بِنَسَبِهِ , وَلَا يَذُمُّ أَحَدًا بِنَسَبِهِ , وَإِنَّمَا يَمْدَحُ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى وَيَذُمُّ بِالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيحِ , أَنَّهُ قَالَ : { أَرْبَعٌ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أُمَّتِي لَنْ يَدْعُوهُنَّ , الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ } . فَجَعَلَ الْفَخْرَ بِالْأَحْسَابِ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ , فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ لَا فَخْرَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِكَوْنِ أَجْدَادِهِ لَهُمْ حَسَبٌ شَرِيفٌ , فَكَيْفَ يَكُونُ لِكَافِرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَخْرٌ عَلَى كَافِرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِكَوْنِ أَجْدَادِهِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ؟ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَعَ التَّمَاثُلِ فِي الدِّينِ فَضِيلَةٌ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِينَ فِي الدِّينِ لِأَجْلِ النَّسَبِ , عُلِمَ أَنَّهُ لَا فَضْلَ لِمَنْ كَانَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى آبَاؤُهُ مُؤْمِنِينَ مُتَمَسِّكِينَ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ , عَلَى مَنْ كَانَ أَبُوهُ دَاخِلًا فِيهِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ , وَإِذَا تَمَاثَلَ دِينُهُمَا تَمَاثَلَ حُكْمُهُمَا فِي الدِّينِ . وَالشَّرِيعَةُ إنَّمَا عَلَّقَتْ بِالنَّسَبِ أَحْكَامًا , مِثْلُ كَوْنِ الْخِلَافَةِ مِنْ قُرَيْشٍ , وَكَوْنِ ذَوِي الْقُرْبَى لَهُمْ الْخُمُسُ , وَتَحْرِيمُ الصَّدَقَةِ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَنَحْوُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّسَبَ الْفَاضِلَ مَظِنَّةُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُهُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إذَا فَقِهُوا } . وَالْمَظِنَّةُ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِمَا إذَا خَفِيَتْ الْحَقِيقَةُ أَوْ انْتَشَرَتْ , فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ دِينُ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ وَعُرِفَ نَوْعُ دِينِهِ وَقَدْرُهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِنَسَبِهِ الْأَحْكَامُ الدِّينِيَّةُ , وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِأَبِي لَهَبٍ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ , لَمَّا عُرِفَ كُفْرُهُ كَانَ أَحَقَّ بِالذَّمِّ مِنْ غَيْرِهِ , وَلِهَذَا جَعَلَ لِمَنْ يَأْتِي بِفَاحِشَةٍ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ , كَمَا جَعَلَ لِمَنْ يَقْنُتْ مِنْهُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَجْرَيْنِ مِنْ الثَّوَابِ . فَذَوِي الْأَنْسَابِ الْفَاضِلَةِ إذَا أَسَاءُوا كَانَتْ إسَاءَتُهُمْ أَغْلَظَ مِنْ إسَاءَةِ غَيْرِهِمْ , وَعُقُوبَتُهُمْ أَشَدَّ(1/82)
عُقُوبَةً مِنْ غَيْرِهِمْ , وَكُفْرُ مَنْ كَفَرَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ إنْ لَمْ يَكُنْ أَشَدَّ مِنْ كُفْرِ غَيْرِهِمْ وَعُقُوبَتُهُمْ أَشَدُّ عُقُوبَةً مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَا أَقَلَّ مِنْ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ , وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ مَنْ كَفَرَ وَفَسَقَ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ تُخَفَّفُ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ إمَّا أَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُمْ أَشَدَّ عُقُوبَةً مِنْ غَيْرِهِمْ فِي أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ , أَوْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُمْ أَغْلَظَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ ; لِأَنَّ مَنْ أَكْرَمَهُ بِنِعْمَتِهِ وَرَفَعَ قَدْرَهُ إذَا قَابَلَ حُقُوقَهُ بِالْمَعَاصِي وَقَابَلَ نِعَمَهُ بِالْكُفْرِ , كَانَ أَحَقَّ بِالْعُقُوبَةِ مِمَّنْ لَمْ يُنْعِمْ عَلَيْهِ كَمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ . الْوَجْهُ السَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَتَحُوا الشَّامَ وَالْعِرَاقَ وَمِصْرَ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرَهُمْ , وَكَانُوا يَأْكُلُونَ ذَبَائِحَهُمْ , لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ طَائِفَةٍ وَطَائِفَةٍ , وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ بِالْأَنْسَابِ , وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي بَنِي تَغْلِبَ خَاصَّةً لِأَمْرٍ يَخْتَصُّ بِهِمْ , كَمَا أَنَّ عُمَرَ ضَعَّفَ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةَ , وَجَعَلَ جِزْيَتَهُمْ مُخَالِفَةً لِجِزْيَةِ غَيْرِهِمْ , وَلَمْ يُلْحِقْ بِهِمْ سَائِرَ الْعَرَبِ , وَإِنَّمَا أَلْحَقَ بِهِمْ مَنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِمْ . الْوَجْهُ الثَّامِنُ : أَنْ يُقَالَ هَذَا الْقَوْلُ مُسْتَلْزِمٌ أَنْ لَا يَحِلَّ لَنَا طَعَامُ جُمْهُورٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ نَسَبَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ وَلَا نَعْلَمُ قَبْلَ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ أَنَّ أَجْدَادَهُ كَانُوا يَهُودًا أَوْ نَصَارَى قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ , وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ حِلَّ ذَبَائِحِهِمْ وَنِسَائِهِمْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ , فَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مُسْتَلْزِمًا رَفْعَ مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عُلِمَ أَنَّهُ بَاطِلٌ . الْوَجْهُ التَّاسِعُ : أَنْ يُقَالَ مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ يَأْكُلُونَ ذَبَائِحَهُمْ , فَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا لِبَيَانِ رُجْحَانِ الْقَوْلِ بِالتَّحْلِيلِ , وَأَنَّهُ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ , فَأَمَّا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَوْ نَحْوَهَا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ , يَجُوزُ لِمَنْ تَمَسَّكَ فِيهَا بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْآخَرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَدَلِيلٍ , فَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ , فَقَدْ تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي جُبْنِ الْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ , وَلَيْسَ لِمَنْ رَجَّحَ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى صَاحِبِ الْقَوْلِ الْآخَرِ إلَّا بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ , وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ , وَفِي ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ إذَا سَمَّوْا عَلَيْهَا غَيْرَ اللَّهِ , وَفِي شَحْمِ الثَّرْبِ , وَالْكُلْيَتَيْنِ , وَذَبْحِهِمْ لِذَوَاتِ الظُّفُرِ كَالْإِبِلِ وَالْبَطِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ , وَتَنَازَعُوا فِي ذَبْحِ الْكِتَابِيِّ لِلضَّحَايَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ , وَقَدْ قَالَ بِكُلِّ قَوْلٍ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمَشْهُورِينَ . فَمَنْ صَارَ إلَى قَوْلٍ مُقَلِّدًا لِقَائِلِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى مَنْ صَارَ إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ مُقَلِّدًا لِقَائِلِهِ , لَكِنْ إنْ كَانَ مَعَ أَحَدِهِمَا حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَجَبَ الِانْقِيَادُ لِلْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا ظَهَرَتْ . وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُرَجِّحَ قَوْلًا عَلَى قَوْلٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ , وَلَا يَتَعَصَّبُ لِقَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ وَلَا لِقَائِلٍ عَلَى قَائِلٍ بِغَيْرِ حُجَّةٍ , بَلْ مَنْ كَانَ مُقَلِّدًا لَزِمَ حِلُّ التَّقْلِيدِ , فَلَمْ يُرَجِّحْ وَلَمْ يُزَيِّفْ وَلَمْ يُصَوِّبْ وَلَمْ يُخَطِّئْ , وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ مَا يَقُولُهُ سُمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ , فَقُبِلَ مَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَقٌّ , وَرُدَّ مَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاطِلٌ , وَوُقِفَ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ , وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ فَاوَتَ بَيْنَ النَّاسِ فِي قُوَى الْأَذْهَانِ , كَمَا فَاوَتَ بَيْنَهُمْ فِي قُوَى الْأَبْدَانِ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَنَحْوُهَا فِيهَا مِنْ أَغْوَارِ الْفِقْهِ وَحَقَائِقِهِ مَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ عَرَفَ أَقَاوِيلَ الْعُلَمَاءِ وَمَآخِذَهُمْ فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ إلَّا قَوْلَ عَالِمٍ وَاحِدٍ وَحُجَّتَهُ دُونَ قَوْلِ الْعَالِمِ الْآخَرِ وَحُجَّتِهِ , فَإِنَّهُ مِنْ الْعَوَّام الْمُقَلِّدِينَ لَا مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُرَجِّحُونَ وَيُزَيِّفُونَ , وَاَللَّهُ تَعَالَى يَهْدِينَا وَإِخْوَانَنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
===============(1/83)
وفي البحر الزخار :
( فَرْعٌ ) ( عَلِيٌّ 3 ع عم ابْنُ الزُّبَيْرِ ) ثُمَّ ( بص طا هد وو شُرَيْحُ عي لح ) ثُمَّ ( يه ن م ك ش ) وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ بِأَيِّ الضَّرْبَيْنِ لقوله تعالى { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } أَيْ لَا حُكْمَ لِفِعْلِ الْمُكْرَهِ إلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلٌ , إذْ الْإِكْرَاهُ عَلَى الدِّينِ وَاقِعٌ ( خعي يب ث عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ) ثُمَّ ( حص ) بَلْ يَصِحُّ طَلَاقَهُ مُطْلَقًا , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { ثَلَاثَةٌ هَزْلُهُنَّ جَدٌّ } الْخَبَرُ , وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { كُلُّ طَلَاقٍ وَاقِعٌ إلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ } . قُلْنَا : مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } . قُلْت : وَقَوْلُهُ { لَا طَلَاقَ فِي إغْلَاقٍ } وَهُوَ الْمَنْعُ , ثُمَّ إنَّ الْمُكْرَهَ لَيْسَ هَازِلًا . ثُمَّ الْخَبَرُ الثَّانِي يَقْتَضِي صِحَّةَ طَلَاقِ النَّائِمِ فَيَبْطُلُ الْأَخْذُ بِظَاهِرِهِمَا .
( قَوْلُهُ ) { ثَلَاثٌ هَزْلُهُنَّ جِدٌّ } تَقَدَّمَ ( قَوْلُهُ ) { كُلُّ طَلَاقٍ وَاقِعٌ } إلَخْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ ) { لَا طَلَاقَ فِي إغْلَاقٍ } لَفْظُهُ فِي الْجَامِعِ " عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ : سَمِعْت عَائِشَةَ تَقُولُ : " لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إغْلَاقٍ " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ : الْإِغْلَاقُ : الْغَضَبُ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " لَيْسَ لِمُسْتَكْرَهٍ وَلَا مَجْنُونٍ طَلَاقٌ " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَابٍ وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ أُخَرُ
" مَسْأَلَةٌ " وَإِسْلَامُ عَابِدِ الْوَثَنِ وَالْكَوَاكِبِ الشَّهَادَتَانِ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ } الْخَبَرَ . وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وآله وسلم مُرْسَلٌ إلَى الْعَرَبِ أَوْ إلَى الْأُمِّيِّينَ لَمْ تَكْفِ الشَّهَادَتَانِ حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ كُلِّ دِينٍ غَيْرَ دِينِ الْإِسْلَامِ . وَمَنْ أَنْكَرَ مَا عُلِمَ مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً فَلَا بُدَّ مَعَ الشَّهَادَتَيْنِ مِنْ إثْبَاتِهِ مَا رَدَّ . وَصَلَاةُ الْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ فِي دَارِهِمْ إسْلَامٌ , لَا فِي دَارِنَا لِاحْتِمَالِ التَّقِيَّةِ . وَيَصِحُّ إسْلَامُ الْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ مُكْرَهًا , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ } الْخَبَرَ . لَا الذِّمِّيَّ , لقوله تعالى { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } وَهُوَ مَحْقُونُ الدَّمِ , فَلَا يَصِحُّ إكْرَاهُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ
============
وفي مواهب الجليل :
ص ( وَلَيْسَ لِامْرَأَةٍ يَحْتَاجُ لَهَا زَوْجٌ تَطَوُّعٌ بِلَا إذْنٍ )(1/84)
ش : ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ غَيْرَ التَّطَوُّعِ لَا تَحْتَاجُ فِيهِ إلَى اسْتِئْذَانِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ كُلُّ مَا أَوْجَبَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ فِدْيَةٍ أَوْ جَزَاءِ صَيْدٍ فِي الْإِحْرَامِ أَوْ فِي الْحَرَمِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ التَّطَوُّعِ بِخِلَافِ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَحُكْمُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْأَمَةِ الَّتِي لِلْوَطْءِ كَالزَّوْجَةِ وَأَمَّا الْخَادِمُ الَّتِي لِلْخِدْمَةِ وَالْعَبْدُ فَلَيْسَ عَلَيْهِمَا اسْتِئْذَانُ السَّيِّدِ إذَا لَمْ يَضُرَّ الصَّوْمُ بِخِدْمَةِ السَّيِّدِ قَالَهُ فِي رَسْمِ الشَّجَرَةِ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ : وَإِذَا أَذِنَ لَهُمْ فِي صِيَامِ التَّطَوُّعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْإِذْنِ وَإِنْ صَامُوا بِإِذْنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُفْطِرَهُمْ , انْتَهَى . ( فَرْعٌ ) قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ الْبَاجِيّ : مَنْ صَامَ مِنْهُنَّ وَلَوْ دُونَ إذْنٍ لَمْ يَجُزْ فِطْرُهُ وَانْظُرْ هَلْ لِلزَّوْجِ إفْطَارُهُنَّ , انْتَهَى . وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَهُنَّ وَلِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِهَا وَإِذَا عَلِمَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فَلَا تَتَطَوَّعُ بِالصَّوْمِ وَلَهُ أَنْ يُفْطِرَهَا إنْ شَاءَ , انْتَهَى . فَانْظُرْهُ ( فَرْعٌ ) قَالَ فِي رَسْمِ الْجَامِعِ مِنْ سَمَاعِ أَصْبَغَ مِنْ كِتَابِ الصِّيَامِ قَالَ أَصْبَغُ : سَمِعْت ابْنَ الْقَاسِمِ وَسُئِلَ عَنْ النَّصْرَانِيَّةِ تَحْتَ الْمُسْلِمِ أَيُفْطِرُهَا فِي صِيَامِهَا الَّذِي تَصُومُهُ مَعَ أَهْلِ دِينِهَا قَالَ : لَا أَرَى أَنْ يُكْرِهَهَا عَلَى مَا عَلَيْهِ أَهْلُ دِينِهَا وَمِلَّتِهَا يَعْنِي شَرَائِعَهَا وَلَا عَلَى أَكْلِ مَا يَجْتَنِبُونَ فِي صِيَامِهِمْ أَوْ يَجْتَنِبُونَ أَكْلَهُ رَأْسًا لَيْسَ ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ قَالَ أَصْبَغُ : وَلَا عَلَيْهِ مَنْعُهَا إيَّاهُ كُرْهًا وَلَا لَهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } وَقَرَأَ { : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } . حَتَّى بَلَغَ { : لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ . } قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : وَهُوَ مِمَّا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِمَّا تَتَشَرَّعُ بِهِ وَاخْتُلِفَ هَلْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ أَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالذَّهَابِ إلَى الْكَنِيسَةِ فَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ : لَهُ مَنْعُهُمَا مِنْ أَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ دِينِهَا وَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ الْكَنِيسَةِ إلَّا فِي الْفَرْضِ .
===========
وفي الروضة البهية :
الرِّقِّيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ(1/85)
هُنَاكَ اعْتِرَاضٌ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ نَاحِيَةِ اعْتِرَافِهِ بِقَانُونِ ( الرِّقِّيَّةِ ) - اسْتِعْبَادُ إنْسَانٍ لِمِثْلِهِ - الْأَمْرُ الَّذِي يَتَنَافَى وَالْمَعْهُودُ مِنْ رُوحِ " الْعَدَالَةِ " الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي تَتَحَكَّمُ فِي جَمِيعِ قَوَانِينِهِ وَأَحْكَامِهِ وَانْتِظَامَاتِهِ : { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ } . { الْبَشَرُ كُلُّهُمْ سَوَاسِيَةٌ لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ } . حَدِيثًا مَشْهُورًا عَنْ الرَّسُولِ الْأَكْرَمِ صلى الله عليه وآله وسلم فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إخْوَةٌ سَوَاءٌ . وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } . كَانَتْ جُيُوشُ الْمُسْلِمِينَ تَتَّجِهُ إلَى أَكْنَافِ الْعَالَمِ صَارِخَةً بِالدَّعْوَةِ إلَى الْحُرِّيَّةِ وَالْعَدَالَةِ وَالْعِلْمِ لِتُحَرِّرَ الشُّعُوبَ مِنْ نِيرِ الِاسْتِعْبَادِ , وَمِنْ ضَغْطِ الظُّلْمِ , وَظُلْمَةِ الْجَهَالَةِ . كَانَتْ الْأُمَمُ تُرَحِّبُ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ , وَتَجِدُ آمَالَهَا مُتَحَقِّقَةً فِي ظِلِّ الْإِسْلَامِ الْعَادِلِ فَتَدْخُلُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا أَفْوَاجًا مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ , أَوْ عُنْفٍ { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ } . هَكَذَا عَرَّفَ الْإِسْلَامُ نَفْسَهُ وَهَكَذَا عَرَفَتْهُ الْأُمَمُ فَأَقْبَلَتْ تَعْتَنِقُهُ عَنْ طُلُوعٍ وَرَغْبَةٍ . الْإِسْلَامُ دِينٌ يَنْبُذُ الْعُنْصُرِيَّةَ وَيُحَارِبُهَا حَرْبًا شَعْوَاءَ لَا هَوَادَةَ فِيهَا إنَّ الْقَوْمِيَّاتِ تَنْصَهِرُ فِي بَوْتَقَةِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ لِتَكْوِينِ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ تَبْتَنِي وَحْدَتُهَا عَلَى أَسَاسِ الْعَقِيدَةِ وَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ . فَكَلِمَةُ التَّوْحِيدِ هِيَ الْأَسَاسُ لِتَوْحِيدِ الْكَلِمَةِ . نَعَمْ إنَّ الشُّعُوبِيَّةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْيَهُودِ , أَنَّهُمْ شُعُوبِيُّونَ وَأَتْحَفُوا الْعَالَمَ بِالشُّعُوبِيَّةِ , كَمَا أَنَّ الْقَوْمِيَّةَ الْعُنْصُرِيَّةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ ( بَنِي أُمَيَّةَ ) دُخَلَاءِ الْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامُ مِنْهُمْ بَرَاءٌ . فَأَطَاحَتْ بِهَيْكَلِ الْإِسْلَامِ وَشَوَّهَتْ سُمْعَتَهُ الْبَرِيئَةَ . فَيَا لَسَخَافَةِ الرَّأْيِ مِنْ قَبُولِ شَرِيعَةِ الدُّخَلَاءِ , وَرَفْضِ شَرِيعَةِ الْكُرَمَاءِ . وَكَلِمَتُنَا الْأَخِيرَةُ : الْإِسْلَامُ بَرِيءٌ مِنْ الشُّعُوبِيَّةِ وَالْعُنْصُرِيَّةِ إنَّمَا هُوَ دِينُ الْعَقِيدَةِ وَالْإِيمَانِ . ( كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَتَوْحِيدُ الْكَلِمَةِ ) . هَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ . وَهَذِهِ رَوْحُهُ , وَتِلْكَ دَعْوَتُهُ . هَكَذَا عَرَّفَهُ اللَّهُ وَعَرَفَتْهَا الشُّعُوبُ حَقِيقَةً وَاقِعِيَّةً لَا مِرْيَةَ فِيهَا : إذَنْ فَمَا سَبَبُ اعْتِرَافِهِ بِقَانُونِ الِاسْتِعْبَادِ الْبَشَرِيِّ الَّذِي يَتَنَاقَضُ مَعَ قَانُونِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ , وَيَسْتَبْشِعُهُ الْعَقْلُ الْحَكِيمُ ؟ , وَالْجَوَابُ أَوَّلًا بِصُورَةٍ إجْمَالِيَّةٍ - : أَنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَعْتَرِفْ بِقَانُونِ الِاسْتِعْبَادِ الْبَشَرِيِّ إطْلَاقًا - عَلَى مَا كَانَ الْمُتَدَاوَلُ عِنْدَ الْأُمَمِ الْمُتَمَدِّنَةِ آنَذَاكَ ; تَدُلُّنَا عَلَى ذَلِكَ مُرَاجَعَةٌ عَابِرَةٌ لِلتَّارِيخِ الْقَدِيمِ وَاسْتِجْوَابُ فَلْسَفَةِ الِاسْتِعْبَادِ الْبَشَرِيِّ حِينَذَاكَ : - كَانَتْ الرُّومَانُ تَعْتَقِدُ - فَلْسَفِيًّا - : أَنَّ الْعُنْصُرَ الْأَبْيَضَ غَيْرُ الْعُنْصُرِ الْأَسْوَدِ جِنْسًا , وَدَمًا , وَخِلْقَةً . فَالدَّمُ الَّذِي يَجْرِي فِي عُرُوقِ الْإِنْسَانِ الْأَبْيَضِ يَخْتَلِفُ عَنْ الَّذِي يَجْرِي فِي عُرُوقِ الْأَسْوَدِ كَمَا أَنَّهُمَا خُلِقَا مِنْ أَصْلَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ , وَقَدْ خُلِقَ الْأَسْوَدُ لِكَيْ يَخْدُمَ الْأَبْيَضَ , فَوُجُودُهُ لِوُجُودِهِ , عَلَى غِرَارِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالْأَحْجَارِ , فَالْإِنْسَانُ الْكَرِيمُ هُوَ الْأَبْيَضُ أَمَّا الْأَسْوَدُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لِخِدْمَةِ الْأَبْيَضِ , فَهُوَ عَبْدٌ لَهُ فِي أَصْلِ خِلْقَتِهِ , وَلِلْإِنْسَانِ الْأَبْيَضِ أَنْ يَسْتَغِلَّ الْإِنْسَانَ الْأَسْوَدَ أَيْنَمَا وَجَدَهُ أَوْ عَثَرَ عَلَيْهِ , فَهُوَ مِلْكٌ لَهُ وَهُوَ مَالِكُهُ وَفْقَ الْقَانُونِ . تِلْكَ كَانَتْ نَظْرَةَ الْأُمَمِ الْمُتَمَدِّنَةِ - أَمْثَالَ الرُّومَانِ وَالْفُرْسِ وَالْيُونَانِ وَغَيْرِهِمْ - إلَى الْجِنْسِ الْأَسْوَدِ إطْلَاقًا . وَلِذَلِكَ كَانَ النَّخَّاسُونَ يُغِيرُونَ عَلَى الْمَنَاطِقِ الْأَفْرِيقِيَّةِ لِصَيْدِ الْإِنْسَانِ الْأَسْوَدِ زَرَافَاتٍ , يَحْمِلُونَهُمْ فِي السُّفُنِ , وَيَأْتُونَ بِهِمْ إلَى الْأَسْوَاقِ فَيَبِيعُونَهُمْ كَمَا تُبَاعُ الْأَغْنَامُ وَالْمَوَاشِي , بَلْ وَبِصُورَةٍ أَفْجَعَ . وَكَانَتْ الْمَوَالِي تُعَامِلُ الْعَبِيدَ مُعَامَلَةً سَيِّئَةً , يَسْتَغِلُّونَ مَنَافِعَهُمْ وَمَوَارِدَهُمْ , وَيَفْرِضُونَ عَلَيْهِمْ الْإِتَاوَاتِ الثَّقِيلَةَ ,(1/86)
وَيُكَلِّفُونَهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ , أَوْ يَعْبَثُونَ بِأَرْوَاحِهِمْ غَايَةَ التَّفْرِيحِ وَتَرْوِيحِ النَّفْسِ , كَأَدَاةٍ صَامِتَةٍ يَعْمَلُ صَاحِبُهَا بِهَا مَا شَاءَ . جَاءَ الْإِسْلَامُ - وَالْعَالَمُ مُنْهَمِكٌ فِي مَهَاوِي الْغَيِّ وَالْفَسَادِ - جَاءَ لِيَجْعَلَ حَدًّا لِتِلْكَ الْمَظَالِمِ , وَنِهَايَةً لِلْعَبَثِ وَالْفَسَادِ , وَلِيُوقِظَ الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ الَّذِي أَخَذَهُ السُّبَاتُ الْعَمِيقُ مُنْذُ فَتْرَةٍ سَحِيقَةٍ , وَلِيُنِيرَ دَرْبَ الْحَيَاةِ مِنْ جَدِيدٍ " فَتَنْتَهِي الْأُمَمُ عَنْ غَيِّهَا وَجَهْلِهَا , وَتَهْتَدِي إلَى سُبُلِ الصَّلَاحِ وَالسَّلَامِ وَالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ : سَبِيلِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْفَاضِلَةِ . فَأَخَذَ الْإِسْلَامُ فِي مُبَارَزَةِ الْأَفْكَارِ قَبْلَ مُبَارَزَةِ الْأَشْخَاصِ فَالْحَرْبُ الْفِكْرِيَّةُ أَصْعَبُ , وَلَكِنَّهَا أَمْتَنُ وَأَبْلَغُ إلَى الْهَدَفِ , وَإِنَّمَا تَقَعُ الْحَرْبُ وَالْقِتَالُ تَمْهِيدًا لِلْأُولَى وَلِرَفْعِ حَوَاجِزَ سُدَّتْ دُونَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ : " صَرْخَةِ الْعَدَالَةِ " إلَى الْأُمَمِ . وَمِمَّا أَخَذَهُ الْإِسْلَامُ تَدْبِيرًا لِمُبَارَزَةِ قَانُونِ الِاسْتِبْعَادِ الْبَشَرِيِّ أَنْ حَارَبَ فَلْسَفَتَهُ الدَّارِجَةَ , فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى } - أَيْ : كُلُّكُمْ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ وَمِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ , وَكُلُّكُمْ إخْوَةٌ وَبَنُو أَبٍ وَاحِدٍ . - وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ - مُخْتَلِفَةً فِي الْعَادَاتِ , وَفْقَ اخْتِلَافِ الْأَصْقَاعِ وَالْبِيئَاتِ - لِتَعَارَفُوا لِيَتَعَرَّفَ بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ , وَيَسْعَى كُلُّ أُمَّةٍ فِي تَرْفِيعِ مُسْتَوَاهَا عَلَى أُخْتِهَا , وَبِذَلِكَ . يَتَدَرَّجُ الْإِنْسَانُ عَلَى مَدَارِجِ الْمَدَنِيَّةِ الرَّاقِيَةِ إلَى غَيْرِهَا مِنْ آيَاتٍ . وَأَعْلَنَ الرَّسُولُ الْأَعْظَمُ : { لَا فَضْلَ لِأَبْيَضِكُمْ عَلَى أَسْوَدِكُمْ , كَمَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ } . وَالْبَشَرُ سَوَاسِيَةٌ مِنْ وَلَدِ أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ . إلَى غَيْرِهَا مِنْ مَضَامِينَ مُتَّحِدَةِ الْهَدَفِ مَأْثُورَةٍ عَنْ النَّبِيِّ وَالْأَئِمَّةِ عليهم السلام . هَكَذَا حَارَبَ الْإِسْلَامُ فِكْرَةَ الِاسْتِبْعَادَ فَلْسَفِيًّا , وَهِيَ مُبَارَزَةٌ جَذْرِيَّةٌ , تَقْطَعُ أُصُولَ الِاسْتِبْعَادِ , وَتَذْهَبُ بِفُرُوعِهَا هَبَاءً . وَبِذَلِكَ أَلْغَى قَانُونَ " الرِّقِّيَّةِ " الَّذِي كَانَ يَعْتَرِفُ بِهِ الْعَالَمُ الْمُتَمَدِّنُ إلَى حَدِّ ذَاكَ . نَعَمْ اسْتَثْنَى وَاحِدَةً مِنْ مَوَارِدِ الِاسْتِعْبَادِ الَّتِي كَانَتْ دَارِجَةً حِينَذَاكَ , وَهَذَا مِمَّا لَا بُدَّ فِي قَانُونِ الِاجْتِمَاعِ الْعَامِّ , وَبِصَالِحِ الْعَبِيدِ أَنْفُسِهِمْ , وَهَذَا مَا نَرُومُ تَفْصِيلَهُ فِي هَذَا الْمَجَالِ : - ثَانِيًا - الْإِسْلَامُ اعْتَرَفَ بِقَانُونِ الِاسْتِعْبَادِ فِي مَجَالٍ وَاحِدٍ فَقَطْ , لَا ثَانِيَ لَهُ وَإِنَّ حِكْمَتَهُ لَتَرْجِعُ إلَى مَصْلَحَةِ الْعَبِيدِ أَنْفُسِهِمْ , وَذَلِكَ : إذَا قَامَتْ الْحَرْبُ بَيْنَ الْفِئَةِ الْكَافِرَةِ وَالْمُسْلِمِينَ , فَشَحَنَ الْكُفْرُ جُيُوشَهُ لِمُحَارَبَةِ الْإِسْلَامِ وَمُنَابَذَتِهِ بِكُلِّ قُوَاهُ , وَهُنَا يَغْلِبُ الْمُسْلِمُونَ جُيُوشَ الْكُفَّارِ وَيُطَارِدُونَهُمْ , وَيَقْبِضُونَ عَلَى عَدَدٍ مِنْ الْأَسْرَى . وَالْمُعَامَلَةُ الْمُتَصَوَّرَةُ مَعَ هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى إحْدَى ثَلَاثٍ لَا رَابِعَ لَهَا : تَخْلِيَةُ سَبِيلِهِمْ لِيَرْجِعُوا إلَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ مُنَابَذَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ جَدِيدٍ . قَتْلُهُمْ جَمِيعًا , لِيَرْتَاحَ الْعَالَمُ مِنْ شَرِّ وُجُودِهِمْ الْمَانِعِ عَنْ نَشْرِ الْعَدَالَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ . إبْقَاؤُهُمْ تَحْتَ تَرْبِيَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي مُعَامَلَةٍ حَسَنَةٍ مَحْدُودَةٍ شَرْعِيًّا , لَا يَتَجَاوَزُونَهَا , مُعَامَلَةً عَادِلَةً يُحَدِّدُهَا الْإِسْلَامُ وَفْقَ رَوْحِهِ الْعَادِلَةِ الرَّحِيمَةِ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ إلَى مَعَالِمِ الْإِنْسَانِيَّةِ , وَيَنْقَلِبُونَ أَفْرَادًا صَالِحِينَ بَعْدَ مَا كَانُوا فَاسِدِينَ . فَيَسْتَفِيدُ مِنْهُمْ الِاجْتِمَاعُ الْإِنْسَانِيُّ كَعُضْوٍ صَالِحٍ فَعَّالٍ , بَعْدَ مَا كَانَ الْمُجْتَمَعُ الْبَشَرِيُّ يَخْشَى غَيَّهُمْ وَفَسَادَهُمْ وَإِفْسَادَهُمْ . تِلْكَ طُرُقٌ ثَلَاثٌ لَا بُدَّ مِنْ اخْتِيَارِ أَحَدِهَا بِشَأْنِ الْأَسْرَى الَّذِينَ جَاءُوا مُنَابِذِينَ لِلْعَدَالَةِ , فَأَطَاحَ بِهِمْ الْقَدَرُ فِي أَيْدِي دُعَاةِ الْعَدَالَةِ : الْمُسْلِمِينَ أَمَّا اخْتِيَارُ الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ فَهُوَ نَقْضٌ لِلْغَرَضِ وَكَرٌّ عَلَى مَا فَرَّ مِنْهُ . حَيْثُ مُحَارِبُ الْإِسْلَامِ , يَمْلِكُ رُوحًا خَبِيثَةً , دَعَتْهُ إلَى مُنَابَذَةِ دَاعِي الْعَدَالَةِ وَسَحْقِ حَامِلِ مِشْعَلِ الْإِنْسَانِيَّةِ , فَلَا يَسْتَحِقُّ هَكَذَا إنْسَانٌ أَنْ يَكُونَ مَبْسُوطَ الْيَدِ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مِنْ غَيٍّ , وَعَبَثٍ , وَفَسَادٍ , وَيَعْمَلُ فِي ضِدِّ مَصْلَحَةِ الْإِنْسَانِ وَفِي مُنَاقَضَةِ الصَّالِحِ الْعَامِّ كَلًّا إنَّهُ طَرِيقٌ لَا يَسْتَحْسِنُهُ الْعَقْلُ الْحَكِيمُ وَلَا يُحَبِّذُهُ سُلُوكُ الْعُقَلَاءِ مَعَ الْأَبَدِ(1/87)
فَيَبْقَى الِاخْتِيَارُ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ : الْقَتْلُ أَوْ الِاسْتِعْبَادُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الثَّانِيَ أَرْجَحُ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ ; لِأَنَّ الْوُجُودَ مَهْمَا كَانَ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْعَدَمِ , وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ وَاقِعًا فِي طَرِيقِ الْإِصْلَاحِ . فَإِنَّ وُجُودَ هَذَا الْكَافِرِ الْمَنَابِذِ لِلْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا وَمُضِرًّا بِالْعَدَالَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ , لَكِنَّهُ حِينَئِذٍ مُقَيَّدٌ بِتَرْبِيَةٍ إسْلَامِيَّةٍ , فَلَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّفُ عَنْ تَعَالِيمِ الْإِسْلَامِ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهُوَ مُنْصَاعٌ لَا مَحَالَةَ لِمَا يَتَلَقَّاهُ أَوْ يَدُورُ حَوْلَهُ مِنْ أَوْضَاعٍ صَحِيحَةٍ , إذْ يُلَامِسُ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ وَحَقِيقَةَ الْعَدَالَةِ وَوَاقِعَ الْإِنْسَانِيَّةِ الْفَاضِلَةِ فَيَرْغَبُ إلَيْهَا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ , وَيَسْتَسْلِمُ لِلدِّينِ طَوْعَ رَغْبَتِهِ هَكَذَا يَعْمَلُ الْإِسْلَامُ مَعَ الْأَسْرَى , أَيْ : يَفْتَحُ لَهُمْ مَدْرَسَةً تَرْبَوِيَّةً فَيُقْلَبُ بِهِمْ مِنْ ذَوَاتٍ خَبِيثَةٍ إلَى ذَوَاتٍ طَيِّبَةٍ . وَمِنْ فَرْدٍ طَالِحٍ ضَارٍ إلَى فَرْدٍ صَالِحٍ نَافِعٍ انْقِلَابًا فِي الْمَاهِيَّةِ , لَا مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْأُمَمُ مَعَ أَسْرَاهَا بِالْقَتْلِ الْجَمَاعِيِّ أَوْ أَوْ إهْلَاكِهِمْ تَحْتَ قَيْدِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ . وَلَا تَزَالُ تَعْمَلُ الْأُمَمُ الْغَالِبَةُ مَعَ الْمَسَاكِينِ : الْأُمَمِ الْمَغْلُوبَةِ , وَمَعَ أَسْرَاهَا أَبْشَعَ مُعَامَلَةً سَيِّئَةً , بِحُجَّةِ أَنَّهَا لَا تُطِيقُ تَحَمُّلَ مُؤْنَتِهَا فَتُهْلِكُهُمْ زَرَافَاتٍ , كَمَا شَاهَدْنَا ذَلِكَ فِي الْحَرْبِ الْعَالَمِيَّةِ الثَّانِيَةِ , فَمَا أَرُوعَ وَأَجْمَلَ مُعَامَلَةَ الْإِسْلَامِ مَعَ أَسْرَاهُ , أَنَّهَا تُسَمَّى " اسْتِعْبَادَ الْأَسْرَى " وَلَكِنَّهَا فِي الْوَاقِعِ تَرْبِيَةُ النُّفُوسِ الشِّرِّيرَةِ , وَجَعْلُ الْعُضْوِ الْفَاسِدِ عُضْوًا صَالِحًا . فَمَا أَحْسَنَهُ مِنْ مُعَامَلَةٍ طَيِّبَةٍ يَرْتَضِيهَا الْعَقْلُ وَيُقِرُّ عَلَيْهَا الْعُقَلَاءُ , عَبَرَ الْعُصُورِ ؟ , وَالْخُلَاصَةُ : أَنَّ قَانُونَ الِاسْتِبْعَادِ الَّذِي يُقِرُّهُ الْإِسْلَامُ قَانُونٌ عَقْلَانِيٌّ وَفِي صَالِحِ الْعَبِيدِ أَنْفُسِهِمْ , كَمَا هُوَ فِي صَالِحِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْكُبْرَى هَذَا فَحَسْبُ . رَابِعًا : أَنَّ الْإِسْلَامَ - بِرُوحِهِ الْعَادِلَةِ وَعَلَى وَفْقِ قَانُونِ الْإِنْصَافِ - لَمْ يَرْتَضِ إبْقَاءَ هَؤُلَاءِ الْعَبِيدِ تَحْتَ نِيرِ الْعُبُودِيَّةِ , وَلَوْ كَانَ قَدْ ضَيَّقَ مَجَالَ الِاسْتِبْعَادِ , بِشَكْلٍ تَقِلُّ الرِّقِّيَّةُ الْعَالَمِيَّةُ بِنِسْبَةِ تِسْعِينَ بِالْمِائَةِ لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ جَعَلَ وَسَائِلَ تَحْرِيرِ الْعَبِيدِ بِطُرُقٍ شَتَّى كَثِيرَةٍ , مِنْهَا قَهْرِيَّةٌ وَأُخْرَى اخْتِيَارِيَّةٌ : اخْتِيَارُ الْمَوَالِي أَوْ اخْتِيَارُ الْعَبِيدِ . وَلِذَلِكَ كُلِّهِ تَجِدُ النِّظَامَ الِاجْتِمَاعِيَّ الْإِسْلَامِيَّ ( الْفِقْهَ الْإِسْلَامِيَّ ) الْعَرِيضَ قَدْ فَتَحَ بَابًا خَاصًّا لِلتَّحْرِيرِ ( كِتَابُ الْعِتْقِ ) أَمَّا الرِّقِّيَّةُ فَلَا يُوجَدُ لَهُ كِتَابٌ خَاصٌّ فِي الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ اللَّهُمَّ إلَّا أَسْطُرًا فِي كِتَابِ الْجِهَادِ . وَإِلَيْكَ الْإِشَارَةَ إلَى بَعْضِ الْقَوَانِين الَّتِي سَنَّهَا الْإِسْلَامُ فِي سَبِيلِ تَحْرِيرِ الْعَبِيدِ : - قَانُونُ ( عِتْقِ الصَّدَقَةِ ) قَالَ الرَّسُولُ الْأَعْظَمُ صلى الله عليه وآله : { مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً كَانَتْ فِدَاءَهُ مِنْ النَّارِ } قَانُونُ ( عِتْقِ الْكَفَّارَةِ ) : كَفَّارَةُ الظِّهَارِ . كَفَّارَةُ الْإِيلَاءِ كَفَّارَةُ الْإِفْطَارِ , كَفَّارَةُ خُلْفِ النَّذْرِ , أَوْ الْعَهْدِ , أَوْ الْيَمِينِ , كَفَّارَةُ الْجَزَعِ الْمُحَرَّمِ فِي الْمُصَابِ , كَفَّارَةُ ضَرْبِ الْعَبْدِ , كَفَّارَةُ الْقَتْلِ . قَانُونُ ( الْخِدْمَةِ ) : إذَا خَدَمَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ مَوْلَاهُ سَبْعَ سِنِينَ فَهُوَ حُرٌّ . قَانُونُ ( الْإِقْعَادِ , وَالْعَمَى وَالْجُذَامِ ) : إنَّهَا أَسْبَابٌ قَهْرِيَّةٌ لِانْعِتَاقِ الرَّقِيقِ . قَانُونُ ( الِاسْتِيلَادِ ) . قَانُونُ ( التَّدْبِيرِ ) . قَانُونُ ( الْكِتَابَةِ ) الْمَشْرُوطَةِ وَالْمُطْلَقَةِ . قَانُونُ ( السِّرَايَةِ ) أَيْ : سِرَايَةِ الْعِتْقِ إلَى بَقِيَّةِ أَجْزَاءِ الْعَبْدِ لَوْ عَتَقَ مِنْهُ بَعْضُهُ . قَانُونُ ( تَمَلُّكِ الذَّكَرِ أَحَدَ الْعَمُودَيْنِ أَوْ الْمَحَارِمَ مِنْ النِّسَاءِ ) . قَانُونُ ( تَمَلُّكِ الْأُنْثَى أَحَدَ الْعَمُودَيْنِ ) قَانُونُ ( إسْلَامِ الْمَمْلُوكِ قَبْلَ إسْلَامِ مَوْلَاهُ ) . قَانُونُ ( تَبَعِيَّةِ أَشْرَفِ الْأَبَوَيْنِ ) . قَانُونُ ( التَّنْكِيلِ ) . تِلْكَ قَوَانِينُ سَنَّهَا الْإِسْلَامُ بِصَدَدِ تَحْرِيرِ الْعَبِيدِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ سَوْفَ نَدْرُسُهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ . هَذَا فَضْلًا عَنْ الْقَوَانِينِ الَّتِي سَنَّهَا الْإِسْلَامُ لِشِرَاءِ الْعَبِيدِ وَإِعْتَاقِهِمْ كَمَا فِي بَابِ الزَّكَاةِ يَشْتَرِي بِمَالِ الزَّكَاةِ مَا أَمْكَنَ مِنْ الْأَرِقَّاءِ وَيُعْتَقُونَ . وَفِي بَابِ الْمِيرَاثِ إذَا مَاتَ أَحَدٌ , وَلَا وَارِثَ لَهُ سِوَى مَمْلُوكٍ لِلْغَيْرِ يَشْتَرِي مِنْهُ لِيَرِثَ . وَأَمْثَالُ
ذَلِكَ أَيْضًا كَثِيرَةٌ .
===========(1/88)
وفي دقائق أولي النهى :
( وَإِنْ أُكْرِهَ ذِمِّيٌّ عَلَى إقْرَارٍ بِإِسْلَامٍ )
فَأَقَرَّ بِهِ ( لَمْ يَصِحَّ ) إقْرَارُهُ بِهِ فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى إسْلَامِهِ فَحُكْمُهُ كَالْكُفَّارِ وَإِنْ رَجَعَ إلَى دِينِ الْكُفَّارِ لَمْ يُقْتَلْ لقوله تعالى : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ } وَإِنْ قَصَدَ الْإِسْلَامَ لَا دَفْعَ الْإِكْرَاهِ أَوْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَثُبُوتِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ فَمُسْلِمٌ .
==============
وفي الفواكه الدواني :
( وَمِنْ الْفَرَائِضِ ) عَلَى جِهَةِ الْكِفَايَةِ ( الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ )(1/89)
وَالْمُرَادُ بِالْمَعْرُوفِ كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ بِهِ , وَالْمُنْكَرُ كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ عَنْهُ , وَقَدَّمَ الْمَعْرُوفَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَهُ عَلَى الْمُنْكَرِ عِنْدَ ذِكْرِهِمَا , وَأَيْضًا أَمَرَ إبْلِيسَ بِالسُّجُودِ أَوَّلًا وَنَهَى آدَمَ بَعْدَهُ عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ , وَإِنَّمَا يَجِبُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الْمَذْكُورَانِ ( عَلَى كُلِّ مَنْ بُسِطَتْ يَدُهُ ) أَيْ انْتَشَرَ حُكْمُهُ ( فِي الْأَرْضِ ) لِكَوْنِهِ سُلْطَانًا أَوْ أَمِيرًا أَوْ قَاضِيًا . ( وَ ) كَذَا يَجِبُ ( عَلَى كُلِّ مَنْ تَصِلُ يَدُهُ ) مِنْ غَيْرِ الْحُكَّامِ ( إلَى ذَلِكَ ) مِمَّنْ لَهُ شَأْنٌ وَعَظَمَةٌ فِي نُفُوسِ النَّاسِ بِحَيْثُ يُمْتَثَلُ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ , فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ لِعُمُومِ آيَةِ : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } لَكِنَّ نَحْوَ السُّلْطَانِ صِفَةُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ أَنْ يُعَرِّفَ الْمَأْمُورَ أَوْ الْمَنْهِيَّ بِذَلِكَ , فَإِنْ امْتَثَلَ بِمُجَرَّدِ التَّعَرُّفِ وَإِنْ لَمْ يَمْتَثِلْ هَدَّدَهُ بِالضَّرْبِ , فَإِنْ لَمْ يَمْتَثِلْ ضَرَبَهُ بِالْفِعْلِ , فَإِنْ لَمْ يَمْتَثِلْ أَشْهَرَ لَهُ السِّلَاحَ إنْ وَجَبَ قَتْلُهُ , وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْ مَرْتَبَةٍ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ إفَادَةِ مَا قَبْلَهَا , وَأَمَّا غَيْرُ نَحْوِ السُّلْطَانِ فَإِنَّمَا يَأْمُرُ وَيَنْهَى بِالْقَوْلِ الْأَرْفَقِ فَالْأَرْفَقِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ : ( فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ ) الْمُكَلَّفُ عَلَى الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ بِيَدِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ سُلْطَانٍ , وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ مِنْ نَحْوِ الْأَبِ وَالسَّيِّدِ وَالزَّوْجِ لِأَنَّ غَيْرَ مَنْ ذُكِرَ لَا يَأْمُرُ بِالْيَدِ , وَحِينَئِذٍ فَمَعْنَى عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَدَمُ التَّمَكُّنِ شَرْعًا مِنْ الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ بِالْيَدِ . ( فَبِلِسَانِهِ ) أَيْ فَيَأْمُرُ وَيَنْهَى بِلِسَانِهِ . ( فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ ) عَلَى الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ بِلِسَانِهِ لِشِدَّةِ صَوْلَةِ مَنْ يُرَادُ أَمْرُهُ أَوْ نَهْيُهُ ( فَبِقَلْبِهِ ) أَيْ فَيَأْمُرُ وَيَنْهَى بِقَلْبِهِ , بِمَعْنَى أَنَّهُ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ : لَوْ كُنْت أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِيَدِي أَوْ لِسَانِي لَفَعَلْت , وَيَبْغَضُ ذَلِكَ مَعَ تَرْكِ مُخَالَطَةِ الْمُتَلَبِّسِ بِالْمُنْكَرِ إنْ اسْتَطَاعَ , وَإِلَّا انْتَقِلْ إلَى الْمُدَارَاةِ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَمَشْرُوعَةٌ لِخَبَرِ : { أُمِرْت بِالْمُدَارَاةِ لِلنَّاسِ كَمَا أُمِرَتْ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ } وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا بَذْلُ الدُّنْيَا لِحِفْظِ الدِّينِ أَوْ الْعِرْضِ أَوْ الْجَاهِ , بِخِلَافِ الْمُدَاهَنَةِ فَإِنَّهَا بَذْلُ الدِّينِ لِحِفْظِ الدُّنْيَا وَهِيَ حَرَامٌ إلَّا لِمَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ . وَفَرِيضَةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ , أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } . وَ { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } الْآيَةَ . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ , فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ , فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } أَيْ الْأَعْمَالِ , وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَبَعْدَهُ كَانُوا يَتَوَاصَوْنَ بِذَلِكَ وَيَنْهَوْنَ تَارِكَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ , فَإِنْ قُلْت : فَمَا الْجَوَابُ عَنْ مِثْلِ قوله تعالى : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ } وقوله تعالى : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } وَعَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ : { قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى لَا نَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا نَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ الْبُخْلُ فِي خِيَارِكُمْ , وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي أَرْذَالِكُمْ , وَإِذَا كَانَ الِادِّهَانُ فِي كِبَارِكُمْ , وَإِذَا كَانَ الْمُلْكُ فِي صِغَارِكُمْ } . فَالْجَوَابُ بِالنِّسْبَةِ لِلْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ عَدَمَ الضَّرَرِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يَضُرُّ النَّاهِيَ عِنَادُهُمْ وَإِصْرَارُهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ , وَبِالنِّسْبَةِ لِآيَةِ : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ , وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ عِنْدَ فَوَاتِ الشَّرْطِ بِلُزُومِ الْمَفْسَدَةِ أَوْ انْتِفَاءِ الْفَائِدَةِ , وَاعْلَمْ أَنَّ فَرْضِيَّةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْكِفَايَةِ إنَّمَا هِيَ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْيَدِ أَوْ اللِّسَانِ وَأَمَّا بِالْقَلْبِ فَفَرْضُ عَيْنٍ , وَذَكَرُوا لِذَلِكَ شُرُوطًا , أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ , فَمَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ(1/90)
بِالْمَعْرُوفِ وَلَا الْمُنْكَرِ لَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى . وَثَانِيهَا : أَنْ يَأْمَنَ أَنْ يُؤَدِّيَ إنْكَارُهُ إلَى مُنْكِرٍ أَكْبَرَ مِنْهُ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ . وَثَالِثُهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْإِفَادَةُ وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ , فَالْأَوَّلَانِ لِلْجَوَازِ وَالثَّالِثُ لِلْوُجُوبِ . وَرَابِعُهَا : أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ ظَاهِرًا بِحَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَجَسُّسٍ وَلَا اسْتِرَاقِ سَمْعٍ وَلَا بَحْثٍ بِوَجْهٍ كَتَفْتِيشِ دَارٍ أَوْ ثَوْبِهِ لِحُرْمَةِ السَّعْيِ فِي ذَلِكَ . وَخَامِسُهَا : أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ يَكُونَ مُدْرَكُ عَدَمِ التَّحْرِيمِ فِيهِ ضَعِيفًا كَالنَّبِيذِ , فَإِنَّ الْحَنَفِيَّ يَقُولُ بِحِلِّهِ فَمَنْ فَعَلَ الْمُخْتَلَفَ فِي تَحْرِيمِهِ فَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ التَّحْرِيمُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ تَقْلِيدَ مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ الْحُرْمَةِ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ , كَالْمَالِكِيِّ يَأْكُلُ الْبَصَلَ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُدْرَكُ الْمُخَالِفِ فِيهِ ضَعِيفًا فَيُنْكَرُ عَلَيْهِ كَمَا يُنْكَرُ عَلَى مُعْتَقِدِ حِلِّهِ حَيْثُ كَانَ يَنْقُضُ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِيهِ بِأَنْ كَانَ مُخَالِفًا لِقَاطِعٍ أَوْ جَلِيِّ قِيَاسٍ , وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مُقَلِّدًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ كَانَ جَاهِلًا وَالْمُدْرِكُ فِي الْحِلِّ وَعَدَمِهِ مُتَوَازٍ فَإِنَّهُ يُرْشِدُ لِلتَّرْكِ بِرِفْقٍ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ وَلَا تَوْبِيخٍ , فَتَلَخَّصَ أَنَّ الشُّرُوطَ خَمْسَةٌ وَلَيْسَ مِنْهَا عَدَالَةُ الْآمِرِ وَلَا إذْنُ الْإِمَامِ عَلَى الْمَشْهُورِ فَيَجِبُ عَلَى شَارِبِ الْخَمْرِ نَهْيُ غَيْرِهِ عَنْ شُرْبِهِ , نَعَمْ قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ : يَنْبَغِي لِلْآمِرِ وَالنَّاهِي أَنْ يَكُونَ بِصُورَةِ مَنْ يُقْبَلُ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ , فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَالَمِ عِنْدَ نَزْعِ عِمَامَتِهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ إذَا كَانَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِهَا , كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِالرِّفْقِ , فَلَا يُرْتَكَبُ فِي ذَلِكَ غَلِيظُ الْقَوْلِ وَلَا الشَّتْمُ إلَّا فِي نَحْوِ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَهُ الْإِنْكَارُ بِالْيَدِ كَمَا مَرَّ . ( تَنْبِيهَاتٌ ) الْأَوَّلُ : وُجُوبُ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ كَوْنُ الْمُتَلَبِّسِ بِهِ عَاصِيًا بَلْ الشَّرْطُ كَوْنُهُ مَعْصِيَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاجِبَةَ الدَّرْءِ لِمَنْ شَرِبَ خَمْرًا يَظُنُّهُ لَبَنًا , أَوْ تَرَكَ أَمْرًا وَاجِبًا فِعْلُهُ كَصَلَاةِ فَرْضٍ قَبْلَ عِلْمِهِ بِفَرْضِيَّتِهَا فَيَجِبُ النَّهْيُ وَالْأَمْرُ وَلَوْ مَعَ عَدَمِ عِصْيَانِ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ , لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عليهم الصلاة والسلام كَانَتْ تَأْمُرُ وَتَنْهَى أُمَمَهَا أَوَّلَ بَعْثَتِهَا , وَمَعْلُومٌ عَدَمُ عِصْيَانِهِمْ إذْ ذَاكَ . الثَّانِي : يَجِبُ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِمَا عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ أَوْ الْمَنْهِيُّ جَمَاعَةً لَوَجَبَ خِطَابُهُمْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ نَحْوَ : قُومُوا لِلصَّلَاةِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ . الثَّالِثُ : تَعْبِيرُهُ بِقَوْلِهِ وَمِنْ الْفَرَائِضِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ يَقْتَضِي قَصْرَ الْمَعْرُوفِ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمُنْكَرِ عَلَى الْمُحَرَّمِ وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى الرَّاجِحِ لِأَنَّهُمَا يَنْصَرِفَانِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِلْوَاجِبِ وَالْمُحَرَّمِ , وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَنْدُوبِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمَكْرُوهِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ فِي كَوْنِهِ فِي الْمَنْدُوبَاتِ نَدْبًا أَوْ وُجُوبًا قَوْلَانِ , وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُمَا أَرْجَحِيَّةُ النَّدْبِ كَنَدْبِ النَّهْيِ عَنْ الْمَكْرُوهِ . وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا يُطْلَبُ مِنْ الْمُكَلَّفِ فِعْلُهُ مَعَ غَيْرِهِ , شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مِنْ إخْلَاصِهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ بِقَوْلِهِ : ( وَفَرْضٌ ) بِلَفْظِ الْمَصْدَرِ ( عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ ) مُكَلَّفٍ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ( أَنْ يُرِيدَ ) أَنْ يَقْصِدَ ( بِكُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ مِنْ ) أَعْمَالِ ( الْبِرِّ ) وَلَوْ مَنْدُوبَةً وَمَفْعُولُ يُرِيدُ ( وَجْهَ اللَّهِ الْكَرِيمِ , وَ ) هُوَ الْمُرَادُ بِالْإِخْلَاصِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي قوله تعالى : { فَادْعُوَا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وَالْإِخْلَاصُ إفْرَادُ الْمَعْبُودِ بِالْعِبَادَةِ وَهُوَ وَاجِبٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ , فَالْكِتَابُ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ , وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } . وَالْإِجْمَاعُ قَائِمٌ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْإِخْلَاصِ عَلَى الْأَعْيَانِ فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاَللَّهِ قَوْلِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةٍ , وَإِنَّمَا فَرَضَ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْعَمَلَ لِوَجْهِ اللَّهِ حَتَّى يُرْجَى قَبُولُهُ , وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ الْفَاءِ الَّتِي كَانَتْ أَوْلَى مِنْ الْوَاوِ قَوْلَهُ : ( وَمَنْ ) عَمِلَ عَمَلًا(1/91)
يَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ وَقَدْ ( أَرَادَ بِذَلِكَ غَيْرَ اللَّهِ ) بِأَنْ أَرَادَ بِهِ النَّاسَ ( لَمْ يُقْبَلْ ) أَيْ وَلَمْ يَصِحَّ ( عَمَلُهُ ) لِأَنَّ إرَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ بِالْعَمَلِ مَحْضُ رِيَاءٍ . قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ : الرِّيَاءُ إيقَاعُ الْقُرْبَةِ يَقْصِدُ بِهَا النَّاسَ , فَلَا يَتَأَتَّى فِي غَيْرِ الْقُرْبَةِ كَالتَّجَمُّلِ بِاللِّبَاسِ , وَخَرَجَ إرَادَةُ غَيْرِ النَّاسِ بِالْقُرْبَةِ فَلَيْسَ بِرِيَاءٍ , كَمَنْ حَجَّ لِيَتَّجِرَ أَوْ جَاهَدَ لِيَغْنَمَ . ( وَالرِّيَاءُ ) يُقَالُ لَهُ ( الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ ) فَهُوَ مُحَرَّمٌ إجْمَاعًا سَوَاءٌ الرِّيَاءُ الْخَالِصُ وَهُوَ إيقَاعُ الْقُرْبَةِ لِقَصْدِ النَّاسِ فَقَطْ , وَرِيَاءُ الشِّرْكِ وَهُوَ الْعَمَلُ لِوَجْهِ اللَّهِ وَالنَّاسِ , وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَخَفُّ مِنْ الْأَوَّلِ , وَهَذَانِ يُقَالُ لَهُمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ وَيُبْطِلَانِ الْعِبَادَةَ كَمَا عَرَفْت , وَأَمَّا الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ فَهُوَ كُفْرٌ لِأَنَّهُ الَّذِي يَجْعَلُ فِيهِ الشَّخْصُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا غَيْرَهُ . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِخْلَاصَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَهُوَ قَصْدُ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ قَوْلِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً ظَاهِرَةً أَوْ خَفِيَّةً , فَإِنْ شَمِلَ الرِّيَاءُ جَمِيعَ الْعِبَادَةِ بَطَلَتْ إجْمَاعًا كَمَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ , وَإِنْ شَمِلَ بَعْضَهَا وَتَوَقَّفَ آخِرُهَا عَلَى أَوَّلِهَا كَالصَّلَاةِ فَفِي صِحَّتِهَا تَرَدُّدٌ , وَإِنْ عَرَضَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهَا أُمِرَ بِدَفْعِهِ وَعَمَلِهَا وَإِنْ تَعَذَّرَ وَلَصِقَ بِصَدْرِهِ , فَإِنْ كَانَتْ مَنْدُوبَةً تَعَيَّنَ لِتَقْدِيمِ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْمَنْدُوبِ , وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً أُمِرَ بِمُجَاهِدَةِ النَّفْسِ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ . ( تَنْبِيهَاتٌ ) الْأَوَّلُ : إنَّمَا قَدَّرْنَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَلَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يُقْبَلُ عَمَلُهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ الصِّحَّةِ , لِأَنَّ الصِّحَّةَ قَدْ تُوجَدُ مَعَ عَدَمِ الْقَبُولِ , إذَا الصِّحَّةُ سُقُوطُ الْأَدَاءِ بِفِعْلِ الْمُؤَدَّى بِشُرُوطِهِ وَفَقْدِ مَوَانِعِهِ وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْ الْفَاعِلِ , وَأَمَّا الْقَبُولُ فَهُوَ الرِّضَا بِالْعَمَلِ مَعَ الْإِثَابَةِ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُ مَنْعُ الصِّحَّةِ , بِخِلَافِ الصِّحَّةِ قَدْ تُوجَدُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَبُولَ أَخَصُّ وَالصِّحَّةُ أَعَمُّ , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَخَصِّ نَفْيُ الْأَعَمِّ مَكَانَ الْأَنْسَبِ , أَنْ لَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ لَمْ يَصِحَّ عَمَلُهُ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الرِّيَاءِ مُبْطِلٌ لِلْعِبَادَةِ إجْمَاعًا , وَالْبَاطِلُ وَالْفَاسِدُ عِنْدَنَا بِمَعْنًى , وَلَعَلَّهُ آثَرَ التَّعْبِيرَ بِعَدَمِ الْقَبُولِ لِأَنَّهُ مَلْزُومٌ لِعَدَمِ الصِّحَّةِ غَالِبًا , وَبَنَوْا عَلَى مَا قَرَّرْنَا مِنْ أَهَمِّيَّةِ الصِّحَّةِ وَأَخَصِّيَّةِ الْقَبُولِ صِحَّةَ الدُّعَاءِ بِتَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ عَقِبَ الْعَمَلِ الصَّحِيحِ , وَلَوْ كَانَ يَلْزَمُ عَنْ الصِّحَّةِ الْقَبُولُ لَلَزِمَ طَلَبُ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ فَافْهَمْ . الثَّانِي : عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الرِّيَاءَ مُفْسِدٌ لِلْعِبَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ السَّابِقِ فَرْضِيَّةُ الْإِخْلَاصِ وَعَدُّهُ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ , مَعَ أَنَّا لَمْ نَرَ مَنْ عَدَّهُ مِنْ فَرَائِضِهَا إلَّا أَنْ يُقَالَ فَرْضِيَّةُ النِّيَّةِ كَافِيَةٌ لِتَضَمُّنِهَا لَهُ لِأَنَّهُ قَصَدَ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ , وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْعَمَلَ لِلَّهِ , بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ : النِّيَّةُ هِيَ الْإِخْلَاصُ لِأَنَّ النَّاوِيَ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ خَالِقِهِ قَدْ قَصَدَ وَجْهَهُ بِالْعِبَادَةِ . الثَّالِثُ : فُهِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا عَمِلَ لِوَجْهِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ عِلْمِ النَّاسِ بِعِلْمِهِ وَمَدْحِهِمْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ لَا يُبْطِلُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ رِيَاءً , كَمَا لَا يَبْطُلُ عَمَلُهُ بِعَجَبِهِ بِعَمَلِهِ أَيْ بِرُؤْيَتِهِ حَسَنًا وَاسْتِعْظَامِهِ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إسَاءَةُ أَدَبٍ مَعَ الْبَارِئِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . قَالَ تَعَالَى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أَيْ مَا عَبَدُوهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ , وَكَذَا لَا يَبْطُلُ بِالتَّسْمِيعِ وَهُوَ إعْلَامُ النَّاسِ بِعِلْمِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ لِقَصْدِ تَعْظِيمٍ أَوْ إعْطَاءِ دُنْيَا , وَلَا شَكَّ فِي حُرْمَةِ التَّسْمِيعِ كَالْعُجْبِ لِخَبَرِ مَنْ سَمَّعَ بِالتَّشْدِيدِ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , أَيْ يُنَادَى عَلَيْهِ فُلَانٌ قَدْ عَمِلَ عَمَلًا أَرَادَ بِهِ غَيْرِي , وَإِنَّمَا لَمْ يُبْطِلْ الْعُجْبُ وَالتَّسْمِيعُ الْعِبَادَةَ لِحُصُولِهِمَا بَعْدَ الْعِبَادَةِ . ( فَائِدَةٌ ) وَرَدَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم : { أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّقِيَ الرِّيَاءَ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِك مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِك شَيْئًا نَعْلَمُهُ وَنَسْتَغْفِرُك لِمَا لَا نَعْلَمُهُ } .(1/92)
وَلَمَّا كَانَ الرِّيَاءُ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ وَمُفْسِدًا لِلْعِبَادَةِ , وَكَانَ ارْتِكَابُ الْمُحَرَّمِ مُوجِبًا لِلتَّوْبَةِ قَالَ عَقِبَ الرِّيَاءِ :
================
وفي مطالب أولي النهى :
( وَإِنْ أُكْرِهَ ذِمِّيٌّ ) أَوْ مُسْتَأْمَنٌ ( عَلَى إسْلَامٍ ) فَأَقَرَّ بِهِ ( لَمْ يَصِحَّ ) إسْلَامُهُ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُهُ حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى إسْلَامِهِ طَوْعًا ;
مِثْلُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ عَنْهُ , فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ ; فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكُفَّارِ , وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ عَنْهُ , فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكُفَّارِ , وَإِنْ رَجَعَ إلَى دِينِ الْكُفَّارِ , لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ وَلَا إكْرَاهُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ عَلَيْهِ ; فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ كَالْمُسْلِمِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ , وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ { : لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ } وَإِنْ قَصَدَ الْإِسْلَامَ لَا دَفْعَ الْإِكْرَاهِ أَوْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَثُبُوتِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ فَمُسَلَّمٌ .
===============
وفي نيل الأوطار :
3482 - ( وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : أَوَّلُ مَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَهْلُ نَجْرَانَ وَكَانُوا نَصَارَى رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْأَمْوَالِ ) .
3483 - ( وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَكُونُ مِقْلَاةً , فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ , فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا : لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا , فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَثَنِيَّ إذَا تَهَوَّدَ يُقَرُّ وَيَكُونُ كَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) .
3484 - ( وَعَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ قَالَ : قُلْتُ لَمُجَاهِدٍ : مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ , وَأَهْلِ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ ؟ قَالَ : جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْيَسَارِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ) .(1/93)
حَدِيثُ ابْنِ شِهَابٍ مُرْسَلٌ . وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيّ , وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ وَجَمِيعُ رِجَالِهِ لَا مَطْعَنَ فِيهِمْ قَوْلُهُ : ( مِقْلَاةً ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْقَافِ . قَالَ فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ : هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ قَوْلُهُ : ( فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا اخْتَارَ الْوَثَنِيُّ الدُّخُولَ فِي الْيَهُودِيَّةِ أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ جَازَ تَقْرِيرُهُ عَلَى ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ يَلْتَزِمَ بِمَا وَضَعَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ قَوْلُهُ : ( مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّامِ . . . إلَخْ ) أَشَارَ بِهَذَا الْأَثَرِ إلَى جَوَازِ التَّفَاوُتِ فِي الْجِزْيَةِ وَأَقَلُّ الْجِزْيَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ دِينَارٌ , فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ الْمُتَقَدِّمِ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ وَظَاهِرُهُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَخَصَّتْهُ الْحَنَفِيَّةُ بِالْفَقِيرِ . قَالُوا : وَأَمَّا الْمُتَوَسِّطُ فَعَلَيْهِ دِينَارَانِ وَعَلَى الْغَنِيِّ أَرْبَعَةٌ , وَهُوَ مُوَافِقٌ لِأَثَرِ مُجَاهِدٍ الْمَذْكُورِ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُمَاكِسَ حَتَّى يَأْخُذَهَا مِنْهُمْ , وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَحَكَى فِي الْبَحْرِ عَنْ الْهَادِي وَالْقَاسِمِ وَالْمُؤَيَّدِ بِاَللَّهِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهَا تَكُونُ مِنْ الْفَقِيرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قَفْلَةً , وَمِنْ الْغَنِيِّ ثَمَانِيًا وَأَرْبَعِينَ , وَمِنْ الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ . وَتَمَسَّكُوا بِمَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ بَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ بِوَضْعِ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَاثْنَيْ عَشْرَ قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَهَذَا عَلَى حِسَابِ الدِّينَارِ بِاثْنَيْ عَشْرَ . وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقٍ مُرْسَلَةٍ بِلَفْظِ " إنَّ عُمَرَ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا , وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ , وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُكْتَسِبِ اثْنَيْ عَشْرَ " وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ " أَنَّهُ وَضَعَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ , وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ " . وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " دِينَارُ الْجِزْيَةِ اثْنَا عَشْرَ دِرْهَمًا " . قَالَ : وَيُرْوَى عَنْهُ بِإِسْنَادٍ ثَابِتٍ : " عَشْرَةُ دَرَاهِمَ " قَالَ : وَوَجْهُهُ التَّقْوِيمُ بِاخْتِلَافِ السِّعْرِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَزِيدُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ , وَيَنْقُصُ مِنْهَا عَمَّنْ لَا يُطِيقُ . قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جَعَلَهُ عَلَى حِسَابِ الدِّينَارِ بِعَشْرَةٍ , وَالْقَدْرُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ دِينَارٌ . وَحَكَى فِي الْبَحْرِ عَنْ النَّفْسِ الزَّكِيَّةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ لَهُ أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَى فَقِيرٍ , وَهَذَا يُخَالِفُ مَا حَكَاهُ فِي الْفَتْحِ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ كَمَا قَدَّمْنَا , وَلَعَلَّ مَا وَقَعَ مِنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الدِّينَارِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدًّا مَحْدُودًا , أَوْ أَنَّ حَدِيثَ مُعَاذٍ الْمُتَقَدِّمَ وَاقِعَةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ لَهَا , وَأَنَّ الْجِزْيَةَ نَوْعٌ مِنْ الصُّلْحِ كَمَا قَدَّمْنَا , وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ وَحُكِيَ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْهَادِي أَنَّ الْغَنِيَّ مِنْ يَمْلِكُ أَلْفَ دِينَارٍ نَقْدًا وَبِثَلَاثَةِ آلَافِ دِينَارٍ عُرُوضًا , وَيَرْكَبُ الْخَيْلَ وَيَتَخَتَّمُ الذَّهَبَ . وَقَالَ الْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ : إنَّ الْغَنِيَّ هُوَ الْعُرْفِيُّ , وَقَوَّاهُ الْمَهْدِيُّ , وَقَالَ الْمَنْصُورُ بِاَللَّهِ : بَلْ الشَّرْعِيُّ
=============
وفي شرح النيل :
( وَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَمِيلًا ) لَمْ يَجِدْ الْمُدَّعِي ضَمِينًا لِتَعَاصِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بِضَمِينٍ أَوْ لِعَدَمِ وُجُودِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَضْمَنْ عَنْهُ ,(1/94)
وَقَدْ أَذْعَنَ لَأَنْ يَأْتِيَ بِضَمِينٍ فَتَكَلَّفَ وَلَمْ يَجِدْهُ ( حُبِسَ ) الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ الْحَاكِمُ لِلْبَيَانِ , ( فَإِنْ بَيَّنَ ) الْمُدَّعِي ( عَلَى نَحْوِ دَعْوَاهُ ) زَادَ لَفْظَ " نَحْوَ " لِأَنَّهُ رُبَّمَا زَادَتْ بَيِّنَتُهُ عَلَى دَعْوَاهُ أَوْ نَقَصَتْ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الدَّعْوَى ( أُجْبِرَ عَلَى الْأَدَاءِ , وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ ) , أَيْ الْبَيَانَ , ( وَطَلَبَ يَمِينًا كُلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ اسْتِحْلَافِهِ ) , أَيْ بَعْدَ طَلَبِ الْمُدَّعِي مِنْهُ الْحَلِفَ , وَالْهَاءُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ , فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى مَفْعُولِهِ , أَوْ لِلْمُدَّعِي , فَيَكُونُ مِنْ إضَافَتِهِ لِلْفَاعِلِ , وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ , وَيُنَاسِبُهُ قَوْلُهُ : ( وَإِذْعَانُهُ لِلْيَمِينِ ) , فَإِنَّ هَذِهِ " الْوَاوَ " لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( بِإِتْيَانِهِ ) مُتَعَلِّقٌ بِكَلَّفَ ( بِمُصْحَفٍ ) كَامِلٍ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ إلَى آخِرِ : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } , وَإِنَّمَا يَأْتِي بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ , لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقٌّ لِلْمُدَّعِي وَاجِبٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ , وَهُوَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ , فَهُوَ الَّذِي يُكَلَّفُ بِمُؤْنَتِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ لِيُبَرِّئَ ذِمَّتَهُ . وَقِيلَ : يُكَلَّفُ الْمُدَّعِي الْإِتْيَانَ بِالْمُصْحَفِ , لِأَنَّ الْيَمِينَ ضَرَرٌ أَرَادَ إيقَاعَهُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالِانْتِقَامَ مِنْهُ بِهِ , فَهُوَ الَّذِي يَسْعَى فِي ذَلِكَ دُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ , كَمُرِيدِ الْقِصَاصِ , فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِمَا يُقْتَصُّ بِهِ مِنْ مُوسَى أَوْ عَصَى , وَاقْتَصَرَ أَبُو زَكَرِيَّاءَ عَلَى هَذَا إذَا قَالَ الْمُدَّعِي : حَلِّفْهُ , قَالَ الْحَاكِمُ : أَنُحَلِّفُهُ لَكَ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ , ثُمَّ يَقُولُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ : أَتَحْلِفُ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ , فَحِينَئِذٍ يُحْضِرُ الْمُصْحَفَ , أَوْ يَقُولُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ لِلْمُدَّعِي : ائْتِ بِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ , وَذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ أَصْحَابُ الدِّيوَانِ " , وَظَاهِرُ عِبَارَتِهِمْ اخْتِيَارُ الْأَوَّلِ , وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ . وَقَالُوا : يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مُصْحَفٌ يُحَلِّفُ بِهِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ , وَإِنَّمَا يُحَلِّفُ الْحَاكِمُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ بِالْمُصْحَفِ إلَّا الْأَمِينَ وَالْحَامِلَ فَبِالْغَامُوسِ , وَلَا يُحَلِّفُ الْحَاكِمُ بِاللَّوْحِ وَلَا بِالدَّفْتَرِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا الْقُرْآنُ , وَلَا يُحَلِّفُ بِغَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ , وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْمُوَحِّدُونَ وَالْمُشْرِكُونَ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يُحَلِّفُ الْيَهُودَ بِرَبِّ التَّوْرَاةِ , وَيُحَلِّفُ النَّصَارَى بِرَبِّ الْإِنْجِيلِ , وَالْمَجُوسَ بِرَبِّ النَّارِ , قَالَ الْعَاصِمِيُّ ; بَعْدَ أَنَّ قَرَّرَ أَنَّ الْحَلِفَ بِاسْمِ اللَّهِ وَيَنْطِقُ بِالْحَلِفِ الْحَالِفُ مَا نَصُّهُ : وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ لِلْيَهُودِ مَنْزِلَ التَّوْرَاةِ لِلتَّشْدِيدِ كَمَا يَزِيدُ فِيهِ لِلتَّثْقِيلِ عَلَى النَّصَارَى مَنْزِلَ الْإِنْجِيلِ وَالْمَشْهُورُ أَنْ لَا يُزَادَ ذَلِكَ , وَرُوِيَتْ الزِّيَادَةُ عَنْ " مَالِكٍ " , قَالَ بَعْضٌ بِمَا مَرَّ عَنْ الدِّيوَانِ " مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى رَبِّ التَّوْرَاةِ أَوْ الْإِنْجِيلِ أَوْ النَّارِ لَا يُزِيدُونَ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ , لِأَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ الْإِنْسَانَ الْخُرُوجَ مِنْ دِينِهِ , { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } , وَمِنْ الْكُفَّارِ مَنْ لَا يَقْبَلُ هَذَا , وَيَقُولُ : لَيْسَ عَلَيَّ أَنْ أَخْرُجَ مِنْ الدِّينِ الَّذِي أَنَا فِيهِ لِأَنَّهُمْ لَا يُخْلِصُونَ كَلِمَةَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , بَلْ نَقَضُوهَا بِعُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ وَالنَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَيُبْحَثُ بِأَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ إكْرَاهًا عَلَى الْإِيمَانِ بَلْ اسْتِخْرَاجٌ لِلْحَقِّ , وَكَانَ بَعْضُ قُضَاةِ الْأَنْدَلُسِ يُحَلِّفُ مَنْ ظَهَرَ لَهُ اللَّدَدُ مِنْهُ مِنْ الْيَهُودِ بِالتَّوْرَاةِ الَّتِي تُسَمِّيهَا الْيَهُودُ بِالْجَلْجَلَةِ وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ فَيُذْعِنُونَ لِلْحَقِّ بِذَلِكَ , وَكَانَ بَعْضٌ يُحَلِّفُ الْيَهُودَ بِأَنْ يَقُولَ : أضناي أضناي أصباؤوت أصباؤوت الْ شداء الْ شداء أصلخاء أصلخاء , وَتَمْسَحُ التَّوْرَاةَ بِدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ وَدَمِ الْخِنْزِيرِ , وَعَلَيْكَ مِنْ مَالِكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَتَبْرَأُ مِنْ دِينِ مُوسَى كَمَا تَبَرَّأَ اللَّيْلُ مِنْ النَّهَارِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُصْحَفُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَلِيُكَلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمُصْحَفِ وَيُعْطِيَ حَقَّهُ لِلْمُدَّعِي , وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّمَا يُكَلِّفُهُ الْمُدَّعِي لِيَأْخُذَ حَقَّهُ , يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الطَّهَارَةِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُصْحَفَ لِيُحَلِّفَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ .
==============
وفي الموسوعة الفقهية :
أَسْبَابُ الْخِلَافِ الرَّاجِعِ إلَى الدَّلِيلِ :
18 - مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ السَّيِّدِ مِنْ ذَلِكَ :(1/95)
1 - الْإِجْمَالُ فِي الْأَلْفَاظِ وَاحْتِمَالُهَا لِلتَّأْوِيلَاتِ .
2 - دَوَرَانُ الدَّلِيلِ بَيْنَ الِاسْتِقْلَالِ بِالْحُكْمِ وَعَدَمِهِ .
3 - دَوَرَانُهُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ , نَحْوُ { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ قَبِلُوا الْجِزْيَةَ .
4 - اخْتِلَافُ الْقِرَاءَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ , وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ .
5 - دَعْوَى النَّسْخِ وَعَدَمِهِ .
6 - عَدَمُ اطِّلَاعِ الْفَقِيهِ عَلَى الْحَدِيثِ الْوَارِدِ أَوْ نِسْيَانِهِ لَهُ .
ثَالِثًا - عَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي عَقِيدَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ :(1/96)
23 - إنَّ مِنْ مُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ أَلَّا يَتَعَرَّضَ الْمُسْلِمُونَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي عَقِيدَتِهِمْ وَأَدَاءِ عِبَادَتِهِمْ دُونَ إظْهَارِ شَعَائِرِهِمْ , فَعَقْدُ الذِّمَّةِ إقْرَارُ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِشَرْطِ بَذْلِ الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْمِلَّةِ , وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ احْتِمَالُ دُخُولِ الذِّمِّيِّ فِي الْإِسْلَامِ عَنْ طَرِيقِ مُخَالَطَتِهِ لِلْمُسْلِمِينَ وَوُقُوفِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الدِّينِ , فَهَذَا يَكُونُ عَنْ طَرِيقِ الدَّعْوَةِ لَا عَنْ طَرِيقِ الْإِكْرَاهِ , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } , وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ نَجْرَانَ : { وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهَا جِوَارُ اللَّهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَبِيَعِهِمْ وَكُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ . . . } وَهَذَا الْأَصْلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ , لَكِنْ هُنَاكَ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي : أ - مَعَابِدُ أَهْلِ الذِّمَّةِ : 24 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ أَمْصَارَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ : مَا اخْتَطَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَأَنْشَئُوهُ كَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ وَوَاسِطَ , فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ وَلَا بِيعَةٍ وَلَا مُجْتَمَعٍ لِصَلَاتِهِمْ وَلَا صَوْمَعَةٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَلَا يُمَكَّنُونَ فِيهِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَاِتِّخَاذِ الْخَنَازِيرِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا } وَلِأَنَّ هَذَا الْبَلَدَ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ مَجَامِعَ لِلْكُفْرِ , وَلَوْ عَاقَدَهُمْ الْإِمَامُ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ . الثَّانِي : مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً , فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ ; لِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ , وَمَا كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ هَلْ يَجِبُ هَدْمُهُ ؟ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ : وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : لَا يَجِبُ هَدْمُهُ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم فَتَحُوا كَثِيرًا مِنْ الْبِلَادِ عَنْوَةً فَلَمْ يَهْدِمُوا شَيْئًا مِنْ الْكَنَائِسِ . وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا وُجُودُ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً , وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عُمَّالِهِ : أَلَّا يَهْدِمُوا بِيعَةً وَلَا كَنِيسَةً وَلَا بَيْتَ نَارٍ . وَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : يَجِبُ هَدْمُهُ , فَلَا يَقَرُّونَ عَلَى كَنِيسَةٍ كَانَتْ فِيهِ ; لِأَنَّهَا بِلَادٌ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ , فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فِيهَا بِيعَةٌ , كَالْبِلَادِ الَّتِي اخْتَطَّهَا الْمُسْلِمُونَ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهَا لَا تُهْدَمُ , وَلَكِنْ تَبْقَى بِأَيْدِيهِمْ مَسَاكِنَ , وَيُمْنَعُونَ مِنْ اتِّخَاذِهَا لِلْعِبَادَةِ . الثَّالِثُ : مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا , فَإِنْ صَالَحَهُمْ الْإِمَامُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ وَالْخَرَاجَ لَنَا , فَلَهُمْ إحْدَاثُ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِيهَا مِنْ الْكَنَائِسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ وَالدَّارَ لَهُمْ , فَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا . وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : الْمَنْعُ ; لِأَنَّ الْبَلَدَ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ . وَإِنْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لَنَا , وَيُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ , فَالْحُكْمُ فِي الْكَنَائِسِ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ , وَالْأَوْلَى أَلَّا يُصَالِحَهُمْ إلَّا عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ صُلْحُ عُمَرَ رضي الله عنه مِنْ عَدَمِ إحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْهَا . وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا , لَا يَجُوزُ الْإِحْدَاثُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ : ( الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) , وَيَجُوزُ فِي بَلَدٍ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلْقَدِيمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ , وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمَنْعُ مِنْ إبْقَائِهَا كَنَائِسَ .
ب - إجْرَاءُ عِبَادَاتِهِمْ : 25 - الْأَصْلُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ تَرْكُهُمْ وَمَا يَدِينُونَ , فَيَقَرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ وَعَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ الَّتِي يَعْتَبِرُونَهَا مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ , كَضَرْبِ النَّاقُوسِ خَفِيفًا فِي دَاخِلِ مَعَابِدِهِمْ , وَقِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِيمَا بَيْنَهُمْ , وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي الَّتِي يَعْتَقِدُونَ بِجَوَازِهَا , كَشُرْبِ الْخَمْرِ , وَاِتِّخَاذِ الْخَنَازِيرِ وَبَيْعِهَا , أَوْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ , وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ , أَوْ إذَا انْفَرَدُوا بِقَرْيَةٍ .(1/97)
وَيُشْتَرَطُ فِي جَمِيعِ هَذَا أَلَّا يُظْهِرُوهَا وَلَا يَجْهَرُوا بِهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , وَإِلَّا مُنِعُوا وَعُزِّرُوا , وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ , فَقَدْ جَاءَ فِي شُرُوطِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ : " أَلَّا نَضْرِبَ نَاقُوسًا إلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا فِي جَوْفِ كَنَائِسِنَا , وَلَا نُظْهِرَ عَلَيْهَا صَلِيبًا , وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا الْقِرَاءَةَ فِي كَنَائِسِنَا , وَلَا نُظْهِرُ صَلِيبًا وَلَا كِتَابًا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ " إلَخْ هَذَا , وَقَدْ فَصَّلَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْقُرَى , فَقَالُوا : لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ شَيْءٍ مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالصَّلِيبِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ فِي قَرْيَةٍ , أَوْ مَوْضِعٍ لَيْسَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَوْ كَانَ فِيهِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ , وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ , وَهِيَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ وَالْحُدُودُ ; لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ إظْهَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِكَوْنِهِ إظْهَارَ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فِي مَكَانِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ , فَيَخْتَصُّ الْمَنْعُ بِالْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ , وَهُوَ الْمِصْرُ الْجَامِعُ . وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْقُرَى الْعَامَّةِ وَالْقُرَى الَّتِي يَنْفَرِدُ بِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ , فَلَا يَمْنَعُونَ فِي الْأَخِيرَةِ مِنْ إظْهَارِ عِبَادَاتِهِمْ .
وَفِيمَا يَلِي أَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْقِنِّ , ثُمَّ أَحْكَامُ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُبَعَّضِ(1/98)
. أَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ , وَالْمُكَاتَبُ , وَالْمُدَبَّرُ , فَتُنْظَرُ أَحْكَامُهُمْ فِي ( اسْتِيلَادٌ ) , ( تَدْبِيرٌ ) , ( مُكَاتَبَةٌ ) . النَّوْعُ الْأَوَّلُ أَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْقِنِّ الْمَمْلُوكِ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ حُقُوقُ السَّيِّدِ وَوَاجِبَاتُ رَقِيقِهِ تُجَاهَهُ : لِلسَّيِّدِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً عَلَى مَمَالِيكِهِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ حُقُوقٌ يَجِبُ عَلَى الرَّقِيقِ مُرَاعَاتُهَا , مِنْهَا : 12 - أَوَّلًا : طَاعَتُهُ لِلسَّيِّدِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ أَوْ يَنْهَاهُ عَنْهُ , وَلَا يَتَقَيَّدُ وُجُوبُ الطَّاعَةِ بِقَيْدٍ إلَّا مَا وَرَدَ التَّقْيِيدُ بِهِ شَرْعًا , وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ : أ - أَنْ يَأْمُرَهُ السَّيِّدُ بِأَمْرٍ فِيهِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى كَشُرْبِ خَمْرٍ , أَوْ سَرِقَةٍ , أَوْ إيذَاءٍ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ , وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا طَاعَةَ لِأَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أَيْ غَفُورٌ لَهُنَّ رَحِيمٌ بِهِنَّ حَيْثُ أُكْرِهْنَ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا لَوْ أُجْبَرُ السَّيِّدُ رَقِيقَهُ الْمُسْلِمَ عَلَى تَرْكِ الْفَرَائِضِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ , هَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ أَنَّ بَعْضَ الْفَرَائِضِ اللَّازِمَةِ لِلْأَحْرَارِ سَاقِطَةٌ شَرْعًا عَنْ الْأَرِقَّاءِ , كَالْحَجِّ , وَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ . ب - أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فَيَجْبُرَهُ سَيِّدُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ , فَلَا يَجِبُ عَلَى الرَّقِيقِ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ . وَاسْتَثْنَى الْحَلِيمِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ تَكُونَ كَافِرَةً غَيْرَ كِتَابِيَّةٍ وَيَرْغَبَ سَيِّدُهَا فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا , فَيَجْبُرَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ لِتَحِلَّ لَهُ , فَرَأَى الْحَلِيمِيُّ جَوَازَ ذَلِكَ لِإِزَالَةِ الْمَانِعِ مِنْ الْوَطْءِ , قَاسَهُ عَلَى جَوَازِ إجْبَارِهَا عَلَى إزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَغُسْلِ الْحَيْضِ . وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافُ ذَلِكَ . وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ السَّيِّدَ إنْ حَمَلَ رَقِيقَهُ عَلَى الْفَسَادِ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ . لِأَنَّ الرِّقَّ أَفَادَهَا الْأَمَانُ مِنْ الْقَتْلِ فَلَا تُجْبَرُ كَالْمُسْتَأْمَنَةِ , قَالُوا : وَلَيْسَ كَالْغُسْلِ فَإِنَّهُ لَا يَعْظُمُ الْأَمْرُ فِيهِ . ج - لَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَهُ الذَّكَرَ الْبَالِغَ امْرَأَةً لَا يَرْضَاهَا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً , فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ صَغِيرًا جَازَ , وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَمَالِكٌ : لِلسَّيِّدِ أَنْ يُجْبَرَ عَبْدَهُ عَلَى النِّكَاحِ . وَلَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ طَاعَةُ سَيِّدِهِ لَوْ كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الرَّقِيقِ فَسْخُ زَوَاجِهِ الصَّحِيحِ , سَوَاءٌ تَمَّ بِإِذْنِهِ أَوْ إذْنِ مَالِكٍ سَابِقٍ , فَلَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ مُزَوَّجَةً , فَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَجْبُرَهَا عَلَى طَلَبِ الطَّلَاقِ , وَكَذَا لَيْسَ لَهُ الْحَقُّ فِي مَنْعِهَا مِنْ الْكَوْنِ مَعَ زَوْجِهَا لَيْلًا . وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي مُرَاعَاةِ الْحَقَّيْنِ , حَقِّ الزَّوْجِ وَحَقِّ السَّيِّدِ , يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ . د - إنْ كَانَ الْعَبْدُ ذِمِّيًّا فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ إتْيَانِ الْكَنِيسَةِ , أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ , أَوْ أَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ لِأَنَّ ذَلِكَ دِينُهُ , نَقَلَهُ الْبُنَانِيُّ عَنْ قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ
إطْلَاقُ الْإِسْلَامِ عَلَى مِلَلِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ :(1/99)
3 - اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ , فَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يُطْلَقُ عَلَى الْمِلَلِ السَّابِقَةِ . وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْك وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } الْآيَةَ , وَآيَاتٍ أُخْرَى . وَيَرَى آخَرُونَ : أَنَّهُ لَمْ تُوصَفْ بِهِ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ , وَإِنَّمَا وُصِفَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فَقَطْ , وَشُرِّفَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِأَنْ وُصِفَتْ بِمَا وُصِفَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ , تَشْرِيفًا لَهَا وَتَكْرِيمًا . وَوَجْهُ اخْتِصَاصِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِهَذَا الِاسْمِ " الْإِسْلَامِ " هُوَ : أَنَّ الْإِسْلَامَ اسْمٌ لِلشَّرِيعَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ , مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ , وَصَوْمِ رَمَضَانَ , وَالْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ , وَالْجِهَادِ , وَنَحْوِهَا . وَذَلِكَ كُلُّهُ مَعَ كَثِيرٍ غَيْرِهِ خَاصٍّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ , وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأُمَمِ , وَإِنَّمَا كُتِبَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَقَطْ . وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى - وَهُوَ اخْتِصَاصُ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ - قوله تعالى : { مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ } . فَالضَّمِيرُ ( هُوَ ) يَرْجِعُ لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام , كَمَا يَرَاهُ عُلَمَاءُ السَّلَفِ لِسَابِقِيَّةِ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَك , وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَك } . فَدَعَا بِذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلِوَلَدِهِ , ثُمَّ دَعَا لِأُمَّةٍ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ , وَهِيَ هَذِهِ الْأُمَّةُ فَقَالَ : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ } الْآيَةَ , وَهُوَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ , فَبَعَثَ مُحَمَّدًا إلَيْهِمْ , وَسَمَّاهُمْ مُسْلِمِينَ . فَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ أُمَّةً بِالْإِسْلَامِ غَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ , وَلَمْ يُسْمَعْ بِأُمَّةٍ ذُكِرَتْ بِهِ غَيْرُهَا . 4 - وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى وَعِيسَى هَلْ هُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ لَا ؟ فَالْإِسْلَامُ الْحَاضِرُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم الْمُتَضَمِّنُ لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ , لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْإِسْلَامُ الْيَوْمَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ هَذَا . وَأَمَّا الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الْمُتَنَاوِلُ لِكُلِّ شَرِيعَةٍ بَعَثَ اللَّهُ بِهَا نَبِيًّا , فَإِنَّهُ إسْلَامُ كُلِّ أُمَّةٍ مُتَّبِعَةٍ لِنَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ . وَعَلَى هَذَا الْأَسَاسِ يُمْكِنُ أَنْ تَفْهَمَ كُلَّ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي تَعَرَّضَ فِيهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مُسْتَعْمَلَةً بِالنِّسْبَةِ لِلْأُمَمِ الْأُخْرَى , إمَّا عَلَى أَنَّهَا تُشِيرُ إلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِمَادَّةِ أَسْلَمَ , أَوْ أَنَّهَا تُشِيرُ إلَى الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الشَّرَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ كُلِّهَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ جَمِيعَ الرُّسُلِ , وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْآيَاتِ , وَمِنْهَا قوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } .
فَضْلُ الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى :(1/100)
8 - يَتَبَيَّنُ فَضْلُ الْقِيَامِ بِالدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وُجُوهٍ : 9 - ( الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ) : أَنَّ الدَّعْوَةَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى تَوَلَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى , فَأَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ الْكُتُبَ وَأَيَّدَهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ , وَأَمَرَ بِالتَّقْوَى , وَأَمَرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , كَمَا أَنَّهُ فِي مَخْلُوقَاتِهِ نَصَبَ الْأَدِلَّةَ عَلَى كَوْنِهِ الرَّبَّ الْخَالِقَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ , وَفِي كُتُبِهِ ذَكَرَ الْبَرَاهِينَ الَّتِي تُثْبِتُ ذَلِكَ , ثُمَّ بَشَّرَ وَحَذَّرَ وَأَنْذَرَ , وَقَالَ : { وَاَللَّهُ يَدْعُو إلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . وَتَوَلَّى الدَّعْوَةَ أَيْضًا رُسُلُهُ عليهم الصلاة والسلام بِتَكْلِيفٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى , فَإِنَّ مَضْمُونَ الرِّسَالَةِ الدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى , كَمَا قَالَ : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وَقَالَ : { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } . وَآخِرُ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحَدَّدَ لَهُ مَهَامَّ الرِّسَالَةِ وَمِنْهَا الدَّعْوَةُ إلَيْهِ تَعَالَى , فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا , وَدَاعِيًّا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا } . فَوَظِيفَةُ الدَّاعِيَةِ إذَنْ مِنْ الشَّرَفِ فِي مَرْتَبَةٍ عَالِيَةٍ , إذْ أَنَّهَا تَبْلِيغُ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى , وَمُتَابَعَةُ مُهِمَّةِ الرُّسُلِ , وَالسَّيْرُ عَلَى طَرِيقِهِمْ , كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قوله تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي } وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مِنْ دُعَاءِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ أَنْ يَقُولُوا : { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَامًا } قَالَ قَتَادَةَ : " أَيْ قَادَةً فِي الْخَيْرِ , وَدُعَاةَ هُدًى يُؤْتَمُّ بِنَا فِي الْخَيْرِ " . 10 - ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) : مَا يُشِيرُ إلَيْهِ قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا . . . } فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الدُّعَاءَ إلَى اللَّهِ , وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ , هُوَ أَحْسَنُ الْقَوْلِ , وَأَعْلَاهُ مَرْتَبَةً , وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِشَرَفِ غَايَاتِهِ وَعِظَمِ أَثَرِهِ . 11 - ( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) : مَا يُشِيرُ إلَيْهِ قوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ . . . } وَقَوْلُهُ : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ } , إلَى قَوْلِهِ : { وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } , فَالْآيَةُ تُبَيِّنُ أَفْضَلِيَّةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى غَيْرِهَا , وَأَنَّهُ هُوَ دَعْوَةُ النَّاسِ , وَالتَّسَبُّبُ فِي إيمَانِهِمْ , وَفِي مُسَارَعَتِهِمْ إلَى الْمَعْرُوفِ وَانْتِهَائِهِمْ عَنْ الْمُنْكَرِ . وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ : حَصَرَتْ الْفَلَاحَ فِي الدُّعَاةِ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِينَ , عَنْ الْمُنْكَرِ . 12 - ( الْوَجْهُ الرَّابِعُ ) : مَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ لَهُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ } فَفِيهِ عِظَمُ أَجْرِ الدُّعَاةِ إذَا اهْتَدَى بِدَعْوَتِهِمْ أَقْوَامٌ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ , وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه لَمَّا أَعْطَاهُ الرَّايَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ : { اُنْفُذْ عَلَى رِسْلِك حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَوَاَللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ يَكُونَ لَك حُمْرُ النَّعَمِ } .
**********
وفي المغني :
( 4692 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَتَبَ وَصِيَّتَهُ , وَقَالَ : اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِي هَذِهِ الْوَرَقَةِ . أَوْ قَالَ : هَذِهِ وَصِيَّتِي , فَاشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَا .(1/101)
فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ , أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَتَبَ وَصِيَّتَهُ , وَخَتَمَ عَلَيْهَا , وَقَالَ لِلشُّهُودِ : اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ . لَا يَجُوزُ حَتَّى يَسْمَعُوا مِنْهُ مَا فِيهِ , أَوْ يُقْرَأَ عَلَيْهِ فَيُقِرَّ بِمَا فِيهِ . وَهُوَ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى . وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ جَوَازَهُ ; لِأَنَّهُ إذَا قُبِلَ خَطُّهُ الْمُجَرَّدُ , فَهَذَا أَوْلَى وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى , وَمَكْحُولٌ , وَنُمَيْرُ بْنُ إبْرَاهِيمَ , وَمَالِكٌ , وَاللَّيْثُ , وَالْأَوْزَاعِيُّ , وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ , وَأَبُو عُبَيْدٍ , وَإِسْحَاقُ . وَاحْتَجَّ أَبُو عُبَيْدٍ بِكُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى عُمَّالِهِ وَأُمَرَائِهِ , فِي أَمْرِ وِلَايَتِهِ وَأَحْكَامِهِ وَسُنَنِهِ , ثُمَّ مَا عَمِلَتْ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ بَعْدَهُ مِنْ كُتُبِهِمْ إلَى وُلَاتِهِمْ , بِالْأَحْكَامِ الَّتِي فِيهَا الدِّمَاءُ وَالْفُرُوجُ وَالْأَمْوَالُ , يَبْعَثُونَ بِهَا مَخْتُومَةً , لَا يَعْلَمُ حَامِلُهَا مَا فِيهَا , وَأَمْضُوهَا عَلَى وُجُوهِهَا , وَذَكَرَ اسْتِخْلَافَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ , بِكِتَابٍ , كَتَبَهُ , وَخَتَمَ عَلَيْهِ , وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَنْكَرَ ذَلِكَ مَعَ شُهْرَتِهِ وَانْتِشَارِهِ فِي عُلَمَاءِ الْعَصْرِ , فَكَانَ إجْمَاعًا وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ كِتَابٌ لَا يَعْلَمُ الشَّاهِدُ مَا فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ , كَكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي , فَأَمَّا مَا ثَبَتَ مِنْ الْوَصِيَّةِ , بِشَهَادَةِ أَوْ إقْرَارِ الْوَرَثَةِ بِهِ , فَإِنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ وَيُعْمَلُ بِهِ , مَا لَمْ يُعْلَمْ رُجُوعُهُ عَنْهُ , وَإِنْ طَالَتْ مُدَّتُهُ , وَتَغَيَّرَتْ أَحْوَالُ الْمُوصَى بِهِ , مِثْلُ أَنْ يُوصِيَ فِي مَرَضٍ فَيَبْرَأَ مِنْهُ , ثُمَّ يَمُوتَ بَعْدُ أَوْ يُقْتَلَ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ , فَلَا يَزُولُ حُكْمُهُ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ وَالشَّكِّ , كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ . ( 4693 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكْتُبَ الْمُوصِي وَصِيَّتَهُ , وَيُشْهِدَ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُ أَحْفَظُ لَهَا وَأَحْوَطُ لِمَا فِيهَا . وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ , لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ , يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ , إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ } . وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ , أَنَّهُ قَالَ : كَانُوا يَكْتُبُونَ فِي صُدُورِ وَصَايَاهُمْ : بسم الله الرحمن الرحيم . هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ فُلَانٌ , أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ , وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا , وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ , وَأَوْصَى مَنْ تَرَكَ مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ , وَيُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِهِمْ , وَيُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ , وَأَوْصَاهُمْ بِمَا أَوْصَى بِهِ إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ : { يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . أَخْرَجَهُ سَعِيدٌ , عَنْ فُضَيْلٍ بْنِ عِيَاضٍ , عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ , عَنْ ابْنِ سِيرِينَ , عَنْ أَنَسٍ . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ , أَنَّهُ كَتَبَ : بسم الله الرحمن الرحيم . هَذَا ذِكْرُ مَا أَوْصَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ , إنْ حَدَثَ بِي حَادِثُ الْمَوْتِ مِنْ مَرَضِي هَذَا , أَنَّ مَرْجِعَ وَصِيَّتِي إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ , ثُمَّ إلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ , وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ , وَأَنَّهُمَا فِي حِلٍّ وَبَلٍّ فِيمَا وَلِيَا وَقَضَيَا , وَأَنَّهُ لَا تُزَوَّجُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ عَبْدِ اللَّهِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا . وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ : كَانَ فِي وَصِيَّةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ : بسم الله الرحمن الرحيم . هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ أَبُو الدَّرْدَاءِ , أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ , وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ , وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ , وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ , وَأَنَّهُ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَيَكْفُرُ بِالطَّاغُوتِ , عَلَى ذَلِكَ يَحْيَا وَيَمُوتُ , إنْ شَاءَ اللَّهُ , وَأَوْصَى فِيمَا رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى , بِكَذَا وَكَذَا , وَأَنَّ هَذِهِ وَصِيتُهُ إنْ لَمْ يُغَيِّرْهَا .
=============
وفي غذاء الألباب :
مَطْلَبٌ : أَذْكَارُ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ .(1/102)
( وَ ) قُلْ فِي ( الصَّبَاحِ ) مِنْ الذِّكْرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ سَيِّدِ النُّصَّاحِ , وَمَنْ عَمَّتْ شَمْسُ رِسَالَتِهِ الْأَغْوَارَ وَالْبِطَاحَ , مَا أَخْرَجَهُ أَهْلُ الْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ وَالصِّحَاحِ ( وَ ) قُلْ ( فِي الْمَسَاءِ ) مِنْ الذِّكْرِ مَا عَسَى أَنْ يَلِينَ بِهِ الْقَلْبُ الَّذِي قَدْ قَسَا , بِالذُّنُوبِ وَالْأَسَا . اعْلَمْ أَيُّهَا النَّاصِحُ لِنَفْسِهِ , الْمُتَزَوِّدُ لِرَمْسِهِ , الْمُنْكَبُّ عَلَى الذِّكْرِ وَالْمُسْتَغْرِقُ بِأُنْسِهِ , الْمُتَهَيِّئُ لِمُجَاوَرَةِ رَبِّهِ فِي حَضِيرَةِ قُدْسِهِ , أَنَّ أَذْكَارَ طَرَفَيْ النَّهَارِ كَثِيرَةٌ جِدًّا , وَالْحِكْمَةُ فِيهِ افْتِتَاحُ النَّهَارِ , وَاخْتِتَامُهُ بِالْأَذْكَارِ الَّتِي عَلَيْهَا الْمَدَارُ , وَهِيَ مُخُّ الْعِبَادَةِ , وَبِهَا تَحْصُلُ الْعَافِيَةُ وَالسَّعَادَةُ . وَنَعْنِي بِطَرَفَيْ النَّهَارِ مَا بَيْنَ الصُّبْحِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ , وَمَا بَيْنَ الْعَصْرِ وَالْغُرُوبِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } وَالْأَصِيلُ هُوَ الْوَقْتُ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ , وَجَمْعُهُ أُصُلٌ وَآصَالٌ وَأَصَائِلُ , كَأَنَّهُ جَمْعُ أَصِيلَةٍ . قَالَ الشَّاعِرُ : لَعَمْرِي لَأَنْتَ الْبَيْتُ أَكْرَمُ أَهْلِهِ وَأَقْعَدُ فِي أَفْنَائِهِ بِالْأَصَائِلِ وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أُصْلَانٍ " مِثْلُ بَعِيرٍ وَبُعْرَانٍ , ثُمَّ صَغَّرُوا الْجَمْعَ فَقَالُوا أُصَيْلَانَ , ثُمَّ أَبْدَلُوا عَنْ النُّونِ لَامًا فَقَالُوا : أُصَيْلَالٍ " . قَالَ الشَّاعِرُ وَقَفْت فِيهَا أُصَيْلَالًا أُسَائِلُهَا أَعْيَتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ وَقَالَ تَعَالَى { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } فَالْإِبْكَارُ أَوَّلُ النَّهَارِ , وَالْعَشِيُّ آخِرُهُ . وَقَالَ { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } . وَهَذَا يُفَسِّرُ مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَأَنَّ مَحَلَّ هَذِهِ الْأَذْكَارِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ . قَالَهُ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ . فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلَّا رَجُلٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ } . وَفِي صَحِيحِهِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ { كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَمْسَى قَالَ : أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى الْمُلْكُ لِلَّهِ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ , لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ , وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ رَبِّ أَسْأَلُك خَيْرَ مَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَخَيْرَ مَا بَعْدَهَا , وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهَا , رَبِّ أَعُوذُ بِك مِنْ الْكَسَلِ وَسُوءِ الْكِبَرِ , رَبِّ أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ } . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَاللَّفْظُ لَهُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَقُولُ ؟ قَالَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ , وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي وَحِينَ تُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيك مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَقَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ , وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِيَ , وَإِنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَاتَ شَهِيدًا وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي كَانَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ } . وَفِي التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ يَقُولُ : { إذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ بِك أَصْبَحْنَا , وَبِك أَمْسَيْنَا , وَبِك نَحْيَا , وَبِك نَمُوتُ , وَإِلَيْك النُّشُورُ وَإِذَا أَمْسَى فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ بِك أَمْسَيْنَا , وَبِك أَصْبَحْنَا , وَبِك نَحْيَا , وَبِك نَمُوتُ , وَإِلَيْك الْمَصِيرُ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَلَمْ يُضَعِّفْهُ وَتَكَلَّمَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ(1/103)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا , وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ , أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي لَيْلَتِهِ } . وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ : اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ , خَلَقْتنِي وَأَنَا عَبْدُك , وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت , أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت , أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ مَنْ قَالَهَا مُوقِنًا حِينَ يُمْسِي فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ , وَمَنْ قَالَهَا مُوقِنًا بِهَا حِينَ يُصْبِحُ فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ . وَعِنْدَهُ { لَا يَقُولُهَا أَحَدٌ حِينَ يُمْسِي فَيَأْتِي عَلَيْهِ قَدَرٌ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ إلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ } قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : وَلَيْسَ لِشَدَّادٍ فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ , وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه . قَوْلُهُ : أَبُوءُ بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ وَهَمْزَةٍ بَعْدَ الْوَاوِ مَمْدُودًا مَعْنَاهُ أُقِرُّ وَأَعْتَرِفُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ , وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ , وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ , وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ , وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلَّا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ } . وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه قَالَ { يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ إذَا أَصْبَحْت وَإِذَا أَمْسَيْت , قَالَ : قُلْ : اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ , أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ , أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ , وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إلَى مُسْلِمٍ قُلْهُ إذَا أَصْبَحْت , وَإِذَا أَمْسَيْت , وَإِذَا أَخَذْت مَضْجَعَك } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَفِيهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا { مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ : بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ ثَوْبَانَ وَغَيْرِهِ , وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي وَإِذَا أَصْبَحَ رَضِيت بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا , كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ } . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي سَلَامٍ وَهُوَ مَمْطُورٌ الْحَبَشِيُّ أَنَّهُ كَانَ فِي مَسْجِدِ حِمْصَ فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَقَالُوا : هَذَا خَدَمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم , فَقَامَ إلَيْهِ فَقَالَ : حَدِّثْنِي بِحَدِيثٍ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتَدَاوَلْهُ بَيْنَك وَبَيْنَهُ الرِّجَالُ فَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ { مَنْ قَالَ إذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى رَضِيت بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا إلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ } قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَيُقَالَ : وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا وَرَسُولًا " وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ . وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ . وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ { وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ } . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ , وَلَفْظُهُ عَنْ الْمُنَيْذِرِ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ وَكَانَ بِإِفْرِيقِيَّةَ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ { مَنْ قَالَ إذَا أَصْبَحَ رَضِيت بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا فَأَنَا الزَّعِيمُ لَآخُذَنَّ بِيَدِهِ حَتَّى أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ } . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ لَمْ(1/104)
يُضَعِّفْهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَنَّامٍ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ الْبَيَاضِيُّ الصَّحَابِيُّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ : اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِك فَمِنْك وَحْدَك لَا شَرِيكَ لَك , فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَك الشُّكْرُ , فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِينَ يُمْسِي , فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ } وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْهُ , وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما بِلَفْظِهِ دُونَ ذِكْرِ الْمَسَاءِ . قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : وَلَعَلَّهُ سَقَطَ مِنْ أَصْلِيٍّ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ لَمْ يُضَعِّفْهُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي : اللَّهُمَّ إنِّي أَصْبَحْت أُشْهِدُك وَأُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِك وَمَلَائِكَتَك وَجَمِيعَ خَلْقِك أَنَّك أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُك وَرَسُولُك , أَعْتَقَ اللَّهُ رُبْعَهُ مِنْ النَّارِ , فَمَنْ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَعْتَقَ اللَّهُ نِصْفَهُ مِنْ النَّارِ , وَمَنْ قَالَهَا ثَلَاثًا أَعْتَقَ اللَّهُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ مِنْ النَّارِ , وَمَنْ قَالَهَا أَرْبَعًا أَعْتَقَهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ } . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِنَحْوِهِ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ , وَالنَّسَائِيُّ وَزَادَ فِيهِ بَعْدَ إلَّا أَنْتَ وَحْدَك لَا شَرِيكَ لَك وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَلَمْ يَقُلْ أَعْتَقَ اللَّهُ إلَى آخِرِهِ , وَقَالَ إلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا أَصَابَ مِنْ ذَنْبٍ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ , فَإِنْ قَالَهَا إذَا أَمْسَى غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا أَصَابَ فِي لَيْلَتِهِ تِلْكَ . وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَاللَّفْظُ لَهُ . وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ { لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي , اللَّهُمَّ اُسْتُرْ عَوْرَاتِي , وَآمِنْ رَوْعَاتِي , اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي , وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِك أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي } وَقَالَ وَكِيعٌ : يَعْنِي الْخَسْفَ . وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ وَالْبَزَّارِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِهِمَا عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِفَاطِمَةَ رضي الله عنها مَا يَمْنَعُك أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيك بِهِ أَنْ تَقُولِي إذَا أَصْبَحْت وَإِذَا أَمْسَيْت يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيثُ , أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ وَلَا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ } . وَفِي أَوَاسِطِ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ قَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ { أَلَا أُحَدِّثُك حَدِيثًا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِرَارًا , وَمِنْ أَبِي بَكْرٍ مِرَارًا , وَمِنْ عُمَرَ مِرَارًا ؟ قُلْت : بَلَى , قَالَ مَنْ قَالَ إذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى : اللَّهُمَّ أَنْتَ خَلَقْتنِي وَأَنْتَ تَهْدِينِي , وَأَنْتَ تُطْعِمُنِي , وَأَنْتَ تَسْقِينِي , وَأَنْتَ تُمِيتُنِي وَأَنْتَ تُحْيِينِي , لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ قَالَ : تَلَقَّيْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ فَقُلْت : أَلَا أُحَدِّثُك حَدِيثًا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِرَارًا , وَمِنْ أَبِي بَكْرٍ مِرَارًا , وَمِنْ عُمَرَ مِرَارًا ؟ قَالَ : بَلَى فَحَدَّثْته بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ بِأَبِي وَأُمِّي رَسُولُ اللَّهِ , هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتُ كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَعْطَاهُنَّ مُوسَى عليه السلام فَكَانَ يَدْعُو بِهِنَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَلَا يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ } . وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ دُعَاءً وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَاهَدَ بِهِ أَهْلَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ قَالَ قُلْ حِينَ تُصْبِحُ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ , لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ , وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْك , وَمِنْك وَإِلَيْك , اللَّهُمَّ مَا قُلْت مِنْ قَوْلٍ , أَوْ حَلَفْت مِنْ حَلِفٍ أَوْ نَذَرْت مِنْ نَذْرٍ , فَمَشِيئَتُك بَيْنَ يَدَيْهِ , وَمَا شِئْت كَانَ , وَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ , وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك , إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ مَا صَلَّيْت مِنْ صَلَاةٍ فَعَلَى مَنْ صَلَّيْت , وَمَا لَعَنْت مِنْ لَعْنَةٍ فَعَلَى مَنْ لَعَنْت , إنَّك أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ اللَّهُمَّ إنِّي أَسَالِكُ(1/105)
الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ , وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك , وَشَوْقًا إلَى لِقَائِك فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ , وَأَعُوذُ بِك اللَّهُمَّ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ , أَوْ أَعْتَدِيَ أَوْ يُعْتَدَى عَلَيَّ , أَوْ أَكْتَسِبَ خَطِيئَةً وَذَنْبًا لَا تَغْفِرُهُ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فَإِنِّي أَعْهَدُ إلَيْك هَذِهِ الدُّنْيَا , وَأُشْهِدُك وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ وَحْدَك وَلَا شَرِيكَ لَك , لَك الْمُلْكُ وَلَك الْحَمْدُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ , وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُك وَرَسُولُك , وَأَشْهَدُ أَنَّ وَعْدَك حَقٌّ , وَلِقَاءَك حَقٌّ , وَالسَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا , وَأَنْتَ تَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ , وَأَنَّك إنْ تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إلَى ضَعْفٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ , وَأَنِّي لَا أَثِقُ إلَّا بِرَحْمَتِك , فَاغْفِرْ ذُنُوبِي كُلَّهَا إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ . وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ عَنْ وُهَيْبِ بْنِ الْوَرْدِ قَالَ : خَرَجَ رَجُلٌ إلَى الْجَبَّانَةِ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ فَسَمِعْت حِسًّا وَأَصْوَاتًا شَدِيدَةً وَجِيءَ بِسَرِيرٍ حَتَّى وُضِعَ وَجَاءَ شَيْءٌ حَتَّى جَلَسَ عَلَيْهِ . قَالَ وَاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ جُنُودُهُ ثُمَّ صَرَخَ فَقَالَ : مَنْ لِي بِعُرْوَةِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ حَتَّى قَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَصْوَاتٍ , فَقَالَ وَاحِدٌ أَنَا أَكْفِيكَهُ , قَالَ فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْمَدِينَةِ , وَأَنَا أَنْظُرُ إلَيْهِ فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَوْشَكَ الرَّجْعَةَ فَقَالَ لَا سَبِيلَ لِي إلَى عُرْوَةَ , قَالَ وَيْلَك لِمَ ؟ قَالَ : وَجَدْته يَقُولُ كَلِمَاتٍ إذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى فَلَمْ يَخْلُصْ إلَيْهِ مَعَهُنَّ . قَالَ الرَّجُلُ : فَلَمَّا أَصْبَحْت قُلْت لِأَهْلِي جَهِّزُونِي فَأَتَيْت الْمَدِينَةَ فَسَأَلَتْ عَنْهُ حَتَّى دُلِلْت عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ , فَقُلْت شَيْئًا تَقُولُهُ إذَا أَصْبَحْت وَإِذَا أَمْسَيْت , فَأَبَى أَنْ يُخْبِرَنِي , فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْت وَمَا سَمِعْت , فَقَالَ : مَا أَدْرِي غَيْرَ أَنِّي أَقُولُ إذَا أَصْبَحْت آمَنْت بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ , وَكَفَرْت بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ , وَاسْتَمْسَكْت بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ , إذَا أَصْبَحْت ثَلَاثَ مَرَّاتٍ , وَإِذَا أَمْسَيْت ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . وَذَكَرَهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ , وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ رضوان الله عليهم . وَمَعْنَى أَوْشَكَ أَسْرَعَ وَزْنًا وَمَعْنًى . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ { دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ , فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ , فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا أُمَامَةَ مَالِي أَرَاك جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ ؟ فَقَالَ : هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَالَ أَفَلَا أُعَلِّمُك شَيْئًا إذَا قُلْته أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّك وَقَضَى عَنْك دَيْنَك ؟ قُلْت : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَالَ قُلْ إذَا أَصْبَحَتْ وَإِذَا أَمْسَيْت اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ , وَأَعُوذُ بِك مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ , وَأَعُوذُ بِك مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ قَالَ : فَفَعَلْت فَأَذْهَبَ اللَّهُ هَمِّي وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي } . وَفِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ قَالَ { جَاءَ رَجُلٌ إلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ فَقَالَ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ قَدْ احْتَرَقَ بَيْتُك , فَقَالَ : مَا احْتَرَقَ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ لِكَلِمَاتٍ سَمِعْتهنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ قَالَهَا أَوَّلَ نَهَارِهِ لَمْ تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ حَتَّى يُمْسِيَ , وَمَنْ قَالَهَا آخِرَ نَهَارِهِ لَمْ تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ حَتَّى يُصْبِحَ : اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ عَلَيْك تَوَكَّلْت وَأَنْتَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ , مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ , وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ , أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . رَوَاهُ ابْنُ السُّنِّيِّ . وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ(1/106)
رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ أَنَّهُ تَكَرَّرَ مَجِيءُ الرَّجُلِ إلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ يَقُولُ : أَدْرِكْ دَارَك فَقَدْ احْتَرَقَتْ , وَهُوَ يَقُولُ مَا احْتَرَقَتْ ; لِأَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَذَكَرَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ لَمْ يُصِبْهُ فِي نَفْسِهِ , وَلَا أَهْلِهِ , وَلَا مَالِهِ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ وَقَدْ قُلْتهَا الْيَوْمَ ثُمَّ قَالَ : انْهَضُوا بِنَا فَقَامَ وَقَامُوا مَعَهُ فَانْتَهَوْا إلَى دَارِهِ , وَقَدْ احْتَرَقَ مَا حَوْلَهَا , وَلَمْ يُصِبْهَا شَيْءٌ } . قُلْت : وَالشَّيْءُ بِالشَّيْءِ يُذْكَرُ , حَدَّثَنِي عِدَّةٌ مِنْ الثِّقَاتِ يَبْلُغُ حَدَّ التَّوَاتُرِ أَنَّهُ أَشْتَدَّ الْغَلَاءُ وَارْتَفَعَ السِّعْرُ وَعُدِمَ الْبُرُّ فِي دِيرَتِنَا . فَجَهَّزَ الْوَالِدُ السَّعِيدُ الْحَاجُّ أَحْمَدُ بْنُ سَالِمٍ السَّفَارِينِيُّ - رَحِمَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ - جَمَاعَةً لِيَحْضُرُوا إلَى نَوَاحِي صُورَ وَتِلْكَ السَّوَاحِلِ فَيَشْتَرُوا مِنْهَا الْحِنْطَةَ وَيَنْزِلُوا فِي الْمَرَاكِبِ فَفَعَلُوا , فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ إنَّ الْمَرَاكِبَ الَّتِي أُوسِقَتْ مِنْ نَوَاحِي كَذَا قَدْ تَكَسَّرَتْ , وَالْمَرْكَبُ الَّذِي أَوْسَقَهُ عَامِلُك مَعَهَا , فَقَالَ فِي الْحَالِ رحمه الله تعالى : إنَّ الْمَرْكَبَ الَّذِي فِيهِ مَالُنَا مَا انْكَسَرَ وَلَا ضَاعَ ; لِأَنَّهُ بَلَغَنِي عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { مَا ضَاعَ مَالٌ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ إلَّا بِسَبَبِ مَنْعِ الزَّكَاةِ } , وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ مَالِي مُزَكًّى , فَكَيْفَ يَتْلَفُ ؟ فَاتَّفَقَ أَنَّ الْمَرَاكِبَ تَكَسَّرَتْ وَتَلِفَ مَا فِيهَا مَا عَدَا الْمَرْكَبَ الَّتِي فِيهَا مَالُ أَبِي رحمه الله تعالى . فَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ يَقِينِ الْوَالِدِ وَحُسْنِ مَعْرِفَتِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَعَظِيمِ اتِّكَالِهِ عَلَى اللَّهِ - جَلَّ شَأْنُهُ , وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
( فَائِدَةٌ ) : رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُسْرٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ اسْتَفْتَحَ أَوَّلَ نَهَارِهِ بِخَيْرٍ , وَخَتَمَهُ بِخَيْرٍ قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِمَلَائِكَتِهِ : لَا تَكْتُبُوا مَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ الذُّنُوبِ } . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ تَمَّامِ بْنِ نَجِيحٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَا مِنْ حَافِظَيْنِ يَرْفَعَانِ إلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مَا حَفِظَا مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَيَجِدُ فِي أَوَّلِ الصَّحِيفَةِ , وَفِي آخِرِهَا خَيْرًا إلَّا قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ : أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْت لِعَبْدِي مَا بَيْنَ طَرَفَيْ الصَّحِيفَةِ } .
=============
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى :الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ
مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 9 / ص 241)
الْمَأْخَذُ الثَّانِي " الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ هُوَ كَوْنُ هَؤُلَاءِ الْمَوْجُودِينَ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةٍ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ وَهُوَ الْمَأْخَذُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ السَّائِلِ ؛ وَهُوَ الْمَأْخَذُ الَّذِي تَنَازَعَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ ؛ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } هَلْ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ هُوَ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ مُتَدَيِّنٌ بَدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ ؟ أَوْ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ آبَاؤُهُ قَدْ دَخَلُوا فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . " فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ " هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَمَالِكٍ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ بَلْ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ صَرِيحًا . و " الثَّانِي " قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَأَصْلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ تَنَازَعَا فِي ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ فَقَالَ عَلِيٌّ : لَا تُبَاحُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا نِسَاؤُهُمْ ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَرُوِيَ عَنْهُ [ أَنَّهُ قَالَ ] نَغْزُوهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُومُوا بِالشُّرُوطِ الَّتِي شَرَطَهَا عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ ؛ فَإِنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : بَلْ تُبَاحُ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } . وَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يُحَرِّمُوا ذَبَائِحَهُمْ ؛ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ عَلِيٍّ وَحْدَهُ وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ . فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَصَحَّحَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ؛ بَلْ هِيَ آخِرُ قَوْلَيْهِ ؛ بَلْ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ : مَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَهُ إلَّا عَلِيًّا وَهَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَالرَّأْيِ كَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ النخعي وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَد أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ : كَانَ آخِرُ قَوْلِ أَحْمَد عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَى بِذَبَائِحِهِمْ بَأْسًا . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ عَلِيٍّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَأَحْمَد إنَّمَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ فِي بَنِي تَغْلِبَ ؛ وَهُمْ الَّذِينَ تَنَازَعَ فِيهِمْ الصَّحَابَةُ . فَأَمَّا سَائِرُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ الْعَرَبِ مِثْلُ : تَنُوخَ وَبَهْرَاءَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْيَهُودِ : فَلَا أَعْرِفُ عَنْ أَحْمَد فِي حِلِّ ذَبَائِحِهِمْ نِزَاعًا ؛ وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَا عَنْ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ السَّلَفِ ؛ وَإِنَّمَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ فِي بَنِي تَغْلِبَ خَاصَّةً ؛ وَلَكِنَّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد مَنْ جَعَلَ فِيهِمْ رِوَايَتَيْنِ كَبَنِي تَغْلِبَ . وَالْحَلُّ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَمَا أَعْلَمُ لِلْقَوْلِ الْآخَرِ قُدْوَةً مِنْ السَّلَفِ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد [ قَالُوا ] مَنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ غَيْرَ كِتَابِيٍّ بَلْ مَجُوسِيًّا لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ وَمُنَاكَحَةُ نِسَائِهِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَبُ مَجُوسِيًّا . وَأَمَّا الْأُمُّ فَلَهُ فِيهَا قَوْلَانِ فَإِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ مَجُوسِيِّينَ حَرُمَتْ ذَبِيحَتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ . وَغَالِبُ ظَنِّي أَنَّ هَذَا غَلَطٌ عَلَى مَالِكٍ ؛ فَإِنِّي لَمْ أَجِدْهُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُخَرَّجَةِ عَنْ أَحْمَد فِي سَائِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ الْعَرَبِ . وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا هَؤُلَاءِ . فَأَمَّا إذَا جَعَلَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي بَنِي تَغْلِبَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعَرَبِ أَوْ قِيلَ إنَّ النِّزَاعَ عَامٌّ وَفَرَّعْنَا عَلَى الْقَوْلِ بِحِلِّ ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ وَنِسَائِهِمْ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ : فَإِنَّهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا عِبْرَةَ بِالنَّسَبِ ؛ بَلْ لَوْ كَانَ الْأَبَوَانِ جَمِيعًا مَجُوسِيَّيْنِ أَوْ وَثَنِيَّيْنِ وَالْوَلَدُ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِلَا رَيْبٍ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ . وَمَنْ ظَنَّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ أَنَّ تَحْرِيمَ نِكَاحِ مَنْ أَبَوَاهُ مَجُوسِيَّانِ أَوْ أَحَدُهُمَا مَجُوسِيٌّ قَوْلٌ وَاحِدٌ فِي مَذْهَبِهِ فَهُوَ مُخَطِّئٌ خَطَأً لَا رَيْبَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَصْلَ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَنَاقَضُ فَيُجَوِّزُ أَنَّ يُقِرَّ بِالْجِزْيَةِ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ وَيَقُولَ مَعَ هَذَا بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ نَصْرَانِيِّ الْعَرَبِ مُطْلَقًا وَمَنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ غَيْرَ كِتَابِيٍّ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَهَذَا تَنَاقُضٌ . وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ فَقَدْ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ فِي " الْجَامِعِ الْكَبِيرِ " وَهُوَ آخِرُ كُتُبِهِ فَذَكَرَ فِيمَنْ انْتَقَلَ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ : كَالرُّومِ وَقَبَائِلَ مِنْ الْعَرَبِ وَهُمْ تَنُوخُ ؛ وَبَهْرَاءَ وَمِنْ بَنِي تَغْلِبَ هَلْ تَجُوزُ مُنَاكَحَتُهُمْ ؛ وَأَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ ؟ وَذَكَرَ أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِنِكَاحِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ وَأَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى مُخَرَّجَةٌ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي ذَبَائِحِهِمْ ؛ وَاخْتَارَ أَنَّ الْمُنْتَقِلَ إلَى دِينِهِمْ حُكْمُهُ حُكْمُهُمْ سَوَاءٌ كَانَ انْتِقَالُهُ بَعْدَ مَجِيءِ شَرِيعَتِنَا أَوْ قَبْلَهَا وَسَوَاءٌ انْتَقَلَ إلَى دِينِ الْمُبَدِّلِينَ أَوْ دِينٍ لَمْ يُبَدَّلْ وَيَجُوزُ مُنَاكَحَتُهُ وَأَكْلُ ذَبِيحَتِهِ . وَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَنْ أَبَوَاهُ مُشْرِكَانِ مِنْ الْعَرَبِ وَالرُّومِ فَمَنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُشْرِكًا فَهُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ . هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ كَمَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَإِنَّهُ يُقِرُّ بِالْجِزْيَةِ . قَالَ أَصْحَابُهُ : وَإِذْ أَقْرَرْنَاهُ بِالْجِزْيَةِ حَلَّتْ ذَبَائِحهمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا . وَأَصْلُ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرْته مِنْ نِزَاعِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي بَنِي تَغْلِبَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَالْجُمْهُورِ أَحَلُّوهَا وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد . ثُمَّ الَّذِينَ كَرِهُوا ذَبَائِحَ بَنِي تَغْلِبَ تَنَازَعُوا فِي مَأْخَذِ عَلِيٍّ . فَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ عَلِيًّا إنَّمَا حَرَّمَ ذَبَائِحَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ آبَاءَهُمْ دَخَلُوا فِي دِين أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ . وَبَنَوْا عَلَى هَذَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي أَهْل الْكِتَابِ بِالنَّسَبِ لَا بِنَفْسِ الرَّجُلِ وَأَنَّ مَنْ شَكَكْنَا فِي أَجْدَادِهِ هَلْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَمْ لَا ؟ أَخَذْنَا بِالِاحْتِيَاطِ فَحَقَنَّا دَمَهُ بِالْجِزْيَةِ احْتِيَاطًا وَحَرَّمْنَا ذَبِيحَتَهُ وَنِسَاءَهُ احْتِيَاطًا . وَهَذَا مَأْخَذُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ عَلِيٌّ لَمْ يَكْرَهْ ذَبَائِحَ بَنِي تَغْلِبَ إلَّا لِكَوْنِهِمْ مَا تَدَيَّنُوا بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي وَاجِبَاتِهِ وَمَحْظُورَاتِهِ ؛ بَلْ أَخَذُوا مِنْهُ حِلَّ الْمُحَرَّمَاتِ فَقَطْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : إنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ . وَهَذَا الْمَأْخَذُ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَهُوَ الصَّوَابُ . " وَبِالْجُمْلَةِ " فَالْقَوْلُ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ هُمْ مَنْ كَانَ دَخَلَ جَدُّهُ فِي ذَلِكَ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ ذَلِكَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ ؛ بَلْ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ كَوْنَ الرَّجُلِ كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ هُوَ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ لَا بِنِسْبَةِ وَكُلُّ مَنْ تَدَيَّنَ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ مِنْهُمْ سَوَاءٌ كَانَ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ وَسَوَاءٌ كَانَ دُخُولُهُ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ . وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْ أَحْمَد وَإِنْ كَانَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ نِزَاعًا وَقَدْ ذَكَرَ الطحاوي أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ قَدِيمٌ وَاحْتَجَّ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَنْ لَا يُقِرُّ الرَّجُلَ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ كَمَنْ هُوَ فِي زَمَانِنَا إذَا انْتَقَلَ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُ . وَهَذَا يُبَيِّنُ خَطَأَ مَنْ يُنَاقِضُ مِنْهُمْ . وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ يَقُولُونَ مَنْ دَخَلَ هُوَ أَوْ أَبَوَاهُ أَوْ جَدُّهُ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ أَقَرَّ بِالْجِزْيَةِ سَوَاءٌ دَخَلَ فِي زَمَانِنَا هَذَا أَوْ قَبْلَهُ . وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُونَ : مَتَى عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ إلَّا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ ؛ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد مَعَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَالصَّوَابُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ؛ وَالدَّلِيلِ عَلَيْهِ وُجُوهٌ : " أَحَدُهَا " أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْصَارِ جَمَاعَةٌ تَهَوَّدُوا قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَلِيلِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ . إنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ مِقْلَاتًا - وَالْمُقِلَّاتُ الَّتِي لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ . كَثِيرَةُ الْقَلَتِ وَالْقَلَتُ الْمَوْتُ وَالْهَلَاكُ كَمَا يُقَالُ : امْرَأَةٌ مِذْكَارٌ وميناث إذَا كَانَتْ كَثِيرَةَ الْوِلَادَةِ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَالسُّمَّا الْكَثِيرَةُ الْمَوْتِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَنْذِرُ إنْ عَاشَ لَهَا وَلَدَانِ تَجْعَلُ أَحَدَهُمَا يَهُودِيًّا لِكَوْنِ الْيَهُودِ كَانُوا أَهْلَ عِلْمٍ وَكِتَابٍ وَالْعَرَبُ كَانُوا أَهْلَ شِرْكٍ وَأَوْثَانٍ ؛ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْصَارِ تَهَوَّدُوا فَطَلَبَ آبَاؤُهُمْ أَنْ يُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } الْآيَةُ . فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانَ آبَاؤُهُمْ مَوْجُودِينَ تَهَوَّدُوا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا دُخُولٌ بِأَنْفُسِهِمْ فِي الْيَهُودِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَ مَبْعَثِ الْمَسِيحِ وَهَذَا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ وَمَعَ هَذَا نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ إكْرَاهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَهَوَّدُوا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَقَرَّهُمْ بِالْجِزْيَةِ . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي جَوَازِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لِمَنْ دَخَلَ بِنَفْسِهِ فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ . فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّوَابُ دُونَ الْآخَرِ . وَمَتَى ثَبَتَ أَنَّهُ يَعْقِدُ لَهُ الذِّمَّةَ ثَبَتَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِنَفْسِهِ لَا بِنَسَبِهِ وَأَنَّهُ تُبَاحُ ذَبِيحَتُهُ وَطَعَامُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ الْمَانِعَ لِذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْهُ إلَّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الصِّنْفَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلَا يَدْخُلُونَ فَإِذَا ثَبَتَ بِنَصِّ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ دَخَلُوا فِي الْخِطَابِ بِلَا نِزَاعٍ . " الْوَجْهُ الثَّانِي " أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ وَحَوْلَهَا كَانُوا عُرُبًا وَدَخَلُوا فِي دِينِ الْيَهُودِ ؛ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَفْصِلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَكْلِ طَعَامِهِمْ وَحِلِّ نِسَائِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ بِالذِّمَّةِ : بَيْنَ مَنْ دَخَلَ أَبَوَاهُ بَعْدَ مَبْعَثِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ دَخَلَ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ وَلَا بَيْنَ الْمَشْكُوكِ فِي نَسَبِهِ ؛ بَلْ حَكَمَ فِي الْجَمِيعِ حُكْمًا وَاحِدًا عَامًّا . فَعُلِمَ أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ طَائِفَةٍ وَطَائِفَةٍ وَجَعْلَ طَائِفَةٍ لَا تُقِرُّ بِالْجِزْيَةِ وَطَائِفَةٍ تُقِرُّ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَطَائِفَةٍ يُقِرُّونَ وَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ : تَفْرِيقٌ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتَةِ عَنْهُ . وَقَدْ عُلِمَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ الْمُسْتَفِيضِ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانَ فِيهِمْ يَهُودُ كَثِيرٌ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَحِمْيَرَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعَرَبِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ : " { إنَّك تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ معافريا } وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ دَخَلَ أَبُوهُ قَبْلَ النَّسْخِ أَوْ بَعْدَهُ . وَكَذَلِكَ وَفْدُ نَجْرَانَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ النَّصَارَى الَّذِينَ كَانَ فِيهِمْ عَرَبٌ كَثِيرُونَ أَقَرَّهُمْ بِالْجِزْيَةِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ الْعَرَبِ لَمْ يُفَرِّقْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ بَيْن بَعْضِهِمْ وَبَعْضٍ بَلْ قَبِلُوا مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ وَأَبَاحُوا ذَبَائِحَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ . وَكَذَلِكَ نَصَارَى الرُّومِ وَغَيْرُهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ صِنْفٍ وَصِنْفٍ . وَمَنْ تَدَبَّرَ السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ عَلِمَ كُلَّ هَذَا بِالضَّرُورَةِ وَعَلِمَ أَنَّ التَّفْرِيقَ قَوْلٌ مُحْدَثٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ . " الْوَجْهُ الثَّالِثُ " أَنَّ كَوْنَ الرَّجُلِ مُسْلِمًا أَوْ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ الدِّينِ هُوَ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ ؛ لِاعْتِقَادِهِ وَإِرَادَتِهِ وَقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ ؛ لَا يَلْحَقُهُ هَذَا الِاسْمُ بِمُجَرَّدِ اتِّصَافِ آبَائِهِ بِذَلِكَ ؛ لَكِنَّ الصَّغِيرَ حُكْمُهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا حُكْمُ أَبَوَيْهِ ؛ لِكَوْنِهِ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَإِذَا بَلَغَ وَتَكَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِالْكُفْرِ كَانَ حُكْمُهُ مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَوْ كَانَ أَبَوَاهُ يَهُودًا أَوْ نَصَارَى فَأَسْلَمَ كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ فَكَفَرَ كَانَ كَافِرًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنْ كَفَرَ بِرِدَّةِ لَمْ يُقِرَّ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُرْتَدًّا لِأَجْلِ آبَائِهِ . وَكُلُّ حُكْمٍ عُلِّقَ بِأَسْمَاءِ الدِّينِ مِنْ إسْلَامٍ وَإِيمَانٍ وَكُفْرٍ وَنِفَاقٍ وَرِدَّةٍ وَتَهَوُّدٍ وَتَنَصُّرٍ إنَّمَا يَثْبُتُ لِمَنْ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ . وَكَوْنُ الرَّجُلِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَوْ أَهْلِ الْكِتَابِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ فَمَنْ كَانَ بِنَفْسِهِ مُشْرِكًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُ غَيْرَ مُشْرِكِينَ وَمَنْ كَانَ أَبَوَاهُ مُشْرِكِينَ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ لَا حُكْمُ الْمُشْرِكِينَ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَآبَاؤُهُ مُشْرِكِينَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . أَمَّا إذَا تَعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُشْرِكِينَ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِأَجْلِ كَوْنِ آبَائِهِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ كَانُوا مُشْرِكِينَ فَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ . " الْوَجْهُ الرَّابِعُ " أَنْ يُقَالَ : قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ } وَقَوْلُهُ : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ خِطَابٌ لِهَؤُلَاءِ الْمَوْجُودِينَ وَإِخْبَارٌ عَنْهُمْ . وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ مِنْ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ مَا جَرَى لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ مُتَمَسِّكًا بِهِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا ؛ وَلَا هُمْ مِمَّنْ خُوطِبُوا بِشَرَائِعِ الْقُرْآنِ وَلَا قِيلَ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ } فَإِنَّهُمْ قَدْ مَاتُوا قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَنْ تَدَيَّنَ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمَوْجُودِ عِنْد أَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ كُفَّارٌ تَمَسَّكُوا بِكِتَابِ مُبَدَّلٍ مَنْسُوخٍ ؛ وَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ كَمَا يُخَلَّدُ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْكُفَّارِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مَعَ ذَلِكَ شَرَعَ إقْرَارَهُمْ بِالْجِزْيَةِ وَأَحَلَّ طَعَامَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ . " الْوَجْهُ الْخَامِسُ " أَنْ يُقَالَ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْقُرْآنِ هُمْ كُفَّارٌ وَإِنْ كَانَ أَجْدَادُهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ عَذَابُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِأَخَفّ مِنْ عَذَابِ مَنْ كَانَ أَبُوهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ بَلْ وُجُودُ النَّسَبِ الْفَاضِلِ هُوَ إلَى تَغْلِيظِ كُفْرِهِمْ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى تَخْفِيفِ كُفْرِهِمْ . فَمَنْ كَانَ أَبُوهُ مُسْلِمًا وَارْتَدَّ كَانَ كُفْرُهُ أَغْلَظَ مِنْ كُفْرِ مَنْ أَسْلَمَ هُوَ ثُمَّ ارْتَدَّ ؛ وَلِهَذَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَنْ وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ إذَا ارْتَدَّ ثُمَّ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ : هَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ كَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ عِيسَى وَمُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرَ بِهِمَا وَبِمَا جَاءَا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاتَّبَعَ الْكِتَابَ الْمُبَدَّلَ الْمَنْسُوخَ كَانَ كُفْرُهُ مِنْ أَغْلَظِ الْكُفْرِ وَلَمْ يَكُنْ كُفْرُهُ أَخَفَّ مِنْ كُفْرِ مَنْ دَخَلَ بِنَفْسِهِ فِي هَذَا الدِّينِ الْمُبَدَّلِ وَلَا لَهُ بِمُجَرَّدِ نَسَبِهِ حُرْمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا عِنْدَ رَسُولِهِ وَلَا يَنْفَعُهُ دِينُ آبَائِهِ إذَا كَانَ هُوَ مُخَالِفًا لَهُمْ فَإِنَّ آبَاءَهُ كَانُوا إذْ ذَاكَ مُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِكُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَمَنْ كَفَرَ بِشَيْءِ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ فَلَيْسَ مُسْلِمًا فِي أَيِّ زَمَانٍ كَانَ . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَوْلَادِ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا كَفَرُوا مَزِيَّةٌ عَلَى أَمْثَالِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ الَّذِينَ مَاثَلُوهُمْ فِي اتِّبَاعِ الدِّينِ الْمُبَدَّلِ الْمَنْسُوخِ عُلِمَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ وَإِكْرَامُ هَؤُلَاءِ بِإِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ وَحِلِّ ذَبَائِحِهِمْ وَنِسَائِهِمْ دُونَ هَؤُلَاءِ وَأَنَّهُ [ ثَمَّ ] فَرْقٌ مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْفَرْقُ بِالْعَكْسِ كَانَ أَوْلَى وَلِهَذَا يُوَبِّخُ اللَّهُ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَا يُوَبِّخُهُ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلَى أَجْدَادِهِمْ نِعَمًا عَظِيمَةً فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَكَفَرُوا نِعْمَتَهُ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ وَبَدَّلُوا كِتَابَهُ وَغَيَّرُوا دِينَهُ { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } . فَهُمْ مَعَ شَرَفِ آبَائِهِمْ وَحَقِّ دِينِ أَجْدَادِهِمْ مِنْ أَسْوَأِ الْكُفَّارِ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ أَشَدُّ غَضَبًا عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّ فِي كُفْرِهِمْ مِنْ الِاسْتِكْبَارِ وَالْحَسَدِ وَالْمُعَانَدَةِ وَالْقَسْوَةِ وَكِتْمَانِ الْعِلْمِ وَتَحْرِيفِ الْكِتَابِ وَتَبْدِيلِ النَّصِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا لَيْسَ فِي كُفْرِ هَؤُلَاءِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ لِهَؤُلَاءِ الْأَرْجَاسِ الْأَنْجَاسِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَبْغَضِ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ مَزِيَّةٌ عَلَى إخْوَانِهِمْ الْكُفَّارِ مَعَ أَنَّ كُفْرَهُمْ إمَّا مُمَاثِلٌ لِكُفْرِ إخْوَانِهِمْ الْكُفَّارِ وَإِمَّا أَغْلَظُ مِنْهُ ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَقُولَ : إنَّ كُفْرَ الدَّاخِلِينَ أَغْلَظُ مِنْ كُفْرِ هَؤُلَاءِ مَعَ تَمَاثُلِهِمَا فِي الدِّينِ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمَوْجُودِ . " الْوَجْهُ السَّادِسُ " أَنَّ تَعْلِيقَ الشَّرَفِ فِي الدِّينِ بِمُجَرَّدِ النَّسَبِ هُوَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ اتَّبَعَتْهُمْ عَلَيْهِ الرَّافِضَةُ وَأَشْبَاهُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيِّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ إلَّا بِالتَّقْوَى . النَّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ } وَلِهَذَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ يَمْدَحُ فِيهَا أَحَدًا بِنَسَبِهِ وَلَا يَذُمُّ أَحَدًا بِنَسَبِهِ ؛ وَإِنَّمَا يَمْدَحُ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَيَذُمُّ بِالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : " { أَرْبَعٌ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أُمَّتِي لَنْ يَدَعُوهُنَّ الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ . وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ } . فَجَعَلَ الْفَخْرَ بِالْأَحْسَابِ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ لَا فَخْرَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِكَوْنِ أَجْدَادِهِ لَهُمْ حَسَبٌ شَرِيفٌ فَكَيْفَ يَكُونُ لِكَافِرِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَخْرٌ عَلَى كَافِرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِكَوْنِ أَجْدَادِهِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَعَ التَّمَاثُلِ فِي الدِّينِ فَضِيلَةٌ [ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ ] عَلَى الْآخَرِينَ فِي الدِّينِ لِأَجْلِ النَّسَبِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا فَضْلَ لِمَنْ كَانَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى آبَاؤُهُ مُؤْمِنِينَ مُتَمَسِّكِينَ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ عَلَى مَنْ كَانَ أَبُوهُ دَاخِلًا فِيهِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ . وَإِذَا تَمَاثَلَ دِينُهُمَا تَمَاثَلَ حُكْمُهُمَا فِي الدِّينِ . وَالشَّرِيعَةُ إنَّمَا عَلَّقَتْ بِالنَّسَبِ أَحْكَامًا مِثْلَ كَوْنِ الْخِلَافَةِ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَوْنِ ذَوِي الْقُرْبَى لَهُمْ الْخُمْسُ وَتَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ الْفَاضِلَ مَظِنَّةُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُهُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إذَا فَقِهُوا } وَالْمَظِنَّةُ تُعَلِّقُ الْحُكْمَ بِمَا إذَا خَفِيَتْ الْحَقِيقَةُ أَوْ انْتَشَرَتْ . فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ دِينُ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ وَعَرَفَ نَوْعَ دِينِهِ وَقَدْرَهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِنَسَبِهِ الْأَحْكَامُ الدِّينِيَّةُ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِأَبِي لَهَبٍ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ لَمَّا عَرَفَ كُفْرَهُ كَانَ أَحَقَّ بِالذَّمِّ مِنْ غَيْرِهِ ؛ وَلِهَذَا جُعِلَ لِمَنْ يَأْتِي بِفَاحِشَةٍ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضِعْفَانِ مِنْ الْعَذَابِ كَمَا جُعِلَ لِمَنْ يَقْنُتُ مِنْهُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَجْرَيْنِ مِنْ الثَّوَابِ . فَذَوُو الْأَنْسَابِ الْفَاضِلَةِ إذَا أَسَاءُوا كَانَتْ إسَاءَتُهُمْ أَغْلَظَ مِنْ إسَاءَةِ غَيْرِهِمْ وَعُقُوبَتُهُمْ أَشَدُّ عُقُوبَةً مِنْ غَيْرِهِمْ . فَكُفْرُ مَنْ كَفَرَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ إنْ لَمْ يَكُنْ أَشَدَّ مِنْ كُفْرِ غَيْرِهِمْ وَعُقُوبَتُهُمْ أَشَدَّ عُقُوبَةً مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَا أَقَلَّ مِنْ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ مَنْ كَفَرَ وَفَسَقَ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ تُخَفَّفُ عَنْهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ ؛ بَلْ إمَّا أَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُمْ أَشَدَّ عُقُوبَةً مِنْ غَيْرِهِمْ فِي أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ ؛ أَوْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُمْ أَغْلَظَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَكْرَمَهُ بِنِعْمَتِهِ وَرَفَعَ قَدْرَهُ إذَا قَابَلَ حُقُوقَهُ بِالْمَعَاصِي وَقَابَلَ نِعَمَهُ بِالْكُفْرِ كَانَ أَحَقَّ بِالْعُقُوبَةِ مِمَّنْ لَمْ يُنْعِمُ عَلَيْهِ كَمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ . " الْوَجْهُ السَّابِعُ " أَنْ يُقَالَ : أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحُوا الشَّامَ وَالْعِرَاقَ وَمِصْرَ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرَهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ ذَبَائِحَهُمْ ؛ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ طَائِفَةٍ وَطَائِفَةٍ ؛ وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ بِالْأَنْسَابِ ؛ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي بَنِي تَغْلِبَ خَاصَّةً ؛ لِأَمْرِ يَخْتَصُّ بِهِمْ كَمَا أَنَّ عُمَرَ ضَعَّفَ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةَ وَجَعَلَ جِزْيَتَهُمْ مُخَالِفَةً لِجِزْيَةِ غَيْرِهِمْ وَلَمْ يُلْحِقْ بِهِمْ سَائِرَ الْعَرَبِ وَإِنَّمَا أَلْحَقَ بِهِمْ مَنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِمْ . " الْوَجْهُ الثَّامِنُ " أَنْ يُقَالَ : هَذَا الْقَوْلُ مُسْتَلْزِمٌ أَلَّا يَحِلَّ لَنَا طَعَامُ جُمْهُورٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ نَسَبَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ وَلَا نَعْلَمُ قَبْلَ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ أَنَّ أَجْدَادَهُ كَانُوا يَهُودًا أَوْ نَصَارَى قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ حِلَّ ذَبَائِحِهِمْ وَنِسَائِهِمْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مُسْتَلْزِمًا رَفْعَ مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عُلِمَ أَنَّهُ بَاطِلٌ . " الْوَجْهُ التَّاسِعُ " أَنْ يُقَالَ : مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ يَأْكُلُونَ ذَبَائِحَهُمْ فَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا لِبَيَانِ رُجْحَانِ الْقَوْلِ بِالتَّحْلِيلِ وَأَنَّهُ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ . فَأَمَّا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَوْ نَحْوَهَا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ يَجُوزُ لِمَنْ تَمَسَّكَ فِيهَا بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْآخَرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَدَلِيلٍ فَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . فَقَدْ تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي جُبْنِ الْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ فَلَيْسَ لِمَنْ رَجَّحَ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى صَاحِبِ الْقَوْلِ الْآخَرِ إلَّا بِحُجَّةِ شَرْعِيَّةٍ . وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ وَفِي ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ إذَا سَمَّوْا عَلَيْهَا غَيْرَ اللَّهِ وَفِي شَحْمِ الثَّرْبِ وَالْكُلْيَتَيْنِ وَذَبْحِهِمْ لِذَوَاتِ الظُّفْرِ كَالْإِبِلِ وَالْبَطِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَتَنَازَعُوا فِي ذَبْحِ الْكِتَابِيِّ لِلضَّحَايَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلَ وَقَدْ قَالَ بِكُلِّ قَوْلٍ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمَشْهُورِينَ فَمَنْ صَارَ إلَى قَوْلٍ مُقَلِّدًا لِقَائِلِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى مَنْ صَارَ إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ مُقَلِّدًا لِقَائِلِهِ ؛ لَكِنْ إنْ كَانَ مَعَ أَحَدِهِمَا حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَجَبَ الِانْقِيَادُ لِلْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا ظَهَرَتْ . وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يُرْجِعَ قَوْلًا عَلَى قَوْلٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا يَتَعَصَّبُ لِقَوْلِ عَلَى قَوْلٍ وَلَا قَائِلٍ عَلَى قَائِلٍ بِغَيْرِ حُجَّةٍ ؛ بَلْ مَنْ كَانَ مُقَلِّدًا لَزِمَ حُكْمَ التَّقْلِيدِ ؛ فَلَمْ يُرَجِّحْ ؛ وَلَمْ يُزَيِّفْ ؛ وَلَمْ يُصَوِّبْ ؛ وَلَمْ يُخَطِّئْ : وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ مَا يَقُولُهُ سُمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ فَقَبِلَ مَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَقٌّ وَرَدَّ مَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَوَقَفَ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ فَاوَتَ بَيْنَ النَّاسِ فِي قُوَى الْأَذْهَانِ كَمَا فَاوَتَ بَيْنَهُمْ فِي قُوَى الْأَبْدَانِ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَنَحْوُهَا فِيهَا مِنْ أَغْوَارِ الْفِقْهِ وَحَقَائِقِهِ مَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ عَرَفَ أَقَاوِيلَ الْعُلَمَاءِ وَمَآخِذَهُمْ فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ إلَّا قَوْلَ عَالِمٍ وَاحِدٍ وَحُجَّتَهُ دُونَ قَوْلِ الْعَالِمِ الْآخَرِ وَحُجَّتِهِ فَإِنَّهُ مِنْ الْعَوَامِّ الْمُقَلِّدِينَ ؛ لَا مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُرَجِّحُونَ وَيُزَيِّفُونَ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَهْدِينَا وَإِخْوَانَنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ : وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(1/107)
أصل الأيمان وأنواعه )
مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 162)
فَصْلٌ إذَا عُرِفَ أَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ فَاسْمُ " الْإِيمَانِ " تَارَةً يُطْلَقُ عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْأَقْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ مِنْ التَّصْدِيقِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَتَكُونُ الْأَقْوَالُ الظَّاهِرَةُ وَالْأَعْمَالُ لَوَازِمُهُ وَمُوجِبَاتُهُ وَدَلَائِلُهُ وَتَارَةً عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ جُعِلَا لِمُوجَبِ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ دَاخِلًا فِي مُسَمَّاهُ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ تُسَمَّى إسْلَامًا وَأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ تَارَةً وَلَا تَدْخُلُ فِيهِ تَارَةً . وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْمَ الْوَاحِدَ تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهُ بِالْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ فَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ الْإِفْرَادِ فِيهِ عُمُومٌ لِمَعْنَيَيْنِ وَعِنْدَ الِاقْتِرَانِ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى أَحَدِهِمَا كَلَفْظِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ إذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا تَنَاوَلَ الْآخَرَ وَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مُسَمًّى يَخُصُّهُ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ إذَا أُطْلِقَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } دَخَلَ فِيهِ الْفَحْشَاءُ وَالْبَغْيُ وَإِذَا قَرَنَ بِالْمُنْكَرِ أَحَدَهُمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } أَوْ كِلَاهُمَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } كَانَ اسْمُ الْمُنْكَرِ مُخْتَصًّا بِمَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى قَوْلٍ أَوْ مُتَنَاوِلًا لِلْجَمِيعِ عَلَى قَوْلٍ - بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخَاصَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْعَامِّ هَلْ يَمْنَعُ شُمُولَ الْعَامِّ لَهُ ؟ أَوْ يَكُونُ قَدْ ذَكَرَ مَرَّتَيْنِ فِيهِ نِزَاعٌ - وَالْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ ( نَتِيجَةُ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَلَازِمُهَا . وَإِذَا أُفْرِدَ اسْمُ " الْإِيمَانِ " فَقَدْ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ } . وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْإِسْلَامُ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَجُزْءًا مِنْهُ فَيُقَالُ حِينَئِذٍ : إنَّ " الْإِيمَانَ " اسْمٌ لِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ . وَمِنْهُ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَتُؤَدُّوا خُمُسَ الْمَغْنَمِ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . فَفَسَّرَ الْإِيمَانَ هُنَا بِمَا فَسَّرَ بِهِ الْإِسْلَامَ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالشَّهَادَتَيْنِ هُنَا أَنْ يَشْهَدَ بِهِمَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَكَانَ الْخِطَابُ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَكَانُوا مِنْ خِيَارِ النَّاسِ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ صَلَّى الْجُمُعَةَ بِبَلَدِهِمْ بَعْدَ جُمُعَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا { قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ جُمُعَةِ الْمَدِينَةِ جُمُعَةٌ بجواثى - قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ - وَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَك هَذَا الْحَيَّ مِنْ كُفَّار مُضَرَ وَإِنَّا لَا نَصِلُ إلَيْك إلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ فَمُرْنَا بِأَمْرِ فَصْلٍ نَعْمَلُ بِهِ وَنَدْعُو إلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا وَأَرَادُوا بِذَلِكَ أَهْلَ نَجْدٍ مِنْ تَمِيمٍ وَأَسَدٍ وغطفان وَغَيْرِهِمْ كَانُوا كُفَّارًا } فَهَؤُلَاءِ كَانُوا صَادِقِينَ رَاغِبِينَ فِي طَلَبِ الدِّينِ فَإِذَا أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَقْوَالِ وَأَعْمَالٍ ظَاهِرَةٍ فَعَلُوهَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَكَانُوا بِهَا مُؤْمِنِينَ . وَأَمَّا إذَا قَرَنَ الْإِيمَانَ بِالْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ فِي الْقَلْبِ وَالْإِسْلَامَ ظَاهِرٌ كَمَا فِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ وَالْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ } وَمَتَى حَصَلَ لَهُ هَذَا الْإِيمَانُ وَجَبَ ضَرُورَةً أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ الشَّهَادَتَانِ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ ؛ لِأَنَّ إيمَانَهُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ يَقْتَضِي الِاسْتِسْلَامَ لِلَّهِ . وَالِانْقِيَادَ لَهُ وَإِلَّا فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ لَهُ الْإِقْرَارُ وَالْحُبُّ وَالِانْقِيَادُ بَاطِنًا وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ كَمَا يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ بِدُونِ وُجُودِ الْمُرَادِ . وَبِهَذَا تَعْرِفُ أَنَّ مَنْ آمَنَ قَلْبُهُ إيمَانًا جَازِمًا امْتَنَعَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ فَعَدَمُ الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ مُسْتَلْزَمٌ انْتِفَاءَ الْإِيمَانِ الْقَلْبِيِّ التَّامِّ ؛ وَبِهَذَا يَظْهَرُ خَطَأُ جَهْمٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ مُجَرَّدَ إيمَانٍ بِدُونِ الْإِيمَانِ الظَّاهِرِ يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ إذْ لَا يَحْصُلُ الْإِيمَانُ التَّامُّ فِي الْقَلْبِ إلَّا وَيَحْصُلُ فِي الظَّاهِرِ مُوجِبُهُ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ فَإِنَّ مِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُحِبَّ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ حُبًّا جَازِمًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مُوَاصَلَتِهِ وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ حَرَكَةٌ ظَاهِرَةٌ إلَى ذَلِكَ . وَأَبُو طَالِبٍ إنَّمَا كَانَتْ مَحَبَّتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ لَا لِلَّهِ وَإِنَّمَا نَصَرَهُ وَذَبَّ عَنْهُ لِحَمِيَّةِ النَّسَبِ وَالْقَرَابَةِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَتَقَبَّلْ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ إيمَانٍ فِي الْقَلْبِ لَتَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ ضَرُورَةً وَالسَّبَبُ الَّذِي أَوْجَبَ نَصْرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الْحَمِيَّةُ - هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ امْتِنَاعَهُ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ بِخِلَافِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَنَحْوِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى } { الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } { وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى } { إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } { وَلَسَوْفَ يَرْضَى } وَمَنْشَأُ الْغَلَطِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مِنْ وُجُوهٍ . ( أَحَدُهَا ) أَنَّ الْعِلْمَ وَالتَّصْدِيقَ مُسْتَلْزِمٌ لِجَمِيعِ مُوجِبَاتِ الْإِيمَانِ . ( الثَّانِي ) : ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ مَا فِي الْقُلُوبِ لَا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِيهِ . ( الثَّالِثُ ) ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ الْمَقْبُولِ يُمْكِنُ تَخَلُّفُ الْقَوْلِ الظَّاهِرِ وَالْعَمَلِ الظَّاهِرِ عَنْهُ . ( الرَّابِعُ ) : ظَنَّ الظَّانُّ أَنْ لَيْسَ فِي الْقَلْبِ إلَّا التَّصْدِيقُ وَأَنْ لَيْسَ الظَّاهِرُ إلَّا عَمَلُ الْجَوَارِحِ . وَالصَّوَابُ أَنَّ الْقَلْبَ لَهُ عَمَلٌ مَعَ التَّصْدِيقِ وَالظَّاهِرُ قَوْلٌ ظَاهِرٌ وَعَمَلٌ ظَاهِرٌ وَكِلَاهُمَا مُسْتَلْزِمٌ لِلْبَاطِنِ .
============(1/111)
الباب الثالث
الخلاصة في أحكام الإكراه
هذه خلاصته من الموسوعة الفقهية :
رَدُّ الْإِبْرَاءِ :
26 - يَنْبَنِي اخْتِلَافُ النَّظَرِ الْفِقْهِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكٌ . وَاَلَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَاجَتُهُ لِلْقَبُولِ أَوْ عَدَمُ حَاجَتِهِ . فَالْحَنَابِلَةُ , وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ , وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَرْجُوحِ , وَهُمْ أَكْثَرُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ حَاجَتِهِ لِلْقَبُولِ , ذَهَبُوا إلَى أَنَّهُ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ , لِأَنَّهُ إسْقَاطُ حَقٍّ كَالْقِصَاصِ وَالشُّفْعَةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَالْخِيَارِ وَالطَّلَاقِ , لَا تَمْلِيكُ عَيْنٍ , كَالْهِبَةِ . وَمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ ( وَهُمْ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلِهِمْ الْآخَرِ وَمَعَهُمْ فِي هَذَا الْحَنَفِيَّةُ الَّذِينَ رَاعَوْا مَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ بِالرَّغْمِ مِنْ عَدَمِ تَوَقُّفِهِ عَلَى الْقَبُولِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ ) يَرَوْنَ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ . وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ هَلْ يَتَقَيَّدُ الرَّدُّ بِمَجْلِسِ الْإِبْرَاءِ , أَوْ هُوَ عَلَى إطْلَاقِهِ . وَاَلَّذِي فِي الْبَحْرِ وَالْحَمَوِيِّ عَلَى الْأَشْبَاهِ إطْلَاقُ صِحَّةِ الرَّدِّ فِي مَجْلِسِ الْإِبْرَاءِ أَوْ بَعْدَهُ . وَالرَّدُّ الْمُعْتَبَرُ هُوَ مَا يَصْدُرُ مِنْ الْمُبَرَّأِ , أَوْ مِنْ وَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ , وَخَالَفَ فِي الثَّانِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ . وَقَدْ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مَسَائِلَ لَا يَرْتَدُّ فِيهَا الْإِبْرَاءُ بِالرَّدِّ وَهِيَ : 1 , 2 - الْإِبْرَاءُ فِي الْحَوَالَةِ ( وَالْكَفَالَةِ عَلَى الْأَرْجَحِ ) لِأَنَّهُمَا مُتَمَحِّضَانِ لِلْإِسْقَاطِ , لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ , لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ , لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ , وَالْإِسْقَاطُ الْمَحْضُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ لِتَلَاشِي السَّاقِطِ , بِخِلَافِ التَّأْخِيرِ , لِعَوْدِهِ بَعْدَ الْأَجَلِ . 3 - إذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْإِبْرَاءِ طُلِبَ مِنْ الْمُبَرَّأِ بِأَنْ قَالَ أَبْرِئْنِي , فَأَبْرَأَهُ فَرَدَّ , لَا يَرْتَدُّ . 4 - إذَا سَبَقَ لِلْمُبَرَّأِ أَنْ قَبِلَهُ ثُمَّ رَدَّهُ لَا يَرْتَدُّ . الْمُبَرِّئُ وَشُرُوطُهُ : 27 - الْإِبْرَاءُ كَغَيْرِهِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ , يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَصَرِّفِ بِهِ الْأَهْلِيَّةُ التَّامَّةُ لِلتَّعَاقُدِ , مِنْ عَقْلٍ وَبُلُوغٍ , وَتَفْصِيلُهُ فِي الْكَلَامِ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ وَالْعَقْدِ . وَلَكِنَّ الْأَهْلِيَّةَ الْمَطْلُوبَةَ هُنَا هِيَ أَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ , بِأَنْ يَكُونَ رَشِيدًا غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ لِلسَّفَهِ أَوْ الْمَدْيُونِيَّةِ , عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ ( الْحَجْرِ ) . وَتُشْتَرَطُ الْوِلَايَةُ , لِأَنَّ كُلَّ إبْرَاءٍ لَا يَخْلُو مِنْ حَقٍّ يَجْرِي التَّنَازُلُ عَنْهُ ( بِإِسْقَاطِهِ أَوْ تَمْلِيكِهِ ) , لِذَا لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَصْدُرَ ذَلِكَ التَّنَازُلَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْحَقِّ نَفْسِهِ أَوْ مَنْ يَتَصَرَّفُ عَنْهُ , فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ لِلْمُبَرِّئِ وِلَايَةٌ عَلَى الْحَقِّ الْمُبَرَّأِ مِنْهُ , وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهُ , أَوْ مُوَكِّلًا بِالْإِبْرَاءِ مِنْهُ , أَوْ مُتَصَرِّفًا بِالْفُضَالَةِ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ , وَلَحِقَتْهُ الْإِجَازَةُ مِنْ الْمَالِكِ , عِنْدَ مَنْ يَرَى صِحَّةَ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ ( فُضُولِيٌّ ) . وَالْعِبْرَةُ فِي وِلَايَةِ الْمُبَرِّئِ عَلَى الْحَقِّ الْمُبَرَّأِ مِنْهُ هُوَ بِمَا فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ لَا بِمَا فِي الظَّنِّ . فَلَوْ أَبْرَأَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مَالِ أَبِيهِ ظَانًّا بَقَاءَ أَبِيهِ حَيًّا فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا حِينَ الْإِبْرَاءِ صَحَّ , لِأَنَّ الْمُبَرَّأَ مِنْهُ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ حِينَ الْإِبْرَاءِ فِي الْوَاقِعِ . وَيُشْتَرَطُ الرِّضَا , فَإِبْرَاءُ الْمُكْرَهِ لَا يَصِحُّ , لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعَ الْهَزْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِفَرَاغِ الذِّمَّةِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ . وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ مِمَّا يَشُوبُ شَرِيطَةَ الرِّضَا أَنْ يَعْلَمَ الْمَدِينُ وَحْدَهُ مِقْدَارَ الدَّيْنِ , فَيَكْتُمُهُ عَنْ الدَّائِنِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَسْتَكْثِرَهُ فَلَا يُبَرِّئُهُ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ صَادِرٌ حِينَئِذٍ عَنْ إرَادَةٍ غَيْرِ مُعْتَبَرَةٍ . التَّوْكِيلُ بِالْإِبْرَاءِ : 28 - يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِالْإِبْرَاءِ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ الْإِذْنِ الْخَاصِّ بِهِ , وَلَا يَكْفِي لَهُ إذْنُ الْوَكَالَةِ بِعَقْدٍ مَا , وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ بِشَأْنِ السَّلَمِ أَنَّهُ إذَا أَبْرَأَ وَكِيلُ الْمُسَلَّمِ الْمُسَلَّمَ إلَيْهِ بِلَا إذْنٍ لَمْ يُبَرَّأْ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ . فَلَوْ قَالَ لَهُ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ : لَسْت وَكِيلًا وَالسَّلَمُ لَك وَأَبْرَأْتنِي مِنْهُ , نَفَذَ الْإِبْرَاءُ ظَاهِرًا , وَتَعَطَّلَ بِذَلِكَ حَقُّ الْمُسَلَّمِ , وَغَرِمَ لَهُ الْوَكِيلُ قِيمَةَ رَأْسِ الْمَالِ لِلْحَيْلُولَةِ , فَلَا يَغْرَمُ بَدَلَ الْمُسَلَّمِ فِيهِ كَيْلًا يَكُونَ اعْتِيَاضًا عَنْهُ . كَمَا(1/119)
خَصَّ الْحَنَفِيَّةُ إبْرَاءَ الْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ فِيمَا وَجَبَ بِعَقْدِهِمَا , وَيَضْمَنَانِ . وَلَا يَصِحُّ فِيمَا لَمْ يَجِبْ بِعَقْدِهِمَا , كَمَا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْوَكِيلُ مَأْذُونًا بِالْإِبْرَاءِ فَوَكَّلَ غَيْرَهُ بِهِ فَأَجْرَاهُ فِي حُضُورِهِ أَوْ غَيْبَتِهِ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُمْ . وَإِنْ وَكَّلَهُ بِإِبْرَاءِ غُرَمَائِهِ , وَكَانَ الْوَكِيلُ مِنْهُمْ لَمْ يُبَرِّئْ نَفْسَهُ , لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ أَمْرِ الْمُخَاطَبِ لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ , فَإِنْ قَالَ : وَإِنْ شِئْت فَأَبْرِئْ نَفْسَك فَلَهُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ وَكَّلَ الْمَدِينَ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ .
الْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِتْلَافِ وَمَنْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ :
37 - لَوْ أَكْرَهَ شَخْصٌ آخَرَ إكْرَاهًا مُلْجِئًا عَلَى إتْلَافِ مَالٍ مُحْتَرَمٍ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِ الْمُكْرِهِ ( بِكَسْرِ الرَّاءِ ) فَإِنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ كُلٍّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ يُنْسَبُ إلَى الْحَامِلِ عَلَى الْفِعْلِ , لَا إلَى الْفَاعِلِ , لِأَنَّهُ كَالْآلَةِ . وَلِلْمُسْتَحِقِّ مُطَالَبَةُ الْمُتْلِفِ , وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ , فَلَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ يُفْهَمُ أَيْضًا مِمَّا نَقَلَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ الْمَالِكِيُّ عَنْ فَضْلِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ ابْنَ الْمَاجِشُونِ قَالَ فِي السُّلْطَانِ يَأْمُرُ رَجُلًا بِقَتْلِ رَجُلٍ ظُلْمًا : إنَّ السُّلْطَانَ يُقْتَلُ , وَلَا يُقْتَلُ الْمَأْمُورُ , إذْ الْإِلْزَامُ بِتَضْمِينِ الْمَالِ دُونَ الْقَوَدِ . 38 - وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : أَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِمَا كَالدِّيَةِ , لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِثْمِ . وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ فَرْحُونٍ - أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرَهِ - بِالْفَتْحِ - اسْتِنَادًا إلَى حَدِيثِ { لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ } يَقُولُ ابْنُ فَرْحُونٍ : إنَّ مَنْ أَمَرَهُ الْوَالِي بِقَتْلِ رَجُلٍ ظُلْمًا , أَوْ قَطْعِهِ أَوْ جَلْدِهِ أَوْ أَخْذِ مَالِهِ أَوْ بَيْعِ مَتَاعِهِ , فَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ , وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إنْ عَصَاهُ وَقَعَ بِهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ ظَهْرِهِ أَوْ مَالِهِ فَإِنْ أَطَاعَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ وَالْقَطْعُ وَالْغُرْمُ , وَغَرِمَ ثَمَنَ مَا بَاعَ . وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِيهِ مَوْطِنُهُ بَحْثُ ( الْإِكْرَاهِ ) .
الْمَبْحَثُ الثَّانِي الْعَاقِدَانِ وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الْعَاقِدَانِ :
23 - مِنْ أَرْكَانِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ الْعَاقِدَانِ - الْمُؤَجِّرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ - وَالْحَنَفِيَّةُ يَعْتَبِرُونَهَا مِنْ أَطْرَافِ الْعَقْدِ لَا مِنْ أَرْكَانِهِ . وَيُشْتَرَطُ فِيهِمَا لِلِانْعِقَادِ الْعَقْلُ , فَلَا تَنْعَقِدُ الْإِجَارَةُ مِنْ الْمَجْنُونِ وَلَا مِنْ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ , فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ . وَيُشْتَرَطُ فِي الْعَاقِدَيْنِ لِلصِّحَّةِ أَنْ يَقَعَ بَيْنَهُمَا عَنْ تَرَاضٍ , فَإِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ مَشُوبًا بِإِكْرَاهٍ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ . كَمَا يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمَنْ مَعَهُمْ لِلصِّحَّةِ وِلَايَةَ إنْشَاءِ الْعَقْدِ , فَعَقْدُ الْفُضُولِيِّ يُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ فَاسِدًا . وَيُشْتَرَطُ فِي الْعَاقِدَيْنِ لِلنَّفَاذِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَلَّا يَكُونَ الْعَاقِدُ مُرْتَدًّا إنْ كَانَ رَجُلًا , لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ تَكُونُ مَوْقُوفَةً , بَيْنَمَا الصَّاحِبَانِ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لَا يَشْتَرِطُونَ ذَلِكَ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ عِنْدَهُمْ نَافِذَةٌ . كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ لَهُ وِلَايَةُ إنْشَاءِ الْعَقْدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ الْوِلَايَةَ شَرْطٌ لِلنَّفَاذِ , بَيْنَمَا يَرَى الْآخَرُونَ أَنَّهَا شَرْطٌ لِلصِّحَّةِ كَمَا سَبَقَ .
إجْبَارٌ التَّعْرِيفُ :(1/120)
1 - الْإِجْبَارُ لُغَةً : الْقَهْرُ وَالْإِكْرَاهُ . يُقَالُ : أَجْبَرْتُهُ عَلَى كَذَا حَمَلْتُهُ عَلَيْهِ قَهْرًا , وَغَلَبْتُهُ فَهُوَ مُجْبَرٌ . وَفِي لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ : جَبَرْتُهُ جَبْرًا وَجُبُورًا قَالَ الْأَزْهَرِيُّ : جَبَرْتُهُ وَأَجْبَرْتُهُ لُغَتَانِ جَيِّدَتَانِ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ سَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ : جَبَرْتُهُ عَلَى الْأَمْرِ وَأَجْبَرْتُهُ . وَلَمْ نَقِفْ لِلْفُقَهَاءِ عَلَى تَعْرِيفٍ خَاصٍّ لِلْإِجْبَارِ . وَاَلَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُمْ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ السَّابِقِ فَمَنْ تَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ عَلَى الزَّوَاجِ يَمْلِكُ الِاسْتِبْدَادَ بِتَزْوِيجِ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ , وَمَنْ تَثْبُتُ لَهُ الشُّفْعَةُ يَتَمَلَّكُ الْمَشْفُوعَ فِيهِ جَبْرًا عَنْ الْمُشْتَرِي . وَقَالُوا : إنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُجْبِرَ الْمَدِينَ الْمُمَاطِلَ عَلَى سَدَادِ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ الْمَنْثُورَةِ فِي مُخْتَلَفِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : 2 - هُنَاكَ أَلْفَاظٌ اسْتَعْمَلَهَا الْفُقَهَاءُ فِي الْمَعَانِي ذَاتِ الصِّلَةِ بِلَفْظِ إجْبَارٍ وَذَلِكَ كَالْإِكْرَاهِ وَالتَّسْخِيرِ وَالضَّغْطِ . فَالْإِكْرَاهُ , كَمَا يُعَرِّفُهُ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ , هُوَ حَمْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ وَلَا يُرِيدُ مُبَاشَرَتَهُ لَوْلَا الْحَمْلُ عَلَيْهِ بِالْوَعِيدِ وَيُعَرِّفُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : بِأَنَّهُ الْإِلْزَامُ وَالْإِجْبَارُ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ الْإِنْسَانُ طَبْعًا أَوْ شَرْعًا فَيُقْدِمُ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ الرِّضَا لِيَدْفَعَ عَنْهُ مَا هُوَ أَضَرُّ بِهِ . وَمِنْ هَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ , وَأَنَّ التَّصَرُّفَ الْمَطْلُوبَ يَقُومُ بِهِ الْمُكْرَهُ - بِفَتْحِ الرَّاءِ - دُونَ رِضَاهُ . وَلِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ مُعْدِمًا لِلرِّضَا وَمُفْسِدًا لِلِاخْتِيَارِ أَوْ مُبْطِلًا لَهُ , فَيَبْطُلُ التَّصَرُّفُ , أَوْ يَثْبُتُ لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ حَقُّ الْخِيَارِ , عَلَى تَفْصِيلٍ مَوْضِعُ بَيَانِهِ مُصْطَلَحُ " إكْرَاهٌ " . 3 - ( وَالتَّسْخِيرُ لُغَةً ) : اسْتِعْمَالُ الشَّخْصِ غَيْرَهُ فِي عَمَلٍ بِالْمَجَّانِ . وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى . 4 - وَالضَّغْطُ لُغَةً : الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ وَالْإِكْرَاهُ . وَأَمَّا فِي الِاسْتِعْمَالِ الْفِقْهِيِّ فَقَدْ قَالَ الْبُرْزُلِيُّ : سُئِلَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ عَنْ الْمَضْغُوطِ مَا هُوَ ؟ فَقَالَ : هُوَ مَنْ أُضْغِطَ فِي بَيْعِ رُبُعِهِ أَوْ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ , أَوْ فِي مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ ظُلْمًا فَبَاعَ لِذَلِكَ . وَقِيلَ : إنَّ الْمَضْغُوطَ هُوَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ ظُلْمًا فَبَاعَ لِذَلِكَ فَقَطْ . بَيْنَمَا الْإِجْبَارُ أَعَمُّ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ . إذْ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا غَيْرَ مَشْرُوعٍ فَيَتَضَمَّنُ الْإِكْرَاهَ وَالتَّسْخِيرَ وَالضَّغْطَ , وَقَدْ يَكُونُ الْإِجْبَارُ مَشْرُوعًا بَلْ مَطْلُوبًا , كَمَا لَا يُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِهِ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ , وَلَا أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ بِفِعْلِ الشَّخْصِ الْمُجْبَرِ - بِفَتْحِ الْبَاءِ - وَإِنَّمَا قَدْ يَكُونُ أَيْضًا بِفِعْلِ الْمُجْبِرِ - بِكَسْرِ الْبَاءِ - أَوْ قَوْلِهِ , كَمَا فِي تَزْوِيجِ الْوَلِيِّ الْمُجْبِرِ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةُ إجْبَارٍ كَالصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ , وَكَمَا فِي نَزْعِ الْمِلْكِيَّةِ جَبْرًا عَنْ الْمَالِكِ لِلْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ . وَقَدْ يَكُونُ تِلْقَائِيًّا دُونَ تَلَفُّظٍ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ طَلَبٍ كَمَا فِي الْمُقَاصَّةِ الْجَبْرِيَّةِ الَّتِي يَقُولُ بِهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ غَيْرُ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْإِجْبَارَ الْمَشْرُوعَ لَا يُؤَثِّرُ عَلَى صِحَّةِ التَّصَرُّفِ , وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ تَسْخِيرًا بِغَيْرِ مُقَابِلٍ وَإِنَّمَا الْعِوَضُ فِيهِ قَائِمٌ , كَمَا أَنَّ الْإِجْبَارَ لَا يَقْتَصِرُ وُقُوعُهُ عَلَى الْبَيْعِ فَقَطْ كَمَا فِي الضَّغْطِ , بَلْ صُوَرُهُ كَثِيرَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ .
أَسْبَابُ الْخِلَافِ الرَّاجِعِ إلَى الدَّلِيلِ :
18 - مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ السَّيِّدِ مِنْ ذَلِكَ : 1 - الْإِجْمَالُ فِي الْأَلْفَاظِ وَاحْتِمَالُهَا لِلتَّأْوِيلَاتِ . 2 - دَوَرَانُ الدَّلِيلِ بَيْنَ الِاسْتِقْلَالِ بِالْحُكْمِ وَعَدَمِهِ . 3 - دَوَرَانُهُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ , نَحْوُ { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ قَبِلُوا الْجِزْيَةَ . 4 - اخْتِلَافُ الْقِرَاءَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ , وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ . 5 - دَعْوَى النَّسْخِ وَعَدَمِهِ . 6 - عَدَمُ اطِّلَاعِ الْفَقِيهِ عَلَى الْحَدِيثِ الْوَارِدِ أَوْ نِسْيَانِهِ لَهُ .
اخْتِلَالٌ التَّعْرِيفُ :(1/121)
1 - الِاخْتِلَالُ لُغَةً مَصْدَرُ اخْتَلَّ . وَأَصْلُهُ يَكُونُ مِنْ الْخَلَلِ , وَهُوَ الْفَسَادُ وَالْوَهَنُ فِي الرَّأْيِ وَالْأَمْرِ , كَأَنَّهُ تُرِكَ مِنْهُ مَوْضِعٌ لَمْ يُبْرَمْ وَلَا أُحْكِمَ . وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ الِاخْتِلَالَ إمَّا حِسِّيٌّ وَإِمَّا مَعْنَوِيٌّ . فَالْحِسِّيُّ نَحْوُ اخْتِلَالِ الْجِدَارِ وَالْبِنَاءِ . وَالْمَعْنَوِيُّ بِمَعْنَى الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ . وَالِاخْتِلَالُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ لَا يَبْعُدُ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْمَذْكُورِ , إذْ يَأْتِي بِمَعْنَى مُدَاخَلَةِ الْوَهَنِ وَالنَّقْصِ لِلشَّيْءِ أَوْ الْأَمْرِ . وَمِنْهُ " اخْتِلَالُ الْعَقْلِ " , وَهُوَ الْعَتَهُ الَّذِي يَخْتَلِطُ مَعَهُ كَلَامُ صَاحِبِهِ فَيُشْبِهُ مَرَّةً كَلَامَ الْعُقَلَاءِ , وَمَرَّةً كَلَامَ الْمَجَانِينِ , " وَاخْتِلَالُ الْعِبَادَةِ أَوْ الْعَقْدِ " بِفَقْدِ شَرْطٍ أَوْ رُكْنٍ أَوْ فَسَادِهِمَا , " وَاخْتِلَالُ الرِّضَا " بِالْإِكْرَاهِ أَوْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ أَوْ غَيْرِهِمَا , " وَاخْتِلَالُ الضَّبْطِ " لَدَى الرَّاوِي الَّذِي يَتَبَيَّنُ بِمُخَالَفَتِهِ رِوَايَاتِ الثِّقَاتِ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : 2 - أ - الْإِخْلَالُ : هُوَ فِعْلُ الشَّخْصِ إذَا أَوْقَعَ الْخَلَلَ بِشَيْءٍ مَا , وَالِاخْتِلَالُ مُطَاوَعَةٌ , " وَالْإِخْلَالُ " بِالْعَهْدِ وَالْعَقْدِ عَدَمُ الْوَفَاءِ بِهِمَا , وَإِخْلَالُ التَّصَرُّفِ بِالنِّظَامِ الْعَامِ أَوْ الْآدَابِ كَوْنُهُ مُخَالِفًا لَهُمَا . ب - الْفَسَادُ وَالْبُطْلَانُ : الِاخْتِلَالُ أَعَمُّ مِنْ الْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ , إذْ يَدْخُلُ فِيهِ اخْتِلَالُ الْعِبَادَةِ أَوْ الْعَقْدِ أَوْ غَيْرِهِمَا بِنَقْصِ بَعْضِ الْمُكَمِّلَاتِ الَّتِي لَا يَقْتَضِي نَقْصُهَا بُطْلَانًا وَلَا فَسَادًا , كَتَرْكِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ نِسْيَانًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّلَاةِ , وَتَرْكِ الْمَبِيتِ بِمِنًى لِلْحَاجِّ , وَتَرْكِ الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَيْعِ , أَوْ بِفِعْلٍ مُخَالِفٍ لِمُقْتَضَى الْكَمَالِ فِي الْعِبَادَةِ أَوْ التَّصَرُّفِ , كَالْحَرَكَةِ الْيَسِيرَةِ فِي الصَّلَاةِ , وَكَإِيقَاعِ الْبَيْعِ بَعْدَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ مَنْ لَا يُبْطِلُهُ بِذَلِكَ . فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي فَسَادًا وَلَا بُطْلَانًا , وَلَا تَخْرُجُ بِهِ الْعِبَادَةُ أَوْ التَّصَرُّفُ عَنْ الصِّحَّةِ , وَلَكِنْ تَفْقِدُ بَعْضَ الْكَمَالِ . ( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) : يَتَعَرَّضُ الْفُقَهَاءُ لِلِاخْتِلَالِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كَلَامِهِمْ , وَمِنْ أَبْرَزِهَا مَا يَلِي : 3 - أ - قَسَّمَ الشَّاطِبِيُّ وَغَيْرُهُ التَّكَالِيفَ الشَّرْعِيَّةَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : الضَّرُورِيَّاتِ , وَالْحَاجِيَّاتِ , وَالتَّحْسِينَاتِ ( أَوْ التَّكْمِيلِيَّاتِ ) , ثُمَّ قَعَّدَ الشَّاطِبِيُّ لِتَأْثِيرِ اخْتِلَالِ كُلٍّ مِنْهَا فِيمَا سِوَاهُ مِمَّا لَهُ ارْتِبَاطٌ بِهِ خَمْسَ قَوَاعِدَ : 1 - أَنَّ الضَّرُورِيَّ أَصْلٌ لِمَا سِوَاهُ مِنْ الْحَاجِيِّ وَالتَّكْمِيلِيِّ . 2 - أَنَّ اخْتِلَالَ الضَّرُورِيِّ يَلْزَمُ مِنْهُ اخْتِلَالُ الْبَاقِيَيْنِ بِإِطْلَاقٍ . 3 - أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ اخْتِلَالِ الْبَاقِيَيْنِ بِإِطْلَاقٍ اخْتِلَالُ الضَّرُورِيِّ . 4 - أَنَّهُ قَدْ يَلْزَمُ مِنْ اخْتِلَالِ التَّحْسِينِيِّ بِإِطْلَاقٍ , أَوْ الْحَاجِيِّ بِإِطْلَاقٍ , اخْتِلَالُ الضَّرُورِيِّ بِوَجْهٍ مَا . 5 - أَنَّهُ يَنْبَغِي الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحَاجِيِّ وَالتَّحْسِينِيِّ وَالضَّرُورِيِّ . ثُمَّ أَطَالَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إلَيْهِ مَنْ شَاءَ . ب - الِاخْتِلَالُ فِي الْعِبَادَاتِ : 4 - الْخَلَلُ فِي الْعِبَادَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَرْكِ شَرْطٍ فِيهَا أَوْ رُكْنٍ أَوْ وَاجِبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ , أَوْ بِارْتِكَابِ مَحْظُورٍ فِيهَا أَوْ مَكْرُوهٍ . وَقَدْ يَتْرُكُ ذَلِكَ , أَوْ يَفْعَلُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ نِسْيَانًا . ثُمَّ قَدْ يُؤَدِّي بَعْضُ ذَلِكَ إلَى بُطْلَانِ الْعِبَادَةِ أَوْ فَسَادِهَا . وَقَدْ يُمْكِنُ تَدَارُكُ الْمَتْرُوكِ أَحْيَانًا أَوْ يُجْبَرُ بِنَحْوِ سُجُودِ سَهْوٍ أَوْ فِدْيَةٍ أَوْ قَضَاءٍ أَوْ غَيْرِهِمَا . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ كُلِّ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ ( ر : اسْتِدْرَاكٌ . بُطْلَانٌ . سَهْوٌ . فِدْيَةٌ . فَسَادٌ . . إلَخْ ) .
اخْتِيَارٌ التَّعْرِيفُ :(1/122)
1 - الِاخْتِيَارُ لُغَةً : تَفْضِيلُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ . وَاصْطِلَاحًا : الْقَصْدُ إلَى أَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ دَاخِلٍ فِي قُدْرَةِ الْفَاعِلِ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ . الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ : أ - الْخِيَارُ : 2 - الْخِيَارُ حَقٌّ يَنْشَأُ بِتَخْوِيلٍ مِنْ الشَّارِعِ , كَخِيَارِ الْبُلُوغِ , أَوْ مِنْ الْعَاقِدِ , كَخِيَارِ الشَّرْطِ . فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاخْتِيَارِ أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا مُطْلَقًا , فَكُلُّ خِيَارٍ يَعْقُبُهُ اخْتِيَارٌ , وَلَيْسَ كُلُّ اخْتِيَارٍ يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى خِيَارٍ . ب - الْإِرَادَةُ : 3 - الْإِرَادَةُ لُغَةً : الْمَشِيئَةُ , وَفِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ هِيَ " الْقَصْدُ " , أَيْ اعْتِزَامُ الْفِعْلِ وَالِاتِّجَاهُ إلَيْهِ , فَيَقُولُونَ فِي طَلَاقِ الْكِنَايَةِ مَثَلًا : إنْ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَ طَلَاقًا , وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ طَلَاقًا لَمْ يَقَعْ طَلَاقًا . وَيَقُولُونَ فِي الْعُقُودِ : يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا تَلَاقِي الْإِرَادَتَيْنِ . وَيَقُولُونَ فِي الْأَيْمَانِ : يُسْأَلُ الْحَالِفُ عَنْ مُرَادِهِ . . . وَهَكَذَا . وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ كُلَّ اخْتِيَارٍ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى إرَادَةٍ , وَلَيْسَ مِنْ الضَّرُورِيِّ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ إرَادَةٍ اخْتِيَارٌ . ج - الرِّضَا : 4 - يُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ دُونَ غَيْرِهِمْ بَيْنَ الِاخْتِيَارِ وَالرِّضَا . وَإِذَا كَانَ الِاخْتِيَارُ كَمَا تَقَدَّمَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ , فَإِنَّ الرِّضَا . هُوَ الِانْشِرَاحُ النَّفْسِيُّ , وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ عَامٍّ , فَقَدْ يَخْتَارُ الْمَرْءُ أَمْرًا لَا يَرْضَاهُ . وَيَظْهَرُ هَذَا التَّفْرِيقُ عِنْدَهُمْ - أَيْ الْحَنَفِيَّةِ - فِي مَسَائِلِ الْإِكْرَاهِ , فَالْإِكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ - كَالضَّرْبِ الْمُحْتَمَلِ , وَالْقَيْدِ , وَنَحْوِهِمَا - يُفْسِدُ الرِّضَا وَلَكِنَّهُ لَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ , أَمَّا الْإِكْرَاهُ الْمُلْجِئُ فَإِنَّهُ يُعْدِمُ الرِّضَا وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ .
شُرُوطُ الِاخْتِيَارِ :
5 - لِكَيْ يَكُونَ الِاخْتِيَارُ صَحِيحًا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَنْ لَهُ الِاخْتِيَارُ مُكَلَّفًا , وَأَنْ يَكُونَ فِي قَصْدِهِ مُسْتَبِدًّا , أَيْ : لَا سُلْطَانَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ . وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الِاخْتِيَارَ يَكُونُ فَاسِدًا إذَا اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ التَّكْلِيفِ , بِأَنْ كَانَ مَنْ لَهُ الِاخْتِيَارُ مَجْنُونًا , أَوْ صَغِيرًا غَيْرَ مُمَيِّزٍ , أَوْ كَانَ اخْتِيَارُهُ مَبْنِيًّا عَلَى اخْتِيَارِ غَيْرِهِ , فَإِذَا اُضْطُرَّ إلَى مُبَاشَرَةِ أَمْرٍ بِالْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ , كَانَ قَصْدُهُ بِالْمُبَاشَرَةِ دَفْعَ الْإِكْرَاهِ حَقِيقَةً , فَيَصِيرُ الِاخْتِيَارُ فَاسِدًا ; لِابْتِنَائِهِ عَلَى اخْتِيَارِ الْمُكْرِهِ - بِالْكَسْرِ - وَإِنْ لَمْ يَنْعَدِمْ أَصْلًا .
تَعَارُضُ الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ مَعَ الِاخْتِيَارِ الْفَاسِدِ :
6 - إذَا تَعَارَضَ الِاخْتِيَارُ الْفَاسِدُ وَالِاخْتِيَارُ الصَّحِيحُ , وَجَبَ تَرْجِيحُ الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ عَلَى الِاخْتِيَارِ الْفَاسِدِ إنْ أَمْكَنَ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَى الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ . وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ نِسْبَتُهُ إلَى الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ بَقِيَ مَنْسُوبًا إلَى الِاخْتِيَارِ الْفَاسِدِ , كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْأَقْوَالِ وَعَلَى الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا الْإِنْسَانُ آلَةً لِغَيْرِهِ , كَالْأَكْلِ وَالْوَطْءِ وَنَحْوِهِمَا . وَمَحَلُّ تَفْصِيلِ ذَلِكَ بَحْثُ ( إكْرَاهٌ ) . الْمُخَيَّرُ : 7 - التَّخْيِيرُ إمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَنْ الشَّارِعِ , كَتَخْيِيرِ الْمُسْتَنْجِي بَيْنَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ أَوْ الْحِجَارَةِ وَنَحْوِهَا لِلِاسْتِنْجَاءِ , وَتَخْيِيرِ الْحَانِثِ فِي التَّكْفِيرِ عَنْ يَمِينِهِ بَيْنَ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ خِصَالٍ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَنْ غَيْرِهِ كَتَخْيِيرِ الشَّرِيكِ شَرِيكَهُ بَيْنَ شِرَاءِ حِصَّتِهِ مِنْ الدُّكَّانِ أَوْ بَيْعِ حِصَّتِهِ لَهُ , أَوْ بَيْعِ الدُّكَّانِ كَامِلًا لِشَخْصٍ ثَالِثٍ . وَلَا يَمْلِكُ التَّخْيِيرَ إلَّا صَاحِبُ الْحَقِّ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ شَرْعًا . وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي مُصْطَلَحِ ( تَخْيِيرٌ ) إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
اشْتِرَاطُ الِاخْتِيَارِ لِتَرْتِيبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ :
9 - الِاخْتِيَارُ شَرْطٌ لِتَرَتُّبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ , وَهُوَ شَرْطٌ لِتَرَتُّبِ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْفِعْلِ فِي الدُّنْيَا , وَمَحَلُّ بَحْثِ ذَلِكَ كُلِّهِ مُصْطَلَحُ ( إكْرَاهٌ ) .
أَثَرُ الْإِذْنِ فِي الْجِنَايَاتِ :(1/123)
58 - الْأَصْلُ أَنَّ الدِّمَاءَ لَا تَجْرِي فِيهَا الْإِبَاحَةُ , وَلَا تُسْتَبَاحُ بِالْإِذْنِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِذْنُ - إذَا كَانَ مُعْتَبَرًا - شُبْهَةً تُسْقِطُ الْقِصَاصَ , وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ : اُقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ , فَإِنَّ الْقَوَدَ يَسْقُطُ لِشُبْهَةِ الْإِذْنِ , وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ , وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ , وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ أَنَّهُ يُضْرَبُ مِائَةً وَيُحْبَسُ عَامًا . وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ , فَتَجِبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ : اقْطَعْ يَدَيَّ فَقَطَعَ يَدَهُ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ , وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَرَجَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ , وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا : يُعَاقَبُ وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ , وَتُنْظَرُ التَّفْصِيلَاتُ فِي مُصْطَلَحِ : ( جِنَايَةٌ ) . 59 - وَمَنْ أَمَرَ إنْسَانًا بِقَتْلِ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ بِلَا إكْرَاهٍ فَفِيهِ الْقِصَاصُ عَلَى الْمَأْمُورِ وَاخْتُلِفَ فِي الْآمِرِ . أَمَّا إذَا كَانَ الْأَمْرُ بِإِكْرَاهٍ مُلْجِئٍ فَإِنَّ الْقِصَاصَ عَلَى الْآمِرِ , وَاخْتُلِفَ فِي الْمَأْمُورِ , فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلُ زُفَرَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ , أَنَّهُ يُقْتَلُ لِمُبَاشَرَتِهِ الْقَتْلَ , وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا , وَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْمَأْمُورَ لَا يُقْتَلُ . وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ ( ر : إكْرَاهٌ - قَتْلٌ - جِنَايَةٌ ) . 60 - وَلَا قِصَاصَ عَلَى مَنْ قَتَلَ غَيْرَهُ دِفَاعًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ ; لِأَنَّ الدِّفَاعَ عَنْ ذَلِكَ مَأْذُونٌ فِيهِ لَكِنْ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِمَا إذَا كَانَ الدَّفْعُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالْقَتْلِ .
إرَادَةٌ التَّعْرِيفُ :
1 - الْإِرَادَةُ فِي اللُّغَةِ الْمَشِيئَةُ . وَيَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى الْقَصْدِ إلَى الشَّيْءِ وَالِاتِّجَاهِ إلَيْهِ . الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ : أ - النِّيَّةُ : 2 - إذَا كَانَتْ الْإِرَادَةُ مَا سَبَقَ , فَإِنَّ النِّيَّةَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَصْدُ الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ , وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ : عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إيجَادِ الْفِعْلِ جَزْمًا وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهُ يُلْحَظُ فِي النِّيَّةِ ارْتِبَاطُهَا بِالْعَمَلِ , وَهِيَ بِغَيْرِ هَذَا الِارْتِبَاطِ لَا تُسَمَّى نِيَّةً , بَيْنَمَا لَا يُلَاحَظُ ذَلِكَ فِي الْإِرَادَةِ . ب - الرِّضَا : 3 - الرِّضَا هُوَ الرَّغْبَةُ فِي الْفِعْلِ وَالِارْتِيَاحُ إلَيْهِ , فَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالرِّضَا , فَقَدْ يُرِيدُ الْمَرْءُ شَيْئًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَرْضَاهُ - أَيْ لَا يَرْتَاحُ إلَيْهِ وَلَا يُحِبُّهُ - وَمِنْ هُنَا كَانَ تَفْرِيقُ عُلَمَاءِ الْعَقِيدَةِ بَيْنَ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرِضَاهُ , وَكَذَلِكَ تَفْرِقَةُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَهُمَا فِي بَابِ الْإِكْرَاهِ وَغَيْرِهِ . ج - الِاخْتِيَارُ : 4 - الِاخْتِيَارُ لُغَةً : تَفْضِيلُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ . وَاصْطِلَاحًا : الْقَصْدُ إلَى أَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ . فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِرَادَةِ أَنَّهَا تُتَّجَهُ إلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ . الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ , وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ : 5 - أ - لَا تُعْتَبَرُ الْإِرَادَةُ صَحِيحَةً إلَّا إذَا صَدَرَتْ عَنْ ذِي أَهْلِيَّةٍ وَقَدْ تَنَاوَلَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ , عِنْدَمَا حَكَمُوا بِفَسَادِ تَبَرُّعَاتِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ , وَالسَّفِيهِ وَالْمُفْلِسِ وَنَحْوِهِمْ , وَاعْتَبَرُوا إرَادَتَهُمْ الصَّادِرَةَ بِذَلِكَ لَاغِيَةً لِصُدُورِهَا عَنْ غَيْرِ ذِي أَهْلِيَّةٍ , أَوْ عَنْ مُقَيَّدِ الْأَهْلِيَّةِ , أَوْ نَاقِصِهَا . ب الْأَصْلُ فِي الْإِرَادَةِ أَنْ تَصْدُرَ عَنْ الْأَصِيلِ , وَلَكِنْ قَدْ تَنُوبُ عَنْ إرَادَةِ الْأَصِيلِ إرَادَةُ غَيْرِهِ , كَمَا فِي الْوَكَالَةِ , حَيْثُ تَنُوبُ إرَادَةُ الْوَكِيلِ عَنْ إرَادَةِ الْمُوَكِّلِ , كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ . وَقَدْ تَنُوبُ إرَادَةُ غَيْرِ الْأَصِيلِ عَنْ الْأَصِيلِ جَبْرًا كَالْوِلَايَةِ أَوْ الْوِصَايَةِ فَيَلْزَمُ الْأَصِيلَ بِمَا أَمْضَاهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ مِنْ تَصَرُّفَاتٍ فِي الْجُمْلَةِ , وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَنْهُ فِي مُصْطَلَحِ ( إجْبَارٌ ) .(1/124)
8 - إنَّ إرَادَةَ الْعَاقِدَيْنِ تُنْشِئُ الْعَقْدَ , وَالْإِرَادَةُ الْمُنْفَرِدَةُ تُنْشِئُ التَّصَرُّفَاتِ غَيْرَ الْعَقْدِيَّةِ . أَمَّا أَحْكَامُ الْعُقُودِ , وَآثَارُهَا فَإِنَّهَا مِنْ تَرْتِيبِ الشَّارِعِ لَا الْعَاقِدِ . 9 - إذَا وَقَعَ فِي تَصَرُّفٍ مَا الْغَلَطُ أَوْ التَّغْرِيرُ أَوْ التَّدْلِيسُ أَوْ الْإِكْرَاهُ كَانَ هَذَا التَّصَرُّفُ قَابِلًا لِلْإِبْطَالِ فِي الْجُمْلَةِ , بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ لِمَنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي إرَادَتِهِ .
اسْتِسْلَامٌ التَّعْرِيفُ :
1 - الِاسْتِسْلَامُ فِي اللُّغَةِ : الِانْقِيَادُ وَالْخُضُوعُ لِلْغَيْرِ . وَيَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ " اسْتِسْلَامٍ " بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا . وَيُعَبِّرُونَ أَيْضًا عَنْ الِاسْتِسْلَامِ بِ " النُّزُولِ عَلَى الْحُكْمِ وَقَبُولِ الْجِزْيَةِ " . الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ , وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ : 2 - أ - اسْتِسْلَامُ الْعَدُوِّ سَوَاءٌ أَكَانَ كَافِرًا - مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ - أَمْ مُسْلِمًا بَاغِيًا مُوجِبٌ لِلْكَفِّ عَنْ قِتَالِهِ . وَقَدْ أَفَاضَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَدِيثِ عَنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ , وَفِي كِتَابِ الْبُغَاةِ . 3 - ب - لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَسْلِمَ لِعَدُوِّهِ الظَّالِمِ - سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا - إلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ , أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ , وَلَا يَجِدُ حِيلَةً لِلْحِفَاظِ عَلَيْهَا إلَّا بِالِاسْتِسْلَامِ , فَيَجُوزُ لَهُ الِاسْتِسْلَامُ حِينَئِذٍ . وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ الِاسْتِسْلَامُ لِعَدُوِّهِمْ فِي سَاحَةِ الْمَعْرَكَةِ إلَّا بِهَذَا الشَّرْطِ . وَذَكَرُوا فِي كِتَابِ الصِّيَالِ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَصُولِ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَسْلِمَ لِلصَّائِلِ إلَّا بِهَذَا الشَّرْطِ أَيْضًا . وَذَكَرُوا فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ : أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى بَعْضِ الْأَفْعَالِ , لَا تَتَرَتَّبُ آثَارُهُ إلَّا إذَا كَانَ الِاسْتِسْلَامُ لِلْمُكْرِهِ ( بِكَسْرِ الرَّاءِ ) بِهَذَا الشَّرْطِ .
الِاسْتِغَاثَةُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْفَاحِشَةِ :
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغَاثَةَ عِنْدَ الْفَاحِشَةِ عَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِكْرَاهِ الَّتِي تُسْقِطُ الْحَدَّ عَنْ الْمُكْرَهَةِ الْأُنْثَى , لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { عُفِيَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } .
حُكْمُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ :
5 - عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْتَفْسِرَ ذَوِي الْعَلَاقَةِ الْأُمُورَ الْغَامِضَةَ , لِيَكُونَ فِي حُكْمِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ , كَاسْتِفْسَارِهِ مَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ مُبْهَمٍ , وَاسْتِفْسَارِهِ الشَّاهِدَ السَّبَبَ , كَمَا إذَا شَهِدَا أَنَّ بَيْنَهُمَا رَضَاعًا , فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّفْصِيلِ . 6 - وَقَدْ لَا يَجِبُ الِاسْتِفْسَارُ لِاعْتِبَارَاتٍ خَاصَّةٍ , كَاسْتِفْسَارِ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ , فَإِنَّهُ يَصْدُقُ بِيَمِينِهِ , وَلَا يُسْتَفْسَرُ كَيْفِيَّةُ حُصُولِ الْإِكْرَاهِ , دَرْءًا لِلْحُدُودِ مَا أَمْكَنَ , خِلَافًا لِلْأَذْرَعِيِّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِ بِوُجُوبِ الِاسْتِفْسَارِ . ( مَوَاطِنُ الْبَحْثِ ) : 7 - بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَوْرَدُوا الْمَبَادِئَ الْمَنْطِقِيَّةَ , كَمُقَدِّمَةٍ لِعِلْمِ الْأُصُولِ , وَذَكَرُوا الِاسْتِفْسَارَ ضِمْنَهَا , وَبَعْضُهُمْ يَذْكُرُهُ فِي مَبَاحِثِ الْقَوَادِحِ فِي الدَّلِيلِ . كَمَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ , حِينَ الْكَلَامِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِمُبْهَمٍ , وَفِي بَحْثِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ , بِمُنَاسَبَةِ كَلَامِهِمْ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ , هَلْ يُسْتَفْسَرُ ؟ وَفِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ , عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَجِبُ فِيهِ ذِكْرُ سَبَبِ الشَّهَادَةِ , وَفِي كِتَابِ الْقَضَاءِ كَذَلِكَ .
( تَرْكُ الِاسْتِقْبَالِ ) :(1/125)
10 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مِنْ مُفْسِدَاتِ الصَّلَاةِ تَحْوِيلُ الْمُصَلَّى صَدْرَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ اتِّفَاقًا , وَإِنْ تَعَمَّدَ الصَّلَاةَ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ يَكْفُرُ , وَهَذَا مُتَّفَقٌ مَعَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ لِلشَّرِيعَةِ . وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا إذَا صَلَّى بِلَا تَحَرٍّ فَظَهَرَ أَنَّهُ أَصَابَ الْقِبْلَةَ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ , لِبِنَاءِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ , فَإِنْ ظَهَرَ ذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَاةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ , لِأَنَّ مَا فُرِضَ لِغَيْرِهِ - كَالِاسْتِقْبَالِ الْمَشْرُوطِ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ - يُشْتَرَطُ حُصُولُهُ لَا تَحْصِيلُهُ , وَقَدْ حَصَلَ وَلَيْسَ فِيهِ بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : إنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ لِجِهَةٍ فَخَالَفَهَا وَصَلَّى مُتَعَمِّدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ صَادَفَ الْقِبْلَةَ , وَيُعِيدُ أَبَدًا . وَأَمَّا لَوْ صَلَّى لِغَيْرِهَا نَاسِيًا وَصَادَفَ الْقِبْلَةَ فَهَلْ يَجْرِي فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا يَجْرِي فِي النَّاسِي إذَا أَخْطَأَ , أَوْ يُجْزَمُ بِالصِّحَّةِ لِأَنَّهُ صَادَفَ وَهُوَ الظَّاهِرُ ؟ . وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ اسْتِقْبَالُهَا بِجَهْلٍ وَلَا غَفْلَةٍ وَلَا إكْرَاهٍ وَلَا نِسْيَانٍ , فَلَوْ اسْتَدْبَرَ نَاسِيًا لَمْ يَضُرَّ لَوْ عَادَ عَنْ قُرْبٍ . وَيُسَنُّ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ لِأَنَّ تَعَمُّدَ الِاسْتِدْبَارِ مُبْطِلٌ . وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أُمِيلَ عَنْهَا قَهْرًا فَإِنَّهَا تَبْطُلُ , وَإِنْ قَلَّ الزَّمَنُ لِنُدْرَةِ ذَلِكَ . وَلَوْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ ظَهَرَ الْخَطَأُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ . وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ الْقَوْلَ بِأَنَّ مِنْ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ اسْتِدْبَارَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ شُرِطَ اسْتِقْبَالُهَا . كَمَا نَصُّوا فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ لَا تَسْقُطُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا أَوْ جَهْلًا . هَذَا , وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا حَوَّلَ وَجْهَهُ وَصَدْرَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ , حَيْثُ بَقِيَتْ رِجْلَاهُ إلَى الْقِبْلَةِ . وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ بِلَا ضَرُورَةٍ , وَقَالُوا : إنَّ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ مُعَايِنِ الْكَعْبَةِ حَيْثُ لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهِ , فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ أُصْبُعًا مِنْ سَمْتِهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ .
18 - لَكِنْ هُنَاكَ حَالَاتٌ خَاصَّةٌ يَجُوزُ لِلشَّخْصِ الْإِتْيَانُ بِالْمُحَرَّمِ , بِشَرْطِ أَلَّا يُسْرِفَ أَيْ لَا يُجَاوِزَ الْحَدَّ الْمَشْرُوعَ وَذَلِكَ مِثْلُ :(1/126)
أ - حَالَةُ الْإِكْرَاهِ : كَمَا إذَا أَجْبَرَ شَخْصٌ آخَرَ بِأَكْلِ أَوْ شُرْبِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ , كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهَا . ب - حَالَةُ الِاضْطِرَارِ : كَمَا إذَا وُجِدَ الشَّخْصُ فِي حَالَةٍ لَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمُحَرَّمَ هَلَكَ , وَلَا تَكُونُ لِلْخُرُوجِ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ وَسِيلَةٌ أُخْرَى , كَحَالَةِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ الشَّدِيدَيْنِ . فَفِي هَذِهِ الْحَالَاتِ يَجُوزُ اتِّفَاقًا - بَلْ يَجِبُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ - أَكْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنْ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْأَمْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ , بِشَرْطِ أَلَّا يُسْرِفَ الْآكِلُ وَالشَّارِبُ , وَلَا يَتَجَاوَزُ الْحُدُودَ الشَّرْعِيَّةَ الْمُقَرَّرَةَ الَّتِي سَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا . وَتَتَّفِقُ حَالَةُ الْإِكْرَاهِ مَعَ حَالَةِ الِاضْطِرَارِ فِي الْحُكْمِ , وَلَكِنَّهُمَا تَخْتَلِفَانِ فِي سَبَبِ الْفِعْلِ , فَفِي الْإِكْرَاهِ يَدْفَعُ الْمُكْرَهَ إلَى إتْيَانِ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ شَخْصٌ آخَرُ وَيُجْبِرُهُ عَلَى الْعَمَلِ , أَمَّا فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ فَيُوجَدُ الْفَاعِلُ فِي ظُرُوفٍ تَقْتَضِي الْخُرُوجَ مِنْهَا , أَنْ يَرْتَكِبَ الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ لِيُنْجِيَ نَفْسَهُ . وَبِهَذَا نَكْتَفِي بِذِكْرِ حُكْمِ الْإِسْرَافِ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ فَقَطْ . 19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْمُحَرَّمِ , وَلَوْ كَانَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ مَالَ الْغَيْرِ , وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } لَكِنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مِنْ الْمُحَرَّمِ حَالَ الِاضْطِرَارِ مَحْدُودٌ بِحُدُودٍ لَا يَجُوزُ التَّجَاوُزُ عَنْهَا وَالْإِسْرَافُ فِيهَا , وَإِلَّا يُعْتَبَرُ مُسِيئًا وَآثِمًا . وَالْجُمْهُورُ : الْحَنَفِيَّةُ , وَالْحَنَابِلَةُ , وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , ذَهَبُوا إلَى أَنَّ مِقْدَارَ مَا يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلُهُ أَوْ شُرْبُهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ هُوَ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ , فَمَنْ زَادَ عَنْ هَذَا الْمِقْدَارَ يُعْتَبَرُ مُجَاوِزًا لِلْحَدِّ . فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ إلَى حَدِّ الشِّبَعِ وَالتَّزَوُّدِ بِالْمُحَرَّمِ , لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَيَّدَ جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِالْمُحَرَّمِ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ بِقَوْلِهِ : { غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ } , وَالْمُرَادُ أَلَّا يَكُونَ الْمُضْطَرُّ بَاغِيًا فِي أَكْلِ الْمُحَرَّمِ تَلَذُّذًا , وَلَا مُتَعَدِّيًا بِالْحَدِّ الْمَشْرُوعِ , فَيَكُونُ مُسْرِفًا فِي الْأَكْلِ إذَا تَنَاوَلَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ الْمِقْدَارِ الَّذِي يُمْسِكُ الرَّمَقَ , فَمَتَى أَكَلَ بِمِقْدَارِ مَا يَزُولُ عَنْهُ الْخَوْفُ مِنْ الضَّرَرِ فِي الْحَالِ فَقَدْ زَالَتْ الضَّرُورَةُ , وَلَا اعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ لِسَدِّ الْجَوْعَةِ , لِأَنَّ الْجُوعَ فِي الِابْتِلَاءِ لَا يُبِيحُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ إذَا لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا يَتْرُكُهُ وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ , وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ , أَنَّ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ الْمَيْتَةِ إلَى حَدِّ الشِّبَعِ إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا , لِأَنَّ مَا جَازَ سَدُّ الرَّمَقِ بِهِ جَازَ الشِّبَعُ مِنْهُ كَالْمُبَاحِ , بَلْ الْمَالِكِيَّةُ جَوَّزُوا التَّزَوُّدَ مِنْ الْمَيْتَةِ , وَقَالُوا : إنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهَا حَتَّى يَشْبَعَ , وَيَتَزَوَّدُ مِنْهَا , فَإِنْ وَجَدَ عَنْهَا غِنًى طَرَحَهَا , لِأَنَّ الْمُضْطَرَّ لَيْسَ مِمَّنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَيْتَةُ , فَإِذَا كَانَتْ حَلَالًا لَهُ الْأَكْلُ مِنْهَا مَا شَاءَ , حَتَّى يَجِدَ غَيْرَهَا فَتَحْرُمَ عَلَيْهِ , وَجَوَازُ التَّزَوُّدِ لِلْمُضْطَرِّ مِنْ لَحْمِ الْمَيْتَةِ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ . وَعَلَى ذَلِكَ فَالْأَكْلُ إلَى حَدِّ الشِّبَعِ لَا يُعْتَبَرُ إسْرَافًا عِنْدَ هَؤُلَاءِ , كَمَا أَنَّ التَّزَوُّدَ مِنْ الْمَيْتَةِ لَا يُعَدُّ إسْرَافًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ . وَلِتَفْصِيلِ الْمَوْضُوعِ ر : ( اضْطِرَارٌ ) .(1/127)
62 - وَلَوْ خَلَّى الْكُفَّارُ الْأَسِيرَ , وَاسْتَحْلَفُوهُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ بِفِدَائِهِ , أَوْ يَعُودَ إلَيْهِمْ , فَإِنْ كَانَ هَذَا نَتِيجَةَ إكْرَاهٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ , وَإِنْ لَمْ يُكْرَهْ عَلَيْهِ وَقَدَرَ عَلَى الْفِدَاءِ لَزِمَهُ , وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ , لِوُجُوبِ الْوَفَاءِ , وَلِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةَ الْأُسَارَى , وَفِي الْغَدْرِ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّهِمْ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَلْزَمُهُ , لِأَنَّهُ حُرٌّ لَا يَسْتَحِقُّونَ بَدَلَهُ . وَأَمَّا إنْ عَجَزَ عَنْ الْفِدَاءِ , فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهَا الرُّجُوعُ إلَيْهِمْ , لقوله تعالى { فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } , وَلِأَنَّ فِي رُجُوعِهَا تَسْلِيطًا لَهُمْ عَلَى وَطْئِهَا حَرَامًا . وَإِنْ كَانَ رَجُلًا , فَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يَرْجِعُ , وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ . وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَهُمْ يَلْزَمُهُ , وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ , لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ صَالَحَ قُرَيْشًا عَلَى رَدِّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا أَمْضَى اللَّهُ ذَلِكَ فِي الرِّجَالِ , وَنَسَخَهُ فِي النِّسَاءِ .
أَنْكِحَةُ الْأَسْرَى :
77 - ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ الْأَسِيرَ لَا يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجُ مَا دَامَ أَسِيرًا , وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ , وَكَرِهَ الْحَسَنُ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ , لِأَنَّ الْأَسِيرَ إذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ كَانَ رَقِيقًا لَهُمْ , وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ غَيْرُهُ مِنْهُمْ , وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ أَسِيرٍ اُشْتُرِيَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ أَيَطَؤُهَا ؟ فَقَالَ : كَيْفَ يَطَؤُهَا ؟ فَلَعَلَّ غَيْرَهُ مِنْهُمْ يَطَؤُهَا , قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لَهُ : وَلَعَلَّهَا تَعْلَقُ بِوَلَدٍ فَيَكُونُ مَعَهُمْ , قَالَ : وَهَذَا أَيْضًا . وَيَقُولُ الْمَوَّاقُ : الْأَسِيرُ يُعْلَمُ تَنَصُّرُهُ فَلَا يَدْرِي أَطَوْعًا أَمْ كَرْهًا فَلْتَعْتَدَّ زَوْجَتُهُ , وَيُوقَفُ مَالُهُ , وَيَحْكُمُ فِيهِ بِحُكْمِ الْمُرْتَدِّ , وَإِنْ ثَبَتَ إكْرَاهُهُ بِبَيِّنَةٍ كَانَ بِحَالِ الْمُسْلِمِ فِي نِسَائِهِ وَمَالِهِ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ ( إكْرَاهٌ ) ( وَرِدَّةٌ ) .
إكْرَاهُ الْأَسِيرِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ :
78 - الْأَسِيرُ إنْ أَكْرَهَهُ الْكُفَّارُ عَلَى الْكُفْرِ , وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ , لَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ , وَلَا يَحْرُمُ مِيرَاثُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا يُحْرَمُونَ مِيرَاثَهُمْ مِنْهُ , وَإِذَا مَا أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَوْ دُخُولِ الْكَنِيسَةِ فَفَعَلَ وَسِعَهُ ذَلِكَ لِقَاعِدَةِ الضَّرُورَاتِ . وَلَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ مُسْلِمًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ , كَمَا لَا يُرَخَّصُ لَهُ فِي أَنْ يَدُلَّ عَلَى ثُغْرَةٍ يَنْفُذُ مِنْهَا الْعَدُوُّ إلَى مُقَاتَلَتِنَا , وَلَا الِاشْتِرَاكِ مَعَ الْعَدُوِّ فِي الْقِتَالِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ , وَأَجَازَ ذَلِكَ الْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ , وَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ ( إكْرَاهٌ ) .
مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْقِطِ :(1/128)
30 - الْإِسْقَاطُ مِنْ الْعِبَادِ يُعْتَبَرُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَنَازَلُ فِيهَا الْإِنْسَانُ عَنْ حَقِّهِ , فَهُوَ فِي حَقِيقَتِهِ تَبَرُّعٌ . وَلَمَّا كَانَ هَذَا التَّصَرُّفُ قَدْ يَعُودُ عَلَى الْمُسْقِطِ بِالضَّرَرِ , فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ أَهْلِيَّتُهُ لِلتَّبَرُّعِ , وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا . فَلَا يَصِحُّ الْإِسْقَاطُ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ , لِأَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَقُولُونَ بِصِحَّةِ الْخُلْعِ مِنْ الصَّغِيرِ الَّذِي يَعْقِلُهُ , لِأَنَّ فِيهِ تَحْصِيلَ عِوَضٍ لَهُ . وَيُشْتَرَطُ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ دَيْنٍ , وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّبَرُّعَاتِ , لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَ وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْ الْقِصَاصِ وَأَنْ يُخَالِعَ , لَكِنْ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ الْمَالُ , وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ الْخُلْعُ مِنْ الزَّوْجَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا لِسَفَهٍ أَوْ صِغَرٍ , مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّهُ لَا يُحْجَرُ عَلَى السَّفِيهِ , وَلَا عَلَى الْمَدِينِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ . ر : ( حَجْرٌ , وَسَفَهٌ , وَأَهْلِيَّةٌ ) . وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ ذَا إرَادَةٍ , فَلَا يَصِحُّ إسْقَاطُ الْمُكْرَهِ , إلَّا مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ صِحَّةِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ مِنْ الْمُكْرَهِ . وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ وَغَيْرِ الْمُلْجِئِ . وَيُنْظَرُ فِي ( إكْرَاهٌ ) . وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ , إذَا كَانَ إسْقَاطُهُ لِكُلِّ مَالِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ , فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا مَرَضَ الْمَوْتِ وَقْتَ الْإِسْقَاطِ فَتَصَرُّفُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِلْأَجْنَبِيِّ , أَوْ بِأَقَلَّ لِلْوَارِثِ , يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ . ر : ( وَصِيَّةٌ ) . وَإِذَا كَانَ الْمَرِيضُ مَدِينًا وَالتَّرِكَةُ مُسْتَغْرَقَةٌ بِالدُّيُونِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِبْرَاءُ , لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ . وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ . وَفِي تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ خِلَافٌ بَيْنَ مَنْ يُجِيزُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ , وَهُمْ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ , وَبَيْنَ مَنْ لَا يُجِيزُهُ وَهُمْ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ ( فُضُولِيٌّ ) . وَقَدْ يَكُونُ مَلَكَ التَّصَرُّفَ بِالْوَكَالَةِ , وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَقْتَصِرَ التَّصَرُّفُ عَلَى الْمَأْذُونِ بِهِ لِلْوَكِيلِ . وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِالْخُلْعِ , وَبِالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ , وَبِالصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ , وَفِي إبْرَاءٍ مِنْ الدَّيْنِ وَلَوْ لِلْوَكِيلِ , إذَا عَيَّنَهُ الْمُوَكِّلُ وَقَالَ لَهُ : أَبْرِئْ نَفْسَك . وَيُرَاعَى فِي كُلِّ ذَلِكَ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ وَمَا أَذِنَ فِيهِ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي ( وَكَالَةٌ ) . وَقَدْ يَكُونُ مَلَكَ التَّصَرُّفَ بِالْوِلَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ , وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَقْتَصِرَ تَصَرُّفُهُمَا عَلَى مَا فِيهِ الْحَظُّ لِلصَّغِيرِ وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ , فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّبَرُّعُ وَلَا إسْقَاطُ الْمَهْرِ وَلَا الْعَفْوُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ وَلَا تَرْكُ الشُّفْعَةِ إذَا كَانَ فِي التَّرْكِ ضَرَرٌ . وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ ( ر : وِصَايَةٌ وِلَايَةٌ ) .
حَالَاتُ الِاضْطِرَارِ :(1/129)
19 - مَا سَبَقَ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ أَوْ الْأَنْبِذَةِ عِنْدَ الْإِسْكَارِ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَحْوَالِ الْعَادِيَّةِ . أَمَّا عِنْدَ الِاضْطِرَارِ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ , وَيُرَخَّصُ شَرْعًا تَنَاوُلُ الْخَمْرِ , وَلَكِنْ بِمِعْيَارِهِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي تُبَاحُ بِهِ الْمُحَرَّمَاتُ , كَضَرُورَةِ الْعَطَشِ , أَوْ الْغَصَصِ , أَوْ الْإِكْرَاهِ , فَيَتَنَاوَلُ الْمُضْطَرُّ بِقَدْرِ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ , وَهَذَا لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَى جَمِيعِهِ , بَلْ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي : أ - الْإِكْرَاهُ : 20 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ شُرْبِ الْخَمْرِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ , لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام : { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ مَعَ قَوْلِهِمْ بِالْجَوَازِ أَلْزَمُوا شَارِبَ الْخَمْرِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ - وَكُلَّ آكِلِ حَرَامٍ أَوْ شَارِبِهِ - أَنْ يَتَقَيَّأَهُ إنْ أَطَاقَهُ , لِأَنَّهُ أُبِيحَ شُرْبُهُ لِلْإِكْرَاهِ , وَلَا يُبَاحُ بَقَاؤُهُ فِي الْبَطْنِ بَعْدَ زَوَالِ السَّبَبِ . وَلِزِيَادَةِ التَّفْصِيلِ رَاجِعْ مُصْطَلَحَ : ( إكْرَاهٌ ) . ب - الْغَصَصُ أَوْ الْعَطَشُ : 21 - يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ شُرْبُ الْخَمْرِ إنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا ( وَلَوْ مَاءً نَجِسًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ) لِإِسَاغَةِ لُقْمَةٍ غَصَّ بِهَا , بِاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ , خِلَافًا لِابْنِ عَرَفَةَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِي يَرَى أَنَّ ضَرُورَةَ الْغَصَصِ تَدْرَأُ الْحَدَّ وَلَا تَمْنَعُ الْحُرْمَةَ . وَإِنَّمَا حَلَّتْ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ لِدَفْعِ الْغَصَصِ إنْقَاذًا لِلنَّفْسِ مِنْ الْهَلَاكِ , وَالسَّلَامَةُ بِذَلِكَ قَطْعِيَّةٌ , وَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الرُّخْصَةِ الْوَاجِبَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . أَمَّا شُرْبُ الْخَمْرِ لِدَفْعِ الْعَطَشِ , فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ يُقَابِلُ الْأَصَحَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إلَى جَوَازِ شُرْبِهَا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ , كَمَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ , وَقَيَّدَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِمْ : إنْ كَانَتْ الْخَمْرُ تَرُدُّ ذَلِكَ الْعَطَشَ وَمَفْهُومُهُ أَنَّهَا إنْ لَمْ تَرُدَّ الْعَطَشَ لَا يَجُوزُ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إلَى تَحْرِيمِ شُرْبِهَا لِدَفْعِ الْعَطَشِ , قَالَ الْمَالِكِيَّةُ : لِأَنَّهَا لَا تُزِيلُ الْعَطَشَ , بَلْ تَزِيدُهُ حَرَارَةً لِحَرَارَتِهَا وَيُبُوسَتِهَا . وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ حُرْمَةَ شُرْبِهَا بِكَوْنِهَا صَرْفًا , أَيْ غَيْرَ مَمْزُوجَةٍ بِمَا يَرْوِي مِنْ الْعَطَشِ , فَإِنْ مُزِجَتْ بِمَا يَرْوِي مِنْ الْعَطَشِ جَازَ شُرْبُهَا لِدَفْعِ الضَّرُورَةِ . وَأَمَّا ضَرُورَةُ التَّدَاوِي فَسَيَأْتِي بَيَانُهَا فِي أَوَاخِرِ هَذَا الْبَحْثِ .
تَنَاوُلُ الْمُضْطَرِّ لِلْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا :(1/130)
87 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إبَاحَةِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا لِلْمُضْطَرِّ , وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الِاضْطِرَارَ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ فِي خَمْسَةِ مَوَاطِنَ مِنْ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ : ( الْأَوَّلُ ) - الْآيَةُ 173 مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ , وَفِيهَا بَعْدَ ذِكْرِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا : { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . ( الثَّانِي ) - الْآيَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ , وَفِيهَا بَعْدَ ذِكْرِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا : { فَمَنْ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . ( الثَّالِثُ ) - الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ , وَفِيهَا بَعْدَ ذِكْرِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّك غَفُورٌ رَحِيمٌ } . ( الرَّابِعُ ) - الْآيَةُ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ , وَقَدْ جَاءَ فِيهَا : { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ } . ( الْخَامِسُ ) - الْآيَةُ مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ , وَفِيهَا بَعْدَ ذِكْرِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا : { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . 88 - فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَنْ اُضْطُرَّ } مَعْنَاهُ : فَمَنْ دَفَعَتْهُ الضَّرُورَةُ وَأَلْجَأَتْهُ إلَى تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا , بِأَنْ يَخَافَ عِنْدَ تَرْكِ تَنَاوُلِهَا ضَرَرًا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِ أَعْضَائِهِ مَثَلًا . ( وَالْبَاغِي ) , هُوَ الَّذِي يَبْغِي عَلَى غَيْرِهِ فِي تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ , بِأَنْ يُؤْثِرَ نَفْسَهُ عَلَى مُضْطَرٍّ آخَرَ , فَيَنْفَرِدُ بِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا فَيَهْلَكُ الْآخَرُ مِنْ الْجُوعِ . وَقِيلَ : الْبَاغِي هُوَ الْعَاصِي بِالسَّفَرِ وَنَحْوِهِ , وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِيهِ ( ف ) . ( وَالْعَادِي ) : هُوَ الَّذِي يَتَجَاوَزُ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ وَيَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرَرُ , أَوْ يَتَجَاوَزُ حَدَّ الشِّبَعِ , عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي . ( وَالْمَخْمَصَةُ ) : الْمَجَاعَةُ , وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فِي مَخْمَصَةٍ } . إنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ الْحَالَةِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا وُقُوعُ الِاضْطِرَارِ , وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ الِاحْتِرَازَ عَنْ الْحَالَةِ الَّتِي لَا مَجَاعَةَ فِيهَا , فَإِنَّ الْمُضْطَرَّ فِي غَيْرِ الْمَجَاعَةِ يُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ كَالْمُضْطَرِّ فِي الْمَجَاعَةِ . ( وَالْمُتَجَانِفُ لِلْإِثْمِ ) هُوَ الْمُنْحَرِفُ الْمَائِلُ إلَيْهِ , أَيْ الَّذِي يَقْصِدُ الْوُقُوعَ فِي الْحَرَامِ , وَهُوَ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ الْمَذْكُورَانِ فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى . 89 - وَمِمَّا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ مَا رَوَاهُ أَبُو وَاقِدٍ اللَّيْثِيُّ رضي الله عنه قَالَ : قُلْت : { يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا بِأَرْضٍ تُصِيبُنَا مَخْمَصَةٌ , فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ الْمَيْتَةِ ؟ فَقَالَ : إذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا , وَلَمْ تَغْتَبِقُوا , وَلَمْ تَحْتَفِئُوا بَقْلًا فَشَأْنُكُمْ بِهَا } . غَيْرَ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْمَقْصُودِ بِالْإِبَاحَةِ , وَفِي حَدِّ الضَّرُورَةِ الْمُبِيحَةِ , وَفِي تَفْصِيلِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يُبِيحُهَا الِاضْطِرَارُ , وَتَرْتِيبُهَا عِنْدَ التَّعَدُّدِ , وَفِي الشِّبَعِ أَوْ التَّزَوُّدِ مِنْهَا , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ . وَبَيَانُ ذَلِكَ مَا يَأْتِي . الْمَقْصُودُ بِإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا : 90 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَقْصُودِ بِإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا , فَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْمَقْصُودُ جَوَازُ التَّنَاوُلِ وَعَدَمِهِ , لِظَاهِرِ قوله تعالى : { فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } . وَهَذَا الْقَوْلُ ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَقَالَ آخَرُونَ : إنَّ الْمَقْصُودَ بِإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا لِلْمُضْطَرِّ وُجُوبُ تَنَاوُلِهَا . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ , وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَدَلِيلُهُ قوله تعالى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } . وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يَتْرُكُ تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا حَتَّى يَمُوتَ يُعْتَبَرُ قَاتِلًا لِنَفْسِهِ , وَمُلْقِيًا بِنَفْسِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ , لِأَنَّ الْكَفَّ عَنْ التَّنَاوُلِ فِعْلٌ مَنْسُوبٌ لِلْإِنْسَانِ . 91 - وَلَا يَتَنَافَى الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ مَعَ قوله تعالى : { فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } لِأَنَّ نَفْيَ الْإِثْمِ فِي الْأَكْلِ عَامٌّ يَشْمَلُ حَالَتَيْ الْجَوَازِ وَالْوُجُوبِ , فَإِذَا وُجِدَتْ قَرِينَةٌ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِالْوُجُوبِ عُمِلَ بِهَا كَمَا فِي قوله تعالى : { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } فَنَفْيُ الْجُنَاحِ عَنْ التَّطَوُّفِ , أَيْ السَّعْيِ(1/131)
بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ , مَفْهُومٌ عَامٌّ قَدْ خُصِّصَ بِمَا دَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ أَوْ فَرْضِيَّتِهِ . حَدُّ الضَّرُورَةِ الْمُبِيحَةِ : 92 - قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ : مَعْنَى الضَّرُورَةِ فِي الْآيَاتِ خَوْفُ الضَّرَرِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِتَرْكِهِ الْأَكْلَ . وَقَدْ انْطَوَى تَحْتَهُ مَعْنَيَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنْ يَحْصُلَ فِي وَضْعٍ لَا يَجِدُ غَيْرَ الْمَيْتَةِ . ( وَالثَّانِي ) أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا مَوْجُودًا , وَلَكِنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِهَا بِوَعِيدٍ يُخَافُ مِنْهُ تَلَفُ نَفْسِهِ أَوْ تَلَفُ بَعْضِ أَعْضَائِهِ . وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُرَادٌ بِالْآيَةِ عِنْدَنَا لِاحْتِمَالِهِمَا . وَحَالَةُ الْإِكْرَاهِ يُؤَيِّدُ دُخُولَهَا فِي مَعْنَى الِاضْطِرَارِ قَوْلُ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام : { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } . وَيُؤْخَذُ مِنْ " الدُّرِّ الْمُخْتَارِ " أَنَّ الضَّرُورَةَ تَشْمَلُ خَوْفَ الْهَلَاكِ , وَخَوْفَ الْعَجْزِ عَنْ الصَّلَاةِ قَائِمًا أَوْ عَنْ الصِّيَامِ . وَفَسَّرَ " الشَّرْحُ الصَّغِيرُ " لِلْمَالِكِيَّةِ الضَّرُورَةَ بِخَوْفِ الْهَلَاكِ أَوْ شِدَّةِ الضَّرَرِ . وَفَسَّرَهَا الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي " نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ " بِخَوْفِ الْمَوْتِ أَوْ الْمَرَضِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ كُلِّ مَحْذُورٍ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ , وَكَذَا خَوْفُ الْعَجْزِ عَنْ الْمَشْيِ , أَوْ التَّخَلُّفِ عَنْ الرُّفْقَةِ إنْ حَصَلَ لَهُ بِهِ ضَرَرٌ , وَكَذَا إجْهَادُ الْجُوعِ إيَّاهُ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الصَّبْرُ . وَالْمَحْذُورُ الَّذِي يُبِيحُ التَّيَمُّمَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ حُدُوثُ مَرَضٍ أَوْ زِيَادَتُهُ أَوْ اسْتِحْكَامُهُ , أَوْ زِيَادَةُ مُدَّتِهِ , أَوْ حُصُولُ شَيْنٍ فَاحِشٍ فِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ , بِخِلَافِ الشَّيْنِ الْفَاحِشِ فِي عُضْوٍ بَاطِنٍ . وَالظَّاهِرُ : مَا يَبْدُو عِنْدَ الْمَهْنَةِ كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ , وَالْبَاطِنُ : بِخِلَافِهِ . وَيُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الطَّبِيبِ الْعَدْلِ فِي الرِّوَايَةِ . وَإِذَا كَانَ الْمُضْطَرُّ عَارِفًا فِي الطِّبِّ عَمِلَ بِمُقْتَضَى مَعْرِفَتِهِ , وَلَا يُعْمَلُ بِتَجْرِبَتِهِ إنْ كَانَ مُجَرِّبًا , عَلَى مَا قَالَهُ الرَّمْلِيُّ . وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ : يُعْمَلُ بِهَا , وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ فَقْدِ الطَّبِيبِ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : إنَّ الضَّرُورَةَ أَنْ يَخَافَ التَّلَفَ فَقَطْ لَا مَا دُونَهُ , هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ , وَقِيلَ : إنَّهَا تَشْمَلُ خَوْفَ التَّلَفِ أَوْ الضَّرَرَ , وَقِيلَ : أَنْ يَخَافَ تَلَفًا أَوْ ضَرَرًا أَوْ مَرَضًا أَوْ انْقِطَاعًا عَنْ الرُّفْقَةِ يُخْشَى مَعَهُ الْهَلَاكُ .
إظْهَارُ الْمَرْءِ غَيْرَ مَا يُبْطِنُ فِي الْعَقَائِدِ :
7 - إنَّ إظْهَارَ الْمَرْءِ غَيْرَ مَا يُبْطِنُ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ , كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ , لَا يَخْرُجُ عَنْ حَالَيْنِ : فَهُوَ إمَّا أَنْ يُظْهِرَ الْإِيمَانَ بِهَا وَيُبْطِنَ الْكُفْرَ , أَوْ يُظْهِرَ الْكُفْرَ بِهَا وَيُبْطِنَ الْإِيمَانَ . أ - فَإِنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ بِهَا وَأَبْطَنَ الْكُفْرَ فَهُوَ نِفَاقٌ مُخَلِّدٌ لِصَاحِبِهِ فِي النَّارِ , قَالَ تَعَالَى : { إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ , وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنَّك لَرَسُولُهُ , وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } . وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ تَحْتَ مُصْطَلَحِ " نِفَاقٌ " إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . ب - أَمَّا إنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ بِهَذِهِ الْأُصُولِ وَأَبْطَنَ الْإِيمَانَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ : الْحَالُ الْأَوَّلُ : أَنْ يُظْهِرَ مَا أَظْهَرَهُ طَوَاعِيَةً , فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ , لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْفِقْهِيَّةَ تَجْرِي عَلَى الظَّاهِرِ . الْحَالُ الثَّانِي : أَنْ يُظْهِرَ مَا أَظْهَرَهُ مُكْرَهًا وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ , وَعِنْدَئِذٍ تَبْقَى أَحْكَامُ الْإِيمَانِ جَارِيَةً عَلَيْهِ . كَمَا فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي بَحْثِهِمْ فِي الرِّدَّةِ وَفِي الْإِكْرَاهِ , لقوله تعالى : { مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ , وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ , وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
الثَّانِي - الْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ :(1/132)
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الْمَسْجِدِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ( وَكَذَلِكَ خُرُوجُ الْمَرْأَةِ مِنْ مَسْجِدِ بَيْتِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ) إذَا كَانَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ الْوَاجِبَ , وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ - بِالْوَاجِبِ الِاعْتِكَافَ الْمَنْدُوبَ أَيْضًا , سَوَاءٌ أَكَانَ الْخُرُوجُ يَسِيرًا أَمْ كَثِيرًا . أَمَّا إذَا كَانَ الْخُرُوجُ لِحَاجَةٍ فَلَا يُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا إلَّا أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْحَاجَةِ الَّتِي لَا تَقْطَعُ الِاعْتِكَافَ وَلَا تُفْسِدُهُ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي : أ - الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ الْوَاجِبِ : 29 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضُرُّ الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْغُسْلِ الَّذِي وَجَبَ مِمَّا لَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ . لَكِنْ إنْ طَالَ مُكْثُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ , لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ , وَلَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ , فَلَوْ بَطَلَ الِاعْتِكَافُ بِخُرُوجِهِ لَهُ لَمْ يَصِحَّ لِأَحَدٍ الِاعْتِكَافُ , وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ , وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ لِحَاجَتِهِ . وَرَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةٍ إذَا كَانَ مُعْتَكِفًا } وَلَهُ الْغُسْلُ وَالْوُضُوءُ وَالِاغْتِسَالُ فِي الْمَسْجِدِ إذَا لَمْ يُلَوِّثْ الْمَسْجِدَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إنْ أَمْكَنَهُ الْوُضُوءُ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ فِي الْأَصَحِّ , وَالثَّانِي يَجُوزُ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى كَرَاهَةِ دُخُولِ مَنْزِلِ أَهْلِهِ وَبِهِ أَهْلُهُ - أَيْ زَوْجَتُهُ - إذَا خَرَجَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ , لِئَلَّا يَطْرَأَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا مَا يُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ . أَمَّا إذَا كَانَ لَهُ مَنْزِلَانِ فَيَلْزَمُهُ أَقْرَبُهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَتْ هُنَاكَ مِيضَأَةٌ يَحْتَشِمُ مِنْهَا لَا يُكَلَّفُ التَّطَهُّرَ مِنْهَا , وَلَا يُكَلَّفُ الطَّهَارَةَ فِي بَيْتِ صَدِيقِهِ , لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ خَرْمِ الْمُرُوءَةِ , وَتَزِيدُ دَارُ الصِّدِّيقِ بِالْمِنَّةِ بِهَا . أَمَّا إذَا كَانَ لَا يَحْتَشِمُ مِنْ الْمِيضَأَةِ فَيُكَلَّفُهَا . وَأَلْحَقُوا بِالْخُرُوجِ لِمَا تَقَدَّمَ الْخُرُوجَ لِلْقَيْءِ وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ , فَلَا يَفْسُدُ الِاعْتِكَافُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا . وَلَا يُكَلَّفُ الَّذِي خَرَجَ لِحَاجَةٍ الْإِسْرَاعُ , بَلْ لَهُ الْمَشْيُ عَلَى عَادَتِهِ . ب - الْخُرُوجُ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ : 30 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْخُرُوجَ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ يُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَأْتِيهِ بِهِ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إلَى الْخُرُوجِ , أَمَّا إذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يَأْتِيهِ بِهِ فَلَهُ الْخُرُوجُ , لِأَنَّهُ خُرُوجٌ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنْ الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ لِلْأَكْلِ , لِأَنَّ الْأَكْلَ فِي الْمَسْجِدِ يُسْتَحْيَا مِنْهُ . وَكَذَا لِلشُّرْبِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ مَاءٌ . وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ جَوَازَ الْخُرُوجِ لِلْأَكْلِ إذَا كَانَ اعْتِكَافُهُ فِي مَسْجِدٍ مَطْرُوقٍ , أَمَّا إذَا كَانَ الْمَسْجِدُ مَهْجُورًا فَلَا يَحِقُّ لَهُ الْخُرُوجُ . ج - الْخُرُوجُ لِغُسْلِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ : 31 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ لِلْمُعْتَكِفِ الْخُرُوجَ لِغُسْلِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ وَلِحَرٍّ أَصَابَهُ فَلَا يَفْسُدُ الِاعْتِكَافُ خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ . وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ لِغُسْلِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ , لِأَنَّهُ نَفْلٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ . فَإِنْ اُشْتُرِطَ ذَلِكَ جَازَ . د - الْخُرُوجُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ : 32 - مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ , وَكَانَ اعْتِكَافُهُ مُتَتَابِعًا , وَاعْتَكَفَ فِي مَسْجِدٍ لَا تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ فَهُوَ آثِمٌ , وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ , لِأَنَّهَا فَرْضٌ . فَإِذَا خَرَجَ لِلْجُمُعَةِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ خُرُوجَهُ لِلْجُمُعَةِ لَا يُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ , لِأَنَّهُ خُرُوجٌ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ , كَالْخُرُوجِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ . وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ خُرُوجَ الْمُعْتَكِفِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ يُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ وَعَلَيْهِ الِاسْتِئْنَافُ ,(1/133)
لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ مِنْ الْخُرُوجِ , بِأَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ , فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ وَخَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ , وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مَا لَوْ شَرَطَ الْخُرُوجَ فِي اعْتِكَافِهِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ , فَإِنَّ شَرْطَهُ يَصِحُّ , وَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ بِخُرُوجِهِ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْخُرُوجَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ يَكُونُ وَقْتَ الزَّوَالِ , وَمَنْ بَعُدَ مَسْجِدُ اعْتِكَافِهِ خَرَجَ فِي وَقْتٍ يُدْرِكُهَا . أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا بِجَوَازِ التَّبْكِيرِ إلَيْهَا . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ التَّعْجِيلُ بِالرُّجُوعِ إلَى مَكَانِ الِاعْتِكَافِ . لَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْجِيلُ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلِاعْتِكَافِ , وَكُرِهَ تَنْزِيهًا الْمُكْثُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِمُخَالَفَةِ مَا الْتَزَمَهُ بِلَا ضَرُورَةٍ . هـ - الْخُرُوجُ لِعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ : 33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْخُرُوجِ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إلَى الْخُرُوجِ , إلَّا إذَا اُشْتُرِطَ الْخُرُوجُ لَهُمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَمَحَلُّ ذَلِكَ مَا إذَا خَرَجَ لِقَصْدِ الْعِيَادَةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ . أَمَّا إذَا خَرَجَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ ثُمَّ عَرَجَ عَلَى مَرِيضٍ لِعِيَادَتِهِ , أَوْ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ , فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِشَرْطٍ أَلَّا يَطُولَ مُكْثُهُ عِنْدَ الْمَرِيضِ , أَوْ بَعْدَ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , بِأَنْ لَا يَقِفَ عِنْدَ الْمَرِيضِ إلَّا بِقَدْرِ السَّلَامِ , لِقَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها : { إنْ كُنْت أَدْخُلُ الْبَيْتَ لِلْحَاجَةِ , وَالْمَرِيضُ فِيهِ فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إلَّا وَأَنَا مَارَّةٌ } . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مَرْفُوعًا عَنْهَا : { أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَمُرُّ بِالْمَرِيضِ , وَهُوَ مُعْتَكِفٌ , فَيَمُرُّ كَمَا هُوَ وَلَا يُعَرِّجُ يَسْأَلُ عَنْهُ } . فَإِنْ طَالَ وُقُوفُهُ عُرْفًا , أَوْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِ وَإِنْ قَلَّ لَمْ يَجُزْ , وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُنْتَقَضُ الِاعْتِكَافُ إذَا لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي فَسَادِ الِاعْتِكَافِ لِخُرُوجِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ , إلَّا أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الْخُرُوجَ لِعِيَادَةِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ الْمَرِيضَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا , وَذَلِكَ لِبِرِّهِمَا فَإِنَّهُ آكَدُ مِنْ الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ , وَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ بِهِ وَيَقْضِيهِ . - وَالْخُرُوجُ فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ : 34 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الْمَسْجِدِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا يُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ . وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ حَالَةَ الِاعْتِكَافِ مُذَكِّرَةٌ , وَوُقُوعُ ذَلِكَ نَادِرٌ , وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْعُذْرُ فِيمَا يَغْلِبُ وُقُوعُهُ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى عَدَمِ الْبُطْلَانِ إذَا خَرَجَ نَاسِيًا , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } . ز - الْخُرُوجُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ : 35 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الْخُرُوجَ لِأَجْلِ الشَّهَادَةِ مُفْسِدٌ لِلِاعْتِكَافِ . وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ شَهَادَةٌ , بِأَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ غَيْرُهُ , أَوْ لَا يَتِمُّ النِّصَابُ إلَّا بِهِ , لَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ لِأَدَائِهَا , بَلْ يَجِبُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا فِي الْمَسْجِدِ إمَّا بِحُضُورِ الْقَاضِي , أَوْ تُنْقَلُ عَنْهُ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ مَتَى تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ وَيَأْثَمُ بِعَدَمِ الْخُرُوجِ , وَكَذَلِكَ التَّحَمُّلُ لِلشَّهَادَةِ إذَا تَعَيَّنَ , فَيَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ وَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ بِذَلِكَ الْخُرُوجِ , لِأَنَّهُ خُرُوجٌ وَاجِبٌ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , أَمَّا إذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ , فَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ بِالْخُرُوجِ . ح - الْخُرُوجُ لِلْمَرَضِ : الْمَرَضُ عَلَى قِسْمَيْنِ : 36 - الْمَرَضُ الْيَسِيرُ الَّذِي لَا تَشُقُّ مَعَهُ الْإِقَامَةُ فِي الْمَسْجِدِ كَصُدَاعٍ وَحُمَّى خَفِيفَةٍ وَغَيْرِهِمَا لَا يَجُوزُ مَعَهُ الْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ اعْتِكَافُهُ مَنْذُورًا مُتَتَابِعًا , فَإِنْ خَرَجَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَيْهِ . 37 - أَمَّا الْمَرَضُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْبَقَاءُ فِي الْمَسْجِدِ , أَوْ لَا يُمْكِنُ الْبَقَاءُ مَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ , بِأَنْ يَحْتَاجَ إلَى خِدْمَةٍ أَوْ فِرَاشٍ أَوْ مُرَاجَعَةِ طَبِيبٍ , فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ خُرُوجَهُ مُفْسِدٌ لِاعْتِكَافِهِ , فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ : إذَا خَرَجَ سَاعَةً بِعُذْرِ الْمَرَضِ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ . هَكَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ(1/134)
. عِلْمًا بِأَنَّ مَذْهَبَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ اعْتِبَارُ نِصْفِ النَّهَارِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ وَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ , وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى إذَا شُفِيَ , وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَرَضُ مِمَّا يَتَلَوَّثُ بِهِ الْمَسْجِدُ كَالْقَيْءِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ . أَمَّا الْخُرُوجُ حَالَةَ الْإِغْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ الِاعْتِكَافَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا , لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِاخْتِيَارِهِ . قَالَ الْكَاسَانِيُّ : وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَيَّامًا , أَوْ أَصَابَهُ لَمَمٌ ( جُنُونٌ ) فَسَدَ اعْتِكَافُهُ , وَعَلَيْهِ إذَا بَرَأَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ , لِأَنَّهُ لَزِمَهُ مُتَتَابِعًا . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمَرَضَ وَالْإِغْمَاءَ يُحْسَبَانِ مِنْ الِاعْتِكَافِ وَفِي مَعْنَى الْمَرَضِ هَذَا , الْخَوْفُ مِنْ لِصٍّ أَوْ حَرِيقٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . ط - الْخُرُوجُ لِانْهِدَامِ الْمَسْجِدِ : 38 - إذَا انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ فَخَرَجَ مِنْهُ لِيُقِيمَ اعْتِكَافَهُ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اسْتِحْسَانًا , وَكَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ . ي - الْخُرُوجُ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ : 39 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ لِحُكُومَةٍ لَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ قَبْلَ تَمَامِ الِاعْتِكَافِ . إلَّا أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ إذَا دَخَلَ الْمُعْتَكِفُ مَسْجِدًا آخَرَ مِنْ سَاعَتِهِ . وَهَذَا اسْتِحْبَابٌ مِنْهُمْ , أَمَّا إذَا لَمْ يَدْخُلْ مَسْجِدًا آخَرَ , فَيَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَهُوَ الْبُطْلَانُ . ك - خُرُوجُ الْمُعْتَكِفِ بِغَيْرِ عُذْرٍ : 40 - تَقَدَّمَ أَنَّ خُرُوجَ الْمُعْتَكِفِ إنْ كَانَ بِعُذْرٍ طَبِيعِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ جَازَ لَهُ الْخُرُوجُ عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ . أَمَّا إذَا خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ بِدُونِ عُذْرٍ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ - حَسَبَ اعْتِبَارِ الْفُقَهَاءِ لِلْعُذْرِ وَعَدَمِهِ - وَلَوْ كَانَ زَمَنُ الْخُرُوجِ يَسِيرًا , إلَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ , فَإِنَّهُمَا قَيَّدَا زَمَنَ الْمُفْسِدِ بِأَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ . ل - حَدُّ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ : 41 - حَدُّ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ أَنْ يَخْرُجَ بِجَمِيعِ جَسَدِهِ , فَإِنْ خَرَجَ بِبَعْضِهِ لَمْ يَضُرَّ , لِقَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُدْنِي إلَيَّ رَأْسَهُ وَأَنَا فِي حُجْرَتِي , فَأُرَجِّلُ رَأْسَهُ وَأَنَا حَائِضٌ } . م - مَا يُعْتَبَرُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَمَا لَا يُعْتَبَرُ : 42 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ الِاعْتِكَافُ , مَا كَانَ بِنَاءً مُعَدًّا لِلصَّلَاةِ فِيهِ . أَمَّا رَحْبَةُ الْمَسْجِدِ , وَهِيَ سَاحَتُهُ الَّتِي زِيدَتْ بِالْقُرْبِ مِنْ الْمَسْجِدِ لِتَوْسِعَتِهِ , وَكَانَتْ مُحَجَّرًا عَلَيْهَا , فَاَلَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمَسْجِدِ , وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا مِنْ الْمَسْجِدِ , وَجَمَعَ أَبُو يَعْلَى بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ الرَّحْبَةَ الْمَحُوطَةَ وَعَلَيْهَا بَابٌ هِيَ مِنْ الْمَسْجِدِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ رَحْبَةَ الْمَسْجِدِ مِنْ الْمَسْجِدِ , فَلَوْ اعْتَكَفَ فِيهَا صَحَّ اعْتِكَافُهُ , وَأَمَّا سَطْحُ الْمَسْجِدِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ صُعُودُ سَطْحِ الْمَسْجِدِ , وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا . أَمَّا الْمَنَارَةُ فَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ بَابِهَا فِيهِ فَهِيَ مِنْ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَإِنْ كَانَ بَابُهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ أَوْ فِي رَحْبَتِهِ فَهِيَ مِنْهُ , وَيَصِحُّ فِيهَا الِاعْتِكَافُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . وَإِنْ كَانَ بَابُهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ فَيَجُوزُ أَذَانُ الْمُعْتَكِفِ فِيهَا , سَوَاءٌ أَكَانَ مُؤَذِّنًا أَمْ غَيْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمُؤَذِّنِ الرَّاتِبِ وَغَيْرِهِ , فَيَجُوزُ لِلرَّاتِبِ الْأَذَانُ فِيهَا وَهُوَ مُعْتَكِفٌ دُونَ غَيْرِهِ , قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهُوَ الْأَصَحُّ .
( أَعْضَاءٌ ) التَّعْرِيفُ :(1/135)
1 - الْعُضْوُ فِي اللُّغَةِ : هُوَ كُلُّ عَظْمٍ وَافِرٍ بِلَحْمَةٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ إنْسَانٍ أَمْ حَيَوَانٍ . يُقَالُ : عَضَّى الذَّبِيحَةَ إذَا قَطَعَهَا أَعْضَاءً . وَالْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَ الْعُضْوَ عَلَى الْجُزْءِ الْمُتَمَيِّزِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ بَدَنِ إنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ , كَاللِّسَانِ وَالْأَنْفِ وَالْأُصْبُعِ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : الْأَطْرَافُ : 2 - الْأَطْرَافُ : هِيَ النِّهَايَاتُ فِي الْبَدَنِ كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ , وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ طَرَفٍ عُضْوٌ , وَلَيْسَ كُلُّ عُضْوٍ طَرَفًا . ( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) : 3 - هُنَاكَ أَفْعَالٌ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا الِاسْمُ الشَّرْعِيُّ بِمَفْهُومِهِ الشَّرْعِيِّ إلَّا إذَا وَقَعَتْ عَلَى أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ , فَالْوُضُوءُ لَا يُسَمَّى وُضُوءًا إلَّا إذَا وَقَعَ الْغُسْلُ وَالْمَسْحُ فِيهِ عَلَى أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ سَمَّاهَا الشَّارِعُ , وَالتَّيَمُّمُ لَا يَكُونُ تَيَمُّمًا إلَّا إذَا وَقَعَ عَلَى أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ سَمَّاهَا الشَّارِعُ أَيْضًا , وَهَكَذَا كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي أَبْوَابِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ . وَهُنَاكَ أَعْضَاءٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْكُلِّ , كَالرَّأْسِ , وَالظَّهْرِ , وَالْوَجْهِ , وَالرَّقَبَةِ , وَهَذِهِ الْأَعْضَاءُ لَوْ أَطْلَقَ الطَّلَاقَ أَوْ الظِّهَارَ أَوْ الْعِتْقَ عَلَيْهَا , كَانَ إطْلَاقًا عَلَى الْكُلِّ , فَلَوْ قَالَ : وَجْهُك عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي , كَانَ كَقَوْلِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي , كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي أَبْوَابِ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْعِتْقِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ . وَتُوجَدُ عَاهَاتٌ تُصِيبُ بَعْضَ الْأَعْضَاءِ كَالْعَمَى وَالْعَرَجِ وَالْعُنَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ , كَعَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْأَعْمَى فِيمَا يَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ , وَسُقُوطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْبَعْضِ , وَسُقُوطِ الْجِهَادِ عَنْهُ , وَعَدَمِ إجْزَاءِ الْأُضْحِيَّةِ الْعَمْيَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَسَيَأْتِي كُلُّ ذَلِكَ مُفَصَّلًا تَحْتَ تِلْكَ الْعَاهَاتِ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا . إتْلَافُ الْأَعْضَاءِ : 4 - الْإِتْلَافُ قَدْ يَكُونُ بِبَتْرِ الْعُضْوِ , أَوْ بِإِذْهَابِ مَنَافِعِهِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ شَرْعًا , كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا , وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى ذَلِكَ : الْجِنَايَةَ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ . وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ هَذَا الْإِتْلَافِ فِي مُصْطَلَحِ ( قِصَاصٌ ) ( وَدِيَاتٌ ) ( وَتَعْزِيرٌ ) . هَذَا , وَإِنَّ خَوْفَ الْفَقْدِ لِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ أَوْ تَعَطُّلِهِ يُعْتَبَرُ عُذْرًا يُبَاحُ بِهِ بَعْضُ الْمَحْظُورَاتِ , فَيُبَاحُ التَّيَمُّمُ لِلْبَرْدِ الشَّدِيدِ الَّذِي يُخْشَى مِنْهُ ذَهَابُ بَعْضِ أَعْضَائِهِ , وَالتَّهْدِيدُ بِبَتْرِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ - مِمَّنْ يُعْتَقَدُ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ - يُعْتَبَرُ إكْرَاهًا مُلْجِئًا كَمَا فَصَّلَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي ( الْإِكْرَاهِ ) . مَا أُبِينَ مِنْ أَعْضَاءِ الْحَيِّ : 5 - أ - مَا أُبِينَ مِنْ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ , حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَيْتَةِ , نَجِسٌ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ مَا لَمْ تُعْتَبَرْ إبَانَةُ الْعُضْوِ تَذْكِيَةً عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ لِلْفُقَهَاءِ فِي ( صَيْدٌ ) ( وَذَبَائِحُ ) ( وَأَطْعِمَةٌ ) . ب - وَمَا أُبِينَ مِنْ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْإِنْسَانِ الْمَيِّتِ فِي الْجُمْلَةِ فِي النَّظَرِ إلَيْهِ , وَوُجُوبِ تَغْسِيلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَدَفْنِهِ , عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ مَكَانُهُ : كِتَابُ الْجَنَائِزِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ .
إغْلَاقٌ ) التَّعْرِيفُ :(1/136)
1 - الْإِغْلَاقُ لُغَةً : مَصْدَرُ أَغْلَقَ . يُقَالُ : أَغْلَقَ الْبَابَ , وَأَغْلَقَهُ عَلَى شَيْءٍ : أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ , وَمِنْهُ سُمِّيَ الْغَضَبُ إغْلَاقًا . وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ : أَنَّ مِنْ الْمَجَازِ إطْلَاقُ الْإِغْلَاقِ عَلَى الْإِكْرَاهِ . وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ . ( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) : 2 - الْفُقَهَاءُ يَجْعَلُونَ إغْلَاقَ الْأَبْوَابِ وَالنَّوَافِذِ مِمَّا تَتَحَقَّقُ بِهِ الْخَلْوَةُ كَإِرْخَاءِ السُّتُورِ . لِمَا رَوَى زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى قَالَ : قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ أَنَّ مَنْ أَغْلَقَ بَابًا أَوْ أَرْخَى سِتْرًا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ . وَيَبْحَثُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ , عِنْدَ كَلَامِهِمْ عَلَى الْمَهْرِ , وَهَلْ هُوَ مُسْتَحَقٌّ كُلُّهُ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ ؟ 3 - وَوَرَدَ فِي السُّنَّةِ مَا يَمْنَعُ الْأَمِيرَ مِنْ إغْلَاقِ بَابِهِ دُونَ حَاجَاتِ النَّاسِ . فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { مَا مِنْ إمَامٍ يُغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْخَلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ إلَّا أَغْلَقَ اللَّهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ } وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يُرْسِلُ مَنْ يَخْلَعُ أَبْوَابَ الْأُمَرَاءِ وَيُحَرِّقُهَا , لِئَلَّا يُمْنَعُ ذُو الْحَاجَةِ مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ . 4 - وَوَرَدَ فِي السُّنَّةِ أَيْضًا مَا يُوجِبُ إغْلَاقَ الْأَبْوَابِ لَيْلًا , فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { غَطُّوا الْإِنَاءَ , وَأَوْكِئُوا السِّقَاءَ , وَأَغْلِقُوا الْبَابَ , وَأَطْفِئُوا السُّرُجَ , فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يُحِلُّ سِقَاءً , وَلَا يَفْتَحُ بَابًا , وَلَا يَكْشِفُ إنَاءً } . 5 - وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الْإِغْلَاقَ عَلَى احْتِبَاسِ الْكَلَامِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ , فَيَقُولُونَ : إنْ أَغْلَقَ عَلَى الْإِمَامِ - أَيْ ارْتَجَّ عَلَيْهِ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ - فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ , رَكَعَ إنْ كَانَ قَدْ قَرَأَ الْقَدْرَ الْمُسْتَحَبَّ , وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَقِيلَ قَدْرُ الْفَرْضِ . , وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عِنْدَ كَلَامِهِمْ عَلَى الْفَتْحِ عَلَى الْإِمَامِ . وَإِنْ أَغْلَقَ عَلَى الْخَطِيبِ فِي الْخُطْبَةِ , اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْر اللَّهِ وَنَزَلَ , وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عِنْدَ كَلَامِهِمْ عَلَى خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ . 6 - وَوَرَدَ فِي السُّنَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إغْلَاقٍ } وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَالسَّكْرَانِ وَالْغَضْبَانِ ( الَّذِي فَقَدْ سَيْطَرَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ ) وَنَحْوِهِمْ , فَأَوْقَعَ بَعْضُهُمْ طَلَاقَ هَؤُلَاءِ , وَلَمْ يُوقِعْهُ بَعْضُهُمْ الْآخَرُ , وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ , وَذَكَرَهُ شُرَّاحُ الْحَدِيثِ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ .
إقَامَةُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ :
3 - إقَامَةُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَقْدَحُ فِي إسْلَامِهِ , إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ يُخْشَى عَلَى دِينِهِ , بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ إظْهَارُهُ , تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ , قَالُوا : فِيمَ كُنْتُمْ ؟ قَالُوا : كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ . قَالُوا : أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } , وَهَذَا إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ الْهِجْرَةُ وَلَمْ يَكُنْ بِهِ عَجْزٌ , لِمَرَضٍ أَوْ إكْرَاهٍ عَلَى الْإِقَامَةِ . أَمَّا إذَا كَانَ لَا يَخْشَى الْفِتْنَةَ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ مَعَ إقَامَتِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ , فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , لِتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعُونَتِهِمْ , وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ . وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ عَمُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُقِيمًا بِمَكَّةَ مَعَ إسْلَامِهِ . وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ : ( ر : جِهَادٌ - دَارُ الْحَرْبِ - دَارُ الْإِسْلَامِ - هِجْرَةٌ ) .
إكْرَاهٌ التَّعْرِيفُ :(1/137)
1 - قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ : أَكْرَهْته , حَمَلْته عَلَى أَمْرٍ هُوَ لَهُ كَارِهٌ - وَفِي مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ نَحْوُهُ - وَمَضَى صَاحِبُ اللِّسَانِ يَقُولُ : وَذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْكُرْهَ وَالْكَرْهَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ , وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي فَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا . قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى : وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ الْأَحْرُفِ الَّتِي ضَمَّهَا هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ الَّتِي فَتَحُوهَا فَرْقًا فِي الْعَرَبِيَّةِ , وَلَا فِي سُنَّةٍ تُتْبَعُ . وَفِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ : " الْكَرْهُ ( بِالْفَتْحِ ) : الْمَشَقَّةُ , وَبِالضَّمِّ : الْقَهْرُ , وَقِيلَ : ( بِالْفَتْحِ ) : الْإِكْرَاهُ , " وَبِالضَّمِّ " الْمَشَقَّةُ . وَأَكْرَهْته عَلَى الْأَمْرِ إكْرَاهًا : حَمَلْته عَلَيْهِ قَهْرًا . يُقَالُ : فَعَلْته كَرْهًا " بِالْفَتْحِ " أَيْ إكْرَاهًا - وَعَلَيْهِ قوله تعالى : { طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } فَجَمَعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ . وَلَخَصَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فُقَهَاؤُنَا إذْ قَالُوا : الْإِكْرَاهُ لُغَةً : حَمْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ , يُقَالُ : أَكْرَهْت فُلَانًا إكْرَاهًا : حَمَلْته عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ . وَالْكَرْهُ " بِالْفَتْحِ " اسْمٌ مِنْهُ ( أَيْ اسْمُ مَصْدَرٍ ) . أَمَّا الْإِكْرَاهُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ : فِعْلٌ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ , فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ , أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ . وَعَرَّفَهُ الْبَزْدَوِيُّ بِأَنَّهُ : حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ يَمْتَنِعُ عَنْهُ بِتَخْوِيفٍ يَقْدِرُ الْحَامِلُ عَلَى إيقَاعِهِ وَيَصِيرُ الْغَيْرُ خَائِفًا بِهِ . أَوْ هُوَ : فِعْلٌ يُوجَدُ مِنْ الْمُكْرِهِ ( بِكَسْرِ الرَّاءِ ) فَيُحْدِثُ فِي الْمَحَلِّ ( أَيْ الْمُكْرَهِ بِفَتْحِ الرَّاءِ ) مَعْنًى يَصِيرُ بِهِ مَدْفُوعًا إلَى الْفِعْلِ الَّذِي طُلِبَ مِنْهُ . وَالْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ , فَسَّرُوهُ بِالْخَوْفِ , وَلَوْ مِمَّا يَفْعَلُهُ الْحُكَّامُ الظَّلَمَةُ بِالْمُتَّهَمِينَ كَيْدًا . فَإِذَا كَانَ الدَّافِعُ هُوَ الْحَيَاءُ مَثَلًا , أَوْ التَّوَدُّدُ , فَلَيْسَ بِإِكْرَاهٍ . 2 - وَالْفِعْلُ - فِي جَانِبِ الْمُكْرِهِ ( بِكَسْرِ الرَّاءِ ) لَيْسَ عَلَى مَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ مِنْ خِلَافِ الْقَوْلِ , وَلَوْ إشَارَةَ الْأَخْرَسِ , أَوْ مُجَرَّدَ الْكِتَابَةِ , بَلْ هُوَ أَعَمُّ , فَيَشْمَلُ التَّهْدِيدَ - لِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ اللِّسَانِ - وَلَوْ مَفْهُومًا بِدَلَالَةِ الْحَالِ مِنْ مُجَرَّدِ الْأَمْرِ : كَأَمْرِ السُّلْطَانِ أَوْ الْأَمِيرِ , وَأَمْرِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ , وَأَمْرِ الْخَانِقِ الَّذِي يَبْدُو مِنْهُ الْإِصْرَارُ . وَالْحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ : أَمْرُ السُّلْطَانِ , إكْرَاهٌ - وَإِنْ لَمْ يَتَوَعَّدْ - وَأَمْرُ غَيْرِهِ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ , إلَّا أَنْ يَعْلَمَ تَضَمُّنَهُ التَّهْدِيدَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ . وَغَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ يُسَوُّونَ بَيْنَ ذَوِي الْبَطْشِ وَالسَّطْوَةِ أَيًّا كَانُوا , وَصَاحِبُ الْمَبْسُوطِ نَفْسُهُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ يَقُولُ : إنَّ مِنْ عَادَةِ الْمُتَجَبِّرِينَ التَّرَفُّعَ عَنْ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ , وَلَكِنَّهُمْ لَا يُعَاقِبُونَ مُخَالِفِيهِمْ إلَّا بِهِ . 3 - ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْفِعْلِ الْمَذْكُورِ - فِعْلٌ وَاقِعٌ عَلَى الْمُكْرَهِ ( بِالْفَتْحِ ) نَفْسِهِ - وَلَوْ كَانَ تَهْدِيدًا بِأَخْذِ أَوْ حَبْسِ مَالِهِ الَّذِي لَهُ وَقْعٌ , لَا التَّافِهِ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ , أَوْ تَهْدِيدًا بِالْفُجُورِ بِامْرَأَتِهِ إنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا . وَيَسْتَوِي التَّهْدِيدُ الْمُقْتَرِنُ بِالْفِعْلِ الْمُهَدَّدِ بِهِ - كَمَا فِي حَدِيثِ : أَخَذَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ , وَغَطَّهُ فِي الْمَاءِ لِيَرْتَدَّ . وَالتَّهْدِيدُ الْمُجَرَّدُ , خِلَافًا لِمَنْ لَمْ يَعْتَدَّ بِمُجَرَّدِ التَّهْدِيدِ , كَأَبِي إسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ , وَاعْتَمَدَ . الْخِرَقِيُّ مِنْ الْحَنَابِلَةِ , تَمَسُّكًا بِحَدِيثِ عَمَّارٍ هَذَا , وَاسْتَدَلَّ الْآخَرُونَ بِالْقِيَاسِ حَيْثُ لَا فَرْقَ , وَإِلَّا تَوَصَّلَ الْمُعْتَدُونَ إلَى أَغْرَاضِهِمْ - بِالتَّهْدِيدِ الْمُجَرَّدِ - دُونَ تَحَمُّلِ تَبَعَةٍ , أَوْ هَلَكَ الْوَاقِعُ عَلَيْهِمْ هَذَا التَّهْدِيدُ إذَا رَفَضُوا الِانْصِيَاعَ لَهُ , فَكَانَ إلْقَاءَ بِالْأَيْدِي فِي التَّهْلُكَةِ , وَكِلَاهُمَا مَحْذُورٌ لَا يَأْتِي الشَّرْعُ بِمِثْلِهِ . بَلْ فِي الْأَثَرِ عَنْ عُمَرَ - وَفِيهِ انْقِطَاعٌ - مَا يُفِيدُ هَذَا التَّعْمِيمَ : ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا فِي عَهْدِهِ تَدَلَّى يَشْتَارُ ( يَسْتَخْرِجُ ) عَسَلًا , فَوَقَفَتْ امْرَأَتُهُ عَلَى الْحَبْلِ , وَقَالَتْ : طَلِّقْنِي ثَلَاثًا , وَإِلَّا قَطَعْته , فَذَكَّرَهَا اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ , فَقَالَتْ : لَتَفْعَلَن , أَوْ لَأَفْعَلَن , فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا . وَرُفِعَتْ الْقِصَّةُ إلَى عُمَرَ , فَرَأَى طَلَاقَ الرَّجُلِ لَغْوًا , وَرَدَّ عَلَيْهِ الْمَرْأَةَ , وَلِذَا اعْتَمَدَ ابْنُ قُدَامَةَ عَدَمَ الْفَرْقِ . وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ التَّهْدِيدُ بِقَتْلِ رَجُلٍ لَا يَمُتُّ إلَى الْمُهَدَّدِ بِسَبَبٍ , إنْ هُوَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى مَكَانِ شَخْصٍ(1/138)
بِعَيْنِهِ يُرَادُ لِلْقَتْلِ , فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إكْرَاهًا , حَتَّى لَوْ أَنَّهُ وَقَعَتْ الدَّلَالَةُ مِمَّنْ طُلِبَتْ مِنْهُ , ثُمَّ قَتَلَ الشَّخْصَ الْمَذْكُورَ , لَكَانَ الدَّالُّ مُعِينًا عَلَى هَذَا الْقَتْلِ عَنْ طَوَاعِيَةٍ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ - وَالْمُعَيِّنُ شَرِيكٌ لِلْقَاتِلِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ , بِشَرَائِطَ خَاصَّةٍ - وَذَهَبَ أَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ إلَى أَنَّ التَّهْدِيدَ فِي أَجْنَبِيٍّ إكْرَاهٌ فِي الْأَيْمَانِ , وَاسْتَظْهَرَهُ ابْنُ رَجَبٍ . 4 - وَالْفِعْلُ , فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ ( بِفَتْحِ الرَّاءِ ) , هُوَ أَيْضًا أَعَمُّ مِنْ فِعْلِ اللِّسَانِ وَغَيْرِهِ , إلَّا أَنَّ أَفْعَالَ الْقُلُوبِ لَا تَقْبَلُ الْإِكْرَاهَ , فَيَشْمَلُ الْقَوْلَ بِلَا شَكٍّ . وَفِيمَا يُسَمِّيهِ فُقَهَاؤُنَا بِالْمُصَادَرَةِ فِي أَبْوَابِ الْبُيُوعِ وَمَا إلَيْهَا , الْفِعْلُ الَّذِي يُطْلَبُ مِنْ الْمُكْرَهِ ( بِالْفَتْحِ ) دَفْعُ الْمَالِ وَغَرَامَتُهُ , لَا سَبَبُ الْحُصُولِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ - كَاسْتِقْرَاضٍ - فَيَصِحُّ السَّبَبُ وَيَلْزَمُ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا مَخْلَصَ لَهُ إلَّا بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ , إلَّا أَنَّ الْمُكْرِهَ ( بِالْكَسْرِ ) لَمْ يُعَيِّنْهُ لَهُ فِي إكْرَاهِهِ إيَّاهُ . وَلِذَا قَالُوا : إنَّ الْحِيلَةَ فِي جَعْلِ السَّبَبِ مُكْرَهًا عَلَيْهِ , أَنْ يَقُولَ : الْمُكْرَهُ ( بِالْفَتْحِ ) : مِنْ أَيْنَ أَتَى بِالْمَالِ ؟ فَإِذَا عَيَّنَ لَهُ الْمُكْرِهُ ( بِالْكَسْرِ ) سَبَبًا , كَأَنْ قَالَ لَهُ : بِعْ كَذَا , أَوْ عِنْدَ ابْنِ نُجَيْمٍ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْبَيْعِ دُونَ تَعْيِينِ الْمَبِيعِ , وَقَعَ هَذَا السَّبَبُ الْمُعَيَّنُ تَحْتَ طَائِلَةِ الْإِكْرَاهِ . وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا إلَّا الْمَالِكِيَّةُ - بِاسْتِثْنَاءِ ابْنِ كِنَانَةَ وَمُتَابِعِيهِ - إذْ جَعَلُوا السَّبَبَ أَيْضًا مُكْرَهًا عَلَيْهِ بِإِطْلَاقٍ . وَيَشْمَلُ التَّهْدِيدَ بِإِيذَاءِ الْغَيْرِ , مِمَّنْ يُحِبُّهُ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ التَّهْدِيدُ - عَلَى الشَّرْطِ الْمُعْتَبَرِ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِكْرَاهُ مِنْ أَسْبَابِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ - بِشَرِيطَةِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَحْبُوبُ رَحِمًا مَحْرَمًا , أَوْ - كَمَا زَادَ بَعْضُهُمْ - زَوْجَةً . وَالْمَالِكِيَّةُ , وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ يُقَيِّدُونَهُ بِأَنْ يَكُونَ وَلَدًا وَإِنْ نَزَلَ , أَوْ وَالِدًا وَإِنْ عَلَا . وَالشَّافِعِيَّةُ - وَخَرَّجَهُ صَاحِبُ الْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ - لَا يُقَيِّدُونَهُ إلَّا بِكَوْنِهِ مِمَّنْ يَشُقُّ عَلَى الْمُكْرَهِ ( بِالْفَتْحِ ) إيذَاؤُهُ مَشَقَّةً شَدِيدَةً كَالزَّوْجَةِ , وَالصَّدِيقِ , وَالْخَادِمِ . وَمَالَ إلَيْهِ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ . حَتَّى لَقَدْ اعْتَمَدَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مِنْ الْإِكْرَاهِ مَا لَوْ قَالَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ , أَوْ الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ ( دُونَ غَيْرِهِمَا ) : طَلِّقْ زَوْجَتَك , وَإِلَّا قَتَلْت نَفْسِي , بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : وَإِلَّا كَفَرْت , لِأَنَّهُ يَكْفُرُ فِي الْحَالِ . وَفِي التَّقْيِيدِ بِالْوَلَدِ أَوْ الْوَالِدِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى . كَمَا أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى نَحْوِ الْإِلْقَاءِ مِنْ شَاهِقٍ أَيْ : الْإِلْجَاءِ بِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ الْمُنَافِي لِلْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ مِنْ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ . وَالْمَالِكِيَّةُ - وَجَارَاهُمْ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - اكْتَفُوا بِظَنِّ الضَّرَرِ مِنْ جَانِبِ الْمُكْرَهِ ( بِالْفَتْحِ ) إنْ لَمْ يَفْعَلْ , وَعِبَارَتُهُمْ : يَكُونُ ( أَيْ الْإِكْرَاهُ ) بِخَوْفِ مُؤْلِمٍ . الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : 5 - الرِّضَى وَالِاخْتِيَارُ : الرِّضَى لُغَةً : الِاخْتِيَارُ . يُقَالُ : رَضِيت الشَّيْءَ وَرَضِيت بِهِ : اخْتَرْته . وَالِاخْتِيَارُ لُغَةً : أَخْذُ مَا يَرَاهُ خَيْرًا . وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ , فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الرِّضَى وَالِاخْتِيَارِ , لَكِنْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا . فَالرِّضَى عِنْدَهُمْ هُوَ : امْتِلَاءُ الِاخْتِيَارِ وَبُلُوغُهُ نِهَايَتَهُ , بِحَيْثُ يُفْضِي أَثَرُهُ إلَى الظَّاهِرِ مِنْ ظُهُورِ الْبَشَاشَةِ فِي الْوَجْهِ وَنَحْوِهَا . أَوْ هُوَ : إيثَارُ الشَّيْءِ وَاسْتِحْسَانُهُ . وَالِاخْتِيَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ : الْقَصْدُ إلَى مَقْدُورٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ جَانِبَيْهِ عَلَى الْآخَرِ . أَوْ هُوَ : الْقَصْدُ إلَى الشَّيْءِ وَإِرَادَتُهُ .
حُكْمُ الْإِكْرَاهِ :
6 - الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ لَيْسَ مُحَرَّمًا فَحَسْبُ , بَلْ هُوَ إحْدَى الْكَبَائِرِ , لِأَنَّهُ أَيْضًا يُنْبِئُ بِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِالدَّيْنِ , وَلِأَنَّهُ مِنْ الظُّلْمِ . وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ : { يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا . . . } .
شَرَائِطُ الْإِكْرَاهِ الشَّرِيطَةُ الْأُولَى :(1/139)
7 - قُدْرَةُ الْمُكْرِهِ ( بِالْكَسْرِ ) عَلَى إيقَاعِ مَا هَدَّدَ بِهِ , لِكَوْنِهِ مُتَغَلِّبًا ذَا سَطْوَةٍ وَبَطْشٍ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سُلْطَانًا وَلَا أَمِيرًا - ذَلِكَ أَنَّ تَهْدِيدَ غَيْرِ الْقَادِرِ لَا اعْتِبَارَ لَهُ . الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ : 8 - خَوْفُ الْمُكْرَهِ ( بِفَتْحِ الرَّاءِ ) مِنْ إيقَاعِ مَا هُدِّدَ بِهِ , وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ إذَا كَانَ الْمَخُوفُ عَاجِلًا . فَإِنْ كَانَ آجِلًا , فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْأَذْرَعِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ إلَى تَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ مَعَ التَّأْجِيلِ . وَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ التَّأْجِيلِ , وَلَوْ إلَى الْغَدِ . وَالْمَقْصُودُ بِخَوْفِ الْإِيقَاعِ غَلَبَةُ الظَّنِّ , ذَلِكَ أَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ عَدَمِ الْأَدِلَّةِ , وَتَعَذُّرِ التَّوَصُّلِ إلَى الْحَقِيقَةِ . الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ : 9 - أَنْ يَكُونَ مَا هَدَّدَ بِهِ قَتْلًا أَوْ إتْلَافَ عُضْوٍ , وَلَوْ بِإِذْهَابِ قُوَّتِهِ مَعَ بَقَائِهِ كَإِذْهَابِ الْبَصَرِ , أَوْ الْقُدْرَةِ عَلَى الْبَطْشِ أَوْ الْمَشْيِ مَعَ بَقَاءِ أَعْضَائِهَا , أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا يُوجِبُ غَمًّا يُعْدِمُ الرِّضَا , وَمِنْهُ تَهْدِيدُ الْمَرْأَةِ بِالزِّنَى , وَالرَّجُلِ بِاللِّوَاطِ . أَمَّا التَّهْدِيدُ بِالْإِجَاعَةِ , فَيَتَرَاوَحُ بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ , فَلَا يَصِيرُ مُلْجِئًا إلَّا إذَا بَلَغَ الْجُوعُ بِالْمُكْرَهِ ( بِالْفَتْحِ ) حَدَّ خَوْفِ الْهَلَاكِ . ثُمَّ الَّذِي يُوجِبُ غَمًّا يُعْدِمُ الرِّضَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ : فَلَيْسَ الْأَشْرَافُ كَالْأَرَاذِلِ , وَلَا الضِّعَافُ كَالْأَقْوِيَاءِ , وَلَا تَفْوِيتُ الْمَالِ الْيَسِيرِ كَتَفْوِيتِ الْمَالِ الْكَثِيرِ , وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ مُفَوَّضٌ إلَى الْحَاكِمِ , يُقَدِّرُ لِكُلِّ وَاقِعَةٍ قَدْرَهَا . الشَّرِيطَةُ الرَّابِعَةُ : 10 - أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ مُمْتَنِعًا عَنْ الْفِعْلِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ لَوْلَا الْإِكْرَاهُ , إمَّا لِحَقِّ نَفْسِهِ - كَمَا فِي إكْرَاهِهِ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ - وَإِمَّا لِحَقِّ شَخْصٍ آخَرَ , وَإِمَّا لِحَقِّ الشَّرْعِ - كَمَا فِي إكْرَاهِهِ ظُلْمًا عَلَى إتْلَافِ مَالِ شَخْصٍ آخَرَ , أَوْ نَفْسِ هَذَا الشَّخْصِ , أَوْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ لِذَلِكَ أَوْ عَلَى ارْتِكَابِ مُوجِبِ حَدٍّ فِي خَالِصِ حَقِّ اللَّهِ , كَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ . الشَّرِيطَةُ الْخَامِسَةُ : 11 - أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْفِعْلِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ مُتَعَيِّنًا . وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ عَلَى إطْلَاقِهِ . وَفِي حُكْمِ الْمُتَعَيِّنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْحَنَابِلَةِ مَا لَوْ خَيَّرَ بَيْنَ أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ . وَيَتَفَرَّغُ عَلَى هَذَا حُكْمُ الْمُصَادَرَةِ الَّتِي سَلَفَ ذِكْرُهُ فِي فِقْرَةٍ . وَمِنْهُ يُسْتَنْبَطُ أَنَّ مَوْقِفَ الْمَالِكِيَّةِ فِي حَالَةِ الْإِبْهَامِ أَدْنَى إلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ , بَلْ أَوْغَلُ فِي الِاعْتِدَادِ بِالْإِكْرَاهِ حِينَئِذٍ , لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا أَنْ يَكُونَ مَجَالُ الْإِبْهَامِ أُمُورًا مُعَيَّنَةً . أَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى طَلَاقِ إحْدَى هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ , أَوْ قَتْلِ أَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ , فَمِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ الَّذِي صَدَّرْنَا بِهِ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ : فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ , وَمَعَهُمْ مُوَافِقُونَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ بِرَغْمِ هَذَا التَّخْيِيرِ . وَعِنْدَ جَمَاهِيرِ الشَّافِعِيَّةِ , وَقِلَّةٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ , لَا يَتَحَقَّقُ , لِأَنَّ لَهُ مَنْدُوحَةً عَنْ طَلَاقِ كُلٍّ بِطَلَاقِ الْأُخْرَى - وَكَذَا فِي الْقَتْلِ - نَتِيجَةَ عَدَمِ تَعْيِينِ الْمَحَلِّ . وَالتَّفْصِيلُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي . الشَّرِيطَةُ السَّادِسَةُ : 12 - أَلَّا يَكُونَ لِلْمُكْرَهِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْفِعْلِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ , فَإِنْ كَانَتْ لَهُ مَنْدُوحَةٌ عَنْهُ , ثُمَّ فَعَلَهُ لَا يَكُونُ مُكْرَهًا عَلَيْهِ , وَعَلَى هَذَا لَوْ خُيِّرَ الْمُكْرَهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ تَبَعًا لِتَسَاوِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَوْ تَفَاوُتِهِمَا مِنْ حَيْثُ الْحُرْمَةُ وَالْحِلُّ , وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ كَمَا يَلِي : إنَّ الْأَمْرَيْنِ الْمُخَيَّرَ بَيْنَهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَرَّمًا لَا يُرَخَّصُ فِيهِ , وَلَا يُبَاحُ أَصْلًا , كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الزِّنَى وَالْقَتْلِ . أَوْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَرَّمًا يُرَخَّصُ فِيهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ , كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ . أَوْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَرَّمًا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ , كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ . أَوْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَاحًا أَصَالَةً أَوْ لِلْحَاجَةِ , كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ طَلَاقِ امْرَأَتِهِ(1/140)
وَبَيْعِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ , أَوْ بَيْنَ جَمْعِ الْمُسَافِرِ الصَّلَاةَ فِي الْحَجِّ وَفِطْرِهِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ . فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ الْأَرْبَعِ الَّتِي يَكُونُ الْأَمْرَانِ الْمُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْحُرْمَةِ أَوْ الْحِلِّ , يَتَرَتَّبُ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى فِعْلِ أَيِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهُمَا , وَهُوَ الْحُكْمُ الَّذِي سَيَجِيءُ تَقْرِيرُهُ بِخِلَافَاتِهِ وَكُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ , لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ فِي الْوَاقِعِ لَيْسَ إلَّا عَلَى الْأَحَدِ الدَّائِرِ دُونَ تَفَاوُتٍ , وَهَذَا لَا تَعَدُّدَ فِيهِ , وَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي مُعَيَّنٍ , وَقَدْ خَالَفَ فِي هَذَا أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ , فَنَفَوْا حُصُولَ الْإِكْرَاهِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ . وَإِنْ تَفَاوَتَ الْأَمْرَانِ الْمُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا , فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُحَرَّمًا لَا يُرَخَّصُ فِيهِ وَلَا يُبَاحُ بِحَالٍ كَالزِّنَى وَالْقَتْلِ , فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَنْدُوحَةً , وَيَكُونُ الْإِكْرَاهُ وَاقِعًا عَلَى الْمُقَابِلِ لَهُ , سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْمُقَابِلُ مُحَرَّمًا يُرَخَّصُ فِيهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ , كَالْكُفْرِ وَإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ , أَمْ مُحَرَّمًا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ , كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ , أَمْ مُبَاحًا أَصَالَةً أَوْ لِلْحَاجَةِ , كَبَيْعٍ كَشَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ مَالِ الْمُكْرَهِ , وَالْإِفْطَارِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ , وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْإِكْرَاهِ حُكْمُهُ الَّذِي سَيَجِيءُ تَفْصِيلُهُ بِخِلَافَاتِهِ . وَتَكُونُ هَذِهِ الْأَفْعَالُ مَنْدُوحَةً مَعَ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَا يُرَخَّصُ فِيهِ وَلَا يُبَاحُ بِحَالٍ , أَمَّا هُوَ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَنْدُوحَةً لِوَاحِدٍ مِنْهَا , فَفِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورِ آنِفًا , وَهِيَ مَا لَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الزِّنَى أَوْ الْقَتْلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ أَوْ إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ , أَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الزِّنَى أَوْ الْقَتْلِ وَبَيْنَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ , أَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الزِّنَى أَوْ الْقَتْلِ وَبَيْنَ بَيْعِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الْمَالِ , فَإِنَّ الزِّنَى أَوْ الْقَتْلَ لَا يَكُونُ مُكْرَهًا عَلَيْهِ , فَمَنْ فَعَلَ وَاحِدًا مِنْهُمَا كَانَ فِعْلُهُ صَادَرَا عَنْ طَوَاعِيَةٍ لَا إكْرَاهٍ , فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ مُلْجِئًا حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْإِذْنُ فِي فِعْلِ الْمَنْدُوحَةِ , وَكَانَ الْفَاعِلُ عَالِمًا بِالْإِذْنِ لَهُ فِي فِعْلِ الْمَنْدُوحَةِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ . وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهُمَا مُحَرَّمًا يُرَخَّصُ فِيهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ , وَالْمُقَابِلُ لَهُ مُحَرَّمًا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ , كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْكُفْرِ أَوْ إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ , وَبَيْنَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ , فَإِنَّهُمَا يَكُونَانِ فِي حُكْمِ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْإِبَاحَةِ , فَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا مَنْدُوحَةً عَنْ فِعْلِ الْآخَرِ , وَيَكُونُ الْإِكْرَاهُ وَاقِعًا عَلَى فِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهُمَا , مَتَى كَانَ بِأَمْرٍ مُتْلِفٍ لِلنَّفْسِ أَوْ لِأَحَدِ الْأَعْضَاءِ . وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مُحَرَّمًا يُرَخَّصُ فِيهِ أَوْ يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ , وَالْمُقَابِلُ لَهُ مُبَاحًا أَصَالَةً أَوْ لِلْحَاجَةِ , كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْكُفْرِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ , وَبَيْنَ بَيْعِ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمُكْرَهِ أَوْ الْفِطْرِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ , فَإِنَّ الْمُبَاحَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ مَنْدُوحَةً عَنْ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي يُرَخَّصُ فِيهِ أَوْ يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ , وَعَلَى هَذَا يَظَلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ , سَوَاءٌ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِمُتْلِفٍ لِلنَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ أَوْ بِغَيْرِ مُتْلِفٍ لِأَحَدِهِمَا , لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ بِغَيْرِ الْمُتْلِفِ لَا يُزِيلُ الْحَظْرَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُطْلَقًا , وَالْإِكْرَاهُ بِمُتْلِفٍ - وَإِنْ كَانَ يُزِيلُ الْحَظْرَ - إلَّا أَنَّ إزَالَتَهُ لَهُ بِطَرِيقِ الِاضْطِرَارِ , وَلَا اضْطِرَارَ مَعَ وُجُودِ الْمُقَابِلِ الْمُبَاحِ .(1/141)
تَقْسِيمُ الْإِكْرَاهِ يَنْقَسِمُ الْإِكْرَاهُ إلَى : إكْرَاهٍ بِحَقٍّ , وَإِكْرَاهٍ بِغَيْرِ حَقٍّ . وَالْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ يَنْقَسِمُ إلَى إكْرَاهٍ مُلْجِئٍ , وَإِكْرَاهٍ غَيْرِ مُلْجِئٍ . أَوَّلًا : الْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ : تَعْرِيفُهُ : 13 - هُوَ الْإِكْرَاهُ الْمَشْرُوعُ , أَيْ الَّذِي لَا ظُلْمَ فِيهِ وَلَا إثْمَ . وَهُوَ مَا تَوَافَرَ فِيهِ أَمْرَانِ : الْأَوَّلُ : أَنْ يَحِقَّ لِلْمُكْرِهِ التَّهْدِيدُ بِمَا هَدَّدَ بِهِ . الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ مِمَّا يَحِقُّ لِلْمُكْرِهِ الْإِلْزَامُ بِهِ . وَعَلَى هَذَا فَإِكْرَاهُ الْمُرْتَدِّ عَلَى الْإِسْلَامِ إكْرَاهٌ بِحَقٍّ , حَيْثُ تَوَافَرَ فِيهِ الْأَمْرَانِ , وَكَذَلِكَ إكْرَاهُ الْمَدِينِ الْقَادِرِ عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ , وَإِكْرَاهُ الْمُولِي عَلَى الرُّجُوعِ إلَى زَوْجَتِهِ أَوْ طَلَاقِهَا إذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ . أَثَرُهُ : 14 - وَالْعُلَمَاءُ عَادَةً يَقُولُونَ : إنَّ الْإِكْرَاهَ بِحَقٍّ , لَا يُنَافِي الطَّوْعَ الشَّرْعِيَّ - وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ , وَيَجْعَلُونَ مِنْ أَمْثِلَتِهِ إكْرَاهَ الْعِنِّينِ عَلَى الْفُرْقَةِ , وَمَنْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ عَلَى الْإِنْفَاقِ , وَالْمَدِينِ وَالْمُحْتَكِرِ عَلَى الْبَيْعِ , وَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ أَرْضٌ بِجِوَارِ الْمَسْجِدِ أَوْ الْمَقْبَرَةِ أَوْ الطَّرِيقِ يُحْتَاجُ إلَيْهَا مِنْ أَجْلِ التَّوْسِيعِ , وَمَنْ مَعَهُ طَعَامٌ يَحْتَاجُهُ مُضْطَرٌّ . ثَانِيًا : الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ : تَعْرِيفُهُ : 15 - الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ هُوَ الْإِكْرَاهُ ظُلْمًا , أَوْ الْإِكْرَاهُ الْمُحَرَّمُ , لِتَحْرِيمِ وَسِيلَتِهِ , أَوْ لِتَحْرِيمِ الْمَطْلُوبِ بِهِ . وَمِنْهُ إكْرَاهُ الْمُفْلِسِ عَلَى بَيْعِ مَا يُتْرَكُ لَهُ . .
الْإِكْرَاهُ الْمُلْجِئُ وَالْإِكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ :(1/142)
16 - تَقْسِيمُ الْإِكْرَاهِ إلَى مُلْجِئٍ وَغَيْرِ مُلْجِئٍ يَتَفَرَّدُ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ . فَالْإِكْرَاهُ الْمُلْجِئُ عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِالتَّهْدِيدِ بِإِتْلَافِ النَّفْسِ أَوْ عُضْوٍ مِنْهَا , أَوْ بِإِتْلَافِ جَمِيعِ الْمَالِ , أَوْ بِقَتْلِ مَنْ يُهِمُّ الْإِنْسَانَ أَمْرُهُ . وَحُكْمُ هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ يُعْدِمُ الرِّضَى وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَلَا يُعْدِمُهُ . أَمَّا إعْدَامَهُ لِلرِّضَى , فَلِأَنَّ الرِّضَا هُوَ الرَّغْبَةُ فِي الشَّيْءِ وَالِارْتِيَاحُ إلَيْهِ , وَهَذَا لَا يَكُونُ مَعَ أَيِّ إكْرَاهٍ . وَأَمَّا إفْسَادُهُ لِلِاخْتِيَارِ دُونَ إعْدَامِهِ , فَلِأَنَّ الِاخْتِيَارَ هُوَ : الْقَصْدُ إلَى فِعْلِ الشَّيْءِ أَوْ تَرْكِهِ بِتَرْجِيحٍ مِنْ الْفَاعِلِ , وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَزُولُ بِالْإِكْرَاهِ , فَالْمُكْرَهُ يُوقِعُ الْفِعْلَ بِقَصْدِهِ إلَيْهِ , إلَّا أَنَّ هَذَا الْقَصْدَ تَارَةً يَكُونُ صَحِيحًا سَلِيمًا , إذَا كَانَ مُنْبَعِثًا عَنْ رَغْبَةٍ فِي الْعَمَلِ , وَتَارَةً يَكُونُ فَاسِدًا , إذَا كَانَ ارْتِكَابًا لِأَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ , وَذَلِكَ كَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ كِلَاهُمَا شَرٌّ , فَفَعَلَ أَقَلَّهُمَا ضَرَرًا بِهِ , فَإِنَّ اخْتِيَارَهُ لِمَا فَعَلَهُ لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا صَحِيحًا , بَلْ اخْتِيَارًا فَاسِدًا . وَالْإِكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ هُوَ : الَّذِي يَكُونُ بِمَا لَا يُفَوِّتُ النَّفْسَ أَوْ بَعْضَ الْأَعْضَاءِ , كَالْحَبْسِ لِمُدَّةٍ قَصِيرَةٍ , وَالضَّرْبِ الَّذِي لَا يُخْشَى مِنْهُ الْقَتْلُ أَوْ تَلَفِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ . وَحُكْمُ هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ يُعْدِمُ الرِّضَا وَلَكِنْ لَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ , وَذَلِكَ لِعَدَمِ اضْطِرَارِ الْمُكْرَهِ إلَى الْإِتْيَانِ بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ , لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى تَحَمُّلِ مَا هُدِّدَ بِهِ بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ . 17 - أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَلَمْ يُقَسِّمُوا الْإِكْرَاهَ إلَى مُلْجِئٍ وَغَيْرِ مُلْجِئٍ كَمَا فَعَلَ الْحَنَفِيَّةُ , وَلَكِنَّهُمْ تَكَلَّمُوا عَمَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِكْرَاهُ وَمَا لَا يَتَحَقَّقُ , وَمِمَّا قَرَّرُوهُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ يُؤْخَذُ أَنَّهُمْ جَمِيعًا يَقُولُونَ بِمَا سَمَّاهُ الْحَنَفِيَّةُ إكْرَاهًا مُلْجِئًا , أَمَّا مَا يُسَمَّى بِالْإِكْرَاهِ غَيْرِ الْمُلْجِئِ فَإِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ , فَعَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ يُعْتَبَرُ إكْرَاهًا , وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا يُعْتَبَرُ إكْرَاهًا . أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ إكْرَاهًا بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ , وَيُعْتَبَرُ إكْرَاهًا بِالنِّسْبَةِ لِلْبَعْضِ الْآخَرِ , فَمِنْ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ الَّذِي لَا يُعْتَبَرُ الْإِكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ إكْرَاهًا فِيهِ : الْكُفْرُ بِالْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ , وَالْمَعْصِيَةُ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ لِمَخْلُوقٍ , كَالْقَتْلِ أَوْ الْقَطْعِ , وَالزِّنَى بِامْرَأَةٍ مُكْرَهَةٍ أَوْ لَهَا زَوْجٌ , وَسَبِّ نَبِيٍّ أَوْ مَلَكٍ أَوْ صَحَابِيٍّ , أَوْ قَذْفٍ لِمُسْلِمٍ . وَمِنْ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ الَّذِي يُعْتَبَرُ الْإِكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ إكْرَاهًا فِيهِ : شُرْبُ الْخَمْرِ , وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ , وَالطَّلَاقُ وَالْأَيْمَانُ وَالْبَيْعُ وَسَائِرُ الْعُقُودِ وَالْحُلُولِ وَالْآثَارِ .
أَثَرُ الْإِكْرَاهِ :(1/143)
18 - هَذَا الْأَثَرُ مَوْضِعُ خِلَافٍ , بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ , عَلَى النَّحْوِ الْآتِي :
أَثَرُ الْإِكْرَاهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ :
19 - يَخْتَلِفُ أَثَرُ الْإِكْرَاهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِاخْتِلَافِ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ الَّذِي يَقَعُ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهِ , فَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِقْرَارَاتِ , كَانَ أَثَرُ الْإِكْرَاهِ إبْطَالَ الْإِقْرَارِ وَإِلْغَاءَهُ , سَوَاءٌ كَانَ الْإِكْرَاهُ مُلْجِئًا أَمْ غَيْرَ مُلْجِئٍ . فَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِمَالٍ أَوْ زَوَاجٍ أَوْ طَلَاقٍ كَانَ اعْتِرَافُهُ بَاطِلًا , وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا , لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا جُعِلَ حُجَّةً فِي حَقِّ الْمُقِرِّ بِاعْتِبَارِ تَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ , وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا التَّرْجِيحُ مَعَ الْإِكْرَاهِ , إذْ هُوَ قَرِينَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُقِرَّ لَا يَقْصِدُ بِإِقْرَارِهِ الصِّدْقَ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ , وَإِنَّمَا يَقْصِدُ دَفْعَ الضَّرَرِ الَّذِي هُدِّدَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ . وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَنَحْوِهَا كَانَ أَثَرُ الْإِكْرَاهِ فِيهَا إفْسَادَهَا لَا إبْطَالَهَا , فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَقْدِ الْفَاسِدِ , حَسَبَ مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا لَازِمًا بِإِجَازَةِ الْمُكْرَهِ , وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَ الْمُكْرَهُ الثَّمَنَ , أَوْ سَلَّمَ الْمَبِيعَ طَوْعًا , يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْبَيْعِ وَلُزُومُهُ . وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ عِنْدَهُمْ لَا يُعْدِمُ الِاخْتِيَارَ الَّذِي هُوَ تَرْجِيحُ فِعْلِ الشَّيْءِ عَلَى تَرْكِهِ أَوْ الْعَكْسُ , وَإِنَّمَا يُعْدِمُ الرِّضَى الَّذِي هُوَ الِارْتِيَاحُ إلَى الشَّيْءِ وَالرَّغْبَةُ فِيهِ , وَالرِّضَى لَيْسَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَلَا شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ انْعِقَادِهَا , وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا , فَإِذَنْ فَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى فِقْدَانِهِ فَسَادُ الْعَقْدِ لَا بُطْلَانُهُ . وَلَكِنَّهُمْ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ بَعْضَ التَّصَرُّفَاتِ , فَقَالُوا بِصِحَّتِهِمَا مَعَ الْإِكْرَاهِ , وَلَوْ كَانَ مُلْجِئًا , وَمِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ : الزَّوَاجُ وَالطَّلَاقُ وَمُرَاجَعَةُ الزَّوْجَةِ وَالنَّذْرُ وَالْيَمِينُ . وَعَلَّلُوا هَذَا بِأَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَ اللَّفْظَ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ - عِنْدَ الْقَصْدِ إلَيْهِ - قَائِمًا مُقَامَ إرَادَةِ مَعْنَاهُ , فَإِذَا وُجِدَ اللَّفْظُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ الشَّرْعِيُّ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِقَائِلِهِ قَصْدٌ إلَى مَعْنَاهُ , كَمَا فِي الْهَازِلِ , فَإِنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ صَحِيحَةً إذَا صَدَرَتْ مِنْهُ , مَعَ انْعِدَامِ قَصْدِهِ إلَيْهَا , وَعَدَمُ رِضَاهُ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ الْآثَارِ . وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَفْعَالِ , كَالْإِكْرَاهِ عَلَى قَتْلِ مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ , أَوْ إتْلَافِ مَالٍ لِغَيْرِهِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ , فَالْحُكْمُ فِيهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَوْعِ الْإِكْرَاهِ وَالْفِعْلِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ . 20 - فَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ غَيْرَ مُلْجِئٍ - وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بِمَا لَا يُفَوِّتُ النَّفْسَ , أَوْ بَعْضَ الْأَعْضَاءِ كَالْحَبْسِ لِمُدَّةٍ قَصِيرَةٍ , أَوْ أَخْذُ الْمَالِ الْيَسِيرِ , وَنَحْوُ ذَلِكَ - فَلَا يَحِلُّ الْإِقْدَامُ عَلَى الْفِعْلِ . وَإِذَا أَقْدَمَ الْمُكْرَهُ ( بِالْفَتْحِ ) عَلَى الْفِعْلِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْإِكْرَاهِ كَانَتْ الْمَسْئُولِيَّةُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ , لَا عَلَى مَنْ أَكْرَهَهُ 21 - وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ مُلْجِئًا - وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بِالْقَتْلِ أَوْ تَفْوِيتِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ أَوْ الْعَمَلِ الْمُهِينِ لِذِي الْجَاهِ - فَالْأَفْعَالُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ : أ - أَفْعَالٌ أَبَاحَهَا الشَّارِعُ أَصَالَةً دُونَ إكْرَاهٍ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ , فَإِنَّهُ إذَا أُكْرِهَ عَلَى ارْتِكَابِهَا وَجَبَ عَلَى الْمُكْرَهِ ( بِالْفَتْحِ ) أَنْ يُرْتَكَبَ أَخَفَّ الضَّرَرَيْنِ . ب - أَفْعَالٌ أَبَاحَ الشَّارِعُ إتْيَانَهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ , كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ لَحْمِ الْمَيْتَةِ أَوْ الْخِنْزِيرِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا حُرِّمَ لِحَقِّ اللَّهِ لَا لِحَقِّ الْآدَمِيِّ , فَالْعَقْلُ - مَعَ الشَّرْعِ - يُوجِبَانِ ارْتِكَابَ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ . فَهَذِهِ يُبَاحُ لِلْمُكْرَهِ فِعْلُهَا , بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ . بِهَا , إذَا تَرَتَّبَ عَلَى امْتِنَاعِهِ قَتْلُ نَفْسِهِ أَوْ تَلَفُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ : { إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ , فَمِنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . وَلَا شَكَّ أَنَّ(1/144)
الْإِكْرَاهَ . الْمُلْجِئَ مِنْ الضَّرُورَةِ الَّتِي رَفَعَ اللَّهُ الْإِثْمَ فِيهَا , فَيُبَاحُ الْفِعْلُ عِنْدَ تَحَقُّقِهَا , وَتَنَاوُلُ الْمُبَاحِ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عَنْ النَّفْسِ أَوْ بَعْضِ أَجْزَائِهَا وَاجِبٌ , فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ , وَلَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُكْرَهًا لَمْ يُحَدَّ , لِأَنَّهُ لَا جِنَايَةَ حِينَئِذٍ , وَالْحَدُّ إنَّمَا شُرِعَ زَجْرًا عَنْ الْجِنَايَاتِ . ج - أَفْعَالٌ رَخَّصَ الشَّارِعُ فِي فِعْلِهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ , إلَّا أَنَّهُ لَوْ صَبَرَ الْمُكْرَهُ عَلَى تَحَمُّلِ الْأَذَى , وَلَمْ يَفْعَلْهَا حَتَّى مَاتَ , كَانَ مُثَابًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى , وَذَلِكَ كَالْكُفْرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ الِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ , فَإِذَا أُكْرِهَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ جَازَ لَهُ الْفِعْلُ مَتَى كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ , لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } . وَمِنْ السُّنَّةِ مَا جَاءَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِيهِ { أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ , فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ , فَلَمَّا أَتَى النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ : مَا وَرَاءَك ؟ قَالَ : شَرٌّ , يَا رَسُولَ اللَّهِ , مَا تُرِكْت حَتَّى نِلْت مِنْك , وَذَكَرْت آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ , قَالَ صلى الله عليه وسلم : فَكَيْفَ تَجِدُ قَلْبَك ؟ قَالَ : مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ , قَالَ صلى الله عليه وسلم : فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ } . وَقَدْ أَلْحَقَ عُلَمَاءُ الْمَذْهَبِ بِهَذَا النَّوْعِ الْإِكْرَاهَ عَلَى إفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ , أَوْ تَرْكِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ , أَوْ إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ , فَإِنَّ الْمُكْرَهَ لَوْ صَبَرَ وَتَحَمَّلَ الْأَذَى , وَلَمْ يَفْعَلْ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَانَ مُثَابًا , وَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْهَا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ , وَكَانَ الضَّمَانُ فِي صُورَةِ الْإِتْلَافِ عَلَى الْحَامِلِ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْفَاعِلِ , لِأَنَّ فِعْلَ الْإِتْلَافِ يُمْكِنُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْحَامِلِ بِجَعْلِ الْفَاعِلِ آلَةً لَهُ , فَيَثْبُتُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ . د - أَفْعَالٌ لَا يَحِلُّ لِلْمُكْرَهِ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ , كَقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ , أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا , أَوْ الضَّرْبِ الَّذِي يُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ , فَهَذِهِ الْأَفْعَالُ لَا يَجُوزُ لِلْمُكْرَهِ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا , وَلَوْ كَانَ فِي امْتِنَاعِهِ عَنْهَا ضَيَاعُ نَفْسِهِ , لِأَنَّ نَفْسَ الْغَيْرِ مَعْصُومَةٌ كَنَفْسِ الْمُكْرَهِ , وَلَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِإِيقَاعِهِ عَلَى غَيْرِهِ , فَإِنْ فَعَلَ كَانَ آثِمًا , وَوَجَبَ عِقَابُ الْحَامِلِ لَهُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ , وَالْخِلَافُ بَيْنَهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي نَوْعِ هَذَا الْعِقَابِ . فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ : إنَّهُ الْقِصَاصُ , لِأَنَّ الْقَتْلَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْحَامِلِ بِجَعْلِ الْفَاعِلِ آلَةً لَهُ , وَالْقِصَاصُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْقَاتِلِ لَا عَلَى آلَةِ الْقَتْلِ . وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ : إنَّهُ الدِّيَةُ , لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ , وَلَمْ تُوجَدْ الْجِنَايَةُ الْكَامِلَةُ بِالنِّسْبَةِ لِكُلٍّ مِنْ الْحَامِلِ وَالْمُكْرَهِ . وَهَذَا الْقَتْلُ يَقُومُ مَانِعًا مِنْ الْإِرْثِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُكْرِهِ ( بِالْكَسْرِ ) إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ ( بِالْفَتْحِ ) مُكَلَّفًا . أَمَّا إذَا كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ كَالصَّبِيِّ أَوْ الْمَجْنُونِ فَلَا يَكُونُ مَانِعًا . وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ , أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَلَا يَحْرُمُ وَلَوْ كَانَ الْمُكْرَهُ مُكَلَّفًا . أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُكْرَهِ ( بِالْفَتْحِ ) فَلَا يَحْرُمُ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ . وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى الْمُكْرَهِ إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ شَخْصًا ثَالِثًا غَيْرَ الْمُكْرَهِ وَلَا الْمُكْرِهِ , فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرَهُ كَأَنْ قَالَ لِلَّذِي قَتَلَهُ : اُقْتُلْنِي وَإِلَّا قَتَلْتُك , فَقَتَلَهُ , فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ , وَتَجِبُ الدِّيَةُ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ , وَلِأَنَّ الدِّيَةَ تَثْبُتُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً لَا مِيرَاثًا عَنْ الْمَقْتُولِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرَهَ , فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ ثَمَّ إكْرَاهٌ , لِأَنَّ الْمُهَدَّدَ بِهِ لَا يَزِيدُ عَلَى الْقَتْلِ , فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ وَلَا شَيْءَ مِنْ آثَارِهِ , فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ فِي هَذَا الْقَتْلِ , إلَّا إذَا كَانَ التَّهْدِيدُ بِقَتْلٍ أَشْنَعَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ : لَتُلْقِيَنَّ نَفْسَك فِي النَّارِ أَوْ لَأَقْتُلَنك , فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَخْتَارُ مَا هُوَ الْأَهْوَنُ فِي ظَنِّهِ , وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ : يَصْبِرُ وَلَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ ,(1/145)
لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْفِعْلِ سَعْيٌ فِي إهْلَاكِ نَفْسِهِ فَيَصْبِرُ تَحَامِيًا عَنْهُ . ثُمَّ إذَا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي النَّارِ فَاحْتَرَقَ فَعَلَى الْمُكْرِهِ الْقِصَاصُ بِاتِّفَاقِهِمْ , كَمَا فِي الزَّيْلَعِيِّ . وَنَقَلَ صَاحِبُ مَجْمَعِ الْأَنْهُرِ أَنَّ الْقِصَاصَ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِلصَّاحِبَيْنِ . وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا : الزِّنَى , فَإِنَّهُ لَا يُرَخَّصُ فِيهِ مَعَ الْإِكْرَاهِ , كَمَا لَا يُرَخَّصُ فِيهِ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ , لِأَنَّ حُرْمَةَ الزِّنَى لَا تَرْتَفِعُ بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ , فَإِذَا فَعَلَهُ إنْسَانٌ تَحْتَ تَأْثِيرِ الْإِكْرَاهِ كَانَ آثِمًا , وَلَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ , لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يُعْتَبَرُ شُبْهَةً , وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ . وَقَدْ أَوْرَدَ الْبَابَرْتِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ ضَابِطًا لِأَثَرِ الْإِكْرَاهِ نَصُّهُ : الْإِكْرَاهُ الْمُلْجِئُ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا سَوَاءٌ , أَكَانَ عَلَى الْقَوْلِ أَمْ الْفِعْلِ . وَالْإِكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ إنْ كَانَ عَلَى فِعْلٍ فَلَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ , وَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْمُكْرَهَ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ . وَإِنْ كَانَ عَلَى قَوْلٍ , فَإِنْ كَانَ قَوْلًا يَسْتَوِي فِيهِ الْجِدُّ وَالْهَزْلُ فَكَذَلِكَ , وَإِلَّا فَهُوَ مُعْتَبَرٌ .
أَثَرُ الْإِكْرَاهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ :
22 - يَخْتَلِفُ أَثَرُ الْإِكْرَاهِ عِنْدَهُمْ بِاخْتِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ : أ - فَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ عَقْدًا أَوْ حِلًّا أَوْ إقْرَارًا أَوْ يَمِينًا لَمْ يَلْزَمْ الْمُكْرَهَ شَيْءٌ , وَيَكُونُ الْإِكْرَاهُ فِي ذَلِكَ بِالتَّخْوِيفِ بِقَتْلٍ أَوْ ضَرْبٍ مُؤْلِمٍ أَوْ سَجْنٍ أَوْ قَيْدٍ أَوْ صَفْعٍ لِذِي مُرُوءَةٍ عَلَى مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ . وَإِنْ أَجَازَ الْمُكْرَهُ ( بِالْفَتْحِ ) شَيْئًا مِمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ - غَيْرَ النِّكَاحِ - طَائِعًا بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ لَزِمَ عَلَى الْأَحْسَنِ , وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلَا تَصِحُّ إجَازَتُهُ . ب - وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ بِأَيِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِهِ , أَوْ قَذْفِ الْمُسْلِمَ بِالزِّنَى , أَوْ الزِّنَى بِامْرَأَةٍ طَائِعَةٍ خَلِيَّةٍ ( غَيْرِ مُتَزَوِّجَةٍ ) , فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إلَّا فِي حَالَةِ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ , لَا فِيمَا دُونَهُ مِنْ قَطْعٍ أَوْ سَجْنٍ وَنَحْوِهِ , فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ اُعْتُبِرَ مُرْتَدًّا , وَيُحَدُّ فِي قَذْفِ الْمُسْلِمِ , وَفِي الزِّنَى . ج - وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ , أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْهُ , أَوْ عَلَى زِنًى بِمُكْرَهَةٍ , أَوْ بِامْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ , فَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ . فَإِنْ قَتَلَ يُقْتَصُّ مِنْهُ , وَيُعْتَبَرُ الْقَتْلُ هُنَا مَانِعًا لِلْقَاتِلِ مِنْ مِيرَاثِ الْمَقْتُولِ , لِأَنَّهُ شَرِيكٌ فِي الْفِعْلِ , وَكَذَلِكَ الْمُكْرِهُ ( بِالْكَسْرِ ) يُقْتَصُّ مِنْهُ أَيْضًا وَيُمْنَعُ مِنْ الْمِيرَاثِ . وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ , إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ شَخْصًا ثَالِثًا غَيْرَهُمَا . فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرِهَ ( بِالْكَسْرِ ) كَمَا لَوْ قَالَ لِلَّذِي قَتَلَهُ : اُقْتُلْنِي وَإِلَّا قَتَلْتُك فَقَتَلَهُ , فَلَا قِصَاصَ عِنْدَهُمْ وَتَجِبُ الدِّيَةُ , لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ مِنْ نَاحِيَةٍ , وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ تَثْبُتُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً لَا مِيرَاثًا . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرَهَ ( بِالْفَتْحِ ) , فَالْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ , وَلَا قِصَاصَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ , إلَّا إذَا كَانَ التَّهْدِيدُ بِقَتْلٍ أَشْنَعَ , كَالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ وَبَتْرِ الْأَعْضَاءِ حَتَّى الْمَوْتِ , فَإِنَّ الْمُكْرَهَ ( بِالْفَتْحِ ) يَخْتَارُ أَهْوَنَ الْمِيتَتَيْنِ , جَزَمَ بِهِ اللَّقَانِيُّ . وَإِنْ زَنَى يُحَدُّ . د - وَأَمَّا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى فِعْلِ مَعْصِيَةٍ - غَيْرِ الْكُفْرِ - لَا حَقَّ فِيهَا لِمَخْلُوقٍ كَشُرْبِ خَمْرٍ وَأَكْلِهِ مَيْتَةً , أَوْ إبْطَالِ عِبَادَةٍ كَصَلَاةٍ وَصَوْمٍ , أَوْ عَلَى تَرْكِهَا فَيَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ بِأَيَّةِ وَسِيلَةٍ مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ . وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فِي الصَّوْمِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ . وَفِي الصَّلَاةِ يَكُونُ الْإِكْرَاهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرَضِ الْمُسْقِطِ لِبَعْضِ أَرْكَانِهَا , وَلَا يَسْقُطُ وُجُوبُهَا . وَفِي شُرْبِ الْخَمْرِ لَا يُقَامُ الْحَدُّ . وَأَلْحَقَ سَحْنُونٌ بِهَذَا النَّوْعِ الزِّنَى بِامْرَأَةٍ طَائِعَةٍ لَا زَوْجَ لَهَا , خِلَافًا لِلْمَذْهَبِ . وَيُضِيفُ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ يَسْقُطُ بِالْإِكْرَاهِ مُطْلَقًا , وَلَوْ كَانَ بِضَرْبٍ أَوْ سَجْنٍ لِأَنَّهُ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ .
أَثَرُ الْإِكْرَاهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ :(1/146)
23 - يَخْتَلِفُ أَثَرُ الْإِكْرَاهِ عِنْدَهُمْ بِاخْتِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ . أ - الْإِكْرَاهُ بِالْقَوْلِ : إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ عَقْدًا أَوْ حَلًّا أَوْ أَيَّ تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ أَوْ فِعْلِيٍّ , فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عَمَلًا بِعُمُومِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } إذْ الْمَقْصُودُ لَيْسَ رَفْعَ مَا وَقَعَ لِمَكَانِ الِاسْتِحَالَةِ , وَإِنَّمَا رَفْعُ حُكْمِهِ , مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ , فَيُخَصَّصُ هَذَا الْعُمُومُ فِي مَوْضِعِ دَلَالَتِهِ . وَبِمُقْتَضَى أَدِلَّةِ التَّخْصِيصِ يُقَرِّرُ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِقَوْلِ الْمُكْرَهِ ( بِالْفَتْحِ ) إلَّا فِي الصَّلَاةِ فَتَبْطُلُ بِهِ وَعَلَى هَذَا فَيُبَاحُ لِلْمُكْرَهِ ( بِالْفَتْحِ ) التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ , وَلَا يَجِبُ , بَلْ الْأَفْضَلُ الِامْتِنَاعُ مُصَابَرَةً عَلَى الدِّينِ وَاقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ . وَفِي طَلَاقِ زَوْجَةِ الْمُكْرِهِ ( بِالْكَسْرِ ) أَوْ بَيْعِ مَالِهِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ كُلِّ مَا يُعْتَبَرُ الْإِكْرَاهُ فِيهِ إذْنًا أَبْلَغُ . وَالْإِكْرَاهُ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْقَتْلِ أَوْ الزِّنَى , وَفِي الْإِكْرَاهِ بِالْحُكْمِ الْبَاطِلِ الَّذِي يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ أَوْ الزِّنَى , فَلَا يَرْتَفِعُ الْإِثْمُ عَنْ شَاهِدِ الزُّورِ , وَلَا عَنْ الْحَاكِمِ الْبَاطِلِ , وَحُكْمُهُمَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ حَيْثُ الضَّمَانُ حُكْمُ الْمُكْرِهِ ( بِالْكَسْرِ ) ب - الْإِكْرَاهُ بِالْفِعْلِ : لَا أَثَرَ لِلْإِكْرَاهِ بِالْفِعْلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إلَّا فِيمَا يَأْتِي : ( 1 ) الْفِعْلُ الْمُضَمَّنُ كَالْقَتْلِ أَوْ إتْلَافِ الْمَالِ أَوْ الْغَصْبِ , فَعَلَى الْمُكْرَهِ ( بِالْفَتْحِ ) الْقِصَاصُ أَوْ الضَّمَانُ , وَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ ( بِالْكَسْرِ ) , وَإِنْ قِيلَ : لَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ ( بِالْكَسْرِ ) بِمَا غَرِمَ فِي إتْلَافِ الْمَالِ , لِأَنَّهُ افْتَدَى بِالْإِتْلَافِ نَفْسِهِ عَنْ الضَّرَرِ . قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ : فَيَقْتُلُ هُوَ الْمُكْرَهَ ( بِالْفَتْحِ ) وَمِنْ أَكْرَهَهُ . ( 2 ) الزِّنَى وَمَا إلَيْهِ : يَأْثَمُ الْمُكْرَهُ ( بِالْفَتْحِ ) بِالزِّنَى , وَيَسْقُطُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ , وَيَتَرَتَّبُ عَلَى وَطْءِ الشُّبْهَةِ حُكْمُهُ . ( 3 ) الرَّضَاعُ : فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ فِي الْمُنَاكَحَاتِ وَمَا أُلْحِقَ بِهَا . ( 4 ) كُلُّ فِعْلٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بُطْلَانُ الصَّلَاةِ , كَالتَّحَوُّلِ عَنْ الْقِبْلَةِ , وَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ , وَتَرْكِ قِيَامِ الْقَادِرِ فِي الْفَرِيضَةِ , وَالْحَدَثِ , فَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِمَا تَقَدَّمَ بِرَغْمِ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ . ( 5 ) ذَبْحُ الْحَيَوَانِ : تَحِلُّ ذَبِيحَةُ الْمُكْرَهِ ( بِالْفَتْحِ ) الَّذِي تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ , كَالْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ وَلَوْ كَانَ الْمُكْرِهُ ( بِالْكَسْرِ ) مَجُوسِيًّا , أَوْ مُحَرَّمًا وَالْمَذْبُوحُ صَيْدٌ . قَالَ السُّيُوطِيّ : وَقَدْ رَأَيْت الْإِكْرَاهَ يُسَاوِي النِّسْيَانَ , فَإِنَّ الْمَوَاضِعَ الْمَذْكُورَةَ , إمَّا مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمَأْمُورِ , فَلَا يَسْقُطُ تَدَارُكُهُ , وَلَا يَحْصُلُ الثَّوَابُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ , وَإِمَّا مِنْ بَابِ الْإِتْلَافِ , فَيَسْقُطُ الْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ , وَتَسْقُطُ الْعُقُوبَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ , إلَّا الْقَتْلَ عَلَى الْأَظْهَرِ .
أَثَرُ الْإِكْرَاهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ :(1/147)
24 - يَخْتَلِفُ أَثَرُ الْإِكْرَاهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِاخْتِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ : أ - فَالتَّصَرُّفَاتُ الْقَوْلِيَّةُ تَقَعُ بَاطِلَةً مَعَ الْإِكْرَاهِ إلَّا النِّكَاحَ , فَإِنَّهُ يَكُونُ صَحِيحًا مَعَ الْإِكْرَاهِ , قِيَاسًا لِلْمُكْرَهِ عَلَى الْهَازِلِ . وَإِنَّمَا لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ مَعَ الْإِكْرَاهُ لِلْحَدِيثِ الشَّرِيفِ { لَا طَلَاقَ فِي إغْلَاقٍ } , وَالْإِكْرَاهُ مِنْ الْإِغْلَاقِ . ب - وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ لَا يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا , وَمَتَى زَالَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ أُمِرَ بِإِظْهَارِ إسْلَامِهِ , وَالْأَفْضَلُ لِمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ أَنْ يَصْبِرَ وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ كَالذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ , فَأَسْلَمَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ , حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى إسْلَامِهِ طَوْعًا . أَمَّا مَنْ يَجُوزُ إكْرَاهُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ كَالْمُرْتَدِّ , فَإِنَّهُ إذَا أُكْرِهَ فَأَسْلَمَ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ظَاهِرًا . ج - وَالْإِكْرَاهُ يُسْقِطُ الْحُدُودَ عَنْ الْمُكْرَهِ , لِأَنَّهُ شُبْهَةٌ , وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ د - وَإِذَا أَكْرَهَ رَجُلٌ آخَرَ عَلَى قَتْلِ شَخْصٍ فَقَتَلَهُ , وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ جَمِيعًا , وَإِنْ صَارَ الْأَمْرُ إلَى الدِّيَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا , وَإِنْ أَحَبَّ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ قَتْلَ أَحَدِهِمَا , وَأَخْذَ نِصْفِ الدِّيَةِ مِنْ الْآخَرِ أَوْ الْعَفْوَ فَلَهُ ذَلِكَ . وَيُعْتَبَرُ الْقَتْلُ هُنَا مَانِعًا مِنْ الْمِيرَاثِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ . وَالْقِصَاصُ عِنْدَهُمْ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ , إلَّا إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ شَخْصًا ثَالِثًا غَيْرَهُمَا . فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرِهُ ( بِالْكَسْرِ ) فَإِنَّهُ يَكُونُ هَدَرًا , وَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ فِي الْمُخْتَارِ عِنْدَهُمْ . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرَهَ ( بِالْفَتْحِ ) , فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ , وَلَا دِيَةَ وَلَا قِصَاصَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ . إلَّا إذَا كَانَ التَّهْدِيدُ بِقَتْلٍ أَشْنَعَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ أَهْوَنَ الْمِيتَتَيْنِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
أَثَرُ إكْرَاهِ الصَّبِيِّ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ :
25 - إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ صَبِيًّا , فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ آلَةً فِي يَدِ الْمُكْرِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ , وَإِنَّمَا الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ ( بِالْكَسْرِ ) . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُكْرِهِ ( بِالْكَسْرِ ) وَنِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ , وَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ . فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ , اُعْتُبِرَ آلَةً عِنْدَهُمْ , وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ , وَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ . وَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا , فَيَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ , وَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ ( بِالْكَسْرِ ) . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الصَّبِيَّ غَيْرَ الْمُمَيِّزِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ , وَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ ( بِالْكَسْرِ ) . وَفِي قَوْلٍ : لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لَا عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ أَكْرَهَهُ , لِأَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ خَطَأٌ , وَالْمُكْرِهُ ( بِالْكَسْرِ ) شَرِيكُ الْمُخْطِئِ , وَلَا قِصَاصَ عَلَى شَرِيكِ مُخْطِئٍ . أَمَّا إذَا كَانَ الصَّبِيُّ مُمَيِّزًا فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ ( بِالْكَسْرِ ) وَلَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ .
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى قَاعِدَةِ تَحَرِّي الْحَلَالِ فِي الْأَكْلِ :(1/148)
أ - ( حُكْمُ الْمُضْطَرِّ ) : 26 - مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ هَلَاكُ نَفْسِهِ , وَلَمْ يَجِدْ إلَّا مَيْتَةً أَوْ نَحْوَهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ مَالَ الْغَيْرِ , لَزِمَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يُحْيِي نَفْسَهُ , لقوله تعالى : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } . وقوله تعالى : { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ } أَيْ عَلَى مُضْطَرٍّ آخَرَ { وَلَا عَادٍ } أَيْ سَدَّ الْجَوْعَةَ فَأَكَلَ { فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } . قَالَ الزَّرْكَشِيّ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَوْفُ حُصُولِ الشَّيْنِ الْفَاحِشِ فِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ , كَخَوْفِ طُولِ الْمَرَضِ كَمَا فِي التَّيَمُّمِ . وَاكْتَفَى بِالظَّنِّ , كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ ذَلِكَ , فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّيَقُّنُ وَلَا الْإِشْرَافُ عَلَى الْمَوْتِ . وَلِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ أَيْ مَا يَحْفَظُ الْحَيَاةَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ , وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ . قَالَ الْمَوَّاقُ : وَنَصُّ الْمُوَطَّأِ : وَمِنْ أَحْسَنِ مَا سَمِعْته فِي الرَّجُلِ يُضْطَرُّ إلَى الْمَيْتَةِ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهَا حَتَّى يَشْبَعَ وَيَتَزَوَّدَ مِنْهَا , فَإِنْ وَجَدَ عَنْهَا غِنًى طَرَحَهَا . وَيَحْرُمُ الْأَكْلُ مِنْ الْمَيْتَةِ عَلَى الْمُضْطَرِّ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ , كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَالْآبِقِ , لقوله تعالى : { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } قَالَ مُجَاهِدٌ : غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا عَادٍ عَلَيْهِمْ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : إذَا خَرَجَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ فَلَا رُخْصَةَ لَهُ . فَإِنْ تَابَ وَأَقْلَعَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ حَلَّ لَهُ الْأَكْلُ . وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إلَيْهِ تَحْتَ عِنْوَانِ ( اضْطِرَارٌ ) . وَإِنْ اُضْطُرَّ فَلَمْ يَجِدْ مَيْتَةً , وَمَعَ رَجُلٍ شَيْءٌ كَانَ لَهُ أَنْ يُكَابِرَهُ , وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُعْطِيَهُ , وَإِذَا كَابَرَهُ أَعْطَاهُ ثَمَنَهُ وَافِيًا , فَإِنْ كَانَ إذَا أَخَذَ شَيْئًا خَافَ مَالِكُ الْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُكَابَرَتُهُ . قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ : وَإِذَا أَكَلَ مَالَ مُسْلِمٍ اقْتَصَرَ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ , إلَّا أَنْ يَعْلَمَ طُولَ الطَّرِيقِ فَلْيَتَزَوَّدْ , لِأَنَّ مُوَاسَاتَهُ تَجِبُ إذَا جَاعَ .
إلْزَامٌ التَّعْرِيفُ :
1 - الْإِلْزَامُ مَصْدَرُ أَلْزَمَ الْمُتَعَدِّي بِالْهَمْزَةِ , وَهُوَ مِنْ لَزِمَ , يُقَالُ : لَزِمَ يَلْزَمُ لُزُومًا : ثَبَتَ وَدَامَ , وَأَلْزَمْته : أَثْبَتّه وَأَدَمْته , وَأَلْزَمْته الْمَالَ وَالْعَمَلَ وَغَيْرَهُ فَالْتَزَمَهُ , وَلَزِمَهُ الْمَالُ : وَجَبَ عَلَيْهِ , وَأَلْزَمَهُ إيَّاهُ فَالْتَزَمَهُ . وَيَقُولُ الرَّاغِبُ : الْإِلْزَامُ ضَرْبَانِ : إلْزَامٌ بِالتَّسْخِيرِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ الْإِنْسَانِ , وَإِلْزَامٌ بِالْحُكْمِ وَالْأَمْرِ , نَحْوُ قوله تعالى : { أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } وَقَوْلُهُ { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } . فَيَكُونُ مَعْنَى الْإِلْزَامِ : الْإِيجَابَ عَلَى الْغَيْرِ . وَلَا يَخْرُجُ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : الْإِيجَابُ : 2 - وَجَبَ الشَّيْءُ يَجِبُ وُجُوبًا أَيْ : لَزِمَ , وَأَوْجَبَهُ هُوَ وَأَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ أَوْجَبَ نَجِيبًا , أَيْ أَهْدَاهُ فِي حَجٍّ أَوْ عَمْرَةٍ كَأَنَّهُ أَلْزَم نَفْسَهُ بِهِ , وَأَوْجَبَهُ إيجَابًا أَيْ أَلْزَمَهُ . وَقَدْ فَرَّقَ أَبُو هِلَالٍ الْعَسْكَرِيُّ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْإِلْزَامِ فَقَالَ : الْإِلْزَامُ يَكُونُ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ , يُقَالُ : أَلْزَمْته الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ . وَالْإِيجَابُ لَا يَسْتَعْمِلُ إلَّا فِيمَا هُوَ حَقٌّ , فَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ مَجَازٌ , وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِلْزَامُ . الْإِجْبَارُ وَالْإِكْرَاهُ : 3 - الْإِجْبَارُ وَالْإِكْرَاهُ هُمَا الْحَمْلُ عَلَى الشَّيْءِ قَهْرًا , وَالْإِلْزَامُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَهْرِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْإِلْزَامِ الْحِسِّيِّ , وَقَدْ يَكُونُ بِدُونِهِ . الِالْتِزَامُ : 4 - الِالْتِزَامُ هُوَ : إلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ شَيْئًا مِنْ الْمَعْرُوفِ . فَالِالْتِزَامُ يَكُونُ مِنْ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ كَالنَّذْرِ وَالْوَعْدِ , وَالْإِلْزَامِ يَكُونُ مِنْهُ عَلَى الْغَيْرِ كَإِنْشَاءِ الْإِلْزَامِ مِنْ الْقَاضِي . وَالِالْتِزَامُ يَكُونُ وَاقِعًا عَلَى الشَّيْءِ , يُقَالُ : الْتَزَمْت الْعَمَلَ , وَالْإِلْزَامُ يَقَعُ عَلَى الشَّخْصِ , يُقَالُ : أَلْزَمْت فُلَانًا الْمَالَ .
( مَوَاطِنُ الْبَحْثِ ) .(1/149)
6 - تَتَعَدَّدُ مَوَاطِنُ الْإِلْزَامِ بِتَعَدُّدِ أَسْبَابِهِ , فَقَدْ يَكُونُ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ . ( ر : إكْرَاهٌ ) . وَمِنْ ذَلِكَ الْعُقُودُ الَّتِي يَكُونُ مِنْ آثَارِهَا الْإِلْزَامُ بِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ كَالْبَيْعِ إذَا تَمَّ , فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إلْزَامُ الْبَائِعِ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَإِلْزَامُ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ . وَكَالْإِجَارَةِ إذَا تَمَّتْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا إلْزَامُ الْمُسْتَأْجِرِ بِالْقِيَامِ بِالْعَمَلِ ( ر : عَقْدٌ - بَيْعٌ - إجَارَةٌ ) .
الْأَحْكَامُ الْفِقْهِيَّةُ إجْمَالًا : طَاعَةُ الْأَوَامِرِ :
12 - تَجِبُ طَاعَةُ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي تَقْتَضِي الْوُجُوبَ , وَكَذَلِكَ أَوَامِرُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم . وَيُطَاعُ سِوَاهُمَا فِي غَيْرِ الْمَعْصِيَةِ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ , مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ } فَيُطَاعُ الْأَبَوَانِ وَوَلِيُّ الْأَمْرِ وَنُوَّابُهُ فِي غَيْرِ الْحَرَامِ . ( ر : طَاعَةٌ ) . الْأَمْرُ فِي الْجِنَايَاتِ : 13 - مَنْ أَمَرَ إنْسَانًا بِقَتْلِ إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ , فَالْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الْآمِرِ , إنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُكَلَّفًا , لَكِنْ إنْ كَانَ لِلْآمِرِ وِلَايَةٌ عَلَى الْمَأْمُورِ , أَوْ خَافَ الْمَأْمُورُ عَلَى نَفْسِهِ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ , فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ . يُنْظَرُ فِي ( إكْرَاهٌ , وَقَتْلٌ , وَقِصَاصٌ ) ضَمَانُ الْآمِرِ : 14 - مَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِعَمَلٍ , فَأَتْلَفَ شَيْئًا , فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ لَا عَلَى الْآمِرِ , وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ صُوَرٌ مِنْهَا : أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ سُلْطَانًا أَوْ أَبًا , أَوْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَجِيرًا لَدَى الْآمِرِ . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ ( ضَمَانٌ وَإِكْرَاهٌ ) .
اشْتِرَاطُ الْأَمْنِ بِالنِّسْبَةِ لِلِامْتِنَاعِ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ :
11 - الْحِفَاظُ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ , وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا تَقَدَّمَ , أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْقِيَامِ بِعِبَادَةٍ مَا تَلَفٌ لِلْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ فَإِنَّهُ يُرَخَّصُ وَيُخَفَّفُ عَنْهُ فِيهَا . وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ . فَلَوْ كَانَ فِيمَا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ ضَرَرٌ يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ فِي نَفْسِهِ لَوْ امْتَنَعَ عَنْهُ امْتِثَالًا لِلنَّهْيِ , فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُبَاحُ لَهُ مَا حَرُمَ فِي الْأَصْلِ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ . وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قوله تعالى : { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } وقوله تعالى : { إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ } وَمِنْ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ فِي ذَلِكَ : الضَّرَرُ يُزَالُ , وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ . وَالْأَمْثِلَةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ , وَمِنْهَا : أ - يَجُوزُ بَلْ يَجِبُ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخِنْزِيرِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْإِنْسَانُ غَيْرَهَا لقوله تعالى : { إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } . ب - يُبَاحُ تَنَاوُلُ الْخَمْرِ لِإِزَالَةِ الْغُصَّةِ . ج - يَجُوزُ التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ إلَى ذَلِكَ د - يَجُوزُ إلْقَاءُ الْمَتَاعِ مِنْ السَّفِينَةِ الْمُشْرِفَةِ عَلَى الْغَرَقِ . هـ - يَجُوزُ دَفْعُ الصَّائِلِ وَلَوْ أَدَّى إلَى قَتْلِهِ . وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ , وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ وَالْخِلَافُ فِيهِ فِي بَحْثِ ( ضَرُورَةٌ ) ( وَإِكْرَاهٌ ) .
أَمْثِلَةٌ مِنْ الِانْتِحَارِ بِطَرِيقِ السَّلْبِ :(1/150)
أَوَّلًا : الِامْتِنَاعُ مِنْ الْمُبَاحِ : 5 - مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْمُبَاحِ حَتَّى مَاتَ كَانَ قَاتِلًا نَفْسَهُ , مُتْلِفًا لَهَا عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ . لِأَنَّ الْأَكْلَ لِلْغِذَاءِ وَالشُّرْبَ لِدَفْعِ الْعَطَشِ فَرْضٌ بِمِقْدَارِ مَا يَدْفَعُ الْهَلَاكَ , فَإِنْ تَرَكَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ حَتَّى هَلَكَ فَقَدْ انْتَحَرَ , لِأَنَّ فِيهِ إلْقَاءَ النَّفْسِ إلَى التَّهْلُكَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ . وَإِذَا اُضْطُرَّ الْإِنْسَانُ لِلْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ مِنْ الْمُحَرَّمِ كَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ حَتَّى ظَنَّ الْهَلَاكَ جُوعًا لَزِمَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ , فَإِذَا امْتَنَعَ حَتَّى مَاتَ صَارَ قَاتِلًا نَفْسَهُ , بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَرَكَ أَكْلَ الْخُبْزِ وَشُرْبَ الْمَاءِ فِي حَالِ الْإِمْكَانِ , لِأَنَّ تَارِكَهُ سَاعٍ فِي إهْلَاكِ نَفْسِهِ , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } . وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ الْمُحَرَّمِ , فَلَا يُبَاحُ لِلْمُكْرَهِ الِامْتِنَاعُ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ الدَّمِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ , لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا يُبَاحُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ لقوله تعالى : { إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ } وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ , وَقَدْ تَحَقَّقَ الِاضْطِرَارُ بِالْإِكْرَاهِ , وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْهُ حَتَّى قُتِلَ يُؤَاخَذُ بِهِ وَيُعَدُّ مُنْتَحِرًا , لِأَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ صَارَ مُلْقِيًا نَفْسَهُ إلَى التَّهْلُكَةِ . ثَانِيًا : تَرْكُ الْحَرَكَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ : 6 - مَنْ أُلْقِيَ فِي مَاءٍ جَارٍ أَوْ رَاكِدٍ لَا يُعَدُّ مُغْرِقًا , كَمُنْبَسِطٍ يُمْكِنُهُ الْخَلَاصُ مِنْهُ عَادَةً , فَمَكَثَ فِيهِ مُضْطَجِعًا مَثَلًا مُخْتَارًا لِذَلِكَ حَتَّى هَلَكَ , يُعْتَبَرُ مُنْتَحِرًا وَقَاتِلًا نَفْسَهُ , وَلِذَلِكَ لَا قَوَدَ وَلَا دِيَةَ عَلَى الَّذِي أَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ , لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَمْ يَقْتُلْهُ , وَإِنَّمَا حَصَلَ الْمَوْتُ بِلُبْثِهِ فِيهِ , وَهُوَ فِعْلُ نَفْسِهِ , فَلَمْ يَضْمَنْهُ غَيْرُهُ . كَذَلِكَ إنْ تَرَكَهُ فِي نَارٍ يُمْكِنُهُ الْخَلَاصُ مِنْهَا لِقِلَّتِهَا , أَوْ لِكَوْنِهِ فِي طَرَفٍ مِنْهَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ بِأَدْنَى حَرَكَةٍ , فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَاتَ . وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : لَوْ تَرَكَهُ فِي نَارٍ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا فَلَمْ يَخْرُجْ يَضْمَنُ , لِأَنَّهُ جَانٍ بِالْإِلْقَاءِ الْمُفْضِي إلَى الْمَوْتِ . وَفَارَقَ الْمَاءَ , لِأَنَّهُ غَيْرُ مُهْلِكٍ بِنَفْسِهِ , وَلِهَذَا يَدْخُلُهُ النَّاسُ لِلسِّبَاحَةِ , أَمَّا النَّارُ فَيَسِيرُهَا يُهْلِكُ , وَلِأَنَّ النَّارَ لَهَا حَرَارَةٌ شَدِيدَةٌ , فَرُبَّمَا أَزْعَجَتْهُ حَرَارَتُهَا عَنْ مَعْرِفَةِ مَا يَتَخَلَّصُ بِهِ , أَوْ أَذْهَبَتْ عَقْلَهُ بِأَلَمِهَا وَرَوْعَتِهَا . ثَالِثًا : تَرْكُ الْعِلَاجِ وَالتَّدَاوِي : 7 - الِامْتِنَاعُ مِنْ التَّدَاوِي فِي حَالَةِ الْمَرَضِ لَا يُعْتَبَرُ انْتِحَارًا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ , فَمَنْ كَانَ مَرِيضًا وَامْتَنَعَ مِنْ الْعِلَاجِ حَتَّى مَاتَ , لَا يُعْتَبَرُ عَاصِيًا , إذْ لَا يَتَحَقَّقُ بِأَنَّهُ يَشْفِيهِ . كَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ الْمَجْرُوحُ عِلَاجَ جُرْحٍ مُهْلِكٍ فَمَاتَ لَا يُعْتَبَرُ مُنْتَحِرًا , بِحَيْثُ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى جَارِحِهِ , إذْ الْبُرْءُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ وَإِنْ عَالَجَ . أَمَّا إذَا كَانَ الْجُرْحُ بَسِيطًا وَالْعِلَاجُ مَوْثُوقًا بِهِ , كَمَا لَوْ تَرَكَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَصْبَ الْعِرْقِ , فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ قَدْ قَتَلَ نَفْسَهُ , حَتَّى لَا يُسْأَلَ جَارِحُهُ عَنْ الْقَتْلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِخِلَافِهِ , وَقَالُوا : إنْ تَرَكَ شَدَّ الْفِصَادِ مَعَ إمْكَانِهِ لَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ , كَمَا لَوْ جُرِحَ فَتَرَكَ مُدَاوَاةَ جُرْحِهِ . وَمَعَ تَصْرِيحِ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ تَرْكَ الْعِلَاجِ لَا يُعْتَبَرُ عِصْيَانًا , لِأَنَّ الْبُرْءَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ , قَالُوا : إنْ ضَرَبَ رَجُلًا بِإِبْرَةٍ فِي غَيْرِ الْمَقْتَلِ عَمْدًا فَمَاتَ , لَا قَوَدَ فِيهِ فَقَدْ فَصَّلُوا بَيْنَ الْجُرْحِ الْمُهْلِكِ وَغَيْرِ الْمُهْلِكِ الشَّافِعِيَّةُ , فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ تَرْكَ الْجُرْحِ الْيَسِيرِ لِنَزْفِ الدَّمِ حَتَّى الْمَوْتِ يُشْبِهُ الِانْتِحَارَ . وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى نَصٍّ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
أَمْرُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ بِأَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ :
18 - إذَا أَمَرَ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ - أَمْرًا لَمْ يَصِلْ إلَى دَرَجَةِ الْإِكْرَاهِ - بِقَتْلِ نَفْسِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ , فَهُوَ مُنْتَحِرٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ , وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآمِرِ , لِأَنَّ الْمَأْمُورَ قَتَلَ نَفْسَهُ بِاخْتِيَارِهِ , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } وَمُجَرَّدُ الْأَمْرِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الِاخْتِيَارِ وَلَا فِي الرِّضَى , مَا لَمْ يَصِلْ إلَى دَرَجَةِ الْإِكْرَاهِ التَّامِّ الَّذِي سَيَأْتِي بَيَانُهُ .
الْإِكْرَاهُ عَلَى الِانْتِحَارِ :(1/151)
19 - الْإِكْرَاهُ هُوَ : حَمْلُ الْمُكْرَهِ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ . وَهُوَ نَوْعَانِ : مُلْجِئٌ وَغَيْرُ مُلْجِئٍ . فَالْمُلْجِئُ : هُوَ الْإِكْرَاهُ الْكَامِلُ , وَهُوَ أَنْ يُكْرَهَ بِمَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى تَلَفِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ . وَهَذَا النَّوْعُ يُعْدِمُ الرِّضَى , وَيُوجِبُ الْإِلْجَاءَ , وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ . وَغَيْرُ الْمُلْجِئِ : هُوَ أَنْ يُكْرِهَهُ بِمَا لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ , وَلَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَلَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ . وَالْمُرَادُ هُنَا الْإِكْرَاهُ الْمُلْجِئُ الَّذِي يُعْدِمُ الرِّضَى وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ . 20 - إذَا أَكْرَهَ إنْسَانٌ غَيْرَهُ إكْرَاهًا مُلْجِئًا لِيَقْتُلَ الْمُكْرَهَ , بِأَنْ قَالَ لَهُ : اُقْتُلْنِي وَإِلَّا قَتَلْتُك , فَقَتَلَهُ فَهُوَ فِي حُكْمِ الِانْتِحَارِ , حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَى الْقَاتِلِ الْقِصَاصُ وَلَا الدِّيَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ) لِأَنَّ الْمُكْرَهَ ( بِفَتْحِ الرَّاءِ ) كَالْآلَةِ بِيَدِ الْمُكْرِهِ فِي الْإِكْرَاهِ التَّامِّ ( الْمُلْجِئِ ) فَيُنْسَبُ الْفِعْلُ إلَى الْمُكْرِهِ وَهُوَ الْمَقْتُولُ , فَصَارَ كَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ , كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ , وَلِأَنَّ إذْنَ الْمُكَلَّفِ يُسْقِطُ الدِّيَةَ وَالْقِصَاصَ مَعًا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ , فَكَيْفَ إذَا اشْتَدَّ الْأَمْرُ إلَى دَرَجَةِ الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ ؟ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرَهِ , لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يُبَاحُ بِالْإِذْنِ , إلَّا أَنَّهُ شُبْهَةٌ تُسْقِطُ الْقِصَاصَ . وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي الْمَوْضُوعِ , وَقَدْ سَبَقَ رَأْيُهُمْ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ إذَا أَمَرَهُ الْمَقْتُولُ بِالْقَتْلِ . 21 - إذَا أَكْرَهَ شَخْصٌ غَيْرَهُ إكْرَاهًا مُلْجِئًا لِيَقْتُلَ الْغَيْرُ نَفْسَهُ , بِأَنْ قَالَ لَهُ : اُقْتُلْ نَفْسَك وَإِلَّا قَتَلْتُك , فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ , وَإِلَّا يُعَدُّ مُنْتَحِرًا وَآثِمًا , لِأَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَيْهِ لَا يَخْتَلِفُ عَنْ الْمُكْرَهِ بِهِ , فَكِلَاهُمَا قَتْلٌ , فَلَأَنْ يَقْتُلَهُ الْمُكْرَهُ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَقْتُلَ هُوَ نَفْسَهُ . وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ الْقَتْلِ بِتَرَاجُعِ الْمُكْرَهِ , أَوْ بِتَغَيُّرِ الْحَالَةِ بِأَسْبَابٍ أُخْرَى , فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَحِرَ وَيَقْتُلَ نَفْسَهُ . وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إذَا قَتَلَ نَفْسَهُ فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمُكْرَهِ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , لِانْتِفَاءِ كَوْنِهِ إكْرَاهًا حَقِيقَةً , لِاتِّحَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمُخَوَّفِ بِهِ , فَكَأَنَّهُ اخْتَارَ الْقَتْلَ كَمَا عَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ , لَكِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْآمِرِ نِصْفُ الدِّيَةِ , بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ شَرِيكٌ , وَسَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ بِسَبَبِ مُبَاشَرَةِ الْمُكْرَهِ قَتْلَ نَفْسِهِ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ , وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ , إذَا قَتَلَ الْمُكْرِهُ نَفْسَهُ , كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ . وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ بِمَا يَتَضَمَّنُ تَعْذِيبًا شَدِيدًا كَإِحْرَاقٍ أَوْ تَمْثِيلٍ إنْ لَمْ يَقْتُلْ نَفْسَهُ , كَانَ إكْرَاهًا كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الْبَزَّارُ , وَمَالَ إلَيْهِ الرَّافِعِيُّ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ , وَإِنْ نَازَعَ فِيهِ الْبُلْقِينِيُّ . وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا : لَوْ قَالَ لَتُلْقِيَن نَفْسَك فِي النَّارِ أَوْ مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ أَوْ لَأَقْتُلَنَّكَ بِالسَّيْفِ , فَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ الْجَبَلِ , فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُكْرِهِ , لِأَنَّهُ لَوْ بَاشَرَ بِنَفْسِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَهُ , لِأَنَّهُ قَتَلَ بِالْمُثْقَلِ , فَكَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ . وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرِهِ فِي مَالِهِ , وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ , لِأَنَّهُ كَالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ عِنْدَهُ . أَمَّا إذَا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي النَّارِ فَاحْتَرَقَ , فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا . هَذَا , وَلَمْ نَجِدْ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصًّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَانْظُرْ ( إكْرَاهٌ ) .
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ : يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الِانْتِشَارِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ :(1/152)
الْأَوَّلُ : بِمَعْنَى إنْعَاظِ الذَّكَرِ : أَيْ قِيَامُهُ . الثَّانِي : بِمَعْنَى شُيُوعِ الشَّيْءِ . 3 - فَالِانْتِشَارُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَهُ أَثَرٌ فِي تَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ عَلَيْهِ , وَمِنْ ذَلِكَ : أ - حِلُّ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِمَنْ طَلَّقَهَا فَمَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ , وَيَطَأَهَا , لقوله تعالى : { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَلَا تَحِلُّ إلَّا بِالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ , وَأَدْنَاهُ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ , وَلَا بُدَّ مِنْ الِانْتِشَارِ , فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الِانْتِشَارُ فَلَا تَحِلُّ , لِمَا رُوِيَ أَنَّ { رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَبَتَّ طَلَاقَهَا - فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ , فَجَاءَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْت عِنْدَ رِفَاعَةَ وَطَلَّقَنِي ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ , فَتَزَوَّجَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ , وَإِنَّهُ وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مَعَهُ إلَّا مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ , فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَقَالَ : لَعَلَّك تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ , لَا وَاَللَّهِ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك } , فَقَدْ عَلَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحُكْمَ بِذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ انْتِشَارٍ , وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ . ب - وَمِنْ ذَلِكَ أَثَرُ الِانْتِشَارِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَا . وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ . فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ , وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إكْرَاهِ غَيْرِ السُّلْطَانِ , إذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ فَزَنَى , فَعَلَيْهِ الْحَدُّ , لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالِانْتِشَارِ , وَالْإِكْرَاهُ يُنَافِيهِ , فَإِذَا وُجِدَ الِانْتِشَارُ انْتَفَى الْإِكْرَاهُ , فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ . وَفِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ , وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ , فِي إكْرَاهِ ذِي السُّلْطَانِ , أَنَّهُ إذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى الزِّنَى فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } وَلِأَنَّ الِانْتِشَارَ مُتَرَدِّدٌ , لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ , لِأَنَّ الِانْتِشَارَ قَدْ يَكُونُ طَبْعًا لَا طَوْعًا كَمَا فِي النَّائِمِ . ر : ( إكْرَاهٌ ) 4 - أَمَّا الِانْتِشَارُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي : وَهُوَ الشُّيُوعُ , فَقَدْ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ الْهِلَالِ بِالْخَبَرِ الْمُنْتَشِرِ , وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي ( اسْتِفَاضَةٌ - صَوْمٌ ) . وَذَكَرُوهُ فِي انْتِشَارِ حُرْمَةِ النِّكَاحِ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ إلَى أُصُولِ الْمُرْضِعَةِ وَفُرُوعِهَا . وَانْتِشَارِ الْحُرْمَةِ أَيْضًا بِسَبَبِ الزِّنَا - وَيُنْظَرُ فِي ( رَضَاعٌ - وَنِكَاحٌ ) .
انْحِنَاءٌ التَّعْرِيفُ :
1 - الِانْحِنَاءُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ : حَنَى , فَالِانْحِنَاءُ : الِانْعِطَافُ وَالِاعْوِجَاجُ عَنْ وَجْهِ الِاسْتِقَامَةِ . يُقَالُ لِلرَّجُلِ إذَا انْحَنَى مِنْ الْكِبَرِ حَنَاهُ الدَّهْرُ , فَهُوَ مَحْنِيٌّ وَمَحْنُوٌّ . وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - الرُّكُوعُ : 2 - الرُّكُوعُ نَوْعٌ مِنْ الِانْحِنَاءِ , إلَّا أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ سَيَأْتِي بَيَانُهَا . ب - ( السُّجُودُ ) : السُّجُودُ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ , وَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ الِانْحِنَاءِ بِجَامِعِ الْمَيْلِ , إلَّا أَنَّ الْمَيَلَانَ فِي السُّجُودِ أَكْثَرُ بِوُصُولِ الْجَبْهَةِ إلَى الْأَرْضِ . ج - ( الْإِيمَاءُ ) : الْإِيمَاءُ هُوَ أَنْ تُشِيرَ بِرَأْسِك أَوْ بِيَدِك أَوْ بِعَيْنِك أَوْ بِحَاجِبِك أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا , كَمَا يُومِئُ الْمَرِيضُ بِرَأْسِهِ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَقَدْ يَكُونُ الْإِيمَاءُ بِدُونِ انْحِنَاءٍ .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ :(1/153)
3 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الِانْحِنَاءِ بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ الْبَاعِثِ عَلَيْهِ : فَقَدْ يَكُونُ الِانْحِنَاءُ مُبَاحًا , كَالِانْحِنَاءِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْمُسْلِمُ فِي أَعْمَالِهِ الْيَوْمِيَّةِ . وَقَدْ يَكُونُ فَرْضًا فِي الصَّلَاةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِهِ , كَمَا هُوَ فِي الرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ . وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ , وَهُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بِقَدْرِ مَا يَمُدُّ يَدَيْهِ فَتَنَالُ رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ الشَّخْصِ الْمُعْتَدِلِ الْقَامَةِ . وَتَفْصِيلُ هَذَا فِي ( رُكُوعٌ ) . وَقَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا , كَالِانْحِنَاءِ تَعْظِيمًا لِإِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ جَمَادٍ . وَهَذَا مِنْ الضَّلَالَاتِ وَالْجَهَالَاتِ . وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الِانْحِنَاءَ عِنْدَ الِالْتِقَاءِ بِالْعُظَمَاءِ كَكِبَارِ الْقَوْمِ وَالسَّلَاطِينِ تَعْظِيمًا لَهُمْ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . لِأَنَّ الِانْحِنَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا لَهُ , وَلِقَوْلِهِ لِرَجُلٍ قَالَ لَهُ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ , الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم : لَا } . أَمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ الِانْحِنَاءُ مُجَرَّدَ تَقْلِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ , دُونَ قَصْدِ التَّعْظِيمِ لِلْمُنْحَنَى لَهُ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ , لِأَنَّهُ يُشْبِهُ فِعْلَ الْمَجُوسِ . قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : الِانْحِنَاءُ لِلْمَخْلُوقِ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ , وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَادَاتِ بَعْضِ الْمُلُوكِ وَالْجَاهِلِينَ . أَمَّا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الِانْحِنَاءِ لِلسُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ فَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِكْرَاهِ بِشُرُوطِهِ , لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْكُفْرِ . وَتَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ ( إكْرَاهٌ ) .
حُكْمُ الْإِنْكَارِ كَذِبًا :
17 - يَجُوزُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي عِنْدَهُ حَقٌّ وَكَانَ مُبْطِلًا فِي دَعْوَاهُ . أَمَّا إنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَالِمًا بِحَقِّ الْمُدَّعِي عِنْدَهُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْإِنْكَارُ . وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مَسْأَلَتَيْنِ يَجُوزُ فِيهِمَا الْإِنْكَارُ , مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مُحِقٌّ : الْأُولَى : دَعْوَى الْعَيْبِ الْقَدِيمِ , كَمَا إذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّ الْمَالَ الَّذِي اشْتَرَيْته مِنْك فِيهِ كَذَا , فَلِلْبَائِعِ - وَلَوْ كَانَ وَاقِفًا عَلَى الْعَيْبِ الْقَدِيمِ - أَنْ يُنْكِرَ وُجُودَهُ حَتَّى يَثْبُتَهُ الْمُشْتَرِي , وَيَرُدَّهُ إلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ بِدَوْرِهِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى مَنْ بَاعَهُ إيَّاهُ . الثَّانِيَةُ : لِوَصِيِّ الْمُتَوَفَّى أَنْ يُنْكِرَ دَيْنَ الْمَيِّتِ وَلَوْ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ . هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي دُرَرِ الْحُكَّامِ . وَفِي شَرْحِ الْأَتَاسِيِّ عَلَى الْمَجَلَّةِ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْقَاعِدَةَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَسُوغُ لَهُ الْإِنْكَارُ إنْ تَحَقَّقَتْ حَاجَتُهُ إلَى الْبَيِّنَةِ . قَالَ : وَهَذَا فِي مَسَائِلَ مِنْهَا : اسْتَحَقَّ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يُعْذَرُ فِي الْإِنْكَارِ , وَإِنْ عَلِمَ صِدْقَ الْمُدَّعِي , إذْ لَوْ أَقَرَّ هُوَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى بَائِعِهِ بِالْيَمِينِ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إذَا نَصَبَ الْقَاضِي مُسَخَّرًا ( أَيْ مُمَثِّلًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ ) يُنْكِرُ عَنْ الْبَائِعِ جَازَ لِلْمُسَخِّرِ الْإِنْكَارُ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا . وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِالْمَصْلَحَةِ . وَلَعَلَّهُمْ يَقْصِدُونَ مَصْلَحَةَ تَمْكِينِ الْمُدَّعِي مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ; لِتَكُونَ الْبَيِّنَةُ بِنَاءً عَلَى إنْكَارِ مُنْكِرٍ . وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِنْكَارُ فِي حَالِ الْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ أَوْ الْمَالِ , وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِكْرَاهِ . قَالُوا : إذَا اسْتَخْفَى الرَّجُلُ عِنْدَ الرَّجُلِ مِنْ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ الَّذِي يُرِيدُ دَمَهُ أَوْ مَالَهُ , فَسَأَلَهُ السُّلْطَانُ عَنْهُ , فَسَتَرَ عَلَيْهِ , وَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ , فَقَالَ لَهُ : احْلِفْ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَك , فَحَلَفَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي ; لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَدَمِهِ , أَوْ مَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ , فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ . أَمَّا إنْ كَانَ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ , وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَقِيَهُ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أُجِرَ فِيمَا فَعَلَ , وَلَزِمَهُ الْحِنْثُ فِيمَا حَلَفَ . قَالُوا : وَكَذَلِكَ فَعَلَ مَالِكٌ فِي هَذَا بِعَيْنِهِ . أَمَّا التَّخَلُّصُ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْمَأْزِقِ بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّوْرِيَةِ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ ( تَوْرِيَةٌ ) .
ثَالِثًا - عَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي عَقِيدَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ :(1/154)
23 - إنَّ مِنْ مُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ أَلَّا يَتَعَرَّضَ الْمُسْلِمُونَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي عَقِيدَتِهِمْ وَأَدَاءِ عِبَادَتِهِمْ دُونَ إظْهَارِ شَعَائِرِهِمْ , فَعَقْدُ الذِّمَّةِ إقْرَارُ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِشَرْطِ بَذْلِ الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْمِلَّةِ , وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ احْتِمَالُ دُخُولِ الذِّمِّيِّ فِي الْإِسْلَامِ عَنْ طَرِيقِ مُخَالَطَتِهِ لِلْمُسْلِمِينَ وَوُقُوفِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الدِّينِ , فَهَذَا يَكُونُ عَنْ طَرِيقِ الدَّعْوَةِ لَا عَنْ طَرِيقِ الْإِكْرَاهِ , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } , وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ نَجْرَانَ : { وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهَا جِوَارُ اللَّهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَبِيَعِهِمْ وَكُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ . . . } وَهَذَا الْأَصْلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ , لَكِنْ هُنَاكَ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي : أ - مَعَابِدُ أَهْلِ الذِّمَّةِ : 24 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ أَمْصَارَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ : مَا اخْتَطَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَأَنْشَئُوهُ كَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ وَوَاسِطَ , فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ وَلَا بِيعَةٍ وَلَا مُجْتَمَعٍ لِصَلَاتِهِمْ وَلَا صَوْمَعَةٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَلَا يُمَكَّنُونَ فِيهِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَاِتِّخَاذِ الْخَنَازِيرِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا } وَلِأَنَّ هَذَا الْبَلَدَ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ مَجَامِعَ لِلْكُفْرِ , وَلَوْ عَاقَدَهُمْ الْإِمَامُ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ . الثَّانِي : مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً , فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ ; لِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ , وَمَا كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ هَلْ يَجِبُ هَدْمُهُ ؟ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ : وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : لَا يَجِبُ هَدْمُهُ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم فَتَحُوا كَثِيرًا مِنْ الْبِلَادِ عَنْوَةً فَلَمْ يَهْدِمُوا شَيْئًا مِنْ الْكَنَائِسِ . وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا وُجُودُ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً , وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عُمَّالِهِ : أَلَّا يَهْدِمُوا بِيعَةً وَلَا كَنِيسَةً وَلَا بَيْتَ نَارٍ . وَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : يَجِبُ هَدْمُهُ , فَلَا يَقَرُّونَ عَلَى كَنِيسَةٍ كَانَتْ فِيهِ ; لِأَنَّهَا بِلَادٌ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ , فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فِيهَا بِيعَةٌ , كَالْبِلَادِ الَّتِي اخْتَطَّهَا الْمُسْلِمُونَ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهَا لَا تُهْدَمُ , وَلَكِنْ تَبْقَى بِأَيْدِيهِمْ مَسَاكِنَ , وَيُمْنَعُونَ مِنْ اتِّخَاذِهَا لِلْعِبَادَةِ . الثَّالِثُ : مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا , فَإِنْ صَالَحَهُمْ الْإِمَامُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ وَالْخَرَاجَ لَنَا , فَلَهُمْ إحْدَاثُ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِيهَا مِنْ الْكَنَائِسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ وَالدَّارَ لَهُمْ , فَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا . وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : الْمَنْعُ ; لِأَنَّ الْبَلَدَ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ . وَإِنْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لَنَا , وَيُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ , فَالْحُكْمُ فِي الْكَنَائِسِ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ , وَالْأَوْلَى أَلَّا يُصَالِحَهُمْ إلَّا عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ صُلْحُ عُمَرَ رضي الله عنه مِنْ عَدَمِ إحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْهَا . وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا , لَا يَجُوزُ الْإِحْدَاثُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ : ( الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) , وَيَجُوزُ فِي بَلَدٍ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلْقَدِيمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ , وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمَنْعُ مِنْ إبْقَائِهَا كَنَائِسَ . ب - إجْرَاءُ عِبَادَاتِهِمْ : 25 - الْأَصْلُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ تَرْكُهُمْ وَمَا يَدِينُونَ , فَيَقَرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ وَعَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ الَّتِي يَعْتَبِرُونَهَا مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ , كَضَرْبِ النَّاقُوسِ خَفِيفًا فِي دَاخِلِ مَعَابِدِهِمْ , وَقِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِيمَا بَيْنَهُمْ , وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي الَّتِي يَعْتَقِدُونَ بِجَوَازِهَا , كَشُرْبِ الْخَمْرِ , وَاِتِّخَاذِ الْخَنَازِيرِ وَبَيْعِهَا , أَوْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ , وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ , أَوْ إذَا انْفَرَدُوا بِقَرْيَةٍ .(1/155)
وَيُشْتَرَطُ فِي جَمِيعِ هَذَا أَلَّا يُظْهِرُوهَا وَلَا يَجْهَرُوا بِهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , وَإِلَّا مُنِعُوا وَعُزِّرُوا , وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ , فَقَدْ جَاءَ فِي شُرُوطِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ : " أَلَّا نَضْرِبَ نَاقُوسًا إلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا فِي جَوْفِ كَنَائِسِنَا , وَلَا نُظْهِرَ عَلَيْهَا صَلِيبًا , وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا الْقِرَاءَةَ فِي كَنَائِسِنَا , وَلَا نُظْهِرُ صَلِيبًا وَلَا كِتَابًا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ " إلَخْ هَذَا , وَقَدْ فَصَّلَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْقُرَى , فَقَالُوا : لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ شَيْءٍ مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالصَّلِيبِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ فِي قَرْيَةٍ , أَوْ مَوْضِعٍ لَيْسَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَوْ كَانَ فِيهِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ , وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ , وَهِيَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ وَالْحُدُودُ ; لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ إظْهَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِكَوْنِهِ إظْهَارَ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فِي مَكَانِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ , فَيَخْتَصُّ الْمَنْعُ بِالْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ , وَهُوَ الْمِصْرُ الْجَامِعُ . وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْقُرَى الْعَامَّةِ وَالْقُرَى الَّتِي يَنْفَرِدُ بِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ , فَلَا يَمْنَعُونَ فِي الْأَخِيرَةِ مِنْ إظْهَارِ عِبَادَاتِهِمْ .
مَا يُنْقَضُ بِهِ عَهْدُ الذِّمَّةِ
42 - يَنْتَهِي عَهْدُ الذِّمَّةِ بِإِسْلَامِ الذِّمِّيِّ ; لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عُقِدَ وَسِيلَةً لِلْإِسْلَامِ , وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ . وَيُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمَّةِ بِلُحُوقِ الذِّمِّيِّ دَارَ الْحَرْبِ , أَوْ بِغَلَبَتِهِمْ عَلَى مَوْضِعٍ يُحَارِبُونَنَا مِنْهُ ; لِأَنَّهُمْ صَارُوا حَرْبًا عَلَيْنَا , فَيَخْلُو عَقْدُ الذِّمَّةِ عَنْ الْفَائِدَةِ , وَهُوَ دَفْعُ شَرِّ الْحَرْبِ . وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ . وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ يُنْتَقَضُ أَيْضًا بِالِامْتِنَاعِ عَنْ الْجِزْيَةِ ; لِمُخَالَفَتِهِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : لَوْ امْتَنَعَ الذِّمِّيُّ عَنْ إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ ; لِأَنَّ الْغَايَةَ الَّتِي يَنْتَهِي بِهَا الْقِتَالُ الْتِزَامُ الْجِزْيَةِ لَا أَدَاؤُهَا , وَالِالْتِزَامُ بَاقٍ , وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِامْتِنَاعُ لِعُذْرِ الْعَجْزِ الْمَالِيِّ , فَلَا يُنْقَضُ الْعَهْدُ بِالشَّكِّ . 43 - وَهُنَاكَ أَسْبَابٌ أُخْرَى اعْتَبَرَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ نَاقِضَةً لِلْعَهْدِ مُطْلَقًا , وَبَعْضُهُمْ بِشُرُوطٍ : فَقَدْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ : يُنْقَضُ عَهْدُ الذِّمَّةِ بِالتَّمَرُّدِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ , بِإِظْهَارِ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهَا , وَبِإِكْرَاهِ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ عَلَى الزِّنَى بِهَا إذَا زَنَى بِهَا بِالْفِعْلِ , وَبِغُرُورِهَا وَتَزَوُّجِهَا وَوَطْئِهَا , وَبِتَطَلُّعِهِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ , وَبِسَبِّ نَبِيٍّ مُجْمَعٍ عَلَى نُبُوَّتِهِ عِنْدَنَا بِمَا لَمْ يُقَرَّ عَلَى كُفْرِهِ بِهِ . فَإِنْ سَبَّ بِمَا أُقِرَّ عَلَى كُفْرِهِ بِهِ لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ , كَمَا إذَا قَالَ : عِيسَى إلَهٌ مَثَلًا , فَإِنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : لَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ بِمُسْلِمَةٍ , أَوْ أَصَابَهَا بِنِكَاحٍ , أَوْ دَلَّ أَهْلَ الْحَرْبِ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ , أَوْ طَعَنَ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ الْقُرْآنِ , أَوَذَكَرَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم بِسُوءٍ , فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ شَرَطَ انْتِقَاضَ الْعَهْدِ بِهَا انْتَقَضَ , وَإِلَّا فَلَا يُنْتَقَضُ ; لِمُخَالَفَتِهِ الشَّرْطَ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ , وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : إنْ فَعَلُوا مَا ذُكِرَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ نُقِضَ الْعَهْدُ مُطْلَقًا , وَلَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ . أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يُنْقَضُ عَهْدُهُ إذَا لَمْ يُعْلِنْ السَّبَّ ; لِأَنَّ هَذَا زِيَادَةُ كُفْرٍ , وَالْعَقْدُ يَبْقَى مَعَ أَصْلِ الْكُفْرِ , فَكَذَا مَعَ الزِّيَادَةِ , وَإِذَا أَعْلَنَ قُتِلَ , وَلَوْ امْرَأَةً , وَلَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ لَا يُنْقَضُ عَهْدُهُ , بَلْ تُطَبَّقُ عَلَيْهِ عُقُوبَةُ الْقَتْلِ وَالزِّنَى ; لِأَنَّ هَذِهِ مَعَاصٍ ارْتَكَبُوهَا , وَهِيَ دُونَ الْكُفْرِ فِي الْقُبْحِ وَالْحُرْمَةِ , وَبَقِيَتْ الذِّمَّةُ مَعَ الْكُفْرِ , فَمَعَ الْمَعْصِيَةِ أَوْلَى .
عَوَارِضُ الْأَهْلِيَّةِ :(1/156)
25 - الْعَوَارِضُ : جَمْعُ عَارِضٍ أَوْ عَارِضَةٍ , وَالْعَارِضُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ : السَّحَابُ , وَمِنْهُ قوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا } . وَأَمَّا الْعَوَارِضُ فِي الِاصْطِلَاحِ فَمَعْنَاهَا : أَحْوَالٌ تَطْرَأُ عَلَى الْإِنْسَانِ بَعْدَ كَمَالِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ , فَتُؤَثِّرُ فِيهَا بِإِزَالَتِهَا أَوْ نُقْصَانِهَا , أَوْ تُغَيِّرُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ عَرَضَتْ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ فِي أَهْلِيَّتِهِ . أَنْوَاعُ عَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ : 26 - عَوَارِضُ الْأَهْلِيَّةِ نَوْعَانِ : سَمَاوِيَّةٌ وَمُكْتَسَبَةٌ : فَالْعَوَارِضُ السَّمَاوِيَّةُ : هِيَ تِلْكَ الْأُمُورُ الَّتِي لَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهَا اخْتِيَارٌ , وَلِهَذَا تُنْسَبُ إلَى السَّمَاءِ ; لِنُزُولِهَا بِالْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ , وَهِيَ : الْجُنُونُ , وَالْعَتَهُ , وَالنِّسْيَانُ , وَالنَّوْمُ , وَالْإِغْمَاءُ , وَالْمَرَضُ , وَالرِّقُّ , وَالْحَيْضُ , وَالنِّفَاسُ , وَالْمَوْتُ . وَالْمُكْتَسَبَةُ : هِيَ تِلْكَ الْأُمُورُ الَّتِي كَسَبَهَا الْعَبْدُ أَوْ تَرَكَ إزَالَتَهَا , وَهِيَ إمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ , فَاَلَّتِي تَكُونُ مِنْهُ : الْجَهْلُ , وَالسُّكْرُ , وَالْهَزْلُ , وَالسَّفَهُ , وَالْإِفْلَاسُ , وَالسَّفَرُ , وَالْخَطَأُ , وَاَلَّذِي يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ الْإِكْرَاهُ . وَفِيمَا يَلِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ إجْمَالًا , مَعَ إحَالَةِ التَّفْصِيلِ إلَى الْعَنَاوِينِ الْخَاصَّةِ بِهَا .
ثَانِيًا : الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ الَّتِي مِنْ غَيْرِ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ :
43 - وَهِيَ عَارِضٌ وَاحِدٌ فَقَطْ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ : وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ : الْحَمْلُ عَلَى الْأَمْرِ قَهْرًا . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى مَا لَا يَرْضَاهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ , وَلَا يَخْتَارُ مُبَاشَرَتَهُ لَوْ تُرِكَ وَنَفْسَهُ . وَهُوَ مُعْدِمٌ لِلرِّضَى لَا لِلِاخْتِيَارِ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ يَصْدُرُ عَنْ الْمُكْرَهِ بِاخْتِيَارِهِ , لَكِنَّهُ قَدْ يَفْسُدُ الِاخْتِيَارُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مُسْتَنِدًا إلَى اخْتِيَارٍ آخَرَ , وَقَدْ لَا يُفْسِدُهُ بِأَنْ يَبْقَى الْفَاعِلُ مُسْتَقِلًّا فِي قَصْدِهِ . هَذَا , وَالْإِكْرَاهُ سَوَاءٌ أَكَانَ مُلْجِئًا أَمْ غَيْرَ مُلْجِئٍ كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ - أَوْ إكْرَاهًا بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ - كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ - لَا يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ لِبَقَاءِ الذِّمَّةِ , وَلَا يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ لِبَقَاءِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ , إلَّا أَنَّهُمْ عَدُّوهُ مِنْ الْعَوَارِضِ ; لِأَنَّهُ يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ , وَيُجْعَلُ الْمُكْرَهُ - بِفَتْحِ الرَّاءِ - فِي بَعْضِ صُوَرِهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ - بِكَسْرِ الرَّاءِ - وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ : ( إكْرَاهٍ ) .
( شَرَائِطُ الْإِيلَاءِ ) :(1/157)
4 - شَرَائِطُ الْإِيلَاءِ كَثِيرَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ , مِنْهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي رُكْنِ الْإِيلَاءِ , وَمِنْهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مَعًا , وَمِنْهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّجُلِ الْمُولِي , وَمِنْهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُدَّةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا . وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا : أ - شَرَائِطُ الرُّكْنِ : يُشْتَرَطُ فِي رُكْنِ الْإِيلَاءِ , وَهُوَ صِيغَتُهُ , ثَلَاثَ شَرَائِطَ : الشَّرِيطَةُ الْأُولَى : 5 - أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ صَالِحًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْإِيلَاءِ , وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ مَادَّةُ اللَّفْظِ دَالَّةً عَلَى مَنْعِ الزَّوْجِ مِنْ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً عُرْفًا , مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ : وَاَللَّهِ لَا أُوَاقِعُك , أَوْ لَا أُجَامِعُك , وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ . وَيَنْقَسِمُ اللَّفْظُ الصَّالِحُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْإِيلَاءِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : الْأَوَّلُ : صَرِيحٌ , وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى الْوَطْءِ لُغَةً وَعُرْفًا . وَحُكْمُ هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ إيلَاءً مَتَى صَدَرَ عَنْ قَصْدٍ إلَى التَّلَفُّظِ بِهِ بِدُونِ تَوَقُّفٍ عَلَى النِّيَّةِ , وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ : إنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْإِيلَاءَ لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ لَا دِيَانَةً وَلَا قَضَاءً ; لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْإِيلَاءِ , فَإِرَادَةُ مَعْنًى آخَرَ خِلَافَهُ تَكُونُ إرَادَةً مَحْضَةً بِدُونِ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا , فَلَا تُعْتَبَرُ . الثَّانِي : مَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ , وَهُوَ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْجِمَاعِ عُرْفًا , كَلَفْظِ الْقُرْبَانِ وَالِاغْتِسَالِ , وَذَلِكَ كَأَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ أَلَّا يَقْرَبَ زَوْجَتَهُ , وَبِهِ وَرَدَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } . وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ أَلَّا يَغْتَسِلَ مِنْهَا ; لِأَنَّ الِاغْتِسَالَ مِنْهَا لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ الْجِمَاعِ عَادَةً . وَحُكْمُ هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ إيلَاءً فِي الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى النِّيَّةِ , وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ : وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك , ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهَذَا اللَّفْظِ الْجِمَاعَ , لَا يُقْبَلُ مِنْهُ هَذَا الِادِّعَاءُ فِي الْقَضَاءِ , وَيُقْبَلُ مِنْهُ دِيَانَةً , أَيْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي وَرَدَ فِي عِبَارَتِهِ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَاهُ , وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ , فَإِذَا نَوَاهُ فَقَدْ نَوَى مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ , فَتَكُونُ إرَادَتُهُ صَحِيحَةً , إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ يُخَالِفُ الْمَعْنَى الظَّاهِرَ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ مَا ادَّعَاهُ قَضَاءً , وَقُبِلَ مِنْهُ دِيَانَةً . الثَّالِثُ : الْكِنَايَةُ , وَهُوَ مَا يَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ وَغَيْرَهُ , وَلَمْ يَغْلِبْ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْجِمَاعِ عُرْفًا , كَمَا إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ : أَلَّا يَمَسَّ جِلْدُهُ جِلْدَ زَوْجَتِهِ , أَوْ أَلَّا يَقْرَبَ فِرَاشَهَا , أَوْ أَلَّا يَجْمَعَ رَأْسَهُ وَرَأْسَهَا وِسَادَةٌ . وَحُكْمُ هَذَا النَّوْعِ : أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ إيلَاءً إلَّا بِالنِّيَّةِ , فَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ : أَرَدْت تَرْكَ الْجِمَاعِ كَانَ مُولِيًا , وَإِنْ قَالَ : لَمْ أُرِدْ تَرْكَ الْجِمَاعِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تُسْتَعْمَلُ فِي الْجِمَاعِ وَفِي غَيْرِهِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا فَلَا يَتَعَيَّنُ الْجِمَاعُ إلَّا بِالنِّيَّةِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ ظَاهِرُ مَا قَالَهُ الْمَالِكِيَّةُ : أَنَّ الْأَلْفَاظَ فِي ذَلِكَ تَنْقَسِمُ إلَى صَرِيحَةٍ وَكِنَايَةٍ فَقَطْ . الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ : 6 - أَنْ تَكُونَ الصِّيغَةُ دَالَّةً عَلَى الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ لِلْحَالِ , وَيَتَحَقَّقُ هَذَا الشَّرْطُ بِخُلُوِّ الصِّيغَةِ مِنْ كُلِّ كَلِمَةٍ تَدُلُّ عَلَى التَّرَدُّدِ أَوْ الشَّكِّ . وَأَلَّا تَكُونَ مُشْتَمِلَةً عَلَى أَدَاةٍ مِنْ الْأَدَوَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّأْخِيرِ وَالتَّسْوِيفِ , كَحَرْفِ السِّينِ أَوْ سَوْفَ ; لِأَنَّ التَّرَدُّدَ كَالرَّفْضِ مِنْ حَيْثُ الْحَكَمُ , وَالتَّأْخِيرُ وَعْدٌ بِإِنْشَاءِ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ , وَلَيْسَ إنْشَاءً لَهُ فِي الْحَالِ , فَالْإِرَادَةُ فِي التَّصَرُّفِ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْحَالِ , وَلَا يُوجَدُ التَّصَرُّفُ إلَّا بِإِرَادَةِ إنْشَائِهِ فِي الْحَالِ . فَمَنْ يَقُولُ لِزَوْجَتِهِ : وَاَللَّهِ سَأَمْنَعُ نَفْسِي مِنْ مُوَاقَعَتِك , أَوْ سَوْفَ أَمْنَعُ نَفْسِي مِنْ مُعَاشَرَتِك , لَا يَكُونُ مُولِيًا لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ مَنْعِ نَفْسِهِ مِنْ الْمُوَاقَعَةِ فِي الْحَالِ , وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَيَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ . هَذَا , وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ لَهُ هُنَا أَنَّ اشْتِرَاطَ الْجَزْمِ فِي الْإِرَادَةِ لِلْحَالِ لَا يُنَافِي جَوَازَ أَنْ تَكُونَ الصِّيغَةُ مُعَلَّقَةً عَلَى حُصُولِ أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ,(1/158)
أَوْ مُضَافَةً إلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ , وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ فِي الْإِيلَاءِ الْمُعَلَّقِ وَالْمُضَافِ مَقْطُوعٌ بِهَا , لَا تَرَدُّدَ فِيهَا , غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْإِيلَاءَ الْمُعَلَّقَ لَمْ يَحْصُلْ الْجَزْمُ بِهِ مِنْ قِبَلِ الْمُولِي فِي الْحَالِ , بَلْ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ , وَالْإِيلَاءُ الْمُضَافُ مَجْزُومٌ بِهِ فِي الْحَالِ , غَيْرَ أَنَّ ابْتِدَاءَ حُكْمِهِ مُؤَخَّرٌ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ , وَأَنَّ التَّعْلِيقَ وَالْإِضَافَةَ قَدْ صَدَرَا بِإِرَادَةٍ جَازِمَةٍ فِي الْحَالِ . الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ : صُدُورُ التَّعْبِيرِ عَنْ قَصْدٍ : 7 - يَتَحَقَّقُ هَذَا الشَّرْطُ بِإِرَادَةِ الزَّوْجِ النُّطْقَ بِالْعِبَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِيلَاءِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا , فَإِذَا اجْتَمَعَ مَعَ هَذِهِ الْإِرَادَةِ رَغْبَةٌ فِي الْإِيلَاءِ وَارْتِيَاحٌ إلَيْهِ كَانَ الْإِيلَاءُ صَادِرًا عَنْ رِضًى وَاخْتِيَارٍ صَحِيحٍ , وَإِنْ وُجِدَتْ الْإِرَادَةُ فَقَطْ , وَانْتَفَتْ الرَّغْبَةُ فِي الْإِيلَاءِ وَالِارْتِيَاحِ إلَيْهِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الرِّضَى , وَذَلِكَ كَأَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُكْرَهًا عَلَى الْإِيلَاءِ مِنْ زَوْجَتِهِ بِتَهْدِيدِهِ بِالْقَتْلِ أَوْ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ أَوْ الْحَبْسِ الْمَدِيدِ , فَيَصْدُرُ عَنْهُ الْإِيلَاءُ خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ مَا هَدَّدَ بِهِ لَوْ امْتَنَعَ , فَإِنَّ صُدُورَ الصِّيغَةِ مِنْ الزَّوْجِ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَكُونُ عَنْ قَصْدٍ وَإِرَادَةٍ , لَكِنْ لَيْسَ عَنْ رِضًى وَاخْتِيَارٍ صَحِيحٍ . وَالْإِيلَاءُ فِي هَذِهِ الْحَالِ - حَالِ الْإِكْرَاهِ - غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } , وَإِلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إغْلَاقٍ } وَالْإِغْلَاقُ : الْإِكْرَاهُ ; لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يُغْلَقُ عَلَيْهِ أَمْرُهُ , وَيُقْفَلُ عَلَيْهِ رَأْيُهُ وَقَصْدُهُ , وَإِلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ يُحْمَلُ عَلَى النُّطْقِ بِالْعِبَارَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ , كَنُطْقِهِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهَا . أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِيلَاءُ الْمُكْرَهِ مُعْتَبَرٌ , وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ الَّتِي سَيَأْتِي بَيَانُهَا ; لِأَنَّ الْإِيلَاءَ عِنْدَهُمْ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ , نَصُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ , وَأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ , وَطَلَاقٌ بِاعْتِبَارِ الْمَالِ , فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِ مَا يُقَرَّرُ فِي بَابَيْ الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ . وَقَدْ اسْتَنَدُوا فِي ذَلِكَ إلَى قِيَاسِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْهَازِلِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَصْدُرُ عَنْهُ صِيغَةُ التَّصَرُّفِ عَنْ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ , لَكِنَّهُ لَا يُرِيدُ حُكْمَهَا , وَطَلَاقُ الْهَازِلِ وَيَمِينُهُ مُعْتَبَرَانِ , فَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ .(1/159)
9 - وَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ الْإِيلَاءِ , فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ الْإِيلَاءُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَصْلًا - وَهُوَ الْمُخْطِئُ - فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَدَمُ اعْتِبَارِ إيلَاءِ الْمُخْطِئِ ; لِأَنَّ التَّصَرُّفَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا قَصَدَ اللَّفْظَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وَأُرِيدَ حُكْمُهُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ , أَوْ قَصَدَ اللَّفْظَ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ حُكْمَهُ , وَالْمُخْطِئُ . لَمْ يَقْصِدْ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الْإِيلَاءِ وَلَا حُكْمَهُ , فَلَا يَكُونُ الْإِيلَاءُ الصَّادِرُ مِنْهُ مُعْتَبَرًا . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُخْطِئِ إلَى أَنَّ إيلَاءَهُ لَا يُعْتَبَرُ دِيَانَةً , وَيُعْتَبَرُ قَضَاءً . وَمَعْنَى اعْتِبَارِهِ فِي الْقَضَاءِ دُونَ الدِّيَانَةِ : أَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْإِيلَاءِ إلَّا الزَّوْجُ , كَانَ لَهُ أَنْ يُعَاشِرَ زَوْجَتَهُ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ , وَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ , وَإِذَا سَأَلَ فَقِيهًا عَمَّا صَدَرَ مِنْهُ جَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَهُ بِأَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ , مَتَى عَلِمَ صِدْقَهُ فِيمَا يَقُولُ . فَإِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ وَرُفِعَ الْأَمْرُ إلَى الْقَاضِي حَكَمَ بِلُزُومِ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ إذَا اتَّصَلَ بِزَوْجَتِهِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ , وَبِوُقُوعِ الطَّلَاقِ إذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ بِدُونِ مُعَاشَرَةٍ , كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ ; لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَبْنِي أَحْكَامَهُ عَلَى الظَّاهِرِ , وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ . وَلَوْ قَبِلَ فِي الْقَضَاءِ دَعْوَى أَنَّ مَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا , وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ شَيْءٌ آخَرُ لَا نَفْتَحُ الْبَابَ أَمَامَ الْمُحْتَالِينَ الَّذِينَ يَقْصِدُونَ النُّطْقَ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِيلَاءِ , ثُمَّ يَدَّعُونَ أَنَّهُ سَبْقُ لِسَانٍ . وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ - كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي الطَّلَاقِ - أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَقْصِدْ النُّطْقَ بِصِيغَةِ الْإِيلَاءِ , بَلْ قَصَدَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ الْإِيلَاءِ , فَزَلَّ لِسَانُهُ , وَتَكَلَّمَ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِيلَاءِ لَا يَكُونُ إيلَاءً فِي الْقَضَاءِ , كَمَا لَا يَكُونُ إيلَاءً فِي الدِّيَانَةِ وَالْفَتْوَى . وَيَتَّضِحُ مِمَّا تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَطَأِ : وَالْهَزْلِ وَالْإِكْرَاهِ , وَهُوَ أَنَّهُ فِي الْخَطَأِ لَا تَكُونُ الْعِبَارَةُ الَّتِي نَطَقَ بِهَا الزَّوْجُ مَقْصُودَةً أَصْلًا , بَلْ الْمَقْصُودُ عِبَارَةٌ أُخْرَى , وَصَدَرَتْ هَذِهِ بَدَلًا عَنْهَا . وَفِي الْهَزْلِ : تَكُونُ الْعِبَارَةُ مَقْصُودَةً ; لِأَنَّهَا بِرِضَى الزَّوْجِ وَاخْتِيَارِهِ , وَلَكِنْ حُكْمُهَا لَا يَكُونُ مَقْصُودًا ; لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يُرِيدُ هَذَا الْحُكْمَ , بَلْ يُرِيدُ شَيْئًا آخَرَ هُوَ اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ . وَفِي الْإِكْرَاهِ : تَكُونُ الْعِبَارَةُ صَادِرَةً عَنْ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ , وَلَكِنَّهُ اخْتِيَارٌ غَيْرُ سَلِيمٍ ; لِوُجُودِ الْإِكْرَاهِ , وَهُوَ يُؤَثِّرُ فِي الْإِرَادَةِ , وَيَجْعَلُهَا لَا تَخْتَارُ مَا تَرْغَبُ فِيهِ وَتَرْتَاحُ إلَيْهِ , بَلْ تَخْتَارُ مَا يَدْفَعُ الْأَذَى وَالضَّرَرَ .
ج - مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُولِي :(1/160)
13 - يُشْتَرَطُ فِي الرَّجُلِ لِكَيْ يَكُونَ إيلَاؤُهُ صَحِيحًا مَا يَأْتِي : أَوَّلًا : الْبُلُوغُ , بِظُهُورِ الْعَلَامَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ أَوْ بِالسِّنِّ , فَإِيلَاءُ الصَّبِيِّ لَا يَنْعَقِدُ ( ر : مُصْطَلَحُ : بُلُوغٍ ) . ثَانِيًا : الْعَقْلُ , فَلَا يَصِحُّ الْإِيلَاءُ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ , وَلَا مِنْ الْمَعْتُوهِ ; لِأَنَّ الْمَعْتُوهَ قَدْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ إدْرَاكٌ وَلَا تَمْيِيزٌ فَيَكُونُ كَالْمَجْنُونِ , وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ إدْرَاكٌ وَتَمْيِيزٌ وَلَكِنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى دَرَجَةِ الْإِدْرَاكِ عِنْدَ الرَّاشِدِينَ الْعَادِيِّينَ كَالصَّبِيِّ الْمُمَيَّزِ , وَالصَّبِيُّ الْمُمَيَّزُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِيلَاءُ , فَكَذَلِكَ الْمَعْتُوهُ . وَمِثْلُ الْمَجْنُونِ فِي الْحُكْمِ الْأَشْخَاصُ التَّالِي ذِكْرُهُمْ : ( 1 ) الْمَدْهُوشُ , وَهُوَ الَّذِي اعْتَرَتْهُ حَالَةُ انْفِعَالٍ لَا يَدْرِي فِيهَا مَا يَقُولُ أَوْ يَفْعَلُ , أَوْ يَصِلُ بِهِ الِانْفِعَالُ إلَى دَرَجَةٍ يَغْلِبُ مَعَهَا الْخَلَلُ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ . فَإِذَا صَدَرَ الْإِيلَاءُ مِنْ الزَّوْجِ , وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يُعْتَبَرُ , وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُهُ وَيُرِيدُهُ ; لِأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ وَهَذِهِ الْإِرَادَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَيْنِ ; لِعَدَمِ حُصُولِهِمَا عَنْ إدْرَاكٍ صَحِيحٍ , كَمَا لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ . ( 2 ) الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمُ , فَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الْمَجْنُونِ , وَمِثْلُهُ النَّائِمُ ; لِأَنَّهُ لَا إدْرَاكَ عِنْدَهُ وَلَا وَعْيَ , فَلَا يُعْتَدُّ بِالْإِيلَاءِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهُ كَمَا لَا يُعْتَدُّ بِطَلَاقِهِ . ( 3 ) السَّكْرَانُ , وَهُوَ الَّذِي صَارَ عَقْلُهُ مَغْلُوبًا مِنْ تَأْثِيرِ الْمُسْكِرِ , حَتَّى صَارَ يَهْذِي وَيَخْلِطُ فِي كَلَامِهِ , وَلَا يَعِي بَعْدَ إفَاقَتِهِ مَا كَانَ مِنْهُ فِي حَالِ سُكْرِهِ , وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إيلَاءَ السَّكْرَانِ لَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ سُكْرُهُ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ , كَمَا لَوْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ لِلضَّرُورَةِ , أَوْ تَحْتَ ضَغْطِ الْإِكْرَاهِ ; لِأَنَّ السَّكْرَانَ لَا وَعْيَ عِنْدَهُ وَلَا إدْرَاكَ كَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ , بَلْ أَشَدُّ حَالًا مِنْ النَّائِمِ , إذْ النَّائِمُ يَنْتَبِهُ بِالتَّنْبِيهِ , أَمَّا السَّكْرَانُ فَلَا يَنْتَبِهُ إلَّا بَعْدَ الْإِفَاقَةِ مِنْ السُّكْرِ , فَإِذَا لَمْ يُعْتَبَرْ الْإِيلَاءُ الصَّادِرُ مِنْ النَّائِمِ , فَلَا يُعْتَبَرُ الْإِيلَاءُ الصَّادِرُ مِنْ السَّكْرَانِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى . وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا كَانَ السُّكْرُ بِطَرِيقٍ مُحَرَّمٍ , وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْرَبَ الْمُسْكِرَ بِاخْتِيَارِهِ , وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْكِرٌ , مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ حَتَّى يَسْكَرَ , فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُعْتَبَرُ إيلَاؤُهُ , وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ لَمَّا تَنَاوَلَ الْمُحَرَّمَ بِاخْتِيَارِهِ يَكُونُ قَدْ تَسَبَّبَ فِي زَوَالِ عَقْلِهِ , فَيُجْعَلُ مَوْجُودًا عُقُوبَةً لَهُ وَزَجْرًا عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يُعْتَبَرُ إيلَاؤُهُ , وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ وَالْكَرْخِيُّ , وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ , وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ . وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ : أَنَّ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ تَعْتَمِدُ عَلَى الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ الصَّحِيحَةِ , وَالسَّكْرَانُ قَدْ غَلَبَ السُّكْرُ عَلَى عَقْلِهِ , فَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ قَصْدٌ وَلَا إرَادَةٌ صَحِيحَةٌ , فَلَا يُعْتَدُّ بِالْعِبَارَةِ الصَّادِرَةِ مِنْهُ , كَمَا لَا يُعْتَدُّ بِالْعِبَارَةِ الصَّادِرَةِ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ وَالنَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ . وَالشَّارِعُ لَمْ يَتْرُكْ السَّكْرَانَ بِدُونِ عُقُوبَةٍ عَلَى سُكْرِهِ , حَتَّى نَحْتَاجَ إلَى عُقُوبَةٍ أُخْرَى نُنْزِلُهَا بِهِ , خُصُوصًا إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْعُقُوبَةُ الْأُخْرَى لَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْجَانِي , بَلْ تَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ . وَأَسَاسُ هَذَا الِاخْتِلَافِ هُوَ الِاخْتِلَافُ فِي اعْتِبَارِ طَلَاقِهِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ : فَمَنْ قَالَ بِاعْتِبَارِ طَلَاقِهِ قَالَ بِاعْتِبَارِ إيلَائِهِ , وَمَنْ قَالَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ طَلَاقِهِ قَالَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ إيلَائِهِ ; لِأَنَّ الْإِيلَاءَ كَطَلَاقٍ مُعَلَّقٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ , وَسَبَبٌ لِلطَّلَاقِ عِنْدَ آخَرِينَ , فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُهُ .
( 2 ) لَوْ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا :
أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ , أَوْ حَرَّمْتُك عَلَى نَفْسِي , حَنِثَتْ بِمُطَاوَعَتِهِ فِي الْجِمَاعِ , وَحَنِثَتْ أَيْضًا بِإِكْرَاهِهِ إيَّاهَا عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحِنْثَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الِاخْتِيَارُ .
الطَّوَاعِيَةُ وَالْعَمْدُ فِي الْحَالِفِ :(1/161)
54 - لَا تُشْتَرَطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الطَّوَاعِيَةُ - أَيْ الِاخْتِيَارُ - فِي الْحَالِفِ , وَلَا الْعَمْدُ - أَيْ الْقَصْدُ - فَتَصِحُّ عِنْدَهُمْ يَمِينُ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئِ , وَهُوَ مَنْ أَرَادَ غَيْرَ الْحَلِفِ فَسَبَقَ لِسَانُهُ إلَى الْحَلِفِ , كَأَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ : اسْقِنِي الْمَاءَ , فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ الْمَاءَ ; لِأَنَّهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الْإِكْرَاهُ وَالْخَطَأُ , كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : تُشْتَرَطُ الطَّوَاعِيَةُ وَالْعَمْدُ , فَلَا تَنْعَقِدُ يَمِينُ الْمُكْرَهِ وَلَا الْمُخْطِئُ , غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَقُولُونَ فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْيَمِينِ : إذَا نَوَى الْحَلِفَ صَحَّتْ يَمِينُهُ . لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُلْغِي اللَّفْظَ , وَإِنَّمَا يَصِيرُ بِهِ الصَّرِيحُ كِنَايَةً , وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ , فَإِنَّ إلْغَاءَ كَلَامِ الْمُكْرَهِ لَا وَجْهَ لَهُ , إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ الْأَذَى عَنْ نَفْسِهِ , وَلَمْ يَقْصِدْ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي مَعْنَاهُ , فَإِذَا قَصَدَ اسْتِعْمَالَهُ فِي مَعْنَاهُ كَانَ هَذَا أَمْرًا زَائِدًا لَا تَدْعُو إلَيْهِ الضَّرُورَةُ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا : لَا يَلْزَمُ الْمُكْرَهَ التَّوْرِيَةُ وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا . وَالتَّوْرِيَةُ هِيَ : أَنْ يُطْلِقَ الْإِنْسَانُ لَفْظًا هُوَ ظَاهِرٌ فِي مَعْنًى وَيُرِيدُ بِهِ مَعْنًى آخَرَ يَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ اللَّفْظُ , وَلَكِنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِهِ . عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْجِدُّ فِي الْحَالِفِ : 55 - الْجِدُّ - بِكَسْرِ الْجِيمِ - فِي التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ مَعْنَاهُ : أَنْ يَنْطِقَ الْإِنْسَانُ بِاللَّفْظِ رَاضِيًا بِأَثَرِهِ , سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْتَحْضِرًا لِهَذَا الرِّضَى أَمْ غَافِلًا عَنْهُ , فَمَنْ نَطَقَ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ نَاوِيًا مَعْنَاهُ , أَوْ غَافِلًا عَنْ هَذِهِ النِّيَّةِ , مُرِيدًا أَثَرَهُ أَوْ غَافِلًا عَنْ هَذِهِ الْإِرَادَةِ يُقَالُ لَهُ جَادٌّ , فَإِنْ أَرَادَ تَجْرِيدَ اللَّفْظِ عَنْ أَثَرِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَا إكْرَاهٍ , فَنَطَقَ بِهِ لَعِبًا أَوْ مِزَاحًا كَانَ هَازِلًا , وَالْهَزْلُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ , فَمَنْ حَلَفَ بِصِيغَةٍ صَرِيحَةٍ لَاعِبًا أَوْ مَازِحًا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ , وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ : النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ } وَيُقَاسُ عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ , وَمِنْهَا صِيغَةُ الْيَمِينِ الصَّرِيحَةِ , وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْهَازِلَ لَا نِيَّةَ لَهُ . قَصْدُ الْمَعْنَى وَالْعِلْمِ بِهِ : 56 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْأَلْفَاظَ الصَّرِيحَةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا : الْعِلْمُ بِالْمَعْنَى , وَالْكِنَايَةُ يُشْتَرَطُ فِيهَا : قَصْدُ الْمَعْنَى , ذَكَرُوا هَذَا فِي الطَّلَاقِ وَلَيْسَ خَاصًّا بِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ , فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْيَمِينِ إذَا كَانَتْ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ : أَنْ يَعْلَمَ الْمُتَكَلِّمُ بِمَعْنَاهَا , فَلَوْ حَلَفَ أَعْجَمِيٌّ بِلَفْظٍ عَرَبِيٍّ صَرِيحٍ كَوَاللَّهِ لَأَصُومَنَّ غَدًا , بِنَاءً عَلَى تَلْقِينِ إنْسَانٍ لَهُ , مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ مَعْنَاهُ لَمْ يَنْعَقِدْ . وَلَوْ قَالَ إنْسَانٌ : أَشْهَدُ بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا لَمْ يَنْعَقِدْ إلَّا إذَا قَصَدَ مَعْنَى الْيَمِينِ ; لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا سَبَقَ . وَاشْتِرَاطُ النِّيَّةِ فِي الْكِنَايَةِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَحَدٌ . وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْمَعْنَى فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي الطَّلَاقِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَضَاءِ , وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَهُ فِي الْيَمِينِ الصَّرِيحَةِ دِيَانَةً , لِأَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى .
التَّرْخِيصُ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ لِلضَّرُورَةِ :(1/162)
110 - إنَّ حُرْمَةَ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ هِيَ الْأَصْلُ , فَإِذَا عَرَضَ مَا يُخْرِجُهَا عَنْ الْحُرْمَةِ لَمْ تَكُنْ حَرَامًا , وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا . ( أَوَّلًا ) قوله تعالى : { مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . فَإِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ يُبِيحُ كَلِمَةَ الْكُفْرِ فَإِبَاحَتُهُ لِلْيَمِينِ الْغَمُوسِ أَوْلَى . ( ثَانِيًا ) آيَاتُ الِاضْطِرَارِ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَمَا شَاكَلَهَا , كَقَوْلِ تَعَالَى : { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . فَإِذَا أَبَاحَتْ الضَّرُورَةُ تَنَاوُلَ الْمُحَرَّمَاتِ أَبَاحَتْ النُّطْقَ بِمَا هُوَ مُحَرَّمٌ . 111 - وَإِلَيْك نُصُوصَ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ فِي بَيَانِ مَا تَخْرُجُ بِهِ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ عَنْ الْحُرْمَةِ . ( أ ) قَالَ الدَّرْدِيرُ فِي أَقْرَبِ الْمَسَالِكِ وَشَرْحِهِ , وَالصَّاوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ مَا خُلَاصَتُهُ : لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ وَلَوْ تَرَكَ التَّوْرِيَةَ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِهَا , وَلَا عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى فِعْلِ مَا عَلَّقَ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ . وَنُدِبَ أَوْ وَجَبَ الْحَلِفُ لِيَسْلَمَ الْغَيْرُ مِنْ الْقَتْلِ بِحَلِفِهِ وَإِنْ حَنِثَ هُوَ , وَذَلِكَ فِيمَا إذَا قَالَ ظَالِمٌ : إنْ لَمْ تُطَلِّقْ زَوْجَتَك , أَوْ إنْ لَمْ تَحْلِفْ بِالطَّلَاقِ قَتَلْت فُلَانًا , قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : إنْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَرَجٌ , أَيْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ وَلَا ضَمَانَ , وَمِثْلُ الطَّلَاقِ : النِّكَاحُ وَالْإِقْرَارُ وَالْيَمِينُ . ( ب ) قَالَ النَّوَوِيُّ : الْكَذِبُ وَاجِبٌ إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ وَاجِبًا , فَإِذَا اخْتَفَى مُسْلِمٌ مِنْ ظَالِمٍ , وَسَأَلَ عَنْهُ وَجَبَ الْكَذِبُ بِإِخْفَائِهِ , وَكَذَا لَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ وَدِيعَةٌ , وَسَأَلَ عَنْهَا ظَالِمٌ يُرِيدُ أَخْذَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ بِإِخْفَائِهَا , حَتَّى لَوْ أَخْبَرَهُ بِوَدِيعَةٍ عِنْدَهُ فَأَخَذَهَا الظَّالِمُ قَهْرًا وَجَبَ ضَمَانُهَا عَلَى الْمُودِعِ الْمُخْبِرِ , وَلَوْ اسْتَحْلَفَهُ عَلَيْهَا لَزِمَهُ أَنْ يَحْلِفَ , وَيُوَرِّيَ فِي يَمِينِهِ , فَإِنْ حَلَفَ وَلَمْ يُوَرِّ حَنِثَ عَلَى الْأَصْلِ وَقِيلَ : لَا يَحْنَثُ . ( ج ) وَقَالَ مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ قُدَامَةَ : مِنْ الْأَيْمَانِ مَا هِيَ وَاجِبَةٌ , وَهِيَ الَّتِي يُنَجِّي بِهَا إنْسَانًا مَعْصُومًا مِنْ هَلَكَةٍ , كَمَا رُوِيَ عَنْ سُوَيْد بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ { : خَرَجْنَا نُرِيدُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَنَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ , فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ , فَتَحَرَّجَ الْقَوْمُ أَنْ يَحْلِفُوا , فَحَلَفْت أَنَا : أَنَّهُ أَخِي , فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَدَقْت , الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ } فَهَذَا وَمِثْلُهُ وَاجِبٌ ; لِأَنَّ إنْجَاءَ الْمَعْصُومِ وَاجِبٌ , وَقَدْ تَعَيَّنَ فِي الْيَمِينِ فَيَجِبُ , وَكَذَلِكَ إنْجَاءُ نَفْسِهِ , مِثْلُ : أَنْ تَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ أَيْمَانُ الْقَسَامَةِ فِي دَعْوَى الْقَتْلِ عَلَيْهِ وَهُوَ بَرِيءٌ
الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ مَعْنَاهُ وَمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ :(1/163)
123 - أَمَّا مَعْنَاهُ فَهُوَ : مُخَالَفَةُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ , وَذَلِكَ بِثُبُوتِ مَا حَلَفَ عَلَى عَدَمِهِ , أَوْ عَدَمِ مَا حَلَفَ عَلَى ثُبُوتِهِ . وَأَمَّا مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ , وَإِلَيْك الْبَيَانُ . الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ إمَّا مَاضٍ أَوْ حَاضِرٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ . 124 - أَمَّا الْمَاضِي : فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ الْيَمِينَ عَلَيْهِ مَعْقُودَةً أَصْلًا , فَلَا حِنْثَ فِيهَا بِالْكَذِبِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً . وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فَيَعْتَبِرُونَ الْيَمِينَ عَلَيْهِ مَعْقُودَةً إذَا كَانَ الْحَالِفُ كَاذِبًا عَمْدًا , وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْحِنْثُ مُقَارِنًا لِلِانْعِقَادِ , وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ مِنْ حِينِ تَمَامِ الْإِتْيَانِ بِهَا . 125 - وَأَمَّا الْحَاضِرُ : فَهُوَ كَالْمَاضِي , إلَّا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ مُتَّفِقُونَ مَعَ الْفَرِيقِ الثَّانِي الْقَائِلِ بِانْعِقَادِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ الْحَالِفُ كَاذِبًا عَمْدًا , ثُمَّ إنَّهُمْ تَوَسَّعُوا فَضَمُّوا إلَى الْكَذِبِ الْعَمْدِ مَا تَرَدَّدَ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُ , بِأَنْ حَلَفَ عَلَى مَا يَظُنُّهُ ظَنًّا ضَعِيفًا , أَوْ يَشُكُّ فِيهِ , أَوْ يَظُنُّ نَقِيضَهُ ظَنًّا ضَعِيفًا , وَسَبَقَ ذَلِكَ فِي تَعْرِيفِ الْغَمُوسِ وَحُكْمِهَا . 126 - وَأَمَّا الْمُسْتَقْبَلُ : فَالْيَمِينُ عَلَيْهِ إنْ وُجِدَتْ فِيهَا شَرَائِطُ الِانْعِقَادِ , فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ , وَكُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا مُطْلَقٌ وَإِمَّا مُقَيَّدٌ بِوَقْتٍ . أَمَّا الْيَمِينُ عَلَى النَّفْيِ الْمُطْلَقِ : فَالْحِنْثُ فِيهَا يَتَحَقَّقُ بِثُبُوتِ مَا حَلَفَ عَلَى نَفْيِهِ , سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ عَقِبَ الْيَمِينِ أَمْ بَعْدَهُ بِزَمَانٍ قَصِيرٍ أَوْ طَوِيلٍ , وَهَلْ يَمْنَعُ الْحِنْثَ نِسْيَانٌ أَوْ خَطَأٌ فِي الِاعْتِقَادِ , أَوْ خَطَأٌ لِسَانِيٌّ أَوْ جُنُونٌ أَوْ إغْمَاءٌ أَوْ إكْرَاهٌ ؟ وَهَلْ يَحْنَثُ بِالْبَعْضِ إذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ ذَا أَجْزَاءٍ أَوْ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِالْجَمِيعِ ؟ كُلُّ ذَلِكَ مَحَلُّ خِلَافٍ يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي فِي شَرَائِطِ الْحِنْثِ . 127 - وَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى النَّفْيِ الْمُؤَقَّتِ : فَالْحِنْثُ فِيهَا يَتَحَقَّقُ بِحُصُولِ الضِّدِّ فِي الْوَقْتِ , لَا بِحُصُولِهِ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَ تَمَامِهِ . وَفِي النِّسْيَانِ وَنَحْوِهِ الْخِلَافُ الَّذِي سَبَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ . 128 - وَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى الْإِثْبَاتِ الْمُطْلَقِ : فَالْحِنْثُ فِيهَا يَتَحَقَّقُ بِالْيَأْسِ مِنْ الْبِرِّ , إمَّا بِمَوْتِ الْحَالِفِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ مَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ , وَإِمَّا بِفَوْتِ مَحَلِّ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ , كَمَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَلْبَسَنَّ هَذَا الثَّوْبَ , فَأَحْرَقَهُ هُوَ أَوْ غَيْرَهُ . هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ , وَفَصَّلَ غَيْرُهُمْ فِي فَوْتِ الْمَحَلِّ بَيْنَ مَا كَانَ بِاخْتِيَارِ الْحَالِفِ وَمَا كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ , فَمَا كَانَ بِاخْتِيَارِهِ يَحْنَثُ بِهِ , وَمَا كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُعْلَمُ مِنْ شَرَائِطِ الْحِنْثِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الْحِنْثَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ - وَهِيَ الْحَلِفُ عَلَى الْإِثْبَاتِ الْمُطْلَقِ - يَحْصُلُ أَيْضًا بِالْعَزْمِ عَلَى الضِّدِّ , وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْوِيَ عَدَمَ الْإِتْيَانِ بِالْمَحْلُوفِ مَا دَامَ حَيًّا , وَهَذَا الْحِنْثُ مُحَتَّمٌ لَا يَزُولُ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْعَزْمِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْمَوَّازِ وَابْنِ شَاسٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَالْقَرَافِيِّ , وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ وَالدَّرْدِيرِ فِي أَقْرَبِ الْمَسَالِكِ وَاعْتَمَدَهُ الْبُنَانِيُّ , خِلَافًا لِلْقَائِلِينَ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ , حَيْثُ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى الْإِثْبَاتِ الْمُطْلَقِ يَحْنَثُ فِيهِ بِالْعَزْمِ عَلَى الْفَوَاتِ , وَالْحَلِفَ بِالْعِتْقِ وَبِالْقُرْبَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى لَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ بِهَا بِالْعَزْمِ الْمَذْكُورِ إلَّا إذَا اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ , فَإِنْ رَجَعَ عَنْ عَزْمِهِ رَجَعَتْ الْيَمِينُ كَمَا كَانَتْ , وَلَمْ يَحْنَثْ إلَّا بِالْفَوَاتِ . وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ لَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى . 129 - وَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى الْإِثْبَاتِ الْمُؤَقَّتِ : فَالْحِنْثُ فِيهَا يَتَحَقَّقُ بِالْيَأْسِ مِنْ الْبِرِّ فِي الْوَقْتِ , إنْ كَانَ الْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ قَائِمَيْنِ , كَأَنْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَآكُلَنَّ هَذَا الرَّغِيفَ الْيَوْمَ , فَغَرَبَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ حَيٌّ وَالرَّغِيفُ مَوْجُودٌ وَلَمْ يَأْكُلْهُ . وَإِنْ مَاتَ الْحَالِفُ فِي الْوَقْتِ وَلَمْ يَفُتْ مَحَلُّ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ لَمْ يُعْتَبَرْ حَانِثًا بِالْمَوْتِ وَلَا بِمُضِيِّ الْوَقْتِ بَعْدَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَمِيعًا ; لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْحِنْثَ إنَّمَا يَقَعُ فِي آخِرِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ فِي الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ , وَالْحَالِفُ مَيِّتٌ فِي(1/164)
هَذَا الْجُزْءِ الْأَخِيرِ , وَلَا يُوصَفُ الْمَيِّتُ بِالْحِنْثِ , وَيَحْنَثُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ عَلَى تَفْصِيلٍ يُعْلَمُ مِنْ شَرَائِطِ الْحِنْثِ . وَإِنْ فَاتَ مَحَلُّ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ , كَأَنْ أَكَلَ الرَّغِيفَ إنْسَانٌ آخَرُ , وَلَمْ يَمُتْ الْحَالِفُ , لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لِأَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ إمْكَانَ الْبِرِّ , خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ , حَيْثُ قَالَ بِالْحِنْثِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ; لِأَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ . وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي وَقْتِ الْحِنْثِ : فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إلَّا آخِرَ الْوَقْتِ , وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ - أَيْ حَالِ فَوْتِ مَحَلِّ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ - وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الصَّحِيحَةُ عَنْهُ . وَفِي الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى تَفْصِيلٌ بَيْنَ فَوْتِ الْمَحَلِّ بِاخْتِيَارِ الْحَالِفِ , وَفَوْتِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ , وَبَيْنَ حُصُولِ الْفَوْتِ أَوَّلَ الْوَقْتِ , أَوْ بَعْدَ أَوَّلِهِ , مَعَ التَّفْرِيطِ أَوْ عَدَمِهِ , وَكُلُّ ذَا يُعْلَمُ مِنْ الشَّرَائِطِ الْآتِيَةِ . 130 - وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ إلَيْهِ أَنَّ الْمُؤَقَّتَةَ إذَا لَمْ يَبْدَأْ وَقْتُهَا مِنْ حِينِ الْحَلِفِ فَمَاتَ الْحَالِفُ , أَوْ فَاتَ الْمَحَلُّ قَبْلَ بَدْءِ الْوَقْتِ فَلَا حِنْثَ فِي الصُّورَتَيْنِ , وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي الثَّانِيَةِ , فَقَالُوا بِالْحِنْثِ فِيهَا , وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا الْكُوبِ غَدًا , فَمَاتَ هُوَ أَوْ شَرِبَ الْمَاءَ إنْسَانٌ آخَرُ قَبْلَ فَجْرِ الْغَدِ , فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ حَانِثًا فِي الْحَالَيْنِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ . وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهُ أَيْضًا : أَنَّ التَّوْقِيتَ فِي الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ يَشْمَلُ التَّوْقِيتَ نَصًّا , وَالتَّوْقِيتَ دَلَالَةً , كَمَا لَوْ قِيلَ لِإِنْسَانٍ : أَتَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ الْيَوْمَ ؟ فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَأَدْخُلَنَّهَا , أَوْ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُهَا , فَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُؤَقَّتٌ بِالْيَوْمِ دَلَالَةً ; لِوُقُوعِهِ جَوَابًا عَنْ السُّؤَالِ الْمُحْتَوِي عَلَى قَيْدِ التَّوْقِيتِ بِالْيَوْمِ , وَهَذَا مِنْ يَمِينِ الْفَوْرِ , وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا وَالْخِلَافُ فِيهَا .
شَرَائِطُ الْحِنْثِ :(1/165)
131 - الْجُمْهُورُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحِنْثَ هُوَ السَّبَبُ الْوَحِيدُ , أَوْ ثَانِي السَّبَبَيْنِ لِلْكَفَّارَةِ , أَوْ شَرِيطَةٌ لَهَا , لَمْ يُصَرِّحُوا بِشَرَائِطَ لِلْحِنْثِ , وَإِنَّمَا ذَكَرُوا أُمُورًا يَخْتَلِفُ الرَّأْيُ فِيهَا , إذَا كَانَ الْحِنْثُ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا , وَمِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ : الْعَمْدُ وَالطَّوَاعِيَةُ وَالتَّذَكُّرُ وَالْعَقْلُ . وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَا يَشْتَرِطُونَ فِي الْحَلِفِ الطَّوَاعِيَةَ وَلَا الْعَمْدَ , وَهُمْ لَا يَشْتَرِطُونَهُمَا فِي الْحِنْثِ أَيْضًا , وَكَذَلِكَ لَا يَشْتَرِطُونَ فِيهِ التَّذَكُّرَ وَلَا الْعَقْلَ , فَمَنْ حَلَفَ أَوْ حَنِثَ مُخْطِئًا أَوْ مُكْرَهًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ . وَكَذَا مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَفْعَلَ شَيْئًا فَفَعَلَهُ وَهُوَ ذَاهِلٌ أَوْ سَاهٍ أَوْ نَاسٍ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ . فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ , بَلْ فَعَلَهُ بِهِ غَيْرُهُ قَهْرًا عَنْهُ لَمْ يَحْنَثْ , كَمَا لَوْ حَلَفَ أَلَّا يَشْرَبَ هَذَا الْمَاءَ , فَصَبَّهُ إنْسَانٌ فِي حَلْقِهِ قَهْرًا ; لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَ شَارِبًا , فَلَمْ يَفْعَلْ مَا حَلَفَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ . وَمِنْ أَمْثِلَةِ النِّسْيَانِ فِي الْحِنْثِ : مَا لَوْ قَالَ إنْسَانٌ : وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ , ثُمَّ حَلَفَ نَاسِيًا لِهَذِهِ الْيَمِينِ , فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ بِهَذَا الْحَلِفِ الثَّانِي مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ حِنْثًا فِي الْيَمِينِ الْأُولَى , ثُمَّ إذَا حَنِثَ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ تَدَاخُلِ الْكَفَّارَاتِ وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : إنَّ الْيَمِينَ إمَّا يَمِينُ بِرٍّ , نَحْوُ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا , وَإِمَّا يَمِينُ حِنْثٍ , نَحْوُ وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا . 132 - أَمَّا يَمِينُ الْبِرِّ : فَيَحْنَثُ فِيهَا بِفِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ - وَكَذَا بِفِعْلِ بَعْضِهِ إنْ كَانَ ذَا أَجْزَاءٍ - عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا أَوْ خَطَأً قَلْبِيًّا , بِمَعْنَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ غَيْرُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِهَا إذَا لَمْ يُقَيِّدْ يَمِينَهُ بِالْعَمْدِ أَوْ الْعِلْمِ , فَإِنْ قَيَّدَهَا بِالْعَمْدِ , بِأَنْ قَالَ : لَا أَفْعَلُهُ عَمْدًا , لَمْ يَحْنَثْ بِالْخَطَأِ , وَإِنْ قَيَّدَ بِالْعِلْمِ , بِأَنْ قَالَ : لَا أَفْعَلُهُ عَالِمًا , أَوْ لَا أَفْعَلُهُ مَا لَمْ أَنْسَ لَمْ يَحْنَثْ بِالنِّسْيَانِ . وَلَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِ الْبِرِّ بِالْخَطَأِ اللِّسَانِيِّ , كَمَا لَوْ حَلَفَ : لَا يَذْكُرُ فُلَانًا , ثُمَّ سَبَقَ لِسَانُهُ بِذِكْرِ اسْمِهِ , وَكَذَا لَا يَحْنَثُ فِيهَا بِالْإِكْرَاهِ عَلَى فِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ , وَذَلِكَ بِقُيُودٍ سِتَّةٍ :(1/166)
أ - أَلَّا يَعْلَمَ أَنَّهُ يُكْرَهُ عَلَى الْفِعْلِ . ب - أَلَّا يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِإِكْرَاهِهِ لَهُ ج - أَلَّا يَكُونَ الْإِكْرَاهُ شَرْعِيًّا . د - أَلَّا يَفْعَلَ ثَانِيًا طَوْعًا بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ . هـ - أَلَّا يَكُونَ الْحَلِفُ عَلَى شَخْصٍ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ كَذَا , وَالْحَالِفُ هُوَ الْمُكْرَهُ لَهُ عَلَى فِعْلِهِ . و - أَلَّا يَقُولَ فِي يَمِينِهِ : لَا أَفْعَلُهُ طَائِعًا وَلَا مُكْرَهًا . فَإِنْ وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ السِّتَّةِ حَنِثَ بِالْإِكْرَاهِ وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ . 133 - وَأَمَّا يَمِينُ الْحِنْثِ : فَيَحْنَثُ فِيهَا بِالْإِكْرَاهِ عَلَى تَرْكِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ حَتَّى يَفُوتَ , كَمَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ دَارَ زَيْدٍ غَدًا , فَمُنِعَ مِنْ دُخُولِهَا بِالْإِكْرَاهِ حَتَّى غَرَبَتْ شَمْسُ الْغَدِ , فَإِنَّهُ يَحْنَثُ . وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا : أَنَّهُ يَحْنَثُ أَيْضًا بِالتَّرْكِ نَاسِيًا وَمُخْطِئًا , بِأَنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَلِفَ مِنْ الْغَدِ , أَوْ تَذَكَّرَهُ وَدَخَلَ دَارًا أُخْرَى يَعْتَقِدُ أَنَّهَا الدَّارُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا , وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الْحَالُ حَتَّى مَضَى الْغَدُ . وَإِذَا فَاتَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي يَمِينِ الْحِنْثِ بِمَانِعٍ , فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَانِعُ شَرْعِيًّا أَوْ عَادِيًّا أَوْ عَقْلِيًّا . 134 - فَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ شَرْعِيًّا حَنِثَ بِالْفَوَاتِ مُطْلَقًا , سَوَاءٌ أَتَقَدَّمَ الْمَانِعُ عَلَى الْحَلِفِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَمْ تَأَخَّرَ , وَسَوَاءٌ أَفَرَّطَ فِيهِ حَتَّى فَاتَ أَمْ لَا , وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ الْيَمِينُ مُؤَقَّتَةً أَمْ لَا . مِثَالُ ذَلِكَ : مَا لَوْ حَلَفَ أَنْ يُبَاشِرَ زَوْجَتَهُ غَدًا فَطَرَأَ الْحَيْضُ , أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْحَلِفِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ , فَيَحْنَثُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْبَغَ خِلَافًا لِابْنِ الْقَاسِمِ , فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْ بِالْغَدِ لَمْ يَحْنَثْ , بَلْ يَنْتَظِرُ حَتَّى تَطْهُرَ فَيُبَاشِرَهَا . 135 - وَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ عَادِيًّا , فَإِنْ تَقَدَّمَ عَلَى الْيَمِينِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَحَلَفَ لَمْ يَحْنَثْ مُطْلَقًا , أَقَّتَ أَمْ لَا , فَرَّطَ أَمْ لَا , وَإِنْ تَأَخَّرَ حَنِثَ مُطْلَقًا , خِلَافًا لِأَشْهَبَ حَيْثُ قَالَ بِعَدَمِ الْحِنْثِ . مِثَالُ ذَلِكَ : أَنْ يَحْلِفَ لَيَذْبَحَنَّ هَذَا الْكَبْشَ , أَوْ لَيَلْبَسَنَّ هَذَا الثَّوْبَ , أَوْ لَيَأْكُلَنَّ هَذَا الطَّعَامَ , فَسُرِقَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ أَوْ غُصِبَ , أَوْ مُنِعَ الْحَالِفُ مِنْ الْفِعْلِ بِالْإِكْرَاهِ , أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ سُرِقَ قَبْلَ الْيَمِينِ أَوْ غُصِبَ وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَلِفِ . وَمَحَلُّ الْحِنْثِ مِنْ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ وَالْمَانِعِ الْعَادِيِّ , إذَا أَطْلَقَ الْحَالِفُ الْيَمِينَ فَلَمْ يُقَيَّدْ بِإِمْكَانِ الْفِعْلِ وَلَا بِعَدَمِهِ , أَوْ قَيَّدَ بِالْإِطْلَاقِ , كَأَنْ قَالَ : لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَسَكَتَ , أَوْ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا قَدَرْت عَلَيْهِ أَمْ لَا , فَإِنْ قَيَّدَ بِالْإِمْكَانِ فَلَا حِنْثَ , بِأَنْ قَالَ : لَأَفْعَلَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ , أَوْ مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ . 136 - وَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ عَقْلِيًّا , فَإِنْ تَقَدَّمَ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ مُطْلَقًا كَمَا فِي الْمَانِعِ الْعَادِيِّ , وَإِنْ تَأَخَّرَ فَإِمَّا إنْ تَكُونَ الْيَمِينُ مُؤَقَّتَةً أَوْ غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ . فَإِنْ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً , وَفَاتَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ قَبْلَ ضِيقِ الْوَقْتِ , لَمْ يَحْنَثْ إنْ حَصَلَ الْمَانِعُ عَقِبَ الْيَمِينِ , وَكَذَا إنْ تَأَخَّرَ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ فَرَّطَ , فَإِنْ تَأَخَّرَ مَعَ التَّفْرِيطِ حَنِثَ . مِثَالُ ذَلِكَ : مَا لَوْ حَلَفَ لَيَذْبَحَنَّ هَذَا الْحَمَامَ أَوْ لَيَلْبَسَنَّ هَذَا الثَّوْبَ , فَمَاتَ الْحَمَامُ أَوْ أُحْرِقَ الثَّوْبُ وَكَانَ قَدْ أَطْلَقَ الْيَمِينَ , أَوْ أَقَّتَ بِقَوْلِهِ : هَذَا الْيَوْمَ , أَوْ هَذَا الشَّهْرَ مَثَلًا . وَصُورَةُ تَقَدُّمِ الْمَانِعِ : أَنْ يَكُونَ غَائِبًا عَنْ الْمَنْزِلِ مَثَلًا , فَيَقُولَ : وَاَللَّهِ لَأَذْبَحَنَّ الْحَمَامَ الَّذِي بِالْمَنْزِلِ , أَوْ لَأَلْبَسَنَّ الثَّوْبَ الَّذِي فِي الْخِزَانَةِ , ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ بَعْدَ الْحَلِفِ مَوْتُ الْحَمَامِ أَوْ احْتِرَاقُ الثَّوْبِ قَبْلَ أَنْ يَحْلِفَ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : لَا يَحْنَثُ مَنْ خَالَفَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا أَوْ مَقْهُورًا , وَلَا تَنْحَلُّ الْيَمِينُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ , وَلَا يَحْنَثُ أَيْضًا إنْ تَعَذَّرَ الْبِرُّ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ . وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْجَهْلِ : مَا لَوْ حَلَفَ لَا يُسَلِّمُ عَلَى زَيْدٍ , فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فِي ظُلْمَةٍ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ زَيْدٌ , وَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى بَكْرٍ , فَدَخَلَ دَارًا هُوَ فِيهَا وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ فِيهَا . وَأَمْثِلَةُ النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ ظَاهِرَةٌ . وَمِثَالُ الْقَهْرِ : مَا لَوْ حَلَفَ : لَا يَدْخُلُ دَارَ خَالِدٍ , فَحُمِلَ وَأُدْخِلَ قَهْرًا , وَيُلْحَقُ بِهِ مَنْ حُمِلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَلَمْ يَمْتَنِعْ ;(1/167)
لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى دَاخِلًا , بِخِلَافِ مَنْ حُمِلَ بِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يُسَمَّى دَاخِلًا , كَمَا لَوْ رَكِبَ دَابَّةً وَدَخَلَ بِهَا . وَمِنْ صُوَرِ تَعَذُّرِ الْبِرِّ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ , مَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَآكُلَنَّ هَذَا الطَّعَامَ غَدًا , فَتَلِفَ الطَّعَامُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْحَالِفِ , أَوْ مَاتَ الْحَالِفُ قَبْلَ فَجْرِ الْغَدِ , فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ , بِخِلَافِ مَا لَوْ تَلِفَ بِاخْتِيَارِهِ , فَإِنَّهُ يَحْنَثُ , وَفِي وَقْتِ حِنْثِهِ خِلَافٌ , فَقِيلَ : هُوَ وَقْتُ التَّلَفِ , وَقِيلَ : هُوَ غُرُوبُ شَمْسِ الْغَدِ , وَالرَّاجِحُ أَنَّ الْحِنْثَ يَتَحَقَّقُ بِمُضِيِّ زَمَنِ إمْكَانِ الْأَكْلِ مِنْ فَجْرِ الْغَدِ . وَمِنْ صُوَرِ الْفَوْتِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ : مَا لَوْ تَلِفَ فِي الْغَدِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ , أَوْ مَاتَ فِي الْغَدِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَكْلِهِ . وَقَالُوا أَيْضًا : لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ , أَوْ لَا يَلْبَسُ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ , أَوْ لَيَفْعَلَنَّ ذَلِكَ , تَعَلَّقَ الْحِنْثُ وَالْبِرُّ بِالْمَجْمُوعِ وَلَوْ مُتَفَرِّقًا , وَكَذَا لَوْ عَطَفَ بِالْوَاوِ نَحْوُ : لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا وَعَمْرًا , أَوْ لَا آكُلُ اللَّحْمَ وَالْعِنَبَ , أَوْ لَأُكَلِّمَنَّ زَيْدًا وَعَمْرًا , أَوْ لَآكُلَنَّ اللَّحْمَ وَالْعِنَبَ , فَإِنَّ الْحِنْثَ وَالْبِرَّ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا , فَلَا يَحْنَثُ فِي الْمِثَالَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ , وَلَا يَبَرُّ فِي الْمِثَالَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ إلَّا بِفِعْلِ الْمَجْمُوعِ وَلَوْ مُتَفَرِّقًا . 137 - وَيُسْتَثْنَى فِي حَالَةِ النَّفْيِ مَا لَوْ كَرَّرَ حَرْفَ النَّفْيِ , كَأَنْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا وَلَا عَمْرًا . فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِتَكْلِيمِ أَحَدِهِمَا , وَتَبْقَى الْيَمِينُ , فَيَحْنَثُ حِنْثًا ثَانِيًا بِتَكْلِيمِ الثَّانِي . وَإِنْ قَالَ : لَا أُكَلِّمُ أَحَدَهُمَا أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمَا وَأَطْلَقَ , حَنِثَ بِكَلَامِ وَاحِدٍ وَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ . وَإِنْ قَالَ : لَا آكُلُ هَذِهِ الرُّمَّانَةَ فَأَكَلَهَا إلَّا حَبَّةً لَمْ يَحْنَثْ , أَوْ قَالَ : لَآكُلَنَّ هَذِهِ الرُّمَّانَةَ , فَأَكَلَهَا إلَّا حَبَّةً لَمْ يَبَرَّ . وَخَرَجَ بِالْحَبَّةِ : الْقِشْرُ وَنَحْوُهُ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ مِنْ الرُّمَّانَةِ عَادَةً . وَالْحَنَابِلَةُ يُوَافِقُونَ الشَّافِعِيَّةَ فِي كُلِّ مَا سَبَقَ , مَا عَدَا تَفْوِيتَ الْبِرِّ , فَقَدْ قَالُوا : لَوْ حَلَفَ إنْسَانٌ لَيَشْرَبَنَّ هَذَا الْمَاءَ غَدًا , فَتَلِفَ قَبْلَ الْغَدِ أَوْ فِيهِ حَنِثَ , وَلَا يَحْنَثُ بِجُنُونِهِ أَوْ إكْرَاهِهِ قَبْلَ الْغَدِ مَعَ اسْتِمْرَارِ ذَلِكَ إلَى خُرُوجِ الْغَدِ , وَلَا يَحْنَثُ أَيْضًا بِمَوْتِهِ قَبْلَ الْغَدِ . وَلَوْ حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ هَذَا الْمَاءَ الْيَوْمَ أَوْ أَطْلَقَ , فَتَلِفَ قَبْلَ مُضِيِّ وَقْتٍ يَسَعُ الشُّرْبَ لَمْ يَحْنَثْ , بِخِلَافِ مَا لَوْ تَلِفَ بَعْدَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ , وَقِيلَ : يَحْنَثُ فِي الْحَالَيْنِ .
ثَانِيًا : أَثَرُ الْبُطْلَانِ فِي الْمُعَامَلَاتِ :(1/168)
25 - الْعَقْدُ الْبَاطِلُ فِي اصْطِلَاحِ الْحَنَفِيَّةِ لَا وُجُودَ لَهُ إلَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ , فَلَيْسَ لَهُ وُجُودٌ شَرْعِيٌّ , وَمِنْ ثَمَّ فَهُوَ عَدَمٌ , وَالْعَدَمُ لَا يُنْتِجُ أَثَرًا . وَهُوَ مَنْقُوضٌ مِنْ أَسَاسِهِ , وَلَا يَحْتَاجُ لِحُكْمِ حَاكِمٍ لِنَقْضِهِ . وَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ أَصْلًا فَهُوَ مَعْدُومٌ , وَالْإِجَازَةُ لَا تَلْحَقُ الْمَعْدُومَ ; لِأَنَّهُ مُتَلَاشٍ . وَلَا يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ الْبَاطِلِ مَا يُمْلَكُ بِغَيْرِهِ , وَإِذَا حَدَثَ فِيهِ تَسْلِيمٌ يَجِبُ الرَّدُّ . فَفِي الْبَيْعِ الْبَاطِلِ لَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ بِالْقَبْضِ وَلِذَا يَجِبُ الرَّدُّ . يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبُيُوعَ الْفَاسِدَةَ - وَهِيَ الْبَاطِلَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - إذَا وَقَعَتْ وَلَمْ تَفُتْ , حُكْمُهَا الرَّدُّ , أَيْ أَنْ يَرُدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ , وَيَرُدَّ الْمُشْتَرِي الْمُثَمَّنَ . وَلَا يَمْلِكُ الْمُصَالِحُ مَا صَالَحَ بِهِ فِي الصُّلْحِ الْبَاطِلِ , وَيَرْجِعُ الدَّافِعُ بِمَا دَفَعَ . وَلَا يَمْلِكُ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْهِبَةَ فِي الْهِبَةِ الْبَاطِلَةِ . وَلَا يَمْلِكُ الْمُرْتَهِنُ حَبْسَ الْمَرْهُونِ فِي الرَّهْنِ الْبَاطِلِ . وَلَا يَمْلِكُ الْمُكَاتَبُ حُرِّيَّتَهُ فِي الْكِتَابَةِ الْبَاطِلَةِ . وَفِي الْإِجَارَةِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلْإِجَارَةِ , لَا تُمْلَكُ الْأُجْرَةُ وَيَجِبُ رَدُّهَا ; لِأَنَّ أَخْذَهَا حَرَامٌ , وَتُعْتَبَرُ مِنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ . وَلَا يَمْلِكُ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْبُضْعِ وَالِانْتِفَاعَ بِهِ فِي النِّكَاحِ الْبَاطِلِ . وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ الْعُقُودِ الْبَاطِلَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ , مَعَ تَفْصِيلَاتٍ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا . لَكِنَّ وُجُودَ الْعَقْدِ الْبَاطِلِ كَصُورَةٍ قَدْ يُنْتِجُ أَثَرًا , وَذَلِكَ إذَا حَدَثَ فِيهِ تَسْلِيمٌ وَامْتَنَعَ الرَّدُّ لِلْفَوَاتِ , فَهَلْ يَكُونُ فِيهِ الضَّمَانُ أَوْ لَا يَكُونُ . وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي : الضَّمَانُ : 26 - رَغْمَ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ لَا يُفَرِّقُونَ فِي قَوَاعِدِهِمْ الْعَامَّةِ بَيْنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ إلَّا أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ الْأَحْكَامِ نَجِدُ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا . وَالضَّمَانُ مِمَّا يَفْتَرِقَانِ فِيهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي : فِي قَاعِدَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ اقْتَضَى صَحِيحُهُ الضَّمَانَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ كَالْبَيْعِ فَفَاسِدُهُ كَذَلِكَ يَقْتَضِي الضَّمَانَ , وَإِنْ اقْتَضَى صَحِيحُهُ عَدَمَ الضَّمَانِ كَالْقِرَاضِ فَفَاسِدُهُ كَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الضَّمَانَ . لَكِنَّ عَدَمَ اقْتِضَاءِ الضَّمَانِ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ الْقَبْضُ صَحِيحًا , بِأَنْ كَانَ الْإِذْنُ فِي قَبْضِهِ صَادِرًا مِنْ أَهْلِهِ , وَيَكُونُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ صَحِيحًا , وَحِينَئِذٍ فَلَا ضَمَانَ مَعَ فَسَادِ الْقَبْضِ . أَمَّا إذَا لَمْ يُوجَدْ إذْنٌ أَصْلًا , أَوْ صَدَرَ وَلَمْ يَكُنْ صَحِيحًا , لِكَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ , أَوْ فِي ظِلِّ الْإِكْرَاهِ , فَإِنَّ الْقَبْضَ يَكُونُ بَاطِلًا , وَحِينَئِذٍ يَجِبُ الضَّمَانُ مُطْلَقًا , سَوَاءٌ أَكَانَ صَحِيحُهُ لَا ضَمَانَ فِيهِ , أَمْ كَانَ فِيهِ الضَّمَانُ . جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ : فَاسِدُ كُلِّ عَقْدٍ صَدَرَ مِنْ رَشِيدٍ كَصَحِيحِهِ , فِي الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ ; لِأَنَّ الْعَقْدَ إنْ اقْتَضَى صَحِيحُهُ الضَّمَانَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ كَالْبَيْعِ وَالْإِعَارَةِ فَفَاسِدُهُ أَوْلَى . وَإِنْ اقْتَضَى صَحِيحُهُ عَدَمَ الضَّمَانِ كَالرَّهْنِ , وَالْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ ثَوَابٍ , وَالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ , فَفَاسِدُهُ كَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الضَّمَانَ . وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي حَاشِيَةِ الْجَمَلِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ . 27 - وَاعْتِبَارُ عَدَمِ الضَّمَانِ مَعَ الْبُطْلَانِ فِي عُقُودِ التَّصَرُّفَاتِ وَالْأَمَانَاتِ لِوُجُودِ الْإِذْنِ الصَّادِرِ مِنْ أَهْلِهِ , وَالضَّمَانُ إنْ كَانَ الْإِذْنُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ , هُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَا يُسْتَفَادُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ , مَعَ الِاخْتِلَافِ فِيمَنْ يُعْتَبَرُ أَهْلًا لِلْإِذْنِ , وَمَنْ لَا يُعْتَبَرُ كَالسَّفِيهِ , وَمَعَ الِاخْتِلَافِ أَيْضًا فِي الْعُقُودِ الْمَضْمُونَةِ فِي صَحِيحِهَا , أَوْ غَيْرِ الْمَضْمُونَةِ كَالرَّهْنِ وَالْعَارِيَّةِ . وَيَعْتَبِرُ أَبُو حَنِيفَةَ الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الْبَاطِلِ إذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي أَمَانَةً , وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لَوْ هَلَكَ ; لِأَنَّ الْعَقْدَ إذَا بَطَلَ بَقِيَ مُجَرَّدُ الْقَبْضِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ , وَهُوَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ إلَّا بِالتَّعَدِّي , وَالْقَائِلُونَ بِالضَّمَانِ يُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَدْنَى مِنْ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ . وَيُفَرِّقُ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ بَيْنَ مَا قُبِضَ عَلَى جِهَةِ التَّمَلُّكِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا , وَمَا قُبِضَ عَلَى جِهَةِ الْأَمَانَةِ فَلَا(1/169)
ضَمَانَ فِيهِ . جَاءَ فِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي : كُلُّ مَبِيعٍ فَاسِدٍ قَبَضَهُ الْمُبْتَاعُ قَبْضًا مُسْتَمِرًّا بَعْدَ بَتِّ الْبَيْعِ فَضَمَانُهُ مِنْ الْمُبْتَاعِ مِنْ يَوْمِ قَبْضِهِ ; لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى جِهَةِ التَّمَلُّكِ , لَا عَلَى جِهَةِ الْأَمَانَةِ . وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الشَّرِكَةِ : لَوْ اشْتَرَكَ مَنْ لَا يُعْتَبَرُ إذْنُهُ , كَصَبِيٍّ غَيْرِ مَأْذُونٍ أَوْ سَفِيهٍ , فَلَا ضَمَانَ .
الثَّمَنُ وَأَحْكَامُهُ وَأَحْوَالُهُ أَوَّلًا : تَعْرِيفُ الثَّمَنِ :
48 - الثَّمَنُ هُوَ مَا يَبْذُلُهُ الْمُشْتَرِي مِنْ عِوَضٍ لِلْحُصُولِ عَلَى الْمَبِيعِ , وَالثَّمَنُ أَحَدُ جُزْأَيْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ - وَهُوَ الثَّمَنُ وَالْمُثَمَّنُ - وَهُمَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ عَقْدِ الْبَيْعِ , وَلِذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ هَلَاكَ الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَنْفَسِخُ بِهِ الْبَيْعُ فِي الْجُمْلَةِ . وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ الْبَيْعِ هُوَ الْمَبِيعُ , لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأَعْيَانِ , وَالْأَثْمَانُ وَسِيلَةٌ لِلْمُبَادَلَةِ , وَلِذَا اعْتَبَرُوا التَّقَوُّمَ فِي الثَّمَنِ شَرْطَ صِحَّةٍ , وَهُوَ فِي الْمَبِيعِ شَرْطُ انْعِقَادٍ , وَهِيَ تَفْرِقَةٌ خَاصَّةٌ بِهِمْ دُونَ الْجُمْهُورِ , فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُتَقَوِّمٍ لَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ عِنْدَهُمْ , بَلْ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا , فَإِذَا أُزِيلَ سَبَبُ الْفَسَادِ صَحَّ الْبَيْعُ . كَمَا أَنَّ هَلَاكَ الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَبْطُلُ بِهِ الْبَيْعُ , بَلْ يَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ بَدَلَهُ . أَمَّا هَلَاكُ الْمَبِيعِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ بِهِ الْبَيْعُ . وَالثَّمَنُ غَيْرُ الْقِيمَةِ , لِأَنَّ الْقِيمَةَ هِيَ : مَا يُسَاوِيهِ الشَّيْءُ فِي تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ ( أَهْلِ الْخِبْرَةِ ) , أَمَّا الثَّمَنُ فَهُوَ كُلُّ مَا يَتَرَاضَى عَلَيْهِ الْمُتَعَاقِدَانِ , سَوَاءٌ أَكَانَ أَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ , أَمْ أَقَلَّ مِنْهَا , أَمْ مِثْلَهَا . فَالْقِيمَةُ هِيَ الثَّمَنُ الْحَقِيقِيُّ لِلشَّيْءِ . أَمَّا الثَّمَنُ الْمُتَرَاضَى عَلَيْهِ فَهُوَ الثَّمَنُ الْمُسَمَّى . وَالسِّعْرُ هُوَ : الثَّمَنُ الْمُقَدَّرُ لِلسِّلْعَةِ . وَالتَّسْعِيرُ : تَحْدِيدُ أَسْعَارِ بَيْعِ السِّلَعِ . وَقَدْ يَكُونُ التَّسْعِيرُ مِنْ السُّلْطَانِ , ثُمَّ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ الْبَيْعِ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهَا أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا . حُكْمُ التَّسْعِيرِ : 49 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّسْعِيرِ , فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ ذَلِكَ , إذَا كَانَ الْبَاعَةُ يَتَعَدَّوْنَ الْقِيمَةَ , وَعَجَزَ الْقَاضِي عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِالتَّسْعِيرِ بِمَشُورَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْبَصَرِ , وَذَلِكَ لِفِعْلِ عُمَرَ رضي الله عنه حِينَ مَرَّ بِحَاطِبٍ فِي السُّوقِ فَقَالَ لَهُ : إمَّا أَنْ تَرْفَعَ السِّعْرَ وَإِمَّا أَنْ تَدْخُلَ بَيْتَك فَتَبِيعَ كَيْفَ شِئْت . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى تَحْرِيمِ التَّسْعِيرِ , وَكَرَاهَةِ الشِّرَاءِ بِهِ , وَحُرْمَةِ الْبَيْعِ وَبُطْلَانِهِ إذَا كَانَ بِالْإِكْرَاهِ . وَذَلِكَ لِحَدِيثِ { إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ , وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ } . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ ( تَسْعِيرٌ )
بَيْعُ التَّلْجِئَةِ التَّعْرِيفُ :(1/170)
1 - يُعَرِّفُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْعَ التَّلْجِئَةِ بِأَنَّهُ : عَقْدٌ يُنْشِئُهُ لِضَرُورَةِ أَمْرٍ فَيَصِيرُ كَالْمَدْفُوعِ إلَيْهِ . وَعَرَّفَهُ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ بِقَوْلِهِ : هُوَ أَنْ يُظْهِرَا بَيْعًا لَمْ يُرِيدَاهُ بَاطِنًا بَلْ خَوْفًا مِنْ ظَالِمٍ ( وَنَحْوِهِ ) دَفْعًا لَهُ . وَسَمَّاهُ الشَّافِعِيَّةُ بَيْعَ الْأَمَانَةِ , وَصُورَتُهُ كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنْ يُظْهِرَا الْعَقْدَ , إمَّا لِلْخَوْفِ مِنْ ظَالِمٍ وَنَحْوِهِ , وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ , وَيَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهُمَا إذَا أَظْهَرَاهُ لَا يَكُونُ بَيْعًا , ثُمَّ يَعْقِدُ الْبَيْعَ . وَأَمَّا التَّلْجِئَةُ الَّتِي أُضِيفَ هَذَا الْبَيْعُ إلَيْهَا فَتَرِدُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى : الْإِكْرَاهِ وَالِاضْطِرَارِ . وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ : فَيَرْجِعُ مَعْنَاهَا إلَى مَعْنَى الْإِلْجَاءِ , وَهُوَ الْإِكْرَاهُ التَّامُّ أَوْ الْمُلْجِئُ , وَمَعْنَاهُ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ أَنْ يُهَدِّدَ شَخْصٌ غَيْرَهُ بِإِتْلَافِ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ أَوْ ضَرْبٍ مُبَرِّحٍ إذَا لَمْ يَفْعَلْ مَا يَطْلُبُهُ مِنْهُ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - بَيْعُ الْوَفَاءِ : 2 - صُورَتُهُ أَنْ يَبِيعَهُ الْعَيْنَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّهُ إذَا رَدَّ عَلَيْهِ الثَّمَنَ رَدَّ عَلَيْهِ الْعَيْنَ فَيَتَّفِقُ بَيْعُ التَّلْجِئَةِ وَبَيْعُ الْوَفَاءِ فِي عَدَمِ إرَادَةِ حَقِيقَةِ الْبَيْعِ , وَيَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ يَئُولُ إلَى رَهْنٍ أَوْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ ظَاهِرٍ , أَمَّا بَيْعُ التَّلْجِئَةِ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ إرَادَةِ الْبَيْعِ مُضْمِرٌ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ هُنَاكَ بَيْعٌ أَصْلًا . هَذَا , وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَيْعِ التَّلْجِئَةِ وَبَيْعِ الْوَفَاءِ : أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي بَيْعِ التَّلْجِئَةِ يَتَّفِقَانِ عَلَى أَنْ يُظْهِرَا الْعَقْدَ إمَّا خَوْفًا مِنْ ظَالِمٍ وَنَحْوِهِ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ , وَيَتَّفِقَانِ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُمَا إذَا أَظْهَرَاهُ لَا يَكُونُ بَيْعًا , وَأَمَّا فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ فَإِنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ الْعَيْنَ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ , وَيَتَّفِقَانِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ إذَا أَحْضَرَ الثَّمَنَ فَإِنَّهُ يَسْتَرِدُّ الْمَبِيعَ , فَبَيْعُ الْوَفَاءِ فِي حَقِيقَتِهِ رَهْنٌ بِلَفْظِ الْبَيْعِ أَوْ قَرْضٌ إلَى أَجَلٍ بِلَفْظِ الْبَيْعِ , فَاشْتِرَاطُ التَّلْجِئَةِ فِيهِ تُفْسِدُهُ . ب - بَيْعُ الْمُكْرَهِ : 3 - الْمُرَادُ بِبَيْعِ الْمُكْرَهِ حَمْلُ الْبَائِعِ عَلَى الْبَيْعِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ , إذْ الْإِكْرَاهُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ : حَمْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ . وَفِي الشَّرْعِ : فِعْلٌ يُوجَدُ مِنْ الْمُكْرَهِ فَيُحْدِثُ فِي الْمَحَلِّ مَعْنًى يَصِيرُ بِهِ مَدْفُوعًا إلَى الْفِعْلِ الَّذِي طُلِبَ مِنْهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَيْعِ التَّلْجِئَةِ وَبَيْعِ الْمُكْرَهِ : أَنَّ بَيْعَ التَّلْجِئَةِ بَيْعٌ فِي الظَّاهِرِ فَقَطْ لَا فِي الْحَقِيقَةِ , وَأَمَّا بَيْعُ الْمُكْرَهِ فَإِنَّهُ بَيْعٌ حَقِيقِيٌّ , مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي حُكْمِهِ فَسَادًا وَوَقْفًا . ج - بَيْعُ الْهَازِلِ : 4 - الْهَازِلُ فِي الْبَيْعِ : هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ الْبَيْعِ لَا عَلَى إرَادَةِ حَقِيقَتِهِ . وَالْهَزْلُ : هُوَ أَنْ لَا يُرَادَ بِاللَّفْظِ مَعْنَاهُ , لَا الْحَقِيقِيُّ وَلَا الْمَجَازِيُّ , وَهُوَ ضِدُّ الْجِدِّ , وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِالشَّيْءِ مَا وُضِعَ لَهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَيْعِ التَّلْجِئَةِ وَبَيْعِ الْهَازِلِ : أَنَّ بَيْعَ التَّلْجِئَةِ وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ إلَيْهِ فِي الْغَالِبِ هُوَ الْإِكْرَاهَ إلَّا أَنَّهُ فِي حَقِيقَتِهِ هُوَ بَيْعُ الْهَازِلِ , لِأَنَّ الْبَائِعَ فِي بَيْعِ التَّلْجِئَةِ تَلَفَّظَ بِصِيغَةِ الْبَيْعِ , وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُرِيدُ الْبَيْعَ , وَلِهَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ أَنَّهُ يُشْبِهُ بَيْعَ الْهَازِلِ . إذْ الْهَزْلُ يُنَافِي اخْتِيَارَ الْحُكْمِ وَالرِّضَى بِهِ وَلَا يُنَافِي الرِّضَى بِالْمُبَاشَرَةِ وَاخْتِيَارَهَا , فَصَارَ بِمَعْنَى خِيَارِ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ .
11 - الضَّرْبُ الثَّانِي :(1/171)
بَيْعٌ تَكُونُ فِيهِ التَّلْجِئَةُ فِي جِنْسِ الثَّمَنِ . وَمِثَالُ ذَلِكَ : أَنْ يَتَّفِقَا فِي السِّرِّ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ , ثُمَّ يُظْهِرَا الْبَيْعَ بِمِائَةِ دِينَارٍ , فَهَلْ يَبْطُلُ هَذَا الْبَيْعُ أَوْ يَصِحُّ بِالثَّمَنِ الْمُعْلَنِ ؟ ذَهَبَ مُحَمَّدٌ إلَى أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ يَبْطُلُ قِيَاسًا , وَيَصِحُّ اسْتِحْسَانًا , أَيْ بِالثَّمَنِ الْمُعْلَنِ . وَمَحَلُّهُ - كَمَا جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ - إنْ قَالَا عِنْدَ الْمُوَاضَعَةِ : إنَّ الثَّمَنَ الْمُعْلَنَ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ , فَإِنْ لَمْ يَقُولَا ذَلِكَ فَالثَّمَنُ مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ , لِأَنَّ الثَّمَنَ اسْمٌ لِلْمَذْكُورِ عِنْدَ الْعَقْدِ , وَالْمَذْكُورُ عِنْدَ الْعَقْدِ إنَّمَا هُوَ مِائَةُ دِينَارٍ . وَوَجْهُ بُطْلَانِ هَذَا الْبَيْعِ عَلَى الْقِيَاسِ : هُوَ أَنَّ ثَمَنَ السِّرِّ لَمْ يَذْكُرَاهُ فِي الْعَقْدِ , وَثَمَنَ الْعَلَانِيَةِ لَمْ يَقْصِدَاهُ فَقَدْ هَزَلَا بِهِ , فَسَقَطَ وَبَقِيَ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ فَلَا يَصِحُّ . وَوَجْهُ صِحَّتِهِ اسْتِحْسَانًا : هُوَ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا بَيْعًا بَاطِلًا بَلْ بَيْعًا صَحِيحًا , فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ , وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ إلَّا بِثَمَنِ الْعَلَانِيَةِ , فَكَأَنَّهُمَا انْصَرَفَا عَمَّا شَرْطَاهُ فِي الْبَاطِنِ , فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالظَّاهِرِ , كَمَا لَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَبِيعَاهُ بَيْعَ تَلْجِئَةٍ فَتَوَاهَبَا , بِخِلَافِ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ , لِأَنَّ الثَّمَنَ الْمَذْكُورَ الْمَشْرُوطَ فِي السِّرِّ مَذْكُورٌ فِي الْعَقْدِ وَزِيَادَةٌ , فَتَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِهِ . 12 - هَذَا وَذَكَرَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ أَيْضًا أَنَّ هَذَا كُلَّهُ إذَا اتَّفَقَا فِي السِّرِّ وَلَمْ يَتَعَاقَدَا فِي السِّرِّ , أَمَّا إذَا اتَّفَقَا فِي السِّرِّ وَتَعَاقَدَا أَيْضًا فِي السِّرِّ بِثَمَنٍ , ثُمَّ تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يُظْهِرَا الْعَقْدَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ بِجِنْسٍ آخَرَ , فَإِنْ لَمْ يَقُولَا : إنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ فَالْعَقْدُ الثَّانِي يَرْفَعُ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ , وَالثَّمَنُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي , لِأَنَّ الْبَيْعَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالْإِقَالَةَ , فَشُرُوعُهُمَا فِي الْعَقْدِ الثَّانِي إبْطَالٌ لِلْأَوَّلِ , فَبَطَلَ الْأَوَّلُ وَانْعَقَدَ الثَّانِي بِمَا سُمِّيَ عِنْدَهُ . وَإِنْ قَالَا : رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ , فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ فَالْعَقْدُ هُوَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ , لِأَنَّهُمَا لَمَّا ذَكَرَا الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ فَقَدْ أَبْطَلَا الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ الثَّانِي , فَلَمْ يَصِحُّ الْعَقْدُ الثَّانِي , فَبَقِيَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ . وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ فَالْعَقْدُ هُوَ الْعَقْدُ الثَّانِي , لِأَنَّ الْبَيْعَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ , فَكَانَ الْعَقْدُ هُوَ الْعَقْدَ الثَّانِيَ لَكِنْ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ , وَالزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُمَا أَبْطَلَاهَا حَيْثُ هَزَلَا بِهَا . 13 - وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ عِنْدَهُمْ بِالثَّمَنِ الْمُعْلَنِ , وَلَا أَثَرَ لِلِاتِّفَاقِ السَّابِقِ لِأَنَّهُ مُلْغًى , فَصَارَ كَمَا لَوْ اتَّفَقَا عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ , ثُمَّ تَبَايَعَا بِلَا شَرْطٍ . 14 - وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ , فَقَدْ جَاءَ فِي الْفُرُوعِ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ : أَنَّهُمَا لَوْ اتَّفَقَا قَبْلَ الْبَيْعِ عَلَى ثَمَنٍ , ثُمَّ عَقَدَا الْبَيْعَ بِثَمَنٍ آخَرَ أَنَّ فِيهِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الثَّمَنَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ كَالنِّكَاحِ . 15 - وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ , فَإِنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا فِي كُتُبِهِمْ بِبَيْعِ التَّلْجِئَةِ كَغَيْرِهِمْ , وَإِنَّمَا ذَكَرُوا بَيْعَ الْمُكْرَهِ وَالْمَضْغُوطِ وَبَيْعَ الْهَازِلِ , وَقَدْ سَبَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ , لَكِنَّهُمْ تَكَلَّمُوا عَنْ عَقْدِ النِّكَاحِ وَتَسْمِيَةِ مَهْرٍ لِلسِّرِّ وَمَهْرٍ لِلْعَلَانِيَةِ , وَبَيَّنُوا أَنَّ الْعَمَلَ بِمَهْرِ السِّرِّ إذَا كَانَتْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ عَلَى أَنَّ مَهْرَ الْعَلَنِ لَا عِبْرَةَ بِهِ , وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِلْأُبَّهَةِ وَالْفَخْرِ . فَإِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ وَاتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى مَهْرِ السِّرِّ عُمِلَ بِهِ , فَإِنْ اخْتَلَفَا حَلَّفَتْ الزَّوْجَةُ الزَّوْجَ إنْ ادَّعَتْ الرُّجُوعَ عَنْ صَدَاقِ السِّرِّ الْقَلِيلِ إلَى صَدَاقِ الْعَلَانِيَةِ الْكَثِيرِ , فَإِنْ حَلَفَ عُمِلَ بِصَدَاقِ السِّرِّ , وَإِنْ نَكَلَ حَلَفَتْ الزَّوْجَةُ عَلَى الرُّجُوعِ وَعُمِلَ بِصَدَاقِ الْعَلَانِيَةِ , فَإِنْ نَكَلَتْ عُمِلَ بِصَدَاقِ السِّرِّ . 16 - هَذَا , وَذَكَرَ صَاحِبُ التَّبْصِرَةِ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الِاسْتِرْعَاءِ : أَنَّ الِاسْتِرْعَاءَ فِي الْبُيُوعِ لَا يَجُوزُ , مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ قَبْلَ الْبَيْعِ أَنَّهُ رَاجِعٌ فِي الْبَيْعِ , وَأَنَّ بَيْعَهُ لِأَمْرٍ يَتَوَقَّعُهُ , لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ خِلَافُ مَا يُتَطَوَّعُ بِهِ , وَقَدْ أَخَذَ الْبَائِعُ فِيهِ ثَمَنًا وَفِي ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمُبْتَاعِ , إلَّا أَنْ يَعْرِفَ(1/172)
الشُّهُودُ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ وَالْإِخَافَةَ , فَيَجُوزُ الِاسْتِرْعَاءُ إذَا انْعَقَدَ قَبْلَ الْبَيْعِ , وَتَضَمَّنَ الْعَقْدُ شَهَادَةَ مَنْ يَعْرِفُ الْإِخَافَةَ وَالتَّوَقُّعَ الَّذِي ذَكَرَهُ . وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْبَيْعِ لِأَمْرٍ يَتَوَقَّعُهُ أَوْ يَخَافُهُ لَا يَلْزَمُهُ الْبَيْعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , بَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ حَتَّى بَعْدَ أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ , مَا دَامَ شُهُودُ الِاسْتِرْعَاءِ قَدْ عَرَفُوا الْإِكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ وَسَبَبَ الْإِخَافَةِ .
الْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ تَعْرِيفُهُ :
1 - الْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ مُرَكَّبٌ مِنْ لَفْظَيْنِ : " الْبَيْعُ " " وَالْجَبْرِيُّ " فَالْبَيْعُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ . وَالْجَبْرِيُّ : مِنْ جَبَرَهُ عَلَى الْأَمْرِ جَبْرًا : حَمَلَهُ عَلَيْهِ قَهْرًا . فَالْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ هُوَ : الْبَيْعُ الْحَاصِلُ مِنْ مُكْرَهٍ بِحَقٍّ , أَوْ الْبَيْعُ عَلَيْهِ نِيَابَةً عَنْهُ , لِإِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ , أَوْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ , أَوْ تَحْقِيقِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ : 2 - الْإِكْرَاهُ فِي اللُّغَةِ : حَمْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى أَمْرٍ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ . وَفِي الشَّرْعِ : فِعْلٌ يُوجِدُهُ الْمُكْرِهُ فَيَدْفَعُ الْمُكْرَهَ إلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ . فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ الْجَبْرِيِّ : أَنَّ الْبَيْعَ الْجَبْرِيَّ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَقٍّ , أَمَّا الْبَيْعُ بِالْإِكْرَاهِ فَهُوَ فِي الْأَصْلِ أَعَمُّ , لَكِنَّ الْغَالِبَ إطْلَاقُهُ عَلَى الْإِكْرَاهِ بِلَا حَقٍّ . ب - بَيْعُ التَّلْجِئَةِ : 3 - بَيْعُ التَّلْجِئَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ : أَنْ يُظْهِرَا عَقْدًا وَهُمَا لَا يُرِيدَانِهِ , يَلْجَأُ إلَيْهِ صَاحِبُ الْمَالِ خَوْفًا مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سُلْطَانٍ جَائِرٍ . فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ الْجَبْرِيِّ أَنَّ بَيْعَ التَّلْجِئَةِ فِيهِ صُورَةُ الْبَيْعِ لَا حَقِيقَتُهُ .
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ :
4 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْبَيْعِ الْجَبْرِيِّ بِاخْتِلَافِ سَبَبِهِ , فَإِنْ كَانَ لِإِيفَاءِ حَقٍّ , كَبَيْعِ مَالِهِ لِإِيفَاءِ دَيْنٍ حَالٍّ , وَبِطَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ فَهُوَ وَاجِبٌ , وَكَذَا إذَا كَانَ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ , كَتَوْسِعَةِ الْمَسْجِدِ الَّذِي ضَاقَ عَلَى الْمُصَلِّينَ , أَوْ الطَّرِيقِ الْعَامِّ . وَيَقُومُ الْبَيْعُ فِي الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ - كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْقَوْلِيَّةِ - عَلَى التَّرَاضِي الْحُرِّ عَلَى إنْشَائِهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَخَبَرِ : { إنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ } وَلَا يُقِرُّ الْفُقَهَاءُ بَيْعًا لَمْ يَقُمْ عَلَى التَّرَاضِي مِنْ الْجَانِبَيْنِ : الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي , إلَّا مَا تُوجِبُهُ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ لِإِحْقَاقِ حَقٍّ , أَوْ تَحْقِيقِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ , أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ , وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِهِمْ : الْإِكْرَاهُ الْمَشْرُوعُ , أَوْ الْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ . وَمِنْهَا : الْعُقُودُ الْجَبْرِيَّةُ الَّتِي يُجْرِيهَا الْحَاكِمُ , إمَّا مُبَاشَرَةً نِيَابَةً عَمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ إجْرَاؤُهَا , إذَا امْتَنَعَ عَنْهَا , أَوْ يُجْبَرُ هُوَ عَلَى إجْرَائِهَا . وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَمْثِلَةً لِلْجَبْرِ الْمَشْرُوعِ عَلَى الْبَيْعِ مِنْهَا : إجْبَارُ الْمَدِينِ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ : 5 - يُجْبَرُ الْمَدِينُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ لِإِيفَاءِ دَيْنٍ حَالٍّ , إذَا امْتَنَعَ عَنْ أَدَائِهِ وَلَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ , فَيَجْبُرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ بِالتَّعْزِيرِ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ أَوْ الضَّرْبِ , فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ قَضَى الْحَاكِمُ الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ جَبْرًا عَلَيْهِ , إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ . هَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ . أَمَّا إذَا كَانَ مَالُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الدَّيْنِ كَالْعَقَارِ وَالْعُرُوضِ , فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَبِيعُ مَالَهُ عَلَيْهِ جَبْرًا نِيَابَةً عَنْهُ . وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ , لَا يَبِيعُ الْحَاكِمُ مَالَهُ عَلَيْهِ , بَلْ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَقُومَ بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ بِبَيْعِ مَالِهِ أَوْ غَيْرِهِ , لِأَنَّ وِلَايَةَ الْحَاكِمِ - فِي نَظَرِ الْإِمَامِ - عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ , لَا عَلَى مَالِهِ , فَلَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ , وَلِأَنَّ الْبَيْعَ تِجَارَةٌ وَلَا يَصِحُّ إلَّا بِتَرَاضٍ , وَفِيهِ أَيْضًا نَوْعٌ مِنْ الْحَجْرِ الَّذِي لَا يُجِيزُهُ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَدْ خَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فِي ذَلِكَ , فَأَجَازَا بَيْعَ الْحَاكِمِ مَالَهُ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ بَيْعًا جَبْرِيًّا , وَرَأْيُهُمَا هُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ .
ج - الْبَيْعُ بِالْإِكْرَاهِ :(1/173)
11 - الْإِكْرَاهُ إذَا كَانَ مُلْجِئًا , أَيْ بِالتَّهْدِيدِ بِإِتْلَافِ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ مَثَلًا , يُعْدِمُ الرِّضَا وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ , فَيَبْطُلُ عَقْدُ الْبَيْعِ وَسَائِرُ الْعُقُودِ بِغَيْرِ خِلَافٍ . أَمَّا الْإِكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ , كَالتَّهْدِيدِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرَرِ الْيَسِيرِ , فَيُفْسِدُ الْبَيْعَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلَا يُبْطِلُهُ , فَيَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ عِنْدَ الْقَبْضِ , وَيَنْقَلِبُ صَحِيحًا لَازِمًا بِإِجَازَةِ الْمُكْرَهِ , لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ غَيْرَ الْمُلْجِئِ لَا يُعْدِمُ الِاخْتِيَارَ ( الَّذِي هُوَ : تَرْجِيحُ فِعْلِ الشَّيْءِ عَلَى تَرْكِهِ ) , وَإِنَّمَا يُعْدِمُ الرِّضَا ( الِارْتِيَاحُ إلَى الشَّيْءِ ) وَالرِّضَا لَيْسَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْبَيْعِ , بَلْ هُوَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهِ . كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي بَحْثِ ( إكْرَاهٌ ) . وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمُضْطَرِّ فَاسِدٌ , كَمَا إذَا اُضْطُرَّ شَخْصٌ إلَى بَيْعِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ وَلَمْ يَرْضَ الْمُشْتَرِي إلَّا بِشِرَائِهِ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ .
أَمَّا حُكْمُ بَيْعِ الْإِمَامِ الْغَنَائِمَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ
, فَقَدْ عَرَضَ لَهُ الْحَنَفِيَّةُ فَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَصِحُّ . لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ , يَعْنِي أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ , وَأَقَلُّهَا تَخْفِيفُ إكْرَاهِ الْحَمْلِ عَلَى النَّاسِ , أَوْ عَنْ الْبَهَائِمِ وَنَحْوِهِ , وَتَخْفِيفُ مُؤْنَتِهِ عَنْهُمْ , فَيَقَعُ عَنْ اجْتِهَادٍ فِي الْمَصْلَحَةِ , فَلَا يَقَعُ جُزَافًا , فَيَنْعَقِدُ بِلَا كَرَاهَةٍ مُطْلَقًا . كَمَا عَرَضَ لَهُ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا , وَلَهُمْ فِيهِ قَوْلَانِ : الْأَوَّلُ : وُجُوبُ بَيْعِ الْإِمَامِ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسَ مِنْ الْغَنَائِمِ , لِيَقْسِمَهَا بَيْنَ الْمُجَاهِدِينَ , لِأَنَّ قِسْمَةَ الْأَثْمَانِ أَقْرَبُ إلَى الْمُسَاوَاةِ , لِمَا يَدْخُلُ التَّقْوِيمَ مِنْ الْخَطَأِ . الْآخَرُ : عَدَمُ الْوُجُوبِ , بَلْ الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ , فَإِنْ شَاءَ بَاعَ وَقَسَمَ الثَّمَنَ , وَإِنْ شَاءَ قَسَمَ الْأَعْيَانَ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ .
حُكْمُ بَيْعِ الْوَفَاءِ :(1/174)
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِبَيْعِ الْوَفَاءِ . فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إلَى : أَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ فَاسِدٌ , لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْبَائِعِ أَخْذَ الْمَبِيعِ إذَا رَدَّ الثَّمَنَ إلَى الْمُشْتَرِي يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْبَيْعِ وَحُكْمَهُ , وَهُوَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي لِلْمَبِيعِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ وَالدَّوَامِ . وَفِي هَذَا الشَّرْطِ مَنْفَعَةٌ لِلْبَائِعِ , وَلَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ مُعَيَّنٌ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ , فَيَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا يَفْسُدُ الْبَيْعُ بِاشْتِرَاطِهِ فِيهِ . وَلِأَنَّ الْبَيْعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْوَفَاءِ , وَإِنَّمَا يُقْصَدُ مِنْ وَرَائِهِ الْوُصُولُ إلَى الرِّبَا الْمُحَرَّمِ , وَهُوَ إعْطَاءُ الْمَالِ إلَى أَجَلٍ , وَمَنْفَعَةُ الْمَبِيعِ هِيَ الرِّبْحُ , وَالرِّبَا بَاطِلٌ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ . وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ جَائِزٌ مُفِيدٌ لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ , وَهُوَ انْتِفَاعُ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ - دُونَ بَعْضِهَا - وَهُوَ الْبَيْعُ مِنْ آخَرَ . وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْبَيْعَ بِهَذَا الشَّرْطِ تَعَارَفْهُ النَّاسُ وَتَعَامَلُوا بِهِ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ , فِرَارًا مِنْ الرِّبَا , فَيَكُونُ صَحِيحًا لَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ بِاشْتِرَاطِهِ فِيهِ , وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْقَوَاعِدِ , لِأَنَّ الْقَوَاعِدَ تُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ , كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ . 3 - وَذَهَبَ أَبُو شُجَاعٍ وَعَلِيٌّ السُّغْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَاتُرِيدِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى : أَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ رَهْنٌ وَلَيْسَ بِبَيْعٍ , فَيَثْبُتُ لَهُ جَمِيعُ أَحْكَامِ الرَّهْنِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ , وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لَمْ تَلْزَمْهُ أُجْرَتُهُ , كَالرَّاهِنِ إذَا اسْتَأْجَرَ الْمَرْهُونَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ , وَيَسْقُطُ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ وَلَا يَضْمَنُ مَا زَادَ عَلَيْهِ , وَإِذَا مَاتَ الرَّاهِنُ كَانَ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ . وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي , لَا لِلْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي . وَلِهَذَا كَانَتْ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بَيْعًا , وَكَانَتْ الْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةً , وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْفِقْهِ . وَهَذَا الْبَيْعُ لَمَّا شُرِطَ فِيهِ أَخْذُ الْمَبِيعِ عِنْدَ رَدِّ الثَّمَنِ كَانَ رَهْنًا , لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُؤْخَذُ عِنْدَ أَدَاءِ الدَّيْنِ . 4 - قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ قَوْلَانِ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ مُفِيدٌ لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ مِنْ حِلِّ الِانْتِفَاعِ بِهِ , إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي بَيْعَهُ , قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي الْإِكْرَاهِ : وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى . الثَّانِي : الْقَوْلُ الْجَامِعُ لِبَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ : أَنَّهُ فَاسِدٌ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ حَتَّى مَلَكَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْفَسْخَ , صَحِيحٌ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَحِلِّ الْإِنْزَالِ وَمَنَافِعِ الْمَبِيعِ , وَرَهْنٌ فِي حَقِّ الْبَعْضِ حَتَّى لَمْ يَمْلِكْ الْمُشْتَرِي بَيْعَهُ مِنْ آخَرَ وَلَا رَهْنَهُ وَسَقَطَ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ . فَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْعُقُودِ الثَّلَاثَةِ , كَالزَّرَافَةِ فِيهَا صِفَةُ الْبَعِيرِ وَالْبَقَرَةِ وَالنَّمِرِ , جُوِّزَ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْبَدَلَيْنِ لِصَاحِبِهِمَا , قَالَ فِي الْبَحْرِ : وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْدَلَ فِي الْإِفْتَاءِ عَنْ الْقَوْلِ الْجَامِعِ . وَفِي النَّهْرِ : وَالْعَمَلُ فِي دِيَارِنَا عَلَى مَا رَجَّحَهُ الزَّيْلَعِيُّ . 5 - وَقَالَ صَاحِبُ بُغْيَةِ الْمُسْتَرْشِدِينَ مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ : بَيْعُ الْعُهْدَةِ صَحِيحٌ جَائِزٌ وَتَثْبُتُ بِهِ الْحُجَّةُ شَرْعًا وَعُرْفًا عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِهِ , وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِكَرَاهَتِهِ , وَقَدْ جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي غَالِبِ جِهَاتِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ زَمَنٍ قَدِيمٍ وَحَكَمَتْ بِمُقْتَضَاهُ الْحُكَّامُ , وَأَقَرَّهُ مَنْ يَقُولُ بِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ , مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ , وَإِنَّمَا اخْتَارَهُ مَنْ اخْتَارَهُ وَلَفَّقَهُ مِنْ مَذَاهِبَ , لِلضَّرُورَةِ الْمَاسَّةِ إلَيْهِ , وَمَعَ ذَلِكَ فَالِاخْتِلَافُ فِي صِحَّتِهِ مِنْ أَصْلِهِ وَفِي التَّفْرِيعِ عَلَيْهِ , لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ إلْمَامٌ بِالْفِقْهِ .
هَلْ الْبَيْعَةُ عَقْدٌ ؟ وَتَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ ؟(1/175)
9 - الْبَيْعَةُ عَقْدُ مُرَاضَاةٍ وَاخْتِيَارٍ لَا يَدْخُلُهُ إكْرَاهٌ وَلَا إجْبَارٌ , وَهُوَ عَقْدٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ . وَثَانِيهمَا : الشَّخْصُ الَّذِي أَدَّاهُمْ اجْتِهَادُهُمْ إلَى اخْتِيَارِهِ مِمَّنْ قَدْ اسْتَوْفَوْا شَرَائِطَ الْإِمَامَةِ لِيَكُونَ إمَامًا لَهُمْ . فَإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لِلِاخْتِيَارِ , وَتَصَفَّحُوا أَحْوَالَ أَهْلِ الْإِمَامَةِ الْمَوْجُودَةِ فِيهِمْ شُرُوطُهَا , فَقَدَّمُوا لِلْبَيْعَةِ مِنْهُمْ أَكْثَرَهُمْ فَضْلًا وَأَكْمَلَهُمْ فِي تِلْكَ الشُّرُوطِ , وَمَنْ يُسْرِعُ النَّاسُ إلَى طَاعَتِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُونَ عَنْ بَيْعَتِهِ . فَإِذَا تَعَيَّنَ لَهُمْ مِنْ بَيْنِ الْجَمَاعَةِ مَنْ أَدَّاهُمْ الِاجْتِهَادُ إلَى اخْتِيَارِهِ عَرَضُوهَا عَلَيْهِ , فَإِنْ أَجَابَ إلَيْهَا بَايَعُوهُ عَلَيْهَا , وَانْعَقَدَتْ بِبَيْعَتِهِمْ لَهُ الْإِمَامَةُ , فَلَزِمَ كَافَّةَ الْأَمَةِ الدُّخُولُ فِي بَيْعَتِهِ وَالِانْقِيَادُ لِطَاعَتِهِ , وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِمَامَةِ وَلَمْ يُجِبْ إلَيْهَا لَمْ يُحْبَرْ عَلَيْهَا , وَعُدِلَ عَنْهُ إلَى مَنْ سِوَاهُ مِنْ مُسْتَحِقِّيهَا .
مَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ فِي صِيَامِ الْكَفَّارَاتِ : يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ بِأُمُورٍ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ وَهِيَ : أ - الْفِطْرُ بِإِكْرَاهٍ أَوْ نِسْيَانٍ وَنَحْوِهِمَا :
9 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْإِفْطَارَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ , بِاسْتِثْنَاءِ عُذْرِ الْمَرْأَةِ فِي الْحَيْضِ , وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ عُذْرِ الْمَرَضِ أَوْ غَيْرِهِ , وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْإِكْرَاهَ . وَأَمَّا لَوْ أَكَلَ نَاسِيًا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ : أَنَّهُ لَا يَضُرُّ . وَلَا يُجْزِئُ عَنْ الْكَفَّارَةِ صِيَامُ تِسْعَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا بِغَيْرِ اعْتِبَارِ الْأَهِلَّةِ , أَمَّا إذَا صَامَ شَهْرَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْأَهِلَّةِ , فَإِنَّ صَوْمَهُ يَصِحُّ حَتَّى وَلَوْ كَانَ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا . وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْفِطْرَ بِالْإِكْرَاهِ بِمُؤْلِمٍ مِنْ قَتْلٍ أَوْ ضَرْبٍ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ , وَلَا يَقْطَعُهُ أَيْضًا فِطْرُ مَنْ ظَنَّ بَقَاءَ اللَّيْلِ , أَوْ غُرُوبَ الشَّمْسِ بِخِلَافِ الشَّكِّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُهُ , وَكَذَا لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ عِنْدَهُمْ فِطْرُ مَنْ صَامَ تِسْعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا , ثُمَّ أَصْبَحَ مُفْطِرًا ظَانًّا الْكَمَالَ . وَلَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ عِنْدَهُمْ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ نَاسِيًا عَلَى الْمَشْهُورِ , وَلَا يَقْطَعُهُ جِمَاعُ غَيْرِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا نَهَارًا نِسْيَانًا , أَوْ لَيْلًا وَلَوْ عَمْدًا . وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ : أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْأَكْلِ يُبْطِلُ التَّتَابُعَ , بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَيْهِ يُبْطِلُ الصَّوْمَ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ , لِأَنَّهُ سَبَبٌ نَادِرٌ . هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ فِي الصُّورَتَيْنِ , كَمَا جَاءَ فِي الرَّوْضَةِ , وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ , وَجَعَلَهُمَا ابْنُ كَجٍّ كَالْمَرَضِ , وَكَذَا إذَا اسْتَنْشَقَ فَوَصَلَ الْمَاءُ إلَى دِمَاغِهِ , فَفِي انْقِطَاعِ التَّتَابُعِ الْخِلَافُ , بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يُفْطِرُ , وَقَالَ النَّوَوِيُّ : لَوْ أُوجِرَ الطَّعَامَ مُكْرَهًا لَمْ يُفْطِرْ وَلَمْ يَنْقَطِعْ تَتَابُعُهُ , قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي كُلِّ الطُّرُقِ . وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ التَّتَابُعَ لَا يَقْطَعُ بِالْفِطْرِ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ أَوْ الْخَطَأِ أَوْ النِّسْيَانِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ , لِحَدِيثِ : { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } لَا إنْ أَفْطَرَ لِجَهْلٍ فَإِنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِهِ , وَأَمَّا الَّذِي أَفْطَرَ خَطَأً كَمَنْ ظَنَّ بَقَاءَ اللَّيْلِ أَوْ الْغُرُوبَ فَبَانَ خِلَافُهُ فَلَا يَنْقَطِعُ تَتَابُعُ صِيَامِهِ , وَأَمَّا الَّذِي أَفْطَرَ عَلَى ظَنِّ تَمَامِ الشَّهْرَيْنِ فَبَانَ خِلَافُهُ فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ تَتَابُعُ صِيَامِهِ , أَوْ ظَنَّ أَنَّ الْوَاجِبَ شَهْرٌ وَاحِدٌ فَأَفْطَرَ , أَوْ أَفْطَرَ نَاسِيًا لِوُجُوبِ التَّتَابُعِ , أَوْ أَفْطَرَ لِغَيْرِ عُذْرٍ انْقَطَعَ تَتَابُعُ صِيَامِهِ لِقَطْعِهِ إيَّاهُ , وَلَا يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ .
التَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ :(1/176)
6 - الْجَاسُوسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ , وَقَدْ أَجَابَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ سُؤَالِ هَارُونَ الرَّشِيدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ فِيهِمْ فَقَالَ : وَسَأَلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ الْجَوَاسِيسِ يُوجَدُونَ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِمَّنْ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ , وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَعْرُوفِينَ فَأَوْجِعْهُمْ عُقُوبَةً , وَأَطِلْ حَبْسَهُمْ حَتَّى يُحْدِثُوا تَوْبَةً . وَقَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : وَإِذَا وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا - مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ - عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَكْتُبُ إلَيْهِمْ بِعَوْرَاتِهِمْ فَأَقَرَّ بِذَلِكَ طَوْعًا فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ , وَلَكِنَّ الْإِمَامَ يُوجِعُهُ عُقُوبَةً . ثُمَّ قَالَ : إنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَقِيقَةً , وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ , وَلِأَنَّهُ إنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى مَا فَعَلَ الطَّمَعُ , لَا خُبْثُ الِاعْتِقَادِ , وَهَذَا أَحْسَنُ الْوَجْهَيْنِ , وَبِهِ أُمِرْنَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ { حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ , فَإِنَّهُ كَتَبَ إلَى قُرَيْشٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُوكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ , فَأَرَادَ عُمَرُ رضي الله عنه قَتْلَهُ , فَقَالَ الرَّسُولُ لِعُمَرَ : مَهْلًا يَا عُمَرُ , فَلَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ } فَلَوْ كَانَ بِهَذَا كَافِرًا مُسْتَوْجِبًا لِلْقَتْلِ مَا تَرَكَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بَدْرِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ بَدْرِيٍّ , وَكَذَلِكَ لَوْ لَزِمَهُ الْقَتْلُ بِهَذَا حَدًّا مَا تَرَكَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ نَزَلَ قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } فَقَدْ سَمَّاهُ مُؤْمِنًا , وَعَلَيْهِ دَلَّتْ قِصَّةُ أَبِي لُبَابَةَ حِينَ اسْتَشَارَهُ بَنُو قُرَيْظَةَ , فَأَمَرَّ أُصْبُعَهُ عَلَى حَلْقِهِ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَتَلَهُمْ , وَفِيهِ نَزَلَ قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ } . وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ هَذَا ذِمِّيٌّ فَإِنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً وَيُسْتَوْدَعُ السِّجْنَ , وَلَا يَكُونُ هَذَا نَقْضًا مِنْهُ لِلْعَهْدِ , لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ مُسْلِمٌ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا أَمَانَهُ فَإِذَا فَعَلَهُ ذِمِّيٌّ لَا يَكُونُ نَاقِضًا أَمَانَهُ أَيْضًا . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ فَقَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ , وَإِنْ كَانَ قَطْعُ الطَّرِيقِ مُحَارَبَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِالنَّصِّ فَهَذَا أَوْلَى . وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ مُسْتَأْمَنٌ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ نَاقِضًا لِأَمَانِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ , إلَّا أَنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَقَصَدَ بِفِعْلِهِ إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ كَانَ حِينَ طَلَبِ الْأَمَانِ قَالَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ : آمَنَّاك إنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , أَوْ آمَنَّاك عَلَى أَنَّك إنْ أَخْبَرْت أَهْلَ الْحَرْبِ بِعَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا أَمَان لَك - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ , لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَكُونُ مَعْدُومًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ , فَقَدْ عُلِّقَ أَمَانُهُ هَاهُنَا بِشَرْطِ أَلَّا يَكُونَ عَيْنًا , فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ عَيْنٌ كَانَ حَرْبِيًّا لَا أَمَانَ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ . وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَصْلُبَهُ حَتَّى يَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ , وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَهُ فَيْئًا فَلَا بَأْسَ بِهِ أَيْضًا كَغَيْرِهِ مِنْ الْأُسَرَاءِ , إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقْتُلَهُ هَاهُنَا لِيَعْتَبِرَ غَيْرُهُ . فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الرَّجُلِ امْرَأَةٌ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهَا أَيْضًا , لِأَنَّهَا قَصَدَتْ إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ , وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْحَرْبِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ , كَمَا إذَا قَاتَلَتْ , إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ صَلْبُهَا لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ أَوْلَى . وَإِنْ وَجَدُوا غُلَامًا لَمْ يَبْلُغْ , بِهَذِهِ الصِّفَةِ , فَإِنَّهُ يُجْعَلُ فَيْئًا وَلَا يُقْتَلُ , لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ , فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ خِيَانَةً يَسْتَوْجِبُ الْقَتْلَ بِهَا , بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ . وَهُوَ نَظِيرُ الصَّبِيِّ إذَا قَاتَلَ فَأُخِذَ أَسِيرًا لَمْ يَجُزْ(1/177)
قَتْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ , بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ إذَا قَاتَلَتْ فَأُخِذَتْ أَسِيرَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهَا . وَالشَّيْخُ الَّذِي لَا قِتَالَ عِنْدَهُ وَلَكِنَّهُ صَحِيحُ الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا . وَإِنْ جَحَدَ الْمُسْتَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ , وَقَالَ : الْكِتَابُ الَّذِي وَجَدُوهُ مَعَهُ إنَّمَا وَجَدَهُ فِي الطَّرِيقِ وَأَخَذَهُ , فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْتُلُوهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ , لِأَنَّهُ آمِنٌ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ , فَمَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ مَا يَنْفِي أَمَانَهُ كَانَ حَرَامَ الْقَتْلِ . فَإِنْ هَدَّدُوهُ بِضَرْبٍ أَوْ قَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ حَتَّى أَقَرَّ بِأَنَّهُ عَيْنٌ فَإِقْرَارُهُ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ , لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ , وَإِقْرَارُ الْمُكْرَهِ بَاطِلٌ سَوَاءٌ أَكَانَ الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ أَمْ بِالْقَتْلِ , وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ عَيْنًا إلَّا بِأَنْ يُقِرَّ بِهِ عَنْ طَوْعٍ , أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ , وَيُقْبَلُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ , لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ فِينَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا , وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ حُجَّةٌ عَلَى الْحَرْبِيِّ . وَإِنْ وَجَدَ الْإِمَامُ مَعَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَأْمَنٍ كِتَابًا فِيهِ خَطُّهُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ , إلَى مَلَكِ أَهْلِ الْحَرْبِ يُخْبِرُ فِيهِ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَحْبِسُهُ , وَلَا يَضْرِبُهُ بِهَذَا الْقَدْرِ , لِأَنَّ الْكِتَابَ مُحْتَمَلٌ فَلَعَلَّهُ مُفْتَعَلٌ , وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ , فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ بِمِثْلِ هَذَا الْمُحْتَمَلِ , وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُهُ : فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ خَلَّى سَبِيلَهُ , وَرَدَّ الْمُسْتَأْمَنَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ , وَلَمْ يَدَعْهُ لِيُقِيمَ بَعْدَ هَذَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَوْمًا وَاحِدًا , لِأَنَّ الرِّيبَةَ فِي أَمْرِهِ قَدْ تَمَكَّنَتْ وَتَطْهِيرُ دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ مِثْلِهِ مِنْ بَابِ إمَاطَةِ الْأَذَى فَهُوَ أَوْلَى . 7 - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ : أَنَّ الْجَاسُوسَ الْمُسْتَأْمَنَ يُقْتَلُ , وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي الْمُسْلِمِ يَكْتُبُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ بِأَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ : يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ وَلَا دِيَةَ لِوَرَثَتِهِ كَالْمُحَارِبِ . وَقِيلَ : يُجْلَدُ نَكَالًا وَيُطَالُ حَبْسُهُ وَيُنْفَى مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ , وَقِيلَ : يُقْتَلُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ , وَقِيلَ : إلَّا أَنْ يُعْذَرَ بِجَهْلٍ . وَقِيلَ : يُقْتَلُ إنْ كَانَ مُعْتَادًا لِذَلِكَ , وَإِنْ كَانَتْ فَلْتَةً ضُرِبَ وَنُكِّلَ . وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِير قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } مَا يَأْتِي : مَنْ كَثُرَ تَطَلُّعُهُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِمْ وَيَعْرِفُ عَدَدُهُمْ بِأَخْبَارِهِمْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا بِذَلِكَ , إذَا كَانَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ وَاعْتِقَادُهُ عَلَى ذَلِكَ سَلِيمٌ , كَمَا فَعَلَ حَاطِبٌ حِينَ قَصَدَ بِذَلِكَ اتِّخَاذَ الْيَدِ وَلَمْ يَنْوِ الرِّدَّةَ عَنْ الدِّينِ . وَإِذَا قُلْنَا : لَا يَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا فَهَلْ يُقْتَلُ بِذَلِكَ حَدًّا أَمْ لَا ؟ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ , فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ : يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ . وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : إذَا كَانَتْ عَادَتُهُ ذَلِكَ قُتِلَ لِأَنَّهُ جَاسُوسٌ . وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : يُقْتَلُ الْجَاسُوسُ - وَهُوَ صَحِيحٌ - لِإِضْرَارِهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ , وَلَعَلَّ ابْنَ الْمَاجِشُونِ إنَّمَا اتَّخَذَ التَّكْرَارَ فِي هَذَا لِأَنَّ حَاطِبًا أُخِذَ فِي أَوَّلِ فِعْلِهِ . فَإِنْ كَانَ الْجَاسُوسُ كَافِرًا , فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : يَكُونُ نَقْضًا لِعَهْدِهِ , وَقَالَ أَصْبَغُ : الْجَاسُوسُ الْحَرْبِيُّ يُقْتَلُ , وَالْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ يُعَاقَبَانِ إلَّا إنْ تَظَاهَرَا عَلَى الْإِسْلَامِ فَيُقْتَلَانِ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِعَيْنٍ لِلْمُشْرِكِينَ اسْمُهُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ , فَصَاحَ : يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أُقْتَلُ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَخَلَّى سَبِيلَهُ . ثُمَّ قَالَ : إنَّ مِنْكُمْ مَنْ أَكِلُهُ إلَى إيمَانِهِ , مِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ . } 8 - وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ : أَنَّ الْجَاسُوسَ الْمُسْلِمَ يُعَزَّرُ وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ . وَإِنْ كَانَ ذَا هَيْئَةٍ ( أَيْ مَاضٍ كَرِيمٍ فِي خِدْمَةِ الْإِسْلَامِ ) عُفِيَ عَنْهُ لِحَدِيثِ حَاطِبٍ , وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَوْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِ الْأَمَانِ ذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ , وَفِي غَيْرِهِ يُنْتَقَضُ بِالشَّرْطِ . 9 -(1/178)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : أَنَّهُ يُنْتَقَضُ عَهْدُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِأَشْيَاءَ وَمِنْهَا : تَجَسُّسٌ أَوْ آوَى جَاسُوسًا , لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَاسُوسَ الْحَرْبِيَّ مُبَاحُ الدَّمِ يُقْتَلُ عَلَى أَيِّ حَالٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ , أَمَّا الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : إنَّهُ يُقْتَلُ . وَلِلشَّافِعِيَّةِ أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ , لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ . وَأَمَّا الْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ وَلَا يُقْتَلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُقْتَلُ .
مَنْ يَمْلِكُ التَّخَارُجَ :
6 - التَّخَارُجُ عَقْدُ صُلْحٍ , وَهُوَ فِي أَغْلَبِ أَحْوَالِهِ يُعْتَبَرُ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ , وَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَمْلِكُ التَّخَارُجَ أَهْلِيَّةَ التَّعَاقُدِ , وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ عَاقِلًا غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ , فَلَا يَصِحُّ التَّخَارُجُ مِنْ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ , وَلَا مِنْ الْمَجْنُونِ وَأَشْبَاهِهِ . وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ ذَا إرَادَةٍ , لِأَنَّ التَّخَارُجَ مَبْنَاهُ عَلَى الرِّضَا . ( ر : إكْرَاهٌ ) . وَيُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَمْلِكُ التَّخَارُجَ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ . وَفِي تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ خِلَافٌ بَيْنَ مَنْ يُجِيزُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ , وَهُمْ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ , وَبَيْنَ مَنْ لَا يُجِيزُهُ , وَهُمْ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ ( فُضُولِيٌّ ) . وَقَدْ يَكُونُ مِلْكُ التَّصَرُّفِ بِالْوَكَالَةِ , وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَقْتَصِرَ التَّصَرُّفُ عَلَى الْمَأْذُونِ بِهِ لِلْوَكِيلِ . ( ر : وَكَالَةٌ ) . وَقَدْ يَكُونُ مِلْكُ التَّصَرُّفِ كَذَلِكَ بِالْوِلَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ , وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَقْتَصِرَ تَصَرُّفُهُمَا عَلَى مَا فِيهِ الْحَظُّ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ . فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ فَرْحُونٍ عَنْ مُفِيدِ الْحُكَّامِ فِي الْأَبِ يُصَالِحُ عَنْ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ بِبَعْضِ حَقِّهَا مِنْ مِيرَاثٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ , وَحَقُّهَا بَيِّنٌ لَا خِصَامَ فِيهِ , أَنَّ صُلْحَهُ غَيْرُ جَائِزٍ , إذْ لَا نَظَرَ فِيهِ , أَيْ لَا مَصْلَحَةَ , وَتَرْجِعُ الِابْنَةُ بِبَقِيَّتِهِ عَلَى مَنْ هُوَ عَلَيْهِ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي : ( وِصَايَةٍ , وِلَايَةٍ ) .
تَخْوِيفٌ التَّعْرِيفُ :
1 - التَّخْوِيفُ مَصْدَرٌ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ , وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ : جَعْلُ الشَّخْصِ يَخَافُ , أَوْ جَعْلُهُ بِحَالَةٍ يَخَافُ النَّاسَ . يُقَالُ : خَوَّفَهُ تَخْوِيفًا : أَيْ جَعَلَهُ يَخَافُ , أَوْ صَيَّرَهُ بِحَالٍ يَخَافُهُ النَّاسُ . وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ : { إنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } أَيْ يَجْعَلُكُمْ تَخَافُونَ أَوْلِيَاءَهُ , وَقَالَ ثَعْلَبٌ : مَعْنَاهُ يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ . وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : الْإِنْذَارُ : 2 - الْإِنْذَارُ هُوَ : التَّخْوِيفُ مَعَ إعْلَامِ مَوْضِعِ الْمَخَافَةِ . فَإِذَا خَوَّفَ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ وَأَعْلَمَهُ حَالَ مَا يُخَوِّفُهُ بِهِ , فَقَدْ أَنْذَرَهُ . فَالْإِنْذَارُ أَخَصُّ مِنْ التَّخْوِيفِ . الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ : مَا يَكُونُ التَّخْوِيفُ بِهِ إكْرَاهًا : أ - التَّخْوِيفُ بِالْقَتْلِ وَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ : 3 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - أَنَّ الْإِكْرَاهَ يَحْصُلُ بِتَخْوِيفٍ بِقَتْلٍ أَوْ ضَرْبٍ شَدِيدٍ أَوْ حَبْسٍ طَوِيلٍ . أَمَّا التَّخْوِيفُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ الْيَسِيرَيْنِ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ طَبَقَاتِ النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ , فَالتَّخْوِيفُ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُبَالِي لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ , إلَّا أَنَّ التَّخْوِيفَ بِهِمَا يُعْتَبَرُ إكْرَاهًا فِي حَقِّ ذِي جَاهٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَضِرُّ بِهِمَا , كَمَا يَتَضَرَّرُ وَاحِدٌ مِنْ أَوْسَاطِ النَّاسِ بِالضَّرْبِ الشَّدِيدِ , وَذَلِكَ كَالْقَاضِي وَعَظِيمِ الْبَلَدِ , فَإِنَّ مُطْلَقَ الْقَيْدِ وَالْحَبْسِ إكْرَاهٌ فِي حَقِّهِ . وَقَالَ الْقَاضِي مِنْ الْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ - أَنَّ الْإِكْرَاهَ يَحْصُلُ بِالتَّخْوِيفِ بِالْقَتْلِ فَقَطْ . وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : أَنَّ التَّخْوِيفَ بِالْحَبْسِ لَا يَكُونُ إكْرَاهًا .
ب - التَّخْوِيفُ بِأَخْذِ الْمَالِ وَإِتْلَافِهِ :(1/179)
4 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - حُصُولُ الْإِكْرَاهِ بِالتَّخْوِيفِ بِأَخْذِ الْمَالِ " إذَا قَالَ مُتَغَلِّبٌ لِرَجُلٍ : إمَّا أَنْ تَبِيعَنِي هَذِهِ الدَّارَ أَوْ أَدْفَعَهَا إلَى خَصْمِك , فَبَاعَهَا مِنْهُ , فَهُوَ بَيْعُ مُكْرَهٍ . وَيَشْتَرِطُ الْقُهُسْتَانِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ لِحُصُولِ الْإِكْرَاهِ - كَمَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ عِبَارَةِ رَدِّ الْمُحْتَارِ - كَوْنُ التَّخْوِيفِ بِإِتْلَافِ كُلِّ الْمَالِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ - وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - إنَّ الْإِكْرَاهَ يَحْصُلُ بِأَخْذِ الْمَالِ الْكَثِيرِ بِإِتْلَافِهِ . وَهُنَاكَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ - أَنَّ التَّخْوِيفَ بِأَخْذِ الْمَالِ لَيْسَ إكْرَاهًا . وَلِلْفُقَهَاءِ تَفَاصِيلُ فِي مَعْنَى الْإِكْرَاهِ وَأَنْوَاعِهِ وَشُرُوطِهِ وَأَثَرِهِ وَمَا يَكُونُ التَّخْوِيفُ بِهِ إكْرَاهًا تُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ , وَفِي مُصْطَلَحِ ( إكْرَاهٌ ) .
تَرَاضٍ التَّعْرِيفُ :(1/180)
1 - التَّرَاضِي فِي اللُّغَةِ : تَفَاعُلٌ مِنْ الرِّضَا ضِدُّ السُّخْطِ , وَالرِّضَا : هُوَ الرَّغْبَةُ فِي الْفِعْلِ أَوْ الْقَوْلِ وَالِارْتِيَاحُ إلَيْهِ , وَالتَّفَاعُلُ يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ . وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي نَفْسِ الْمَعْنَى , حِينَمَا يَتَّفِقُ الْعَاقِدَانِ عَلَى إنْشَاءِ الْعَقْدِ دُونَ إكْرَاهٍ أَوْ نَحْوِهِ , فَيَقُولُونَ مَثَلًا : الْبَيْعُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي . وَفِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : عَنْ رِضًا مِنْكُمْ , وَجَاءَتْ مِنْ الْمُفَاعَلَةِ , إذْ التِّجَارَةُ تَكُونُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - الْإِرَادَةُ : 2 - الْإِرَادَةُ فِي اللُّغَةِ : الطَّلَبُ وَالْمَشِيئَةُ . وَيَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى : الْقَصْدِ وَالِاتِّجَاهِ إلَى الشَّيْءِ , فَهِيَ أَعَمُّ مِنْ الرِّضَا , فَقَدْ يُرِيدُ الْمَرْءُ شَيْئًا وَيَرْتَاحُ إلَيْهِ , فَيَجْتَمِعُ الرِّضَا مَعَ الْإِرَادَةِ , وَقَدْ لَا يَرْتَاحُ إلَيْهِ وَلَا يُحِبُّهُ , فَتَنْفَرِدُ الْإِرَادَةُ عَنْ الرِّضَا . ب - الِاخْتِيَارُ : 3 - الِاخْتِيَارُ : إرَادَةُ الشَّيْءِ بَدَلًا مِنْ غَيْرِهِ , وَأَصْلُهُ مِنْ الْخَيْرِ , فَالْمُخْتَارُ هُوَ الْمُرِيدُ لِخَيْرِ الشَّيْئَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ , أَوْ خَيْرُ الشَّيْئَيْنِ عِنْدَ نَفْسِهِ , وَقَدْ يَتَوَجَّهُ الْقَصْدَ إلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ دُونَ النَّظَرِ إلَى أَمْرٍ آخَرَ , وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَنْفَرِدُ الْإِرَادَةُ عَنْ الِاخْتِيَارِ . وَقَدْ يَخْتَارُ الْمُرْءُ أَمْرًا لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْتَاحُ إلَيْهِ , فَيَأْتِي الِاخْتِيَارُ بِدُونِ الرِّضَا , كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ : ( يَخْتَارُ أَهْوَنَ الشَّرَّيْنِ ) , وَالْمُكْرَهُ قَدْ يَخْتَارُ الشَّيْءَ وَلَا يَرْضَاهُ كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ . ( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) : 4 - الْأَصْلُ أَنَّ التَّرَاضِيَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ يَكُونُ قَوْلًا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ , وَقَدْ يَكُونُ قَوْلًا مِنْ أَحَدِهِمَا وَفِعْلًا مِنْ الطَّرَفِ الْآخَرِ , أَوْ فِعْلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا فِي الْمُعَاطَاةِ , وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( عَقْدٍ ) . وَإِذَا حَصَلَ التَّرَاضِي بِالْقَوْلِ يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ , فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ بِذَلِكَ , وَيَرْتَفِعُ الْخِيَارُ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : تَمَّامُ التَّرَاضِي وَلُزُومُهُ بِافْتِرَاقِ الْأَبْدَانِ , فَهُمَا عَلَى خِيَارِهِمَا أَبَدًا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا , كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ : { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا } . وَقَدْ فَسَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِافْتِرَاقِ الْأَقْوَالِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( افْتِرَاقٍ , وَخِيَارِ الْمَجْلِسِ ) . 5 - هَذَا , وَحَيْثُ إنَّ التَّرَاضِيَ أَسَاسُ انْعِقَادِ الْعُقُودِ , وَالْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ أَوْ التَّعَاطِيَ وَنَحْوَهُمَا وَسِيلَةٌ لِلتَّعْبِيرِ عَنْهُ , يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرِّضَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ خَالِيًا عَنْ الْعُيُوبِ , وَإِلَّا اخْتَلَّ التَّرَاضِي , فَيَخْتَلُّ الْعَقْدُ . وَيَخْتَلُّ التَّرَاضِي بِأَسْبَابٍ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي : أ - الْإِكْرَاهُ : 6 - وَهُوَ حَمْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى أَمْرٍ يَمْتَنِعُ عَنْهُ بِتَخْوِيفٍ يَقْدِرُ الْحَامِلُ عَلَى إيقَاعِهِ . وَبِمَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُعْدِمُ الرِّضَا , فَإِنَّ الْعَقْدَ يَفْسُدُ بِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ , وَيَصِيرُ قَابِلًا لِلْفَسْخِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ : يَتَوَقَّفُ حُكْمُهُ عَلَى إجَازَةِ الْمُكْرَهِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ , وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( إكْرَاهٍ ) . ب - الْهَزْلُ : 7 - وَهُوَ ضِدُّ الْجِدِّ , بِأَنْ يُرَادَ بِالشَّيْءِ مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ , وَلَا مَا صَحَّ لَهُ اللَّفْظُ اسْتِعَارَةً . وَالْهَازِلُ يَتَكَلَّمُ بِصِيغَةِ الْعَقْدِ بِاخْتِيَارِهِ , لَكِنْ لَا يَخْتَارُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ وَلَا يَرْضَاهُ , وَلِهَذَا لَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ عِنْد أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ , وَلَهُ آثَارُهُ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ كَالزَّوَاجِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ ( ر : هَزْلٌ ) . ج - الْمُوَاضَعَةُ أَوْ التَّلْجِئَةُ : 8 - وَهِيَ أَنْ يَتَظَاهَرَ الْعَاقِدَانِ بِإِنْشَاءِ عَقْدٍ صُورِيٍّ لِلْخَوْفِ مِنْ ظَالِمٍ وَنَحْوِهِ , وَلَا يُرِيدَانِهِ فِي الْوَاقِعِ , وَالْعَقْدُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ : فَاسِدٌ , أَوْ بَاطِلٌ , أَوْ جَائِزٌ , عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ : ( مُوَاضَعَةٌ وَتَلْجِئَةٌ ) . د - التَّغْرِيرُ : 9 - هُوَ إيقَاعُ الشَّخْصِ فِي الْغَرَرِ , أَيْ : الْخَطَرِ , كَأَنْ يُوصَفَ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ صِفَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ لِتَرْغِيبِهِ فِي الْعَقْدِ . فَإِذَا غَرَّ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ الْآخَرَ , وَتَحَقَّقَ أَنَّ فِي الْبَيْعِ غَبْنًا فَاحِشًا فَلِلْمَغْبُونِ أَنْ يَفْسَخَ(1/181)
الْعَقْدَ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( غَبْنٌ وَتَغْرِيرٌ ) . وَهُنَاكَ أَسْبَابٌ أُخْرَى يَخْتَلُّ بِهَا التَّرَاضِي كَالْغَلَطِ وَالتَّدْلِيسِ وَالْجَهْلِ وَالنِّسْيَانِ وَنَحْوِهَا , وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي كُلٍّ مِنْهَا فِي مُصْطَلَحَاتِهَا . ( مَوَاطِنُ الْبَحْثِ ) : 10 - يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَنْ التَّرَاضِي فِي : إنْشَاءِ الْعُقُودِ , وَلَا سِيَّمَا فِي تَعْرِيفِ الْبَيْعِ , وَفِي الْإِقَالَةِ , وَفِي مُوَافَقَةِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى مِقْدَارِ الصَّدَاقِ بَعْدَ الْعَقْدِ , أَوْ الزِّيَادَةِ أَوْ النُّقْصَانِ فِيهِ فِي بَحْثِ الْمَهْرِ , وَفِي الْخُلْعِ , وَالصُّلْحِ , وَاتِّفَاقِ الْأَبَوَيْنِ عَلَى فِطَامِ الْمَوْلُودِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ فِي بَحْثِ الرَّضَاعِ . وَتَفْصِيلُ مَا يَتَّصِلُ بِالتَّرَاضِي مِنْ طَرَفَيْنِ أَوْ طَرَفٍ وَاحِدٍ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ : ( رِضًا ) .
تَرْسِيمٌ التَّعْرِيفُ :
1 - التَّرْسِيمُ لُغَةً مَصْدَرُ رَسَمَ . جَاءَ فِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ : رَسَمَ الثَّوْبَ : خَطَّطَهُ خُطُوطًا خَفِيَّةً . وَالِاسْمُ : الرَّسْمُ . وَلِلرَّسْمِ مَعَانٍ مِنْهَا الْأَثَرُ يُقَالُ : رَسَمَتْ النَّاقَةُ : إذَا أَثَّرَتْ فِي الْأَرْضِ مِنْ شِدَّةِ الْوَطْءِ . وَرَسَمَ الْغَيْثُ الدِّيَارَ يَرْسُمُهَا رَسْمًا : إذَا عَفَاهَا وَأَبْقَى أَثَرَهَا لَاصِقًا بِالْأَرْضِ . وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ يُقَالُ : رَسَمَ لَهُ كَذَا إذَا أَمَرَهُ بِهِ فَارْتَسَمَ : أَيْ امْتَثَلَ بِهِ . وَالتَّرْسِيمُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ - كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ - هُوَ : التَّضْيِيقُ عَلَى الشَّخْصِ , وَتَحْدِيدُ حَرَكَتِهِ , بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَذْهَبَ مِنْ مَكَان إلَى آخَرَ . حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ : الشَّهَادَةُ عَلَى إقْرَارِ ذِي التَّرْسِيمِ : 2 - جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الْقَلْيُوبِيِّ عَلَى شَرْحِ الْمِنْهَاجِ : لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى إقْرَارٍ نَحْوَ مَحْبُوسٍ وَذِي تَرْسِيمٍ ; لِوُجُودِ أَمَارَةِ الْإِكْرَاهِ . كَمَا لَا يَصِحُّ مِنْ الْمَحْبُوسِ وَذِي التَّرْسِيمِ إقْرَارُهُ بِحَقٍّ أَوْ مَا يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ . قَالَ فِي شَرْحِ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى : تُقْبَلُ مِنْ مُقِرٍّ وَنَحْوِهِ دَعْوَى إكْرَاهٍ عَلَى إقْرَارٍ بِقَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى إكْرَاهٍ , كَتَهْدِيدِ قَادِرٍ عَلَى مَا هُدِّدَ بِهِ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ حَبْسٍ , وَتَرْسِيمٍ عَلَيْهِ أَوْ سِجْنِهِ أَوْ أَخْذِ مَالِهِ وَنَحْوِهِ ; لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ .
13 - الْأَصْلُ أَنَّ التَّزْوِيرَ فِي الْيَمِينِ حَرَامٌ ,
وَهِيَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ : وَهِيَ الَّتِي يَكْذِبُ فِيهَا الْحَالِفُ عَامِدًا عَالِمًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الَّتِي يَكْذِبُ فِيهَا الْحَالِفُ عَمْدًا , أَوْ يَشُكُّ فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ , أَوْ يَظُنُّ مِنْهُ ظَنًّا غَيْرَ قَوِيٍّ . وَقَدْ يَكُونُ تَزْوِيرُ الْيَمِينِ جَائِزًا أَوْ وَاجِبًا - عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ - فِيمَا إذَا تَعَيَّنَ تَزْوِيرُ الْيَمِينِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهَا أَوْ الِاضْطِرَارِ إلَيْهَا , لِدَفْعِ الْأَذَى عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ مَظْلُومٍ . وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ أَحْكَامِ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ فِي مُصْطَلَحِ : ( أَيْمَانٌ )
مُخَالَفَةُ التَّسْعِيرِ
أ - حُكْمُ الْبَيْعِ مَعَ مُخَالَفَةِ التَّسْعِيرِ :(1/182)
24 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ , وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الْأَصَحِّ - إلَى أَنَّ مَنْ خَالَفَ التَّسْعِيرَ صَحَّ بَيْعُهُ ; إذْ لَمْ يُعْهَدْ الْحَجْرُ عَلَى الشَّخْصِ فِي مِلْكِهِ أَنْ يَبِيعَ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ . وَلَكِنْ إذَا سَعَّرَ الْإِمَامُ وَخَافَ الْبَائِعُ أَنْ يُعَزِّرَهُ الْإِمَامُ لَوْ نَقَصَ عَمَّا سَعَّرَهُ , فَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي الشِّرَاءُ بِمَا سَعَّرَهُ الْإِمَامُ ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُكْرِهِ , وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ : بِعْنِي بِمَا تُحِبُّ , لِيَصِحَّ الْبَيْعُ . وَصِحَّةُ الْبَيْعِ مَعَ مُخَالَفَةِ التَّسْعِيرِ مُتَبَادَرٌ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ : وَمَنْ زَادَ فِي سِعْرٍ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ أُمِرَ بِإِلْحَاقِهِ بِسِعْرِ النَّاسِ , فَإِنْ أَبِي أُخْرِجَ مِنْ السُّوقِ . وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بُطْلَانُ الْبَيْعِ . لَكِنْ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إنْ هَدَّدَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ الْمُخَالِفَ لِلتَّسْعِيرِ بَطَلَ الْبَيْعُ ; لِأَنَّهُ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِنَوْعِ مَصْلَحَةٍ ; وَلِأَنَّ الْوَعِيدَ إكْرَاهٌ . ب - ( عُقُوبَةُ الْمُخَالِفِ ) : 25 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْإِمَامَ لَهُ أَنْ يُعَزِّرَ مَنْ خَالَفَ التَّسْعِيرَ الَّذِي رَسَمَهُ ; لِمَا فِيهِ مُجَاهَرَةَ الْإِمَامِ بِالْمُخَالَفَةِ . وَسُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ مُتَوَلِّي الْحِسْبَةِ إذَا سَعَّرَ الْبَضَائِعَ بِالْقِيمَةِ , وَتَعَدَّى بَعْضُ السُّوقِيَّةِ , فَبَاعَ بِأَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ , هَلْ لَهُ أَنْ يُعَزِّرَهُ عَلَى ذَلِكَ ؟ فَأَجَابَ : إذَا تَعَدَّى السُّوقِيُّ وَبَاعَ بِأَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ يُعَزِّرُهُ عَلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا قَدْرُ التَّعْزِيرِ , وَكَيْفِيَّتُهُ , فَمُفَوَّضٌ إلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ , وَقَدْ يَكُونُ الْحَبْسَ أَوْ الضَّرْبَ , أَوْ الْعُقُوبَةَ الْمَالِيَّةَ , أَوْ الطَّرْدَ مِنْ السُّوقِ وَغَيْرَ ذَلِكَ . هَذَا كُلُّهُ فِي الْحَالَاتِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا التَّسْعِيرُ . أَمَّا حَيْثُ لَا يَجُوزُ التَّسْعِيرُ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَاهُ فَلَا عُقُوبَةَ عَلَى مُخَالِفِ التَّسْعِيرِ .
تَشَبُّهٌ التَّعْرِيفُ :(1/183)
1 - التَّشَبُّهُ لُغَةً : مَصْدَرُ تَشَبَّهَ , يُقَالُ : تَشَبَّهَ فُلَانٌ : بِفُلَانٍ إذَا تَكَلَّفَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ وَالْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ : الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهُمَا فِي مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي , وَمِنْهُ : أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَبَاهُ : إذَا شَارَكَهُ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ . وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : 2 - مِنْهَا : الِاتِّبَاعُ وَالتَّأَسِّي وَالتَّقْلِيدُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا تَحْتَ عِنْوَانٍ : ( اتِّبَاعٌ ) . 3 - وَمِنْهَا : الْمُوَافَقَةُ , وَهِيَ : مُشَارَكَةُ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ لِلْآخَرِ فِي صُورَةِ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ أَوْ اعْتِقَادٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ , سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْآخَرِ أَمْ لَا لِأَجْلِهِ . فَالْمُوَافَقَةُ أَعَمُّ مِنْ التَّشَبُّهِ . الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّشَبُّهِ : أَوَّلًا - التَّشَبُّهُ بِالْكُفَّارِ فِي اللِّبَاسِ : 4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ , وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ , وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى : أَنَّ التَّشَبُّهَ بِالْكُفَّارِ فِي اللِّبَاسِ - الَّذِي هُوَ شِعَارٌ لَهُمْ بِهِ يَتَمَيَّزُونَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ - يُحْكَمُ بِكُفْرِ فَاعِلِهِ ظَاهِرًا , أَيْ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا , فَمَنْ وَضَعَ قَلَنْسُوَةَ الْمَجُوسِ عَلَى رَأْسِهِ يَكْفُرُ , إلَّا إذَا فَعَلَهُ لِضَرُورَةِ الْإِكْرَاهِ أَوْ لِدَفْعِ الْحَرِّ أَوْ الْبَرْدِ . وَكَذَا إذَا لَبِسَ زُنَّارَ النَّصَارَى إلَّا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ خَدِيعَةً فِي الْحَرْبِ وَطَلِيعَةً لِلْمُسْلِمِينَ . أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لِحَدِيثِ : { مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ } لِأَنَّ اللِّبَاسَ الْخَاصَّ بِالْكُفَّارِ عَلَامَةُ الْكُفْرِ , وَلَا يَلْبَسُهُ إلَّا مَنْ الْتَزَمَ الْكُفْرَ , وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْعَلَامَةِ وَالْحُكْمُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مُقَرَّرٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ . فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ شَدَّ الزُّنَّارَ لَا لِاعْتِقَادِ حَقِيقَةِ الْكُفْرِ , بَلْ لِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ لِتَخْلِيصِ الْأَسَارَى مَثَلًا لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ . وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ - وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ - أَنَّ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالْكَافِرِ فِي الْمَلْبُوسِ الْخَاصِّ بِهِ لَا يُعْتَبَرُ كَافِرًا , إلَّا أَنْ يَعْتَقِدَ مُعْتَقَدَهُمْ ; لِأَنَّهُ مُوَحِّدٌ بِلِسَانِهِ مُصَدِّقٌ بِجِنَانِهِ . وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله : لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْ الْإِيمَانِ إلَّا مِنْ الْبَابِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ , وَالدُّخُولُ بِالْإِقْرَارِ وَالتَّصْدِيقِ , وَهُمَا قَائِمَانِ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى حُرْمَةِ التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ فِي اللِّبَاسِ الَّذِي هُوَ شِعَارٌ لَهُمْ . قَالَ الْبُهُوتِيُّ : إنْ تَزَيَّا مُسْلِمٌ بِمَا صَارَ شِعَارًا لِأَهْلِ ذِمَّةٍ , أَوْ عَلَّقَ صَلِيبًا بِصَدْرِهِ حَرُمَ , وَلَمْ يَكْفُرْ بِذَلِكَ كَسَائِرِ الْمَعَاصِي . وَيَرَى النَّوَوِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَنْ لَبِسَ الزُّنَّارَ وَنَحْوَهُ لَا يَكْفُرُ إذَا لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ . أَحْوَالُ تَحْرِيمِ التَّشَبُّهِ : وَبِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ كُفْرَ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالْكُفَّارِ فِي اللِّبَاسِ الْخَاصِّ بِهِمْ بِقُيُودٍ مِنْهَا : 5 - أَنْ يَفْعَلَهُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ , قَالَ أَحْمَدُ الرَّمْلِيُّ : كَوْنُ التَّزَيِّي بِزِيِّ الْكُفَّارِ رِدَّةً مَحَلُّهُ إذَا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ . أَمَّا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ رِدَّةً ; لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ , أَوْ أَنْ يُكْرَهَ عَلَى ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : لَوْ أَنَّ الْمُسْلِمَ بِدَارِ حَرْبٍ أَوْ دَارِ كُفْرٍ غَيْرِ حَرْبٍ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِالْمُخَالَفَةِ لَهُمْ ( لِلْكُفَّارِ ) فِي الْهَدْيِ الظَّاهِرِ ; لِمَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ بَلْ قَدْ يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَوْ يَجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُشَارِكَهُمْ أَحْيَانًا فِي هَدْيِهِمْ الظَّاهِرِ , إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ , مِنْ دَعْوَتِهِمْ إلَى الدِّينِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى بَاطِنِ أُمُورِهِمْ لِإِخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ , أَوْ دَفْعِ ضَرَرِهِمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ . فَأَمَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ الَّتِي أَعَزَّ اللَّهُ فِيهَا دِينَهُ , وَجَعَلَ عَلَى الْكَافِرِينَ فِيهَا الصَّغَارَ وَالْجِزْيَةَ فَفِيهَا شُرِعَتْ الْمُخَالَفَةُ . 6 - أَنْ يَكُونَ التَّشَبُّهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ , فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ لَا يَكْفُرُ , فَمَنْ شَدَّ عَلَى وَسَطِهِ زُنَّارًا وَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ لِتَخْلِيصِ الْأَسْرَى , أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ خَدِيعَةً فِي الْحَرْبِ وَطَلِيعَةً لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَكْفُرُ . وَكَذَلِكَ إنْ وَضَعَ قَلَنْسُوَةَ الْمَجُوسِ عَلَى رَأْسِهِ لِضَرُورَةِ دَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ لَا يَكْفُرُ . 7 - أَنْ يَكُونَ(1/184)
التَّشَبُّهُ فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْكَافِرِ , كَبُرْنِيطَةِ النَّصْرَانِيِّ وَطُرْطُورِ الْيَهُودِيِّ . وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِتَحَقُّقِ الرِّدَّةِ بِجَانِبِ ذَلِكَ : أَنْ يَكُونَ الْمُتَشَبِّهُ قَدْ سَعَى بِذَلِكَ لِلْكَنِيسَةِ وَنَحْوِهَا . 8 - أَنْ يَكُونَ التَّشَبُّهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ اللِّبَاسُ الْمُعَيَّنُ شِعَارًا لِلْكُفَّارِ , وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ حَجَرٍ حَدِيثَ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا عَلَيْهِمْ الطَّيَالِسَةُ , فَقَالَ : كَأَنَّهُمْ يَهُودُ خَيْبَرَ ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ : وَإِنَّمَا يَصْلُحُ الِاسْتِدْلَال بِقِصَّةِ الْيَهُودِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَكُونُ الطَّيَالِسَةُ مِنْ شِعَارِهِمْ , وَقَدْ ارْتَفَعَ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ , فَصَارَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ الْمُبَاحِ . 9 - أَنْ يَكُونَ التَّشَبُّهُ مَيْلًا لِلْكُفْرِ , فَمَنْ تَشَبَّهَ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ وَالسُّخْرِيَةِ لَمْ يَرْتَدَّ , بَلْ يَكُونُ فَاسِقًا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ , وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . 10 - هَذَا , وَالتَّشَبُّهُ فِي غَيْرِ الْمَذْمُومِ وَفِيمَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّشَبُّهُ لَا بَأْسَ بِهِ . قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ : إنَّ التَّشَبُّهَ ( بِأَهْلِ الْكِتَابِ ) لَا يُكْرَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ , بَلْ فِي الْمَذْمُومِ وَفِيمَا يُقْصَدُ بِهِ التَّشَبُّهُ . قَالَ هِشَامٌ : رَأَيْت أَبَا يُوسُفَ لَابِسًا نَعْلَيْنِ مَخْصُوفَيْنِ بِمَسَامِيرَ فَقُلْت أَتَرَى بِهَذَا الْحَدِيدِ بَأْسًا ؟ قَالَ : لَا , قُلْت : سُفْيَانُ وَثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ كَرِهَا ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ تَشَبُّهًا بِالرُّهْبَانِ , فَقَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَهَا شَعْرٌ وَإِنَّهَا مِنْ لِبَاسِ الرُّهْبَانِ } . فَقَدْ أَشَارَ إلَى أَنَّ صُورَةَ الْمُشَابَهَةِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ صَلَاحُ الْعِبَادِ لَا يَضُرُّ , فَإِنَّ الْأَرْضَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ فِيهَا إلَّا بِهَذَا النَّوْعِ . وَلِلتَّفْصِيلِ ر : ( رِدَّةٌ , كُفْرٌ ) .
سَابِعًا : التَّعَدِّي عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا :
13 - التَّعَدِّي عَلَى الْأَبْدَانِ بِمَا يُوجِبُ قِصَاصًا أَوْ غَيْرَهُ هُوَ : قَتْلُ الْآدَمِيِّ بِغَيْرِ حَقٍّ , بِأَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَدًّا , أَوْ زَانِيًا مُحْصَنًا , أَوْ قَاتِلًا لِمُكَافِئِهِ , أَوْ حَرْبِيًّا . ( وَمِثْلُهُ قَتْلُ الصَّائِلِ ) . وَالتَّعَدِّي عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا : يَكُونُ بِالْمُبَاشَرَةِ أَوْ بِالتَّسَبُّبِ , كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا أَوْ حُفْرَةً فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَوَقَعَ فِيهِ إنْسَانٌ . أَوْ بِالسَّبَبِ , كَالْإِكْرَاهِ عَلَى التَّعَدِّي . وَالتَّعَدِّي بِأَنْوَاعِهِ يُوجِبُ الضَّمَانَ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُلْحِقُ ضَرَرًا بِالْغَيْرِ . أَمَّا الْقَتْلُ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ - وَهُوَ الْقَتْلُ بِحَقٍّ - فَلَا ضَمَانَ فِيهِ , كَرَجْمِ الزَّانِي . وَالتَّعَدِّي عَلَى النَّفْسِ يَكُونُ بِالْقَتْلِ عَمْدًا أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ - عِنْدَ الْجُمْهُورِ - أَوْ قَتْلًا خَطَأً . وَيَجِبُ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ : الْقَوَدُ , أَوْ الدِّيَةُ . وَيَجِبُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ : الدِّيَةُ فَقَطْ , عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي ( جِنَايَةٌ , قَتْلٌ , قِصَاصٌ ) . أَمَّا التَّعَدِّي عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ , فَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَفِيهِ الْقِصَاصُ , أَوْ الدِّيَةُ , وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَفِيهِ الدِّيَةُ . عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( جِنَايَةٌ , جِرَاحٌ , قِصَاصٌ ) . وَمِثْلُ التَّعَدِّي بِإِتْلَافِ الْعُضْوِ : التَّعَدِّي بِإِتْلَافِ مَنْفَعَةِ الْعُضْوِ , فَفِيهِ الضَّمَانُ أَيْضًا . 14 - وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَنْ التَّعَدِّي فِي الْعُقُوبَاتِ وَالْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ فِي مُصْطَلَحِ : ( إسْرَافٌ ) .
أَنْوَاعُ التَّعْذِيبِ :(1/185)
6 - يَنْقَسِمُ التَّعْذِيبُ إلَى قِسْمَيْنِ : الْأَوَّلُ : تَعْذِيبُ الْإِنْسَانِ . الثَّانِي : تَعْذِيبُ الْحَيَوَانِ . وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَنْقَسِمُ : إلَى مَشْرُوعٍ , وَغَيْرِ مَشْرُوعٍ , فَالْأَقْسَامُ أَرْبَعَةٌ وَهِيَ : ( 1 ) التَّعْذِيبُ الْمَشْرُوعُ لِلْإِنْسَانِ . ( 2 ) التَّعْذِيبُ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ لِلْإِنْسَانِ . ( 3 ) التَّعْذِيبُ الْمَشْرُوعُ لِلْحَيَوَانِ ( 4 ) التَّعْذِيبُ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ لِلْحَيَوَانِ 7 - أَمَّا الْأَوَّلُ : فَهُوَ التَّعْذِيبُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِيَّةِ , كَالْحُدُودِ , وَالْقِصَاصِ , وَالتَّعْزِيرَاتِ بِأَنْوَاعِهَا . أَوْ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ : كَتَأْدِيبِ الْأَوْلَادِ . أَوْ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ , كَالْكَيِّ فِي التَّدَاوِي , إذَا تَعَيَّنَ عِلَاجًا فَإِنَّهُ مُبَاحٌ . وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْحَاجَةُ لِأَجْلِ التَّدَاوِي فَإِنَّهُ حَرَامٌ , لِأَنَّهُ تَعْذِيبٌ بِالنَّارِ , وَلَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا خَالِقُهَا . وَمِنْ الْمَشْرُوعِ رَمْيُ الْأَعْدَاءِ بِالنَّارِ وَلَوْ حَصَلَ تَعْذِيبُهُمْ بِهَا , وَذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ إمْكَانِ أَخْذِهِمْ بِغَيْرِ التَّحْرِيقِ , لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي غَزَوَاتِهِمْ , وَأَمَّا تَعْذِيبُهُمْ بِالنَّارِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ فَلَا يَجُوزُ , لِمَا رَوَى حَمْزَةُ الْأَسْلَمِيُّ رضي الله عنه { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَّرَهُ عَلَى سَرِيَّةٍ وَقَالَ لَهُ : إنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا فَاحْرِقُوهُ بِالنَّارِ فَوَلَّيْت فَنَادَانِي , فَرَجَعْت إلَيْهِ فَقَالَ : إنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا فَاقْتُلُوهُ , وَلَا تَحْرُقُوهُ , فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّ النَّارِ } وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ ( إحْرَاقٌ 2 125 ) وَمِنْ أَنْوَاعِ التَّعْذِيبِ الْمَشْرُوعِ : ضَرْبُ الْأَبِ أَوْ الْأُمِّ وَلَدَهُمَا تَأْدِيبًا , وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ , أَوْ الْمُعَلِّمِ بِإِذْنِ الْأَبِ تَعْلِيمًا . وَذَكَرَ فِي الْقُنْيَةِ : لَهُ إكْرَاهُ طِفْلِهِ عَلَى تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ , وَالْأَدَبِ , وَالْعِلْمِ , لِفَرْضِيَّتِهِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ , وَلَهُ ضَرْبُ الْيَتِيمِ فِيمَا يَضْرِبُ وَلَدَهُ , وَالْأُمُّ كَالْأَبِ فِي التَّعْلِيمِ , بِخِلَافِ التَّأْدِيبِ , فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ بِضَرْبِ الْأُمِّ تَأْدِيبًا فَعَلَيْهَا الضَّمَانُ . وَمِمَّا يُذْكَرُ : أَنَّ ضَرْبَ التَّأْدِيبِ مُقَيَّدٌ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ , وَمَحَلُّهُ فِي الضَّرْبِ الْمُعْتَادِ , كَمًّا وَكَيْفًا وَمَحَلًّا , فَلَوْ ضَرَبَهُ عَلَى الْوَجْهِ أَوْ عَلَى الْمَذَاكِيرِ يَجِبُ الضَّمَانُ بِلَا خِلَافٍ , وَلَوْ سَوْطًا وَاحِدًا , لِأَنَّهُ إتْلَافٌ . وَمِنْ التَّعْذِيبِ الْمَشْرُوعِ لِلْإِنْسَانِ ثَقْبُ أُذُنِ الطِّفْلِ مِنْ الْبَنَاتِ , لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ .
التَّعْوِيضُ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ :
17 - تَقَدَّمَ فِي مُصْطَلَحَيْ ( إكْرَاهٌ وَإِتْلَافٌ ) اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي التَّعْوِيضِ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ , هَلْ يَكُونُ عَلَى الْمُكْرِهِ ( بِكَسْرِ الرَّاءِ ) فَقَطْ , أَوْ يَكُونُ عَلَى الْمُكْرَهِ ( بِفَتْحِ الرَّاءِ ) أَيْضًا لِمُبَاشَرَتِهِ لِلْإِتْلَافِ ؟ اُنْظُرْ ( إكْرَاهٌ , إتْلَافٌ )
تَفَرُّقُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ :(1/186)
5 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ , وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ التَّفَرُّقَ بَعْدَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ لِخَبَرِ : { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا } . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا , وَأَقَامَا مُدَّةً طَوِيلَةً , فَالْخِيَارُ بِحَالِهِ , وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ لِعَدَمِ التَّفَرُّقِ . لِمَا رَوَى أَبُو الْوَضِيءِ - عَبَّادُ بْنُ نُسَيْبٍ - { : غَزَوْنَا غَزْوَةً , فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا , فَبَاعَ صَاحِبٌ لَنَا فَرَسًا بِغُلَامٍ , ثُمَّ أَقَامَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا , فَلَمَّا أَصْبَحَا مِنْ الْغَدِ حَضَرَ الرَّحِيلُ , فَقَامَ إلَى فَرَسِهِ يُسَرِّجُهُ فَنَدِمَ , فَأَتَى الرَّجُلُ وَأَخَذَهُ بِالْبَيْعِ , فَأَبَى الرَّجُلُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ , فَقَالَ : بَيْنِي وَبَيْنَك أَبُو بَرْزَةَ صَاحِبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيَا أَبَا بَرْزَةَ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ فَقَالَا لَهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ : أَتَرْضَيَانِ أَنْ أَحْكُمَ بَيْنَكُمَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَمَا أَرَاكُمَا افْتَرَقْتُمَا } . الْإِكْرَاهُ عَلَى التَّفَرُّقِ : 6 - إنْ أُكْرِهَ الشَّخْصُ عَلَى التَّفَرُّقِ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ - وَهُمَا رِوَايَتَانِ لِلْحَنَابِلَةِ - أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَبْطُلُ الْخِيَارُ , لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ الْفَسْخُ بِالتَّخَايُرِ , وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِصَاحِبِهِ : اخْتَرْ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ , فَحَيْثُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ . الثَّانِي : لَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ السُّكُوتِ , وَالسُّكُوتُ لَا يُسْقِطُ الْخِيَارَ . وَلَمْ يَأْخُذْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ أَصْلًا . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ ( خِيَارُ الْمَجْلِسِ ) .
حُكْمُ الْعَمَلِ بِالتَّقِيَّةِ :(1/187)
9 - تَقَدَّمَتْ الْأَدِلَّةُ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالتَّقِيَّةِ . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حُكْمِهَا . فَقِيلَ : إذَا وُجِدَ سَبَبُهَا وَتَحَقَّقَ شَرْطُهَا فَهِيَ وَاجِبَةٌ , لِأَنَّ إنْقَاذَ النَّفْسِ مِنْ الْهَلَكَةِ أَوْ الْإِيذَاءِ الْعَظِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهَا فِي تَقْدِيرِ الْمُكَلَّفِ لقوله تعالى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْأَوْلَى لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ بِظَاهِرِهِ , كَمَا هُوَ عَلَيْهِ بِبَاطِنِهِ . وَقَدْ يَكُونُ الثَّبَاتُ أَفْضَلَ وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَمَثُوبَةً وَلَوْ كَانَ الْعُذْرُ قَائِمًا , وَثَبَتَ هَذَا بِالْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , فَمِنْ الْكِتَابِ مَا فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ , فَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى عَذَابِ الْحَرِيقِ فِي الْأُخْدُودِ , وَاخْتَارُوا ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُظْهِرُوا الرُّجُوعَ عَنْ دِينِهِمْ . وَثَنَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الثَّبَاتِ يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ مَوْقِفِهِمْ عَلَى مَوْقِفِ الْعَمَلِ بِالتَّقِيَّةِ فِي قَضِيَّةِ إظْهَارِ الْكُفْرِ . وَمِنْهَا قوله تعالى : { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } . وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { لَا تُشْرِكْ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ قُتِّلْت وَحُرِّقْت } وَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ مُسَيْلِمَةَ , فَقَدْ عَذَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّحَابِيَّ الَّذِي وَافَقَ مُسَيْلِمَةَ وَقَالَ فِيهِ : { لَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ } وَقَالَ فِي حَقِّ الَّذِي ثَبَتَ فَقُتِلَ : { مَضَى عَلَى صِدْقِهِ وَيَقِينِهِ , وَأَخَذَ بِفَضْلِهِ , فَهَنِيئًا لَهُ } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّفْضِيلِ . وَاحْتَجَّ السَّرَخْسِيُّ أَيْضًا بِقِصَّةِ { خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ لَمَّا امْتَنَعَ مِنْ مُوَافَقَةِ قُرَيْشٍ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى قَتَلُوهُ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ وَقَالَ : هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ } . 10 - وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَابًا بِعِنْوَانِ ( بَابُ مَنْ اخْتَارَ الضَّرْبَ وَالْقَتْلَ وَالْهَوَانَ عَلَى الْكُفْرِ ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ أَنَّهُ قَالَ { شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ , فَقُلْنَا : أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا ؟ أَلَا تَدْعُو لَنَا ؟ فَقَالَ : قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ , فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ لَهُ فِيهَا , فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ , وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مِنْ دُونِ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ , فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم وَاَللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إلَى حَضْرَمَوْتَ , لَا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ , وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ } . وَهُوَ وَاضِحُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ . وَهَكَذَا كُلُّ أَمْرٍ فِيهِ إعْزَازٌ لِلدِّينِ وَإِعْلَاءٌ لِكَلِمَةِ اللَّهِ وَإِظْهَارٌ لِثَبَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَبَسَالَتِهِمْ , وَتَثْبِيتٌ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْحَقِّ , يَكُونُ الثَّبَاتُ عَلَى الْحَقِّ وَإِظْهَارُهُ أَوْلَى مِنْ التَّقِيَّةِ , وَهَذَا بِخِلَافِ نَحْوِ الْإِكْرَاهِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَحَيْثُ لَا تَظْهَرُ الْمَصَالِحُ الْمَذْكُورَةُ . قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ لِلتَّقِيَّةِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَهَا : 11 - ( الْحُكْمُ الْأَوَّلُ ) : أَنَّ التَّقِيَّةَ إنَّمَا تَكُونُ إذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي قَوْمٍ كُفَّارٍ , وَيَخَافُ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ فَيُدَارِيهِمْ بِاللِّسَانِ , وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يُظْهِرَ الْعَدَاوَةَ بِاللِّسَانِ , بَلْ يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُظْهِرَ الْكَلَامَ الْمُوهِمَ لِلْمَحَبَّةِ وَالْمُوَالَاةِ , وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُضْمِرَ خِلَافَهُ , وَأَنْ يُعَرِّضَ فِي كُلِّ مَا يَقُولُ , فَإِنَّ التَّقِيَّةَ تَأْثِيرُهَا فِي الظَّاهِرِ لَا فِي أَحْوَالِ الْقُلُوبِ . 12 - ( الْحُكْمُ الثَّانِي لِلتَّقِيَّةِ ) : أَنَّهُ لَوْ أَفْصَحَ بِالْإِيمَانِ وَالْحَقِّ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ التَّقِيَّةُ كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ , وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قِصَّةِ مُسَيْلِمَةَ . 13 - ( الْحُكْمُ الثَّالِثُ لِلتَّقِيَّةِ ) : أَنَّهَا إنَّمَا تَجُوزُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ , وَقَدْ تَجُوزُ أَيْضًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الدِّينِ فَأَمَّا مَا يَرْجِعُ ضَرَرُهُ إلَى الْغَيْرِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَى وَغَصْبِ الْأَمْوَالِ وَالشَّهَادَةِ بِالزُّورِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ وَاطِّلَاعِ الْكُفَّارِ عَلَى عَوْرَاتِ(1/188)
الْمُسْلِمِينَ , فَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ أَلْبَتَّةَ . 14 - ( الْحُكْمُ الرَّابِعُ ) : ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقِيَّةَ إنَّمَا تَحِلُّ مَعَ الْكُفَّارِ الْغَالِبِينَ إلَّا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه أَنَّ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إذَا شَاكَلَتْ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ حَلَّتْ التَّقِيَّةُ مُحَامَاةً عَلَى النَّفْسِ . 15 - ( الْحُكْمُ الْخَامِسُ ) : التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ النَّفْسِ , وَهَلْ هِيَ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ الْمَالِ ؟ يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهَا بِالْجَوَازِ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ } وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَالِ شَدِيدَةٌ وَالْمَاءُ إذَا بِيعَ بِالْغَبْنِ سَقَطَ فَرْضُ الْوُضُوءِ , وَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى التَّيَمُّمِ دَفْعًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ نُقْصَانِ الْمَالِ , فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ هَاهُنَا . 16 - ( الْحُكْمُ السَّادِسُ ) : قَالَ مُجَاهِدٌ : هَذَا الْحُكْمُ كَانَ ثَابِتًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَمَّا بَعْدَ قُوَّةِ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ فَلَا , وَرَوَى عَوْفٌ عَنْ الْحَسَنِ : أَنَّهُ قَالَ التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى , لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ النَّفْسِ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .
شُرُوطُ جَوَازِ التَّقِيَّةِ :(1/189)
17 - أ - يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ التَّقِيَّةِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ خَوْفٌ مِنْ مَكْرُوهٍ , عَلَى مَا يُذْكَرُ تَفْصِيلُهُ بَعْدُ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خَوْفٌ وَلَا خَطَرٌ لَمْ يَجُزْ ارْتِكَابُ الْمُحَرَّمِ تَقِيَّةً , وَذَلِكَ كَمَنْ يَفْعَلُ الْمُحَرَّمَ تَوَدُّدًا إلَى الْفُسَّاقِ أَوْ حَيَاءً مِنْهُمْ . وَإِنْ قَالَ خِلَافَ الْحَقِيقَةِ كَانَ كَاذِبًا آثِمًا , وَكَذَا مَنْ أَثْنَى عَلَى الظَّالِمِينَ أَوْ أَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَصِدْقِهِمْ بِكَذِبِهِمْ وَحُسْنِ طَرِيقَتِهِمْ لِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ مِنْهُمْ دُونَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ خَطَرٌ مِنْهُمْ لَوْ سَكَتَ , فَإِنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا آثِمًا مُشَارِكًا لَهُمْ فِي ظُلْمِهِمْ وَفِسْقِهِمْ . وَإِنْ كَانَ فِيمَا صَدَّقَهُمْ بِهِ عُدْوَانٌ عَلَى مُسْلِمٍ فَذَلِكَ أَعْظَمُ , قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ فَهُوَ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } . 18 - ب - قِيلَ : يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ التَّقِيَّةِ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْكُفَّارِ الْغَالِبِينَ وَسَبَقَ قَوْلُ الرَّازِيُّ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه أَنَّ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إذَا شَاكَلَتْ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ حَلَّتْ التَّقِيَّةُ مُحَامَاةً عَنْ النَّفْسِ . 19 - ج - أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ إنْ نَطَقَ بِالْكُفْرِ وَنَحْوِهِ تَقِيَّةً يُتْرَكُ بَعْدَ ذَلِكَ . وَهَذَا الِاشْتِرَاطُ مَنْقُولٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , فَقَدْ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُؤْسَرُ فَيُعْرَضُ عَلَى الْكُفْرِ وَيُكْرَهُ عَلَيْهِ , هَلْ لَهُ أَنْ يَرْتَدَّ - أَيْ ظَاهِرًا - فَكَرِهَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً وَقَالَ : مَا يُشْبِهُ هَذَا عِنْدِي الَّذِينَ أُنْزِلَتْ فِيهِمْ الْآيَةُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُولَئِكَ كَانُوا يُرَادُونَ عَلَى الْكَلِمَةِ ثُمَّ يُتْرَكُونَ يَفْعَلُونَ مَا شَاءُوا , وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَهُمْ عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ وَتَرْكِ دِينِهِمْ . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يُكْرَهُ عَلَى كَلِمَةٍ يَقُولُهَا ثُمَّ يُخَلَّى لَا ضَرَرَ فِيهَا , وَهَذَا الْمُقِيمُ بَيْنَهُمْ يَلْتَزِمُ بِإِجَابَتِهِمْ إلَى الْكُفْرِ الْمُقَامِ عَلَيْهِ وَاسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً تَزَوَّجُوهَا وَاسْتَوْلَدُوهَا أَوْلَادًا كُفَّارًا . وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ . وَظَاهِرُ حَالِهِمْ الْمَصِيرُ إلَى الْكُفْرِ الْحَقِيقِيِّ وَالِانْسِلَاخِ مِنْ الْإِسْلَامِ . وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ إظْهَارُ الْكُفْرِ إنْ عُلِمَ أَنَّهُ يُتْرَكُ بَعْدَ ذَلِكَ , أَمَّا إنْ كَانَ مَآلُهُ الِالْتِزَامُ بِالْإِقَامَةِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْكُفَّارِ يُجْرُونَ عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْكُفْرِ وَيَمْنَعُونَهُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَافِقَهُمْ عَلَى إظْهَارِ الْكُفْرِ . وَحِينَئِذٍ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ مِثْلِ تِلْكَ الْأَرْضِ إلَى حَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَلَيْسَ لَهُ الْإِقَامَةُ الْمَذْكُورَةُ بِعُذْرِ التَّقِيَّةِ . 20 - د - وَيُشْتَرَطُ لِجَوَازِ التَّقِيَّةِ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُكَلَّفِ مُخَلِّصٌ مِنْ الْأَذَى إلَّا بِالتَّقِيَّةِ , وَهَذَا الْمُخَلِّصُ قَدْ يَكُونُ الْهَرَبُ مِنْ الْقَتْلِ أَوْ الْقَطْعِ أَوْ الضَّرْبِ , وَقَدْ يَكُونُ التَّوْرِيَةُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الطَّلَاقِ , وَعَدَمِ الدَّهْشَةِ وَهَذَا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ , وَقَدْ تَكُونُ الْهِجْرَةُ مِنْ بَلَدِ الْكُفْرِ إلَى بَلَدِ الْإِسْلَامِ . فَإِنْ أَمْكَنَتْهُ الْهِجْرَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُوَالَاةُ الْكُفَّارِ وَتَرْكُ إظْهَارِ دِينِهِ لقوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } قَالَ الْأَلُوسِيُّ : اعْتَذَرُوا عَنْ تَقْصِيرِهِمْ فِي إظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَعَنْ إدْخَالِهِمْ الْخَلَلَ فِيهِ وَعَنْ الْعَجْزِ عَنْ الْقِيَامِ بِوَاجِبَاتِ الدِّينِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مَقْهُورِينَ تَحْتَ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ , وَأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ كَارِهِينَ . فَلَمْ تَقْبَلْ الْمَلَائِكَةُ عُذْرَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ , فَاسْتَحَقُّوا عَذَابَ جَهَنَّمَ لِتَرْكِهِمْ الْفَرِيضَةَ الْمَحْتُومَةَ . وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ مَنْ كَانَ مَقْهُورًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْهِجْرَةِ حَقِيقَةً لِضَعْفِهِ أَوْ لِصِغَرِ سِنِّهِ وَسَوَاءٌ أَكَانَ رَجُلًا أَمْ امْرَأَةً بِحَيْثُ يَخْشَى التَّلَفَ لَوْ خَرَجَ مُهَاجِرًا فَذَلِكَ عُذْرٌ فِي الْإِقَامَةِ وَتَرْكِ الْهِجْرَةِ . وَقَدْ صَرَّحَتْ بِهَذَا الْمَعْنَى الْآيَتَانِ التَّالِيَتَانِ لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ وَهُمَا { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا . فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ(1/190)
اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } وَقَالَ الْأَلُوسِيُّ أَيْضًا " كُلُّ مُؤْمِنٍ وَقَعَ فِي مَحَلٍّ لَا يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يُظْهِرَ دِينَهُ لِتَعَرُّضِ الْمُخَالِفِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ إلَى مَحَلٍّ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ , وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَصْلًا أَنْ يَبْقَى هُنَاكَ وَيُخْفِيَ دِينَهُ وَيَتَشَبَّثَ بِعُذْرِ الِاسْتِضْعَافِ , فَإِنَّ أَرْضَ اللَّهِ وَاسِعَةٌ . نَعَمْ إنْ كَانَ مِمَّنْ لَهُ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ فِي تَرْكِ الْهِجْرَةِ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعُمْيَانِ وَالْمَحْبُوسِينَ وَاَلَّذِينَ يُخَوِّفُهُمْ الْمُخَالِفُونَ بِالْقَتْلِ أَوْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ أَوْ الْآبَاءِ أَوْ الْأُمَّهَاتِ تَخْوِيفًا يُظَنُّ مَعَهُ إيقَاعُ مَا خُوِّفُوا بِهِ غَالِبًا , سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْقَتْلُ بِضَرْبِ الْعُنُقِ أَوْ حَبْسِ الْقُوتِ أَوْ بِنَحْوِ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْمُكْثُ مَعَ الْمُخَالِفِ , وَالْمُوَافَقَةُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي الْحِيلَةِ لِلْخُرُوجِ وَالْفِرَارِ بِدِينِهِ . وَإِنْ كَانَ التَّخْوِيفُ بِفَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ بِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ تَحَمُّلُهَا كَالْحَبْسِ مَعَ الْقُوتِ , وَالضَّرْبِ الْقَلِيلِ غَيْرِ الْمُهْلِكِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ مُوَافَقَتُهُمْ . 21 - هـ - وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْأَذَى الْمَخُوفُ وُقُوعُهُ مِمَّا يَشُقُّ احْتِمَالُهُ . وَالْأَذَى إمَّا أَنْ يَكُونَ بِضَرَرٍ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عِرْضِهِ . أَوْ فِي الْغَيْرِ , أَوْ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ . فَالْأَوَّلُ كَخَوْفِ الْقَتْلِ أَوْ الْجُرْحِ أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ أَوْ الْحَرْقِ الْمُؤْلِمِ أَوْ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ أَوْ الْحَبْسِ مَعَ التَّجْوِيعِ وَمَنْعِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : أَوْ خَوْفِ صَفْعٍ وَلَوْ قَلِيلًا لِذِي مُرُوءَةٍ عَلَى مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ . أَمَّا التَّجْوِيعُ الْيَسِيرُ وَالْحَبْسُ الْيَسِيرُ وَالضَّرْبُ الْيَسِيرُ فَلَا تَحِلُّ بِهِ التَّقِيَّةُ وَلَا يُجِيزُ إظْهَارَ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ أَوْ ارْتِكَابَ الْمُحَرَّمِ . وَرَخَّصَ الْبَعْضُ فِي التَّقِيَّةِ لِأَجْلِهِ . رَوَى شُرَيْحٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ : لَيْسَ الرَّجُلُ بِأَمِينٍ عَلَى نَفْسِهِ إذَا سُجِنَ أَوْ أُوثِقَ أَوْ عُذِّبَ . وَفِي لَفْظٍ : أَرْبَعٌ كُلُّهُنَّ كُرْهٌ : السِّجْنُ وَالضَّرْبُ وَالْوَعِيدُ وَالْقَيْدُ . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَا كَلَامٌ يَدْرَأُ عَنِّي سَوْطَيْنِ إلَّا كُنْت مُتَكَلِّمًا بِهِ . وَأَمَّا الْعِرْضُ فَكَأَنْ يَخْشَى عَلَى حَرَمِهِ مِنْ الِاعْتِدَاءِ . وَأَمَّا الْخَوْفُ عَلَى الْمَالِ فَقَدْ قَالَ الرَّازِيُّ : فِيمَا سَبَقَ بَيَانُهُ : التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ النَّفْسِ وَهَلْ هِيَ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ الْمَالِ ؟ يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهَا بِالْجَوَازِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ } . وَقَوْلُهُ { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَالِ شَدِيدَةٌ , وَالْمَاءُ إذَا بِيعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ سَقَطَ فَرْضُ الْوُضُوءِ وَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى التَّيَمُّمِ دَفْعًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ نُقْصَانِ الْمَالِ , فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ هَاهُنَا ؟ وَقَالَ مَالِكٌ إنَّ التَّخْوِيفَ بِأَخْذِ الْمَالِ إكْرَاهٌ وَلَوْ قَلِيلًا وَفِي مَذْهَبِهِ غَيْرُ ذَلِكَ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : الْإِكْرَاهُ يَخْتَلِفُ . وَاسْتَحْسَنَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَقِيلٍ . أَيْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَاخْتِلَافِ الْأَمْرِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ وَالْأَمْرِ الْمَخُوفِ فَرُبَّ أَمْرٍ يَرْهَبُ مِنْهُ شَخْصٌ ضَعِيفٌ وَلَا يَرْهَبُهُ شَخْصٌ قَوِيٌّ شُجَاعٌ . وَرُبَّ شَخْصٍ ذِي وَجَاهَةٍ يَضَعُ الْحَبْسَ وَلَوْ يَوْمًا مِنْ قَدْرِهِ وَجَاهِهِ فَوْقَ مَا يَضَعُ الْحَبْسُ شَهْرًا مِنْ قَدْرِ غَيْرِهِ وَرُبَّ تَهْدِيدٍ أَوْ ضَرْبٍ يَسِيرٍ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْكَذِبُ الْيَسِيرُ وَيُلْغَى بِسَبَبِهِ الْإِقْرَارُ بِالْمَالِ الْيَسِيرِ , وَلَا يُسْتَبَاحُ بِهِ الْإِقْرَارُ بِالْكُفْرِ أَوْ الْمَالِ الْعَظِيمِ . وَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مُصْطَلَحُ ( إكْرَاهٌ ) . وَأَمَّا خَوْفُ فَوْتِ الْمَنْفَعَةِ فَقَدْ قَالَ فِيهِ الْأَلُوسِيُّ فِي مُخْتَصَرِ التُّحْفَةِ إنَّهُ لَا يُجِيزُ التَّقِيَّةَ . وَذَلِكَ كَمَنْ يَخْشَى إنْ لَمْ يُظْهِرْ الْمُحَرَّمَ أَنْ يَفُوتَهُ تَحْصِيلُ مَنْصِبٍ أَوْ مَالٍ يَرْجُو حُصُولَهُ وَلَيْسَ بِهِ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } ذَمَّهُمْ عَلَى الْكِتْمَانِ فِي مُقَابَلَةِ مَصَالِحَ عَاجِلَةٍ . أَيْ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ . لِأَنَّ قَوْلَ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَنَحْوِهَا وَقَوْلُ الْإِنْسَانِ بِلِسَانِهِ خِلَافُ مَا فِي قَلْبِهِ كُلُّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَالْكَاذِبُ مَثَلًا لَا(1/191)
يَكْذِبُ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ يَرْجُوهَا مِنْ وَرَاءِ كَذِبِهِ , وَلَوْ سُئِلَ لَقَالَ إنَّمَا كَذَبْت لِغَرَضِ كَذَا وَكَذَا أُرِيدُ تَحْصِيلَهُ , فَلَوْ جَازَ الْكَذِبُ لِتَحْصِيلِ الْمَنْفَعَةِ لَعَادَ كُلُّ كَذِبٍ مُبَاحًا وَيَكُونُ هَذَا قَلْبًا لِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَإِخْرَاجًا لَهَا عَنْ وَضْعِهَا الَّذِي وُضِعَتْ عَلَيْهِ .
أَنْوَاعُ التَّقِيَّةِ :
22 - التَّقِيَّةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِسَبَبِ إكْرَاهٍ بِتَهْدِيدِ الْمُسْلِمِ بِمَا يَضُرُّهُ مِنْ تَعْذِيبٍ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ , إنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا طُلِبَ مِنْهُ , وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ بِسَبَبِ إكْرَاهٍ . فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا بِسَبَبِ إكْرَاهٍ , وَقَدْ تَمَّتْ شُرُوطُهُ , فَإِنَّ مَا أَنْشَأَهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ تَبَعًا لِذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ , وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ , وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَى لَمْ يَحِلَّ لَهُ , فَإِنْ فَعَلَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ , وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ . وَلَا يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا . وَهَذَا إجْمَالٌ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ ( إكْرَاهٌ ) . أَمَّا التَّقِيَّةُ بِغَيْرِ سَبَبِ الْإِكْرَاهِ , بَلْ لِمُجَرَّدِ خَوْفِ الْمُسْلِمِ مِنْ أَنْ يَحِلَّ بِهِ الْأَذَى مِنْ قَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ سِجْنٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ صُنُوفِ الْأَذَى وَالضَّرَرِ فَهَذَا النَّوْعُ لَا يَحِلُّ بِهِ مَا يَحِلُّ بِالْإِكْرَاهِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي إكْرَاهٍ .
مَا تَحِلُّ فِيهِ التَّقِيَّةُ :
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا تَحِلُّ فِيهِ التَّقِيَّةُ وَمَا لَا تَحِلُّ , فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ التَّقِيَّةَ خَاصَّةً بِالْقَوْلِ , وَلَا تَتَعَدَّى إلَى الْفِعْلِ , وَعَلَيْهِ فَلَا يُرَخَّصُ بِحَالٍ بِالسُّجُودِ لِصَنَمٍ أَوْ بِأَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَوْ بِزِنًى . وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَسَحْنُونٍ . وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ سَوَاءٌ . وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلَافٍ يُعْرَفُ مِمَّا فِي بَحْثِ ( إكْرَاهٌ ) وَمِنْ التَّفْصِيلِ التَّالِي
أَكْلُ لَحْمِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهِ :
24 - يُبَاحُ لِلْمُكْرَهِ شُرْبُ الْخَمْرِ وَأَكْلُ لَحْمِ الْمَيْتَةِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ إذَا وُجِدَتْ شُرُوطُهَا لِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ثَابِتَةٌ بِالشَّرْعِ , وَهِيَ مُفْسِدَةٌ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ , فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَى حَالَ الضَّرُورَةِ مِنْ التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ } فَظَهَرَ أَنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ بِحَالَةِ الِاخْتِيَارِ , وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ هُنَا لِخَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ . . فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ يَكُونُ آثِمًا . وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَكُونُ آثِمًا .
التَّقِيَّةُ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ : 26(1/192)
- إذَا خَافَ عَلَى مَالِهِ مِنْ ظَالِمٍ يَغْصِبُهُ , فَيُوَاطِئُ رَجُلًا عَلَى أَنْ يُظْهِرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ لِيَحْتَمِيَ بِذَلِكَ وَلَا يُرِيدَانِ بَيْعًا حَقِيقِيًّا . وَهَذَا الْبَيْعُ صَحِيحٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَبَاطِلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ . أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَفِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ : يَجُوزُ الِاسْتِرْعَاءُ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ أَنْ يُشْهِدَ قَبْلَ الْبَيْعِ أَنِّي إنْ بِعْت هَذِهِ الدَّارَ فَإِنَّمَا أَبِيعُهَا لِأَمْرٍ أَخَافُهُ مِنْ قِبَلِ ظَالِمٍ أَوْ غَاصِبٍ , وَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِرْعَاءُ فِي هَذِهِ الْحَالِ إلَّا إنْ كَانَ الشُّهُودُ يَعْرِفُونَ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ وَالْإِخَافَةِ الَّتِي يَذْكُرُهَا وَالِاسْتِرْعَاءُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَصِحُّ وَيُفِيدُ صَاحِبَهُ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ تَطَوُّعِيٍّ كَالطَّلَاقِ وَالْوَقْفِ وَالْهِبَةِ . فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُنَفِّذَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ , وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الشُّهُودُ السَّبَبَ , بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ , إذْ الْمُبَايَعَةُ خِلَافُ مَا يُتَطَوَّعُ بِهِ وَقَدْ أَخَذَ الْبَائِعُ فِيهِ ثَمَنًا وَفِي ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمُبْتَاعِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : مَنْ اُسْتُرْعِيَ فِي وَقْفٍ عَلَى تَقِيَّةٍ اتَّقَاهَا ثُمَّ أَشْهَدَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى إمْضَائِهِ جَازَ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ عَلَى مِلْكِهِ . وَإِنْ اسْتَرْعَى أَنَّهُ يَتْرُكُ حَقَّهُ فِي الشُّفْعَةِ خَوْفًا مِنْ إضْرَارِ الْمُشْتَرِي وَلَهُ سُلْطَانٌ وَقُدْرَةٌ , وَأَنَّهُ غَيْرُ تَارِكٍ لِطَلَبِهِ مَتَى أَمْكَنَهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ . ثُمَّ إذَا ذَهَبَتْ التَّقِيَّةُ وَقَامَ مِنْ فَوْرِهِ بِالْمُطَالَبَةِ قُضِيَ لَهُ . وَاخْتَلَفُوا إذَا سَكَتَ عَنْ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ زَوَالِ مَا يَتَّقِيهِ , وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ الْمُطَالَبَةُ , لِأَنَّهُ مَتَى زَالَ فَكَأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ حِينَئِذٍ . وَيَجِبُ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ شُهُودِ الِاسْتِرْعَاءِ , وَأَقَلُّهُمْ عِنْدَ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَرْبَعَةُ شُهُودٍ . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ ( بَيْعُ التَّلْجِئَةِ ) .
مَا يَنْبَغِي لِلْآخِذِ بِالتَّقِيَّةِ أَنْ يُرَاعِيَهُ :
يَنْبَغِي لِمَنْ يَأْخُذُ بِالتَّقِيَّةِ أَنْ يُلَاحِظَ أُمُورًا :(1/193)
30 - مِنْهَا : أَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ مُخَلِّصٌ غَيْرُ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ , فَيَجِبُ أَنْ يَلْجَأَ إلَيْهِ , وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُوَرِّيَ , كَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى شَتْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَرَّمَ وَشَرَّفَ , فَيَنْوِيَ مُحَمَّدًا آخَرَ فَإِنْ خَطَرَتْ بِبَالِهِ التَّوْرِيَةُ وَتَرَكَهَا لَمْ تَكُنْ التَّقِيَّةُ عُذْرًا لَهُ , وَيُعْتَبَرُ كَافِرًا . 31 - وَمِنْهَا : أَنْ يُلَاحِظَ عَدَمَ الِانْسِيَاقِ مَعَ الرُّخْصَةِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَدِّ التَّقِيَّةِ إلَى حَدِّ الِانْحِلَالِ بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الضَّرُورَةِ , وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُضْطَرِّ { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّك غَفُورٌ رَحِيمٌ } فُسِّرَ الْبَاغِي بِمَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ وَهُوَ يَجِدُ الْحَلَالَ , وَفُسِّرَ الْعَادِي بِمَنْ أَكَلَ مِنْ الْحَرَامِ فَوْقَ مَا تَقْتَضِيهِ الضَّرُورَةُ . وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ التَّقِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ { لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ } فَحَذَّرَ تَعَالَى مِنْ نَفْسِهِ لِئَلَّا يَغْتَرَّ الْمُتَّقِي وَيَتَمَادَى . ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ { قُلْ إنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } فَنَبَّهَ عَلَى عِلْمِهِ بِمَا يُضْمِرُهُ مُرْتَكِبُ الْحَرَامِ بِمُوَالَاةِ الْكُفَّارِ أَنَّهُ هَلْ يَفْعَلُهُ تَقِيَّةً أَوْ مُوَافَقَةً . قَالَ الرَّازِيُّ : إنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنْ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا , وَاسْتَثْنَى التَّقِيَّةَ فِي الظَّاهِرِ , أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى أَنْ يَصِيرَ الْبَاطِنُ مُوَافِقًا لِلظَّاهِرِ فِي وَقْتِ التَّقِيَّةِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عِنْدَ التَّقِيَّةِ عَلَى إظْهَارِ الْمُوَالَاةِ , فَقَدْ يَصِيرُ إقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ سَبَبًا لِحُصُولِ تِلْكَ الْمُوَالَاةِ فِي الْبَاطِنِ وَهَذَا الْوُقُوعُ فِي الْحَرَامِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ , الَّذِي أَوَّلُهُ التَّرَخُّصُ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ , وَآخِرُهُ الرِّضَا بِالْكُفْرِ وَانْشِرَاحِ الصَّدْرِ بِهِ , هُوَ الْفِتْنَةُ الَّتِي أَشَارَتْ إلَيْهَا بَقِيَّةُ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ الَّتِي تَلَتْ آيَةَ الْإِكْرَاهِ . قَالَ تَعَالَى { ثُمَّ إنَّ رَبَّك لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّك مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } وَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاَللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } قَالَ الطَّبَرِيُّ " مَعْنَاهُ إذَا آذَاهُ الْمُشْرِكُونَ فِي إقْرَارِهِ بِاَللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ إيَّاهُ كَعَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ فَارْتَدَّ عَنْ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ رَاجِعًا إلَى الْكُفْرِ بِهِ " . قَالَ : " وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ كَانُوا بِمَكَّةَ , فَخَرَجُوا مِنْهَا مُهَاجِرِينَ فَأُدْرِكُوا وَأُخِذُوا فَأَعْطَوْا الْمُشْرِكِينَ لِمَا نَالَهُمْ أَذَاهُمْ مَا أَرَادُوهُ مِنْهُمْ " . وَذَكَرَ غَيْرُ الطَّبَرِيِّ مِنْهُمْ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ أَخَا أَبِي جَهْلٍ لِأُمِّهِ , وَأَبَا جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَغَيْرَهُمْ ثُمَّ إنَّهُمْ هَاجَرُوا فَنَزَلَ قوله تعالى { ثُمَّ إنَّ رَبَّك لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّك مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } . 32 - وَمِنْهَا أَنْ يُلَاحِظَ النِّيَّةَ , فَيَنْوِيَ أَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُ الْحَرَامَ لِلضَّرُورَةِ , وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ حَرَامٌ إلَّا أَنَّهُ يَأْخُذُ بِرُخْصَةِ اللَّهِ , فَإِنْ فَعَلَهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ سَهْلٌ وَلَا بَأْسَ بِهِ فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي الْإِثْمِ . وَهَذَا مَا يُشِيرُ إلَيْهِ آخِرُ الْآيَةِ وَهُوَ قوله تعالى { وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ } وَفِي الْحَدِيثِ { دَخَلَ رَجُلٌ الْجَنَّةَ فِي ذُبَابٍ وَدَخَلَ النَّارَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ , قَالُوا : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ مَرَّ رَجُلَانِ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ صَنَمٌ لَا يَجُوزُهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شَيْئًا , فَقَالُوا لِأَحَدِهِمَا : قَرِّبْ قَالَ : لَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ فَقَالُوا لَهُ قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا , فَقَرَّبَ ذُبَابًا فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ قَالَ : فَدَخَلَ النَّارَ , وَقَالُوا لِلْآخَرِ قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا قَالَ مَا كُنْت لِأُقَرِّبَ لِأَحَدٍ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : فَضَرَبُوا عُنُقَهُ قَالَ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ } . قَالَ فِي تَيْسِيرِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ : وَفِيهِ : أَنَّهُ دَخَلَ النَّارَ بِسَبَبٍ لَمْ يَقْصِدْهُ بَلْ فَعَلَهُ تَخَلُّصًا مِنْ شَرِّهِمْ . وَفِيهِ : مَعْرِفَةُ قَدْرِ الشِّرْكِ فِي قُلُوبِ(1/194)
الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ صَبَرَ عَلَى الْقَتْلِ وَلَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى طِلْبَتِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ لَمْ يَطْلُبُوا إلَّا الْعَمَلَ الظَّاهِرَ .
أَسْبَابُ التَّخْفِيفِ :
31 - لِلتَّخْفِيفِ أَسْبَابٌ بُنِيَتْ عَلَى الْأَعْذَارِ . وَقَدْ رَخَّصَ الشَّارِعُ لِأَصْحَابِهَا بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ : فِي الْعِبَادَاتِ , وَالْمُعَامَلَاتِ , وَالْبُيُوعِ , وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا . فَكُلُّ مَا تَعَسَّرَ أَمْرُهُ , وَشَقَّ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَضْعُهُ , يَسَّرَتْهُ الشَّرِيعَةُ بِالتَّخْفِيفِ , وَضَبَطَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْقَوَاعِدِ الْمُحْكَمَةِ . وَمِنْ أَهَمِّ هَذِهِ الْأَعْذَارِ الَّتِي جُعِلَتْ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ عَنْ الْعِبَادِ : الْمَرَضُ , وَالسَّفَرُ , وَالْإِكْرَاهُ , وَالنِّسْيَانُ , وَالْجَهْلُ , وَالْعُسْرُ , وَعُمُومُ الْبَلْوَى . السَّبَبُ الْأَوَّلُ : الْمَرَضُ : 32 - الْمَرِيضُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ بَدَنُهُ عَنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ وَالِاعْتِيَادِ , فَيَضْعُفُ عَنْ الْقِيَامِ بِالْمَطْلُوبِ مِنْهُ . وَقَدْ خَصَّتْ الشَّرِيعَةُ الْمَرِيضَ بِحَظٍّ وَافِرٍ مِنْ التَّخْفِيفِ ; لِأَنَّ الْمَرَضَ مَظِنَّةٌ لِلْعَجْزِ . فَخَفَّفَ عَنْهُ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ فِي حَالَةِ عَجْزِهِ عَنْ الْوُضُوءِ , أَوْ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ , أَوْ خَوْفِهِ زِيَادَةَ الْمَرَضِ , وَكُلُّ مَا كَانَ الْمَاءُ سَبَبًا فِي الْهَلَاكِ أَوْ تَأَخُّرِ شِفَائِهِ , أَوْ زِيَادَةِ الْمَرَضِ , رَخَّصَ لَهُ فِي تَرْكِ الْوُضُوءِ تَخْفِيفًا , وَالِانْتِقَالِ إلَى التَّيَمُّمِ , يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ , أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } . كَمَا خَفَّفَ عَنْهُ غَسْلَ الْعُضْوِ الْمُجَبَّرِ , إلَى الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ , مَوْقُوتًا بِالْبُرْءِ . وَخَفَّفَ عَنْهُ فِي حَالَةِ عَجْزِهِ عَنْ الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ , فِي أَدَائِهَا قَاعِدًا , أَوْ مُضْطَجِعًا , أَوْ مُومِئًا , أَوْ مَا يَتَنَاسَبُ مَعَ عَجْزِهِ الَّذِي سَبَّبَهُ الْمَرَضُ , يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم - لِمَنْ أَصَابَهُ الْمَرَضُ : { صَلِّ قَائِمًا , فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا , فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } . وَخَفَّفَ عَنْ الْمَرِيضِ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ . وَخَفَّفَ عَنْهُ بِإِجَازَةِ التَّدَاوِي بِالنَّجَاسَاتِ , وَإِبَاحَةِ نَظَرِ الطَّبِيبِ لِلْعَوْرَةِ وَلَوْ لِلسَّوْأَتَيْنِ . وَخَفَّفَ أَيْضًا عَنْ الْمَرِيضِ فِي حَالَةِ عَجْزِهِ عَنْ الصِّيَامِ , بِإِبَاحَةِ الْفِطْرِ , وَقَضَاءِ مَا فَاتَهُ , بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } . وَخَفَّفَ عَنْ الشَّيْخِ الْهَرِمِ , فَخَصَّهُ بِجَوَازِ إخْرَاجِ الْفِدْيَةِ بَدَلًا عَنْ الصِّيَامِ الَّذِي عَجَزَ عَنْ أَدَائِهِ , يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } . وَأُجِيزَ لِلْمَرِيضِ الْخُرُوجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ . وَخَفَّفَ الشَّرْعُ عَنْ الْمَرِيضِ أَيْضًا بَعْضَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَنَاسِكِ الْحَجِّ , فَأَجَازَ لَهُ التَّحَلُّلَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ , مَعَ ذَبْحِ هَدْيٍ , فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ فَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ . وَأَجَازَ لَهُ الِاسْتِنَابَةَ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ , وَأَبَاحَ لَهُ فِعْلَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ , مِنْ لُبْسِ الْقَمِيصِ وَنَحْوِهِ , كَمَا أَبَاحَ لَهُ حَلْقَ رَأْسِهِ إنْ كَانَ بِهِ جِرَاحَةٌ أَوْ قَمْلٌ وَاحْتَاجَ إلَى الْحَلْقِ , وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ , يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } . وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَرَضَ سَبَبًا فِي التَّخْفِيفِ عَنْ الْمَرِيضِ يَوْمَ الْحِسَابِ , وَذَلِكَ بِتَكْفِيرِ ذُنُوبِهِ , بِمَا يُصِيبُهُ فِي الدُّنْيَا , وَمَا يَلْحَقُهُ مِنْ أَلَمٍ , أَوْ هَمٍّ , أَوْ غَمٍّ . يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ , وَلَا وَصَبٍ , وَلَا هَمٍّ , وَلَا حُزْنٍ , وَلَا أَذًى , وَلَا غَمٍّ , حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا , إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ } . هَذَا بَعْضٌ مِنْ كُلٍّ , مِمَّا وَرَدَ فِي التَّخْفِيفِ عَنْ الْمَرِيضِ فِي الْعِبَادَاتِ . وَهُنَاكَ تَخْفِيفَاتٌ أُخْرَى وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ , يَضِيقُ الْمَقَامُ عَنْ ذِكْرِهَا . وَالِاسْتِحَاضَةُ , وَالسَّلَسُ , مِنْ قَبِيلِ الْمَرَضِ , وَلَهُمَا تَخْفِيفَاتُهُمَا الْمَعْرُوفَةُ
السَّبَبُ الثَّالِثُ : الْإِكْرَاهُ :(1/195)
34 - الْإِكْرَاهُ هُوَ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ لَا يَرْضَاهُ وَذَلِكَ بِتَهْدِيدِهِ بِالْقَتْلِ , أَوْ بِقَطْعِ طَرَفٍ , أَوْ نَحْوِهِمَا , إنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا يُطْلَبْ مِنْهُ ( وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ إكْرَاهٌ ) , وَقَدْ عَدَّ الشَّارِعُ الْإِكْرَاهَ بِغَيْرِ حَقٍّ عُذْرًا مِنْ الْأَعْذَارِ الْمُخَفِّفَةِ , الَّتِي تَسْقُطُ بِهَا الْمُؤَاخَذَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , فَتُخُفِّفَ عَنْ الْمُكْرَهِ مَا يَنْتُجُ عَمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنْ آثَارٍ دُنْيَوِيَّةٍ , أَوْ أُخْرَوِيَّةٍ , بِحُدُودِهِ . وَشَبِيه بِمَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ مَسْأَلَةُ التَّقِيَّةِ فَإِنَّ التَّقِيَّةَ أَنْ يَرْتَكِبَ الْمُحَرَّمَ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْ مَكْرُوهٍ دُونَ أَنْ يُوَجَّهَ إلَيْهِ إكْرَاهٌ مُعَيَّنٌ , أَوْ يَتْرُكَ الْوَاجِبَ لِأَجْلِ ذَلِكَ . وَلَهَا ضَوَابِطُ فِيمَا يَحِلُّ بِهَا ( ر : تَقِيَّةٌ ) .
جَبْرٌ التَّعْرِيفُ :
1 - الْجَبْرُ فِي اللُّغَةِ خِلَافُ الْكَسْرِ . يُقَالُ : جَبَرَ عَظْمَهُ جَبْرًا أَيْ أَصْلَحَهُ بَعْدَ كَسْرٍ , وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْإِحْسَانِ إلَى الرَّجُلِ فَيُقَالُ : جَبَرَهُ جَبْرًا إذَا أَحْسَنَ إلَيْهِ , وَأَغْنَاهُ بَعْدَ فَقْرٍ . وَيَأْتِي بِمَعْنَى التَّكْمِيلِ فَيُقَالُ : مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ أَوْ أَتَى بِمَحْظُورٍ فِيهِ : جَبَرَهُ بِالدَّمِ . كَمَا يُقَالُ : جَبَرَ الْمُزَكِّي مَا أَخْرَجَهُ إذَا لَمْ يَجِدْ السِّنَّ الْوَاجِبَ فِي زَكَاةِ إبِلِهِ فَأَخْرَجَ مَا دُونَهُ وَدَفَعَ الْفَضْلَ , وَيُسَمَّى دَفْعُ الْفَضْلِ جُبْرَانًا , وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْإِكْرَاهِ عَلَى الشَّيْءِ , فَيُقَالُ : جَبَرَهُ عَلَى الْأَمْرِ جَبْرًا , وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ : جَبَرَهُ جُبُورًا وَأَجْبَرَهُ إجْبَارًا : أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ . وَالِاصْطِلَاحُ الشَّرْعِيُّ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ . ( الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) : 2 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْجَبْرِ بِاخْتِلَافِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ . فَالْجَبْرُ بِمَعْنَى الْإِكْرَاهِ : قَدْ يَكُونُ مَشْرُوعًا . كَإِجْبَارِ الْقَاضِي الْمَدِينَ الْمُمْتَنِعِ عَنْ أَدَاءِ الدَّيْنِ الْحَالِّ بِلَا عُذْرٍ شَرْعِيٍّ عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ بِطَلَبِ صَاحِبِهِ . وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ كَإِجْبَارِ الشَّخْصِ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ , أَوْ طَلَاقِ زَوْجَةٍ بِغَيْرِ مُقْتَضًى شَرْعِيٍّ , فَيَحْرُمُ . أَمَّا الْجَبْرُ بِمَعْنَى التَّكْمِيلُ فَيَكُونُ إذَا تَرَكَ وَاجِبًا فِي الْحَجِّ أَوْ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا فِيهِ . وَكَذَا إذَا لَمْ يَجِدْ فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ السِّنَّ الْوَاجِبَةَ فَأَرَادَ أَنْ يَنْزِلَ إلَى مَا تَحْتَهَا فَيَجِبُ دَفْعُ الْجُبْرَانِ عَلَيْهِ . وَالْجَبْرُ بِمَعْنَى إصْلَاحِ الْعَظْمِ بَعْدَ كَسْرِهِ مَشْرُوعٌ إذَا خِيفَ ضَرَرٌ بِفَوَاتِ الْعُضْوِ , أَوْ هَلَاكُ النَّفْسِ . وَتَفْصِيلُهُ فِي : ( تَدَاوٍ ) . أَمَّا الْجَبْرُ : بِمَعْنَى الْإِجْبَارِ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( إجْبَارٌ - وَإِحَالَاتُهُ ) .
جَلْدٌ التَّعْرِيفُ :
1 - الْجَلْدُ بِفَتْحِ الْجِيمِ فِي اللُّغَةِ : الضَّرْبُ بِالسَّوْطِ وَهُوَ مَصْدَرُ جَلَدَهُ يَجْلِدُهُ يُقَالُ : رَجُلٌ مَجْلُودٌ وَجَلِيدٌ فِي حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا , وَامْرَأَةٌ مَجْلُودَةٌ وَجَلِيدٌ وَجَلِيدَةٌ ( وَيُطْلَقُ الْجَلْدُ مَجَازًا عَلَى الْإِكْرَاهِ عَلَى الشَّيْءِ فَيُقَالُ : جَلَدَهُ عَلَى الْأَمْرِ : أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ ) وَالْجَلْدُ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - الضَّرْبُ : 2 - الضَّرْبُ أَعَمُّ مِنْ الْجَلْدِ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ بِالسَّوْطِ وَبِغَيْرِهِ . ب - الرَّجْمُ : 3 - الرَّجْمُ هُوَ الضَّرْبُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى الْمَوْتِ . ( الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) : 4 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْجَلْدِ بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ , فَيَحْرُمُ جَلْدُ إنْسَانٍ ظُلْمًا , أَيْ فِي غَيْرِ حَقٍّ عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي . جَلْدُ مَنْ ارْتَكَبَ مَا يُوجِبُ الْعِقَابَ بِالْجَلْدِ , وَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ , إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ : كَالزَّانِي الْبِكْرِ , وَالتَّأْدِيبُ بِالْجَلْدِ جَائِزٌ لِلْإِمَامِ وَنَائِبِهِ إذَا رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً .
أَسْبَابُ الْحَاجَةِ : 19(1/196)
- الْإِنْسَانُ مُحْتَاجٌ إلَى مَا يُحَقِّقُ مَصَالِحَهُ الدِّينِيَّةَ وَالدُّنْيَوِيَّةَ دُونَ حَرَجٍ وَمَشَقَّةٍ وَكُلُّ مَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مِنْ مَشَقَّةٍ وَحَرَجٍ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْمَصْلَحَةِ يُعْتَبَرُ مِنْ أَسْبَابِ الْحَاجَةِ . وَلِذَلِكَ يَقُولُ الشَّاطِبِيُّ : الْحَاجِيَّاتُ مُفْتَقَرٌ إلَيْهَا مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةُ وَرَفْعُ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللَّاحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَطْلُوبِ . وَيُمْكِنُ تَقْسِيمُ أَسْبَابِ الْحَاجَةِ أَوْ حَالَاتِ الْحَاجَةِ إلَى قِسْمَيْنِ : الْأَوَّلِ : أَسْبَابٌ مَصْلَحِيَّةٌ فِي الْأَصْلِ تَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِلنَّاسِ فِي حَيَاتِهِمْ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ . وَهَذِهِ الْمَصَالِحُ هِيَ مَا شُرِعَ لَهَا مَا يُنَاسِبُهَا وَيُحَقِّقُهَا كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ الْجِنَايَاتِ وَالْقِصَاصِ وَالضَّمَانِ وَغَيْرِهَا . وَالْإِنْسَانُ مُكَلَّفٌ بِعِبَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا دَامَتْ حَيَاتُهُ , وَلَا تَتِمُّ حَيَاتُهُ إلَّا بِدَفْعِ ضَرُورَاتِهِ وَحَاجَاتِهِ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمُنَاكِحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَنَافِعِ , وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إلَّا بِإِبَاحَةِ التَّصَرُّفَاتِ الدَّافِعَةِ لِلضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ . وَفِي قَوَاعِدِ الْأَحْكَامِ امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِمَا أَبَاحَهُ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ , وَبِمَا جَوَّزَهُ مِنْ الْإِجَارَاتِ وَالْجَعَالَاتِ وَالْوَكَالَاتِ تَحْصِيلًا لِلْمَنَافِعِ الَّتِي لَا تُحْصَى كَثْرَةً . الثَّانِي : أَسْبَابٌ هِيَ أَعْذَارٌ طَارِئَةٌ . قَالَ السُّيُوطِيّ وَابْنُ نُجَيْمٍ : أَسْبَابُ التَّخْفِيفِ فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا سَبْعَةٌ , وَهِيَ : السَّفَرُ , وَالْمَرَضُ , وَالْإِكْرَاهُ , وَالنِّسْيَانُ , وَالْجَهْلُ , وَالْعُسْرُ , وَعُمُومُ الْبَلْوَى , وَالنَّقْصُ . وَفِي تَفْصِيلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ يُرْجَعُ إلَى مُصْطَلَحِ : ( تَيْسِيرٌ : ج 14 ص 211 مِنْ الْمَوْسُوعَةِ ) .
أَحْكَامُ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَحْبُوسِ :
114 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الْعَدِيدَ مِنْ أَحْكَامِ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْمَحْبُوسِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْجِنَائِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الشَّخْصِيَّةِ وَغَيْرِهَا , وَهَذَا بَيَانُهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي : التَّصَرُّفَاتُ الْمَالِيَّةُ الْمُتَّصِلَةُ بِالْمَحْبُوسِ : بَيْعُ الْمَحْبُوسِ مَالَهُ مُكْرَهًا : 115 - لِلْمَحْبُوسِ التَّصَرُّفُ بِمَالِهِ بَيْعًا أَوْ شِرَاءً وَنَحْوَهُ بِحَسَبِ مَا يَرَى ; لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ . فَإِنْ أُكْرِهَ بِالْحَبْسِ عَلَى الْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ أَوْ التَّأْجِيرِ فَلَهُ الْفَسْخُ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ لِانْعِدَامِ الرِّضَا . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ إكْرَاهٌ .
الرُّجُوعُ عَلَى الْمَحْبُوسِ بِالْمَالِ الْمَدْفُوعِ عَنْهُ لِتَخْلِيصِهِ :
116 - ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَنْ حَبَسَهُ السُّلْطَانُ فَدَفَعَ عَنْهُ قَرِيبُهُ مَا خَلَّصَهُ بِهِ مِنْ الْحَبْسِ ثُمَّ سَكَتَ وَلَمْ يُطَالِبْهُ بِالْمَدْفُوعِ حَتَّى مَاتَ , فَقَامَ وَلَدُهُ يُطَالِبُ بِالْمَدْفُوعِ وَأَنَّهُ سَلَفٌ , وَالْمَحْبُوسُ الْمُفْتَدَى يَدَّعِي أَنَّهُ هِبَةٌ , فَالْحُكْمُ أَنَّ عَلَى مُدَّعِي الْهِبَةِ الْبَيِّنَةَ , وَلَا حُجَّةَ بِسُكُوتِ الدَّافِعِ عَنْهُ , لِأَنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ لَزِمَ فِي ذِمَّتِهِ . وَذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّهُ إذَا أُكْرِهَ قَرِيبٌ أَوْ صَدِيقٌ وَنَحْوُهُ عَلَى أَدَاءِ مَالٍ عَنْ مَحْبُوسٍ فَدَفَعَهُ مِنْ مَالِهِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمَحْبُوسِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ ; لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ وَالدَّفْعَ بِسَبَبِهِ , فَلَا يَذْهَبُ الْمَالُ هَدَرًا ; وَلِأَنَّ النُّفُوسَ وَالْأَمْوَالَ يَعْتَرِيهَا مِنْ الضَّرَرِ وَالْفَسَادِ مَا لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِأَدَاءِ مَالٍ عَنْهَا . وَلَوْ عَلِمَ الْمُؤَدِّي أَنَّهُ لَا يَسْتَرِدُّ مَا دَفَعَهُ مِنْ الْمَحْبُوسِ إلَّا بِإِذْنِهِ لَمْ يَفْعَلْ , وَإِذَا لَمْ يُقَابِلْ الْمَحْبُوسُ الْإِحْسَانَ بِمِثْلِهِ فَهُوَ ظَالِمٌ , وَالظُّلْمُ حَرَامٌ , وَالْأَصْلُ فِي هَذَا اعْتِبَارُ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ فِي التَّصَرُّفَاتِ
الْتِقَاءُ بَشَرَتَيْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ :(1/197)
13 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ لَمْسَ بَشَرَتَيْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ حَدَثٌ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي الْجُمْلَةِ , لَكِنْ تَخْتَلِفُ عِبَارَاتُهُمْ فِي الشُّرُوطِ وَالتَّفْصِيلِ . فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : الَّذِي يَنْقُضُ الْوُضُوءَ هُوَ اللَّمْسُ بِعُضْوٍ أَصْلِيٍّ أَوْ زَائِدٍ يَلْتَذُّ صَاحِبُهُ بِهِ عَادَةً , وَلَوْ لِظُفْرٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ سِنٍّ , وَلَوْ بِحَائِلٍ خَفِيفٍ يُحِسُّ اللَّامِسُ فَوْقَهُ بِطَرَاوَةِ الْجَسَدِ , إنْ قَصَدَ اللَّذَّةَ أَوْ وَجَدَهَا بِدُونِ الْقَصْدِ , قَالُوا : وَمِمَّنْ يُلْتَذُّ بِهِ عَادَةً الْأَمْرَدُ وَاَلَّذِي لَمْ تَتِمَّ لِحْيَتُهُ , فَلَا نَقْضَ بِلَمْسِ جَسَدِ أَوْ فَرْجِ صَغِيرَةٍ لَا تُشْتَهَى عَادَةً , وَلَوْ قَصَدَ . اللَّذَّةَ أَوْ وَجَدَهَا , كَمَا لَا تُنْقَضُ بِلَمْسِ مَحْرَمٍ بِغَيْرِ لَذَّةٍ , أَمَّا الْقُبْلَةُ بِفَمٍ فَنَاقِضَةٌ وَلَا تُشْتَرَطُ فِيهَا اللَّذَّةُ وَلَا وُجُودُهَا . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : هُوَ لَمْسُ بَشَرَتَيْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى اللَّذَيْنِ بَلَغَا حَدًّا يُشْتَهَى , وَلَوْ لَمْ يَكُونَا بَالِغَيْنِ , وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِشَهْوَةٍ أَوْ إكْرَاهٍ أَوْ نِسْيَانٍ , أَوْ يَكُونَ الذَّكَرُ مَمْسُوحًا أَوْ خَصِيًّا أَوْ عِنِّينًا , أَوْ الْمَرْأَةُ عَجُوزًا شَوْهَاءَ , أَوْ الْعُضْوُ زَائِدًا أَوْ أَصْلِيًّا سَلِيمًا أَوْ أَشَلَّ أَوْ أَحَدُهُمَا مَيِّتًا . وَالْمُرَادُ بِالْبَشَرَةِ ظَاهِرُ الْجِلْدِ . وَفِي مَعْنَاهَا اللَّحْمُ , كَلَحْمِ الْأَسْنَانِ وَاللِّسَانِ وَاللِّثَةِ وَبَاطِنِ الْعَيْنِ , فَخَرَجَ مَا إذَا كَانَ عَلَى الْبَشَرَةِ حَائِلٌ وَلَوْ رَقِيقًا . وَالْمَلْمُوسُ فِي كُلِّ هَذَا كَاللَّامِسِ فِي نَقْضِ وُضُوئِهِ فِي الْأَظْهَرِ . وَلَا يُنْقَضُ بِلَمْسِ الْمَحْرَمِ فِي الْأَظْهَرِ , وَلَا صَغِيرَةٍ , وَشَعْرٍ , وَسِنٍّ , وَظُفْرٍ فِي الْأَصَحِّ , كَمَا لَا يُنْقَضُ بِلَمْسِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ وَالْخُنْثَى مَعَ الْخُنْثَى أَوْ مَعَ الرَّجُلِ أَوْ الْمَرْأَةِ وَلَوْ بِشَهْوَةٍ , لِانْتِفَاءِ مَظِنَّتِهَا . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : مَسُّ بَشَرَةِ الذَّكَرِ بَشَرَةَ أُنْثَى أَوْ عَكْسُهُ لِشَهْوَةٍ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ غَيْرِ طِفْلَةٍ وَطِفْلٍ وَلَوْ كَانَ اللَّمْسُ بِزَائِدٍ أَوْ لِزَائِدٍ أَوْ شَلَلٍ , وَلَوْ كَانَ الْمَلْمُوسُ مَيِّتًا أَوْ عَجُوزًا أَوْ مَحْرَمًا أَوْ صَغِيرَةً تُشْتَهَى , وَلَا يَنْقُضُ وُضُوءَ الْمَلْمُوسِ بَدَنُهُ وَلَوْ وَجَدَ مِنْهُ شَهْوَةً , وَلَا بِلَمْسِ شَعْرٍ وَظُفْرٍ وَسِنٍّ وَعُضْوٍ مَقْطُوعٍ وَأَمْرَدَ مَسَّهُ رَجُلٌ وَلَا مَسِّ خُنْثَى مُشْكِلٍ , وَلَا بِمَسِّهِ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً , وَلَا بِمَسِّ الرَّجُلِ رَجُلًا , وَلَا الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ وَلَوْ بِشَهْوَةٍ فِيهِمْ . هَذَا , وَيَسْتَدِلُّ الْجُمْهُورُ فِي اعْتِبَارِهِمْ اللَّمْسَ مِنْ الْأَحْدَاثِ بِمَا وَرَدَ فِي الْآيَةِ مِنْ قوله تعالى . { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } أَيْ لَمَسْتُمْ كَمَا قُرِئَ بِهِ , فَعَطَفَ اللَّمْسَ عَلَى الْمَجِيءِ مِنْ الْغَائِطِ وَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا الْأَمْرَ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَدَثٌ كَالْمَجِيءِ مِنْ الْغَائِطِ . وَلَيْسَ مَعْنَاهُ ( أَوْ جَامَعْتُمْ ) لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ , إذْ اللَّمْسُ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِمَاعِ . قَالَ تَعَالَى : { فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { لَعَلَّك لَمَسْت } . أَمَّا مَا اشْتَرَطَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ قَصْدِ اللَّذَّةِ أَوْ وُجُودِهَا وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ اللَّمْسُ بِالشَّهْوَةِ فَلِلْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ النَّقْضِ بِمُجَرَّدِ الِالْتِقَاءِ كَمَا سَيَأْتِي . أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا يَعْتَبِرُونَ مَسَّ الْمَرْأَةِ مِنْ الْأَحْدَاثِ مُطْلَقًا , لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : كُنْت أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْت رِجْلِي فَإِذَا قَامَ بَسَطْتهمَا . وَعَنْهَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ .
شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَدِّ :(1/198)
35 - لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مُكَلَّفٍ , وَهُوَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ , لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْ غَيْرِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ فِي الْعِبَادَاتِ , وَسَقَطَ الْإِثْمُ عَنْهُ فِي الْمَعَاصِي , فَالْحَدُّ الْمَبْنِيُّ عَلَى الدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ أَوْلَى . وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُدُودَ تُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّينَ وَلَا تُقَامُ عَلَى مُسْتَأْمَنٍ , إلَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَيُقَامُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ . وَلَا يُقَامُ عَلَى الْكَافِرِ حَدُّ الشُّرْبِ عِنْدَهُمْ . وَفِي حَدِّ الزِّنَى تَفْصِيلٌ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ ( الْمُسْتَأْمَنُ ) بِذِمِّيَّةٍ تُحَدُّ الذِّمِّيَّةُ وَلَا يُحَدُّ الْحَرْبِيُّ . وَإِذَا زَنَى ذِمِّيٌّ بِمُسْتَأْمَنَةٍ يُحَدُّ الذِّمِّيُّ وَلَا تُحَدُّ الْمُسْتَأْمَنَةُ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ كِلَاهُمَا يُحَدَّانِ . وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى : لَا تُحَدُّ الذِّمِّيَّةُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَابِعَةٌ لِلرَّجُلِ فَامْتِنَاعُ الْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَصْلِ يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي حَقِّ الْفَرْعِ . وَتَفْصِيلُ كُلِّ حَدٍّ فِي مُصْطَلَحِهِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الْكَافِرَ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِ . أَمَّا حَدُّ الزِّنَى فَإِنَّهُ يُؤَدَّبُ فِيهِ فَقَطْ وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إلَّا إذَا اغْتَصَبَ امْرَأَةً مُسْلِمَةً فَإِنَّهُ يُقْتَلُ لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ . وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَكَبَ جَرِيمَةَ اللِّوَاطِ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ . وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : يُسْتَوْفَى مِنْ الذِّمِّيِّ مَا ثَبَتَ وَلَوْ حَدَّ زِنًى أَوْ قَطْعَ سَرِقَةٍ , وَلَا يُحَدُّ بِشُرْبِ خَمْرٍ لِقُوَّةِ أَدِلَّةِ حِلِّهِ فِي عَقِيدَتِهِمْ . وَلَا يُشْتَرَطُ فِي إحْصَانِ الرَّجْمِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا . وَلَا يُقَامُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . وَيُحَدُّ الْكَافِرُ حَدَّ الْقَذْفِ ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ مُعَاهَدًا . وَتَفْصِيلُ كُلِّ حَدٍّ فِي مُصْطَلَحِهِ . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إذَا رُفِعَ إلَى الْحَاكِمِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا يُوجِبُ عُقُوبَةً مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ وَالْقَتْلِ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ حَدِّهِ عَلَيْهِ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِيَهُودِيَّيْنِ فَجَرَا بَعْدَ إحْصَانِهِمَا فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا } . وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ إبَاحَتَهُ كَشُرْبِ خَمْرٍ لَمْ يُحَدَّ , وَإِنْ تَحَاكَمَ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ بِغَيْرِ خِلَافٍ . وَيُقْطَعُ الذِّمِّيُّ بِالسَّرِقَةِ . وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ . وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : لَا يُقْطَعُ الْمُسْتَأْمَنُ . وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ . وَدَلِيلُ وُجُوبِ الْقَطْعِ أَنَّهُ حَدٌّ يُطَالَبُ بِهِ , فَوَجَبَ عَلَيْهِ كَحَدِّ الْقَذْفِ . وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ إلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ , وَبِهَذَا قَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ , لِقَوْلِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم : لَا حَدَّ إلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَهُ . فَإِنْ ادَّعَى الزَّانِي الْجَهْلَ بِالتَّحْرِيمِ وَكَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَجْهَلَهُ كَحَدِيثِ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ , قُبِلَ مِنْهُ , لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا , وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ كَالْمُسْلِمِ النَّاشِئِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ , لِأَنَّ تَحْرِيمَ الزِّنَى لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ هُوَ كَذَلِكَ ( كَمَا أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مُكْرَهَةٍ ) . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَالزُّهْرِيِّ , وَقَتَادَةَ , وَالثَّوْرِيِّ لقوله تعالى : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ , وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } . وَعَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ امْرَأَةً اُسْتُكْرِهَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ } . وَفِي حَدِّ الْمُكْرَهِ عَلَى الزِّنَى خِلَافٌ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى مُصْطَلَحِ ( إكْرَاهٌ ) ( وَ ر : زِنًى ) وَهُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى لِوُجُوبِ كُلِّ حَدٍّ فُصِّلَ , الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي أَبْوَابِهَا .
تَقْدِيمُ الْحُقُوقِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ تَيَسُّرِهِ وَتَعَذُّرِ الْجَمْعِ :(1/199)
19 - قَالَ الْإِمَامُ الزَّرْكَشِيّ : حُقُوقُ اللَّهِ إذَا اجْتَمَعَتْ فَهِيَ عَلَى أَقْسَامٍ : أ - مَا يَتَعَارَضُ فَيُقَدَّمُ آكَدُهُ . ( فَمِنْهُ ) : تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ آخِرَ وَقْتِهَا عَلَى رَوَاتِبِهَا وَكَذَلِكَ عَلَى الْمَقْضِيَّةِ إذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ الْوَقْتِ إلَّا مَا يَسَعُ الْحَاضِرَةَ فَإِنْ كَانَ يَسَعُ الْمُؤَدَّاةَ وَالْمَقْضِيَّةَ فَالْفَائِتَةُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ . ( وَمِنْهَا ) : تَقْدِيمُ النَّوَافِلِ الْمَشْرُوعِ فِيهَا الْجَمَاعَةُ كَالْعِيدَيْنِ عَلَى الرَّوَاتِبِ . نِعْمَ تُقَدَّمُ الرَّوَاتِبُ عَلَى التَّرَاوِيحِ فِي الْأَصَحِّ ( وَتَقْدِيمُ الرَّوَاتِبِ عَلَى النَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ , وَتَقْدِيمُ الْوِتْرِ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فِي الْأَصَحِّ ) وَتَقْدِيمُ الزَّكَاةِ عَلَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ , وَالصِّيَامِ الْوَاجِبِ عَلَى نَفْلِهِ , وَالنُّسُكِ الْوَاجِبِ عَلَى غَيْرِهِ . وَإِذَا تَيَقَّنَ الْمُسَافِرُ وُجُودَ الْمَاءِ آخِرَ الْوَقْتِ فَتَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِانْتِظَارِهِ أَفْضَلُ مِنْ التَّقْدِيمِ بِالتَّيَمُّمِ . وَلَوْ أَوْصَى بِمَاءٍ لِأَوْلَى النَّاسِ بِهِ قُدِّمَ غُسْلُ الْمَيِّتِ عَلَى غَيْرِهِ , وَغُسْلُ النَّجَاسَةِ عَلَى الْحَدَثِ , لِأَنَّهُ لَا بَدَلَ لَهُ , وَفِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ تَقْدِيمُ غُسْلِ الْجَنَابَةِ , وَالثَّانِي تَقْدِيمُ غُسْلِ الْحَيْضِ , وَثَالِثُهَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فَيُقْرَعُ . وَيُقَدَّمُ ( الْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ ) وَغُسْلُ الْجُمُعَةِ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَغْسَالِ , وَأَيُّهُمَا يُقَدَّمُ قَوْلَانِ : فَصَحَّحَ الْعِرَاقِيُّونَ تَقْدِيمَ الْغُسْلِ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ عَلَى غُسْلِ الْجُمُعَةِ , لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ عَلَّقَ الْقَوْلَ بِوُجُوبِهِ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ , وَصَحَّحَ الْخُرَاسَانِيُّونَ وَتَابَعَهُمْ النَّوَوِيُّ تَقْدِيمَ غُسْلِ الْجُمُعَةِ , لِصِحَّةِ أَحَادِيثِهِ . وَمِنْهَا , قَاعِدَةُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى فَضِيلَةٍ تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْعِبَادَةِ أَوْلَى مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى فَضِيلَةِ تَتَعَلَّقُ بِمَكَانِهَا . ب - مَا يَتَسَاوَى لِعَدَمِ الْمُرَجِّحِ , كَمَنْ عَلَيْهِ فَائِتٌ مِنْ رَمَضَانَيْنِ , فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ , وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ الَّذِي عَلَيْهِ فِدْيَةُ أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَيْنِ , وَمَنْ عَلَيْهِ شَاتَانِ مَنْذُورَتَانِ فَلَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى إحْدَاهُمَا , نَذَرَ حَجًّا أَوْ عَمْرَةً بِنَذْرٍ وَاحِدٍ أَوْ بِنُذُورٍ مُخْتَلِفَةٍ , فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ . ج - مَا تَفَاوَتَتْ , فَيُقَدَّمُ الْمُرَجَّحُ , كَالدَّمِ الْوَاجِبِ فِي الْإِحْرَامِ , وَالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ , فَإِذَا اجْتَمَعَا فِي شَاةٍ , فَالزَّكَاةُ أَوْلَى , وَمِثْلُهُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ وَالْفِطْرَةِ , إذَا اجْتَمَعَا فِي مَالٍ يَقْصُرُ عَنْهُمَا , فَالْفِطْرَةُ أَوْلَى , لِتَعَلُّقِهِمَا بِالْعَيْنِ . وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ , وَوَجَدَ الْإِطْعَامَ لِإِحْدَاهُمَا وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ , وَقُلْنَا بِالْإِطْعَامِ فِي الْقَتْلِ , فَالظِّهَارُ أَوْلَى . د - مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ كَالْعَارِي هَلْ يُصَلِّي قَائِمًا ؟ وَيُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ مُحَافَظَةً عَلَى الْأَرْكَانِ , أَوْ يُصَلِّي قَاعِدًا مُومِيًا مُحَافَظَةً عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ , أَوْ يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا ؟ وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ , وَكَذَا الْمَحْبُوسُ بِمَكَانٍ نَجَسٍ , وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ وَلَا يَجْلِسُ , بَلْ يَنْحَنِي لِلسُّجُودِ إلَى الْقَدْرِ الَّذِي لَوْ زَادَ عَلَيْهِ لَاقَى النَّجَاسَةَ . وَلَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ نَجَسٍ وَمَعَهُ ثَوْبٌ , فَهَلْ يَبْسُطُهُ وَيُصَلِّي عُرْيَانًا أَوْ يُصَلِّي فِيهِ أَوْ يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا ؟ فِيهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ , وَلَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا ثَوْبَ حَرِيرٍ , فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ تَجِبُ الصَّلَاةُ فِيهِ . وَلَوْ اجْتَمَعَ عُرَاةٌ فَهَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلُّوا فُرَادَى أَوْ جَمَاعَةً أَوْ يَتَخَيَّرُوا أَوْ هُمَا سَوَاءٌ ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ . وَفِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ إذَا اجْتَمَعَتْ : قَالَ الزَّرْكَشِيّ أَيْضًا : فَتَارَةً تَسْتَوِي كَالْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ , وَتَسَاوِي أَوْلِيَاءِ النِّكَاحِ فِي دَرَجَةٍ , وَتَسْوِيَةِ الْحُكَّامِ بَيْنَ الْخُصُومِ فِي الْمُحَاكَمَاتِ , وَتَسَاوِي الشُّرَكَاءِ فِي الْقِسْمَةِ وَالْإِجْبَارِ عَلَيْهَا , وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ السَّابِقَيْنِ إلَى مُبَاحٍ . وَتَارَةً يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا كَنَفَقَةِ نَفْسِهِ عَلَى نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ وَقَرِيبِهِ , وَتَقْدِيمِ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ عَلَى نَفَقَةِ قَرِيبِهِ , وَتَقْدِيمِ غُرَمَائِهِ عَلَيْهِ فِي بَيْعِ مَالِهِ , وَقَضَاءِ دِينِهِ , وَتَقْدِيمِهِ عَلَى غُرَمَائِهِ بِنَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ وَكِسْوَتِهِمْ فِي مُدَّةِ الْحَجْرِ , وَتَقْدِيمِ الْمُضْطَرِّ عَلَى غَيْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ , وَتَقْدِيمِ ذَوِي الضَّرُورَاتِ عَلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ , وَالتَّقْدِيمُ بِالسَّبْقِ إلَى الْمَسَاجِدِ وَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ , وَتَقْدِيمِ حَقِّ(1/200)
الْبَائِعِ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي , وَالتَّقْدِيمُ فِي الْإِرْثِ بِالْعُصُوبَةِ وَقُرْبِ الدَّرَجَةِ وَفِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ بِالْأُبُوَّةِ وَالْجُدُودَةِ , ثُمَّ بِالْعُصُوبَةِ , وَالْحَقُّ الثَّابِتُ لِمُعَيِّنٍ أَقْوَى مِنْ الْحَقِّ الثَّابِتِ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ , وَلِهَذَا تَجِبُ زَكَاةُ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ عَلَى مُعَيَّنٍ , بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ , وَالْحَقُّ الْمُتَعَلِّقُ بِالْعَيْنِ أَقْوَى مِنْ الْمُتَعَلِّقِ بِالذِّمَّةِ , وَلِهَذَا قُدِّمَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُفْلِسِ بِالسِّلْعَةِ عَلَى الْغُرَمَاءِ , وَكَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ يُقَدَّمُ بِالْمَرْهُونِ , وَيُقَدَّمُ مَا لَهُ مُتَعَلِّقٌ وَاحِدٌ عَلَى مَا لَهُ مُتَعَلِّقَانِ , كَمَا لَوْ جَنَى الْمَرْهُونُ يُقَدَّمُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ , لِأَنَّهُ لَا مُتَعَلِّقَ لَهُ سِوَى الرَّقَبَةِ , وَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ . وَفِي اجْتِمَاعِ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْآدَمِيِّ قَالَ الزَّرْكَشِيّ : هُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : أ - مَا قُطِعَ فِيهِ بِتَقْدِيمِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى , كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ , وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ , فَإِنَّهَا تُقَدَّمُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ التَّرَفُّهِ وَالْمَلَاذِّ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ الْعَبْدِ فِي الْآخِرَةِ , وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ وَطْءِ الْمُتَحَيِّرَةِ , وَإِيجَابُ الْغُسْلِ عَلَيْهَا لِكُلِّ صَلَاةٍ . ب - مَا قُطِعَ فِيهِ بِتَقْدِيمِ حَقِّ الْآدَمِيِّ كَجَوَازِ التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ وَلُبْسِ الْحَرِيرِ عِنْدَ الْحَكَّةِ , وَكَتَجْوِيزِ التَّيَمُّمِ بِالْخَوْفِ مِنْ الْمَرَضِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَعْذَارِ , وَكَذَلِكَ الْأَعْذَارُ الْمُجَوِّزَةُ لِتَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ , وَالْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ , وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ وَغَيْرُهَا , وَالتَّدَاوِي بِالنَّجَاسَاتِ غَيْرِ الْخَمْرِ , وَإِذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ قَتْلُ قِصَاصٍ وَقَتْلُ رِدَّةٍ قُدِّمَ قَتْلُ الْقِصَاصِ , وَجَوَازُ التَّحَلُّلِ بِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ . ج - مَا فِيهِ خِلَافٌ بِحَقِّهِ . فَمِنْهَا , إذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ زَكَاةٌ وَدَيْنُ آدَمِيٍّ وَفِيهِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ : قِيلَ تُقَدَّمُ الزَّكَاةُ , وَقِيلَ يُقَدَّمُ الدَّيْنُ , وَقِيلَ إنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ وَالْأَصَحُّ تَقْدِيمُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى . وَمِنْهَا , الْحَجُّ وَالْكَفَّارَةُ , وَالْأَصَحُّ تَقْدِيمُ الْحَجِّ وَالْكَفَّارَةِ , قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ : وَلَا تَجْرِي هَذِهِ الْأَقْوَالُ فِي حَقِّ الْمَحْجُورِ , بَلْ يُقَدَّمُ حَقُّ الْآدَمِيِّ وَيُؤَخَّرُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مَا دَامَ حَيًّا , وَمُرَادُهُ الْحُقُوقُ الْمُسْتَرْسِلَةُ فِي الذِّمَّةِ دُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ , فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ حَيًّا وَمَيِّتًا , وَلِهَذَا الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ فِي الْمَرْهُونِ تُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ , وَإِذَا اجْتَمَعَ عَلَى التَّرِكَةِ دَيْنُ آدَمِيٍّ وَجِزْيَةٌ , فَالصَّحِيحُ تَسَاوِيهِمَا , وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّكَاةِ أَنَّ الْمُغَلِّبَ فِي الْجِزْيَةِ حَقُّ الْآدَمِيِّ , فَإِنَّهَا عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى الدَّارِ , فَأَشْبَهَتْ غَيْرَهَا مِنْ دُيُونِ الْآدَمِيِّينَ , وَلِهَذَا , لَوْ أَسْلَمَ أَوْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ لَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ , وَلَوْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ , وَأَيْضًا , فَإِنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوُجُوبِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا , وَالزَّكَاةُ لَا تَجِبُ , إلَّا بِآخِرِ الْحَوْلِ . وَمِنْهَا إذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَطَعَامَ الْغَيْرِ , فَأَقْوَالٌ , قِيلَ : تُقَدَّمُ الْمَيْتَةُ , وَقِيلَ طَعَامُ الْغَيْرِ , وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ . وَمِنْهَا , لَوْ بَذَلَ الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ الطَّاعَةَ فِي أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَجَبَ عَلَى الْأَبِ قَبُولُهُ , وَكَذَا لَوْ بَذَلَ لَهُ الْأُجْرَةَ عَلَى وَجْهٍ وَلَمْ نُوجِبْ عَلَيْهِ الْقَبُولَ فِي دَيْنِ الْآدَمِيِّ , بِلَا خِلَافٍ .
حِنْثُ النَّاسِي , وَالْمُكْرَهِ , وَالْجَاهِلِ(1/201)
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْحَالِفَ إنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا فَلَا حِنْثَ , إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ بِغَيْرِ الطَّلَاقِ , وَالْعَتَاقِ , وَالْجَاهِلُ عِنْدَهُمْ كَالنَّاسِي فَلَا يَحْنَثُ بِفِعْلِهِ , أَمَّا الْمُكْرَهُ فَيَحْنَثُ فِي الْإِكْرَاهِ غَيْرِ الْمُلْجِئِ وَلَا يَحْنَثُ فِي الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ إلَى أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الْقَوْلُ , أَوْ الْفِعْلُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ أَوْ النِّسْيَانِ , أَوْ الْجَهْلِ فَلَا يَحْنَثُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ , أَمْ بِالطَّلَاقِ لِخَبَرِ { تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ , وَالنِّسْيَانَ , وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } . وَالتَّفْصِيلُ فِي ( إكْرَاهٌ ) ( وَأَيْمَانٌ ) . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ بِالْمُخَالَفَةِ مَعَ النِّسْيَانِ وَلَوْ مَعَ الْإِكْرَاهِ , أَوْ الْإِغْمَاءِ , أَوْ الْجُنُونِ وَنَحْوِهَا . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ بِالْمُخَالَفَةِ مَعَ النِّسْيَانِ .
الصِّيغَةُ : 32 - الصِّيغَةُ تَدُلُّ عَلَى التَّرَاضِي وَيَتَنَاوَلُ بَحْثُ التَّرَاضِي الْعَنَاصِرَ الثَّلَاثَةَ التَّالِيَةَ : 1 - رِضَا الْمُحِيلِ 2 - رِضَا الْمُحَالِ 3 - رِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ . وَيُلَاحَظُ أَنَّ رِضَا الْمُحَالِ وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ مُخْتَلَفٌ فِي اعْتِبَارِهِمَا مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ النَّفَاذِ . أَوَّلًا : رِضَا الْمُحِيلِ : 33 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى اشْتِرَاطِ رِضَا الْمُحِيلِ , وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي جِهَاتِ قَضَاءِ الدَّيْنِ , فَلَا تَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ جِهَةٌ قَهْرًا , كَجِهَةِ الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ . 34 - وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ تَقَعَ الْحَوَالَةُ عَنْ رِضًا مِنْ الْمُحِيلِ لِأَنَّهَا إبْرَاءٌ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ , فَيُفْسِدُهَا الْإِكْرَاهُ كَسَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ . وَفِي اشْتِرَاطِ رِضَاهُ اخْتِلَافٌ بَيْنَ رِوَايَتَيْ الْقُدُورِيِّ وَالزِّيَادَاتِ : وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ الْمُوجِبَةِ : أَنَّ ذَوِي الْمُرُوءَاتِ قَدْ يَأْنَفُونَ مِنْ أَنْ يَحْمِلَ عَنْهُمْ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ دُيُونِهِمْ , فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُمْ , ثُمَّ يَطَّرِدُ الْبَابُ كُلُّهُ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ . وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ النَّافِيَةِ : أَنَّ الْتِزَامَ الدَّيْنِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ , وَالْمُحِيلُ لَا يَلْحَقُهُ بِهِ ضَرَرٌ , بَلْ فِيهِ نَفْعُهُ عَاجِلًا وَآجِلًا : أَمَّا عَاجِلًا فَلِأَنَّهُ سَيَكْفِي الْمُطَالَبَةُ بِدَيْنِهِ فِي الْحَالِ , وَأَمَّا آجِلًا فَلِأَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ قَدْ قَبِلَ حَوَالَةَ دَيْنِهِ , فَلَمْ يَبْقَ مَعْنًى لِاشْتِرَاطِ رِضَاهُ . لَكِنْ كَثِيرًا مِنْ مُحَقِّقِي الْمَذْهَبِ لَا يَرَوْنَ أَنَّ هُنَاكَ فِي الْحَقِيقَةِ خِلَافًا : فَإِنَّ الْقُدُورِيَّ لَمْ يُوجِبْ رِضَا الْمُحِيلِ لِنَفَاذِ عَقْدِ الْحَوَالَةِ , بَلْ لِيَسْقُطَ بِالْوَفَاءِ دَيْنُ الْمُحِيلِ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ - إنْ كَانَ - وَلِيَرْجِعَ هَذَا إلَى الْمُحِيلِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَدِينًا لَهُ . فَإِنَّهُ لَا رُجُوعَ عَلَى الْمُحِيلِ وَلَا سُقُوطَ لِدَيْنِهِ مَا لَمْ يَرْضَ ثَانِيًا :
رِضَا الْمُحَالِ :(1/202)
35 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى وُجُوبِ رِضَا الْمُحَالِ لِلْمَعْنَى نَفْسِهِ الْآنِفِ فِي رِضَا الْمُحِيلِ , وَلِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ , فَلَا يَنْتَقِلُ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ إلَّا بِرِضَاهُ , إذْ الذِّمَمُ تَتَفَاوَتُ يَسَارًا وَإِعْسَارًا , وَبَذْلًا وَمَطْلًا , وَتَتَأَثَّرُ بِذَلِكَ قِيمَةُ الدَّيْنِ نَفْسِهِ , وَلَا سَبِيلَ إلَى إلْزَامِهِ بِتَحَمُّلِ ضَرَرٍ لَمْ يَلْتَزِمْهُ . وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا الرِّضَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ , حَتَّى إذَا كَانَ غَائِبًا عَنْ الْمَجْلِسِ ثُمَّ بَلَغَهُ خَبَرُ الْحَوَالَةِ فَأَجَازَهَا , لَمْ تَنْفُذْ الْحَوَالَةُ , لِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ أَصْلًا إذْ أَنَّ رِضَا الْمُحَالِ عِنْدَهُمَا رُكْنٌ فِي انْعِقَادِهَا . أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيُكْتَفَى مِنْهُ بِمُجَرَّدِ الرِّضَا , أَيْنَمَا كَانَ وَلَوْ خَارِجَ مَجْلِسِ الْعَقْدِ , فَيَكُونُ شَرِيطَةَ نَفَاذٍ . وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَا يُوجِبُونَ رِضَا الْمُحَالِ , إلَّا عَلَى احْتِمَالٍ ضَعِيفٍ عِنْدَهُمْ . بَلْ يُجْبَرُ الْمُحَالُ عَلَى الْقَبُولِ , إذَا كَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مَلِيئًا غَيْرَ جَاحِدٍ وَلَا مُمَاطِلٍ . وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ : يُسْتَغْنَى بَتَاتًا عَنْ قَبُولِ الْمُحَالِ , فَإِنْ قَبِلَ فَذَاكَ , وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ فَلَا بَأْسَ , وَالْحَوَالَةُ نَافِذَةٌ بِرَغْمِهِ . قَالَ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ : فِي رِوَايَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ : لَا يَبْرَأُ الْمُحِيلُ إلَّا بِرِضَا الْمُحَالِ . فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ , لَكِنْ تَنْقَطِعُ الْمُطَالَبَةُ بِمُجَرَّدِ الْحَوَالَةِ . وَقِيلَ : يَتَوَجَّهُ أَنَّ لِلْمُحَالِ مُطَالَبَةُ الْمُحِيلِ قَبْلَ إجْبَارِ الْحَاكِمِ . وَمَبْنَى الرِّوَايَتَيْنِ : أَنَّ الْحَوَالَةَ هَلْ هِيَ نَقْلٌ لِلْحَقِّ أَوْ تَقْبِيضٌ ؟ فَإِنْ قُلْنَا : هِيَ نَقْلٌ لِلْحَقِّ , لَمْ يُعْتَبَرْ لَهَا قَبُولٌ . وَإِنْ قُلْنَا : هِيَ تَقْبِيضٌ , فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ بِالْقَوْلِ , وَهُوَ قَبُولُهَا . فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ الْمُحَالُ . ا هـ . وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ بِظَاهِرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ : قَالَ صلى الله عليه وسلم : { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ , وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ } . وَيُفَسِّرُهُ لَفْظُ أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ : { وَمَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ } . فَقَدْ أَمَرَ صلوات الله عليه الدَّائِنَ بِقَبُولِ الْحَوَالَةِ أَوْ الِالْتِزَامِ بِمُقْتَضَاهَا , وَالْأَمْرُ بِأَصْلِ وَضْعِهِ لِلْوُجُوبِ , وَلَيْسَ هُنَا مَا يَصْرِفُهُ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ . كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُولِ : فَإِنَّ الدَّائِنَ الَّذِي يُهَيِّئُ لَهُ مَدِينُهُ مِثْلَ دَيْنِهِ عَدًّا وَنَقْدًا مِنْ يَدٍ أُخْرَى فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ , وَيُصِرُّ عَلَى أَنْ يَنْقُدَهُ إيَّاهُ مَدِينُهُ بِالذَّاتِ , لَا يَكُونُ إلَّا مُتَعَنِّتًا مُعَانِدًا . ثَالِثًا : رِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ : 36 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ ) إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ رِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِقَوْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ } وَلَمْ يَقُلْ عَلَى مَلِيءٍ رَاضٍ " . وَلِأَنَّ الْحَقَّ لِلْمُحِيلِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِغَيْرِهِ كَمَا لَوْ وَكَّلَ غَيْرَهُ بِالِاسْتِيفَاءِ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إلَى اشْتِرَاطِ رِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَ مَدِينًا أَمْ لَا , وَسَوَاءٌ أَتَسَاوَى الدَّيْنَانِ أَمْ لَا , لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي تَقَاضِي دُيُونِهِمْ رِفْقًا وَعُنْفًا , وَيُسْرًا وَعُسْرًا , فَلَا يُلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ . وَقِيَاسًا عَلَى الْمُحَالِ فَإِنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ مِثْلُهُ فِي أَنَّهُ طَرَفٌ فِي الْحَوَالَةِ لَا تَمَامَ لَهَا بِدُونِهِ فَلْيَكُنْ مِثْلَهُ فِي اشْتِرَاطِ رِضَاهُ .
خَطَأٌ التَّعْرِيفُ :(1/203)
1 - الْخَطَأُ لُغَةً نَقِيضُ الصَّوَابِ . قَالَ فِي اللِّسَانِ : الْخَطَأُ وَالْخَطَاءُ ضِدُّ الصَّوَابِ , وَفِي التَّنْزِيلِ : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ } عَدَّاهُ بِالْبَاءِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى عَثَرْتُمْ أَوْ غَلِطْتُمْ . وَأَخْطَأَ الطَّرِيقَ عَدَلَ عَنْهُ , وَأَخْطَأَ الرَّامِي الْغَرَضَ لَمْ يُصِبْهُ . وَخَطَّأَهُ تَخْطِئَةً نَسَبَهُ إلَى الْخَطَأِ وَقَالَ لَهُ أَخْطَأْت . وَقَالَ الْأُمَوِيُّ : الْمُخْطِئُ مَنْ أَرَادَ الصَّوَابَ فَصَارَ إلَى غَيْرِهِ , وَالْخَاطِئُ مَنْ تَعَمَّدَ لِمَا لَا يَنْبَغِي . وَالِاسْمُ الْخَطِيئَةُ عَلَى فَعِيلَةٍ , وَذَلِكَ أَنْ تُشَدَّدَ الْيَاءُ وَتُدْغَمَ فَتَقُولُ خَطِيَّةٌ وَالْجَمْعُ خَطَايَا . وَفِي النِّهَايَةِ وَالْمِصْبَاحِ : يُقَالُ خَطِئَ . فِي دِينِهِ خَطَأً إذَا أَثِمَ فِيهِ , وَالْخِطْءُ : الذَّنْبُ وَالْإِثْمُ . وَأَخْطَأَ يُخْطِئُ إذَا سَلَكَ سَبِيلَ الْخَطَأِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا . وَيُقَالُ : خَطِئَ بِمَعْنَى أَخْطَأَ أَيْضًا . وَقِيلَ : خَطِئَ إذَا تَعَمَّدَ , وَأَخْطَأَ إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ . وَيُقَالُ : لِمَنْ أَرَادَ شَيْئًا فَفَعَلَ غَيْرَهُ , أَوْ فَعَلَ غَيْرَ الصَّوَابِ : أَخْطَأَ .
مَعْنَاهُ فِي الِاصْطِلَاحِ :(1/204)
2 - قَالَ فِي التَّلْوِيحِ : هُوَ فِعْلٌ يَصْدُرُ مِنْ الْإِنْسَانِ بِلَا قَصْدٍ إلَيْهِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ أَمْرٍ مَقْصُودٍ سِوَاهُ . وَعَرَّفَهُ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ بِقَوْلِهِ : هُوَ أَنْ يَقْصِدَ بِالْفِعْلِ غَيْرَ الْمَحَلِّ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْجِنَايَةُ , كَالْمَضْمَضَةِ تَسْرِي إلَى حَلْقِ الصَّائِمِ , فَإِنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْجِنَايَةُ عَلَى الصَّوْمِ إنَّمَا هُوَ الْحَلْقُ وَلَمْ يَقْصِدْ بِالْمَضْمَضَةِ بَلْ قَصَدَ بِهَا الْفَمَ , وَكَالرَّمْيِ إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ آدَمِيًّا , فَإِنَّ مَحَلَّ الْجِنَايَةِ هُوَ الْآدَمِيُّ وَلَمْ يَقْصِدْ بِالرَّمْيِ بَلْ قَصَدَ غَيْرَهُ وَهُوَ الصَّيْدُ . الْغَلَطُ : 3 - الْغَلَطُ فِي اصْطِلَاحِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يَأْتِي مُسَاوِيًا لِلَفْظِ الْخَطَأِ . فَقَدْ جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الْعَدَوِيِّ عَلَى الْخَرَشِيِّ تَعْرِيفُ الْغَلَطِ : بِأَنَّهُ تَصَوُّرُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ . وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا التَّعْرِيفِ مَا قَالَهُ اللَّيْثُ : إنَّهُ أَيْ الْغَلَطُ كُلُّ شَيْءٍ يَعْيَا الْإِنْسَانُ عَنْ جِهَةِ صَوَابِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ . وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْخَطَأِ بِعَيْنِهِ . وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ : فَرْقًا بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ وَهُوَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْخَطَأِ الْجَنَانُ , وَمُتَعَلِّقَ الْغَلَطِ اللِّسَانُ . وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا يَأْتِي الْغَلَطُ بِمَعْنَى الْخَطَأِ وَيَأْخُذُ حُكْمَهُ . قَالَ الدُّسُوقِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ : فِي الْحِنْثِ بِالْغَلَطِ أَيْ : اللِّسَانِيِّ نَظَرٌ , وَالصَّوَابُ عَدَمُ الْحِنْثِ فِيهِ , وَمَا وَقَعَ فِي كَلَامِهِمْ مِنْ الْحِنْثِ بِالْغَلَطِ , فَالْمُرَادُ بِهِ الْغَلَطُ الْجِنَائِيُّ الَّذِي هُوَ الْخَطَأُ , كَحَلِفِهِ أَنْ لَا يُكَلِّمَ زَيْدًا , فَكَلَّمَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ عَمْرٌو , وَكَحَلِفِهِ لَا أَذْكُرُ فُلَانًا فَذَكَرَهُ , لِظَنِّهِ أَنَّهُ غَيْرُ الِاسْمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ . وَفَرَّقَ أَبُو هِلَالٍ الْعَسْكَرِيُّ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ فَقَالَ : إنَّ الْغَلَطَ هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ , وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَوَابًا فِي نَفْسِهِ , وَالْخَطَأُ لَا يَكُونُ صَوَابًا عَلَى وَجْهٍ . ثُمَّ قَالَ : وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْغَلَطُ أَنْ يَسْهَى تَرْتِيبَ الشَّيْءِ وَأَحْكَامَهُ , وَالْخَطَأُ أَنْ يَسْهَى عَنْ فِعْلِهِ , أَوْ أَنْ يُوقِعَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَهُ وَلَكِنْ لِغَيْرِهِ . وَهَذَا الْبَحْثُ يَشْمَلُ مُصْطَلَحَيْ ( خَطَأٌ , وَغَلَطٌ ) بِاعْتِبَارِهِمَا يَرِدَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ كَمَا هُوَ اصْطِلَاحُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ يُعَبِّرُونَ عَمَّا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ بِلَفْظِ الْخَطَأِ , كَمَا فِي بَيْعِ الْمُخْطِئِ وَطَلَاقِهِ . وَالْمَالِكِيَّةُ يُعَبِّرُونَ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ بِلَفْظَةِ الْغَلَطِ , كَمَا فِي الْغَلَطِ فِي الْمَبِيعِ , وَتَأْتِي تَعْبِيرَاتُهُمْ مُخْتَلِفَةً أَحْيَانًا , فَمِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ بِلَفْظَةِ الْخَطَأِ , وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ ذَاتِ الْمَسْأَلَةِ بِلَفْظَةِ الْغَلَطِ , كَمَا فِي الْحَجِّ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ , وَفِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ كَمَسَائِلِ الشَّهَادَةِ وَالرُّجُوعِ عَنْهَا . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - النِّسْيَانُ وَالسَّهْوُ وَالْغَفْلَةُ وَالذُّهُولُ : 4 - هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ . فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ شَرْحِ التَّحْرِيرِ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ . وَقَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ : الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ . وَصَرَّحَ الْبَيْجُورِيُّ بِأَنَّ السَّهْوَ مُرَادِفٌ لِلْغَفْلَةِ , وَأَمَّا الذُّهُولُ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَهُ مُسَاوِيًا لِلْغَفْلَةِ , وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ أَعَمَّ مِنْهَا , وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ أَخَصَّ , وَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ تَرْجِعُ إلَى عُيُوبٍ فِي الْإِرَادَةِ لِمَنْ فَاتَهَا الْعِلْمُ , وَمَا كَانَ مُنَافِيًا لِلْعِلْمِ كَانَ مُنَافِيًا لِلْإِرَادَةِ , وَصِلَتُهَا بِالْخَطَأِ أَنَّهَا أَسْبَابٌ تُؤَدِّي إلَيْهِ وَالْخَطَأُ يُنْتَجُ عَنْهَا . ب - الْإِكْرَاهُ : 5 - الْإِكْرَاهُ هُوَ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى مَا لَا يَرْضَاهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ , وَلَا يَخْتَارُ الْمُكْرَهُ مُبَاشَرَتَهُ لَوْ خُلِّيَ وَنَفْسَهُ , وَيَنْقَسِمُ إلَى مُلْجِئٍ وَغَيْرِ مُلْجِئٍ وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِهِ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ : ( إكْرَاهٌ ) قَالَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ : وَالْحَقُّ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ بِالْإِكْرَاهِ إلَى حَدِّ الِاضْطِرَارِ , وَصَارَ نِسْبَةُ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ الْفِعْلِ إلَيْهِ نِسْبَةُ حَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ إلَيْهِ , أَنَّ تَكْلِيفَهُ بِهِ إيجَادًا وَعَدَمًا غَيْرُ جَائِزٍ إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ , وَأَمَّا إنْ لَمْ يَنْتَهِ إلَى حَدِّ الِاضْطِرَارِ فَهُوَ مُخْتَارٌ , وَتَكْلِيفُهُ جَائِزٌ عَقْلًا وَشَرْعًا , وَأَمَّا الْمُخْطِئُ فَهُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ إجْمَاعًا فِيمَا هُوَ مُخْطِئٌ فِيهِ . ج - الْهَزْلُ : 6 - الْهَزْلُ ضِدُّ(1/205)
الْجَدِّ وَهُوَ كُلُّ كَلَامٍ لَا تَحْصِيلَ لَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْهُزَالِ . وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ : الْهُزَالُ وَاللَّعِبُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ . وَنَحْوُهُمَا الْمِزَاحُ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : أَنْ لَا يُرَادَ بِاللَّفْظِ وَدَلَالَتِهِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ وَلَا الْمَجَازِيُّ بِأَنْ لَا يُرَادَ بِهِ شَيْءٌ أَوْ يُرَادُ بِهِ مَا لَا يَصِحُّ إرَادَتُهُ بِهِ . وَالْهَزْلُ كَالْخَطَأِ فِي أَنَّهُ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ إلَّا أَنَّ الْمُخْطِئَ لَا قَصْدَ لَهُ فِي خُصُوصِ اللَّفْظِ وَلَا فِي حُكْمِهِ , وَالْهَازِلُ مُخْتَارٌ رَاضٍ بِخُصُوصِ اللَّفْظِ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ . د - الْجَهْلُ : 7 - الْجَهْلُ انْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ بِأَنْ لَمْ يُدْرِكْ أَصْلًا , وَيُسَمَّى الْجَهْلَ الْبَسِيطَ , أَوْ أَدْرَكَ عَلَى خِلَافِ هَيْئَتِهِ فِي الْوَاقِعِ وَيُسَمَّى الْجَهْلَ الْمُرَكَّبَ ; لِأَنَّهُ جَهْلُ الْمُدْرِكِ بِمَا فِي الْوَاقِعِ , مَعَ الْجَهْلِ بِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِهِ كَاعْتِقَادِ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ . وَاعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ الْجَهْلَ عُذْرًا مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ , وَعَارِضًا مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ , مِثْلُهُ مِثْلُ الْخَطَأِ , وَأَنَّهُ مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ وَيُعْتَدُّ بِهِ عُذْرًا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَنْهِيَّاتِ دُونَ الْمَأْمُورَاتِ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْمَأْمُورَاتِ إقَامَةُ مَصَالِحِهَا , وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِفِعْلِهَا , وَالْمَنْهِيَّاتُ مَزْجُورٌ عَنْهَا بِسَبَبِ مَفَاسِدِهَا امْتِحَانًا لِلْمُكَلَّفِ بِالِانْكِفَافِ عَنْهَا , وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّعَمُّدِ لِارْتِكَابِهَا , وَمَعَ الْجَهْلِ لَمْ يَقْصِدْ الْمُكَلَّفُ ارْتِكَابَ الْمَنْهِيِّ فَعُذِرَ بِالْجَهْلِ فِيهِ . وَلَا يُعْتَبَرُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ مِثْلُ الْخَطَأِ , فَيَضْمَنُ الْجَاهِلُ وَالْمُخْطِئُ مَا يُتْلِفَانِهِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ .
ثَانِيًا - الْخَطَأُ فِي الْحِنْثِ :
67 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ سَوَاءٌ مَعَ الْإِكْرَاهِ أَوْ النِّسْيَانِ فِي الْيَمِينِ أَوْ الْحِنْثِ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَعْدَمُهُ الْإِكْرَاهُ وَالنِّسْيَانُ , وَكَذَا الْإِغْمَاءُ وَالْجُنُونُ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ , كَمَا لَوْ فَعَلَهُ ذَاكِرًا لِيَمِينِهِ مُخْتَارًا . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : الْحِنْثُ هُوَ مُخَالَفَةُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ مِنْ نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ , فَمَنْ حَنِثَ مُخْطِئًا كَأَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلَهَا مُعْتَقِدًا أَنَّهَا غَيْرُهَا فَإِنَّهُ يَحْنَثُ , وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْخَطَأِ أَيْضًا مَا إذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ مِنْهُ دَرَاهِمَ فَتَنَاوَلَ مِنْهُ ثَوْبًا فَتَبَيَّنَ أَنَّ فِيهِ دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ , وَقِيلَ بِعَدَمِ الْحِنْثِ , وَقِيلَ بِالْحِنْثِ إنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ فِيهِ دَرَاهِمَ قِيَاسًا عَلَى السَّرِقَةِ وَإِلَّا فَلَا حِنْثَ . وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ فَقَالُوا : مُتَعَلِّقُ الْخَطَأِ الْجَنَانُ , وَمُتَعَلِّقُ الْغَلَطِ اللِّسَانُ فَحَيْثُ قَالُوا بِالْحِنْثِ الْمُرَادُ بِهِ الْغَلَطُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْخَطَأِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْجَنَانِ لَا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْغَلَطِ اللِّسَانِيِّ فَالصَّوَابُ عَدَمُ الْحِنْثِ فِيهِ . وَمَثَّلُوا لِلْغَلَطِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْخَطَأِ : حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ زَيْدًا فَكَلَّمَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ عَمْرٌو , أَوْ حَلَفَ لَا يَذْكُرُ فُلَانًا فَذَكَرَهُ لِظَنِّهِ أَنَّهُ غَيْرُ الِاسْمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا نَاسِيًا لِلْيَمِينِ أَوْ جَاهِلًا أَنَّهَا الدَّارُ الْمَحْلُوفَةُ عَلَيْهَا هَلْ يَحْنَثُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ : سَوَاءٌ كَانَ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِالطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ , وَوَجْهُ الْحِنْثِ قوله تعالى : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } وَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ . وَوَجْهُ عَدَمِ الْحِنْثِ وَهُوَ الرَّاجِحُ قوله تعالى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ } الْآيَةَ , وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } وَالْيَمِينُ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْعُمُومِ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ حَالَ كَوْنِهِ مُخْتَارًا ذَاكِرًا إنْ فَعَلَهُ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا فَلَا كَفَّارَةَ , لِحَدِيثِ : { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } . وَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ إذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِهِمَا نَاسِيًا وَالْجَاهِلُ كَالنَّاسِي فَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ فَدَخَلَهَا جَاهِلًا بِأَنَّهَا دَارُهُ حَنِثَ فِي طَلَاقٍ وَعَتَاقٍ فَقَطْ .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ :(1/206)
9 - الْخُلْعُ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ سَوَاءٌ فِي حَالَةِ الْوِفَاقِ وَالشِّقَاقِ خِلَافًا لِابْنِ الْمُنْذِرِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : يَصِحُّ الْخُلْعُ فِي حَالَتَيْ الشِّقَاقِ وَالْوِفَاقِ , ثُمَّ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ إنْ جَرَى فِي حَالِ الشِّقَاقِ , أَوْ كَانَتْ تُكْرَهُ صُحْبَتُهُ لِسُوءِ خُلُقِهِ , أَوْ دِينِهِ , أَوْ تَحَرَّجَتْ مِنْ الْإِخْلَالِ بِبَعْضِ حُقُوقِهِ , أَوْ ضَرَبَهَا تَأْدِيبًا فَافْتَدَتْ , وَأَلْحَقَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ بِهِ مَا إذَا مَنَعَهَا نَفَقَةً أَوْ غَيْرَهَا فَافْتَدَتْ لِتَتَخَلَّصَ مِنْهُ , قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ : فَإِنْ مَنَعَهَا النَّفَقَةَ لِكَيْ تَخْتَلِعَ مِنْهُ فَهُوَ مِنْ الْإِكْرَاهِ فَتَبِينُ مِنْهُ بِلَا مَالٍ إذَا ثَبَتَ الْإِكْرَاهُ , قَالَ الرَّمْلِيُّ : وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ . وَجَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ اسْتِثْنَاءُ حَالَتَيْنِ مِنْ الْكَرَاهَةِ : إحْدَاهُمَا أَنْ يَخَافَا أَوْ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ أَيْ مَا افْتَرَضَهُ فِي النِّكَاحِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَحْلِفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ , فَيَخْلَعَهَا , ثُمَّ يَفْعَلُ الْأَمْرَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ , ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا فَلَا يَحْنَثُ لِانْحِلَالِ الْيَمِينِ بِالْفِعْلَةِ الْأُولَى , إذْ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْفِعْلَةَ الْأُولَى وَقَدْ حَصَلَتْ , فَإِنْ خَالَعَهَا وَلَمْ يَفْعَلْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَصَحُّهُمَا : أَنَّهُ يَتَخَلَّصُ مِنْ الْحِنْثِ فَإِذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بَعْدَ النِّكَاحِ لَمْ يَحْنَثْ ; لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ سَبَقَ هَذَا النِّكَاحَ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ , كَمَا إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ عَلَى صِفَةٍ وُجِدَتْ بَعْدَهُ . وَالْخِلَافُ فِي كَوْنِ الْخُلْعِ جَائِزًا أَوْ مَكْرُوهًا إنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَى الْعِصْمَةِ , كَمَا فِي حَاشِيَةِ الصَّاوِيِّ , وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ طَلَاقًا فَهُوَ مَكْرُوهٌ بِالنَّظَرِ لِأَصْلِهِ أَوْ خِلَافُ الْأَوْلَى , لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام : { أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ } . وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ , أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } , وقوله تعالى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ : { اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً } وَهُوَ أَوَّلُ خُلْعٍ وَقَعَ فِي الْإِسْلَامِ . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالْأُمَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ وَجَوَازِهِ . وَاسْتَدَلُّوا مِنْ الْمَعْقُولِ بِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ حَقُّ الزَّوْجِ فَجَازَ لَهُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ كَالْقِصَاصِ . 10 - وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْخُلْعَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : الْأَوَّلُ : مُبَاحُ الْخُلْعِ وَهُوَ أَنْ تَكْرَهَ الْمَرْأَةُ الْبَقَاءَ مَعَ زَوْجِهَا لِبُغْضِهَا إيَّاهُ , وَتَخَافُ أَلَّا تُؤَدِّيَ حَقَّهُ , وَلَا تُقِيمُ حُدُودَ اللَّهِ فِي طَاعَتِهِ , فَلَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ لقوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } وَيُسَنُّ لِلزَّوْجِ إجَابَتُهَا , لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : { جَاءَتْ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَا أَنْقِمُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ إلَّا أَنِّي أَخَافُ الْكُفْرَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : فَتَرُدِّي عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ فَقَالَتْ : نَعَمْ . فَرَدَّتْ عَلَيْهِ , وَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا } وَلِأَنَّ حَاجَتَهَا دَاعِيَةٌ إلَى فُرْقَتِهِ , وَلَا تَصِلُ إلَى الْفُرْقَةِ إلَّا بِبَذْلِ الْعِوَضِ فَأُبِيحَ لَهَا ذَلِكَ , وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ لَهُ إلَيْهَا مَيْلٌ وَمَحَبَّةٌ فَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبُّ صَبْرُهَا وَعَدَمُ افْتِدَائِهَا , قَالَ أَحْمَدُ : يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَصْبِرَ . قَالَ الْقَاضِي : أَيْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ , وَلَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ , لِنَصِّهِمْ عَلَى جَوَازِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . الثَّانِي : مَكْرُوهٌ : كَمَا إذَا خَالَعَتْهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مَعَ اسْتِقَامَةِ الْحَالِ لِحَدِيثِ ثَوْبَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلْت زَوْجَهَا طَلَاقًا فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ } وَلِأَنَّهُ عَبَثٌ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا , وَيَقَعُ الْخُلْعُ , لقوله تعالى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ أَحْمَدَ تَحْرِيمَهُ وَبُطْلَانَهُ ; لِأَنَّهُ قَالَ الْخُلْعُ مِثْلُ حَدِيثِ سَهْلَةَ تَكْرَهُ الرَّجُلَ فَتُعْطِيهِ الْمَهْرَ فَهَذَا(1/207)
الْخُلْعُ وَوَجْهُ ذَلِكَ قوله تعالى : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } . الثَّالِثُ : مُحَرَّمٌ : كَمَا إذَا عَضَلَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ بِأَذَاهُ لَهَا وَمَنْعِهَا حَقَّهَا ظُلْمًا لِتَفْتَدِي نَفْسَهَا مِنْهُ لقوله تعالى : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِعِوَضٍ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ ; لِأَنَّهُ عِوَضٌ أُكْرِهَتْ عَلَى بَذْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا . وَإِنْ خَالَعَهَا بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ طَلَاقٌ فَحُكْمُهُ مَا ذُكِرَ , وَإِلَّا فَالزَّوْجِيَّةُ بِحَالِهَا , فَإِنْ أَدَّبَهَا لِتَرْكِهَا فَرْضًا أَوْ نُشُوزِهَا فَخَالَعَتْهُ لِذَلِكَ لَمْ يَحْرُمْ ; لِأَنَّهُ ضَرَبَهَا بِحَقٍّ , وَإِنْ زَنَتْ فَعَضَلَهَا لِتَفْتَدِي نَفْسَهَا مِنْهُ جَازَ وَصَحَّ الْخُلْعُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّهْيِ إبَاحَةٌ . وَإِنْ ضَرَبَهَا ظُلْمًا لِغَيْرِ قَصْدِ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهَا فَخَالَعَتْهُ لِذَلِكَ صَحَّ الْخُلْعُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْضُلْهَا لِيَأْخُذَ مِمَّا آتَاهَا شَيْئًا . وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا أَنَّ الْخُلْعَ يَحْرُمُ حِيلَةً لِإِسْقَاطِ يَمِينِ طَلَاقٍ , وَلَا يَصِحُّ وَلَا يَقَعُ ; لِأَنَّ الْحِيَلَ خِدَاعٌ لَا تُحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ . هَذَا وَاخْتَارَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَدَمَ جَوَازِ الْخُلْعِ حَتَّى يَقَعَ الشِّقَاقُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِ قوله تعالى : { إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } . وَبِذَلِكَ قَالَ طَاوُسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ . وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا إذَا لَمْ تَقُمْ بِحُقُوقِ الزَّوْجِ كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِبُغْضِ الزَّوْجِ لَهَا فَنُسِبَتْ الْمَخَافَةُ إلَيْهِمَا لِذَلِكَ , وَيُؤَيِّدُ عَدَمَ اعْتِبَارِ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَفْسِرْ ثَابِتًا عَنْ كَرَاهَتِهِ لَهَا عِنْدَ إعْلَانِهَا بِالْكَرَاهَةِ لَهُ , عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْخَوْفِ فِي الْآيَةِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ وُقُوعُ الْخُلْعِ فِي حَالَةِ التَّشَاجُرِ ; وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ حَالَةَ الْخَوْفِ وَهِيَ مُضْطَرَّةٌ إلَى بَذْلِ الْمَالِ فَفِي حَالَةِ الرِّضَا أَوْلَى . 11 - وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ - عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ - بِأَنَّهَا إذَا خَالَعَتْهُ دَرْءًا لِضَرَرِهِ فَإِنَّ الزَّوْجَ يَرُدُّ الْمَالَ الَّذِي خَالَعَهَا بِهِ , وَلَوْ كَانَتْ قَدْ أَسْقَطَتْ الْبَيِّنَةَ الَّتِي أَشْهَدَتْهَا بِأَنَّهَا خَالَعَتْهُ لِدَرْءِ ضَرَرِهِ .
دَارُ الْحَرْبِ التَّعْرِيفُ :(1/208)
1 - دَارُ الْحَرْبِ : هِيَ كُلُّ بُقْعَةٍ تَكُونُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِيهَا ظَاهِرَةً . الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِدَارِ الْحَرْبِ : الْهِجْرَةُ : 2 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ النَّاسَ فِي شَأْنِ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أ - مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ , وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا , وَلَا يُمْكِنُهُ إظْهَارُ دِينِهِ مَعَ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ , وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى لَا تَجِدُ مَحْرَمًا , إنْ كَانَتْ تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا فِي الطَّرِيقِ , أَوْ كَانَ خَوْفُ الطَّرِيقِ أَقَلَّ مِنْ خَوْفِ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ . لقوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } . وَفِي الْآيَةِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ , وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ . وَلِحَدِيثِ : { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا } وَحَدِيثِ : { لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا دَامَ الْعَدُوُّ يُقَاتِلُ } أَمَّا حَدِيثُ : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ } فَمَعْنَاهُ لَا هِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ فَتْحِهَا , لِصَيْرُورَةِ مَكَّةَ دَارَ إسْلَامٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ . ب - مَنْ لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ : وَهُوَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْهَا , إمَّا لِمَرَضٍ , أَوْ إكْرَاهٍ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْكُفْرِ , أَوْ ضَعْفٍ كَالنِّسَاءِ , وَالْوِلْدَانِ . لقوله تعالى : { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا } . ج - مَنْ تُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ , وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ , وَهُوَ : مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْهِجْرَةِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ , فَهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْجِهَادِ , وَتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ . د - وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ قِسْمًا رَابِعًا : وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ , وَيَقْدِرُ عَلَى الِاعْتِزَالِ فِي مَكَان خَاصٍّ , وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْكُفَّارِ , فَهَذَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ , لِأَنَّ مَكَانَ اعْتِزَالِهِ صَارَ دَارَ إسْلَامٍ بِامْتِنَاعِهِ , فَيَعُودُ بِهِجْرَتِهِ إلَى حَوْزَةِ الْكُفَّارِ , وَهُوَ أَمْرٌ لَا يَجُوزُ , لِأَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ قَدَرَ أَهْلُهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْكُفَّارِ صَارَ دَارَ إسْلَامٍ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : لَا تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لِخَبَرِ : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ } . أَمَّا حَدِيثُ : { اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ } . فَمَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ } .
كَيْفِيَّةُ الْعِلْمِ بِالْمُدَّعَى بِهِ فِي دَعْوَى الْعَقْدِ :
53 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ ذِكْرِ شُرُوطِ الْعَقْدِ لِصِحَّةِ دَعْوَاهُ عَلَى أَقْوَالٍ : أ - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الدَّعْوَى بَيَانُ شُرُوطِ كُلِّ سَبَبٍ لَهُ شُرُوطٌ كَثِيرَةٌ وَمُعَقَّدَةٌ , فَلَا تَصِحُّ دَعْوَى النِّكَاحِ وَالسَّلَمِ إلَّا بِذِكْرِ شُرُوطِهِمَا مُفَصَّلَةً . وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ ذِكْرَ الطَّوْعِ وَالرَّغْبَةِ فِي دَعْوَى الْعَقْدِ , وَخَالَفَ آخَرُونَ , لِأَنَّ الظَّاهِرَ بَيْنَ النَّاسِ هُوَ الطَّوْعُ , وَالْإِكْرَاهُ نَادِرٌ لَا حُكْمَ لَهُ . ب - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذِكْرُ شُرُوطِ الْعَقْدِ فِي دَعْوَاهُ , لِأَنَّ ظَاهِرَ عُقُودِ الْمُسْلِمِينَ الصِّحَّةُ , فَتُحْمَلُ الدَّعْوَى عَلَى الصَّحِيحِ . ج - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذِكْرُ شُرُوطِ الْعَقْدِ فِي دَعْوَاهُ إلَّا إذَا كَانَ الْعَقْدُ عَقْدَ نِكَاحٍ , حَيْثُ اشْتَرَطُوا ذِكْرَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِشَاهِدَيْنِ وَوَلِيٍّ وَرِضَاهَا . وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ الشَّافِعِيِّ , وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْفَائِتَ فِي الزَّوَاجِ بِالْحُكْمِ الْخَاطِئِ لَا يُعَوَّضُ , خِلَافًا لِلْعُقُودِ الْأُخْرَى , فَإِنَّهَا أَقَلُّ خَطَرًا , فَأَشْبَهَتْ دَعْوَاهُ دَعْوَى الْقَتْلِ , حَيْثُ اُتُّفِقَ عَلَى وُجُوبِ ذِكْرِ شُرُوطِهِ . وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي أَيِّ عَقْدٍ آخَرَ , وَبِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَصَّهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْعُقُودِ فَقَالَ : { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ } . وَلَوْلَا هَذَا التَّخْصِيصُ لَكَانَ كَغَيْرِهِ , وَلَكِنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ حَمَلُوهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ . د - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى وُجُوبِ ذِكْرِ شُرُوطِ الْعَقْدِ فِي دَعْوَاهُ مَهْمَا كَانَ , وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ عَقْدِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ , وَلَا بَيْنَ مَا هُوَ كَثِيرُ الشُّرُوطِ وَقَلِيلُهَا .(1/209)
الصِّيَغُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الرُّخْصَةِ :
7 - الرُّخْصَةُ تَكُونُ غَالِبًا بِمَا يَلِي : أ - مَادَّتُهَا : مِثْلُ رَخَّصَ وَأَرْخَصَ وَرُخْصَةٌ , فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ } { وَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ , وَرَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ . . } وَفِيهِ - أَيْضًا - أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام : { رَخَّصَ فِي الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ } . { وَ رَخَّصَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرِّ غَيْرِ الْمُزَفَّتِ مِنْ الْأَوْعِيَةِ } . { وَ رَخَّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ قَبْلَ طَوَافِ الْوَدَاعِ } . { وَ رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا } . { وَ رَخَّصَ فِي الرُّقْيَةِ مِنْ الْعَيْنِ . . } وَفِي حَدِيثِ جَزَاءِ الصَّيْدِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ } . يَعْنِي عَلَيْكُمْ بِالصَّوْمِ إذَا كَانَ فِي تَعْوِيضِهِ بِالْأَنْعَامِ عُسْرٌ مَهْمَا كَانَ مَأْتَاهُ . ب - ( نَفْيُ الْجُنَاحِ ) : وَرَدَ الْجُنَاحُ مَنْفِيًّا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ آيَةً يُسْتَفَادُ مِنْ أَغْلَبِهَا التَّرْخِيصُ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ لقوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ } . ج - ( نَفْيُ الْإِثْمِ ) : مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . د - الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ حُكْمٍ عَامٍّ : كَقَوْلِهِ تَعَالَى : - فِي شَأْنِ الْإِكْرَاهِ - : { مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } رَخَّصَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُكْرَهِ إظْهَارَ الْكُفْرِ - إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ التَّلَفَ - فَلَهُ أَنْ يُظْهِرَ الْكُفْرَ بِشَيْءٍ مِنْ مَظَاهِرِهِ الَّتِي يُطْلَقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا كُفْرٌ فِي عُرْفِ النَّاسِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ رِفْقًا بِعِبَادِهِ , وَاعْتِبَارًا لِلْأَشْيَاءِ بِغَايَاتِهَا وَمَقَاصِدِهَا , وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ { أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رضي الله عنهما - قَالَ - بَعْدَ أَنْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا - : يَا رَسُولَ اللَّهِ , مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتَ مِنْك , وَذَكَرْتَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَك ؟ قَالَ : مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ . فَقَالَ عليه الصلاة والسلام : إنْ عَادُوا فَعُدْ } .
أَقْسَامُ الرُّخْصَةِ :(1/210)
8 - تَنْقَسِمُ الرُّخْصَةُ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ أَهَمُّهَا : أ - بِاعْتِبَارِ حُكْمِهَا : الَّذِينَ قَسَّمُوا الرُّخَصَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ هُمْ الشَّافِعِيَّةُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا حَيْثُ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّهَا تَنْقَسِمُ - بِالِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ - إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : الْقِسْمِ الْأَوَّلِ : 9 - رُخَصٌ وَاجِبَةٌ : مِثْلُ أَكْلِ الْمُضْطَرِّ مِمَّا حُرِّمَ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ , وَشُرْبِهِ مِمَّا حُرِّمَ مِنْ الْمَشْرُوبَاتِ , بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ , وَقِيلَ : إنَّ أَكْلَ الْمُضْطَرِّ أَوْ شُرْبَهُ مِمَّا ذُكِرَ جَائِزٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ يَتَنَافَى مَعَ التَّرْخِيصِ , وَلِذَلِكَ نَقَلُوا عَنْ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيِّ الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَ بِأَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ عَزِيمَةٌ لَا رُخْصَةٌ , كَالْفِطْرِ لِلْمَرِيضِ فِي رَمَضَانَ وَنَحْوِهِ هُرُوبًا مِنْ الْوُقُوعِ فِي التَّنَاقُضِ . وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ إلَى خِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ , وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ , وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ , وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَنَحْوِهَا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ - بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ الْأَكْلِ وَاجِبًا أَوْ جَائِزًا - : هَلْ تُرْفَعُ تِلْكَ الْحُرْمَةُ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَيَصِيرُ أَكْلُهَا مُبَاحًا , أَوْ تَبْقَى وَيَرْتَفِعُ الْإِثْمُ فَقَطْ ؟ . بَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّهَا لَا تَحِلُّ , وَلَكِنْ يُرَخَّصُ فِي الْفِعْلِ إبْقَاءً عَلَى حَيَاةِ الشَّخْصِ - كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَرْتَفِعُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ , وَكُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ اسْتَنَدَ إلَى أَدِلَّةٍ مَبْسُوطَةٍ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ . وَهَذَا الْخِلَافُ تَظْهَرُ لَهُ فَائِدَتَانِ : الْأُولَى : إذَا صَبَرَ الْمُضْطَرُّ حَتَّى مَاتَ لَا يَكُونُ آثِمًا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ , وَيَكُونُ آثِمًا عَلَى الثَّانِي . الثَّانِيَةُ : إذَا حَلَفَ الْمُكَلَّفُ بِأَنْ لَا يَأْكُلَ حَرَامًا أَبَدًا , فَتَنَاوَلَ مِنْهُ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ يَحْنَثُ عَلَى الْأَوَّلِ , وَلَا يَحْنَثُ عَلَى الثَّانِي . ( الْقِسْمِ الثَّانِي ) : 10 - رُخَصٌ مَنْدُوبَةٌ : مِثْلُ الْقَصْرِ لِلْمُسَافِرِ سَفَرًا يَبْلُغُ ثَلَاثَهُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا , وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ , وَالْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ , وَالنَّظَرُ إلَى الْمَخْطُوبَةِ , وَمُخَالَطَةُ الْيَتَامَى فِي أَمْوَالِهِمْ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِمْ مِمَّا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ اعْتِمَادًا عَلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ } . حَيْثُ نَصَّ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ تَتَضَمَّنُ تَرْخِيصًا فِي خَلْطِ طَعَامِ الْيَتِيمِ بِطَعَامِ كَافِلِهِ , وَشَرَابِهِ بِشَرَابِهِ , وَمَاشِيَتِهِ بِمَاشِيَتِهِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ , كَمَا أَكَّدُوا بِأَنَّهَا أَفَادَتْ حَثًّا عَلَى هَذِهِ الْمُخَالَطَةِ وَتَعْرِيضًا بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ احْتِقَارِ الْيَتِيمِ وَالتَّرَفُّعِ عَنْهُ . ( الْقِسْمِ الثَّالِثِ ) : 11 - رُخَصٌ مُبَاحَةٌ : وَقَدْ مَثَّلُوا لَهَا بِالْعُقُودِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ , كَالسَّلَمِ , وَالْعَرِيَّةِ , وَالْقِرَاضِ , وَالْمُسَاقَاةِ , وَالْإِجَارَةِ , وَالْجُعْلِ , وَنَحْوِهَا مِمَّا أُبِيحَ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ . ( الْقِسْمِ الرَّابِعِ ) : 12 - رُخَصٌ جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ الْأَوْلَى : مِثْلُ الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ الَّذِي لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ مَشَقَّةً قَوِيَّةً , وَالتَّيَمُّمُ لِمَنْ وَجَدَ الْمَاءَ يُبَاعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ , وَالْجَمْعُ الَّذِي لَا تَدْعُو إلَيْهِ حَاجَةُ الْمُسَافِرِ . وَالسُّؤَالُ عَنْ الْأَشْيَاءِ فِي وَقْتِهَا , وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَنَسْخُهُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ .
ب - ( بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ) : تَقْسِيمُ الرُّخَصِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يُمَثِّلُ وُجْهَةَ نَظَرٍ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ تَوَاطَأَتْ كَلِمَتُهُمْ سَلَفًا وَخَلَفًا عَلَى تَقْسِيمِهَا - بِالِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ - إلَى قِسْمَيْنِ رَئِيسِيَّيْنِ : الْقِسْمِ الْأَوَّلِ : رُخَصٌ حَقِيقِيَّةٌ :(1/211)
13 - وَهِيَ الَّتِي تَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ عَزَائِمَ مَا يَزَالُ الْعَمَلُ بِهَا جَارِيًا لِقِيَامِ دَلِيلِهَا , وَهَذَا الْقِسْمُ يَنْقَسِمُ - بِدَوْرِهِ - إلَى قِسْمَيْنِ : 1 - مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ , وَالْحُرْمَةِ مَعًا , وَهُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الرُّخَصِ ; لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَمَّا كَانَتْ قَائِمَةً مَعَ سَبَبِهَا , وَمَعَ ذَلِكَ شَرَعَ لِلْمُكَلَّفِ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ دُونَ مُؤَاخَذَةٍ بِنَاءً عَلَى عُذْرِهِ , كَانَ ذَلِكَ الْإِقْدَامُ فِي أَكْمَلِ دَرَجَاتِهِ فَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَفْوِ عَنْ الْجِنَايَةِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ . وَلَيْسَ فِي الْأَمْرِ أَيُّ غَرَابَةٍ ; لِأَنَّ كَمَالَ الرُّخَصِ بِكَمَالِ الْعَزَائِمِ , فَكُلَّمَا كَانَتْ هَذِهِ حَقِيقِيَّةً كَامِلَةً ثَابِتَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ , كَانَتْ الرُّخْصَةُ فِي مُقَابَلَتِهَا كَذَلِكَ . وَقَدْ ذَكَرُوا - لِهَذَا الْقِسْمِ - أَمْثِلَةً مِنْهَا : التَّرْخِيصُ فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالْقَطْعِ ; لِأَنَّ فِي امْتِنَاعِهِ عَنْ الْفِعْلِ إتْلَافَ ذَاتِهِ صُورَةً وَمَعْنًى , وَفِي إقْدَامِهِ عَلَيْهِ إتْلَافُ حَقِّ الشَّرْعِ صُورَةً دُونَ مَعْنًى حَيْثُ إنَّ الرُّكْنَ الْأَصْلِيَّ فِي الْإِيمَانِ - وَهُوَ التَّصْدِيقُ - بَاقٍ عَلَى حَالِهِ . وَمَعَ ذَلِكَ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَخْيِيرِهِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ , بَلْ رَجَّحَ الْحَنَفِيَّةُ مِنْهُمْ الْأَخْذَ بِالْعَزِيمَةِ فِي هَذَا الْمِثَالِ بِالْخُصُوصِ ; لِأَنَّ إحْيَاءَ النُّفُوسِ - هُنَا - يُقَابِلُهُ مَوْقِفٌ عَظِيمٌ مِنْ مَوَاقِفِ السُّمُوِّ وَالْإِبَاءِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْحَقِّ مَهْمَا اشْتَدَّتْ الْفِتْنَةُ وَعَظُمَ الْبَلَاءُ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا التَّرْجِيحِ بِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ { أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ أَكْرَهَ رَجُلَيْنِ - مِنْ الْمُسْلِمِينَ - عَلَى الْكُفْرِ فَنَطَقَ أَحَدُهُمَا بِكَلِمَتِهِ فَنَجَا , وَأَصَرَّ الْآخَرُ عَلَى الْجَهْرِ بِالْحَقِّ فَهَلَكَ , فَقَالَ فِيهِمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُ خَبَرُهُمَا : أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ أَخَذَ بِرُخْصَةِ اللَّهِ تَعَالَى , وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ صَدَعَ بِالْحَقِّ فَهَنِيئًا لَهُ } . 2 - مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ وَتَرَاخِي الْحُرْمَةِ : مِثْلُ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ , فَإِنَّ السَّبَبَ الْمُحَرِّمَ لِلْإِفْطَارِ - وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ - قَائِمٌ , لَكِنْ وُجُوبُ الصَّوْمِ أَوْ حُرْمَةُ الْإِفْطَارِ غَيْرُ قَائِمَةٍ عَلَى الْفَوْرِ بَلْ ثَابِتَةٌ عَلَى التَّرَاخِي بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ . قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } . وَالْعَمَلُ بِالْعَزِيمَةِ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالرُّخْصَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , أَيْ الصَّوْمُ أَوْلَى مِنْ الْإِفْطَارِ عِنْدَهُمْ . أَوَّلًا : لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ - وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ - كَانَ قَائِمًا , وَتَرَاخِي الْحُكْمِ بِالْأَجَلِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ التَّعْجِيلِ , مِثْلَمَا هُوَ الْأَمْرُ فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ , فَكَانَ الْمُؤَدِّي لِلصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَامِلًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ , وَالْمُتَرَخِّصُ بِالْفِطْرِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى التَّرْفِيهِ , فَقَدَّمَ حَقَّ اللَّهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ . ثَانِيًا : لِأَنَّ فِي الْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ نَوْعَ يُسْرٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي شَهْرِ الصِّيَامِ أَيْسَرُ مِنْ التَّفَرُّدِ بِهِ بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ . هَذَا إذَا لَمْ يُضْعِفْهُ الصَّوْمُ , فَإِذَا أَضْعَفَهُ كَانَ الْفِطْرُ أَوْلَى , فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى مَاتَ كَانَ آثِمًا بِلَا خِلَافٍ . وَقَدْ رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ الْأَخْذَ بِالرُّخْصَةِ فِي هَذَا الْمِثَالِ , وَالْجَمِيعُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ إدْرَاكِ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ رَمَضَانَ . وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ فَصَامَ فِي السَّفَرِ وَقَعَ صِيَامُهُ فِي الْفَرْضِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ . الْقِسْمِ الثَّانِي : رُخَصٌ مَجَازِيَّةٌ : 14 - وَتُسَمَّى أَيْضًا - فِي اصْطِلَاحِهِمْ - : رُخَصُ الْإِسْقَاطِ , وَقَدْ قَسَّمُوهَا - كَذَلِكَ - إلَى قِسْمَيْنِ فَرْعِيَّيْنِ : 1 - مَا وُضِعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ - رَحْمَةً بِهَا وَإِكْرَامًا لِنَبِيِّهَا صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّاقَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَفْرُوضَةً عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِثْلَ : - قَتْلِ النَّفْسِ لِصِحَّةِ التَّوْبَةِ - قَرْضِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنْ الْجِلْدِ وَالثَّوْبِ . 2 - مَا سَقَطَ عَنْ الْعِبَادِ مَعَ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ : فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَقَطَ كَانَ مَجَازًا , وَمِنْ حَيْثُ(1/212)
إنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ كَانَ شَبِيهًا بِالرُّخَصِ الْحَقِيقِيَّةِ , مِثْلَ السَّلَمِ وَمَا قَارَبَهُ مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي أُبِيحَتْ لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا , وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ أُصُولٍ مَمْنُوعَةٍ , فَمِنْ حَيْثُ اسْتِثْنَاؤُهَا مِمَّا ذُكِرَ سَقَطَ الْمَنْعُ مِنْهَا فَشَابَهَتْ مَا وُضِعَ عَنَّا مِنْ الْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ , فَكَانَتْ رُخَصًا مَجَازِيَّةً مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ إذْ لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهَا عَزَائِمُ , وَمِنْ حَيْثُ إنَّ أُصُولَهَا مَشْرُوعَةٌ وَأَنَّ بَعْضَ الشُّرُوطِ الَّتِي تَجَاوَزَ عَنْهَا الشَّرْعُ مِنْ أَجْلِ التَّخْفِيفِ وَالْمَصْلَحَةُ مَا زَالَتْ قَائِمَةً فِي تِلْكَ الْأُصُولِ أَشْبَهَتْ الرُّخَصَ الْحَقِيقِيَّةَ , وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ اُعْتُبِرَ هَذَا الْقِسْمُ أَقْرَبُ إلَى الرُّخَصِ الْحَقِيقِيَّةِ مِنْ سَابِقِهِ , وَاعْتُبِرَ السَّابِقُ أَتَمَّ فِي الْمَجَازِيَّةِ مِنْ هَذَا . وَهَذَا الْقِسْمُ يُرَادِفُ الرُّخَصَ الْمُبَاحَةَ فِي تَقْسِيمِ الشَّافِعِيَّةِ . وَالْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ - الْحَاصِلَةُ بَعْدَ تَقْسِيمِ كُلٍّ مِنْ الْقِسْمَيْنِ الرَّئِيسِيَّيْنِ إلَى قِسْمَيْنِ فَرْعِيَّيْنِ - لَا تَبْعُدُ كَثِيرًا عَنْ الْإِطْلَاقَاتِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّاطِبِيُّ .
الْمُكْرَهُ عَلَى الرِّدَّةِ :
7 - الْإِكْرَاهُ : اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ , فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ , أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ , مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْعَدِمَ بِهِ أَهْلِيَّتُهُ , أَوْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْخِطَابُ . وَالْإِكْرَاهُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ طَبْعًا , كَالْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ أَوْ الْقَطْعِ أَوْ الضَّرْبِ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ تَلَفُ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ , قَلَّ الضَّرْبُ أَوْ كَثُرَ . وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى إكْرَاهًا تَامًّا . وَنَوْعٌ لَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ , وَهُوَ الْحَبْسُ أَوْ الْقَيْدُ أَوْ الضَّرْبُ الَّذِي لَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ , وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِكْرَاهِ يُسَمَّى إكْرَاهًا نَاقِصًا . 8 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ , لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لقوله تعالى : { مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ } . وَمَا نُقِلَ مِنْ { أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رضي الله عنهما - حَمَلَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَا يَكْرَهُ فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ : إنْ عَادُوا فَعُدْ } , وَهَذَا فِي الْإِكْرَاهِ التَّامِّ . 9 - وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِسْلَامِ طَوْعًا , مِثْلَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ , فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ - وَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالْمُسْتَأْمَنُونَ - فَلَا يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا , وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ وَلَا إجْبَارُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ ; لِعَدَمِ صِحَّةِ إسْلَامِهِ ابْتِدَاءً . أَمَّا إنْ كَانَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ مِمَّنْ يَجُوزُ إكْرَاهُهُ وَهُوَ الْحَرْبِيُّ وَالْمُرْتَدُّ , فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا بِرُجُوعِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ , وَيُطَبَّقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ .(1/213)
رِضًا التَّعْرِيفُ :
1 - الرِّضَا لُغَةً : مَصْدَرُ رَضِيَ يَرْضَى رِضًا - بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا , وَرِضْوَانًا - بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ . فَيُقَالُ : رَضِيت الشَّيْءَ , وَرَضِيت عَنْهُ , وَعَلَيْهِ , وَبِهِ . وَهُوَ بِمَعْنَى : سُرُورِ الْقَلْبِ وَطِيبِ النَّفْسِ , وَضِدُّ السُّخْطِ وَالْكَرَاهِيَةِ . وَالرِّضَاءُ - بِالْمَدِّ - اسْمُ مَصْدَرٍ عِنْدَ الْأَخْفَشِ , وَمَصْدَرُ رَاضَى بِمَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ عِنْدَ غَيْرِهِ , فَيَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى الْمُرَاضَاةِ وَالْمُوَافَقَةِ . وَالتَّرَاضِي : مَصْدَرُ تَرَاضَى . . . , وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمُشَارَكَةِ , حَيْثُ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي قوله تعالى : { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } جَاءَتْ مِنْ التَّفَاعُلِ , إذْ التِّجَارَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ , أَيْ عَنْ رِضَا كُلٍّ مِنْهُمَا . 2 - وَفِي الِاصْطِلَاحِ : عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ : امْتِلَاءُ الِاخْتِيَارِ , أَيْ بُلُوغُهُ نِهَايَتَهُ , بِحَيْثُ يُفْضِي أَثَرُهُ إلَى الظَّاهِرِ مِنْ ظُهُورِ الْبَشَاشَةِ فِي الْوَجْهِ , وَنَحْوِهَا , وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى لَخَصَّهَا التَّفْتَازَانِيُّ , وَابْنُ عَابِدِينَ , وَالرَّهَاوِيُّ مِنْهُمْ , هِيَ أَنَّ الرِّضَا : إيثَارُ الشَّيْءِ وَاسْتِحْسَانُهُ . وَعَرَّفَهُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ قَصْدُ الْفِعْلِ دُونَ أَنْ يَشُوبَهُ إكْرَاهٌ . فَعَلَى ضَوْءِ ذَلِكَ : إنَّ الرِّضَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَخَصُّ مِنْ الرِّضَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ , فَمُجَرَّدُ الْقَصْدِ إلَى تَحْقِيقِ أَثَرٍ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يُسَمَّى الرِّضَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ , وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ الِاخْتِيَارُ غَايَتَهُ , وَلَمْ يَظْهَرْ السُّرُورُ , فِي حِينِ لَا يُسَمَّى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إلَّا إذَا تَحَقَّقَ الِاسْتِحْسَانُ وَالتَّفْضِيلُ عَلَى أَقَلِّ تَقْدِيرٍ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - الْإِرَادَةُ : 3 - الْإِرَادَةُ لُغَةً الْمَشِيئَةُ وَيَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى الْقَصْدِ إلَى الشَّيْءِ وَالِاتِّجَاهِ إلَيْهِ , وَقَدْ تَحْصُلُ الْإِرَادَةُ دُونَ الرِّضَا , وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : ( إرَادَةٌ ) . ب - النِّيَّةُ : 4 - النِّيَّةُ لُغَةً : الْقَصْدُ وَعَزْمُ الْقَلْبِ , وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهَا الْجُمْهُورُ بِأَنَّهَا عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إيجَادِ الْفِعْلِ جَزْمًا , وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا قَصْدُ الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ , فَالنِّيَّةُ مُرْتَبِطَةٌ بِالْعَمَلِ . ج - الْقَصْدُ : 5 - الْقَصْدُ لُغَةً : الِاعْتِزَامُ وَالتَّوَجُّهُ , وَالنُّهُوضُ نَحْوَ الشَّيْءِ , وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ الْعَزْمُ الْمُتَّجَهُ نَحْوَ إنْشَاءِ فِعْلٍ . د - الْإِذْنُ : 6 - الْإِذْنُ لُغَةً : هُوَ الْإِبَاحَةُ , وَإِطْلَاقُ الْفِعْلِ , وَالْإِرَادَةُ , حَيْثُ يُقَالُ : بِإِذْنِ اللَّهِ , أَيْ بِإِرَادَتِهِ , وَالْمُرَادُ بِهِ فِي إطْلَاقِ الْفُقَهَاءِ : تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَى آخَرَ , فَيَقُولُونَ : صَبِيٌّ مَأْذُونٌ , أَوْ عَبْدٌ مَأْذُونٌ فِي التِّجَارَةِ , وَهُوَ تَعْبِيرٌ عَنْ الرِّضَا . هـ - الْإِكْرَاهُ 7 - الْإِكْرَاهُ وَالْإِجْبَارُ , وَهُمَا مِنْ أَضْدَادِ " الرِّضَا " وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : ( إكْرَاهٌ ) . و - الِاخْتِيَارُ : 8 - الِاخْتِيَارُ لُغَةً : الِاصْطِفَاءُ , وَالْإِيثَارُ , وَالتَّفْضِيلُ , وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ " الْقَصْدُ إلَى أَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ دَاخِلٍ فِي قُدْرَةِ الْفَاعِلِ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ " وَلَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِمْ : الْقَصْدُ إلَى الشَّيْءِ وَإِرَادَتُهُ " وَعَرَّفَهُ الْجُمْهُورُ " أَنَّهُ الْقَصْدُ إلَى الْفِعْلِ وَتَفْضِيلُهُ عَلَى غَيْرِهِ " . وَسَبَقَ التَّفْصِيلُ فِيهِ فِي مُصْطَلَحِ " اخْتِيَارٌ " . حَقِيقَةُ الرِّضَا وَعَلَاقَتُهُ بِالِاخْتِيَارِ : 8 م - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الرِّضَا وَالِاخْتِيَارَ شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ وَالْآثَارُ , فِي حِينِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ . وَعَلَى ضَوْءِ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الرِّضَا أَخَصُّ مِنْ الِاخْتِيَارِ , قَسَّمُوا الِاخْتِيَارَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ يُوجَدُ الرِّضَا فِي أَحَدِهَا , وَيَنْعَدِمُ فِي قِسْمَيْنِ : 1 - اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ , وَهُوَ مَا يَكُونُ صَاحِبُهُ مُتَمَتِّعًا بِالْأَهْلِيَّةِ الْكَامِلَةِ دُونَ إكْرَاهٍ مُلْجِئٍ أَوْ كَمَا يَقُولُ الْبَزْدَوِيُّ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ الْبُخَارِيُّ : مَا يَكُونُ الْفَاعِلُ فِي قَصْدِهِ مُسْتَبِدًّا - أَيْ مُسْتَقِلًّا " . وَالِاخْتِيَارُ الصَّحِيحُ - عِنْدَهُمْ - يَتَحَقَّقُ حَتَّى وَإِنْ صَاحَبَهُ إكْرَاهٌ مَا لَمْ يَكُنْ مُلْجِئًا , لَكِنْ الرِّضَا يَتَحَقَّقُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَيُّ نَوْعٍ مِنْ الْإِكْرَاهِ , وَأَمَّا إذَا وُجِدَ إكْرَاهٌ غَيْرُ مُلْجِئٍ , فَإِنَّ الِاخْتِيَارَ صَحِيحٌ , وَالرِّضَا فَاسِدٌ . 2 - اخْتِيَارٌ بَاطِلٌ وَهُوَ حِينَمَا يَكُونُ صَاحِبُهُ مَجْنُونًا , أَوْ صَبِيًّا غَيْرَ مُمَيِّزٍ , وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الرِّضَا مَعْدُومًا(1/214)
أَيْضًا . 3 - اخْتِيَارٌ فَاسِدٌ , وَهُوَ مَا إذَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى إرَادَةِ شَخْصٍ آخَرَ , أَيْ أَنْ يَتِمَّ فِي ظِلِّ إكْرَاهٍ مُلْجِئٍ , وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الرِّضَا مَعْدُومًا . فَالْإِكْرَاهُ فِي نَظَرِ الْحَنَفِيَّةِ لَا يُنَافِي الِاخْتِيَارَ حَيْثُ قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا مَعَ الْإِكْرَاهِ غَيْرِ الْمُلْجِئِ , وَيَكُونُ فَاسِدًا مَعَ الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ , وَلَكِنْ الْإِكْرَاهُ بِقِسْمَيْهِ يُنَافِي الرِّضَا . 9 - وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ لَهَا عَلَاقَةٌ - كَقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ - بِتَقْسِيمِهِمْ الْعُقُودَ إلَى الصَّحِيحِ , وَالْبَاطِلِ , وَالْفَاسِدِ . وَتَتَلَخَّصُ وُجْهَةُ نَظَرِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ التَّفْرِقَةِ فِي أَنَّ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ لِكُلٍّ مِنْ الِاخْتِيَارِ وَالرِّضَا مُخْتَلِفٌ , فَالرِّضَا هُوَ ضِدُّ السَّخَطِ , وَسُرُورُ الْقَلْبِ وَارْتِيَاحُ النَّفْسِ بِحَيْثُ تَظْهَرُ آثَارُهُ عَلَى الْوَجْهِ , وَأَمَّا الِاخْتِيَارُ فَلَا تُلَاحِظُ فِيهِ هَذِهِ الْمَعَانِيَ , بِالْإِضَافَةِ إلَى أَنَّ الشَّرْعَ فَرَّقَ بَيْنَ التَّصَرُّفَاتِ , حَيْثُ اشْتَرَطَ الرِّضَا فِي الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ , فَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } فِي حِينِ لَمْ يَشْتَرِطْ الرِّضَا فِي بَعْضِ تَصَرُّفَاتٍ غَيْرِ مَالِيَّةٍ , مِثْلِ الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ , وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ : الطَّلَاقُ , وَالنِّكَاحُ , وَالرَّجْعَةُ } وَمِنْ الْمَعْلُومِ بَدَاهَةً أَنَّ الرِّضَا بِآثَارِ الْعَقْدِ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الْهَزْلِ , مَعَ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ , وَعَلَى ضَوْءِ ذَلِكَ قَسَّمُوا الْعُقُودَ فَجَعَلُوا بَعْضَهَا لَا يَحْتَاجُ إلَى الرِّضَا وَهِيَ الْعُقُودُ الَّتِي سَمَّوْهَا بِالْعُقُودِ غَيْرِ الْقَابِلَةِ لِلْفَسْخِ , وَهِيَ النِّكَاحُ , وَالطَّلَاقُ , وَالرَّجْعَةُ . وَاشْتَرَطُوا فِي بَعْضِهَا الرِّضَا , وَهِيَ الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ , ثُمَّ جَعَلُوا الِاخْتِيَارَ أَسَاسًا لِجَمِيعِ الْعُقُودِ . 10 - وَلَمْ يَعْتَرِفْ الْجُمْهُورُ بِهَذَا التَّقْسِيمِ الثُّلَاثِيِّ لِلِاخْتِيَارِ , حَيْثُ هُوَ مَحْصُورٌ عِنْدَهُمْ فِي الصَّحِيحِ وَالْبَاطِلِ , كَمَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ عِنْدَهُمْ يُنَافِي الِاخْتِيَارَ كَمَا يُنَافِي الرِّضَا , قَالَ الشَّاطِبِيُّ : فَالْعَمَلُ إذَا تَعَلَّقَ بِهِ الْقَصْدُ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ , وَإِذَا عُرِّيَ عَنْ الْقَصْدِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ مِنْهَا . فَلَوْ فَرَضْنَا الْعَمَلَ مَعَ عَدَمِ الِاخْتِيَارِ كَالْمُلْجَأِ , وَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ . . فَلَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِهِمْ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ , فَلَيْسَ هَذَا النَّمَطُ بِمَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ , فَبَقِيَ مَا كَانَ مَفْعُولًا بِالِاخْتِيَارِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَصْدٍ " . وَصَرَّحَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ لَا يَقَعُ ; لِأَنَّهُ سَاقِطُ الِاخْتِيَارِ , وَنَقَلَ ابْنُ النَّجَّارِ عَنْ أَحْمَدَ قَوْلَهُ : إنَّ الْإِكْرَاهَ يُزِيلُ الِاخْتِيَارَ " . آثَارُ هَذَا الِاخْتِلَافِ : 11 - لَمْ يَكُنْ هَذَا الْخِلَافُ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ لَفْظِيًّا لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْآثَارُ , وَإِنَّمَا خِلَافٌ مَعْنَوِيٌّ ثَبَتَ عَلَيْهِ آثَارٌ فِقْهِيَّةٌ تَظْهَرُ فِي تَصَرُّفَاتِ وَعُقُودِ الْهَازِلِ , وَالْمُكْرَهِ , وَالْمُخْطِئِ , وَالسَّكْرَانِ , وَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعَ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ , حَيْثُ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ غَيْرِ الْمَالِيَّةِ مِنْ هَؤُلَاءِ , فَطَلَاقُ هَؤُلَاءِ , وَنِكَاحُهُمْ وَرَجْعَتُهُمْ وَنَحْوُهَا صَحِيحٌ - كَقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ - اعْتِمَادًا عَلَى أَصْلِ الْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ , وَوُجُودِ الْعِبَارَةِ الصَّادِرَةِ مِنْهُمْ , فَلَوْ أَرَادَ شَخْصٌ أَنْ يَقُولَ لِزَوْجَتِهِ : يَا عَالِمَةُ , فَسَبَقَ لِسَانُهُ فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ وَقَعَ طَلَاقُهُ عِنْدَهُمْ , وَعَلَّلَ ذَلِكَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْبُخَارِيُّ الْحَنَفِيُّ بِقَوْلِهِ : اعْتِبَارًا بِأَنَّ الْقَصْدَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ , فَلَا يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهِ حَقِيقَةً , بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ , وَهُوَ أَهْلِيَّةُ الْقَصْدِ بِالْعَقْدِ وَالْبُلُوغِ نَفْيًا لِلْحَرَجِ " . وَقَالَ فِي تَعْلِيلِ وُقُوعِ طَلَاقِ السَّكْرَانِ : إنَّ السُّكْرَ وَإِنْ كَانَ يُعْدِمُ الْقَصْدَ الصَّحِيحَ , لَكِنَّهُ لَا يُعْدِمُ الْعِبَارَةَ , وَيَقُولُ الْحَصْكَفِيُّ فِي : وَلَا يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِمَعْنَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِيمَا يَسْتَوِي فِيهِ الْجِدُّ وَالْهَزْلُ مِثْلُ الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ , وَلَمْ يَحْتَجْ لِنِيَّةٍ , وَبِهِ يُفْتَى " . وَأَمَّا الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ - مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ - فَاشْتُرِطَ فِيهَا الِاخْتِيَارُ عِنْدَهُمْ لِلِانْعِقَادِ , وَاشْتُرِطَ لِصِحَّتِهَا الرِّضَا , فَإِذَا تَحَقَّقَا فِي التَّصَرُّفِ كَانَ(1/215)
صَحِيحًا وَمُنْعَقِدًا - مَعَ تَوَفُّرِ الشُّرُوطِ الْأُخْرَى - وَإِذَا انْعَدَمَ الِاخْتِيَارُ انْعَدَمَ الْعَقْدُ وَأَصْبَحَ بَاطِلًا , وَأَمَّا إذَا وُجِدَ الِاخْتِيَارُ وَانْعَدَمَ الرِّضَا فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ فَاسِدًا . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَاشْتَرَطُوا وُجُودَ الرِّضَا - أَيْ الِاخْتِيَارِ - فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ , إلَّا إذَا دَلَّ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ فِي عَقْدٍ خَاصٍّ , مِثْلُ الْهَزْلِ فِي الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ . 12 - ثُمَّ إنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ فَرَّقُوا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : 1 - الْعِبَارَةِ الصَّادِرَةِ مِمَّنْ لَهُ الْأَهْلِيَّةُ , وَالْمَوْضُوعَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرْتِيبِ الْآثَارِ , كَبِعْتُ , وَطَلَّقْت . 2 - قَصْدِ الْعِبَارَةِ دُونَ قَصْدِ الْأَثَرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا , وَهُوَ الِاخْتِيَارُ . 3 - قَصْدِ الْعِبَارَةِ وَالْأَثَرِ , وَهُوَ الرِّضَا . فَالْأَوَّلُ هُوَ رُكْنٌ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ وَالْعُقُودِ , أَوْ شَرْطٌ لِانْعِقَادِهَا , وَالثَّانِي شَرْطٌ لِانْعِقَادِ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ , وَلَيْسَ شَرْطًا لِلْعُقُودِ الَّتِي يَسْتَوِي فِيهَا الْجِدُّ وَالْهَزْلُ كَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِمَا , وَلِذَلِكَ يَقَعُ طَلَاقُ السَّكْرَانِ , وَالْمُكْرَهِ , وَالسَّاهِي عِنْدَهُمْ , وَالِاخْتِيَارُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَافِي الْإِكْرَاهَ , بَلْ يَجْتَمِعُ مَعَهُ , وَلِذَلِكَ تَنْعَقِدُ عُقُودُ الْمُكْرَهِ الْمَالِيَّةُ , وَلَكِنَّهَا لَا تَكُونُ صَحِيحَةً نَافِذَةَ الْعُقُودِ ; لِكَوْنِهَا تَحْتَاجُ إلَى شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ الرِّضَا . وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ , وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ الْمَالِيَّةِ إطْلَاقًا . وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ , فَجَعَلُوا الْعِبَارَةَ هِيَ الْوَسِيلَةَ , وَإِنَّمَا الْأَسَاسُ هُوَ الْقَصْدُ , وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالرِّضَا وَالِاخْتِيَارِ , سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ أَمْ غَيْرِ الْمَالِيَّةِ , يَقُولُ الشَّاطِبِيُّ : فَالْعَمَلُ إذَا تَعَلَّقَ بِهِ الْقَصْدُ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ , وَإِذَا عُرِّيَ عَنْ الْقَصْدِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ مِنْهَا " . وَقَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : مَدَارُ الْعُقُودِ عَلَى الْعُزُومِ وَالْقُصُودِ " . وَيَقُولُ الْغَزَالِيُّ وَالنَّوَوِيُّ : الرُّكْنُ الثَّالِثُ - أَيْ مِنْ أَرْكَانِ الطَّلَاقِ - الْقَصْدُ إلَى لَفْظِ الطَّلَاقِ وَمَعْنَاهُ " وَلِذَلِكَ لَا يَقَعُ عِنْدَهُمْ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئِ وَالسَّاهِي وَالْغَافِلِ وَنَحْوِهِمْ . وَأَمَّا الْخِلَافُ فِيمَا بَيْنَ الْجُمْهُورِ فِي طَلَاقِ السَّكْرَانِ فَيَعُودُ فِي الْوَاقِعِ إلَى مَدَى النَّظْرَةِ إلَى عِقَابِهِ وَرَدْعِهِ , وَلِذَلِكَ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ بِالْإِجْمَاعِ إذَا كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِسُكْرِهِ , وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي السَّكْرَانِ بِتَعَدٍّ , حَيْثُ نَظَرَ الَّذِينَ أَوْقَعُوا طَلَاقَهُ إلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِهِ رَادِعٌ لَهُ عَنْ ذَلِكَ , أَوْ يُكَيَّفُ فِقْهِيًّا بِأَنَّ رِضَاهُ بِتَنَاوُلِ الْمُسْكِرِ الَّذِي يَعْلَمُ بِأَنَّ عَقْلَهُ سَيَغِيبُ بِهِ رِضًا بِالنَّتَائِجِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ . وَكَمَا يُشْتَرَطُ فِي تَحَقُّقِ الرِّضَا قَصْدُ الْعِبَارَةِ - أَوْ التَّعْبِيرُ عَنْهُ - فَلَا بُدَّ كَذَلِكَ مِنْ قَصْدِ الْآثَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ , فَالْمُكْرَهُ مَثَلًا قَصَدَ الْعِبَارَةَ مِثْلَ بِعْت لَكِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ انْتِقَالَ الْمِلْكِيَّةِ , وَإِنَّمَا تَنْفِيذُ مَا هَدَّدَهُ الْمُكْرِهُ - بِكَسْرِ الرَّاءِ - وَكَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ قَصْدُ الْآثَارِ إلَّا إذَا كَانَ عَالِمًا بِهَا فِي الْجُمْلَةِ , فَلَوْ رَدَّدَ شَخْصٌ وَرَاءَ آخَرَ " بِعْت " أَوْ " قَبِلْت " وَلَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ , لَمْ يَتِمَّ الْقَصْدُ , يَقُولُ الْغَزَالِيُّ : وَلَكِنَّ شَرْطَهُ - أَيْ الْقَصْدِ - الْإِحَاطَةُ بِصِفَاتِ الْمَقْصُودِ " . وَيَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ - أَيْ الْعَاقِدُ - عَالِمًا بِمَعْنَاهَا - أَيْ الْعِبَارَةِ , وَلَا مَقْصُودًا لَهُ لَمْ تَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا أَحْكَامُهَا أَيْضًا , وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ " .
( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) :(1/216)
13 - لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ حِلَّ أَمْوَالِ النَّاسِ مَنُوطٌ بِالرِّضَا , لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { إنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ } وَقَوْلِهِ : { وَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ } , وَفِي رِوَايَةٍ : { لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ } , وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ الرِّضَا فِي التَّصَرُّفَاتِ شَرْطًا أَوْ لَا ؟ . فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الرِّضَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعُقُودِ الَّتِي تَقْبَلُ الْفَسْخَ - وَهِيَ الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ مِنْ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ , وَنَحْوِهَا - أَيْ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا مَعَ التَّرَاضِي , وَقَدْ تَنْعَقِدُ الْمَالِيَّةُ لَكِنَّهَا تَكُونُ فَاسِدَةً كَمَا فِي بَيْعِ الْمُكْرَهِ وَنَحْوِهِ , وَيَقُولُ الْمَرْغِينَانِيُّ : ; لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْعُقُودِ التَّرَاضِيَ " وَجَاءَ فِي التَّلْوِيحِ : أَنَّهُ - أَيْ الْبَيْعَ - يَعْتَمِدُ الْقَصْدَ تَصْحِيحًا لِلْكَلَامِ , وَيَعْتَمِدُ الرِّضَا ; لِكَوْنِهِ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ , بِخِلَافِ الطَّلَاقِ " وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ أَصْلَ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ تَنْعَقِدُ بِدُونِ الرِّضَا , لَكِنَّهَا لَا تَكُونُ صَحِيحَةً , يَقُولُ أَمِيرُ بَادْشَاهْ الْحَنَفِيُّ : وَيَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمُخْطِئِ نَظَرًا إلَى أَصْلِ الِاخْتِيَارِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ صَدَرَ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ , أَوْ بِإِقَامَةِ الْبُلُوغِ مَقَامَ الْقَصْدِ , لَكِنْ يَكُونُ فَاسِدًا غَيْرَ نَافِذٍ لِعَدَمِ الرِّضَا حَقِيقَةً " . وَأَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْفَسْخَ فِي نَظَرِهِمْ , فَالرِّضَا لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا وَلَا لَهُ أَثَرٌ فِيهَا , فَقَدْ ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ عِنْدَهُمْ , فَبَلَغَتْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ تَصَرُّفًا , مِنْهَا الطَّلَاقُ , وَالنِّكَاحُ , وَالْعَتَاقُ , وَالرَّجْعَةُ , وَالْحَلِفُ بِطَلَاقٍ وَعَتَاقٍ وَظِهَارٍ , وَالْإِيلَاءُ , وَقَبُولُ الْمَرْأَةِ الطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ . . وَيَقُولُ ابْنُ الْهُمَامِ : وَيَقَعُ طَلَاقُ الْمُخْطِئِ ; لِأَنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ مَعْنَى اللَّفْظِ خَفِيٌّ , فَأُقِيمَ تَمْيِيزُ الْبُلُوغِ مَقَامَهُ " , وَعَلَّلَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْبُخَارِيُّ ذَلِكَ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الْعَقْدِ تُعَلَّقُ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ . وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَتَدُورُ عِبَارَاتُهُمْ بَيْنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الرِّضَا أَصْلٌ أَوْ أَسَاسٌ أَوْ شَرْطٌ لِلْعُقُودِ كُلِّهَا , فَعَلَى ضَوْءِ مَا صَرَّحُوا بِهِ إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الرِّضَا لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ , سَوَاءٌ أَكَانَ مَالِيًّا أَمْ غَيْرَ مَالِيٍّ , يَقُولُ الدُّسُوقِيُّ وَالْخَرَشِيُّ وَغَيْرُهُمَا : إنَّ الْمَطْلُوبَ فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا , وَإِنَّ انْتِقَالَ الْمِلْكِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الرِّضَا " وَيَقُولُ الزَّنْجَانِيُّ الشَّافِعِيُّ : الْأَصْلُ الَّذِي تُبْنَى عَلَيْهِ الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ . . اتِّبَاعُ التَّرَاضِي . . " . وَيُصَرِّحُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ التَّرَاضِيَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْعَقْدِ مَا لَمْ يُكْرَهْ بِحَقٍّ , كَاَلَّذِي يُكْرِهُهُ الْحَاكِمُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ . 14 - هَذَا , وَإِنَّ الرِّضَا أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مَيْلُ النَّفْسِ فَأُنِيطَ الْحُكْمُ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ وَهُوَ الصِّيغَةُ الَّتِي هِيَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ , فَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إشَارَةٍ .
عُيُوبُ الرِّضَا :(1/217)
14 م - إنَّ " الرِّضَا " بِمَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيِّ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا وُجِدَ الْقَصْدُ إلَى آثَارِ الْعَقْدِ , وَلَكِنَّهُ إنَّمَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْآثَارُ الشَّرْعِيَّةُ إذَا سَلِمَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ , وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ " الرِّضَا " سَلِيمًا أَيْ بِأَنْ يَكُونَ حُرًّا طَلِيقًا لَا يَشُوبُهُ ضَغْطٌ وَلَا إكْرَاهٌ , وَلَا يَتَقَيَّدُ بِمَصْلَحَةِ أَحَدٍ كَرِضَا الْمَرِيضِ , أَوْ الدَّائِنِ الْمُفْلِسِ , وَأَنْ يَكُونَ وَاعِيًا فَلَا يَحُولُ دُونَ إدْرَاكِ الْحَقِيقَةِ جَهْلٌ , أَوْ تَدْلِيسٌ وَتَغْرِيرٌ , أَوْ اسْتِغْلَالٌ , أَوْ غَلَطٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَعُوقُ إدْرَاكَهُ . فَمِنْ عُيُوبِ الرِّضَا الْإِكْرَاهُ وَالْجَهْلُ وَالْغَلَطُ , وَالتَّدْلِيسُ وَالتَّغْرِيرُ , وَالِاسْتِغْلَالُ وَكَوْنُ الرِّضَا : مُقَيَّدًا بِرِضَا شَخْصٍ آخَرَ , يَقُولُ الْغَزَالِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا : يَخْتَلُّ الْقَصْدُ بِخَمْسَةِ أَسْبَابٍ : سَبْقِ اللِّسَانِ , وَالْهَزْلِ , وَالْجَهْلِ , وَالْإِكْرَاهِ , وَاخْتِلَالِ الْعَقْلِ " . فَإِذَا وُجِدَ عَيْبٌ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ , أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى إذَا لَمْ يَتَوَفَّرْ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الرِّضَا فَإِنَّ الْعَقْدَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ يَكُونُ فَاسِدًا , أَوْ بَاطِلًا - عَلَى خِلَافٍ فِيهِمَا بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةِ - وَيَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ غَيْرُ لَازِمٍ , أَيْ يَكُونُ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ , أَوْ كِلَيْهِمَا حَقُّ الْخِيَارِ , وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ هَذِهِ الْعُيُوبَ بَعْضُهَا يُؤَثِّرُ فِي الرِّضَا تَأْثِيرًا مُبَاشِرًا , فَيَكُونُ الْعَقْدُ الَّذِي تَمَّ فِي ظِلِّهِ فَاسِدًا أَوْ بَاطِلًا - كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ , وَبَعْضُهَا يُؤَثِّرُ فِي إلْزَامِيَّةِ الرِّضَا , فَيَكُونُ الْعَقْدُ الَّذِي تَمَّ فِي ظِلِّهِ غَيْرَ مُلْزِمٍ , بَلْ يَكُونُ لِعَاقِدٍ حَقُّ الْخِيَارِ , مِثْلُ التَّدْلِيسِ , وَالتَّغْرِيرِ , وَالِاسْتِغْلَالِ وَنَحْوِهَا , وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ مِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الرِّضَا كَكَوْنِهِ لَمْ يَقَعْ تَحْتَ إكْرَاهٍ , وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ لِلُزُومِهِ , كَكَوْنِهِ لَمْ يَشُبْهُ غَلَطٌ أَوْ اسْتِغْلَالٌ , أَوْ تَدْلِيسٌ - عَلَى تَفْصِيلٍ كَبِيرٍ وَخِلَافٍ . وَنُحِيلُ لِأَحْكَامِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ إلَى مُصْطَلَحَاتِهَا الْخَاصَّةِ فِي الْمَوْسُوعَةِ .
رَفْعُ الْحَرَجِ :(1/218)
التَّعْرِيفُ - رَفْعُ الْحَرَجِ : مُرَكَّبٌ إضَافِيٌّ , تَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى مَعْرِفَةٍ لَفْظِيَّةٍ , فَالرَّفْعُ لُغَةً : نَقِيضُ الْخَفْضِ فِي كُلِّ شَيْءٍ , وَالتَّبْلِيغُ , وَالْحَمْلُ , وَتَقْرِيبُك الشَّيْءَ , وَالْأَصْلُ فِي مَادَّةِ الرَّفْعِ الْعُلُوُّ , يُقَالُ : ارْتَفَعَ الشَّيْءُ ارْتِفَاعًا إذَا عَلَا , وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْإِزَالَةِ . يُقَالُ : رُفِعَ الشَّيْءُ : إذَا أُزِيلَ عَنْ مَوْضِعِهِ . قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ : الرَّفْعُ فِي الْأَجْسَامِ حَقِيقَةٌ فِي الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ , وَفِي الْمَعَانِي مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ , وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ } وَالْقَلَمُ لَمْ يُوضَعْ عَلَى الصَّغِيرِ , وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ لَا تَكْلِيفَ , فَلَا مُؤَاخَذَةَ . وَالْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ : الْمَكَانُ الضَّيِّقُ الْكَثِيرُ الشَّجَرِ , وَالضِّيقُ وَالْإِثْمُ , وَالْحَرَامُ , وَالْأَصْلُ فِيهِ الضِّيقُ . قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ : الْحَرَجُ فِي الْأَصْلِ : الضِّيقُ , وَيَقَعُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْحَرَامِ . تَقُولُ رَجُلٌ حَرِجٌ وَحَرَجٌ إذَا كَانَ ضَيِّقَ الصَّدْرِ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : الْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ أَضْيَقُ الضَّيِّقِ , وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ ضَيِّقٌ جِدًّا . فَرَفْعُ الْحَرَجِ فِي اللُّغَةِ : إزَالَةُ الضِّيقِ , وَنَفْيُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ . ثُمَّ إنَّ مَعْنَى الرَّفْعِ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ . وَالْحَرَجُ فِي الِاصْطِلَاحِ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ وَضِيقٌ فَوْقَ الْمُعْتَادِ , فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ . وَرَفْعُ الْحَرَجِ : إزَالَةُ مَا فِي التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ مِنْ الْمَشَقَّةِ بِرَفْعِ التَّكْلِيفِ مِنْ أَصْلِهِ أَوْ بِتَخْفِيفِهِ أَوْ بِالتَّخْيِيرِ فِيهِ , أَوْ بِأَنْ يُجْعَلَ لَهُ مَخْرَجٌ , كَمَا سَبَقَ فِي الْمَوْسُوعَةِ فِي مُصْطَلَحِ ( تَيْسِيرٌ ) . فَالْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ مُتَرَادِفَانِ , وَرَفْعُ الْحَرَجِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الشِّدَّةِ خِلَافًا لِلتَّيْسِيرِ . وَالْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ قَدْ يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ أَيْضًا " دَفْعَ الْحَرَجِ " " وَنَفْيَ الْحَرَجِ " . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - التَّيْسِيرُ : 2 - التَّيْسِيرُ : السُّهُولَةُ وَالسِّعَةُ , وَهُوَ مَصْدَرُ يَسَّرَ , وَالْيُسْرُ ضِدُّ الْعُسْرِ , وَفِي الْحَدِيثِ : { إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ } أَيْ أَنَّهُ سَهْلٌ سَمْحٌ قَلِيلُ التَّشْدِيدِ , وَالتَّيْسِيرُ يَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ , وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ قَوْلُهُ : { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } . وَقَوْلُهُ : { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } . وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ . وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ التَّيْسِيرِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ شِدَّةٍ .
ب - الرُّخْصَةُ :(1/219)
3 - الرُّخْصَةُ : التَّسْهِيلُ فِي الْأَمْرِ وَالتَّيْسِيرُ , يُقَالُ : رَخَّصَ الشَّرْعُ لَنَا فِي كَذَا تَرْخِيصًا وَأَرْخَصَ إرْخَاصًا إذَا يَسَّرَهُ وَسَهَّلَهُ . وَرَخَّصَ لَهُ فِي الْأَمْرِ : أَذِنَ لَهُ فِيهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ , وَتَرْخِيصُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ فِي أَشْيَاءَ : تَخْفِيفُهَا عَنْهُ , وَالرُّخْصَةُ فِي الْأَمْرِ وَهُوَ خِلَافُ التَّشْدِيدِ . فَالرُّخْصَةُ فُسْحَةٌ فِي مُقَابَلَةِ التَّضْيِيقِ وَالْحَرَجِ . ج - الضَّرَرُ : 4 - الضَّرَرُ فِي اللُّغَةِ ضِدُّ النَّفْعِ , وَهُوَ النُّقْصَانُ يَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ , فَالضَّرَرُ قَدْ يَكُونُ أَثَرًا مِنْ آثَارِ عَدَمِ رَفْعِ الْحَرَجِ . رَفْعُ الْحَرَجِ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ : 5 - رَفْعُ الْحَرَجِ مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَأَصْلٌ مِنْ أُصُولِهَا , فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ إلَى التَّكْلِيفِ بِالشَّاقِّ وَالْإِعْنَاتِ فِيهِ , وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ . فَمِنْ الْكِتَابِ قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وقوله تعالى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وقوله تعالى : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } وقوله تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } وقوله تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } . وَمِنْ السُّنَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ : { بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ } . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ : { مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إثْمًا } . وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الْحَرَجِ فِي التَّكْلِيفِ , وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ قَصْدِ الشَّارِعِ إلَيْهِ , وَلَوْ كَانَ وَاقِعًا لَحَصَلَ فِي الشَّرِيعَةِ التَّنَاقُضُ وَالِاخْتِلَافُ , وَذَلِكَ مَنْفِيٌّ عَنْهَا , فَإِنَّهُ إذَا كَانَ وَضْعُ الشَّرِيعَةِ عَلَى قَصْدِ الْإِعْنَاتِ وَالْمَشَقَّةِ , وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى قَصْدِ الرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ , كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا تَنَاقُضًا وَاخْتِلَافًا , وَهِيَ مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ . ثُمَّ مَا ثَبَتَ أَيْضًا مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الرُّخَصِ , وَهُوَ أَمْرٌ مُتَطَوَّعٌ بِهِ , وَمِمَّا عُلِمَ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ بِالضَّرُورَةِ , كَرُخَصِ الْقَصْرِ , وَالْفِطْرِ , وَالْجَمْعِ , وَتَنَاوُلِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الِاضْطِرَارِ . فَإِنَّ هَذَا نَمَطٌ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى مُطْلَقِ رَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ . وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ فِي الِانْقِطَاعِ عَنْ دَوَامِ الْأَعْمَالِ . وَلَوْ كَانَ الشَّارِعُ قَاصِدًا لِلْمَشَقَّةِ فِي التَّكْلِيفِ لَمَا كَانَ ثَمَّ تَرْخِيصٌ وَلَا تَخْفِيفٌ ; وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لِقُصُورِ الْبَدَنِ , أَوْ لِقُصُورِهِ وَقُصُورِ الْعَقْلِ , وَلَا عَلَى الْمَعْتُوهِ الْبَالِغِ لِقُصُورِ الْعَقْلِ . وَلَمْ يَجِبْ قَضَاءُ الصَّلَاةِ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ , وَانْتَفَى الْإِثْمُ فِي خَطَأِ الْمُجْتَهِدِ , وَكَذَا فِي النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ . قَالَ الشَّاطِبِيُّ : إنَّ الْأَدِلَّةَ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَلَغَتْ مَبْلَغَ الْقَطْعِ .
أَسْبَابُ رَفْعِ الْحَرَجِ :
9 - أَسْبَابُ رَفْعِ الْحَرَجِ هِيَ السَّفَرُ , وَالْمَرَضُ , وَالْإِكْرَاهُ , وَالنِّسْيَانُ , وَالْجَهْلُ , وَالْعُسْرُ , وَعُمُومُ الْبَلْوَى , وَالنَّقْصُ , وَتَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ ( تَيْسِيرٌ ) . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَرُخَصُ السَّفَرِ ثَمَانِيَةٌ : مِنْهَا : مَا يَخْتَصُّ بِالطَّوِيلِ قَطْعًا وَهُوَ الْقَصْرُ , وَالْفِطْرُ , وَالْمَسْحُ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ . وَمِنْهَا : مَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ قَطْعًا , وَهُوَ تَرْكُ الْجُمُعَةِ , وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ . وَمِنْهَا : مَا فِيهِ خِلَافٌ , وَالْأَصَحُّ اخْتِصَاصُهُ بِهِ وَهُوَ الْجَمْعُ . وَمِنْهَا : مَا فِيهِ خِلَافٌ , وَالْأَصَحُّ عَدَمُ اخْتِصَاصِهِ بِهِ , وَهُوَ التَّنَفُّلُ عَلَى الدَّابَّةِ , وَإِسْقَاطُ الْفَرْضِ بِالتَّيَمُّمِ . وَاسْتَدْرَكَ ابْنُ الْوَكِيلِ رُخْصَةً تَاسِعَةً , صَرَّحَ بِهَا الْغَزَالِيُّ وَهِيَ : مَا إذَا كَانَ لَهُ نِسْوَةٌ وَأَرَادَ السَّفَرَ , فَإِنَّهُ يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ , وَيَأْخُذُ مَنْ خَرَجَتْ لَهَا الْقُرْعَةُ , وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِضَرَّاتِهَا إذَا رَجَعَ . ( ر : تَيْسِيرٌ ) .
أَلِغَاءُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِأَنْوَاعٍ مِنْ الِاسْتِرْقَاقِ :(1/220)
4 - حَرَّمَتْ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ اسْتِرْقَاقَ الْحُرِّ بِغَيْرِ حَقٍّ , وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ , وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ , وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو : { ثَلَاثَةٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُمْ صَلَاةً . . . } وَذَكَرَ مِنْهُمْ { وَرَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرًا } قَالَ الْخَطَّابِيُّ : اعْتِبَادُ الْحُرِّ يَقَعُ بِأَمْرَيْنِ : أَنْ يَعْتِقَهُ ثُمَّ يَكْتُمَ ذَلِكَ , أَوْ يَجْحَدَهُ , وَالثَّانِي : أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ كُرْهًا بَعْدَ الْعِتْقِ . ا . هـ وَكَذَلِكَ الِاسْتِرْقَاقُ بِخَطْفِ الْحُرِّ , أَوْ سَرِقَتِهِ , أَوْ إكْرَاهِهِ , أَوْ التَّوَصُّلِ إلَى جَعْلِهِ فِي حَبَائِلِ الرِّقِّ , بِأَيِّ وَسِيلَةٍ , كُلُّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ , وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ , بَلْ يَبْقَى الْمَخْطُوفُ أَوْ الْمَسْرُوقُ حُرًّا إنْ كَانَ مَعْصُومًا بِإِسْلَامٍ أَوْ عَهْدٍ , وَمَنْ اشْتَرَى مِنْ هَؤُلَاءِ وَاِتَّخَذَ مَا اشْتَرَاهُ رَقِيقًا أَوْ بَاعَهُ , حَرُمَ عَلَيْهِ مَا فَعَلَ , وَدَخَلَ فِي الَّذِينَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ : { ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا , فَإِنْ وَطِئَ شَيْئًا مِنْ الْجَوَارِي الَّتِي ( اسْتُمْلِكَتْ ) بِهَذِهِ الطُّرُقِ الْمُحَرَّمَةِ فَهُوَ زِنًا , حُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنَا , مِنْ إقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْوَاطِئِ , وَعَلَى الْمَوْطُوءَةِ إنْ زَالَ الْإِكْرَاهُ وَرَضِيَتْ بِالْبَقَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ , وَالْوَلَدُ الَّذِي يُولَدُ لَهُمَا وَلَدُ زِنًا , لَا يَلْتَحِقُ نَسَبُهُ بِالْوَاطِئِ .(1/221)
وَفِيمَا يَلِي أَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْقِنِّ , ثُمَّ أَحْكَامُ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُبَعَّضِ . أَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ , وَالْمُكَاتَبُ , وَالْمُدَبَّرُ , فَتُنْظَرُ أَحْكَامُهُمْ فِي ( اسْتِيلَادٌ ) , ( تَدْبِيرٌ ) , ( مُكَاتَبَةٌ ) . النَّوْعُ الْأَوَّلُ أَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْقِنِّ الْمَمْلُوكِ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ حُقُوقُ السَّيِّدِ وَوَاجِبَاتُ رَقِيقِهِ تُجَاهَهُ : لِلسَّيِّدِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً عَلَى مَمَالِيكِهِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ حُقُوقٌ يَجِبُ عَلَى الرَّقِيقِ مُرَاعَاتُهَا , مِنْهَا : 12 - أَوَّلًا : طَاعَتُهُ لِلسَّيِّدِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ أَوْ يَنْهَاهُ عَنْهُ , وَلَا يَتَقَيَّدُ وُجُوبُ الطَّاعَةِ بِقَيْدٍ إلَّا مَا وَرَدَ التَّقْيِيدُ بِهِ شَرْعًا , وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ : أ - أَنْ يَأْمُرَهُ السَّيِّدُ بِأَمْرٍ فِيهِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى كَشُرْبِ خَمْرٍ , أَوْ سَرِقَةٍ , أَوْ إيذَاءٍ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ , وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا طَاعَةَ لِأَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أَيْ غَفُورٌ لَهُنَّ رَحِيمٌ بِهِنَّ حَيْثُ أُكْرِهْنَ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا لَوْ أُجْبَرُ السَّيِّدُ رَقِيقَهُ الْمُسْلِمَ عَلَى تَرْكِ الْفَرَائِضِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ , هَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ أَنَّ بَعْضَ الْفَرَائِضِ اللَّازِمَةِ لِلْأَحْرَارِ سَاقِطَةٌ شَرْعًا عَنْ الْأَرِقَّاءِ , كَالْحَجِّ , وَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ . ب - أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فَيَجْبُرَهُ سَيِّدُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ , فَلَا يَجِبُ عَلَى الرَّقِيقِ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ . وَاسْتَثْنَى الْحَلِيمِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ تَكُونَ كَافِرَةً غَيْرَ كِتَابِيَّةٍ وَيَرْغَبَ سَيِّدُهَا فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا , فَيَجْبُرَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ لِتَحِلَّ لَهُ , فَرَأَى الْحَلِيمِيُّ جَوَازَ ذَلِكَ لِإِزَالَةِ الْمَانِعِ مِنْ الْوَطْءِ , قَاسَهُ عَلَى جَوَازِ إجْبَارِهَا عَلَى إزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَغُسْلِ الْحَيْضِ . وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافُ ذَلِكَ . وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ السَّيِّدَ إنْ حَمَلَ رَقِيقَهُ عَلَى الْفَسَادِ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ . لِأَنَّ الرِّقَّ أَفَادَهَا الْأَمَانُ مِنْ الْقَتْلِ فَلَا تُجْبَرُ كَالْمُسْتَأْمَنَةِ , قَالُوا : وَلَيْسَ كَالْغُسْلِ فَإِنَّهُ لَا يَعْظُمُ الْأَمْرُ فِيهِ . ج - لَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَهُ الذَّكَرَ الْبَالِغَ امْرَأَةً لَا يَرْضَاهَا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً , فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ صَغِيرًا جَازَ , وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَمَالِكٌ : لِلسَّيِّدِ أَنْ يُجْبَرَ عَبْدَهُ عَلَى النِّكَاحِ . وَلَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ طَاعَةُ سَيِّدِهِ لَوْ كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الرَّقِيقِ فَسْخُ زَوَاجِهِ الصَّحِيحِ , سَوَاءٌ تَمَّ بِإِذْنِهِ أَوْ إذْنِ مَالِكٍ سَابِقٍ , فَلَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ مُزَوَّجَةً , فَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَجْبُرَهَا عَلَى طَلَبِ الطَّلَاقِ , وَكَذَا لَيْسَ لَهُ الْحَقُّ فِي مَنْعِهَا مِنْ الْكَوْنِ مَعَ زَوْجِهَا لَيْلًا . وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي مُرَاعَاةِ الْحَقَّيْنِ , حَقِّ الزَّوْجِ وَحَقِّ السَّيِّدِ , يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ . د - إنْ كَانَ الْعَبْدُ ذِمِّيًّا فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ إتْيَانِ الْكَنِيسَةِ , أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ , أَوْ أَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ لِأَنَّ ذَلِكَ دِينُهُ , نَقَلَهُ الْبُنَانِيُّ عَنْ قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ
5 - مِنْ شُرُوطِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُخْتَارًا :(1/222)
22 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُكْرَهَةِ عَلَى الزِّنَى لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } . وَعَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ امْرَأَةً اُسْتُكْرِهَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ } . وَلِأَنَّ هَذَا شُبْهَةٌ , وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِهَا . وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الرَّجُلِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَى . فَذَهَبَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ وَاَلَّذِي بِهِ الْفَتْوَى وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ إلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الرَّجُلِ الْمُكْرَهِ عَلَى الزِّنَى لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ وَلِشُبْهَةِ الْإِكْرَاهِ . وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ - وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْمُكْرَهِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالِانْتِشَارِ الْحَادِثِ بِالِاخْتِيَارِ . وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ إكْرَاهِ السُّلْطَانِ وَإِكْرَاهِ غَيْرِهِ , فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي إكْرَاهِ السُّلْطَانِ ; لِأَنَّ سَبَبَهُ الْمُلْجِئَ قَائِمٌ ظَاهِرًا , وَالِانْتِشَارُ دَلِيلٌ مُتَرَدِّدٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ ; لِأَنَّ الِانْتِشَارَ قَدْ يَكُونُ طَبْعًا لَا طَوْعًا , كَمَا فِي النَّائِمِ , فَأَوْرَثَ شُبْهَةً , وَعَلَيْهِ الْحَدُّ إنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ , لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ لَا يَدُومُ إلَّا نَادِرًا لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِعَانَةِ بِالسُّلْطَانِ أَوْ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَيُمْكِنُهُ دَفْعُهُ بِنَفْسِهِ بِالسِّلَاحِ . وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ , بِخِلَافِ السُّلْطَانِ ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِعَانَةُ بِغَيْرِهِ وَلَا الْخُرُوجُ بِالسِّلَاحِ عَلَيْهِ فَافْتَرَقَا . وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ . قَالَ مَشَايِخُ الْحَنَفِيَّةِ : وَهَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ , فَفِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ مِنْ الْقُوَّةِ مَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالسُّلْطَانِ , وَفِي زَمَنِهِمَا ظَهَرَتْ الْقُوَّةُ لِكُلِّ مُتَغَلِّبٍ فَيُفْتَى بِقَوْلِهِمَا .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِظُهُورِ الْحَمْلِ وَاللِّعَانِ وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي : 1
( ظُهُورُ الْحَمْلِ ) :
40 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إلَى عَدَمِ ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِظُهُورِ الْحَمْلِ فِي امْرَأَةٍ لَا زَوْجَ لَهَا وَأَنْكَرَتْ الزِّنَى ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ إكْرَاهٍ , وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ إلَى عُمَرَ لَيْسَ لَهَا زَوْجٌ وَقَدْ حَمَلَتْ , وَسَأَلَهَا عُمَرُ , فَقَالَتْ : إنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةُ الرَّأْسِ وَقَعَ عَلَيَّ رَجُلٌ وَأَنَا نَائِمَةٌ , فَمَا اسْتَيْقَظْت حَتَّى نَزَعَ فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ , وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا : إذَا كَانَ فِي الْحَدِّ " لَعَلَّ " " وَعَسَى " فَهُوَ مُعَطَّلٌ , وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا تُسْأَلُ , وَلَا يَجِبُ سُؤَالُهَا . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِظُهُورِ حَمْلِ امْرَأَةٍ لَا زَوْجَ لَهَا , فَتُحَدُّ وَلَا يُقْبَلُ دَعْوَاهَا الْغَصْبَ عَلَى ذَلِكَ بِلَا قَرِينَةٍ تَشْهَدُ لَهَا بِذَلِكَ , أَمَّا مَعَ قَرِينَةٍ تُصَدِّقُهَا فَتُقْبَلُ دَعْوَاهَا وَلَا تُحَدُّ , كَأَنْ تَأْتِيَ مُسْتَغِيثَةً مِنْهُ , أَوْ تَأْتِيَ الْبِكْرُ تَدَّعِي عَقِبَ الْوَطْءِ , وَكَذَا لَا تُقْبَلُ دَعْوَاهَا أَنَّ هَذَا الْحَمْلَ مِنْ مَنِيٍّ شَرِبَهُ فَرْجَهَا فِي الْحَمَّامِ , وَلَا مِنْ وَطْءِ جِنِّيٍّ إلَّا لِقَرِينَةٍ مِثْلُ كَوْنِهَا عَذْرَاءَ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْعِفَّةِ . وَالْمُرَادُ بِالزَّوْجِ زَوْجٌ يُلْحَقُ بِهِ الْحَمْلُ فَيَخْرُجُ الْمَجْبُوبُ وَالصَّغِيرُ , أَوْ أَتَتْ بِهِ كَامِلًا لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْعَقْدِ فَتُحَدُّ . وَمِثْلُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا الْأَمَةُ الَّتِي أَنْكَرَ سَيِّدُهَا وَطْأَهَا فَتُحَدُّ .
الْإِكْرَاهُ عَلَى سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى , أَوْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم :
15 - الْإِكْرَاهُ عَلَى سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى , أَوْ سَبِّ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ إكْرَاهًا عَلَى الْكُفْرِ , وَيَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ فِيهِ غَالِبًا فِي بَابِ الرِّدَّةِ أَوْ الْإِكْرَاهِ . وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( تَقِيَّةٍ , رِدَّةٍ , إكْرَاهٍ ) .
سُخْرَةٌ ) التَّعْرِيفُ :(1/223)
1 - السُّخْرَةُ لُغَةً : مَا سَخَّرْته مِنْ دَابَّةٍ أَوْ رَجُلٍ بِلَا أَجْرٍ وَلَا ثَمَنٍ , وَيُقَالُ : لِلْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ . يُقَالُ سَخَّرَهُ سُخْرًا أَوْ سُخْرِيًّا : أَيْ كَلَّفَهُ مَا لَا يُرِيدُ وَقَهَرَهُ , وَالسُّخْرَةُ أَيْضًا : مَنْ يَسْخَرُ مِنْهُ النَّاسُ . وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِلسُّخْرَةِ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - ( الْإِجَارَةُ ) : 2 - الْإِجَارَةُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى تَمْلِيكِ مَنْفَعَةٍ بِعِوَضٍ . وَالْأُجْرَةُ مَا يَلْتَزِمُ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ قَبْلَ الْمُؤَجِّرِ عِوَضًا عَنْ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَتَمَلَّكُهَا . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ ( إجَارَةٍ ) لِبَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَبِالْأُجْرَةِ مِنْ الْأَحْكَامِ . ب - ( الْعُمَالَةُ ) : 3 - الْعُمَالَةُ - بِضَمِّ الْعَيْنِ - هِيَ أُجْرَةُ الْعَامِلِ , يُقَالُ اسْتَعْمَلْته : أَيْ جَعَلْته عَامِلًا . ج - ( الْجَعَالَةُ ) : 4 - الْجَعَالَةُ الْتِزَامُ عِوَضٍ مَعْلُومٍ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ يَعْسُرُ ضَبْطُهُ , وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ : ( جِعَالَةٍ ) .
( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) :(1/224)
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَسْخِيرِ الْعَامِلِ دُونَ أَجْرٍ , وَلَا يَجُوزُ إجْبَارُهُ أَوْ إكْرَاهُهُ عَلَى قَبُولِ عَمَلٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ . وَاعْتَبَرَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ التَّعَدِّي الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ . فَمَنْ قَهَرَ عَامِلًا وَسَخَّرَهُ فِي عَمَلٍ ضَمِنَ أُجْرَتَهُ لِاسْتِيفَائِهِ مَنَافِعَهُ الْمُتَقَوِّمَةَ ; لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْعَامِلِ مَالٌ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ فَضُمِنَتْ بِالتَّعَدِّي , وَالْأُجْرَةُ فِي مُقَابِلِ الْعَمَلِ مِنْ مُقَوِّمَاتِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ , وَمَعْلُومِيَّتهَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ , فَإِنْ خَلَا مِنْهَا , أَوْ فَسَدَ الْعَقْدُ , أَوْ سَمَّى مَا لَا يَصِحُّ أُجْرَةً وَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى أَجْرِ الْمِثْلِ . هَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَتَفْصِيلُهُ فِي ( إجَارَةٍ ) . 6 - وَالْأَصْلُ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِعَمَلِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ بِرِضَاهُ , سَوَاءٌ كَانَ بِعِوَضٍ كَالْإِجَارَةِ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَأَنْ يَتَطَوَّعَ بِمَعُونَةِ شَخْصٍ أَوْ خِدْمَتِهِ , وَمَا يَنْطَبِقُ عَلَى الْأَفْرَادِ فِيمَا بَيْنَهُمْ يَنْطَبِقُ عَلَى الدَّوْلَةِ فِيمَنْ تَسْتَعْمِلُهُمْ مِنْ عُمَّالٍ , إلَّا أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُسَخِّرَ بَعْضَ النَّاسِ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ تَقْتَضِيهَا مَصْلَحَةُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا يَجُوزُ تَسْخِيرُهُمْ بِدُونِ أَجْرٍ , وَتُلْزَمُ الدَّوْلَةُ بِإِجْرَاءِ أُجُورِهِمْ فِي مُقَابِلِ مَا يَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالٍ . 7 - وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْأَصْلِ جُمْلَةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ : مِنْهَا : أَنَّ لِلْعَامِلِ فِي الدَّوْلَةِ أَجْرًا يُجْرِيهِ لَهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ , وَلَا يَخْلُو هَذَا الْأَجْرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : الْحَالُ الْأَوَّلُ : أَنْ يُسَمِّيَ الْوَالِي لِلْعَامِلِ أَجْرًا مَعْلُومًا : يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ الْأَجْرَ إذَا وَفَّى الْعِمَالَةَ حَقَّهَا , فَإِنْ قَصَّرَ رُوعِيَ تَقْصِيرُهُ , فَإِنْ كَانَ التَّقْصِيرُ فِي تَرْكِ بَعْضِ الْعَمَلِ لَمْ يَسْتَحِقَّ جَارِي مَا قَابَلَهُ , وَإِنْ كَانَ خِيَانَةً مَعَ اسْتِيفَاءِ الْعَمَلِ اسْتَكْمَلَ جَارِيهِ وَاسْتَرْجَعَ مِنْهُ مَا خَانَ فِيهِ , وَإِنْ زَادَ فِي الْعَمَلِ رُوعِيَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْأَجْرِ . الْحَالُ الثَّانِي : أَنْ يُسَمِّيَ لِلْعَامِلِ أَجْرًا مَجْهُولًا : فَيَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ أَجْرَ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ , فَإِنْ كَانَ جَارِي الْعَمَلِ مُقَدَّرًا فِي الدِّيوَانِ وَعَمِلَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُمَّالِ صَارَ ذَلِكَ الْقَدْرُ هُوَ جَارِي الْمِثْلِ . الْحَالُ الثَّالِثُ : أَنْ لَا يُسَمِّيَ لَهُ أَجْرًا مَعْلُومًا وَلَا مَجْهُولًا . فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا جَارِيَ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ , وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِهِ ; لِخُلُوِّ عَمَلِهِ مِنْ عِوَضٍ . وَذَهَبَ الْمُزَنِيّ إلَى أَنَّ لَهُ جَارِيَ مِثْلِهِ لِاسْتِيفَاءِ عَمَلِهِ عَنْ إذْنِهِ . وَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ إلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ مَشْهُورًا بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَى عَمَلِهِ فَلَهُ جَارِي مِثْلِهِ , وَإِنْ لَمْ يُشْتَهَرْ فَلَا جَارِيَ لَهُ . وَذَهَبَ أَبُو إسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إلَى أَنَّهُ إنْ دُعِيَ إلَى الْعَمَلِ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ أُمِرَ بِهِ فَلَهُ جَارِي مِثْلِهِ فَإِنْ ابْتَدَأَ بِالطَّلَبِ فَأَذِنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ فَلَا جَارِيَ لَهُ . وَنَظِيرُ هَذَا الْخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي مُصْطَلَحِ ( جِعَالَةٍ ) فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعَامِلِ الْجُعْلَ فِي حَالَةِ الْإِذْنِ لَهُ بِالْعَمَلِ أَوْ عَدَمِ الْإِذْنِ حَيْثُ اُسْتُوْفِيَتْ الْمَذَاهِبُ فِي الْمَسْأَلَةِ . فَلْتُرَاجَعْ فِي مُصْطَلَحِ : ( جِعَالَةٍ ف 31 - 34 ) 8 - وَمِنْ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاسْتِعْمَالِ الدَّوْلَةِ لِلْعُمَّالِ بِأَجْرٍ , مَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : إذَا احْتَاجَ النَّاسُ إلَى صِنَاعَةٍ مِنْ الصِّنَاعَاتِ كَالْفِلَاحَةِ وَالنِّسَاجَةِ وَالْبِنَاءِ فَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُلْزِمَهُمْ بِالْعَمَلِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِمْ مُرَاعَاةً لِمَصَالِح النَّاسِ حَيْثُ صَارَتْ هَذِهِ الْأَعْمَالُ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِمْ وَلَا يُمَكِّنُهُمْ مِنْ مُطَالَبَةِ النَّاسِ بِزِيَادَةٍ عَنْ عِوَضِ الْمِثْلِ , وَلَا يُمَكِّنُ النَّاسَ مِنْ ظُلْمِهِمْ بِأَنْ يُعْطُوهُمْ دُونَ حَقِّهِمْ . كَمَا إذَا احْتَاجَ الْجُنْدُ الْمُرْصِدُونَ لِلْجِهَادِ إلَى فِلَاحَةِ أَرْضِهِمْ , وَأَلْزَمَ مَنْ صِنَاعَتُهُ الْفِلَاحَةَ أَنْ يَقُومَ بِهَا : أُلْزِمَ الْجُنْدُ بِأَلَّا يَظْلِمُوا الْفَلَّاحَ , كَمَا يُلْزِمَ الْفَلَّاحَ بِأَنْ يُفَلِّحَ . 9 - وَمِنْ الْمَسَائِلِ كَذَلِكَ : أَنَّ أَوْجُهَ اخْتِصَاصِ وَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَنْظُرَ فِي تَظَلُّمِ الْمُسْتَرْزِقَةِ مِنْ نَقْصِ أَرْزَاقِهِمْ أَوْ تَأَخُّرِهَا عَنْهُمْ , أَوْ إجْحَافِ النَّظَرِ بِهِمْ فَيَرُدُّ إلَيْهِمْ أَرْزَاقَهُمْ وَيَضْبِطُ هَذَا فِي دِيوَانِهِ . وَالدَّلِيلُ مِنْ السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ وَفَاءِ الدَّوْلَةِ بِأُجُورِ عُمَّالِهَا حَدِيثُ بُرَيْدَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ(1/225)
فَهُوَ غُلُولٌ } . وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّعْدِيِّ قَالَ : { اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا فَرَغْت مِنْهَا وَأَدَّيْتهَا إلَيْهِ أَمَرَ لِي بِعُمَالَةٍ فَقُلْت : إنَّمَا عَمِلْت لِلَّهِ وَأَجْرِي عَلَى اللَّهِ , فَقَالَ : خُذْ مَا أُعْطِيت فَإِنِّي عَمِلْت عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَمِلَنِي } . وَعَمِلَنِي : أَيْ أَعْطَانِي أُجْرَةَ عَمَلِي . وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ , فَمَا جَاءَك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ , وَإِلَّا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَك } .
الشَّرْطُ الثَّانِي : الْقَصْدُ :
13 - لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ إلَّا إذَا كَانَ يَعْلَمُ بِتَحْرِيمِ السَّرِقَةِ , وَأَنَّهُ يَأْخُذُ مَالًا مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ دُونَ عِلْمِ مَالِكِهِ وَإِرَادَتِهِ , وَأَنْ تَنْصَرِفَ نِيَّتُهُ إلَى تَمَلُّكِهِ , وَأَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا فِيمَا فَعَلَ , وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ . أ - أَنْ يَعْلَمَ السَّارِقُ بِتَحْرِيمِ الْفِعْلِ الَّذِي اقْتَرَفَهُ , فَالْجَهَالَةُ بِالتَّحْرِيمِ مِمَّنْ يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما : لَا حَدَّ إلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَهُ . أَمَّا عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْعُقُوبَةِ فَلَا يُعَدُّ مِنْ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَدْرَأُ الْحَدَّ . ب - أَنْ يَعْلَمَ السَّارِقُ أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ مَمْلُوكٌ لِغَيْرِهِ , وَأَنَّهُ قَدْ أَخَذَهُ دُونَ عِلْمِ مَالِكِهِ وَدُونَ رِضَاهُ . وَعَلَى ذَلِكَ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ أَخَذَ مَالًا وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ أَوْ مَتْرُوكٌ . وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمُؤَجِّرِ الَّذِي يَأْخُذُ الْعَيْنَ الَّتِي آجَرَهَا , وَلَا عَلَى الْمُودِعِ الَّذِي يَأْخُذُ الْوَدِيعَةَ دُونَ رِضَا الْوَدِيعِ . ج - أَنْ تَنْصَرِفَ نِيَّةُ الْآخِذِ إلَى تَمَلُّكِ مَا أَخَذَهُ , وَلِهَذَا لَا يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى مَنْ أَخَذَ مَالًا مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ دُونَ أَنْ يَقْصِدَ تَمَلُّكَهُ , كَأَنْ أَخَذَهُ لِيَسْتَعْمِلَهُ ثُمَّ يَرُدَّهُ , أَوْ أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ الدُّعَابَةِ , أَوْ أَخَذَهُ لِمُجَرَّدِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ , أَوْ أَخَذَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّ مَالِكَهُ يَرْضَى بِأَخْذِهِ , مَا دَامَتْ الْقَرَائِنُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ , وَمِنْ الْقَرَائِنِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى نِيَّةِ التَّمَلُّكِ , إخْرَاجُ الْمَالِ مِنْ الْحِرْزِ لِغَيْرِ مَا سَبَقَ , بِحَيْثُ يُعْتَبَرُ سَارِقًا لِتَوَافُرِ قَصْدِ التَّمَلُّكِ حِينَئِذٍ وَلَوْ أَتْلَفَهُ بِمُجَرَّدِ إخْرَاجِهِ - أَمَّا لَوْ أُتْلِفَ دَاخِلَ الْحِرْزِ فَلَا تَظْهَرُ نِيَّةُ التَّمَلُّكِ , وَلِهَذَا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ . د - لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ إلَّا إذَا كَانَ مُخْتَارًا فِيمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ , فَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا انْعَدَمَ الْقَصْدُ وَسَقَطَ الْحَدُّ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ السَّرِقَةَ تُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ ; لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ شُبْهَةٌ , وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ الَّذِي يَرْفَعُ الْإِثْمَ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ هُوَ مَا يَكُونُ فِي جَانِبِ الْأَقْوَالِ , وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى الْأَفْعَالِ فَفِي حُكْمِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ ( إكْرَاهٍ ) مِنْ الْمَوْسُوعَةِ 6 98 - 112
إثْبَاتُ السَّرِقَةِ :(1/226)
55 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ . وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِالْقَرَائِنِ .
أَوَّلًا - الْإِقْرَارُ : 56 - تَثْبُتُ السَّرِقَةُ بِإِقْرَارِ السَّارِقِ إذَا كَانَ مُكَلَّفًا بِأَنْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا , عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي سَبَقَ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ السَّارِقَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا فِي إقْرَارِهِ , فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا , فَلَا يُعْتَدُّ بِهَذَا الْإِقْرَارِ . وَقَدْ أَفْتَى بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ بِصِحَّةِ إقْرَارِ السَّارِقِ مَعَ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّ السُّرَّاقَ قَدْ غَدَوْا لَا يُقِرُّونَ طَائِعِينَ . وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّهُ يُعْمَلُ بِإِقْرَارِ الْمُتَّهَمِ مَعَ الْإِكْرَاهِ إنْ ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ . وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ بِالسَّرِقَةِ نَاطِقًا , وَلِهَذَا فَإِنَّهُمْ لَا يَعْتَدُّونَ بِإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ , وَلَوْ كَانَتْ مُفْهِمَةً ; لِاحْتِمَالِ إشَارَتِهِ الْإِقْرَارَ وَغَيْرَهُ , وَهَذَا يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ . وَيَرَى الْجُمْهُورُ صِحَّةَ إقْرَارِهِ , إنْ كَانَتْ إشَارَتُهُ مُفْهِمَةً قَبْلَ هَذَا الْإِقْرَارِ . وَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ كَافِيًا لِإِقَامَةِ الْحَدِّ , إلَّا إذَا كَانَ صَرِيحًا وَتَبَيَّنَ الْقَاضِي مِنْهُ تَوَافُرَ أَرْكَانِ السَّرِقَةِ , بِحَيْثُ لَا تَبْقَى مَعَهُ أَيُّ شُبْهَةٍ . وَاشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَصْدُرَ الْإِقْرَارُ عِنْدَ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ إقَامَةِ الْحَدِّ , فَلَا يُعْتَدُّ بِالْإِقْرَارِ الصَّادِرِ عِنْدَ غَيْرِهِ , وَلَا بِالْإِقْرَارِ قَبْلَ الدَّعْوَى . 57 - وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِ مَرَّاتِ الْإِقْرَارِ الَّتِي تُوجِبُ إقَامَةَ حَدِّ السَّرِقَةِ : فَالْحَنَفِيَّةُ - مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ - وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ , وَالشَّافِعِيَّةُ وَعَطَاءٌ , وَالثَّوْرِيُّ , يَكْتَفُونَ بِإِقْرَارِ السَّارِقِ مَرَّةً وَاحِدَةً , لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم { قَطَعَ سَارِقَ خَمِيصَةِ صَفْوَانَ وَسَارِقَ الْمِجَنِّ } , وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدَهُمَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الْإِقْرَارُ ; وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحُقُوقِ يَكْتَفِي بِإِيرَادِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً ; وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ تَرَجَّحَ فِيهِ جَانِبُ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ , فَلَنْ يَزِيدَهُ التَّكْرَارُ رُجْحَانًا . أَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ , وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى , وَالْحَنَابِلَةُ , وَابْنُ أَبِي لَيْلَى , وَابْنُ شُبْرُمَةَ , فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ صُدُورَ الْإِقْرَارِ مَرَّتَيْنِ , فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ , فَإِنْ أَقَرَّ السَّارِقُ مَرَّةً وَاحِدَةً , لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ , وَإِنَّمَا يُعَزَّرُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ . لِأَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِلِصٍّ قَدْ اعْتَرَفَ , وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ , فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : مَا أَخَالُك سَرَقْت فَقَالَ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ , فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا , وَلَمْ يَقْطَعْهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ تَكَرَّرَ إقْرَارُهُ } , فَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ يَجِبُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمَا أَخَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم . 58 - وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْخُصُومَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ : فَالْحَنَفِيَّةُ - مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ - وَالشَّافِعِيَّةُ , وَالْحَنَابِلَةُ , يَشْتَرِطُونَ لِقَبُولِ الْإِقْرَارِ مُطَالَبَةَ مَنْ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالْمَسْرُوقِ ; لِأَنَّ عَدَمَ مُطَالَبَتِهِ يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ , وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ : لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالٍ مِنْ مَجْهُولٍ أَوْ مِنْ غَائِبٍ . وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ , وَالْمَالِكِيَّةُ , وَأَبُو ثَوْرٍ , وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى عَدَمَ تَوَقُّفِ إقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ عَلَى دَعْوَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ , لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ , وَعَدَمِ وُجُودِ مَا يَصْلُحُ مُخَصِّصًا لِهَذَا الْعُمُومِ , وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ : يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يُقِرُّ بِسَرِقَةِ نِصَابٍ مِنْ مَجْهُولٍ أَوْ غَائِبٍ إذَا ثَبَتَتْ السَّرِقَةُ ; لِأَنَّ الْمُقِرَّ لَا يُتَّهَمُ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ .
شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَدِّ : يُشْتَرَطُ لِإِيجَابِ الْحَدِّ مَا يَلِي :(1/227)
17 - أَوَّلًا : التَّكْلِيفُ وَهُوَ هُنَا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ , فَلَا حَدَّ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ بِاتِّفَاقٍ ; لِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِالْجِنَايَةِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ مِنْهُمَا . وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ يُؤَدَّبُ لِلزَّجْرِ . 18 - ثَانِيًا : الْإِسْلَامُ : فَلَا حَدَّ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ بِالشُّرْبِ وَلَا بِالسُّكْرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ : وَشُرْبُ الْخَمْرِ مُبَاحٌ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ أَكْثَرِ مَشَايِخِنَا فَلَا يَكُونُ جِنَايَةً , وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لَكَنَنَّا نُهِينَا عَنْ التَّعَرُّضِ لَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ , وَفِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ تَعَرُّضٌ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّنَا نَمْنَعُهُمْ مِنْ الشُّرْبِ . وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُمْ إذَا شَرِبُوا وَسَكِرُوا يُحَدُّونَ لِأَجْلِ السُّكْرِ لَا لِأَجْلِ الشُّرْبِ لِأَنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا . قَالَ الْكَاسَانِيُّ : وَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ حَسَنٌ . وَجَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ : " إنْ سَكِرَ الذِّمِّيُّ مِنْ الْحَرَامِ حُدَّ فِي الْأَصَحِّ لِحُرْمَةِ السُّكْرِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ " وَجَاءَ بِهَا أَيْضًا قَوْلُهُ : حُدَّ فِي الْأَصَحِّ أَفْتَى بِهِ الْحَسَنُ وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ . وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ كَمَا فِي النَّهَرِ عَنْ فَتَاوَى قَارِئِ الْهِدَايَةِ وَقَالَ الْمَجْدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ : وَلَا يُحَدُّ الذِّمِّيُّ بِشُرْبِهِ وَإِنْ سَكِرَ وَعَنْهُ يُحَدُّ وَعِنْدِي إنْ سَكِرَ حُدَّ وَإِلَّا فَلَا . وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الذِّمِّيَّ يُؤَدَّبُ بِالشُّرْبِ إنْ أَظْهَرَهُ . 19 - ثَالِثًا : عَدَمُ الضَّرُورَةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ , بِأَنْ يَشْرَبَهَا مُخْتَارًا لِشُرْبِهَا , وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ . فَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِهَا وَذَلِكَ لِقَوْلِ الرَّسُولِ : { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } وَلِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً وَالشُّرْبُ بِالْإِكْرَاهِ حَلَالٌ فَلَمْ يَكُنْ جِنَايَةً فَلَا حَدَّ وَلَا إثْمَ . وَسَوَاءٌ أُكْرِهَ بِالْوَعِيدِ وَالضَّرْبِ أَوْ أُلْجِئَ إلَى شُرْبِهَا بِأَنْ يُفْتَحَ فُوهُ وَتُصَبَّ فِيهِ . نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ . وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ , عَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ يَكُونُ بِالتَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالضَّرْبِ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ أَوْ بِإِتْلَافِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَوْ بِالضَّرْبِ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ أَيْ : بِقَيْدٍ أَوْ سَجْنٍ شَدِيدَيْنِ عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ لِسَحْنُونٍ . وَكَذَلِكَ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ اُضْطُرَّ إلَيْهَا لِدَفْعِ غُصَّةٍ بِهَا إذَا لَمْ يَجِدْ مَائِعًا سِوَاهَا وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ : { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } . وَلِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً وَالشُّرْبُ لِضَرُورَةِ الْغُصَّةِ حَلَالٌ فَلَمْ يَكُنْ جِنَايَةً . وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ . وَإِنْ شَرِبَهَا لِعَطَشٍ فَالْحَنَابِلَةُ يَقُولُونَ : إنْ كَانَتْ مَمْزُوجَةً بِمَا يَرْوِي مِنْ الْعَطَشِ أُبِيحَتْ لِدَفْعِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا تُبَاحُ الْمَيْتَةُ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ وَكَإِبَاحَتِهَا لِدَفْعِ الْغُصَّةِ . وَقَدْ رُوِيَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ أَنَّهُ أَسَرَهُ الرُّومُ , فَحَبَسَهُ طَاغِيَتُهُمْ فِي بَيْتٍ فِيهِ مَاءٌ مَمْزُوجٌ بِخَمْرٍ وَلَحْمُ خِنْزِيرٍ مَشْوِيٌّ لِيَأْكُلَهُ وَيَشْرَبَ الْخَمْرَ , وَتَرَكَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَمْ يَفْعَلْ , ثُمَّ أَخْرَجُوهُ حِينَ خَشُوا مَوْتَهُ فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَحَلَّهُ لِي فَإِنِّي مُضْطَرٌّ وَلَكِنْ لَمْ أَكُنْ لِأُشْمِتَكُمْ بِدِينِ الْإِسْلَامِ . وَإِنْ شَرِبَهَا صِرْفًا أَوْ مَمْزُوجَةً بِشَيْءٍ يَسِيرٍ لَا يَرْوِي مِنْ الْعَطَشِ لَمْ يُبَحْ لَهُ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ الْحَدُّ . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَحِلُّ شُرْبُهَا لِلْعَطَشِ لقوله تعالى : { إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ } وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , الْأَصَحُّ تَحْرِيمُهَا لِعَطَشٍ وَجُوعٍ وَلَكِنْ لَا يُحَدُّ وَقَالُوا : إنْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ مِنْ عَطَشٍ جَازَ لَهُ شُرْبُهَا .
شُرْبُ الْمُسْكِرِ لِلتَّدَاوِي :
20 - إنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ لِلتَّدَاوِي ( لَمْ يُبَحْ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ) وَالْمَالِكِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . وَيُحَدُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ إبَاحَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ لِلتَّدَاوِي بِحَدِيثِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ مِنْ أَنَّ { طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ أَنَّهُ(1/228)
سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا فَقَالَ : إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ فَقَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ } . وَلِأَنَّ الْمُسْكِرَ مُحَرَّمٌ لِعَيْنِهِ فَلَمْ يُبَحْ لِلتَّدَاوِي كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ إلَى جَوَازِ التَّدَاوِي بِالْقَدْرِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ كَبَقِيَّةِ النَّجَاسَاتِ وَهَذَا فِي غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ , أَمَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ بِأَنْ لَمْ يَجِدْ دَوَاءً آخَرَ فَفِي جَوَازِهِ خِلَافٌ , وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي ( تَدَاوِي ) . 21 - رَابِعًا : مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَدِّ أَيْضًا بَقَاءُ اسْمِ الْخَمْرِ لِلْمَشْرُوبِ وَقْتَ الشُّرْبِ . نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ . لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالشُّرْبِ تَعَلَّقَ بِهِ حَتَّى لَوْ خُلِطَ الْخَمْرُ بِالْمَاءِ ثُمَّ شَرِبَ نُظِرَ فِيهِ : إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْمَاءِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ - لِأَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ يَزُولُ عِنْدَ غَلَبَةِ الْمَاءِ , وَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْخَمْرِ أَوْ كَانَا سَوَاءً يُحَدُّ ; لِأَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ بَاقٍ وَهِيَ عَادَةُ بَعْضِ الشَّرَبَةِ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَهَا مَمْزُوجَةً بِالْمَاءِ . وَيُحَدُّ مَنْ شَرِبَ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّهُ خَمْرٌ بِلَا شَكٍّ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ , وَإِنَّمَا يُكْرَهُ شُرْبُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ ; لِأَنَّ الدُّرْدِيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ صَافِيهِ , وَالِانْتِفَاعُ بِالْخَمْرِ حَرَامٌ فَكَذَلِكَ بِدُرْدِيِّهِ وَهَذَا لِأَنَّ فِي الدُّرْدِيِّ أَجْزَاءَ الْخَمْرِ وَلَوْ وَقَعَتْ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ فِي مَاءٍ لَمْ يَجُزْ شُرْبُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ فَالدُّرْدِيُّ أَوْلَى . 22 - خَامِسًا : وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا الْعِلْمُ بِأَنَّ كَثِيرَهَا يُسْكِرُ , فَالْحَدُّ إنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ شَرِبَهَا عَالِمًا بِأَنَّ كَثِيرَهَا يُسْكِرُ فَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ , وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَلَمْ يَشْتَرِطْ الشَّافِعِيَّةُ إلَّا الْعِلْمَ بِكَوْنِ مَا شَرِبَهُ مُسْكِرًا . وَذَلِكَ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهَا وَلَا قَاصِدٍ إلَى ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ بِهَا فَأَشْبَهَ مَنْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ زَوْجَتِهِ , وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ شَرِبَهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهَا أَيْضًا - لِأَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما قَالَا : لَا حَدَّ إلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَهُ - وَلِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِالتَّحْرِيمِ أَشْبَهَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا خَمْرٌ , وَإِذَا ادَّعَى الْجَهْلَ بِتَحْرِيمِهَا نُظِرَ . فَإِنْ كَانَ نَاشِئًا بِبَلَدِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ لِأَنَّ هَذَا لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُهُ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ فِيهِ , وَإِنْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَاشِئًا بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ الْبُلْدَانِ قُبِلَ مِنْهُ , لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا قَالَهُ . نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ . 23 - سَادِسًا : اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ النُّطْقَ فَلَا يُحَدُّ الْأَخْرَسُ لِلشُّبْهَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاطِقًا يَحْتَمِلُ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا لَا يُحَدُّ بِهِ كَإِكْرَاهٍ أَوْ غَصٍّ بِلُقْمَةٍ . وَلَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ وَلَا الْحُرِّيَّةُ فَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى كُلٍّ مِنْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالرَّقِيقِ إلَّا أَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ يَكُونُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ .
( وُجُودُ رَائِحَةِ الْخَمْرِ ) :
24 اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ تُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ : الْقَوْلُ الْأَوَّلُ : ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ , وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الرَّاجِحَةِ إلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ تُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُودَ رَائِحَةِ الْخَمْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ لِجَوَازِ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ بِهَا وَلَمْ يَشْرَبْهَا , أَوْ شَرِبَهَا عَنْ إكْرَاهٍ أَوْ غُصَّةٍ خَافَ مِنْهَا الْهَلَاكَ . الْقَوْلُ الثَّانِي : ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ . إلَى أَنَّهُ يُحَدُّ بِذَلِكَ , وَذَلِكَ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ جَلَدَ رَجُلًا وَجَدَ مِنْهُ رَائِحَةَ الْخَمْرِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : إنِّي وَجَدْت مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ رِيحَ الشَّرَابِ فَأَقَرَّ أَنَّهُ شَرِبَ الطَّلَا , فَقَالَ عُمَرُ : إنِّي سَائِلٌ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْته . وَلِأَنَّ الرَّائِحَةَ تَدُلُّ عَلَى شُرْبِهِ فَجَرَى مَجْرَى الْإِقْرَارِ .
إثْبَاتُ الْحَدِّ :(1/229)
لَا يَجِبُ الْحَدُّ حَتَّى يَثْبُتَ الشُّرْبُ أَوْ السُّكْرُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ : الْإِقْرَارِ أَوْ الْبَيِّنَةِ . الْبَيِّنَةُ : 26 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشُّرْبَ - وَكَذَلِكَ السُّكْرُ - يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ - أَيْ شَهَادَةِ الشُّهُودِ - وَهِيَ شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ وَيُشْتَرَطُ فِيهِمَا مَا يَلِي : ( 1 ) أَنْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ . ( 2 ) الذُّكُورَةُ , فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ . ( 3 ) الْأَصَالَةُ فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَلَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا ; لِتَمَكُّنِ زِيَادَةِ شُبْهَةٍ فِيهَا وَالْحُدُودُ لَا تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ . ( 4 ) عَدَمُ التَّقَادُمِ ( اُنْظُرْ شَهَادَةٌ ) ( وَحُدُودٌ ) ( وَتَقَادُمٌ ) ف 13 ( 5 ) وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَسْأَلَ الْإِمَامُ الشَّاهِدَيْنِ عَنْ مَاهِيَّةِ الْخَمْرِ وَكَيْفَ شُرِبَ لِاحْتِمَالِ الْإِكْرَاهِ وَمَتَى شَرِبَ لِاحْتِمَالِ التَّقَادُمِ وَأَيْنَ شَرِبَ لِاحْتِمَالِ شُرْبِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ حَبَسَهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ عَدَالَتِهِمْ وَلَا يَقْضِي بِظَاهِرِهَا . ( 6 ) قِيَامُ الرَّائِحَةِ وَقْتَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ بِشَرْطٍ . وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إذَا شَهِدَ عَدْلَانِ بِشُرْبِهِ الْخَمْرَ , وَخَالَفَهُمَا غَيْرُهُمَا مِنْ الْعُدُولِ بِأَنْ قَالَا : لَيْسَ رَائِحَتُهُ رَائِحَةَ خَمْرٍ بَلْ خَلٍّ مَثَلًا , فَلَا تُعْتَبَرُ الْمُخَالَفَةُ وَيُحَدُّ ; لِأَنَّ الْمُثْبِتَ يُقَدَّمُ عَلَى النَّافِي . ( الْإِقْرَارُ ) : 27 - يَثْبُتُ الشُّرْبُ أَيْضًا بِإِقْرَارِ الشَّارِبِ نَفْسِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ , وَانْظُرْ ( حُدُودٌ ) , إثْبَاتٌ .
سَمَاعُ الشَّهَادَةِ :
12 - الشَّهَادَةُ لَا تَجُوزُ إلَّا بِمَا عَلِمَهُ الشَّاهِدُ لقوله تعالى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } . وَقَوْلِهِ - جَلَّ ذِكْرُهُ - : { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ إخْوَةِ يُوسُفَ : { وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { إذَا عَلِمْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ } . وَالْعِلْمُ الَّذِي تَقَعُ بِهِ الشَّهَادَةُ يَحْصُلُ بِطَرِيقَتَيْنِ : أ - الرُّؤْيَةُ : وَتَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ كَالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ وَالْإِكْرَاهِ وَنَحْوِهَا , كَمَا تَكُونُ فِي الصِّفَاتِ الْمَرْئِيَّةِ مِثْلِ الْعُيُوبِ فِي الْمَبِيعِ وَالْمُؤَجَّرِ وَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ . ب - ( السَّمَاعُ ) : وَهُوَ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : سَمَاعُ الصَّوْتِ مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِي الْأَقْوَالِ سَوَاءٌ أَكَانَ السَّامِعُ مُبْصِرًا أَمْ غَيْرَ مُبْصِرٍ مِثْلُ مَا يَقَعُ بِهِ إبْرَامُ الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالسَّلَمِ وَالرَّهْنِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى سَمَاعِ كَلَامِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ , إذَا عَرَفَهَا السَّامِعُ وَتَيَقَّنَ أَنَّهَا مَصْدَرُ مَا سَمِعَ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( شَهَادَةٌ ) . الشَّهَادَةُ بِالسَّمَاعِ ( التَّسَامُعُ ) : 13 - وَهِيَ : الشَّهَادَةُ الَّتِي يَكُونُ طَرِيقُهَا حَاسَّةَ السَّمْعِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( شَهَادَةٌ ) .
الْقَتْلُ بِالسُّمِّ :(1/230)
7 - قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : إذَا قُدِّمَ لِصَبِيٍّ غَيْرِ مُمَيِّزٍ أَوْ مَجْنُونٍ طَعَامٌ مَسْمُومٌ فَمَاتَ مِنْهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى مُقَدِّمِ الطَّعَامِ , إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ السُّمَّ يَقْتُلُ غَالِبًا , سَوَاءٌ أَخْبَرَهُ أَنَّ الطَّعَامَ مَسْمُومٌ أَمْ لَا . وَإِنْ أَكْرَهَ بَالِغًا عَاقِلًا عَلَى أَكْلِ طَعَامٍ مَسْمُومٍ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُكْرِهُ أَنَّهُ مَسْمُومٌ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ , أَمَّا إنْ كَانَ الْمُكْرِهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَسْمُومٌ فَلَا قِصَاصَ كَمَا إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى قَتَلَ نَفْسِهِ . وَإِنْ أَوْجَرَهُ السُّمَّ فِي حَلْقِهِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَإِنْ كَانَ بَالِغًا ; لِأَنَّهُ أَلْجَأَهُ إلَيْهِ وَلَا اخْتِيَارَ لَهُ حَتَّى يُقَالَ عَنْهُ : إنَّهُ تَنَاوَلَ السُّمَّ بِاخْتِيَارِهِ فَحَدُّ الْعَمْدِ صَادِقٌ عَلَيْهِ . وَإِنْ قَدَّمَ طَعَامًا مَسْمُومًا لِبَالِغٍ عَاقِلٍ فَأَكَلَهُ فَمَاتَ مِنْهُ , فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ الْحَالَ فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ , وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْحَالِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ . فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ لَا تَجِبُ الْقِصَاصُ بَلْ تَجِبُ دِيَةٌ لِشِبْهِ الْعَمْدِ لِتَنَاوُلِهِ لَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ تَغْرِيرُهُ , وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ : يَجِبُ الْقِصَاصُ لِتَغْرِيرِهِ كَالْإِكْرَاهِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : يَجِبُ الْقِصَاصُ . عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا , وَيُتَّخَذُ طَرِيقًا إلَى الْقَتْلِ كَثِيرًا فَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ . وَالتَّفْصِيلُ فِي بَابِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ . وَإِنْ دَسَّ فِي طَعَامِ شَخْصٍ مُمَيِّزٍ أَوْ بَالِغٍ الْغَالِبُ أَكْلُهُ مِنْهُ فَأَكَلَهُ جَاهِلًا فَعَلَيْهِ دِيَةُ شَبَهِ الْعَمْدِ , وَإِنْ دَسَّ السُّمَّ فِي طَعَامِ نَفْسِهِ فَأَكَلَ مِنْهُ آخَرُ عَادَتُهُ الدُّخُولُ عَلَيْهِ , فَإِنَّهُ يَكُونُ هَدَرًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ فَإِنَّمَا الدَّاخِلُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَفَرَ فِي دَارِهِ بِئْرًا فَدَخَلَ فِيهِ رَجُلٌ فَوَقَعَ فِيهِ . وَإِنْ دَاوَى جُرْحًا فِي جِسْمِهِ مِنْ جِنَايَةٍ مَضْمُونَةٍ بِسُمٍّ قَاتِلٍ , فَمَاتَ فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْجَارِحِ فِي النَّفْسِ , وَلَا دِيَةِ النَّفْسِ ; إذْ هُوَ قَاتِلُ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ السُّمَّ يَقْتُلُ غَالِبًا , أَوْ أَنَّهُ سُمٌّ , بَلْ يَجِبُ عَلَى الْجَارِحِ ضَمَانُ الْجُرْحِ بِالْقِصَاصِ , أَوْ بِالْأَرْشِ حَسَبَ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ , وَالْقِصَاصِ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : لَا قِصَاصَ فِي الْقَتْلِ بِالسُّمِّ مُطْلَقًا , فَإِنْ قَدَّمَ إلَى إنْسَانٍ طَعَامًا مَسْمُومًا فَأَكَلَ مِنْهُ - وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَسْمُومٌ - فَمَاتَ مِنْهُ فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ , فَيُعَزَّرُ بِحَبْسٍ وَنَحْوِهِ , وَإِنْ أَوْجَرَهُ إيجَارًا أَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى تَنَاوُلِهِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي لِأَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِمَا لَا يَجْرَحُ فَكَانَ مِنْ شِبْهِ الْعَمْدِ .
شِعَارٌ التَّعْرِيفُ :
1 - الشِّعَارُ مِنْ الثِّيَابِ هُوَ مَا وَلِيَ جَسَدَ الْإِنْسَانِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنْ الثِّيَابِ . سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمُمَاسَّتِهِ الشَّعْرَ . وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ } . يَصِفُهُمْ بِالْمَوَدَّةِ وَالْقُرْبِ . وَالشِّعَارُ أَيْضًا مَا يُشْعِرُ الْإِنْسَانُ بِهِ نَفْسَهُ فِي الْحَرْبِ , وَشِعَارُ الْعَسَاكِرِ , أَنْ يَسِمُوا لَهَا عَلَامَةً يَنْصِبُونَهَا لِيَعْرِفَ الرَّجُلُ بِهَا رُفْقَتَهُ , وَالشِّعَارُ أَيْضًا عَلَامَةُ الْقَوْمِ فِي الْحَرْبِ وَهُوَ مَا يُنَادَوْنَ بِهِ لِيَعْرِفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا , وَفِي الْحَدِيثِ { أَنَّ شِعَارَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمِتْ أَمِتْ } . وَأَشْعَرَ الْقَوْمُ : نَادَوْا بِشِعَارِهِمْ . وَالشِّعَارُ الْعَلَامَةُ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : وَلَا أَرَى مَشَاعِرَ الْحَجِّ إلَّا مِنْ هَذَا لِأَنَّهَا عَلَامَاتٌ لَهُ . وَالشِّعَارُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ الْعَلَامَةُ الظَّاهِرَةُ الْمُمَيِّزَةُ . وَالشِّعَارُ مِنْ الثِّيَابِ هُوَ مَا يَلِي شَعْرَ الْجَسَدِ وَيَكُونُ تَحْتَ الدِّثَارِ . فَالدِّثَارُ لَا يُلَاقِي الْجَسَدَ وَالشِّعَارُ بِخِلَافِهِ .
( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) :(1/231)
أ - التَّشَبُّهُ بِشِعَارِ الْكُفَّارِ : 2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ التَّشَبُّهَ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي اللِّبَاسِ الَّذِي يُمَيِّزُهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ كَالزُّنَّارِ وَنَحْوِهِ , وَاَلَّذِي هُوَ شِعَارٌ لَهُمْ يَتَمَيَّزُونَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ , يُحْكَمُ بِكُفْرِ فَاعِلِهِ ظَاهِرًا إنْ فَعَلَهُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ , وَكَانَ فِعْلُهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَيْلِ إلَى الْكُفَّارِ , أَيْ : فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا , إلَّا إذَا كَانَ الْفِعْلُ لِضَرُورَةِ الْحَرِّ أَوْ الْبَرْدِ أَوْ الْخَدِيعَةِ فِي الْحَرْبِ أَوْ الْإِكْرَاهِ مِنْ الْعَدُوِّ . فَلَوْ عُلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَبِسَهُ لَا لِاعْتِقَادِ حَقِيقَةِ الْكُفْرِ لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى , وَذَلِكَ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ } . وَلِأَنَّ اللِّبَاسَ الْخَاصَّ بِالْكُفَّارِ عَلَامَةُ الْكُفْرِ , وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْعَلَامَةِ وَالْحُكْمُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ . وَلِمَزِيدٍ مِنْ التَّفْصِيلِ ( ر : تَشَبُّهٌ , ف 4 وَأَلْبِسَةٌ ) .
مَا يَجُوزُ الِاسْتِرْعَاءُ فِيهِ :
47 - قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : يَجُوزُ الِاسْتِرْعَاءُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ التَّطَوُّعِ : كَالطَّلَاقِ , وَالتَّحْبِيسِ وَالْهِبَةِ , قَالَ الْمَالِكِيَّةُ : وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ , وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ السَّبَبُ إلَّا بِقَوْلِهِ , مِثْلَ أَنْ يُشْهِدَ أَنِّي إنْ طَلَّقْت فَإِنِّي أُطَلِّقُ خَوْفًا مِنْ أَمْرٍ أَتَوَقَّعُهُ مِنْ جِهَةِ كَذَا , أَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَكَانَ أَشْهَدَ أَنِّي إنْ حَلَفْت بِالطَّلَاقِ فَإِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ إكْرَاهٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا وَمَا ذَكَرْنَاهُ مَعَهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا مَعْرِفَةُ الشُّهُودِ وَالسَّبَبِ الْمَذْكُورِ . وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِرْعَاءُ فِي الْبُيُوعِ مِثْلَ أَنْ يُشْهِدَ قَبْلَ الْبَيْعِ أَنَّهُ رَاجِعٌ فِي الْبَيْعِ وَأَنَّ بَيْعَهُ لِأَمْرٍ يَتَوَقَّعُهُ ; لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ خِلَافُ مَا تَطَوَّعَ بِهِ . وَقَدْ أَخَذَ الْبَائِعُ فِيهِ ثَمَنًا , وَفِي ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمُبْتَاعِ إلَّا أَنْ يَعْرِفَ الشُّهُودُ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ أَوْ الْإِخَافَةَ فَيَجُوزُ الِاسْتِرْعَاءُ إذَا انْعَقَدَ قَبْلَ الْبَيْعِ وَتَضَمَّنَ الْعَقْدُ شَهَادَةَ مَنْ يَعْرِفُ الْإِخَافَةَ وَالتَّوَقُّعَ الَّذِي ذَكَرَهُ . الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّهْوَةِ : نَقْضُ الْوُضُوءِ بِاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ :(1/232)
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى : أَنَّ لَمْسَ الْمَرْأَةِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ بِشَهْوَةٍ أَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ غَيْرُ نَاقِضٍ لِلْوُضُوءِ , وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إلَى : أَنَّهُ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِمُبَاشَرَةِ فَاحِشَةٍ اسْتِحْسَانًا . وَهِيَ مَسُّ فَرْجٍ أَوْ دُبُرٍ بِذَكَرٍ مُنْتَصِبٍ بِلَا حَائِلٍ يَمْنَعُ حَرَارَةَ الْجَسَدِ , أَوْ مَعَ وُجُودِ حَائِلٍ رَقِيقٍ لَا يَمْنَعُ الْحَرَارَةَ . وَكَمَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُ الرَّجُلِ يُنْتَقَضُ وُضُوءُ الْمَرْأَةِ كَمَا فِي الْقُنْيَةِ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : لَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ إلَّا بِخُرُوجِ الْمَذْيِ , وَهُوَ الْقِيَاسُ . وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ الْفَاحِشَةَ لَا تَخْلُو عَنْ خُرُوجِ الْمَذْيِ غَالِبًا , وَالْغَالِبُ كَالْمُتَحَقِّقِ . وَفِي مَجْمَعِ الْأَنْهُرِ : قَوْلُهُ : ( أَيْ مُحَمَّدٍ ) : أَقْيَسُ , وَقَوْلُهُمَا : أَحْوَطُ . 3 - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى : أَنَّ لَمْسَ الْمُتَوَضِّئِ الْبَالِغِ لِشَخْصٍ يُلْتَذُّ بِمِثْلِهِ عَادَةً - مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى - يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَلَوْ كَانَ الْمَلْمُوسُ غَيْرَ بَالِغٍ , أَوْ كَانَ اللَّمْسُ لِظُفُرٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ مِنْ فَوْقِ حَائِلٍ كَثَوْبٍ , وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَائِلُ خَفِيفًا يُحِسُّ اللَّامِسُ مَعَهُ بِطَرَاوَةِ الْبَدَنِ , أَمْ كَانَ كَثِيفًا , وَتَأَوَّلَهَا بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِالْخَفِيفِ , وَمَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَ الْخَفِيفِ وَالْكَثِيفِ مَا لَمْ يَقْبِضْ , فَإِنْ قَبَضَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْجِسْمِ نُقِضَ اتِّفَاقًا وَمَحَلُّ النَّقْضِ : إنْ قَصَدَ التَّلَذُّذَ بِلَمْسِهِ , وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ لَذَّةٌ حَالَ لَمْسِهِ , أَوْ وَجَدَهَا حَالَ اللَّمْسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لَهَا ابْتِدَاءً . فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ وَلَمْ تَحْصُلْ لَهُ لَذَّةٌ فَلَا نَقْضَ وَلَوْ وَجَدَهَا بَعْدَ اللَّمْسِ . وَالْمَلْمُوسُ - إنْ بَلَغَ وَوَجَدَ اللَّذَّةَ أَوْ قَصَدَهَا - بِأَنْ مَالَتْ نَفْسُهُ لَأَنْ يَلْمِسَهُ غَيْرُهُ فَلَمَسَهُ : اُنْتُقِضَ وُضُوءُهُ ; لِأَنَّهُ صَارَ فِي الْحَقِيقَةِ لَامِسًا وَمَلْمُوسًا , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا فَلَا نَقْضَ , وَلَوْ قَصَدَ وَوَجَدَ . وَأَمَّا الْقُبْلَةُ فِي الْفَمِ فَتَنْقُضُ الْوُضُوءَ مُطْلَقًا , سَوَاءٌ قَصَدَ الْمُقَبِّلُ اللَّذَّةَ أَوْ وَجَدَهَا , أَمْ لَا ; لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ اللَّذَّةِ بِخِلَافِهَا فِي غَيْرِ الْفَمِ . وَسَوَاءٌ فِي النَّقْضِ : الْمُقَبِّلُ وَالْمُقَبَّلُ , وَلَوْ وَقَعَتْ بِإِكْرَاهٍ أَوْ اسْتِغْفَالٍ . وَلَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِلَذَّةٍ مِنْ نَظَرٍ أَوْ فِكْرٍ وَلَوْ أَنْعَظَ , وَلَا بِلَمْسِ صَغِيرَةٍ لَا تُشْتَهَى أَوْ بَهِيمَةٍ . 4 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الْتِقَاءَ بَشَرَتَيْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ , وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِشَهْوَةٍ أَوْ إكْرَاهٍ , أَوْ نِسْيَانٍ , أَوْ يَكُونَ الرَّجُلُ مَمْسُوحَ الذَّكَرِ , أَوْ خَصِيًّا , أَوْ عِنِّينًا , أَوْ الْمَرْأَةُ عَجُوزًا شَوْهَاءَ أَوْ كَافِرَةً . وَاللَّمْسُ عِنْدَهُمْ : الْحِسُّ بِالْيَدِ , وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مَظِنَّةُ ثَوَرَانِ الشَّهْوَةِ , وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ بَاقِي صُوَرِ الِالْتِقَاءِ فَأُلْحِقَتْ بِهِ , بِخِلَافِ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الْفَرْجِ , فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِبَطْنِ الْكَفِّ لِأَنَّ الْمَسَّ إنَّمَا يُثِيرُ الشَّهْوَةَ بِبَطْنِ الْكَفِّ , وَاللَّمْسُ يُثِيرُهَا بِهِ وَبِغَيْرِهِ . وَالْمُرَادُ بِالرَّجُلِ : الذَّكَرُ إذَا بَلَغَ حَدًّا يَشْتَهِي لَا الْبَالِغُ . وَبِالْمَرْأَةِ : الْأُنْثَى إذَا صَارَتْ مُشْتَهَاةً لَا الْبَالِغَةُ . وَلَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِ الْمَحْرَمِ لَهُ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ , وَلَوْ بِشَهْوَةٍ فِي الْأَظْهَرِ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَظِنَّةَ الشَّهْوَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ , كَالرَّجُلِ . وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ لِعُمُومِ قوله تعالى : { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } . وَالْمَلْمُوسُ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً كَاللَّامِسِ فِي نَقْضِ وُضُوئِهِ فِي الْأَظْهَرِ ; لِاسْتِوَائِهِمَا فِي لَذَّةِ اللَّمْسِ . وَلَا نَقْضَ بِلَمْسِ الصَّغِيرَةِ أَوْ الصَّغِيرِ إذَا لَمْ يَبْلُغْ كُلٌّ مِنْهُمَا حَدًّا يُشْتَهَى عُرْفًا . وَلَا بِلَمْسِ الشَّعْرِ أَوْ السِّنِّ أَوْ الظُّفُرِ فِي الْأَصَحِّ . 5 - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى . أَنَّ مِنْ النَّوَاقِضِ لِلْوُضُوءِ مَسُّ بَشَرَةِ الذَّكَرِ بَشَرَةَ أُنْثَى لِشَهْوَةٍ , لقوله تعالى : { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } . وَأَمَّا كَوْنُ اللَّمْسِ لَا يَنْقُضُ إلَّا إذَا كَانَ لِشَهْوَةٍ فَلِلْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْأَخْبَارِ . لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ : { فَقَدْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنْ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْته , فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ } . وَنَصْبُهُمَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي , وَرُوِيَ عَنْهَا أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ : { كُنْت أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه(1/233)
وسلم وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ . غَمَزَنِي فَقَبَضْت رِجْلِي } . وَالظَّاهِرُ أَنَّ غَمْزَهُ رِجْلَيْهَا كَانَ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ . وَلِأَنَّ الْمَسَّ لَيْسَ بِحَدَثٍ فِي نَفْسِهِ , وَإِنَّمَا هُوَ دَاعٍ إلَى الْحَدَثِ , فَاعْتُبِرَتْ الْحَالَةُ الَّتِي يَدْعُو فِيهَا إلَى الْحَدَثِ , وَهِيَ حَالَةُ الشَّهْوَةِ . وَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ مَسُّ بَشَرَتِهَا بَشَرَتَهُ لِشَهْوَةٍ ; لِأَنَّهَا مُلَامَسَةٌ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَاسْتَوَى فِيهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى كَالْجِمَاعِ . وَيُشْتَرَطُ فِي الْمَسِّ النَّاقِضِ لِلْوُضُوءِ : أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ ; لِأَنَّهُ مَعَ الْحَائِلِ لَمْ يَلْمِسْ بَشَرَتَهَا , أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمَسَ ثِيَابَهَا لِشَهْوَةٍ , وَالشَّهْوَةُ لَا تُوجِبُ الْوُضُوءَ بِمُجَرَّدِهَا . وَلَا يَنْقُضُ مَسُّ الرَّجُلِ الطِّفْلَةَ , وَلَا مَسُّ الْمَرْأَةِ الطِّفْلَ . أَيْ : مِنْ دُونِ سَبْعِ سَنَوَاتٍ , وَلَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُ مَلْمُوسِ بَدَنِهِ وَلَوْ وَجَدَ مِنْهُ شَهْوَةً ; لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ . وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : وَيُنْتَقَضُ وُضُوءُ الْمَلْمُوسِ إذَا وُجِدَتْ مِنْهُ الشَّهْوَةُ ; لِأَنَّ مَا يُنْتَقَضُ بِالْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ اللَّامِسِ وَالْمَلْمُوسِ . وَلَا يُنْتَقَضُ وُضُوءٌ بِانْتِشَارِ ذَكَرٍ عَنْ فِكْرٍ وَتَكْرَارِ نَظَرٍ , وَلَا بِلَمْسِ شَعْرٍ وَظُفُرٍ وَسِنٍّ وَلَا الْمَسِّ بِهِ ; لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِلِ , وَلَا مَسِّ عُضْوٍ مَقْطُوعٍ لِزَوَالِ حُرْمَتِهِ , وَلَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُ رَجُلٍ مَسَّ أَمْرَدَ . وَلَوْ بِشَهْوَةٍ , لِعَدَمِ تَنَاوُلِ الْآيَةِ لَهُ . وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلشَّهْوَةِ شَرْعًا . وَلَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ الرَّجُلِ الرَّجُلَ , وَلَا بِمَسِّ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ وَلَوْ بِشَهْوَةٍ . وَتَفْصِيلُ مَا تَقَدَّمَ فِي مُصْطَلَحِ ( وُضُوءٌ ) .
7 - الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ :
الصَّرِيحُ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ , وَالْكِنَايَةُ لَا تَلْزَمُ إلَّا بِنِيَّةٍ : - وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الزَّرْكَشِيّ فِي الْمَنْثُورِ , وَالسُّيُوطِيُّ فِي الْأَشْبَاهِ . وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ : الصَّرِيحُ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ : أَيْ نِيَّةِ الْإِيقَاعِ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لَهُ فَاسْتَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ , وَأَمَّا قَصْدُ اللَّفْظِ فَيُشْتَرَطُ لِتَخْرُجَ مَسْأَلَةُ سَبْقِ اللِّسَانِ . وَمِنْ هَاهُنَا : يَفْتَرِقُ الصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ , فَالصَّرِيحُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَمْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ قَصْدُ اللَّفْظِ , وَالْكِنَايَةُ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَمْرَانِ : قَصْدُ اللَّفْظِ , وَنِيَّةُ الْإِيقَاعِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ : أَنْ يَقْصِدَ حُرُوفَ الطَّلَاقِ لِلْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ , لِيُخْرِجَ : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ . وَيُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِهِمْ الصَّرِيحُ : لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ كَمَا ذَكَرَ السُّيُوطِيّ فِي الْأَشْبَاهِ : قَصْدُ الْمُكْرَهِ إيقَاعَ الطَّلَاقِ , فَإِنَّ فِيهِ وَجْهَيْنِ : أَحَدَهُمَا : لَا يَقَعُ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ سَاقِطٌ بِالْإِكْرَاهِ , وَالنِّيَّةُ لَا تَعْمَلُ وَحْدَهَا . وَالْأَصَحُّ : يَقَعُ لِقَصْدِهِ بِلَفْظِهِ . وَعَلَى هَذَا فَصَرِيحُ لَفْظِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ كِنَايَةٌ إنْ نَوَى وَقَعَ , وَإِلَّا فَلَا . وَيُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِهِمْ : الْكِنَايَةُ تَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ مَا إذَا قِيلَ لَهُ : طَلَّقْتَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ . فَقِيلَ : يَلْزَمُهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَلَاقًا . وَقِيلَ : يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ .
( مُبْطِلَاتُ الصَّلَاةِ ) :(1/234)
أ - ( الْكَلَامُ ) : 107 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ بِالْكَلَامِ ; لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ - رضي الله تعالى عنه - قَالَ : { كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ , يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ وَهُوَ إلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ } وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ - رضي الله تعالى عنه - قَالَ : { بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ , فَقُلْتُ : يَرْحَمُك اللَّهُ . فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ , فَقُلْتُ : وَاثُكْلَ أُمِّيَاهُ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إلَيَّ ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ , فَلَمَّا رَأَيْتهمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ , فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ . فَوَاَللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي , قَالَ : إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ } . وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْمُبْطِلَ لِلصَّلَاةِ مَا انْتَظَمَ مِنْهُ حَرْفَانِ فَصَاعِدًا ; لِأَنَّ الْحَرْفَيْنِ يَكُونَانِ كَلِمَةً كَأَبٍ وَأَخٍ , وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ وَالْحُرُوفُ , وَلَا تَنْتَظِمُ كَلِمَةٌ فِي أَقَلَّ مِنْ حَرْفَيْنِ , قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ : الْحَرْفَانِ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ ; لِأَنَّ أَقَلَّ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ الْكَلَامُ حَرْفَانِ لِلِابْتِدَاءِ وَالْوَقْفِ , أَوْ حَرْفٌ مُفْهِمٌ نَحْوَ " قِ " مِنْ الْوِقَايَةِ , وَ " عِ " مِنْ الْوَعْيِ وَ " فِ " مِنْ الْوَفَاءِ , وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ مَدَّةً بَعْدَ حَرْفٍ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ نَحْوَ " آ " لِأَنَّ الْمَمْدُودَ فِي الْحَقِيقَةِ حَرْفَانِ وَهَذَا عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ . وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ ; لِأَنَّ الْمُدَّةَ قَدْ تَتَّفِقُ لِإِشْبَاعِ الْحَرَكَةِ وَلَا تُعَدُّ حَرْفًا . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْمُبْطِلَ لِلصَّلَاةِ هُوَ حَرْفٌ أَوْ صَوْتٌ سَاذِجٌ , سَوَاءٌ صَدَرَ مِنْ الْمُصَلِّي بِالِاخْتِيَارِ أَمْ بِالْإِكْرَاهِ , وَسَوَاءٌ وَجَبَ عَلَيْهِ هَذَا الصَّوْتُ كَإِنْقَاذِ أَعْمَى أَوْ لَمْ يَجِبْ , وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامَ لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ إلَّا إذَا كَانَ كَثِيرًا , وَكَذَا اسْتَثْنَوْا الْكَلَامَ حَالَةَ السَّهْوِ إذَا كَانَ كَثِيرًا فَإِنَّهُ تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ أَيْضًا . وَلَمْ يُفَرِّقْ الْحَنَفِيَّةُ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالْكَلَامِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي نَاسِيًا أَوْ نَائِمًا أَوْ جَاهِلًا , أَوْ مُخْطِئًا أَوْ مُكْرَهًا , فَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِكَلَامِ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا . قَالُوا : وَأَمَّا حَدِيثُ : { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } . فَمَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ . وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ السَّلَامَ سَاهِيًا لِلتَّحْلِيلِ قَبْلَ إتْمَامِهَا عَلَى ظَنِّ إكْمَالِهَا فَلَا يَفْسُدُ , وَأَمَّا إنْ كَانَ عَمْدًا فَإِنَّهُ مُفْسِدٌ . وَكَذَا نَصُّوا عَلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالسَّلَامِ عَلَى إنْسَانٍ لِلتَّحِيَّةِ , وَإِنْ لَمْ يَقُلْ : عَلَيْكُمْ , وَلَوْ كَانَ سَاهِيًا . وَبِرَدِّ السَّلَامِ بِلِسَانِهِ أَيْضًا . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى عَدَمِ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِكَلَامِ النَّاسِي , وَالْجَاهِلِ بِالتَّحْرِيمِ إنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ بَعِيدًا عَنْ الْعُلَمَاءِ , وَمَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ , إنْ كَانَ الْكَلَامُ يَسِيرًا عُرْفًا , فَيُعْذَرُ بِهِ , وَاسْتَدَلُّوا لِلنَّاسِي بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله تعالى عنه - قَالَ : { صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ فَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ أَتَى خَشَبَةَ الْمَسْجِدِ وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ , فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ : أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ قَالُوا : نَعَمْ . فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ } . وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ : أَنَّهُ تَكَلَّمَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ , وَهُمْ تَكَلَّمُوا مُجَوِّزِينَ النَّسْخَ ثُمَّ بَنَى هُوَ وَهُمْ عَلَيْهَا . وَلَا يُعْذَرُ فِي كَثِيرِ الْكَلَامِ ; لِأَنَّهُ يَقْطَعُ نَظْمَ الصَّلَاةِ وَهَيْئَتَهَا , وَالْقَلِيلُ يُحْتَمَلُ لِقِلَّتِهِ وَلِأَنَّ السَّبْقَ وَالنِّسْيَانَ فِي كَثِيرٍ نَادِرٍ . قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ : وَمَرْجِعُ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ إلَى الْعُرْفِ عَلَى الْأَصَحِّ . وَأَمَّا الْمُكْرَهُ عَلَى الْكَلَامِ فَإِنَّهُ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ عَلَى الْأَظْهَرِ وَلَوْ كَانَ كَلَامُهُ يَسِيرًا ,(1/235)
وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ لَا تَبْطُلُ كَالنَّاسِي . وَأَمَّا إنْ كَانَ كَلَامُهُ كَثِيرًا فَتَبْطُلُ بِهِ جَزْمًا . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِكَلَامِ السَّاهِي وَالْمُكْرَهِ , وَبِالْكَلَامِ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ , وَالْكَلَامِ لِتَحْذِيرِ نَحْوِ ضَرِيرٍ . وَلَا تَبْطُلُ عِنْدَهُمْ بِكَلَامِ النَّائِمِ إذَا كَانَ النَّوْمُ يَسِيرًا , فَإِذَا نَامَ الْمُصَلِّي قَائِمًا أَوْ جَالِسًا , فَتَكَلَّمَ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ , وَكَذَا إذَا سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى لِسَانِهِ حَالَ الْقِرَاءَةِ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ , لِأَنَّهُ مَغْلُوبٌ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غَلِطَ فِي الْقِرَاءَةِ فَأَتَى بِكَلِمَةٍ مِنْ غَيْرِهِ . وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : إنْ تَكَلَّمَ ظَانًّا أَنَّ صَلَاتَهُ تَمَّتْ , فَإِنْ كَانَ سَلَامًا لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ , أَمَّا إنْ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِمَّا تَكْمُلُ بِهِ الصَّلَاةُ أَوْ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ مِثْلَ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَا الْيَدَيْنِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ .
الصَّوْمُ الْمُخْتَلَفُ فِي وُجُوبِهِ , وَيَشْمَلُ مَا يَلِي :(1/236)
الْأَوَّلُ وَهُوَ : قَضَاءُ مَا أَفْسَدَهُ مِنْ صَوْمِ النَّفْلِ 11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ قَضَاءَ نَفْلِ الصَّوْمِ إذَا أَفْسَدَهُ وَاجِبٌ , وَاسْتَدَلَّ لَهُ الْحَنَفِيَّةُ : بِحَدِيثِ { عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها قَالَتْ : كُنْت أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ , فَعُرِضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ , فَأَكَلْنَا مِنْهُ . فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَدَرَتْنِي إلَيْهِ حَفْصَةُ - وَكَانَتْ ابْنَةَ أَبِيهَا - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّا كُنَّا صَائِمَتَيْنِ فَعُرِضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ قَالَ : اقْضِيَا يَوْمًا آخَرَ مَكَانَهُ } . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله تعالى عنه خَرَجَ يَوْمًا عَلَى أَصْحَابِهِ , فَقَالَ : " إنِّي أَصْبَحْت صَائِمًا , فَمَرَّتْ بِي جَارِيَةٌ لِي , فَوَقَعْت عَلَيْهَا , فَمَا تَرَوْنَ ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ : أَصَبْت حَلَالًا , وَتَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ , كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . قَالَ عُمَرُ : أَنْتَ أَحْسَنُهُمْ فُتْيَا . وَلِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ قُرْبَةً , فَيَجِبُ صِيَانَتُهُ وَحِفْظُهُ عَنْ الْبُطْلَانِ , وَقَضَاؤُهُ عِنْدَ الْإِفْسَادِ , لقوله تعالى : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا بِإِتْيَانِ الْبَاقِي , فَيَجِبُ إتْمَامُهُ وَقَضَاؤُهُ عِنْدَ الْإِفْسَادِ ضَرُورَةً , فَصَارَ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ الْمُتَطَوَّعَيْنِ . وَالْحَنَفِيَّةُ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ إذَا فَسَدَ صَوْمُ النَّافِلَةِ عَنْ قَصْدٍ , أَوْ غَيْرِ قَصْدٍ بِأَنْ عَرَضَ الْحَيْضُ لِلصَّائِمَةِ الْمُتَطَوِّعَةِ . وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْإِفْسَادِ نَفْسِهِ , هَلْ يُبَاحُ أَوْ لَا ؟ فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ , أَنَّهُ لَا يُبَاحُ إلَّا بِعُذْرٍ , وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى , هِيَ رِوَايَةُ الْمُنْتَقَى : يُبَاحُ بِلَا عُذْرٍ , وَاسْتَوْجَهَهَا الْكَمَالُ إذْ قَالَ : وَاعْتِقَادِي أَنَّ رِوَايَةَ الْمُنْتَقَى أَوْجَهُ لَكِنْ قُيِّدَتْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مِنْ نِيَّتِهِ الْقَضَاءُ . وَاخْتَلَفُوا - عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ - هَلْ الضِّيَافَةُ عُذْرٌ أَوْ لَا ؟ . قَالَ فِي الدُّرِّ : وَالضِّيَافَةُ عُذْرٌ , إنْ كَانَ صَاحِبُهَا مِمَّنْ لَا يَرْضَى بِمُجَرَّدِ حُضُورِهِ , وَيَتَأَذَّى بِتَرْكِ الْإِفْطَارِ , فَيُفْطِرُ , وَإِلَّا لَا , هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ , حَتَّى لَوْ حَلَفَ عَلَيْهِ رَجُلٍ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ , أَفْطَرَ وَلَوْ كَانَ صَوْمُهُ قَضَاءً , وَلَا يُحَنِّثُهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ . وَقِيلَ : إنْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ يَرْضَى بِمُجَرَّدِ حُضُورِهِ , وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ , لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ . وَإِنْ كَانَ يَتَأَذَّى بِذَلِكَ يُفْطِرُ . وَهَذَا إذَا كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ , أَمَّا بَعْدَهُ فَلَا , إلَّا لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ إلَى الْعَصْرِ , لَا بَعْدَهُ . - وَالْمَالِكِيَّةُ أَوْجَبُوا الْقَضَاءَ بِالْفِطْرِ الْعَمْدِ الْحَرَامِ , احْتِرَازًا عَنْ الْفِطْرِ نِسْيَانًا أَوْ إكْرَاهًا , أَوْ بِسَبَبِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ , أَوْ خَوْفِ مَرَضٍ أَوْ زِيَادَتِهِ , أَوْ شِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ , حَتَّى لَوْ أَفْطَرَ لِحَلِفِ شَخْصٍ عَلَيْهِ بِطَلَاقٍ بَاتٍّ , فَلَا يَجُوزُ الْفِطْرُ , وَإِنْ أَفْطَرَ قَضَى . وَاسْتَثْنَوْا مَا إذَا كَانَ لِفِطْرِهِ وَجْهٌ : - كَأَنْ حَلَفَ بِطَلَاقِهَا , وَيَخْشَى أَنْ لَا يَتْرُكَهَا إنْ حَنِثَ , فَيَجُوزُ الْفِطْرُ وَلَا قَضَاءَ . - أَوْ أَنْ يَأْمُرَهُ أَبُوهُ أَوْ أُمُّهُ بِالْفِطْرِ , حَنَانًا وَإِشْفَاقًا عَلَيْهِ مِنْ إدَامَةِ الصَّوْمِ , فَيَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ , وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ . - أَوْ يَأْمُرُهُ أُسْتَاذُهُ أَوْ مُرَبِّيهِ بِالْإِفْطَارِ , وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ الْوَالِدَانِ أَوْ الشَّيْخُ . 12 - وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ , لَا يُوجِبُونَ إتْمَامَ نَافِلَةِ الصَّوْمِ , وَلَا يُوجِبُونَ قَضَاءَهَا إنْ فَسَدَتْ , وَذَلِكَ : - { لِقَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها يَا رَسُولَ اللَّهِ , أُهْدِيَ إلَيْنَا حَيْسٌ فَقَالَ : أَرِنِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْت صَائِمًا . فَأَكَلَ } وَزَادَ النَّسَائِيُّ : { إنَّمَا مِثْلُ صَوْمِ الْمُتَطَوِّعِ مِثْلُ الرَّجُلِ يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ الصَّدَقَةَ , فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَا , وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهَا } . وَلِحَدِيثِ { أُمِّ هَانِئٍ رضي الله تعالى عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا , فَدَعَا بِشَرَابٍ فَشَرِبَ , ثُمَّ نَاوَلَهَا فَشَرِبَتْ , فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَمَا إنِّي كُنْت صَائِمَةً , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِينُ نَفْسِهِ , إنْ شَاءَ صَامَ , وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ } وَفِي رِوَايَةٍ : { أَمِيرُ نَفْسِهِ } . وَلِحَدِيثِ { أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله تعالى عنه قَالَ : صَنَعْت لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا , فَأَتَانِي هُوَ وَأَصْحَابُهُ , فَلَمَّا وُضِعَ الطَّعَامُ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : إنِّي صَائِمٌ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : دَعَاكُمْ أَخُوكُمْ , وَتَكَلَّفَ لَكُمْ . ثُمَّ(1/237)
قَالَ لَهُ : أَفْطِرْ , وَصُمْ مَكَانَهُ يَوْمًا إنْ شِئْت } . وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ يَتْبَعُ الْمَقْضِيَّ عَنْهُ , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا , لَمْ يَكُنْ الْقَضَاءُ وَاجِبًا , بَلْ يُسْتَحَبُّ . وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي نَافِلَةِ صَوْمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِتْمَامُ , لَكِنْ يُسْتَحَبُّ , وَلَا كَرَاهَةَ وَلَا قَضَاءَ فِي قَطْعِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ مَعَ الْعُذْرِ . أَمَّا مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ فَيُكْرَهُ , لقوله تعالى : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } وَمِنْ الْعُذْرِ أَنْ يَعِزَّ عَلَى مَنْ ضَيَّفَهُ امْتِنَاعُهُ مِنْ الْأَكْلِ . وَإِذَا أَفْطَرَ فَإِنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى مَا مَضَى إنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ , وَإِلَّا أُثِيبَ . الثَّانِي : صَوْمُ الِاعْتِكَافِ , وَفِيهِ خِلَافٌ , وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( اعْتِكَافٌ ج 5 ف 17 ) .
مُفْسِدَاتُ الصَّوْمِ :(1/238)
37 - يَفْسُدُ الصَّوْمُ - بِوَجْهٍ عَامٍّ - كُلَّمَا انْتَفَى شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِهِ , أَوْ اخْتَلَّ أَحَدُ أَرْكَانِهِ , كَالرِّدَّةِ , وَكَطُرُوءِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ , وَكُلُّ مَا يُنَافِيهِ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَنَحْوِهِمَا , وَدُخُولِ شَيْءٍ مِنْ خَارِجِ الْبَدَنِ إلَى جَوْفِ الصَّائِمِ . 38 - وَيُشْتَرَطُ فِي فَسَادِ الصَّوْمِ بِمَا يَدْخُلُ إلَى الْجَوْفِ مَا يَلِي : - أ - أَنْ يَكُونَ الدَّاخِلُ إلَى الْجَوْفِ , مِنْ الْمَنَافِذِ الْوَاسِعَةِ - كَمَا قَيَّدَهُ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ - وَالْمَفْتُوحَةِ - كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ - أَيْ : الْمَخَارِقُ الطَّبِيعِيَّةُ الْأَصْلِيَّةُ فِي الْجِسْمِ , وَاَلَّتِي تُعْتَبَرُ مُوَصِّلَةً لِلْمَادَّةِ مِنْ الْخَارِجِ إلَى الدَّاخِلِ , كَالْفَمِ وَالْأَنْفِ وَالْأُذُنِ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ لِذَلِكَ , بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ مَنْ اغْتَسَلَ فِي مَاءٍ , فَوَجَدَ بَرْدَهُ فِي بَاطِنِهِ لَا يُفْطِرُ , وَمَنْ طَلَى بَطْنَهُ بِدُهْنٍ لَا يَضُرُّ , لِأَنَّ وُصُولَهُ إلَى الْجَوْفِ بِتَشَرُّبٍ . وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ , بَلْ اكْتَفَوْا بِتَحَقُّقِ وُصُولِهِ إلَى الْحَلْقِ وَالْجَوْفِ , وَالدِّمَاغُ جَوْفٌ . ب - أَنْ يَكُونَ الدَّاخِلُ إلَى الْجَوْفِ مِمَّا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ , كَدُخُولِ الْمَطَرِ وَالثَّلْجِ بِنَفْسِهِ حَلْقَ الصَّائِمِ إذَا لَمْ يَبْتَلِعْهُ بِصُنْعِهِ , فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ - كَالذُّبَابِ يَطِيرُ إلَى الْحَلْقِ , وَغُبَارُ الطَّرِيقِ - لَمْ يُفْطِرْ إجْمَاعًا . وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ , وَالْقِيَاسُ : الْفَسَادُ , لِوُصُولِ الْمُفْطِرِ إلَى جَوْفِهِ . وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ , أَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ , فَأَشْبَهَ الدُّخَانَ . وَالْجَوْفُ هُوَ : الْبَاطِنُ , سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُحِيلُ الْغِذَاءَ وَالدَّوَاءَ , أَيْ يُغَيِّرُهُمَا كَالْبَطْنِ وَالْأَمْعَاءِ , أَمْ كَانَ مِمَّا يُحِيلُ الدَّوَاءَ فَقَطْ كَبَاطِنِ الرَّأْسِ أَوْ الْأُذُنِ , أَمْ كَانَ مِمَّا لَا يُحِيلُ شَيْئًا كَبَاطِنِ الْحَلْقِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : جَعَلُوا الْحَلْقَ كَالْجَوْفِ , فِي بُطْلَانِ الصَّوْمِ بِوُصُولِ الْوَاصِلِ إلَيْهِ , وَقَالَ الْإِمَامُ : إذَا جَاوَزَ الشَّيْءُ الْحُلْقُومَ أَفْطَرَ . قَالَ : وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا : بَاطِنُ الدِّمَاغِ وَالْأَمْعَاءُ وَالْمَثَانَةُ مِمَّا يُفْطِرُ الْوُصُولُ إلَيْهِ . ج - وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الدَّاخِلُ إلَى الْجَوْفِ مُغَذِّيًا , فَيَفْسُدُ الصَّوْمُ بِالدَّاخِلِ إلَى الْجَوْفِ , مِمَّا يُغَذِّي أَوْ لَا يُغَذِّي , كَابْتِلَاعِ التُّرَابِ وَنَحْوِهِ , وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ , قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : وَتَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ , أَنَّهُ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَمَّا يَصِلُ إلَى الْحَلْقِ , مِنْ أَيِّ الْمَنَافِذِ وَصَلَ , مُغَذِّيًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُغَذٍّ . د - وَشُرِطَ كَوْنُ الصَّائِمِ قَاصِدًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ , أَمَّا لَوْ كَانَ نَاسِيًا أَنَّهُ صَائِمٌ , فَلَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , وَذَلِكَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ , فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ , فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ , فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ } . وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْفَرْضُ وَالنَّفَلُ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ . وَخَالَفَ مَالِكٌ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ فَذَهَبَ إلَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ فِي رَمَضَانَ , فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ , عَلَيْهِ الْقَضَاءُ , أَمَّا لَوْ نَسِيَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ , فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ , فَإِنَّهُ يُتِمُّ صَوْمَهُ , وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ . هـ وَشَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ اسْتِقْرَارَ الْمَادَّةِ فِي الْجَوْفِ , وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ الْحَصَاةَ - مَثَلًا - تَشْغَلُ الْمَعِدَةَ شُغْلًا مَا وَتُنْقِصُ الْجُوعَ . وَلَمْ يَشْتَرِطْ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ اسْتِقْرَارَ الْمَادَّةِ فِي الْجَوْفِ إذَا كَانَ بِاخْتِيَارِهِ . وَعَلَى قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ : لَوْ لَمْ تَسْتَقِرَّ الْمَادَّةُ , بِأَنْ خَرَجَتْ مِنْ الْجَوْفِ لِسَاعَتِهَا لَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ , كَمَا لَوْ أَصَابَتْهُ سِهَامٌ فَاخْتَرَقَتْ بَطْنَهُ وَنَفَذَتْ مِنْ ظَهْرِهِ , وَلَوْ بَقِيَ النَّصْلُ فِي جَوْفِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ , وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ يَفْسُدُ صَوْمُهُ , قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَلَوْ كَانَ بَعْضُ السِّكِّينِ خَارِجًا . و - وَشَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ , أَنْ يَكُونَ الصَّائِمُ مُخْتَارًا فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ , مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ دَوَاءٍ , فَلَوْ أُوْجَرَ الْمَاءُ , أَوْ صُبَّ الدَّوَاءُ فِي حَلْقِهِ مُكْرَهًا , لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ عِنْدَهُمْ , لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ وَلَمْ يَقْصِدْ . وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِفْطَارِ , فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ , فَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فِي الْفِطْرِ وَعَدَمِهِ . أَصَحُّهُمَا : عَدَمُ الْفِطْرِ , وَعَلَّلُوا عَدَمَ الْإِفْطَارِ بِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَى اخْتِيَارِهِ سَاقِطٌ , لِعَدَمِ(1/239)
وُجُودِ الِاخْتِيَارِ . وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ : أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ قَوْلًا وَاحِدًا , وَهُوَ كَالْإِيجَارِ , وَذَلِكَ لِحَدِيثِ { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } . فَإِنَّهُ عَامٌّ . وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ : أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْإِفْطَارِ يُفْسِدُ الصَّوْمَ , وَيَسْتَوْجِبُ الْقَضَاءَ , وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ حَدِيثِ { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ , وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } رَفْعُ الْحُكْمِ , لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ اقْتِضَاءً , وَالْمُقْتَضِي لَا عُمُومَ لَهُ , وَالْإِثْمُ مُرَادٌ إجْمَاعًا , فَلَا تَصِحُّ إرَادَةُ الْحُكْمِ الْآخَرِ - وَهُوَ الدُّنْيَوِيُّ - بِالْفَسَادِ .
خَامِسًا : عَوَارِضُ الْإِفْطَارِ :(1/240)
55 - الْمُرَادُ بِالْعَوَارِضِ : مَا يُبِيحُ عَدَمَ الصَّوْمِ . وَهِيَ : الْمَرَضُ , وَالسَّفَرُ , وَالْحَمْلُ , وَالرَّضَاعُ , وَالْهَرَمُ , وَإِرْهَاقُ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ , وَالْإِكْرَاهُ . أَوَّلًا : ( الْمَرَضُ ) : 56 - الْمَرَضُ هُوَ : كُلُّ مَا خَرَجَ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ حَدِّ الصِّحَّةِ مِنْ عِلَّةٍ . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إبَاحَةِ الْفِطْرِ لِلْمَرِيضِ فِي الْجُمْلَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } . وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله تعالى عنه قَالَ : " لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ , يُفْطِرُ وَيَفْتَدِي , حَتَّى أُنْزِلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا يَعْنِي قوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ , هُدًى لِلنَّاسِ , وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ , فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ , وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فَنَسَخَتْهَا . فَالْمَرِيضُ الَّذِي يَخَافُ زِيَادَةَ مَرَضِهِ بِالصَّوْمِ أَوْ إبْطَاءَ الْبُرْءِ أَوْ فَسَادَ عُضْوٍ , لَهُ أَنْ يُفْطِرَ , بَلْ يُسَنُّ فِطْرُهُ , وَيُكْرَهُ إتْمَامُهُ , لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ , فَيَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ . ثُمَّ إنَّ شِدَّةَ الْمَرَضِ تُجِيزُ الْفِطْرَ لِلْمَرِيضِ . أَمَّا الصَّحِيحُ إذَا خَافَ الشِّدَّةَ أَوْ التَّعَبَ , فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ , إذَا حَصَلَ لَهُ بِالصَّوْمِ مُجَرَّدُ شِدَّةِ تَعَبٍ , هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ فِطْرِهِ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إذَا خَافَ الصَّحِيحُ الْمَرَضَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ فَلَهُ الْفِطْرُ , فَإِنْ خَافَهُ بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ , فَلَيْسَ لَهُ الْفِطْرُ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : إذَا خَافَ حُصُولَ أَصْلِ الْمَرَضِ بِصَوْمِهِ , فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ - عَلَى الْمَشْهُورِ - إذْ لَعَلَّهُ لَا يَنْزِلُ بِهِ الْمَرَضُ إذَا صَامَ . وَقِيلَ : يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ . فَإِنْ خَافَ كُلٌّ مِنْ الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ بِصَوْمِهِ , وَجَبَ الْفِطْرُ . وَكَذَا لَوْ خَافَ أَذًى شَدِيدًا , كَتَعْطِيلِ مَنْفَعَةٍ , مِنْ سَمْعٍ أَوْ بَصَرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا , لِأَنَّ حِفْظَ النَّفْسِ وَالْمَنَافِعِ وَاجِبٌ , وَهَذَا بِخِلَافِ الْجَهْدِ الشَّدِيدِ , فَإِنَّهُ يُبِيحُ الْفِطْرَ لِلْمَرِيضِ , قِيلَ : وَالصَّحِيحِ أَيْضًا . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : إنَّ الْمَرِيضَ - وَإِنْ تَعَدَّى بِفِعْلِ مَا أَمْرَضَهُ - يُبَاحُ لَهُ تَرْكُ الصَّوْمِ , إذَا وَجَدَ بِهِ ضَرَرًا شَدِيدًا , لَكِنَّهُمْ شَرَطُوا لِجَوَازِ فِطْرِهِ نِيَّةَ التَّرَخُّصِ - كَمَا قَالَ الرَّمْلِيُّ وَاعْتَمَدَهُ - وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمَرَضِ الْمُطْبَقِ , وَبَيْنَ الْمَرَضِ الْمُتَقَطِّعِ : فَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ مُطْبَقًا , فَلَهُ تَرْكُ النِّيَّةِ فِي اللَّيْلِ . وَإِنْ كَانَ يُحَمُّ وَيَنْقَطِعُ , نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ مَحْمُومًا وَقْتَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ , فَلَهُ تَرْكُ النِّيَّةِ , وَإِلَّا فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ مِنْ اللَّيْلِ , فَإِنْ احْتَاجَ إلَى الْإِفْطَارِ أَفْطَرَ . وَمِثْلُ ذَلِكَ الْحَصَادُ وَالْبِنَاءُ وَالْحَارِسُ - وَلَوْ مُتَبَرِّعًا - فَتَجِبُ عَلَيْهِمْ النِّيَّةُ لَيْلًا , ثُمَّ إنْ لَحِقَتْهُمْ مَشَقَّةٌ أَفْطَرُوا . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى حَالَةٍ لَا يُمْكِنُهُ فِيهَا الصَّوْمُ , بَلْ قَالَ أَصْحَابُنَا : شَرْطُ إبَاحَةِ الْفِطْرِ أَنْ يَلْحَقَهُ بِالصَّوْمِ مَشَقَّةٌ يَشُقُّ احْتِمَالُهَا , وَأَمَّا الْمَرَضُ الْيَسِيرُ الَّذِي لَا يَلْحَقُ بِهِ مَشَقَّةٌ ظَاهِرُهُ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْفِطْرُ , بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا , خِلَافًا لِأَهْلِ الظَّاهِرِ . وَخَوْفُ الضَّرَرِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , أَمَّا خَوْفُ التَّلَفِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الصَّوْمَ مَكْرُوهًا , وَجَزَمَ جَمَاعَةٌ بِحُرْمَتِهِ , وَلَا خِلَافَ فِي الْإِجْزَاءِ , لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ , كَمَا لَوْ أَتَمَّ الْمُسَافِرُ . قَالُوا : وَلَوْ تَحَمَّلَ الْمَرِيضُ الضَّرَرَ , وَصَامَ مَعَهُ , فَقَدْ فَعَلَ مَكْرُوهًا , لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ , وَتَرْكِهِ تَخْفِيفًا مِنْ اللَّهِ وَقَبُولَ رُخْصَتِهِ , لَكِنْ يَصِحُّ صَوْمُهُ وَيُجْزِئُهُ , لِأَنَّهُ عَزِيمَةٌ أُبِيحَ تَرْكُهَا رُخْصَةً , فَإِذَا تَحَمَّلَهُ أَجْزَأَهُ , لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ , كَمَا أَتَمَّ الْمُسَافِرُ , وَكَالْمَرِيضِ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ تَرْكُ الْجُمُعَةِ , إذَا حَضَرَهَا . قَالَ فِي الْمُبْدِعِ : فَلَوْ خَافَ تَلَفًا بِصَوْمِهِ , كُرِهَ , وَجَزَمَ جَمَاعَةٌ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ . وَلَمْ يَذْكُرُوا خِلَافًا فِي الْإِجْزَاءِ . وَلَخَصَّ ابْنُ جُزَيٍّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ أَحْوَالَ الْمَرِيضِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّوْمِ , وَقَالَ : لِلْمَرِيضِ أَحْوَالٌ : الْأُولَى : أَنْ(1/241)
لَا يَقْدِرَ عَلَى الصَّوْمِ أَوْ يَخَافَ الْهَلَاكَ مِنْ الْمَرَضِ أَوْ الضَّعْفَ إنْ صَامَ , فَالْفِطْرُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ . الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الصَّوْمِ بِمَشَقَّةٍ , فَالْفِطْرُ لَهُ جَائِزٌ , وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : مُسْتَحَبٌّ . الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقْدِرَ بِمَشَقَّةٍ , وَيَخَافُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ , فَفِي وُجُوبِ فِطْرِهِ قَوْلَانِ . الرَّابِعَةُ : أَنْ لَا يَشُقَّ عَلَيْهِ , وَلَا يَخَافُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ , فَلَا يُفْطِرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , خِلَافًا لِابْنِ سِيرِينَ . وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَصْبَحَ الصَّحِيحُ صَائِمًا , ثُمَّ مَرِضَ , جَازَ لَهُ الْفِطْرُ بِلَا خِلَافٍ , لِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ لِلضَّرُورَةِ , وَالضَّرُورَةُ مَوْجُودَةٌ , فَجَازَ لَهُ الْفِطْرُ .
سَادِسًا : الْإِكْرَاهُ :
66 - الْإِكْرَاهُ : حَمْلُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ , عَلَى فِعْلِ أَوْ تَرْكِ مَا لَا يَرْضَاهُ بِالْوَعِيدِ . وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ , أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْفِطْرِ فَأَفْطَرَ قَضَى . قَالُوا : إذَا أُكْرِهَ الصَّائِمُ بِالْقَتْلِ عَلَى الْفِطْرِ , بِتَنَاوُلِ الطَّعَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ , وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ , فَمُرَخَّصٌ لَهُ بِهِ , وَالصَّوْمُ أَفْضَلُ , حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِفْطَارِ حَتَّى قُتِلَ , يُثَابُ عَلَيْهِ , لِأَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ , وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي الْإِكْرَاهِ هُوَ سُقُوطُ الْمَأْثَمِ بِالتَّرْكِ , لَا فِي سُقُوطِ الْوُجُوبِ , بَلْ بَقِيَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا , وَالتَّرْكُ حَرَامًا , وَإِذَا كَانَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا , وَالتَّرْكُ حَرَامًا , كَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى قَائِمًا , فَهُوَ بِالِامْتِنَاعِ بَذَلَ نَفْسَهُ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى , طَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ , فَكَانَ مُجَاهِدًا فِي دِينِهِ , فَيُثَابُ عَلَيْهِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا , فَالْإِكْرَاهُ - كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ - حِينَئِذٍ مُبِيحٌ مُطْلَقٌ , فِي حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمَا , بَلْ مُوجِبٌ , وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْإِفْطَارُ , بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ , وَلَا يَسَعُهُ أَنْ لَا يُفْطِرَ , حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ , فَقُتِلَ , يَأْثَمُ . وَوَجْهُ الْفَرْقِ : أَنَّ فِي الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ كَانَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا قَبْلَ الْإِكْرَاهِ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةِ التَّرْكِ أَصْلًا , فَإِذَا جَاءَ الْإِكْرَاهُ - وَهُوَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الرُّخْصَةِ - كَانَ أَثَرُهُ فِي إثْبَاتِ رُخْصَةِ التَّرْكِ , لَا فِي إسْقَاطِ الْوُجُوبِ . وَأَمَّا فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ , فَالْوُجُوبُ مَعَ رُخْصَةِ التَّرْكِ , كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْإِكْرَاهِ , فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِلْإِكْرَاهِ أَثَرٌ آخَرُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا قَبْلَهُ , وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا إسْقَاطُ الْوُجُوبِ رَأْسًا , وَإِثْبَاتُ الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ , فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ , وَهُنَاكَ يُبَاحُ لَهُ الْأَكْلُ , بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ , فَكَذَا هُنَا . وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ , وَبَيْنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْوَطْءِ : فَقَالُوا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْأَكْلِ : لَوْ أُكْرِهَ حَتَّى أَكَلَ أَوْ شَرِبَ لَمْ يُفْطِرْ , كَمَا لَوْ أَوْجَرَ فِي حَلْقِهِ مُكْرَهًا , لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَى اخْتِيَارِهِ سَاقِطٌ لِعَدَمِ وُجُودِ الِاخْتِيَارِ . أَمَّا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْوَطْءِ زِنًى , فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ , فَيُفْطِرُ بِهِ , بِخِلَافِ وَطْءِ زَوْجَتِهِ . وَاعْتَمَدَ الْعَزِيزِيُّ الْإِطْلَاقَ , وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ عَدَمَ الْإِفْطَارِ , لِشُبْهَةِ الْإِكْرَاهِ , عَلَى الْوَطْءِ , وَالْحُرْمَةُ مِنْ جِهَةِ الْوَطْءِ , فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِفْطَارِ مُطْلَقًا بِالْوَطْءِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ , إذَا فَعَلَهُ الْمُكْرَهُ لَا يُفْطِرُ بِهِ , وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إلَّا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِفْطَارِ بِالزِّنَى , فَإِنَّ فِيهِ وَجْهًا بِالْإِفْطَارِ وَالْقَضَاءِ عِنْدَهُمْ . وَهَذَا الْإِطْلَاقُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا : فَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْفِعْلِ , أَوْ فُعِلَ بِهِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ , بِأَنْ صُبَّ فِي حَلْقِهِ , مُكْرَهًا أَوْ نَائِمًا , كَمَا لَوْ أُوجِرَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ مُعَالَجَةً , لَا يُفْطِرُ , وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ , لِحَدِيثِ : { وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } . مُلْحَقَاتٌ بِالْعَوَارِضِ 67 - يُمْكِنُ إلْحَاقُ مَا يَلِي , مِنْ الْأَعْذَارِ , بِالْعَوَارِضِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ , وَأَقَرُّوهَا وَأَفْرَدُوا لَهَا أَحْكَامًا كُلَّمَا عَرَضَتْ فِي الصَّوْمِ , كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْإِغْمَاءِ وَالْجُنُونِ وَالسُّكْرِ وَالنَّوْمِ وَالرِّدَّةِ وَالْغَفْلَةِ . وَأَحْكَامُهُمَا تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا .
مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَيُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ :(1/242)
أَوَّلًا : الْجِمَاعُ عَمْدًا : 68 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ جِمَاعَ الصَّائِمِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا مُخْتَارًا بِأَنْ يَلْتَقِيَ الْخِتَانَانِ وَتَغِيبَ الْحَشَفَةُ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ مُفْطِرٌ يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ , أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ . وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ , لِأَنَّ الْخَلَلَ انْجَبَرَ بِالْكَفَّارَةِ . وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لَهُمْ : إنْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ دَخَلَ فِيهِ الْقَضَاءُ , وَإِلَّا فَلَا يَدْخُلُ فَيَجِبُ الْقَضَاءُ . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : إذَا جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ - بِلَا عُذْرٍ - آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَهُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا أَنْزَلَ أَمْ لَا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ , عَامِدًا كَانَ أَوْ سَاهِيًا , أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُخْطِئًا , مُخْتَارًا أَوْ مُكْرَهًا , وَهَذَا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه قَالَ : { بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , هَلَكْت , قَالَ : مَا لَك ؟ قَالَ : وَقَعْت عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَهَلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَمَكَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ , أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ , قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ ؟ فَقَالَ : أَنَا , قَالَ : خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ , فَقَالَ الرَّجُلُ : عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ , فَوَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا - يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ - أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي , فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ , ثُمَّ قَالَ : أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ } . وَلَا خِلَافَ فِي فَسَادِ صَوْمِ الْمَرْأَةِ بِالْجِمَاعِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْمُفْطِرَاتِ , فَاسْتَوَى فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ . وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا : فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ , وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَهِيَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا أَيْضًا , لِأَنَّهَا هَتَكَتْ صَوْمَ رَمَضَانَ بِالْجِمَاعِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهَا كَالرَّجُلِ . وَعَلَّلَ الْحَنَفِيَّةُ وُجُوبَهَا عَلَيْهَا , بِأَنَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ هُوَ جِنَايَةُ الْإِفْسَادِ , لَا نَفْسُ الْوِقَاعِ , وَقَدْ شَارَكَتْهُ فِيهَا , وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي الْجِنَايَةِ , وَالْبَيَانُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ بَيَانٌ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ , فَقَدْ وُجِدَ فَسَادُ صَوْمِ رَمَضَانَ بِإِفْطَارٍ كَامِلٍ حَرَامٍ مَحْضٍ مُتَعَمَّدٍ , فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ , وَلَا يَتَحَمَّلُ الرَّجُلُ عَنْهَا ; لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَادَةٌ أَوْ عُقُوبَةٌ , وَلَا يَجْرِي فِيهَا التَّحَمُّلُ . وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ , وَرِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ : أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا , لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْوَاطِئَ فِي رَمَضَانَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً , وَلَمْ يَأْمُرْ الْمَرْأَةَ بِشَيْءٍ , مَعَ عِلْمِهِ بِوُجُودِ ذَلِكَ مِنْهَا . وَلِأَنَّ الْجِمَاعَ فِعْلُهُ , وَإِنَّمَا هِيَ مَحَلُّ الْفِعْلِ . وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ : تَجِبُ , وَيَتَحَمَّلُهَا الرَّجُلُ . وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ : أَنَّ الزَّوْجَ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عَنْهُمَا , وَضَعَّفَهَا بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّدَاخُلِ . وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ : إنْ أُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ حَتَّى مَكَّنَتْ الرَّجُلَ مِنْهَا لَزِمَتْهَا الْكَفَّارَةُ , وَإِنْ غُصِبَتْ أَوْ أُتِيَتْ نَائِمَةً فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا . ثَانِيًا : الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ عَمْدًا : 69 - مِمَّا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ , عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ : الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ . فَإِذَا أَكَلَ الصَّائِمُ , فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ أَوْ شَرِبَ غِذَاءً أَوْ دَوَاءً , طَائِعًا عَامِدًا , بِغَيْرِ خَطَأٍ وَلَا إكْرَاهٍ وَلَا نِسْيَانٍ , أَفْطَرَ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ . وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : وُصُولُ مَا فِيهِ صَلَاحُ بَدَنِهِ لِجَوْفِهِ , بِأَنْ يَكُونَ مِمَّا يُؤْكَلُ عَادَةً عَلَى قَصْدِ التَّغَذِّي أَوْ التَّدَاوِي أَوْ التَّلَذُّذِ , أَوْ مِمَّا يَمِيلُ إلَيْهِ الطَّبْعُ , وَتَنْقَضِي بِهِ شَهْوَةُ الْبَطْنِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ , بَلْ ضَرَرُهُ . وَشَرَطُوا أَيْضًا لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ : أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ لَيْلًا , وَأَنْ لَا يَكُونَ مُكْرَهًا , وَأَنْ لَا يَطْرَأَ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ , كَمَرَضٍ وَحَيْضٍ . وَشَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ : أَنْ يَكُونَ إفْسَادُ صَوْمِ رَمَضَانَ خَاصَّةً , عَمْدًا قَصْدًا لِانْتِهَاكِ حُرْمَةِ الصَّوْمِ , مِنْ غَيْرِ(1/243)
سَبَبٍ مُبِيحٍ لِلْفِطْرِ . وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي شُرْبِ الدُّخَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَضَرَّ الْبَدَنَ , لَكِنْ تَمِيلُ إلَيْهِ بَعْضُ الطِّبَاعِ , وَتَنْقَضِي بِهِ شَهْوَةُ الْبَطْنِ , يُضَافُ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُ مُفْتِرٌ وَحَرَامٌ , لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله تعالى عنها - قَالَتْ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفْتِرٍ } . وَدَلِيلُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ عَمْدًا , مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله تعالى عنه - : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ , أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ , أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا } فَإِنَّهُ عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ بِالْإِفْطَارِ , وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ وَاقِعَةَ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا , لَكِنَّهَا عُلِّقَتْ بِالْإِفْطَارِ , لَا بِاعْتِبَارِ خُصُوصِ الْإِفْطَارِ وَلَفْظُ الرَّاوِي عَامٌّ , فَاعْتُبِرَ , كَقَوْلِهِ : { قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ } . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَدَاءً , وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّصَّ - وَهُوَ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ - وَرَدَ فِي الْجِمَاعِ , وَمَا عَدَاهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ . وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِهَذَا , وَلَا إجْمَاعَ . وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْجِمَاعِ ; لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الزَّجْرِ عَنْهُ أَمَسُّ , وَالْحِكْمَةُ فِي التَّعَدِّي بِهِ آكَدُ , وَلِهَذَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ إذَا كَانَ مُحَرَّمًا . ثَالِثًا : ( رَفْعُ النِّيَّةِ ) : 70 - وَمِمَّا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , مَا لَوْ تَعَمَّدَ رَفْعَ النِّيَّةِ نَهَارًا , كَأَنْ يَقُولَ - وَهُوَ صَائِمٌ : رَفَعْت نِيَّةَ صَوْمِي , أَوْ يَقُولَ رَفَعْت نِيَّتِي . وَأَوْلَى مِنْ ذَلِكَ , رَفْعُ النِّيَّةِ فِي اللَّيْلِ , كَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ , لِأَنَّهُ رَفَعَهَا فِي مَحَلّهَا فَلَمْ تَقَعْ النِّيَّةُ فِي مَحَلِّهَا . وَكَذَلِكَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالْإِصْبَاحِ بِنِيَّةِ الْفِطْرِ , وَلَوْ نَوَى الصِّيَامَ بَعْدَهُ , عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا يَقُولُ ابْنُ جُزَيٍّ . أَمَّا إنْ عَلَّقَ الْفِطْرَ عَلَى شَيْءٍ , كَأَنْ يَقُولَ : إنْ وَجَدْت طَعَامًا أَكَلْت فَلَمْ يَجِدْهُ , أَوْ وَجَدَهُ وَلَمْ يُفْطِرْ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ . أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ بِتَرْكِ النِّيَّةِ دُونَ الْكَفَّارَةِ . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَفِي الْوَجْهِ الْآخَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ .
رَابِعًا : الْإِمْسَاكُ لِحُرْمَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ :(1/244)
91 - مِنْ لَوَازِمِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ : الْإِمْسَاكُ لِحُرْمَةِ الشَّهْرِ , قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ رَمَضَانَ , كَالْكَفَّارَةِ , فَلَا إمْسَاكَ عَلَى مُتَعَدٍّ بِالْفِطْرِ , وَفِي نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ وَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ وَتَفْرِيعٌ فِي الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ : فَالْحَنَفِيَّةُ وَضَعُوا أَصْلَيْنِ لِهَذَا الْإِمْسَاكِ : أَوَّلُهُمَا : أَنَّ كُلَّ مَنْ صَارَ فِي آخِرِ النَّهَارِ بِصِفَةٍ , لَوْ كَانَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ عَلَيْهَا لَلَزِمَهُ الصَّوْمُ , فَعَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ . ثَانِيهِمَا : كُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ , لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَالْأَهْلِيَّةِ , ثُمَّ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ , بِأَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا , أَوْ أَصْبَحَ يَوْمَ الشَّكِّ مُفْطِرًا , ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ , أَوْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ , ثُمَّ تَبَيَّنَ طُلُوعُهُ , فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ تَشَبُّهًا عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّ الْفِطْرَ قَبِيحٌ , وَتَرْكُ الْقَبِيحِ وَاجِبٌ شَرْعًا , وَقِيلَ : يُسْتَحَبُّ . وَأَجْمَعَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ هَذَا الْإِمْسَاكُ . وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ عَمْدًا , أَوْ خَطَأً , أَوْ أَفْطَرَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ , وَكَذَا عَلَى مُسَافِرٍ أَقَامَ , وَحَائِضٍ وَنُفَسَاءَ طَهُرَتَا , وَمَجْنُونٍ أَفَاقَ , وَمَرِيضٍ صَحَّ , وَمُفْطِرٍ وَلَوْ مُكْرَهًا أَوْ خَطَأً , وَصَبِيٍّ بَلَغَ , وَكَافِرٍ أَسْلَمَ . وَقَالَ ابْنُ جُزَيٍّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : وَأَمَّا إمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ , فَيُؤْمَرُ بِهِ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ خَاصَّةً , عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا , لَا مَنْ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ مُبِيحٍ ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ مَعَ الْعِلْمِ بِرَمَضَانَ , فَإِنَّهُ لَا يُنْدَبُ لَهُ الْإِمْسَاكُ , كَمَنْ اُضْطُرَّ لِلْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ , مِنْ شِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ فَأَفْطَرَ , وَكَحَائِضٍ وَنُفَسَاءَ طَهُرَتَا نَهَارًا , وَمَرِيضٍ صَحَّ نَهَارًا , وَمُرْضِعٍ مَاتَ وَلَدُهَا , وَمُسَافِرٍ قَدِمَ , وَمَجْنُونٍ أَفَاقَ , وَصَبِيٍّ بَلَغَ نَهَارًا , فَلَا يُنْدَبُ الْإِمْسَاكُ مِنْهُمْ . وَقُيِّدَ الْعِلْمُ بِرَمَضَانَ , احْتِرَازٌ عَمَّنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا , وَعَمَّنْ أَفْطَرَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ , فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ , كَصَبِيٍّ بَيَّتَ الصَّوْمَ , وَاسْتَمَرَّ صَائِمًا حَتَّى بَلَغَ , فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ , لِانْعِقَادِ صَوْمِهِ لَهُ نَافِلَةً , أَوْ أَفْطَرَ نَاسِيًا قَبْلَ بُلُوغِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ , وَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ عَلَى الصَّبِيِّ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ . وَنَصُّوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْفِطْرِ , فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ , بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ قَالُوا : لِأَنَّ فِعْلَهُ قَبْلَ زَوَالِ الْعُذْرِ , لَا يَتَّصِفُ بِإِبَاحَةٍ وَلَا غَيْرِهَا . وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ لِمَنْ أَسْلَمَ , لِتَظْهَرَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ بِسُرْعَةٍ , وَلَمْ يَجِبْ , تَأْلِيفًا لَهُ لِلْإِسْلَامِ , كَمَا نُدِبَ قَضَاؤُهُ , وَلَمْ يَجِبْ لِذَلِكَ . وَالشَّافِعِيَّةُ بَعْدَ أَنْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْإِمْسَاكَ تَشَبُّهًا مِنْ خَوَاصِّ رَمَضَانَ , كَالْكَفَّارَةِ , وَأَنَّ مَنْ أَمْسَكَ تَشَبُّهًا لَيْسَ فِي صَوْمٍ وَضَعُوا هَذِهِ الْقَاعِدَةَ , وَهِيَ : أَنَّ الْإِمْسَاكَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُتَعَدٍّ بِالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ , سَوَاءٌ أَكَلَ أَوْ ارْتَدَّ أَوْ نَوَى الْخُرُوجَ مِنْ الصَّوْمِ - وَقُلْنَا إنَّهُ يَخْرُجُ بِذَلِكَ - كَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ نَسِيَ النِّيَّةَ مِنْ اللَّيْلِ , وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى مَنْ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ إبَاحَةً حَقِيقِيَّةً , كَالْمُسَافِرِ إذَا قَدِمَ , وَالْمَرِيضِ إذَا بَرِئَ بَقِيَّةَ النَّهَارِ . وَنَظَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ : الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ , اللَّذَانِ يُبَاحُ لَهُمَا الْفِطْرُ , لَهُمَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : الْأُولَى : أَنْ يُصْبِحَا صَائِمَيْنِ , وَيَدُومَا كَذَلِكَ إلَى زَوَالِ الْعُذْرِ , فَالْمَذْهَبُ لُزُومُ إتْمَامِ الصَّوْمِ . الثَّانِيَةُ : أَنْ يَزُولَ الْعُذْرُ بَعْدَ مَا أَفْطَرَ , فَلَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ , لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ - كَمَا يَقُولُ الْمَحَلِّيُّ - فَإِنْ أَكَلَا أَخْفَيَاهُ , لِئَلَّا يَتَعَرَّضَا لِلتُّهْمَةِ وَعُقُوبَةِ السُّلْطَانِ , وَلَهُمَا الْجِمَاعُ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ , إذَا لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ صَائِمَةً , بِأَنْ كَانَتْ صَغِيرَةً , أَوْ طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ ذَلِكَ الْيَوْمِ . الثَّالِثَةُ : أَنْ يُصْبِحَا غَيْرَ نَاوِيَيْنِ , وَيَزُولَ الْعُذْرُ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَا , فَفِي الْمَذْهَبِ قَوْلَانِ : لَا يَلْزَمُهُمَا الْإِمْسَاكُ فِي الْمَذْهَبِ , لِأَنَّ مَنْ أَصْبَحَ تَارِكًا لِلنِّيَّةِ فَقَدْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا , فَكَانَ كَمَا لَوْ أَكَلَ وَقِيلَ : يَلْزَمُهُمَا(1/245)
الْإِمْسَاكُ حُرْمَةً لِلْيَوْمِ . وَإِذَا أَصْبَحَ يَوْمَ الشَّكِّ مُفْطِرًا غَيْرَ صَائِمٍ , ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ , فَقَضَاؤُهُ وَاجِبٌ , وَيَجِبُ إمْسَاكُهُ عَلَى الْأَظْهَرِ , وَقِيلَ : لَا يَلْزَمُهُ ; لِعُذْرِهِ . أَمَّا لَوْ بَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ الْأَكْلِ : فَقَدْ حَكَى الْمُتَوَلِّي فِي لُزُومِ الْإِمْسَاكِ الْقَوْلَيْنِ , وَجَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَجَمَاعَةٌ بِلُزُومِهِ . قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ . وَإِذَا بَلَغَ صَبِيٌّ مُفْطِرًا أَوْ أَفَاقَ مَجْنُونٌ , أَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ أَثْنَاءَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَفِيهِ أَوْجُهٌ : أَصَحُّهَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمْ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ قَضَاؤُهُ , وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ , بِنَاءً عَلَى لُزُومِ الْقَضَاءِ . وَالثَّالِثُ : يَلْزَمُ الْكَافِرَ دُونَهُمَا , لِتَقْصِيرِهِ . وَالرَّابِعُ : يَلْزَمَ الْكَافِرَ وَالصَّبِيَّ لِتَقْصِيرِهِمَا , أَوْ لِأَنَّهُمَا مَأْمُورَانِ عَلَى الْجُمْلَةِ - كَمَا يَقُولُ الْغَزَالِيُّ - دُونَ الْمَجْنُونِ . قَالَ الْمَحَلِّيُّ : لَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ بِالنَّهَارِ صَائِمًا , بِأَنْ نَوَى لَيْلًا , وَجَبَ عَلَيْهِ إتْمَامُهُ بِلَا قَضَاءٍ , وَقِيلَ : يُسْتَحَبُّ إتْمَامُهُ , وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ , لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْفَرْضَ . وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ إذَا طَهُرَتَا فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ , فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمَا الْإِمْسَاكُ , وَنَقَلَ الْإِمَامُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ . وَفِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ بِفُرُوعِهَا : مَنْ صَارَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ لَزِمَهُ إمْسَاكُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَقَضَاؤُهُ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ , وَلِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ فِيهِ بِالرُّؤْيَةِ , وَلِإِدْرَاكِهِ جُزْءًا مِنْ وَقْتِهِ كَالصَّلَاةِ . وَكَذَا كُلُّ مَنْ أَفْطَرَ وَالصَّوْمُ يَجِبُ عَلَيْهِ , فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ وَالْقَضَاءُ , كَالْفِطْرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ , وَمَنْ أَفْطَرَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ وَكَانَ قَدْ طَلَعَ , أَوْ يَظُنُّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ وَلَمْ تَغِبْ , أَوْ النَّاسِي لِلنِّيَّةِ , فَكُلُّهُمْ يَلْزَمُهُمْ الْإِمْسَاكُ , قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ اخْتِلَافًا . أَوْ تَعَمَّدَتْ مُكَلَّفَةٌ الْفِطْرَ , ثُمَّ حَاضَتْ أَوْ نَفِسَتْ , أَوْ تَعَمَّدَ الْفِطْرَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ , فَكُلُّهُمْ يَلْزَمُهُمْ الْإِمْسَاكُ وَالْقَضَاءُ ; لِمَا سَبَقَ . فَأَمَّا مَنْ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمُسَافِرِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْكَافِرِ وَالْمَرِيضِ إذَا زَالَتْ أَعْذَارُهُمْ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ , فَطَهُرَتْ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ , وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ , وَبَلَغَ الصَّبِيُّ , وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ , وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ , وَصَحَّ الْمَرِيضُ , فَفِيهِمْ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : يَلْزَمُهُمْ الْإِمْسَاكُ بَقِيَّةَ الْيَوْمِ , لِأَنَّهُ مَعْنَى لَوْ وُجِدَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْجَبَ الصِّيَامَ , فَإِذَا طَرَأَ بَعْدَ الْفَجْرِ أَوْجَبَ الْإِمْسَاكَ , كَقِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِالرُّؤْيَةِ . وَاقْتَصَرَ عَلَى مُوجِبِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْبُهُوتِيُّ , فِي كَشَّافِهِ وَرَوْضِهِ . وَالْأُخْرَى : لَا يَلْزَمُهُمْ الْإِمْسَاكُ , لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ , فَلْيَأْكُلْ آخِرَهُ ) , وَلِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ أَوَّلَ النَّهَارِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا , فَإِذَا أَفْطَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَهُ إلَى آخِرِ النَّهَارِ , كَمَا لَوْ دَامَ الْعُذْرُ . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : فَإِذَا جَامَعَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ , بَعْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ , انْبَنَى عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ , فِي وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ :
1 - فَإِنْ قُلْنَا : يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ , فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِالرُّؤْيَةِ فِي حَقِّهِ إذَا جَامَعَ . 2 - وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ , فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . . . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ : أَنَّهُ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضٍ , فَأَصَابَهَا .(1/246)
20 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ قَضَاءِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ عِنْدَ إفْسَادِهِ . فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى وُجُوبِ قَضَاءِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ عِنْدَ إفْسَادِهِ . لِمَا رَوَتْ { عَائِشَةُ رضي الله تعالى عنها أَنَّهَا قَالَتْ : كُنْت أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ , فَعُرِضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ , فَأَكَلْنَا مِنْهُ , فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَدَرَتْنِي إلَيْهِ حَفْصَةُ - وَكَانَتْ ابْنَةَ أَبِيهَا - فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا صَائِمَتَيْنِ , فَعُرِضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ , فَقَالَ : اقْضِيَا يَوْمًا آخَرَ مَكَانَهُ } . وَلِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ قُرْبَةً , فَيَجِبُ صِيَانَتُهُ وَحِفْظُهُ عَنْ الْبُطْلَانِ , وَقَضَاؤُهُ عِنْدَ الْإِفْسَادِ لقوله تعالى : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } , وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا بِإِتْيَانِ الْبَاقِي , فَيَجِبُ إتْمَامُهُ , وَقَضَاؤُهُ عِنْدَ الْإِفْسَادِ ضَرُورَةً , فَصَارَ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ التَّطَوُّعَيْنِ . وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ : وُجُوبُ الْقَضَاءِ عِنْدَ الْإِفْسَادِ مُطْلَقًا , أَيْ : سَوَاءٌ أَفْسَدَ عَنْ قَصْدٍ - وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ - أَوْ غَيْرِ قَصْدٍ , بِأَنْ عَرَضَ الْحَيْضُ لِلصَّائِمَةِ الْمُتَطَوِّعَةِ وَذَلِكَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ , وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ : صَوْمَ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ , فَلَا تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ , لَا أَدَاءً وَلَا قَضَاءً , إذَا أَفْسَدَ , لِارْتِكَابِهِ النَّهْيَ بِصِيَامِهَا , فَلَا تَجِبُ صِيَانَتُهُ , بَلْ يَجِبُ إبْطَالُهُ , وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يَنْبَنِي عَلَى وُجُوبِ الصِّيَانَةِ , فَلَمْ يَجِبْ قَضَاءً , كَمَا لَمْ يَجِبْ أَدَاءً . وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ بِالْفِطْرِ الْعَمْدِ الْحَرَامِ , وَذَلِكَ كَمَنْ شَرَعَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ , ثُمَّ أَفْطَرَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا عُذْرٍ , قَالَ الْحَطَّابُ : احْتَرَزَ بِالْعَمْدِ مِنْ النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ , وَبِالْحَرَامِ : عَمَّنْ أَفْطَرَ لِشِدَّةِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْحَرِّ الَّذِي يَخَافُ مِنْهُ تَجَدُّدَ مَرَضٍ أَوْ زِيَادَتَهُ , وَكَذَلِكَ عَمَّنْ أَفْطَرَ لِأَمْرِ وَالِدَيْهِ وَشَيْخِهِ , وَعَدُّوا السَّفَرَ الَّذِي يَطْرَأُ عَلَيْهِ مِنْ الْفِطْرِ الْعَمْدِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ أَفْسَدَ صَوْمَ التَّطَوُّعِ , لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَتْبَعُ الْمَقْضِيَّ عَنْهُ , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا , لَمْ يَكُنْ الْقَضَاءُ وَاجِبًا , لَكِنْ يُنْدَبُ لَهُ الْقَضَاءُ , سَوَاءٌ أَفْسَدَ صَوْمَ التَّطَوُّعِ بِعُذْرٍ أَمْ بِغَيْرِ عُذْرٍ , خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَ قَضَاءَهُ . وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَفْطَرَ الصَّائِمُ تَطَوُّعًا لَمْ يُثَبْ عَلَى مَا مَضَى , إنْ خَرَجَ مِنْهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ , وَيُثَابُ عَلَيْهِ إنْ خَرَجَ بِعُذْرٍ .
شُرُوطُ الصِّيغَةِ :(1/247)
9 - أ - أَنْ تَكُونَ صَادِرَةً مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ فَلَا تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ , وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ . وَيُزَادُ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّبَرُّعَاتِ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ . وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ كَذَلِكَ , إذْ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَجَازَ وَصِيَّةَ السَّفِيهِ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ كَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ . . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مِنْ حَيْثُ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ وَالْوَلِيِّ وَالْفُضُولِيِّ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ وَيَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ , فَقَدْ أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَذَانَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَيَصِحُّ إيمَانُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . ب - أَنْ يَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمُ بِالصِّيغَةِ لَفْظَهَا مَعَ الْمَعْنَى الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ اللَّفْظُ إذْ الْجَهْلُ بِمَعْنَى اللَّفْظِ مُسْقِطٌ لِحُكْمِهِ , فَفِي قَوَاعِدِ الْأَحْكَامِ : إذَا نَطَقَ الْأَعْجَمِيُّ بِكَلِمَةِ كُفْرٍ أَوْ إيمَانٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ إعْتَاقٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ إبْرَاءٍ لَمْ يُؤَاخَذْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ مُقْتَضَاهُ , وَلَمْ يَقْصِدْ إلَيْهِ , وَكَذَلِكَ إذَا نَطَقَ الْعَرَبِيُّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي بِلَفْظٍ أَعْجَمِيٍّ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَتَوَجَّهُ إلَّا إلَى مَعْلُومٍ أَوْ مَظْنُونٍ , وَإِنْ قَصَدَ الْعَرَبِيُّ بِنُطْقِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِمَعَانِيهِ نَفَذَ ذَلِكَ مِنْهُ . وَلَوْ سَبَقَ لِسَانُهُ بِطَلَاقٍ أَوْ يَمِينٍ دُونَ قَصْدٍ فَهُوَ لَاغٍ , وَلَا يَحْنَثُ بِذَلِكَ لِعَدَمِ قَصْدِهِ . وَذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَقَعُ طَلَاقُهُ وَيَنْعَقِدُ يَمِينُهُ , إذْ الْقَصْدُ بِالنِّسْبَةِ لِلْيَمِينِ وَالطَّلَاقِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمْ فَالنَّاسِي وَالْعَامِدُ وَالْمُخْطِئُ وَالذَّاهِلُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ . وَالْيَمِينُ اللَّغْوُ لَا شَيْءَ فِيهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُرَادِ بِاللَّغْوِ . وَهَذَا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ خِلَافًا لِلْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُ لَا لَغْوَ فِيهَا فَيَقَعُ يَمِينُهُ . أَمَّا لَوْ قَصَدَ اللَّفْظَ دُونَ الْمَعْنَى كَالْهَازِلِ وَاللَّاعِبِ كَمَنْ خَاطَبَ زَوْجَتَهُ بِطَلَاقٍ هَازِلًا أَوْ لَاعِبًا فَإِنَّ طَلَاقَهُ يَقَعُ , وَكَذَلِكَ يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ وَنِكَاحُهُ وَرَجْعَتُهُ وَعِتْقُهُ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ : النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ } . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : { النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ } " . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله تعالى عنه : أَرْبَعٌ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَالٍ : الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالنَّذْرُ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ , وَذَلِكَ أَنَّ الْهَازِلَ أَتَى بِالْقَوْلِ غَيْرَ مُلْتَزِمٍ لِحُكْمِهِ , وَتَرْتِيبُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْبَابِ إنَّمَا هِيَ لِلشَّارِعِ لَا لِلْعَاقِدِ , فَإِذَا أَتَى بِالسَّبَبِ لَزِمَهُ حُكْمُهُ شَاءَ أَمْ أَبَى , لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقِفُ عَلَى اخْتِيَارِهِ , وَذَلِكَ إنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلْقَوْلِ مُرِيدٌ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِمَعْنَاهُ وَمُوجَبِهِ , وَقَصْدُ اللَّفْظِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْمَعْنَى قَصْدٌ لِذَلِكَ الْمَعْنَى لِتَلَازُمِهِمَا , ثُمَّ إنَّ اللَّعِبَ وَالْهَزْلَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ جَائِزٍ , فَيَكُونُ جِدُّ الْقَوْلِ وَهَزْلُهُ سَوَاءً , بِخِلَافِ جَانِبِ الْعِبَادِ . أَمَّا عُقُودُ الْهَازِلِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فَلَا تَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ وَلَمْ نَعْثِرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى رَأْيٍ فِي عُقُودِ الْهَازِلِ غَيْرَ مَا ذُكِرَ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ . وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ , وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي ( عَقْدٌ - هَزْلٌ ) . أَمَّا السَّكْرَانُ : فَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ بِأَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ النَّبِيذَ طَوْعًا حَتَّى سَكِرَ وَزَالَ عَقْلُهُ فَطَلَاقُهُ وَاقِعٌ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ , قَالَ الْكَاسَانِيُّ : وَكَذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَذَلِكَ لِعُمُومِ قوله تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } إلَى قوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } , مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ السَّكْرَانِ وَغَيْرِهِ إلَّا مَنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ , وَلِأَنَّ عَقْلَهُ زَالَ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ فَيَنْزِلُ كَأَنَّ عَقْلَهُ قَائِمٌ , عُقُوبَةً عَلَيْهِ وَزَجْرًا لَهُ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ . وَذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الْأَشْبَاهِ أَنَّ السَّكْرَانَ مِنْ مُحَرَّمٍ كَالصَّاحِي إلَّا فِي(1/248)
ثَلَاثٍ : الرِّدَّةِ وَالْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ وَالْإِشْهَادِ عَلَى نَفْسِهِ . وَالْقَوْلُ بِصِحَّةِ تَصَرُّفَاتِ السَّكْرَانِ إذَا كَانَ قَدْ أَدْخُل السُّكْرَ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ , وَهُوَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ , وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَصِحُّ مَا عَلَيْهِ وَلَا يَصِحُّ مَا لَهُ فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَلَا يَصِحُّ اتِّهَابُهُ وَتَصِحُّ رِدَّتُهُ دُونَ إسْلَامِهِ . وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ فِيمَا يَسْتَقِلُّ بِهِ مِثْلُ عِتْقِهِ وَقَتْلِهِ وَغَيْرِهِمَا كَالصَّاحِي , وَفِيمَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ مِثْلُ بَيْعِهِ وَنِكَاحِهِ وَمُعَاوَضَتِهِ كَالْمَجْنُونِ . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَنْ عِنْدَهُ نَوْعُ تَمْيِيزٍ وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ فَأَصْبَحَ كَالْمَجْنُونِ , فَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ أَصْلًا , أَمَّا مَنْ عِنْدَهُ وُقُوعُ تَمْيِيزٍ فَقَدْ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ : يَجُوزُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا فَعَلَ مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ وَتَلْزَمُهُ الْجِنَايَاتُ وَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ وَالْحُدُودُ , وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِقْرَارُ وَالْعُقُودُ , وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ , وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ . أَمَّا مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبٍ يُعْذَرُ فِيهِ كَمَنْ شَرِبَ الْبَنْجَ أَوْ الدَّوَاءَ الَّذِي يُسْكِرُ وَزَالَ عَقْلُهُ فَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَلَا تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ لِأَنَّهُ يُقَاسُ عَلَى الْمَجْنُونِ الَّذِي رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي : ( عَقْدٌ - سُكْرٌ ) . ج - أَنْ تَصْدُرَ الصِّيغَةُ عَنْ اخْتِيَارٍ , فَلَوْ كَانَ مُكْرَهًا فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ , وَهُوَ الطَّلَاقُ , وَالْعَتَاقُ , وَالرَّجْعَةُ , وَالنِّكَاحُ , وَالْيَمِينُ , وَالنَّذْرُ , وَالظِّهَارُ , وَالْإِيلَاءُ , وَالتَّدْبِيرُ , وَالْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ , فَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ جَائِزَةٌ مَعَ الْإِكْرَاهِ لِعُمُومَاتِ النُّصُوصِ , وَإِطْلَاقُهَا يَقْتَضِي شَرْعِيَّةَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَتَقْيِيدٍ . أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَالْإِكْرَاهُ يُوجِبُ فَسَادَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ , وَعِنْدَ زُفَرَ يُوجِبُ تَوَقُّفَهَا عَلَى الْإِجَازَةِ . وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْكَافِرِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ , وَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِ الْمُسْلِمِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَأَجْرَى وَأَخْبَرَ أَنَّ قَلْبَهُ كَانَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَلْزَمُ الْمُكْرَهَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ كَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالْعِتْقِ وَالْإِقْرَارِ وَالْيَمِينِ وَكَذَا سَائِرُ الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا خَشْيَةُ الْقَتْلِ . وَالْحُكْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَالْحُكْمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي عَدَمِ صِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ مَعَ الْإِكْرَاهِ عَمَلًا بِحَدِيثِ : { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } . وَحَدِيثِ : { لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إغْلَاقٍ } إلَّا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اسْتَثْنَوْا النِّكَاحَ فَيَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ .
ضَرُورَةٌ التَّعْرِيفُ :(1/249)
1 - الضَّرُورَةُ فِي اللُّغَةِ : اسْمٌ مِنْ الِاضْطِرَارِ , وَالِاضْطِرَارُ : الِاحْتِيَاجُ الشَّدِيدُ . تَقُولُ : حَمَلَتْنِي الضَّرُورَةُ عَلَى كَذَا وَكَذَا , وَقَدْ اُضْطُرَّ فُلَانٌ إلَى كَذَا وَكَذَا . وَعَرَّفَهَا الْجُرْجَانِيِّ : بِأَنَّهَا النَّازِلُ مِمَّا لَا مَدْفَعَ لَهُ . وَهِيَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ : بُلُوغُ الْإِنْسَانِ حَدًّا إنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمَمْنُوعَ هَلَكَ أَوْ قَارَبَ , كَالْمُضْطَرِّ لِلْأَكْلِ وَاللُّبْسِ بِحَيْثُ لَوْ بَقِيَ جَائِعًا أَوْ عُرْيَانًا لَمَاتَ , أَوْ تَلِفَ مِنْهُ عُضْوٌ , وَهَذَا يُبِيحُ تَنَاوُلَ الْمُحَرَّمِ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - الْحَاجَةُ : 2 - الْحَاجَةُ فِي اللُّغَةِ : تُطْلَقُ عَلَى الِافْتِقَارِ , وَعَلَى مَا يُفْتَقَرُ إلَيْهِ . وَاصْطِلَاحًا : هِيَ كَمَا عَرَّفَهَا الشَّاطِبِيُّ - مَا يُفْتَقَرُ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةُ , وَرَفْعُ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي - فِي الْغَالِبِ - إلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللَّاحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَطْلُوبِ , فَإِذَا لَمْ تُرَاعَ دَخَلَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ - عَلَى الْجُمْلَةِ - الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ . قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَغَيْرُهُ : وَالْحَاجَةُ كَالْجَائِعِ الَّذِي لَوْ لَمْ يَجِدْ مَا يَأْكُلُ لَمْ يَهْلَكْ , غَيْرَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي جَهْدٍ وَمَشَقَّةٍ وَهَذَا لَا يُبِيحُ الْمُحَرَّمَ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ , أَنَّ الْحَاجَةَ وَإِنْ كَانَتْ حَالَةَ جَهْدٍ وَمَشَقَّةٍ فَهِيَ دُونَ الضَّرُورَةِ , وَمَرْتَبَتُهَا أَدْنَى مِنْهَا وَلَا يَتَأَتَّى بِفَقْدِهَا الْهَلَاكُ . ب - ( الْحَرَجُ ) : 3 - الْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ : بِمَعْنَى الضِّيقِ , وَيُطْلَقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى كُلِّ مَا تَسَبَّبَ فِي الضِّيقِ , سَوَاءٌ أَكَانَ وَاقِعًا عَلَى الْبَدَنِ أَمْ عَلَى النَّفْسِ أَمْ عَلَيْهِمَا مَعًا . وَالصِّلَةُ بَيْنَ الضَّرُورَةِ وَالْحَرَجِ أَنَّ الضَّرُورَةَ هِيَ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْحَرَجِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّخْفِيفِ . ج - ( الْعُذْرُ ) : 4 - الْعُذْرُ نَوْعَانِ : عَامٌّ , وَخَاصٌّ . وَالْعُذْرُ الْعَامُّ : هُوَ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لَهُ الشَّخْصُ غَالِبًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَفَقْدِ الْمَاءِ لِلْمُسَافِرِ , فَيَسْقُطُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ , وَقَدْ يَكُونُ نَادِرًا , وَهُوَ إمَّا أَنْ يَدُومَ كَالْحَدَثِ الدَّائِمِ وَالِاسْتِحَاضَةِ وَالسَّلَسِ وَنَحْوِهِ , فَيَسْقُطُ الْقَضَاءُ أَيْضًا , أَمَّا النَّادِرُ الَّذِي لَا يَدُومُ وَلَا بَدَلَ مَعَهُ كَفَقْدِ الطَّهُورَيْنِ وَنَحْوِهِ , فَيُوجِبُ الْقَضَاءَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ . وَأَمَّا الْعُذْرُ الْخَاصُّ : فَهُوَ مَا يَطْرَأُ لِلْإِنْسَانِ أَحْيَانًا , كَالِانْشِغَالِ بِأَمْرٍ مَا عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ , فَهَذَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ . وَالصِّلَةُ بَيْنَ الضَّرُورَةِ وَبَيْنَ الْعُذْرِ أَنَّ الْعُذْرَ نَوْعٌ مِنْ الْمَشَقَّةِ الْمُخَفَّفَةِ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ , وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الضَّرُورَةِ . د - الْجَائِحَةُ . 5 - الْجَائِحَةُ فِي اللُّغَةِ : الشِّدَّةُ , تَجْتَاحُ الْمَالَ مِنْ سَنَةً أَوْ فِتْنَةٍ وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْجَوْحِ بِمَعْنَى الِاسْتِئْصَالِ وَالْهَلَاكِ , يُقَالُ : جَاحَتْهُمْ الْجَائِحَةُ وَاجْتَاحَتْهُمْ , وَجَاحَ اللَّهُ مَالَهُ وَأَجَاحَهُ بِمَعْنًى : أَيْ أَهْلَكَهُ بِالْجَائِحَةِ . وَالْجَائِحَةُ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِلضَّرُورَةِ . هـ - الْإِكْرَاهُ : 6 - الْإِكْرَاهُ لُغَةً : حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى شَيْءٍ لَا يَرْضَاهُ , يُقَالُ : أَكْرَهْت فُلَانًا إكْرَاهًا : حَمَلْته عَلَى مَا لَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ . وَعَرَّفَهُ الْبَزْدَوِيُّ بِأَنَّهُ : حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ يَمْتَنِعُ عَنْهُ بِتَخْوِيفٍ يَقْدِرُ الْحَامِلُ عَلَى إيقَاعِهِ وَيَصِيرُ الْغَيْرُ خَائِفًا بِهِ . ( ر : إكْرَاهٌ ف 1 ) . وَقَدْ يُؤَدِّي الْإِكْرَاهُ إلَى الضَّرُورَةِ كَالْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ .
8 - شُرُوطُ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ : يُشْتَرَطُ لِلْأَخْذِ بِمُقْتَضَى الضَّرُورَةِ مَا يَلِي :(1/250)
أ - أَنْ تَكُونَ الضَّرُورَةُ قَائِمَةً لَا مُنْتَظَرَةً , وَتَظْهَرُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الرُّخَصِ مِنْهَا : يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِتَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ خَوْفَ الْمُكْرِهِ إيقَاعَ مَا هُدِّدَ بِهِ فِي الْحَالِ بِغَلَبَةِ ظَنِّهِ , وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَقَوْلُ الْمُكْرَهِ " لَأَقْتُلَنك غَدًا " لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ . قَالَ الشَّيْخُ عَمِيرَةُ : لَوْ كَانَتْ الْحَاجَةُ غَيْرَ نَاجِزَةٍ فَهَلْ يَجُوزُ الْأَخْذُ لِمَا عَسَاهُ يَطْرَأُ ؟ الظَّاهِرُ لَا , كَاقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِمَا عَسَاهُ يَكُونُ مِنْ الزَّرْعِ وَنَحْوِهِ . يَقُولُ الشَّاطِبِيُّ : الصَّوَابُ الْوُقُوفُ مَعَ أَصْلِ الْعَزِيمَةِ , إلَّا فِي الْمَشَقَّةِ الْمُخِلَّةِ الْفَادِحَةِ فَإِنَّ الصَّبْرَ أَوْلَى , مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إلَى دَخْلٍ فِي عَقْلِ الْإِنْسَانِ أَوْ دِينِهِ , وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الصَّبْرِ , لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ إلَّا مَنْ يُطِيقُهُ , فَأَنْتَ تَرَى بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ الْمَشَقَّةَ الْفَادِحَةَ لَا يَلْحَقُ بِهَا تَوَهُّمُهَا , بَلْ حُكْمُهَا أَخَفُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّوَهُّمَ غَيْرُ صَادِقٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْوَالِ فَإِذًا : لَيْسَتْ الْمَشَقَّةُ بِحَقِيقِيَّةٍ , وَالْمَشَقَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ الْعِلَّةُ الْمَوْضُوعَةُ لِلرُّخْصَةِ فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ كَانَ الْحُكْمُ غَيْرَ لَازِمٍ . ب - أَلَّا يَكُونَ لِدَفْعِ الضَّرُورَةِ وَسِيلَةٌ أُخْرَى إلَّا مُخَالَفَةُ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الشَّرْعِيَّةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ عِنْدَ تَفْسِيرِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ } . مَعْنَى الضَّرُورَةِ - هُنَا - : هُوَ خَوْفُ الضَّرَرِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِتَرْكِهِ الْأَكْلَ وَقَدْ انْطَوَى تَحْتَهُ مَعْنَيَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَحْصُلَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَجِدُ غَيْرَ الْمَيْتَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا مَوْجُودًا , وَلَكِنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِهَا بِوَعِيدٍ يَخَافُ مِنْهُ تَلَفَ نَفْسِهِ أَوْ تَلَفَ بَعْضِ أَعْضَائِهِ , وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُرَادٌ بِالْآيَةِ عِنْدَنَا . ج - يَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ مُرَاعَاةُ قَدْرِ الضَّرُورَةِ , لِأَنَّ مَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا , وَتَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَرَّرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا يَأْكُلُ مِنْ الْمَيْتَةِ إلَّا قَدْرُ سَدِّ الرَّمَقِ . د - يَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ أَنْ يُرَاعِيَ عِنْدَ دَفْعِ الضَّرُورَةِ مَبْدَأَ دَرْءِ الْأَفْسَدِ فَالْأَفْسَدِ , وَالْأَرْذَلِ فَالْأَرْذَلِ , فَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِحَيْثُ لَوْ امْتَنَعَ مِنْهُ قُتِلَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْرَأَ مَفْسَدَةَ الْقَتْلِ بِالصَّبْرِ عَلَى الْقَتْلِ , لِأَنَّ صَبْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ أَقَلُّ مَفْسَدَةً مِنْ إقْدَامِهِ عَلَيْهِ , وَإِنْ قَدَرَ عَلَى دَفْعِ الْمَكْرُوهِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ لَزِمَهُ ذَلِكَ , لِقُدْرَتِهِ عَلَى دَرْءِ الْمَفْسَدَةِ , وَإِنَّمَا قُدِّمَ دَرْءُ الْقَتْلِ بِالصَّبْرِ , لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَتْلِ , وَاخْتِلَافِهِمْ فِي الِاسْتِسْلَامِ لِلْقَتْلِ فَوَجَبَ تَقْدِيمُ دَرْءِ الْمَفْسَدَةِ الْمُجْمَعِ عَلَى وُجُوبِ دَرْئِهَا عَلَى دَرْءِ الْمَفْسَدَةِ الْمُخْتَلَفِ فِي وُجُوبِ دَرْئِهَا . هـ - أَلَّا يَقْدَمَ الْمُضْطَرُّ عَلَى فِعْلٍ لَا يَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ بِحَالٍ . قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : الْإِكْرَاهُ عَلَى الْمَعَاصِي أَنْوَاعٌ : نَوْعٌ يُرَخَّصُ لَهُ فِعْلُهُ وَيُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ , كَإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ , وَشَتْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَرْكِ الصَّلَاةِ , وَكُلُّ مَا يَثْبُتُ بِالْكِتَابِ . وَنَوْعٌ يَحْرُمُ فِعْلُهُ وَيَأْثَمُ بِإِتْيَانِهِ كَالزِّنَى وَقَتْلِ مُسْلِمٍ , أَوْ قَطْعِ عُضْوِهِ , أَوْ ضَرْبِهِ ضَرْبًا مُتْلِفًا , أَوْ شَتْمِهِ أَوْ أَذِيَّتِهِ . وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَقْسَامِ الرُّخْصَةِ وَالْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا ( ر : مُصْطَلَحَ : رُخْصَةٌ ) .
9 - حَالَاتُ الضَّرُورَةِ :(1/251)
بِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ أَهَمَّ حَالَاتِ الضَّرُورَةِ عِبَارَةٌ عَنْ : - 1 - الِاضْطِرَارِ إلَى تَنَاوُلِ الْمُحَرَّمِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ . 2 - الِاضْطِرَارِ إلَى النَّظَرِ وَاللَّمْسِ لِلتَّدَاوِي . 3 - الِاضْطِرَارِ إلَى إتْلَافِ نَفْسٍ أَوْ فِعْلِ فَاحِشَةٍ . 4 - الِاضْطِرَارِ إلَى أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ وَإِتْلَافِهِ . 5 - الِاضْطِرَارِ إلَى قَوْلِ الْبَاطِلِ . 10 - الْحَالَةُ الْأُولَى : الِاضْطِرَارُ إلَى تَنَاوُلِ الْمُحَرَّمِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ : لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي إبَاحَةِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا لِلْمُضْطَرِّ . لِلْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ . إلَّا أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْمَقْصُودِ بِإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ , وَمِقْدَارُ مَا يَأْكُلُهُ الْمُضْطَرُّ مِنْ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا , وَتَفْصِيلُ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي تُبِيحُهَا الضَّرُورَةُ وَتَرْتِيبُهَا عِنْدَ التَّعَدُّدِ , وَأَثَرُ الضَّرُورَةِ فِي رَفْعِ حُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا , وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ : أ - ( الْمَيْتَةُ ) : إذَا كَانَ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ , سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الِاضْطِرَارُ بِجُوعٍ أَوْ عَطَشٍ فِي مَخْمَصَةٍ , أَوْ بِإِكْرَاهٍ مِنْ ظَالِمٍ , فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهَا أَمْ يَجُوزُ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْأَكْلِ حَتَّى يَمُوتَ ؟ . ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ - وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ - وَالْحَنَابِلَةُ - عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ - إلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ . وَقَالُوا : إنَّ الَّذِي يَخَافُ الْهَلَاكَ مِنْ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ إذَا وَجَدَ مَيْتَةً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ دَمًا فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ كَانَ آثِمًا , قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } , وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يَتْرُكُ تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا حَتَّى يَمُوتَ يُعْتَبَرُ قَاتِلًا لِنَفْسِهِ مُلْقِيًا بِهَا إلَى التَّهْلُكَةِ , لِأَنَّ الْكَفَّ عَنْ التَّنَاوُلِ فِعْلٌ مَنْسُوبٌ إلَى الْإِنْسَانِ , وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إحْيَاءِ نَفْسِهِ بِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ , فَلَزِمَهُ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ حَلَالٌ . وَقَالَ كُلٌّ مِنْ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - فِي وَجْهٍ - وَأَبُو يُوسُفَ - فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ - إنَّ الْمُضْطَرَّ يُبَاحُ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ , وَلَا يَلْزَمُهُ , فَلَوْ امْتَنَعَ عَنْ التَّنَاوُلِ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ وَمَاتَ . " فَلَا إثْمَ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ , لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أَنَّ طَاغِيَةَ الرُّومِ حَبَسَهُ فِي بِيَعٍ , وَجَعَلَ مَعَهُ خَمْرًا مَمْزُوجًا بِمَاءٍ وَلَحْمَ خِنْزِيرٍ مَشْوِيٍّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ , حَتَّى مَالَ رَأْسُهُ مِنْ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَخَشُوا مَوْتَهُ , فَأَخْرَجُوهُ فَقَالَ : قَدْ كَانَ اللَّهُ أَحَلَّهُ لِي لِأَنِّي مُضْطَرٌّ وَلَكِنْ لَمْ أَكُنْ لِأُشَمِّتَك بِدِينِ الْإِسْلَامِ . وَلِأَنَّ إبَاحَةَ الْأَكْلِ رُخْصَةٌ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ , كَسَائِرِ الرُّخَصِ , وَلِأَنَّ لَهُ غَرَضًا فِي اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ وَالْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ وَرُبَّمَا لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَفَارَقَ الْحَلَالَ فِي الْأَصْلِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ . مِقْدَارُ مَا يَأْكُلُهُ الْمُضْطَرُّ مِنْ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا : اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ يُبَاحُ لَهُ أَكْلُ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ وَيَأْمَنُ مَعَهُ الْمَوْتَ , كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ . وَاخْتَلَفُوا فِي الشِّبَعِ . فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ - وَالْحَنَابِلَةُ - فِي أَظْهَرْ الرِّوَايَتَيْنِ - وَابْنُ الْمَاجِشُونِ , وَابْنُ حَبِيبٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : إلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا يَأْكُلُ مِنْ الْمَيْتَةِ إلَّا قَدْرُ سَدِّ الرَّمَقِ , وَلَا يُبَاحُ لَهُ الشِّبَعُ , لِأَنَّ آيَةَ : { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ , وَاسْتَثْنَتْ مَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ , فَإِذَا انْدَفَعَتْ الضَّرُورَةُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْأَكْلُ لِلْآيَةِ , يُحَقِّقُهُ أَنَّ بَعْدَ سَدِّ رَمَقِهِ كَحَالِهِ قَبْلَ أَنْ يُضْطَرَّ , وَثَمَّ لَمْ يُبَحْ لَهُ الْأَكْلُ كَذَا هَاهُنَا . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ , وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ , وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ : إنَّ الْمُضْطَرَّ يُبَاحُ لَهُ الشِّبَعُ لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ , وَلِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ { أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ الْحَرَّةَ فَنَفَقَتْ عِنْدَهُ نَاقَةٌ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ : اُسْلُخْهَا حَتَّى نُقَدِّدَ شَحْمَهَا وَلَحْمَهَا وَنَأْكُلَهُ , فَقَالَ :(1/252)
حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ فَقَالَ : هَلْ عِنْدَك غِنًى يُغْنِيَك ؟ قَالَ : لَا , قَالَ : فَكُلُوهَا } وَلَمْ يُفَرِّقْ وَلِأَنَّ مَا جَازَ سَدُّ الرَّمَقِ مِنْهُ جَازَ الشِّبَعُ مِنْهُ كَالْمُبَاحِ , وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَرْفَعُ التَّحْرِيمَ فَيَعُودُ مُبَاحًا , وَمِقْدَارُ الضَّرُورَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ حَالَةِ عَدَمِ الْقُوتِ إلَى حَالَةِ وُجُودِهِ حَتَّى يَجِدَ . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : يُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ الضَّرُورَةُ مُسْتَمِرَّةً وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ مَرْجُوَّةَ الزَّوَالِ , فَمَا كَانَتْ مُسْتَمِرَّةً كَحَالَةِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَازَ الشِّبَعُ , لِأَنَّهُ إذَا اقْتَصَرَ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ عَادَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ عَنْ قُرْبٍ , وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْبُعْدِ مَخَافَةَ الضَّرُورَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَيُفْضِي إلَى ضَعْفِ بَدَنِهِ , وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى تَلَفِهِ , بِخِلَافِ الَّتِي لَيْسَتْ مُسْتَمِرَّةً فَإِنَّهُ يَرْجُو الْغِنَى عَنْهَا بِمَا يَحِلُّ .
12 - أَثَرُ الضَّرُورَةِ فِي رَفْعِ حُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا : قَالَ شَارِحُ أُصُولِ الْبَزْدَوِيِّ :
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ , فَهَلْ تَصِيرُ مُبَاحَةً , أَوْ تَبْقَى عَلَى الْحُرْمَةِ وَيَرْتَفِعُ الْإِثْمُ ؟ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ : إلَى أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَكِنْ يُرَخَّصُ فِي الْفِعْلِ إبْقَاءً لِلْمُهْجَةِ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ . وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا ( الْحَنَفِيَّةُ ) إلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَرْتَفِعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ . ثُمَّ ذَكَرَ لِلْخِلَافِ فَائِدَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : إذَا صَبَرَ حَتَّى مَاتَ لَا يَكُونُ آثِمًا عَلَى الْأَوَّلِ بِخِلَافِهِ عَلَى الْآخَرِ . الثَّانِيَةَ : إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَرَامًا فَتَنَاوَلَهَا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ يَحْنَثُ عَلَى الْأَوَّلِ وَلَا يَحْنَثُ عَلَى الثَّانِي . وَلِلتَّفْصِيلِ : ( ر : رُخْصَةٌ , وَالْمُلْحَقُ الْأُصُولِيُّ ) .
16 - الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ :
الِاضْطِرَارُ إلَى إتْلَافِ النَّفْسِ أَوْ ارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ : الْقَتْلُ تَحْتَ تَأْثِيرِ الْإِكْرَاهِ : وَتَحْتَهُ صُورَتَانِ : الْأُولَى : الِاضْطِرَارُ إلَى قَتْلِ نَفْسِهِ , كَمَا تَقَدَّمَ , وَيَأْتِي فِي الدِّفَاعِ عَنْ النَّفْسِ , وَالْأُخْرَى : الِاضْطِرَارُ إلَى قَتْلِ غَيْرِهِ وَبَيَانُهُ فِيمَا يَلِي : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِهِ , وَلَا انْتِهَاكُ حُرْمَتِهِ بِجَلْدٍ أَوْ غَيْرِهِ , وَيَصْبِرُ عَلَى الْبَلَاءِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ , وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْدِيَ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ , وَيَسْأَلَ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . قَالَ الصَّاوِيُّ الْمَالِكِيُّ : لَوْ قَالَ لَك ظَالِمٌ : إنْ لَمْ تَقْتُلْ فُلَانًا أَوْ تَقْطَعْهُ قَتَلْتُك , فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَيَجِبُ عَلَى مَنْ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ أَنْ يَرْضَى بِقَتْلِ نَفْسِهِ وَيَصْبِرَ . وَلِلْفُقَهَاءِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَ وُقُوعِ الْقَتْلِ , أَوْ قَطْعِ الْعُضْوِ تَحْتَ تَأْثِيرِ الْإِكْرَاهِ يُنْظَرُ فِي : ( إكْرَاهٌ , وَقِصَاصٌ ) . الْقَتْلُ لِضَرُورَةِ الدِّفَاعِ : إذَا صَالَ صَائِلٌ عَلَى إنْسَانٍ جَازَ لَهُ الدَّفْعُ , وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّفْعِ عَنْ النَّفْسِ عَلَى الْمَصُولِ عَلَيْهِ . فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ - وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ - إلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَصُولِ عَلَيْهِ أَنْ يُدَافِعَ عَنْ نَفْسِهِ , إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَيَّدُوا وُجُوبَ دَفْعِ الصَّائِلِ بِمَا إذَا كَانَ الصَّائِلُ كَافِرًا أَوْ بَهِيمَةً . وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ - فِي قَوْلٍ - وَالْحَنَابِلَةُ - فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ - أَنَّ الْمَصُولَ عَلَيْهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ الصَّائِلِ . وَلِلتَّفْصِيلِ : ( ر : صِيَالٌ ) .
الزِّنَى تَحْتَ تَأْثِيرِ الْإِكْرَاهِ :
يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : أَنَّ الزِّنَى لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ لِلرَّجُلِ بِالْإِكْرَاهِ وَإِنْ كَانَ تَامًّا , وَلَوْ فَعَلَ يَأْثَمُ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ : ( إكْرَاهٌ وَزِنًى ) .
إتْلَافُ مَالِ الْغَيْرِ تَحْتَ تَأْثِيرِ الْإِكْرَاهِ :
مَنْ أُكْرِهَ عَلَى إتْلَافِ مَالِ مُسْلِمٍ بِأَمْرٍ يُخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَسِعَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ . وَلِلْفُقَهَاءِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُنْظَرُ فِي : ( إكْرَاهٌ , وَضَمَانٌ ) .
18 - الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ :(1/253)