فأثبت الإيمان للفاضل والمفضول، وهذا متفق عليه بين المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر ) ،وقال لسعد ابن معاذ لما حكم في بني قريظة : ( لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة أرْقٍعَة ) ،وكان يقول لمن يرسله في جيش أو سرية : ( إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم اللّه، فلا تنزلهم على حكم اللّه، فإنك لا تدري ما حكم اللّه فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك ) . وهذه الأحاديث الثلاثة في الصحيح، وفي حديث سليمان ـ عليه السلام ـ : ( وأسألك حكمًا يوافق حكمك ) .
فهذه النصوص وغيرها تدل على ما اتفق عليه الصحابة والتابعون لهم/ بإحسان : أن أحد الشخصين قد يخصه اللّه باجتهاد يحصل له به من العلم ما يعجز عنه غيره فيكون له أجران، وذلك الآخر عاجز له أجر ولا إثم عليه، وذلك العلم الذي خص به هذا، والعمل به باطناً، وظاهراً زيادة في إيمانه، وهو إيمان يجب عليه، لأنه قادر عليه، وغيره عاجز عنه فلا يجب . فهذا قد فضل بإيمان واجب عليه وليس بواجب على من عجز عنه .
وهذا حال جميع الأمة فيما تنازعت فيه من المسائل الخبرية والعملية، إذا خص أحدهما بمعرفة الحق في نفس الأمر مع اجتهاد الآخر وعجزه، كلاهما محمود مثاب مؤمن، وذلك خصه اللّه من الإيمان الذي وجب عليه بما فضله به على هذا . وذلك المخطئ لا يستحق ذماً ولا عقاباً، وإن كان ذاك لو فعل ما فعل ذم وعوقب، كما خص اللّه أمة نبينا بشريعة فضلها به، ولو تركنا مما أمرنا به فيها شيئًا، لكان ذلك سبباً للذم والعقاب، والأنبياء قبلنا لا يذمون بترك ذلك، لكن محمد صلى الله عليه وسلم فضله اللّه على الأنبياء، وفضل أمته على الأمم من غير ذم لأحد من الأنبياء، ولا لمن اتبعهم من الأمم .
وأيضاً، فإذا كان الإنسان لا يجب عليه شيء من الإيمان إلا ما يقدر عليه،وهو إذا فعل ذلك كان مستحقاً لما وعد اللّه به من الجنة،فلو كان مثل هذا يسمى مسلماً ولا يسمى مؤمناً،لوجب أن يكون من أهل الوعد بالجنة من يسمى مسلماً لامؤمناً كالأعراب، وكالشخص الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : ( أو مسلم ) وكسائر من نفى عنه الإيمان مع أنه مسلم، كالزاني، والشارب،/والسارق، ومن لا يأمن جاره بوائقه، ومن لا يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه، وغير هؤلاء، وليس الأمر كذلك .
فإن اللّه لم يعلق وعد الجنة إلا باسم الإيمان، لم يعلقه باسم الإسلام مع إيجابه الإسلام، وإخباره أنه دينه الذي ارتضاه، وأنه لا يقبل ديناً غيره، ومع هذا فما قال : إن الجنة أعدت للمسلمين، ولا قال : وعد اللّه المسلمين بالجنة، بل إنما ذكر ذلك باسم الإيمان، كقوله : { وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } [ التوبة : 72 ] ، فهو يعلقها باسم الإيمان المطلق، أو المقيد بالعمل الصالح، كقوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } [ البينة : 7، 8 ] ، وقوله : { وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } [ البقرة : 25 ] ، وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 277 ] ،وقوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ } [ النساء : 173 ] ،وقوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } [ النساء : 175 ] ،وقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً } [ النساء : 57 ] ، وفي الآية الأخرى : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً } [ النساء : 122 ] ، وقال : { وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } [ آل عمران : 57 ] ، وقال : { وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } [ المائدة : 9 ] ، وقال : { فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ الأنعام : 48 ] ، وقال : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ الأعراف : 42 ] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة .(1/251)
فالوعد بالجنة، والرحمة في الآخرة، وبالسلامة من العذاب،علق باسم الإيمان المطلق، والمقيد بالعمل الصالح، ونحو ذلك،وهذا ـ كما تقدم ـ أن المطلق يدخل فيه فعل ما أمر اللّه به ورسوله،ولم يعلق باسم الإسلام . فلو كان من أتى من الإيمان بما يقدر عليه وعجز عن معرفة تفاصيله قد يسمى مسلماً لا مؤمنًا،لكان من أهل الجنة، وكانت الجنة يستحقها من يسمى مسلماً وإن لم يسم مؤمناً، وليس الأمر كذلك، بل الجنة لم تعلق إلا باسم الإيمان، وهذا ـ أيضاً ـ مما استدل به من قال : إنه ليس كل مسلم من المؤمنين الموعودين بالجنة؛ إذ لو كان الأمر كذلك لكان وعد الجنة معلقاً باسم الإسلام، كما علق باسم الإيمان وكما علق باسم التقوى واسم البر، في مثل قوله : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } [ القمر : 54 ] ، وقوله : { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } [ الانفطار : 13 ] ، وباسم أولياء اللّّه، كقوله : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ يونس : 62 : 64 ] ، فلما لم يجر اسم الإسلام هذا المجرى، علم أن مسماه ليس ملازماً لمسمى الإيمان كما يلازمه اسم البر والتقوى وأولياء اللّه، وأن اسم الإسلام يتناول من هو من أهل الوعيد، وإن كان اللّه يثيبه على طاعته، مثل أن يكون في قلبه إيمان، ونفاق يستحق به العذاب، فهذا يعاقبه اللّه ولا يخلده في النار؛ لأن في قلبه مثقال ذرة أو أكثر من مثقال ذرة من إيمان .
/ وهكذا سائر أهل الكبائر إيمانهم ناقص، وإذا كان في قلب أحدهم شعبة نفاق عوقب بها إذا لم يعف اللّه عنه، ولم يخلد في النار، فهؤلاء مسلمون وليسوا مؤمنين ومعهم إيمان . لكن معهم ـ أيضاً ـ ما يخالف الإيمان من النفاق، فلم تكن تسميتهم مؤمنين بأولى من تسميتهم منافقين، لا سيما إن كانوا للكفر أقرب منهم للإيمان، وهؤلاء يدخلون في اسم الإيمان في أحكام الدنيا، كما يدخل المنافق المحض وأولى؛ لأن هؤلاء معهم إيمان يدخلون به في خطاب اللّه بـ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } ، لأن ذلك أمر لهم بما ينفعهم ونهى لهم عما يضرهم، وهم محتاجون إلى ذلك، ثم إن الإيمان الذي معهم إن اقتضى شمول لفظ الخطاب لهم فلا كلام، وإلا فليسوا بأسوأ حالاً من المنافق المحض، وذلك المنافق يخاطب بهذه الأعمال وتنفعه في الدنيا ويحشر بها مع المؤمنين يوم القيامة، ويتميز بها عن سائر الملل يوم القيامة كما تميز عنهم بها في الدنيا، لكن وقت الحقيقة يضرب { بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ الحديد : 13 : 15 ] ، وقد قال تعالى : {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 145، 146 ] .
فإذا عمل العبد صالحاً للّه،فهذا هوالإسلام الذي هو دين اللّه، ويكون/معه من الإيمان ما يحشر به مع المؤمنين يوم القيامة،ثم إن كان معه من الذنوب ما يعذب به عذب وأخرج من النار،إذا كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان وإن كان معه نفاق؛ولهذا قال تعالى في هؤلاء : { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 146 ] ، فلم يقل : إنهم مؤمنون بمجرد هذا؛ إذ لم يذكر الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله، بل هم معهم، وإنما ذكر العمل الصالح وإخلاصه للّه، وقال : { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } فيكون لهم حكمهم .
وقد بين تفاضل المؤمنين في مواضع أخر، وأنه من أتى بالإيمان الواجب استحق الثواب، ومن كان فيه شعبة نفاق وأتى بالكبائر، فذاك من أهل الوعيد، وإيمانه ينفعه اللّه به، ويخرجه به من النار ولو أنه مثقال حبة خردل لكن لا يستحق به الاسم المطلق المعلق به وعد الجنة بلا عذاب . وتمام هذا أن الناس قد يكون فيهم من معه شعبة من شعب الإيمان، وشعبة من شعب الكفر أو النفاق، ويسمى مسلماً، كما نص عليه أحمد .
وتمام هذا أن الإنسان قد يكون فيه شعبة من شعب الإيمان، وشعبة من شعب النفاق، وقد يكون مسلماً وفيه كفر دون الكفر الذي ينقل عن الإسلام بالكلية، كما قال الصحابة ـ ابن عباس وغيره ـ : كفر دون كفر . وهذا قول عامة السلف، وهو الذي نص عليه أحمد وغيره ممن قال في السارق، والشارب، ونحوهم ممن قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنه ليس بمؤمن ) أنه يقال لهم : مسلمون لا مؤمنون، واستدلوا بالقرآن والسنة على نفي اسم الإيمان مع إثبات اسم الإسلام، وبأن الرجل قد يكون مسلماً ومعه كفر /لا ينقل عن الملة، بل كفر دون كفر، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] قالوا : كفر لا ينقل عن الملة، وكفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم .(1/252)
وهذا ـ أيضاً ـ مما استشهد به البخاري في صحيحه فإن كتاب [ الإيمان ] الذي افتتح به [ الصحيح ] قرر مذهب أهل السنة والجماعة، وضمنه الرد على المرجئة، فإنه كان من القائمين بنصر السنة والجماعة مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان .
وقد اتفق العلماء على أن اسم المسلمين في الظاهر يجري على المنافقين؛ لأنهم استسلموا ظاهراً، وأتوا بما أتوا به من الأعمال الظاهرة بالصلاة الظاهرة، والزكاة الظاهرة، والحج الظاهر، والجهاد الظاهر، كما كان النبي يجري عليهم أحكام الإسلام الظاهر، واتفقوا على أنه من لم يكن معه شيء من الإيمان فهو كما قال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } [ النساء : 145 ] وفيها قراءتان : دَرْك ودَرَك قال أبو الحسين بن فارس : الجنة درجات والنار دركات، قال الضحاك : الدرج : إذا كان بعضها فوق بعض . والدرك : إذا كان بعضها أسفل من بعض، فصار المظهرون للإسلام بعضهم في أعلى درجة في الجنة وهو رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، كما قال في الحديث الصحيح : ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم سلوا اللّه لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد اللّه، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل اللّه لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم/ القيامة ) وقوله صلى الله عليه وسلم : ( وأرجو أن أكون ) مثل قوله : ( إني لأرجو أن أكون أخشاكم للّه وأعلمكم بحدوده ) ولا ريب أنه أخشى الأمة للّه، وأعلمهم بحدوده .
وكذلك قوله : ( اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة،فهي نائلة إن شاء اللّه من مات لا يشرك باللّه شيئاً ) ،وقوله : ( إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة ) وأمثال هذه النصوص،وكان يستدل به أحمد وغيره على الاستثناء في الإيمان،كما نذكره في موضعه .
والمقصود أن خير المؤمنين في أعلى درجات الجنة، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، وإن كانوا في الدنيا مسلمين ظاهراً تجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة، فمن كان فيه إيمان ونفاق يسمى مسلماً؛ إذ ليس هو دون المنافق المحض، وإذا كان نفاقه أغلب لم يستحق اسم الإيمان، بل اسم المنافق أحق به، فإن ما فيه بياض وسواد، سواده أكثر من بياضه، هو باسم الأسود أحق منه باسم الأبيض، كما قال تعالى : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } [ آل عمران : 167 ] ، وأما إذا كان إيمانه أغلب ومعه نفاق يستحق به الوعيد، لم يكن ـ أيضاً ـ من المؤمنين الموعودين بالجنة، وهذا حجة لما ذكره محمد بن نصر عن أحمد، ولم أره أنا فيما بلغني من كلام أحمد ولا ذكره الخلال ونحوه .
وقال محمد بن نصر : وحكى غير هؤلاء عن أحمد أنه قال : من أتى هذه الأربعة : الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والنُّهْبَة التي يرفع الناس فيها أبصارهم إليه، أو مثلهن أو فوقهن، فهو مسلم ولا أسميه/مؤمنًا،ومن أتى دون الكبائر نسميه مؤمناً ناقص الإيمان، فإن صاحب هذا القول يقول : لما نفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان، نفيته عنه كما نفاه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم والرسول لم ينفه إلا عن صاحب كبيرة، وإلا فالمؤمن الذي يفعل الصغيرة هي مكفرة عنه بفعله للحسنات واجتنابه للكبائر، لكنه ناقص الإيمان عمن اجتنب الصغائر، فما أتى بالإيمان الواجب، ولكن خلطه بسيئات كفرت عنه بغيرها، ونقصت بذلك درجته عمن لم يأت بذلك .
فَصْل وأما قول القائل : إن النبي صلى الله عليه وسلم خص كل قوم بما يصلح لهم . . . إلخ، فهذا الكلام له وجهان : (1)
إن أراد به أن الأعمال المشروعة يختلف الناس فيها بحسب اختلاف أحوالهم، فهذا لاريب فيه؛ فإنه ليس ما يؤمر به الفقير كما يؤمر به الغني، ولا ما يؤمر به المريض كما يؤمر به الصحيح، ولا ما يؤمر به عند المصائب هو ما يؤمر به عند النعم،ولا ما تؤمر به الحائض كما تؤمر به الطاهرة، ولا ما تؤمر به الأئمة كالذي تؤمر به الرعية، فأمر اللّه لعباده قد يتنوع بتنوع أحوالهم،كما قد يشتركون في أصل الإيمان باللّه وتوحيده،والإيمان بكتبه ورسله .
وإن أراد به أن الشريعة في نفسها تختلف، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب زيدًا بخطاب يناقض ما خاطب به عَمْرًا، أو أظهر لهذا شيئًا يناقض ما أظهره لهذا ـ كما يرويه الكذابون : أن عائشة سألته هل رأيت ربك ؟ فقال : ( لا ) . وسأله أبو بكر فقال : ( نعم ) . وأنه أجاب عن مسألة واحدة بجوابين متناقضين لاختلاف حال السائلين ـ فهذا من كلام الكذابين المفترين، بل هو من كلام الملاحدة المنافقين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين ) ، والحديث في سنن أبي داود وغيره . وكان عام الفتح قد أهدر دم جماعة منهم ابن أبي سَرْح، فجاء به عثمان ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه مرتين أو ثلاثًا ثم بايعه، ثم قال : ( أما كان فيكم رجل رشيد ينظر إلى وقد أعرضت عن هذا فيقتله ؟ ) فقال بعضهم : هلا أومضت إلىَّ يارسول اللّه ؟ فقال : ( ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين ) وهذا مبالغة في استواء ظاهره وباطنه وسره وعلانيته، وأنه لا يبطن خلاف ما يظهر على عادة المكارين المنافقين .
ولا ريب أن القرامطة ـ وأمثالهم من الفلاسفة ـ يقولون : إنه أظهر خلاف ما أبطن، وأنه خاطب العامة بأمور أراد بها خلاف ما أفهمهم لأجل مصلحتهم؛ إذ كان لا يمكنه صلاحهم إلا بهذا الطريق . وقد زعم ذلك ابن سينا وأصحاب ( رسائل إخوان الصفا ) وأمثالهم من الفلاسفة والقرامطة الباطنية؛ فإن ابن سينا كان هو وأهل بيته من أتباع الحاكم القرمطي العبيدي، الذي كان بمصر .
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 13 / ص 248)(1/253)
وقول هؤلاء . كما أنه من أكفر الأقوال، فجهلهم من أعظم الجهل؛ وذلك أنه إذا كان الأمر كذلك فلابد أن يعلمه أهل العقل والذكاء من الناس، وإذا علموه امتنع في العادة تواطؤهم على كتمانه كما يمتنع تواطؤهم على الكذب؛ فإنه كما يمتنع في العادة تواطؤ الجميع على الكذب يمتنع تواطؤهم على كتمان ما تتوفر الهِمَم والدواعي على بيانه وذِكْره، لا سيما مثل معرفة هذه الأمور العظيمة، التي معرفتها والتكلم بها من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي عليه . ألا ترى أن الباطنية ـ ونحوهم ـ أبطنوا خلاف ما أظهروه للناس، وسعوا في ذلك بكل طريق، وتواطؤوا عليه ما شاء اللّه، حتى الْتبَسَ أمْرُهُم على كثير من أتباعهم، ثم إنهم مع ذلك اطَّلع على حقيقة أمرهم جميع أذكياء الناس من موافقيهم ومخالفيهم، وصنفوا الكتب في كشف أسرارهم ورفع أستارهم، ولم يكن لهم في الباطن حرمة عند من عرف باطنهم، ولا ثقة بما يخبرون به، ولا التزام طاعة لما يأمرون، وكذلك من فيه نوع من هذا الجنس .
فمن سلك هذه السبيل لم يبق لمن علم أمره ثقة بما يخبر به، وبما يأمر به، وحينئذ فينتقض عليه جميع ما خاطب به الناس، فإنه ما من خطاب يخاطبهم به إلا ويجوزون عليه أن يكون أراد به غير ما أظهره لهم، فلا يثقون بأخباره وأوامره، فيختل عليه الأمر كله فيكون مقصوده صلاحهم، فيعود ذلك بالفساد العظيم، بل كل من وافقه فلابد أن يظهر خلاف ما أبطن، كاتباع من سلك هذه السبيل من القرامطة الباطنية وغيرهم، لا تجد أحدًا من موافقيهم إلا ولابد أن يبين أن ظاهره خلاف باطنه، ويحصل لهم بذلك من كشف الأسرار وهتك الأستار ما يصيرون به من شرار الكفار .
وإذا كانت الرسل تبطن خلاف ما تظهر، فإما أن يكون العلم بهذا الاختلاف ممكنًا لغيرهم وإما ألا يكون؛ فإن لم يكن ممكنًا كان مُدَّعِي ذلك كذابًا مفتريًا، فبطل قول هؤلاء الملاحدة الفلاسفة والقرامطة وأمثالهم، وإن كان العلم بذلك ممكنًا علم بعض الناس مخالفة الباطن للظاهر، وليس لمن يعلم ذلك حَدٌّ محدود؛ بل إذا علمه هذا، علمه هذا، وعلمه هذا، فيشيع هذا ويظهر؛ ولهذا كان من اعتقد هذا في الأنبياء ـ كهؤلاء الباطنية من الفلاسفة والقرامطة ونحوهم ـ معرضين عن حقيقة خبره وأمره، لا يعتقدون باطن ما أخبر به، ولا ما أمر، بل يظهر عليه من مخالفة أمره والإعراض عن خبره ما يظهر لكل أحد، ولا تجد في أهل الإيمان من يحسن بهم الظن، بل يظهر فسقهم ونفاقهم لعوام المؤمنين، فضلاً عن خواصهم .
وأيضًا، فمن كانت هذه حاله كان خواصه أعلم الناس بباطنه، والعلم بذلك يوجب الانحلال في الباطن . ومن علم حال خاصة النبي صلى الله عليه وسلم ـ كأبي بكر وعمر وغيرهما من السابقين الأولين ـ علم أنهم كانوا أعظم الناس تصديقًا لباطن أمر خبره وظاهره، وطاعتهم له في سرهم وعلانيتهم، ولم يكن أحد منهم يعتقد في خبره وأمره ما يناقض ظاهر ما بينه لهم ودلهم عليه، وأرشدهم إليه؛ ولهذا لم يكن في الصحابة من تأول شيئًا من نصوصه على خلاف ما دل عليه، لا فيما أخبر به اللّه عن أسمائه وصفاته، ولا فيما أخبر به عما بعد الموت، وأن ما ظهر من هذا ما ظهر إلا ممن هو عند الأمة من أهل النفاق والاتحاد، كالقرامطة والفلاسفة والجهمية نفاة حقائق الأسماء والصفات .
ومن تمام هذا أن تعلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص أحدًا من أصحابه بخطاب في علم الدين قصد كتمانه عن غيره، ولكن كان قد يسأل الرجل عن المسألة التي لا يمكن جوابها، فيجيبه بما ينفعه؛ كالأعرابي الذي سأله عن الساعة، والساعة لا يعلم متى هى . فقال : ( ما أعددتَ لها ؟ ) فقال : ما أعددتُ لها من كثير عَمَلٍ، ولكني أحب اللّه ورسوله، فقال : ( المرء مع من أحب ) ، فأجابه بالمقصود من علمه بالساعة، ولم يكن يخاطب أصحابه بخطاب لا يفهمونه، بل كان بعضهم أكمل فهما لكلامه من بعض، كما في الصحيحين عن أبي سعيد أن رسول اللّّه صلى الله عليه وسلم قال : ( إن عبدًا خَيَّرَهُ اللّه بين الدنيا والآخرة، فاختار ذلك العبدُ ما عند اللّه ) . فبكى أبو بكر وقال : بل نفديك بأنفسنا وأموالنا يا رسول اللّه، فجعل الناس يعجبون أن ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عبدًا خيره اللّه بين الدنيا والآخرة قال : وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر عبدًا مطلقًا لم يعينه، ولا في لفظه ما يدل عليه، لكن أبو بكر ـ لكمال معرفته بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم ـ علم أنه هو ذلك العبد، فلم يخص عنهم بباطن يخالف الظاهر، بل يوافقه ولا يخالف مفهوم لفظه ومعناه .
وأما ما يرويه بعض الكذابين عن عمر أنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما . فهذا من أظهر الأكاذيب المختلفة لم يروه أحد من علماء المسلمين في شىء من كتب أهل العلم، وهو من أظْهِر الكذب؛ فإن عمر أفضل الأمة بعد أبي بكر، وهو المحدث الملهم الذي ضرب اللّه الحق على لسانه وقلبه، وهو أفضل المخاطبين المحدثين من هذه الأمة، فإذا كان هو حاضرًا يسمع الألفاظ ولم يفهم الكلام كالزنجي، فهل يتصور أن يكون غيره أفهم منه لذلك ؟ فكيف من لم يسمع ألفاظ الرسول ؟ بل يزعم أن ما يدعيه من المعاني هي تلك المعاني بمجرد الدعوى التي لو كانت مجردة لم تقبل، فكيف إذا قامت البينة على كذب مدعيها ؟
وأما حديث حذيفة، فقد ثبت في الصحيح : أن حذيفة كان يعلم السر الذي لا يعلمه غيره .(1/254)
وكان ذلك ما أسره إليه النبي صلى الله عليه وسلم عام تبوك من أعيان المنافقين؛ فإنه روى أن جماعة من المنافقين أرادوا أن يحلوا حزام ناقة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالليل ليسقط عن بعيره فيموت، وأنه أوحى إليه بذلك، وكان حذيفة قريبًا منه فأسر إليه أسماءهم .
ويقال : إن عمر لم يكن يصلي على أحد حتى يصلي عليه حذيفة، وهذا ليس فيه شيء من حقائق الدين، ولا من الباطن الذي يخالف الظاهر؛ فإن اللّه قد ذكر في كتابه من صفات المنافقين وأخبارهم ما ذكره، حتى إن سورة [ براءة ] سميت الفاضحة؛ لكونها فضحت المنافقين، وسميت المبعثرة، وغير ذلك من الأسماء، لكن القرآن لم يذكر فلانًا وفلانًا، فإذا عرف بعض الناس أن فلانًا وفلانًا من هؤلاء المنافقين الموصوفين كان ذلك بمنزلة تعريفه أن فلانًا وفلانًا من المؤمنين الموعودين بالجنة، فإخباره صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر وعمر وغيرهما في الجنة، كإخباره أن أولئك منافقون، وهذا إذا كان من العلم الباطن، فهو من الباطن الموافق للظاهر المحقق له المطابق له .
ونظيره في [ الأمر ] ما يسمى : [ تحقيق المناط ] ، وهو أن يكون الشارع قد علق الحكم بوصف، فنعلم ثبوته في حق المعين، كأمره باستشهاد ذوي عدل، ولم يعين فلانًا وفلانًا، فإذا علمنا أن هذا ذو عدل، كنا قد علمنا أن هذا المعين موصوف بالعدل المذكور في القرآن . وكذلك لما حرم اللّه الخمر والميسر، فإذا علمنا أن هذا الشراب المصنوع من الذرة والعسل خمرًا، علمنا أنه داخل في هذا النص، فَعِلْمُنَا بأعيان المؤمنين وأعيان المنافقين هو من هذا الباب، وهذا هو من تأويل القرآن .
وهذا على الإطلاق لا يعلمه إلا اللّه؛ فإن اللّه يعلم كل مؤمن وكل منافق، ومقادير إيمانهم ونفاقهم وما يُختم لهم .
وأما الرسول فقد قال تعالى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } [ التوبة : 101 ] فاللّه يُطْلِعُ رسوله ومن شاء من عباده على ما يشاء من ذلك .
وأما حديث أبي هريرة، فهو حديث صحيح، قال : حفظت من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جرابين، فأما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا البلعوم . ولكن ليس في هذا من الباطن الذي يخالف الظاهر شيء، بل ولا فيه من حقائق الدين، وإنما كان في ذلك الجراب الخبر عما سيكون من الملاحم والفتن، فالملاحم الحروب التي بين المسلمين والكفار، والفتن ما يكون بين المسلمين؛ ولهذا قال عبد اللّه بن عمر : لو أخبركم أبوهريرة أنكم تقتلون خليفتكم، وتفعلون كذا وكذا لقلتم : كذب أبو هريرة . وإظهار مثل هذا مما تكرهه الملوك؛ وأعوانهم؛ لما فيه من الإخبار بتغير دولهم .
ومما يبين هذا : أن أبا هريرة إنما أسلم عام خيبر، فليس هو من السابقين الأولين، ولا من أهل بيعة الرضوان، وغيره من الصحابة أعلم بحقائق الدين منه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثه وغيره بالحديث فيسمعونه كلهم، ولكن كان أبو هريرة أحفظهم للحديث ببركة حصلت له من جهة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم ذات يوم حديثًا فقال : ( أيكم يبسط ثوبه فلا ينسى شيئًا سمعه ) ففعل ذلك أبو هريرة . وقد روى : أنه كان يجَزِّئ الليل ثلاثة أجزاء : ثلثًا يصلي،وثلثًا ينام،وثلثًا يدرس الحديث . ولم ينقل أحد قط عن أبي هريرة حديثًا يوافق الباطنية، ولا حديثًا يخالف الظاهر المعلوم من الدين .
ومن المعلوم أنه لو كان عنده شيء من هذا لم يكن بد أن ينقل عنه أحد شيئًا منه، بل النقول المتواترة عنه كلها تصدق ما ظهر من الدين، وقد روى من أحاديث صفات اللّه وصفات اليوم الآخر وتحقيق العبادات ما يوافق أصول أهل الإيمان، ويخالف قول أهل البهتان .
وأما ما يروى عن أبي سعيد الخراز وأمثاله في هذا الباب، وما يذكره أبو طالب في كتابه وغيره، وكلام بعض المشايخ الذي يظن أنه يقول بباطن يخالف الظاهر، وما يوجد من ذلك في كلام أبي حامد الغزالي أو غيره ـ فالجواب عن هذا كله أن يقال :
ما علم من جهة الرسول فهو نقل مصدق عن قائل معصوم، وما عارض ذلك فإما أن يكون نقلاً عن غير مصدق، أو قولا لغير معصوم . فإن كثيرًا مما ينقل عن هؤلاء كذب عليهم، والصدق من ذلك فيه ما أصابوا فيه تارة وأخطؤوا فيه أخرى، وأكثر عباراتهم الثابتة ألفاظ مجملة متشابهة، لو كانت من ألفاظ المعصوم لم تعارض الحكم المعلوم، فكيف إذا كانت من قول غير المعصوم ؟
وقد جمع أبو الفضل الفلكي [ هو علي بن الحسين الهمذاني، عرف بالفلكي، جمع الحديث وصنف كتبًا منها : المنتهى في معرفة الرجال ـ في ألف جزء، وكان صوفيًا، توفى بنيسابور سنة سبع وعشرين وأربعمائة ] كتابًا من كلام أبي يزيد البسطامي سماه [ النور من كلام طيفور ] فيه شيء كثير لا ريب أنه كذب على أبي يزيد البسطامي، وفيه أشياء من غلط أبي يزيد ـ رحمة اللّه عليه ـ وفيه أشياء حسنة من كلام أبي يزيد، وكل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .(1/255)
ومن قيل له عن أبي يزيد أو غيره من المشائخ : إنه قال لمريديه : إن تركتم أحدًا من أمة محمد يدخل النار فأنا منكم برىء، فعارضه الآخر وقال : قلت لمريدي : إن تركتم أحدًا من أمة محمد يدخل النار فأنا منكم بريء، فصدق هذا النقل عنه، ثم جعل هذا المصدق لهذا عن أبي يزيد أو غيره يستحسنه ويستعظم حاله، فقد دل على عظيم جهله أو نفاقه؛ فإنه إن كان قد علم ما أخبر به الرسول من دخول من يدخل النار من أهل الكبائر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من يشفع فيهم بعد أن تطلب الشفاعة من الرسل الكبار؛ كنوح وإبراهيم، وموسى وعيسى، فيمتنعون ويعتذرون ، ثم صدق أن مريدي أبي يزيد أو غيره يمنعون أحدًا من الأمة من دخول النار، أو يخرجون هم كل من دخلها ـ كان ذلك كفرًا منه بما أخبر به الصادق المصدوق بحكاية منقولة، كذب ناقلها، أو أخطأ قائلها، إن لم يكن تعمد الكذب، وإن كان لا يعلم ما أخبر به الرسول كان من أجهل الناس بأصول الإيمان .
فعلى المسلم الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يجتهد في أن يعرف ما أخبر به الرسول وأمر به علمًا يقينيًا، وحينئذ فلا يدع المحكم المعلوم للمشتبه المجهول، فإن مثال ذلك مثل من كان سائرًا إلى مكة في طريق معروفة لا شك أنها توصله إلى مكة إذا سلكها، فعدل عنها إلى طريق مجهولة لا يعرفها ولا يعرف منتهاها، وهذا مثال من عدل عن الكتاب والسنة إلى كلام من لايدري هل يوافق الكتاب والسنة أو يخالف ذلك .
وأما من عارض الكتاب والسنة بما يخالف ذلك، فهو بمنزلة من كان يسير على الطريق المعروفة إلى مكة، فذهب إلى طريق قبرص يطلب الوصول منها إلى مكة، فإن هذا حال من ترك المعلوم من الكتاب والسنة إلى ما يخالف ذلك من كلام زيد وعمرو كائنًا من كان . فإن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . وقد رأيت في هذا الباب من عجائب الأمور ما لا يحصيه إلا العليم بذات الصدور .
وأما الحديث المأثور : ( إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل العلم باللّه، فإذا ذكروه لم ينكره إلا أهل الغِرَّة باللّه ) ، فهذا قد رواه أبو إسماعيل الأنصاري شيخ الإسلام في كتابه الذي سماه [ الفاروق بين المثبتة والمعطلة ] ، وذكر فيه أحاديث الصفات صحيحها وغريبها، ومسندها ومرسلها، وموقوفها . وذكره أيضًا أبو حامد الغزالي في كتبه . ثم هذا يفسره بما يناسب أقواله التي يميل فيها إلى ما يشبه أقوال نفاة الصفات من الفلاسفة ونحوهم .
وذكر شيخ الإسلام عن شيخه يحيى بن عمار أنه كان يقول : المراد بذلك أحاديث الصفات، فكان يفسر ذلك بما يناقض قول أبي حامد من أقوال أهل الإثبات . والحديث ليس إسناده ثابتًا باتفاق أهل المعرفة، ولم يرو في أمهات كتب الحديث المعتمدة، فلا يحتاج إلى الكلام في تفسيره، وإذا قدر أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كلام مجمل ليس فيه تعيين لقول معين، فحينئذ فما من مدع يدعى أن المراد قوله، إلا كان لخصمه أن يقول نظير ذلك .
ولا ريب أن قول يحيى بن عمار وأبي إسماعيل الأنصاري ونحوهما من أهل الإثبات . أقرب من قول النفاة : إن هذا العلم هو من علم النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق وعلم الصحابة .
ومن المعلوم أن قول النفاة لا ينقله أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، بخلاف مذهب المثبتة؛ فإن القرآن والحديث والآثار عن الصحابة مملوءة به، فكيف يحمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على علم لم ينقله عنه أحد، ويترك حمله على العلم المنقول عنه وعن أصحابه ؟ !
وكذلك ما ذكره البخاري عن على ـ رضي اللّه عنه ـ أنه قال : حَدِّثُوا الناس بما يعرفون، ودَعُوا ما ينكرون، أتحبون أن يُكَذَِّب اللَّهُ ورسولُه . قد حمله أبو الوليد ابن رشد الحفيد الفيلسوف وأمثاله على علوم الباطنية الفلاسفة نفاة الصفات . وهذا تحريف ظاهر، فإن قول علي : أتحبون أن يكذب اللّه ورسوله، دليل على أن ذلك مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأقوال النفاة من الفلاسفة والجهمية والقرامطة والمعتزلة لم ينقل فيها مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا لا صحيحًا ولا ضعيفًا، فكيف يكذب اللّه ورسوله في شىء لم ينقله أحد عن اللّه ورسوله ؟ بخلاف ما رواه أهل الإثبات من أحاديث صفات الرب وملائكته، وجنته وناره، فإن هذا كثير مشهور قد لا تحتمله عقول بعض الناس، فإذا حدث به خيف أن يكذب اللّه ورسوله .
ومن هذا الباب قول عبد اللّه بن مسعود : ما من رجل يُحدِّث قومًا حديثِا لا تَبْلُغُه عقولهم، إلا كان فتنة لبعضهم . وابن مسعود فيما يقول ـ ذاكرًا أو آمرًا ـ من أعظم الناس إثباتًا للصفات، وأرواهم لأحاديثها، وأصحابه من أجَلِّ التابعين وأبلغهم في هذا الباب، وكذلك أصحاب ابن عباس، فكل من كان من الصحابة أعلم، كان إثباته وإثبات أصحابه أبلغ، فعلم أن الصحابة لم يكونوا يبطنون خلاف ما يظهرون، ولا يظهرون الإثبات ويبطنون النفي، ولا يظهرون الأمر ويبطنون امتناعه؛ بل هم أقوم الناس بتصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر .
وهذا باب واسع دخل فيه من الأمور ما لا يتسع هذا الموضع لتفصيله، ولكن نعلم جماع الأمر أن كل قول وعمل فلابد له من ظاهر وباطن، فظاهر القول لفظ اللسان، وباطنه ما يقوم من حقائقه ومعانيه بالجنان، وظاهر العمل حركات الأبدان، وباطنه ما يقوم بالقلب من حقائقه ومقاصد الإنسان .(1/256)
فالمنافق لما أتى بظاهر الإسلام دون حقائق الإيمان، لم ينفعه ذلك، وكان من أهل الخسران، بل كان في الدرك الأسفل من النار، قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } [ البقرة : 8، 9 ] الآيات فإن اللّه أنزل في أول سورة البقرة أربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في صفة المنافقين، وقال تعالى : { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] السورة،وقال تعالى : { لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } الآية [ المائدة : 41 ] .
والملاحدة يظهرون موافقة المسلمين ويبطنون خلاف ذلك، وهم شر من المنافقين، فإن المنافقين نوعان : نوع يظهر الإيمان ويبطن الكفر، ولا يَدَّعِي أن الباطن الذي يبطنه من الكفر هو حقيقة الإيمان . والملاحدة تدعي أن ما تبطنه من الكفر هو حقيقة الإيمان، وأن الأنبياء والأولياء هم من جنسهم يبطنون ما يبطنونه مما هو كفر وتعطيل، فهم يجمعون بين إبطان الكفر وبين دعواهم أن ذلك الباطن هو الإيمان عند أهل العرفان، فلا يظهرون للمستجيب لهم أن باطنه طعن في الرسول والمؤمنين، وتكذيب له، بل يجعلون ذلك من كمال الرسول وتمام حاله، وأن الذي فعله هو الغاية في الكمال، وأنه لا يفعله إلا أكمل الرجال من سياسة الناس على السيرة العادلة، وعمارة العالم على الطريقة الفاضلة، وهذا قد يظنه طوائف حقًا باطنًا وظاهرًا،فيؤول أمرهم إلى أن يكون النفاق عندهم هو حقيقة الإيمان، وقد علم بالاضطرار أن النفاق ضد الإيمان .
ولهذا كان أعظم الأبواب التي يدخلون منها باب التشيع والرفض؛ لأن الرافضة هم أجهل الطوائف وأكذبها، وأبعدها عن معرفة المنقول والمعقول، وهم يجعلون التُّقْيَة من أصول دينهم، ويكذبون على أهل البيت كذبًا لا يحصيه إلا اللّه، حتى يرووا عن جعفر الصادق أنه قال : التقية ديني ودين آبائي . و [ التقية ] هي شعار النفاق، فإن حقيقتها عندهم : أن يقولوا بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم وهذا حقيقة النفاق .
ثم إذا كان هذا من أصول دينهم، صار كل ما ينقله الناقلون عن علي أو غيره من أهل البيت، مما فيه موافقة أهل السنة والجماعة، يقولون : هذا قالوه على سبيل التقية، ثم فتحوا باب النفاق للقرامطة الباطنيةالفلاسفة من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم، فجعلوا ما يقوله الرسول هو من هذا الباب أظهر به خلاف ما أبطن، وأسر به خلاف ما أعلن، فكان حقيقة قولهم : أن الرسول هو إمام المنافقين، وهو صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق، المبين للناس ما نزل إليهم، المبلغ لرسالة ربه، والمخاطب لهم بلسان عربي مبين، قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } [ إبراهيم : 4 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ الزخرف : 3 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ القمر : 17 ] ، وقال تعالى : { َإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا } [ مريم : 97 ] ، وقال تعالى : { لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [ النحل : 103 ] وقال تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] وقال تعالى : { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [ القيامة : 17-19 ] ، وقال تعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } [ ص : 29 ] ، وقال تعالى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [ محمد : 24] وقال تعالى : { فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [ النحل : 35 ] .
وقالت الرسل : { رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } [ يس : 16ـ17 ] وقال : { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } [ النور : 54 ] ، وقال تعالى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } [ التغابن : 12 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [ المائدة : 67 ] فهذا ونحوه مما يبين أن الرسل عليهم أن يبلغوا البلاغ المبين . يقال : بان الشىء وأبان واستبان وتَبَيَّنَ وَبَيَّن، كلها أفعال لازمة . وقد يقال : أبان غيره وبَيَّنه وتَبَيَّنَهُ واستبانه .(1/257)
ومعلوم أن الرسل فعلوا ما عليهم، بل قد أخذ اللّه على أهل العلم الميثاق بأن يبينوا العلم ولا يكتموه، وذم كاتميه فقال تعالى : { وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [ آل عمران : 187 ] ، وقال تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ } [ البقرة : 140 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } [ البقرة : 159 ] فقد لعن كاتمه، وأخبر أنه بينه للناس في الكتاب، فكيف يكون قد بينه للناس وهو قد كتم الحق وأخفاه، وأظهر خلاف ما أبطن ؟ فلو سكت عن بيان الحق كان كاتمًا، ومن نسب الأنبياء إلى الكذب والكتمان مع كونه يقول : إنهم أنبياء، فهو من أشر المنافقين وأخبثهم وأبينهم تناقضًا .
وكثير من أهل النسك والعبادة والعلم والنظر ـ ممن سلك طريق بعض الصوفية والفقراء، وبعض أهل الكلام والفلسفة ـ يسلك مسلك الباطنية في بعض الأمور لا في جميعها، حتى يرى بعضهم سقوط الصلاة عن بعض الخواص، أو حِلَّ الخمر وغيرها من المحرمات لهم، أو أن لبعضهم طريقًا إلى اللّه ـ عز وجل ـ غير متابعة الرسول .
وقد يحتج بعضهم بقصة موسي والخِضْر، ويظنون أن الخضر خرج عن الشريعة؛ فيجوز لغيره من الأولياء ما يجوز له من الخروح عن الشريعة، وهم في هذا ضالون من وجهين :
أحدهما : أن الخضر لم يخرج عن الشريعة، بل الذي فعله كان جائزًا في شريعة موسى؛ ولهذا لما بَيَّن له الأسباب أقره على ذلك، ولو لم يكن جائزًا لما أقره، ولكن لم يكن موسى يعلم الأسباب التي بها أبيحت تلك، فظن أن الخضر كالملك الظالم، فذكر ذلك له الخضر .
والثاني : أن الخضر لم يكن من أمة موسى، ولا كان يجب عليه متابعته، بل قال له : إني على علم من علم اللّه عَلَّمَنِيه اللّه لا تعلمه، وأنت على علم من علم اللّه علمكه اللّه لا أعلمه . وذلك أن دعوة موسى لم تكن عامة؛ فإن النبي كان يبعث إلى قومه خاصة، ومحمد صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة، بل بعث إلى الإنس والجن باطنًا وظاهرًا، فليس لأحد أن يخرج عن طاعته ومتابعته، لا في الباطن ولا في الظاهر، لا من الخواص ولا من العوام .
ومن هؤلاء من يفضل بعض الأولياء على الأنبياء، وقد يجعلون الخضر من هؤلاء، وهذا خلاف ما أجمع عليه مشائخ الطريق المقتدى بهم، دع عنك سائر أئمة الدين وعلماء المسلمين، بل لما تكلم الحكيم الترمذي في كتاب [ ختم الأولياء ] بكلام ذكر أنه يكون في آخر الأولياء من هو أفضل من الصحابة، وربما لوح بشيء من ذكر الأنبياء ـ قام عليه المسلمون، وأنكروا ذلك عليه ونفوه من البلد بسبب ذلك، ولا ريب أنه تكلم في ذلك بكلام فاسد باطل لا ريب فيه .
ومن هناك ضل من اتبعه في ذلك، حتى صار جماعات يَدَّعِى كل واحد أنه خاتم الأولياء، كابن عربي صاحب [ الفصوص ] وسعد الدين بن حمويه، وغيرهما . وصار بعض الناس يدعي أن في المتأخرين من يكون أفضل في العلم باللّه من أبي بكر وعمر، والمهاجرين والأنصار، إلى أمثال هذه المقالات التي يطول وصفها، مما هو باطل بالكتاب والسنة والإجماع، بل طوائف كثيرون آل الأمر بهم إلى مشاهدة الحقيقة الكونية القدرية، وظنوا أن من شهدها سقط عنه الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وهذا هو دين المشركين الذين قالوا : { لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 841 ] .
وهؤلاء شر من القدرية المعتزلة، الذين يقرون بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، ويكذبون بالقدر، فإن أولئك يشبهون المجوس، وهؤلاء يشبهون المشركين المكذبين بالأنبياء والشرائع، فهم من شر الناس . وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا أن الظاهر لابد له من باطن يحققه ويصدقه ويوافقه، فمن قام بظاهر الدين من غير تصديق بالباطن فهو منافق، ومن ادَّعَى باطنا يخالف ظاهرًا فهو كافر منافق بل باطن الدين يحقق ظاهره ويصدقه ويوافقه، وظاهره يوافق باطنه ويصدقه ويحققه، فكما أن الإنسان لابد له من روح وبدن وهما متفقان، فلابد لدين الإنسان من ظاهر وباطن يتفقان، فالباطن للباطن من الإنسان، والظاهر للظاهر منه .(1/258)
والقرآن مملوء من ذكر أحكام الباطن والظاهر، والباطن أصل الظاهر، كما قال أبوهريرة : القلب مَلِك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن في الجسد مُضْغَة، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب ) . وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الإسلام عَلانِيةٌ، والإيمان في القلب ) ، وقد قال تعالى : { أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ } [ المجادلة : 22 ] ، وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ } [ الفتح : 4 ] ، وقال تعالى : { فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء } [ الأنعام : 125 ] ، وقال تعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [ الزمر : 23 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ الأنفال : 2 ] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] ، وأمثال هذا كثير في القرآن .
وقال في حق الكفار : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } [ المائدة : 41 ] ، وقال : { خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } [ البقرة : 7 ] ،وأمثال ذلك .
فنسأل اللّه العظيم أن يصلح بواطننا وظواهرنا، ويوفقنا لما يحبه ويرضاه من جميع أمورنا بِمنًّه وكرمه، والحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
فصل ( البينة على الناس )(1)
وقوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } [ هود : 17 ] ، وهذا يعم جميع من هو على بينة من ربه، ويتلوه شاهد منه . فالبينة : العلم النافع، والشاهد الذي يتلوه : العمل الصالح، وذلك يتناول الرسول ومن اتبعه إلى يوم القيامة، فإن الرسول على بينة من ربه، ومتبعيه على بينة من ربه .
وقال في حق الرسول : { قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } [ الأنعام : 57 ] ، وقال في حق المؤمنين : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ } [ محمد : 14 ] ، فذكر هذا بعد أن ذكر الصنفين في أول السورة، فقال : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ } الآيات، إلى قوله : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } [ محمد : 1 - 14 ] .
/وقال أبو الدرْدَاء : لا تهلك أمة حتي يتبعوا أهواءهم، ويتركوا ما جاءتهم به أنبياؤهم من البينات والهدي، وقال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللّهِ على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي } [ يوسف : 108 ] ،فمن اتبعه يدعو إلى الله على بصيرة،والبصيرة هي البينة . وقال : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ } الآية [ الأنعام : 122 ] . فالنور الذي يمشي به في الناس هو البينة والبصيرة، وقال : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } الآية [ النور : 35 ] .
قال أُبَي بن كعب وغيره : هو مثل نور المؤمن، وهو نوره الذي في قلب عبده المؤمن الناشئ عن العلم النافع، والعمل الصالح، وذلك بينة من ربه . وقال : { أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [ الزمر : 22 ] ، فهذا النور الذي هو عليه وشرح الصدر للإسلام هو البينة من ربه، وهو الهدي المذكور في قوله : { أُوْلَئِكَ على هُدًي مِّن رَّبِّهِمْ } [ البقرة : 5 ] واستعمل في هذا حرف الاستعلاء؛ لأن القلب لا يستقر ولا يثبت إلا إذا كان عالمًا موقنًا بالحق، فيكون العلم والإيمان صبغة له ينصبغ بها، كما قال : { صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً } [ البقرة : 138 ] ، ويصير مكانة له، كما قال : { قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ على مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ الأنعام : 135 ] ، والمكان والمكانة : قد يراد به ما يستقر الشيء علىه، وإن لم يكن محيطًا به كالسقف ـ مثلا ـ وقد يراد به ما يحيط به .
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 15 / ص 62)(1/259)
فالمهتدون لما كانوا على هدي من ربهم ونور وبينة وبصيرة، صار / مكانة لهم استقروا علىها، وقد تحيط بهم، بخلاف الذين قال فيهم : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ على وَجْهِه } [ الحج : 11 ] ، فإن هذا ليس ثابتًا مستقرًا مطمئنًا، بل هو كالواقف على حرف الوادي وهو جانبه، فقد يطمئن إذا أصابه خير، وقد ينقلب على وجهه ساقطًا في الوادي .
وكذلك فرق بين من أسس بنيانه على تقوي من الله ورضوان، وبين من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم، وكذلك الذين كانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم منها، وشواهد هذا كثير .
فقد تبين أن الرسول ومن اتبعه على بينة من ربهم وبصيرة، وهدي ونور، وهو الإيمان الذي في قلوبهم، والعلم والعمل الصالح، ثم قال : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } [ هود : 17 ] ، والضمير في { مِّنْهُ } عائد إلى الله ـ تعالى ـ أي : ويتلو هذا الذي هو على بينة من ربه شاهد من الله،والشاهد من الله، كما أن البينة التي هو علىها المذكورة من الله ـ أيضًا .
وأما قول من قال : ( الشاهد ) من نفس المذكور وفسره بلسانه، أو بعلى بن أبي طالب، فهذا ضعيف؛ لأن كون شاهد الإنسان منه لا يقتضي أن يكون الشاهد صادقًا، فإنه مثل شهادة / الإنسان لنفسه، بخلاف ما إذا كان الشاهد من الله، فإن الله يكون هو الشاهد، وهذا كما قيل في قوله : { قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } [ الرعد : 43 ] ، إنه على فهذا ضعيف؛ لأن شهادة قريب له قد اتبعه على دينه ولم يهتد إلا به لا تكون برهانًا للصدق، ولا حجة على الكفر، بخلاف شهادة من عنده علم الكتاب الأول فإن هؤلاء شهادتهم برهان ورحمة، كما قال في هذه السورة : { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَي إِمَامًا وَرَحْمَةً } [ هود : 17 ] ، وقال : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ } [ الأحقاف : 10 ] ، وقال : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إليكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ } [ يونس : 94 ] وقال : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } [ الأنعام : 114 ] ، وهذا الشاهد من الله هو القرآن .
ومن قال : إنه جبريل، فجبريل لم يقل شيئًا من تلقاء نفسه، بل هو الذي بلغ القرآن عن الله، وجبريل يشهد أن القرآن منزل من الله، وأنه حق، كما قال : { لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إليكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا } [ النساء : 166 ] ، والذي قال هو جبريل . قال : يتلوه، أي : يقرؤه، كما قال : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } [ القيامة : 18 ] ، أي : إذا قرأه جبريل فاتبع ما قرأه . وقال : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } [ النجم : 5 ] .
ومن قال : الشاهد لسانه، وجعل الضمير المذكور عائدًا على القرآن ولم يذكر؛ لأنه جعل البينة هي القرآن، ولو كانت البينة هي القرآن / لما احتاج إلى ذلك، وقد قال : على بينة من ربه، فقد ذكر أن القرآن من الله، وقد علم أنه نزل به جبريل على محمد ، وكلاهما بلغه وقرأه، فقوله : { وَيَتْلُوهُ } جبريل أو محمد، تكرير لافائدة فيه؛ ولهذا لم يذكر مثل ذلك في القرآن .
وأيضًا، فكونه على القرآن لم نجد لذلك نظيرًا في القرآن؛ فإن القرآن كلام الله واحد لا يكون علىه، وإذا كان المراد على الإيمان بالقرآن والعمل به، فهذا الذي ذكرناه : إن البينة هي الإيمان بما جاء به الرسول، وهو إخباره أنه رسول الله . وأن الله أنزل القرآن علىه . ولما أنزلت هذه السورة وهي مكية، لم يكن قد نزل من القرآن قبلها إلا بعضه، وكان المأمور به حينئذ هو الإيمان بما نزل منه، فمن آمن حينئذٍ بذلك ومات على ذلك كان من أهل الجنة .
وأيضًا، فتسمية جبريل شاهدًا، لا نظير له في القرآن، وكذلك تسمية لسان الرسول شاهدًا، وتسمية على شاهدًا، لا يوجد مثل ذلك في الكتاب والسنة، بخلاف شهادة الله؛ فإن الله أخبر بشهادته لرسوله في غير موضع، وسمي ما أنزله شهادة منه في قوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ } [ البقرة : 140 ] ، فدل على أن كلام الله الذي أنزله وأخبر فيه بما أخبر شهادة منه .
/وهو ـ سبحانه ـ يحكم ويشهد، ويفتي ويقص، ويبشر ويهدي بكلامه، ويصف كلامه بأنه يحكم ويفتي، ويقص ويهدي، ويبشر وينذر، كما قال : { قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } [ النساء : 127 ] ، { قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ } [ النساء : 176 ] ، وقال : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ على بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ النمل : 76 ] ، وقال : { نَحْنُ نَقُصُّ عليكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } [ يوسف : 3 ] ، وقال : { قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصلينَ } [ الأنعام : 57 ] ، وقال : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] .
وكذلك سمي الرسول هاديًا فقال : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشوري : 52 ] ، كما سماه بشيرًا ونذيرًا، وسمي القرآن بشيرًا ونذيرًا، فكذلك لما كان هو يشهد للرسول والمؤمنين بكلامه الذي أنزله، وكان كلامه شهادة منه، كان كلامه شاهدًا منه، كما كان يحكم ويفتي، ويقص ويبشر وينذر .(1/260)
ولما قيل لعلى بن أبي طالب : حَكَّمتَ مخلوقًا . قال : ما حكَّمتُ مخلوقًا، وإنما حكمتُ القرآن . فإن الذي يحكم به القرآن هو حكم الله، والذي يشهد به القرآن هو شهادة الله ـ عز وجل ـ قال عبد الرحمن بن زيد بن أَسْلَم ـ وقد كان إمامًا، وأخذ التفسير عن أبيه زيد، وكان زيد إمامًا فيه، ومالك وغيره أخذوا عنه التفسير، وأخذه عنه عبد الله / بن وَهْب [ هو أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم الفهري، أحد الأثبات والأئمة الأعلام، وصاحب التصانيف، طلب العلم وله سبع عشرة سنة، صحب مالكًا عشرين سنة وصنف الموطأ الكبير والصغير وحدث بمائة ألف حديث، ولد سنة 521هـ، وتوفي في شعبان سنة 791هـ ] صاحب مالك، وأصْبَغ بن الفرج [ هو أبو عبد الله أَصْبَغ بن الفرج بن سعيد بن نافع، الأموي، مفتي الديار المصرية وعالمها، المالكي، وثقه أحمد ابن عبد الله، وقال ابن معين : ( كان من أعلم خلق الله برأي مالك، يعرفها مسألة مسألة، متي قالها مالك، ومن خالفه فيها ) ، وله مصنفات، ولد بعد سنة 051هـ، وتوفي في سنة 522هـ ] الفقيه، قال : ـ في قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } [ هود : 17 ] ـ قال رسول الله : ( كان على بينة من ربه ) والقرآن يتلوه شاهد ـ أيضًا ـ لأنه من الله .
وقد ذكر الزَجَّاج فيما ذكره من الأقوال : ويتلو رسول الله القرآن، وهو شاهد من الله . وقال أبو العإلىة : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } : هو محمد، { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } : القرآن، قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس، ومحمد بن الحنفية، ومجاهد، وأبي صالح، وإبراهيم، وعِكْرِمَة، والضحاك، وقتادة، والسدِّي، وخَصِيف، وابن عُيينَةَ نحو ذلك . وهذا الذي قالوه صحيح، ولكن لا يقتضي ذلك أن المتبعين له ليسوا على بينة من ربهم، بل هم على بينة من ربهم .
وقد قال الحسن البصري : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } قال : المؤمن على بينة من ربه، ورواه ابن أبي حاتم، وروي عن الحسين بن على { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } يعني : محمدًا شاهد من الله، وهي تقتضي أن يكون الذي على البينة من شهد له .
وقول القائل : من قال : هو محمد، كقول من قال : هو جبريل، فإن كلاهما بلَّغ القرآن، والله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس،/ فاصطفي جبريل من الملائكة، واصطفي محمدًا من الناس . وقال في جبريل : {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } [ التكوير : 19 ] ، وقال في محمد : {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } [ الحاقة : 40 ] وكلاهما رسول من الله، كما قال : { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } [ البينة : 1 ـ 3 ] فكلاهما رسول من الله بلغ ما أرسل به، وهو يشهد أن ما جاء به هو كلام الله، وأما شهادتهم بما شهد به القرآن فهذا قدر مشترك بين كل من آمن بالقرآن، فإنه يشهد بكل ما شهد به القرآن؛ لكونه آمن به، سواء كان قد بلغه أو لم يبلغه .
ولهذا كان إيمان الرسول بما جاء به غير تبليغه له، وهو مأمور بهذا وبهذا وله أجر على هذا وهذا، كما قال : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إليه مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 285 ] ، ولهذا كان يقول : أشهد أني عبد الله ورسوله، فشهادة جبريل ومحمد بما شهد به القرآن من جهة إيمانهما به، لا من جهة كونهما مرسلين به، فإن الإرسال به يتضمن شهادتهما أن الله قاله، وقد يرسل غير رسول بشيء، فيشهد الرسول أن هذا كلام المرسل وإن لم يكن المرسل صادقًا ولا حكيمًا، ولكن علم أن جبريل ومحمدًا يعلمان أن الله صادق حكيم، فهما يشهدان بما شهد الله به .
وكذلك الملائكة والمؤمنون، يشهدون بأن ما قاله الله فهو حق /،وأن الله صادق حكيم، لا يخبر إلا بصدق،ولا يأمر إلا بعدل { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً } [ الأنعام : 115 ] .
فقد تبين أن شهادة جبريل ومحمد هي شهادة القرآن، وشهادة القرآن هي شهادة الله ـ تعالى ـ والقرآن شاهد من الله، وهذا الشاهد يوافق ويتبع ذلك الذي على بينة من ربه، فإن البينة والبصيرة والنور والهدي الذي عليه النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، قد شهد القرآن المنزل من الله بأن ذلك حق .
و { وَيَتْلُوهُ } معناه : يتبعه، كما قال : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } [ البقرة : 121 ] ، أي : يتبعونه حق اتباعه، وقال : { وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا } [ الشمس : 2 ] ، أي : تبعها، وهذا قَفَاه إذا تبعه . وقد قال : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] ، فهذا الشاهد يتبع الذي على بينة من ربه، فيصدقه ويزكيه، ويؤيده ويثبته، كما قال : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ } [ النحل : 102 ] ، وقال : { وَكُلاًّ نَّقُصُّ عليكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } [ هود : 120 ] ، وقال : { أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ } [ المجادلة : 22 ] .
وقد سمي الله القرآن سلطانًا في غير موضع، فإذا كان السلطان المنزل من الله يتبع هذا المؤمن، كان ذلك مما يوجب قوته وتسلطه علمًا وعملاً، وقال : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء
وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ الإسراء : 82 ] ، / { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا } الآية [ التوبة : 124 ] .(1/261)
وقال جُنْدُب بن عبد الله، وعبد الله بن عمر : تعلَّمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا، فهم كانوا يتعلمون الإيمان، ثم يتعلمون القرآن . وقال بعضهم في قوله : { نُّورٌ على نُورٍ } [ النور : 35 ] ، قال : نور القرآن على نور الإيمان، كما قال : { وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا } [ الشوري : 52 ] ، وقال السُّدِّي في قوله : { نُّورٌ على نُورٍ } نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا، فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه .
فتبين أن قوله : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } [ هود : 17 ] ، يعني هدي الإيمان، { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } أي من الله، يعني : القرآن شاهد من الله يوافق الإيمان ويتبعه، وقال : { وَيَتْلُوه } لأن الإيمان هو المقصود؛ لأنه إنما يراد بإنزال القرآن الإيمان وزيادته .
ولهذا كان الإيمان بدون قراءة القرآن ينفع صاحبه ويدخل به الجنة، والقرآن بلا إيمان لا ينفع في الآخرة؛ بل صاحبه منافق؛ كما في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأُتْرجَّة، طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر/، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها ) .
ولهذا جعل الإيمان بينة، وجعل القرآن شاهدًا؛ لأن البينة من البيان،و ( البينة ) : هي السبيل البينة،وهي الطريق البينة الواضحة، وهي ـ أيضًا ـ ما يبين بها الحق،فهي بينة في نفسها مبينة لغيرها،وقد تفسر بالبيان وهي الدلالة والإرشاد، فتكون كالهدي،كما يقال : فلان على هدي وعلى علم،فيفسر بمعنى المصدر والصفة والفاعل . ومنه قوله : { أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى } [ طه : 133 ] ،أي : بيان ما فيها أو يبين ما فيها،أو الأمر البين فيها . وقد سُمِّي الرسول بينة كما قال : { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ } [ البينة : 1، 2 ] ، فإنه يبين الحق، والمؤمن على سبيل بينة ونور من ربه،والشاهد المقصود به شهادته للمشهود له، فهو يشهد للمؤمن بما هو علىه،وجعل الإيمان من الله كما جعل الشاهد من الله؛لأن الله أنزل الإيمان في جذر قلوب الرجال،كما في الصحيحين عن حُذَيْفَة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله أنزل الإيمان في جذر قلوب الرجال، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة ) .
وأيضًا، فالإيمان ما قد أمر الله به .
وأيضًا، فالإيمان إنما هو ما أخبر به الرسول، وهذا أخبر به الرسول لكن الرسول له وحيان : وحي تكلم الله به يتلي، ووحي لا يتلي فقال : / { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إليكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا } الآية [ الشوري : 52 ] ، وهو يتناول القرآن والإيمان . وقيل : الضمير في قوله : { جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا } [ الشوري : 52 ] ، يعود إلى الإيمان، ذكر ذلك عن ابن عباس . وقيل : إلى القرآن . وهو قول السُدِّي، وهو يتناولهما، وهو في اللفظ يعود إلى الروح الذي أوحاه، وهو الوحي الذي جاء بالإيمان والقرآن .
فقد تبين أن كلاهما من الله نور وهدي منه، هذا يعقل بالقلب، لما قد يشاهد من دلائل الإيمان، مثل دلائل الربوبية والنبوة، وهذا يسمع بالآذان، والإيمان الذي جعل للمؤمن هو مثل ما وعد الله به في قوله : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّي يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [ فصلت : 53 ] ، أي : أن القرآن حق، فهذه الآيات متأخرة عن نزول القرآن، وهو مثل ما فعل من نصر رسوله والمؤمنين يوم بدر، وغير يوم بدر . فإنه آيات مشاهدة، صدقت ما أخبر به القرآن ـ ولكن ـ المؤمنون كانوا قد آمنوا قبل هذا .
وقيل : نزول أكثر القرآن الذي ثبت الله به لنبيه وللمؤمنين؛ ولهذا قال : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ فصلت : 53 ] فهو يشهد لرسوله بأنه صادق بالآيات الدالة على نبوته، وتلك آمن بها المؤمنون ثم أنزل من القرآن شاهدًا له، ثم أظهر آيات معاينة تبين لهم أن القرآن حق .
/ فالقرآن وافق الإيمان، والآيات المستقبلة وافقت القرآن والإيمان؛ ولهذا قال : { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَي إِمَامًا وَرَحْمَةً } [ هود : 17 ] فقوله : { وَمِن قَبْلِهِ } : يعود الضمير إلى الشاهد الذي هو القرآن، كما قال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ } الآية [ الأحقاف : 10 ] ، ثم قال : { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً } الآية . فقوله : { وَمِن قَبْلِهِ } الضمير يعود إلى القرآن . أي : من قبل القرآن، كما قاله ابن زيد . وقيل : يعود إلى الرسول، كما قاله مجاهد، وهما متلازمان .
وقوله : { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } فيه وجهان : قيل : هو عطف مفرد، وقيل : عطف جملة . قيل : المعنى : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } ، ويتلوه ـ أيضًا ـ من قبله كتاب موسى، فإنه شاهد بمثل ما شهد به القرآن، وهو شاهد من الله، وقيل : { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } جملة، ولكن مضمون الجملة فيها تصديق القرآن، كما قال في الأحقاف .(1/262)
وقوله تعالى : { أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } يدل على أن قوله : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } تتناول المؤمنين،فإنهم آمنوا بالكتاب الأول والآخر،كما تتناول النبي صلى الله عليه وسلم، وأولئك يعود إليهم الضمير، فإنهم مؤمنون به بالشاهد من الله، فالإيمان به إيمان بالرسول والكتاب الذي قبله .
/ ثم قال : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] ، وروي الإمام أحمد، وابن أبي حاتم، وغيرهما عن أيوب عن سعيد بن جبير قال : ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه إلا وجدت تصديقه في كتاب الله، حتي بلغني أنه قال : ( لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار ) ، قال سعيد : فقلت : أين هذا في كتاب الله ؟ حتي أتيت على هذه الآية : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } قال : الأحزاب : هي الملل كلها .
وقوله تعالى : { أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي كل من كان على بينة من ربه، فإنه يؤمن بالشاهد من الله، والإيمان به إيمان بما جاء به موسى، قال : { أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } وهم المتبعون لمحمد صلى الله عليه وسلم من أصحابه وغيرهم إلى قيام الساعة، ثم قال : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } ، والأحزاب هم : أصناف الأمم، الذين تحزبوا وصاروا أحزابًا، كما قال تعالى : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } [ غافر : 5 ] .
وقد ذكر الله طوائف الأحزاب في مثل هذه السورة وغيرها ، وقد قال تعالى عن مكذبي محمد صلى الله عليه وسلم : { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ } [ ص : 11 ] ،وهم الذين قال فيهم : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ علىهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إليه وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ الروم : 30 - 32 ] ، وقال عن أحزاب النصارى : { فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } الآيات [ مريم : 37 ] .
وأما من قال : الضمير في قوله : { أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } يعود على أهل الحق قال : إنه موسى وعيسى ومحمد . فإنه إن أراد بهم من كان مؤمنًا بالكتابين قبل نزول القرآن، فلم يتقدم لهم ذكر، والضمير في قوله : { بِهِ } مفرد، ولو آمن مؤمن بكتاب موسى دون الإنجيل بعد نزوله وقيام الحجة عليه به لم يكن مؤمنًا .
وهذان القولان حكاهما أبو الفرج ولم يسم قائلهما، والبغوي وغيره لم يذكروا نزاعًا في أنهم من آمن بمحمد، ولكن ذكروا قولاً أنهم من آمن به من أهل الكتاب، وهذا قريب . ولعل الذي حكي قولهم أبو الفرج أرادوا هذا، وإلا فلا وجه لقولهم .
ومن العجب، أن أبا الفرج ذكر بعد هذا في الأحزاب أربعة أقوال :
أحدها : أنهم جميع الملل، قاله سعيد بن جبير .
/والثاني : اليهود والنصارى، قاله قتادة .
والثالث : قريش، قاله السدي .
والرابع : بنو أمية وبنو المغيرة، قال : ـ أي : أبي طلحة بن عبد العزي ـ قاله مقاتل .
وهذه الآية تقتضي أن الضمير يعود إلى القرآن في قوله : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ } ، وكذلك : { أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أنه القرآن، ودليله قوله تعالى : { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } [ هود : 17 ] ، وهذا هو القرآن بلا ريب، وقد قيل : هو الخبر المذكور، وهو أنه من يكفر به من الأحزاب، وهذا ـ أيضًا ـ هو القرآن، فعلم أن المراد هو الإيمان بالقرآن، والكفر به باتفاقهم، وأنه من قال في أولئك أنهم غير من آمن بمحمد لم يتصور ما قال .
وقد تقدم في قوله : { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } وجهان : هل هو عطف جملة أو مفرد ؟ لَكنْ الأكثرون على أنه مفرد . وقال الزجاج : المعنى : وكان من قبل هذا كتاب موسى . دليل على أمر محمد، فيتلون كتاب موسى عطفًا على قوله : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } أي : ويتلو كتاب موسى؛ لأن موسى وعيسى بُشِّرا بمحمد في التوراة والإنجيل، ونُصِّبَ إماما على الحال .
/ قلت : قد تقدم أن الشاهد يتلو على من كان على بينة من ربه، أي : يتبعه شاهدًا له بما هو عليه من البينة . وقوله : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } كمن لم يكن، قال الزجاج : وترك المعادلة؛ لأن فيما بعده دليلاً علىه، وهو قوله : { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ } [ هود : 24 ] ، قال ابن قتيبة : لما ذكر قبل هذه الآية قومًا ركنوا إلى الدنيا وأرادوها، جاء بهذه الآية، وتقدير الكلام : أفمن كانت هذه حاله كمن يريد الدنيا ؟ فاكتفي من الجواب بما تقدم إذ كان دليلاً علىه، وقال ابن الأنباري : إنما حذف لانكشاف المعنى، وهذا كثير في القرآن .(1/263)
قلت : نظير هذه الآية من المحذوف : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا } [ فاطر : 8 ] ، كمن ليس كذلك، وقد قال بعد هذا : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ } ، وهذا هو القسم الآخر المعادل لهذا الذي هو على بينة من ربه، وعلى هذا يكون معناها أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم، ويكون ـ أيضًا ـ معناها : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } أي : بصيرة في دينه، كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها، وهذا كقوله : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } الآية [ الأنعام : 122 ] . وكقوله : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } [ محمد : 14 ] وقوله : { أَفَمَن يَهْدِي إلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي } الآية [ يونس : 35 ] .
والمحذوف في مثل هذا النظم قد يكون غير ذلك، كقوله : { أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ } [ الزخرف : 18 ] أي : تجعلون له من ينشأ في الحلية، ولابد من دليل على المحذوف، وقد يكون المحذوف مثل أن يقال : أفمن هذه حاله يذم أو يطعن عليه أو يعرض عن متابعته، أو يفتن أو يعذب، كما قال : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء } [ فاطر : 8 ] .
وقد قيل في هذه الآية : أن المحذوف : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } فرأى الباطل حقًا، والقبيح حسنًا، كمن هداه الله فرأي الحق حقًا والباطل باطلاً والقبيح قبيحًا والحسن حسنًا، وقيل : جوابه تحت قوله : { فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عليهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] ، لكن يرد عليه أن يقال : الاستفهام ما معناه إلا أن تقدر . أي : هذا تقدر أن تهديه، أو ربك ؟ أو تقدر أن تجزيه كما قال : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عليه وَكِيلًا } [ الفرقان : 43 ] . ولهذا قال : { فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء } [ فاطر : 8 ] . وكما قال : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ على عِلْمٍ } الآية [ الجاثية : 23 ] . وعلى هذا يكون معناها كمعنى قوله : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } [ محمد : 14 ] .
وعلى هذا، فالمعنى هنا : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } يذم ويخالف ويكذب ونحو ذلك، كقوله : { قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ } [ الأنعام : 57 ] ، وحذف جواب / الشرط، وكقوله : { أَرَأَيْتَ إِن كَانَ على الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [ العلق : 11 ـ 13 ] .
فقد تبين أن معنى الآية من أشرف المعاني وهذا هو الذي ينتفع به كل أحد، وأن الآية ذكرت من كان على بينة من ربه، من الإيمان الذي شهد له القرآن، فصار على نور من ربه وبرهان من ربه على مادلت عليه البراهين العقلية والسمعية، كما قال : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا } [ النساء : 174 ] ، فالنور المبين المنزل يتناول القرآن . قال قتادة : بينة من ربكم، وقال الثَّوْرِي : هو النبي صلي الله عليه وسلم، وقال البغوي : هذا قول المفسرين ولم أجده منقولاً عن غير الثاني، ولا ذكره ابن الجوزي عن غيره .
وذكر في البرهان ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الحجة . والثاني : أنه الرسول . وذكر أنه القرآن عن قتادة . والذي رواه ابن أبي حاتم عن قتادة بالإسناد الثابت أنه بينة من الله، والبينة والحجة تتناول آيات الأنبياء التي بعثوا بها، فكل ما دل على نبوة محمد صلي الله عليه وسلم فهو برهان . قال تعالي : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ } [ القصص : 32 ] ، وقال لمن قال : لا يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصاري، قل : هاتوا برهانكم .
ومحمد هو الصادق المصدوق، قد أقام الله على صدقه براهين كثيرة /وصار محمد نفسه برهانًا . فأقام من البراهين على صدقه؛ فدليل الدليل دليل، وبرهان البرهان برهان، وكل آية له برهان، والبرهان اسم جنس لا يراد به واحد،كما في قوله : { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ البقرة : 111، والنمل : 46 ] ، ولو جاؤوا بعده ببراهين كانوا ممتثلين .
والمقصود أن ذلك البرهان يعلم بالعقل أنه دال على صدقه، وهو بينة من الله، كما قال قتادة، وحجة من الله، كما قال مجاهد والسُّدي : المؤمن على تلك البينة، ويتلوه شاهد من الله وهو النور الذي أنزله مع البرهان . والله أعلم .
فصل ( الرد على بعض خرافات العرب )(1)
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 17 / ص 272)(1/264)
وأما الذين كانوا يقولون من العرب : إن الملائكة بنات الله، وما نقل عنهم من أنه صاهر الجن، فولدت له الملائكة فقد نفاه الله عنه بامتناع الصاحبة، وبامتناع أن يكون منه جزء فإنه صمد، وقوله : { وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ } [ الأنعام : 101 ] . وهذا كما تقدم من أن الولادة لا تكون إلا من أصلين سواء في ذلك تولد الأعيان التي تسمي الجواهر، وتولد الأعراض والصفات، بل ولا يكون تولد الأعيان إلا بانفصال جزء من الوالد . فإذا امتنع أن يكون له صاحبة امتنع أن يكون له ولد، وقد علموا كلهم ألا صاحبة له لا من الملائكة ولا من الجن ولا من الإنس، فلم يقل أحد منهم : إن له صاحبة؛ فلهذا احتج بذلك عليهم . وما حكي عن بعض كفار العرب : أنه صاهر الجن، فهذا فيه نظر، وذلك إن/كان قد قيل، فهو مما يعلم انتفاؤه من وجوه كثيرة، وكذلك ما قالته النصارى : من أن المسيح ابن الله، وما قاله طائفة من اليهود : إن العزير ابن الله، فإنه قد نفاه ـ سبحانه ـ بهذا وبهذا .
فإن قيل : أما عوام النصارى، فلا تنضبط أقوالهم، وأما الموجود في كلام علمائهم وكتبهم، فإنهم يقولون : إن أقنوم الكلمة، ويسمونها الابن تَدَرَّع المسيح، أي : اتخذه درعًا، كما يتدرع الإنسان قميصه، فاللاهوت تدرع الناسوت . ويقولون : باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد . قيل قصدهم : إن الرب موجود حي عليم، فالموجود هو الأب، والعلم هو الابن، والحياة هو روح القدس . هذا قول كثير منهم . ومنهم من يقول : بل موجود عالم قادر . ويقول : العلم هو الكلمة، وهو المتدرع . والقدرة : هي روح القدس، فهم مشتركون في أن المتدرع هو أقنوم الكلمة وهي الابن .
ثم اختلفوا في التدرع واختلفوا : هل هما جوهر أو جوهران ؟ وهل لهما مشيء ة أو مشيء تان ؟ ولهم في الحلول والاتحاد كلام مضطرب ليس هذا موضع بسطه، فإن مقالة النصارى فيها من الاختلاف بينهم ما يتعذر ضبطه، فإن قولهم ليس مأخوذًا عن كتاب منزل، ولا نبي مرسل، ولا هو موافق لعقول العقلاء، فقالت اليعقوبية : صار جوهرًا واحدًا، وطبيعة واحدة، وأقنومًا واحدًا، كالماء في اللبن . وقالت/النسطورية : بل هما جوهران وطبيعتان ومشيء تان؛ لكن حل اللاهوت في الناسوت حلول الماء في الظرف . وقالت الملكِيةُ : بل هما جوهر واحد، له مشيء تان وطبيعتان، أو فعلان، كالنار في الحديد .
وقد ذهب بعض الناس إلى أن قوله تعالى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } [ المائدة : 72 ] ، هم اليعقوبية، وفي قوله : { وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ } [ التوبة : 30 ] ، هم الملكية، وقوله : { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [ المائدة : 73 ] ، هم النسطورية وليس بشيء، بل الفِرَق الثلاث تقول المقالات التي حكاها الله ـ عز وجل ـ عن النصارى، فكلهم يقولون : إنه الله، ويقولون : إنه ابن الله، وكذلك في أمانتهم التي هم متفقون عليها، يقولون : إله حق من إله حق، وأما قوله : { ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } ، فإنه قال تعالى : { وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } [ المائدة : 116 ] .
قال أبو الفرج ابن الجوزي في قوله : { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } ، قال المفسرون : معنى الآية : أن النصارى قالوا بأن الإلهية مشتركة بين الله وعيسى ومريم، كل واحد منهم إله . وذكر عن الزجاج : الغلو : مجاوزة القدر في الظلم، وغلو النصارى في عيسى قول بعضهم : هو الله، وقول بعضهم : هو ابن الله، وقول بعضهم : هو ثالث /ثلاثة، فعلماء النصارى الذين فسروا قولهم : هو ابن الله بما ذكروه من أن الكلمة هي الابن، والفرق الثلاث متفقة على ذلك، وفساد قولهم معلوم بصريح العقل من وجوه :
أحدها : أنه ليس في شيء من كلام الأنبياء تسمية صفة الله ابنا ـ لا كلامه ولا غيره ـ فتسميتهم صفة الله ابنا تحريف لكلام الأنبياء عن مواضعه، وما نقلوه عن المسيح من قوله : عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس، لم يُرَد بالابن : صفة الله التي هي كلمته، ولا بروح القدس : حياته، فإنه لا يوجد في كلام الأنبياء إرادة هذا المعنى، كما قد بسط هذا في الرد على النصارى .
الوجه الثاني : أن هذه الكلمة ـ التي هي الابن ـ أهي صفة الله قائمة به ؟ أم هي جوهر قائم بنفسه ؟ فإن كانت صفته؛ بطل مذهبهم من وجوه :
أحدها : أن الصفة لا تكون إلهًا يخلق ويرزق ويحيي ويميت، والمسيح عندهم إله يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، فإذا كان الذي تدرعه ليس بإله؛ فهو أولى ألا يكون إلهًا .
الثاني : أن الصفة لا تقوم بغير الموصوف فلا تفارقه، وإن قالوا : نزل عليه كلام الله أو قالوا : إنه الكلمة أو غير ذلك، فهذا قدر مشترك بينه وبين سائر الأنبياء .(1/265)
/الثالث : أن الصفة لا تتحد، وتتدرع شيئًا إلا مع الموصوف، فيكون الأب نفسه هو المسيح، والنصارى متفقون على أنه ليس هو الأب، فإن قولهم متناقض ينقض بعضه بعضًا، يجعلونه إلها يخلق ويرزق، ولا يجعلونه الأب الذي هو الإله، ويقولون : إله واحد، وقد شبهه بعض متكلميهم كيحيي بن عدي بالرجل الموصوف بأنه طبيب وحاسب وكاتب، وله بكل صفة حكم، فيقال : هذا حق، لكن قولهم ليس نظير هذا، فإذا قلتم : إن الرب موجود حي عالم، وله بكل صفة حكم، فمعلوم أن المتحد إن كان هو الذات المتصفة، فالصفات كلها تابعة لها، فإنه إذا تدرع زيد الطبيب الحاسب الكاتب درعًا كانت الصفات كلها قائمة به، وإن كان المتدرع صفة دون صفة عاد المحذور، وإن قالوا : المتدرع الذات بصفة دون صفة، لزم افتراق الصفتين، وهذا ممتنع؛ فإن الصفات القائمة بموصوف واحد ـ وهي لازمة له ـ لا تفترق، وصفات المخلوقين قد يمكن عدم بعضها مع بقاء الباقي، بخلاف صفات الرب ـ تبارك وتعالى .
الرابع : أن المسيح ـ نفسه ـ ليس هو كلمات الله، ولا شيئًا من صفاته، بل هو مخلوق بكلمة الله، وسمي كلمة؛ لأنه خلق بكن من غير الحَبَلِ المعتاد، كما قال تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدم خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] ، وقال تعالى : { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ مريم : 34، 35 ] ، ولو قدر أنه نفسه كلام الله، كالتوراة والإنجيل وسائر كلام الله، لم يكن كلام الله، ولا شيء من صفاته خالقًا ولا ربًا ولا إلها . فالنصارى إذا قالوا : إن المسيح هو الخالق، كانوا ضالين من جهة جعل الصفة خالقة، ومن جهة جعله هو نفس الصفة، وإنما هو مخلوق بالكلمة، ثم قولهم بالتثليث وإن الصفات ثلاث باطل، وقولهم ـ أيضًا ـ بالحلول والاتحاد باطل، فقولهم يظهر بطلانه من هذه الوجوه وغيرها .
فلو قالوا : إن الرب له صفات قائمة به، ولم يذكروا اتحادًا ولا حلولًا، كان هذا قول جماهير المسلمين المثبتين للصفات، وإن قالوا : إن الصفات أعيان قائمة بنفسها، فهذا مكابرة، فهم يجمعون بين المتناقضين .
وأيضًا، فجعلهم عدد الصفات ثلاثة باطل؛ فإن صفات الرب أكثر من ذلك، فهو ـ سبحانه ـ موجود حي عليم قدير . والأقانيم عندهم التي جعلوها الصفات ليست إلا ثلاثة؛ ولهذا تارة يفسرونها بالوجود والحياة والعلم، وتارة يفسرونها بالوجود والقدرة والعلم، واضطرابهم كثير، فإن قولهم في نفسه باطل، ولا يضبطه عقل عاقل؛ ولهذا يقال : لو اجتمع عشرة من النصارى، لافترقوا على أحد عشر قولا .
/وأيضًا، فكلمات الله كثيرة لا نهاية لها، كما قال سبحانه وتعالى : { قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } [ الكهف : 109 ] ، وهذا قول جماهير الناس من المسلمين وغير المسلمين، وهذا مذهب سلف الأمة الذين يقولون : لم يزل ـ سبحانه ـ متكلمًا بمشيء ته . وقول من قال : إنه لم يزل قادرًا على الكلام لكن تكلم بمشيء ته، كلامًا قائمًا بذاته حادثا، وقول من قال : كلامه مخلوق في غيره .
وأما من قال : كلامه شيء واحد قديم العين، فهؤلاء منهم من يقول : إنه أمور لا نهاية لها مع ذلك . ومنهم من يقول : بل هو معنى واحد، ولكن العبارات عنه متعددة . وهؤلاء يمتنع عندهم أن يكون ذلك المعنى قائمًا بغير الله، وإنما يقوم بغيره عندهم العبارات المخلوقة، ويمتنع أن يكون المسيح شيئًا من تلك العبارات، فإذا امتنع أن يكون المسيح غير كلام الله ـ على قول هؤلاء ـ فعلى قول الجمهور أشد امتناعًا؛ لأن كلمات الله كثيرة، والمسيح ليس هو جميعها، بل ولا مخلوقًا بجميعها، إنما خُلِقَ بكلمة منها، وليس هو عين تلك الكلمة؛ فإن الكلمة صفة من الصفات، والمسيح عين قائم بنفسه .
ثم يقال لهم : تسميتكم العلم والكلمة ولدًا وابنًا تسمية باطلة باتفاق العلماء والعقلاء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الأنبياء . قالوا : لأن الذات/يتولد عنها العلم والكلام كما يتولد ذلك عن نفس الرجل العالم منها، فيتولد من ذاته العلم والحكمة والكلام؛ فلهذا سميت الكلمة ابنا، قيل : هذا باطل من وجوه :
أحدها : أن صفاتنا حادثة تحدث بسبب تعلمنا ونظرنا وفكرنا واستدلالنا، وأما كلمة الرب وعلمه، فهو قديم لازم لذاته، فيمتنع أن يوصف بالتولد، إلا أن يدعي المدعي أن كل صفة لازمة لموصوفها متولدة عنه، وهي ابن له، ومعلوم أن هذا من أبطل الأمور في العقول واللغات؛ فإن حياة الإنسان ونطقه ـ وغير ذلك من صفاته اللازمة له ـ لا يقال : إنها متولدة عنه، وإنها ابن له . وأيضًا فيلزم أن تكون حياة الرب ـ أيضًا ـ ابنه ومتولدة، وكذلك قدرته؛ وإلا فما الفرق بين تولد العلم وتولد الحياة والقدرة وغير ذلك من الصفات ؟ !
وثانيها : أن هذا إن كان من باب تولد الجواهر والأعيان القائمة بنفسها؛ فلابد له من أصلين، ولابد أن يخرج من الأصل جزء . وأما علمنا وقولنا، فليس عينًا قائمًا بنفسه، وإن كان صفة قائمة بموصوف، وعرضًا قائمًا في محل كعلمنا وكلامنا، فذاك ـ أيضًا ـ لا يتولد إلا عن أصلين، ولابد له من محل يتولد فيه . والواحد منا لا يحدث له العلم والكلام إلا بمقدمات تتقدم على ذلك، وتكون أصولًا للفروع، ويحصل العلم والكلام في محل لم يكن حاصلًا فيه قبل ذلك .(1/266)
/فإن قلتم : إن علم الرب كذلك، لزم أن يصير عالمًا بالأشياء بعد أن لم يكن عالمًا بها، وأن تصير ذاته متكلمة بعد أن لم يكن متكلمًا . وهذا مع أنه كفر عند جماهير الأمم من المسلمين والنصارى وغيرهم فهو باطل في صريح العقل؛ فإن الذات التي لا تكون عالمة يمتنع أن تجعل نفسها عالمة بلا أحد يعلمها، والله ـ تعالى ـ يمتنع عليه أن يكون متعلمًا من خلقه، وكذلك الذات التي تكون عاجزة عن الكلام، يمتنع أن تصير قادرة عليه بلا أحد يجعلها قادرة، والواحد منها لا يولد جميع علومه، بل ثَمَّ علوم خلقت فيه لا يستطيع دفعها، فإذا نظر فيها حصلت له علوم أخرى، فلا يقول أحد من بني آدم : إن الإنسان يولد علومه كلها، ولا يقول أحد : إنه يجعل نفسه متكلمة بعد أن لم تكن متكلمة، بل الذي يقدره على النطق هو الذي أنطق كل شيء .
فإن قالوا : إن الرب يولد بعض علمه، وبعض كلامه دون بعض، بطل تسمية العلم الذي هو الكلمة مطلقًا ـ الابن ـ وصار لفظ الابن إنما يسمي به بعض علمه، أو بعض كلامه، وهم يدَّعُونَ أن المسيح هو الكلمة، وهو أقنوم العلم مطلقًا، وذلك ليس متولدًا عنه كله، ولا يسمي كله ابنا باتفاق العقلاء .
وثالثها : أن يقال : تسمية علم العالم وكلامه ولدًا له لا يعرف في شيء من اللغات المشهورة، وهو باطل بالعقل؛ فإن علمه وكلامه كقدرته وعلمه، فإن/جاز هذا، جاز تسمية صفات الإنسان كلها الحادثة متولدات عنه له، وتسميتها أبناءه . ومن قال من أهل الكلام القدرية : إن العلم الحاصل بالنظر متولد عنه، فهو كقوله : إن الشِّبَع والرِّي متولد عن الأكل والشرب، لا يقول : إن العلم ابنه وولده، كما لا يقول : إن الشبع والري ابنه ولا ولده؛ لأن هذا من باب تولد الأعراض والمعاني القائمة بالإنسان، وتلك لا يقال : إنها أولاده وأبناؤه . ومن استعار فقال : بنيات فكره، فهو كما يقال : بنيات الطريق . ويقال : ابن السبيل . ويقال لطير الماء : ابن ماء . وهذه تسمية مقيدة، قد عرف أنها ليس المراد بها ما هو المعقول من الأب والابن والوالد والولد . وأيضًا، فكلام الأنبياء ليس في شيء منه تسمية شيء من صفات الله ابنًا، فمن حمل شيئًا من كلام الأنبياء على ذلك فقد كذب عليهم، وهذا مما يقِر به علماء النصارى وما وجد عندهم من لفظ الإبن في حق المسيح وإسرائيل وغيرهما، فهو اسم للمخلوق لا لشيء من صفات الخالق، والمراد به أنه مكرم معظم .
ورابعها : أن يقال : فإذا قدر أن الأمر كذلك، فالذي حصل للمسيح إن كان هو ما علمه الله إياه من علمه وكلامه، فهذا موجود لسائر النبيين، فلا معنى لتخصيصه بكونه ابن الله، وإن كان هو أن العلم والكلام إله اتحد به فيكون العلم والكلام جوهرًا قائمًا بنفسه، فإن كان هو الأب فيكون المسيح هو الأب، وإن كان العلم والكلام جوهرًا آخر، فيكون إلهان قائمان /بأنفسهما، فتبين فساد ما قالوه بكل وجه .
وخامسها : أن يقال : من المعلوم عند الخاصة والعامة أن المعنى الذي خص به المسيح إنما هو أن خُلِقَ من غير أب، فلما لم يكن له أب من البشر، جعل النصارى الرب أباه، وبهذا ناظر نصاري نجران النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن لم يكن هو ابن الله، فقل لنا من أبوه ؟ فعلم أن النصارى إنما ادعوا فيه البنوة الحقيقية، وأن ما ذكر من كلام علمائهم هو تأويل منهم للمذهب؛ ليزيلوا به الشناعة التي لا يبلغها عاقل، وإلا فليس في جعله ابن الله وجه يختص به معقول، فعلم أن النصارى جعلوه ابن الله، وأن الله أحْبَلَ مريم، والله هو أبوه، وذلك لا يكون إلا بإنزال جزء منه فيها، وهو ـ سبحانه ـ الصمد، ويلزمهم أن تكون مريم صاحبة وزوجة له؛ ولهذا يتألهونها كما أخبر الله عنهم . وأي معنى ذكروه في بنوة عيسى غير هذا لم يكن فيه فرق بين عيسى وبين غيره، ولا صار فيه معنى البنوة، بل قالوا ـ كما قال بعض مشركي العرب ـ : إنه صاهر الجن فولدت له الملائكة . وإذا قالوا : اتخذه ابنًا على سبيل الاصطفاء، فهذا هو المعنى الفعلي، وسيأتي إن شاء الله ـ تعالى ـ إبطاله .
وقوله تعالى : { وَرُوحٌ مِّنْهُ } [ النساء : 171 ] ، ليس فيه أن بعض الله صار في عيسي، بل من لابتداء الغاية، كما قال : { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] ، وقال : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ } [ النحل : 53 ] ، وما أضيف إلى الله أو قيل هو منه فعلى وجهين : إن كان عينًا قائمة بنفسها؛ فهو مملوك له، ومن لابتداء الغاية، كما قال تعالى : { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } [ مريم : 17 ] ، وقال في المسيح : { وَرُوحٌ مِّنْهُ } . وما كان صفة لا يقوم بنفسه كالعلم والكلام فهو صفة له، كما يقال : كلام الله، وعلم الله، وكما قال تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } [ النحل : 102 ] ، وقال : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } [ الأنعام : 114 ] .(1/267)
وألفاظ المصادر يعبر بها عن المفعول، فيسمي المأمور به أمرًا، والمقدور قدرة، والمرحوم به رحمة، والمخلوق بالكلمة كلمة، فإذا قيل في المسيح : إنه كلمة الله، فالمراد به أنه خُلِقَ بكلمة قوله : [ كن ] ، ولم يخلق على الوجه المعتاد من البشر، وإلا فعيسى بشر قائم بنفسه ليس هو كلاما صفة للمتكلم يقوم به، وكذلك إذا قيل عن المخلوق : إنه أمر الله، فالمراد أن الله كونه بأمره، كقوله : { أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] ، وقوله : { فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } [ هود : 82 ] ، فالرب ـ تعالى ـ أحد صمد، لا يجوز أن يتبعض ويتجزأ، فيصير، بعضه في غيره، سواء سمي ذلك روحًا أو غيره، فبطل ما يتوهمه النصارى من كونه ابنًا له، وتبين أنه عبد من عباد الله .
وقد قيل : منشأ ضلال القوم أنه كان في لغة من قبلنا يعبر عن/ الرب بالأب، وبالابن عن العبد المربي الذي يربه الله ويربيه، فقال المسيح : عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس، فأمرهم أن يؤمنوا بالله ويؤمنوا بعبده ورسوله المسيح، ويؤمنوا بروح القدس جبريل، فكانت هذه الأسماء لله، ولرسوله المَلَكي، ورسوله البشري، قال الله تعالى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ } [ الحج : 75 ] .
وقد أخبر ـ تعالى ـ في غير آية أنه أيد المسيح بروح القدس، وهو جبريل عند جمهور المفسرين، كقوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } [ البقرة : 87 ] ، فعند جمهور المفسرين أن روح القدس هو جبريل، بل هذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم، ودليل هذا قوله تعالى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [ النحل : 101، 102 ] . وروي الضحاك عن ابن عباس : أنه الاسم الذي كان يحيي به الموتي . وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أنه الإنجيل . وقال تعالى : { أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ } [ المجادلة : 22 ] ، وقال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا } [ الشورى : 52 ] ، وقال تعالى : { يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } [ النحل : 2 ] فما ينزله الله في قلوب أنبيائه مما تحيا به قلوبهم من الإيمان الخالص يسميه روحًا، وهو ما يؤيد الله به المؤمنين من عباده فكيف بالمرسلين منهم ؟ ! والمسيح ـ عليه السلام ـ من أولى العزم، فهو أحق بهذا من جمهور الرسل والأنبياء، وقال تعالى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } [ البقرة : 253 ] . وقد ذكر الزجاج في تأييده بروح القدس ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه أيده به لإظهار أمره ودينه .
الثاني : لدفع بني إسرائيل عنه إذ أرادوا قتله .
الثالث : أنه أيده به في جميع أحواله .
ومما يبين ذلك أن لفظ الابن في لغتهم ليس مختصًا بالمسيح، بل عندهم أن الله ـ تعالى ـ قال في التوراة لإسرائيل : أنت ابني بكري، والمسيح كان يقول : أبي وأبوكم فيجعله أبا للجميع، ويسمي غيره ابنًا له، فعلم أنه لا اختصاص للمسيح بذلك، ولكن النصارى يقولون : هو ابنه بالطبع، وغيره ابنه بالوضع، فيفرقون فرقًا لا دليل عليه، ثم قولهم : هو ابنه بالطبع يلزم عليه من المحالات عقلًا وسمعًا ما يبين بطلانه .
فصل -( ما يستغفر منه )(1)
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 691)(1/268)
وأيضًا فمما يستغفر ويتاب منه ما في النفس من الأمور التى لو قالها، أو فعلها عذب، قال تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة 284 ] . فهو يغفر لمن يرجع عما في نفسه فلم يتكلم به ولم يعمل كالذي همّ بالسيئة ولم يعملها، وإن تركها لله كتبت له حسنة، وهذا مما يستغفر منه ويتوب، فإن الاستغفار والتوبة من كل ما كان سببا للذم والعقاب، وإن كان لم يحصل العقاب ولا الذم، فإنه يفضي إليه فيتوب من ذلك، أي يرجع عنه، حتى لا يفضي إلى شر فيستغفر الله منه، أي يطلب منه أن يغفر له فلا يشقيه به، فإنه وإن لم يعاقب عليه فقد ينقص به، فالذي يهم بالسيئات، وإن كان لا يكتب عليه سيئة، لكن اشتغل بها عما كان ينفعه فينقص بها عمن لم يفعلها واشتغل بما ينفعه عنها، وقد بسطنا في غير هذا الموضع؛ أن فعل الإنسان وقوله، إما له وإما عليه، لا يخلو من هذا أو هذا، فهو يستغفر الله ويتوب مما عليه، وقد يظن ظنون سوء باطلة، وإن لم يتكلم بها فإذا تبين له فيها، استغفر الله وتاب، وظلمه لنفسه يكون بترك واجب، كما يكون بفعل محرم، فقوله تعالى { وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء 110 ] من عطف العام على الخاص وكذلك قوله { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ آل عمران 135 ] . وقد قيل في قوله تعالى { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } [ آل عمران 135 ] قيل الفاحشة : الزنا وقيل كل كبيرة وظلم النفس المذكور معها، قيل هو : فاحشة أيضًا وقيل هى الصغائر .
وهذا يوافق قول من قال : الفاحشة هي الكبيرة، فيكون الكلام قد تناول الكبيرة والصغيرة، ومن قال : الفاحشة الزنا، يقول ظلم النفس يدخل فيه سائر المحرمات، وقيل الفاحشة : الزنا وظلم النفس ما دونه، من اللمس والقبلة والمعانقة، وقيل : هذا هو الفاحشة، وظلم النفس : المعاصى وقيل الفاحشة : فعل وظلم النفس، قول والتحقيق أن ظلم النفس جنس عام، يتناول كل ذنب .
وفى الصحيحين أن أبا بكر قال يا رسول الله علمني دعاءًا أدعو به في صلاتي فقال ( قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) .
والتحقيق أن [ ظلم النفس ] جنس عام يتناول كل ذنب، وفي الصحيحين أن أبا بكر قال : يا رسول الله، علمني دعاءً أدعو به في صلاتي فقال : ( قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) ، / وفي صحيح مسلم، وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في استفتاحه : ( اللهم أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت ) .
وقد قال أبو البشر وزوجته : { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وإن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] ، وقال موسى : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ } [ القصص : 16 ] ، وقال ذو النون ـ يونس ـ : { لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] ، وقالت بلقيس : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ النمل : 44 ] .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال عن أهل القرى المعذبين : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } [ هود : 101 ] ، وأما قوله : { ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } [ آل عمران : 147 ] ، فقد قيل : إن الذنوب هي الصغائر، والإسراف هو الكبائر .
و [ التحقيق ] أن [ الذنوب ] اسم جنس، و [ الإسراف ] تعدي الحد، ومجاوزة القصد، كما في لفظ الإثم والعدوان فالذنوب كالإثم، /والإسراف كالعدوان، كما في قوله : { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } [ الأنعام : 145 ] ، ومجاوزة قدر الحاجة، فالذنوب مثل اتباع الهوى بغير هدى من الله، فهذا كله ذنب، كالذي يرضى لنفسه، ويغضب لنفسه، فهو متبع لهواه، و [ الإسراف ] كالذي يغضب لله، فيعاقب بأكثر مما أمر الله . والآية في سياق قتال المشركين، وما أصابهم يوم أحد .
وقد أخبر عمن قبلهم بقوله : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 146 ] ، وقد قيل على الصحيح، المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يقتل في معركة فقد قتل أنبياء كثيرون، { فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلَّا أن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } الآية .(1/269)
فجمعوا بين الصبر والاستغفار وهذا هو المأمور به في المصائب الصبر عليها والاستغفار من الذنوب التي كانت سببها . والقتال كثيرا ما يقاتل الإنسان فيه لغير الله كالذي يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء . فهذا كله ذنوب والذي يقاتل لله قد يسرف فيقتل من لا يستحق القتل ويعاقب الكفار بأشد مما أمر به قال الله تعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } [ الإسراء 33 ] . وقال : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } [ الفرقان 67 ] . وقال : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ } [ الأعراف 31 ] . فالإسراف مجاوزة الحد . هذا آخر ما كتبته هنا . والله سبحانه وتعالى أعلم . والحمد لله رب العالمين .
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - رحمه الله : حول معنى الاستغفار (1)
الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه؛ إلى الفعل المحبوب من العمل الناقص إلى العمل التام، ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل ; فإن العابد لله والعارف بالله في كل يوم بل في كل ساعة بل في كل لحظة يزداد علمًا بالله، وبصيرة في دينه وعبوديته بحيث يجد ذلك في طعامه وشرابه ونومه ويقظته وقوله وفعله ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية وإعطائها حقها، فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار ; بل هو مضطر إليه دائمًا في الأقوال والأحوال، في الغوائب والمشاهد لما فيه من المصالح، وجلب الخيرات، ودفع المضرات، وطلب الزيادة في القوة في الأعمال القلبية والبدنية اليقينية الإيمانية .
وقد ثبتت : دائرة الاستغفار بين أهل التوحيد واقترانها بشهادة أن لا إله إلا الله، من أولهم إلى آخرهم، ومن آخرهم إلى أولهم، ومن الأعلى إلى الأدنى، وشمول دائرة التوحيد، والاستغفار للخلق كلهم، وهم فيها درجات عند الله، ولكل عامل مقام معلوم . فشهادة أن لا إله إلا الله بصدق ويقين؛ تذهب الشرك كله، دقه وجله، خطأه وعمده، أوله وآخره، سره وعلانيته وتأتي على جميع صفاته وخفاياه ودقائقه . والاستغفار يمحو ما بقي من عثراته ويمحو الذنب الذي هو من شعب الشرك، فإن الذنوب كلها من شعب الشرك، فالتوحيد يذهب أصل الشرك، والاستغفار يمحو فروعه، فأبلغ الثناء قول : لا إله إلا الله، وأبلغ الدعاء قول : أستغفر الله .
فأمره بالتوحيد والاستغفار لنفسه ولإخوانه من المؤمنين . وقال : إياك والنظر في كتب أهل الفلسفة الذين يزعمون فيها أنه كلما قوي نور الحق وبرهانه في القلوب، خفي عن المعرفة، كما يبهر ضوء الشمس [ عيون ] الخفافيش بالنهار . فاحذر مثل هؤلاء وعليك بصحبة أتباع الرسل، المؤيدين بنور الهدى، وبراهين الإيمان، أصحاب البصائر في الشبهات والشهوات، الفارقين بين الواردات الرحمانية والشيطانية العالمين العاملين { أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ المجادلة 22 ] . وقال : التوبة من أعظم الحسنات، والحسنات كلها مشروط فيها الإخلاص لله، وموافقة أمره باتباع رسوله، والاستغفار من أكبر الحسنات، وبابه واسع؛ فمن أحس بتقصير في قوله، أو عمله، أو حاله، أو رزقه ، أو تقلب قلب؛ فعليه بالتوحيد والاستغفار ففيهما الشفاء إذا كانا بصدق وإخلاص . وكذلك إذا وجد العبد تقصيرًا في حقوق القرابة والأهل والأولاد والجيران والإخوان، فعليه بالدعاء لهم والاستغفار . قال حذيفة بن اليمان للنبي صلى الله عليه وسلم : إن لي لسانًا ذربًا على أهلي . فقال له : ( أين أنت من الاستغفار ؟ إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة ) .
=======================
وفي الفصل لابن حزم :هل الإحسان إلى الأبوين الكافرين من التعظيم؟:.(2)
قال أبو محمد: فكل ما هو مأمور بتعظيمه فاضل، وكل فاضل فمأمور بتعظيمه، وليس الإحسان والبر والتوقير والتذلل المفترض في الأبوين الكافرين من التعظيم في شيء، فقد يحسن المرء إلى من لا يعظم ولا يهين، كإحسان المرء إلى جاره وغلامه وأجيره، ولا يكون ذلك تعظيما، وقد يبر الإنسان جاره، والشيخ من أكرته، ولا يسمى ذلك تعظيما، وقد يوقر الإنسان من يخاف ضره ولا يسمى ذلك تعظيما، وقد يتذلل الإنسان للمتسلط الظالم ولا يسمى ذلك تعظيما.
وفرض على كل مسلم البراءة من أبويه الكافرين وعداوتهما في الله عز وجل، قال الله عز وجل: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه).
وقال عز وجل: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده).
وقال عز وجل: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم).
فقد صح بيقين أن ما وجب للأبوين الكافرين من بر وإحسان وتذلل ليس هو التعظيم الواجب لمن فضله الله عز وجل؛ لأن التعظيم الواجب لمن فضله الله عز وجل هو مودة في الله، ومحبة فيه، وولاية له، وأما البر الواجب للأبوين الكافرين والتذلل لهما، والإحسان إليهما، فكل ذلك مرتبط بالعداوة لله تعالى، وللبراءة منه، وإسقاط المودة، كما قاله تعالى في نص القرآن، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وقد يكون دخول الجنة اختصاصا مجردا دون عمل، وذلك للأطفال كما ذكرنا قبل.
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 696)
(2) - الفصل في الملل والأهواء والنحل - (ج 1 / ص 472)(1/270)
واعترض علينا بعض الأشعرية بأن قال: إن الله تعالى يقول: (إنك لا تهتدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) فصح أن محبته عليه السلام لمن أحب ليس فضلا؛ لأنه قد أحب عمه وهو كافر.(1)
قال أبو محمد: فقلنا: إن هذه الآية ليست على ما ظن، وإنما مراد الله تعالى: (إنك لا تهتدي من أحببت) أي أحببت هداه.
برهان ذلك: قوله تعالى: (ولكن الله يهدي من يشاء) أي من يشاء هداه، وفرض على النبي صلى الله عليه وسلم وعلينا أن نحب الهدى لكل كافر، لا أن نحب الكافر.
وأيضا فلو صح أن معنى الآية (من أحببت) كما ظن هذا المعترض لما كان علينا بذلك حجة؛ لأن هذه آية مكية نزلت في أبي طالب، ثم أنزل الله تعالى في المدينة: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم)، وأنزل الله تعالى في المدينة: (لقد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده) وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أبا طالب فقد حرم الله تعالى عليه بعد ذلك، ونهاه عن محبته، وافترض عليه عداوته، وبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن العداوة والمحبة لا يجتمعان أصلا، والمودة: هي المحبة في اللغة التي بها نزل القرآن بلا خلاف من أحد من أهل اللغة، فقد بطل أن يحب النبي صلى الله عليه وسلم أحدا غير مؤمن، ومن قد صحت النصوص والإجماع على أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن أحب فضيلة، وذلك كقوله عليه السلام لعلي: (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله).
فإذ لا شك ولا خلاف في أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قال أهل الجهل والكذب؛ فقد صح يقينا أن كل من كان أتم حظا في الفضيلة فهو أفضل ممن هو أقل حظا في تلك الفضيلة، هذا شيء يعلم ضرورة، فإذا كانت عائشة أتم حظا في المحبة التي هي أتم فضيلة فهي أفضل ممن حظه في ذلك أقل من حظها، ولذلك لما قيل له عليه السلام: من الرجال، قال: (أبوها) ثم عمر، فكان ذلك موجبا لفضل أبي بكر، ثم عمر على سائر الصحابة رضي الله عنهم، فالحكم بالباطل لا يجوز في أن يكون يقدم أبو بكر ثم عمر في الفضل من أجل تقدمها في المحبة عليهما، وما نعلم نصا في وجوب القول بتقديم أبي بكر ثم عمر على سائر الصحابة، إلا هذا الخبر وحده.
قال أبو محمد: وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على ما ينكح له من النساء، فذكر الحسب والمال والجمال والدين، ونهى صلى الله عليه وسلم عن كل ذلك بقوله: (فعليك بذات الدين تربت يداك) فمن المحال الممتنع أن يكون يحض على نكاح النساء واختيارهن للدين فقط، ثم يكون هو عليه السلام يخالف ذلك فيحب عائشة لغير الدين.
وكذلك قوله عليه السلام: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) لا يحل لمسلم أن يظن في ذلك شيئا غير الفضل عند الله تعالى في الدين، فوصف الرجل امرأته للرجال لا يرضى به إلا خسيس نذل ساقط، ولا (الجزء/الصفحة:4/100) يحل لمن له أدنى مسكة من عقل أن يمر هذا في باله عن فاضل من الناس، فكيف عن المقدس المطهر البائن فضله على جميع الناس صلى الله عليه وسلم.
قال أبو محمد: ولولا أنه بلغنا عن بعض من تصدر لنشر العلم من زماننا؛ وهو المهلب بن أبي صفرة التميمي صاحب عبد الله بن إبراهيم الأصيل، أنه أشار إلى هذا المعنى القبيح، وصرح به؛ ما انطلق لنا بالإيماء إليه لسان، ولكن المنكر إذا ظهر وجب على المسلمين تغييره، فرضا على حسب طاقتهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال أبو محمد: وكذلك عرض الملك لها رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولادتها في سرقة من حرير، يقول له: هذه زوجتك، فيقول عليه السلام: (إن يكن من عند الله يمضيه) فهل بعد هذا في الفضل غاية.
=====================
وفي هداية الحيارى : الفصل الرابع: نصوص الكتب المتقدمة في البشارة به وصفته ونعت أمته. (2)
__________
(1) -الفصل في الملل والأهواء والنحل - (ج 1 / ص 477)
(2) - هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى - (ج 1 / ص 48)(1/271)
والقول الثاني " وعليه أكثر النصارى إنه المخلص والمسيح نفسه يسمونه المخلص، قالوا وهذه كلمة سريانية ومعناها المخلص، قالوا وهو بالسريانية فاروق فجعل " فارق " قالوا و " ليط " كلمة تزاد، ومعناها كمعنى قول العرب: رجل هو، وحجر هو، وفرس هو. قالوا فكذلك معنى " ليط " في السريانية. وقالت طائفة أخرى من النصارى: معناه بالسريانية المعزى، قالوا وكذلك هو في اللسان اليوناني. ويعترض على هذين القولين بأن المسيح لم يكن لغته سريانية ولا يونانية بل عبرانية، وأجيب عن هذا بأنه يتكلم بالعبرانية، والإنجيل إنما نزل باللغة العبرانية وترجم عنه بلغة السريانية والرومية واليونانية وغيرهما، وأكثر النصارى على أنه المخلص، والمسيح نفسه يسمونه المخلص، وفي الانجيل الذي بأيديهم إنه قال: " إنما أتيت لأخلص العالم " والنصارى يوقولن في صلاتهم: لقد ولدت لنا مخلصا ولما لم يكن النصارى انكار هذه النصوص حرفوها أنوعا من التحريف، فمنهم من قال: هو روح نزلت على الحواريين، ومنهم من قال: هو ألسن نارية نزلت من السماء على التلاميذ ففعلوا بها الآيات والعجائب، ومنهم من يزعم أنه المسيح نفسه لكونه جاء بعد الصلب بأربعين يوما وكونه قام من قبره، ومنهم من قال لا يعرف ما المراد بهذا الفارقليط ولا يتحق لنا معناه ومن تأمل الفاظ الإنجيل وسياقها علم أن تفسيره بالروح باطل، وابطل منه تفسيره بالألسن النارية، وأبطل منها تفسيره بالمسيح، فإن روح القدس، مازالت تنزل على الأنبياء والصالحين قبل المسيح وبعده وليست موصوفة بهذه الصمفات وقد قال تعالى (لا تَجِدُ قوماً يُؤمِنونَ بِاللَهِ وَاليَومِ الآَخِرِ يُوادُونَ مَن حادَ اللَهَ وَرَسولَهُ وَلَو كانوا آَباءهُم أَو أَبناءَهُم أَو إِخوانَهُم أَو عَشَيرَتَهُم أَولئِكَ كَتَبَ في قُلوبِهِمُ الإِيمانَ وَأَيَدَهُم بِروحٍ مِنه) وقال النبي صلىا لله عليه وسلم لحسان ابن ثابت لما كان يهجو المشركين " اللهم أيده بروح القدس " وقال " إن روح القدس معك مازلت تنافح عن نبيه " وإذا كان كذلك ولم يسم أحد هذه الروح فارقليطا علم أن الفارقليط أمر غير هذا. " وأيضا " فمثل هذه الروح لا زالت يؤيد بها الأنبياء والصالحون وما بشر به المسيح ووعد به أمر عظيم يأتي بعده أعظم من هذا " وأيضا " فإنه وصف الفارقليط بصفات لا تناسب هذا الروح وإنما تناسب رجلا يأتي بعده نظيرا له، فإنه قال: : " إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياى وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد " وهذا إنما يكون لما يدوم ويبقى معهم إلى آخر الدهر ومعلوم أنه لم يرد بقاء ذاته فعلم أنه بقاء شرعه وأمره، والفارقليط الأول لم يثبت معهم شرعه ودينه إلى الأبد، وهذا يبين أن الثاني صاحب شرع لا ينسخ بل يبقى إلى الأبد بخلاف الأول، وهذا إنما ينطبق على محمد صلى الله عليه وسلم.(1/272)
و " أيضا " فإنه أخبر أن هذا الفارقليط الذي أخبر به يشهد له ويعلمهم كل شيء وأنه يذكر لهم كل ما قال المسيح وأنه يوبخ العالم على خطيئته فقال " والفارقليط الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كلما قلت لكم، وقال إذا جاء الفارقليطن الذي أبي أرسله هو يشهد إني قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنوا به، ولا تشكوا فيه، وقال إن خيرا لكم أن انطلق إلى أبي، إن لم أذهب لم يأتكم الفارقليط، فإن انطلقت أرسلته إليكم، فهو يوبخ العالم على الخطيئة، فإن لي كلاما كثيرا أريد أن أقول لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله لكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عند نفسه بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب " فهذه الصفات والنعوت التي تلقوها عن المسيح لا تنطبق على أمر معنوي في قلب بعض الناس لا يراه أحد ولا يسمع كلامه، وإنما تنطبق على من يراه الناس ويسمعون كلامه، فيشهد للمسيح، ويعلمهم كل شيء ويذكرهم كلما قال لهم المسيحن ويوبخ العالم على الخطيئة، ويرشد الناس إلى جميع الحق، ولا ينطق من عنده بل يتلكم بما يسمع، ويخبرهم بكل ما يأتي، ويعرفهم جميع ما لرب العالمين وهذا لا يكون ملكا لا يراه أحد ولا يكون هدىً وعلما في قلب بعض الناسن ولا يكون إلا إنسانا عظيم القدر يخاطب بما أخبر به المسيح، وهذا لا يكون إلا بشرا رسولا، بل يكون أعظم من المسيح، فإن المسيح أخبر أنه يقدر على مالا يقدر عليه المسيح، ويعلم ما لا يعلمه المسيح، ويخبر بكل ما يأتي وبما يستحقه الرب حيث قال: " إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله ولكنكم لا تستطيعون حمله، ولكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بلك ما يأتي، ويعرفكم جميع ما للأب " فلا يستريب عاقل أن هذه الصفات لا تنطبق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الأخبار عن الله بما هو متصف به من الصفات وعن ملائكته وعن ملكوته وعما أعده في الجنة لأوليائه وفي النار لأعدائه أمر لا تحتمل عقول أكثر الناس معرفته على التفصيل، قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله. وقال ابن مسعود: ما من رجل يحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم، وسأل رجل ابن عباس عن قوله تعالى: (الَّذي خَلَقَ سَبعَ سَمَواتٍ وَمِنَ الأَرضِ مِثلَهُن يَتَنَزَلَ الأَمرُ بَينَهُنَ) قال: ما يؤمنك أن لو أخبرتك بها لكفرت. يعني لو أخبرتك بتفسيرها لكفرت بها وكفرك بها تكذيب بها تكذيب بها، فقال لهم المسيح " إن لي كلاما كثيرا أريد أن أن أقوله لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله " وهو الصادق المصدوق في هذا، ولهذا ليس في الإنجيل من صفات الله تعالى وصفات ملكوته وصفات اليوم الآخر إلا أمور مجملة، وكذلك التوراة ليس فيها من ذكر اليوم الآخر إلا أمور مجملة، مع أن موسى صلى الله عليه وسلم كان قد سهل الأمر للمسيح، ومع هذا فقد قال لهم المسيح: " إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ولكنكم لاتستطيعون حمله " ثم قال " ولكن إذا جاء روح الحق فذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق، وأنه يخبركم بكل ما يأتي، وبجميع ما للرب " فدل فذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق، وأنه يخبر كم بكل ما يأتي، وبجميع ما للرب " فدل هذا على أن " الفارقليط " هو الذي يفعل هذا دون المسي،ن وكذلك كان، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم أرشد الناس إلى جميع الحق حتى أكمل الله به الدين، وأتم به النعمة؛ ولهذا كان خاتم الأنبياء فإنه لم يبق نبي يأتي بعده غيره، وأخبر محمد صلى الله عليه وسلم بكل ما يأتي من أشراط الساعة والقيامة والحساب والصراط ووزن الأعمال، والجنة وأنواع نعيمها، والنار وأنواع عذابها، ولهذا كان في القرآن تفصيل أمر الآخرة وذكر الجنة والنار وما يأتي أمور كثيرة لا توجد لا في التوراة ولا في الانجيل، وذلك تصديق قول المسيح إنه يخبر بكل ما يأتي، وذلك يتضمن صدق المسيح وصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قوله تعالى: (إِنّهُم إِذا قيلَ لَهُم لا إِله إلاّ اللَهَ يَستَكبِرون وَيَقولونَ أَئِنا لَتارِكوا آَلهَتِنا لِشاعِرٍ مَجنون بَل جاءَ بِالحَقِ وَصَدَقَ المُرسَلين) أي مجيئه تصديق للرسل قبله، فإنهم اخبروا بمجيئه فجاء كما اخبروا به، فتضمن مجيئه(1/273)
تصديقهم، ثم شهد هو بصدقهم فصدقهم بقوله ومجيئه، ومحمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله بين يدي الساعة كما قال: " بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى) وكان إذا ذكر الساعة علا صوته واحمر وجهه واشتد غضبه، وقال " أنا النذير العريان " فاخبر من الأمور التي تأتي في المستقبل بما لم يأت به نبي من الأنبياء كما نعته به المسيح حيث قال " انه يخبركم بكل ما يأتي " ولا يوجد مثل هذا أصلا عن أحد من الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم فضلا عن أن يوجد عن شيء نزل على قلب بعض الحواريين، " وأيضا " فإنه قال " ويعرفكم جميع ما للرب " فبين أنه يعرف الناس جميع ما لله، وذلك يتناول ما لله من الأسماء والصفات وما له من الحقوق وما يجب من الإيمان به غير محمد صلى الله عليه وسلم فإنه تضمن ما جاء به من الكتاب والحكمة هذا كله.هم، ثم شهد هو بصدقهم فصدقهم بقوله ومجيئه، ومحمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله بين يدي الساعة كما قال: " بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى) وكان إذا ذكر الساعة علا صوته واحمر وجهه واشتد غضبه، وقال " أنا النذير العريان " فاخبر من الأمور التي تأتي في المستقبل بما لم يأت به نبي من الأنبياء كما نعته به المسيح حيث قال " انه يخبركم بكل ما يأتي " ولا يوجد مثل هذا أصلا عن أحد من الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم فضلا عن أن يوجد عن شيء نزل على قلب بعض الحواريين، " وأيضا " فإنه قال " ويعرفكم جميع ما للرب " فبين أنه يعرف الناس جميع ما لله، وذلك يتناول ما لله من الأسماء والصفات وما له من الحقوق وما يجب من الإيمان به غير محمد صلى الله عليه وسلم فإنه تضمن ما جاء به من الكتاب والحكمة هذا كله.
" وأيضا " فإن المسيح قال " إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أبي فهو يشهد لي، قلت لكم حتى إذا كان تؤمنوا به، فأخبر إنه شهد لهن وهذه صفة نبي بشر به المسيح ويشهد للمسيح، كما قال تعالى: (وَإِذ قالَ عَيسى بِن مَريَم يا بُني إسرائِيلَ إِني رَسولُ اللَهِ إليكُم مُصدِقا لِما بَينَ يَدي مِنَ التَوراةِ ومُبشِرا بِرَسولٍ يَأتي مِن بَعدي إسمُهُ أَحمَد) وأخبر أنه يوبخ العالم على الخطيئة وهذا يستحيل حمله على معنى يقوم بقلب الحواريين فإنهم آمنوا به وشهدوا له قبل ذهابه فكيف يقول إذا جاء فإنه يشهد لي ويوصيهم بالإيمان به أفترى الحواريين لم يكونوا مؤمنين بالمسيح فهذا من أعظم جهل النصارى وضلالهم؟! " وأيضا " فإنه لم يوجد أحد وبخ جميع العالم على الخطيئة إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه أنذر جميع العالم من أصناف الناس ووبخهم على الخطيئة من الكفر والفسوق والعصيان ولم يقتصر على مجرد الأمر والنهي بل وبخهم وفزعهم وتهددهم.(1/274)
" وأيضا " فإنه أخبر أنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع. وهذا إخبار بأنه كلما يتكلم به فهو وحي يسمعه ليس هو شيئا تعلمه من الناس أو عرفه باستنباط، وهذه خاصة محمد صلى الله عليه وسلم، وأما المسيح فكان عنده علم بما جاء به موسى قبله يشاركه به أهل الكتاب تلقاه عمن قبله، ثم جاءه وحي خاص من الله فوق ما كان عنده قال تعالى: (وَيُعَلِمُهُ الكِتابَ والحِكمَةَ وَالتوراةَ وَالإِنجيل) فأخبر سبحانه أنه يعلمه التوراة التي تعلمها بنو إسرائيل، وزاده تعليم الإنجيل الذي اختص به، والكتاب الذي هو الكتابة ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم قبل الوحي شيئا البتة، كما قال تعالى: (وَكَذِلَك أَوحينا إِليكَ روحاً مِن أمرِنا ما كُنتَ تَدري ماالكِتابُ وَلا الإيمان) وقال تعالى: ( نَحنُ نَقُصُ عَليكَ أَحسنَ القَصصِ بِما أَوحينا إِليكَ هَذا القُرانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبلِهِ لَمِنَ الغافِلين) فلم يكن صلى الله عليه وسلم ينطق من تلقاء نفسه بل إنما كان ينطق بالوحي كما قال تعالى: (وَما يَنطِقُ عِنِ الهَوى إِن هُوَ إِلا وَحيٌ يوحى) أي ما نطقه إلا وحي يوحى، وهذا مطابق لقول المسيح إنه لا يتكلم من تلقاء نفسه بل إنما يتكلم بما يوحى إليه، والله تعالى أمره أن يبلغ ما أنزل إليه، وضمن له العصمة في تبليغ رسالاته، فلهذا اُرشد الناس إلى جميع الحق وألقى للناس ما لم يمكن غيره من الأنبياء ألقاه خوفا أن يقتله قومه، وقد أخبر المسيح بأنه لم يذكر لهم جميع ما عنده، وأنهم لا يطيقون حمله وهم معترفون بأنه كان يخاف منهم إذا أخبرهم بحقائق الأمور، ومحمد صلى الله عليه وسلم أيده الله سبحانه تأييدا لم يؤيده لغيره: فعصمه من الناس حتى لم يخف من شيء يقوله، وأعطاه من البيان والعلم ما لم يؤته غيرهس، وأيد أمته تأييدا أطاقت به حمل ما ألقاه إليهم، فلا يكونوا كأهل التوراة الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، ولا كأهل الإنجيل الذين قال لهم المسيح: " إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ولكن لا تستطيعون حمله " : ولا ريب أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أكمل عقولا وأعظم إيمانا وأتم تصديقا وجهادا؛ ولهذا كانت علومهم وأعمالهم القلبية وإيمانهم أعظم، وكانت العبادات البدنية لغيرهم أعظم " وأيضا " فإنه أخبر عن الفارقليط إنه شهد له، وأنه يعلمهم كل شيء، وأنه يذكرهم كلما قال المسيح، ومعلوم أن هذا لا يكون إلا إذا شهد له شهادة يسمعها الناس لا يكون هذا في قلب طائفة قليلة، ولم يشهد أحد للمسيح شهادة سمعها عامة الناس غلا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه أظهر أمر المسيح وشهد له بالحق حتى سمع شهادته له عامة أهل الأرض، وعلموا أنه صدق المسيح ونزهه عما افترته عليه اليهود وما غلت فيه النصارى، فهو الذي شهد له بالحق، ولهذا لما سمع النجاشي من الصحابة ما شهد به محمد صلى الله عليه وسلم للمسيح قال لهم بما زاد عيسى على ما قلتم هذا العود، وجعل الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم " شهداء على الناس " شهدوا عليهم بما علموا من الحق، إذ كانوا وسطا عدولا لا يشهدون بباطل، فإن الشاهد لا يكون إلا عدلا؛ بخلاف من جار في شهادته فزاد على الحق أو نقص منه كشهادة اليهود للنصارى في المسيح، و " ايضا " فإن معنى الفارقليط إن كان هو الحامد أو الحماد أو المحمودن أو الحمد فهذا الوصف ظاهر في محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه وأمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل حال، وهو صاحب لواء الحمد، والحمد مفتاح خطبته ومفتاح صلاته، ولما كان حمادا سمى بمثل وصفه فهو محمد وزن مكرم ومعظم ومقدس، وهو الذي يحمد أكثر مما يحمد غيره ويستحق ذلك، فلما كان حمادا لله كان محمدا وفي شعر حسان:
إغرَّ عَلَيهِ لِلنُبوةِ خاتِمُ ... مِنَ اللَهِ مَيمونٌ يَلوحُ وَيَشهَدُ
وَضَمَ الإِلَهُ إِسمَ النَبي إِلى اِسمِهِ ... إِذا قالَ في الخَمسِ المُؤَذِنُ اِشهَد
وَشَقَ لَهُ مِن اِسمِهِ لِيُجِلَهُ ... فَذو العَرشِ مَحمودٌ وَهَذا مُحَمَدُ(1/275)
وأما " أحمد " فهو أفعل التفضيل، أي هو أحمد من غيره أي أحق بأن يكون محمودا أكثر من غيره، يقال: هذا أحمد من هذا أي هذا أحق بأن يحمده من هذا، فيكون تفضيل على غيره في كونه محمودا فلفظ " محمد " يقتضي زيادة في الكميةي، ولفظ أحمد يقتضي زيادة في الكيفية ومن الناس من يقول: معناه أنه أكثر حمدا لله من غيره، وعلى هذا فيكون بمعنى الحامد والحماد، وعلى الأول بمعنى المحمود. وأن كان الفارقليط بمعنى الحمد فهو تسمية بالمصدر مبالغة في كثرة الحمد، كما يقال: رجل عدل ورضي ونظائر ذلك، وبهذا يظهر سر ما أخبر به القرآن عن المسيح من قوله (وَمُبَشِراً بِرَسولٍ يَأتي مِن بَعدي اِسمُهُ أحمَد) فإن هذا هو معنى الفارقليط كما تقدم، وفي التوراة ما ترجمته بالعربية: " وأما في إسماعيل فقد قبلت دعاك ها أنا قد باركت فيه وأثمره وأكبره بمأذ مأذ " هكذا هذه اللفظة " مأذ " على وزن عمر، وقد اختلف فيها علماء أهل الكتاب فطائفة يقولون معناها جدا جدا أي كثيرا كثيرا، فإن كان هذا معناها فهو بشارة بمن عظم من بنيه كثيرا كثيرا، ومعلوم أنه لم يعظم من بنيه أكثر مما عظم من محمد صلى الله عليه وسلم وقالت طائفة أخرى: بل هي صريح اسم محمد، قالوا ويدل عليه أن الفاظ العبرانية قريبة من ألفاظ العربية فهي أقرب اللغات إلى العربية، فإنهم يقولون لإسماعيل شماعيل وسمعتك شمعتيني، وإياه اوثو، وقدسك قدشيخا، وأنت أنا، وإسرائيل سيرائيل، فتأمل قوله في التوراة " قدس لي خل بخور خل ريخم بني إسرائيل باذام ويبيمالي " معناه قدس لي كل بكر كل أول مولودن رحم في بني إسرائيل من إنسان إلى بهمية لي. وتأمل قوله " نابي أقيم لاهيم تقارب أخيهم كانوا أخا ايلاؤه شماعون " فإن معناه نبيا أقيم لهم من وسط اخوتهم مثلك به يؤمنون، وكذلك قوله: " أنتم عابر تم بعيولي اجيخيم بنوا عيصاه " معناه أنتم عابرون في تخم اخوتكم بني العيص، ونظائر ذلك أكثر من أن تذكر، فإذا أخذت لفظة " مؤذ مؤذ " وجدتها أقرب شيء إلى لفظة محمد، وإذا ردت تحقيق ذلك فطابق بين الفاظ العبرانية والعربية، وكذلك يقولون " اصبوع أو لو هم هوم " أي اصبع الله كتب له بها التوراة، ويدل على ذلك أداة الباء في قوله " بمأذ مأذ " ولا يقال أعظمه بجدا جدا؛ بخلاف أعظمه بمحمدز وكذلك هو فإنه عظم به وازداد به شرفا إلى شرفه؛ بل تعظيمه؛ بمحمد ابنه صلى الله عليه وسلم فوق تعظيم كل والد بولده العظيم القدر، فالله سبحانه كبره بمحمد صلى الله عليه وسلم فوق تعظيم كل والد بولده العظيم القدر، فالله سبحانه كبره بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعلى التقديرين فالنص من أظهر البشارات به، أما على هذا التفسير فظاهر جدا، وأما على التفسير الأول فإنما كبر إسماعيل وعظم على اسحق جدا جدا بابنه محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا طابقت بين معنى " الفارقليط " ومعنى " موذ موذ " ومعنى " محمد، وأحمد " ونظرت إلى خصال الحمد التي فيه وتسمية أمته بالحمادين وافتتاح كتابه بالحمد وافتتاح الصلاة بالحمد وختم الركعة بالحمد وكثرة خصال الحمد التي فيه وفي أمته وفي دينه وفي كتابه وعرفت ما خلص به العالم من أنواع الشرك والكفر والخطايا والبدع والقول على الله بلا علم وما أعز الله به الحق وأهله وقمع به الباطل وحزبه تيقنت أنه الفارقليط بالاعتبارات كلها، فمن هذا الذي هو روح الحق الذي لا يتكلم إلا بما يوحى إليه؟! ومن هو العاقب للمسيح والشاهد لما جاء به والمصدق له بمجيئه؟! ومن الذي أخبرنا بالحوادث في الأزمنة المستقبلة كخروج الدجال وظهور الدابة وطلوع الشمس من مغربها وخروج يأجوج ومأجوج ونزول المسيح بن مريم وظهور النار التي تحشر الناس وأضعاف أضعاف أضعاف ذلك من الغيوب التي قبل يوم القيامة والغيوب الواقعة من الصراط والميزان والحساب وأخذ الكتب بالإيمان والشمايل وتفاصيل ما في الجنة والنار ما لم يذكر في التوراة والإنجيل غير محمد صلى الله عليه وسلم؟!، ومن الذي وبخ العالم على الخطايا سواه؟! ومن الذي عرف الأمة ما ينبغي لله حق التعريف غيره؟! ومن الذي تكلم في هذا الباب بما لم يطق أكثر العالم أن يقبلوه غيره حتى عجزت عنه عقول كثير ممن صدقه وآمن به فساموه أنواع التحريف والتأويل لعجز عقولهم عن حمله كما قال أخوه المسيح صلوات الله عليهما وسلامه؟! ومن الذي أرسل إلى جميع الخلق بالحق قولا وعملا واعتقادا في(1/276)
معرفة الله وأسمائه وصفاته وأحكامه وأفعاله وقضائه وقدره وغيره؟! ومن هو اركون العالم الذي أتى بعد المسيح غيره؟! " واركون العالم " هو عظيم العالم وكبير العالم وتأمل قول المسيح في هذه البشارة التي لا ينكرونها " إن اركون العالم سيأتي وليس لي من الأمر شيء " كيف هي شاهدة بنبوة المسيح ونبوة محمد معا فإنه لما جاء صار الأمر له دون المسيح. فوجب على العالم كلهم طاعته والإنقياد لأمره، وصار الأمر له حقيقة. ولم يبق بأيدي النصارى إلا دين باطله أضعاف أضعاف حقه، وحقه منسوخ بما بعث الله به محمد صلى الله عليه وسلم، فطابق قول المسيح قول أخيه محمد صلى الله عليه وسلم " ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا فيحكم بكتاب ربكم " وقوله في اللفظ الآخر " يأتيكم بكتاب ربكم " فطابق قول الرسولين الكريمين وبشر الأول بالثاني وصدق الثاني بالأول. وتأمل قوله في البشارة الأخرى " ألم ترى إلى الحجر الذي أخره البناؤن صار أسا للزاوية " كيف تجده مطابقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى دارا فأكملها وأتمها إلا موضع لبنة منها، فجعل الناس يطوفون بها ويعجبون منها، ويقولون هلا وضعت تلك اللبنة؟! فكنت أنا تلك اللبنة " وتأمل قول المسيح في هذه البشارة: " إن ذلك عجيب في أعييننا " وتأمل قوله فيها " إن ملكوت الله سيأخذ منكم ويدفع إلى أمة أخرى " كيف تجده مطابقا لقوله تعالى: (وَلَقَد كَتَبنا في الزَبورِ مِن بَعدِ الذِكرِ أَنّ الأَرضَ يَرِثُها عِباديَ الصالِِحون) وقوله: (وَعَدَ اللَه الَّذَينَ آَمَنوا مِنكُم وَعَمِلوا الصالِحات لَيَستَخلِفَنَهُم في الأَرض كَما اِستَخلَفَ الّذينَ مِن قَبلِهِم، وَلَيُمَكِنَنَ لَهُم دينَهُم الَّذَي اِرتَضَى لَهُم، وَلَيُبَدِلَنَهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنا. يَعبُدُونَني لا يُشرِكونَ بي شَيئاً. وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذَلِكَ فَأُلَئِكَ هُمُ الفاسِقون) وتأمل قوله في الفارقليط المبشر بهك " يفشى لكم الأسرارن ويفسر لكم كل شيء، فإني أجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل " وكيف تجده مطابقا للواقع من كل وجه ولقوله تعالى: (وَأَنزَلَنا عَلَيكَ الكِتابَ تِبياناً لِكُلِ شَيء) ولقوله تعالى: (ما كانَ حَديثاً يُفتَرى وَلَكِن تَصديقَ الَّذي بَينَ يَديهِ وَتَفصيلَ كُلِ شَيء وَهُدى وَرَحمَةً لِقَومٍ يُؤمنون) وإذا تأملت التوراة والإنجيل والكتب وتأملت القرآن وجدته كالتفصيل لمجملها والتأويل لأمثالها والشرح لرموزها، وهذا حقيقة قول المسيح " أجيئكم بالأمثال ويجيئكم بالتأويل، ويفسر لكم كل شيء " وإذا تأملت قوله " وكل شيء عده الله لكم به " وتفاصيل ما أخبر به من الجنة والنار والثواب والعقاب تيقنت صدق المرسولين الكريمين، ومطابقة الأخبار المفصلة من محمد صلى الله عليه وسلم للخبر المجمل من أخيه المسيح. وتأمل قوله في الفارقليط " وهو يشهد لي كما شهدت له " كينف تجده صريحا في رجل يأتي بعد المسيح يشهد له بأنه عبد الله ورسوله كما شهد له المسيح؟! فلقد إذن المسيح بنبوة محمد صلوات الله وسلامه عليهما أذانا لم يؤذنه نبي قبله، وأعلن بتكبير ربه أن يكون له صاحبة أو ولد، ثم رفع صوته بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها واحدا أحدا فردا صمدا لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ثم أعلن بشهادة أن محمدا عبده ورسوله الشاهد له بنوته المؤيد بروح الحق الذي لا يقول من تلقاء نفسه بل يتكلم بما يوحي إليه ويعلمهم كل شيء ويخبرهم ما أعد الله لهم، ثم رفع صوته بحي على الفلاح باتباعه والإيمان به وتصديقه وأنه ليس له من الأمر معه شيء، وختم التأذين بأن ملكوت الله سيؤخذ ممن كذبه ويدفع إلى اتباعه والمؤمنين به، فهلك من هلك عن بينة وعاش من عاش عن بينة فاستجاب اتباع المسيح حقا لهذا التأذين، وأباه الكافرون والجاحدون، فقال تعالى: (إِني مُتَوفيكَ وَرافِعُكَ إلىّ وَمُطَهِِرُكَ مِنَ الَّذينَ كَفَروا، وجاعِلُ الَّذينَ اِتَبَعوكَ فَوقَ الَّذَينَ كَفَروا إِلى يَومِ القِيامَة. ثُمّ إِليّ مَرجِعُكُم فأُنَبِئُكم بِما كُنتُم فيهِ تَختَلِفون) وهذه بشارة بأن المسملين لا يزالون فوق النصارى إلى يوم القيامة فإن المسلمين هم اتباع المرسلين في الحقيقة واتباع جميع الأنبياء لا أعداؤه، وأعداؤه عباد الصليب الذين رضوا أن يكون إلها مصفوعا مصلوبا
مقتولا ولم يرضوا أن يكون نبيا عبدا لله وجيها عنده مقربا لديه، فهؤلاء أعداؤه حقا والمسلمون اتباعه حقا. والمقصود أن بشارة المسيح بالنبي صلى الله عليه وسلم فوق كل بشارة لما كان أقرب الأنبياء غليه وأولاهم به وليس بينه وبينه نبي. ولم يرضوا أن يكون نبيا عبدا لله وجيها عنده مقربا لديه، فهؤلاء أعداؤه حقا والمسلمون اتباعه حقا. والمقصود أن بشارة المسيح بالنبي صلى الله عليه وسلم فوق كل بشارة لما كان أقرب الأنبياء غليه وأولاهم به وليس بينه وبينه نبي.(1/277)
" فصل " وتأمل قول المسيح " إن اركون العالم سيأتي " وأركون العالم هو سيد العالم وعظيمه. ومن الذي ساد العالم وأطاعه العالم بعد المسيح غير النبي صلى الله عليه وسلم؟! وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل ما أول أمرك قال " أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى " وطابق بين هذا وبين هذه البشارات التي ذكرها المسيح، فمن الذي ساد العالم باطنا وظاهرا وانقادت له القلوب والأجساد وأطيع في السر والعلانية في محياه وبعد مماته في جميع الأعصار، وأفضل الأقاليم والأمصار، وسارت دعوته مسير الشمس، وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار، وخرت لمجيئه الأمم على الأذقان، وبطلت به عبادة الأوثان، وقامت به دعوة الرحمن، واضمحلت به دعوة الشيطان، وأذل الكافرين والجاحدين، وأعز المؤمنين وجاء بالحق وصدق المرسلين، حتى أهلن بالتوحيد على رؤوس الأشهاد، وعبد الله وحده لا شريك له في كل حاضر وباد، وامتلأت به الأرض تحميدا وتكبيرا الله وتهليلا، وتسبيحا، واكتست به بعد الظلم والظلام عدلا ونورا.
" فصل " وطابق بين قول المسيح " إن اركون العالم سيأتيكم " وقول أخيه محمد صلى الله عليه وسلم " أنا سيد ولد آدم ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي، وأنا خطيب الأنبياء إذا وفدوا وأمامهم إذا اجتمعوا ومبشرهم إذا وفدوا إمامهم إذا اجتمعوا ومبشرهم إذا أيسوا لواء الحمد بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي.
النصارى آمنوا بمسيح لا وجود له
واليهود ينتظرون المسيح الدجال!!
" فصل " وفي قول المسيح في هذه البشارة " وليس لي من الأمر شيء " إشارة إلى التوحيد وأن الأمر كله لله، فتضمنت هذه البشارة أصلي الدين: إثبات التوحيد، وغثبات النبوة وهذا الذي قاله المسيح مطابق لما جاء به أخوه محمد بن عبد الله عن ربه من قوله له " ليس لك من الأمر شيء " فمن تأمل حال الرسولين الكريمين ودعوتهما وجدهما متوافقين متطابقين حذو القذة بالقذة، وأنه لا يمكن التصديق بأحدهما مع التكذيب بالآخر البتة، وأن المكذب بمحمد صلى الله عليه وسلم أشد تكذيبا للمسيح الذي هو المسيح ابن مريم عبد الله ورسوله؛ وإن آمن بمسيح لا حقيقة له ولا وجود وهو أبطل الباطل، وقد قال يوحنا في كتاب أخبار الحواريين وهو يسمونه اقراكيس: " أحبابي إياكم أن تؤمنوا بكل روح، لكن ميزوا الأرواح التي من عند الله من غيرها واعلموا أن كل روح تؤمن بأن يسوع المسيح قد جاء وكان جسدانيا فهي من عند الله وكل روح لا تؤمن بأن المسيح قد جاء وكان جسدانيا فليست من عند الله بل من المسيح الكذاب الذي هو الآن في العالم " فالمسلمون يؤمون بالمسيح الصادق الذي جاء من عند الله بالهدى ودين الحق هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، والنصارى إنما تؤمن بمسيح دعى إلى عبادة نفسه وأمه وأنه ثالث ثلاثة وأنه الله وابن الله، وهذا هو أخو المسيح الكذاب لو كان له وجود، فإن المسيح الكذاب يزعم أنه الله، والنصارى في الحقيقة اتباع هذا المسيح، كما أن اليهود إنما ينتظرون خروجه، وهم يزعمون أنهم ينتظرون النبي الذي بشروا به، فعوضهم الشيطان بعد مجيئه من الإيمان به انتظارا للمسيح الدجال. وهكذا كل من أعرض عن الحق يعوض عنه بالباطل.
================
وفي تنبيه الغافلين : وقال بعض العلماء: حرمة الزاهدين عشرة أشياء:(1)
أولها عداوة الشيطان يرونها واجبة على أنفسهم لقوله عز وجل
{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً}، والثاني لا يعملون عملاً إلا بالحجة: يعني لا يعملون عملاً إلا بعد ما ثبتت لهم الحجة يوم القيامة لقول اللَّه عزّ وجل {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} يعني حجتكم، والثالث أنهم مستعدون للموت لقول اللَّه تعالى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ}، والرابع يحبون في اللَّه ويبغضون في اللَّه لقول اللَّه عز وجل {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّه وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ} يعني من كان مؤمناً لا تكون له صداقة مع من يخالف أمر اللَّه ولو كان أباه أو ابنه أو إخوانه وعشيرته، والخامس أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لقول اللَّه عزّ وجل {وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}، والسادس أنهم يعتبرون ويتفكرون في أمر اللَّه تعالى لقول اللَّه عزّ وجل {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، وقال في آية أخرى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} والسابع يحرسون قلوبهم لكيلا يتفكروا فيما لم يكن فيه رضا اللَّه سبحانه وتعالى لقول اللَّه تعالى {إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}، والثامن أن لا يأمن مكر اللَّه لقول اللَّه تعالى {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّه إِلا القَوْمُ الخَاسِرُونَ}، والتاسع أن لا يقنطوا من رحمة اللَّه لقوله تعالى {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّه إِنَّ اللَّه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ}، والعاشر لا يفرحون بما آتاهم اللَّه من الدنيا ولا يحزنون على ما فاتهم لقوله تعالى {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}، يعني أن العبد لا يعلم بأن الصلاح فيما يفوته أو فيما يأتيه فينبغي أن يكون في الحالين سواء،
__________
(1) - تنبيه الغافلين ص 317(1/278)
[ص 317] فإن المؤمن مثله مثل الآس والمنافق مثل الورد فالآس يكون على حال واحد في حال البرد والحر وأما الورد فيتغير حاله إذا أصابه أدنى آفة، فكذلك المؤمن يكون حاله عند الشدة وعند الرخاء واحداً ويكون راضياً بما قسم اللَّه له، وأما المنافق فلا يكون راضياً بما قسم اللَّه له فيطغى عند النعمة ويجزع عند الشدة، فينبغي للمؤمن أن يقتدي بأفعال الأنبياء والزهاد ولا ينبغي أن يقتدي بأفعال الكفار والمنافقين، وبالله التوفيق.
- - - - - - - - - - - - - - -(1/279)
رابعا
أقوال العلماء المعاصرين
وفي فتاوى العلامة ابن باز رحمه الله : نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع(1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فلا يشك مسلم له أدنى بصيرة بالتاريخ الإسلامي في فضل العرب المسلمين، وما قاموا به من حمل رسالة الإسلام في القرون المفضلة، وتبليغه لكافة الشعوب، والصدق في الدعوة إليه، والجهاد لنشره والدفاع عنه، وتحمل المشاق العظيمة في ذلك، حتى أظهرها الله على أيديهم وخفقت رايته في غالب المعمورة، وشاهد العالم على أيدي دعاة الإسلام في صدر الإسلام أكمل نظام وأعدل حاكم، ورأوا في الإسلام كل ما يريدون وينشدون من خير الدنيا والآخرة، ووجدوا في الإسلام تنظيم حياة سعيدة تكفل لهم العزة والكرامة والحرية من عبادة العبيد، وظلم المستبدين، والولاة الغاشمين
ووجدوا في الإسلام تنظيم علاقتهم بالله سبحانه: بعبادة عظيمة تصلهم بالله، وتطهر قلوبهم من الشرك والحقد والكبر، وتغرس فيها غاية الحب لله وكمال الذل له والتلذذ بمناجاته، وتعرفهم بربهم وبأنفسهم، وتذكرهم بالله وعظيم حقه كلما غفلوا أو كادوا أن يغفلوا وجدوا في الإسلام تنظيم علاقتهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وماذا يجب عليهم من حقه والسير في سبيله، ووجدوا في الإسلام أيضا تنظيم العلاقات التي بين الراعي والرعية، وبين الرجل وأهله، وبين الرجل وأقاربه، وبين الرجل وإخوانه المسلمين، وبين المسلمين والكفار، بعبارات واضحة وأساليب جلية ووجدوا من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة وأتباعهم بإحسان تفسير ذلك بأخلاقهم الحميدة وأعمالهم المجيدة، فأحب الناس الإسلام وعظموه ودخلوا فيه أفواجا، وأدركوا فيه كل خير وطمأنينة وصلاح وإصلاح
والكلام في مزايا الإسلام وما اشتمل عليه من أحكام سامية وأخلاق كريمة، تصلح القلوب، وتؤلف بينها وتربطها برباط وثيق من المودة في الله سبحانه، والتفاني في نصر دينه، والتمسك بتعاليمه، والتواصي بالحق والصبر عليه، لا ريب أن الكلام في هذا الباب يطول والقصد في هذه الكلمة الإشارة إلى ما حصل على أيدي المسلمين من العرب في صدر الإسلام من الجهاد والصبر، وما أكرمهم الله به من حمل مشعل الإسلام إلى غالب المعمورة، وما حصل للعالم من الرغبة في الإسلام، والمسارعة إلى الدخول فيه، لما اشتمل عليه من الأحكام الرشيدة والتعاليم السمحة، والتعريف بالله سبحانه وبأسمائه وصفاته وعظيم حقه على عباده، ولما اتصف به حملته والدعاة إليه من تمثيل أحكام الإسلام في أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم، حتى صاروا بذلك خير أمة أخرجت للناس، وحققوا بذلك معنى قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ومعنى الآية كما قال أبو هريرة رضي الله عنه كنتم خير الناس للناس
لا يشك مسلم قد عرف ما كان عليه المسلمون في صدر الإسلام فيما ذكرناه، فهو من الحقائق المعلومة بين المسلمين، ولا يشك مسلم في ما للمسلمين غير العرب من الفضل والجهاد المشكور في مساعدة إخوانهم من العرب المسلمين في نشر هذا الدين والجهاد في إعلاء كلمته، وتبليغه سكان المعمورة، شكر الله للجميع مساعيهم الجليلة، وجعلنا من أتباعهم بإحسان، إنه على كل شيء قدير
وإنما الذي ينكر اليوم ويستغرب صدوره عن كثير من أبناء الإسلام من العرب، انصرافهم عن الدعوة إلى هذا الدين العظيم، الذي رفعهم الله به، وأعزهم بحمل رسالته، وجعلهم ملوك الدنيا وسادة العالم، لما حملوا لواءه وجاهدوا في سبيله بصدق وإخلاص، حتى فتحوا الدنيا، وكسروا كسرى، وقصروا قيصر، واستولوا على خزائن مملكتيهما، وأنفقوها في سبيل الله سبحانه، وكانوا حينذاك في غاية من الصدق والإخلاص والوفاء والأمانة والتحاب في الله سبحانه والمؤاخاة فيه، لا فرق عندهم بين عربي وعجمي، ولا بين أحمر وأسود، ولا بين غني وفقير، ولا بين شرقي وغربي، بل هم في ذلك إخوان متحابون في الله، متعاونون على البر والتقوى، مجاهدون في سبيل الله، صابرون على دين الإسلام لا تأخذهم في الله لومة لائم، يوالون في الإسلام، ويعادون فيه، ويحبون عليه، ويبغضون عليه، ولذلك كفاهم الله مكايد أعدائهم، وكتب لهم النصر في جميع ميادين جهادهم، كما وعدهم الله سبحانه بذلك في كتابه المبين حيث يقول سبحانه: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
__________
(1) - مجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 1 / ص 285)(1/279)
ثم بعد هذا الشرف العظيم والنصر المؤزر من المولى سبحانه لعباده المؤمنين من العرب وغيرهم، نرى نفرا من أبنائنا يخدعون بالمبادئ المنحرفة، ويدعون إلى غير الإسلام، كأنهم لم يعرفوا فضل الإسلام وما حصل لأسلافهم بالإسلام من العزة والكرامة، والمجد الشامخ والمجتمع القوي الذي كتبه الله لأهل الإسلام الصادقين، حتى إن عدوهم ليخافهم وهو عنهم مسيرة شهر، نسي هؤلاء أو تناسوا هذا المجد المؤثل والعز العظيم والملك الكبير، الذي ناله المسلمون بالإسلام، فصار هؤلاء الأبناء يدعون إلى التكتل والتجمع حول القومية العربية، ويعرفونها بأنها اجتماع وتكاتف لتطهير البلاد من العدو المستعمر، ولتحصيل المصالح المشتركة، واستعادة المجد السليب
وقد اختلف الدعاة إليها في عناصرها، فمن قائل: أنها الوطن والنسب واللغة العربية ومن قائل: أنها اللغة فقط ومن قائل: أنها اللغة مع المشاركة في الآلام والآمال ومن قائل غير ذلك وأما الدين فليس من عناصرها عند أساطينهم والصرحاء منهم، وقد صرح كثير بأن الدين لا دخل له في القومية، وصرح بعضهم أنها تحترم الأديان كلها من الإسلام وغيره وهدفها كما يعلم من كلامهم هو التكتل والتجمع والتكاتف ضد الأعداء ولتحصيل المصالح المشتركة كما سلف، ولا ريب بأن هذا غرض نبيل وقصد جميل
فإذا كان هذا هو الهدف، ففي الإسلام من الحث على ذلك والدعوة إليه، وإيجاب التكاتف والتعاون لنصر الإسلام، وحمايته من كيد الأعداء ولتحصيل المصالح المشتركة، ما هو أكمل وأعظم مما يرتجى من وراء القومية ومعلوم عند كل ذي لب سليم أن التكاتف والتعاون الذي مصدره القلوب، والإيمان بصحة الهدف، وسلامة العاقبة في الحياة وبعد الممات كما في الإسلام الصحيح - أعظم من التعاون والتكاتف على أمر اخترعه البشر ولم ينزل به وحي السماء، ولا تؤمن عاقبته لا في الدنيا ولا في الآخرة. وأيضا فالتكاتف والتعاون الصادر عن إيمان بالله، وصدق في معاملته ومعاملة عباده، مضمون له النصر وحسن العاقبة - كما في الآيات الكريمات التي أسلفنا ذكرها - بخلاف التكاتف والتعاون المبني على فكرة جاهلية تقليدية، لم يأت بها شرع ولم يضمن لها النصر.
وهذا كله على سبيل التنزل لدعاة القومية، والرغبة في إيضاح الحقائق لطالب الحق وإلا فمن خبر أحوال القوميين، وتدبر مقالاتهم وأخلاقهم وأعمالهم، عرف أن غرض الكثيرين منهم من الدعوة إلى القومية، أمور أخرى يعرفها من له أدنى بصيرة بالواقع وأحوال المجتمع، ومن تلك الأمور، فصل الدين عن الدولة، وإقصاء أحكام الإسلام عن المجتمع، والاعتياض عنها بقوانين وضعية ملفقة من قوانين شتى، وإطلاق الحرية للنزعات الجنسية والمذاهب الهدامة - لا بلغهم الله مناهم - ولا ريب أن دعوة تفضي إلى هذه الغايات، يرقص لها الاستعمار طربا، ويساعد على وجودها ورفع مستواها - وإن تظاهر بخلاف ذلك - تغريرا للعرب عن دينهم، وتشجيعا لهم على الاشتغال بقوميتهم، والدعوة إليها والإعراض عن دينهم
ومن زعم من دعاة القومية أن الدين من عناصرها، فقد فرض أخطاء على القوميين، وقال عليهم ما لم يقولوا لأن الدين يخالف أسسهم التي بنوا القومية عليها، ويخالف صريح كلامهم ويباين ما يقصدونه من تكتيل العرب، على اختلاف أديانهم تحت راية القومية
ولهذا تجد من يجعل الدين من عناصر القومية يتناقض في كلامه، فيثبته تارة وينفيه أخرى، وما ذلك إلا أنه لم يقله عن عقيدة وإيمان، وإنما قاله مجاملة لأهل الإسلام، أو عن جهل بحقيقة القومية وهدفها، وهكذا قول من قال: إنها تخدم الإسلام أو تسانده، وكل ذلك بعيد عن الحقيقة والواقع، وإنما الحقيقة أنها تنافس الإسلام وتحاربه في عقر داره، وتطلي ببعض خصائصه ترويجا لها وتلبيسا أو جهلا وتقليدا
ولو كانت الدعوة إلى القومية يراد منها نصر الإسلام وحماية شعائره، لكرس القوميون جهدهم في الدعوة إليه ومناصرته، وتحكيم دستوره النازل من فوق سبع سماوات، ولبادروا إلى التخلق بأخلاقه، والعمل بما يدعو إليه، وابتعدوا عن كل ما يخالفه؛ لأنه الأصل الأصيل والهدف الأعظم، ولأنه السبيل الذي من سار عليه، واستقام عليه، وصل إلى شاطئ السلامة، وفاز بالجنة والكرامة، ومن حاد عن سبيله باء بالخيبة والندامة، وخسر الدنيا والآخرة، فلو كان دعاة القومية يقصدون بدعوتهم إليها تعظيم الإسلام وخدمته، ورفع شأنه، لما اقتصروا على الدعوة للخادم دون المخدوم، وكرسوا لهذا الخادم جهودهم، وغضبوا من صوت دعاة الإسلام إذا دعوا إليه، وحذروا مما يخالفه أو يقف حجرا في طريقه
لو كان دعاة القومية يريدون بدعوتهم إعلاء كلمة الإسلام، واجتماع العرب عليه، لنصحوا العرب ودعوهم إلى التمسك بتعاليم الإسلام، وتنفيذ أحكامه، ولشجعوهم على نصره ودعوة الناس إليه، فإن العرب أولى الناس بأن ينصروا الإسلام، ويحموه من مكايد الأعداء ويحكموه فيما شجر بينهم، كما فعل أسلافهم؛ لأنه عزهم وذكرهم ومجدهم، كما قال الله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ وقال فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ وإذا عرفت أيها القارئ ما تقدم، فاعلم أن هذه الدعوة: أعني الدعوة إلى القومية العربية، أحدثها الغربيون من النصارى، لمحاربة الإسلام والقضاء عليه في داره، بزخرف من القول، وأنواع من الخيال، وأساليب من الخداع، فاعتنقها كثير من العرب من أعداء الإسلام، واغتر بها كثير من الأغمار ومن قلدهم من الجهال، وفرح بذلك أرباب الإلحاد وخصوم الإسلام في كل مكان
نشرة صدرت في كتاب عن المكتب الإسلامي في بيروت ودمشق عام 1400 هـ الطبعة الرابعة.(1/280)
ومن المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الدعوة إلى القومية العربية أو غيرها من القوميات، دعوة باطلة وخطأ عظيم، ومنكر ظاهر، وجاهلية وكيد سافر للإسلام وأهله، وذلك لوجوه
الأول أن الدعوة إلى القومية العربية تفرق بين المسلمين، وتفصل المسلم العجمي عن أخيه العربي، وتفرق بين العرب أنفسهم ؛ لأنهم كلهم ليسوا يرتضونها، وإنما يرضاها منهم قوم دون قوم، وكل فكرة تقسم المسلمين وتجعلهم أحزابا فكرة باطلة، تخالف مقاصد الإسلام وما يرمي إليه؛ وذلك لأنه يدعو إلى الاجتماع والوئام، والتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى، كما يدل على ذلك قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وقال تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ
فانظر أيها المؤمن الراغب في الحق كيف يحارب الإسلام التفرق والاختلاف، ويدعو إلى الاجتماع والوئام، والتمسك بحبل الحق والوفاة عليه، تعلم بذلك أن هدف القومية غير هدف الإسلام، وأن مقاصدها تخالف مقاصد الإسلام، ويدل على ذلك أيضا أن هذه الفكرة، أعني الدعوة إلى القومية العربية وردت إلينا من أعدائنا الغربيين، وكادوا بها المسلمين، ويقصدون من ورائها فصل بعضهم عن بعض، وتحطيم كيانهم، وتفريق شملهم، على قاعدتهم المشئومة (فرق تسد) وكم نالوا من الإسلام وأهله بهذه القاعدة النحيسة، مما يحزن القلوب ويدمي العيون
وذكر كثير من مؤرخي الدعوة إلى القومية العربية، ومنهم مؤلف الموسوعة العربية: أن أول من دعا إلى القومية العربية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، هم الغربيون على أيدي بعثات التبشير في سوريا، ليفصلوا الترك عن العرب، ويفرقوا بين المسلمين، ولم تزل الدعوة إليها في الشام والعراق ولبنان تزداد وتنمو، حتى عقد لها أول مؤتمر في باريس من نحو ستين سنة، وذلك عام 1910 م، وكثرت بسبب ذلك الجمعيات العربية، وتعددت الاتجاهات، فحاول الأتراك إخمادها، بأحكام الإعدام التي نفذها جمال باشا في سورية في ذلك الوقت، إلي آخر ما ذكروا، فهل تظن أيها القارئ أن خصومنا وأعداءنا يسعون في مصالحنا، بابتداعهم الدعوة إلى القومية العربية، وعقد المؤتمرات لها، وابتعاث المبشرين بها، لا والله، إنهم لا يريدون بنا خيرا ولا يعملون لمصالحنا، إنما يعملون ويسعون لتحطيمنا وتمزيق شملنا، والقضاء على ما بقي من ديننا، وكفى بذلك دليلا لكل ذي لب، على ما يراد من وراء الدعوة إلى القومية العربية، وأنها معول غربي استعماري، يراد به تفريقنا وإبعادنا عن ديننا كما سلف
ومن العجب الذي لا ينقضي، أن كثيرا من شبابنا وكتابنا - ألهمهم الله رشدهم - خفيت عليهم هذه الحقيقة، حتى ظنوا أن التكتل والتجمع حول القومية العربية، والمناصرة لها، أنفع للعرب وأضر للعدو، من التجمع والتكتل حول الإسلام ومناصرته، وهذا بلا شك ظن خاطئ، واعتقاد غير مطابق للحقيقة.
نعم لا شك أنه يحزن المستعمر ويقلق راحته كل تجمع وتكتل ضد مصلحته، ولكن خوفه من التجمع والتكتل حول الإسلام أعظم وأكبر، ولذلك رضي بالدعوة إلى القومية العربية، وحفز العرب إليها، ليشغلهم بها عن الإسلام، وليقطع بها صلتهم بالله سبحانه. لأنهم إذا فقدوا الإسلام حرموا ما ضمنه الله لهم من النصر، الذي وعدهم به في الآيتين السابقتين، وفي قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ
ومعلوم عند جميع العقلاء أنه إذا كان لا بد من أحد ضررين، فارتكاب الأدنى منهما أولى، حذرا من الضرر الأكبر، وقد دل الشرع والقدر على هذه القاعدة، وقد عرفها المستعمر وسلكها في هذا الباب وغيره فتنبه يا أخي واحذر مكايد الشيطان والاستعمار وأوليائهما، تنج من ضرر عظيم، وخطر كبير، وعواقب سيئة عافاني الله وإياك والمسلمين من ذلك
ومما تقدم يعلم القارئ اليقظ أن الدعوة إلى القومية العربية - كما أنها إساءة إلى الإسلام ومحاربة له في بلاده - فهي أيضا إساءة إلى العرب أنفسهم، وجناية عليهم عظيمة. لكونها تفصلهم عن الإسلام الذي هو مجدهم الأكبر، وشرفهم الأعظم ومصدر عزهم وسيادتهم على العالم، فكيف يرضى عربي عاقل بدعوة هذا شأنها وهذه غايتها:؟! ولقد أحسن الكاتب الإسلامي الشهير: أبو الحسن الندوي في رسالته المشهورة: (اسمعوها مني صريحة: أيها العرب) حيث يقول في صفحة 27 و 28 ما نصه:(1/281)
(فمن المؤسف المحزن المخجل أن يقوم في هذا الوقت في العالم العربي، رجال يدعون إلى القومية العربية المجردة من العقيدة والرسالة، وإلى قطع الصلة عن أعظم نبي عرفه تاريخ الإيمان، وعن أقوى شخصية ظهرت في العالم، وعن أمتن رابطة روحية تجمع بين الأمم والأفراد والأشتات، إنها جريمة قومية تبز جميع الجرائم القومية، التي سجلها تاريخ هذه الأمة، وإنها حركة هدم وتخريب، تفوق جميع الحركات الهدامة المعروفة في التاريخ، وإنها خطوة حاسمة مشئومة، في سبيل الدمار القومي والانتحار الاجتماعي) انتهى.
فتأمل: أيها القارئ كلمة هذا العالم العربي الحسني الكبير الذي قد سبر أحوال العالم وعرف نتائج الدعوة إلى القوميات وسوء مصيرها، تدرك بعقلك السليم ما وقع فيه العرب والمسلمون اليوم، من فتنة كبرى ومصيبة عظمى، بهذه الدعوة المشئومة، وقى الله المسلمين شرها، ووفق العرب وجميع المسلمين للرجوع إلى ما كان عليه أسلافهم المهديون، إنه سميع مجيب
ثم لا يخفاك أيها القارئ الكريم غربة الإسلام اليوم، وقلة أنصاره والمتحمسين لدعوته، وكثرة المحاربين له والمتنكرين لأحكامه وتعاليمه، فالواجب على أبناء الإسلام بدلا من التحمس للقومية والمناصرة لدعاتها: أن يكرسوا جهودهم للدعوة إلى الإسلام وتعظيمه في قلوب الناس، وأن يجتهدوا في نشر محاسنه وإعلان أحكامه العادلة، وتعاليمه السمحة الصافية، نقية من شوائب الشرك والخرافات والبدع والأهواءه حتى يعيدوا بذلك ما درس من مجد أسلافهم، وحماستهم للإسلام، وتكريس قواهم لنصرته وحمايته، والرد على خصومه بشتى الأساليب الناجعة، وأنواع الحجج والبراهين الساطعة ولا شك أن هذا واجب متحتم، وفرض لازم على جميع أبناء الإسلام، كل منهم بحسب ما أعطاه الله من المقدرة والإمكانات، التي يستطيع بها القيام بما أوجب الله عليه من النصر لدينه والدعوة إليه، فنسأل الله أن يمن على الجميع بذلك، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يقر أعين المسلمين جميعا بنصر الإسلام الصافي من الشوائب، وظهوره على جميع خصومه في القريب العاجل، إنه سبحانه خير مسئول وأقرب مجيب
الوجه الثاني: أن الإسلام نهى عن دعوى الجاهلية وحذر منها، وأبدى في ذلك وأعاد في نصوص كثيرة بل قد جاءت النصوص تنهى عن جميع أخلاق الجاهلية، وأعمالهم إلا ما أقره الإسلام من ذلك، ولا ريب أن الدعوة إلى القومية العربية من أمر الجاهلية، لأنها دعوة إلى غير الإسلام، ومناصرة لغير الحق، وكم جرت الجاهلية على أهلها من ويلات وحروب طاحنة، وقودها النفوس والأموال والأعراض، وعاقبتها تمزيق الشمل وغرس العداوة والشحناء في القلوب، والتفريق بين القبائل والشعوب قال شيخ الإسلام: ابن تيمية رحمه الله (كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة، فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصهم مهاجري وأنصاري، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم وغضب لذلك غضبا شديدا ) انتهى
ومما ورد في ذلك من النصوص قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وقال تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ
وفي سنن أبي داود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد ولا ريب أن دعاة القومية يدعون إلى عصبية ويغضبون لعصبية ويقاتلون على عصبية، ولا ريب أيضا أن الدعوة إلى القومية تدعو إلى البغي والفخر؛ لأن القومية ليست دينا سماويا يمنع أهله من البغي والفخر، وإنما هي فكرة جاهلية تحمل أهلها على الفخر بها والتعصب لها على من نالها بشيء، وإن كانت هي الظالمة وغيرها المظلوم، فتأمل أيها القارئ ذلك يظهر لك وجه الحق(1/282)
ومن النصوص الواردة في ذلك ما رواه الترمذي وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله قد أذهب عنكم عصبية الجاهلية وفخرها بالآباء إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي الناس بنو آدم وآدم خلق من تراب ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى وهذا الحديث يوافق قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ أوضح سبحانه بهذه الآية الكريمة أنه جعل الناس شعوبا وقبائل للتعارف لا للتفاخر والتعاظم، وجعل أكرمهم عنده هو أتقاهم، وهكذا يدل الحديث المذكور على هذا المعنى ويرشد إلى سنة الجاهلية التكبر والتفاخر بالأسلاف والأحساب، والإسلام بخلاف ذلك، يدعو إلى التواضع والتقوى والتحاب في الله، وأن يكون المسلمون الصادقون من سائر أجناس بني آدم، جسدا واحدا، وبناء واحدا يشد بعضهم بعضا، ويألم بعضهم لبعض، كما في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه وقال صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر فأنشدك بالله أيها القومي: هل قوميتك تدعو إلى هذه الأخلاق الفاضلة، من الرحمة للمسلمين من العرب والعجم، والعطف عليهم والتألم لآلامهم؟ لا والله، وإنما تدعو إلى موالاة من انخرط في سلكها، ونصب العداوة لمن تنكر لها، فتنبه أيها المسلم الراغب في النجاة، وانظر إلى حقائق الأمور بمرآة العدالة والتجرد من التعصب والهوى، حتى ترى الحقائق على ما هي عليه، أرشدني الله وإياك إلى أسباب النجاة
ومن ذلك ما ثبت في الصحيح أن غلاما من المهاجرين وغلاما من الأنصار تنازعا، فقال المهاجري: يا للمهاجرين وقال الأنصاري: يا للأنصار فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم فإذا كان من انتسب إلى المهاجرين واستنصر بهم على إخوانهم في الدين، أو إلى الأنصار واستنصر بهم على إخوانهم في الدين يكون قد دعا بدعوى الجاهلية، مع كونهما اسمين محبوبين لله سبحانه، وقد أثنى الله على أهلهما ثناء عظيما في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ الآية، فكيف تكون حال من انتسب إلى القومية واستنصر بها وغضب لها؟ أفلا يكون أولى ثم أولي بأن يكون قد دعا بدعوى الجاهلية؟ لا شك أن هذا من أوضح الواضحات
ومن ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن الحارث الأشعري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فذكرها، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم" قيل يا رسول الله وإن صلى وصام؟ قال "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله وهذا الحديث الصحيح من أوضح الأحاديث وأبينها في إبطال الدعوة إلى القومية، واعتبارها دعوة جاهلية، يستحق دعاتها أن يكونوا من جثي جهنم، وإن صاموا وصلوا، وزعموا أنهم مسلمون فيا له من وعيد شديد، وتحذير ينذر كل مسلم من الدعوات الجاهلية، والركون إلى معتنقيها، وإن زخرفوها بالمقالات السحرية، والخطب الرنانة الواسعة، التي لا أساس لها من الحقيقة، ولا شاهد لها من الواقع، وإنما هو التلبيس والخداع والتقليد الأعمى، الذي ينتهي بأهله إلى أسوأ العواقب، نسأل الله السلامة من ذلك
وهنا شبهة يذكرها بعض دعاة القومية أحب أن أكشفها للقارئ، وهي أن بعض دعاة القومية زعم أن النهي عن الدعوة إلى القومية العربية والتحذير منها يتضمن تنقص العرب وإنكار فضلهم.(1/283)
والجواب أن يقال: لا شك أن هذا زعم خاطئ واعتقاد غير صحيح، فإن الاعتراف بفضل العرب، وما سبق لهم في صدر الإسلام من أعمال مجيدة لا يشك فيه مسلم عرف التاريخ كما أسلفنا، وقد ذكر غير واحد من أهل العلم، ومنهم أبو العباس بن تيمية في كتابه: (اقتضاء الصراط المستقيم) أن مذهب أهل السنة تفضيل جنس العرب على غيرهم، وأورد في ذلك أحاديث تدل على ذلك، ولكن لا يلزم من الاعتراف بفضلهم أن يجعلوا عمادا يتكتل حوله، ويوالي عليه ويعادي عليه، وإنما ذلك من حق الإسلام الذي أعزهم الله به، وأحيا فكرهم ورفع شأنهم، فهذا لون وهذا لون، ثم هذا الفضل الذي امتازوا به على غيرهم، وما من الله به عليهم من فصاحة اللسان، ونزول القرآن الكريم بلغتهم، وإرسال الرسول العام بلسانهم، ليس مما يقدمهم عند الله في الآخرة، ولا يوجب لهم النجاة إذا لم يؤمنوا ويتقوا، وليس ذلك أيضا يوجب تفضيلهم على غيرهم من جهة الدين، بل أكرم الناس عند الله أتقاهم، كما تقدم في الآية الكريمة والحديث الشريف، بل هذا الفضل عند أهل التحقيق يوجب عليهم أن يشكروا الله سبحانه أكثر من غيرهم، وأن يضاعفوا الجهود في نصر دينه الذي رفعهم الله به، وأن يوالوا عليه ويعادوا عليه، ودون أن يلتفتوا إلى قومية أو غيرها من الأفكار المسمومة، والدعوات المشئومة، ولو كانت أنسابهم وحدها تنفعهم شيئا لم يكن أبو لهب وأضرابه من أصحاب النار، ولو كانت تنفعهم بدون الإيمان لم يقل لهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا وبذلك يعلم القارئ المسلم من الهوى أن الشبهة المذكورة شبهة واهية لا أساس لها من الشرع المطهر، ولا من المنطق السليم البعيد من الهوى.
وهنا شبهة أخرى وهي قول بعضهم: أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا ذل العرب ذل الإسلام ورواه بعضهم بلفظ: إذا عز العرب عز الإسلام قالوا: وهذا يدل علي أن انتصار القومية العربية والدعوة إليها انتصار للإسلام ودعوة إليه، والجواب أن يقال: يعلم كل ذي لب سليم وبصيرة بالإسلام، أن هذه سفسطة في السمعيات، ومغالطة في الحقائق، وتأويل للحديث على غير تأويله، سواء صح أم لم يصح، فإن الواقع يشهد بخلاف ما ذكره القائل، فقد ذل العرب يوم بدر ويوم الأحزاب، وصار في ذلهم عز الإسلام وظهوره، وانتصر العرب يوم أحد وصار في انتصارهم ذل المسلمين والمضرة عليهم، ولكن الله سبحانه لطف بأوليائه وأحسن لهم العاقبة، فهل يستطيع هذا القائل أن يدعي خلاف هذا الواقع؟ وهل يمكن أن يقول: إن انتصار العرب الكافرين بالله، المحاربين لدينه، انتصار للإسلام، من قال هذا فقد قال خلاف الحق، وهو إما جاهل أو متجاهل، يريد أن يلبس الحق بالباطل ويخدع ضعفاء البصائر، سبحان الله ما أعظم شأنه
ثم أعود فأوضح للقارئ أن الحديث المذكور ضعيف الإسناد، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحافظ أبو الحسن الهيثمي في: (مجمع الزوائد) لما ذكر هذا الحديث بلفظ: إذا ذلت العرب ذل الإسلام رواه أبو يعلى ، وفي إسناده محمد بن الخطاب ضعفه الأزدي وغيره، ووثقه ابن حبان ) انتهى.
وقال الحافظ الذهبي في (الميزان) في ترجمة محمد المذكور: (قال أبو حاتم : لا أعرفه وقال الأزدي : منكر الحديث) انتهى قلت: وفي إسناده أيضا علي بن زيد بن جدعان ، وهو ضعيف عند جمهور من المحدثين لا يحتج بحديثه، لو سلم الإسناد من غيره، فكيف وفي الإسناد من هو أضعف منه، وهو محمد بن الخطاب المذكور وأما توثيق ابن حبان له، فلا يعتمد عليه لأنه معروف بالتساهل وقد خالفه غيره. ولو صح الحديث لكان معناه: إذا ذل العرب الحاملون راية الإسلام والدعوة إليه، لا العرب المتنكرون له الداعون إلى غيره ولا يجوز أن يرد في سنة رسول الله كل ما يخالف القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة أبدا، فإن كلام الله لا يتناقض، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، والسنة لا تخالف القرآن بل تصدقه وتوافقه، وتدل على معناه وتوضح ما أجمل فيه
وقد علق الله سبحانه في القرآن النصر على الإيمان بالله والنصر لدينه، فلا يجوز أن يرد في السنة ما يناقض ذلك، فتنبه أيها المؤمن، واحذر من الشبهات المضللة، والأحاديث المكذوبة، والآراء الفاسدة والأفكار المسمومة، فإن الخطر عظيم، والمعصوم من عصمه الله سبحانه، فاعتصم به وتوكل عليه وتفقه في دينه، واستقم عليه تفز بالنجاة والعاقبة الحميدة.(1/284)
وهذه الشبه وأمثالها تفسر لنا ما صح به الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث حذيفة: أنه قال: كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال "نعم" قلت فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال "نعم وفيه دخن" قلت ما دخنه؟ قال "قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر" قلت فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال "نعم" دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها" قلت يا رسول الله صفهم لنا قال "هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا" قلت فما تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك؟ قال لتلزم جماعة المسلمين وإمامهم" قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري ، فهذا الحديث العظيم الجليل يرشدك أيها المسلم إلى أن هؤلاء الدعاة اليوم، الذين يدعون إلى أنواع من الباطل كالقومية العربية، والاشتراكية والرأسمالية الغاشمة، وإلى الخلاعة والحرية المطلقة وأنواع الفساد كلهم دعاة على أبواب جهنم، سواء علموا أم لم يعلموا، من أجابهم إلى باطلهم قذفوه في جهنم، ولا شك أن هذا الحديث الجليل من أعلام النبوة، ودلائل صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بالواقع قبل وقوعه فوقع كما أخبر
فنسأل الله لنا ولسائر المسلمين العافية من مضلات الفتن، ونسأله سبحانه أن يصلح ولاة أمر المسلمين وزعماءهم حتى ينصروا دينه، ويحاربوا ما خالفه إنه ولي ذلك والقادر عليه
الوجه الثالث من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية
هو أنها سلم إلى موالاة كفار العرب وملاحدتهم من غير المسلمين، واتخاذهم بطانة، والاستنصار بهم على أعداء القوميين من المسلمين وغيرهم ومعلوم ما في هذا من الفساد الكبير، والمخالفة لنصوص القرآن والسنة، الدالة على وجوب بغض الكافرين من العرب وغيرهم، ومعاداتهم وتحريم موالاتهم واتخاذهم بطانة والنصوص في هذا المعنى كثيرة منها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ الآية سبحان الله ما أصدق قوله وأوضح بيانه،
هؤلاء القوميون يدعون إلى التكتل حول القومية العربية مسلمها وكافرها، يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة، نخشى أن يعود الاستعمار إلى بلادنا، نخشى أن تسلب ثرواتنا بأيدي أعدائنا، فيوالون لأجل ذلك كل عربي من يهود ونصارى، ومجوس ووثنيين وملاحدة وغيرهم، تحت لواء القومية العربية، ويقولون: إن نظامها لا يفرق بين عربي وعربي، وإن تفرقت أديانهم، فهل هذا إلا مصادمة لكتاب الله، ومخالفة لشرع الله، وتعد لحدود الله، وموالاة ومعاداة، وحب وبغض على غير دين الله؟ فما أعظم ذلك من باطل، وما أسوأه من منهج والقرآن يدعو إلى موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين أينما كانوا وكيفما كانوا، وشرع القومية العربية يأبى ذلك ويخالفه: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ويقول الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ إلى قوله تعالى وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ
ونظام القومية يقول: كلهم أولياء مسلمهم وكافرهم والله يقول: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ويقول سبحانه قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وقال تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ وشرع القومية أو بعبارة أخرى شرع دعاتها يقول: أقصوا الدين عن القومية، وافصلوا الدين عن الدولة، وتكتلوا حول أنفسكم وقوميتكم، حتى تدركوا مصالحكم وتستردوا أمجادكم، وكأن الإسلام وقف في طريقهم، وحال بينهم وبين أمجادهم، هذا والله هو الجهل والتلبيس وعكس القضية، سبحانك هذا بهتان عظيم
والآيات الدالة على وجوب موالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين، والتحذير من توليهم كثيرة لا تخفى على أهل القرآن، فلا ينبغي أن نطيل بذكرها وكيف يجوز في عقل عاقل أن يكون أبو جهل ، وأبو لهب ، وعقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث وأضرابهم من صناديد الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلي يومنا هذا، إخوانا وأولياء لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة، ومن سلك سبيله من العرب إلى يومنا هذا. هذا والله من أبطل الباطل وأعظم الجهل وشرع القومية ونظامها يوجب هذا ويقتضيه، وإن أنكره بعض دعاتها جهلا أو تجاهلا وتلبيسا، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(1/285)
وقد أوجب الله على المسلمين: أن يتكاتفوا ويتكتلوا تحت راية الإسلام، وأن يكونوا جسدا واحدا، وبناء متماسكا ضد عدوهم، ووعدهم على ذلك النصر والعز والعاقبة الحميدة، كما تقدم ذلك في كثير من الآيات، وكما في قوله تعالي: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا الآية وقال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ فوعد الله سبحانه عباده المرسلين، وجنده المؤمنين بالنصر والغلبة، واستخلافهم في الأرض والتمكين لدينهم، وهو الصادق في وعده، وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ وإنما يتخلف هذا الوعد في بعض الأحيان بسبب تقصير المسلمين، وعدم قيامهم بما أوجب الله عليهم من الإيمان بالله، والنصر لدينه، كما هو الواقع، فالذنب ذنبنا لا ذنب الإسلام، والمصيبة حصلت بما كسبت أيدينا من الخطايا، كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ
فالواجب على العرب وغيره: التوبة إلى الله سبحانه، والتمسك بدينه، والتواصي بحقه، وتحكيم شريعته، والجهاد في سبيله، والاستقامة على ذلك من الرؤساء وغيرهم، فبذلك يحصل لهم النصر ويهزم العدو، ويحصل التمكين في الأرض، وإن قل عددنا وعدتنا، ولا ريب أن من أهم الواجبات الإيمانية: أخذ الحذر من عدونا، وأن نعد له ما نستطيع من القوة، وذلك من تمام الإيمان، ومن الأخذ بالأسباب التي يتعين الأخذ بها، ولا يجوز إهمالها، كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ وقوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
وليس للمسلمين أن يوالوا الكافرين أو يستعينوا بهم على أعدائهم، فإنهم من الأعداء ولا تؤمن غائلتهم وقد حرم الله موالاتهم، ونهى عن اتخاذهم بطانة، وحكم على من تولاهم بأنه منهم، وأخبر أن الجميع من الظالمين، كما سبق ذلك في الآيات المحكمات، وثبت في: (صحيح مسلم )، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه فلما أدركه قال لرسول الله جئت لأتبعك وأصيب معك وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لتؤمن بالله ورسوله؟ قال لا قال "فارجع فلن استعين بمشرك قالت ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة فقال لا قال "فارجع فلن استعين بمشرك" قالت ثم رجع فأدركه في البيراء فقال له كما قال أول مرة "تؤمن بالله ورسوله؟" قال نعم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "فانطلق" فهذا الحديث الجليل، يرشدك إلى ترك الاستعانة بالمشركين، ويدل على أنه لا ينبغي للمسلمين أن يدخلوا في جيشهم غيرهم، لا من العرب ولا من غير العرب؛ لأن الكافر عدو لا يؤمن. وليعلم أعداء الله أن المسلمين ليسوا في حاجة إليهم، إذا اعتصموا بالله، وصدقوا في معاملته. لأن النصر بيده لا بيد غيره، وقد وعد به المؤمنين، وإن قل عددهم وعدتهم كما سبق في الآيات وكما جرى لأهل الإسلام في صدر الإسلام،
ويدل على تلك أيضا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ فانظر أيها المؤمن إلى كتاب ربك وسنة نبيك عليه الصلاة والسلام كيف يحاربان موالاة الكفار، والاستعانة بهم واتخاذهم بطانة، والله سبحانه أعلم بمصالح عباده، وأرحم بهم من أنفسهم، فلو كان في اتخاذهم الكفار أولياء من العرب أو غيرهم والاستعانة بهم مصلحة راجحة، لأذن الله فيه وأباحه لعباده، ولكن لما علم الله ما في ذلك من المفسدة الكبرى، والعواقب الوخيمة، نهى عنه وذم من يفعله، وأخبر في آيات أخرى أن طاعة الكفار، وخروجهم في جيش المسلمين يضرهم، ولا يزيدهم ذلك إلا خبالا، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ وقال تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ(1/286)
فكفى بهذه الآيات تحذيرا من طاعة الكفار، والاستعانة بهم، وتنفيرا منهم، وإيضاحا لما يترتب على ذلك من العواقب الوخيمة، عافى الله المسلمين من ذلك، وقال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ أوضح سبحانه أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والكفار بعضهم أولياء بعض، فإذا لم يفعل المسلمون ذلك، واختلط الكفار بالمسلمين، وصار بعضهم أولياء بعض، حصلت الفتنة والفساد الكبير، وذلك بما يحصل في القلوب من الشكوك، والركون إلى أهل الباطل والميل إليهم، واشتباه الحق على المسلمين نتيجة امتزاجهم بأعدائهم وموالاة بعضهم لبعض، كما هو الواقع اليوم من أكثر المدعين للإسلام حيث والوا الكافرين، واتخذوهم بطانة، فالتبست عليهم الأمور بسبب ذلك، حتى صاروا لا يميزون بين الحق والباطل ولا بين الهدى والضلال، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فحصل بذلك من الفساد والأضرار ما لا يحصيه إلا الله سبحانه.
وقد احتج بعض دعاة القومية على جواز موالاة النصارى والاستعانة بهم بقوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى وزعموا أنها ترشد إلى جواز موالاة النصارى؛ لكونهم أقرب مودة للذين آمنوا من غيرهم،
وهذا خطأ ظاهر وتأويل للقرآن بالرأي المجرد، المصادم للآيات المحكمات المتقدم ذكرها وغيرها، ولما ثبت في السنة المطهرة من التحذير من موالاة الكفار، من أهل الكتاب وغيرهم وترك الاستعانة بهم، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار والواجب: أن تفسر الآيات بعضها ببعض، ولا يجوز أن يفسر شيء منها بما يخالف بقيتها، وليس في هذه الآية بحمد الله ما يخالف الآيات الدالة على تحريم موالاة الكفار من النصارى وغيرهم، وإنما أتي هذا الداعية من سوء فهمه وتقصيره في تدبر الآيات، والنظر في معناها، والاستعانة على ذلك بكلام أهل التفسير المعروفين بالعلم والأمانة والإمامة، ومعنى هذه الآية على ما قال أهل التفسير، وعلى ما يظهر من صريح لفظها: أن النصارى أقرب مودة للمؤمنين من اليهود والمشركين، وليس معناها: أنهم يوادون المؤمنين، ولا أن المؤمنين يوادونهم، ولو فرض أن النصارى أحبوا المؤمنين وأظهروا مودتهم لهم لم يجز لأهل الإيمان أن يوادوهم ويوالوهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد نهاهم عن ذلك في الآيات السالفات ومنها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ الآية.
وقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ولا ريب أن النصارى من المحادين لله ولرسوله، النابذين لشريعته، المكذبين له ولرسوله عليه أفضل الصلاة والسلام فكيف يجوز لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يوادونهم أو يتخذهم بطانة؟ نعوذ بالله من الخذلان وطاعة الهوى والشيطان.
وزعم آخر من دعاة القومية أن الله سبحانه قد سهل في موالاة الكفار الذين لم يخرجونا من ديارنا، واحتج على ذلك بقوله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
وهذا كالذي قبله احتجاج باطل، وقول في القرآن بالرأي المجرد، وتأويل للآية على غير تأويلها. والله سبحانه حرم موالاةالكفار ونهى عن اتخاذهم بطانة في الآيات المحكمات، ولم يفصل بين أجناسهم، ولا بين من قاتلنا ومن لم يقاتلنا، فكيف يجوز لمسلم أن يقول على الله ما لم يقل، وأن يأتي بتفصيل من رأيه لم يدل عليه كتاب ولا سنة؟ سبحان الله ما أحلمه، وإنما معنى الآية المذكورة عند أهل العلم: الرخصة في الإحسان إلى الكفار، والصدقة عليهم إذا كانوا مسالمين لنا، بموجب عهد أو أمان أو ذمة، وقد صح في السنة ما يدل على ذلك، كما ثبت في الصحيح أن أم أسماء بنت أبي بكر قدمت عليها في المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهي مشركة تريد الدنيا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء أن تصل أمها، وذلك في مدة الهدنة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعطى عمر جبة من حرير، فأهداها إلى أخ له بمكة مشرك، فهذا وأشباهه من الإحسان الذي قد يكون سببا في الدخول في الإسلام، والرغبة فيه، وإيثاره على ما سواه، وفي ذلك صلة للرحم، وجود على المحتاجين، وذلك ينفع المسلمين ولا يضرهم، وليس من موالاة الكفار في شيء كما لا يخفى على ذوي الألباب والأبصار.
وللقوميين هنا شبهة، وهي أنهم يقولون: إن التكتل حول القومية العربية بدون تفرقة بين المسلم والكافر يجعل العرب وحدة قوية، وبناء شامخا، يهابهم عدوهم ويحترم حقوقهم، وإذا انفصل المسلمون عن غيرهم من العرب، ضعفوا وطمع فيهم العدو، وشبهة أخرى وهي أنهم يقولون: إن العرب إذا اعتصموا بالإسلام، وتجمعوا حول رايته، حقد عليهم أعداء الإسلام، ولم يعطوهم حقوقهم، وتربصوا بهم الدوائر، خوفا من أن يثيروها حروبا إسلامية، ليستعيدوا بها مجدهم السالف، وهذا يضرنا ويؤخر حقوقنا ومصالحنا المتعلقة بأعدائنا، ويثير غضبهم علينا.(1/287)
والجواب: أن يقال: إن اجتماع المسلمين حول الإسلام، واعتصامهم بحبل الله، وتحكيمهم لشريعته، وانفصالهم من أعدائهم والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء، هو سبب نصر الله لهم وحمايتهم من كيد أعدائهم، وهو وسيلة إنزال الله الرعب في قلوب الأعداء من الكافرين، حتى يهابوهم ويعطوهم حقوقهم كاملة غير منقوصة، كما حصل لأسلافهم المؤمنين. فقد كان بين أظهرهم من اليهود والنصارى الجمع الغفير، فلم يوالوهم ولم يستعينوا بهم، بل والوا الله وحده، واستعانوا به وحده، فحماهم وأيدهم ونصرهم على عدوهم والقرآن والسنة شاهدان بذلك، والتاريخ الإسلامي ناطق بذلك، قد علمه المسلم والكافر. وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر إلى المشركين، وفي المدينة اليهود، فلم يستعن بهم، والمسلمون في ذلك الوقت ليسوا بالكثرة، وحاجتهم إلى الأنصار والأعوان شديدة، ومع ذلك فلم يستعن نبي الله والمسلمون باليهود، لا يوم بدر ولا يوم أحد، مع شدة الحاجة إلى المعين في ذلك الوقت، ولا سيما يوم أحد، وفي ذلك أوضح دلالة على أنه لا ينبغي للمسلمين أن يستعينوا بأعدائهم، ولا يجوز أن يوالوهم أو يدخلوهم في جيشهم، لكونهم لا تؤمن غائلتهم، ولما في مخالطتهم من الفساد الكبير، وتغيير أخلاق المسلمين، وإلقاء الشبهة، وأسباب الشحناء والعداوة بينهم، ومن لم تسعه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقة المؤمنين السابقين فلا وسع الله عليه.
وأما حقد غير المسلمين على المسلمين إذا تجمعوا حول الإسلام، فذلك مما يرضي الله عن المؤمنين ويوجب لهم نصره، حيث أغضبوا أعداءه من أجل رضاه، ونصر دينه والحماية لشرعه. ولن يزول حقد الكفار على المسلمين، إلا إذا تركوا دينهم واتبعوا ملة أعدائهم، وصاروا في حزبهم، وذلك هو الضلال البعيد والكفر الصريح، وسبب العذاب والشقاء في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ
وقال تعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وقال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ فأبان الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات البينات: أن الكفار لن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم، وندع شريعتنا، وإنهم لا يزالون يقاتلونا حتى يردونا عن ديننا إن استطاعوا.
وأخبر أنه متى أطعناهم واتبعنا أهواءهم، كنا من المخلدين في النار، إذا متنا على ذلك، نسأل الله العافية من ذلك، ونعوذ بالله من موجبات غضبه وأسباب انتقامه.
الوجه الرابع: من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية أن يقال: إن الدعوة إليها والتكتل حول رايتها يفضي بالمجتمع ولا بد إلى رفض حكم القرآن؛ لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن، فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاما وضعية تخالف حكم القرآن، حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام، وقد صرح الكثير منهم بذلك كما سلف، وهذا هو الفساد العظيم، والكفر المستبين والردة السافرة، كما قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
وقال تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وكل دولة لا تحكم بشرع الله، ولا تنصاع لحكم الله، ولا ترضاه فهي دولة جاهلية كافرة، ظالمة فاسقة بنص هذه الآيات المحكمات، يجب على أهل الإسلام بغضها ومعاداتها في الله، وتحرم عليهم مودتها وموالاتها حتى تؤمن بالله وحده، وتحكم شريعته، وترضى بذلك لها وعليها، كما قال عز وجل: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ(1/288)
فالواجب على زعماء القومية ودعاتها، أن يحاسبوا أنفسهم ويتهموا رأيهم، وأن يفكروا في نتائج دعوتهم المشئومة، وغاياتها الوخيمة، وأن يكرسوا جهودهم للدعوة إلى الإسلام ونشر محاسنه والتمسك بتعاليمه والدعوة إلى تحكيمه بدلا من الدعوة إلى قومية أو وطنية، وليعلموا يقينا أنهم إن لم يرجعوا إلى دينهم ويستقيموا عليه ويحكموه فيما شجر بينهم، فسوف ينتقم الله منهم، ويفرق جمعهم، ويسلبهم نعمته، ويستبدل قوما غيرهم، يتمسكون بدينه ويحاربون ما خالفه كما قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ وقال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ قوله تعالى وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ فيا معشر القوميين: راقبوا الله سبحانه، وتوبوا إليه، وخافوا عذابه واشكروه على إنعامه، وذلك بتعظيم كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والعمل بهما ودعوة الناس إلى ذلك، وتحذيرهم مما يخالفه، ففي ذلك عز الدنيا والآخرة، وصلاح أمر المجتمع، وراحة الضمير وطمأنينة القلب، والسعادة العاجلة والآجلة، والأمن من عذاب الله في الدنيا والآخرة. وكل ما خالف ذلك من الدعوات، فهو دعوة إلى جهنم، وسبيل إلى قلق الضمائر، واضطراب المجتمع، وتسليط الأعداء، وحرمان السعادة والأمن في الدنيا والآخرة، كما قال ذو العزة والجلال في كتابه المبين: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى فأبان سبحانه في هذه الآيات أن من اتبع هداه لم يضل ولم يشق، بل له الهدى والسعادة في الدنيا والآخرة ومن أعرض عن ذكره فله المعيشة الضنك في الدنيا، والعمى والعذاب في الآخرة، ومن ضنك المعيشة في الدنيا ما يبتلى به أعداء الإسلام من ظلمة القلوب وحيرتها، وما ينزل بها من الغموم والهموم والشكوك والقلق، وأنواع المشاق في طلب الدنيا وجمعها والخوف من نقصها وسلبها، وغير ذلك من أنواع العقوبات المعجلة في الدنيا، كما قال الله سبحانه: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ وقال تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ والآيات في هذا المعنى كثيرة، نسأل الله أن يصلح قلوبنا، وأن يعرفنا بذنوبنا، ويمن علينا بالتوبة منها، وأن يهدينا وسائر إخواننا سواء السبيل، إنه على كل شيء قدير.
ولنختم الكلام في هذا المقام بنبذة من كلام الكاتب المصري الشهير الشيخ: محمد الغزالي تتعلق بالقومية قد أجاد فيها وأفاد، حيث قال في كتابه: (مع الله) صفحة 254 ما نصه:
لا مكان للإلحاد بيننا
ما هؤلاء الناس؟ إنهم ليسوا عربا ولا عجما ولا روس ولا أمريكان!! إنهم مسخ غريب الأطوار صفيق الصياح، بليت به هذه البلاد إثر ما وضعه الاستعمار بها وترك بذوره في مشاعرها وأفكارها، فهم - كما جاء في الحديث - من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، بيد أنهم عدو لتاريخنا وحضارتنا وعبء على كفاحنا ونهضتنا، وعون للحاقدين على ديننا والضانين بحق الحياة له ولمن اعتنقه.(1/289)
إن هؤلاء الناس الذين برزوا فجأة، وملأت ضجتهم الأودية كما تملأ الضفادع بنقيقها أكناف الليل، يجب أن يمزق النقاب عن سريرتهم، وأن تعرفهم هذه الأمة على حقيقتهم، حتى لا يروج لهم خداع، ولا ينطلي لهم زور، إن صفوف الذين يلبسون مسوح العروبة، ويندسون خلال صفوف المجاهدين، ويزعمون أنهم مبشرون بالقومية العربية ورافعون لألويتها، وفي الوقت نفسه ينسحبون من تقاليد العروبة، ويهاجمون أجل ما عرفت به، ويبعثرون العوائق في طريق الإيمان ورسالته إن هؤلاء الناس ينبغي أن يماط اللثام عن وجوههم الكالحة، وأن تلقى الأضواء على وظيفتهم التي يسرها الاستعمار لهم، ووقف بعيدا يرقب نتائجها المرة، وما نتائجها إلا الدمار المنشود لرسالة القرآن، وصاحبها العظيم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لقد قرأنا ما يكتبون، وسمعنا ما يقولون، ولم يعوزنا الذكاء لاستبانة غاياتهم، فهم ملحدون مجاهرون بالكفر، يقولون في صراحة: إن الإسلام ليس إلا نهضة عربية، فاز بها هذا الجنس العظيم في القرون الوسطى، واستطاع في فورته العارمة أن يجتاح العالم بقيادة رجل عبقري، هو الزعيم الكبير: محمد صلى الله عليه وسلم أي أن هذا الدين الجليل، نبت من الأرض، ولم ينزل من السماء، وأنه انطلاقة شعب طامح فاتح، وليس هداية مثالية فدائية، جاءت من عند الله لتنقذ العرب من جاهلية طامسة، كانوا بها في مؤخرة البشر، إلى حنيفية سمحة رفعت خسيستهم، ثم انتشر شعاعها بعد في أنحاء الأرض، كما تنتشر الأضواء في عرض الأفق لدى الشروق. والفضل في ذلك كله لله وحده، الذي اصطفى محمدا، وامتن عليه بالهدى والحق، بعد أن قال له: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ
وقال: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ كما يقول في العرب الذين أرسل فيهم: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ فأي زحف عربي هنالك؟ وأي عبقرية أنشأت من عندها هذا الغيث الممرع لأهل الأرض؟ إن الزعم: بأن الإسلام (ثورة عربية) أكذوبة كبرى وأضلولة شائنة، وإن هذا القول ليس تكذيبا للإسلام فقط، بل دعوة خطيرة إلى تكذيب الديانات كلها، وإلى إشاعة الكفر والفسوق والعصيان في أنحاء الأرض، والغريب أن هؤلاء الناس يخاصمون الإسلام بعنف، ويحاربون أمته بجبروت، ويهادنون الأديان الأخرى من سماوية وأرضية، كأن الإسلام هو العدو الذي كلفوا باستئصاله وحده، لا بل هو العقبة الفذة التي وضعت المعاول في أيديهم لإهالتها ترابا، أجل، وهل للاستعمار عدو في هذه البلاد إلا الإسلام؟ إنه مصدر المقاومة العنيدة، وروح الكفاح الباسل الذي أعيا المهاجمين وأحبط مؤامراتهم، ومن ثم فعلى الاستعمار أن ينسج خيوطه حوله ليقتله، ويحول بينه وبين الحياة الكريمة، ولقد ابتدع القوميات الضيقة واستجباها بشتى الأساليب، لينال من كيان هذا الدين، فلما سقطت أمام الإسلام في المعركة، دس أتباعه تحت لواء القومية العربية، وزودهم بضروب من الادعاء، ليزحموا العرب المخلصين في هذا الميدان، ولينالوا من الإسلام بطريقة أخرى.
وتفسير القومية العربية هذا التفسير الكفور الكنود، هو حرب أخرى ضد الإسلام، إنه لجدير أن يتسمى هؤلاء بأتباع القومية العبرية لا العربية. أليسوا يعملون لمصلحة الاستعمار وإسرائيل، ولقد مرت أربعة عشر قرنا على اشتباك العروبة بالإسلام، أو بتعبيرنا نحن أهل الإيمان: على تشريف الله العرب بحمل هذه الأمانة وإبلاغها للناس، ونظرة إلى البعيد تعرفنا بسهولة أن العرب مرت عليهم أدهار قبل الإسلام، لم يكونوا فيها شيئا مذكورا، ثم جاء هذا الدين فدخلوا التاريخ به، وطار صيتهم تحت رايته، وصدق الله إذ يقول وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ثم أخطأ العرب، فظنوا أن هذا الدين العالمي الذي نزلت فيهم آياته، يمنحهم امتيازا خاصا، ويجعلهم عنصرا أرقى من سائر الأجناس، ونشأ عن هذا الخطأ رد الفعل الذي لا بد منه، فقامت الشعوب الأخرى تدافع عن قيمة دمائها وكرامة عنصرها، وهذه الأغلاط المتبادلة علتها حنين البشر إلى الجاهلية، واستثقالهم مؤنة السعي لتحصيل الكمال الإنساني، فإذا عز على شخص تافه أن يكون تقيا ينسبه عمله إلى المجد والعلا، ذهب ينتحل نسبا آخر إلى أسرة أو وطن أو جنس، ليرتفع به دون جهد، وتلك كلها عصبيات باطلة ونزعات نازلة، ولا محل لها في دين، ولا وزن لها عند رب العالمين، ولكن المهم أن العرب الأولين لما أرادوا المفاخرة والتميز كان الإسلام متكأهم ومعقد فخارهم، فبأي شيء يملئون أفواههم إذا لم يذكروا الإسلام؟ إن وطابهم خال وتاريخهم صفر، حتى جاء الأفاكون في هذا الزمان بالبدعة التي لم يسمع بها إنسان، فإذا العروبة في نظرهم يجب أن تتجرد من الإيمان، وزعموا - قبحهم الله - أنها بالانسلاخ عن الدين تسمو وتسير، بل إن أحد الكتاب من هذه العصابة وجد الوجه الذي يطالع به الناس ليقول: إن الإسلام جنى على العروبة، وإن اللغة العربية قد انتشرت أبعد مما انتشر الإسلام، وإن الإسلام - لأنه عالمي - ضار بالقومية العربية. وظاهر أن هذا الكلام بقطع النظر عن بطلانه، إنما يروج لحساب الاستعمار الغربي منه والشرقي على السواء، وأن قائله يخدم أهداف الغزاة الذين عسكرت جيوشهم في بعض أقطار العروبة وأنزلت بها الهون، ووقفت على حدود البعض الآخر تتربص به الدوائر.(1/290)
وكاتب آخر من هذه العصابة يطلب منا بإلحاح: أن ننسى التاريخ؛ لأنه لا يضم إلا رفات الموتى، وأن نتطلع إلى المستقبل فحسب، ونسي هذا الغر أن اليهود في كبد الشرق الأوسط، أقاموا دولتهم بإمداد من التاريخ الموحى، وأنهم جعلوا اسم إسرائيل علما عليها، إنه حلال للناس جميعا أن يستصحبوا تاريخهم في كفاحهم، أما نحن المسلمين فحرام علينا أن نذكر فصلا من هذا التاريخ، وأن نستوحي منه عونا في جهاد وأملأ في امتداد، إنها قومية عبرية لا عربية، تلك التي يبشر بها الملحدون وكارهو الإسلام، ولقد عرف الأولون والآخرون أننا نحن المسلمين أحنى الناس على العروبة وأوصلهم لمجدها، وأخلصهم لقضاياها، وأن هؤلاء القوميين لا خير فيهم، بل إنهم مصدر شر طويل وأذى ثقيل).
انتهى ما أردنا نقله للقراء من كلام الشيخ: محمد الغزالي هاهنا،
وقال أيضا في كتابه المذكور صفحة 347 ما نصه:
الهدم الروحي
يجتهد الاستعمار في صرف المسلمين عن دينهم بكل ما يتاح له من وسائل، وفي جعل حركات التحرر الناشطة في بلادهم مبتوتة العلاقة بالدين، حتى تولد ميتة، أو تحيا عقيمة لا ثمر لها ولا زهر وما من نهضة في الأولين والآخرين إلا ولها دعامة معنوية تقوم عليها، وسناد روحي تتحرك به، ولما كان عمل الدين في هذه الحالة ملأ القلوب بالضمائر الحية، وبنى الأخلاق على الفضيلة، وصبغ الحياة بتقاليد جامعة ومعلومة وواضحة، ورص الصفوف على إحساس مشترك، ودفعها إلى مصير واحد، فإن الاستعمار استهدف إقصاء الدين عن آفاق البلاد كلها، وتكوين أجيال غريبة عنه، إن لم تكن كارهة له.
بل إن ذكر الإسلام أصبح محظورا في المناسبات الجادة، والشئون الهامة، وقد يحوم البعض حوله، ولكنه يوجل من التصريح به، كأن الإسلام مجرم ارتكب ذنبا ثم فر من القضاء الذي حكم بعقوبته، فهو لا يستطيع الظهور في المجتمعات، وربما تلوح له فرصة الظهور متنكرا، تحت اسم مستعار، فيتحرك قليلا هنا وهناك، حتى إذا أحس انكشاف أمره استخفى من الأنظار، يا عجبا، لماذا يلقى الإسلام هذا الهوان كله؟
والجواب: عند الاستعمار الذي يجر خلفه ضغائن القرون الأولى ويضع نصب عينه ألا تقوم للإسلام قائمة في بلاده، فهو حريص على خنقه في ميدان التربية والمعاملات والتشريع، وسائر ألوان الحياة، إنه يطمئن إلى مجتمع واحد، المجتمع الذي مات ضميره، والذي تفسخت أخلاقه، في هذا المجتمع الذي غاصت منه معاني الفضل، واستغلظت فيه غرائز الشره، وزحفت فيه ثعابين الأثرة.
يستطيع الاستعمار أن يطمئن إلى يومه وغده، فإذا جاء الإسلام ليمسح هذه الأقذار طلب منه على عجل أن يعود إلى وكره ليخفى عن الأعين. إنه اسم لا ينبغي أن يذكر وحقيقة لا يجوز أن تعيش.
هكذا حكم الاستعمار، حتى قيض الله لنا فكرة العروبة عنوانا، نستطيع تحته أن ندفع غوائل الموت، وقد هششنا للفكرة، ورجونا من ورائها الخير، وللعروبة المجردة مثل تعكر على الاستعمار مآربه، إن التعليم في ظل الاحتلال الأجنبي أوجد أناسا تحركهم الشهوات وحدها، أناسا فرغت عواطف اليقين من أفئدتهم فهي هواء، فإذا جاءت إليهم العروبة، فهل يعرفون أن العفة من خلائقها، وأن تقديس العرض من شمائلها، وأن المحافظة على الحريم من صفاتها الباطنة والظاهرة. إن أمثال العرب في الجاهلية تشهد بما لهم من غيرة على نسائهم، فالمثل القائل: (كل ذات صدار خالة) يعني: أن العرب يجعلون في حكم الخالة كل من تلبس ثياب المرأة، فما ينظرون إليها إلا نظرة الاحترام والعفة، وذلك أن الخالة بمنزلة الأم، ويقول الشاعر:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي … …حتى يواري جارتي مثواها
ويقول الآخر:
ولا ألقي لذي الودعات سوطي … …أداعبه، وريبته أريد...!
يعني: أنه يداعب طفلا مع أمها ابتغاء إثم بالأم نفسها، فهل هذه الشوارع الغاصة بمتتبعي العورات وبغاة الدنية شوارع عربية؟
وهل عرب أولئك الذين ترى الواحد منهم يتأبط ذراع فتاة متبرجة لعوب تسير في وضع يقول لكل ناظر (هيت لك)؟ والعرب الأقدمون كانوا أصحاب كرم غريب، وإيثار لامع، ونهوض بالحق على عض الزمن وشدة الحاجة، واسمع قول عروة بن الورد:
وإني امرؤ عافى إنائي شركة … …وأنت امرؤ عافى إنائك واحد
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى … …بوجهي شحوب الحق والحق جاهد
أفرق جسمي في جسوم كثيرة … …وأحسو قراح الماء والماء بارد
أرأيت صورة الإنسان النبيل، يؤثر غيره بالطعام، ويستعيض برشحات من الماء البارد يصفر بها وجهه، وهو يأبى تضييع من نزلوا به، وحسبه أنه فرق جسمه في جسوم كثيرة.
احتفظ بهذه الصورة، ثم سل نفسك: أمدن عربية هذه التي تراها مزدحمة بأصحاب الفضول من المال النامي. ومع ذلك فقلما تؤوي يتيما، أو تغذو محروما، وما لنا نبحث عن الشمائل العربية المفقودة في بيئات مسخها الاستعمار، وترك عليها طابع الحيوانية والتقطع، إنك ترى الواحد من أولئك يقول: إنه عربي ولغة العرب لا تستقيم على فمه، ومن أعاجيب الليالي أن أسمع المذيع مثلا يقول: يا أخي المواطن، أحنا بنعمل إيه في هذه الأيام، وكان يستطيع أن يقول ما نعمل في هذه الأيام، ولكنه حريص على تخليد لغة الرعاع، والتنكر للغة الفصحى، وهي اللغة التي ترسل بها الإذاعات من جميع محطات العالم لمستمعيها على اختلاف ألسنتهم، إذ أن يخاطب المذيع قومه، في أي عاصمة بلغة غير الفصحى، فهل من مظاهر الوفاء لعروبتنا أن نذيع نحن بلغة الرعاع؟(1/291)
الواقع: أن الإسلام وحده هو الذي يخلد العروبة لغة وأدبا وخلقا، وأن التنكر لهذا الدين معناه القضاء الحقيقي على العروبة في لغتها وأدبها وخلقها، ولذلك يجب على الدعاة أن يستميتوا في إبراز هذا الاسم بقدر ما يستميت الاستعمار في إخفائه، وأن يذهبوا عنه الوحشة التي صنعها أعداؤه حوله، حتى يصبح مألوفا في الآذان، محببا إلى القلوب، وإظهار هذا الاسم لا يكفي، فما قيمة شكل لا جوهر لها يجب على الدعاة أن يجمعوا الجماهير على تعاليمه وأن ينعشوا أنفسهم بروحه. .
الضمير الديني الخاشي لله، الرحيم بخلقه، المحتفي بالواجبات، النفور من الرذائل، الشجاع في نصرة الحق، المستعد للقاء بالله، المتأسي بصاحب الرسالة، هذا الضمير، يجب أن ندعمه بل أن نوجده في كل طائفة، وأن يربط به إنجاز كل عمل، ونجاح كل مشروع، ومنع كل تفريط، وصيانة كل حق، فالإسلام قبل كل شيء قلب كبير، قلب موصول بالله، يبادر لمرضاته ويتقيه حيث كان، وهذا القلب لا يتكون من تلقاء نفسه، ويستحيل أن يتكون بداهة وسط تيارات الشكوك والتجهيل التي تسلط عليه عمدا ليتوقف ويزيغ، إنه يتكون بأغذية روحية منظمة، تقدم له في برامج التعليم، وفي عظات المساجد، وفي صبغ البيئة بمعان معينة، تساعد على احترام الفضيلة وإشاعتها، ونحن أحوج ما نكون لإنشاء هذه الضمائر في الذراري المحدثة التي عريت عنها، والطبقات الكثيفة التي مردت على العبث والاستخفاف بجميع القيم، إنني أستغرب كيف نشتري آلة ما بأغلى الأسعار، ثم نوقف أمامها عاملا لا يتقي الله، فهي تخرب بين يديه على عجل، أو يقل إنتاجها لو قدر لها البقاء سليمة، إننا لو بذلنا شيئا زهيدا لغرس التدين الحق في قلب هذا العامل لربحنا الكثير، أفلا يبذل المسئولون هذا الشيء بالزهيد، ولو على اعتباره نفقات صيانة للآلة التي اشتريت؟
إن من حق الله علينا ومن حق بلادنا علينا أن نربي الصغار والكبار باسم الإيمان لابتداء عمل ما، فسوف يتم على خير الوجوه، إن للضمير الديني علاقة راشدة بالسماء، ونواة مباركة في الأرض، وما أصدق قول الأستاذ: أحمد الزين في وصفه:
هو صوت السماء في عالم ال … …أرض وروح من اللطيف الخبير
وشعاع تذوب تحت سناه … …خدع العيش من رياء وزور
هو سر يحار في كنهه اللب … …وتعيا به قوى التفكير
مبلغ العلم أنه روح خير … …باطن الشخص ظاهر التأثير
كل حي عليه منه رقيب … …حل من قلبه مكان الشعور
حل حيث الأهواء تنزو إلى الإثم … …م وتهفو إلى مهاوي الشرور
جامحات أعيت على الناس كبحا … …رغم إنذارها بسوء المصير
ثم صاح الضمير فيها نذيرا … …فأصاخت إلى صياح النذير
هو روح من الملائك يسمو … …بسليل الثرى لعالم نور
قد تولت بالأنبياء عصور … …وهو باق على توالى العصور
حافظا في الزمان ما خلفوه … …قائما في الصدور بالتذكير
حاملا من شرائع الخير كتبا … …قدست من صحائف وسطور
ليس يعفو عن الهنات وإن أن … …تملح في اللوم والتعزير
ونحن ننشد هذا الشعر هنا تكريما للأدب العالي، وإلا فلا مجال لقول بعد أن نتدبر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب انتهى المقصود من كلام الغزالي في كتابه: (مع الله) جزاه الله خيرا، ولعظيم فائدته نقلته هاهنا. وأسأل الله عز وجل أن يصلح قلوب المسلمين ويعمرها بتقواه، وأن يمن علينا وعلى جميع شبابنا وسائر إخواننا بالفقه في الدين، والاستقامة على صراط الله المستقيم، فإن ذلك هو سبيل النجاة والفوز بالعزة والكرامة في الدنيا والآخرة، كما قال الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " والله أعلم. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تكميل في المحرم من العام الماضي، أعني: عام 1380 هـ سألني مندوب صحيفة البلاد عن مسائل، بعضها يتعلق بالقومية، فأجبته بما نشر في صحيفة البلاد.
ولتكميل الفائدة للقراء رأيت أن أذكر الأسئلة والأجوبة هاهنا، وهذا نصها:
السؤال الأول: ما رأي فضيلتكم في الدعوة التي تقوم بها بعض الأوساط الخارجية إلى أن القومية العربية وحدها هي الرابطة الأولى بين العرب؟
السؤال الثاني: ما رأي فضيلتكم في الاتجاه الذي يبدو واضحا في هذه الأيام للمقارنة بين القومية والإسلام، والذي يظهر في بعض الجرائد والمجلات بالمملكة؟
السؤال الثالث: بعض المخلصين من الوعاظ يعالجون في وعظهم الأمور البسيطة الفرعية في الدين كطريقة حلاقة الرأس، أو شكل الملابس، في حين أن هناك أمورا هامة تتصل بالعقيدة، تحتاج من هؤلاء المخلصين من الدعاة إلى عناية خاصة لأنها أمور هامة أساسية، فما رأي فضيلتكم في هذا؟
السؤال الرابع: تود جريدة البلاد أن تحمل من فضيلتكم نصيحة إلى قرائها من مختلف الطبقات فما هي؟ .(1/292)
الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: لا ريب أن الدعوة إلى أن تكون القومية العربية هي الرابطة الأولى بين العرب، دعوة باطلة لا أساس يؤيدها، لا من العقل ولا النقل، بل هي دعوة جاهلية إلحادية يهدف دعاتها إلى محاربة الإسلام، والتملص من أحكامه وتعاليمه. وقد يدعو إليها من لا يقصد هذا المعنى، وإنما دعا إليها تقليدا لغيره وإحسانا للظن به، ولو عرف حقيقة المقصود منها لحاربها وابتعد عنها، وكل من له أدنى معرفة بتاريخ العرب قبل الإسلام وبعد يعلم إنه لم يكن للعرب كبير قيمة تذكر ولا راية ترهب إلا بالإسلام، وبه فتحوا البلاد وسادوا العباد، وبه كانوا أمة مرهوبة الجانب، محترمة الحقوق مرفوعة الرأس، حتى غيروا فغير عليهم، كما قال الله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ الآية. ولا أحب أن أطيل في هذا الميدان؛ لأن الصحيفة لا تتحمل ذلك، والحق في ذلك أوضح من الشمس، لا يرتاب فيه من له أدنى إلمام بحال العرب والإسلام، وما أحسن قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ وقوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ وإذا كان الهدف من الدعوة إلى القومية العربية أن يجتمع العرب، وأن يشتركوا في مصالحهم، وأن ينتصفوا من عدوهم ويطردوه عن بلادهم، فليس هذا هو السبيل إلى هذا الغرض النبيل، وإنما السبيل الوحيد هو الرجوع إلى دينهم الحق، الذي به شرفوا وعرفوا وبرزوا في الميدان، وسادوا الأمم، والتمسك بتعاليمه السمحة وأحكامه الرشيدة، وتحكيمه في كل شيء، والموالاة في ذلك والمعاداة فيه، وبذلك يحصل الاجتماع، وتدرك المصالح وينتصف من الأعداء، ويكون النصر عليهم مضمونا والعاقبة حميدة في الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى في محكم التنزيل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وقال تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا الآية. والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة. وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمة الله عليه في هذا المعنى: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها لقد صدق هذا الإمام في هذه الكلمة القصيرة العظيمة.
اللهم أصلحنا وولاة أمرنا جميعا وسائر المسلمين إنك سميع قريب.
وأما السؤال الثاني فالجواب عنه: أن يقال: إن من أعظم الظلم وأسفه السفه، أن يقارن بين الإسلام وبين القومية العربية، وهل للقومية المجردة من الإسلام من المزايا ما تستحق به أن تجعل في صف الإسلام، وأن يقارن بينها وبينه؟ لا شك أن هذا من أعظم الهضم للإسلام والتنكر لمبادئه وتعاليمه الرشيدة، وكيف يليق في عقل عاقل أن يقارن بين قومية لو كان أبو جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وأضرابهم من أعداء الإسلام أحياء لكانوا هم صناديدها وأعظم دعاتها، وبين دين كريم صالح لكل زمان ومكان، دعاته وأنصاره هم: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق، وعمر ابن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم من الصحابة صناديد الإسلام وحماته الأبطال، ومن سلك سبيلهم من الأخيار؟ لا يستسيغ المقارنة بين قومية هذا شأنها، وهؤلاء رجالها وبين دين هذا شأنه وهؤلاء أنصاره ودعاته، إلا مصاب في عقله، أو مقلد أعمى، أو عدو لدود للإسلام ومن جاء به. وما مثل هؤلاء في هذه المقارنة إلا مثل من قارن بين البعر والدر، أو بين الرسل والشياطين، ومن تأمل هذا المقام من ذوي البصائر، وسبر الحقائق والنتائج، ظهر له أن المقارنة بين القومية والإسلام، أخطر على الإسلام من المقارنة بين ما ذكر آنفا. ثم كيف تصح المقارنة بين قومية غاية من مات عليها النار، وبين دين غاية من مات عليه الفوز بجوار الرب الكريم، في دار الكرامة والمقام الأمين؟
اللهم اهدنا وقومنا سواء السبيل، إنك على كل شيء قدير.(1/293)
الجواب على السؤال الثالث: لا ريب أن المرشدين هم أطباء المجتمع، ومن شأن الطبيب أن يهتم بمعرفة الأدواء ثم يعمل على علاجها بادئا بالأهم فالأهم، وهذه طريقة أنصح الأطباء وأعلمهم بالله وأقومهم بحقه وحق عباده، سيد ولد آدم عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم فإنه صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله بدأ بالنهي عن أعظم أدواء المجتمع وهو الشرك بالله سبحانه، فلم يزل صلى الله عليه وسلم من حين بعثه الله يحذر الأمة من الشرك ويدعوهم إلى التوحيد إلى أن مضى عليه عشر سنين، ثم أمر بالصلاة، ثم ببقية الشرائع، وهكذا الدعاة بعده: عليهم أن يسلكوا سبيله وأن يقتفوا أثره، بادئين بالأهم فالأهم ولكن إذا كان المجتمع مسلما ساغ للداعي أن يدعو إلى الأهم وغيره، بل يجب عليه ذلل حسب طاقته؛ لأن المطلوب إصلاح المجتمع المسلم وبذل الوسع في تطهير عقيدته من شوائب الشرك ووسائله، وتطهير أخلاقه مما يضر المجتمع ويضعف إيمانه. ولا مانع من بداءته بعض الأوقات بغير الأهم، إذا لم يتيسر الكلام في الأهم، ولا مانع أيضا من اشتغاله بالأهم وإعراضه عن غير الأهم، إذا رأى المصلحة في ذلك وخاف إن هو اشتغل بهما جميعا أن يخفق فيهما جميعا، وهكذا شأن المصلحين والأطباء المبرزين، يهتمون بطرق الإصلاح ويسلكون أنجعها وأقربها إلى النتيجة المرضية، وإذا لم يستطيعوا تحصيل المصلحتين أو المصالح، أو تعطيل المفسدتين، اهتموا بالأهم من ذلك واشتغلوا به دون غيره، ومن تأمل قواعد الشرع وسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وسيرة خلفائه الراشدين والأئمة الصالحين، علم ما ذكرته، وعرف كيف يقوم بإرشاد الناس، وكيف ينتشلهم من أدوائهم إلى شاطئ السلامة، ومن صحت نيته وبذل وسعه في معرفة الحق، وطلب من مولاه الهداية إلى خير الطرق، وأنجعها في الدعوة، واستشار أهل العلم والتجارب فيما أشكل عليه، فاز بالنجاح وهدي إلى الصواب، كم قال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ
الجواب الرابع: نصيحتي لجميع القراء هي: أن يأخذوا بوصية الله سبحانه التي أوصى بها في كتابه الكريم حيث يقول: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ والتقوى كما يعلم القارئ الكريم كلمة جامعة، حقيقتها: أن يتقي العبد غضب الرب وعذابه، بفعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، عن علم وإيمان وإخلاص ومحبة ورغبة ورهبة، وبذلك يفوز بالسعادة وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة، وهما أنصح به القراء وهو من جملة التقوى، التثبت في الأمور، والتريث في الحكم عليها، إلا بعد دراستها من جميع نواحيها، وبعد التحقق من معناها ومعرفته معرفة تامة بعرض ذلك المعنى على الميزان الشرعي وهو كتاب الله، وما صح من السنة، فما وافق ذلك الميزان قبل، وما خالفه ترك، ويجب أن يكون القارئ في دراسته للأشياء، وعرضه لها على الميزان المذكور، بعيدا كل البعد عن الإفراط والتفريط، متجردا عن ثوبي التعصب والهوى، ومتى سلم من هذه الأمور، ودرس الأمور حق دراستها بإخلاص، وقصد حسن، وفق للحقيقة وفاز بالصواب ، وحمد العاقبة، وكم جرت العجلة على أصحابها وغيرهم من ويلات ومشاكل، تذهب الأيام والليالي وآثارها وتبعتها باقية؟ وكم حصل بسبب التعصب والهوى من فساد ودمار وعواقب لا تحمد؟ نسأل الله السلامة من ذلك. ومما أنصح به القراء أيضا وهو من أهم التقوى دعوة العباد إلى الله سبحانه والتواصي بالحق والصبر عليه، والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة والتغيير حسب الطاقة، كما في الحديث الصحيح:" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " وأسأل الله للجميع الثبات على الحق والعافية من مضلات الفتن، إنه خير مسئول، وأكرم مجيب، والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
=================
لا أخوة بين المسلمين والكافرين ولا دين حق غير دين الإسلام (1)
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
أما بعد : فقد نشرت صحيفة عكاظ في عددها 3031 الصادر بتاريخ 27 / 8 / 1394 هـ خبرا يتعلق بإقامة صلاة الجمعة في مسجد قرطبة ، وذكرت فيه أن الاحتفال بذلك يعد تأكيدا لعلاقات الأخوة والمحبة بين أبناء الديانتين الإسلام والمسيحية . انتهى المقصود . كما نشرت صحيفة أخبار العالم الإسلامي في عددها 395 الصادر بتاريخ 29 / 8 / 1394 هـ الخبر المذكور وذكرت ما نصه ( ولا شك أن هذا العمل يعتبر تأكيدا لسماحة الإسلام وأن الدين واحد ) إلى آخره
__________
(1) - مجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 2 / ص 160)(1/294)
ونظرا إلى ما في هذا الكلام من مصادمة الأدلة الشرعية الدالة على أنه لا أخوة ولا محبة بين المسلمين والكافرين ، وإنما ذلك بين المسلمين أنفسهم ، وأنه لا اتحاد بين الدينين الإسلامي والنصراني ، لأن الدين الإسلامي هو الحق الذي يجب على جميع أهل الأرض المكلفين اتباعه ، أما النصرانية فكفر وضلال بنص القرآن الكريم ، ومن الأدلة على ما ذكرنا قول الله سبحانه في سورة الحجرات : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ الآية ، وقول الله عز وجل في سورة الممتحنة : قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ الآية ، وقوله سبحانه في سورة المجادلة : لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وقوله تعالى في سورة التوبة : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ الآية وقوله سبحانه في سورة المائدة : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
وقوله عز وجل في سورة آل عمران : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ الآية ، وقوله تعالى في السورة المذكورة : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ وقوله عز وجل في سورة المائدة : لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ الآية ، وقوله سبحانه في سورة المائدة أيضا : لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ الآية ، وقوله تعالى في سورة الكهف : قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وقول النبي صلى الله عليه وسلم : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله ولا يكذبه الحديث رواه مسلم ، ففي هذه الآيات الكريمات والحديث الشريف وما جاء في معنى ذلك من الآيات والأحاديث ما يدل دلالة ظاهرة على أن الأخوة والمحبة إنما تكون بين المؤمنين أنفسهم .
أما الكفار فيجب بغضهم في الله ومعاداتهم فيه سبحانه ، وتحرم موالاتهم وتوليهم حتى يؤمنوا بالله وحده ويدعوا ما هم عليه من الكفر والضلال .
كما دلت الآيات الأخيرة على أن الدين الحق هو دين الإسلام الذي بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وسائر المرسلين ، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : نحن معاشر الأنبياء ديننا واحد رواه البخاري في صحيحه ، أما ما سواه من الأديان الأخرى سواء كانت يهودية أو نصرانية أو غيرهما فكلها باطلة ، وما فيها من حق فقد جاءت شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم به أو ما هو أكمل منه ، لأنها شريعة كاملة عامة لجميع أهل الأرض ، أما ما سواها فشرائع خاصة نسخت بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي هي أكمل الشرائع وأعمها وأنفعها للعباد في المعاش والمعاد كما قال الله سبحانه يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم : وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا الآية ، وقد أوجب الله على جميع المكلفين من أهل الأرض اتباعه والتمسك بشرعه ، كما قال تعالى في سورة الأعراف بعد ذكر صفة محمد عليه الصلاة والسلام : فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(1/295)
ثم قال عز وجل بعدها : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ونفى الإيمان عن جميع من لم يحكمه ، فقال سبحانه في سورة النساء : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وحكم على اليهود والنصارى بالكفر والشرك من أجل نسبتهم الولد لله سبحانه ، واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله عز وجل بقوله تعالى في سورة التوبة : وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ
ولو قيل أن هذا الاحتفال يعتبر تأكيدا لعلاقات التعاون بين أبناء الديانتين فيما ينفع الجميع ، لكان ذلك وجيها ولا محذور فيه ، ولواجب النصح لله ولعباده رأيت التنبيه على ذلك؛ لكونه من الأمور العظيمة التي قد تلتبس على بعض الناس .
واسأل الله أن يوفقنا وسائر المسلمين للأخوة الصادقة في الله والمحبة فيه ومن أجله ، وأن يهدي أبناء البشرية جميعا للدخول في دين الله الذي بعث به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، والتمسك به وتحكيمه ونبذ ما خالفه ، لأن في ذلك السعادة الأبدية والنجاة في الدنيا والآخرة ، كما أن فيه حل جميع المشاكل في الحاضر والمستقبل أنه جواد كريم ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه .
نشرت في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، العدد الرابع ، السنة السابعة في ربيع الآخر سنة 1395 هـ
================
وجوب عداوة اليهود والمشركين وغيرهم من الكفار (1)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .
أما بعد فقد نشرت بعض الصحف المحلية تصريحا لبعض الناس قال فيه ما نصه : ( إننا لا نكن العداء لليهود واليهودية وإننا نحترم جميع الأديان السماوية ) ، وذلك في معرض حديثه عن الوضع في الشرق الأوسط بعد العدوان اليهودي على العرب
ولما كان هذا الكلام في شأن اليهود واليهودية يخالف صريح الكتاب العزيز والسنة المطهرة ، ويخالف العقيدة الإسلامية وهو تصريح يخشى أن يغتر به بعض الناس ، رأيت التنبيه على ما جاء فيه من الخطأ نصحا لله ولعباده . . فأقول:
قد دل الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على أنه يجب على المسلمين أن يعادوا الكافرين من اليهود والنصارى وسائر المشركين ، وأن يحذروا مودتهم واتخاذهم أولياء ، كما أخبر الله سبحانه في كتابه المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، أن اليهود والمشركين هم أشد الناس عداوة للمؤمنين .
قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ إلى قوله سبحانه : قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وقال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وقال عز وجل في شأن اليهود : تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا الآية . وقال تعالى : لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ الآية .
__________
(1) - مجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 2 / ص 165)(1/296)
والآيات في هذا المعنى كثيرة ، وهي تدل دلالة صريحة على وجوب بغض الكفار من اليهود والنصارى وسائر المشركين وعلى وجوب معاداتهم حتى يؤمنوا بالله وحده ، وتدل أيضا على تحريم مودتهم وموالاتهم وذلك يعني بغضهم والحذر من مكائدهم وما ذاك إلا لكفرهم بالله وعدائهم لدينه ومعاداتهم لأوليائه وكيدهم للإسلام وأهله ، كما قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ ففي هذه الآيات الكريمات حث المؤمنين على بغض الكافرين ، ومعاداتهم في الله سبحانه من وجوه كثيرة ، والتحذير من اتخاذهم بطانة ، والتصريح بأنهم لا يقصرون في إيصال الشر إلينا ، وهذا هو معنى قوله تعالى :لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا والخبال هو : الفساد والتخريب . وصرح سبحانه أنهم يودون عنتنا ، والعنت : المشقة ، وأوضح سبحانه أن البغضاء قد بدت من أفواههم وذلك فيما ينطقون به من الكلام لمن تأمله وتعقله وما تخفي صدورهم أكبر من الحقد والبغضاء ونية السوء لنا أكبر مما يظهرونه ، ثم ذكر سبحانه وتعالى أن هؤلاء الكفار قد يتظاهرون بالإسلام نفاقا ليدركوا مقاصدهم الخبيثة وإذا خلوا إلى شياطينهم عضوا على المسلمين الأنامل من الغيظ ، ثم ذكر عز وجل أن الحسنات التي تحصل لنا من العز والتمكين والنصر على الأعداء ونحو ذلك تسوءهم وأن ما يحصل لنا من السوء كالهزيمة والأمراض ونحو ذلك يسرهم وما ذلك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لنا ولديننا .
ومواقف اليهود من الإسلام ورسول الإسلام وأهل الإسلام كلها تشهد لما دلت عليه الآيات الكريمات من شدة عداوتهم للمسلمين ، والواقع من اليهود في عصرنا هذا وفي عصر النبوة وفيما بينهما من أكبر الشواهد على ذلك ، وهكذا ما وقع من النصارى وغيرهم من سائر الكفرة من الكيد للإسلام ومحاربة أهله ، وبذل الجهود المتواصلة في التشكيك فيه والتنفير منه والتلبيس على متبعيه وإنفاق الأموال الضخمة على المبشرين بالنصرانية والدعاة إليها ، كل ذلك يدل على ما دلت عليه الآيات الكريمات من وجوب بغض الكفار جميعا والحذر منهم ومن مكائدهم ومن اتخاذهم بطانة .
فالواجب على أهل الإسلام أن ينتبهوا لهذه الأمور العظيمة وأن يعادوا ويبغضوا من أمرهم الله بمعاداته وبغضه من اليهود والنصارى وسائر المشركين حتى يؤمنوا بالله وحده ، ويلتزموا بدينه الذي بعث به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم . وبذلك يحققون اتباعهم ملة أبيهم إبراهيم ودين نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي أوضحه الله في الآية السابقة ، وهي قوله عز وجل :قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وقوله تعالى : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ وقوله عز وجل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ والآيات في هذا المعنى كثيرة .
وفي قوله تعالى : لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا دلالة ظاهرة على أن جميع الكفار كلهم أعداء للمؤمنين بالله سبحانه وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن اليهود والمشركين عباد الأوثان أشدهم عداوة للمؤمنين ، وفي ذلك إغراء من الله سبحانه للمؤمنين على معاداة الكفار والمشركين عموما وعلى تخصيص اليهود والمشركين بمزيد من العداوة في مقابل شدة عداوتهم لنا ، وذلك يوجب مزيد الحذر من كيدهم وعداوتهم .
ثم إن الله سبحانه مع أمره للمؤمنين بمعاداة الكافرين أوجب على المسلمين العدل في أعدائهم فقال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى فأمر سبحانه المؤمنين أن يقوموا بالعدل مع جميع خصومهم ، ونهاهم أن يحملهم بغض قوم على ترك العدل فيهم وأخبر عز وجل أن العدل مع العدو والصديق هو أقرب للتقوى . والمعنى : أن العدل في جميع الناس من الأولياء والأعداء هو أقرب إلى اتقاء غضب الله وعذابه .(1/297)
وقال عز وجل : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وهذه الآية الكريمة من أجمع الآيات في الأمر بكل خير والنهي عن كل شر ، ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث عبد الله بن رواحة الأنصاري إلى خيبر ليخرص على اليهود ثمرة النخل ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاملهم على نخيلها وأرضها بنصف ثمرة النخل والزرع ، فخرص عليهم عبد الله ثمرة النخل ، فقالوا له إن هذا الخرص فيه ظلم ، فقال لهم عبد الله رضي الله عنه : ( والذي نفسي بيده إنكم لأبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير ، وإنه لن يحملني بغضي لكم وحبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أن أظلمكم ) فقال اليهود : بهذا قامت السموات والأرض . فالعدل واجب في حق القريب والبعيد والصديق والبغيض ، ولكن ذلك لا يمنع من بغض أعداء الله ومعاداتهم ومحبة أولياء الله المؤمنين وموالاتهم ، عملا بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة ، والله المستعان . أما قول الكاتب : ( وإننا نحترم جميع الأديان السماوية ) فهذا حق ولكن ينبغي أن يعلم القارئ أن الأديان السماوية قد دخلها من التحريف والتغيير ما لا يحصيه إلا الله سبحانه ما عدا دين الإسلام الذي بعث الله به نبيه وخليله وخيرته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فقد حمله الله وحفظه من التغيير والتبديل ، وذلك بحفظه لكتابه العزيز وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم ، حيث قال الله عز وجل : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ فقد حفظ الله الدين وصانه من مكايد الأعداء بجهابذة نقاد أمناء ، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وكذب المفترين وتأويل الجاهلين ، فلا يقدم أحد على تغيير أو تبديل إلا فضحه الله وأبطل كيده . أما الأديان الأخرى فلم يضمن حفظها سبحانه ، بل استحفظ عليها بعض عباده فلم يستطيعوا حفظها ، فدخلها من التغيير والتحريف ما الله به عليم كما قال عز وجل : إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ وقال عز وجل : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ الآية .
وقال عز وجل : فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ وقال تعالى : وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .الآيات في هذا المعنى كثيرة .
أما ما كان من الأديان السماوية السابقة سليم من التغيير والتبديل فقد نسخه الله ببعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنزاله القرآن الكريم ، فإن الله سبحانه أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ونسخ بشريعته سائر الشرائع ، وجعل كتابه الكريم مهيمنا على سائر الكتب السماوية .(1/298)
فالواجب على جميع أهل الأرض من الجن والإنس سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو غيرهم من سائر أجناس بني آدم ، ومن سائر أجناس الجن أن يدخلوا في دين الله الذي بعث به خاتم الرسل إلى الناس عامة وأن يلتزموا به ويستقيموا عليه ، لأنه هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه ، كما قال سبحانه وتعالى : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ وقال عز وجل : قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وقال تعالى : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ وقال تعالى في سورة المائدة بعد ما ذكر التوراة والإنجيل يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم : وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ففي هذه الآيات الكريمات الدلالة الظاهرة والبرهان القاطع على وجوب الحكم بين اليهود والنصارى وسائر الناس بما أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أنه لا إسلام لأحد ولا هداية إلا باتباع ما جاء به ، وأن ما يخالف ذلك فهو في حكم الجاهلية وأنه لا حكم أحسن من حكم الله ، وقال تعالى في سورة الأعراف : وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
ففي هذه الآية الكريمة الدليل القاطع والحجة الدامغة على عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود والنصارى وأنه بعث بالتخفيف عنهم ، وأنه لا يحصل الفلاح لكل من كان في زمانه من الأمم وهكذا ما بعد ذلك إلى قيام الساعة إلا بالإيمان به ونصره وتعزيره واتباع النور الذي أنزل معه . ثم قال سبحانه بعد ذلك تأكيدا للمقام وبيانا لعموم الرسالة : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
ومن هذه الآية ومما قبلها من الآيات يتضح لكل عاقل أن الهداية والنجاة والسعادة إنما تحصل لمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبع ما جاء به من الهدى ، ومن حاد عن ذلك فهو في شقاق وضلال وبعد عن الهدى ، بل هو الكافر حقا وله النار يوم القيامة ، كما قال سبحانه : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ وقال تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وقال تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وقال تعالى : تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا(1/299)
وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار " .
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وأرجو أن يكون فيما ذكرناه دلالة ومقنع للقارئ على وجوب معاداة الكفرة من اليهود وغيرهم وبغضهم في الله وتحريم مودتهم واتخاذهم أولياء ، وعلى نسخ جميع الشرائع السماوية ما عدا شريعة الإسلام التي بعث الله بها خاتم النبيين وسيد المرسلين وإمام المتقين نبينا محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى سائر النبيين والمرسلين ، وجعلنا من اتباعهم بإحسان إلى يوم الدين إنه على كل شيء قدير ، وليس معنى نسخ الشرائع السابقة أنها لا تحترم ، أو أنه يجوز التنقص منها ، ليس هذا المعنى هو المراد ، وإنما المراد رفع ما قد يتوهمه بعض الناس أنه يسوغ اتباع شيء منها ، أو أن من انتسب إليها من اليهود أو غيرهم يكون على هدى ، بل هي شرائع منسوخة لا يجوز اتباع شيء منها لو علمت على التحقيق وسلمت من التغيير والتبديل ، فكيف وقد جهل الكثير منها ، لما أدخل فيها من تحريف أعداء الله الذين يكتمون الحق وهم يعلمون . ويكذبون على الله وعلى دينه ما تقتضيه أهواؤهم ويكتبون الكتب من عندهم وبأيديهم ويقولون : إنها من عند الله ، وبذلك يعلم كل من له أدنى علم وبصيرة أن الواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس أن يدخلوا في دين الله الذي هو الإسلام وأن يلتزموه ، وأنه لا يسوغ لأحد الخروج عن ذلك لا إلى يهودية ولا إلى نصرانية ولا إلى غيرهما ، بل المفروض على جميع المكلفين من حين بعث الله نبيه ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة هو الدخول في الإسلام والتمسك به ، ومن اعتقد أنه يسوغ له الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى كليم الرحمن عليه الصلاة والسلام فهو كافر بإجماع أهل العلم ، يستتاب وتبين له الأدلة فإن تاب وإلا قتل ، عملا بما تقدم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل ، ونسأله عز وجل أن يثبتنا على دينه وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا ، وأن يمن على عباده بالدخول في دينه ، والكفر بما خالفه ، إنه على كل شيء قدير ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى سائر النبيين والمرسلين وسائر الصالحين ، والحمد لله رب العالمين .
=================
الكافر ليس أخا للمسلم (1)
س : يقول يسكن معي واحد مسيحي ويقول لي أخي ونحن أخوة ويأكل معنا ويشرب هل يجوز هذا العمل أم لا ؟
ج : الكافر ليس أخا للمسلم والله سبحانه يقول : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : المسلم أخو المسلم فليس الكافر : يهوديا أو نصرانيا أو وثنيا أو مجوسيا أو شيوعيا أو غيرهم - أخا للمسلم ، ولا يجوز اتخاذه صاحبا وصديقا ، لكن إذا أكل معه بعض الأحيان من غير أن يتخذه صاحبا أو صديقا إنما قد يقع ذلك في وليمة عامة أو وليمة عارضة فلا حرج في ذلك ، أما اتخاذه صاحبا وجليسا وأكيلا فلا يجوز ، لأن الله قطع بين المسلمين وبين الكفار الموالاة والمحبة ، قال سبحانه في كتابه العظيم : قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وقال سبحانه : لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ الآية
فالواجب على المسلم البراءة من أهل الشرك وبغضهم في الله ، ولكن لا يؤذيهم ولا يضرهم ولا يتعدى عليهم بغير حق إذا لم يكونوا حربا لنا ، لكن لا يتخذهم أصحابا ولا إخوانا ومتى صادف أنه أكل معهم في وليمة عامة أو طعام عارض من غير صحبة ولا موالاة ولا مودة فلا بأس ، ويجب على المسلم أن يعامل الكفار إذا لم يكونوا حربا للمسلمين معاملة إسلامية بأداء الأمانة ، وعدم الغش والخيانة والكذب ، وإذا جرى بينه وبينهم نزاع جادلهم بالتي هي أحسن وأنصفهم في الخصومة عملا بقوله تعالى : وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ويشرع للمسلم دعوتهم إلى الخير ونصيحتهم والصبر على ذلك مع حسن الجوار وطيب الكلام لقول الله عز وجل : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وقوله سبحانه : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وقول النبي صلى الله عليه وسلم : من دل على خير فله مثل أجر فاعله والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
=================
حكم الانتماء إلى أحزاب دينية (2)
__________
(1) - مجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 6 / ص 419)
(2) - مجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 7 / ص 157)(1/300)
السؤال الثاني : بماذا تنصحون الدعاة حيال موقفهم من المبتدعة؟ كما نرجو من حمل سماحتكم توجيه نصيحة خاصة إلى الشباب الذين يتأثرون بالانتماءات الحزبية المسماة بالدينية؟
الجواب : نوصي إخواننا جميعا بالدعوة إلى الله سبحانه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن؟ أمر الله سبحانه بذلك مع جميع الناس ومع المبتدعة إذا أظهروا بدعتهم ، وأن ينكروا عليهم سواء كانوا من الشيعة أو غيرهم- فأي بدعة رآها المؤمن وجب عليه إنكارها حسب الطاقة بالطرق الشرعية .
والبدعة هي ما أحدثه الناس في الدين ونسبوه إليه وليس منه ، لقول النبي : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وقول النبي صلى الله عليه وسلم :
من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ومن أمثلة ذلك بدعة الرفض ، وبدعة الاعتزال ، وبدعة الإرجاء ، وبدعة الخوارج ، وبدعه الاحتفال بالموالد ، وبدعة البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها إلى غير ذلك من البدع ، فيجب نصحهم وتوجيههم إلى الخير ، وإنكار ما أحدثوا من البدع بالأدلة الشرعية وتعليمهم ما جهلوا من الحق بالرفق والأسلوب الحسن والأدلة الواضحة لعلهم يقبلون الحق .
أما الانتماءات إلى الأحزاب المحدثة فالواجب تركها ، وأن ينتمي الجميع إلى كتاب الله وسنة رسوله ، وأن يتعاونوا في ذلك بصدق وإخلاص ، وبذلك يكونون من حزب الله الذي قال الله فيه سبحانه في آخر سورة المجادلة : أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ بعدما ذكر صفاتهم العظيمة في قوله تعالى : لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية .
ومن صفاتهم العظيمة ما ذكره الله عز وجل في سورة الذاريات في قول الله عز وجل :
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ فهذه صفات حزب الله لا يتحيزون إلى غير كتاب الله ، والسنة والدعوة إليها والسير على منهج سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان
فهم ينصحون جميع الأحزاب وجميع الجمعيات ويدعونهم إلى التمسك بالكتاب والسنة ، وعرض ما اختلفوا فيه عليهما فما وافقهما أو أحدهما فهو المقبول وهو الحق ، وما خالفهما وجب تركه
ولا فرق في ذلك بين جماعة الإخوان المسلمين ، أو أنصار السنة والجمعية الشرعية ، أو جماعة التبليغ أو غيرهم من الجمعيات والأحزاب المنتسبة للإسلام . وبذلك تجتمع الكلمة ويتحد الهدف ويكون الجميع حزبا واحدا يترسم خطي أهل السنة والجماعة الذين هم حزب الله وأنصار دينه والدعاة إليه .
ولا يجوز التعصب لأي جمعية أو أي حزب فيما يخالف الشرع المطهر .
================
تعقيب على مقالة الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر بعنوان : علاقة الإسلام بالأديان الأخرى (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ سماحة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر وفقه الله للخير
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد :
فقد اطلعت على مقالة لسماحتكم نشرتها صحيفة الجزيرة السعودية في عددها الصادر في يوم الجمعة 16 / 5 / 1415 هـ بعنوان : ( علاقة الإسلام بالأديان الأخرى ) ورد في أولها من كلامكم ما نصه :
( الإسلام يحرص على أن يكون أساس علاقاته مع الأديان والشعوب الأخرى هو السلام العام والود والتعاون؛ لأن الإنسان عموما في نظر الإسلام هو مخلوق عزيز كرمه الله تعالى وفضله على كثير من خلقه . يدل لهذا قول الله تعالى في سورة الإسراء : وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا والتكريم الإلهي للإنسان بخلقه وتفضيله على غيره يعد رباطا ساميا يشد المسلمين إلى غيرهم من بني الإنسان ، فإذا سمعوا بعد ذلك قول الله تعالى في سورة الحجرات : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ أصبح واجبا عليهم أن يقيموا علاقات المودة والمحبة مع غيرهم من أتباع الديانات الأخرى ، والشعوب غير المسلمة . نزولا عند هذه الأخوة الإنسانية ، وهذا هو معنى التعارف الوارد في الآية . . ) إلخ .
__________
(1) - مجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 8 / ص 173)(1/301)
ولقد كدرني كثيرا ما تضمنته هذه الجمل من المعاني المخالفة للآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، ورأيت من النصح لسماحتكم التنبيه على ذلك : فإنه لا يخفى على سماحتكم أن الله سبحانه قد أوجب على المؤمنين بغض الكفار ، ومعاداتهم ، وعدم مودتهم وموالاتهم ، ما في قوله عز وجل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وقال سبحانه في سورة آل عمران : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ وقال سبحانه في سورة الممتحنة : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ الآية ، وقال سبحانه في سورة المجادلة : لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ الآية .
فهذه الآيات الكريمات وما جاء في معناها من الآيات الأخرى كلها تدل على وجوب بغض الكفار ، ومعاداتهم ، وقطع المودة بينهم وبين المؤمنين حتى يؤمنوا بالله وحده .
أما التعارف الذي دلت عليه آية الحجرات فلا يلزم منه المودة ولا المحبة للكفار ، وإنما تدل الآية أن الله جعل بني آدم شعوبا وقبائل . ليتعارفوا ، فيتمكنوا من المعاملات الجائزة بينهم شرعا . كالبيع والشراء وتبادل السفراء ، وأخذ الجزية من اليهود والنصارى والمجوس . . . وغير ذلك من العلاقات التي لا يترتب عليها مودة ولا محبة .
وهكذا تكريم الله سبحانه لبني آدم لا يدل على جواز إقامة علاقة المودة والمحبة بين المسلم والكافر ، وإنما يدل ذلك على أن جنس بني آدم قد فضله الله على كثير من خلقه .
فلا يجوز أن يستنبط من الآيتين ما يخالف الآيات المحكمات المتقدمة وغيرها الدالة على وجوب بغض الكفار في الله ومعاداتهم ، وتحريم مودتهم وموالاتهم . لما بينهم وبين المسلمين من البون العظيم في الدين .
والواجب على أهل العلم تفسير القرآن بما يصدق بعضه بعضا ، وتفسير المشتبه بالمحكم ، كما قال الله جل وعلا : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ الآية ، مع أن الحكم بحمد الله في الآيات المحكمات المذكورة وغيرها واضح لا شبهة فيه ، والآيتان اللتان في التعارف والتكريم ، ليس فيهما ما يخالف ذلك .
وقد ورد في المقال أيضا ما نصه : ( فنظرة المسلمين إذن إلى غيرهم من أتباع اليهودية والنصرانية هي نظرة الشرك إلى شركائه في الإيمان بالله والعمل بالرسالة الإلهية التي لا تختلف في أصولها العامة ) .
وهذا - كما لا يخفى على سماحتكم - حكم مخالف للنصوص الصريحة في دعوة أهل الكتاب وغيرهم إلى الإيمان بالله ورسوله ، وتسمية من لم يستجب منهم لهذه الدعوة كفارا .(1/302)
ومن المعلوم أن جميع الشرائع التي جاءت بها الأنبياء قد نسخت بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا يجوز لأحد من الناس أن يعمل بغير الشريعة التي جاء بها القرآن الكريم والسنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قال سبحانه : قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ وقال تعالى : فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وقال سبحانه : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وقال سبحانه : لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وقال سبحانه : لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ الآية ، وقال عن اليهود والنصارى في سورة التوبة : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ والآيتين بعدها .
والآيات في هذا المعنى كثيرة ، كلها تدل على كفر اليهود والنصارى باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، وقول اليهود : عزير ابن الله ، وقول النصارى : المسيح ابن الله ، وتكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وعدم إيمانهم به إلا من هداه الله منهم للإسلام .
وقد روى مسلم في صحيحه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد والأحاديث الدالة على كفر اليهود والنصارى ، وأنهم أعداء لنا كثيرة .
وإباحة الله سبحانه للمسلمين طعام أهل الكتاب ونساءهم المحصنات منهن لا تدل على جواز مودتهم ومحبتهم ، كما لا يخفى على كل من تدبر الآيات وأعطى المقام حقه من النظر والعناية .
وبذلك كله يتبين لسماحتكم خطأ ما ورد في المقال من :
1 - القول بأن الود والمحبة من أساسيات العلاقة في الإسلام بين الأديان والشعوب .
2 - الحكم لأتباع اليهودية والنصرانية بالإيمان بالله والعمل بالرسالة الإلهية التي لا تختلف في أصولها العامة .
وتواصيا بالحق كتبت لسماحتكم هذه الرسالة ، راجيا من سماحتكم إعادة النظر في كلامكم في هذين الأمرين ، وأن ترجعوا إلى ما دلت عليه النصوص ، وتقوموا بتصحيح ما صدر منكم في الكلمة المذكورة . براءة للذمة ، ونصحا للأمة ، وذلك مما يحمد لكم إن شاء الله ، وهو يدل على قوة الإيمان ، وإيثار الحق على غيره متى ظهرت أدلته .
والله المسئول بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم وسائر علماء المسلمين لمعرفة الحق واتباعه ، وأن يمن علينا جميعا بالنصح له ولعباده ، وأن يجعلنا جميعا من الهداة المهتدين ، إنه جواد كريم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه .
================
الصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفرة لا يلزم منه مودتهم ولا موالاتهم (1)
س1 : فهم بعض الناس من إجابتكم على سؤال الصلح مع اليهود - وهو السؤال الأول في المقابلة - أن الصلح أو الهدنة مع اليهود المغتصبين للأرض ، والمعتدين جائز على إطلاقه ، وأنه يجوز مودة اليهود ومحبتهم ، ويجب عدم إثارة ما يؤكد البغضاء والبراءة منهم في المناهج التعليمية في البلاد الإسلامية ، وفي أجهزة إعلامها ، زاعمين أن السلام معهم يقتضي هذا ، وأنهم ليسوا بعد معاهدات السلام أعداء يجب اعتقاد عداوتهم ، ولأن العالم الآن يعيش حالة الوفاق الدولي والتعايش السلمي ، فلا يجوز إثارة العداوة الدينية بين الشعوب . فنرجو من سماحتكم التوضيح .
ج1 : الصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفرة لا يلزم منه مودتهم ولا موالاتهم ، بل ذلك يقتضي الأمن بين الطرفين ، وكف بعضهم عن إيذاء البعض الآخر ، وغير ذلك ، كالبيع والشراء ، وتبادل السفراء . . وغير ذلك من المعاملات التي لا تقتضي مودة الكفرة ولا موالاتهم .
وقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة ، ولم يوجب ذلك محبتهم ولا موالاتهم ، بل بقيت العداوة والبغضاء بينهم ، حتى يسر الله فتح مكة عام الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وهكذا صالح النبي صلى الله عليه وسلم يهود المدينة لما قدم المدينة مهاجرا صلحا مطلقا ، ولم يوجب ذلك مودتهم ولا محبتهم ، لكنه عليه الصلاة والسلام كان يعاملهم في الشراء منهم والتحدث إليهم ، ودعوتهم إلى الله ، وترغيبهم في الإسلام . ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام اشتراه لأهله .
__________
(1) - مجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 8 / ص 201)
قلت : والصلح مع اليهود في ظروفنا هذه لا يصح ولا يحل قياسه على صلح الحديبية ,ذلك لأن اليهود مغتصبين لأرضنا ، ولم يكن أهل مكة مغتصبين لأرض المسلمين(1/303)
ولما حصل من بني النضير من اليهود الخيانة أجلاهم من المدينة عليه الصلاة والسلام ، ولما نقضت قريظة العهد ومالئوا كفار مكة يوم الأحزاب على حرب النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم فقتل مقاتلتهم ، وسبى ذريتهم ونساءهم ، بعدما حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه فيهم فحكم بذلك ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حكمه قد وافق حكم الله من فوق سبع سماوات .
وهكذا المسلمون من الصحابة ومن بعدهم ، وقعت الهدنة بينهم - في أوقات كثيرة - وبين الكفرة من النصارى وغيرهم فلم يوجب ذلك مودة ، ولا موالاة ، وقد قال الله سبحانه : لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وقال سبحانه : قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وقال سبحانه : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وقال عز وجل : لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ الآية . والآيات في هذا المعنى كثيرة .
ومما يدل على أن الصلح مع الكفار من اليهود وغيرهم إذا دعت إليه المصلحة أو الضرورة لا يلزم منه مودة ، ولا محبة ، ولا موالاة : أنه صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر صالح اليهود فيها على أن يقوموا على النخيل والزروع التي للمسلمين بالنصف لهم والنصف الثاني للمسلمين ، ولم يزالوا في خيبر على هذا العقد ، ولم يحدد مدة معينة ، بل قال صلى الله عليه وسلم : نقركم على ذلك ما شئنا وفي لفظ : نقركم ما أقركم الله فلم يزالوا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه ، وروي عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه أنه لما خرص عليهم الثمرة في بعض السنين قالوا : إنك قد جرت في الخرص ، فقال رضي الله عنه : والله إنه لا يحملني بغضي لكم ومحبتي للمسلمين أن أجور عليكم ، فإن شئتم أخذتم بالخرص الذي خرصته عليكم ، وإن شئتم أخذناه بذلك .
وهذا كله يبين أن الصلح والمهادنة لا يلزم منها محبة ، ولا موالاة ، ولا مودة لأعداء الله ، كما يظن ذلك بعض من قل علمه بأحكام الشريعة المطهرة .
وبذلك يتضح للسائل وغيره أن الصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفرة لا يقتضي تغيير المناهج التعليمية ، ولا غيرها من المعاملات المتعلقة بالمحبة والموالاة . والله ولي التوفيق .
هذه الأجوبة نشرت في جريدة " المسلمون " في العدد ( 520 ) بتاريخ 19 / 8 / 1415 هـ .
================
حكم مصاحبة الكافر (1)
الولاء والبراء
س 166 فضيلة الشيخ، سائل يقول: يسكن معي شخص مسيحي، وهو يقول لي: يا أخي، ونحن أخوة، ويأكل معنا ويشرب فهل يجوز هذا العمل أم لا؟
الجواب: الكافر ليس أخا للمسلم، والله يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]، ويقول صلى الله عليه وسلم: المسلم أخو المسلم فليس الكافر -يهوديا أو نصرانيا أو وثنيا أو مجوسيا أو شيوعيا أو غيرهم- ليس أخا للمسلم، ولا يجوز اتخاذه صاحبا وصديقا، لكن إذا أكل معكم بعض الأحيان من غير أن تتخذوه صاحبا وصديقا، وإنما يصادف أن يأكل معكم، أو في وليمة عامة فلا بأس.
أما اتخاذه صاحبا وصديقا وجليسا وأكيلا فلا يجوز؛ لأن الله قطع بيننا وبينهم المحبة والموالاة، فقال الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 4]، وقال سبحانه: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني يحبون وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة: 22].
فالواجب على المسلم البراءة من أهل الشرك وبغضهم في الله، ولكن لا يؤذيهم ولا يضرهم ولا يتعدى عليهم بغير حق، لكن لا يتخذهم أصحابا ولا أخدانا، ومتى صادف أن أكل معهم في وليمة عامة أو طعام عارض من غير صحبة ولا ولاية ولا مودة فلا بأس.
====================
وفي فتاوى الفوزان :(2)
148 ـ ا رأيُ فضيلتكم فيمن يتقرَّب إلى الكفَّار ويواليهم بحجَّة أنهم يفهمون في أمور المادَّة أكثر منَّا ؟ وكيف يكون التعامل معه ؟
التودُّدُ إلى الكفار لا يجوز، لا تجوز محبَّتُهم في القلوب؛ لأنهم أعداءُ الله ورسوله، تجبُ عداوتهم؛ قال تعالى : { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [ المجادلة : 22 . ] ؛ فلا يجوز للمسلم أن يحبَّ الكافر .
__________
(1) - نور على الدرب - (ج 1 / ص 190)
(2) - المنتقى من فتاوى الفوزان - (ج 18 / ص 2) فما بعد(1/304)
أما التعامل معه في الأمور المباحة؛ فلا بأس إذا كان الكافر عنده تجارة تبيع معه وتشتري، لا بأس بالبيع والشِّراء معه، هذا من المعاملات المباحة، النبي صلى الله عليه وسلم تعامل مع اليهود، اشترى منهم، استدان منهم عليه السلام، كذلك إذا كان عندهم خبرات في بعض الأمور، ولا يوجد عند المسلمين من يقوم بها؛ فلا بأس أن نستفيد من خبراتهم، لكن لا نحبُّهُم، ولا نواليهم، وإنما نؤاجِرُهم أجرةً، يؤدُّون لنا عملاً بالأجرة، مع بغضهم ومع عداوتهم .
149 ـ ما حكم من خاف من اعتداء الكفار والمشركين وجاملهم في بعض أفعالهم المنكرات؛ خوفًا منهم، وليس إقرارًا أو رضاء بما يفعلون ؟
لا يجوز للمسلم أن يجامل الكفار على حساب دينه، أو أن يوافقهم في أفعالهم؛ لأن أفعالهم ربما تكون كفرًا وشركًا وكبائر من كبائر الذنوب؛ فلا يجوز للمسلم أن يوافقهم على ذلك، أو أن يشاركهم في ذلك باختياره، بل الواجب عليه أن يُظهِرَ دينه .
ولا يجوز له الإقامة مع الكفار والبقاء في بلادهم إلا إذا كان يقدر على إظهار دينه؛ بأن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله عز وجل، هذا هو إظهار الدين؛ فإذا كان لا يستطيع ذلك؛ وجب عليه أن يُهاجِر إلى بلاد المسلمين من بلاد الكفار، ولا يبقى فيها على حساب دينه وعقيدته .
وحالة الإكراه لها حكم خاص؛ قال سبحانه وتعالى : { مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 106 . ] ، والمسموح به في هذه الحالة إنما هو القول باللسان دون موافقة القلب .
150 ـ ما حكم زيارة الكفَّار وقبول هداياهم والقيام لجنائزهم وتهنئتهم في المناسبات ؟
زيارة الكفار من أجل دعوتهم إلى الإسلام لا بأس بها؛ فقد زار النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمَّه أبا طالب وهو يحتضرُ، ودعاه إلى الإسلام (3)، وزار اليهوديَّ، ودعاه إلى الإسلام (4)، أما زيارة الكافر للانبساط له والأنس به؛ فإنها لا تجوزُ؛ لأنَّ الواجب بغضهم وهجرهم .
ويجوز قبول هداياهم؛ لأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قبل هدايا بعض الكفَّار؛ مثل هديَّة المقوقس ملك مصر (5).
ولا تجوز تهنئتُهم بمناسبة أعيادهم؛ لأنَّ ذلك موالاة لهم وإقرارًا لباطلهم .
153 ـ هل التأريخ بالتاريخ الميلادي يُعتبَرُ من موالاة النصارى ؟
لا يُعتبَرُ موالاة، لكن يعتبر تشبُّهًا بهم .
والصَّحابة رضي الله عنهم كان التاريخ الميلادي موجودًا، ولم يستعملوه، بل عدلوا عنه إلى التاريخ الهجريِّ، وضعوا التاريخ الهجريَّ، ولم يستعملوا التاريخ الميلادي، مع أنه كان موجودًا في عهدهم، هذا دليل على أنَّ المسلمين يجب أن يستقلُّوا عن عادات الكفَّار وتقاليد الكفَّار، لا سيَّما وأنَّ التَّاريخ الميلاديَّ رمز على دينهم؛ لأنه يرمز إلى تعظيم ميلاد المسيح والاحتفال به على رأس السَّنة، وهذه بدعة ابتدعها النصارى؛ فنحن لا نشاركهم ولا نشجِّعهم على هذا الشيء، وإذا أرَّخنا بتاريخهم؛ فمعناه أنَّنا نتشبَّه بهم، وعندنا ولله الحمد التاريخ الهجريُّ، الذي وضعه لنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة الرَّاشد بحضرة المهاجرين والأنصار، هذا يغنينا .
154 ـ ما حكم السَّفر إلى بلاد غير إسلامية بقصد السُّكنى والاستيطان فيها ؟
الأصل أنَّ السفر إلى بلاد الكفَّار لا يجوز لمن لا يقدر على إظهار دينه، ولا يجوز إلا لضرورة؛ كالعلاج وما أشبه ذلك؛ مع القدرة على إظهار الدِّين، والقيام بما أوجب الله سبحانه وتعالى، وأن لا يداهن ولا يُماري في دينه، ولا يتكاسل عن أداء ما أوجب الله عليه .
أمَّا السُّكنى؛ فهي أشدُّ، السُّكنى بين أظهر المشركين لا تجوز للمسلم؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى المسلم أن يقيم بين أظهر المشركين (6)؛ إلا إذا كان في إقامته مصلحة شرعيَّة؛ كأن يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، ويكون لوجوده بين أظهر الكفَّار تأثير بالدَّعوة إلى الله وإظهار دينه ونشر الإسلام؛ فهذا شيء طيبٌ لهذا الغرض، وهو الدَّعوة على الله سبحانه وتعالى، ونشر دينه، وتقويةُ المسلمين الموجودين هناك، أمَّا إذا كان لمجرَّد الإقامة والبقاء معهم من غير أن يكون هناك مصلحة شرعيَّة؛ فإنه لا يجوز له الإقامة في بلاد المشركين .
ومن الأغراض المُبيحة للسَّفر إلى بلاد الكفَّار تعلُّمُ العلوم التي يحتاج إليها المسلمون؛ كالطِّبِّ، والصناعة؛ مما لا يمكن تعلُّمه في بلاد المسلمين .
155 ـ معنى هذا أنه لو كان مثلاً لغرض التجارة فقط؛ فيجوزُ له ذلك ؟
يجوز السَّفر لبلاد المشركين بشرطين : بشرط أن يكون هذا السَّفر لحاجة، وأن يكون يقدر على إظهار دينه؛ بأن يدعو إلى الله، ويؤدِّي الواجبات، ولا يترُكَ أيَّ شيء ممَّا أوجب الله تعالى عليه، ولا يُخالط الكفَّار في محلاَّت فسقهم ومجونهم، ولا يغشى المجامع الفاسدة التي توجد في بلاد الكفَّار .
بهذه الشُّروط لا بأس أن يسافر، أمَّا إذا اختلَّ شرطٌ منها؛ فلا يجوز له .
==================
وفي فتاوى الشيخ عبد الله بن عقيل :[462] السفر إلى بلاد المشركين (1)
__________
(1) -فتاوى الشيخ عبدالله بن عقيل - (ج 2 / ص 36)(1/305)
نرى لزاما علينا بيان حكم السفر إلى بلاد المشركين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وأن ذلك حرام لمن لم يقدر على إظهار دينه، وليس إظهار الدين أنه يستطيع أن يتلفظ بالشهادتين ويصلي الصلوات ولا يُرَد عن المساجد ولا يشرب الخمر ولا يأكل لحم الخنزير ونحو ذلك، بل إظهار الدين أمر وراء ذلك، وهو تبيين الرجل عقيدته الإسلامية عند كل مناسبة، وتكفير كل من خالفها، وعيبهم والتحفظ من مودتهم والركون إليهم واعتزالهم، والبراءة منهم.
كما قال تعالى عن خليله إبراهيم -عليه السلام-: {إِنَّا بُرَءَاءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ} ( ) .
والنصوص في هذا كثيرة من الكتاب والسنة، وكلام محققي العلماء من أئمة الدعوة، وغيرهم. فمن ذلك ما ورد في آيات الهجرة، وقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} ( ) . {لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} ( ) ، {وَلَا تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} ( ) ، {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ( ) ، {لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} ( ) وغيرها من الآيات. وكلام المفسرين في هذه الآيات الكريمات ظاهر لا إشكال فيه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ البيعة على أصحابه: أن لا ترى نارُك نارَ المشركين إلا أن تكون حربا لهم ( ) . وغير ذلك من الأحاديث الواردة في الباب.
وهنا مسألة مهمة لا يستهان بها، وهي أن سفر الإنسان لبلادهم لأجل العلاج أو للتجارة أو للسياحة أيسر وأخف من سفره ليكون تلميذا لهم، يتلقى عنهم العلوم، ويأتمر بما يأمرونه به، وينتهي عما ينهونه عنه، فإن هذا أعظم جُرما وأشد خطرا. قال اللَّه تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} ( ) . وليس المقصود استيفاء ما ورد في هذا الباب، فنكتفي منه بهذه العجالة. واللَّه الموفق.
====================
وفي فتاوى الشيخ البراك :موادة الكافر هل تحرم مطلقاً؟ (1)
قال تعالى "لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم..." فهل تعني هذه الآية أننا يجب ألاَّ نكن أي عاطفة لأقاربنا من غير المسلمين، حتى ولو كان عندهم اهتمام بالإسلام، ولا يعادون إيماننا؟ أم أن هناك فرقاً بين العاطفة الفطرية والعاطفة بسبب الإيمان؟ هل يكون من الجائز للمسلم أن يكره كفر أقاربه، ومع ذلك يبقى لديه نوع من العاطفة الفطرية نحوهم؟ هل مثل هذه العاطفة تخرج المسلم من الملة؟ أرجو توضيح الأمر.
الحمد لله، الواجب على من منّ الله عليه بالإسلام والإيمان والتوحيد أن يبغض الشرك وأهله، فإن كانوا محاربين فعليه أن يعاديهم بكل ما يستطيع، وإن كانوا مسالمين للمسلمين فيجب بغضهم على كفرهم ومعاداتهم لكفرهم، ولكن من غير أن ينالوا بأذى؛ بل لا مانع من الإحسان إليهم وصلتهم إن كانوا أقارب، وبرهم إن كانوا من الوالدين، كما قال تعالى: "أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون" [لقمان: 15]، وبغض الكافرين لا يمنع من أداء الحقوق، حق القرابة، وحق الجوار، كما قال - صلى الله عليه وسلم- لما أنذر عشيرته وتبرأ منهم قال: "إن لكم رحماً عندي سأبلها ببلالها" مسلم (204)، وقال سبحانه وتعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" [الممتحنة: 8]، وقوله سبحانه وتعالى: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله..." [المجادلة: 22] المراد من يواد الكافرين ولا يبغضهم البغض الإيماني ولا يبرأ منهم ومن دينهم ومعبوداتهم الباطلة فهذا هو الذي لا يكون مسلماً وإن ادعى الإيمان، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم" (سبق تخريجها) فالمؤمنون الصادقون يبغضون الكافرين وإن كانوا أقرب الأقارب إليهم، وعلى هذا فيجتمع في قلب المؤمن المحبة الفطرية الطبيعية والبغض الديني، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحب أبا طالب لقرابته ولنصرته له وهو يبغضه لكفره، ولهذا كان حريصاً على هدايته ولكن الله سبحانه وتعالى بحكمته لم يوفقه للإيمان؛ لأنه تعالى أعلم بمن هو أهل لذلك قال تعالى: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين" [القصص: 56]، فلك أيها السائل أن تصل أقاربك وأن تبر بالوالدين، وأن تحسن إلى جيرانك وإن كانوا كفاراً، ما داموا لا يجاهرون بعداوة الإسلام والمسلمين، وأما من أعلن محاربته للمسلمين فالواجب محاربته وجهاده حتى يدخل في الإسلام أو يعطي الجزية كما قال تعالى: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" [التوبة:29] والله أعلم.
=====================
الولاية بين المؤمن وغيره (2)
المفتي
عطية صقر .
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
__________
(1) - فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 7 / ص 376)
(2) - فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 274)(1/306)
ما حكم الولاية بين المؤمن وغيره من أهل الكتاب ومن المشركين ؟
الجواب
يقول اللّه سبحانه {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر} آل عمران : 118 وقال {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا} النساء : 144 وقال {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شىء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير} آل عمران : 28 وقال {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } المجادلة : 22 وقال {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ... } إلى أن قال {ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } الممتحنة : 1
تدل هذه الآيات على حرمة اتخاذ المسلم بطانة من غير المسلمين ، وحرمة اتخاذهم أولياء ، وحرمة موادتهم ومحبتهم ، وبينت مبررات هذا الحكم ، وتوعدت من يخالف ذلك بأنه ضل سواء السبيل .
وفى الوقت نفسه جاءت آية تجيز التعامل مع غير المسلمين كقوله تعالى{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين . إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } الممتحنة : 8 ، 9 إلى جانب نصوص وحوادث كان المسلمون فيها يتعاملون مع غيرهم .
وللتوفيق بين ذلك قال العلماء : إن المحرم المنهى عنه هو الحب القلبى والمودة للإعجاب بما عندهم من عقائد وتشريعات . وكذلك الموالاة والنصرة والثقة بهم والاطمئنان الكامل للتعامل معهم ، لأن الإعجاب قد يؤدى إلى الكفر، ولأن الموالاة قد تؤدى إلى إفشاء الأسرار لهم أو إطلاعهم على أسرار المسلمين لاستغلالها لمصلحتهم والنهى عن هذين الأمرين يشمل الكفار الحربيين وغير الحربيين ، أما التعامل الظاهرى الخالى من الإعجاب والموالاة فلا مانع منه لغير الحربيين من المعاهدين والذميين ، ويمكن الرجوع إلى توضيح ذلك فى عنوان :
العلاقة بين المسلم وغيره .
والواجب على المسلمين هو الحذر والحيطة، وللظروف دخل فى ذلك ، ويحمل على هذا ما ورد من قول الرسول صلى الله عليه وسلم "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " رواه أبو داود، وقد نهى عمر رضى الله عنه عن استعمال غير المسلمين فى الكتابة والأمور الأخرى، وقوله فى ذلك لأبى موسى الأشعرى : لا تدنهم وقد أقصاهم الله ، ولا تكرمهم وقد أهانهم اللّه ، ولا تأمنهم وقد خوَّنهم الله. "يراجع تفسير القرطبى ج 4 ص 878" لتوضيح ذلك ويراجع غذاء الألباب للسفارينى ج 2 ص 12 وما بعدها
==================
حكم الابتسامة في وجوه الكفار لكسب مقصد دنيوي:(1)
السؤال: فضيلة الشيخ: نحن نعمل في شركة وفيها كفار، فهل يجوز التودد إليهم لكسب مقصد دنيوي كالابتسامة في وجوههم؟
الجواب: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22] لا تواد الكافر، ألم تعلم أن إبراهيم وقومه قالوا لقومهم: إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4] المسألة ليست هينة، ما يقع في قلبك مودة لهم. أما مداراتهم مع كراهتك في قلبك فهذا شيء آخر، أما أن تودهم وتداهنهم وتفهمهم أنهم على دين وأنه لا حرج عليهم إذا استمروا فيما هم عليه، فهذا عين المحرم.
================
حكم محبة الكفار (2)
المجيب د. عبد الله بن عمر الدميجي
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة / العقائد والمذاهب الفكرية /الولاء والبراء
التاريخ 18/4/1423
__________
(1) - لقاءات الباب المفتوح - (ج 164 / ص 23)
(2) - فتاوى من موقع الإسلام اليوم - (ج 1 / ص 273)(1/307)
السؤال لقد قرأت في موقعكم كما قرأنا لغيركم أن محبة الكفار أو غير المسلمين تدخل في باب المودة للكفار والتي حذر منها الله -تعالى- ووصف فاعلها بالكفر وأنه منهم ولا فرق بينه وبين الكفار، ولكننا نعلم أن الله إذا أراد شيئاً حقق أسبابه، وإذا لم يرد شيئاً منع أسبابه. بمعنى أنه لا يمكن أن يمنع الله -تعالى- العمل والاسترزاق ثم يحرم السرقة؛ لأنه وبهذا الحالة لا يمكن للإنسان أن يعيش وهو ممنوع من الاسترزاق، أو كالذي رمي به في الماء وقالوا له إياك إياكَ أن تبتل، وكذلك الحال في موضوع الموالاة، فلا أدري كيف نفسر نصوص الموالاة بأنها تعني: المحبة للكفار ثم نقول: إن الله -تعالى- حلل البر إليهم والسؤال عن حالهم والتعامل وتبادل الهدايا معهم ومعاودة مرضاهم، وبعد ذلك نقول: إنه يحرم محبتهم، فإن مثل الأعمال السابقة من التهادي والتعامل معهم وزيارتهم توجب محبتهم، ونحن نعلم أن المحبة شعور غير إرادي ولا يتحكم فيه الإنسان، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول:"تهادوا تحابوا"، فكيف نقول إن الله حلل الأولى وحرم علينا الثانية؟ مع أنها نتيجة طبيعية للأولى، ثم ماذا يفعل شخص تزوج من نصرانية والله -تعالى- وصف الزواج بأنه مودة ورحمة؟ فلا أدري كيف يستقيم هذا مع القول بأن محبة الكفار محرمة، وأنا هنا أتكلم عن الكفار المسالمين وليس عن غيرهم، ألا يدعونا هذا لإعادة التفكر في النصوص الشرعية والتي لا يمكن أن تكون تأمر بشيء وتحرم تبعاته؛ لأنها وبهذه الطريقة تكون شريعة قاصرة, وهذا محال في شريعة الله، وبارك الله فيكم.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فإن من المقطوع به أن لـ (لا إله إلا الله) شروطاً لا تنفع صاحبها إلا بتحقيقها، ومن أهم شروط (لا إله إلا الله) شرط المحبة لهذه الكلمة ولمدلولها ولمن حققها، ومن لوازم هذه المحبة بغض من خالفها وبغض كل من لم يحققها كائناً من كان.
وهذه المسألة محسومة في كتاب الله -تعالى-، قال -عز وجل-:"لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ..." [المجادلة:22].
وقال -تعالى-:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [المائدة:51]. وقال -تعالى-:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين..." [النساء:144]. وقال -عز وجل-:"لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ" [آل عمران:28].
وقد نهى الله -تعالى- عن ذلك نهياً صريحاً لا يقبل التأويل فقال -عز وجل-:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ..." [الممتحنة:1].
وهذه المحبة من أجلّ أعمال القلوب التي لا يتحقق إيمان العبد وتوحيده إلا بتحقيقها وإخلاصها والبراءة ممن خالفها، قال -تعالى-:"قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ..." [الممتحنة:4].
بل قد تبرأ إبراهيم الخليل -عليه السلام- الذي لنا فيه أسوة حسنة من أقرب الناس إليه وهو أبوه لما لم يحقق لا إله إلا الله، قال -تعالى-:"وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ" [التوبة:114].
إذاً فلا يمكن أن يجتمع في قلب عبد مسلم محبة الله -تعالى- ورسوله -عليه الصلاة والسلام- والمؤمنين مع محبة كافر محاد لله -تعالى- مكذب برسوله -صلى الله عليه وسلم- مهما كانت قرابته ومهما كانت علاقته بالمسلمين؛ لأنه لا يتصور تحقيق محبة الله وامتلاء القلب بتعظيم الله وإجلاله مع محبة من يزعم أن لله ولداً أو أن الله ثالث ثلاثة، كما لا يتصور تحقيق محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والشهادة الحقة له بالرسالة مع محبة من يكذب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويطعن في رسالته، وهذه من المسلمات العقدية التي لا مجال فيها للخلاف.
أما معاملة الكفار وما يتعلق بها من الأعمال الظاهرة فهذه قد فصلها القرآن الكريم وبينها لنا أكمل بيان لا مجال فيه للاختلاف، فقال -تعالى-:"لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ*إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" [الممتحنة:8-9].(1/308)
فأباح الله -تعالى- التعامل مع الطائفة الأولى بالبر والقسط وهو العدل، ومن ذلك الإحسان إليهم بالهدية ونحوها، ورحمتهم مما هم فيه من الكفر ومحاولة استمالة قلوبهم لإخراجهم مما هم فيه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
كما حرم -تعالى- تولي الطائفة الثانية وجعل ذلك من الظلم "ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون" [الممتحنة:9] وفي الآية الأخرى "ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" [المائدة:51].
وحدد التعامل معهم بحسب حال المسلمين قوة وضعفاً، إما بـ"واهجرهم هجراً جميلاً" [المزمل:10] و"ودع أذاهم" [الأحزاب:48]، وإما "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا..." [البقرة:190] أو بـ" وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" [التوبة:36] وقوله:"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" [الأنفال:39] وقوله:"قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" [التوبة:29].
وعلى ضوء هذه القواعد الأساسية والنصوص المحكمة تفهم وتفسر النصوص الأخر؛ لأن من علامة الراسخين في العلم رد المتشابه إلى المحكم والإيمان بهما جميعاً؛ لأنها كلها من عند الله، وما كان من عند الله فهو الحق، وليس في الحق اختلاف أو تعارض أو تناقض، وإن بدر أحياناً فهو بسبب نظر الناظر، وليس في كتاب الله -تعالى- ولا في كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اختلاف أو تناقض.
وعليه فما ذكره الأخ السائل من أن البر والإحسان والمعاملة الحسنة توجب محبة الكفار... فهذا ليس على إطلاقه، نعم هو من مقتضيات محبة إيمانهم ودخولهم في دين الله الحق، وهذا مطلب شرعي، وليس موجباً لمحبة أشخاصهم وذواتهم فضلاً عما هم عليه من الكفر والضلال.
وكذلك حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-:"وتهادوا تحابوا" مالك (1731) فيفهم على ضوء ما تقدم، وإن كان ظاهره الخطاب للمؤمنين، ونحوه "ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم" مسلم (54) وهذا أيضاً خاص بالمؤمنين.
وكذلك ما أشار إليه الأخ السائل من المودة والرحمة بين الزوجين، وقد تكون الزوجة كتابية، فهذا يفهم أيضاً على ضوء ما تقدم، علماً بأن الأصل في التزاوج مع اختلاف الدين هو المنع قال -تعالى-:"ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ......ولا تُنْكِحُوا المشركين حتى يؤمنوا..." [البقرة:221] وقوله -تعالى-:"لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن" [الممتحنة:10] و"...لا تمسكوا بعصم الكوافر" إلا أن الشارع قد استثنى من هذا العموم جواز نكاح المسلم للكتابية المحصنة في قوله -تعالى-:"الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ..." [المائدة:5].
ولعل من الحكم البالغة في ذلك -والله تعالى أعلم- أن المرأة بطبيعتها تغلب عليها العاطفة فإذا غمرها الزوج المسلم ببره وإحسانه ورحمته لها فحري بها أن ينقذها الله -تعالى- على يديه بسبب هذه العاطفة الجياشة وبسبب هذا التعامل الحسن إلى الدخول في دين الله الحق، بخلاف الكتابي فلا يجوز له أن ينكح المسلمة؛ لقوة تأثير الرجل وغلبته على المرأة، فقد يخرجها من دينها الحق.
وبهذه المناسبة نذكر قصة ذلك النصراني الذي ناظر أحد المسلمين وادعى تعصب المسلمين بإباحتهم للمسلم أن ينكح النصرانية دون النصراني، فلا يجوز له أن ينكح المسلمة، فأجابه المسلم بقوله: لا تعصب في ذلك، فالمسلم جاز له أن ينكح النصرانية؛ لأنه يؤمن بنبيها الذي تؤمن به، ولا يجوز للنصراني أن ينكح المسلمة؛ لأنه لا يؤمن بنبيها الذي تؤمن به".
وعلى كل فلا يجوز معارضة النصوص المحكمة القطعية السابقة بمثل فهمنا لبعض النصوص المجملة التي ليست نصاً في المسألة، والمنهج الحق هو رد هذه النصوص إلى تلك المحكمات وفهمها على ضوئها.
وفق الله الجميع للفقه في دينه والعمل بسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
======================
(4059- الحث على التحاكم إلى كاتب الله وسنة رسوله وموإلات أولياء الله ومقاطعة أعدائه)(1)
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعى بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد : فإني أبعث بهذه الرسالة إلى كافة إخواتنا المسلمين في " السنغال" حفظنا الله وإياهم بالإسلام ، ومن علينا وعليهم بالتمسك بسنة سيد إلأنام . والباعث لهذه الرسالة هو التذكير بنعم الله ، كما قال الله تعالى : (واذكروا بنعمة الله . عليكم إذ مكنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منه ) (1) وهذه الرابطة الدينية أقوى الروابط وأعمقها ، وكل رابطة بالنسبة لها كلا شيءء ، والإسلام هو العروة الوثقى التي لا انفصام لها فيه اهتدى المهتدون ، وإليه دعا إلأنبياء المرسلون (إن الذين عند الله . الإسلام)(2) ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل نه وهو في الآخرة من الخاسرين) (3)
__________
(1) - فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 12 / ص 283)(1/309)
وقد بعث الله نبيه الكريم ورسوله إلامين محمداً (ص) ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بأذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ، وجعله خاتم النبيين وجعل شريعته الباقية إلى يوم الدين وأمرنا بالرجوع إلى كتابه وهدى رسوله (ص) كما قال تعالى : (فإن تنازعتم في شيءء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله وإلىوم الآخر ذلك وأحسن تأويلاً) (4) (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً )(5) ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً ان يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصى الله ورسوله فقد ضل ضلإلا مبيناً (6)
وجعل التحاكم إلى غير كتابه وسنة رسوله كفراً فقال : ( ومن لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)(1) (ومن لك يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) (2) (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك الظالمون)(3) فلابد للمؤمن من التحاكم إلى القرآن والحديث ، فلا يجوز التحاكم إلى قوانين وضعية وإلى أقوال الرجال .
والشريعة الإسلامية هي الشريعة الجامعة ، فقد جاءت بكل ما فيه صلاح العباد في معاشهم ومعادهم ، واحتوت على كل خبر ، وحذرت من كل شيءء وهي صالحة لجميع إلامكنة وإلازمنة لما اشتملت عليه من المصالح العظيمة لكافة إلامم والشعوب جماعات وفرادي ، ولم تترك أمراً إلا وقد أوضحته كمال إلأيضاح ، ولهذا كان إلامتنان من اله على عباده بإتمامها وأنزل على رسوله (ص) في حجة الوداع قوله تعالى : (أليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام ديناً) (4) فيجب على المسلمين عموماً وعلى علمائهم خصوصاً التعاون والتكاثف لنشر الإسلام في إنحاء الدنيا كما هي طريقة الرسل عليهم السلام ، قال تعالى : ( قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيره أنا ومن اتبعني )(5) فإن في الإسلام كل خير ، وفيه إلاطمئنان والسعادة والفلاح .
ولما كانت القيادة للمسلمين كان العالم ينعم بوارف ظلال الإسلام ، وكان يسود الهدوء وإلاطمئنان ، كان العلم يشع نوره من مكة والمدينة وإلأندلس وبغداد وإفريقيا وكذلك لما كان المسلمون قائمون بأمر دينهم ، مجاهدين في سبيل الله وإعلاء كلمته . ولما قصروا ما يجب عليهم من القيام بذلك ، ودالت الدولة لعدوها ، وأخذ أعداء الإسلام الحاقدون عليه يحركون الدسائس وإلافتراءات على الإسلام ويطعنون في آيات القرآن العزيز ، ومحاولون تحريف المصحف الشريف . وتكالب أعداء الإسلام مخلفون من الصليبين المبشرين وإليهود أهل التحريف والتضليل ، حتى انخدع بعض ضعاف إلأيمان بدعايتهم المضللة ، وساعد على ذلك استيلاء إلافرنج على كثير من بلاد المسلمين ، وصار حالهم كما أخبر النبي (ص) في قوله : " كيف بكم إلإذا تداعت عليكم إلامم كما تداعى إلاكلة على قصعتها . قالوا أومن قلة بنا يا رسول الله قال : لا ةلكنكم غشاء كغشاء السيل ، (1) "
وإلأن وقد تخلصت شعوب إسلامية كثيرة من نير إلاستعمار الغاشم فقد بدأت تلك الشعوب تنبه للدعايات التي كان يبنها المستعمرون والمبشرون في صفوفهم ، فإن من واجب المسلمين جميعاً مضاعفة الجهود في الدعوة إلى الدين الإسلامي والذب عنه وإبطال تلك الشبهات التي يروجها أعداء الإسلام فإن هذه الطريقة الرسل واتباعهم المؤمنين ، قال تعالى : (والعصر . إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصلوا بالحق وتواصلوا بالصبر)
ومنالتواصي بالحق أيها المسلمون موإلات أولياء الله ومعادات أعدائه المكذبين بالقرآن والجاحدين نبوة محمد (ص) (من إليهود والنصارى والمجوس والوثنين ) فإن الحب في الله والبغض في الله أصل عظيم من أصول إلأيمان ، قال تعالى : (لا يتخذ المؤمنون الكافرين ةأولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيءء إلا أن تتقوا منهم تقاء ) (2) وقال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا إليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه يتهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين . فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم بقولهم نخشى أن تصيبنا دابرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادميين )(3) قال حذيفة رضي الله عنه في هذه إلأية : ليتقى أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر لهذه إلأية . ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) . قال مجاهد في قوله تعالى : فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم ) قال : المنافقون في مصائمة إليهود ومداخلتهم واسترضاعهم أولادهم إياهم . وقال تعالى : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله وإلىوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آياهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيءرتهم أولئك كتب في قلوبهم إلأيمان وأيدهم بروح منه )(4) فنفى سبحانه وتعالى إلأيمان عن من هذا شأنه ولو كانت مودته ومحبته به وأبيه وابنه فضلاُ عن غيرهم ، وقال تعالى : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) (1) قال ابن عباس : (ولا تركنوا لا تميلوا وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا ى تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق)(2) وقال تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)(3) فعقد تعالى الموإلات بين المؤمنين ، وقطعهم من ولأية الكافرين وأخبر أن الكفار بعضهم أولياء بعض وإن لم يفعلوا ذلك وقعمن الفتنة والفساد الكبير شيءء عظيم ، وكذلك يقع.(1/310)
فهل يتم الدين أو يقام علم الجهاد وعلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالحب في الله والبغض في الله والموإلات في الله ، ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة ومحة من غير عداوة ولا بغضاء لم يكن فرقان بين الحق والباطل ولا بين المؤمنين والكفار ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيءطان وإلأيات في ذلك كثيرة .
وأما الأحاديث فروى أحمد عن البراء بن عازب "أوثق عرى إلأيمان الحب في الله والبغض في الله" وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله(ص) قال " : المرؤ من أحب " وفي حديث آخر "من أحب قوماً جر معهم "
وإلاثار والسلف الصالح كثيرة ، فعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قيل له : إن هنا غلاماً من أهل الحيرة كاتباً فلو اتخذته كاتبا ؟ قال قد انخذت إذا بطانة من دون المؤمنين . وفي تفسير القرطبي في الكلام على قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم )(4) قال : نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين بهذه إلأية أن يتخذوا من الكافرين وإليهود وأهل إلاهواء دخلاء وولأنجا يفاوضونهم في إلاراء ويسندون إليهم أمورهم . أهـ
فيجب على شعوب المسلمين وحكامهم التكاتف والتعاون لنصرة الإسلام والسعي لما فيه توحيد كلمة المسلمين تحت راية الكتاب والسنة وأن ينتبهوا لكيد أعداء الإسلام من الكفرة ، ولاسيما تلك العصابات إليهودية والصهيونية المعادية للدين الإسلامي ، فإنهم كانوا على الدوام يسعون جاهدين لمحاربة الإسلام والمسلمين ، ويحاولون تحريف القرآن ويفترون إلافتراءات الكثيرة ، فهم كما قال العلامة ابن القيم رحمة الله تعالى في كتابه "هداية الحيارى" قال: فإلامة الغضبية هم إليهود أهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل قتلة إلأنبياء وأكلت السحت وهو الربا والرشا أخبث إلامم طوية ودراهم سجية وأبعدهم من الرحمة وأقربهم من النقمة عادتهم البغضاء ودينهم العداوة والشحناء بيت السحر والكذب والحيل لا يرون لمن خالفهم في كفروهم في كفرهم وتكذيبهم إلأنبياء حرمة ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ولا لمن وافقهم عندهم حق ولا شفقة ولا لمن شاركهم عندهم عدل ولا نصفة ولا لمن خالطهم طمأنينة ولا أمناً ولا لمن استعملهم عندهم نصيحة ، بل أخبثهم أعقلهم وأحذقهم أغشهم . إلى آخر ما ذكره هذا العالم الجليل عنهم.
ومن تأمل حال شر ذام إليهود والصهاينة وقرأ تاريخهم في قديم الزمان وحديثه علم صحة ما ذكره الإمام ابن القيم عنهم ، وأن هذا الصفات الشريرة التي أشار إليها رحمة الله هي صفات ملازمة لهم على الدوام فيجب على المسلمين أن يحذروا هذه العصابات التي تدبر الكيد للإسلام والمسلمين.
وإن مخططاتهم التي خططوها والتي يستندون فيها إلى (تلمودهم) هي من أخطر وأفظع المخططات حيث يرون كما في كتابهم هذا أن أموال جميع الناس غير إليهود حلال لليهود ولهم أن يستولوا علىا بأي طريقة يكون ولذلك يتوصلون إلى جمع إلاموال بكل الطرق حتى الخبيثة منها ، وإن جرىمتهم الشنعاء التي ارتكبوها في (فلسطين) من تقتيل أهلها الأمنين وتشريدهم من بلادهم هو جزء من مما رسموه من ضد البلاد الإسلامية جمعاء.
فالله الله إخواننا في السنغال قاطعوا هذه العصابات الظالمة مقاطعة تامة ، نصرة لدين الله الذي يريدون أن يطفئوه (ويأبى الله إلا أن يتسم نوره ولو كره الكافرون) وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
مفتي المملكة العربية السعودية ورئيس قضاتها
محمد بن إبراهيم آل الشيخ
الختم
(/م في 24/3/1381 )
===============
قبول هدية غير المسلم (1)
يقول السائل : إنه يعمل عند شخص غير مسلم وقد أهداه هدية فقبلها فما حكم ذلك ؟
الجواب : يجوز للمسلم أن يقبل الهدية من غير المسلم بشرطها كما سأذكر فيما بعد ويدل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل هدية غير المسلمين وأهدى لهم .
قال الإمام البخاري :[ " باب قبول الهدية من المشركين " وقال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هاجر ابراهيم عليه السلام بسارة فدخل قرية فيها ملك أو جبار ، فقال : أعطوها آجر - هاجر -.
وأُهديت للنبي - صلى الله عليه وسلم - شاة فيها سم . وقال أبو حميد : أهدى ملك أيلة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بغلة بيضاء فكساه برداً وكتب إليه ببجرهم ].
ثم روى البخاري بسنده عن أنس قال :( أهدي للنبي - صلى الله عليه وسلم - جبة من سندس وكان ينهى عن الحرير فعجب الناس منها فقال : والذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا . وقال سعيد عن قتادة عن أنس : إن أكيدر دومة أهدى إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - ).
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - :( أن يهودية أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها فقيل : ألا نقتلها ؟ قال : لا . فما زلت أعرفها في لهوات - جمع لهات وهي سقف الحلق - رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ).
__________
(1) - فتاوى يسألونك - (ج 5 / ص 230)(1/311)
وعن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال :( كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثين ومائة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هل مع أحد منكم طعام ؟ فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه فعجن ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : بيعاً أم عطية ؟ أو قال : أم هبة ؟ قال : لا ، بل بيع ، فاشترى منه شاة فصنعت وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بسواد البطن أن يشوى وأيم الله ما في الثلاثين ومائة إلا وقد حز النبي - صلى الله عليه وسلم - له حزة من سواد بطنها إن كان شاهداً أعطاها إياه وإن كان غائباً خبأ له فجعل منها قصعتين فأكلوا أجمعون وشبعنا ففضلت القصعتان فحملناه على البعير أو كما قال ] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 6/158-160 .
قال الحافظ ابن حجر :[ قوله باب قبول الهدية من المشركين ، أي جواز ذلك وكأنه أشار إلى ضعف الحديث الوارد في رد هدية المشرك وهو ما أخرجه أبو موسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ورجال من أهل العلم أن عامر بن مالك الذي يدعى ملاعب الأسنة قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مشرك فأهدى له فقال : إني لا أقبل هدية مشرك ، الحديث . رجاله ثقات إلا أنه مرسل وقد وصله بعضهم عن الزهري ولا يصح . وفي الباب حديث عياض بن حمار أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما من طريق قتادة عن يزيد بن عبد الله عن عياض قال : أهديت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة فقال : أسلمت ؟ قلت : لا ، قال : إني نهيت عن زبد المشركين . والزبد بفتح الزاي وسكون الموحدة الرفد صححه الترمذي وابن خزيمة ] فتح الباري 6/158 .
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن النهي عن قبول هدية المشركين المذكور في الحديث السابق منسوخ كما ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح 6/158 .
ونقل العيني عن الخطابي قوله :[ يشبه أن يكون هذا الحديث منسوخاً لأنه - صلى الله عليه وسلم - قبل هدية غير واحد من المشركين أهدى له المقوقس مارية والبغلة وأهدى له أكيدر دومة فقبل منهما ] عمدة القاري 9/436 .
وقد ذكر العيني عدداً من الأحاديث في قبول النبي- صلى الله عليه وسلم - لهدايا الكفار منها :( عن أنس أن أكيدر دومة الجندل أهدى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبة من سندس ) رواه مسلم .
ومنها حديث بلال - رضي الله عنه - الطويل في قصة الدين الذي تحمله بلال - رضي الله عنه - فقال له رسول الله :( أبشر فقد جاء الله بقضائك . ثم قال : ألم تر الركائب المناخات الأربع ؟ فقلت : بلى . فقال : إن لك رقابهن وما عليهن فإن عليهن كسوة وطعاماً أهداهن إلي عظيم فدك فاقبضهن واقض دينك . ففعلت ) رواه أبو داود وقال الشيخ الألباني صحيح الإسناد . صحيح سنن أبي داود 2/592 .
وعن عبد الله بن الزبير قال :( قدمت قتيلة ابنة عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بهدايا ضباب وأقط وسمن وهي مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها ، فسألت عائشة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله عز وجل :( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها ) رواه أحمد والطبراني وجوّده ، كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/152 . وغير ذلك من الأحاديث .
وخلاصة الأمر أنه يجوز قبول هدية غير المسلمين بشرط أن تكون الهدية مما له قيمة في عرف الشرع فلا يجوز للمسلم أن يقبل الخمر كهدية لأن الخمر مال غير متقوم شرعاً .
كما أنه يجوز أن للمسلم أن يهدي لغير المسلم وخاصة إذا كان ذا رحم للمسلم ، قال الإمام البخاري :[ باب الهدية للمشركين وقوله الله تعالى :( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) .
ثم روى البخاري بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال :( رأى عمر حلة على رجل تباع ، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ابتع هذه الحلة تلبسها يوم الجمعة وإذا جاءك الوفد ، فقال : إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة ، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها بحلل فأرسل إلى عمر منها بحلة فقال عمر : كيف ألبسها وقد قلت فيها ما قلت ؟ قال : إني لم أكسكها لتلبسها تبيعها أو تكسوها فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم ).
وروى البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت :( قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قلت إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصل أمي ؟ قال : نعم ، صلي أمك ) صحيح البخاري مع الفتح 6/160-162 .
وذكر الحافظ ابن حجر أن المراد من سياق الآية التي ذكرها البخاري بيان من يجوز بره من المشركين وأن الهدية للمشرك إثباتاً ونفياً والتواد المنهي عنه في قوله تعالى :( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) فتح الباري 6/160.
=================
حكم مصادقة العصاة (1)
سؤال رقم 11266- حكم مصادقة العصاة
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 473)(1/312)
هل يجوز للرجل المتمسك بالإسلام أن يتحدث إلى شخص مسلم بالاسم يشرب الكحول ولا يصلي ، وأن تنشأ بينهما مودة وصداقة ويتخذه مساعدا له ؟ ما هو الحكم في اتخاذ أمثال هؤلاء ( الذين لا يمارسون شعائر الدين وهم يخالفون أوامر الله ) أصدقاء ومساعدين ؟.
الحمد لله
المعاصي على نوعين :
النوع الأول : معاص مكفرة ، وهي التي تؤدي بالإنسان إلى الخروج من الملة والعياذ بالله ، وصاحب هذه المعاصي كافر خارج من الملة متى توفرت فيه الشروط وانتفت الموانع ، كمن يشرك بالله ، أو يترك الصلاة تركاً كاملاً ، ونحو ذلك .
النوع الثاني : معاص غير مكفرة ، وهي التي لا تخرج الإنسان من الملة ، لكن يوصف فاعلها بأنه فاسق ، ومؤمن ناقص الإيمان ، كالزنا وشرب الخمر ونحو ذلك ، ما لم يستحلها ، فإن استحل الحرام خرج من الملة ، إذا انطبقت عليه شروط التكفير وانتفت موانعه ، فعقيدة أهل السنة والجماعة وإجماع السلف على عدم تكفير صاحب الكبيرة ما لم يستحلها ، وراجع لذلك إجابة السؤال رقم ( 9924 ) .
إذا علم هذا ، فمصاحبة الناس ينبني حكمها على ما سبق . فلا يجوز اتخاذ الكافرين أولياء ، أو مخالطتهم مع الأنس بهم أو السكن معهم واتخاذهم أصدقاء وخلان ، أو محبتهم ، أو تقديمهم على المؤمنين أو مودتهم ونحو ذلك ، وقد قال الله تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ
كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) المجادلة/22 ، لكن يجب العدل معهم وعدم ظلمهم والاعتداء عليهم بغير وجه شرعي ، ويجوز التعامل معهم بالبيع والشراء والقرض ونحو ذلك ، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية سلاحاً، وصح أنه اشترى من اليهود طعاماً .
أما عصاة المؤمنين ، فتجب محبتهم بقدر ما معهم من إيمان ، ويجب بغضهم بقدر ما معهم من فسق ومعصية ، أما اتخاذهم أصدقاء ، فهذا مما يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم ( إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ
يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ
رِيحًا خَبِيثَة ً) رواه مسلم برقم ( 2628 ) ، فصديق السوء يورد الإنسان المهالك ، ويضره أكثر مما ينفعه ، وفرق بين أن أوالي ذلك الشخص ، وأحبه لأن معه وصف الإيمان ، وبين أن أصاحبه فآخذ منه ويأخذ مني . لكن إن كان القصد من الجلوس مع ذلك الشخص تأليف قلبه بغرض الدعوة
إلى الله تعالى ، وإرشاده إلى طريق الهداية ، فهذا من الأعمال الفاضلة ، كما قال تعالى : ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى
اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً ) فصلت/33 ، لكن بشرط ألا يؤثر
ذلك عليك ، فتضر نفسك من حيث تريد أن تنفعها .
وبناء على ما سبق ، فإن الشخص المسؤول عنه ، إن كان تاركا للصلاة بالكلّية ، فهو كافر ، لأن القول الراجح من أقوال أهل العلم ، وهو قول السلف ، أن تارك الصلاة كافر كفرا أكبر ، مخرجا من الملة ، وراجع لأدلة ذلك ، الأسئلة التالية ( 2182 ، 5208 ، 6035 ، 33007 ، 10094 ) ، وعليه فلا تجوز مودته ، ولا موالاته ، بل يدعى إلى التوبة إلى الله عز وجل ، والالتزام بالصلاة ، وقد قال تعالى : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ) التوبة/11
واعلم أن مصاحبة الأخيار مما أوصى به ربنا جل وعلا ، ونبينا صلى الله عليه وسلم ، كما سبق في الحديث المتقدم ، وكما قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) التوبة /119 ، وقال تعالى ( واصبر نفسك مع الذي يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) الكهف/28 ، والله أعلم
للمزيد راجع فتاوى الشيخ ابن عثيمين ( 3 / 31 ) .
================
حضور جنازة زميله غير المسلم في الكنيسة تقديرا للميت (1)
سؤال رقم 13730- حضور جنازة زميله غير المسلم في الكنيسة تقديرا للميت
هل يجوز للمسلم أن يحضر جنازة الصديق غير المسلم إذا كانت في كنيسة كاحترام أو تقدير للميت ؟.
الحمد لله
لا يجوز للمسلم أن يشيع جنازة الكافر ، ولا أن يدخل كنائسهم ، سواء على وجه الاحترام ، أو على وجه التقدير ونحو ذلك ؛ لأن التشييع فيه نوع محبة واحترام وتقدير ، وهذا لا يجوز بذله للكافر على الصحيح .
ثم إن السائل يقول : ( يحضر جنازة الصديق غير المسلم ) ، ولا يجوز للمسلم أن يتخذ الكافر صديقا ؛ لأن الله أمرنا بمعاداتهم وهجرهم والبعد عنهم ، وهذا لا يعني عدم وجود التعامل معهم أو البيع أو الشراء أو الشركات معهم ، فهذا شيء واتخاذهم أصدقاء شيء آخر ، قال تعالى : ( لاتَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1218)(1/313)
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) المجادلة / 22 ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام ، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه ) رواه الإمام مسلم في صحيحه ( 2167) من حديث أبي هريرة .
الشيخ سليمان بن ناصر العلوان
===============
إيضاح القاعدة العظيمة - " تحريم موالاة الكفّار (1)
سؤال رقم 2179- إيضاح القاعدة العظيمة - " تحريم موالاة الكفّار "
نرجو التوضيح بالأمثلة ما المقصود من العبارة التالية : " موالاة الكفّار حرام " .
الجواب:
الحمد لله
نعم الأمثلة توضّح المقصود وتجلّيه ولذلك ننتقل إليها مباشرة وننقل بعضا من أهمّ ما ذكره أهل العلم وأئمة الدّعوة من صور الموالاة الكفار :
ـ الرضا بكفرهم أو الشك فيه أو الامتناع عن تكفيرهم أو الإقدام على مدح دينهم قال الله تعالى عن كفر الراضي : ( ولكن من شرح بالكفر صدرا ) . وقال تعالى موجبا ومشترطا الكفر بالطاغوت : ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) . وقال عن اليهود في تفضيلهم المشركين على المسلمين: ( ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا).
ـ التحاكم إليهم : كما في قوله تعالى : ( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به )
ـ مودتهم ومحبتهم ، قال تعالى : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حاد الله ورسوله .. الآية )
ـ الركون إليهم والاعتماد عليهم وجعلهم سندا وظهيرا ، قال تعالى : ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) .
ـ إعانتهم ومناصرتهم على المسلمين . قال الله تعالى : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) وقال عن الكفار : ( بعضهم أولياء بعض ) . وقال : ( ومن يتولّهم منكم فإنه منهم ) .
ـ الانخراط في مجتمعاتهم والانضمام إلى أحزابهم وتكثير سوادهم والتجنُّس بجنسياتهم ( لغير ضرورة ) والخدمة في جيوشهم والعمل على تطوير أسلحتهم .
ـ نقل قوانينهم وتحكيمها في بلاد المسلمين ، قال تعالى : ( أَفَحُكم الجاهلية يبغون )
ـ التولي العام لهم واتخاذهم أعوانا وأنصارا وربط المصير بهم ، قال الله تعالى ناهيا عن ذلك ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء . بعضهم أولياء بعض ) .
ـ مداهنتهم ومجاملتهم على حساب الدين ، قال تعالى : ( ودوا لو تدهن فيدهنون ) . ويدخل في ذلك مجالستهم والدخول عليهم وقت استهزائهم بآيات الله ، قال الله تعالى : ( وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويُسْتهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ) .
ـ الثقة بهم واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين وجعلهم مستشارين . قال تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودُّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون . ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضُّوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور . إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها }
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ بَدْرٍ فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَوْهُ فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِئْتُ لأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ لا قَالَ فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ قَالَتْ ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَالَ فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ قَالَ ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلِقْ . " رواه مسلم 3388 .
ومن هذه النصوص يتبين لنا تحريم تولية الكفار الأعمال التي يتمكنون بواسطتها من الاطلاع على أحوال المسلمين وأسرارهم ويكيدون لهم بإلحاق الضرر بهم .
ـ توليتهم المناصب الإدارية التي يرأسون بها المسلمين ويذلونهم ويتحكمون في رقاب الموحدين ويحولون بينهم وبين أدائهم عباداتهم . قال الله تعالى ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) ، وروى الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قلت لعمر رضي الله عنه : لي كاتب نصراني ، قال : مالك قاتلك الله ، أما سمعت قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } ( المائدة :51 ) ألا اتخذت حنيفاً ، قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه ، قال : لا أكرمهم إذ أهانهم الله ، ولا أعزهم إذ أذلهم الله ، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله .
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 2172)(1/314)
وكذلك جعلهم في بيوت المسلمين يطلعون على العورات ويربون أبناء المسلمين على الكفر ومن هذا ما وقع في هذا الزمان من استقدام الكفار إلى بلاد المسلمين وجعلهم عمالاً وسائقين ومستخدمين ، ومربين في البيوت وخلطهم مع العوائل والأسر المسلمة .
وكذلك ضمّ الأولاد إلى المدارس الكفرية والمعاهد التبشيرية والكليات والجامعات الخبيثة وجعلهم يسكنون مع عوائل الكفار .
ـ التشبه بالكافرين في الملبس والهيئة والكلام وغيرها وذلك يدل على محبة المتشبه به ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( من تشبه بقوم فهو منهم ) .
فيحرم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم من عاداتهم ، وعباداتهم ، وسمتهم وأخلاقهم ، كحلق اللحى ، وإطالة الشوارب ، والرطانة بلغتهم إلا عند الحاجة ، وفي هيئة اللباس ، والأكل والشرب وغير ذلك .
ـ الإقامة في بلادهم بغير حاجة ولا ضرورة ، ولهذا فإن المسلم المستضعف الذي لا يستطيع إظهار شعائر دينه تحرم عليه الإقامة بين الكفار إذا كان يقدر على الهجرة ، قال تعالى :{ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً . إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً } .
فلم يعذر الله في الإقامة في بلاد الكفار إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون الهجرة . وكذلك من كان في إقامته مصلحة دينية كالدعوة إلى الله ونشر الإسلام في بلادهم .
فالإقامة بين ظهرانيهم محرمة لغير ضرورة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنا بريء ممن أقام بين ظهراني المشركين ) .
ـ السفر إلى بلادهم لغرض النزهة ومتعة النفس : أمّا الذّهاب لحاجة شرعية - كالعلاج والتجارة وتعلّم التخصصات النافعة التي لا يمكن الحصول عليها إلا بالسفر إليهم - فيجوز بقدر الحاجة ، وإذا انتهت الحاجة وجب الرجوع إلى بلاد المسلمين .
ويشترط للذّاهب في هذه الحالة أن يكون معه علم يدفع به الشبهات وإيمان يدفع به الشهوات وأن يكون مُظهِراً لدينه معتزاً بإسلامه مبتعداً عن مواطن الشر ، حذِراً من دسائس الأعداء ومكائدهم ، وكذلك يجوز السفر أو يجب إلى بلادهم إذا كان لأجل الدعوة إلى الله ونشر الإسلام .
ـ مدحهم والذبّ عنهم والإشادة بما هم عليه من المدنية والحضارة والإعجاب بأخلاقهم ومهاراتهم دون نظر إلى عقائدهم الباطلة ودينهم الفاسد . قال تعالى :{ ولا تمدن عينيك إلى ما متَّعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربِّك خيرٌ وأبقى } .
وكذلك تعظيمهم وإطلاق ألقاب التفخيم عليهم والبدء بتحيتهم وتقديمهم في المجالس وفي المرور في الطرقات ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلا النَّصَارَى بِالسَّلامِ فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ " . رواه مسلم 4030
ـ ترك تاريخ المسلمين والتأريخ بتأريخهم واعتماده خصوصاً التاريخ الذي يعبر عن طقوسهم وأعيادهم كالتاريخ الميلادي ، وهو عبارة عن ذكرى مولد المسيح عليه السلام ، والذي ابتدعوه من أنفسهم وليس هو من دين المسيح عليه السلام ، فاستعمال هذا التاريخ فيه مشاركة في إحياء شعارهم وعيدهم .
ولتجنب هذا لما أراد الصحابة رضي الله عنهم وضْع تاريخ للمسلمين في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه عدلوا عن تواريخ الكفار وأرخوا بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على وجوب مخالفة الكفار في هذا وفي غيره مما هو من خصائصهم ـ والله المستعان .
ـ مشاركتهم في أعيادهم أو مساعدتهم في إقامتها أوتهنئتهم بمناسبتها أو حضور أماكنها .
وقد فُسَّر الزور في قوله تعالى :{ والذين لا يشهدون الزور } بأعياد الكفار .
ـ التسمي بأسمائهم المُنكَرة ، وقد غيّر النبي صلى الله عليه وسلم الأسماء الشركية كعبد العزّى وعبد الكعبة .
ـ الاستغفار لهم والترحم عليهم : قال الله تعالى : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ).
فهذه طائفة من الأمثلة التي توضّح قاعدة تحريم موالاة الكفّار ، نسأل الله سلامة العقيدة وقوّة الإيمان والله المستعان
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
===============
هل يرجع للإقامة في بلاد الكفر ؟(1)
سؤال رقم 27211- هل يرجع للإقامة في بلاد الكفر ؟
نصحني كثير من أهل العلم بعدم السكن في بلاد الكفار ( أمريكا ) ، أنا عربي أمريكي عشت طوال عمري في أمريكا وأعمل الآن في إحدى الدول الإسلامية ، الأمور أصبحت صعبة بالنسبة لي لكي أستمر هنا - ( قلة الدخل والسكن ) - ، وأفكر بالعودة لأمريكا ، وسبب رئيسي آخر للعودة هو العناية الصحية المجانية لزوجتي المريضة .
أرجو أن تعطيني جواباً مفصلاً بالدليل من القرآن والسنة ، هل أعاني وأبقى في هذا البلد أم أرجع لأمريكا ؟.
الحمد لله
الأصل هو حرمة الإقامة بين أظهر المشركين وفي ديارهم ، ومن يسَّر الله عز وجل له الخروج من تلك الديار إلى بلاد الإسلام : فلا ينبغي له أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير إلا لعذرٍ قاهر يجيز له الرجوع .
ونحن ننصحك بما نصحك به الآخرون بعدم السكن في بلاد الكفر ، إلا أن تكون مضطراً إلى سكن مؤقت كعلاج لا يتيسر لك في بلاد المسلمين .
واعلم أن من ترك شيئا لله عوَّضه الله خيراً منه ، وأن مع العسر يسراً ، وأنه من يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ، واعلم
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 2970)(1/315)
أن الحفاظ على رأس المال خير من المخاطرة في الربح ، ورأس مال المسلم هو دينه ، فلا يفرِّط فيه لأجل دنيا زائلة .
وللشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - فتوى مفصَّلة في حكم الإقامة في بلاد الكفر ، نذكر منها - الآن - ما يتيسر .
قال الشيخ ابن عثيمين :
الإقامة في بلاد الكفار خطر عظيم على دين المسلم ، وأخلاقه ، وسلوكه ، وآدابه ، وقد شاهدنا وغيرنا انحراف كثير ممن أقاموا هناك فرجعوا
بغير ما ذهبوا به ، رجعوا فُسّاقًا ، وبعضهم رجع مرتدًا عن دينه وكافرًا به وبسائر الأديان - والعياذ بالله - حتى صاروا إلى الجحود المطلق والاستهزاء
بالدين وأهله السابقين منهم واللاحقين ، ولهذا كان ينبغي بل يتعين التحفظ من ذلك ووضع الشروط التي تمنع من الهويّ في تلك المهالك .
فالإقامة في بلاد الكفر لابد فيها من شرطين أساسين :
الشرط الأول : أمن المقيم على دينه بحيث يكون عنده من العلم والإيمان ، وقوة العزيمة ما يطمئنه على الثبات على دينه والحذر من الانحراف والزيغ وأن يكون مضمراً العداوة للكافرين وبغضهم مبتعدًا عن موالاتهم ومحبتهم ، فإن موالاتهم ومحبتهم مما ينافي الإيمان قال الله تعالى : { لا تجد قومًا
يؤمنون بالله واليوم الآخر يُوادّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } المجادلة / 22 .
وقال - تعالى - : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين . فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمرٍ من عنده فيصبحوا على ما أسروا في
أنفسهم نادمين } المائدة / 51 ، 52 .
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن من أحب قومًا فهو منهم " ، وأن " المرء مع من أحب " .
ومحبة أعداء الله عن أعظم ما يكون خطرًا على المسلم لأن محبتهم تستلزم موافقتهم واتباعهم ، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أحب قومًا فهو منهم "
الشرط الثاني : أن يتمكن من إظهار دينه بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع ، فلا يمنع من إقامة الصلاة والجمعة والجماعات إن كان معه من يصلي جماعة ومن يقيم الجمعة ، ولا يمنع من الزكاة والصيام والحج وغيرها من شعائر الدين ، فإن كان لا يتمكن من ذلك لم تجز الإقامة لوجوب الهجرة حينئذ ، ....
وقال الشيخ ابن عثيمين - في بيان أقسام الناس من حيث الإقامة هناك - :
القسم الرابع : أن يقيم لحاجة خاصة مباحة كالتجارة والعلاج فتباح الإقامة بقدر الحاجة ، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على جواز دخول بلاد
الكفار للتجارة وأثروا ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم .
وقال الشيخ - في آخر الفتوى - : وكيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار تعلن فيها شعائر الكفر ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله وهو يشاهد ذلك بعينه ويسمعه بأذنيه ويرضى به ، بل ينتسب إلى تلك البلاد ويسكن فيها بأهله وأولاده ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى أهله وأولاده في دينهم وأخلاقهم ." مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " ( فتوى رقم 388 ) .وانظر جواب السؤال رقم ( 14235 ) و ( 3225 ) .والله أعلم .
===============
هل تجالس مسلمة لا تصلي وتأكل معها ؟
سؤال رقم 20471: هل تجالس مسلمة لا تصلي وتأكل معها
السؤال:
هل يجوز للمسلمة أن تجالس وتسامر مسلمة لا تصلي إطلاقاً في مناسبات إسلامية أو حفل زواج تمت دعوتها إليه ؟
هل يجوز أن نأكل ونشرب من نفس الكأس أو الطبق الذي استعملته ؟.
الجواب:
الحمد لله
من كان تاركا للصلاة بالكلية فهو كافر وليس بمسلم كما بسط ذلك في إجابة السؤال رقم (5208) .
وعليه فهذه المرأة المذكورة في السؤال ليست بمسلمة , وعليه فالواجب هجرها وعدم مجالستها , إلا إذا كان ذلك لأجل حثها على التوبة والإنابة إلى الله بأداء الصلوات والمحافظة عليها .
وفي فتوى للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء : ( من ترك الصلاة متعمدا جاحدا لوجوبها فهو كافر باتفاق العلماء , وإن تركها تهاونا وكسلا فهو كافر على الصحيح من أقوال أهل العلم , وبناء على ذلك لا تجوز مجالسة هؤلاء بل يجب هجرهم ومقاطعتهم وذلك بعد البيان لهم أن تركها كفر إذا كان مثلهم يجهل ذلك , وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " . وهذا يعم الجاحد لوجوبها والتارك لها كسلا , وبالله التوفيق , وصلى الله على نبينا محمد وآله ) ا.هـ
من " فتاوى إسلامية " للمسند (1/373) .
وأما الأكل والشرب من نفس الإناء الذي استعملته فحكمه حكم أواني الكفار , وأواني الكفار يجوز للمسلم استعمالها إذا علم أنهم لا يضعون فيها شيئا من المحرمات كالخمر والخنزير , فقد ثبت في الصحيحين البخاري برقم ( 344 ) ، ومسلم برقم ( 682 ) من حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه استعملوا ماء من مزادة امرأة مشركة .
وأما إذا تقين أو غلب على ظنه استخدامهم لها في شيء من المحرمات فالواجب عليه أن يغسلها قبل استعمالها , لما ثبت في الصحيحين البخاري ( 5496 ) ، ومسلم ( 1930 ) من حديث أبي ثعلبة الخشني قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله , إنا بأرض قوم من أهل الكتاب , نأكل في آنيتهم ؟ .... إلى أن قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما ما ذكرت أنكم بأرض قوم من أهل الكتاب , تأكلون في آنيتهم , فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها , وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها " . واللفظ لمسلم .(1/316)
للمزيد يراجع فتح الباري لابن حجر : (1/453) , والشرح الممتع لابن عثيمين (1/67_69) .
والله تعالى أعلم .
الإسلام سؤال وجواب (www.islam-qa.com)
=================
معاملة الزوجة الكتابية
سؤال رقم 33862- معاملة الزوجة الكتابية (1)
الآية في سورة المائدة التي تحرم اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ، هل تعني عدم اتخاذهم أصدقاء أو حماية لنا؟ لأن البعض يقول : إن الآية تعني فقط مساعدين ولكن في الترجمة الإنجليزية تعني أصدقاء وإذا لم تكن تعني أصدقاء فكيف نحب الزوجة غير المسلمة ونعاملها حسب الشريعة الإسلامية ؟ .
الحمد لله
التعامل مع اليهود والنصارى وسائر الكفار له ضوابط وحدود حددتها
الشريعة الإسلامية ، ومن تلك الضوابط ما يلي :
أولا : أنه يجوز الحديث مع الكافر والتحدث إليه في الأمور
المباحة .
ثانيا : لا يجوز اتخاذ الكافرين أولياء ، واتخاذهم أولياء له العديد من الصور والأشكال ، فمنها مخالطتهم مع الأنس بهم أو السكن معهم واتخاذهم أصدقاء وخلان ، أو محبتهم ، أو تقديمهم على المؤمنين أو مودتهم ونحو ذلك ، وقد قال الله تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) المجادلة /22
ثالثا : يجوز التعامل مع الكفار بالبيع والشراء والقرض ونحو ذلك ، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية سلاحاً، وصح أنه اشترى من اليهود طعاماً .
أما معاملة الزوجة الكتابية ، فإن الله تعالى قال في كتابه : ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) الممتحنة /8 . فالعدل مع الزوجة الكتابية والإحسان إليها جائز ، ولا حرج في ذلك ، ولا يدخل ذلك في موالاتها .
قال الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/270) : "لا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَنْكِحَ الْمُشْرِكَةَ ; لقوله تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ) , وَيَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ الْكِتَابِيَّةَ ; لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) . وَالْفَرْقُ أَنَّ الأَصْلَ أَنْ لا يَجُوزَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَنْكِحَ الْكَافِرَةَ ; لأَنَّ ازْدِوَاجَ الْكَافِرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ مَعَهَا مَعَ قِيَامِ الْعَدَاوَةِ الدِّينِيَّةِ لا يَحْصُلُ السَّكَنُ وَالْمَوَدَّةُ الَّذِي هُوَ قِوَامُ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ إلا أَنَّهُ جَوَّزَ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّةِ ; لِرَجَاءِ إسْلامِهَا ; لأَنَّهَا آمَنَتْ بِكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ فِي الْجُمْلَةِ , وَإِنَّمَا لم تؤمن على سبيل التفصيل إيماناً صحيحاً بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا أُخْبِرَتْ عَنْ الأَمْرِ عَلَى خِلَافِ حَقِيقَتِهِ , فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مَتَى نُبِّهَتْ عَلَى حَقِيقَةِ الأَمْرِ تَنَبَّهَتْ , هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الَّتِي بُنِيَ أَمْرُهَا عَلَى الدَّلِيلِ دُونَ الْهَوَى وَالطَّبْعِ , وَالزَّوْجُ يَدْعُوهَا إلَى الإِسْلامِ وَيُنَبِّهُهَا عَلَى حَقِيقَةِ الأَمْرِ فَكَانَ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِ إيَّاهَا رَجَاءُ إسْلامِهَا فَجَوَّزَ نِكَاحَهَا لِهَذِهِ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ بِخِلافِ الْمُشْرِكَةِ , فَإِنَّهَا فِي اخْتِيَارِهَا الشِّرْكَ بالله ، وعدم إيمانها بالأنبياء والرسل ما يدل على أنها أَنَّهَا لا تَنْظُرُ فِي الْحُجَّةِ والدليل وَلا تَلْتَفِتُ إلَيْهَا عِنْدَ الدَّعْوَةِ ، وإنما تبقى على تقليد الآباء ، واتباع الهوى ، فَيَبْقَى ازْدِوَاجِ الْكَافِرِ مَعَ قِيَامِ الْعَدَاوَةِ الدِّينِيَّةِ الْمَانِعَةِ عَنْ السَّكَنِ وَالْمَوَدَّةِ خَالِيًا عَنْ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ فَلَمْ يَجُزْ نْكَاحُهَا اهـ بتصرف .
وقال في "حاشية العدوي" (1/273) : "قَوْلُهُ : (وَنَتْرُكُ مَنْ يَكْفُرُك) أَيْ : نَطْرَحُ
مَوَدَّةَ الْعَابِدِ لِغَيْرِك ، وَلا نُحِبُّ دِينَهُ وَلا نَمِيلُ إلَيْهِ . وَلا يُعْتَرَضُ هَذَا بِإِبَاحَةِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ لأَنَّ فِي
تَزَوُّجِهَا مَيْلًا لَهَا لأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُرَادُ هُوَ بُغْضُ الدِّينِ اهـ .
وللمزيد من الفائدة يمكنك الاطلاع على أرقام الأسئلة التالية : ( 34559 ، 11793 ، 10342 ، 26721 ، 23325 ) .
==============
سؤال رقم 38125- الإفطار مع غير المسلمين (2)
هل يجوز تناول طعام الإفطار مع غير المسلمين كالهندوس والنصارى ؟.
الحمد لله
يجوز تناول طعام الإفطار مع غير المسلمين إذا كانت هناك مصلحة شرعية في ذلك ، كدعوتهم إلى الدين الحق ، أو تأليف قلوبهم على الإسلام أو نحو ذلك مما يرجى من حضورهم لتناول الإفطار من الموائد التي يضعها المسلمون للإفطار العام كما يحصل في بعض الدول ، أما مجرد الأنس بهم والسرور بصحبتهم فهو أمر خطير ، إذ إن عقيدة الولاء والبراء من آكد أصول الدين ، وأولى الواجبات على المؤمنين ، وقد دل على هذا الأصل عدة آيات من كتاب الله ، وأحاديث من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن ذلك :
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 3305)
(2) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 3862)(1/317)
قوله تعالى : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ) المجادلة /22
وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء
من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ) النساء /144
وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى
أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) المائدة /51
وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ) آل عمران /118
وعلى هذا ، فنية الاجتماع على هذا الإفطار هي التي تحدد حكمه . والله أعلم .
=============
سؤال رقم 41631- اللين مع الكفار بقصد الدعوة(1)
ما حكم مخالطة الكفار ومعاملتهم بالرفق واللين طمعاً في إسلامهم ؟.
الحمد لله
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : " لا شك أن المسلم يجب عليه أن يبغض أعداء الله ويتبرأ منهم لأن هذه هي طريقة الرسل وأتباعهم قال الله تعالى : ( قد كانت لكم أسوة حسنة
في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ) الممتحنة / 4 ، وقال تعالى : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو
إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ) المجادلة / 22 .
وعلى هذا لا يحل لمسلم أن يقع في قلبه محبة ومودة لأعداء الله الذين هم أعداء له في الواقع . قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق ) الممتحنة / 1 .
أما كون المسلم يعاملهم بالرفق واللين طمعاً في إسلامهم وإيمانهم فهذا لا بأس به ، لأنه من باب التأليف على الإسلام ولكن إذا يئس منهم عاملهم بما يستحقون أن يعاملهم به . وهذا مفصل في كتب أهل العلم ولاسيما كتاب " أحكام أهل الذمة " لابن القيم - رحمه الله -." انتهى من مجموع فتاوى ابن عثيمين رحمه الله 3/31 .
===============
سؤال رقم 47322- هل يدعو لصديقه النصراني بالشفاء (2)
لدي صديق نصراني أحبه جدا وهو من النصارى الذين مدحهم القرآن ، وهو الآن مريض جدا فهل يسمح لي الإسلام أن أدعو الله له بالشفاء ؟ .
الحمد لله
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 4189)
(2) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 4681)(1/318)
عقيدة الولاء والبراء من آكد أصول الدين ، وأوثق عرى الإيمان ، وكما أن الإيمان يزيد وينقص فكذلك تحقيق الناس لهذا الأصل العظيم يزيد وينقص ، وأما هدم هذا الأصل في قلب العبد وترك ما يوجبه على المؤمن من الأعمال فهو هدم للإيمان كله الذي هو مبني على محبة أولياء الله تعالى ، ومعاداة أعدائه ، وقد دل على هذا الأصل عدة آيات من كتاب الله ، وأحاديث من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن ذلك : قوله تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) المجادلة/22 وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً ) النساء/144 وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) المائدة/51 وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) آل عمران/118 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر فلما كان بِحَرَّة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم جئت لأتبعك وأصيب معك ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : تؤمن بالله ورسوله ؟ قال : لا ، قال فارجع فلن أستعين بمشرك " رواه مسلم (1817) بل اتهم الصحابة - رضي الله عنهم - مالك بن الدخشن بالنفاق ، بسبب كثرة صحبته لبعض المنافقين ، ولقائه بهم ، كما ثبت في الصحيحين ( البخاري برقم 415 ، ومسلم 33 ) كل ما سبق وغيره كثير ، يدل على تحريم موالاة الكافرين ، أو محبتهم وتوليهم ، وهذه الموالاة لها صور عدة ، فمنها : الرضا بكفرهم ، أو مخالطتهم مع الأنس بهم أو السكن معهم واتخاذهم أصدقاء وخلان ، أو محبتهم ، أو تقديمهم على المؤمنين أو مودتهم ، أو تحكيم قوانينهم وغير ذلك ، وانظر السؤال رقم ( 2179 ) ومما سبق تعلم أن محبة الكافر أمرها خطير جدا ، لأنها تناقض باباً عظيما من أبواب التوحيد ، ألا وهو الولاء للمؤمنين ، والبراء من المشركين .
وقولك إن هذا الكافر من النصارى الذي مدحهم الله في كتابه ، جوابه أن الذين مدحهم الله في كتابه هم صنف معين لهم أوصاف محددة ، وقد بين الله تعالى هذه الأوصاف بعد آية مدحهم مباشرة ، قال تعالى : ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ) ثم قال : ( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ* وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ
الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) المائدة/86 فتمام الآيات يبين أن المراد بهؤلاء من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وتأثر بسماع القرآن ودعوته .
قال العلامة عبد الرحمن السعدي في تفسير هذه الآية : " يقول تعالى في بيان أقرب الطائفتين إلى المسلمين وإلى ولايتهم ومحبتهم وأبعدهم من ذلك : لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا .
فهؤلاء الطائفتان على الإطلاق أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين ، وأكثرهم سعيا في إيصال الضرر إليهم ، وذلك لشدة بغضهم لهم بغيا وحسدا وعنادا وكفرا .
( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى )
وذكر تعالى لذلك عدة أسباب : منها : أن منهم قسيسين ورهبانا ، أي علماء متزهدين وعبادا في الصوامع متعبدين . والعلم مع الزهد وكذلك العبادة مما يلطف القلب ويرققه ويزيل عنه ما فيه من الجفاء والغلظة ، فلذلك لا يوجد فيهم غلظة اليهود وشدة المشركين .
ومنها : أنهم لا يستكبرون أي ليس فيهم تكبر ولا عتو عن الانقياد للحق ، وذلك موجب لقربهم من المسلمين ومن محبتهم ، فإن المتواضع أقرب إلى الخير من المستكبر .(1/319)
ومنها : أنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر ذلك في قلوبهم وخشعوا للذي تيقنوه ، فلذلك آمنوا وأقروا به فقالوا : ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم يشهدون لله بالتوحيد ولرسله بالرسالة وصحة ما جاءوا به ، ويشهدون على الأمم السابقة بالتصديق والتكذيب .... وهذه الآيات نزلت في النصارى الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسم - كالنجاشي وغيره ، ممن آمن منهم ، وكذلك لا يزال يوجد فيهم من يختار دين الإسلام ،
ويتبين له بطلان ما كانوا عليه ، وهم أقرب من اليهود والمشركين إلى دين الإسلام " [ تفسير السعدي 1 / 511 ]
أما الدعاء للكافرين فينقسم إلى قسمين : الأول : أن تدعو له بالهداية إلى الإسلام ونحو ذلك ، فهذا جائز ، وقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( اللهم
أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب ) رواه الترمذي (3681) ، وصححه الألباني ، وهذا دعاء لأحدهما بالهداية الثاني : أن تدعو له بالمغفرة ونحو ذلك ، فهو حرام بالإجماع .
قال النووي : " وأما الصلاة على الكافر والدعاء له بالمغفرة فحرام بنص القرآن والإجماع " [ المجموع 5 / 120 ]
وقال في تحفة المحتاج :" ويحرم الدعاء بأخروي لكافر وكذا من شك في إسلامه ولو من والديه " [ 3 / 141 ]
أما الدعاء له بالشفاء من مرض والعافية منه ، فهو جائز للمصلحة ، كرجاء إسلامه وتأليف قلبه ، ونحو ذلك ، ويدل لهذا حديث الصحابي الذي رقى سيد القوم من لدغة العقرب ، وقد سبق بيانه في السؤال رقم ( 6714 ) ، والدعاء بالشفاء من جنس الرقية .
بل يجوز لك أن تزوره في مرضه هذا ، والإنسان في مرضه يرقُّ قلبه ويضْعُف ، ويقرب قبوله للحق ، وقد كان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلام يهودي يخدمه ، فَمَرِضَ ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ
النَّارِ ) رواه البخاري (1356)
قال ابن حجر : " وفي الحديث جواز استخدام المشرك وعيادته إذا مرض ، وفيه حسن العهد "
لكن الدعاء للكافر بالشفاء لا يعني موالاته أو محبته أو تقديمه أو مودته كما سبق ذلك ، والله أعلم .
وللمزيد راجع الأسئلة رقم ( 23325 ، 20471 ، 32560 ، 41631 ، 6517 ، 26721 ، 1398 ، 3485 )
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين : عن حكم موالاة الكفار ؟
فأجاب بقوله : موالاة الكفار بالموادة والمناصرة واتخاذهم بطانة حرام منهي عنها بنص القرآن الكريم قال الله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) ،
وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ ) وأخبر أنه إذا لم يكن المؤمنون بعضهم أولياء بعض والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ويتميز هؤلاء عن هؤلاء ، فإنها تكون فتنة في الأرض وفساد كبير .
ولا ينبغي أبدا أن يثق المؤمن بغير المؤمن مهما أظهر من المودة وأبدى من النصح فإن الله تعالى يقول عنهم ( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ). ويقول سبحانه لنبيه ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ
الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) والواجب على المؤمن أن يعتمد على الله في تنفيذ شرعه ، وألا تأخذه فيه لومة لائم ، وألا يخاف من أعدائه فقد قال الله تعالى : ( إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ
يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )
وقال تعالى : ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى
اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ) وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )
( انظر مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين 3 / 31 - 46 ، الولاء والبراء في الإسلام ص
352 ) .
=================
سؤال رقم 59879- ما معنى اتخاذ الكفار أولياء ؟ وحكم مخالطة الكفار (1)
ورد في القرآن أنه لا يجوز لنا اتخاذ الكفار أولياء ، لكن ماذا يعني ذلك ؟ أقصد إلى أي حدٍّ ؟ هل يجوز لنا التعامل معهم ؟ أنا أدرس ، فهل يجوز لنا لعب كرة السلة معهم ؟ هل يجوز أن نتحدث معهم فيما يتعلق بالسلة وما إلى ذلك ؟ هل يجوز أن نصاحبهم طالما أنهم أبقوا أمور اعتقاداتهم لأنفسهم ؟
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 5229)(1/320)
أسأل عن ذلك لأني أعرف شخصاً يصاحبهم بمثل هذه الطريقة وتواجده معهم لا يؤثر على اعتقاده ، لكني مع ذلك أقول له : " لماذا لا تبقى مع المسلمين بدلا من هؤلاء ؟ " وهو يرد قائلا : إن أغلب - أو العديد - من المسلمين يشربون الخمر ويتناولون المخدرات في أماكن تجمعهم ، كما أن لهم صديقات ، وهو يخاف من أن معاصي هؤلاء المسلمين قد تغويه ، لكنه متأكد تماما أن كفر الكفار لن يغريه لأنه شيء لا يُعتبر مغريا بالنسبة له ، فهل تواجده ولعبه وحديثه حول أمور الرياضة مع الكفار يعتبر " من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين " ؟.
الحمد لله
أولاً : حرم الله تعالى على المؤمنين اتخاذ الكافرين أولياء ، وتوعد على ذلك وعيداً شديداً .
قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) المائدة/51 .
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله : " ذكر في هذه الآية الكريمة أن من تولى اليهود والنصارى مِن
المسلمين فإنه يكون منهم بتوليه إياهم ، وبيَّن في موضع آخر أن توَلِّيهم موجب لسخط الله ، والخلود في عذابه ، وأن متوليهم لو كان مؤمناً ما تولاهم ، وهو قوله تعالى : ( تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) المائدة/80 ، 81 .
ونهى في موضِع آخر عن تَوليهم مبيناً سبب التنفير منه ، وهو قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) الممتحنة/13
وبيَّن في موضع آخر أن محل ذلك فيما إذا لم تكن الموالاة بسبب خوف ، وتقية ، وإن كانت بسبب ذلك فصاحبها معذور ، وهو قوله تعالى : ( لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) آل عمران/28 . فهذه الآية الكريمة فيها بيانٌ لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقاً وإيضاحٌ ؛ أن محل ذلك في حالة الاختيار ، وأما عند الخوف والتقية فيرخص في موالاتهم ، بقدر المداراة التي يكتفي بها شرهم ، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة ، ومن يأتي الأمور على اضطرار فليس كمثل آتيها اختياراً .
ويفهم من ظواهر هذه الآيات أن من تولى الكفار عمداً اختياراً رغبة فيهم أنه كافر مثلهم " انتهى .
"أضواء البيان" ( 2 / 98 ، 99 ) .
ومن صور مولاة الكفار المحرمة : اتخاذهم أصدقاء وأصحاباً ، ومخالطتهم في الطعام واللعب معهم .
وفي جواب السؤال رقم ( 10342 ) نقلنا عن الشيخ ابن باز قوله : " ليس الأكل مع الكافر حراماً إذا دعت الحاجة إلى ذلك أو المصلحة الشرعية ، لكن لا تتخذوهم أصحاباً فتأكل معهم من غير سبب شرعي أو مصلحة شرعية ولا تؤانسهم ، وتضحك معهم ، ولكن إذا دعت إلى ذلك حاجة كالأكل مع الضيف أو ليدعوهم إلى الله ويرشدهم إلى الحق أو لأسباب أخرى شرعية فلا بأس .
وإباحة طعام أهل الكتاب لنا لا يقتضي اتخاذهم أصحاباً وجلساء ولا تقتضي مشاركتهم في الأكل والشرب من دون حاجة ولا مصلحة شرعية " . انتهى .
وسئل الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله :عن حكم مخالطة الكفار ومعاملتهم بالرفق واللين طمعاً في إسلامهم ؟
فأجاب :
لا شك أن المسلم يجب عليه أن يبغض أعداء الله ويتبرأ منهم ؛ لأن هذه هي طريقة الرسل وأتباعهم ، قال الله تعالى : ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ) الممتحنة/4 . وقال تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة/22 .
وعلى هذا لا يحل لمسلم أن يقع في قلبه محبة ومودة لأعداء الله الذين هم أعداء له في الواقع ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ) الممتحنة/1 .
أما كون المسلم يعاملهم بالرفق واللين طمعاً في إسلامهم وإيمانهم : فهذا لا بأس به ؛ لأنه من باب التأليف على الإسلام ، ولكن إذا يئس منهم عاملهم بما يستحقون أن يعاملهم به ، وهذا مفصل في كتب أهل العلم ولاسيما كتاب " أحكام أهل الذمة " لابن القيم رحمه الله " . انتهى .
" مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " ( 3 / السؤال رقم 389 ) .
ثانياً :وأما قول هذا القائل : إنه لا يخالط العصاة من المسلمين خوفا من أن تغويه معاصيهم ، وأما الكفار فإن كفرهم لن يغريه . فجوابه أن يقال :(1/321)
أما عدم مخالطته لأهل المعاصي من المسلمين فَلَنِعْمَ ما فَعَلَ ، إذا لم يكن قادراً على نصيحتهم ، ونهيهم عن المنكر ، وخاف على نفسه من الوقوع في معاصيهم واستحسانها .
وأما مخالطته للكفار ، فليست العلة في منع مخالطة الكفار هي الخوف من الوقوع في الكفر فقط ، بل مِنْ أظهرِ عِلَلِ هذا الحكم : عداوتُهم لله ورسوله والمؤمنين ، وقد أشار الله تعالى إلى هذه العلة بقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ) الممتحنة/1 .
فكيف يليق بمسلم أن يصاحب عدو الله وعدوه ويصادقه ؟!
ثم مِنْ أين يأمَنُ هذا مِنِ استحسانِ طريقتهم ومذهبهم ؟ وقد وقع كثير من المسلمين في الكفر والإلحاد وارتدوا عن الإسلام بسبب مصاحبتهم للكفار ، وإقامتهم في بلدانهم . فبعضهم تَهَوَّدَ ، وبعضهم تَنَصَّر ، وبعضهم اعتنق مذاهب فلسفية ملحدة . نسأل الله أن يثبتنا على دينه .
وانظر جواب السؤال رقم ( 2179 ) ففيه إيضاح القاعدة العظيمة : " تحريم موالاة الكفّار " وفيه ذِكر صور كثيرة من تلك الموالاة المحرَّمة .
وفي جواب السؤال رقم ( 43270 ) تجد حكم القول بأن أخلاق الكفّار أفضل من أخلاق المسلمين ، وفيه النقل عن الشيخ ابن باز بتحريم هذا القول .
وفي جواب السؤال رقم ( 26118 ) ، ( 23325 ) بيان تحريم مصاحبة الكافر ومصادقته . والله أعلم .
=================
سؤال رقم 6491- كيف تتأكّد من إسلام شخص تحبّه لتتزوّجه (1)
السؤال :
أحب شخصاً غير مسلم ، ولكنه يريد أن يسلم ، ولكن إذا لم تأت من القلب فلن يكون إسلامه مقبولاً ، أعلم بأن والداي لن يقبلا به لأنه من أبوين أسود وبيضاء ، لا أريد أن أخسر والداي ، وحتى لو أسلم الرجل فكيف أتأكد بأنه سيتمسك بالإسلام ولا يرتد عنه ؟.
الجواب :
1. اعلمي وفقكِ الله وثبتك على الإسلام أنه لا يحلّ للمسلم أن يحب الكافر لقول الله عز وجل :{ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} [ المجادلة 22 ].
2. وأما قولك بأنك قد أحببْتِه فإنّ عليك ترك هذا الحب لأجل الله عزّ وجلّ ومن ترك شيئا لله عوّضه الله خيرا منه .
3. إذا أظهر هذا الشاب إسلامه وخشيت أن لا يكون صادقا في إسلامه لقول الله عز وجل : {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهن ولا هم يحلون لهم} [ الممتحنة 10 ].
وامتحانه يكون بسؤاله عن الله ودينه ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وكذا عن دينه هو الذي أظهر تركه .
وكذلك يُمكن التأكّد من إسلامه بالنّظر لمداومته على العبادات الواجبة كالصلاة وخصوصا إذا كان هناك مسجد قريب وكذلك الصيام .
والشّخص الجادّ في إسلامه تتبيّن جديّته أيضا من أمور مثل اهتمامه بالسؤال عن أحكام الحلال والحرام وخصوصا المسلم الجديد .
وكذلك يتبيّن الاهتمام بتغيير الحال التي كان عليها من شعائر الكفر وتركه للمنكرات والمحرّمات التي كان يقارفها أيّام جاهليته .
ويتبيّن كذلك حُسْن إسْلامه بكرهه لما كان عليه من الكفْر ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ . " رواه البخاري 21
ونريد التأكيد على عدم إقامة أيّ علاقة محرّمة لأنّ المرأة المسلمة لا يحلّ لها أن تفعل ذلك فلا تلمس ولا تخلو بأجنبي ، ونسأل الله أن يختار لك الخير وأن يقدّره لك ويحفظك من كل سوء ، وصلى الله على نبينا محمد .
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
=================
سؤال رقم 69876- هل تقطع علاقتها مع بعض الكافرات أم تستغلها في الدعوة ؟ (2)
أنا امرأة لي مراسلات مع أوربيات وأمريكيات عن طريق الإنترنت نقوم بتبادل الهدايا وأمور الخياطة وذلك منذ سنتين . حاولت مناقشتهن في الإسلام لكن توقفت خوفا من عدم تمكني من الدعوة وبالتالي الوقوع في الخطأ . ماذا تنصحني هل أقطع علاقتي بهن نهائيا أم أستمر بقصد دعوتهن للإسلام رغم الصعوبات وكيف أبدأ ؟ وهل تعتبر هذه العلاقة صداقة وما حكمها شرعا ؟.
الحمد لله
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 5391)
(2) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 5704)(1/322)
أولا : لا يجوز للمسلم أو المسلمة اتخاذ صديق أو صديقة من غير المسلمين ؛ لنهي الله تعالى عن مودة الكافرين وموالاتهم واتخاذهم بطانة ، كما في قوله تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) المجادلة/22 ، وقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) المائدة/51 ، وقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا
يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) آل عمران/118 .
ثانيا : يجوز للمسلم مراسلة هؤلاء ، وتقديم الهدايا لهم ، بغرض دعوتهم للإسلام ، وترغيبهم فيه ، بشرط أن يكون متحصنا بالعلم والإيمان ، متمكنا من الدعوة ، مطلعا على شبهات القوم وأساليبهم . أما غير المتمكن فليس له أن يزج بنفسه في هذا المجال ؛ لما قد يعترضه من الفتن ، أو يأتيه من الشبهات التي لا يقدر على ردها ، فيكون هذا سبب انحرافه وهلاكه ، عياذا بالله من ذلك .
ثالثا : إذا كانت مراسلة هؤلاء تقتصر على تبادل أمور الخياطة ، والاستفادة منهم في ذلك من غير أن يصل الأمر إلى محبتهم ومودتهم وتهنئتهم بأعيادهم - مثلاً - فلا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل مع اليهود بيعاً وشراء .
بل لا حرج من تقديم بعض الهدايا لهم بشرط أن يكونوا غير محاربين للإسلام والمسلمين ، فإن الله تعالى قال : ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) الممتحنة/8 .
قال السعدي رحمه الله (ص 1016) : " أي لا ينهاكم الله عن البر والصلة والمكافأة بالمعروف والقسط للمشركين من أقاربكم وغيرهم ، حيث كانوا بحال لم ينتصبوا لقتالكم في الدين والإخراج
من دياركم ، فليس عليكم جناح أن تصلوهم ، فإن صلتهم في هذه الحالة لا محذور فيها " انتهى .
رابعاً : وسائل الدعوة كثيرة ومتنوعة ، منها :
1- الحوار المباشر ، وينبغي أن يرتكز على بيان محاسن الإسلام ،وحقيقة التوحيد ، وأهمية الإيمان ، وصدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم بيان بطلان ما سواه من الأديان الأخرى ، وما أصابها من التحريف والتغيير والتبديل .
2- إهداء الكتب والنشرات التي تتحدث عن الإسلام وترغب في الدخول فيه .
3- دلالة الآخرين على المواقع المختصة بتوضيح الإسلام ، والدعوة إليه ، والإجابة على شبهات المخالفين ، ومجادلتهم بالتي هي أحسن .
ولا بد أن يكون الداعي إلى الإسلام متحصنا بالعلم الشرعي والإيمان القوي الذي يقف في وجه الشبهات والشهوات ، وإلا فليدع المجال لغيره ، وليتق الله في نفسه ولا يوردها المهالك ، وليحذر المسلم أن يتسرب إلى قلبه شيء من مودة الكافر ومحبته .
والله أعلم .
==================
هل يسمح لخالته النصرانية بالبقاء معه في السكن حتى يدعوها للإسلام ؟ (1)
سؤال رقم 70219: هل يسمح لخالته النصرانية بالبقاء معه في السكن حتى يدعوها للإسلام ؟
أنا أعمل وأعيش حاليا في أمريكا ، وأسأل ما إذا كان يحرم علي أن أسمح لخالتي غير المسلمة أن تعيش معي . المذكورة نصرانية وأنا أدعوها للإسلام لكن بعض كبار السن يكونون عنيدين. فما هو الدليل من الكتاب والسنة حول العيش هنا معهم ؟ وإذا كان علماء الأمة تناولوا هذه المسألة، فما هو قولهم فيما نواجهه في أمريكا وبريطانيا تحديدا أو غيرهما من البلدان غير الإسلامية ونحن نشكل أقلية في أماكن إقامتنا ؟.
الحمد لله
أولا : يجوز لك السماح لخالتك ، بأن تبقى معك ؛ لأجل دعوتها إلى الإسلام وترغيبها فيه بالحكمة والموعظة الحسنة ، فإن رؤيتها لكم ، ومعاينتها لأخلاقكم وحسن تعاملكم ، قد تكون سببا لانشراح صدرها ، واطمئنان نفسها لهذا الدين العظيم ، وكثيرا ما تكون الأخلاق والمعاملة أبلغ بكثير من الأقوال والمواعظ . فاجتهد في ذلك ، فلأن يهديها الله على يديك خير لك من الدنيا وما فيها .
وينبغي أن تتحلى بالصبر والحلم ، وأن تقابل السيئة بالحسنة ، والخطأ بالعفو والصفح ، كما قال تعالى : ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) فصلت/34
ومما يدل على جواز إبقاء الكافر بين المسلمين ، ليرى أخلاقهم ويتعرف على دينهم ، ما جاء في قصة ثُمامة بن أُثال ، وربطه في المسجد ثلاثة أيام ، بعد أن أسره المسلمون ، ثم عفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم . وقصته في صحيح البخاري (4372) ومسلم (1764).
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 5742)(1/323)
والخالة لها حق في صلة الرحم لقرابتها ، ولو كانت كافرة ، فقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ ) رواه البخاري (2700)
وروى الترمذي (3975) عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ قَالَ هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ قَالَ لا قَالَ هَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَبِرَّهَا ) وصححه الألباني في صحيح الترمذي .
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأسماء : ( صِلِي أُمَّكِ ) رواه البخاري (2620) ومسلم (1003) ، وكانت أمها كافرة
ثانيا : إقامة الإنسان في البلدان غير الإسلامية لا بد فيها من شرطين أساسين ، بينهما أهل العلم . قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " الأول : أمن المقيم على دينه ، بحيث يكون عنده من العلم
والإيمان وقوة العزيمة ما يطمئنه على الثبات على دينه والحذر من الانحراف والزيغ ، وأن يكون مضمرا لعداوة الكافرين وبغضهم ، مبتعدا عن موالاتهم ومحبتهم ، فإن موالاتهم ومحبتهم مما ينافي الإيمان ، قال الله تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) المجادلة/22 . وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ) المائدة/ 51 ، 52 ، وثبت في الصحيح عن النبي ، صلى الله عليه وسلم : ( الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ ) رواه البخاري (6168)ومسلم (2641)
ومحبة أعداء الله من أعظم ما يكون خطرا على المسلم ، لأن محبتهم تستلزم موافقتهم واتباعهم ، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم ، .."
الشرط الثاني : أن يتمكن من إظهار دينه ، بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع ، فلا يمنع من إقامة الصلاة والجمعة والجماعات إن كان معه من يصلي جماعة ومن يقيم الجمعة ، ولا يمنع من الزكاة والصيام والحج وغيرها من شعائر الدين ، فإن كان لا يتمكن من ذلك لم تجز الإقامة لوجوب الهجرة حينئذ " انتهى من "شرح الأصول الثلاثة" للشيخ ابن عثيمين رحمه الله ، ضمن مجموع الفتاوى له
(6/132).
ومن لم يتوفر فيه هذان الشرطان وجبت عليه الهجرة إلى ديار الإسلام ، إن كان قادرا على ذلك ، فإن عجز عن الهجرة ، فهو معذور ؛ لقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ
كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ) النساء/97- 99 ، وانظر "المغني" لابن قدامة (8/457) .
وانظر للأهمية سؤال رقم ( 22309 )
والله أعلم .
=================
سؤال رقم 85108- قبول هدية الكافر في يوم عيده (1)
جارتي أمريكية مسيحية ....، هي وعائلتها قدموا لي هدايا بمناسبة الكريسمس ، وأنا لا أستطيع رده هذه الهدايا ، حتى لا تغضب مني !!
فهل لي أن أقبل هذه الهدايا ، كما قبل الرسول عليه الصلاة والسلام هدايا الكفار ؟.
الحمد لله
أولا : الأصل هو جواز قبول الهدية من الكافر ، تأليفا لقلبه وترغيبا له في الإسلام ، كما قبل النبي صلى الله عليه وسلم هدايا بعض الكفار ، كهدية المقوقس وغيره .
وبوب البخاري في صحيحه : باب قبول الهدية من المشركين ، قال رحمه الله : " وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام بِسَارَةَ فَدَخَلَ قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ أَوْ جَبَّارٌ فَقَالَ أَعْطُوهَا آجَرَ ، وَأُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ ، وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ : أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَةً بَيْضَاءَ وَكَسَاهُ بُرْدًا وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ " وذكر قصة اليهودية
وإهداءها الشاة المسمومة للنبي صلى الله عليه وسلم .
ثانيا : يجوز للمسلم أن يهدي للكافر والمشرك ، بقصد تأليفه ، وترغيبه في الإسلام ، لاسيما إذا كان قريبا أو جارا ، وقد أهدى عمر رضي الله عنه لأخيه المشرك في مكة حلة (ثوبا) . رواه البخاري (2619).
لكن لا يجوز أن يهدي للكافر في يوم عيد من أعياده ، لأن ذلك يعد إقرارا ومشاركة في الاحتفال بالعيد الباطل .
وإذا كانت الهدية مما يستعان به على الاحتفال كالطعام والشموع ونحو ذلك ، كان الأمر أعظم تحريما ، حتى ذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك كفر .
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 6363)(1/324)
قال الزيلعي في "تبيين الحقائق" (حنفي) (6/228) : " ( والإعطاء باسم النيروز والمهرجان لا يجوز ) أي الهدايا باسم هذين اليومين حرام بل كفر , وقال أبو حفص الكبير رحمه الله لو أن رجلا عبد الله خمسين سنة ثم جاء يوم النيروز , وأهدى لبعض المشركين بيضة ، يريد به تعظيم ذلك اليوم ، فقد كفر , وحبط عمله . وقال صاحب الجامع الأصغر : إذا أهدى يوم النيروز إلى مسلم آخر , ولم يرد به التعظيم لذلك اليوم , ولكن ما اعتاده بعض الناس لا يكفر , ولكن ينبغي له أن لا يفعل ذلك في ذلك اليوم خاصة , ويفعله قبله أو بعده ، كي لا يكون تشبها بأولئك القوم , وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من تشبه بقوم فهو منهم } . وقال في الجامع الأصغر رجل اشترى يوم النيروز شيئا ، لم يكن يشتريه قبل ذلك ، إن أراد به تعظيم ذلك اليوم كما يعظمه المشركون كفر , وإن أراد الأكل والشرب والتنعم لا يكفر " انتهى .
وقال في "التاج والإكليل" (مالكي) (4/319) : " وكره ابن القاسم أن يهدي للنصراني في عيده مكافأة له ، ونحوه إعطاء اليهودي ورق النخيل لعيده " انتهى .
وقال في "الإقناع" من كتب الحنابلة : " ويحرم شهود عيد اليهود والنصارى وبيعه لهم فيه ، ومهاداتهم لعيدهم " انتهى .
بل ولا يجوز للمسلم أن يهدي للمسلم هدية لأجل هذا العيد ، كما سبق في كلام الحنفية ، وقال شيخ الإسلام رحمه الله : " ومن أهدى للمسلمين هدية في هذه الأعياد مخالِفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد : لم تقبل هديته ، خصوصا إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم ، مثل إهداء الشمع ونحوه في الميلاد ، أو إهداء البيض واللبن والغنم في الخميس الصغير الذي في آخر صومهم ، وكذلك أيضا لا يهدى لأحد من المسلمين في هذه الأعياد هدية لأجل العيد ، لا سيما إذا كان مما
يستعان بها على التشبه بهم كما ذكرناه " انتهى من "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/227).
ثالثا : أما قبول الهدية من الكافر في يوم عيده ، فلا حرج فيه ، ولا يعد ذلك مشاركة ولا إقرارا للاحتفال ، بل تؤخذ على سبيل البر ، وقصد التأليف والدعوة إلى الإسلام ، وقد أباح الله تعالى البر والقسط مع الكافر الذي لم يقاتل المسلمين ، فقال : ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) الممتحنة/8.
لكن البر والقسط لا يعني المودة والمحبة ؛ إذ لا تجوز محبة الكافر ولا مودته ، ولا اتخاذه صديقا أو صاحبا ، لقوله تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ا ل أِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) المجادلة/22 ، وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقّ ) الممتحنة/1 ، وقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) آل عمران/118
وقال عز وجل : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا
تُنْصَرُونَ) هود/113
وقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) المائدة/51 ، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على تحريم مصادقة الكافر أو مودته .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وأما قبول الهدية منهم يوم عيدهم فقد قدمنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أتي بهدية النيروز فقبلها .
وروى ابن أبي شيبة .. أن امرأة سألت عائشة قالت إن لنا أظآرا [جمع ظئر ، وهي المرضع] من المجوس ، وإنه يكون لهم العيد فيهدون لنا فقالت : أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا ، ولكن كلوا من أشجارهم .
و.. عن أبي برزة أنه كان له سكان مجوس فكانوا يهدون له في النيروز والمهرجان ، فكان يقول لأهله : ما كان من فاكهة فكلوه ، وما كان من غير ذلك فردوه .
فهذا كله يدل على أنه لا تأثير للعيد في المنع من قبول هديتهم ، بل حكمها في العيد وغيره سواء ؛ لأنه ليس في ذلك إعانة لهم على شعائر كفرهم ... ".
ثم نبه رحمه الله على أن ذبيحة الكتابي وإن كانت حلالا إلا أن ما ذبحه لأجل عيده : لا يجوز أكله . قال رحمه الله : " وإنما يجوز أن يؤكل من طعام أهل الكتاب في عيدهم ، بابتياعٍ أو هديةٍ أو غير ذلك مما لم يذبحوه للعيد . فأما ذبائح المجوس فالحكم فيها معلوم فإنها حرام عند العامة ، وأما ما ذبحه أهل الكتاب لأعيادهم وما يتقربون بذبحه إلى غير الله نظير ما يذبح المسلمون هداياهم وضحاياهم(1/325)
متقربين بها إلى الله تعالى ، وذلك مثل ما يذبحون للمسيح والزهرة ، فعن أحمد فيها روايتان أشهرهما في نصوصه أنه لا يباح أكله وإن لم يسم عليه غير الله تعالى ، ونقل النهي عن ذلك عن عائشة وعبد الله بن عمر ..." انتهى من "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/251).
والحاصل أنه يجوز لك قبول الهدية من جارتك النصرانية ، في يوم عيدهم ، بشروط :
الأول : ألا تكون هذه الهدية من ذبيحةٍ ذبحت لأجل العيد .
الثاني : ألا تكون مما يستعان به على التشبه بهم في يوم عيدهم ، كالشمع ، والبيض ، والجريد ، ونحو ذلك .
الثالث : أن يصحب ذلك شرح وتوضيح لعقيدة الولاء والبراء لأبنائك ، حتى لا ينغرس في قلوبهم حب هذا العيد ، أو التعلق بالمُهدي .
الرابع : أن يكون قبول الهدية بقصد تأليفها ودعوتها للإسلام ، لا مجاملة أو محبة ومودة .
وفي حال كون الهدية مما لا يجوز قبولها ، فإنه ينبغي أن يصحب رفضها توضيح وبيان لسبب الرفض ، كأن يقال : إنما رفضنا هديتك لأنها ذبيحة ذبحت لأجل العيد ، وهذا لا يحل لنا أكله ، أو أن هذه الأمور إنما يقبلها من يشارك في الاحتفال ، ونحن لا نحتفل بهذا العيد ؛ لأنه غير مشروع في ديننا ، ويتضمن اعتقادا لا يصح عندنا ، ونحو ذلك ، مما هو مدخل لدعوتهم إلى الإسلام ، وبيان خطر الكفر الذي هم عليه .
والمسلم يجب أن يكون معتزا بدينه ، مطبقا لأحكامه ، لا يتنازل عنها حياء أو مجاملة لأحد ، فإن الله أحق أن يُستحيى منه .
وراجعي السؤال رقم ( 947 ) ورقم ( 13642 ) لمزيد الفائدة .
والله أعلم .
===============
سؤال رقم 8798- هل يجوز إجابة دعوة غير المسلم إلى الطعام للتقرب منه (1)
السؤال :
الدعوة إلى الإسلام تستلزم إقامة علاقات شخصية مع الكفار ؛ أولاً لإزالة الغربة والتمهيد للدعوة ، فهل إذا دعاني أحدهم إلى طعام أو شراب ليس من المحرمات ، مثل الجبن والسمك والشاي ، يجوز لي تناوله ؟ إذا كان هناك احتمال استخدام الأوعية قبل ذلك في تناول الخنزير والخمر رغم غسلها بالماء والصابون ؟.
الجواب :الحمد لله
العلاقات بين الناس أنواع ، فإذا كانت علاقة ود ومحبة وإخاء من مسلم لكافر فهي محرمة ، وقد تكون كفراً ، قال الله تعالى : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ) . وما في معناها من الآيات والأحاديث .
وإن كانت علاقة بيع أو شراء أو إجابة دعوة إلى طعام حلال أو قبول هدية مباحة مثلاً ، دون أن يكون في ذلك تأثير على المسلم ؛ فهي مباحة ، وتناول ما قُدِّمَ من الكافر إلى المسلم من الأطعمة والأشربة الحلال جائز ، ولو قدمت في إناء سبق أن استعمل في شراب خمر أو تناول لحم خنزير أو نحو ذلك ؛ إذا كان قد غسل بعد استعماله في محرمات أو نجاسات حتى زال ذلك منه تماماً ، وإذا كان في ذلك إعانة على إبلاغ الدعوة إلى الإسلام كان ذلك أدعى إلى الإجابة والاتصال ، وأرجى للأجر والثواب .
من فتاوى اللجنة الدائمة 12 / 254 .
===============
سؤال رقم 27211- هل يرجع للإقامة في بلاد الكفر ؟ (2)
نصحني كثير من أهل العلم بعدم السكن في بلاد الكفار ( أمريكا ) ، أنا عربي أمريكي عشت طوال عمري في أمريكا وأعمل الآن في إحدى الدول الإسلامية ، الأمور أصبحت صعبة بالنسبة لي لكي أستمر هنا - ( قلة الدخل والسكن ) - ، وأفكر بالعودة لأمريكا ، وسبب رئيسي آخر للعودة هو العناية الصحية المجانية لزوجتي المريضة .
أرجو أن تعطيني جواباً مفصلاً بالدليل من القرآن والسنة ، هل أعاني وأبقى في هذا البلد أم أرجع لأمريكا ؟.
الحمد لله
الأصل هو حرمة الإقامة بين أظهر المشركين وفي ديارهم ، ومن يسَّر الله عز وجل له الخروج من تلك الديار إلى بلاد الإسلام : فلا ينبغي له أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير إلا لعذرٍ قاهر يجيز له الرجوع .
ونحن ننصحك بما نصحك به الآخرون بعدم السكن في بلاد الكفر ، إلا أن تكون مضطراً إلى سكن مؤقت كعلاج لا يتيسر لك في بلاد المسلمين .
واعلم أن من ترك شيئا لله عوَّضه الله خيراً منه ، وأن مع العسر يسراً ، وأنه من يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ، واعلم أن الحفاظ على رأس المال خير من المخاطرة في الربح ، ورأس مال المسلم هو دينه ، فلا يفرِّط فيه لأجل دنيا زائلة .
وللشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - فتوى مفصَّلة في حكم الإقامة في بلاد الكفر ، نذكر منها - الآن - ما يتيسر .
قال الشيخ ابن عثيمين :
الإقامة في بلاد الكفار خطر عظيم على دين المسلم ، وأخلاقه ، وسلوكه ، وآدابه ، وقد شاهدنا وغيرنا انحراف كثير ممن أقاموا هناك فرجعوا
بغير ما ذهبوا به ، رجعوا فُسّاقًا ، وبعضهم رجع مرتدًا عن دينه وكافرًا به وبسائر الأديان - والعياذ بالله - حتى صاروا إلى الجحود المطلق والاستهزاء بالدين وأهله السابقين منهم واللاحقين ، ولهذا كان ينبغي بل يتعين التحفظ من ذلك ووضع الشروط التي تمنع من الهويّ في تلك المهالك .
فالإقامة في بلاد الكفر لابد فيها من شرطين أساسين :
الشرط الأول : أمن المقيم على دينه بحيث يكون عنده من العلم والإيمان ، وقوة العزيمة ما يطمئنه على الثبات على دينه والحذر من الانحراف
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 6407)
(2) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 6893)(1/326)
والزيغ وأن يكون مضمراً العداوة للكافرين وبغضهم مبتعدًا عن موالاتهم ومحبتهم ، فإن موالاتهم ومحبتهم مما ينافي الإيمان قال الله تعالى : { لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يُوادّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } المجادلة / 22 .
وقال - تعالى - : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين . فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمرٍ من عنده فيصبحوا على ما أسروا في
أنفسهم نادمين } المائدة / 51 ، 52 .
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن من أحب قومًا فهو منهم " ، وأن " المرء مع من أحب " .
ومحبة أعداء الله عن أعظم ما يكون خطرًا على المسلم لأن محبتهم تستلزم موافقتهم واتباعهم ، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أحب قومًا فهو منهم "
الشرط الثاني : أن يتمكن من إظهار دينه بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع ، فلا يمنع من إقامة الصلاة والجمعة والجماعات إن كان معه من يصلي جماعة ومن يقيم الجمعة ، ولا يمنع من الزكاة والصيام والحج وغيرها من شعائر الدين ، فإن كان لا يتمكن من ذلك لم تجز الإقامة لوجوب الهجرة حينئذ ، ....
وقال الشيخ ابن عثيمين - في بيان أقسام الناس من حيث الإقامة هناك - :
القسم الرابع : أن يقيم لحاجة خاصة مباحة كالتجارة والعلاج فتباح الإقامة بقدر الحاجة ، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على جواز دخول بلاد الكفار للتجارة وأثروا ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم .
وقال الشيخ - في آخر الفتوى - :
وكيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار تعلن فيها شعائر الكفر ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله وهو يشاهد ذلك بعينه ويسمعه بأذنيه ويرضى به ، بل ينتسب إلى تلك البلاد ويسكن فيها بأهله وأولاده ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى أهله وأولاده في دينهم وأخلاقهم . " مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " ( فتوى رقم 388 ) .
وانظر جواب السؤال رقم ( 14235 ) و ( 3225 ) .
والله أعلم .
==================
سؤال رقم 47322- هل يدعو لصديقه النصراني بالشفاء (1)
لدي صديق نصراني أحبه جدا وهو من النصارى الذين مدحهم القرآن ، وهو الآن مريض جدا فهل يسمح لي الإسلام أن أدعو الله له بالشفاء ؟ .
الحمد لله
عقيدة الولاء والبراء من آكد أصول الدين ، وأوثق عرى الإيمان ، وكما أن الإيمان يزيد وينقص فكذلك تحقيق الناس لهذا الأصل العظيم يزيد وينقص ، وأما هدم هذا الأصل في قلب العبد وترك ما يوجبه على المؤمن من الأعمال فهو هدم للإيمان كله الذي هو مبني على محبة أولياء الله تعالى ، ومعاداة أعدائه ، وقد دل على هذا الأصل عدة آيات من كتاب الله ، وأحاديث من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن ذلك :
قوله تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ ) المجادلة/22 وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً ) النساء/144 وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) المائدة/51 وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) آل عمران/118
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر فلما كان بِحَرَّة
الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم جئت لأتبعك وأصيب معك ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : تؤمن بالله ورسوله ؟ قال : لا ، قال فارجع فلن أستعين بمشرك " رواه مسلم (1817)
بل اتهم الصحابة - رضي الله عنهم - مالك بن الدخشن بالنفاق ، بسبب كثرة صحبته لبعض المنافقين ، ولقائه بهم ، كما ثبت في الصحيحين ( البخاري برقم 415 ، ومسلم 33 )
كل ما سبق وغيره كثير ، يدل على تحريم موالاة الكافرين ، أو محبتهم وتوليهم ، وهذه الموالاة لها صور عدة ، فمنها : الرضا بكفرهم ، أو مخالطتهم مع الأنس بهم أو السكن معهم واتخاذهم أصدقاء وخلان ، أو محبتهم ، أو تقديمهم على المؤمنين أو مودتهم ، أو تحكيم قوانينهم وغير ذلك ، وانظر السؤال رقم ( 2179 )
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 6985)(1/327)
ومما سبق تعلم أن محبة الكافر أمرها خطير جدا ، لأنها تناقض باباً عظيما من أبواب التوحيد ، ألا وهو الولاء للمؤمنين ، والبراء من المشركين .
وقولك إن هذا الكافر من النصارى الذي مدحهم الله في كتابه ، جوابه أن الذين مدحهم الله في كتابه هم صنف معين لهم أوصاف محددة ، وقد بين الله تعالى هذه الأوصاف بعد آية مدحهم مباشرة ، قال تعالى : ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ) ثم قال : ( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ* وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) المائدة/86 فتمام الآيات يبين أن المراد بهؤلاء من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وتأثر بسماع القرآن ودعوته .
قال العلامة عبد الرحمن السعدي في تفسير هذه الآية : " يقول تعالى في بيان أقرب الطائفتين إلى المسلمين وإلى ولايتهم ومحبتهم وأبعدهم من ذلك : لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا .
فهؤلاء الطائفتان على الإطلاق أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين ، وأكثرهم سعيا في إيصال الضرر إليهم ، وذلك لشدة بغضهم لهم بغيا وحسدا وعنادا وكفرا .
( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ) وذكر تعالى لذلك عدة أسباب : منها : أن منهم قسيسين ورهبانا ، أي علماء متزهدين وعبادا في الصوامع متعبدين . والعلم مع الزهد وكذلك العبادة مما يلطف القلب ويرققه ويزيل عنه ما فيه من الجفاء والغلظة ، فلذلك لا يوجد فيهم غلظة اليهود وشدة المشركين .
ومنها : أنهم لا يستكبرون أي ليس فيهم تكبر ولا عتو عن الانقياد
للحق ، وذلك موجب لقربهم من المسلمين ومن محبتهم ، فإن المتواضع أقرب إلى الخير من
المستكبر .
ومنها : أنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر ذلك في قلوبهم وخشعوا للذي تيقنوه ، فلذلك آمنوا وأقروا به فقالوا : ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم يشهدون لله بالتوحيد ولرسله بالرسالة وصحة ما جاءوا به ، ويشهدون على الأمم السابقة بالتصديق والتكذيب .... وهذه الآيات نزلت في النصارى الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسم - كالنجاشي وغيره ، ممن آمن منهم ، وكذلك لا يزال يوجد فيهم من يختار دين الإسلام ،
ويتبين له بطلان ما كانوا عليه ، وهم أقرب من اليهود والمشركين إلى دين الإسلام " [ تفسير السعدي 1 / 511 ]
أما الدعاء للكافرين فينقسم إلى قسمين :
الأول : أن تدعو له بالهداية إلى الإسلام ونحو ذلك ، فهذا جائز ، وقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب ) رواه الترمذي (3681) ، وصححه الألباني ، وهذا دعاء لأحدهما بالهداية
الثاني : أن تدعو له بالمغفرة ونحو ذلك ، فهو حرام بالإجماع . قال النووي : " وأما الصلاة على الكافر والدعاء له بالمغفرة فحرام بنص القرآن والإجماع " [ المجموع 5 / 120 ]
وقال في تحفة المحتاج :" ويحرم الدعاء بأخروي لكافر وكذا من شك في إسلامه ولو من والديه " [ 3 / 141 ]
أما الدعاء له بالشفاء من مرض والعافية منه ، فهو جائز للمصلحة ، كرجاء إسلامه وتأليف قلبه ، ونحو ذلك ، ويدل لهذا حديث الصحابي الذي رقى سيد القوم من لدغة العقرب ، وقد سبق بيانه في السؤال رقم ( 6714 ) ، والدعاء بالشفاء من جنس الرقية .
بل يجوز لك أن تزوره في مرضه هذا ، والإنسان في مرضه يرقُّ قلبه ويضْعُف ، ويقرب قبوله للحق ، وقد كان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلام يهودي يخدمه ، فَمَرِضَ ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ ) رواه البخاري (1356) قال ابن حجر : " وفي الحديث جواز استخدام المشرك وعيادته إذا مرض ، وفيه حسن العهد "
لكن الدعاء للكافر بالشفاء لا يعني موالاته أو محبته أو تقديمه أو مودته كما سبق ذلك ، والله أعلم .
وللمزيد راجع الأسئلة رقم ( 23325 ، 20471 ، 32560 ، 41631 ، 6517 ، 26721 ، 1398 ، 3485 )
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين : عن حكم موالاة الكفار ؟
فأجاب بقوله : موالاة الكفار بالموادة والمناصرة واتخاذهم بطانة حرام منهي عنها بنص القرآن الكريم قال الله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) ،(1/328)
وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ )
وأخبر أنه إذا لم يكن المؤمنون بعضهم أولياء بعض والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ويتميز هؤلاء عن هؤلاء ، فإنها تكون فتنة في الأرض وفساد كبير .
ولا ينبغي أبدا أن يثق المؤمن بغير المؤمن مهما أظهر من المودة وأبدى من النصح فإن الله تعالى يقول عنهم ( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ). ويقول سبحانه لنبيه ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ
الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) والواجب على المؤمن أن يعتمد على الله في تنفيذ شرعه ، وألا تأخذه فيه لومة لائم ، وألا يخاف من أعدائه فقد قال الله تعالى : ( إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ
يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )
وقال تعالى : ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى
اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ) وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( انظر مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين 3 / 31 - 46 ، الولاء والبراء في الإسلام ص 352 ) .
================
سؤال رقم 2179- إيضاح القاعدة العظيمة - " تحريم موالاة الكفّار " (1)
نرجو التوضيح بالأمثلة ما المقصود من العبارة التالية : " موالاة الكفّار حرام " .
الجواب:
الحمد لله
نعم الأمثلة توضّح المقصود وتجلّيه ولذلك ننتقل إليها مباشرة وننقل بعضا من أهمّ ما ذكره أهل العلم وأئمة الدّعوة من صور الموالاة الكفار :
ـ الرضا بكفرهم أو الشك فيه أو الامتناع عن تكفيرهم أو الإقدام على مدح دينهم قال الله تعالى عن كفر الراضي : ( ولكن من شرح بالكفر صدرا ) . وقال تعالى موجبا ومشترطا الكفر بالطاغوت : ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) . وقال عن اليهود في تفضيلهم المشركين على المسلمين: ( ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا).
ـ التحاكم إليهم : كما في قوله تعالى : ( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به )
ـ مودتهم ومحبتهم ، قال تعالى : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حاد الله ورسوله .. الآية )
ـ الركون إليهم والاعتماد عليهم وجعلهم سندا وظهيرا ، قال تعالى : ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) .
ـ إعانتهم ومناصرتهم على المسلمين . قال الله تعالى : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) وقال عن الكفار : ( بعضهم أولياء بعض ) . وقال : ( ومن يتولّهم منكم فإنه منهم ) .
ـ الانخراط في مجتمعاتهم والانضمام إلى أحزابهم وتكثير سوادهم والتجنُّس بجنسياتهم ( لغير ضرورة ) والخدمة في جيوشهم والعمل على تطوير أسلحتهم .
ـ نقل قوانينهم وتحكيمها في بلاد المسلمين ، قال تعالى : ( أَفَحُكم الجاهلية يبغون )
ـ التولي العام لهم واتخاذهم أعوانا وأنصارا وربط المصير بهم ، قال الله تعالى ناهيا عن ذلك ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء . بعضهم أولياء بعض ) .
ـ مداهنتهم ومجاملتهم على حساب الدين ، قال تعالى : ( ودوا لو تدهن فيدهنون ) . ويدخل في ذلك مجالستهم والدخول عليهم وقت استهزائهم بآيات الله ، قال الله تعالى : ( وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويُسْتهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ) .
ـ الثقة بهم واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين وجعلهم مستشارين . قال تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودُّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون . ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضُّوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور . إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها }
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 7253)(1/329)
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ بَدْرٍ فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَوْهُ فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِئْتُ لأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ لا قَالَ فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ قَالَتْ ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَالَ فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ قَالَ ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلِقْ . " رواه مسلم 3388 .
ومن هذه النصوص يتبين لنا تحريم تولية الكفار الأعمال التي يتمكنون بواسطتها من الاطلاع على أحوال المسلمين وأسرارهم ويكيدون لهم بإلحاق الضرر بهم .
ـ توليتهم المناصب الإدارية التي يرأسون بها المسلمين ويذلونهم ويتحكمون في رقاب الموحدين ويحولون بينهم وبين أدائهم عباداتهم . قال الله تعالى ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) ، وروى الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قلت لعمر رضي الله عنه : لي كاتب نصراني ، قال : مالك قاتلك الله ، أما سمعت قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } ( المائدة :51 ) ألا اتخذت حنيفاً ، قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه ، قال : لا أكرمهم إذ أهانهم الله ، ولا أعزهم إذ أذلهم الله ، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله .
وكذلك جعلهم في بيوت المسلمين يطلعون على العورات ويربون أبناء المسلمين على الكفر ومن هذا ما وقع في هذا الزمان من استقدام الكفار إلى بلاد المسلمين وجعلهم عمالاً وسائقين ومستخدمين ، ومربين في البيوت وخلطهم مع العوائل والأسر المسلمة .
وكذلك ضمّ الأولاد إلى المدارس الكفرية والمعاهد التبشيرية والكليات والجامعات الخبيثة وجعلهم يسكنون مع عوائل الكفار .
ـ التشبه بالكافرين في الملبس والهيئة والكلام وغيرها وذلك يدل على محبة المتشبه به ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( من تشبه بقوم فهو منهم ) .
فيحرم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم من عاداتهم ، وعباداتهم ، وسمتهم وأخلاقهم ، كحلق اللحى ، وإطالة الشوارب ، والرطانة بلغتهم إلا عند الحاجة ، وفي هيئة اللباس ، والأكل والشرب وغير ذلك .
ـ الإقامة في بلادهم بغير حاجة ولا ضرورة ، ولهذا فإن المسلم المستضعف الذي لا يستطيع إظهار شعائر دينه تحرم عليه الإقامة بين الكفار إذا كان يقدر على الهجرة ، قال تعالى :{ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً . إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً } .
فلم يعذر الله في الإقامة في بلاد الكفار إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون الهجرة . وكذلك من كان في إقامته مصلحة دينية كالدعوة إلى الله ونشر الإسلام في بلادهم .
فالإقامة بين ظهرانيهم محرمة لغير ضرورة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنا بريء ممن أقام بين ظهراني المشركين ) .
ـ السفر إلى بلادهم لغرض النزهة ومتعة النفس : أمّا الذّهاب لحاجة شرعية - كالعلاج والتجارة وتعلّم التخصصات النافعة التي لا يمكن الحصول عليها إلا بالسفر إليهم - فيجوز بقدر الحاجة ، وإذا انتهت الحاجة وجب الرجوع إلى بلاد المسلمين .
ويشترط للذّاهب في هذه الحالة أن يكون معه علم يدفع به الشبهات وإيمان يدفع به الشهوات وأن يكون مُظهِراً لدينه معتزاً بإسلامه مبتعداً عن مواطن الشر ، حذِراً من دسائس الأعداء ومكائدهم ، وكذلك يجوز السفر أو يجب إلى بلادهم إذا كان لأجل الدعوة إلى الله ونشر الإسلام .
ـ مدحهم والذبّ عنهم والإشادة بما هم عليه من المدنية والحضارة والإعجاب بأخلاقهم ومهاراتهم دون نظر إلى عقائدهم الباطلة ودينهم الفاسد . قال تعالى :{ ولا تمدن عينيك إلى ما متَّعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربِّك خيرٌ وأبقى } .
وكذلك تعظيمهم وإطلاق ألقاب التفخيم عليهم والبدء بتحيتهم وتقديمهم في المجالس وفي المرور في الطرقات ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلا النَّصَارَى بِالسَّلامِ فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ " . رواه مسلم 4030
ـ ترك تاريخ المسلمين والتأريخ بتأريخهم واعتماده خصوصاً التاريخ الذي يعبر عن طقوسهم وأعيادهم كالتاريخ الميلادي ، وهو عبارة عن ذكرى مولد المسيح عليه السلام ، والذي ابتدعوه من أنفسهم وليس هو من دين المسيح عليه السلام ، فاستعمال هذا التاريخ فيه مشاركة في إحياء شعارهم وعيدهم .(1/330)
ولتجنب هذا لما أراد الصحابة رضي الله عنهم وضْع تاريخ للمسلمين في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه عدلوا عن تواريخ الكفار وأرخوا بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على وجوب مخالفة الكفار في هذا وفي غيره مما هو من خصائصهم ـ والله المستعان .
ـ مشاركتهم في أعيادهم أو مساعدتهم في إقامتها أوتهنئتهم بمناسبتها أو حضور أماكنها .
وقد فُسَّر الزور في قوله تعالى :{ والذين لا يشهدون الزور } بأعياد الكفار .
ـ التسمي بأسمائهم المُنكَرة ، وقد غيّر النبي صلى الله عليه وسلم الأسماء الشركية كعبد العزّى وعبد الكعبة .
ـ الاستغفار لهم والترحم عليهم : قال الله تعالى : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ).
فهذه طائفة من الأمثلة التي توضّح قاعدة تحريم موالاة الكفّار ، نسأل الله سلامة العقيدة وقوّة الإيمان والله المستعان
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
================
رقم الفتوى 9896 التعامل مع الكفار (1)
تاريخ الفتوى : 05 جمادي الثانية 1422
السؤال
أعمل في شركة معظم موظفيها من الهندوس مع العلم أن أصحاب الشركة مسلمون ما هو موقف الإسلام من عملي في هذه الشركة مع العلم بأنني أتعامل معهم بود ولطف نظراً لطبيعة عملي.
أرجو الإفاده لأنني قلق جدا ودائم التفكير في الموضوع.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فأما بخصوص عملك في الشركة المذكورة، فلا حرج فيه إذا كان مجال عملها قاصراً على ما أذن فيه شرعاً.
وأما عن كيفية تعاملك مع من ذكرت من الهندوس، فإنها حالهم هم معك، ومع غيرك من المسلمين، فمن كان منهم مجاهراً بمحادة الله ورسوله معلنا لذلك، أو معروفاً بسوء معاملته للمسلمين لأجل إسلامهم لا لموجب عداوة دنيوية، فالواجب على المسلمين إظهار عداوته، قال تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة:9].
ولا يرخص في معاملتهم بالحسنى إلا لاتقاء شرهم إن كان لهم بأس، قال تعالى: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران:28].
أما من كان منهم كافاً لشره عن المسلمين، فالواجب معاملته بالحسنى، قال تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8].
قال الإمام القرطبي: هذه الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم.اهـ.
وفي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال: "نعم صلي أمك".
وبموجب هذا التفصيل تتحدد طريقة تعاملك معهم إما بالحسنى، وإما بإظهار العداوة، مع أنه يجب التنبه إلى أن المعاملة الحسنى لا تقتضي محبتهم وموادتهم، قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة:22].
والفرق بين البر بهم والإحسان إليهم، وبين موادتهم وموالاتهم، أن عقد الذمة يوجب حقوقاً علينا لهم، لأنهم في جوارنا، فوجب علينا أن نبرهم بكل أمرٍ لا يكون ظاهره دالاً على مودّات القلوب، وتعظيم شعائر الكفر، فمتى أدى إلى أحد هذين امتنع وصار من قبيل ما نهي عنه في الآية الأخرى، ويتضح ذلك بالمثال: فإخلاء المجالس لهم عند قدومهم علينا، والقيام لهم حينئذ، ونداؤهم بالأسماء العظيمة الموجبة لرفع شأن المنادى بها، هذا كله حرام.
وأما ما أمر به من برهم من غير مودة باطنية، فمن أمثلته الرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وإكساء عاريهم، ولين القول لهم على سبيل اللطف والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفاً منا بهم لا خوفاً وتعظيماً، والدعاء لهم بالهداية، وكل خير يحسن أن يفعله الأعلى للأسفل، فإن ذلك من مكارم الأخلاق، فجميع ما نفعله معهم من ذلك ينبغي أن يكون من هذا القبيل، لا على وجه العزة والجلالة منا، ولا على وجه التعظيم لهم وتحقير أنفسنا بذلك الصنيع لهم، وينبغي لنا أن نستحضر في قلوبنا ما جبلوا عليه من بغضنا، وتكذيب نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنهم لو قدروا علينا لاستأصلوا شأفتنا، واستباحوا دمائنا وأعراضنا وأموالنا، وأنهم من أشد الناس معصية لربنا ومالكنا عز وجل، ثم نعاملهم بعد ذلك بما تقدم ذكره امتثالاً لأمر ربنا، وأمر نبينا صلى الله عليه وسلم لا محبة فيهم، ولا تعظيماً لهم، ولا نظهر آثار تلك الأمور التي نستحضرها في قلوبنا من صفاتهم الذميمة، لأن عقد العهد يمنعنا من ذلك، فنستحضرها حتى يمنعنا استحضارها من الود الباطن المحرم علينا.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه د
================
رقم الفتوى 10327 حكم السكن مع أهل الكتاب في بيت واحد (2)
تاريخ الفتوى : 28 جمادي الثانية 1422
السؤال
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 4923)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 174)(1/331)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وجزاكم الله خيرا على ماتقدموه لخدمة الإسلام والمسلمين ونفع الله بعلمكم.
أمابعد: فسؤالي هو: ذهبت لزيارة قريب لي فوجدته يقيم في منزل يسكنه نصارى ووجدتهم يأكلون مجتمعين
فهل يجوز الأكل معهم والنوم في فراشهم وهل تجوز الصلاة في هذا المنزل مع العلم أن المنزل مملوء بالصور والمسجد بعيدا عن المنزل ، أفيدونا جزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإنه يجب على المسلم أن يحذر من مخالطة النصارى واليهود، والسكن معهم، والركون إليهم، واتخاذهم أصدقاء وخلان، فإن الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة:51].
وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) [آل عمران:118].
وقال سبحانه: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) [هود:113].
وقال صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله"رواه أبو داود بسند حسن.
وقال: "أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله ولم؟ قال: لا تتراءى ناراهما" رواه أبو داود والترمذي.
قال الشوكاني: (قوله: "فهو مثله" فيه دليل على تحريم مساكنة الكفار، ووجوب مفارقتهم).
وقال: (قوله: " لا تتراءى ناراهما" يعني: لا ينبغي أن يكونا بموضع بحيث تكون نار كل واحد منهما في مقابلة الأخرى على وجه لو كانت متمكنة من الأبصار لأبصرت الأخرى، فإثبات الرؤية للنار مجاز).
فالواجب عليك أن تنصح لقريبك، وأن تحذره من هذه الإقامة التي تفضي غالباً إلى المودة والمحبة، وقد قال الله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة:22].
ويجب على الرجل أن يصلي الصلوات الخمس في جماعة، إلا إذا كان المسجد بعيداً عنه، بحيث لا يسمع الأذان، فيصلي في بيته في موضع لا تصاوير فيه. والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
================
رقم الفتوى 11768 الأخ أو القريب الكافر... صلة أم قطيعة (1)
تاريخ الفتوى : 19 رمضان 1422
السؤال
1- هل يجب علي صلة الأخ ( الشقيق ) الكافر
الذي يكره سماع القرآن ويكره الصلاة والصيام أو حتى تذكيره بهم. ويهزأ منهم وممن يداوم عليهم؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا تجب صلة القريب الكافر ومودته، سواء كان أخاً شقيقاً أو غيره لانقطاع الصلة بينه وبين قريبه المسلم، كما قال تعالى عن نوح وابنه: (قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) وقال تعالى عن إبراهيم وأبيه (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه)[هود:46] وقال تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان)[المجادلة:22]
ولكن تجوز صلته بما يباح من أمر الدنيا، وتقديم الهدية له، ونحو ذلك، خصوصاً إذا رجي من وراء ذلك تأليفه على الإسلام، قال الله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)[الممتحنة:8]
وقال تعالى في حق الوالدين الكافرين: (وصاحبهما في الدنيا معروفاً)[لقمان:15] وقال البخاري في صحيحه: (باب صلة الوالد المشرك، وروى بسنده عن أسماء رضي الله عنها قالت: أتتني أمي راغبة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أصلها؟ قال: "نعم" قال ابن عيينة: فأنزل الله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين) ا.هـ
وقال البخاري رحمه الله: "باب صلة الأخ المشرك، وروى بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأى عمر حلة سيراء تباع فقال: يا رسول الله ابتع هذه، والبسها يوم الجمعة، وإذا جاءك الوفود، قال: "إنما يلبس هذه من لا خلاق له" فأتي النبي صلى الله عليه وسلم منها بحلل، فأرسل إلى عمر بحلة فقال: كيف ألبسها؟ وقد قلت فيها ما قلت. قال: "إني لم أعطكها لتلبسها، ولكن لتبيعها أو تكسوها" فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم. وروى البخاري أيضاً عن عمرو بن العاص قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جهاراً غير سر يقول: "إن آل أبي "فلان" ليسوا بأوليائي، إنما وليي الله وصالح المؤمنين"
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 924)(1/332)
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (قال ابن بطال: أوجب في هذا الحديث الولاية بالدين، ونفاها عن أهل رحمه إن لم يكونوا من أهل دينه، فدل ذلك على أن النسب يحتاج إلى الولاية التي يقع بها الموارثة بين المتناسبين، وأن الأقارب إذا لم يكونوا على دين واحد لم يكن بينهم توارث ولا ولاية، قال: ويستفاد من هذا أن الرحم المأمور بصلتها، والمتوعد على قطعها هي التي شرع لها ذلك، فأما من أمر بقطعه من أجل الدين فيستثنى من ذلك، ولا يلحق بالوعيد من قطعه، لأنه قطع من أمر الله بقطعه، لكن لو وصلوا بما يباح من أمر الدنيا لكان فضلاً.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
رقم الفتوى 15087 لا يجتمع في القلب الإيمان بالله وحب أعداء الله (1)
تاريخ الفتوى : 25 محرم 1423
السؤال
ما حكم من يحب الروس ويفخر بزعمائهم ويتمنى أن يعيش في روسيا؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالمعروف أن زعماء الروس كفرة ملاحدة، بل هم أكفر أهل الأرض، فإنهم شيوعيون لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. ويكذبون بما جاءت به الرسل عن ربهم، ويعتقدون فيهم شر اعتقاد، ومحبة هؤلاء الزعماء والتمني للعيش معهم وعندهم مما يدل على فساد عقيدة الولاء والبراء التي فصلها الله عز وجل في كتابه تفصيلاً. بل لا يعرف موضوع في القرآن الكريم أثرى منها مادة، ولا أكثر منها تفصيلاً. وذلك لأنها تمس أساس التوحيد وأصل الملة، وجوهر الدين.. ومن هذه الآيات المتعلقة بهذا المعنى قوله تعالى: ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم )[المجادلة:22] قال القاسمي -رحمه الله- في تفسيره لمعنى: حاد الله ورسوله، أي شاقهما وخالف أمرهما. فلا يجتمع إيمان خالص وحب لأعداء الله ورسوله. انتهى.
وقد ورد في هذا المعنى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: والذي نفس ابن عمر بيده لو أصبحت أصوم النهار لا أفطر، وأقوم الليل لا أفتر، ثم لم أصبح وأنا أحب أهل الطاعة وأبغض أهل المعصية لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار ولا يبالي.
فالواجب على المسلم أن يحب ما يحبه الله ورسوله، ويبرأ مما يبرأ منه الله ورسوله.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
================
رقم الفتوى 17836 جنس العمل شرط في صحة الإيمان (2)
تاريخ الفتوى : 06 ربيع الثاني 1423
السؤال
هل العمل في الإيمان شرط كمال أم شرط صحة مع الدليل و جزاكم الله خيرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالإيمان كما هو معروف عند أهل السنة والجماعة: قول وعمل، قول القلب وقول اللسان، وعمل القلب وعمل اللسان.
وقول القلب هو: الاعتقاد والتصديق، وعمله هو: الإخلاص والحب والخوف والرجاء وسائر أعمال القلوب التي هي واجبة باتفاق أئمة الدين.
وقول اللسان هو: النطق بالشهادتين والإقرار بلوازمهما، وعمل الجوارح ما لا يؤدى إلا بها، وهي تابعة لأعمال القلوب ولازمة لها.
فالقلب إذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، وعدم الأعمال الظاهرة دليل على انتفاء الأعمال الباطنة، يقول الله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22]. وقال تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة:81]. فالباطن والظاهر كما هو واضح في الآيات متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، إذا تقرر ذلك فالذي يعد شرطا في صحة الإيمان هو جنس العمل، فترك جنس العمل مخرج من الملة، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
قوله تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47].
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية : فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل وإن كان قد أتى بالقول. انظر الفتاوى 7/142.
ويقول في موضع آخر: من الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يصوم رمضان ولا يؤدي لله زكاة ولا يحج لله بيته، فهذا ممتنع ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح.
ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار كقوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ*خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم،42-43]. مجموع الفتاوى 7/611.
أما العمل الذي هو شرط في كمال الإيمان فهو آحاده وأفراده، فمن ترك واجباً من الواجبات الشرعية أو ارتكب معصية، نقص إيمانه لكن لا يزول بالكلية. والأدلة على ذلك كثيرة، منها قول الله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]. فسماهم مؤمنين رغم اقتتالهم وهو من الكبائر، فالإيمان عند أهل السنة شعب متفاوته -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- وكل شعبة تسمى إيماناً، وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة شهادة التوحيد، ومنها ما لا يزول بزوالها كترك أماطة الأذى عن الطريق.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
================
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 2786)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 4542)(1/333)
رقم الفتوى 20995 مخاطر مصادقة الملحد (1)
تاريخ الفتوى : 05 جمادي الثانية 1423
السؤال
ما حكم الشرع في من يصاحب ملحدا؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن مصاحبة أصدقاء السوء خطر عظيم، وبلاء كبير يعرض الإنسان لأنواع من المفاسد في دينه ودنياه.
ومن هذه المفاسد:
1-أن الإنسان مجبول على الاستفادة من أصدقائه والتأثر بهم، وكما قيل: الطباع سراقة.. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل " رواه أحمد وأبو داود والترمذي
2-أن الصديق السيء يتبرأ من صاحبه يوم القيامة، كما قال سبحانه: ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) [الزخرف:67]
3-أن المرء يكون يوم القيامة مع من أحب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " المرء مع من أحب " متفق عليه.
فهل يرضى مسلم أن يكون يوم القيامة مع ملحد؟!
4-أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه الجليس السوء بنافخ الكير الذي يضر جليسه، فيحرق ثيابه أو يشم منه رائحة كريهة، ولا أعظم ضرراً من الجلوس مع ملحد بمرض القلب، وربما قذف في قلب صاحبه شيئاً من الشبهات.
5-ومن المفاسد: تشويه صورة الإنسان بصحبته للملحد، وربما ظن الناس أنه مثله في السوء. وقديما قيل:
عن المرء لا تسل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
وإضافة إلى هذه المفاسد، فإن المؤمن مطالب بالبراءة من الكافرين والملحدين، وألا يكون في قلبه مودة لهم، كما قال سبحانه: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) [المجادلة:22] وقال سبحانه: ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) [التوبة:73] وقال سبحانه: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) [هود: 113]
والحاصل أن المصادق للملحد على خطر عظيم، ويخشى على قلبه ودينه.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
================
رقم الفتوى 22048 لا تقطع إحسانك ولتكن نيتك تحبيب الخلق للإسلام (2)
تاريخ الفتوى : 02 رجب 1423
السؤال
كنت دائما عندما أكون سائرا في الطريق بسيارتي أقل كل من يؤمىء لي بأن آخذه معي إلى حيث يريد وكنت لا أفرق بين مسلم وغير مسلم وذلك عملا بفضل الظهر وأن فى كل كبد رطب أجر إلا أنني وبعد ما حدث من مضايقات للمسلمين بعد أحداث 11 سبتمبر عزفت عن نقل من أتأكد من أنه غير مسلم وذلك من حقي عليهم بما يلقاه إخواننا المسلمون في شتى بقاع الأرض هل يمكن أن آثم في ذلك لأنني خالفت قول رسول الله من كان له فضل ظهر ليتصدق به على من لا ظهر له أفيدونى يرحمكم الله
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
ننبه أولاً إلى الفرق بين مودة الكافر، وبين البر والإحسان إليه، فإن كثيراً من الناس يخلط بين المسألتين.
فمودة الكافر محرمة؟ لقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُم [المجادلة:22].
وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ [الممتحنة:1].
وأما البر والقسط والإحسان فجائز لغير المحاربين منهم، لقوله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8].
والتصدق على من لا ظهر له بحمله ليس واجباً، فلا تأثم بتركه، لكن يفوتك الفضل والأجر.
والذي نراه أن تواصل برك وإحسانك وأن تحتسب ذلك عند الله تعالى، وأن يكون من نيتك في ذلك: دعوة هؤلاء إلى الإسلام، وترغيبهم فيه، وإظهار كرم المسلم ورحمته وشفقته، ولعلك تستعين ببعض الجهات الدعوية لتزويدك بشيء من الأشرطة أو النشرات المرغبة في الإسلام، لتهديها لمن يركب معك سيارتك، ونسأل الله أن يأجرك، ويوفقنا وإياك لطاعته ومرضاته.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
================
رقم الفتوى 23135 ضوابط التعامل مع النصارى لمن ابتلي بالعمل أو السكن معهم. (3)
تاريخ الفتوى : 25 رجب 1423
السؤال
أعمل طبيبة ولنا في المستشفى سكن يشترك فيه معنا بعض النصرانيات، فهل لي أن استعمل حاجياتهم وأن أسمح لهم باستخدام حاجياتي؟؟؟ وهل لي أن آ كل من طعامهم وشرابهم أو طعام من شرائهم؟؟؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالتعامل مع أهل الكتاب تحكمه ضوابط عامة، أهمها:
1- اعتقاد أن كل من دان بغير الإسلام فهو كافر، سواء كان نصرانيًّا أو يهوديًّا أو وثنيًّا أو لا دين له .
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 1098)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 2107)
(3) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 3134)(1/334)
2- أنه لا يجوز موالاة الكافر ولا مودته، لنهي الله تعالى عن ذلك في آيات كثيرة منها قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51]. وقوله: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]. وقوله: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22].
3- جواز البر والقسط لمن لم يكن منهم محاربًا للمسلمين، لقوله سبحانه: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8].
4- جواز الأكل من ذبائحهم بشرط أن يكونوا أهل كتاب يهوداً أو نصارى، وبشرط ألا تكن ميتة أو منخنقة أو موقوذة، وإنما ذبحت ذبحًا شرعيًّا . كما أن طعام المسلم حلال لهم، لقوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [المائدة:5]. فللمسلم أن يأكل من ذبائحهم ومن سائر طعامهم إذا خلا من محرم كالخمر أو الخنزير أو النجس أو الشيء الضار.
5- أن يحذر المسلم من الاستماع إلى شبهاتهم أو النظر في كتبهم إلا إذا كان لمصلحة الرد عليها، من مختص متمكن من معرفة الحق وتفنيد الباطل.
6- أن تحذر المسلمة من كشف محاسنها أمام نسائهم؛ لأنهم لا يؤتمنون على ذلك، وقد يصفن المسلمة لإخوانهنَّ أو أصدقائهنَّ، أو يحسدن المسلمة على ذلك، والحسد قريب إلى قلب الكافر الذي لا يستضيء بنور الإيمان. ومن هؤلاء الكافرات من يعمد إلى عمل السحر للمسلمات، مكرًا منهنَّ وكيدًا، فيجب الحذر من ذلك.
7- أن يحرص المسلم على دعوة هؤلاء إلى الإسلام، وأن تكون تصرفاته معهم نابعة من هذا الهدف العظيم، فله أن يزورهم وأن يعود مرضاهم وأن يعيرهم بعض أغراضه مما يحتاجون إليه ، بهذه النية الحسنة، وهي ترغيبهم في الإسلام وإيقافهم على أخلاق أهله بشرط ألاَّ يستعينوا بشيء من هذه الأغراض على ما حرم الله تعالى، فلا تعار السكين لمن علم أو غلب على الظن استعماله لها في الخنزير .. وهكذا.
8- يجب أن يكون المسلم معتزًا بدينه، متمسكًا بإسلامه في جميع مواقفه، ولا يخجل من بيان الحق، وإيضاح موقف الدين في كل قضية يقع الاختلاف فيها، وأن يستعين بأهل العلم في ذلك إذا لم يمكنه هذا بنفسه، وأن يحرص المسلم على إظهار شعائر الإسلام من الصلاة والصيام وقراءة القرآن.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=================
رقم الفتوى 26155 الصحابي الذي قتل أباه في معركة أحد (1)
تاريخ الفتوى : 12 شوال 1423
السؤال
من هو الصحابي الذي قتل أباه في معركة أحد؟
(مع ذكر القصة كاملة).
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالصحابي الذي روي أنه قتل أباه هو: أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه، والذي ورد أنه قتله في غزوة بدر، روى الطبراني والحاكم والبيهقي أن أبا عبيدة قتل أباه الجراح يوم بدر، جعل يتصدى له، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله، فنزل قول الله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22].
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==================
رقم الفتوى 32583 البغض القلبي للوالد المقصر تجاه الله هل ينافي البر (2)
تاريخ الفتوى : 25 ربيع الأول 1424
السؤال
السلام على إخوتي في الإسلام بدأت أرى أشياء كثيرة من والدي من تقصير تجاة ربه وأهله وبيته، مع العلم بأنه كان مأذوناً يوماً ما وإلى الآن وأنا أرى الظلم الذي يعامل به أمي وأنا لأني في صفها ومن حبي الكثير لها بدأت أحس أنني لا أحب أبي كما يجب كما أني دعوت عليه من ظلمه لي لأنني أحب أمي من بين إخوتي هذا الحب كله، مع العلم بأنه يشرب ولا يصلي ولا حتى يصوم رمضان، ادعاؤه أنه مريض، فهل آأثم أنني لا أحبة كابنة فقط أعامله كما أمر الله عز وجل، وما زاد كرهي له أنه فرق بيني وبين أخي الوحيد متعمداً، وكان بإمكانه أنه هو من يتعامل معي وليس أخي بالموقف الذي حصل مني خطأ ولكنه أطلع أخي على هذا الخطأ وأن أبي هو الأب المسكين المغلوب على أمره وليس له يد في ذلك فهل آثم على ما في قلبي تجاه أبي؟
الفتوى
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 6280)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 2841)(1/335)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فإن كان أبوك كما ذكرت في سؤالك لا يصلي ولا يصوم ويتعامل مع أمك بالظلم ونحو ذلك، فواجبك تجاهه كالآتي: 1- بره في المعروف والإحسان إليه قدر الاستطاعة مع إسداء النصيحة والكلمة الطيبة الصادقة برفق ولين وحكمة في الوقت المناسب، ويمكنك تقديم شيء يقرؤه من الكتيبات أو المطويات أو الأشرطة المسموعة النافعة إن أمكن، واستعيني عليه بمن له تأثير عليه في نصحه وإرشاده عسى الله أن يهديه ويشرح صدره، فإن القلوب بيد الله عز وجل يقلبها كيف يشاء. 2- بغضه في القلب؛ لما فيه من الشر والظلم لاسيما على قول من يرى كفر تارك الصلاة، فإن محبته محرمة؛ لقول الله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22]. والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=================
رقم الفتوى 35580 أصناف الناس في الولاء والبراء، ومظاهر موالاة المؤمنين (1)
تاريخ الفتوى : 03 جمادي الثانية 1424
السؤال
بحث عن كلمة الولا والبراء من نوالي ومن نعادي؟ وما هي مظاهر الموالاة وأقسام الناس من الولاء والبراء؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فأما معنى الولاء والبراء، ومن تجب علينا موالاتهم، ومن تجب علينا معاداتهم، فقد سبق مع أدلته في الفتوى رقم: 32852 وغيرها من الفتاوى فراجعها. أما مظاهر الموالاة للمؤمنين فكثيرة يجمعها قول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات:10]. وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الجامع الذي يقول فيه: ~لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.~~ متفق عليه. ومن هذه المظاهر حب المؤمنين، ومحبة الخير لهم، ونفعهم بما يستطاع، والإحساس بآلامهم ومعاناتهم، ونصرتهم، والنصح لهم، ومواساتهم، والوقوف معهم في سرائهم وضرائهم. وإن كان المقصود مظاهر موالاة الكفار، فهي كثيرة منها ما هو كفر ومنها ما هو كبيرة، ومنها ما هو دون ذلك. وأعظم ذلك المحبة القلبية لهم ولدينهم، ومناصرتهم على المسلمين، والإعجاب بثقافاتهم وما هم عليه من الهدى والسلوك. أما أصناف الناس في الولاء والبراء فهي أقسام: الأول: من تجب موالاتهم موالاة خالصة لا بغض ولا معاداة فيها، وهم الأنبياء والصحابة والأئمة المشهود لهم بالإمامة في العلم والعمل من التابعين فمن بعدهم. الثاني: من تجب البراءة منهم براءة خالصة لا محبة ولا موالاة فيها، وهم كل من حادَّ الله وبارزه بالعداء. قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ[المجادلة:22]. الثالث: من تجب موالاتهم من وجه ومعاداتهم من وجه آخر وهم عصاة المؤمنين، يوالون ويحبون بقدر ما فيهم من الطاعة، ويعادون ويبغضون بقدر ما فيهم من
المعصية. والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
===============
رقم الفتوى 37086 الإحسان إلى الكافرلا يستلزم مودته (2)
تاريخ الفتوى : 12 رجب 1424
السؤال
في سورة لقمان آية رقم15(وان جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا) وفى سورة المجادلة آية رقم 22(لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم) نجد في السورة الأولى أنها تحث على مصاحبة الأبوين مهما فعلا حتى لو جاهدا على الشرك بالله وفي الصورة الثانية تجب محاربة الأبوين نرجو التفسير ولكم الشكر.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فإنه لا تعارض بين الآيتين المذكورتين، وذلك لأن آية المجادلة تفيد أن موادة من يعلم أنه محاد لله ورسوله، تنافي الإيمان، ولو كان أقرب الناس، وآية لقمان تفيد وجوب بر الوالدين والإحسان إليهما ولو كانا مشركين، والإحسان إلى الكافر وبره، لا يستلزم مودته ومحبته وموالاته. لقول الله عز وجل: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]. قال الطبري: ^لا معنى لقول من قال ذلك منسوخ، لأن بر المؤمن بمن بينه وبينه قرابة نسب من أهل الحرب أو بمن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب، غير محرم ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام.^^ والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
===============
رقم الفتوى 43019 الهجرة من بلاد الكفر إذا خشي على نفسه الفتنة (3)
تاريخ الفتوى : 21 ذو القعدة 1424
السؤال
. أعيش في الغرب و حائرة كيف أتعامل مع غير المسلمين دون أن أغرس كره الإسلام في قلوبهم (إذا انطويت كلياعلى نفسي) و دون أن أفقد هويتي كمسلمة,
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 5357)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 6687)
(3) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 2096)(1/336)
2 .أيضا كيف السبيل للحفاظ على الأبناء في مثل هذه المجتمعات دون أن يشعروا بالغربة في بلاد نشأتهم (أي بلاد الغرب)؟ هل منعهم من مخالطة غير المسلمين هو الحل؟ أم كيف السبيل لتريتهم خاصة إذا كان الوالدان مضطرين للعيش في الغربة لظروف قاهرة؟
أفيدونا مأجورين.
الفتوى
الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فمن لا يستطيع أن يقيم شعائر دينه في بلاد الكفر أو كان يخشى على نفسه الفتنة، فإنه لا يجوز له البقاء في تلك الديار، ويجب عليه أن يهاجر عنها إذا استطاع ذلك، ومن كان يستطيع أن يقيم شعائر دينه ويأمن على نفسه، فإنه يستحب له أن يهاجر عن دارهم.
وأما عن التعامل مع غير المسلمين في دار الكفر، فلا بد من أن يتضح عند كل مسلم أن الولاء والبراء -أي الحب في الله والبغض في الله- هو أوثق مراتب الإيمان، فلا بد من بغض من أبغضهم الله.
قال الله سبحانه: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22]، ولا يلزم من هذا إساءة الخلق معهم، بل ينبغي أن يتعامل معهم بالحسنى ويدعو إلى الإسلام بالرفق واللين، ولا تجوز مخالطتهم حال معصيتهم إلا لأجل دعوتهم ونهيهم عن المنكر، وبهذا يكون قد جمع المسلم بين إعطاء صورة جيدة عن الإسلام لدى الكفار وبين المحافظة على الهوية والذات، وأما عن الأولاد، فإن الأمر أشد خطورة، ولذا، فلا بد من الحرص عليه وتنشئتهم التنشئة الإسلامية وإدخالهم المدارس الإسلامية، وتهيئة البيئة الصالحة والأصدقاء الصالحين لهم، فإذا لم يمكن ذلك ورأى المرء أن أولاده قد انحرفوا وانصهروا في المجتمع الكافر، فإن الهجرة حينئذ لازمة ولا محالة "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب" ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، وراجعي لمزيد فائدة الفتاوى التالية: 2007 ، 30837 ، 10875 .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============
رقم الفتوى 47321 ضوابط العلاقة بين المسلم وغيره (1)
تاريخ الفتوى : 27 صفر 1425
السؤال
السؤال الأول:ما هي حدود العلاقة بين المسلم و المسيحي؟في كل شيء أرجو التوضيح؟
السؤال الثاني:ما مدى صحة هذا الكلام :
ورد في بعض الآثار أن الله عز وجل أرسل ملك الموت ليقبض روح امرأة من الناس
فلما أتاها ملك الموت ليقبض روحها وجدها وحيدة مع رضيع لها ترضعه وهما في صحراء قاحلة ليس حولهما أحد ،
عندما رأى ملك الموت مشهدها ومعها رضيعها وليس حولهما أحد وهو قد أتى لقبض روحها ،
هنا لم يتمالك نفسه فدمعت عيناه من ذلك المشهد رحمة بذلك الرضيع ،
غير أنه مأمور للمضي لما أرسل له
فقبض روح الأم ومضى ;كما أمره ربه:لا يعصون الله ما أمرهم. ويفعلون ما يؤمرون
بعد هذا الموقف- لملك الموت - بسنوات طويلة أرسله الله ليقبض روح رجل من الناس ،
فلما أتى ملك الموت إلى الرجل المأمور بقبض روحه وجده شيخاً طاعناً في السن متوكئاً على عصاه عند حداد ويطلب من الحداد أن يصنع له قاعدة من الحديد يضعها في أسفل العصى حتى لا تحته الأرض ويوصي الحداد بأن تكون قوية لتبقى عصاه سنين طويلة .
عند ذلك لم يتمالك ملك الموت نفسه ضاحكاً ومتعجباً من شدة تمسك وحرص هذا الشيخ وطول أمله بالعيش بعد هذا العمر المديد ،ولم يعلم بأنه لم يتبقى من عمره إلاَّ لحظات .
فأوحى الله إلى ملك الموت قائلاً: فبعزتي وجلالي إن الذي أبكاك هو الذي أضحكك .
!!!!!!!!!!!!!! سبحانك ربي ما أحكمك سبحانك ربي ما أعدلك سبحانك ربي ما أرحمك !!!!!!!!!!!!!!!!!! نعم!! ذلك الرضيع الذي بكى ملك الموت عندما قبض روح أمه هو ذلك الشيخ الذي ضحك ملك الموت من شدة حرصه وطول أمله
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالعلاقة بين المسلم وغيره يجب أن تكون مضبوطة بالضوابط التي حددها الشرع، وخاصة في هذا الزمان الذي التبست فيه الأمور وكثر الجهل بالدين واختلط الحابل بالنابل وأصبح المسلمون لا يتميزون عن غيرهم في مظهرهم العام أو مخبرهم الخاص.
والعلاقة مع أهل الكتاب إذا كانوا مسالمين غير محاربين يجب أن يكون أساسها البر إليهم والعدل معهم والإنصاف لهم.
كما قال الله تعالى: [ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( الممتحنة: 8-9).
ولا مانع شرعا من التعامل معهم في المال أو الإجارة... وعيادة مريضهم وتعزيتهم عند المصيبة وتهنئتهم عند حدوث نعمة.. قال شيخ الإسلام: يعاد الذمي ويعرض عليه الإسلام.
وقال البخاري: "باب الهدية للمشركين".
ولكن لا تجوز الهدية لهم وتهنئتهم بمناسبة أعيادهم الدينية، لما في ذلك من الإقرار لهم على الباطل والرضى بعقائدهم الفاسدة.
قال الحافظ في "الفتح": والبر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتوادد المنهي عنه في قوله تعالى : [ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ ] (المجادلة: 22).
وكذلك لا مانع شرعا من أن يتزوج الرجل المسلم منهم إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 7 / ص 276)(1/337)
والحاصل أنه لا مانع شرعا أن يتعامل المسلم مع الكفار إذا كانوا مسالمين بالضوابط الشرعية، ولكن عليه أن يحذر من موالاتهم والرضى بكفرهم..
ولمزيد من الفائدة، نرجو الاطلاع على الفتويين التاليين: 19652 ، 23035 .
وأما الأثر المذكور فلم نقف عليه فيما اطلعنا عليه.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============
رقم الفتوى 49403 الواجب تجاه من لا يصلي ويتلفظ بالكفر (1)
تاريخ الفتوى : 12 ربيع الثاني 1425
السؤال
لي أخ أصغر سنا مني لايصلي وهو كثير التلفظ بالكفر نعوذ بالله من الكفر ما حكم تركي له ونبذه والتبرؤ منه علما أن والدتي تسكن معه ولا تقف معي ضده
أفيدونا أفادكم الله
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن تارك الصلاة تجب مناصحته ووعظه وتحذيره من العقوبات المترتبة على ترك الصلاة في الدنيا والآخرة، لعله يتوب إلى الله تعالى، فإن لم يفد ذلك وجب هجره والابتعاد عنه إن كان هجره يفيد في إرجاعه إلى صوابه، فإن كان يزيده بعدا وتماديا على عصيانه فلا فائدة فيه حينئذ، ولتفصيل أحكام تارك الصلاة يرجى مراجعة الفتوى رقم: 1145 ، ولبيان ما ينبغي أن تعمل معه راجع الفتوى رقم: 21708 ، فإن كان مع تركه الصلاة يتكلم بألفاظ الكفر، فإنه والعياذ بالله تعالى مرتد عن الإسلام، ولا ينبغي التعاطف معه من قبل الأم، بل يجب نبذه والتبرؤ منه حتى يرجع إلى الإسلام.
قال تعالى: [ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ] (المجادلة: 22).
وقد قرر أهل العلم أن الإنسان إذا صدر منه قول فيه إهانة أو سب لما هو معظم شرعا كسب الله أو الملائكة أو الرسل ونحو ذلك فإنه يعد كافرا بالإجماع.
قال القاضي عياض: اعلم أن من استخف بالقرآن أو المصحف أو بشيء منه أو سبهما فهو كافر عند أهل العلم بإجماع . انتهى.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
===============
رقم الفتوى 52996 ليس في القرآن ما يدعو إلى مودة أهل الكتاب (2)
تاريخ الفتوى : 21 رجب 1425
السؤال
أود أن أسأل كيف نوفق بين النصوص من القرآن التي تؤكد على معاني المودة والمجاملة الحسنة مع أهل الكتاب وبين النصوص الأخرى من القرآن التي تتعارض معها مثل النص الذي يقول قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فليس في القرآن ما يدعو إلى مودة أهل الكتاب، إنما الذي فيه هو النهي عن هذه المودة والإذن في الإحسان والبر إلى أهل العهد منهم، ومعلوم أن الإحسان إلى أهل العهد منهم لا يستلزم مودتهم. قال تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {المجادلة: 22}.
وقال تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {الممتحنة: 8-9} .
قال الشوكاني: ومعنى الآية أن الله لا ينهى عن بر أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المسلمين على ترك القتال وعلى أن لا يظاهروا الكفار عليهم، وبهذا يتضح لك أنه لا تعارض بين الأمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية وبين الإذن في الإحسان إلى أهل العهد منهم الذين التزموا ترك القتال، وراجع للأهمية الفتويين التاليتين: 37086 ،19652 .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=================
رقم الفتوى 54607 حكم الزواج ممن أسلم بالاسم فقط (3)
تاريخ الفتوى : 29 شعبان 1425
السؤال
أنا بنت تعرفت علي شاب مسيحي, وطلب الزواج مني وأشترطت أن يسلم ووافق على إعلان إسلامه أمام الجميع ولكن لا يلتزم بالدين الإسلامي, يعني بالاسم فقط, ولكن مبدئيا هذا الكلام حيث إنني اقنعته أن يصوم من رمضان عدة أيام, وإن شاء الله سأقوم بنصحه ودعوته أكثر فأكثر! ولكن هل يجوز أن أتزوج منه علما كما ذكرت أنه لن يلتزم بالدين كصلاة وصوم؟؟ وكما أنني ساحاول معه وأقنعه بشكل تدريجي إلى أن يشاء الله ويهديه!! حيث إن بنت عمتى تزوجت من مسيحي وكان نفس الشيء لا يريد الالتزام والآن هو أصبح من أكبر الدعاة بألمانيا
هل يجوز الزواج منه ؟؟ وجزاكم الله كل خير !!
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 7 / ص 1825)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 2427)
(3) -فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 3760)(1/338)
فإن مجرد إعلان الإسلام ليس معناه أن الشخص صار بموجبه مؤمنا بل لابد مع النطق بالشهادتين من العمل بمقتضاهما، فحقيقة الإيمان في الاصطلاح الشرعي مركبة من: قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب، وهو الاعتقاد، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام ( الشهادتين ). والعمل قسمان: عمل القلب، وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح، قال الإمام أحمد بن حنبل : الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص . وقال الإمام البغوي : اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان... وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة . انظر شرح السنة للبغوي ( 1/ 38ـ 39). وقال الإمام الشافعي : وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ممن أدركنا: أن الإيمان: قول، وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاثة عن الآخر . شرح أصول اعتقاد أهل السنة ( 5/ 886). قال الإمام ابن القيم : الإيمان أصل له شعب متعددة، وكل شعبة تسمى إيمانا، فالصلاة من الإيمان، وكذلك الزكاة، والحج، والصوم، والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل ... إلخ. كتاب الصلاة لابن القيم ص 53. فالإيمان كما تبين ليس مجرد قول باللسان مع التمسك بما يناقضه من عدم الانقياد والتسليم لأحكامه تعالى، وقد قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما ً {لنساء:65}. فالقلب إذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، وعدم الأعمال الظاهرة دليل على انتفاء الأعمال الباطنة، يقول الله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَه ُ {لمجادلة: 22}. وقال تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء َ{المائدة: 81}. فالباطن والظاهر كما هو
واضح في الآيات متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر. إذا تقرر ذلك فمجرد إعلان الشهادتين مع التولي عن العمل وعدم الانقياد لأحكام الإسلام لا يصير به الإنسان مسلما والأدلة على ذلك كثيرة منها: قوله تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ {النور:47}. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية : فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل وإن كان قد أتى بالقول . انظر الفتاوى: 7/ 142. ويقول في موضع آخر: من الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يصوم رمضان ولا يؤدي لله زكاة ولا يحج لله بيته، فهذا ممتنع ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح . ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار كقوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ*خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُون َ {القلم:42ـ 43}. مجموع الفتاوى 7/116. وعليه فلا يجوز لك الزواج من هذا الشاب لأنه لم يدخل في الإسلام ولم يدخل قلبه الإيمان، لقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنّ َ {البقرة: 221}. وقوله: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنّ َ {الممتحنة:10}. وقوله: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا ً {النساء: 141}. وهذا محل إجماع بين أهل العلم، وأما قولك سأقوم بعد الزواج بنصحه ودعوته، فلست مكلفة بدعوة هذا الرجل وهو أجنبي عنك فابتعدي عنه ولا تربطي معه أي علاقة، ولا ترضي لنفسك زوجا وشريكا لحياتك إلا رجلاً مسلماً ذا خلق ودين واتركي هذا الرجل فإنه لا خير فيه. والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=================
رقم الفتوى 56071 الإحسان إلى الأقارب غير المسلمين وصلتهم دون المودة (1)
تاريخ الفتوى : 10 شوال 1425
السؤال
أنا شاب عربي أصلي من فرقة إسلامية أعتبرها ضالة وهي الدروز، من الله علي بالعودة إلى القرآن وحب النبي صلى الله عليه وسلم، أنا أحب أهلي وأتصدق من فضل الله على بعض أقاربي، عندي ثلاثة أسئلة: الأول: أنا أحس أني غريب عن معظم الناس في مجتمعي وممن هم من الأرحام فهل أعتبر قاطع رحم، والسؤال الثاني: هو ما حكم توزيع الزكاة والصدقة لبعض أقاربي من الفقراء والمساكين؟ أما السؤال الثالث: ما هي نصيحتكم لي بالزواج فهل زواجي من فتاة درزية فيه شيء علي إذا لم تعش زوجتي معي كمسلمة تصلي وتصوم وتقرأ القرآن، أدعو الله أن يجزيكم خير جزاء؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
__________
(1) -فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 5017)(1/339)
فإنه يحسن في البداية أن نهنئك على عودتك ورجوعك إلى الحق وإلى القرآن وحب النبي صلى الله عليه وسلم، نسأل الله تعالى أن يتقبل توبتك ويثبتك على طريق الحق، أما إحساسك بالغربة تجاه الناس في مجتمعك، فهذا شيء طبيعي، وعلامة على صدق إيمانك قال تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ {المجادلة:22}، وقال تعالى عن إبراهيم وأبيه: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ {التوبة:114}، وقال تعالى عن نوح وابنه: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ {هود:46}.
ولا تعتبر قاطع رحم بشعورك بالغربة عنهم، وعدم محبتك ومودتك لهم، وأما الإحسان إليهم وصلتهم وإعانة الفقراء والمساكين منهم بغير الزكاة الواجبة، فلا حرج فيه، لقوله تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {الممتحنة:8}، وقال تعالى في حق الوالدين الكافرين: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا {لقمان:15}.
وقال البخاري في صحيحه: باب صلة الوالد المشرك، وروى بسنده عن أسماء رضي الله عنها قالت: أتتني أمي راغبة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أصلها؟ قال: نعم. قال ابن عيينة: فأنزل الله تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ . اهـ
وقال البخاري رحمه الله: باب صلة الأخ المشرك، وروى بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأى عمر حلة سيراء تباع، فقال: يا رسول الله ابتع هذه، والبسها يوم الجمعة، وإذا جاءك الوفود، قال: إنما يلبس هذه من لا خلاق له. فأتي النبي صلى الله عليه وسلم منها بحلل، فأرسل إلى عمر بحلة، فقال: كيف ألبسها؟ وقد قلت فيها ما قلت؟! قال: إني لم أعطكها لتلبسها، ولكن لتبيعها أو تكسوها. فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم .
ففرق بين البر والقسط والإحسان، وبين المحبة والمودة.
أما الزكاة الواجبة فلا تدفع لهم، وعليك أن تدعوهم إلى الحق وتدعو الله لهم بالهداية كما هداك، وتذكر قوله تعالى: كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ {النساء:94}، ولا يجوز لك الزواج من فتاة درزية، وراجع الفتوى رقم: 2354 .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
===============
رقم الفتوى 56629 أعظم أخوة عرفها تاريخ الإنسانية (1)
تاريخ الفتوى : 26 شوال 1425
السؤال
هل من الممكن أن تخبروني أين أطلع على قصة(الأخوة في الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم)
ولكم جزيل الشكر على الإيميل إذا سمحتم.
وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن رابطة العقيدة هي أقوى الروابط بين المؤمنين، وهي أقوى من رابطة العرق والنسب والدم والوطن والقوم.
ولقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته على ذلك، فنشأ عن ذلك أعظم أخوة عرفها التاريخ، وهي الأخوة بين المهاجرين والأنصار.
فأفسح الأنصار للمهاجرين في بلادهم، وأشركوهم في أموالهم وديارهم، بل وحتى زوجاتهم، فكان للرجل من الأنصار زوجتان، فيخير أخاه المهاجر بينهما، فأيتهما اختار طلقها، ثم تعتد فينكحها المهاجر، قال تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {الحشر: 9}.
ولقد تجلت تربية النبي صلى الله عليه وسلم صحابته على أن الأخوة الحقيقية هي أخوة العقيدة في يوم بدر عندما قتل أبو عبيدة بن الجراح أباه، وحاول أبوبكر الصدق قتل ابنه، ولما أسر عزيز شقيق مصعب بن عمير قال مصعب لآسره: اشدد وثاقه، فإن أمه غنية، وكان يرجو أن تفتديه بمال كثير، فقال عزيز لمصعب : أهذه وصاتك بأخيك؟ فأشار للمسلم وقال: هو أخي من دونك، وفي مثل ذلك قال تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {المجادلة: 2}.
هذا، والناظر في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام يرى العجب العجاب من صور التآخي بين المؤمنين، وراجع في ذلك: نور اليقين في سيرة سيد المرسلين. ( للخضري). والرحيق المختوم ( للمباركفوري ).
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
================
رقم الفتوى 56692 الصداقة مع الكفار (2)
تاريخ الفتوى : 26 شوال 1425
السؤال
__________
(1) -فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 5502)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 5553)(1/340)
عندي زميلة لي مسيحية هل مصاحبتها حرام مع العلم أني أحترمها لأنها فعلا مؤدبة جدا وتفعل كل شيء يقوله الإسلام من أخلاق وعادات وعلاقات مع الناس الكل يقول إن الذي ينقصها فقط هو أن تنطق الشهادة لأن أخلاقها أخلاق المسلمين وأنا أرتاح مع التعامل معها ومجالستها لأني أحترم آراءها أريد أن أعرف هل هذا حرام لأنى أخاف أن يكون التعامل معها يغضب الله وأنا أدعو دائما أن يجعلنى الله من عباده المحببين له وأكون على طاعة أوامره أرجو الرد علي لأنى و كل أصدقائي خائفون ومحتاجون الرد مع العلم أننا أيضا نطلب منها خدمات وفعلا تنفذها وتخدمنا دائما وتخدم أي أحد طلب منها مساعدة مهما كان، وفي أي وقت .
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الصداقة التي بمعنى المخالة والمودة لا تجوز مع الكفار، لقول الله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ... {المجادلة:22}. وأما المصاحبة التي هي بمعنى الإنصاف لهم والعدل معهم والإحسان إليهم حسب أخلاقهم ونوع تعاملهم فلا حرج فيها، لقول الله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {الممتحنة:8}. وعليك أن تسعي في إقناع زميلتك هذه بالنطق بكلمة الشهادة، وتبيني لها أنها ستنال بها الفوز بالنعيم في دار الخلود والنجاة من عذاب الله، وأن الله بعد أن جاء بالإسلام فإنه لا يقبل من الأديان غير الإسلام، قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {آل عمران:85}. وإذا توصلت إلى هدايتها إلى الإسلام فلك في ذلك الأجر الكثير عند الله، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
===============
رقم الفتوى 57416 حكم زيارة المسلم أهله الكفار في أعياد الميلاد (1)
تاريخ الفتوى : 15 ذو القعدة 1425
السؤال
أخت أسلمت تسأل إن كان بإمكانها زيارة أهلها المسيحيين فترة الكرسمس (علما أنهم لا يحضرون مشروبات محرمة) وذلك تفاديا للقطيعة ولردة الفعل العنيفة للأهل إذا تغيبت فذاك هو اليوم الوحيد الذي تستطيع فيه رؤية كل أهلها مع العزيمة والنية في قلبها أن هدفها ليس لمشاركتهم في احتفالهم الديني بل لصلة الرحم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنحمد الله تعالى أن هدى هذه الأخت للإسلام ونسأله تعالى لها الثبات على دينه، أما عن سؤالها هل بإمكانها زيارة أهلها المسيحيين في فترة احتفالهم بأعياد الميلاد، فاعلمي أنه يجوز صلة الأقارب المشركين وبرهم لقوله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {الممتحنة:8}. فلها وصلهم بالزيارة والاتصال والهدية وغيرها مع عدم مودتهم وموالاتهم لقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ {المجادلة: 22}. أما زيارتهم في فترة احتفالهم بأعياد الميلاد فقد تكون محفوفة بمحاذير شرعية منها إقرارهم على باطلهم، وتكثير سوادهم، وتهنئتهم بهذا العيد. وهذا لا يجوز لأنه من خصائص دينهم، قال الإمام ابن القيم : وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثما عند الله، وأشد مقتا من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام نحوه.وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبدا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه . انتهى كلامه. والله تعالى يقول في وصف عباد الرحمن: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً {الفرقان:72}. قال المفسرون في تفسيرها: إنها أعياد المشركين، وعليه فلا يجوز لها زيارتهم في هذا الوقت إذا ترتب عليها شيء من ذلك المحرم، والتعليل
__________
(1) -فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 6194)(1/341)
بإمكان رؤيتهم جميعا بسبب اجتماعهم في هذه المناسبة لا يعتبر عذرا في ارتكاب هذا المحظور. وما سينجم عن عدم حضورك لمناسبتهم وعيدهم من ردة فعل فاصبري عليه واحتسبي الأجر عند الله وهو من جملة الأذى الذي يقع على المسلم من أهل الكتاب والمشركين قال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ {آل عمران:186}. ولا تألي جهدا في دعوتهم وهدايتهم للإسلام، وأما إن عدم المحذور فلا مانع من زيارتك لهم. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه. والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============
الاحتفال بعيد الحب (1)
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
فإن الله سبحانه وتعالى اختار لنا الإسلام دينا ولن يقبل من أحد دينا سواه كما قال تعالى ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) ( آل عمران : 85 ) .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن فئاما من أمته سيتبعون أعداء الله تعالى في بعض شعائرهم وعاداتهم ، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم ، قلنا يا رسول الله : اليهود والنصارى ، قال : فمن؟! ) ( أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لتتبعن سنن من كان قبلكم 8/151 ) . ( ومسلم في العلم باب اتباع سنن اليهود والنصارى 4/2054 ) .
وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وانتشر في الأزمنة الأخيرة في كثير من البلاد الإسلامية إذ اتبع كثير من المسلمين أعداء الله تعالى في كثير من عاداتهم وسلوكياتهم وقلدوهم في بعض شعائرهم ، واحتفلوا بأعيادهم .
وزاد الأمر سوءا الانفتاح الإعلامي بين كافة الشعوب حتى غدت شعائر الكفار وعاداتهم تنقل مزخرفة مبهرجة بالصوت والصورة الحية من بلادهم إلى بلاد المسلمين عبر الفضائيات والشبكة العالمية - الإنترنت - فاغتر بزخرفها كثير من المسلمين .
وفي السنوات الأخيرة انتشرت ظاهرة بين كثير من شباب المسلمين - ذكورا وإناثا - لا تبشر بخير ، تمثلت في تقليدهم للنصارى في الاحتفال بعيد الحب ، مما كان داعيا لأولي العلم والدعوة أن يبينوا شريعة الله تعالى في ذلك ، نصيحة لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم حتى يكون المسلم على بينة من أمره ولئلا يقع فيما يخل بعقيدته التي أنعم الله بها عليه .
وهذا عرض مختصر لأصل هذا العيد ونشأته والمقصود منه ، وما يجب على المسلم تجاهه .
قصة عيد الحب :
يعتبر عيد الحب من أعياد الرومان الوثنيين ، إذ كانت الوثنية سائدة عند الرومان قبل ما يزيد على سبعة عشر قرنا . وهو تعبير في المفهوم الوثني الروماني عن الحب الإلهي .
ولهذا العيد الوثني أساطير استمرت عند الرومان ، وعند ورثتهم من النصارى ، ومن أشهر هذه الأساطير : أن الرومان كانوا يعتقدون أن ( رومليوس ) مؤسس مدينة ( روما ) أرضعته ذات يوم ذئبة فأمدته بالقوة ورجاحة الفكر .
فكان الرومان يحتفلون بهذه الحادثة في منتصف شهر فبراير من كل عام احتفالا كبيرا وكان من مراسيمه أن يذبح فيه كلب وعنزة ، ويدهن شابان مفتولا العضلات جسميهما بدم الكلب والعنزة ، ثم يغسلان الدم باللبن ، وبعد ذلك يسير موكب عظيم يكون الشابان في مقدمته يطوف الطرقات . ومع الشابين قطعتان من الجلد يلطخان بهما كل من صادفهما ، وكان النساء الروميات يتعرضن لتلك اللطمات مرحبات ، لاعتقادهن بأنها تمنع العقم وتشفيه .
علاقة القديس ( فالنتين ) بهذا العيد :
( القديس فالنتين ) اسم التصق باثنين من قدامى ضحايا الكنيسة النصرانية . قيل : انهما اثنان ، وقيل : بل هو واحد توفي في روما إثر تعذيب القائد القوطي ( كلوديوس ) له حوالي عام 296م . وبنيت كنيسة في روما في المكان الذي توفي فيه عام 350م تخليدا لذكره .
ولما اعتنق الرومان النصرانية أبقوا على الاحتفال بعيد الحب السابق ذكره لكن نقلوه من مفهومه الوثني ( الحب الإلهي ) ، إلى مفهوم آخر يعبر عنه بشهداء الحب ، ممثلا في القديس فالنتين الداعية إلى الحب والسلام الذي استشهد في سبيل ذلك حسب زعمهم . وسمي أيضا ( عيد العشاق ) واعتبر ( القديس فالنتين ) شفيع العشاق وراعيهم .
وكان من اعتقاداتهم الباطلة في هذا العيد أن تكتب أسماء الفتيات اللاتي في سن الزواج في لفافات صغيرة من الورق وتوضع في طبق على منضدة ، ويدعى الشبان الذين يرغبون في الزواج ليخرج كل منهم ورقة ، فيضع نفسه في خدمة صاحبة الاسم المكتوب لمدة عام يختبر كل منهما خلق الآخر ، ثم يتزوجان ، أو يعيدان الكرة في العام التالي يوم العيد أيضا .
وقد ثار رجال الدين النصراني على هذا التقليد ، واعتبروه مفسدا لأخلاق الشباب والشابات فتم إبطاله في إيطاليا التي كان مشهورا فيها ، ثم تم إحياؤه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين حيث انتشرت في بعض البلاد الغربية محلات تبيع كتبا صغيرة تسمى ( كتاب الفالنتين ) فيها بعض الأشعار الغرامية ليختار منها من أراد أن يرسل إلى محبوبته بطاقة تهنئة وفيها مقترحات حول كيفية كتابة الرسائل الغرامية والعاطفية .
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب(1/342)
ومما قيل في سبب هذا العيد أيضا أنه لما دخل الرومان في النصرانية بعد ظهورها ، وحكم الرومان الإمبراطور الروماني ( كلوديوس الثاني ) في القرن الثالث الميلادي منع جنوده من الزواج لأن الزواج يشغلهم عن الحروب التي كان يخوضها ، فتصدى لهذا القرار ( القديس فالنتين ) وصار يجري عقود الزواج للجند سرا ، فعلم الإمبراطور بذلك فزج به في السجن ، وحكم عليه بالإعدام . وفي سجنه وقع في حب ابنة السجان ، وكان هذا سراً حيث يحرم على القساوسة والرهبان في شريعة النصارى الزواج وتكوين العلاقات العاطفية ، وإنما شفع له لدى النصارى ثباته على النصرانية حيث عرض عليه الإمبراطور أن يعفو عنه على أن يترك النصرانية ليعبد آلهة الرومان ويكون لديه من المقربين ويجعله صهراً له ، إلا أن ( فالنتين ) رفض هذا العرض وآثر النصرانية فنفذ فيه حكم القتل يوم 14 فبراير عام 270 ميلادي ليلة 15 فبراير ، عيد ( لوبر كيليا ) ، ومن يومها أطلق عليه لقب قديس .
وجاء في كتاب قصة الحضارة : أن الكنيسة وضعت تقويماً كنيسياً جعلت كل يوم فيه عيداً لأحد القديسين وفي إنجلترا كان عيد القديس فالنتين يحدد في آخر فصل الشتاء فإذا حل ذلك اليوم على حد قولهم تزاوجت الطيور بحماسة في الغابات ووضع الشباب الأزهار على أعتاب النوافذ في بيوت البنات اللاتي يحبونهن . قصة الحضارة تأليف ول ديورانت ( 15 / 23 )
وقد جعل البابا من يوم وفاة القديس فالنتين 14/فبراير/270م عيداً للحب فمن هو البابا ؟ هو الحبر الأعظم رئيس البيعة المنظور وخليفة القديس البطرس ، فانظروا إلى هذا الحبر الأعظم كيف شرع لهم الاحتفال بهذا العيد المبتدع في دينهم ألا يذكرنا هذا بقوله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) التوبة / 31 ، عن عدي بن حاتم قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب مذهب ، فقال : ( يا عدي اطرح عنك هذا الوثن ، وسمعته يقرأ في سورة براءة : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباًَ من دون الله ) قال : قال أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه ) رواه الترمذي وهو حديث حسن .
من أهم شعائرهم في هذا العيد :
1- إظهار البهجة والسرور فيه كحالهم في الأعياد المهمة الأخرى .
2- تبادل الورود الحمراء ، وذلك تعبيرا عن الحب الذي كان حباً إلهياً عند الوثنيين وعشقاً عند النصارى ، ولذلك سمي عندهم بعيد العشاق .
3- توزيع بطاقات التهنئة به ، وفي بعضها صورة ( كيوبيد ) وهو طفل له جناحان يحمل قوسا ونشابا . وهو اله الحب عند الأمة الرومانية الوثنية تعالى الله عن إفكهم وشركهم علوا كبيرا .
4- تبادل كلمات الحب والعشق والغرام في بطاقات التهنئة المتبادلة بينهم - عن طريق الشعر أو النثر أو الجمل القصيرة ، وفي بعض بطاقات التهنئة صور ضاحكة وأقوال هزلية ، وكثيرا ما كان يكتب فيها عبارة ( كن فالنتينيا ) وهذا يمثل المفهوم النصراني له بعد انتقاله من المفهوم الوثني .
5- تقام في كثير من الأقطار النصرانية حفلات نهارية وسهرات ليلية مختلطة راقصة ، ويرسل كثير منهم هدايا منها : الورود وصناديق الشوكولاته إلى أزواجهم وأصدقائهم ومن يحبونهم .
ومن نظر إلى ما سبق عرضه من أساطير حول هذا العيد الوثني يتضح له ما يلي :
أولا : أن أصله عقيدة وثنية عند الرومان ، يعبر عنها بالحب الإلهي للوثن الذي عبدوه من دون الله تعالى . فمن احتفل به فهو يحتفل بمناسبة شركية تعظم فيها الأوثان ، قال تعالى : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) المائدة/72 .
ثانيا : أن نشأة هذا العيد عند الرومان مرتبطة بأساطير وخرافات لا يقبلها العقل السوي فضلا عن عقل مسلم يؤمن بالله تعالى وبرسله عليهم السلام .
فهل يقبل العقل السوي أن ذئبة أرضعت مؤسس مدينة روما وأمدته بالقوة ورجاحة الفكر ، على ما في هذه الأسطورة مما يخالف عقيدة المسلم لأن الذي يمد بالقوة ورجاحة الفكر هو الخالق سبحانه وتعالى وليس لبن ذئبة!!
وكذلك أسطورة أن أوثانهم ترد عنهم السوء وتحمي مراعيهم من الذئاب .
ثالثا : أن من الشعائر البشعة لهذا العيد عند الرومان ذبح كلب وعنزة ودهن شابين بدم الكلب والعنزة ثم غسل الدم باللبن … الخ فهذا مما تنفر منه الفطر السوية ولا تقبله العقول الصحيحة .
رابعا : أن ارتباط القديس ( فالنتين ) بهذا العيد قد شككت فيه كثير من المصادر واعتبرته غير مؤكداً ، فكان الأولى بالنصارى رفض هذا العيد الوثني الذي قلدوا فيه الوثنيين ، فكيف بنا نحن المسلمين ونحن مأمورون بمخالفة النصارى والوثنيين من قبلهم .
خامسا : أن هذا العيد تم إبطاله من قبل رجال الدين النصراني في إيطاليا معقل الكاثوليك ، لما فيه من إشاعة الأخلاق السيئة والتأثير على عقول الشباب والشابات ، فكان الأولى بالمسلمين أن ينبذوه ويحذروا منه ويقوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجاهه .
وقد يقول قائل : لماذا لا نحتفل نحن المسلمين بهذا العيد ؟!
وللإجابة على ذلك أوجه عدة منها :(1/343)
الوجه الأول : أن الأعياد في الإسلام محددة وثابتة لا تقبل الزيادة ولا النقصان ، وهي كذلك من صلب عباداتنا يعني ذلك أنها توقيفية ، شرعها لنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . قال ابن تيمية - رحمه الله - : ( الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال الله سبحانه : ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) وقال: ( لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه ) كالقبلة والصلاة والصيام فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر، بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به الشرائع ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره , ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه. وأما مبدؤها فأقل أحواله أن يكون معصية وإلى هذا الاختصاص أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا) [البخاري 952، ومسلم 892ا ] [الاقتضاء (1/471-472)].
وبما أن عيد الحب يرجع إلى العهد الرومي ، وليس الإسلامي فإن هذا يعني أنه من خصوصيات النصارى وليس للإسلام والمسلمين فيه حظ ولا نصيب ، فإذا كان لكل قوم عيد كما قال صلى الله عليه وسلم : ( إن لكل قوم عيداً ) رواه البخاري ومسلم ، فهذا القول منه صلى الله عليه وسلم يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم ، فإذا كان للنصارى عيد ولليهود عيد كانوا مختصين به فلا يشاركهم فيه مسلم كما لا يشاركهم في شرعتهم و لا قبلتهم .
الوجه الثاني : أن الاحتفال بعيد الحب فيه تشبه بالرومان الوثنيين ثم بالنصارى الكتابيين فيما قلدوا فيه الرومان وليس هو من دينهم . وإذا كان يمنع من التشبه بالنصارى فيما هو من دينهم حقيقة - إذا لم يكن من ديننا - فكيف بما أحدثوه في دينهم وقلدوا فيه عباد الأوثان!!
وعموم التشبه بالكفار - وثنيين أو كتابيين - محرم ، سواء كان التشبه في عباداتهم - وهي الأخطر - أو في عاداتهم وسلوكياتهم ، دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع :
1- فمن القرآن قول الله تعالى : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ) ( آل عمران / 105 ) .
2- ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من تشبه بقوم فهو منهم ) ( أخرجه أحمد 2/50 وأبو داود 4021 ) قال شيخ الإسلام : ( هذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله تعالى ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) ( الاقتضاء 1/314 ) .
3- وأما الإجماع فقد نقل ابن تيمية أنه منعقد على حرمة التشبه بالكفار في أعيادهم في وقت الصحابة رضي الله عنهم ، كما نقل ابن القيم إجماع العلماء على ذلك . ( انظر الاقتضاء 1/454 ) وأحكام أهل الذمة ( 2/722 - 725 ) .
وقد نهى الله عن تقليد الكفار فمقته وحذر من مغبته ، في آيات كثيرة ، ومناسبات عديدة ، وأساليب متنوعة ، ولا سيما تقليد الكفار ، فتارة بالنهي عن تبعيتهم وطاعتهم ، وتارة بالتحذير منهم ، ومن الاغترار بمكرهم والانصياع لآرائهم والتأثر بأعمالهم وسلوكهم وأخلاقهم ،، وتارة بذكر بعض خصالهم التي تنفر المؤمنين منهم ، ومن تقليدهم ، وأكثر ما يرد التحذير في القرآن من اليهود والمنافقين ، ثم من عموم أهل الكتاب والمشركين ، وقد بين الله تعالى في القرآن الكريم أن تقليد الكفار وطاعتهم منه ما هو ردة ، وقد نهى تعالى كذلك عن طاعتهم واتباع أهوائهم وخصالهم السيئة .
كما أن النهي عن التقليد من مقاصد الشريعة ، إذ أن الله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وقد أكمل الله الشريعة للناس : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) المائدة / 3 ، وجعلها مشتملة على كل المصالح في كل الأزمان والأمكنة ولكل الناس ، فلا حاجة للاستعداد من الكفار أو تقليدهم .
والتقليد يحدث خللاً في شخصية المسلم ، من الشعور بالنقص والصغار، والضعف والانهزامية ، ثم البعد والعزوف عن منهج الله وشرعه ، فقد أثبتت التجربة أن الإعجاب بالكفار وتقليدهم سبب لحبهم والثقة المطلقة بهم والولاء لهم والتنكر للإسلام ورجاله ، وأبطاله ، تراثه وقيمه وجهل ذلك كله .
الوجه الثالث : أن المقصود من عيد الحب في هذا الزمن إشاعة المحبة بين الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم ، ولا شك في حرمة محبة الكفار ومودتهم ، قال تعالى : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) ( المجادلة : 22 ) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( فأخبر سبحانه أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرًا ، فمن واد الكفار فليس بمؤمن ، والمشابهة الظاهرة مظنة المودة فتكون محرمة ) ( الاقتضاء 1/490 )
الوجه الرابع : أن المحبة المقصودة في هذا العيد منذ أن أحياه النصارى هي محبة العشق والغرام خارج إطار الزوجية ، ونتيجة ذلك : انتشار الزنى والفواحش ، ولذلك حاربه رجال الدين النصراني في وقت من الأوقات وأبطلوه ثم أعيد مرة أخرى .
وأكثر الشباب يحتفلون به لما فيه من تحقيق لشهواتهم ، دون النظر إلى ما فيه من تقليد ومشابهة ، فانظر معي إلى هذا البلاء ، يتوصلون إلى الكبائر من زنا ونحوه عن طريق مشابهة النصارى فيما هو من عباداتهم والذي يخشى أن يكون كفراً .
وقد يتساءل البعض فيقولون : أنتم بهذا تريدون حرماننا من الحب ، ونحن في هذا اليوم إنما نعبر عن مشاعرنا وعواطفنا ، فما المحذور في ذلك ؟
فنقول :(1/344)
أولاً : من الخطأ الخلط بين ظاهر مسمى اليوم وحقيقة ما يريدون من ورائه ، فالحب المقصود في هذا اليوم هو العشق والهيام واتخاذ الأخدان والخلان والخليلات والمعروف عنه أنه يوم الإباحية والجنس عندهم بلا قيود أو حدود ... وهؤلاء لا يتحدثون عن الحب الطاهر بين الرجل وزوجته والمرأة وزوجها . أو على الأقلّ لا يفرّقون بين الحبّ الشّرعي في علاقة الزوجين وبين الحبّ المحرّم للعشيقات والأخدان فالعيد عندهم وسيلة لتعبير الجميع عن الحبّ .
ثانياً : إن التعبير عن المشاعر والعواطف لا يسوِّغ للمسلم إحداث يوم يعظمه ويخصه من تلقاء نفسه بذلك ، ويسميه عيداً أو يجعله كالعيد ، فكيف وهو من أعياد الكفار ؟
فالزّوج يحبّ زوجته في الإسلام على مدار العام ويعبّر لها عن هذا الحبّ بالهدية والشّعر والنثر والرسائل وغيرها على مدار العام وليس في يوم واحد في السنة .
ثالثاً : لا يوجد دين يحث أبناءه على التحابب والمودة والتآلف كدين الإسلام ، وهذا في كل وقت وحين لا في يوم بعينه بل حث على إظهار العاطفة والحب في كل وقت كما قال عليه الصلاة والسلام : ( إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه ) ( رواه أبو داوود / 5124 ، والترمذي / 2329 ، وهو صحيح ) ، وقال : ( والذي نفسي بيده ، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ، أفشوا السلام بينكم ) رواه مسلم / 54 .
رابعاً : إن الحب في الإسلام أعم وأشمل وأسمى من قصره على صورة واحدة وهي الحب بين الرجل والمرأة ، بل هناك مجالات أشمل وأرحب وأسمى ، فهناك حب الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم ، وحب أهل الخير والصلاح وحب الدين ونصرته ، وحب الشهادة في سبيل الله ، وهناك محاب كثيرة ، فمن الخطأ والخطر إذن قصر هذا المعنى الواسع على هذا النوع من الحب .
خامساً : أن ظنّ الذين يظنون بأن الحبّ قبل الزواج مفيد والعلاقة نافعة ظنّهم خائب كما أثبتت الدراسات وتجارب الواقع ففي دراسة أجرتها جامعة القاهرة ، حول ما أسمته زواج الحب ، والزواج التقليدي ، جاء في الدراسة :
الزواج الذي يأتي بعد قصة حب تنتهي 88% من حالاته بالإخفاق ، أي بنسبة نجاح لا تتجاوز 12% ، وأما ما أطلقت عليه الدراسة الزواج التقليدي فقد حقق 70% من حالات النجاح . وبعبارة أخرى ، فإن عدد حالات الزواج الناجحة في الزواج الذي يسمونه تقليدياً تعادل ستة أضعاف ما يسمى بـ ( زواج الحب ) . ( رسالة إلى مؤمنة ص: 255) .
ثمّ إذا نظرنا في أحوال المجتمعات الغربية التي تحتفل بعيد الحبّ وتروّجه ونسأل : مال حال العلاقات الزوجية لديهم وما أثر هذه الاحتفالات والأعياد على المعاملة بين الزوجين ؟ وهل أثّرت فيها إيجابيا ؟
جاء في دراساتهم وإحصاءاتهم ما يلي :
1- في دراسة أميركية عام ( 1407هـ / 1987م ) جاء فيها : أن 79% من الرجال يقومون بضرب النساء ، وبخاصة إذا كانوا متزوجين ... ! [ جريدة القبس ( 15/2/1988 ) ]
2- وفي دراسة أعدها المكتب الوطني الأمريكي للصحة النفسية جاء فيها :
- 17% من النساء اللواتي يدخلن غرف الإسعاف من ضحايا ضرب الأزواج أو الأصدقاء .
- 83% دخلن المستشفيات سابقاً مرة على الأقل للعلاج من جروح وكدمات أصبن بها ، كان دخولهن نتيجة الضرب . وأضافت الدراسة أن هناك نساء أكثر لا يذهبن إلى المستشفى للعلاج بل يضمدن جروحهن في المنزل .
3- وفي تقرير للوكالة الأمريكية المركزية للفحص والتحقيق F.P.T. فإن هناك زوجة يضربها زوجها كل 18 ثانية في أمريكا .
4- ونشرت مجلة التايم الأمريكية أن حوالي 4000 زوجة من حوالي ستة ملايين زوجة مضروبة تموت نتيجة ذلك الضرب !!!
5- وفي دراسة ألمانية : ما لا يقل عن 100 ألف امرأة تتعرض سنوياً لأعمال العنف الجسدي أو النفساني التي يمارسها الأزواج أو الرجال الذي يعاشرونهن مع احتمال أن يكون الرقم الحقيقي يزيد على المليون .
6- وفي فرنسا تتعرض حوالي مليوني امرأة للضرب .
7- وفي بريطانيا في أحد استطلاعات الرأي شاركت فيه 7 آلاف امرأة قالت 28% منهن : إنهن يتعرضن للهجوم من أزواجهن وأصدقائهن .
فكيف نصدّق بعد ذلك أنّ عيد الحبّ مفيد للزوجين ، والحقيقة أنّه دعوة لمزيد من الانحلال والفجور وإقامة العلاقات المحرّمة .
والزوج الصّادق في محبّة زوجته لا يحتاج لتذكيره بالمحبة إلى هذا العيد فهو يعبّر عن حبّه لزوجته في كلّ وقت وحين .
موقف المسلم من عيد الحب :
مما سبق عرضه يتبين موقف المسلم من هذا العيد في الأمور التالية :(1/345)
أولاً : عدم الاحتفال به ، أو مشاركة المحتفلين به في احتفالهم ، أو الحضور معهم لما سبق من الأدلة الدالة على تحريم الاحتفال بأعياد الكفار . قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى : ( فإذا كان للنصارى عيد ولليهود عيد كانوا مختصين به فلا يشركهم فيه مسلم كما لا يشاركهم في شرعتهم ولا قبلتهم . أهـ ( تشبه الخسيس بأهل الخميس ، : مجلة الحكمة 4/193 ) . و لما كان من أصول اعتقاد السلف الصالح الولاء والبراء وجب تحقيق هذا الأصل لكل من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فيحب المؤمنين ويبغض الكافرين ويعاديهم ويخالفهم ويعلم أن في ذلك من المصلحة ما لا يحصى كما أن في مشابهتهم من المفسدة أضعاف ذلك ، وبالإضافة إلى ذلك فإن مشابهة المسلمين لهم تشرح صدورهم وتدخل على قلوبهم السرور ، وتؤدي إلى المحبة القلبية للكفار ، ومن تحتفل بهذ العيد من بنات المسلمين وترى لأنها ترى مارغريت أو هيلاري أو ... يحتفلن بهذه المناسبة فلا شك أنها بهذا تعكس اتذباعها لهنّ وارتياحها لمسلكهنّ وقد قال الله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) المائدة / 51 ، ومن مساوئ مشابهتهم تكثير سوادهم ونصرة دينهم واتباعه وكيف يليق بالمسلم الذي يقرأ في كل ركعة : ( اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) الفاتحة / 6-7 ، أن يسأل الله الهداية لصراط المؤمنين ويجنبه صراط المغضوب عليهم ولا الضالين ثم يسلك سبيلهم مختاراً راضياً .
وتشير الإحصائيات إلى أن عيد الحب هو ثاني مناسبة بعد الكريسماس ! فإذا تبين أن عيد الحب من أعياد النصارى وهو في المرتبة الثانية بعد عيد الكريسماس - عيد ميلاد المسيح - فلا يجوز للمسلمين مشاركتهم بالاحتفال في هذا التاريخ لأننا مأمورون بمخالفتهم في دينهم وعاداتهم وغير ذلك من خصوصياتهم كما جاء ذلك في القرآن والسنة والإجماع .
ثانيا : عدم إعانة الكفار على احتفالهم ، لأنه شعيرة من شعائر الكفر ، فإعانتهم وإقرارهم عليه إعانة على ظهور الكفر وعلوه وإقرار به . والمسلم يمنعه دينه من إقرار الكفر والإعانة على ظهوره وعلوه . ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم لا من طعام ولا لباس ولا اغتسال ولا إيقاد نيران ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة . . . وبالجملة : ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم ، بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام ) ( مجموعة الفتاوى 25/329 ) .
ثالثا : عدم إعانة من احتفل به من المسلمين ، بل الواجب الإنكار عليهم ، لأن احتفال المسلمين بأعياد الكفار منكر يجب إنكاره . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : ( وكما لا نتشبه بهم في الأعياد ، فلا يعان المسلم بهم في ذلك ، بل ينهى عن ذلك ( الاقتضاء 2/519 - 520 ) .
وبناءا على ما قرره شيخ الإسلام فإنه لا يجوز للتجار المسلمين أن يتاجروا بهدايا عيد الحب من لباس معين أو ورود حمراء أو غير ذلك ، كما لا يحل لمن أهديت له هدية هذا العيد أن يقبلها لأن في قبولها إقرار لهذا العيد .
يقول أحد الدعاة : توجهنا إلى أحد محلات الورود في بلاد المسلمين ففوجئنا باستعداد تام كانت بدايته فرش مدخل المحل بفرش أحمر ولوحات حمراء ومناظر حمراء ، وقابلنا أحد العمال في المحل وسألناه عن مدى استعدادهم لهذه المناسبة ؟ فردّ بأن هذا الاستعداد بدأ مبكراً والطلبات كانت مكثفة ، .. ثم أخبرنا العامل بأنه مستغرب من ذلك حيث فاجأنا بأنه أسلم حديثاً وترك النصرانية وأن ذلك يعرفه في دينهم قبل إسلامه فكيف يكون الزبائن من المسلمين وليس من النصارى ؟!
وفي محلات أخرى نفدت الورود الحمراء وبيعت بالأثمان الغالية ، ولما دخلت إحدى الداعيات المسلمات على الطالبات المجتمعات في صالة لإلقاء محاضرة عليهن أصيبت بخيبة أمل كبيرة لأنها وجدت الحضور محمرّا فهذه معها وردة حمراء والأخرى بشال أحمر أو منديل أحمر أو حقيبة حمراء أو جوارب حمراء
وهكذا ، فواأسفى على بنات المسلمين .
ومن المظاهر المشاهدة بين المسلمين في هذا العيد :
1- كل طالبة تتفق مع من تحب من صديقاتها بربط شريطة حمراء اللون في معصم اليد اليسرى .
2- لبس أي لباس أحمر اللون ( بلوزة ، بكلة شعر ، حذاء ، ... ) وقد كان ذلك في غاية الوضوح العام الماضي لدرجة أننا ندخل الفصول فنجد أغلب الطالبات وقد ارتدينه وكأنه زي رسمي .
3- البالونات الحمراء والمكتوب عليها : ( I Love you ) وعادة يخرجنها آخر اليوم الدراسي وفي الساحة بعيداً عن أعين المعلمات .
4- نقش الأسماء والقلوب على اليدين والحروف الأولى من الأسماء .
5- انتشار الورود الحمراء بشكل كبير في هذا اليوم .
لفيف من البنات دخلن قاعات المحاضرات يوم 14 فبراير وقد ارتدت كل واحدة منهن ثوباً أحمر وألصقت على وجهها رسوماً لقلوب حمراء بعد أن وضعت مساحيق التجميل الحمراء على وجهها وبدأن يتبادلن الهدايا ذات اللون الحمر مع القبلات الحارة ، هذا ما حدث في أكثر من جامعة في بلد إسلامي بل وفي جامعة إسلامية أو بالأحرى عيد القديس فالنتين .
المدارس الثانوية في ذلك اليوم فوجئت بكثير من الطالبات قد أحضرن وروداً حمراء من النوع الفاخر وصبغن وجوههن بمساحيق تجميل ذات اللون الأحمر وارتدين أقراطاًَ حمراء وأخذن يتبادلن الهدايا وعبارات الغرام الساخنة فيما بينهن احتفالاً بهذا العيد .(1/346)
تشير الموسوعة العربية إلى أن لعيد فالنتين طقوساً خاصة منها طباعة أشعار العاطفة والحب على البطاقات وتوزيعها على الأقارب ومن يحب ، وبعضهم يرسم صوراً ضاحكة على هذه البطاقات وكثيراً ما يكتب عليها ( كن فالنتينياً ) ، وكثيراً ما تعقد حفلات نهارية راقصة على طريقتهم ومازال الأوربيون يحتفلون بهذا العيد ، ففي بريطانيا بلغت مبيعات الزهور في ذلك اليوم 22 مليون جنيه استرليني ، ويزداد الإقبال على الشوكولاته ، وتعرض الشركات على مواقعها في الإنترنت رسائل مجانية بهذه المناسبة ترويجاً لموقعها .
انتقل عيد فالنتين إلى عدد من البلاد العربية والإسلامية بل إلى موطن الإسلام ( جزيرة العرب ) وإلى مجتمعات كنا نظنها بعيدة عن هذا الخبل ، حتى ارتفع سعر الورود في هذا اليوم بشكل جنوني فبلغ ثمن الوردة الواحدة ( 10 دولارات ) بعد أن كان لا يتجاوز دولار وربع ، وتنافست محلات الهدايا والكروت في تصميم كروت وهدايا لهذه المناسبة وقامت بعض العائلات بتعليق الورود الحمراء على نوافذ المنزل في ذلك اليوم .
وفي بعض دول الخليج نظمت العديد من المراكز التجارية والفنادق احتفالات خاصة بمناسبة عيد الحب ، فاكتست غالبية المحلات والمجمعات التجارية باللون الأحمر وانتشرت البالونات والألعاب والدمى في أحد المطاعم الخليجية الفاخرة ، وتمشياً مع عادات عيد الحب وأساطير الوثنية عرض المطعم مشهداً تمثيلياً لشخصية ( كيوبيد ) صنم الحب في الأساطير الرومانية وهو شبه عار مع قوسه وسهمه كما قام هذا الممثل مع وصيفاته باختيار ( مسز ومستر فالنتين ) من بين الحضور .
أما مطاعم الدخل المحدود فقد احتفلت بهذا اليوم بطريقتها الخاصة حيث قام بعض المحلات بتغيير الأطباق العادية إلى أطباق على شكل قلوب وأبدلت مفارش الطاولات باللون الأحمر كما وضعت وردة حمراء في كل طاولة ليقدمها المحب إلى حبيبته .
أبرز تقاليع عيد الحب عرضها صاحب أحد محلات الهدايا في الكويت إذ قام باستيراد أرانب فرنسية ( حية ) صغيرة الحجم ذات عيون حمراء وقام بوضع رابطة عنق على رقاب هذه الأرانب ووضعها في علب صغيرة لتقدم هدية .!!
فيجب محاربة هذه المظاهر بشتى الوسائل والمسئولية ملقاة على الجميع
رابعا : عدم تبادل التهاني بعيد الحب ، لأنه ليس عيدًا للمسلمين . وإذا هنئ المسلم به فلا يرد التهنئة . قال ابن القيم رحم الله تعالى : ( وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول : عيد مبارك عليك ، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه ، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات ، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب ، بل ذلك أعظم عند الله وأشد مقتا من التهنئة بشرب الخمر ، وقتل النفس ، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه . وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك وهو لا يدري قبح ما فعل ، فمن هنأ عبدا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه ) ( أحكام أهل الذمة 1/441 - 442 ) .
خامسا : وجوب توضيح حقيقة هذا العيد وأمثاله من أعياد الكفار لمن اغتر بها من المسلمين ، وبيان ضرورة تميز المسلم بدينه والمحافظة على عقيدته مما يخل بها ، نصحا للأمة وأداءً لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
من فتاوى العلماء المسلمين حول عيد الحب :
فتوى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - :
السؤال : فقد انتشر في الآونة الأخيرة الاحتفال بعيد الحب - خاصة بين الطالبات - وهو عيد من أعياد النصارى ، ويكون الزي كاملا باللون الأحمر الملبس والحذاء ويتبادلن الزهور الحمراء .. نأمل من فضيلتكم بيان حكم الاحتفال بمثل هذا العيد ، وما توجيهكم للمسلمين في مثل هذه الأمور والله يحفظكم ويرعاكم ؟
فأجاب حفظه الله :
الاحتفال بعيد الحب لا يجوز لوجوه :
الأول : إنه عيد بدعي لا أساس له في الشريعة .
الثاني : أنه يدعو إلى اشتغال القلب بمثل هذه الأمور التافهة المخالفة لهدي السلف الصالح _ رضي الله عنهم _ فلا يحل أن يحدث في هذا اليوم شيء من شعائر العيد سواء في المآكل أو المشارب أو الملابس أو التهادي أو غير ذلك وعلى المسلم أن يكون عزيزا بدينه وأن لا يكون إمعة يتبع كل ناعق . أسأل الله أن يعيذ المسلمين من كل الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يتولانا بتوليه وتوفيقه . والله أعلم .
فتوى الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين في الاحتفال بهذا اليوم :
سئل فضيلته : انتشر بين فتياننا وفتياتنا الاحتفال بما يسمى عيد الحب ( يوم فالنتين ) وهو اسم قسيس يعظمه النصارى يحتفلون به كل عام في 14 فبراير ، ويتبادلون فيه الهدايا والورود الحمراء ، ويرتدون الملابس الحمراء ، فما حكم الاحتفال به أو تبادل الهدايا في ذلك اليوم وإظهار ذلك العيد جزاكم الله خيراً .
فأجاب حفظه الله :
أولاً : لا يجوز الاحتفال بمثل هذه الأعياد المبتدعة ، لأنه بدعة محدثة ، لا أصل لها في الشرع فتدخل في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) أي مردود على من أحدثه .
ثانياً : أن فيها مشابهة للكفار وتقليداً لهم في تعظيم ما يعظمونه واحترام أعيادهم ومناسباتهم وتشبهاً بهم فيما هو من ديانتهم وفي الحديث : ( من تشبه بقوم فهو منهم ) .
ثالثاً : ما يترتب على ذلك من المفاسد المحاذير كاللهو واللعب والغناء والزمر والأشر والبطر والسفور والتبرج واختلاط الرجال بالنساء أو بروز النساء أمام غير المحارم ونحو ذلك من المحرمات ، أو ما هو وسيلة إلى الفواحش ومقدماتها ، ولا يبرر ذل ما يعلل به من التسلية والترفيه وما يزعمونه من التحفظ فإن ذلك غير صحيح ، فعلى من نصح نفسه أن يبتعد عن الآثام ووسائلها .(1/347)
وعلى هذا لا يجوز بيع هذه الهدايا والورود إذا عرف أن المشتري يحتفل بتلك الأعياد أو يهديها أو يعظم بها تلك الأيام حتى لا يكون البائع مشاركاً لمن يعمل بهذه البدعة والله أعلم . ا.هـ.
فتوى اللجنة الدائمة
كما سئلت اللجنة الدائمة سؤالاً حول هذا العيد هذا نصه :
يحتفل بعض الناس في اليوم الرابع عشر من شهر فبراير 14/2 ، من كل سنة ميلادية بيوم الحب ( فالنتين داي ) ، ويتهادون الورود الحمراء ويلبسون اللون الأحمر ويهنئون بعضهم وتقوم بعض محلات الحلويات بصنع حلويات باللون الأحمر ويرسم عليها قلوب وتعمل بعض المحلات إعلانات على بضائعها التي تخص هذا اليوم فما هو رأيكم ؟
فأجابت اللجنة : ... يحرم على المسلم الإعانة على هذا العيد أو غيره من الأعياد المحرمة بأي شيء من أكلٍ أو شرب أو بيع أو شراء أو صناعة أو هدية أو مراسلة أو إعلان أو غير ذلك لأن ذلك كله من التعاون على الإثم والعدوان ومعصية الله والرسول والله جل وعلا يقول : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) .
ويجب على المسلم الاعتصام بالكتاب والسنة في جميع أحواله لاسيما في أوقات الفتن وكثرة الفساد ، وعليه أن يكون فطناً حذراً من الوقوع في ضلالات المغضوب عليهم والضالين والفاسقين الذين لا يرجون لله وقاراً ولا يرفعون بالإسلام رأساً ، وعلى المسلم أن يلجأ إلى الله تعالى بطلب هدايته والثبات عليها فإنه لا هادي إلا الله ولا مثبت إلا هو سبحانه وبالله التوفيق . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
وفي الختام ننصح الأخوة بما يلي :
1- حث خطباء المساجد للتنبيه وتحذير الناس وتوضيح هذا الموضوع لإمام المسجد وإخباره بقرب حلوله مع إرفاق فتوى اللجنة وفتوى الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين - غفر الله له - ، وكل شخص يتكفل بإمام مسجده لإيصال الخبر له ، ومن المؤكد أن من الأخوة أئمة مساجد فلعل الذمة برئت بإخبارهم عند قراءتهم هذا المقال .
2- كل معلم ومعلمة عليه أمانة توضيح صورة هذا العيد وتنبيه الطلبة والطالبات لذلك وأنهم مسؤولون أمام الله غداً وبيان التحريم عن طريق فتوى اللجنة وكل ذلك لابد أن يبدأ قبل أسبوع حتى يستفاد من الحملة .
3- تنبيه أهل الحسبة وتبليغ مراكز الهيئات عن المحلات التي تبيع هدايا خاصة لهذا اليوم أو تحمل صوراً تدل على ماهية الهدية وطريقة تغليفها .
4- كما أنه على كل إنسان أن يقوم بمهمة التوعية بين أهل بيته ومن كان له أخوات مدرسات أو أخوة فليبلغهم بالأمر فكثير من الناس يجهلون هذا العيد وماهيته .
نسأل الله تعالى أن يحفظ المسلمين من مضلات الفتن وأن يقيهم شرور أنفسهم ومكر أعدائهم إنه سميع مجيب . وصلى الله وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . .
=================
رقم الفتوى 59555 النطق بكلمة الكفر (1)
تاريخ الفتوى : 22 محرم 1426
السؤال
ما رأي الدين في رجل قسيس مسيحي ولكنه مسلم في الخفاء ويعمل في الكنيسة وبالطبع يضل الناس في أي مناسبة ويقول إن المسيحية صح وغير ذلك ولكنه يذهب في منزله يصلي ويتلو القرآن ولكن لا أحد يعرف ذلك فهل هذا الشخص يصح إسلامه أم ماذا ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يجوز للمسلم أن ينطق بكلمة الكفر ولا أن يظهر دينا غير الدين الإسلامي إلا عند الضرورة كما سبق بيانه في الفتاوى: 26496 ، 44005 ، 55241 . ولكن كونه معذوراً عند الضرورة على النطق بكلمة الكفر لا يجيز له الترويج للكفر وتضليل الناس، أو نشر النصرانية فضلا عن عمله بالكنيسة قسيساً فهو بذلك يكون مرتداً، وراجع الفتوى رقم: 38537 . فالواجب عليكم النصح لهذا الرجل وأن تقيموا عليه الحجة وأن تبينوا له موقف المسلمين الأوائل الصحابة والتابعين وتابيعهم من مفاصلة الكفر وأهله والبراءة منه، ولم يخشوا في الله لومة لائم، ولم يقدموا على دينهم دينا ولا ولدا ولا وطنا، قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {التوبة:24}. وقال تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهار {المجادلة: 22}.
وبينوا له أنه يجب عليه ترك هذا العمل وليستعن بالله، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، وإن خاف أن يعتدي عليه النصارى إن أظهر دينه الإسلامي فعليه أن يخبر ولاة الأمر ليحموه من بطش الكنيسة، فإن تعذر عليه فر بدينه في سبيل الله، قال الله تعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ {العنكبوت:56}.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=================
رقم الفتوى 67185 حكم قول المسلم للكافر ((الأخ فلان))(2)
تاريخ الفتوى : 16 شعبان 1426
السؤال
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 7914)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 6039)(1/348)
ما حكم أن نقول لغير المسلم " الأخ " بزعم أنها أخوة إنسانية أو وطنية وليس المقصود بها دينياً ؟
وما حكم تهنئة النصارى بأعيادهم على اعتبار أن المصلحة تقتضي ذلك بالقياس إلى اختيار أخف الضررين واختيار أفضل المصلحتين ؟
أرجو الإفادة العاجلة .......
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإطلاق كلمة أخ على الكافر فيها تفصيل، فإن كان القائل يريد أخوة الدين فإن ذلك لا يجوز، وإن كان يريد أخوة النسب ولو النسب البعيد فلا بأس بذلك.
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا {الأعراف: 65} قال ابن عباس: أي ابن أبيهم وقيل أخاهم من القبيلة، وقيل أي بشرا من بني أبيهم آدم . وقال أيضا: وقيل له أخوهم لأنه منهم وكانت القبيلة تجمعهم كما تقول يا أخا تميم. وقيل إنما قيل له أخوهم لأنه من بني آدم كما أنهم من بني آدم، وقال أيضا في تفسير قوله تعالى: إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ {الشعراء: 106} أي ابن أبيهم وهي أخوة نسب لا أخوة دين وقيل هي أخوة المجانسة. اهـ.
ولكن ليحذر المسلم المستقيم العقيدة من كثرة إطلاق كملة أخ على الكفار والمشركين والملحدين لغير حاجة من تأليف لقلوبهم على الإسلام أو اتقاء لشرهم فإن كثرة إطلاق كلمة أخ عليهم قد تؤدي إلى ميل قلب المؤمن لهم ومودتهم وعدم بغضهم وإن مودة الكفار محرمة بل إنها تقدح في إيمان العبد. قال تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {المجادلة 22}
وانظر الفتاوى ذات الأرقام التالية: 22048 ، 11768 ، 32852 .
هذا، ولا يجوز تهنئة النصارى وسائر المشركين بأعيادهم التي هي من خصائص دينهم فضلا عن مشاركتهم في الاحتفال بها، ولا نرى الضرورة التي ذكرها السائل التي تلجئ المسلم لتهنئة الكفار بأعيادهم الكفرية وإقرارهم عليها، ولتعلم أيها الأخ الكريم أن تهنئة الكفار ببعض أعيادهم تعد تكذيبا لصريح القرآن ومما يدل على ذلك أن القرآن جاء فيه أن عيسى عليه السلام لم يصلب بل رفعه الله إليه، وأما النصارى فكما هو معلوم فإنهم يعتقدون أنه صلب ودفن وبقي في قبره ثلاثة أيام ثم قام، ويوم قيامه من قبره يعظمونه ويحتفلون به ويسمونه عيد القيامة المجيد، فكيف يطيب لمسلم موحد أن يهنئهم على مثل ذلك الكفر.
وانظر الفتاوى ذات الأرقام التالية: 8327 ، 4586 ، 26883 ، 41447
ولمزيد بيان حول الموضوع، ارجع إلى كتاب الولاء والبراء في الإسلام لمحمد سعيد القحطاني .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
===============
رقم الفتوى 68016 مصادقة الملحد وإكرام ضيافته (1)
تاريخ الفتوى : 07 رمضان 1426
السؤال
هل تحرم مصادقة الملحدين وإكرام ضيافتهم في داري؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا تجوز مصادقة الملحد ولا مودته ولا موالاته وإن كان من ذوي الأرحام، فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {التوبة:23}، وقال أيضاً: وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ {المائدة:51}، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {المائدة:57}، وقال أيضاً: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ {المجادلة:22}، وقال تعالى: وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ {هود:113}، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ {التوبة:73}، وللمزيد من البيان راجعي كتاب (الولاء والبراء في الإسلام) لمحمد سعيد القحطاني ، وانظري خطر مصاحبة الملحدين على دين المرء في الفتوى رقم: 20995 .
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 6780)(1/349)
هذا، ولا مانع لمن تضلع من العلم الشرعي أن يجالس الملحدين والكافرين لدعوتهم إلى الإسلام وكشف ما عندهم من الشبهات، ولا بأس حينئذ من إكرام ضيافتهم إذا كانت نية المكرم لهم تأليف قلبهم وترغيبهم في الإسلام، ولكن يحذر من تطاولهم على الله ورسوله أو طعنهم في الإسلام، فإن الله حرم استماع ذلك بدون إنكار، قال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا {النساء:140}، ولمزيد من الفائدة انظري الفتاوى ذات الأرقام التالية: 27185 ، 57344 ، 36991 ، 47679 ، 38253 ، 61372 .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============
رقم الفتوى 71699 الاشتغال بكتابة الروايات الإنجليزية (1)
تاريخ الفتوى : 16 محرم 1427
السؤال
أنا فتاه في السابعة عشر أهوى الكتابة باللغة الانجليزية، أكتب الآن في رواية عن شخصيات إنجليزية تعيش في المجتمع الانجليزي، الرواية والشخصيات ليس لها علاقة بالإسلام، سبب الاختيار هو أني أعشق روايات الأدب الانجليزي القديم فأردت أن أكتب عن أجواء شبيهة بما أقرؤه .
أنا أسألكم الآن لأني أحس بأن ما أفعله ربما يكون حراما، فأنا أعتزم أن أكتب عن مشاعر حب بين بعض الشخصيات لكني بالطبع لن أذكر أي شيء عن الرغبة الجنسية ولن أتناول تلك المشاعر بالطريقة التي تحدث الآن في ذلك المجتمع، بل أريد أن أصفها بطريقة لائقة فهل هذا حرام؟
فإذا كانت حياتنا مليئة بالخطوط الحمراء فهل يجب أن يكون خيالنا مليئا بها أيضًا؟ أحيانًا أتساءل هل موهبة الكتابة يجب استغلالها بما يخدم الإسلام أو القضايا العربية فقط ؟ هل الكتابة عن تلك المشاعر الطبيعية كالحب أو الأخوة أو الصداقة أمر لا داعي له؟ أنا طبعًا لا أريد أن أكون من هؤلاء الناس الذين يخربون مجتمعهم ولا أريد أن أكون من هؤلاء الناس العاشقين لحياة الغربيين وما فيها من انفتاح، فقط أريد أن أكتب عن شخصيات مختلفة، ما هي ملامحهم و ما هي طريقة تفكيرهم و رؤيتهم للأمور حولهم وما يواجههم في حياتهم دون مدح أو ذم لأي مجتمع، فهل هذا حرام؟
إذا كانت الكتابة عن الحب حرام (علما بأنه جزء من الرواية و ليس المحور ) فما الذي يجب أن أفعله الآن؟ هل أنسى تلك الصفحات التي تعدّت المئة و أقنع نفسي بوجوب التوقف عن إكمالها؟ هل هذا ما يوجبه عليّ ديني؟
بصراحة أنا متعلّقة بهذه الرواية، لأنها الطريقة التي تتيح لي الفرصة لأعرّف الناس بتلك الشخصيات الخياليّة في عقلي وأجعل لها مكانا في العالم، وهي السبيل لكي أعبر عن تلك المشاعر التي حرمت منها في حياتي.
وأيضًا أحب بأن يحب الناس شخصياتي مثلما أحب الشخصيات التي أقرأ عنها.
أخيرًا لدي طلب صغير وتعليق،
الطلب: أرجو أن يكون الرد بلغة واضحة كي أفهمه بالشكل المطلوب وأتمنى أن لا يكون موجزا.
التعليق: عندما أشاهد المسلسلات والأفلام الأجنبية أتأثر بالطريقة التي يعامل بها الآباء أبناءهم، ربما تكون غير حقيقية لكني أتمنى لو أن المسلمين يتعاملون بتلك الطريقة مع أبنائهم.
أحس بأن العرب خصوصًا لا يعلمون ما معنى كلمة تربية! أنا مثلاً لا أجد من أشاطره أفكاري، أحاول أن أفعل ذلك مع والدتي لكنّي لا أجد الاهتمام المطلوب، دائمًا أرى شيوخ الدين على التلفاز يجيبون على أسئلة المشاهدين و لا أعلم لماذا ليس هناك سؤال واحد عن طريقة التربية المثلى؟
لماذا لا يحاول الأهل التناقش مع الأبناء؟ لماذا لا نسمع السبب بعد أن نسمع كلمة حرام؟
كثيرًا ما تدور في رأسي أفكار ولا أجد شخصا أكبر مني ذا خبرة أوسع أن يناقشني؟ أحس بأني منذ سن البلوغ حتى الآن أصارع وحدي الرغبة بفعل الحرام (مثل الأغاني أو الأفلام) أحاول أن أفهم نفسي بنفسي و لا أجد من يناقشني إلا من هم في عمري!
أنا و صديقة لي قررنا مرة أن نذهب لطبيب نفسي بعد المدرسة دون علم أهلنا لكي نخبره عن أفكارنا و مشاعرنا، ربما يكون ذلك تفكير طفولي لكن لا يوجد ذلك الشخص الذي يعطي من يسمونهم ( المراهقين ) بعض وقته، يبذل ولو جهد قليل لمساعدتهم، أعرف بعض الفتيات ممن لهن علاقات خاطئة، ,أعتقد بأن جزءا من اللوم يجب أن يلقى على عاتق الأهل والمعلمين وكل من يدعي بأن "المراهقين" لا يعلمون ما يفعلون! فإذا كان ذلك ادعاءهم لماذا لا يتحملون جزءًا من المسؤولية؟! أتعجب لماذا ينفذ بعض الغربيين ما يجب أن ينفذه كل المسلمين!!!
لماذا لا تهتم المدارس هنا في دولنا الإسلامية العربية بما هو أهم من الأنشطة السخيفة؟ حتى شيوخ الدين قليلاً ما أراهم يأتون على مدرستي!! أتمنى اهتماما أكبر بالفئة العمرية بين العاشرة والعشرين ؟
شكرًا على هذه الفرصة ..
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد بينا حكم كتابة الروايات والقصص الأدبية والخيالية وقصص الحب العذري وذكرنا أن حكمها الشرعي ينبي على مضمونها وقصد صاحبها ، وذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية : 47548 ، 25473 ، 13278 .
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 1498)(1/350)
وننبهك إلى أن الإغراق في قصص أولئك القوم مضيعة للوقت وإهدار للطاقة ، ونتيجته الحتمية هي ما ذكرت من عشق لها وربما لأصحابها وهذا خطير جدا لأن المرء مع من أحب كما عند البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : المرء مع من أحب . وفي رواية عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المرء مع من أحب . فقراءتك لقصص القوم أورثتك محبتهم ولا يجتمع حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم مع حب من يحادون الله ورسوله فقد قال تعالى : لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ {المجادلة: 22 }
كما أن شغل الوقت جميعه بقراءة مثل ذلك والكتابة فيه لمجرد التفكه من الباطل المذموم شرعا .
وقد بينا ضوابط جواز تعلم الثقافة الغربية وخطورة الانبهار بها في الفتوى رقم: 46650 .
وننبهك إلى أن التربية لديهم لا ينبغي لعاقل أن يتخذها مثالا يحتذى، فهم وإن كانت لديهم بعض الجوانب الإيجابية في ذلك فسيئاتهم تغلب حسناتهم؛ لأنهم يهملون الجوانب الإيمانية والسلوكية لدى الطفل ولايربونه على احترام أبويه فينشأ مستقلا عنهما فلا سلطة لهما عليه، وفي الأغلب إنما يضعونه في دور التربية والرعاية فلا يعرفهم ولا يعرفونه، وهكذا فلا مجال للمقارنة بينهما وبين التربية الإسلامية المتكاملة في جميع جوانبها حيث تلحظ سلوك الطفل قبل التئام أبويه إلى أن يشب عن الطوق وذلك باختيار الزوجة الصالحة والمغرس الطيب الكريم ، ثم ما يلزم بعد ذلك من آداب وسنن تعيذه من الشيطان ونزغاته إلى أن يولد فيسمى بأحسن الأسماء وأجملها وأصدقها وهلم جرا... وأي معنى أعظم أو دلالة أبلغ في ذلك من جعل الإسلام تربية الأبناء ورعايتهم من الأمانة التي سيسأل عنها المرء يوم القيامة كما في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته ، قال وحسبت أن قد قال والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته ، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته . وخطأ بعض الآباء أو الأمهات أو البيئات لا ينبغي أن يعمم حتى يلام به مجتمع بأسره ، وينبغي تنبيه المخطئ إلى خطئه ومناصحته ولو كان أبا أو أما أو مدرسة أو غيرها لكن بالحكمة والموعظة الحسنة، ولمعرفة أهمية التربية في الإسلام انظري الفتاوى التالية : 13767 ، 17078 ، 16800 .
والذي ننصحك به أيتها الأخت الكريمة أن تقبلي على كتاب ربك وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة بدل ما أنت عليه، وانظري هل يسرك أن تبقى بعدك تلك القصص التي قد يكون من أهون مخاطرها وسيئاتها أن تشيع الفاحشة وتدعو إلى الحرام وتعظم أصحابها في نفوس نشء المسلمين وقد يكون فيها ماهو كذب وتلفيق ، وهذا كاف في تحريمها ولا يثقل عليك أن تُتْلفي ما أعددت منها فلك في الصحابة أسوة حسنة يوم حرمت عليهم الخمر فأراقوها حتى سالت منها أزقة المدينة ، هذا إذا تضمنت تلك القصص ما ذكرناه وهو الغالب فيها لكونه جزءا من حياة أصحابها وسبق التفصيل في الفتوى المحال إليها، وانظري إلى ما كتبت من أي تلك الأقسام .
وينبغي أن تسعي في دعوة زميلاتك إلى الله ونصحهن وتحذيرهن من الحرام، وابحثي عن رفقة صالحة تعينك على الالتزام وتذكرك بالله عز وجل، فالدعوة مسؤولية الجميع ليست لكبير عن صغير أو لذكر عن أنثى .
وأما سؤالك عن المدارس وغيرها لماذا لا تهتم وتولي التربية عناية بالغة عوض ما توليه الأنشطة التي قد لا تكون لها أهمية كبيرة، فهذا السؤال ينبغي أن يوجه إلى إدارات المدارس ومؤسسات التربية والتعليم ، فهم الذين يملكون الإجابة عليه ، وأما المشايخ وطلبة العلم فإن صدورهم مفتوحة وأبوابهم مشرعة لكل من أراد التعلم والسؤال عن أمر دينه وما هذا الموقع إلا مثال بسيط على ذلك ، وننبهك إلى أن من أقسامه قسم الاستشارات الدعوية والطبية إضافة إلى قسم الفتوى وغيره من الأقسام . والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
والله أعلم .
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
================
رقم الفتوى 72574 الدعاء للكافر.. الجائز والممنوع (1)
تاريخ الفتوى : 15 صفر 1427
السؤال
أنا وقعت في حب امرأة مشركة وأنا أعاني من هذه الحالة وأريد أن أنهي علاقتي بها ولكني أخاف عليها من أهوال يوم القيامة فهل يجوز أن أستودعها عند الله على نية أن يهديها حسب الحديث الشريف ( من استودع الله شيئا حفظه له) ؟
جزاكم الله عنا كل خير .
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يجوز لك أن تحب امرأة مشركة ولا رجلا مشركا سيما إذا أصر على كفره وشركه، فقد قال تعالى عن إبراهيم وأبيه : فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ {التوبة: 114 } وقال تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ {المجادلة: 22 } وقد بينا حكم الحب في الإسلام ما يجوز منه وما لا يجوز في الفتوى رقم: 5707 ،
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 2276)(1/351)
وأما الحديث الذي ذكرته فقد أخرجه ابن حبان في صحيحه عن مجاهد قال : خرجت إلى العراق أنا ورجل معي فشيعنا عبد الله بن عمر، فلما أراد أن يفارقنا قال: إنه ليس معي شيء أعطيكما؛ ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا استودع الله شيئا حفظه، وإني أستودع الله دينكما وأمانتكما وخواتيم عملكما . وفي جامع العلوم والحكم قال ابن رجب بعدما ذكر الحديث: قال المناوي في فيض القدير عند شرحه لهذا الحديث: لأن العبد عاجز ضعيف والأسباب التي أعطيها عاجزة ضعيفة مثله، فإذا تبرأ العبد من الأسباب وتخلى من وبالها وتحلى بالاعتراف بالضعف واستودع الله شيئا فهذا منه في ذلك الوقت تخلى وتبرى من حفظه ومراقبته فيكلأه الله ويرعاه ويحفظه، والله خير حفظا، فهذا هو معنى الحديث، ولاينبغي أن تستودع الله تلك المشركة ليحفظها من النار؛ إذ لا يجوز الدعاء للكافر بالمغفرة أو الرحمة ونحوهما من ثواب الآخرة. قال النووي في المجموع: وأما الصلاة على الكافر، والدعاء له بالمغفرة فحرام بنص القرآن والإجماع. أما الدعاء له بالهداية، والدخول في الإسلام فيجوز.
كما لا يجوز لك أن تبقى معها على علاقة غير مشروعة كما بينا سابقا، ولكن تدعوها إلى دين الإسلام بضوابط ذلك دون خلوة أوخضوع بالقول، فإن أجابتك إلى ذلك وهداها الله للإسلام فبها ونعمت؛ وإلا فإنك لا تستطيع هداية من تحب؛ كما قال تعالى لنبيه : إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {القصص: 56 } وقال : فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ {فاطر: 8 } ومصيرها إذا لم تسلم إلى نار جهنم خالدة فيها -والعياذ بالله- قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ {النساء: 116 } وقال : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ {البينة: 6 } فإن كنت صادقا في شفقتك عليها فاجتهد في دعوتها لعل الله يهديها على يديك، وقد قال صلى الله عليه وسلم : لأن يهدي الله على يديك أو بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم . رواه البخاري ومسلم. والمقصود النفس، وذكر الرجل من باب الغالب، والأولى أن يتولى النساء أمر دعوتها؛ إذ لايؤمَن عليك أن تقع معها في معصية، أو ترى منها ما لا يجوز لك ونحوه ، وانظر الفتوى رقم : 11975 .
والله أعلم .
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
================
رقم الفتوى 72626 صحابة ولدوا لآباء كانوا من صناديد الكفر (1)
تاريخ الفتوى : 18 صفر 1427
السؤال
من هم صناديد الكفر الذين أخرج الله من أصلابهم صناديد الإسلام ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فصناديد الكفر الذين عارضوا الإسلام ودعوته كثيرون بعضهم دخل في الإسلام, وبعضهم مات على الكفر عياذا بالله, وأغلب أبنائهم دخلوا في الإسلام. وممن يذكر هنا خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ فوالده الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم كان من صناديد الكفر, وعكرمة بن أبي جهل ـ رضي الله عنه ـ والده أبو جهل كان من أعتى صناديد الكفر, ومنهم عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول ـ رضي الله عنه ـ قال ابن حجر في الإصابة: وكان أبوه رأس المنافقين, ومنهم عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ فأبوه العاصي بن وائل السهمي كان من صناديد الكفر, ومنهم أبوعبيدة بن الجراح ـ رضي الله عنه ـ كان والده الجراح من صناديد الكفر وتعرض له يوم بدر فقتله وفيه نزلت الآية: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْ مُفْلِحُونَ) {المجادلة:22}
كما ذكر ابن كثير وغيره
وهكذا فإن صناديد الكفر الذين ماتوا عليه وقد أخرج الله من أصلابهم صناديد في نصرة الإسلام كثير. وللاستزادة انظر كتب التاريخ والسير. فالموقع مشغول عن استقصائهم واحدا واحدا وقد ضربنا لك أمثلة تقرب لك ذلك.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
================
معنى قوله تعالى ( لا تتولوا قوما غضب الله عليهم )(2)
س ما معنى قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } ؟ فما معنى الولاية أن تذهب إليهم وتحدثهم وتكلمهم وتضحك معهم ؟
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 2324)
(2) - فتاوى إسلامية - (ج 1 / ص 144)(1/352)
ج نهى الله تعالى المؤمنين أن يوالوا اليهود و غيرهم من الكفار ولاء ود و محبة و إخاء و نصرة وأن يتخذونهم بطانة ن ولو كانوا غير محاربين للمسلمين ، قال تعالى { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } . الآية ، وقال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ .هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ } . الآية ، و ما في معناه من نص من الكتاب و السنة و لم ينه الله تعالى المؤمنين عن مقابلة معروف غير الحربيين بالمعروف أو تبادل المنافع المباحة من بيع و شراء و قبول الهدايا والهبات قال تعالى { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } .
اللجنة الدائمة
==============
حكم استقدام غير المسلمين للعمل في بلاد المسلمين وخاصة الجزيرة العربية (1)
س هل يجوز استقدام الأيدي العاملة من غير المسلمين ؟
لا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج المشركين من جزيرة العرب ، وأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وقال " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً " . رواه مسلم . فالأحاديث تدل على أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن تبقى جزيرة العرب ليس فيها إلا مسلم ، لما في وجود النصارى وغيرهم من الكفار في الجزيرة من الخطر . وهذه الجزيرة منها بدأ الإسلام ، وانتشر في أرجاء العالم ، وإليها يعود كما ثبت في الصحيح من أن الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها . وإذا كان كذلك فإن استقدام غير المسلمين إلى هذه الجزيرة فيه خطر عظيم ، ولو لم يكن من خطره ومضرته إلا أن المستقدِم لهم يألفهم ويركن إليهم ، وربما يقع في قلبه محبة لهم وتودد إليهم ، وقد قال الله تعالى { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } وربما يشتبه عليه الحق بالباطل ، فيظن أنهم إخوة لنا ، يطلق عليهم إخوة ، ويدعي بما يوحي به الشيطان أنهم إخوة لنا في الإنسانية ، وهذا ليس بصحيح ، فإن الأخوة الإيمانية هي الأخوة الحقيقية ، ومع اختلاف الدين لا أخوة ، حتى أن الله عز وجل لما قال نوح { رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ } قال { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } وقد قطع النبي صلى الله عليه وسلم الصلة بين المؤمنين والكافرين حتى في الميراث بعد الموت ، فقال " لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم " . وإذا كان الأمر هكذا فإن الاحتكاك بغير المسلمين واستقدامهم ومشاركتهم في الأعمال ، وفي الأكل والشرب ، والذهاب والمجيء ، كل هذا ربما يميت الغيرة في قلوب المسلمين حتى يألفوا من قال الله تعالى فيهم { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ } .
الشيخ ابن عثيمين
=================
مخالطة غير المسلمين تمحو غيرتك الدينية (2)
س أنا مقيم في الأردن بمنزل معظم سكانه من الإخوة المسيحيين ، نأكل ونشرب مع بعضنا ، فهل صلاتي باطلة وهل إقامتي معهم لا تجوز ؟
__________
(1) - فتاوى إسلامية - (ج 1 / ص 145)
(2) - فتاوى إسلامية - (ج 1 / ص 147)(1/353)
ج قبل الإجابة على سؤالك أود أن أذكر له ملاحظة أرجو أن تكون جرت على لسانك بلا قصد وهي قولك ( أعيش مع الإخوة المسيحيين ) ، فإنه لا أخوّة بين المسلمين وبين النصارى أبداً ، الإخوّة هي الإخوة الإيمانية كما قال الله عز وجل { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } . وإذا كانت قرابة النسب تنتفى باختلاف الدين فكيف تثبت الإخوة مع اختلاف الدين وعدم القرابة ؟ قال الله عز وجل عن نوح وابنه لما قال نوح عليه الصلاة والسلام { رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } . فلا أخوة بين المؤمن والكافر أبداً ، بل الواجب على المؤمن أن لا يتخذ الكافر ولياً كما قال الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ } . فمن هم أعداء الله أعداء الله ؟ هم الكافرون . قال الله تعالى { مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } . وقال سبحانه وتعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } . فلا يحل للمسلم أن يصف الكافر أياً كان نوع كفره سواء كان نصرانياً أم يهودياً أم مجوسياً أم ملحداً لا يجوز له أن يصفه بالأخ أبداً فاحذر يا أخي مثل هذا التعبير . وأما الإجابة على السؤال فأقول إنه ينبغي أن تبتعد عن مخالطة غير المسلمين لأن مخالطتهم تزيل الغيرة الدينية من قلبك ، وربما تؤدي إلى مودتهم ومحبتهم ، وقد قال الله تعالى { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .
-===============
معنى قوله تعالى { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر .. }(1)
س - الحمد لله وبعد فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء على السؤال المقدم من سليمان بن عثمان جويوبو ونصه فسروا لنا هذه الآية { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله .. } إلى آخر السورة ، لأن بعض الناس يكفر بعضهم بعضا حتى آباءهم وامهاتهم وإخوانهم وأخواتهم ولو كانوا يصلون ويصومون ويكفيرون غيرهم ، فبينوا لنا معنى هذه الآية . وقد أجابت اللجنة بما يلي
ج- يخبر الله جل شأنه رسوله محمد ، - صلى الله عليه وسلم - ، بأنه لا يجد ممن أمن بالله واليوم الآخر وأخلصوا قلوبهم لله واسلموا وعدلوا عما جاء به ، - صلى الله عليه وسلم - ، من عند الله من الهدى والنور مهما طال الزمن وقلبت فيهم البصر وامعنت النظر فسوف لا تجد من المخلصين الصادقين في إيمانهم من يحب قلبه هؤلاء الكفار ولو كانوا من أقرب الناس إليهم نسباً من آبائهم وأبنائهم وأخوانهم وعشيرتهم الأقربين وفي هذا ثناء جميل من الله سبحانه وتعالى لهم في الثبات على ذلك والازدياد منه وأمر للناس أن يسيروا سيرتهم وينهجوا نهجهم في الإخلاص وصدق الإيمان وتحذير من صنيع المنافين الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم من اليهود ويحلفون لرسول الله ، - صلى الله عليه وسلم - ، أيمانا كاذبة ليرضوه ويقولون { نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } .
فتضمنت هذه الجملة الثناء على المؤمنين الصادقين بالبراءة من الكافرين والتحذير من حبهم ومودتهم والنهي عن ذلك كما في قوله تعالى { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة } وكما في قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانك أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولاهم منكم فأولئك هم الظالمون ، قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } وكما في قوله تعالى { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذا قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ، إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شئ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } إلى غير هذه الآيات من نصوص الكتاب والسنة التي نهت عن إتخاذ اليهود والنصارى أولياء وغيرهم من الكفار وحذرت من تولي من غضب الله عليهم ومن اتخذوا دين الله هزوا من الذين أوتوا الكتاب وسائر الكفار .
__________
(1) - فتاوى إسلامية - (ج 4 / ص 71)(1/354)
هذا بيان من الله تعالى لحكم أعمال القلوب من محبة ووداد وبراء من الكافرين وبغضهم وبغض ما ارتكسوا فيه من غي وضلال أما المعاملات الدنوية من بيع وشراء وسائر تبادل المنافع فتابع للسياسة الشرعية والنواحي الاقتصادية فمن كان بيننا وبينهم موادعة جاز أن نتبادل معهم المنافع من بيع وإجارة كراء وقبول الهدايا والهبات والمكافأة عليها بالمعروف والإحسان إقامة للعدل ومراعاة لمكارم الأخلاق على أن يعارض ذلك أصلا شرعياً ولا يخرج عن سنن المعاملات التي أحلها الإسلام قال تعالى { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } .
ومن كان بيننا وبينهم حرب أو اعتدوا علينا فلا يجوز أن نتولاهم في المعاملات الدنيوية بل يحرم ذلك كما حرم توليهم بالمحبة والاخاء قال الله تعالى { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } وقد بين النبي ، - صلى الله عليه وسلم - ، ذلك بياناً عملياً في السلم والحرب مع اليهود بالمدينة وخيبر ومع النصارى وغيرهم من الكفار ، ثم بين الله تعالى السبب الذي كان عنه بغضهم للكافرين فقال { أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه } أن هؤلاء الذين صدقوا الله ورسوله هم الذين قرر الله في قلوبهم الايمان وثبته في نفوسهم وقواهم ببرهان منه ونور وهدى فوالوا أولياء وعادوا أعداءه وساروا على الشريعة التي رضيها الله تعالى لهم دينا ثم بين جزاءهم بقوله { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه } أي يتفضل الله عليهم بمنة وكرمه فيدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فيمنعهم بذلك النعيم أولئك المخلصون الأطهار مقيمين فيها أبد الأباد لا يفنى نعيمها ولا يزول وما هم منها بمخرجين رضي الله عنهم بما حققوه من إيمان صادق وعمل صالح ورضوا عن قضائه وتشريعه وجزامئه وأثنوا عليه بما هو أهله ثم ختم السورة بقوله { أولئك حزب الله ، ألا إن حزب الله هو المفلحون } فأخبر تعالى بأنهم جنده الذين تولوه بالطاعة فتولاهم بنصره وفضله وإحسانه في الدنيا والآخره وكانوا هم الفائزين دون من خادع الله ورسوله وتولى الكافرين ومن ذلك يتبين ما يأتي
أولا أن من أحب الكفار ووادهم فهو كافر كفر يخرج من ملة الإسلام .
ثانيا من أبغضهم بقلبه وتبادل معهم المنافع من بيع وشراء وإجارة وكراء في حدود ما شرع الله فلا حرج عليه .
ثالثا من أبغضهم في الله ولكن عاشرهم وعاش بين أظهرهم لمصلحة دنيوية وآثر ذلك على الحياة مع المسلمين في ديارهم فهو آثم في ذلك من تكثير سوادهم والتعاون معهم دون المسلمين ولأنه عرض نفسه للفتن وحرمها من التعاون مع المسلمين على أداء شعائر الإسلام وحضور مشاهده والتناصح والتشاور بين المسلمين فيما يعود على الأمة الإسلامية بالقوة والنهوض إلى ما تسعد به في الدنيا والآخرة إلا إذا كان عالما يأمن على نفسه الفتنة ويرجو من إقامته بينهم أن ينفع الله به في الدعوة إلى الإسلام ونشره بينهم ، وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة
================
معنى الولاية (1)
ما معنى قوله تعالى { لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم } وما معنى الولاية معهم . وهل تكون الولاية أن تذهب إليهم وتحدثهم وتكلمهم وتضحك معهم ؟
ج- نهى الله تعالى المؤمنين أن يوالوا اليهود وأشباههم من الكفار ولاء ود ومحبة وإخاء ونصرة وأن يتخذوهم بطانة ولو كانوا غير محاربين للمسلمين قال تعالى { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا أباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه " الآية ، وقال { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون . ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم .. } الآية وما في معناها من نصوص ، الكتاب والسنة ، ولم ينه الله تعالى المؤمنين عن مقابلة معروف غير الحربيين بالمعروف أو تبادل المنافع المباحة معهم من بيع وشراء وقبول الهدايا والهبات ، قال تعالى { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } .
اللجنة الدائمة
==============
حكم كفار أهل الكتاب المقيمين بين أظهرنا(2)
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 36)
السؤال الثالث والرابع من الفتوى رقم ( 3786 ) :
س3: في حكم كفار أهل الكتاب المقيمين بين أظهرنا، مع العلم بعدم دفعهم جزية، بل إنهم يعادون أهل الإسلام ولا يتركون موطئا يعود على الإسلام بالأذى والضر إلا وشاركوا فيه خفية أو جهارا، فكيف يكون التعامل معهم؟ وكيف يبدي المسلم عدم الموالاة لهم في هذا الموضع؟
__________
(1) - فتاوى إسلامية - (ج 4 / ص 97)
(2) - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 2 / ص 250)(1/355)
ج3: من سالم المسلمين من الكفار وكف عنهم أذاه عاملناه بالتي هي أحسن، وقمنا بواجب الإسلام نحوه من بر ونصح وإرشاد، ودعوة إلى الإسلام وإقامة الحجة عليه؛ رجاء أن يدخل في دين الإسلام، فإن استجاب فالحمد لله، وإن أبى طالبناه بما يجب عليه من الحقوق التي دل عليها الكتاب والسنة، فإن أبى قاتلناه؛ حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الكفر هي السفلى، أما من تعالى على المسلمين منهم وتولاهم بالأذى وبيت لهم الشر فالواجب على المسلمين أن يدعوه إلى الإسلام، فإن أبى قوتل؛ نصرة للدين، وكفا لأذاه عن المسلمين، قال الله تعالى: سورة المجادلة الآية 22 لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ الآية، وقال تعالى: سورة الممتحنة الآية 8 لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ سورة الممتحنة الآية 9 إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
=============
ما معنى قوله تعالى: سورة الممتحنة الآية 13 لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وما معنى الولاية معهم؟ (1)
السؤال الثامن من الفتوى رقم ( 4246 ) :
س8: ما معنى قوله تعالى: سورة الممتحنة الآية 13 لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وما معنى الولاية معهم؟ وهل تكون الولاية أن تذهب إليهم وتحدثهم وتكلمهم وتضحك معهم؟
ج8: نهى الله تعالى المؤمنين أن يوالوا اليهود وغيرهم من الكفار ولاء ود ومحبة وإخاء ونصرة، وأن يتخذوهم بطانة ولو كانوا غير محاربين للمسلمين؛ قال تعالى: سورة المجادلة الآية 22 لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ الآية، وقال: سورة آل عمران الآية 118 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ سورة آل عمران الآية 119 هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ إلى أن قال سبحانه: سورة آل عمران الآية 120 وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وما في معناها من نصوص الكتاب والسنة، ولم ينه الله تعالى المؤمنين عن مقابلة معروف غير الحربيين بالمعروف أو تبادل المنافع المباحة معهم من بيع وشراء وقبول الهدايا والهبات، قال تعالى: سورة الممتحنة الآية 8 لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ سورة الممتحنة الآية 9 إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 66)
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
==============
تهنئة النصارى بأعيادهم(2)
فتوى رقم ( 11168 )
س ما حكم الإسلام في تهنئة النصارى في أعيادهم؛ لأنه عندي خالي جاره نصراني يهنئه في الأفراح وفي الأعياد وهو أيضا يهنئ خالي في فرح أو عيد وكل مناسبة، هل هذا جائز تهنئة المسلم
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 436)
للنصراني والنصراني للمسلم في أعيادهم وأفراحهم؟ أفتوني جزاكم الله خيرا
__________
(1) - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 2 / ص 280)
(2) - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 4 / ص 108)(1/356)
ج لا يجوز للمسلم تهنئة النصارى بأعيادهم؛ لأن في ذلك تعاونا على الإثم وقد نهينا عنه قال تعالى سورة المائدة الآية 2 وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ كما أن فيه توددا إليهم وطلبا لمحبتهم وإشعارا بالرضى عنهم وعن شعائرهم وهذا لا يجوز، بل الواجب إظهار العداوة لهم وتبين بغضهم؛ لأنهم يحادون الله جل وعلا ويشركون معه غيره ويجعلون له صاحبة وولدا قال تعالى: سورة المجادلة الآية 22 لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ الآية، وقال تعالى سورة الممتحنة الآية 4 قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
===============
تفسير سورة المجادلة (1)
(الجزء رقم : 4، الصفحة رقم: 328)
فتوى رقم ( 1851 ) :
س: فسروا لنا هذه الآية: سورة المجادلة الآية 22 لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلى آخر السورة، بعض الناس يكفر بعضهم بعضا حتى آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم، ولو كانوا يصلون ويكفرون غيرهم، فبينوا لنا معنى هذه الآية.
ج: يخبر الله جل شأنه رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه لا يجد ممن آمن بالله واليوم الآخر، وأخلصوا قلوبهم لله، وأسلموا وجوههم له، فأطاعوه فيما أمر، واجتنبوا ما نهى عنه وزجر -قوما يحبون من شاق الله ورسوله وعدلوا عما جاء به صلى الله عليه وسلم من عند الله من الهدى والنور مهما طال الزمن وقلبت فيهم البصر وأمعنت النظر فسوف لا تجد من المخلصين الصادقين في إيمانهم من يحب قلبه هؤلاء الكفار، ولو كانوا من أقرب الناس إليهم نسبا من آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وعشيرتهم الأقربين، وفي هذا ثناء جميل من الله سبحانه على أولئك الأخيار الذين صدقوا الله ورسوله، واتبعوا ما جاءهم من الهدى والنور، وفيه ترغيب لهم في الثبات على ذلك والازدياد منه، وأمر للناس أن يسيروا سيرتهم وينهجوا نهجهم في الإخلاص وصدق الإيمان، وتحذيرهم من صنيع المنافقين الذين تولوا قوما غضب الله عليهم من اليهود، ويحلفون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيمانا كاذبة ليرضوه ويقولون: سورة المنافقون الآية 1 إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ فتضمنت هذه الجملة الثناء على المؤمنين الصادقين بالبراءة من الكافرين، والتحذير من حبهم ومودتهم والنهي عن ذلك، كما في قوله تعالى: سورة آل عمران الآية 28 لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وكما في قوله تعالى: سورة التوبة الآية 23 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ سورة التوبة الآية 24 قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ وكما في قوله تعالى: سورة الممتحنة الآية 4 قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ إلى غير هذه الآيات من نصوص الكتاب والسنة التي نهت عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء وغيرهم من الكفار، وحذرت من تولي من غضب الله عليهم ومن اتخذوا دين الله هزوا من الذين أوتوا الكتاب وسائر الكفار.
__________
(1) - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 4 / ص 468)(1/357)
وهذا بيان من الله تعالى لحكم أعمال القلوب من محبة ووداد وبراء من الكافرين، وبغضهم وبغض ما ارتكبوه من غي وضلال، أما المعاملات الدنيوية من بيع وشراء وسائر تبادل المنافع فتابع للسياسة الشرعية والنواحي الاقتصادية، فمن كان بيننا وبينهم موادعة جاز أن نتبادل معهم المنافع من بيع وإجارة وكراء وقبول الهدايا والهبات والمكافأة عليها بالمعروف والإحسان؛ إقامة للعدل ومراعاة لمكارم الأخلاق، على أن لا يخالف ذلك أصلا شرعيا، ولا يخرج عن سنن المعاملات التي أحلها الإسلام، قال الله تعالى: سورة الممتحنة الآية 8 لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
ومن كان بيننا وبينهم حرب أو اعتدوا علينا فلا يجوز أن نتولاهم في المعاملات الدنيوية، بل يحرم ذلك كما حرم توليهم بالمحبة والإخاء، قال الله تعالى: سورة الممتحنة الآية 9 إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بيانا عمليا في السلم والحرب مع اليهود بالمدينة وخيبر ، ومع النصارى وغيرهم من الكفار، ثم بين الله تعالى السبب الذي كان منه بغضهم للكافرين فقال: سورة المجادلة الآية 22 أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ إن هؤلاء الذين صدقوا الله ورسوله هم الذين قرر الله في قلوبهم الإيمان وثبته في نفوسهم وأيدهم ببرهان منه ونور وهدى، فوالوا أولياءه، وعادوا أعداءه، وساروا على الشريعة التي رضيها الله تعالى لهم دينا، ثم بين جزاءهم بقوله: سورة المجادلة الآية 22 وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أي: أنه يتفضل الله عليهم بمنه وكرمه فيدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، فيها من النعيم المقيم مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فينعم بذلك النعيم أولئك المخلصون الأطهار، مقيمين فيها أبد الآباد، لا يفنى نعيمها ولا يزول، وما هم منها بمخرجين، رضي الله عنهم بما حققوه من إيمان صادق وعمل صالح، ورضوا عن قضائه وتشريعه وجزائه، وأثنوا عليه بما هو أهله، ثم ختم السورة بقوله: سورة المجادلة الآية 22 أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فأخبر تعالى بأنهم جنده الذين تولوه بالطاعة فتولاهم بنصره وفضله وإحسانه في الدنيا والآخرة، وكانوا هم الفائزين دون من خادع الله ورسوله وتولى الكافرين، ومن ذلك يتبين ما يأتي: أولا: أن من أحب الكفار ووادهم دينا فهو كافر كفرا يخرج من ملة الإسلام. ثانيا: من أبغضهم بقلبه وتبادل معهم المنافع من بيع وشراء وإجارة وكراء في حدود ما شرع الله فلا حرج عليه. ثالثا: من أبغضهم في الله ولكن عاشرهم وعاش بين أظهرهم لمصلحة دنيوية وآثر ذلك على الحياة مع المسلمين في ديارهم فهو آثم، لما في ذلك من تكثير سوادهم والتعاون معهم دون المسلمين، ولأنه عرض نفسه للفتن وحرمها من التعاون مع المسلمين على أداء شعائر الإسلام وحضور مشاهده، والتناصح والتشاور مع المسلمين فيما يعود على الأمة الإسلامية بالقوة والنهوض إلى ما تسعد به في الدنيا والآخرة إلا إذا كان عالما يأمن على نفسه الفتنة، ويرجو من إقامته بينهم أن ينفع الله به في الدعوة إلى الإسلام ونشره بينهم.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
=============
الدعوة إلى الإسلام تستلزم إقامة علاقات شخصية مع الكفار (1)
السؤال الخامس من الفتوى رقم ( 4214 )
س5: الدعوة إلى الإسلام تستلزم إقامة علاقات شخصية مع الكفار؛ أولا لإزالة الغربة والتمهيد للدعوة، فهل إذا دعاني أحدهم إلى طعام أو شراب ليس من المحرمات مثل الجبن والسمك والشاي يجوز لي تناوله؟ إذا كان هناك احتمال استخدام الأوعية قبل ذلك في تناول الخنزير والخمر رغم غسلها بالماء والصابون؟
__________
(1) - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 12 / ص 325)(1/358)
ج5: العلاقات بين الناس أنواع، فإذا كانت علاقة ود ومحبة وإخاء من مسلم لكافر فهي محرمة، وقد تكون كفرا، قال الله تعالى: سورة المجادلة الآية 22 لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وما في معناها من الآيات والأحاديث، وإن كانت علاقة بيع وشراء أو إجابة دعوة إلى طعام حلال أو قبول هدية مباحة مثلا، دون أن يكون في ذلك تأثير على المسلم؛ فهي مباحة، وتناول ما قدم من الكافر إلى المسلم من الأطعمة والأشربة الحلال جائز، ولو قدمت في إناء سبق أن استعمل في شراب خمر أو تناول لحم خنزير أو نحو ذلك؛ إذا كان قد غسل بعد استعماله في محرمات أو نجاسات حتى
(الجزء رقم : 12، الصفحة رقم: 254)
زال ذلك منه تماما، وإذا كان في ذلك إعانة على إبلاغ الدعوة إلى الإسلام كان ذلك أدعى إلى الإجابة والاتصال، وأرجى للأجر والثواب.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
===============
بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن حكم الاحتفال بحلول عام 2000 الإفرنجي وما يتعلق به من أمور (1)
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من عدد من المستفتين ، والمحالة استفتاءاتهم إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (3825) وتاريخ 21 / 7 / 1420 هـ ، ورقم (3829) وتاريخ 21 / 7 / 1420 هـ ، ورقم (3841) ، وتاريخ 22 / 7 / 1420 هـ ، ورقم (3847) ، وتاريخ 22 / 7 / 1420 هـ ، ورقم (3962) ، وتاريخ 28 / 7 / 1420 هـ ورقم (4028) وتاريخ 5 / 8 / 1420 هـ .
(الجزء رقم : 26، الصفحة رقم: 402)
وقد سأل المستفتون أسئلة عن حكم الاهتمام بالألفية الإفرنجية والاحتفال بها وغير ذلك من الأمور المتعلقة بها ، نكتفي بذكر سؤالين منها :
ففي أحدها يقول السائل : نرى هذه الأيام ما تبثه وسائل الإعلام من رصد الأحداث والإجراءات بمناسبة حلول عام 2000 الميلادي ، وبداية الألف الثالثة ، والكفار من اليهود والنصارى وغيرهم يبتهجون بذلك ويعلقون على هذه المناسبة آمالا . والسؤال يا سماحة الشيخ : إن بعض من ينتسب للإسلام صاروا يهتمون بذلك ، ويعدونها مناسبة سعيدة ، فيربطون زواجهم أو أعمالهم بها ، أو يقومون بوضع دعاية لتلك المناسبة على محلاتهم أو شركاتهم ، وغير ذلك مما يسوء المسلم ، فما حكم الشرع في تعظيم هذه المناسبة ، والاحتفاء بها ، وتبادل التهاني من أجلها شفهيا أو بطبع البطاقات . . إلخ . وجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء .
وجاء في سؤال آخر : يستعد اليهود والنصارى لحلول عام 2000 حسب تاريخهم بشكل غير عادي ، لترويج خططهم ومعتقداتهم في العالم ، وبالأخص بالدول الإسلامية ، وقد تأثر بعض المسلمين بهذه الدعاية ، فأخذوا يعدون لها العدة ، ومنهم من أعلن عن تخفيض على بضاعته بهذه المناسبة ، ويخشى أن يتطور الأمر إلى عقيدة المسلمين في موالاتهم لغير المسلمين . نأمل بيان حكم مجاراة المسلمين للكفار في مناسباتهم ، والدعاية لها ، والاحتفال بها ، وحكم تعطيل الأعمال في بعض المؤسسات والشركات بهذه المناسبة .
(الجزء رقم : 26، الصفحة رقم: 403)
وهل فعل شيء من هذه الأمور وما شابهها أو الرضى بها يؤثر على عقيدة المسلم ؟
وبعد دراسة اللجنة للأسئلة المذكورة أجابت بما يلي :
إن أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده هي نعمة الإسلام والهداية إلى صراطه المستقيم ، ومن رحمته سبحانه أن فرض على عباده المؤمنين أن يسألوه هدايته في صلواتهم ، فيسألوه حصول الهداية للصراط المستقيم والثبات عليها ، ووصف سبحانه هذا الصراط بأنه صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وليس صراط المنحرفين عنه من اليهود والنصارى وسائر الكفرة والمشركين .
إذا علم هذا ، فالواجب على المسلم معرفة قدر نعمة الله عليه ، فيقوم بشكر الله سبحانه ، قولا وعملا واعتقادا ، وعليه أن يحرس هذه النعمة ويحوطها ويعمل الأسباب التي تحفظها من الزوال .
__________
(1) - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 27 / ص 167)(1/359)
وإن الناظر من أهل البصيرة في دين الله في عالم اليوم ، الذي التبس فيه الحق بالباطل على كثير من الناس ، ليرى بوضوح جهود أعداء الإسلام في طمس حقائقه ، وإطفاء نوره ، ومحاولة إبعاد المسلمين عنه ، وقطع صلتهم به ، بكل وسيلة ممكنة ، فضلا عن تشويه صورته ، وإلصاق التهم والأكاذيب به ، لصد البشر جميعا عن سبيل الله ، والإيمان بما أنزله على رسوله محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومصداق ذلك في قول الله تعالى : سورة البقرة الآية 109 وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ وقوله سبحانه : سورة آل عمران الآية 69 وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ وقوله جل وعلا : سورة آل عمران الآية 149 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ وقوله عز وجل : سورة آل عمران الآية 99 قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وغيرها من الآيات .
ولكن - ومع ذلك كله - الله عز وجل وعد بحفظ دينه وكتابه فقال جل وعلا : سورة الحجر الآية 9 إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ فالحمد لله كثيرا ، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة ، فالحمد لله كثيرا ، ونسأله سبحانه وهو القريب المجيب أن يجعلنا وإخواننا المسلمين منهم ، إنه جواد كريم .
هذا واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء وهي تسمع وترى الاستعداد الكبير والاهتمام البالغ من طوائف اليهود والنصارى ومن تأثر بهم ممن ينتسب للإسلام بمناسبة تمام عام ألفين واستقبال الألفية الثالثة بالحساب الإفرنجي - لا يسعها إلا النصح والبيان لعموم المسلمين عن حقيقة هذه المناسبة ، وحكم الشرع المطهر فيها ، ليكون المسلمون على بصيرة من دينهم ويحذروا من الانحراف إلى ضلالات المغضوب عليهم والضالين .
فنقول :
أولا : إن اليهود والنصارى يعلقون على هذه الألفية أحداثا وآلاما وآمالا يجزمون بتحقيقها أو يكادون ، لأنها ناتجة عن بحوث ودراسات كما زعموا ، كما يربطون بعضا من قضايا عقائدهم بهذه الألفية ، زاعمين أنها مما جاءت في كتبهم المحرفة ، والواجب على المسلم ألا يلتفت إليها ، ولا يركن إليها ، بل يستغني بكتاب ربه سبحانه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - عما سواهما ، وأما النظريات والآراء المخالفة لهما فلا تعدو كونها وهما .
ثانيا : لا تخلو هذه المناسبة وأشباهها من لبس الحق بالباطل ، والدعوة إلى الكفر والضلال والإباحية والإلحاد ، وظهور ما هو منكر شرعا ، ومن ذلك : الدعوة إلى وحدة الأديان ، وتسوية الإسلام بغيره من الملل والنحل الباطلة ، والتبرك بالصليب ، وإظهار شعائر الكفر النصرانية واليهودية ، ونحو ذلك من الأفعال والأقوال التي تتضمن : إما كون الشريعة النصرانية واليهودية المبدلتين المنسوختين موصلة إلى الله ، وإما استحسان بعض ما فيهما مما يخالف دين الإسلام ، أو غير ذلك مما هو كفر بالله وبرسوله وبالإسلام بإجماع الأمة . هذا فضلا عن كونه وسيلة من وسائل تغريب المسلمين عن دينهم .
ثالثا : استفاضت الأدلة من الكتاب والسنة والآثار الصحيحة في النهي عن مشابهة الكفار فيما هو من خصائصهم ، ومن ذلك مشابهتهم في أعيادهم واحتفالاتهم بها ، والعيد : اسم جنس ، يدخل فيه كل يوم يعود ويتكرر يعظمه الكفار ، أو مكان للكفار لهم فيه اجتماع ديني ، وكل عمل يحدثونه في هذه الأمكنة والأزمنة فهو من أعيادهم ، فليس النهي عن خصوص أعيادهم ، بل كل ما يعظمونه من الأوقات والأمكنة التي لا أصل لها في دين الإسلام ، وما يحدثونه فيها من الأعمال يدخل في ذلك ، وكذلك ما قبله وما بعده من الأيام التي هي كالحريم له ، كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - .
ومما جاء في النهي عن خصوص المشابهة في الأعياد : قوله
(الجزء رقم : 26، الصفحة رقم: 407)
تعالى : سورة الفرقان الآية 72 وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ في ذكر صفات عباد الله المؤمنين ، فقد فسرها جماعة من السلف ؛ كابن سيرين ، ومجاهد ، والربيع بن أنس : بأن الزور هو : أعياد الكفار ، وثبت عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، أنه قال : سنن النسائي صلاة العيدين (1556),سنن أبو داود الصلاة (1134),مسند أحمد بن حنبل (3/250). قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، ولهم يومان يلعبون فيهما ، فقال : ما هذان اليومان ؟ قالوا : كنا نلعب فيهما في الجاهلية ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما : يوم الأضحى ويوم الفطر خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي بسند صحيح .(1/360)
وصح عن ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - أنه قال : سنن أبو داود الأيمان والنذور (3313). نذر رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر إبلا ببوانة ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا : لا ، قال : فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ قالوا : لا ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أوف بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ، ولا فيما لا يملك ابن آدم خرجه أبو داود بإسناد صحيح .
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : " لا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم " ، وقال
(الجزء رقم : 26، الصفحة رقم: 408)
أيضا : (اجتنبوا أعداء الله في عيدهم) .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : من بنى ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة .
رابعا : وينهى أيضا عن أعياد الكفار لاعتبارات كثيرة منها :
1 - أن مشابهتهم في بعض أعيادهم يوجب سرور قلوبهم وانشراح صدورهم بما هم عليه من الباطل .
2 - المشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة ، من العقائد الفاسدة على وجه المسارقة والتدرج الخفي .
3 - ومن أعظم المفاسد أيضا - الحاصلة من ذلك : أن مشابهة الكفار في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن ، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان ، كما قال تعالى : سورة المائدة الآية 51 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وقال سبحانه : سورة المجادلة الآية 22 لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
(الجزء رقم : 26، الصفحة رقم: 409)
خامسا : بناء على ما تقدم فلا يجوز لمسلم يؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ورسولا أن يقيم احتفالات لأعياد لا أصل لها في دين الإسلام ، ومنها الألفية المزعومة ، ولا يجوز أيضا حضورها ولا المشاركة فيها ، ولا الإعانة عليها بأي شيء كان ؛ لأنها إثم ومجاوزة لحدود الله ، والله تعالى يقول : سورة المائدة الآية 2 وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
سادسا : لا يجوز لمسلم التعاون مع الكفار بأي وجه من وجوه التعاون في أعيادهم ، ومن ذلك إشهار أعيادهم وإعلانها ، ومنها الألفية المذكورة ، ولا الدعوة إليها بأية وسيلة ، سواء كانت الدعوة عن طريق وسائل الإعلام ، أو نصب الساعات واللوحات الرقمية ، أو صناعة الملابس والأغراض التذكارية ، أو طبع البطاقات أو الكراسات المدرسية ، أو عمل التخفيضات التجارية والجوائز المادية من أجلها ، أو الأنشطة الرياضية ، أو نشر شعار خاص بها .
سابعا : لا يجوز لمسلم اعتبار أعياد الكفار ومنها الألفية المذكورة ونحوها مناسبات سعيدة وأوقاتا مباركة ، فتعطل فيها الأعمال وتجرى فيها عقود الزواج ، أو ابتداء الأعمال التجارية ، أو افتتاح المشاريع وغيرها ، ولا يجوز أن يعتقد في هذه الأيام ميزة على
(الجزء رقم : 26، الصفحة رقم: 410)
غيرها ؛ لأن هذه الأيام كغيرها من الأيام ، ولأن هذا من الاعتقاد الفاسد الذي لا يغير من حقيقتها شيئا ، بل إن هذا الاعتقاد فيها هو إثم على إثم . نسأل الله العافية والسلامة .
ثامنا : لا يجوز لمسلم التهنئة بأعياد الكفار ؛ لأن ذلك نوع رضى بما هم عليه من الباطل ، وإدخال للسرور عليهم . قال ابن القيم - رحمه الله - :
وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق ، مثل : أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول : (عيد مبارك عليك) ، أو (تهنأ بهذا العيد) ونحوه ، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات ، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب ، بل ذلك أعظم إثما عند الله وأشد مقتا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه ، وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك ، ولا يدري قبح ما فعل ، فمن هنأ عبدا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه . ا هـ .
تاسعا : شرف للمسلمين التزامهم بتاريخ هجرة نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، الذي أجمع عليه الصحابة - رضي الله عنهم - ، وأرخوا به بدون احتفال ، وتوارثه المسلمون من بعدهم منذ أربعة عشر قرنا إلى يومنا هذا ؛ لذا فلا يجوز لمسلم التولي عن التاريخ الهجري والأخذ بغيره من تواريخ أمم الأرض ، كالتاريخ الميلادي ، فإنه من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير .
هذا ونوصي جميع إخواننا المسلمين بتقوى الله حق التقوى ، وبالعمل بطاعته والبعد عن معاصيه ، والتواصي بذلك والصبر عليه .(1/361)
وليجتهد كل مؤمن ناصح لنفسه حريص على نجاتها من غضب الله ولعنته في الدنيا والآخرة في تحقيق العلم والإيمان ، وليتخذ الله هاديا ونصيرا ، وحاكما ووليا ، فإنه نعم المولى ونعم النصير ، وكفى بربك هاديا ونصيرا ، وليدع بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - : صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (770),سنن الترمذي الدعوات (3420),سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1625),سنن أبو داود الأدب (5085),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1357),مسند أحمد بن حنبل (6/156). اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم والحمد لله رب العالمين .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس
بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
==============
بين الولاء الإسلامي والفطري(1)
د.سلمان بن فهد العودة 20/2/1428
10/03/2007
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا على الفطرة) متفق عليه،إن الناس كلهم يعرفون هذا القدر المشترك من العلاقات والمعاملات، ويمارسون علاقاتهم بطبيعة تامة وبعفوية فطرية، فالإسلام جاء لينظم هذه الشبكة من العلاقات الإنسانية لا ليحرم الناس منها، أو يقطعهم عنها، بل إن القرآن جعل من سمات الضالين أن يقطعوا الصلة، ولم يجعل أبد الصلة بالناس خطأ أو جرماً، يقول جل وعلا: "ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض.."الآية، فحب القريب وحب الصديق وحب الزوجة وحب الوطن وحب القبيلة من الولاء الفطري العام، الذي لا يتناقض مع الولاء الإسلامي، والمسلمون الأوائل كانوا يتعاملون مع القضايا التعاملية بفطرية طبيعية، وبأريحية تامة، بعيداً عن العقد التي تلبس بها بعض المتأخرين، فصنعت خليطاً من المفاهيم المغلوطة التي تجنح إما إلى إفراط أو تفريط.
إن المقصود بالولاء موالاة المؤمنين بالقرب منهم، ومحبتهم، والإخاء بينهم، والنصرة لهم، والتعاطف معهم، وبدون هذا المعنى لا يمكن أن نتصور أمة مسلمة؛ لأن وجود الأمة الإسلامية هو بوجود هذا العقد القلبي في الولاء بين أفراد هذه الأمة، يقول الله تعالى: "إنما المؤمنون إخوة"، ويقول سبحانه: "وأن هذه أمتكم أمة واحدة.."، ويقول تبارك اسمه: "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون"، وانظر إلى معنى النصرة والتعاطف والولاء المعقود في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) متفق عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) متفق عليه، فهذا الولاء بين المؤمنين والبراء من أعدائهم من عناصر التوحيد، فالولاء معنى روحي قلبي بالحب والتعاطف والرحمة، ومعنى حياتي عملي بالمؤازرة والنصرة والمعرفة، والنصرة في الحق: الإعانة عليه، وفي الباطل: الردع عنه، ولذلك ورد في الحديث عن الظالم: (تأخذ فوق يديه)، فعقد الولاء عقد ديني لا عنصري، ومن سمات العقد الديني أنه يوجب ربط الولاء بالمبدأ الذي هو فوق الأشخاص، فإذا خالف الأشخاص هذا المبدأ كان أعظم الولاء في منعهم وردعهم، وليس تأييدهم على هذا الباطل أو مجاراتهم فيه.
والبراء في الإسلام هو براءة من الشرك والكفر والظلم والعدوان والبغي، والبراءة ممن يقوم عليها أو يدعو إليها: "قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين".
إن معنى "البراءة" هو إخلاص الحب العقائدي لهذا الدين، دون أن يشترط في ذلك خلو القلب من الحب الفطري والعلاقات الإنسانية التي يتخللها نوع من الحب والمودة حتى مع غير المسلمين؛ لأن الأصل في العلاقات مع غير المحاربين: حسن التعامل وتبادل السلم، هذا من محكمات ما نص الله عليه، يقول الله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين"، فذكر البر وهو الإحسان والعطاء، وذكر الإقساط وهو العدل، ليجمع المسلم بين المعاملة بالعدل وليخبر بأن اختلاف العقائد لا يبيح الظلم، وبين الإحسان وهو الفضل والعطاء والزيادة.
والأمم المختلفة ليسوا على فئة واحدة تجاه المسلمين، وليسوا سواء من حيث القرب والبعد من هذا الدين أو من أهله، أو من حيث التطرف والاعتدال، أو من حيث الظلم والعدل، أو غيره، وحتى في العقائد يقول الله تعالى: "ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون".
__________
(1) - http://www.islamtoday.net/pen/show_articles_content.cfm?id=64&catid=38&artid=8794(1/362)
إن المهم في قضية "البراءة" أن لا تحب غير المسلمين لعقيدتهم أو دينهم فتلك هي الباقرة التي تقوم على ركن البراءة بالنقض، فمعنى ذلك تقديم غير دين الإسلام عليه، وذلك لا يحصل من مسلم رضي بهذا الدين واعتنقه وأحبه، "لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون"، القضية في هذه الآية لهؤلاء المحاربين الذين يحادون الله ورسوله ويحاربون أولياءه، وهذا ما صرح به الطبري وابن عطية وغيرهم.
وكل الآيات التي جاءت تحرم موالاة غير المؤمنين فالمقصود بها المحاربون، كقوله تعالى:
"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي.."الآية، فنهى سبحانه عن موالاتهم ما داموا محاربين أو إفشاء الأسرار الحربية لهم، لأنه في نفس السورة قال: "لا ينهاكم.."الآية.
إن "الكره" إذًا هو كره الكافر وعقيدته وكره ظلمه وعدوانه والبراء من قادة الحروب والدماء والعدوان على الناس والأبرياء من المسلمين، والبراء من كل ممارسة ظالمة جائرة تزيد الظالم قوة والضعيف البريء ضعفاً، فالإسلام جاء لينصر المظلوم ويأخذ على يد الظالم.
أما الولاء النسبي -إن صحت العبارة- كحب كافر لشخصه أو قرابته أو حسن معاملته أو صداقته فلا بأس به، وذلك نوع من الولاء الفطري الذي أباحه الإسلام ولم يقف ضده أو يحرمه، فالإسلام أمر بصحبة الأبوين المشركين بالمعروف، وأباح الزواج من الكتابيات مع أن الله قال عن العلاقة الزوجية: "وجعل بينكم مودة ورحمة"، والمودة هي الحب، وسيتبادل الزوجان معاني الحب والرحمة، بل قال الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم: "إنك لا تهدي من أحببت" يعني: أبا طالب، فالنبي صلى الله عليه وسلم يحب أبا طالب، ولم يكن هذا الحب محرماً أو ناقضاً لمعنى الولاء الإسلامي الذي جاء به الإسلام وأرساه ليدل ذلك على مستوى رعاية الإسلام للمعاني النظرية عند المسلم وترسيخها.
ذكر البخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه قال: لو قال لي فرعون: بارك الله فيك، لقلت: وفيك. لأن الخلق الإسلامي يحث على رد التحية بالمثل وجزاء الإحسان بالإحسان.
يقول الله عن المؤمنين: "ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم.."الآية، فأثبت أن المؤمنين يحبونهم، وعاتب المؤمنين؛ لأنهم يعطون الحب أحداً لا يبادلهم هذا المعنى، ويتسامحون ويرحمون من يسومهم خطط الخسف والجور، ولم يكن الحب المتبادل مجالاً محرماً في الإسلام، فالعلاقات الفطرية المبنية على المسالمة والمسامحة والإخاء جاء الإسلام ليرسخها، ويستفيد منها لبث الدعوة والقدوة، لا ليقطعها وينافر أهلها العداء، أما قصة إبراهيم عليه السلام فيقول الله تعالى: "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير"، فالآية واضحة في تبادل العداء "وبدا بيننا وبينكم العداوة"، ولم يأت إبراهيم عليه السلام إلى المشركين ابتداء ليبادلهم هذا العداء، بل جاء ليدعوهم إلى الإسلام والإخلاص، ولكن لما ناصبوه العداء والبغضاء كان واجباً طبيعياً أن يبادلهم ذلك حفاظاً على العقيدة التي يحملها من الانحسار والذوبان، "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه.."الآية، فلم يتبرأ إبراهيم من أبيه إلا بعد أن أشهر أبوه العداوة لهذا الدين، فخالف أصل العلاقة الطبيعية بين البشر التي حث عليها الإسلام المبنية على الرحمة: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".
إن الأخلاق العفوية الفطرية معنى جاء الإسلام ليكمله ويرسخه ليجمع المسلم بين ولائه الطبيعي لقومه وذاته ووطنه.. الخ، وبين ولائه الأهم لعقيدته ودعوته، فكان الولاء الأخير متمماً للولاء الأول: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق).
salman@islamtoday.net
د.سلمان بن فهد العودة
20/2/1428
================
حكم المشاركة في المجلس التشريعي (1)
بقلم الشيخ؛ إبراهيم بن عبد العزيز بركات
شيخنا الفاضل حفظك الله ورعاك ونفع بعلمك، ما هو حكم المشاركة في الإنتخابات التشريعية الفلسطينية وغيرها من التشريعات الوضعية وجزاك الله خيراً؟
الجواب:
الحمد لله رب العالمين.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فليس غريباً أن يرفع بعض المنسلخين عن الشريعة الداعين إلى الخروج عن الأخلاق والقيم راية الكفر والزندقة، ولكن المستغرب حقاً أن تدخل بعض الجماعات التي ترفع راية التوحيد في صفوف الداعين إلى تطبيق أنظمة الكفر والشرك والنفاق على المسلمين، وقد علم هؤلاء يقيناً أن الواجب على المسلم هو الانقياد إلى حكم الله ورسوله ظاهراً وباطناً، قال سبحانه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء: 65].
__________
(1) - موقع الشيخ http://tawhed.ws/r?i=3419(1/363)
فهذه الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على وجوب الانقياد لحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في كل صغير وكبير، فقوله تعالى: {فيما شجر) يتناول الأمور كلها دون استثناء، وقد جعل الله سبحانه هذه الآية شرطاً في صحة الإيمان، أي إن كان إيمانكم إيماناً صحيحاً فهو يقودكم إلى التحاكم إلى الكتاب والسنة ظاهراً وباطناً، ومخالفة ذلك الأمر دليل على عدم صحة الإيمان، وقد أكد المولى سبحانه على هذا الحكم بالقسم إذ قال سبحانه: {فلا وربك} أي يقسم الله سبحانه بنفسه المقدسة أن الزاعمين للإيمان لا يؤمنون حقيقة حتى يخضعوا لحكم الله سبحانه ظاهراً وباطناً، ولم يكتف بذلك أيضاً حتى لا يجدوا في أنفسهم حرجاً من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم، ويسلموا له تسليماً فالمؤمن الصادق هو الذي لا يرضى بغير حكم الله حكماً، فهو على علم ويقين بأنه لا يجوز له أن يتخير في مسألة حكم الله سبحانه فيها، قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً) [الأحزاب: 36].
ففي هذه الآية الكريمة ينفي الله سبحانه عن المؤمنين الخيرة من أمرهم إذا جاءهم الحكم من عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومفهوم المخالفة أن الذين يتخيرون بين حكم الله سبحانه وحكم غيره ليسوا بمؤمنين على الحقيقة.
ومن الأمور التي ألزم الله سبحانه بها المؤمنين، التحاكم إلى شرعه المشتمل على كل خير قال سبحانه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
فهذه الآيات الكريمة تبين أن الناس إما أن يكونوا خاضعين لحكم الله الحق العدل، وإما أن يكونوا متبعين لأهوائهم غارقين في جاهليتهم، ولا شك من أن المسلم الحق يكون متبعاً لحكم الله سبحانه غير مارق منه، على خلاف أهل الباطل والشبهات فهم متبعون لأهوائهم الجاهلية.
وقد بين الحق سبحانه أن التحاكم إلى غير شرعه كفر وردة قال سبحانه: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44]، وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً) [النساء: 61].
والمتتبع لآيات الله سبحانه المتعلقة بالحكم يجد أن الله سبحانه قد حكم على المخالفين لحكمه المتبعين لغير أمره، بالكفر، والظلم، والفسق، والنفاق، أو بعدم الإيمان، وكل هذا يدل على أن مسألة الحكم لا تتعلق بمسائل فرعية، بل هي مسألة من صميم العقيدة لا يزيغ عنها إلا أصحاب الأهواء والشبهات الباطلة الذين لم يترسخ الإيمان في قلوبهم الذين يصفهم الله سبحانه بصريح العبارة بالنفاق والكفر، وذلك أن الخضوع لغير حكم الله خضوع لحكم الطاغوت الذي أمرنا باجتنابه، قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [النحل: 36]، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [الزمر: 18].
بل إن الكفر بالطاغوت شرط لصحة الإيمان وذلك لقوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256].
فقدم الله سبحانه الكفر بالطاغوت على الإيمان به من باب ارتباط الأمر بلازمه، أي لا يصح الإيمان إلا بالكفر بالطاغوت، فمن لم يكفر بالطاغوت لا يكون مؤمناً في حقيقة الأمر. وهذا ما بينه صلى الله عليه وسلم بقوله: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه) [حديث صحيح رواه مسلم].(1/364)
فالذي ينتفع بالشهادة، هو الذي يعبد الله سبحانه وحده، ويكفر بكل ما سواه، ومن تحاكم إلى غير حكم الله سبحانه عالماً غير جاهل، راضياً غير مكره، فقد وقع في الكفر والشرك أعاذنا الله سبحانه من ذلك، ذلك أن التحاكم إلى غير الشرع عبادة لغيره سبحانه قال تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40].
ففي هذه الآية الكريمة ربط المولى سبحانه الحكم بالعبادة: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه). وقد دل سياق الآية على الحصر، أي لا يكون الحكم إلا لله، فلا يكون لغيره بأي حال أو تحت أي ظرف، بل الواجب على المسلمين أن يُرجعوا الأمور المتنازع فيها إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59].
وعليه لا يكون الحكم إلا لله سبحانه، وإن خلاف ذلك كفر وردة عن الإسلام - لازم هذا القول ليس بلازم أي لا يلزم من قولي هذا إنني أكفر كل من يتحاكم إلى غير شرع الله، فالحكم على المسألة شيء، والحكم على المعين شيء آخر -
فكل حكم يخالف حكم الله ورسوله فهو كفر، ومن ذلك ما يسمى بالديمقراطية والعلمانية وغيرها من المسميات التي ما أنزل الله بها من سلطان، بل هي محض حكم الطاغوت الذي أُمر المسلمون أن يكفروا به، فلا يُتصور من مسلم فاسق يتحاكم إلى غير شرع الله، لأن ذلك كما بين الله سبحانه كفر، وشتان بين الكفر والمعصية، فالكفر أكبر من الكبائر، فكيف بالمسلم المتبع؟!
وما يسمى بالانتخابات التشريعية، من الكفر لأن ذلك تحاكم إلى غير شرع الله، فهي تعني أن السيادة المطلقة للشعب، فالشعب هو الذي يختار الأحكام التي تطبق عليه، فإن أراد الإسلام يحكم به، وإن أراد غيره فله الخيار، وإن اختلف الشعب في الأمر يرجع الحكم إلى رأي الأغلبية، أي أغلبية الشعب، وهذا لا شك من الكفر البواح وذلك للأمور التالية:
أولاً: أن المؤمن ملزم بالتحاكم إلى شرع الله سبحانه فهو غير مخير في المسألة:
قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} [الأحزاب: 36].
قال ابن كثير: (فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هاهنا، ولا رأي ولا قول، كما قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء:65]، وفي الحديث: "والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به"، ولهذا شدد في خلاف ذلك، فقال: {ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا}، كقوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور:63]) [تفسير القرآن العظيم].
وقال الطبري رحمه الله تعالى: (يقول تعالى ذكره: لم يكن لمؤمن بالله ورسوله، ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاء أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم، ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما فيعصوهما، ومن يعص الله ورسوله فيما أمرا أو نهيا {فقد ضل ضلالا مبينا}، يقول: فقد جار عن قصد السبيل، وسلك غير سبيل الهدي والرشاد) [جامع البيان للطبري].
فهذه الآية تبين أنه ليس للمؤمن الخيار إذا قضى الله ورسوله أمراً، بل مخالفة أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ضلال مبين، وجعل الأمر راجعاً إلى رأي الأغلبية يعتبر خروجاً عن أحكام الله سبحانه، فقد بين الله في محكم التنزيل أن الحكم لا يكون إلا له قال سبحانه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40]، ويأتي هؤلاء ليقولوا لنا: إن الحكم الذي يطبق علينا هو رأي الأغلبية، فهل بعد ذلك من ضلال؟
ثانياً: جعل الشعب هو مصدر التشريع منازعة لله سبحانه، فالله هو المشرع، ولا حكم مع حكمه، ولا قضاء مع قضائه:
قال سبحانه: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88].
وهذا السياق يقتضي الحصر، إذ تقديم ما حقه التأخير، على ما حقه التقديم، من موجبات الحصر، فكما أن العبادة لله سبحانه لا تكون لغيره، كذلك الحكم لا يكون إلا لله، ومن نصّب نفسه مشرعاً من دون الله فقد ضل ضلالاً مبيناً، قال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 21].(1/365)
قال ابن كثير: وقوله: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}، أي: هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس، من تحريم ما حرموا عليهم، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل الميتة والدم والقمار، إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة الباطلة، التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم، من التحليل والتحريم، والعبادات الباطلة، والأقوال الفاسدة) [تفسير القرآن العظيم لابن كثير].
وقال ابن عاشور رحمه الله تعالى: (ومعنى الاستفهام تقضيه {أم} التي للإضراب هو هنا للتقريع والتهكم، فالتقريع راجع إلى أنهم شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، والتهكم راجع إلى من شرعوا لهم من الشرك، فسئلوا عمن شرع لهم دين الشرك: ألهم شركاء آخرون اعتقدوهم شركاء لله في الإلهية وفي شرع الديان كما شرع الله للناس الأديان؟ وهذا تهكم بهم لأن هذا النوع من الشركاء لم يدعه أهل الشرك من العرب. وهذا المعنى هو الذي يساعد تنكير {شركاء} ووصفه بجملة {شرعوا لهم من الدين}). أهـ [تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور].
ثالثاً: وضع دستور للشعب من تلقاء نفسه، يعتبر تحاكماً إلى الطاغوت الذي أُمر المسلمون أن يكفروا به:
قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} [النساء: 61].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في هذه الآيات: (لكل فريق طواغيت يريدون أن يتحاكموا إليهم وقد أمروا أن يكفروا بهم. وما أشبه حال هؤلاء المتكلمين بقوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء: 62]، فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول - والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سنته - أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنا قصدنا الإحسان علماً وعملاً بهذه الطريق التي سلكناها والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية). أ هـ [الفتاوى 5/18].
وقال في تفسير قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(48)وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 47 - 51]: (فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين، وليس بمؤمن، وأن المؤمن هو الذي يقول: سمعنا وأطعنا، فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره، مع أن هذا تركٌ محض، وقد يكون سببه الشهوة، فكيف بالتنقص والسب ونحوه؟) أهـ [الصارم المسلول].
قال ابن القيم في أعلام الموقِّعين [1/85]: (ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكّم الطاغوت وتحاكم إليه، والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة له) أهـ.
وقال أيضاً: (أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يُحكِّموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق عن قضائه وحكمه ولم يكتف منهم أيضاً بذلك حتى يسلِّموا تسليماً وينقادوا انقياداً). أهـ [إعلام الموقعين 1/86].
وقد أوضحت ذلك في رسالتي؛ "عقيدتنا بين الولاء والبراء".
رابعاً: إن غير حكم الله سبحانه هو حكم الجاهلية التي أنقذ الله سبحانه المؤمنين منها:
قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].(1/366)
قال الطبري رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا}: (يعني بقوله جل ثناؤه وكنتم، يا معشر المؤمنين، من الأوس والخزرج، على حرف حفرة من النار. وإنما ذلك مثل لكفرهم الذي كانوا عليه قبل أن يهديهم الله للإسلام. يقول تعالى ذكره: وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه قبل أن ينعم الله عليكم بالإسلام، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانا، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم، فتكونوا من الخالدين فيها، فأنقذكم الله منها بالإيمان الذي هداكم له). أهـ جامع البيان للطبري.
ولا شك أن الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه جاهلية، قال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (وقوله: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}؛ ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان، الذي وضع لهم اليساق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال الله تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون} أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون. (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء). أهـ تفسير ابن كثير.
خامساً: التحاكم إلى غير شرع الله سبحانه كفر وشرك:
قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].
قال الطبري في تفسير هذه الآية: (يقول تعالى ذكره: ومن كتم حكم الله الذي أنزله في كتابه وجعله حكماً بين عباده، فأخفاه وحكم بغيره، كحكم اليهود في الزانيين المحصنين بالتجبيه والتحميم، وكتمانهم الرجم، وكقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفي بعض بنصف الدية، وفي الأشراف بالقصاص، وفي الأدنياء بالدية، وقد سوى الله بين جميعهم في الحكم عليهم في التوراة {فأولئك هم الكافرون} يقول: هؤلاء الذين لم يحكموا بما أنزل الله في كتابه، ولكن بدلوا وغيروا حكمه، وكتموا الحق الذي أنزله في كتابه، {هم الكافرون} يقول: هم الذين ستروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبيينه، وغطوه عن الناس، وأظهروا لهم غيره، وقضوا به، لسحت أخذوه منهم عليه). أهـ جامع البيان.
سادساً: الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه اتباع للهوى:
قال سبحانه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 44].
قال ابن كثير رحمه الله في هذه الآية: (وقوله: {ولا تتبع أهواءهم}؛ أي: آراءهم التي اصطلحوا عليها، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسوله؛ ولهذا قال: {ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق}؛ أي: لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء). أهـ تفسير ابن كثير.
سابعاً: الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه ظلم وفسق:
قال سبحانه: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، وقال سبحانه: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].
فكل هذه أدلة قاطعة على حرمة التحاكم إلى غير شرع الله سبحانه، فكيف بمن ينصب نفسه مشرعاً من دون الله، أو يرضى بالتشريعات الوضعية التي تناقض شرع الله سبحانه من كل وجه، وتفتح أبواب الضلال والفساد؟
ورغم تلك الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة نجد بعض الجماعات الإسلامية تنادي بالمشاركة في المجالس التشريعية متذرعة بمبررات هي أوهى من خيوط العنكبوت منها:
1) قصة يوسف عليه السلام:
يستدل هؤلاء بقصة يوسف عليه السلام التي تدل على أن يوسف عليه السلام عمل في حكم الملك الكافر واستلم منصباً وزارياً، واستغله في باب الإصلاح، ونحن موافقون في هذا الأمر لنبي الله يوسف عليه السلام، ولو كان الأمر محرماً لما وقع ذلك من نبي معصوم.(1/367)
أقول: سبحان الله كيف يستدلون على مسألة عظيمة بما لا يعرفون، فهم يوفقون بين عمل نبي الله يوسف عليه السلام، وبين دخولهم في المجالس التشريعية ويجعلون الحكم في المسألتين واحداً. ومن كانت عنده مسكة علم بما جاء به الأنبياء يعلم يقيناً أن دعوتهم تتفق على دعوة الناس إلى عبادة الله سبحانه وحده لا شريك له، والتبرؤ من كل ما يعبد من دونه، قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36].
ومن الطاغوت الذي دعا الأنبياء عليهم السلام إلى اجتنابه، التحاكم إلى غير شرع الله، فهو كما بينت شرك وكفر، فكيف يجوز على نبي من أنبياء الله أن يقع في الكفر والشرك وما أرسله الله سبحانه إلا للدعة إلى التوحيد؟
ومن ناحية ثانية، فالله سبحانه قال على لسان يوسف عليه السلام: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40].
فيوسف عليه السلام يدعو صاحبيه إلى توحيد العبادة مبيناً لهما أن الحكم لا يكون إلا لله سبحانه، ثم يقع هو فيما ينهاهما عنه، فهل يقول بذلك مؤمن؟
وأما ما فعله يوسف عليه السلام فلا دخل له بقضية التشريع، فالتشريع شرك لا يقع بمثله عامة من وقر الإيمان في قلوبهم، فكيف بأنبياء الله سبحانه؟
وما أعجبني ذلك الرد الذي قالوا فيه، إن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، وهذا الرد أسخف مما قبله إذ لا يكون الشرك جائزاً في ملة الأنبياء السابقين، وهو محرم في شرعة رسولنا صلى الله عليه وسلم، بل الشرك ومنه الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه محرم في دين الله عموماً.
2) الأخذ بالمصالح المرسلة:
ومن أدلة القوم، الأخذ بالمصالح المرسلة، ويعتبرون الغاية مبررة للوسيلة، فهم يدخلون المجالس التشريعية على نية إصلاح الفساد المنتشر في الأنظمة الكفرية، وعليه يجوزون الدخول في تلك المجالس الفاسدة.
أقول وبالله التوفيق: إن هذا التعليل عليل، بل هو أكثر علة من العليل، فإن الغاية لا تبرر الوسيلة أي لا يجوز السير في الطريق المعوج من أجل تحصيل مصلحة شرعية، خاصة إذا كانت القضية متعلقة بمسألة من مسائل العقيدة، وقد بين الله سبحانه أن الواجب على المسلم هو اجتناب الطاغوت لا الانخراط في صفوف الطواغيت من أجل الإصلاح قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
واجتناب الشيء هو أن تجعله في ناحية غير الناحية التي تكون فيها، لا أن تلوث نفسك في خبائثه، وعليه لا يجوز للمسلم بأي حال من الأحوال أن يجاري الطواغيت ويركن إليهم، قال سبحانه: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الإسراء: 75].
قال الطبري رحمه الله تعالى: (يقول تعالى ذكره: ولولا أن ثبتناك يا محمد بعصمتنا إياك عما دعاك إليه هؤلاء المشركون من الفتنة، {لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا}؛ يقول: لقد كدت تميل إليهم وتطمئن شيئا قليلاً وذلك ما كان صلى الله عليه وسلم هم به من أن يفعل بعض الذي كانوا سألوه فعله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر حين نزلت هذه الآية، ما حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة، في قوله {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا}، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
القول في تأويل قوله تعالى: {إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا} [الأسراء: 75]؛ يقول تعالى ذكره: لو ركنت إلى هؤلاء المشركين يا محمد شيئاً قليلاً فيما سألوك إذن لأذقناك ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات). أهـ جامع البيان.
وقال سبحانه: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 8 - 9].
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره: (يقول الله تعالى، لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فلا تطع المكذبين}؛ الذين كذبوك وعاندوا الحق، فإنهم ليسوا أهلاً لأن يطاعوا، لأنهم لا يأمرون إلا بما يوافق أهواءهم، وهم لا يريدون إلا الباطل، فالمطيع لهم مقدم على ما يضره، وهذا عام في كل مكذب، وفي كل طاعة ناشئة عن التكذيب، وإن كان السياق في شيء خاص، وهو أن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم، أن يسكت عن عيب آلهتهم ودينهم، ويسكتوا عنه، ولهذا قال: {ودوا}؛ أي: المشركون {لو تدهن} أي: توافقهم على بعض ما هم عليه، إما بالقول أو الفعل أو بالسكوت عما يتعين الكلام فيه، {فيدهنون} ولكن اصدع بأمر الله، وأظهر دين الإسلام، فإن تمام إظهاره، بنقض ما يضاده، وعيب ما يناقضه). أهـ تفسير السعدي.
فإذا كان مجرد الركون والمداهنة إثماً عظيماً يستحق أصحابه عليه غضب الله ولعنته، فكيف بمشاركتهم والتعامل معهم بل ومعاونتهم؟.(1/368)
والقاعدة التي بنى عليها القوم مذهبهم على غير ما يظنون، فالأخذ بالمصالح المرسلة جائزة إذا ما تعارضت مع النصوص الشرعية، أو ما كان في أصله مباحاً يتوصل به إلى العبادة الشرعية، نحو رفع المآذن في المساجد بغية إيصال الصوت إلى أبعد مدى، أو المنبر الذي يوضع للخطيب وغير ذلك من الوسائل التي يستعان بها على فعل الطاعة، أما إن كانت هذه المصالح في أصلها محرمة، فإن العمل بها محرم شرعاً، فهي تفتح أبواب الشرور على أهلها والعياذ بالله، وتؤدي إلى تميع الأحكام الشرعية والتهاون بها، والواجب على المسلمين هو الصدع بدعوتهم وبيان أحكام دينهم من غير خوف أو تردد أو مداهنة أو مداراة قال سبحانه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 94 - 95].
وهذه الآية الكريمة تضمنت أمرين، الأول؛ الصدع بالدعوة، والثاني؛ الإعراض عن المشركين وخطاب الله سبحانه لرسوله، خطاب لأمته، فالواجب على المسلمين أن يصدعوا بما أمروا به من عبادة الله سبحانه، والتبرؤ مما سوى ذلك، ولا ريب أن مشاركة الطواغيت في مثل هذا الأمر العظيم يعتبر كتماناً للحق، ومداهنة للظالمين، وقد علمت أخي الحبيب ما أعد الله سبحانه للمداهنين.
3) المحافظة على وحدة الصف:
ومن أدلتهم التي يستندون إليها في إباحتهم المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي، وحدة الصف واجتماع الكلمة، متذرعين بأن عدم المشاركة يؤدي إلى وقوع فتنة بين المسلمين.
أقول: وهذا قول باطل مخالف لقواعد الحق، فإن الواجب على المسلمين إقامة الولاء والبراء في الحق، لا في الأباطيل، وإقامة الولاء على أساس الوطن أو ما شابهه، من الجاهلية التي أمرنا الله سبحانه ورسوله باجتنابها، فهي مشروع فاشل يبغضه الله ورسوله وصالح المؤمنين، فليس الولاء في الأمة على الأسس الوطنية الواهية النتنة التي من شأنها أن تفرق المسلمين وتخالف بينهم، بل الولاء في المسلمين يقوم على أساس العقيدة قال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: (لما ذكر الله تعالى صفات المنافقين الذميمة، عطف بذكر صفات المؤمنين المحمودة، فقال: {بعضهم أولياء بعض}؛ أي: يتناصرون ويتعاضدون، كما جاء في الصحيح: "المؤمن للمؤمن كالبنان يشد بعضه بعضا"، وشبك بين أصابعه. وفي الصحيح أيضا: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"، وقوله: {يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}، كما قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} [آل عمران: 104]، وقوله تعالى: {ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة}؛ أي: يطيعون الله ويحسنون إلى خلقه، {ويطيعون الله ورسوله}؛ أي: فيما أمر، وترك ما عنه زجر، {أولئك سيرحمهم الله}؛ أي: سيرحم الله من اتصف بهذه الصفات، {إن الله عزيز حكيم}؛ أي: عزيز، من أطاعه أعزه، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، {حكيم} في قسمته هذه الصفات لهؤلاء، وتخصيصه المنافقين بصفاتهم المتقدمة، فإن له الحكمة في جميع ما يفعله، تبارك وتعالى). أهـ تفسير ابن كثير.
وثبت في الأحاديث الصحيحة أن أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله منها ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: (أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله) [رواه الطبراني وهو حديث حسن].
فعلى هذا تُبنى العلاقات بين المسلمين، تبنى على الوحدة على أساس العقيدة، لا على أساس القومية والوطنية، بل جعل الله سبحانه كل من يقيم مودته على اعتبار الوطن والقربى من الظالمين قال سبحانه: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].(1/369)
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: (أي: لا يجتمع هذا وهذا، فلا يكون العبد مؤمناً بالله واليوم الآخر حقيقة، إلا كان عاملاً على مقتضى الإيمان ولوازمه، من محبة من قام بالإيمان وموالاته، وبغض من لم يقم به ومعاداته، ولو كان أقرب الناس إليه. وهذا هو الإيمان على الحقيقة، الذي وجدت ثمرته والمقصود منه، وأهل هذا الوصف هم الذين كتب الله في قلوبهم الإيمان أي: رسمه وثبته وغرسه غرساً، لا يتزلزل، ولا تؤثر فيه الشبه والشكوك. وهم الذين قواهم الله بروح منه أي: بوحيه، ومعونته، ومدده الإلهي وإحسانه الرباني. وهم الذين لهم الحياة الطيبة في هذه الدار، ولهم جنات النعيم في دار القرار، التي فيها من كل ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وتختار، ولهم أكبر النعيم وأفضله، وهو أن الله يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا، ويرضون عن ربهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات، ووافر المثوبات، وجزيل الهبات، ورفيع الدرجات بحيث لا يرون فوق ما أعطاهم مولاهم غاية، ولا فوقه نهاية. وأما من يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر، وهو مع ذلك مواد لأعداء الله، محب لمن ترك الإيمان وراء ظهره، فإن هذا إيمان زعمي لا حقيقة له، فإن كل أمر لا بد له من برهان يصدقه، فمجرد الدعوى، لا تفيد شيئاً ولا يصدق صاحبها). أهـ تفسير السعدي.
وقال سبحانه: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (أمر الله تعالى بمباينة الكفار به، وإن كانوا آباء أو أبناء، ونهى عن موالاتهم إذا (استحبوا) أي: اختاروا الكفر على الإيمان، وتوعد على ذلك كما قال تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار... الآية} [المجادلة: 22].
وروى الحافظ أبو بكر البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر الجراح قصده ابنه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله فيه هذه الآية: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر... الآية} [المجادلة: 22].
ثم أمر تعالى رسوله أن يتوعد من آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله وعلى رسوله وجهاد في سبيله، فقال: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها}؛ أي: اكتسبتموها وحصلتموها، {وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها}؛ أي: تحبونها لطيبها وحسنها، أي: إن كانت هذه الأشياء، {أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا}؛ أي: فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله بكم؛ ولهذا قال: {حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ابن لهيعة، عن زهرة بن معبد، عن جده قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال: والله لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه". فقال عمر: فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي. فقال رسول الله: "الآن يا عمر"، انفرد بإخراجه البخاري، فرواه عن يحيى بن سليمان، عن ابن وهب، عن حيوة بن شريح، عن أبي عقيل زهرة بن معبد، أنه سمع جده عبد الله بن هشام، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا.
وقد ثبت في الصحيح عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين". وروى الإمام أحمد، وأبو داود - واللفظ له - من حديث أبي عبد الرحمن الخراساني، عن عطاء الخراساني، عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم".
وروى الإمام أحمد أيضا عن يزيد بن هارون، عن أبي جناب، عن شهر بن حوشب أنه سمع عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك وهذا شاهد للذي قبله، والله أعلم). أهـ تفسير ابن كثير.
فالواجب على المسلمين بغض ومعاداة المشاقين لله ولرسوله لا المحافظة عليهم والعمل في أُطرهم، قال سبحانه: {(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4].
وفقد بينت حكم موالاة الظالمين في رسالتي "عقيدتنا بين الولاء والبراء" بما يغني عن الإعادة.
ثم يأتي هؤلاء ليقيموا دولتهم على الوحدة الوطنية الجاهلية التي تنسف قواعد الولاء والبراء التي تقوم عليها عقيدة التوحيد.
4) العمل على تقليل الضرر قدر المستطاع:(1/370)
يعتبر أولئك القوم أن المشاركة في المجلس التشريعي تؤدي إلى دفع الضرر عن المسلمين قدر المستطاع، فهم يدخلون تلك المجالس - الفاجرة - عملاًً بقاعدة وجوب درء الفتنة عن الأمة.
أقول وبالله التوفيق: إن هذا القول فيه مخالفة صريحة لنصوص الوحيين، الكتاب والسنة، فإن أدلة الكتاب والسنة تدل على أن رفع الضرر عن الأمة لا يكون إلا بتمسكها بالكتاب والسنة، لا بخروجها عن الكتاب والسنة ورضاها بالحلول الجزئية المنطلقة من المداهنة والركون إلى أعداء الله سبحانه، قال سبحانه: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: (يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكيد الفجار، باستعمال الصبر والتقوى، والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم، فلا حول ولا قوة لهم إلا به، وهو الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته، ومن توكل عليه كفاه). تفسير ابن كثير.
وقال الطبري رحمه الله تعالى: (وأما قوله: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا}؛ فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: وإن تصبروا، أيها المؤمنون، على طاعة الله واتباع أمره فيما أمركم به، واجتناب ما نهاكم عنه: من اتخاذ بطانة لأنفسكم من هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم من دون المؤمنين، وغير ذلك من سائر ما نهاكم، {وتتقوا} ربكم، فتخافوا التقدم بين يديه فيما ألزمكم وأوجب عليكم من حقه وحق رسوله {لا يضركم كيدهم شيئا}؛ أي: كيد هؤلاء الذين وصف صفتهم. ويعني بـ {كيدهم}، غوائلهم التي يبتغونها للمسلمين، ومكرهم بهم ليصدوهم عن الهدى وسبيل الحق) [جامع البيان للطبري].
فهذه الآية يبين الله سبحانه فيها، أن المؤمنين إذا صبروا على دينهم، واتقوا ربهم في ما أمرهم به، ونهاهم عنه، لن يضرهم كيد الكافرين شيئاً، و "شيء"؛ اسم جنس جاء في سياق الشرط فدل على عموم، أي لن يضر كيد الكافرين المؤمنين لا بقليل ولا بكثير، ومفهوم المخالفة، أن كيد الكافرين يصيب المؤمنين إذا تخلوا عن الصبر والتقوى.
وقال سبحانه: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141].
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: (أي؛ تسلطا واستيلاء عليهم، بل لا تزال طائفة من المؤمنين على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، ولا يزال الله يحدث من أسباب النصر للمؤمنين، ودفع لتسلط الكافرين، ما هو مشهود بالعيان. حتى إن "بعض" المسلمين الذين تحكمهم الطوائف الكافرة، قد بقوا محترمين لا يتعرضون لأديانهم ولا يكونون مستصغرين عندهم، بل لهم العز التام من الله، فله الحمد أولا وأخراً، وظاهرا وباطنا). أهـ تفسير السعدي.
والقول في هذه الآية، كالقول في الآية قبلها، فإن {سبيلا}؛ اسم جنس نكرة جاء في سياق النفي فدل على عموم، أي لن يكون هنالك من سبيل للكافرين على المؤمنين، وهذا مع الإيمان الصحيح، ويؤيد ذلك ما رواه مسلم في صحيحه وغيره عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا).
فالحديث صريح الدلالة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل ربه ألا يسلط على أمته عدواً مما سوى أنفسهم، فاستجاب المولى سبحانه دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، وعصم أمة نبيه من تسلط الأعداء عليها حتى يكون ذلك بسبب ذنوبها وغفلتها كما قال سبحانه: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (يقول تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة}؛ وهي ما أصيب منهم يوم أحُد من قتلى السبعين منهم، {قد أصبتم مثليها}؛ يعني يوم بدر فإنهم قتلوا من المشركين سبعين قتيلاً، وأسروا سبعين أسيراً، {قلتم أنى هذا}؛ أي من أين جرى علينا هذا؟ {قل هو من عند أنفسكم}.
عن عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل اللّه {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم}، بأخذكم الفداء [رواه ابن أبي حاتم].
وهكذا قال الحسن البصري وقوله (قل هو من عند أنفسكم) أي بسبب عصيانكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمركم أن لا تبرحوا من مكانكم فعصيتم، يعني بذلك الرماة، {إن اللّه على كل شيء قدير}؛ أي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه). أهـ تفسير ابن كثير.(1/371)
وقال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
فهذه الآيات المذكورة تدل على أن ما أصاب المسلمين إنما هو بما كسبت أيديهم، بل ترك لنا القرآن عبرة في غزوة أحد إلى يوم القيامة قال سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152].
جاء في تفسير القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: (قال محمد ابن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أحد وقد أصيبوا قال بعضهم لبعض: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر! فنزلت هذه الآية. وذلك أنهم قتلوا صاحب لواء المشركين وسبعة نفر منهم بعده على اللواء، وكان الظفر ابتداء للمسلمين غير أنهم اشتغلوا بالغنيمة، وترك بعض الرماة أيضا مركزهم طلبا للغنيمة فكان ذلك سبب الهزيمة.
روى البخاري عن البراء بن عازب قال: لما كان يوم أحد ولقينا المشركين أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أناسا من الرماة وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم: "لا تبرحوا من مكانكم إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا وإن رأيتموهم قد ظهروا علينا فلا تعينونا عليهم"، قال: فلما التقى القوم وهزمهم المسلمون حتى نظرنا إلى النساء يشتددن في الجبل، وقد رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن فجعلوا يقولون: الغنيمة الغنيمة. فقال لهم عبد الله: أمهلوا! أما عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تبرحوا، فانطلقوا فلما أتوهم صرف الله وجوههم وقتل من المسلمين سبعون رجلا. ثم إن أبا سفيان بن حرب أشرف علينا وهو في نشز فقال: أفي القوم محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجيبوه" حتى قالها ثلاثا. ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاثا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجيبوه" ثم قال: أفي القوم عمر بن الخطاب؟ ثلاثا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "(لا تجيبوهط ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه دون أن قال: كذبت يا عدو الله! قد أبقى الله لك من يخزيك به. فقال: اعْلُ هُبَل؛ مرتين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجيبوه) فقالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: "قولوا الله أعلى وأجل". قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجيبوه". قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: "قولوا الله مولانا ولا مولى لكم". قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، أما إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني.
وفي البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال. وفي رواية عن سعد: عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد. يعني جبريل وميكائيل. وفي رواية أخرى: يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده. وعن مجاهد قال: لم تقاتل الملائكة معهم يومئذ، ولا قبله ولا بعده إلا يوم بدر. قال البيهقي: إنما أراد مجاهد أنهم لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم حين عصوا الرسول ولم يصبروا على ما أمرهم به. وعن عروة بن الزبير قال: وكان الله عز وجل وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين: وكان قد فعل؛ فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم وترك الرماة عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ألا يبرحوا من منازلهم، وأرادوا الدنيا، رفع عنهم مدد الملائكة، وأنزل الله تعالى: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه} [آل عمران 152]. فصدق الله وعده وأراهم الفتح، فلما عصوا أعقبهم البلاء. وعن عمير ابن إسحاق قال: لما كان يوم أحد انكشفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعد يرمي بين يديه، وفتى ينبل له، كلما ذهبت نبلة أتاه بها. قال ارم أبا إسحاق. فلما فرغوا نظروا من الشاب؟ فلم يروه ولم يعرفوه. وقال محمد بن كعب: ولما قتل صاحب لواء المشركين وسقط لواؤهم، رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية؛ وفي ذلك يقول حسان:
فلولا لواء الحارثية أصبحوا يباعون في الأسواق بيع الجلائب
و {تحسونهم}؛ معناه تقتلونهم وتستأصلونهم. {بإذنه}؛ بعلمه، أو بقضائه وأمره. {حتى إذا فشلتم}؛ أي جبنتم وضعفتم. يقال فشل يفشل فهو فشِل وفشْل. وجواب {حتى} محذوف، أي حتى إذا فشلتم امتحنتم. ومثل هذا جائز كقوله {فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء} [الأنعام 35] فافعل. وقال الفراء: جواب {حتى}، {وتنازعتم} والواو مقحمة زائدة؛ كقوله: {فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه} [الصافات: 103 - 104]، أي ناديناه، {وعصيتم}؛ أي حتى إذا فشلتم وتنازعتم عصيتم. وعلى هذا فيه تقديم وتأخير، أي حتى إذا تنازعتم وعصيتم فشلتم. وقال أبو علي: يجوز أن يكون الجواب {صرفكم عنهم}؛ و "ثم" زائدة، والتقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم.(1/372)
وجوز الأخفش أن تكون زائدة؛ كما في قوله تعالى: {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم} [التوبة: 118]. وقيل {حتى} بمعنى؛ إلى، وحينئذ لا جواب له، أي صدقكم الله وعده إلى أن فشلتم، أي كان ذلك الوعد بشرط الثبات. ومعنى {تنازعتم} اختلفتم؛ يعني الرماة حين قال بعضهم لبعض: نلحق الغنائم. وقال بعضهم: بل نثبت في مكاننا الذي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالثبوت فيه. {وعصيتم} أي خالفتم أمر الرسول في الثبوت. {من بعد ما أراكم ما تحبون} يعني من الغلبة التي كانت للمسلمين يوم أحد أول أمرهم؛ وذلك حين صرع صاحب لواء المشركين على ما تقدم، وذلك أنه لما صرع انتشر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصاروا كتائب متفرقة فحاسوا العدو ضربا حتى أجهضوهم عن أثقالهم. وحملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مغلوبة، وحمل المسلمون فنهكوهم قتلا. فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله عز وجل قد فتح لإخوانهم قالوا: والله ما نجلس ههنا لشيء، قد أهلك الله العدو وإخواننا في عسكر المشركين. وقال طوائف منهم: علام نقف وقد هزم الله العدو؟ فتركوا منازلهم التي عهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا يتركوها، وتنازعوا وفشلوا وعصوا الرسول فأوجفت الخيل فيهم قتلا. وألفاظ الآية تقتضي التوبيخ لهم، ووجه التوبيخ لهم أنهم رأوا مبادئ النصر، فكان الواجب أن يعلموا أن تمام النصر في الثبات لا في الانهزام. ثم بين سبب التنازع. فقال: {منكم من يريد الدنيا} يعني الغنيمة. قال ابن مسعود: ما شعرنا أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد. {ومنكم من يريد الآخرة}؛ وهم الذين ثبتوا في مركزهم، ولم يخالفوا أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم مع أميرهم عبد الله بن جبير؛ فحمل خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل عليه، وكانا يومئذ كافرين فقتلوه مع من بقي، رحمهم الله. والعتاب مع من انهزم لا مع من ثبت، فإن من ثبت فاز بالثواب، وهذا كما أنه إذا حل بقوم عقوبة عامة فأهل الصلاح والصبيان يهلكون؛ ولكن لا يكون ما حل بهم عقوبة، بل هو سبب المثوبة. والله أعلم
قوله تعالى: {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} أي بعد أن استوليتم عليهم ردكم عنهم بالانهزام. ودل هذا على أن المعصية مخلوقة لله تعالى. وقالت المعتزلة: المعنى ثم انصرفتم؛ فإضافته إلى الله تعالى بإخراجه الرعب من قلوب الكافرين من المسلمين ابتلاء لهم. قال القشيري: وهذا لا يغنيهم؛ لأن إخراج الرعب من قلوب الكافرين حتى يستخفوا بالمسلمين قبيح ولا يجوز عندهم، أن يقع من الله قبيح، فلا يبقى لقوله {ثم صرفكم عنهم} معنى. وقيل: معنى {صرفكم عنهم} أي لم يكلفكم طلبهم.
قوله تعالى: {ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين}؛ أي لم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة. والخطاب قيل هو للجميع. وقيل: هو للرماة الذين خالفوا ما أمروا به، واختاره النحاس. وقال أكثر المفسرين: ونظير هذه الآية قوله: {ثم عفونا عنك} [البقرة 52]. {والله ذو فضل على المؤمنين}؛ بالعفو والمغفرة. وعن ابن عباس قال: ما نصر النبي صلى الله عليه وسلم في موطن كما نصر يوم أحد، قال: وأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله عز وجل، إن الله عز وجل يقول في يوم أحد {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه}، يقول ابن عباس: والحَس القتل، {حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين}؛ وإنما عنى بهذا الرماة. وذلك أن النبّي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال: "احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا". فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباحوا عسكر المشركين انكفأت الرماة جميعا فدخلوا في العسكر ينتهبون، وقد التقت صفوف أصحاب النبّي صلى الله عليه وسلم، فهم هكذا - وشبك أصابع يديه - والتبسوا. فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب بعضهم بعضا والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس: الغار، إنما كانوا تحت المهراس وصاح الشيطان: قتل محمد. فلم يشك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نشك أنه قتل حتى طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين، نعرفه بتكفئه إذا مشى. قال: ففرحنا حتى كأنا لم يصبنا ما أصابنا. قال: فرقي نحونا وهو يقول: "اشتد غضب الله على قوم دموا وجه نبيهم". وقال كعب بن مالك: أنا كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين؛ عرفته بعينيه من تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين! ابشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل. فأشار إليّ أن اسكت) [الجامع لأحكام القرآن، بتصرف يسير].
فالصحابة رضي الله تعالى عنهم فشلوا في غزوة أحد - كما هو ظاهر القرآن {فشلتم} - بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنه صلى الله عليه وسلم أصيب في تلك الغزوة، والمتتبع لهذا الحادث الجلل، يدرك أن سبب فشل المسلمين في غزوة أحد، ما وقعوا فيه من مخالفة للرسول صلى الله عليه وسلم، والمخالفون بالنسبة لمجموع المجاهدين قلة، فكيف بزماننا هذا الذي كثرت فيه الفتن، وعظمت فيه المحن، وأصبح فيه المعروف منكراً، والمنكر معروفاً.(1/373)
وفي الحديث عن زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فزعاً محمراً وجهه يقول: "لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح من اليوم من ردم يأجوج مثل هذه"، وحلق بإصبعين الإبهام والتي تليها، قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث") [رواه البخاري].
فالأمة إذا كثر الفساد فيها يترتب عليها الهلاك لا النجاة، وطريق نجاتها لا يكون إلا برجوعها إلى دينها لما جاء في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلَّط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) [أخرجه أبو داود].
بل ما كان تسلط أعدائها عليها إلا بسبب ضعف الإيمان في قلوب أبنائها كما في حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك الأممُ أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوّكم المهابةَ منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن)، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: (حبّ الدنيا وكراهية الموت) [أخرجه أبو داود].
وعليه فإن طريق النجاة، هو الرجوع إلى الكتاب والسنة، لا مشاركة الظالمين في ظلمهم، فقد جاء في الحديث الصحيح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن اللّه أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم) [رواه أحمد والترمذي].
وفي رواية قال رسول الله أنه قال: (كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعننكم كما لعنهم) [أخرجه الترمذي أيضا].
فهذه الأحاديث تدل على وجوب الأخذ على يدي الظالم، لا مشاركته والانطواء تحت رايته إن أرادت الأغلبية ذلك، الواجب على المسلم الحق أن يعتزل أهل الباطل، فإن الله سبحانه لعن بني إسرائيل بسبب عدم تناهييهم عن المنكر كما بين ذلك المولى سبحانه بقوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 81].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل، فيما أنزل على داود نبيه، عليه السلام، وعلى لسان عيسى ابن مريم، بسبب عصيانهم لله واعتدائهم على خلقه. قال العوفي، عن ابن عباس: لعنوا في التوراة و في الإنجيل وفي الزبور، وفي الفرقان. ثم بيّن حالهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم، فقال: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} أي: كان لا ينهي أحد منهم أحدا عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يركب مثل الذي ارتكبوا، فقال: {لبئس ما كانوا يفعلون}؛ وقال الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا يزيد حدثنا شريك بن عبد الله، عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم - قال يزيد: وأحسبه قال: وأسواقهم - وواكلوهم وشاربوهم. فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فقال: "لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا".(1/374)
وقال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، حدثنا يونس بن راشد، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض"، ثم قال: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم...} إلى قوله: {فاسقون} ثم قال: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا - أو تقصرنه على الحق قصرا". وكذا رواه الترمذي وابن ماجه، من طريق علي بن بذيمة، به وقال الترمذي: حسن غريب. ثم رواه هو وابن ماجه، عن بندار، عن ابن مهدى، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة مرسلا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج وهارون بن إسحاق الهمداني قالا حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن العلاء بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرا، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريكه - وفي حديث هارون: وشريبه، ثم اتفقا في المتن - فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب قلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد المسيء، ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، أو ليلعنكم كما لعنهم"، والسياق لأبي سعيد. كذا قال في رواية هذا الحديث). أهـ تفسير ابن كثير.
فالواجب علينا إذا أردنا أن ينصرنا الله سبحانه، هو الأخذ على يدي الظالم، والعمل على إصلاح أنفسنا لا مناصرة الظالمين والدخول فيهم، والركون إليهم بحجة واهية قامت الأدلة على خلافها.
ثم إن الأمر لو كان كما ذهبوا إليه، أي الحصول على مناصب من أجل إصلاح المجتمع، لقبل بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حين عرض عليه قومه الملك كما جاء ذلك في سيرته صلى الله عليه وسلم، ولكنه قال قوله المشهور: (والله يا عم: لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).
فهذا ما علمنا إياه رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يجب أن نتأسى به، لا بنيات الأفكار، وحثالة الآراء المخالفة لسبيل المؤمنين.
5) وجوب طاعة الأمير:
لقد سمعنا عدداً من الأحباب، ينكرون قضية الدخول في مجلس التشريع المشؤوم، لكنهم يشاركون إخوانهم في الانتخابات تحت ذريعة وجوب طاعة الأمير فيما فيه مصلحة الجماعة.
أقول: إن طاعة الأمير منوطة بطاعته لله سبحانه قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59].
وفي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) [صححه الألباني في الصحيح الجامع]. فطاعة الحكام منوطة بطاعتهم لله ورسوله، فإن خرجوا عن طاعة الله ورسوله فلا طاعة لهم، ويؤكد ذلك ما رواه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فقلت: يا رسول الله إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: تسألني يا ابن أم عبد ماذا تفعل؟! لا طاعة لمن عصى الله).
فالطاعة لا تكون إلا بالمعروف، وأما طاعة الأمراء فيما يحلون ويحرمون من غير دليل من الكتاب والسنة، أو في مخالفتهما فهو من الشرك المحذور الذي عاب الله سبحانه على أصحابه قال سبحانه: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31].(1/375)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (وقوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم}. روى الإمام أحمد، والترمذي، وابن جرير من طرق، عن عدي بن حاتم، رضي الله عنه، أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، ورغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عدي المدينة، وكان رئيسا في قومه طيئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}، قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال: "بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عدي، ما تقول؟ أيفرك أن يقال: الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ ما يفرك؟ أيفرك أن يقال لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله إلا الله؟"، ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم، وشهد شهادة الحق، قال: فلقد رأيت وجهه استبشر ثم قال: "إن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون". وهكذا قال حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وغيرهما في تفسير: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا. وقال السدي: استنصحوا الرجال، وتركوا كتاب الله وراء ظهورهم). أهـ تفسير ابن كثير.
وقال البغوي رحمه الله تعالى: ({اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا} أي: علماءهم وقراءهم، والأحبار: العلماء، وأحدها حبر، وحبر بكسر الحاء وفتحها، والرهبان من النصارى أصحاب الصوامع فإن قيل: إنهم لم يعبدوا الأحبار والرهبان؟ قلنا: معناه أنهم أطاعوهم في معصية الله واستحلوا ما أحلوا وحرموا ما حرموا، فاتخذوهم كالأرباب. روي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال لي: "يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك". فطرحته ثم انتهيت إليه وهو يقرأ: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}، حتى فرغ منها، قلت له: إنا لسنا نعبدهم، فقال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟"، قال قلت: بلى، قال: "فتلك عبادتهم"). أهـ تفسير البغوي.
ففي هذه الأخبار، جعل المصطفى صلى الله عليه وسلم طاعة الأكابر في معصية الله، عبادة لهم، وهذه الآيات وإن كانت في حق اليهود والنصارى إلا أنها عامة في كل من وقع في ذلك من منطلق عموم الأدلة الدالة على أن الله سبحانه هو وحده المعبود المطاع، وكل طاعة لغيره فيما نهى عنه أو أمر به، هي عبادة لغيره وهي بذلك شرك.
وعليه فالواجب على كل مسلم أن يتبع الكتاب والسنة وأن لا يتعداهما بحال، فهما الحق المبين، وهما الصراط المستقيم، والله سبحانه أعلم.
فإن قيل لنا: إذا ما شاركنا القوم في ضلالهم وغيهم، هل نقف مكتوفي الأيدي نتفرج؟ أم يجب علينا أن نعمل وإن وقعنا في بعض المخالفات الشرعية من باب الأخذ بقاعدة أخف الضررين.
أقول:
أ) إن المشاركة في الانتخابات التشريعية، هي رضى بالكفر، ولا يجوز أن يقع الإنسان في الكفر في حال إلا إذا أكره وقلبه مطمئن بالإيمان لقوله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106].
وهذه الآية واضحة الدلالة بأنه لا يجوز الوقوع في الكفر إلا لمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان بالقول دون العمل، ولا بد أن يكون الإكراه ملجأ وإلا فلا، ولا شك من أن الأمر ما وصل إلى درجة التفكير ناهيك عن الوقوع فيه فعلاً، بل إن المدقق في الواقع العام المحقق لفقهه يجد أن المصلحة الشرعية تقتضي عدم المشاركة إن كانت المشاركة مباحة، فكيف إذا كانت محرمة؟
ب) إن ما يعقده الفلسطينيون من عقود بينهم وبين يهود، عقود لا يعول عليها، إذ لا عهد ليهود قال سبحانه: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100]، وقال الحسن البصري في قوله: (بل أكثرهم لا يؤمنون) قال: نعم، ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه، يعاهدون اليوم، وينقضون غدا. نقلاً عن تفسير ابن كثير.
فاليهود لا عهود لهم، وما تقوم عليه الأسس التشريعية الفلسطينية هو على ما يتم الاتفاق عليه بين الجانبين - الفلسطيني واليهودي - فهو قائم على شفا جرف هار لا أسس له، فكيف بجماعة تؤمن بكلام الله سبحانه الدال على عدم إيفاء اليهود بعهودهم، ثم يبرمون معهم عهوداً مغلظة في أكثر القضايا تعقيداً؟(1/376)
ج) من المعلوم لكل ذي بصيرة بدينه، أن من المستحيل أن يوافق اليهود على استلام أي جماعة من الجماعات الإسلامية زمام الأمور إن قدر لها الفوز في الانتخابات الباطلة، بل هم يسعون جاهدين من أجل القضاء على المظاهر الإسلامية، والحيلولة دون رجوع المسلمين إلى سابق عهدهم المجيد، وها نحن نراهم ينفقون الأموال، ويحركون أذنابهم في كل مكان من أجل إخراج الناس من النور إلى الظلمات، وتثبيت عروشهم وهيمنتهم على العالم أجمع، وهم يدركون خطورة استلام أي جماعة صادقة زمام الأمور، لأن في ذلك تهديداً لوجودهم، وعليه فلن يسمح اليهود بشكل من الأشكال أن تفوز جماعة إسلامية في ما يسمى بالانتخابات المزعومة الباطلة، وإن حصل لها الفوز، فسيعمل اليهود على نقض ما أبرموا من عهود، ويعملوا على تغير سياستهم حفاظاً على أمنهم، ويدّعون بعد ذلك أنهم يريدون السلام، وإبرام عهود مع أناس غير إرهابيين مما يؤدي ذلك إلى الضغط على عملائها للتسبب في زعزعة داخلية تؤول نهاية إلى حرب أهلية يذهب ضحيتها العديد من أبناء هذا الشعب، كما هو الحال في الجزائر نسأل الله العفو والعافية.
وما أقوله هو قراءة لحقيقة الواقع، وهي ما لا يختلف عليه أهل فلسطين، فهل بعد ذلك من عذر لمن يشارك في الانتخابات التشريعية بحجة رفع الضرر عن المسلمين في فلسطين من خلال أعمال تساعد على تأجج الواقع لا رفع الضرر والحرج عنه.
وخلاصة الأمر:
إن المشاركة في الانتخابات التشريعية لا تجوز بأي حال من الأحوال على ما ذكرنا من أدلة شرعية من أبرزها: أن الانتخابات هي حكم الشعب للشعب، وهذا مبدأ كفري يقوم على أساس السيادة للشعب لا لله سبحانه، وعليه لا يجوز لأي مسلم المشاركة فيها، أو الدعوة إليها، أو بذل أي عون يؤدي إلى عقدها.
والله سبحانه أعلى واعلم
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم
وكتب؛ إبراهيم بن عبد العزيز بركات
9 / صفر / 1426 هـ
==================
مظاهر موالاة المشركين (1)
الخطبة الأولى:
فإن من أصول الدين الحنيف الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله، وذلك من أوثق عرى الإيمان، فالواجب على المؤمن الموحد أن يوالي الله ورسوله والمؤمنين ويتبرأ من الشرك والكفر وأهلهما.
وهو دين إبراهيم - عليه السلام - والذين آمنوا معه وجعلهم الله - سبحانه وتعالى - قدوة لنا قال - تعالى -: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآءوا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده} [الممتحنة].
وهو دين رسول الله الذي أمره الله هو وكل المؤمنين أن لا تتخذوا الكفار أولياء فقال - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق} [الممتحنة: 2].
فهذا في حق الكفار عامة أما في حق أهل الكتاب خاصة قال - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [المائدة].
وقد قطع الإسلام صلة النسب بين المؤمن وآبائه وإخوانه وأبنائه وأزواجه وعشيرته إن كانوا استحبوا الكفر على الإيمان فقال - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} [التوبة].
فكما أن الله - سبحانه وتعالى - قطع الموالاة بين المسلمين والكافرين، أمر بموالاة الله ورسوله والمؤمنين وذلك من لوازم التوحيد قال الله - تعالى -: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله فإن حزب الله هم الغالبون} [المائدة]. وقال - تعالى -: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} [المجادلة].
فيا عباد الله: هذه النصوص من كتاب الله - تعالى - توجب على جميع المسلمين أن يوالوا في الله ويعادوا في الله، ولكن كثيراً من المسلمين جهلوا هذه الحقيقة التي تعتبر من أوثق عرى الإيمان فوقعوا في بعض مظاهر موالاة المشركين، وهذه المظاهر مع أنها في حياة المسلمين كثيرة وللأسف فإننا نشير إلى أهمها:
فمن مظاهر موالاة المشركين إتباع سنن اليهود والنصارى كما أخبر عنه رسول الله بقوله: (لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: (فمن)؟ متفق عليه.
وأيم الله لقد اتبع كثير من الملسمين سنن وطرق اليهود والنصارى وهذا الحديث علم من أعلام النبوة، فكثير من المسلمين اليوم اتبعوا اليهود والنصارى في العقائد والعبادات والمعاملات وفي العادات والتقاليد.
__________
(1) - http://www.alminbar.net(1/377)
ففي مجال الاعتقاد تشبه بعض المسلمين باليهود والنصارى، ففعلوا مثل فعلهم في أنبيائهم وصالحيهم فعظموهم إلى درجة أن أعطوهم خصائص الربوبية والعياذ بالله، فبينت القباب والمشاهد على أضرحة وقبور الصالحين واتخذوها مزارات ومساجد وأعياداً، ورسول الله قد حذرنا من ذلك وهو في سكرات الموت كان يشتد نكيره على من فعل ذلك، فعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله قال في مرض موته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد، قالت: يحذر ما صنعوا، ولو لا ذلك أبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجداً) متفق عليه. وقد وقع ما أخبر عنه رسول الله، فأقام بعض المسلمين المزارات للأولياء وبنوا عليها القباب والمشاهد والمساجد واتخذوها أماكن عبادة، وكل هذا من مظاهر موالاة المشركين.
ومن مظاهر موالاة المشركين تنحية شرع الله وتحكيم القانون الوضعي اللعين والدستور الكفري المستبين اقتداء باليهود والنصارى والمشركين والله - سبحانه وتعالى - يقول: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة].
ومن مظاهر موالاة المشركين أيضاً الإعجاب بالكفار وتقليدهم في الملبس والمظهر والتزين بزيهم ورسوله الله يقول: (ومن تشبه بقوم فهو منهم) رواه أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن أبي هريرة.
ومن مظاهر موالاة المشركين أيضاً: الاحتفال بأعيادهم، والعيد مظهر ديني كما قال - تعالى -: {لكل أمة جعلنا منسكاً} [الحج]. أي عيداً، فنحن معشر المسلمين لا عيد لنا إلا عيد الفطر وعيد الأضحى، أما الأعياد التي تسمى بأعياد الثورة والأعياد الوطنية ونحوها فكلها من مظاهر التشبه بالكفار، ولا يجوز الاحتفال بتلك الأعياد، وقد وصف الله - سبحانه وتعالى - عباد الرحمن بقوله: {والذين لا يشهدون الزور إذا مروا باللغو مروا كراماً} [الفرقان].
قال مجاهد وقتادة (لا يشهدون الزور) أي لا يحضرون أعياد الكفار. وذلك أن الاحتفال بأعيادهم من مظاهر موالاتهم، وهو يخدش في أصول الدين والتوحيد والإيمان، والمحتفلون بأعياد الكفار معجبون بهم، وقد نهى الله - سبحانه وتعالى - عن الإعجاب بالكفار فقال - تعالى -: {ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} [التوبة].
فالواجب على المسلم أن يحذر ذلك ويتعاهد إيمانه ويجرد التوحيد لله ويوالي في الله ويعادي في الله ويحب في الله ويبغض في الله.
أسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يحفظنا في ديننا ويجنبنا الزيغ والزلل والضلال وادعوا الله استغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
إن اتباع اليهود والنصارى والإقتداء بهم في العادات والتقاليد أمر شائع بين المسلمين، وهو مظهر من مظاهر موالاتهم التي نهينا عنها، فنرى اليهود موجة عارمة من مظاهر الإقتداء باليهود والنصارى في المأكل والمشرب وفي الملبس والمظهر، وهذا يهدد شخصية المسلم بالمسخ ويجعلها معجبة بالكفار، وهذا الإعجاب يؤدي بالمسلمين إلى الميل إليهم ظاهراً. والميل ظاهراً سيؤول بالمسلمين إلى الميل إليهم باطناً، وهذا أمر معلوم لمن وفقه الله لذلك الفهم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أيها المسلمون: شتان بيننا وبين أصحاب رسول الله الذين اعتزوا بهذا الدين وحده فلم يتشبهوا باليهود والنصارى، لا في النقير ولا في القطمير، بل كانوا يخالفونهم تديناً كما كان رسول الله يعجبه مخالفتهم في كل شيء قطعاً لذريعة الفساد وحسماً لمادة الشر، وبهذه التربية الإيمانية التي تلقوها عن رسول الله تشبعوا بروح العزة الإيمانية فلم يعجبوا بالكفار بل كانوا ينظرون إليهم نظرة احتقار وازدراء لا نظرة إعجاب وإجلال ممتثلين قوله - تعالى -: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [آل عمران].
ولنأخذ موقفاً من تلك المواقف المشرفة التي سجلها لنا التاريخ الإسلام بأحرف من نور. موقف ربعي بن عامر مع قائد الجيش الفارسي رستم، لما قال رستم لربعي: ما الذي دعاكم إلى حربنا والولوغ بديارنا قال ربعي: الله ابتعثنا لنخرج من يشاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. ثم التفت إلى يمين رستم وإلى شماله فرأى جيشاً مصطفا راكعاً خاعاً ذليلاً مهاناً فقال: لقد كانت تبلغنا عنكم الأحلام، وما أرى والله قوماً أسفه منكم، إننا معاشر المسلمين لا يستعبد بعضنا بعضاً، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب لبعض. فالتفت الدهماء إلى بعضهم البعض يتهامسون وهم يقولون: صدق والله العربي. أما القادة والرؤساء فقد وجدوا في كلام ربعي هذا ما يشبه الصاعقة أصابت كيانهم فحطمته حتى قال أحد أفراد بلاط رستم: لقد رمى هذا العربي بكلام لا تزال عبيدنا تنزع إليه.
إنها عزة الإسلام وكرامة الإيمان.
هذا هو الفارق بيننا وبين أولئك.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المحارب
إن الواجب على المسلمين أن يقتدوا بنبيهم ويتمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم ويوالوا في الله ويعادوا فيه ويحبوا في الله ويبغضوا فيه، ولا يعجبوا بالكفار ولا يقتدوا بهم، فإن ذلك مما يناقض التوحيد والإيمان.
والأمة الإسلامية ما ذلت ولا هانت إلا حين اتبعت أبناء القردة والخنازير وتشبهت بهم في الهدي الظاهر والباطن، حتى أصبح المسلم ضعيف الإرادة ذليلاً مهاناً محتقراً من علوج الروم وأبناء المغضوب عليهم اليهود والضالين النصارى.
فيا عباد الله: لا عزلنا إلا بالإسلام، ولا كرامة لنا إلا بهذا الدين، فإن عزنا وكرامتنا إنما يكون بالإسلام لا بغيره، فنقول كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة بغير ما أعزنا الله أذلنا الله"،(1/378)
فالحذر الحذر من مشابهة اليهود والنصارى وإياك إياك أن تتشبه بهم في ما يسمى بالموضة وفي العادات والتقاليد واستمسك بدين الله الذي فيه الخير والهداية لك، واعلم بأن الواجب علينا التأسي برسول الله والإقتداء به وبسنته القولية والعملية ثم التأسي بسيرة السلف الصالح صحابة رسول الله وتابعيهم وأئمة الهدى في الدين ممن أنعم الله عليهم في الدارين من قال - تعالى -: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً} [الأحزاب].
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح
جعلنا الله من المتمسكين بدين الحق والمتبعين صراط الله المستقيم المعرضين عن منهج اليهود والنصارى آمين.
حسين بن محفوظ
6/7/1420
==================
الولاء والبراء(1)
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1 - حاجتنا إلى عقيدة الولاء والبراء 2 - علامات محبة الله 3 - اصناف موافقة الكافرين 4 - العمالة الكافرة في بلادنا 5 - من موالاة الكفار السفر إلى بلادهم
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى لتكونوا من اولياء الله الذين يقول الله فيهم: الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين امنوا وكانوا يتقون (1)
عباد الله!
ومن تقوى الله فعل ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه.
ألا وإن مما أمر الله به موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين وهذا هو الولاء والبراء وهو أصل الإسلام ومظهر إخلاص المحبة لله ثم لأنبيائه وللمؤمنين.
والبراء مظهر من مظاهر كراهية الباطل وأهله وهذا أصل من أصول الإيمان وهو هام فى الوقت الحاضر لأنه اختلط الكفار بالمسلمين وغفل الناس عن مميزات المؤمنين التى ميزهم الله بها وحطوا من قدرهم وساموهم سوء العذاب وسافر كثير من المسلمين الى الكفار فى عقر دراهم وساكنوهم وخالطوهم وهذا نتيجة لضعف هذا الأصل العظيم الذى هو أصل الولاء والبراء.
عباد الله!
الولاء معناه المحبة والنصرة والإكرام وأن نكون مع المؤمنين ظاهرا وباطنا.
قال تعالى: الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات (2).
والبراء معناه: البعد والخلاص والعداوة بعد الأعذار والإنذار.
عباد الله!
وإن كان أصل الولاء المحبة فإن أول من يحب هو الله سبحانه وتعالى لأنه المحسن المنعم
ومحبة الله تعالى تقتضى أموراً ولها علامات فليس كل من ادعى محبة الله يكون صادقا فى دعواه حتى تدل على ذلك الأدلة، و تشهد له الشواهد.
وأول هذه العلامات: متابعة الرسول فمن كان يحب الله عز وجل فليتابع رسوله فيما جاء به.
ولهذا لما ادعى اليهود أنهم يحبون الله عز وجل امتحنهم بهذه الآية قل ان كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين (3)
ومن علامات محبة الله أن يقدم العبد ما يحبه الله على ما يحبه هو فإذا تعارضت محبة الله مع محبة العبد فان العبد يقدم ما يحبه الله على ما تحبه نفسه.
قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسول وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين(4)
ومن علامات محبة الله: أن يحب العبد ما يحبه الله من الأعمال والأشخاص ويكره ما يكرهه الله من الأعمال والأشخاص.
فالله تعالى يحب المؤمنين الصالحين فإذا كان الإنسان يحبهم فهو يحب الله عز وجل.
والله تعالى أمر بموالاة أوليائه ومعادة أعدائه فى آيات كثيرة قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً (5).
هذا نداء من الله تعالى لعباده المؤمنين أن لا يتخذوا الكافرين أولياء بأى نوع من أنواع الولاية؛ لا بالمحبة؛ ولا بالمناصرة، ولا بالميل إليهم؛ لأنهم أعداء الله ورسوله وإذا كانوا أعداء لله ولرسوله وجب علينا ان ننابذهم العداء.
وقال تعالى بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فان العزة لله جميعا (6) .
فالله جل وعلا أخبرنا أن موالاة الكفار من صفات المنافقين.
عباد الله!
إعلموا أن موافقة الكفار على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: ان يوافقهم فى الظاهر والباطن وهذا كفر صريح .
الثانى: أن يوافقهم فى الباطن دون الظاهر وهذا شان المنافقين الذين هم فى الدرك الاسفل من النار.
الثالث: أن يوافقهم فى الظاهر دون الباطن، وهذا على نوعين:
الأول: أن يوافقهم فى الظاهر وهو يبغضهم فى الباطن بدافع الإكراه للتخلص من الأذى كما في حديث عمار بن ياسر، حينما أخذه المشركون فلم يتركوه حتى سب النبى وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما اتى رسول الله قال: ((ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله! ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالايمان. قال: إن عادوا، فعد)) (7).
الثانى: أن يوافقهم فى الظاهر بدون إكراه لطمع دنيوى أو لغرض من الأغراض فالذى يعمل هذا قد والى الكفار وارتكب أمراً عظيما.
عباد الله!
ومن مظاهر موالاة الكفار استقدام الكفار للعمل فى بلاد المسلمين.
وأقول بكل أسى: كم فى بلادنا اليوم من ديانة غير الإسلام؟!
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 24)(1/379)
وانظروا إلى أولئك القطعان من تلك الرعايا ممن يجوبون الشوارع في أيام العطل الرسمية من غير المسلمين من يهود ونصارى ووثنيين وهندوس وغيرهم!!
فهل يمكن أن نتنبه لهذا الخطر وننظر فى أصل الولاء والبراء فى أى موقع يقع منا حتى عم الاستقدام فاصبح على مستوى رعى الغنم وخياطة الثياب بل وإعداد الشاى والقهوة؟!
ويا ليتهم حينما بلينا بهم وقفوا عند العمل الذى أتوا من أجله ولكنهم جاءوا فجاء معهم الشر والدمار وخراب الديار لأنهم أتوا من أجل هدم الأخلاق لا من أجل بناء الخراب لقد حفروا نفوسنا قبل أن يحفروا أرضنا لقد نشروا فسادهم قبل نشر آلاتهم لقد شيدوا الفساد قبل تشييد المساكن.
ومن مظاهر موالاة الكفار السفر إلى بلادهم من غير عذر شرعى.
ولقد ذكر العلماء أن السفر الى بلاد الكفار لا يجوز إلا بشرطين:
الأول: أن يكون هذا السفر لمصلحة شرعية كالعلاج أو لطلب خبرات لم تكن فى بلاد المسلمين ويحتاج إليها المسلمون فيسافر ليتعلمها ثم يأتى بها إلى بلاد المسلمين ليستغنوا به عن عدوهم.
الثانى: أن يقدر على إظهار دينه فى بلاد الكفار وإظهار الدين أن يدعوا إلى الله عز وجل ويبين بطلان ما عليه الكفار.
فاذا تحقق هذان الشرطان فليسافر أما إذا فقد أحد هذين الشرطين فالسفر لا يجوز هنا.
وان بعض الناس لم يبالوا فى تحقيق هذين الشرطين فيسافر بعضهم لاجل النزهة والترفيه في بلاد الكفار ولاجل التمتع بجمال الطبيعية كما يقولون ومن عمل هذا يدل على أن عنده ولاء للكفار، وأنه يحبهم فلو كان لا يحبهم لما سافر إليهم.
وبعض الناس من ذوى الثراء يصطحبون معهم فى تلك البلاد الأسرة لتاخذ حظها من الشقاء فتخلع جلباب الحياء تخرج سافرة عارية حتى لا يرميها أولئك الكفار بالتأخر فيمكثون أياماً يعودون بعدها وقد أرضوا الشيطان وأسخطوا الرحمن ويحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون.
عباد الله !
ومن مظاهر موالاة الكفار اتخاذهم بطانة (أي: خاصة) قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ولا يألونكم خبالا (8).
والبطانة الإنسان كما يفعل بعض الناس فى اتخاذ الكفار مستشارين وأمناء سر ومديرى أعمال، سواء كان ذلك فى الأمور العامة والخاصة فالمسلمون منهيون عن أن يتخذوا الكافرين بطانة بأن يولوهم أعمالا من أعمال المسلمين يطلعون من خلالها على أسرار المسلمين وأحوالهم، ويفشون أسرارهم إلى الكفار، فالمسلمون منهيون عن ائتمانهم وقد خونهم الله ولكن الله المستعان، الاستقدام للكفار قائم على قدم وساق وإدخالهم فى بيوت المسلمين ليطلعوا على عوراتهم وخلطهم مع عوائلهم وتوليهم تربية أطفالهم.
فهذا من مظاهر موالاة الكفار فلنتق الله فى أنفسنا وفى أولادنا وفى بلادنا وفى إخواننا.
ومن مظاهر موالاتهم إظهار التعظيم لهم فى المجالس والبشاشة فى وجوههم وتلقيبهم بالألقاب التى تدل على رفعتهم كأن يقال لأحدهم سيد أو ما شابه ذلك.
فعن بريدة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله ((لا تقولوا للمنافق سيد فإنه إن يك سيداً فقد اسخطتم ربكم عز وجل))(9).
فاتقوا الله عباد الله! وحكموا شرع الله فى كل أمور حياتكم واجعلوا الولاء لمن أمر الله بموالاته والبراء ممن أمر الله بالبراء منه.
واعلموا أن الأمة الإسلامية قامت بقيادة البشرية دهراً طويلاً، حيث نشرت العقيدة الإسلامية في ربوع المعمورة، وطبقت الولاء والبراء كما ينبغى، فأخرجت العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، واليوم تراجعت بعد أن هدأت في الجهاد، وهو ذروة سنام الإسلام، نسأل الله أن يعيد لأمة الإسلام مجدها.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لى ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
أما بعد:
ايها المسلمون!
اتقوا الله تعالى حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى وتجنبوا أسباب سخط الله فان أجسامكم على النار لا تقوى.
عباد الله!
ومن مظاهر موالاة الكفار ومحبتهم: نشر أفكارهم المسمومة، وتنفيذ خططهم التى يراد منها إفساد أخلاق المسلمين وإغراق مجتمعهم بالمعاصى والمنكرات.
وفى هذه الأيام ظهرت أعناق من يوالون أفكار الكفار، فشنت بعض الصحف حملة مستميتة وأوقدت ناراً لحرب تعاليم الإسلام وتلك الحملة هى ما سموه: عمل المرآة أو الاستفادة من المرآة وزعموا أنها معطلة فى مجتمعنا فأطلقوا عليها ألقابا براقة: نصف المجتمع المعطل، والجزء الضائع، أو: الساق المبتور … ويتفننون فى اختيار العناوين حسبما يحلوا لهم، فقالوا :نريد من المرآة أن تشتغل بالصناعة وأن تعمل فى تدريس الطلبة فى المراحل الأولى من المراحل الإبتدائية للبنين.(1/380)
وكعادتهم فهم يفتحون عدة ثغرات ويكثرون الدخان وهم يرضون بنتيجة واحدة، فهم الآن يدندنون حول اختلاط المرآة بالرجال ولكنهم لم يعلنوها صريحة حتى الآن لأن المرآة منذ وقت قديم وهى تعمل فى مجال تخصصها فى تدريس النساء ولكن هذا لم يناسب أعداء الاسلام فأثاروا قضية تدريس المرأة للصفوف الدنيا من المرحلة الابتدائية لتكون شرارة ثم نارا تسرى فى الهشيم فاقترحت ذلك إحدى الفتيات إن كان الاسم صحيحا ونشر ذلك الإقتراح فى جريدة الرياض فى عددها الصادر بتاريخ الثالث والعشرين من الشهر الماضى ربيع الآخرة، وأيد ذلك الإقتراح أحد الوافدين لدينا ونشر ذلك فى نفس الصحيفة يوم الثلاثاء الثالث عشر من هذا الشهر جمادى الأولى وعللوا ذلك بأن المعلمة أكثر التصاقا بالأطفال من المعلم وأيد ذلك كاتب تلك المقالة بالأدلة وبتجربته المحترمة فى مجال التدريس.
ونقول لهؤلاء: أربعوا على أنفسكم فإن ما ترمون إليه لن يتحقق بإذن الله فأنتم تريدون مشاركة المرآة للرجل فى مجال العمل وأن تخرج سافرة عارية وتكون فريسة للذئاب البشرية.
وذلك الكاتب من الوافدين يعلم ما وصلت إليه بلاده من الإنحلال ويريد لبلادنا أن تصل إلى ما وصلت إليه بلاده حتى تسلب هذه النعمة لأنه يحسدنا عليها ولو كان صادقا لحذرنا منها وانتقدها لأنه علم ما يحدث من النتائج عند اختلاط المرأة بالرجل ومع الأسف فإن هذا الوافد ينعم لدينا فى هذا البلد وأرجوا ألا تكون له صلة بالتعليم وإن كان له صلة فإنا نأمل من المسؤولين إبعاده لأنه يحمل أفكاراً مسمومة وحتى لا ينشرها بين الطلاب فمعظم النار من مستصغر الشرر.
ثم إن هؤلاء اشترطوا أن يكون تدريس المرأة للطلاب فى المراحل الثلاث الأولى من المرحلة الابتدائية ثم الرابعة سيقولون: إن الطفل ألف المرأة ولا يستطيع أن ينتقل إلى المرحلة الرابعة ليدرسه الذكور فجأة ونظرا لصغر سن التلاميذ في المرحلة الابتدائية فيكون التدريس فى جميع هذه المراحل الإبتدائية للمرأة ثم سيقترحون علينا ما داما أن الأمر هكذا فالطفل لا يعي شيئاً وكذلك الطفلة فى المرحلة الإبتدائية فلماذا لا نجمعهما فى مدرسة واحد؟ لأن الأطفال يلعبون معا في الشارع …… وهكذا … وهكذا لن يقف زحف العلمانيين عند حد حتى يفسدوا أخلاق المسلمين.
ونقول لهؤلاء المستأجرين: إننا لم نجعلكم أوصياء على نسائنا وأطفالنا، فاتجاهكم معلوم، وهدفكم معلوم أيضاً، فنحن - ولله الحمد - في هذه البلاد نتمتع بمكانة عظيمة عند جميع الدول بفضل الله ثم بفضل تمسكننا بالشريعة الإسلامية، وسوف تظل هذه المكانة من حسن إلى أحسن، ما دمنا متمسكين بشرع الله، ومجتمعنا المسلم يرفض هذه الاقتراحات وأصحابها كما يرفض الجسم السليم جرثومة المرض.
عباد الله!
ومن مظاهر موالاة الكفار جلب عاداتهم إلى بلاد المسلمين ونشرها بينهم.
وبمناسبة إجازة منتصف العام نظرا لكثرة مناسبات الزواج فى هذه الإجازة فإنى أنبه على أمر جلب إلينا من أعدائنا وظهرت بوادره فى هذه الأيام كما حدثنى بعض الثقات وهو ما يسمى فى عرف المجتمع التشريعة ذلك العمل أن يؤتى بالرجل وزوجته ويجلسان فى وسط النساء الحاضرات وكثير من النساء متبرجات والزوج معهن جالس فى جانب زوجته ويلبسها خاتما وتلبسه آخر والصور تلتقط لهما والزوجة كاسية عارية فاتنة فى أبهى حللها!!
وانى أتساءل كما يتساءل غيرى: كيف وصلنا الى هذه الحالة في هذه السرعة الخاطفة، إنها لمحنة عظيمة فى غمرة هذا الفرح، يحدث تصوير للزوجة وللنساء الحاضرات وهن في أبهى الحلل وأطيب الطيب!!
تصوروا عباد الله عظم الفتنة حينما تنتشر هذه الصور، ويتناقلها الناس بل يتناقلها السفهاء!!
وهل يرضى أحد أن تكون صورة ابنته أو أخته أو زوجته فى أيدى السفهاء يتناقلونها؟!هل يرضى والد الزوجة؟! هل يرضى الزوج بهذا؟! ولا تقولوا: إنها لن تخرج فستصل الى أيدى الرجال شئتم أم أبيتم.
فلا يرضى بهذا إلا رجل لا خير فيه عديم الغيرة قليل المروءة!!
أما يستحى هؤلاء من الله؟!
ولقد حدثنى أحد الثقات في هذا اليوم أنه حصل زواج منذ يومين، وداسوا فيه الحياء بالأرجل، وانتهكوا محارم الله، فالزوج بين النساء، والمرآة بجانبه كاسية عارية، وآلات التصوير حولها وأصوات النساء متعالية بالتصفيق والصراخ.
عباد الله!
أنحن نحارب الله؟!
هل الزوج يفقد رجولته ليلة الزواج حتى يجلس مع النساء؟!
أم الرجال يفقدون الغيرة حتى يسمحوا لنسائهم بالجلوس حوله؟!
أم أن والد الزوجة يفقد رجولته وقوامته على النساء ليلة الزواج؟!
فاتقوا الله عباد الله! واستعملوا نعم الله في طاعة الله، ولا تستعملوها في معاصيه، فتكون نقماً.
__________
(1) يونس : 62 .
(2) البقرة : .
(3) آل عمران : 31 ، 32 .
(4) التوبة : 22 - 24 .
(5) النساء : 144 .
(6) النساء : 139 .
(7) رواه الحاكم ، وقال : " صحيح على شرط الشيخين " .
(8) آل عمران : 118 .
(9) رواه أبو داود
============
الولاء والبراء
عبد الله بن درويش الغامدي
الجبيل
طلحة بن عبيد الله
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- الولاء والبراء من أساسات الإيمان. 2- عداوة الكفار لنا أبدية. 3- المنافقون يميلون إلى الكفار ويستعزون بهم. 4- تحذير القرآن في الميل للكافرين أو مهادنتهم أو مداهنتهم. 5- التحذير من دعوة تقارب الأديان.
-------------------------
الخطبة الأولى
لقد حذرنا الله سبحانه وتعالى أشد التحذير من أن نتخذ الكفار أولياء في آيات كثيرة لا تدع مجالا للشك في أن هذا الأمر من أساسات الإيمان.(1/381)
استمع إلى قول الله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير.
إن الأمر كله لله، والقوة كلها لله، والتدبير كله لله، والرزق كله بيد الله، فما ولاء المؤمن إذن لأعداء الله؟
إنه لا يجتمع في قلب واحد حقيقة الإيمان بالله وموالاة أعدائه. ومن ثم جاء هذا التحذير الشديد ويحذركم الله نفسه، وهذا التقرير الحاسم بخروج المسلم من إسلامه إذا هو والى أعداء الله، سواء كانت الموالاة بمودة القلب، أو بنصر أعداء الله، أو باستنصار أعداء الله أو بالمحبة أو بالميل أو بالمشاركة في الأفراح والأتراح.
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء.
هكذا ليس من الله في شيء. لا في صلة ولا نسب، ولا دين ولا عقيدة، ولا رابطة ولا ولاية، فهو بعيد عن الله، منقطع الصلة تماما.
الله تعالى قد قسم الناس إلى فريقين، فريق في الجنة وفريق في السعير، فريق مطيع لله وفريق عاص لله، فريق يعمل فيما يرضي الله وفريق يسعى فيما يغضب الله.
فريقان على طرفي نقيض لا يمكن أن يلتقيان أبدا. هؤلاء في جانب, وهؤلاء في جانب آخر. جبهتان متقابلتان وصراع دائم لا ينتهي.
الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا.
ينقسم الناس إلى فريقين اثنين؛ تحت رايتين متميزتين: الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت.
الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله، لتحقيق منهج الله، لإقرار شريعة الله، لنصرة دين الله ولإقامة العدل بين الناس باسم الله. لا يقاتلون لأي شيء آخر. اعترافا بأن الله وحده هو الإله ومن ثم فهو الحاكم وهو المطاع.
والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت لتحقيق مناهج شتى - غير منهج الله - وإقرار شرائع شتى - غير شريعة الله - وإقامة قيم شتى - غير التي أذن بها الله - ونصب موازين شتى غير ميزان الله!
يقف الذين آمنوا مستندين إلى ولاية الله وحمايته ورعايته ونصره.
ويقف الذين كفروا مستندين إلى ولاية الشيطان بشتى راياتهم، وشتى مناهجهم، وشتى شرائعهم، وشتى طرائقهم، وشتى قيمهم، وشتى موازينهم.. فكلهم أولياء الشيطان.
فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفًا.
هكذا يقف المسلمون على أرض صلبة، مسندين ظهورهم إلى ركن شديد. مقتنعين بأنهم يخوضون المعركة لله، ليس لأنفسهم، ولا لذواتهم، ولا لقومهم، ولا لجنسهم، ولا لقرابتهم وعشيرتهم، إنما هي لله وحده، ولدينه وشريعته.
هذا هو الموقف بين المؤمن والكافر، لا معاونة ولا مناصرة ولا مداهنة ولا مجاملة، ولا تعاون ولا تمازج ولا تميع ولا تطبيع ولا صداقة ولا تداخل ولا شراكة ولا حتى مشابهة.
وإنما هي ثلاثة خيارات لا رابع لهما، إما أن يسلموا فيكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإما أن يكونوا تحت حكم المسلمين ويدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون مقابل حماية المسلمين لهم، وإما الحرب الطاحنة والصراع المرير الذي جعله الله تعالى سنة الحياة بين الحق والباطل حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.
لا بد أن تكون هذه هي العلاقة رضينا أم أبينا، فإن العداوة للمسلمين والكيد للمسلمين والغدر بالمسلمين والخداع للمسلمين هي صفات لازمة للكفار مهما كانوا وأين وجدوا.
ولا ينبئك مثل خبير، فهذا العليم الخبير ينبئك بصفاتهم وسلوكهم تجاهك أيها المسلم: ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم.
إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون.
ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم.
لقد حسدوكم على كل شيء.
ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا.
ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة.
ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم، ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء، كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون.
هؤلاء هم الكفار وهذه هي صفاتهم سواء علينا صادقناهم وطلبنا ودهم أم عاديناهم, فالنتيجة واحدة والصفات متأصلة داخل نفوسهم.
عداوة وحقد وبغضاء وحسد وكيد.
فما هو موقفك أيها المسلم؟
ما هو موقفك تجاه من يكرهك؟ ما هو موقفك تجاه من يعاديك ويحقد عليك؟ ما هو موقفك أيها المسلم تجاه من يضمر لك الكيد ويحمل لك الحسد؟
بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليماالذين يتخذون الكافرون أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعًا.
سبب هذا العذاب الأليم هو ولايتهم للكافرين دون المؤمنين؛ وسوء ظنهم بالله؛ وسوء تصورهم لمصدر العزة والقوة.
لم يتخذون الكافرين أولياء وهم يزعمون الإيمان؟ لم يضعون أنفسهم هذا الموضع، ويتخذون لأنفسهم هذا الموقف؟ أهم يطلبون العزة والقوة عند الكافرين؟ لقد استأثر الله - عز وجل - بالعزة؛ فلا يجدها إلا من يتولاه؛ ويطلبها عنده؛ ويرتكن إلى حماه.
إن العزة لله وحده؛ فهي تطلب من عنده وإلا فلا عزة ولا قوة عند غيره!
وإنه إما عبودية لله كلها استعلاء وعزة وانطلاق. وإما عبودية لعباد الله كلها استخذاء وذلة وأغلال، ولمن شاء أن يختار.(1/382)
وما يستعز المؤمن بغير الله وهو مؤمن. وما يطلب العزة والنصرة والقوة عند أعداء الله وهو يؤمن بالله. وما أحوج ناسا ممن يدَّعون الإسلام؛ ويتسمون بأسماء المسلمين، وهم يستعينون بأعدى أعداء الله في الأرض، أن يتدبروا هذا القرآن.. إن كانت بهم رغبة في أن يكونوا مسلمين، وإلا فإن الله غني عن العالمين!.
ثم يقول جل وعلا: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانًا مبينًا.
ويحذر سبحانه وتعالى كل مؤمن بقوله: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين.
إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم، بأن دينه هو الدين الوحيد الذي يقبله الله من الناس - بعد رسالة محمد ـ, وبأن منهجه الذي كلفه الله أن يقيم الحياة عليه، منهج متفرد؛ لا نظير له بين سائر المناهج؛ ولا يمكن الاستغناء عنه بمنهج آخر؛ ولا يمكن أن يقوم مقامه منهج آخر؛ ولا تصلح الحياة البشرية ولا تستقيم إلا أن تقوم على هذا الدين وحده دون سواه؛ ولا يعفيه الله ولا يقبله إلا إذا هو بذل جهد طاقته في إقامة هذا الدين بكل جوانبه: الاعتقادية والاجتماعية؛ لم يأل في ذلك جهدا، ولم يقبل من منهجه بديلا, ولم يخلط بينه وبين أي منهج آخر في تصور اعتقادي، ولا في نظام اجتماعي، ولا في أحكام تشريعية، ولا في أحكام نظرية.
إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم بهذا كله هو الذي يدفعه للعمل والنهوض لتحقيق منهج الله الذي رضيه للناس؛ في وجه العقبات الشاقة، والتكاليف المضنية، والمقاومة العنيدة، والكيد الناصب، والألم الذي يكاد يجاوز الطاقة في كثير من الأحيان. وإلا فما قيمة الإيمان إذًا؟
إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة، باسم التسامح والتقريب بين أهل الأديان السماوية، يخطئون فهم معنى الأديان كما يخطئون فهم معنى التسامح. فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله. والتسامح يكون في المعاملات الشخصية، لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي، إنهم يحاولون تمييع اليقين الجازم في نفس المسلم بأن الله لا يقبل دينا إلا الإسلام، وبأن عليه أن يحقق منهج الله الممثل في الإسلام, ولا يقبل دونه بديلا؛ ولا يقبل فيه تعديلا إن الدين عند الله الإسلام, ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه, واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك, اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين,ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون، وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق.
============
الولاء والبراء
محمد بن مبارك الرشدان
الخبر
11/7/1422
الجامع الكبير
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- الغش الذي أصاب هذا المعتقد عند كثير من المسلمين. 2- معنى الولاء والبراء. 3- عداوة الكفار لنا قائمة إلى قيام الساعة.
-------------------------
الخطبة الأولى
أيها المسلمون, إن من أصول العقيدة الإسلامية: عقيدة الولاء والبراء، من تحب أيها المسلم ومن تبغض؟ من توالي، وممن تتبرّأ؟ فليس الولاء والبراء في الإسلام يخضع للأهواء والمصالح, إنما هو
دين وعقيدة يثاب عليها المسلم أو يعاقب. فالمسلم يحب ويوالي أهل التوحيد والصلاح، ويبغض ويعادي أهل الشرك والفساد. …
وهذه العقيدة ـ الولاء والبراء ـ قد أصابها غبش وتضليل من أعداء الدين حتى تُقلع من قلوب المسلمين، فلم يعد الولاء والعداء في هذه الأيام لله، إنما أصبح للمصالح السياسية، أو الحظوظ الدنيوية، أو من أجل التراب والوطن، أو القبيلة.…
وإن مما زاد هذه العقيدة غموضاً, بُعْدُ المسلمين عن دينهم، وتسلط أعدائهم على بلادهم.
وخيراتهم وعقولهم، فأصبح المسلم عدواً لأخيه المسلم، لماذا؟ لأنه من البلد الفلاني، أو الدولة الفلانية!! وأصبح الكافر له المحبة والولاء المطلق؛ لأنه فعل وفعل.
يقول الوفاء بن عقيل: "إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان؛ فلا تنظر إلى ازدحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتِهم أعداء الشريعة".…
وديننا ـ نحن المسلمين ـ إنما يقوم على الولاء والبراء، بل إن الولاء والبراء داخل في معنى لا إله إلا الله، فلا إله إلا الله, ولاء وبراء، ولاء لله ولدينه ورسوله وعباده الصالحين، وبراء الشرك والمشركين، فمن أباح الشرك أو والى المشركين، أو عادى المسلمين وتبرّأ منهم, فهو ممن أسقط حرمة لا إله إلا الله، ولم يعظمها، ولم يقم بحقها، وإن زعم أنه مسلم.
عباد الله, وقد يسأل البعض: ما معنى الولاء والبراء؟(1/383)
الولاء معناه: التقرب وإظهار المودة بالأقوال والأفعال والنوايا لمن يتخذه ولياً، فإن كان هذا التقرب وإظهار الودّ مقصوداً به الله ورسوله والمؤمنين, فهي الموالاة الشرعية الواجبة على كل مسلم إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55]. وإن كان المقصود باظهار الود بالأقوال والأفعال والنوايا هم الكفار على اختلاف أجناسهم, فهي الموالاة الكفرية لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22]، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].
أما البراء فهو: الكره والبغض والبعد عن الكفر والكافرين وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الاْكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:3].
فنحن المسلمين ننطلق في حبنا وبغضنا من منطلق الدين، فنوالي المؤمنين والمسلمين، ونبغض ونعادي اليهود والنصارى والمشركين، وهذه العداوة والبغضاء التي في قلوبنا وأفعالنا للكافرين بسبب كفرهم بالله، وسبِّهم له، وعدم إسلامهم وانقيادهم له، فكيف نوالي من حاد الله ورسوله؟ كيف توالي من يسب ربك، ويزعم أن له صاحبة وولداً؟.
يا إخواني, لو كان ثمة حاكم له مملوك، وهذا الحاكم يسدي إلى مملوكه من الخير، ويمنع عنه من الشر الشيء الكثير. ولهذا الحاكم أعداء، أيليق أن يوالي ويحب هذا المملوك ويناصر أعداء سيده؟ فكيف إذا نهاه سيده عن ذلك أشد النهي؟ وكيف إذا كان هذا العدو عدواً له ولسيده؟ فهذا حال من والى الكافرين وناصرهم، وترك موالاة الله والمؤمنين ومناصرتهم ، والله أعز قدراً، وأجلُّ ذكراً، وأعظم شأناً.
إخواني المسلمين, إن مفهوم الولاء والبراء ـ من نوالي ومن نعادي ـ من المفاهيم الواضحة التي بينها القرآن أتم بيان، يقول الله تعالى: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120], فهذا خبر على جهة التأكيد والدوام أن اليهود والنصارى لن يصطلحوا معنا، ولن يسالمونا أو يرضوا عنا، حتى نتبع ملتهم، ونحذوا حذوهم في شركهم، قال عز وجل: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:217]، فقال: لا يزالون، فعل مضارع يفيد الاستمرار، فهم قائمون على ذلك، لا همَّ لهم إلا الإضرار بالمسلمين وصدهم عن دينهم بالقوة والاستعمار، أو بالفكر وبث السموم.
ونحن نرى صدق ما أخبر به ربنا من عداوتهم لنا، بل ونسمع من فلتات ألسنتهم ما يدل على ما في قلوبهم, فهذا رئيس أكبر دولة يقول عن الحرب التي يجمع لها ضد الإرهاب, يقول: إنها حرب صليبية !! فهل في ذلك عبرة لأولي الأبصار.…(1/384)
َرَاءةٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُواْ فِى الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِى الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الاْكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللَّهِ وَبَشّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انسَلَخَ الاشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاةَ وَءاتَوُاْ الزكاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ اشْتَرَوْاْ بِئَايَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاةَ وَءاتَوُاْ الزكاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَنُفَصّلُ الاْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:1-15].
نفعني الله ...
==============
الولاء والبراء
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
14/3/1421
النور
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- أهمية هذه العقيدة وأدلتها من القرآن. 2- وجوب البراءة من المشركين والكافرين. 3- صور البراء في حياة الصحابة. 4- صور لموالاة المشركين كثرت بين المسلمين . 5- نظرة المسلم إلى الناس وفق معتقد الولاء والبراء.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد: من أهم القضايا العقدية التي تربط بين أبناء المسلمين وتصل بين أفرادهم في بُعدٍ عن النعرات الجاهلية والروابط الأرضية المادية: قضية الولاء والبراء، الولاء في الله ومن أجله، والبراء في الله ومن أجله، الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين والمنافقين وسائر أعداء الدين.
الولاء والبراء: أصل عظيم من أهم أصول العقيدة الإسلامية المميزة لأتباعها، من أجلها أهلك الله المكذبين، وأنجى الموحدين، من أجلها أغرق الله ولد نوح لما كفر بالله، وأنقذ أهله من الطوفان لما آمنوا، من أجل الولاء والبراء تبرأ إبراهيم عليه السلام من أبيه وقومه، وهاجر إلى ربه، ومن أجله قاتل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وعشيرتهم لما كفروا، وتبرؤوا منهم، من أجل الولاء والبراء قامت سوق الجنة والنار.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)) متفق عليه.
الولاء و البراء في الإسلام، معناه ومفهومه أن توالي من أجل الله تعالى وتعادي من أجله، تحب في الله وتبغض فيه، فالحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، وهو أصل عظيم من أصول العقيدة والإيمان، يجب على العبد المسلم مراعاته، وبناءُ علاقاته مع الناس عليه، فقد روى الإمام أحمد عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله)).(1/385)
ولقد أكثر الله سبحانه وتعالى من ذكر الولاء والبراء في كتابه الكريم تبييناً لأهميته ومكانته في حياة المسلمين قال الله تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْء إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28]. قال أهل التفسير: نهى الله عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين كقرابةٍ بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يُتصادق بها ويُتعايش. وقال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51]، قال حذيفة رضي الله عنه: (ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر فإن الله يقول: وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ).
نعم عباد الله! كيف يدّعي رجل محبة رسول الله وهو يحب أعدائه الذين ظاهروا الشياطين على عداوتهم واتخذوهم أولياء من دون الله.
أتحب أعداء الحبيب وتدّعي……حباً ما ذاك في إمكان
وكذا تعادي جاهداً أحبابه……أين المحبةُ يا أخا الشيطان؟
شرط المحبة أن توافق من تحبُّ……على محبته بلا عصيان
فإذا ادّعيت له المحبة مع خلافك……ما يحب فأنت ذو بهتان
أيها المسلمون، إن عقيدتنا تحرم علينا موالاة الكافرين والمشركين واليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا، ولو كانوا عرباً، ولو كانوا من أقرب الناس نسباً، وتوجب العقيدة علينا البراءة منهم والبعد عنهم يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قال الله تعالى: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22].
فقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عمّن هذا شأنه، ولو كانت مودته ومحبته ومناصحته لأبيه وأخيه وابنه ونحوهم من أقربائه فضلاً عن غيرهم مما يدل على عظم الأمر وخطورته، وأن الواقع فيه قد يخرج من الإيمان إلى الكفر بمقدار ما قام به من ولاءٍ ومحبةٍ لهم.(1/386)
ومن أصول أهل السنة: أن من لم يكفر الكافرين أو يشك في كفرهم أو يتبرأ منهم فقد كفر. ولقد عاتب الله بعض المؤمنين لموالاتهم ونصحهم للمشركين، ذكر ابن إسحاق في السيرة عن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: لما أجمع الرسول صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة لفتحها أخفى الأمر فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى أهلها يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم ثم أعطاه امرأة من مزينة، مولاةً لبني عبد المطلب، وجعل لها جُعلاً على أن تبلّغه المشركين فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه شعرها وخرجت به وأتى رسول الله الخبر من الله بما صنع حاطب، فبعث علياً والزبير وقال لهما: ((أدركا امرأة قد كتب معها حاطب كتاباً إلى مكة يحذّرهم ما قد أجمعنا لهم من أمرنا)). فخرجا حتى أدركا المرأة بالحليفة فاستنزلاها واستخرجا الكتاب من عقاصها فأتيا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا حاطباً وقال له: ((يا حاطب! ما حملك على ما صنعت؟)). قال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله وبرسوله، ما غيّرت ولا بدّلت، ولكني كنت امرءً ليس لي في القوم من أهل وعشيرة وكان لي بين أظهرهم ولدٌ وأهلٌ أخشى عليهم، فصانعتهم من أجلهم. فقال عمر رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)). فأنزل الله تعالى قوله: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [الممتحنة:1]. روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر والتقوا فهزم الله المشركين فقُتل منهم سبعون رجلاً وأُسر منهم سبعون، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعلياً، فقال أبو بكر: يا نبي الله! هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، فأنا أرى أن تأخذ منهم الفداء، فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم فيكونون لنا عضداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ترى يا ابن الخطاب؟)) فقال: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنني من فلان ـ قريب لعمر ـ فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قال عمر، فأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد قال عمر: غدوتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو قاعد وأبو بكر وإذا هما يبكيان، فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الذي عرض عليّ أصحابك من الفداء، ولقد عُرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة )) ـ لشجرة قريبة ـ وأنزل الله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الاْخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:67، 68]، أي من الفداء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن كان ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل عذاب ما أُفلت إلا عمر)).
فأين هذا مما يفعله كثير من المسلمين من موالاة أعداء الأمة والسعي في مصالحهم بل ومحاربة أبناء جلدته من المسلمين.
لقد ضيع فئام من المسلمين هذا الأصل العظيم مع شديد الأسف وجهِلوا مفهومه واتخذوا الكفار واليهود والنصارى أولياء، إخواناً وأصدقاء، ناهيكم عباد الله عما يقع في مجتمعات المسلمين من تضييع أسس هذا الجانب العقدي والتفريط فيه، فتجد من يوالي المنافقين العلمانيين ويبادلهم المحبة بحجّة داحضة وهي زعمهم: إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً.
أين الولاء والبراء مما عليه كثير من المسلمين لا سيما أبناؤهم من التشبه بالكفرة والملحدين في لباسهم وميوعتهم وكلامهم وأخلاقهم، مما يؤكد على الحب لهم، وهذا يورث نوعاً من التبعية لهم، فمن تشبه بقوم فهم منهم.
أين الولاء والبراء ممن يُعينهم ويُناصرهم على المسلمين بأيّ وسيلة كانت، بل ويمدحهم ويذب عنهم؟ وهذا من أسباب الردة ونواقض الإسلام عياذاً بالله.
أين الولاء والبراء ممن يستعين بهم من دون المؤمنين ويثق بهم ويوليهم المناصب التي فيها أسرار المسلمين ويتخذهم بطانة ومستشارين؟ وقد قال الله سبحانه وتعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَاتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].
أين الولاء والبراء أيها المسلمون ممن يستقدمون الكفرة إلى بلاد المسلمين ويجعلونهم عمالاً وسائقين ومربين في البيوت ويتركون المسلمين المحتاجين دون عملٍ أو صناعة؟
أين الولاء والبراء ممن يشاركونهم في أعيادهم ومناسباتهم وتهنئتهم بها ويمدحونهم ويشيدون بما هم عليه من مدنية وحضارة ويُعجبون بأخلاقهم ومهاراتهم دون نظرٍ إلى عقائدهم الباطلة ودينهم الفاسد؟(1/387)
أين الولاء والبراء عمّن يخاطبهم بألفاظ الاحترام والتبجيل وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: ((لا تقولوا للمنافق يا سيد فإنه إن يَكُ سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل)) رواه البخاري.
أيها المسلمون، إن الولاء والبراء أسٌ من أسس العقيدة المهمة التي لن يسلم لأحد دينه إلا بالمحافظة عليه، فإن اليهود والنصارى والذين أشركوا يدبرون ضد المسلمين الخطط، ويحيكون لهم المؤامرات، مهما كانت ثقة المسلمين بهم، وصدق الله العظيم حيث يقول: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة:120].
بارك الله ..
-------------------------
الخطبة الثانية
أما بعد: دخل عمر بن الخطاب على قاضيه أبي موسى الأشعري فسأله عن كاتبه فقال: لي كاتب نصراني. فقال: قاتلك الله! أما سمعت قول الله عز وجل: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51]، ألا اتخذت كاتباً حنيفاً؟ قال: يا أمير المؤمنين! لي كتابته وله دينه، فقال عمر: ألا لا تكرموهم وقد أهانهم الله، ولا تُعزّوهم وقد أذلهم الله، ولا تدنوهم وقد أقصاهم الله. روى مسلم في صحيحه والإمام أحمد واللفظ له عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين فلحقه عند الجمرة فقال: إني أردت أن أتبعك وأصيب معك قال: ((تؤمن بالله عز وجل ورسوله؟)) قال: لا! قال: ((ارجع فلن نستعين بمشرك)). قال: ثم لحقه عند الشجرة ففرح بذاك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان له قوة وجلد فقال: جئت لأتبعك وأصيب معك. قال: ((تؤمن بالله ورسوله؟)) قال: لا! قال: ((ارجع فلن أستعين بمشرك))، قال: ثم لحقه حين ظهر على البيداء فقال له مثل ذلك، قال: ((تؤمن بالله ورسوله؟)) قال: نعم! قال: فخرج به . أيها المسلمون، إن الناس في الولاء والبراء على أقسام ثلاثة: أولهم: من تجب محبته محبة خالصة لله تعالى لا معاداة فيها، وهم المؤمنون من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وعلى رأسهم نبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
وثانيها: من يبغض ويعادى بغضاً ومعاداةً خالصين لله تعالى لا محبة فيهما ولا موالاة معهما، وهم الكفار والمنافقون والمشركون على اختلاف أجناسهم وشعوبهم، ويلحق بهؤلاء من يظهر معاداته للدين من العلمانيين والحداثيين وأذنابهم من المنافقين.
وثالثها: من يحب من وجه ويبغض من وجه، فتجتمع فيه المحبة والعداوة، وهؤلاء هم العصاة من المؤمنين، يحبون على قدر ما فيهم من الإيمان، ويُبغضون لما فيهم من المعصية التي لم تبلغ درجة الكفر والشرك، وهذه المحبة لهم تقتضي مناصحتهم والإنكار عليهم، فلا يجوز السكوت على معاصيهم بل ينكر عليهم ويؤمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في قوله عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى عليّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً)).
اللهم صل وسلم …
=============
الولاء والبراء
أولاً: تعريف وبيان:
أ- تعريف الولاء والبراء لغة وشرعا:
الولاء لغة:
قال ابن فارس: "الواو واللام والياء: أصل صحيح يدل على قرب... من ذلك الولي: القريب... والولاء: الموالون، يقال: هؤلاء ولاء فلان"، ثم قال: "والباب كلّه راجع إلى القرب".
وقال الخليل بن أحمد: "الولاء: مصدر الموْلى... والوالي: المعتق والحليف والولي... والموالاة: اتخاذ المولى".
وقال الراغب: "الولاء والتوالي: أن يحصل شيئان فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد. والوَلاية: النصرة، والوِلاية: تولي الأمر، وقيل: الوِلاية والوَلاية نحو: الدِّلالة والدَّلالة".
وقال ابن منظور: "قال ابن الأعرابي: الموالاة أن يتشاجر اثنان فيدخل ثالث بينهما للصلح ويكون له في أحدهما هوىً فيواليه أو يحابيه. ووالى فلان فلاناً إذا أحبه... وقد تكرر ذكر (المولى) في الحديث، قال: وهو اسم يقع على جماعة كثيرة فهو: الرب والمالك والسيد والمنعِم والمعتِق والناصر والمحب والتابع والجار وابن العم والحليف والعقيد والصهر والعبد والمعتَق والمنعَم عليه، وقد تختلف مصادر هذه الأسماء، فالوَلاية بالفتح في النسب والنصرة والعتق، والوِلاية بالكسر في الإمارة، والولاء في العتق، والموالاة من والى القوم، وقال: والولي: الصديق والنصير، ابن الأعرابي: الولي: المحب...
والموالاة: ضدّ المعاداة، والولي: ضدّ العدو.
وتولاه: اتخذه ولياً، وإنه لبيِّن الوِلاة والولية والتولي والولاء والوِلاية والوَلاية.
والولي: القرب والدنو...".
البراء لغة:
قال ابن فارس: "فأمّا الباء والراء والهمزة فأصلان إليهما ترجع فروع الباب ـ ثم قال بعد ما ذكر الأصل الأول:ـ والأصل الآخر: التباعد من الشيء ومُزايَلَتُه، من ذلك البرء وهو السلام من السقم، يقال: برئت وبرأت... ومن ذلك قولهم: برئت إليك من حقك وأهل الحجاز يقولون: إنا براء منك، وغيرهم يقولون: أنا بريء منك".(1/388)
وقال الراغب: "أصل البُرء والبراءة والبَري: التقصّي مما يكره مجاورته، ولذلك قيل: بَرَأْتُ من المرض، وبِرئتُ من فلان وتبرّأت، وأبْرَأته من كذا، وبَرّأته، ورجل بَريء، وقوم برآء، وبريؤون".
وقال ابن منظور: "قال ابن الأعرابي: برئ إذا تخلّص، وبرئ إذا تنزّه وتباعد، وبرئ إذا أعذر وأنذر، ومنه قوله تعالى: {بَرَاءةٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:1] أي: إعذار وإنذار... وليلة البراء ليلة يتبرأ القمر من الشمس".
قال الزبيدي: "وقال البيضاوي: أصل تركيب البرْء لخلوص الشيء من غيره، إما على سبيل التقصي، كبَرَأ المريض من مرضه، والمديون من دينه، أو الإنشاء، كبَرَأ الله آدم من الطين".
إذن الولاء لغة يطلق على عدّة معان منها: المحبة، والنصرة، والاتباع، والقرب من الشيء، والدنو منه.
والبراء لغة يطلق على عدة معان أيضاً منها: البعد، والتنزه، والتخلص، والعداوة.
الولاء والبراءشرعا:
عرّفها كثير من العلماء بقولهم:
الولاية هي النصرة والمحبة والإكرام والاحترام والكون مع المحبوبين ظاهراً وباطناً، والبراء: هو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار.
قال شيخ الإسلام في أصل معنى الولاية والعداوة: "والولاية ضدّ العداوة، وأصل الولاية: المحبة والقرب، وأصل العداوة: البغض والبعد. وقد قيل: إنّ الولي سمّي ولياً من موالاته للطاعات، أي: متابعته لها، والأول أصح، والولي: القريب، يقال: هذا يلي هذا أي: يقرب منه".
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: "أصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة: البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة، كالنصرة، والأنس، والمعاونة، وكالجهاد، والهجرة، ونحو ذلك من الأعمال. والوليّ ضدّ العدو".
وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: "إن الموالاة هي الموافقة والمناصرة والمعاونة والرضا بأفعال من يواليهم، وهذه هي الموالاة العامة، التي إذا صدرت من مسلم لكافر اعتبر صاحبها كافراً، أما مجرّد الاجتماع مع الكفار، بدون إظهار تام للدين، مع كراهية كفرهم، فمعصية لا توجب الكفر".
ب- علاقة الحب والبغض بالولاء والبراء:
الحب والبغض هما أصلا الموالاة والمعاداة.
قال شيخ الإسلام: "أصل الموالاة هي المحبة، كما أنّ أصل المعاداة البغض، فإن التّحابّ يوجب التقارب والاتفاق، والتباغض يوجب التباعد والاختلاف، وقد قيل: المولى من الولي: وهو القرب، وهو يلي هذا، أي: هو يقرب منه.
والعدو من العدواء وهو البعد، ومنه العُدْوَة، والشيء إذا ولى الشيء ودنا منه وقرب إليه اتّصل به، كما أنه إذا عُدّى عنه، ونأى عنه، وبعد منه، كان ماضياً عنه".
والموالاة لازم الحب وكذا المعاداة لازم البغض:
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: ((ووالى في الله)): "هذا بيان للازم المحبة في الله وهو الموالاة، فيه إشارة إلى أنه لا يكفي في ذلك مجرّد الحب، بل لا بد مع ذلك من الموالاة التي هي لازم الحب، وهي النصرة والإكرام والاحترام والكون مع المحبوبين باطناً وظاهراً".
وقال في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: ((وعادى في الله)): "هذا بيان للازم البغض في الله وهو المعاداة فيه، أي: إظهار العداوة بالفعل، كالجهاد لأعداء الله والبراءة منهم، والبعد عنهم باطناً وظاهراً، إشارة إلى أنه لا يكفي مجرّد بغض القلب، بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه".
مقاييس اللغة (6/141-142).
كتاب العين (ص 8/365).
مفردات ألفاظ القرآن (ص 885-887).
لسان العرب (1/400-407).
مقاييس اللغة (1/236-237).
مفردات ألفاظ القرآن (ص 121).
لسان العرب (1/354-356).
تاج العروس (1/145).
انظر: شرح الطحاوية (ص 403)، وتيسير العزيز المجيد (ص 480)، وكتاب الإيمان لنعيم ياسين (ص 256)، والولاء والبراء في الإسلام (ص 87-92)، والموالاة والمعاداة (ص 27-31).
الفرقان (ص 53).
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/325).
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (7/309)، وانظر: الموالاة والمعاداة (1/28).
قاعدة في المحبة (ص 198).
تيسير العزيز الحميد (ص 480).
ثانياً: أهمية عقيدة الولاء والبراء:
- الولاء والبراء شرط في الإيمان:
قال تعالى: {تَرَى كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَاكِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:80، 81].
يقول شيخ الإسلام في توضيح هذه الآية: "فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف (لو) التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط، فقال: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء}، فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء، ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه".
- الولاء والبراء أوثق عرى الإيمان:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: ((أي عرى الإيمان أوثق؟)) قال: الله ورسوله أعلم، قال: ((الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله)).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)).(1/389)
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، يبايع أصحابه على تحقيق هذا الأصل العظيم، فعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع، فقلت: يا رسول الله، ابسط يدك حتى أبايعك، واشترِط عليّ فأنت أعلم، قال: ((أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين)).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي أن لا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي إلا لله، ولا يعادي إلا لله، وأن يحبّ ما أحبّه الله، ويبغض ما أبغضه الله".
وقال الشيخ سليمان آل الشيخ: "فهل يتمّ الدين أو يقام عَلَم الجهاد أو عَلَمُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا بالحب في الله والبغض في الله، والمعاداة في الله والموالاة في الله. ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء لم يكن فرقاناً بين الحق والباطل، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان".
وقال الشيخ عبد الرزاق عفيفي عن الولاء والبراء: "[إنهما] مظهران من مظاهر إخلاص المحبة لله، ثم لأنبيائه وللمؤمنين. والبراءة: مظهر من مظاهر كراهية الباطل وأهله، وهذا أصل من أصول الإيمان".
كتاب الإيمان (ص 14).
رواه أحمد (4/286)، وابن أبي شيبة في الإيمان (110)، والحاكم في المستدرك (2/480)، والطبراني في المعجم الكبير (11/215)، والبغوي في شرح السنة (3468)، قال الألباني في السلسلة الصحيحة (998، 1728): "فالحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن على الأقل، والله أعلم".
البخاري (16)، ومسلم (43).
أخرجه أحمد (4/365). والنسائي في البيعة (4177)، وصححه الألباني في صحيح السنن (3893).
الاحتجاج بالقدر (ص 62).
أوثق عُرى الإيمان (ص 38).
الولاء والبراء للقحطاني، من مقدمة الشيخ له (ص 5).
ثالثاً: الغلو في الولاء والبراء:
الولاء والبراء لهما حدود، فما نقص عن حدود الولاء المطلوب فهو تفريط، وما زاد على حدود الولاء المشروع فهو غلوٌ مذموم، وما نقص عن حدود البراء فهو تفريط، وما زاد عن حدوده فهو غلو مذموم.
ومن مظاهر الغلو في الولاء والبراء في الحياة المعاصرة خمسة مظاهر وهي:
1- الغلو في مفهوم الجماعة.
2- الغلو في التعصب للجماعة.
3- الغلو بجعل الجماعة مصدر الحق.
4- الغلو في القائد.
5- الغلو في البراءة من المجتمعات المسلمة.
من كتاب: الغلو في الدين (ص 194-250).
رابعاً: أصناف الناس في ميزان الولاء والبراء:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الحمد والذم والحب والبغض والموالاة والمعاداة فإنما تكون بالأشياء التي أنزل الله بها سلطانه، وسلطانه كتابه.
فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أي صنف كان.
ومن كان كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان.
قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55، 56]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [المائدة:51]، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة:71].
ومن كان فيه إيمان وفيه فجور أعطِي من الموالاة بحسب إيمانه، ومن البغض بحسب فجوره، ولا يخرج من الإيمان بالكلية بمجرّد الذنوب والمعاصي كما يقول الخوارج والمعتزلة.
ولا يجعَل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون بمنزلة الفساق في الإيمان والدين والحب والبغض والموالاة والمعاداة، قال الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:9، 10]، فجعلهم إخوة مع وجود الاقتتال والبغي".
وقال في موضع آخر: "ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضاً موالاة الدين، لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم عن بعض، ويتوارثون ويتناكحون، ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك...".
وقال الشيخ صالح الفوزان في أقسام الناس فيما يجب في حقهم من الولاء والبراء: "الناس في الولاء والبراء على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من يُحَبّ محبّةً خالصة لا معاداة معها: وهم المؤمنون الخلَّص من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وفي مقدّمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنّه تجب محبته أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، ثم زوجاته أمهات المؤمنين، وأهل بيته الطيبين وصحابته الكرام... ثم التابعون والقرون المفضلة وسلف هذه الأمة وأئمتها... قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10]، ولا يبغض الصحابة وسلف هذه الأمة من في قلبه إيمان، وإنما يبغضهم أهل الزيغ والنفاق وأعداء الإسلام كالرافضة والخوارج، نسأل الله العافية.(1/390)
القسم الثاني: من يبغَض ويعادَى بغضاً ومعاداة خالصين لا محبّة ولا موالاة معهما: وهم الكفار الخلّص من الكفار والمشركين والمنافقين والمرتدين والملحدين على اختلاف أجناسهم كما قال تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، وقال تعالى: عائباً على بني إسرائيل: {تَرَى كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَاكِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:80، 81].
القسم الثالث: من يُحَبّ من وجهٍ ويبغَض من وجه، فيجتمع فيه المحبّة والعداوة: وهم عصاة المؤمنين يحَبّون لما فيهم من الإيمان، ويبغَضون لما فيهم من المعصية التي هي دون الكفر والشرك، ومحبّتهم تقتضي مناصحتهم والإنكار عليهم، فلا يجوز السكوت على معاصيهم بل ينكَر عليهم، ويؤمَرون بالمعروف، وينهَون عن المنكر، وتقام عليهم الحدود والتعزيرات حتى يكفّوا عن معاصيهم ويتوبوا من سيئاتهم، لكن لا يبغَضون بغضاً خالصاً، ويتبرّأ منهم كما تقوله الخوارج في مرتكب الكبيرة التي هي دون الشرك، ولا يحبّون ويوالَون حباً وموالاة خالصَين كما تقوله المرجئة، بل يُعتدَل في شأنهم على ما ذكرنا كما هو مذهب أهل السنة والجماعة".
مجموع الفتاوى (28/228-229).
مجموع الفتاوى (3/285).
الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد (ص 279).
خامساً: ولاء المؤمنين بعضهم بعضاً:
أ- وجوب ولاء المؤمنين بعضهم بعضاً:
قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة:71].
وقال سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55، 56].
قال شيخ الإسلام: "إنّ المؤمنين أولياء الله وبعضهم أولياء بعض، والكفار أعداء الله وأعداء المؤمنين، وقد أوجب الموالاة بين المؤمنين، وبيّن أن ذلك من لوازم الإيمان، ونهى عن موالاة الكفار، وبين أن ذلك منتف في حقّ المؤمنين".
وقال الشيخ صالح الفوزان: "يجب على كلّ مسلم يدين بهذه العقيدة أن يوالي أهلها ويعادي أعداءها، فيحب أهل التوحيد والإخلاص ويواليهم، ويبغض أهل الإشراك ويعاديهم، وذلك ملة إبراهيم والذين معه، الذين أمرنا بالاقتداء بهم.
فالمؤمنون إخوة في الدين والعقيدة وإن تباعدت أنسابهم وأوطانهم وأزمانهم قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10]. فالمؤمنون من أول الخليقة إلى آخرها مهما تباعدت أوطانهم وامتدت أزمانهم إخوة متحابّون يقتدي آخرهم بأوّلهم، ويدعو بعضهم لبعض، ويستغفر بعضهم لبعض".
ب- من مظاهر موالاة المؤمنين:
1- الهجرة إلى بلاد المسلمين وهجر بلاد الكافرين:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [النساء:96، 97].
وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَة وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:41، 40].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله)).
2- مناصرة المسلمين ومعاونتهم بالنفس والمال واللسان فيما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم.
3- التألم لألمهم والسرور بسرورهم.
4- النصح لهم ومحبة الخير لهم وعدم غشهم وخديعتهم.
5- احترامهم وتوقيرهم وعدم تنقصهم وعيبهم.
6- أن يكون معهم في حال العسر واليسر والشدة والرخاء.
7- احترام حقوقهم، فلا يبيع على بيعهم، ولا يسوم على سومهم، ولا يخطب على خطبتهم، ولا يتعرّض لما سبقوا إليه من المباحات.
9- الدعاء لهم والاستغفار لهم.
الفتاوى (28/190).
الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد (ص 279-280).
ينظر: الفتاوى (28/190)، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد (284-288)، والولاء والبراء (259-381)، والموالاة والمعاداة (1/241-293).
أخرجه أبو داود في الجهاد (3/224) (2787) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6062).
سادساً: ولاء الكفار والمنافقين:
أ- تحريم ولاء الكفار والمنافقين:(1/391)
قال سليمان آل الشيخ: "اعلم ـ رحمك الله ـ أنّ الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم خوفاً منهم ومداراة لهم ومداهنة لدفع شرّهم فإنّه كافر مثلهم وإن كان يكره دينَهم ويبغضهم ويحبّ الإسلام والمسلمين، هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك، فكيف إذا كان في دار منَعَة واستعدى بهم ودخل في طاعتهم وأظهر الموافقة على دينهم الباطل، وأعانهم عليه بالنصرة والمال ووالاهم، وقطع الموالاة بينه وبين المسلمين، وصار من جنود القباب والشرك وأهلها، بعدما كان من جنود الإخلاص والتوحيد وأهله، فإنّ هذا لا يشكّ مسلم أنّه كافر من أشدّ الناس عداوة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يستثنى من ذلك إلا المكرَه، وهو الذي يستولي عليه المشركون فيقولون له: اكفر أو افعل كذا وإلا فعلنا بك وقتلناك، أو يأخذونه فيعذبونه حتى يوافقهم، فيجوز له الموافقة باللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان".
وقال الشيخ حمد بن عتيق بعد ذكره لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدّينِ وَأَخْرَجُوكُم مّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْراجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:9]: "في هذه الآية أعظم الدليل وأوضح البرهان على أن موالاتهم محرمة منافية للإيمان وذلك أنه قال: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} فجمع بين لفظة (إنما) المفيدة للحصر، وبين النهي الصريح، وذكر الخصال الثلاث، وضمير الحصر وهو لفظة (هم)، ثم ذكر الظلم المعرّف بأداة التعريف".
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن حكم موالاة الكفار، فأجاب بقوله: "موالاة الكفار بالموادة والمناصرة واتخاذهم بطانة حرام منهي عنها بنص القرآن الكريم، قال تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة:75]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، وقال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران:118]، وأخبز أنّه إذا لم يكن المؤمنون بعضهم أولياء بعض والذين كفروا بعضهم أولياء بعض، ويتميز هؤلاء عن هؤلاء، فإنها تكون فتنة في الأرض وفساد كبير.
ولا ينبغي أبداً أن يثق المؤمن بغير المؤمن مهما أظهر من المودّة وأبدى من النصح؛ فإن الله تعالى يقول عنهم: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء} [النساء:89]، ويقول سبحانه لنبيه: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، والواجب على المؤمن أن يعتمد على الله في تنفيذ شرعه، وأن لا تأخذه فيه لومة لائم، وأن لا يخاف من أعدائه، فقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقال تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52]، وقال سبحانه: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:28] والله الموفق".
ب ـ الفرق بين الموالاة والتولي، وأقسام الموالاة:
الفرق بين الموالاة والتولي في المفهوم الشرعي:
قال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: "التولي: كفرٌ يخرج من الملة، وهو كالذّبّ عنهم، وإعانتهم بالمال والبدن والرأي.
والموالاة: كبيرة من كبائر الذنوب، كَبَلِّ الدواة، أو بري القلم، أو التبشّش لهم، أو رفع السّوط لهم".
وقال الشيخ سليمان بن سحمان نظماً في الفرق بين الموالاة والتولي:
وأصلُ بلاء القوم حيث تورّطوا هو الجهل في حكم الموالاة عن زلل
فما فرّقوا بين التولّي وحكمه وبين الموالاة التي هي في العمل
أخفّ، ومنها ما يكفر فعله ومنها يكون دون ذلك في الخلل
أقسام الموالاة:
تنقسم الموالاة إلى قسمين:
1- موالاة مطلقة عامّة، وهذا كفر صريح، وهي بهذه الصفة مرادفة لمعنى التولي، وعلى ذلك تحمل الأدلة الواردة في النهي الشديد عن موالاة الكفار، وأن من والاهم فقد كفر.
2- موالاة خاصة: وهي موالاة الكفار لغرض دنيوي مع سلامة الاعتقاد، وعدم إضمار نية الكفر والردة كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في إفشاء سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مكة، كما هو مذكور في سبب نزول سورة الممتحنة.
فالموالاة المطلقة العامة مرادفة لمعنى التولي، وهي بهذا الوصف كفرٌ وردّة، ومنها ما هو دون ذلك بمراتب، ولكلّ ذنب حظّه وقِسطه من الوعيد والذّمّ، بحسب نيّة الفاعل وقصده.(1/392)
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ: "مسمّى الموالاة يقع على شعَب متفاوِتة منها ما يوجب الردّة لذهاب الإسلام بالكلية، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات".
ج ـ من صور ومظاهر ولاء الكفار والمشركين والمنافقين:
ذكر العلماء مظاهر وصورا شتى من ولاء الكفار والمشركين والمنافقين، والتي نهى الله سبحانه وتعالى عنها وشدّد في ذلك، وأخبر أنّ من تولاهم فهو منهم، وكذلك حذّر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في أحاديث كثيرة، وأخبر أنّ من أحبّ قوماً حُشر معهم، وهي كما يلي:
1- الرضا بكفر الكافرين، وعدم تكفيرهم، أو الشك في كفرهم، أو تصحيح أي مذهب من مذاهبهم الكافرة:
قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]، وقال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256].
وعن أبي مالك سعد بن طارق عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبَد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله)).
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب: "وصفة الكفر بالطاغوت: أن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتتركها وتبغضها، وتكفّر أهلها، وتعاديهم".
وقال أيضاً: "اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض... ـ وذكر منها: ـ
الثالث: من لم يكفّر المشركين أو يشكّ في كفرهم أو صحّح مذهبهم كفر".
2- التولي العام واتخاذهم أعواناً وأنصاراً وأولياء أو الدخول في دينهم:
قال تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْء إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران:28].
قال ابن جرير: "وهذا نهي من الله عز وجل للمؤمنين أن يتّخذوا الكفار أعواناً وأنصاراً وظهوراً، ولذلك كسر {يَتَّخِذِ} لأنه في موضع جزم بالنهي، ولكنه كسر الذال منه للساكن الذي لقيه وهي ساكنة، ومعنى ذلك: لا تتخذوا ـ أيها المؤمنون ـ الكفار ظهراً وأنصاراً، توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلّونهم على عوراتهم، فإنّه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء، يعني بذلك: فقد برئ من الله، وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر، {إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}: إلا أن تكونوا في سلطانهم، فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل".
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].
قال ابن جرير: "من يتولّ اليهود والنصارى دون المؤمنين فإنّه منهم، يقول: فإنّ من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولٍّ أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه".
وقال ابن القيم: "إن الله سبحانه قد حكم ـ ولا أحسن من حكمه ـ أنه من تولى اليهود والنصارى فهو منهم: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم، وهذا عام خُصّ منه من يتولاهم ودخل في دينهم بعد التزام الإسلام فإنّه لا يقَرّ ولا تقبَل منه الجزية، بل إمّا الإسلام أو السّيف، فإنه مرتدّ بالنص والإجماع، ولا يصحّ إلحاق من دخل في دينهم من الكفار قبل التزام الإسلام بمن دخل فيه من المسلمين... وأنّ من دان بدينهم من الكفار بعد نزول الفرقان فقد انتقل من دينه إلى دينٍ خير مِنه وإن كانا جميعاً باطلَين، وأمّا المسلم فإنّه قد انتقل من دين الحقّ إلى الدين الباطل بعد إقراره بصحة ما كان عليه وبطلان ما انتقل إليه فلا يُقَرّ".
3- الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم إليهم دون كتاب الله:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن جنس موالاة الكفار التي ذمّ الله بها أهلَ الكتاب والمنافقين الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم إليهم دون كتاب الله، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً} [النساء:51]... فمن كان من هذه الأمة موالياً للكفار من المشركين أو أهل الكتاب ببعض أنواع الموالاة ونحوها، مثل إتيانه أهل الباطل، واتباعهم في شيء من مقالهم وفعالهم الباطل، كان له من الذمّ والعقاب والنفاق بحسَب ذلك، وذلك مثل متابعتِهم في آرائهم وأعمالهم، كنحو أقوال الصابئة وأفعالهم من الفلاسفة ونحوهم المخالفة للكتاب والسنة، ونحو أقوال المجوس والمشركين وأفعالهم المخالفة للكتاب والسنة".
4- المحبة والمودّة الخاصة:(1/393)
قال الله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ} [المجادلة:22].
قال شيخ الإسلام: "أخبر الله أنك لا تجد مؤمناً يوادّ المحادّين لله ورسوله، فإنّ نفس الإيمان ينافي موادّته كما ينفي أحد الضدين الآخر، فإذا وجد الإيمان انتفى ضدّه وهو موالاة أعداء الله، فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه كان ذلك دليلاً على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب".
وسئل الشيخ ابن عثيمين عن حكم مودّة الكفار وتفضيلهم على المسلمين، فأجاب بقوله: "لا شكّ أن الذي يوادّ الكفار أكثرَ من المسلمين قد فعل محرّماً عظيماً، فإنّه يجب أن يحبّ المسلمين وأن يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه، أمّا أن يودّ أعداء الله أكثر من المسلمين فهذا خطر عظيم وحرام عليه، بل لا يجوز أن يودَّهم ولو أقلّ من المسلمين لقوله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً...} الآية وقال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الْحَقّ} [الممتحنة:1]، وكذلك أيضاً من أثنى عليهم ومدحهم وفضّلهم على المسلمين في العمل وغيره، فإنه قد فعل إثماً وأساء الظنّ بإخوانه المسلمين، وأحسن الظنّ بمن ليسوا أهلاً لإحسان الظنّ، والواجب على المؤمن أن يقدّم المسلمين على غيرهم في جميع الشئون في الأعمال وفي غيرها، وإذا حصل من المسلمين تقصيرٌ فالواجب عليه أن ينصحهم وأن يحذّرَهم، وأن يبيّن لهم مغبّة الظلم لعلّ الله أن يهديَهم على يده".
5- الركون إليهم:
قال الله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحياةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:74، 75].
وقال سبحانه: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} [هود:113].
قال القرطبي: "قوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ} الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به، قال قتادة: معناه: لا تودّوهم ولا تطيعوهم. ابن جريج: لا تميلوا إليهم. أبو العالية: لا ترضوا أعمالهم. وكلّه متقارب. وقال ابن زيد: الركون هنا الإدهان، وذلك ألا ينكِر عليهم كفرَهم. وقوله تعالى: {إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} قيل: أهل الشرك، وقيل: عامة فيهم وفي العصاة... وهذا هو الصحيح في معنى الآية، وأنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإنّ صحبتهم كفر أو معصية، إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودّة".
6- اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاْنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا} [آل عمران:118-120].
قال الشيخ صالح الفوزان: "ومن مظاهر موالاة الكفار: الاستعانة بهم والثقة بهم وتوليتهم المناصب التي فيها أسرار المسلمين واتخاذهم بطانة ومستشارين... فهذه الآيات الكريمة تشرح دخائل الكفّار وما يكنّونه نحو المسلمين من بغض وما يدبّرونه ضدّهم من مكر وخيانة وما يحبّونه من مضرّة المسلمين وإيصال الأذى إليهم بكلّ وسيلة، وأنهم يستغلّون ثقة المسلمين بهم فيخطّطون للإضرار بهم والنيل منهم.
روى الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قلت لعمر رضي الله عنه: لي كاتب نصراني، قال: ما لك قاتلك الله؟! أما سمعت الله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [المائدة:51]؟! ألا اتخذت حنيفاً؟! قال: قلت: يا أمير المؤمنين، لي كتابته وله دينه، قال: لا أكرِمهم إذ أهانهم الله، ولا أعِزّهم إذ أذلهّم الله، ولا أدنِيهم وقد أقصاهم الله.
وروى الإمام أحمد ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين فلحقه عند الحرة، فقال: إني أردتُ أن أتبعك وأصيب معك، قال: ((تؤمن بالله ورسوله؟)) قال: لا، قال: ((ارجِع فلن أستعين بمشرك)).
ومن هذه النصوص يتبيّن لنا تحريم تولِيَة الكفار أعمالَ المسلمين التي يتمكّنون بواسطتها من الاطلاع على أحوال المسلمين وأسرارهم، ويكيدون لهم بإلحاق الضرر بهم، ومن هذا ما وقع في هذا الزمان من استقدام الكفار إلى بلاد المسلمين ـ بلاد الحرمين الشريفين ـ وجعلهم عمّالاً وسائقين ومستخدمين ومربّين في البيوت وخلطهم مع العوائل أو خلطهم مع المسلمين".
7- الرضا بأعمالهم أو التشبّه بهم والتزيي بزيهم:
قال شيخ الإسلام: "والموالاة والموادة وإن كانت متعلقة بالقلب، لكن المخالفة في الظاهر أعوَن على مقاطعة الكافرين ومباينتهم.(1/394)
ومشاركتهم في الظاهر إن لم تكن ذريعة أو سبباً قريباً أو بعيداً إلى نوعٍ ما من الموالاة والموادّة فليس فيها مصحلة المقاطعة والمباينة، مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة كما توجبه الطبيعة، وتدلّ عليه العادة، ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يستدلّون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بهم في الولايات...
ولما دلّ عليه معنى الكتاب جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين التي أجمع الفقهاء عليها بمخالفتهم وترك التشبه بهم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم))()، أمر بمخالفتهم، وذلك يقتضي أن يكون جنس مخالفتهم أمراً مقصوداً للشارع، لأنه إن كان الأمر بجنس المخالفة حصل المقصود، وإن كان الأمر بالمخالفة في تغيير الشعر فقط فهو لأجل ما فيه من المخالفة.
فالمخالفة إما علّة مفردة، أو علة أخرى، أو بعض علة، وعلى التقديرات تكون مأموراً بها مطلوبة من الشارع... ولو لم يكن لقصد مخالفتهم تأثير في الأمر بالصبغ لم يكن لذكرهم فائدة، ولا حسن تعقيبه به، وهذا وإن دلّ على أن مخالفتهم أمر مقصود للشرع، فذلك لا ينفي أن يكون في نفس الفعل الذي خولِفوا فيه مصلحة مقصودَة، مع قطع النظر عن مخالفتهم، فإن هنا شيئين:
أحدهما: أنّ نفس المخالفة لهم في الهدي الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين، لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنوّر قلبه، حتى رأى ما اتّصف به المغضوب عليهم والضالون من المرض الذي ضرره أشدّ من ضرر أمراض الأبدان.
والثاني: أنّ نفس ما هم عليه من الهدي والخلق قد يكون مضراً أو منقصاً، فينهى عنه ويؤمر بضده لما فيه من المنفعة والكمال، وليس شيء من أمورهم إلا وهو إما مضرّ أو ناقص؛ لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعَة والمنسوخة ونحوها مضرّة، وما بأيديهم مما لم ينسَخ أصله فهو يقبل الزيادة والنقص، فمخالفتهم فيه بأن يشرع ما يحصِّله على وجه الكمال، ولا يتصوَّر أن يكون شيء من أمورهم كاملاً قطّ، فإذاً المخالفة لهم فيها منفعة وصلاح لنا في كلّ أمورهم، حتى ما هم عليه من إتقان بعض أمور دنياهم قد يكون مضراً بأمر الآخرة أو بما هو أهمّ منه من أمر الدنيا، فالمخالفة فيه صلاحٌ لنا".
وقال الشيخ صالح الفوزان: "من مظاهر موالاة الكفار التشبه بهم في الملبس والكلام وغيرهما؛ لأنّ التشبّه بهم في الملبس والكلام وغيرهما يدلّ على محبة المتشبّه للمتشبّه به، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم))، فيحرم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم ومن عاداتهم وعباداتهم وسمتهم وأخلاقهم كحلق اللحى، وإطالة الشوارب، والرطانة بلغتهم إلا عند الحاجة، وفي هيئة اللباس، والأكل والشرب، وغير ذلك".
8- الإقامة في بلادهم وعدم الانتقال منها إلى بلد المسلمين، والسفر إلى بلادهم لغرض النزهة ومتعة النفس:
قال الشيخ صالح الفوزان: "ومن مظاهر موالاة الكفار الإقامة في بلادهم وعدم الانتقال منها إلى بلد المسلمين لأجل الفرار بالدين، لأن الهجرة بهذا المعنى ولهذا الغرض واجبة على المسلم؛ لأن إقامته في بلاد الكفر تدلّ على موالاة الكافرين، ومن هنا حرم الله إقامة المسلم بين الكفار إذا كان يقدر على الهجرة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97-99]، فلم يعذُر الله في الإقامة في بلاد الكفار إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون الهجرة، وكذلك من كان في إقامته مصلحة دينية كالدعوة إلى الله ونشر الإسلام في بلادهم...
ومن موالاة الكفار السفر إلى بلادهم لغرض النزهة ومتعة النفس، والسفر إلى بلاد الكفار محرم إلا عند الضرورة، كالعلاج والتجارة والتعليم للتخصّصات النافعة التي لا يمكن الحصول عليها إلا بالسفر إليهم، فيجوز بقدر الحاجة، وإذا انتهت الحاجة وجب الرجوع إلى بلاد المسلمين.
ويشترط كذلك لجواز هذا السفر أن يكون مظهِراً لدينه، معتزًّا بإسلامه، مبتعِداً عن مواطن الشرّ، حذِراً من دسائس الأعداء ومكائدهم، وكذلك يجوز السفر أو يجب إلى بلادهم إذا كان لأجل الدّعوة إلى الله ونشر الإسلام".
هذا وهناك مظاهر عديدة لموالاة الكفار وفيما يلي بعضها باختصار:
1- مداهنتهم ومداراتهم.
2- طاعتهم فيما يقولون وفيما يشيرون به.
3- تقريبهم في المجلس، والدخول بهم على أمراء الإسلام.
4- مشاورتهم في الأمور.
5- مجالستهم ومزاورتهم والدخول عليهم.
6- البشاشة لهم وطلاقة الوجه.
7- الإكرام العام.
8- استئمانهم وقد خوّنهم الله.
9- ذكرهم بما فيه تعظيم لهم، كتسميتهم سادة أو حكماء.
10- إعانتهم ومناصرتهم على المسلمين ومدحهم والذبّ عنهم، وهذا من نواقض الإسلام وأسباب الردّة، نعوذ بالله من ذلك.
11- التأريخ بتأريخهم، خصوصاً التأريخ الذي يعبِّر عن طقوسهم وأعيادهم كالتأريخ الميلادي.
12- الاستغفار لهم والترحّم عليهم.
مجموعة التوحيد (ص 245).
سبيل النجاة والفكاك (ص 45).
مجموع فتاوي ورسائل ابن عثيمين (3/14-15) جمع/ فهد السليمان.
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (8/422).(1/395)
عقود الجواهر المنضدة الحسان (ص 146).
الموالاة والمعاداة (1/33).
الرسائل المفيدة (ص 43).
ينظر: أوثق عرى الإيمان: للشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب (ص 48)، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد: للشيخ صالح الفوزان (ص 280). والولاء والبراء: د.محمد سعيد القحطاني (ص 230). ونواقض الإيمان القولية والعملية: د.عبدالعزيز بن محمد العبداللطيف (ص 381). وسبل النجاة والفكاك: حمد بن عتيق، وغيرها.
مسلم (23).
مجموعة التوحيد (ص 32).
مجموعة التوحيد (ص 32).
جامع البيان (3/228).
جامع البيان (6/277).
أحكام أهل الذمة (1/67-68).
مجموع الفتاوى (28/199-201).
كتاب الإيمان (ص 13).
مجموع فتاوى ابن عثيمين (3/14-15) جمع/ فهد السليمان.
الجامع لأحكام القرآن (9/108).
الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد (ص 281-282).
أوثق عرى الإيمان (ص 51).
البخاري (3462)، ومسلم (2103).
اقتضاء الصراط المستقيم (1/183-186، 197-198).
أخرجه أحمد (2/50، 92)، وأبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031)، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3401).
الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد (ص 280).
الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد (280-281).
ينظر للاستزادة ما يلي: أوثق عرى الإيمان، سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب (ص 48-52). والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للشيخ/ صالح الفوزان (ص 280-284). والولاء والبراء/ للدكتور محمد سعيد القحطاني (ص 230-247). والموالاة والمعادة/ محماس الجلعود (1/301-330). وكتاب الإيمان/ للدكتور محمد نعيم ياسين (256-259).
سابعاً: البراءة من الكفّار والمنافقين ومعاداتهم:
أ- وجوب البراءة من الكفار والمنافقين ومعاداتهم:
قال الشيخ حمد بن علي بن عتيق: "أما معاداة الكفار والمشركين فاعلم أن الله سبحانه وتعالى أوجب ذلك وأكّد إيجابه، وحرّم موالاتهم وشدّد فيها، حتى إنّه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبيَن من هذا الحكم بعد وجوب التّوحيد وتحريم ضده".
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ: "يجب أن تعلم أولاً أن الله افترض على المؤمنين عداوة الكفار والمنافقين وجفاة الأعراب الذين يُعْرَفون بالنفاق ولا يؤمنون بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأمر بجهادهم والإغلاظ عليهم بالقول والعمل".
ب ـ الفرق بين إظهار البراءة من الكفار والمنافقين وبين وجود ذلك في القلب:
قال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن: "أصل البراءة المقاطعة بالقلب واللسان والبدن، وقلب المؤمن لا يخلو من عداوة الكافر، وإنما النزاع في إظهار العداوة، فإنها قد تخفى لسبب شرعي، وهو الإكراه مع الاطمئنان، وقد تخفى العداوة من مستضعَف معذور، عذَرَه القرآن، وقد تخفى لغرض دنيويّ، وهو الغالب على أكثر الخالق، هذا إن لم يظهر منه موافقة".
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: "مسألة إظهار العداوة غير مسألة وجود العداوة.
فالأول: يعذَر به مع العجز والخوف، لقوله تعالى: {إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}.
والثاني: لا بدّ منه، لأنّه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حبّ الله ورسوله تلازم كلي، لا ينفكّ عنه المؤمن، فمن عصى الله بترك إظهار العداوة فهو عاص الله".
وقال الشيخ حمد بن عتيق: "لا بدّ مِن أن تكون العداوة والبغضاء باديتين، أي: ظاهرتين بيّنتين.
واعلم أنّه وإن كانت البغضاء متعلّقة بالقلب فإنها لا تنفع حتى تظهر آثارها وتبين علامتها، ولا تكون كذلك حتى تقترن بالعداوة والمقاطعة، فحينئذٍ تكون العداوة والبغضاء ظاهرتين".
ج ـ من صور البراءة من الكفار والمنافقين:
1- ترك اتباع أهوائهم:
قال الله تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة:120].
قال شيخ الإسلام: "فانظر كيف قال في الخبر: {مِلَّتَهُمْ} وقال في النهي: {أَهْوَاءهُم} لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقاً، والزجر وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير".
وقال الشيخ حمد: "فإذا كان اتباع أهواء جميع الكفار وسلوك ما يحبونه منهياً عنه وممنوعاً منه فهذا هو المطلوب، وما ذاك إلا خوفاً من اتباعهم في أصل دينهم الباطل".
2- معصيتهم فيما أمروا به:(1/396)
قال حمد بن عتيق: "إنّ الله تعالى نهى عن طاعة الكافرين وأخبر أنّ المسلمين إن أطاعوهم ردّوهم عن الإيمان إلى الكفر والخسارة، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ} [آل عمران:149]، وقال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100]، وقال تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]، وقال تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116]... وقال تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الهاً واحِداً لاَّ اله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31].
وفسر النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذهم أرباباً بأنها طاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام، فإذا كان من أطاع الأحبار ـ وهم العلماء ـ والرهبان ـ وهم العباد ـ في ذلك، فقد اتخذهم أرباباً من دون الله، فمن أطاع الجهّال والفسّاق في تحريم ما أحلّ الله أو تحليل ما حرّم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله، بل ذلك أولى وأحرى".
3- ترك الركون إلى الكفرة الظالمين:
وقد نهى الله عن ذلك فقال: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} [هود:113]، فنهى سبحانه وتعالى عن الركون إلى الظلمة، وتوعد على ذلك بمسيس النار وعدم النصر، والشرك هو أعظم أنواع الظلم كما قال تعالى: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] فمن ركن إلى أهل الشرك ـ أي: مال إليهم ـ أو رضي بشيء من أعمالهم، فإنه مستحق لأن يعذبه الله بالنار وأن يخذله في الدنيا والآخرة.
4- ترك موادة أعداء الله:
قال الله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22].
قال شيخ الإسلام: "فأخبر سبحانه أنّه لا يوجد مؤمن يوادّ كافراً، فمن وادّ الكفار فليس بمؤمن".
قال الشيخ حمد بن عتيق: "فإذا كان الله تعالى قد نفى الإيمان عمّن وادّ أباه وأخاه وعشيرته إذا كانوا محادّين الله ورسوله، فمن وادّ الكفار الأبعدين عنه فهو أولى بأن لا يكون مؤمناً".
5- ترك التشبه بالكفار في الأفعال الظاهرة:
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم)).
قال شيخ الإسلام: "إن الله تعالى جبل بني آدم بل سائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم، حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميّز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط... فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي...وإن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحسّ والتجربة حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واحد ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودّة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين، أو كانا متهاجرَين، وذاك لأنّ الاشتراك في البلد نوع وصف اختصّا به عن بلد الغربة... وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضاً ما لا يألفون غيرهم حتى إنّ ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة، إما على الملك، وإما على الدين... وتجد الملوك ونحوهم من الرؤساء وإن تباعدت ديارهم وممالكهم بينهم مناسبة تورِث مشابهة ورعاية من بعضهم لبعض، وهذا كلّه موجَب الطباع ومقتضاه، إلا أن يمنع من ذلك دين أو غرضٌ خاص.
فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة لهم، فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟! فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشدّ، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان".
وقال الشيخ حمد بن عتيق: "إذا كانت مشابهة الكفار في الأفعال الظاهرة إنما نهي عنها لأنها وسيلة وسبب يفضي إلى موالاتهم ومحبتهم، فالنهي عن هذه الغاية والمحذور أشدّ، والمنع منه وتحريمه أوكد، وهذا هو المطلوب".
وهناك صور شتى ومظاهر عديدة للبراءة وفيما يلي بعضها باختصار:
1- بغض الشرك والكفر والنفاق وأهله، وإضمار العداوة لهم كما أعلنها إبراهيم عليه الصلاة والسلام فأخبر الله عنه بقوله تعالى: {إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26-27]، وقال سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].(1/397)
2- هجر بلاد الكفر، وعدم السفر إليهم إلا لضرورة مع القدرة على إظهار شعائر الدين ومع عدم المعارضة كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين)).
3- أن لا يناصر الكفار، ولا يمدحهم، ولا يعينهم على المسلمين.
4- أن لا يستعين بهم، ولا يتّخذهم بطانة له يحفظون سرّه ويقومون بأهمّ أعماله، كما قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَاتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118].
قال القرطبي: "نهى الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء ووُلَجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم".
5- أن لا يشاركهم في أعيادهم وأفراحهم، ولا يهنئهم بها، وقد فسر بعض أهل العلم قوله: {لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] أي: أعياد الكفار.
6- أن لا يستغفر لهم، ولا يترحّم عليهم، قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].
7- هجر مجالسهم وعدم صحبتهم.
8- عدم المداهنة والمجاملة والمداراة لهم على حساب الدين.
9- أن لا يعظم الكافر بلفظ أو فعل.
10- عدم التولي العام لهم.
11- أن لا يبدأهم بالسلام لما جاء في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبدؤوا اليهود بالسلام ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه)).
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
سبيل النجاة والفكاك (ص 31).
أوثق عرى الإيمان (ص 26).
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (8/305).
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (8/359).
سبيل النجاة والفكاك (ص 44-45).
ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم، وسبيل النجاة والفكاك (ص 46).
اقتضاء الصراط المستقيم (1/99).
سبيل النجاة والفكاك (ص 47).
سبيل النجاة والفكاك (ص 48-49).
سبيل النجاة والفكاك (ص 50).
اقتضاء الصراط المستقيم (1/551).
سبيل النجاة والفكاك (ص 50-51).
أخرجه أحمد (2/50، 92)، وأبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031)، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3401).
اقتضاء الصراط المستقيم (1/547-550).
سبيل النجاة والفكاك (ص 52).
أخرجه أبو داود في الجهاد (2645)، والترمذي في السير (1604)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1474).
الجامع لأحكام القرآن (4/178-179).
مسلم (2167).
==============
الولاء والبراء بين العلم والحال في نازلة الزمان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً - أما بعد:
فالمقصود من عنوان هذه المقالة: التفريق بين من يعلم حقيقة التوحيد ، ومقوماته ، وأنواعه ونواقضه مجرد علم نظري مع ضعف في تطبيقه والتحرك به ، وبين من يجمع مع العلم العمل والتطبيق ، وظهور آثار التوحيد في حاله وأعماله ومواقفه .
ويدخل هذا تحت ما سماه الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بالقوة العلمية والقوة العملية، حيث ذكر أن الناس مع هاتين القوتين أربعة أقسام :
01 فمن الناس من تكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ، ومنازلها، وأعلامها، وعوارضها ومعاثرها ، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه ، ويكون ضعيفاً في القوة العملية ، يبصر الحقائق ، ولا يعمل بموجبها ، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقاها ، فهو فقيه ما لم يحضر العمل ، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف ، وفارقهم في العلم ، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم ، والمعصوم من عصمه الله ولا قوة إلا بالله .
02 ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية وتكون أغلب القوتين عليه ، وتقتضي هذه القوة السير ، والسلوك ، والزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة ، والجِد ، والتشمير في العمل ، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات ، كما كان الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات ، فَداءُ هذا من جهله، وداء الأول من فساد إرادته وضعف عقله ، وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم.
03ومن كانت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله ، ورُجي له النفوذ ، وقوي على رد القواطع والموانع - بحول الله وقوته - ، فإن القواطع كثيرة شأنها شديد لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد ، ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين ، ولو شاء الله لأزالها وذهب بها ، ولكن الله يفعل ما يريد ، والوقت -كما قيل - سيف فإن قطعته وإلا قطعك .
04 فإذا كان السير ضعيفاً ، والهمة ضعيفة ، والعلم بالطريق ضعيفاً، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة ، فإنه جهد البلاء ، ودرك الشقاء ، وشماتة الأعداء ، إلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب ، فيأخذ بيده ويخلصه من أيدي القواطع ، والله ولي التوفيق طريق الهجرتين ( 335، 336) طبعة الشؤون الدينية القطرية.(1/398)
وقد زاد - رحمه الله تعالى - هذا المعنى وضوحاً عندما تحدث عن التوكل ، وحقيقته ، والفرق بين مجرد العلم به وبين التحرك به عملاً وحالاً ، حيث قال : " فكثير من الناس يعرف التوكُّل وحقيقته وتفاصيله ، فيظن أنه متوكل ، وليس من أهل التوكل ، فحال التوكل : أمر آخر من وراء العلم به ، وهذا كمعرفة المحبة والعلم بها وأسبابها ودواعيها ، وحال المحب العاشق وراء ذلك ، وكمعرفة علم الخوف ، وحال الخائف وراء ذلك ، وهو شبيه بمعرفة المريضِ ماهيةَ الصحة وحقيقَتها وحاله بخلافها .
فهذا الباب يكثر اشتباه الدعاوى فيه بالحقائق ، والعوارض بالمطالب ، والآفات القاطعة بالأسباب الموصلة ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " مدارج السالكين 2/125ا.هـ .
وحري بهذا الكلام أن تعقد عليه الخناصر، وتعض به النواجذ ، وأن يهتم به المربُّون مع أنفسهم ومن تحت أيديهم ، فلقد كان من مضى من العلماء الصالحين الربانيين يخافون على أنفسهم من الضعف العملي ، أو ضعف الحال مقابل ما عندهم من العلم الكثير ، وكانوا لا يركنون إلى شهرتهم العلمية ، بل كانوا يكرهون أن يتضخم علمهم ويشتهروا به بين الناس وليس في قلوبهم وأحوالهم ما يكافئ ذلك من الأعمال الصالحة ، والأحوال الشريفة ، والتي هي مقتضى الفهم والعلم .
ولنا أن نتساءل ونفكر ، أيهما أسعد حالاً ومنزلة عند الله - عز وجل - رجل أوتي من العلم ما يتمكن به من حشد النصوص الدالة على فضل قيام الليل والأسباب المعينة على ذلك ثم هو لا يقوم الليل ، وآخر لا يعلم من ذلك إلا أن قيام الليل مستحب وأجره عظيم فاجتهدَ ليلة بين يدي ربه - تعالى - ساجداً وقائماً ، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ؟ فالمرء لا يكون قائماً الليل بمجرد علمه بفضل ذلك وأحكامه ، ولا يكون ورعاً بمجرد علمه بالورع، ولا يكون صابراً بمجرد علمه بالصبر وتعريفاته وأنواعه ، ولا يكون متوكلاً بمجرد علمه بالتوكل وأقسامه ، وفرق بين علم الحب وحال الحب ، فكثيراً ما يشتبه على العبد علم الشيء بحاله ووجوده ، وفرق بين المريض العارف بالصحة والاعتدال ، وهو مثخن مريض، وبين الصحيح السليم ، وإن لم يحسن وصف الصحة والعبارة عنها ، وكذلك فرق بين وصف الخوف والعلم به وبين حاله ووجوده ، وإياك أن تظن أن مجرد العلم بهذا الشأن قد صرت من أهله هيهات، مما أظهر الفرق بين العلم بوجوده الغني وهو فقير وبين الغني بالفعل انظر زاد المهاجر ص26 ، طريق الهجرتين ص 196 بتصرف .
وبعد هذه المقدمة التوضيحية لمصطلح العلم والحال أدخل في صلب الموضوع الذي بات يؤرق كل مسلم صادق ، ويشغل بال كل موحِّد لله - عز وجل - ، وذلك في هذه الأيام العصيبة التي نزلت فيها بأمة الإسلام ، نازلة عظيمة ، وداهية دهياء أجمعت فيها أمم الكفر وتحالفت فيما بينها تحالفاً لم يسبق له نظير في التاريخ ، فإن أقصى ما كنا نسمعه من تحالف على المسلمين فيما مضى من تاريخهم أن يتحالف النصارى مع بعضهم أو الوثنيون مع بعضهم، أما في نازلة اليوم فلقد تحالفت النصارى بشتى طوائفهم مع اليهود والعلمانيين والوثنيين والبوذيين والشيوعيين الملاحدة ، وكلهم يريد شفاء غيظه من الإسلام والمسلمين ، ووجهوا جيوشهم، وأساطيلهم، وطائراتهم، وأسلحتهم المتطورة إلى دولة أفغانستان المسلمة ، وكل ذنبها أنها تحكم بالإسلام وترفض التبعية لشرق أو لغرب، وتعلن ولاءها لله - عز وجل - ولدينه وللمسلمين ، كما تعلن براءتها من الكفر والكافرين ، وإن مما يقض المجتمع ويثير الأشجان أن يغيب كثير من دعاة المسلمين وعلمائهم عن هذا الحدث الذي تمتحن فيه العقيدة وبخاصة الأصل الأصيل لكلمة التوحيد ألا وهو " الولاء والبراء ، والذي هو واضح في هذا الصراع غاية الوضوح وجلي أشد الجلاء . وأن المسلم ليحتار ويتساءل : أين ما كنا نتعلمه من ديننا وعقيدتنا من كلمة التوحيد إنما تقوم على الولاء والبراء ، الولاء لله - عز وجل - وعبادته وحده ومحبة ما يحبه ومن يحبه والبراء من الشرك وأهله ومن كل ما يبغضه - سبحانه - ومن يبغضه ، وإعلان العداوة ، له وهذه هي وصية الله - تعالى - لهذه الأمة " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده" [ الممتحنة : 4]. إي والله إنه لسؤال محير : أين دروس المساجد ؟ وأين محاضرات أهل العلم ، وأشرطتهم المسجلة، وبيانهم للناس فيها عقيدة التوحيد القائمة على الولاء والبراء ؟ أين الاعتزاز بدعوة المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة من بعده ، والذين كان جل كلاهم ورسائلهم في شرح هذه العقيدة ولوازمها والتحذير مما يخالفها وينقضها ؟ أين نحن ، وأين علماؤنا من بيان هذا الحق الأصيل للناس ؟! أين هم عن ذلك والأمة تمر في ساعات عصيبة تحتاج مَنْ يبعث فيها عقيدة الولاء والبراء ، وبناء المواقف في ضوئها ؟(1/399)
وهنا أعود إلى عنوان هذه المقالة بعد أن تبين لنا معناها ، وأقول : إن هناك فرق بين تناول التوحيد كعلم مجرد وبين أخذه علماً وحالاً وسلوكاً ، إن المواقف المتخاذلة اليوم أمام أمريكا الكافرة وحلفائها ، وعدم الصدع والجهر بعداوتها والبراءة منها ومن يتولاها لهو أكبر دليل على أن التوحيد عند الكثير منا بقي في حدود العلم المجرد ، أما أخذه علماً وحالاً وعملاً فإنه - ويا للأسف - أصبح مغيباً عن الأمة ، ومغيباً عن المواقف والممارسات . إن هذا الدين يرفض اختزال المعارف الباردة في الأذهان المجردة . إن العلم في هذا الدين يقتضي العمل ، ويتحول في قلب المسلم إلى حركة وأحوال ومواقف ، إذ لا قيمة للمعرفة المجردة التي لا تتحول لتوِّها إلى حركة ومواقف . نعم ، لا قيمة للدراسات الإسلامية في شتى مناهجها ومعاهدها ، ولا قيمة لاكتظاظ الأدمغة بمضمونات هذه المعارف إن لم يصحبها عمل ومواقف . إن العلم المجرد حجة على صاحبه إذا لم يقتضِ عنده العمل . إن العلم بالدين لابد أن يزاول في الحياة ، ويطبق في المجتمع ، ويعيش في الواقع ، وإلا فما قيمة الدروس المكثفة عن الولاء والبراء وأنواعه ، وما يضاده من الشرك وما ينقضه من النواقض ، ثم لما جاءت المواقف التي نحتاج فيها إلى تطبيق ما تعلمناه من مشائخنا فإذا بالسكوت ، بل والتشنيع على من ترجم ما تعلمه إلى سلوك وحال مع أعداء الله - عز وجل - فأعلن براءته وصرَّح بما تعلمه من علمائه ومشائخه من أن تولي الكفار ومناصرتهم على المسلمين رِدَّة وناقض من نواقض الإسلام . إن شأن التوحيد شأن عظيم من أجله أرسلت الرسل وأنزلت الكتب ، وقام سوق الجهاد وسوق الجنة والنار ، ومن أجل الولاء والبراء - الذي هو أس التوحيد وركنه الركين - هاجر المسلمون السابقون الأولون من ديارهم ، وضحّوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، وفاصلوا آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وعشائرهم الذين ليسوا على دينهم متمثلين في ذلك قوله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ، قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين" [ التوبة :23-24].
إذن ، فمسألة الولاء والبراء ليست مسألة ذهنية نظرية تدرس لمجرد الدراسة والثقافة ، ولكنها مسألة خطيرة متى ما استقرت في قلب المؤمن الصادق فإنها تجعل منه رجل عقيدة باطناً وظاهراً قلباً وقالباً يتحرك بعقيدته يوالي من يواليها ، ويعادي من يعاديها ، ويهاجر ويجاهد في سبيل الله من أجلها ؛ إنه لا قيمة للمعرفة التي لا تتحول إلى عمل وحركة ومواقف ، ولا قيمة للدراسات الإسلامية والبحوث العقدية ، واكتظاظ أرفف المكتبات والأدمغة بها إن لم تزاول هذه العلوم والدراسات في الحياة ، وتطبق في المجتمعات ، وتحدد في ضوئها العلاقات، وتتمثل في حركة و مواقف يواجه بها الباطل وأهله .
والمقصود : بيان أن شأن الولاء والبراء شأن عظيم ، وأنه ليس علماً مجرداً ، بل يجمع إلى ذلك المقصود عمل القلب وبراءته من الشرك وأهله ، وإعلان ذلك ، وإظهاره باللسان ، وترجمة ذلك إلى عمل وجهاد وسلوك . أما أن يبقى رهين الكتب والأدمغة فإن هذا مما لا يتفق مع طبيعة هذا الدين الذي هو جد كله ؛ لأنه قول القلب وعمله ، وقول اللسان وعمل الجوارح، ولما كانت عقيدة الولاء والبراء هي صلب كلمة التوحيد ، وأنها تستلزم أقوالاً وأعمالاً ومواقف وبذلاً وتضحيات اهتم بها السلف اهتماماً عظيماً ، وعلموها لأولادهم ، وتواصوا بها ، وهاجروا ، وجاهدوا من أجلها ، وعادوا، ووالوا على أساسها . يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى- : "فاللهَ اللهَ إخواني : تمسّكوا بأصل دينكم أوله وآخره أسّهِ ورأسه، وهو شهادة أن لا إله إلا الله ، واعرفوا معناها وأَحِبّوا أهلها ، واجعلوهم إخوانكم ، ولو كانوا بعيدين ، واكفروا بالطواغيت ، عادوهم ، وأبغضوا من أحبهم أو جادل عنهم أو لم يكفرهم ، أو قال : ما عليّ منهم ، أو قال ما كلفني الله بهم ، فقد كذب على الله وافترى، بل كلفه الله بهم وفرض عليه الكفر بهم ، والبراءة منهم ولو كانوا إخوانه وأولاده ، فالله الله تمسكوا بأصل دينكم لعلكم تلقون ربكم لا تشركون به شيئاً" الدرر السنية 2/119.
وقال في موطن آخر : "إن الواجب على الرجل أن يعلم عياله وأهل بيته الحب في الله والبغض في الله ، والموالاة في الله ، والمعادات فيه قبل تعليم الوضوء والصلاة ؛ لأنه لا صحة لإسلام المرء إلا بصحة صلاته ولا صحة لإسلامه - أيضاً - إلا بصحة الموالاة والمعادات في الله" الرسائل الشخصية ص 323. ولما تواجه المسلمون في تاريخهم الطويل مع أعدائهم الكافرين بشتى مللهم برز دور العلماء في وقتهم ، وهم يحرِّضون على نصرة المسلمين وإعانتهم على الكافرين ويحذرون من تولي الكافرين ، ومناصرتهم بأي نوع من أنواع النصرة ، ويفتون بأن من ظَاهَر الكافرين على المسلمين فهو مرتد خارج عن ملة الإسلام . فهذا الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - قال عن بابك الخرّمي عندما خرج على المسلمين وحاربهم وهو بأرض المشركين : " خرج إلينا يحاربنا وهو مقيم بأرض الشرك ، أيّ شيء حكمه ؟ إن كان هكذا فحكمه حكم الارتداد" ( الفروع 6/163).
وعندما هجم التتار على أراضي الإسلام في بلاد الشام وغيرها أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - برِدِّة من قفز إلى معسكر التتار من بعض المنتسبين إلى الإسلام ( الفتاوى 28/530) .(1/400)
وعندما هجمت جيوش المشركين على أراضي نجد لقتال أهل التوحيد ، وأعانهم بعض المنتسبين إلى الإسلام ، وذلك بين عامي 1223 - 1226 أفتى علماء نجد بردة من أعانهم ، وألف الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ كتاب (الدلائل) في إثبات كفر هؤلاء .
وفي أوائل القرن الرابع عشر أعانت بعض قبائل الجزائر الفرنسيين ضد المسلمين ، فأفتى فقيه المغرب أبو الحسن التسولي بكفرهم. (أجوبة التسولي على مسائل الأمير عبد القادر الجزائري ص 210) .
وفي منتصف القرن الرابع عشر اعتدى الفرنسيون والبريطانيون على المسلمين في مصر وغيرها فأفتى الشيخ أحمد شاكر بكفر من أعان هؤلاء بأي إعانة (كلمة حق : ص 126 وما بعدها ) وعندما استولى اليهود على فلسطين في منتصف القرن الرابع عشر الهجري، وأعانهم بعض المنتسبين إلى الإسلام أفتت لجنة الفتوى بالأزهر برئاسة الشيخ عبد المجيد سليم عام 1366هـ بكفر من أعانهم ، وفي عصرنا الحاضر ، وعندما نزلت نازلة الزمان اليوم ، وتحالفت قوى الكفر على حرب دولة أفغانستان المسلمة بقيادة طاغوت العصر أمريكا ، ومن حالفها من النصارى والشيوعيين والوثنيين والمنتسبين إلى الإسلام من الزنادقة والمنافقين لم تعدم الأمة من قائل للحق وصادع به من علمائها الربانيين في بلاد الإسلام عرضاً وطولاً" حيث أفتوا جميعهم بأن من أعان أمريكا وحلفاءها من الكفرة والمنافقين على حرب أفغانستان المسلمة فإنه بذلك يخرج من دائرة الإسلام ويحكم بردته ، ودعموا فتاويهم بالأدلة من الكتاب والسنة وأقوال السلف في تفسير بعض الآيات التي تنهى عن تولي الكافرين كما في قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولَّهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" [ المائدة : 51] ومن هؤلاء العلماء علماء المغرب ، ومفتي باكستان ( نظام الدين شامزي ) وعلماء اليمن وغيرهم من علماء البلدان الإسلامية، ومن بلاد الحرمين الشيخ حمود العقلا ، والشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك ، والشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان، والشيخ سلمان العودة ، والشيخ سفر الحوالي ، وغيرهم من العلماء وطلبة العلم - حفظ الله الجميع ورعاهم - .
وفي الوقت الذي فرحنا فيه بهذه الفتاوى التي صدعت بالحق وقالته في وقته الذي يجب أن يقال فيه فإنه في الوقت نفسه قد أحزننا غياب بعض العلماء عن هذه النازلة التي تنتظر فيها الأمة قول علمائها والصدع بالحق فيها ، مع أن هذه النازلة من الوضوح بحيث لا يرد على العالم فيها لبس ولا شبهة حتى يقال : إن هناك تردد وتوقف يبرر به السكوت والإحجام ، ويزداد الحزن والألم حينما نسمع من بعض العلماء أو طلبة العلم ، من يتأول بعض النصوص وينزلها في غير مكانها من دون تخريج ، ولا تنقيح ، ولا تحقيق لمناطاتها ، حيث آل به الأمر إلى فتوى خطيرة مفادها: أن أمريكا الكافرة وحلفاءها ؛ إنما جاءوا لإقامة العدل ومحاربة الإرهاب والظلم فيجوز مساعدتها على ذلك .. !!! سبحانك هذا بهتان عظيم . ومتى عرفت أمريكا العدل وتاريخها كله ظلم وعدوان ، وهل جاءت لإقامة العدل أم لتعلنها حرباً صليبية على لسان شيطانها الأكبر ( بوش ) .
إننا ننصح علماءنا هؤلاء بأن يُتابعوا الأخبار ليطلعوا على الأطفال والنساء والشيوخ المسلمين الذين مزقت أجسادهم صواريخ كروز والقنابل الانشطارية ، ثم يقوموا لله ويسألوا أنفسهم هل هذا هو العدل الذي جاءت أمريكا لإقامته ، وهل هؤلاء الأبرياء هم الإرهابيون الذين زعمت أمريكا أنها تحاربهم ؟ يا علماءنا هؤلاء اتقوا الله في أنفسكم ، فلا تظلموها وتعرضوها لسخط الله - تعالى- فإن هذا الموقف منكم له ما بعده في الدنيا والآخرة وستكتب شهادتكم وتسألون . واتقوا الله في أمتكم ، فلا تكتموا عنها الحق ولا تلبسوا الحق بالباطل وأنتم تعلمون أولا تعلمون .
ويا ليتكم سكتم إذ لم تقدروا على قول الحق فهو أخف أثماً من قول الباطل . وإننا نناشدكم ونقول : ارحموا شباب الصحوة ، وأشفِقوا عليهم من المواقف المخذلة والفتاوى المتسرعة ، فإن الشباب المسلم إن لم يجدوا فيكم من يلتفُّوا عليه ، ويسمعهم الحق ويصدع به فإنهم سيذهبون إلى بعضهم ويجتهدون لأنفسهم ؛ مما قد يكون فيه فتنة وفساد. وحينئذٍ ستلومونهم وتشنِّعون عليهم، مع أنكم من بين الأسباب التي قد تدفعهم إلى التسرع وعدم الانضباط؛ وذلك بعدم إسماعهم ما يجب عليكم قوله في هذه النازلة العظيمة ، أو إسماعكم لهم أقوالاً غريبة تجرح شعور كل مسلم يحب المؤمنين ، ويعادي الكافرين .
وأخيراً ، أقول لكل عالم لم يصدع بكلمة الحق في هذه النازلة ، ولكل مسلم متردد تحت تأثير ما يسمع من الشبهات ، أقول : إن ما يحصل على أرض أفغانستان المسلمة من الوضوح والجلاء ، بحيث لا يدع عذراً لعالم أن يسكت عن قول الحق ، فضلاً عن أن يخذل أو يعوق، ولا يدع مجالاً لمتردد أن يتردد .
إن ما يحصل هناك إنما هو حرب صليبية على الإسلام والمسلمين ، حرب تميز الناس فيها إلى فئتين متقابلتين : فئة مسلمة تحكم بالإسلام في أفغانستان ، ولا ترضى بغيره بديلاً ، وفئة أخرى كافرة تقودها أمريكا الكافرة الصليبية مع أحلافها من النصارى واليهود والشيوعيين والبوذيين والمنافقين ، فمع أي الفئتين يضع المسلم نفسه ، وفي أيِّ الخندقين يجب أن يكون ، أفي خندق الكفر الحاقد على الإسلام وأهله أم في خندق الإسلام وأهله ؟ أفي ذلك غموض واشتباه ؟ إنه والله لا غموض فيه ولا لبس . وإن الأمر جِدُّ خطير ، وامتحان للتوحيد في قلب المؤمن القائم على عبادة الله وحده والكفر بما سواه والموالاة والمعاداة فيه .(1/401)
وأخيراً : أطرح سؤالاً صريحاً لكل مخذل أو متردد ألا وهو : ما تقولون في جهاد الأفغان ضد الروس في العقود الماضية ؟ وأجزم بأن الجواب عندهم : إنه جهاد إسلامي بين المجاهدين المسلمين ، وبين الروس الكفرة الملحدين ، ولا أظن عندهم جواباً غيره لأن علماء بلد الحرمين قد أفتوا بذلك وحرضوا على الجهاد بالمال والنفس آنذاك ومنهم الشيخ ابن باز - رحمه الله تعالى- وحينئذٍ نقول : فما الذي تغير في هذه الحرب الجديدة بين الأفغان وأمريكا الكافرة . إنه لم يتغير إلا وجه الكافر ، بل إن الكافر الروسي الذي حاربه المسلمون في الحرب الأولى هو الآن متحالف مع أمريكا وحلفائها في ضرب المسلمين في أفغانستان ، فلماذا تغيرت المواقف ؟ إن الواجب بالأمس هو الواجب اليوم ، هذا إن كنا ننطلق من عقيدة الولاء والبراء التي لا تتغير بتغير وجوه الكافرين . أما إن كنا ننطلق من الألاعيب السياسية وأهواء الحكام وتلبيس الإعلام فلنراجع إيماننا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
=============
عقيدتنا بين الولاء والبراء ووجوب الحكم بما أنزل الله
بسم الله الرحمن الرحيم
- الحمد لله رب العالمين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
- فإن عقيدتنا تقوم على ركنين أساسيين، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وهذان الركنان هما، الولاء والبراء، ويدلنا على ذلك قوله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين ) . (36) النحل.
- وهذا ما تدل عليه كلمة التوحيد، لا إله إلا الله، أي لا معبود بحق إلا الله سبحانه، فتضمن المعنى نفياً وإثباتاً، فالنفي - لا إله - فهذه الجملة تدل على نفي الألوهية مطلقاً، والإثبات - إلا الله - وهذه الصيغة من أقوى أساليب الحصر، فأنت حين تقول: الله معبود، لا تنفي وجود معبود غيره، لأنك أتيت بالإثبات دون النفي، أي أثبت أن الله معبود مع عدم نفيك هذه الصفة عن غيره، أما إذا قلت ، لا معبود إلا الله، فأنت نفيت عن غيره هذه الصفة، والفرق بين المعنيين واضح.
- وعلى ذلك تقوم عقيدة المسلم، على النفي والإثبات، قال تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْد مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ). (256) البقرة
- قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن باللّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها واللّه سميع عليم ) أي من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون اللّه، ووحَّد اللّه فعبده وحده، وشهد أن لا إله إلا هو ( فقد استمسك بالعروة الوثقى)، أي فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم. قال عمر رضي اللّه عنه: إن الجبت السحر، والطاغوت الشيطان، وإن كرم الرجل دينه، وحسبه خلقه وإن كان فارسياً أو نبطياً. ومعنى قوله في الطاغوت إنه الشيطان، قوي جداً فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية: من عبادة الأوثان، والتحاكم إليها، والاستنصار بها.
- وقوله تعالى: ( فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها)، أي فقد استمسك من الدين بأقوى سبب، وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم هي في نفسها محكمة مبرمة قوية، وربطها قوي شديد، ولهذا قال: ( فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ) الآية، قال مجاهد: العروة الوثقى يعني الإيمان، وقال السدي: هو الإسلام، وقال سعيد بن جبير والضحاك: يعني ( لا إله إلا الله ) وعن أنَس بن مالك: العروة الوثقى القرآن، وعن سالم ابن أبي الجعد قال: هو الحب في اللّه والبغض في اللّه، وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها. أهـ تفسير ابن كثير.
- فهذه الآية الكريمة تدل على حقيقة تقوم عليها عقيدة أهل الإيمان، فقد بين الله سبحانه أن الذين يكفرون بالطاغوت، ويؤمنون بالله، قد استمسكوا بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، والعروة الوثقى، هي كلمة التوحيد، لا إله إلا الله، وهذه الآية متضمنة لمعنى الشرط، أي الذي يكفر بالطاغوت ـ ويؤمن بالله، فهذا الذي استمسك بالعروة الوثقى، وما يدل عليه مفهوم المخالفة، أن الذي لا يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، لم يستمسك بالعروة الوثقى، وعليه أصبح الاستمساك بالعروة الوثقى له شرطان:
- الأول: الكفر بالطاغوت.
- الثاني: الإيمان بالله سبحانه.(1/402)
- وهذا السياق يتضمن معناً بلاغياً، حيث إن الكفر بالطاغوت لا يكون إلا نتيجة الإيمان بالله سبحانه، أي الذين يؤمنون بالله هم الذين يكفرون بالطاغوت، فقدم سبحانه الفرع على الأصل، ليدلنا على حقيقة غائبة عن أذهان كثير من أبناء هذه الأمة، وهي أن الإيمان لا يصح إلا بالكفر بالطاغوت، أي من لم يكفر بالطاغوت، لا يكون مؤمناً بالله سبحانه، قال صلى الله عليه وسلم : (من قال : لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبَدُ من دون الله ). رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك عن أبيه فمن لم يكفر بالطاغوت لا يكون مؤمناً حقيقة وإن كان مقراً بصحة ما أنزله الله سبحانه على محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا فهمت هذا، تعلم أن أصل الخلاف بين الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين قومه لم يكن على مسألة الإقرار على تفرد الله سبحانه بالربوبية، بل هم مقرون بذلك قال تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ). (63) العنكبوت
- قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى مقرراً أنه لا إله إلا هو، لأن المشركين الذين يعبدون معه غيره معترفون بأنه المستقل بخلق السماوات والأرض، والشمس والقمر وتسخير الليل والنهار، وأنه الخالق الرازق لعباده، ومقدر آجالهم وأرزاقهم فتفاوت بينهم، فمنهم الغني والفقير، وهو العليم بما يصلح كلا منهم ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر، فذكر أنه المستقل بخلق الأشياء المتفرد بتدبيرها، فإذا كان الأمر كذلك فلمَ يعبد غيره؟ ولم يتوكل على غيره؟ فكما أنه الواحد في ملكه، فليكن الواحد في عبادته، وكثيراً ما يقرر تعالى (مقام الإلهية) بالاعتراف بتوحيد الربوبية ،وقد كان المشركون يعترفون بذلك، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. أ هـ تفسير ابن كثير
- وقال سبحانه: ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ) . (38) الزمر
- وقال سبحانه: ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) . (25) لقمان
- وقال سبحانه: ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ) . (31)يونس
- وقال سبحانه: ( قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ) . (89) المؤمنون
- يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: يقرر تعالى وحدانيته، واستقلاله بالخلق والتصرف والملك، ليرشد إلى أنه الذي لا إله إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له؛ ولهذا قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين العابدين معه غيره، المعترفين له بالربوبية، وأنه لا شريك له فيها، ومع هذا فقد أشركوا معه في الإلهية، فعبدوا غيره معه، مع اعترافهم أن الذين عبدوهم لا يخلقون شيئا، ولا يملكون شيئا، ولا يستبدون بشيء، بل اعتقدوا أنهم يقربونهم إليه زلفى: ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ). الزمر: 3، فقال: ( قل لمن الأرض ومن فيها ). أي: من مالكها الذي خلقها ومن فيها من الحيوانات والنباتات والثمرات، وسائر صنوف المخلوقات (إن كنتم تعلمون. سيقولون لله ) أي: فيعترفون لك بأن ذلك لله وحده لا شريك له، فإذا كان ذلك ( قل أفلا تذكرون )أي: لا تذكرون أنه لا تنبغي العبادة إلا للخالق الرازق لا لغيره. أ هـ تفسير ابن كثير.
- فهذه الآيات وغيرها ، تبين أن كفار قريش كانوا مقرين بوجود الله سبحانه، وأنه الخالق المالك المقدر، ومع ذلك لم يدخلوا في الإيمان، وحقيقة إقرارهم نابع من الفطرة التي فطر الله الناس عليها إذ قال سبحانه: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ). (30) الروم(1/403)
- فالله سبحانه فطر الناس على التوحيد، إذ أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقيم وجهه للدين حنيفاً مبيناً أن ما أُمر به صلى الله عليه وسلم هو ما فطر الناس عليه فطرة، أي فطر الناس على التوحيد، ويعزز ذلك المعنى قوله تعالى: ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) . (173) الأعراف
- فالله سبحانه أخذ على بني آدم الميثاق وهم في ظهر أبيهم آدم عليه السلام بأنه ربهم، قاطعاً عليهم عذري الجهل والتقليد، ( أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) وهذا عذر الجهل. ( أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا وكنا ذرية من بعدهم ). وهذا عذر التقليد، فالله سبحانه خلق العباد مقرين بربوبيته غير جاهلين أو شاكين، ويؤيد ما ذهبنا إليه ما رواه الإمامان البخاري ومسلم عن أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ( يقالُ للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنتَ مفتدياً به؟ قال فيقول: نعم. فيقول: قد أردّت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشركَ بي شيئاً فأبيت إلاّ أن تشرك بي ).
- وكذلك ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه ). متفق عليه.
- وفي رواية صحيحة: ( إلا ويولد على الملة ). وفي صحيح ابن حبان ( إلا ويولد على فطرة الإسلام ). فما من مولود إلا ويولد مقراً بربوبية الله سبحانه، وهذا الخبر شامل لكل مولود دون استثناء، بل قد دلت النصوص الشرعية على أن كفار قريش لم يكونوا يُكذّبون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به، كما في قوله تعالى: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ). (33) الأنعام
- فالكافرون رغم إقرارهم بوجود الله سبحانه، كانوا مكذبين بأن العبادة لا تكون إلا له كما في قوله تعالى: ( وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ). (8) ص
- فهم عجبوا أن جعل الآلهة إلهاً واحداً، في الوقت الذي كانوا فيه مقرين بوجود الله سبحانه، وأنه الخالق المالك المقدر.
- قال القرطبي في تفسير هذه الآية المباركة: وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: مرض أبو طالب فجاءت قريش إليه، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه، قال: وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي ما تريد من قومك؟ فقال: (يا عم إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها الجزية العجم ) فقال: وما هي؟ قال: (لا إله إلا الله) قال: فقالوا: ( أجعل الآلهة إلها واحداً ) قال: فنزل فيهم القرآن: ( ص والقرآن ذي الذكر* بل الذين كفروا في عزة وشقاق ) حتى بلغ ( إن هذا إلا اختلاق ) خرجه الترمذي أيضا بمعناه. وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقيل: لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه شق على قريش إسلامه فاجتمعوا إلى أبي طالب وقالوا: اقض بيننا وبين ابن أخيك. فأرسل أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء، فلا تمل كل الميل على قومك. قال: (وماذا يسألونني) قالوا: ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتعطونني كلمة واحدة وتملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم) فقال أبو جهل: لله أبوك لنعطينكها وعشر أمثالها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا لا إله إلا الله) فنفروا من ذلك وقاموا؛ فقالوا: ( أجعل الآلهة إلها واحداً ) فكيف يسع الخلق كلهم إله واحد. فأنزل الله فيهم هذه الآيات إلى قوله: (كذبت قبلهم قوم نوح ). أ هـ الجامع لأحكام القرآن.
- ومن هذا المنطلق فرق العلماء المعتبرون بين توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، فليس كل من يقر بتوحيد الربوبية يعتبر موحداً، بل لا بد من أن يدخل عليه توحيد الألوهية، وهو ما يسميه أهل العلم: بتوحيد العبادة.
- قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن تأمل ما في السيرة والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأنه صادق فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهراً وباطناً.اهـ زاد المعاد 3 / 42.(1/404)
- وقال أيضاً: ليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه: لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه، كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبة الله، والخضوع له، والذل له، وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع والعطاء، والحب والبغض، ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها. مدارج السالكين 1 / 303.
- وعبادة الله سبحانه هي الغاية التي خلق الله سبحانه الجن والإنس لأجلها، قال تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ). (57)الذاريات
- وقال سبحانه: ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ). (5) البينة
- وفي الحديث الصحيح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: ( يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ )، فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: ( حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا )، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: ( لا تبشرهم فيتكلوا ) متفق عليه. وعبادة الله سبحانه هي الطاعة والتذلل والانقياد، فكل من لم يعبد الله سبحانه لا يكون مؤمناً وإن كان مقراً له بالربوبية، وكذلك من عبد الله سبحانه ولم يتبرأ من كل ما سواه، لا يعتبر مؤمناً، فالإيمان هو توحيد الله سبحانه بالربوبية والألوهية، وهذا يقتضي تفريد الله بالعبادة، وهذا ما خالف فيه الكافرون، فالكافرون وإن كانوا مقرين بأن الله سبحانه هو المتفرد بالخلق والملك، إلا أنهم خالفوا في تفرد الله بالعبادة، فوقعوا في الشرك والكفر، وعليه لا يكون الإنسان مؤمناً بمجرد تصديقه بأن الله هو الخالق المالك المقدر، وأنه المعبود، حتى يتبرأ من كل ما سوى الله سبحانه وهذا ما دلت عليه الآية الكريمة: ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدمِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ). (256) البقرة
- ومن لوازم هذا الإيمان، الولاء والبراء؛ أي موالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين.
- الأدلة على موالاة المؤمنين:
- منها قوله تعالى: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ). (71)التوبة
- وقوله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ). (55)المائدة
- وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ). (72) الأنفال
- فهذه الآيات تبين أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وأنهم عابدون لله سبحانه مقيمون الصلاة مؤتون الزكاة، آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر، وهذه صفات أهل الحق، فلا يكون أهل الحق إلا قائمين عليه، داعين إليه .
- أدلة حرمة موالاة الكافرين :
- منها قوله تعالى: ( لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ ). (28) آل عمران
- وقال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ). (52) المائدة
- وقال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ). (57) المائدة
- وقال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ). (23) التوبة(1/405)
- يقول ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات: نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعدهم على ذلك فقال تعالى: (ومن يفعل ذلك ليس من اللّه في شيء) أي ومن يرتكب نهي اللّه من هذا فقد برِئَ من اللّه، كما قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة - إلى أن قال - ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ). وقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أتريدون أن تجعلوا للّه عليكم سلطاناً مبيناً )، وقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم) الآية. وقوله تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة)، أي إلا من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما قال البخاري عن أبي الدرداء إنه قال: ( إنَّا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم) وقال الثوري، قال ابن عباس: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، ويؤيده قول اللّه تعالى: ( من كفر باللّه من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) الآية. ثم قال تعالى: ( ويحذركم اللّه نفسه ) أي يحذركم نقمته في مخالفته وسطوته، وعذابه لمن والى أعداءه وعادى أولياءه، ثم قال تعالى: ( وإلى اللّه المصير) أي إليه المرجع والمنقلب ليجازى كل عامل بعمله. أ هـ تفسير ابن كثير
- قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في حكم موالاة الكافرين ما نصه: فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة، فكيف بالمشابهة في أمور دينية، فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد. والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان. قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين)، وقال تعالى فيما يذم به أهل الكتاب: ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون * ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون).
- فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم، فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان، لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم. وقال سبحانه وتعالى: ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه) فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يوجد مؤمن يوادّ كافراً فمن وادّ الكفار فليس بمؤمن، فالمشابهة الظاهرة مظنة المودة فتكون محرمة كما تقدم تقرير مثل ذلك) اقتضاء الصراط المستقيم ج1 ص221- 222
- وقال رحمه الله تعالى أيضاً: والمؤمن عليه أن يعادى في الله، ويوالى في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه، وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعالى: ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون أخوة..)، فجعلهم أخوة مع وجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم.
- فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين، فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر، وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك، فان الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه.
- وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة. (مجموع الفتاوى ج28 ص207- 209).
- ما يستفاد من الآيات الكريمة الدالة على حرمة موالاة الكافرين:
1 : حرمة الموالاة بين المؤمنين والكافرين.
2 : أن الذين يتولون الكافرين من المؤمنين، ليسوا من الله في شيء.
3 : أن الذين في قلوبهم مرض أي نفاق، هم الذين يتولون الكافرين.
4 : أن الذين يتولون الكافرين من دون الله، موصوفون بالظلم، وهم الذين نفى الله الإيمان عنهم.
5 : أن من يتولى الكافرين من دون المؤمنين له عذاب عظيم.
6 : أن الذين يتولون الكافرين من دون المؤمنين من جنس الكافرين.
7 : أن من يفعل ذلك سوف يندم ندماً شديداً على سوء فعله في الدنيا والآخرة.
- وعليه لا يكون المؤمن مؤمناً إلا أن يكون متبرئ من الكافرين، وهذا التبرؤ ليس متعلقاً بأشخاص تعلقاً مجرداً، بل بسبب ما يقوم به هؤلاء الأشخاص من مخالفة ومعاداة لله ورسوله.
- من لوازم الولاء :(1/406)
- إن من أبرز لوازم الولاء أمران؛ 1: الحب . 2: النصرة.
- أدلة على ملازمة المحبة للولاء:
- قال تعالى: ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ). (29) الفتح
- وقال سبحانه: ( لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ). (9) الحشر
- وفي الحديث الصحيح عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ). متفق عليه
- أدلة على ملازمة النصر ة :
- قال تعالى: ( لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ). (8) الحشر
- وقال تعالى: ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ). (111) التوبة
- وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ). (54) المائدة
- أدلة على ملازمة المعادة للبراء :
- منها قوله تعالى: ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ). (4) الممتحنة
- قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين والتبرئ منهم: ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ) أي وأتباعه الذين آمنوا معه، ( إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ) أي تبرأنا منكم ( ومما تعبدون من دون اللّه كفرنا بكم ) أي بدينكم وطريقكم ( وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً ) يعني وقد شرعت العدواة والبغضاء بيننا وبينكم، ما دمتم على كفركم فنحن أبداً نتبرأ منكم ونبغضكم (حتى تؤمنوا باللّه وحده) أي إلى أن توحدوا اللّه فتعبدوه وحده لا شريك له، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد. أ هـ الجامع لأحكام القرآن.
- ومن أدلة السنة على وجوب الولاء والبراء، وأنهما دليل على صحة الإيمان ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ).
- وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: ( أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله ). رواه الطبراني وحسنه الأرناؤط.
- فالمؤمن الحق هو الذي يجعل حبه وبغضه في الله سبحانه، فهو يحب المؤمن وإن كان لا يربطه به نسب ولا وطن وما شابه ذلك، ويبغض الكافر ولو كان من أقرب المقربين إليه، قال تعالى: ( لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ). (22) المجادلة .
- ولو تأملنا النصوص الشرعية المتعلقة بحقيقة العلاقة بين المؤمن والكافر لوجدناها على النحو التالي :(1/407)
1: البراءة، وهي قسمان: 1 : من شخص الكافر، 2 : من فعله، وذلك لقوله تعالى: (إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ).
2 : الكفر الدال على انقطاع العلاقة مطلقاً، وذلك لقوله تعالى: (كَفَرْنَا بِكُمْ ).
3: العداوة والبغضاء، لقوله تعالى: (وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً ).
4 : انقطاع المحبة والمودة، وذلك لقوله تعالى: ( لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ).
- فالمؤمن، يتبرأ من الكافر ومن عمله، ويبغضه ويعاديه، وهذا من أعظم ما يقطع العلاقة بين بني البشر، فلا علاقة مطلقاً بين الكافرين والمؤمنين، إلا ما استثناه الشارع مع وجوب وقوع البغض والمعاداة، بل إن قيام الحب بين المؤمنين والكافرين، لدليل على عدم وجود الإيمان كما بينا ذلك آنفا.
- فالعلاقة بين الحزبين علاقة بغض وعداء، فهم متناقضون بالهدف والوسيلة، فالكافرون يعملون على ترسيخ الكفر والنفاق والزندقة في الأرض بكل وسيلة توصل إلى ذلك، أما المؤمنون فيعملون على النقيض تماماً قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ). (37)الأنفال
- وقال سبحانه: ( الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ). (76) النساء
- ويرجع ذلك التناقض لاختلاف المقصد بين الفريقين في العبادة، فالمؤمنون يعبدون الله سبحانه، والكافرون يعبدون الشيطان، قال تعالى: ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ). (62) يس
- ومن المعلوم ضرورة أن الشيطان يعمل كل ما بوسعه ليضل الناس عن صراط الله المستقيم، قال تعالى: ( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ). (17) الأعراف
- وقال سبحانه: ( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ). (42) الحجر
- وقال سبحانه: ( إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً (117) لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً (118) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً ). (121)النساء
- فإذا كان المقصد مختلفاً بين الحزبين، فلن تكون الولاية بينهما إلا بأحد أمرين، 1 : أن يؤمن الكافرون بما آمن به المسلمون لقوله تعالى: (حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ). 2 : أن يكفر المؤمنون، وهذا غاية ما يريده الكافرون قال تعالى: ( وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ). (120) البقرة
وهذا ما يرفضه المؤمنون رفضاً قاطعاً، قال تعالى: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ). (6) الكافرون .
- وفي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: ( ثلاث من وجدهن وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ) متفق عليه.
وإليك أخي الحبيب نص رسالة تحكيم القوانين لفضيلة الشيخ الإمام محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى رأيت إدراجها لما فيها من فوائد جمة:
نص الرسالة:(1/408)
يقول رحمه الله تعالى :إن من الكفرِ الأكبرِ المستبينِ، تنزيلُ القانونِ اللعينِ منزلةَ ما نَزَلَ به الروحُ الأمينُ على قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين، بلسانٍ عربي مبينٍ، في الحكم به بين العالمين، والرَدِّ إليه عند المتنازعين، مناقضةً ومعاندةً لقولِ الله عز وجل: ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ). وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمانَ عن مَّنْ لم يُحَكِّموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما شَجَرَ بينهم، نفياً مؤكداً بتكرارِ أداةِ النفي وبالقسمِ، قال تعالى: ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ) ولم يكتفِ تعالى وتقدَّس منهم بمجرد التحكيمِ للرسولِ صلى الله عليه وسلم، حتى يضيفوا إلى ذلك عَدَمَ وجودِ شيءٍ من الحرج في نفوسهم، بقوله جل شأنه: ( ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ). والحَرَجُ: الضِّيقُ. بل لا بد من اتساع صدورهم لذلك وسلامتها من القلق والاضطراب. ولم يكتف تعالى أيضا هنا بهذين الأمرين، حتى يضموا إليهما التسليم وهو كمال الانقيادِ لحكمه صلى الله عليه وسلم، بحيث يتخلَّونَ ها هُنا من أي تعلق للنفس بهذا الشيء، ويسلموا ذلك إلى الحكمِ الحقِّ أَتمَّ تسليم، ذلك بالمصدر المؤكد، وهو قوله جل شأن: ( تَسْلِيماً ) المبين أنه لا يُكْتَفى ها هنا بالتسليم.. بل لا بد من التسليم المُطْلَقِ. وتأمل ما في الآية الأولى، وهي قوله تعالى: ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ). كيف ذكر النكِرَةَ وهي قوله: ( شَيْءٍ ) في سياق الشَرْطِ وهو قوله جل شأنه: ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ ) المفيد للعموم، فيما يُتَصوَّرُ التنازعُ فيه جنساً وقدراً. ثم تأمل كيف جعل ذلك شرطاً في حصول الإيمان بالله واليوم الآخر، بقوله: ( إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ). ثم قال جل شأنه: ( ذلِكَ خَيْرٌ ) فشيءٌ يُطْلقُ الله عليه أنه خيرٌ لا يتطرَّقُ إليه شرٌّ أبداً، بل هو خيرٌ محضٌ عاجلاً وآجلاً .ثم قال: ( وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) أي: عاقبةً في الدنيا والآخرة، فيفيد أن الرد إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم عند التنازع شرٌ محضٌ وأسوأ عاقبة في الدنيا الآخرة. عكس ما يقولُه المنافقون: ( إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً )، وقولهم: ( إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ )، ولهذا ردَّ الله عليهم قائلاً: ( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ) .وعكس ما عليه القانونيون من حكمهم على القانون بحاجة العالم (بل ضرورتهم) إلى التحاكم إليه وهذا سوءُ ظنّ صرْف بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومحضُ استنقاصٍ لبيان الله ورسوله، والحكم عليه بعدم الكفاية للناس عند التنازع، وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة إن هذا لازم لهم. وتأمل أيضا ما في الآية الثانية من العموم، وذلك في قوله تعالى ( فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) فإن اسم الموصول مع صلته مع صيغ العموم والشمول هو من ناحية الأجناس والأنواع، كما أنه من ناحية القدر فلا فرق هنا بين نوع ونوع، كما أنه لا فرق بين القليل والكثير وقد نفى الله الإيمان عن من أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من المنافقين، كما قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً ). فإن قوله عز وجل: ( يَزْعُمُونَ ) تكذيب له فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلا، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو: مجاوزة الحد. فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو حاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم(1/409)
إليه. وذلك أنه من حق كل أحد أن يكون حاكما بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقط لا بخلافه.كما إن من حق كل أحد أن يحاكم إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فمن حكم بخلافه أو حاكم إلى خلافه فقد طغى، وجاوزَ حَدَّه، حُكْماً أو تحكيماً، فصار بذلك طاغوتاً لتجاوزه حَدَّه. وتأمل قوله عز وجل: ( وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ ) تعرفْ منه معاندة القوانين، وإرادتهم خلافَ مرادِ الله منهم حولَ هذا الصددِ، فالمرادُ منهم شرعاً والذي تُعُبّدوا به هو: الكفرُ بالطاغوتِ لا تحكيمُهُ، ( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ). ثم تأملْ قوله: ( وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ) كيف دَلَّ على أن ذلك ضلالٌ، وهؤلاء القانونيون يرونه من الهُدَى، كما دلت الآية على أنه من إرادة الشيطان، عكس ما يتصورُ القانونيون من بُعدِهم من الشيطان، وأنَّ فيه مصلحة الإنسان، فتكونُ على زعمهم مراداتُ الشيطان هي صلاح الإنسان، ومرادَ الرحمن. وما بُعث به سيدُ ولد عدنانٍ معزولاً من هذا الوصف، ومُنَحى عن هذا الشأنِ. وقد قال تعالى مُنكراً على هذا الضرب من الناس، ومقرراً ابتغاءَهم أحكام الجاهلية، موضحاً أنه لا حكمَ أحسن من حُكمهِ: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ). فتأملْ هذه الآيةَ الكريمةَ وكيف دلتْ على أن قِسْمةَ الحكم ثنائيةٌ، وأنه ليس بعد حكمِ الله تعالى إلا حكم الجاهلية، الموضِّح أنَّ القانونيين في زمرةِ أهل الجاهلية، شاءوا أم أبوا، بل هم أسوءُ منهم حالاً، وأكذبُ منهم مقالاً، بل أنَّ أهلَ الجاهليةِ لا تَنَاقُضَ لديهم حولَ هذا الصددِ .وأما القانونيون فمتناقضون، حيثُ يزعمون الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتناقضون ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً، وقد قال الله تعالى في أمثال هؤلاء: ( أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ) ثم انظر كيف ردت هذه الآية الكريمة على القانونيين ما زعموه من حسن زبالة أذهانهم، ونحاتة أفكارهم، بقوله عز وجل: ( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ). قال الحافظ بن كثير في تفسير الآية: ينكر تعالى على من خرج من حكم الله المحْكَمِ المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم (جنكيز خان) الذي وضع لهم كتابا مجموعا من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية، والنصرانية، والملّة الإسلامية، وغيرها. وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا مُتَّبَعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتالُهُ، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحكِّمُ سواه في قليل ولا كثير. قال تعالى: ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يَعدلون. ( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) أي: ومن أعدل من الله في حكمِهِ، لمن عَقَل عن الله شرعَه وآمن به وأيقن، وعلم أن الله أحكمُ الحاكمين، وأرحم بخلقِهِ من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء. - انتهى قول الحافظ بن كثير- وقد قال عز شأنه قبل ذلك مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: ( فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ). وقال تعالى: ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ). وقال تعالى مخبراً نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، بين الحكم بين اليهود والإعراض عنهم وإن جاءوه لذلك: ( فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) والقسط هو: العدل . ولا عدل حقا إلا حكم الله ورسوله، والحكم بخلافه هو الجور، والظلم والضلال والكفر، والفسوق، ولهذا قال تعالى بعد ذلك: ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ )، ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). فانظر كيف سَجَّلَ تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل الله الكفر والظلم والفسوق، ومن المُمْتَنِع أن يُسَمِّي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً ولا يكون كافراً، بل هو كافر مطلقا، إما كفر عمل وإما كفر اعتقاد، وما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية من رواية طاووس وغيره يدل على أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر: إما كفرُ اعتقاد ناقل عن الملة، وإما كفر عمل لا ينقل عن الملة. أما الأول: وهو كفر الاعتقاد فهو أنواع:(1/410)
أحدها: أن يجحد الحاكم ُ بغير ما أنزل الله أحقيَّة حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو معنى ما رُوي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي، وهذا مالا نزاعَ فيه بين أهل العلم، فإن الأصول المتقرِّرةَ المتفق عليها بينهم أن من جحد أصلاً من أصول الدين أو فَرْعاً مُجْمَعاً عليه، أو أنكر حرْفاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قَطعيَّاً فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة.
الثاني: أن لا يجحد الحاكمُ بغير ما أنزل الله كونَ حكم الله ورسوله حقّاً، لكن اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسنُ من حكمِهِ، وأتمُّ وأشملُ لما يحتاجُهُ الناسُ من الحكمِ بينهم عند التنازع، إما مطلقاً أو بالنسبة إلى ما استجدَّ من الحوادث، التي نشأتْ عن تطور الزمان وتغيُّر الأحوال، وهذا أيضا لا ريب أنه كفرٌ، لتفضيلِهِ أحكام المخلوقين التي هي محض زبالة الأذهان وصِرْفُ حُثَالةِ الأفكار على حُكم الحكيم الحميد. وحكم الله ورسولِهِ لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان، وتطور الأحوال ،وتجدد الحوادث، فإنه ما من قضيةٍ كائنةٍ ما كانتْ إلا وحكمُها في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، نصّا أو ظاهراً أو استنباطاً أو غير ذلك ،عَلِمَ ذلك من عَلِمَه وجَهِلَه من جَهِله. وليس معنى ما ذكره العلماءُ من تغيّرِ الفَتْوى بتغيُّر الأحوال ما ظنه من قلَّ نصيبُهم أو عدِمَ من معرفة مدارك الأحكام وعِلَلها، حيث ظنوا أنَّ معنى ذلك بحسب ما يلائم إرادتهم الشهوانية البهيمية، وأعراضَهَم الدنيوية وتصوراتهم، الخاطئة الوبية، ولهذا تجدهم يحامون عليها، ويجعلون النصوصَ تابعة لها منقادة إليها، مهما أمكنهم فيحرفون لذلك الكلم عن مواضِعِه. وحينئذ معنى تغيرُّ الفتوى بتغير الأحوال والأزمان مرادُ العلماء منه: ما كان مُسْتَصْحَبة فيه الأصول الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جِنْسُها مرادٌ لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن أرباب القوانين الوضعية عن ذلك بمعزل، وأنهم لا يقولون إلا على ما يلائم مراداتِهم، كائنة ما كانت، والواقع أصدق شاهد.
الثالث: أن لا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله، فهذا كالنوعين اللذين قبله، في كونه كافرا الكفر الناقل عن الملة، لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، والمناقضة والمعاندة لقوله عز وجل:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ونحوها من الآيات الكريمة، الدالة على تفرد الرب بالكمال، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقين، في الذات والصفات والأفعال، والحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه.
الرابع: أن لا يعتقد كون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلاً لحكم الله ورسوله، فضلا عن أن يعتقد كونه أحسن منه، لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله، فهذا كالذي قبله يَصْدُقُ عليه ما يصدق عليه، لاعتقاده جواز ما علم بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة تحريمه.
الخامس: وهو أعظمُها وأشملُها وأظهرُها معاندةً للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعدادا وإمدادا وإرصاداً وتأصيلا، وتفريعا وتشكيلا وتنويعا وحكما وإلزاما، ومراجع ومستندات. فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستمدات، مرجعُها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلهذه المحاكم مراجع، هي: القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، كالقانون الأمريكي، كالقانون البريطاني، وغيرها من القوانين ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك. فهذه المحاكم في كثير من أمصار الإسلام مهيأةٌ مكملةٌ، مفتوحة الأبواب ،والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب، من أحكام ذلك القانون، تُلْزمُهُم به، وتقرهم عليه، وتحتِّمُه عليهم. فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة .وذِكْرُ أدلة جميع ما قدمنا على وجه البَسْط معلومة معروفة، لا يحتمل ذكرها هذا الموضع. فيا معشر العقلاء! ويا جماعات الأذكياء وأولى النهى! كيف ترضون أن تجري عليكم أحكام أمثالكم، وأفكار أشباهكم، أو من هم دونكم، ممن يجوز عليهم الخطأ، بل خطأهم أكثر من صوابهم بكثير، بل لا صواب في حكمهم إلا ما هو مستمد من حكم الله ورسوله، نصاً أو استنباطاً، تَدَعُونهم يحكمون في أنفسكم ودمائكم وأبشاركم، وأعراضكم وفي أهاليكم من أزواجكم وذراريكم، وفي أموالكم وسائر حقوقِكم ، ويتركون ويرفضون أن يحكموا فيكم بحكم الله ورسوله، الذي لا يتطرق إليه الخطأ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وخضوع الناس ورضوخهم لحكم ربهم خضوع ورضوخ لحكم من خلقهم تعالى ليعبدوه، فكما لا يسجد الخلق إلا لله، ولا يعبدون إلا إياه ولا يعبدون المخلوق، فكذلك يجب أن لا يرضخوا ولا يخضعوا أو ينقادوا إلا لحكم الحكيم العليم الحميد، الرؤوف الرحيم، دون حكم المخلوق، الظلوم الجهول، الذي أهلكته الشكوك والشهوات والشبهات، واستولت على قلوبهم الغفلة والقسوة والظلمات. فيجب على العقلاء أن يربأوا بنفوسهم عنه ، لما فيه من الاستبعاد لهم، والتحكم فيهم بالأهواء والأغراض، والأغلاط والأخطاء، فضلاً عن كونه كفراً بنص قوله تعالى: ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ).(1/411)
السادس: ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر، والقبائل من البوادي ونحوهم، من حكايات آبائهم وأجدادهم، وعاداتهم التي يسمونها (سلومهم)، يتوارثون ذلك منهم، ويحكمون به ويحصلون على التحاكم إليه عند النزاع، بقاءاَ على أحكام الجاهلية، وأعراضا ورغبة عن حكم الله ورسوله، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وأما القسم الثاني: من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو الذي لا يُخْرِجُ من الملة فقد تقدم أن تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله عز وجل ( ومن لم يحكم بما أنزل الله ) قد شَمَلَ ذلك القسم، وذلك في قوله رضي الله عنه في الآية: ( كفر دون كفر) وقوله أيضا ( ليس بالكفر الذي تذهبون إليه ) إ.هـ. وذلك أن تَحْمِلَه شهوتُهُ وهَواه على الحكم في القضية، بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكمَ الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ، ومجانبة الهدى. وهذا وإن لم يخرجْه كفرُه عن الملةِ، فإنه معصيةٌ عظمى أكبرُ من الكبائر، كالزِّنا وشرب الخمر، والسرقةِ واليمين الغموس، وغيرها فإن معصيةً سماها الله في كتابه: كفراً، أعظمُ من معصيةٍ لم يسمِّها كُفْراً. نسأل الله أن يجمع المسلمين على التحاكُم إلى كتابِهِ، انقياداً ورِضاءاً، إنه وليُّ ذلك والقادر عَلَيه إ.هـ.
` نداء إلى علماء المسلمين :
أيها العلماء: إن منزلتكم عند الله عظيمة، فقد رفع الله درجاتكم إلى أعلى درجات قال سبحانه: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ). (18) آل عمران
وقال سبحانه: ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ). (9) الزمر
وهذا تساؤل بمعنى النفي، أي لا يستوي أهل العلم مع غيرهم من الناس، وقد جاء في الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: ( فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورّثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ). رواه الترمذي.
فأنتم أيها العلماء من تقومون بما قام به النبي صلى الله عليه وسلم من دعوة الناس إلى توحيد الله سبحانه والتبرؤ من الشرك وأهله قال سبحانه: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ). (36) النحل
فهذا هو ميراث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ورثتموه عنه فلا تضيعوه فتكونوا كالذي قال الله سبحانه فيه: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ ). (177)الأعراف
أيها العلماء إن عليكم مسؤولية عظيمة هي بيان ما يجب أن يكون عليه المسلمون فلا تكتموا العلم فإن كتم العلم من أعظم الكبائر التي تدخل أصحابها نار جهنم والعياذ بالله قال سبحانه: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). (160) البقرة
وفي الحديث عن أبي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار ). أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم وصححه الحاكم وغيره.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل، من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة، والهدى النافع للقلوب، من بعد ما بينه اللّه تعالى لعباده، في كتبه التي أنزلها على رسله، وقد نزلت في أهل الكتاب كتموا صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وفي الحديث: (من سئل عن عِلْمٍ فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار) أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وروي عن أبي هريرة أنه قال: لولا آية في كتاب اللّه ما حدَّثت أحداً شيئاً ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى) الآية. قال أبو العالية: ( ويلعنهم اللاعنون ) يعني تلعنهم الملائكة والمؤمنون، وقد جاء في الحديث: ( إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحِيتان في البحر)، وجاء في هذه الآية أن كاتم العلم يلعنه اللّه والملائكة والناس أجمعون. ثم استثنى اللّه تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال: ( إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا) أي رجعوا عمّا كانوا فيه، وأصلحوا أعمالهم، وبينوا للناس ما كانوا يكتمونه ( فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)، أ هـ تفسير ابن كثير.(1/412)
فكتم العلم من أكبر الذنوب التي يستحق عليها الناس لعنة الله سبحانه، خاصة إذا كان العلم متعلقاً بمسألة من مسائل العقيدة إذ غاية ما يريده الكافرون هو إخراج المسلمين عن دينهم الحق، وإدخالهم في ديانات باطلة ليكونوا معاً في حزب الشيطان، قال تعالى: ( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ). (109) البقرة
وقال سبحانه: ( وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ). (120) البقرة
قال ابن جرير: يعني بقوله جلّ ثناؤه: ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبداً، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم وأقبل على طلب رضا اللّه في دعائهم إلى ما بعثك اللّه به من الحق. وقوله تعالى: ( قل إن هدى الله هو الهدى) أي قل يا محمد إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى، يعني هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل ( ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) فيه تهديد شديد ووعيد للأمة في اتباع طرائق اليهود والنصارى، بعدما علموا من القرآن والسنّة - عياذاً باللّه من ذلك - فإن الخطاب مع الرسول والأمر لأمته، وقد استدل كثير من الفقهاء بقول: ( حتى تتبع ملتهم) حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة كقوله تعالى: ( لكم دينكم ولي دين)، فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفّار، وكلٌ منهم يرث قرينه سواء كان من أهل دينه أم لا لأنهم كلهم ملة واحدة. أ هـ تفسير ابن كثير.
فالكافرون لا يريدون لهذه الأمة الخير، ولا يحبونه لها، بل هم يعملون جاهدين حتى يحولوا دون أن تحقق الأمة أي مصلحة تنتفع بها قال سبحانه: ( مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ). (105) البقرة
فهم الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله قال سبحانه: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ). (36) الأنفال
إن الكافرين يبذلون كل قوة مستطاعة مادية ومعنوية ليصدوا المسلمين عن دينهم الحق حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، فهل نقع فيما وقعوا فيه فنصد عن سبيل الله عن علم وبينة؟
إن علماء الكفر والزندقة يعرفون الحق كما يعرف أحدهم ابنه ومع ذلك أعرضوا عنه اتباعاً لأهوائهم وشهواتهم قال سبحانه: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ). (146) البقرة
وقال سبحانه: ( آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ). (21)الأنعام
وقال سبحانه: ( كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ). (89) آل عمران
فبماذا يختلف عنهم علماء المسلمين إن هم كتموا الحق وعملوا ضده؟ حتماً سينالهم ما نال غيرهم من الذين كتموا العلم، أبرز ذلك اللعنة أعاذنا الله سبحانه منها.
` كلمة أخيرة لك أخي المسلم :
إن الله سبحانه خلقك لعبادته، ونهاك عن عبادة غيره، ولا يتحقق لك ذلك إلا بالإيمان الذي لا يتخلله شرك، ومن الشرك الذي يجب عليك أن تتبرأ منه وتظهر العداوة والبغضاء له شرك التحاكم إلى غير شرع الله سبحانه، فاعمل أخي حفظك الله تعالى على نشر التوحيد ونبذ الشرك بكافة أشكاله حتى تفوز الفوز العظيم، واعلم أن الجنة لا تنال إلا بالتضحيات العظيمة التي يدل عليها صدق المواقف قال سبحانه: ( الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ). (3) العنكبوت
وقال سبحانه: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ). (214) البقرة(1/413)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: يقول تعالى: ( أم حسبتم أن تدخلو الجنة) قبل أن تُبتلوا وتُختبروا وتُمتحنوا، كما فُعل بالذين من قبلكم من الأمم ولهذا قال: ( ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء ) وهي الأمراض والأسقام والآلام، والمصائب والنوائب. قال ابن مسعود: ( البأساء) الفقر، ( الضراء) السقم، ( وزلزلوا) خُوِّفوا من الأعداء زلزالاً شديداً وامتُحنوا امتحاناً عظيماً، كما جاء في الحديث عن خباب بن الأرت قال: قلنا يا رسول اللّه ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا فقال: (إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه، لا يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دينه)، ثم قال: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون) رواه البخاري.
وقال تعالى: ( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة رضي اللّه تعالى عنهم في يوم الأحزاب، كما قال الله تعالى: ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدا ) ولما سأل هرقل أبا سفيان هل قاتلتموه قال: نعم، قال: فكيف كانت الحرب بينكم؟ قال: سجالاً يدال علينا وندال عليه، قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة.
وقوله تعالى: ( مثل الذين خلوا من قبلكم) أي سنتهم كما قال تعالى: ( فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين) وقوله: ( وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ) أي يستفتحون على أعدائهم ويدعون بقرب الفرج والمخرج عند ضيق الحال والشدة. قال الله تعالى: ( ألا إن نصر اللّه قريب)، كما قال: ( فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسرا) وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها ولهذا قال: ( ألا إن نصر الله قريب) .أهـ تفسير ابن كثير
النصر يحتاج إلى صبر وعزيمة وثبات ، ولكن لا بد أن يحقق المسلمون الصادقون ما سعوا إلى تحقيقه، فهذا وعد الله سبحانه لهم قال سبحانه: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ). (55) النور
وقال الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله: ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ). الآية، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين، يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده لا شريك له سرا وهم خائفون، لا يؤمرون بالقتال، حتى أُمِروا بعد بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح، فغيروا بذلك ما شاء الله. ثم إن رجلاً من أصحابه قال: يا رسول الله، أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا فيه السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لن تغبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليست فيهم حديدة ). وأنزل الله هذه الآية، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله، عز وجل، قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا، فأدخل الله عليهم الخوف فاتخذوا الحجزة والشُرَط وغيروا، فغير بهم. أهـ تفسير ابن كثير.
يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ منكم ) أيها الناس، ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) يقول: وأطاعوا الله ورسوله فيما أمراه ونهياه ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ ) يقول: ليورثنهم الله أرض المشركين من العرب والعجم، فيجعلهم ملوكها وساستها ( كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يقول: كما فعل منْ قبلهم ذلك ببني إسرائيل، إذ أهلك الجبابرة بالشأم، وجعلهم ملوكها وسكانها ( وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ) يقول: وليوطئنّ لهم دينهم، يعني: ملتهم التي ارتضاها لهم، فأمرهم بها. وقيل: وعد الله الذين آمنوا، ثم تلقى ذلك بجواب اليمين بقوله: ( ليستخلفنهم ) لأن الوعد قول يصلح فيه ( أن ) ، وجواب اليمين كقوله: وعدتك أن أكرمك، ووعدتك لأكرمنك. جامع البيان.
روى البخاري في صحيحه وأبو دواد وأحمد والطبري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يارسول الله؟ ألا تستنصر لنا ربك؟ قال: فجلس وكان متكئاً على برد له في ظل الكعبة وقال: ( كان ممن كان قبلكم يؤتى بالرجل فيحفر له ويدفن إلى قامته، ويشق بمنشار الحديد فلقتين ويمشط ما بين لحمه وعظمه وعصبه بأمشاط الحديد ولا يثنيه ذلك عن دينه شيئاً والذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون ).(1/414)
فالنصر لا يكون إلا بعد الابتلاء والصبر، فمهما طال فساد القوم وغطرستهم سيأتي يوم يكون النصر فيه إن شاء الله للمؤمنين، فكن أحد العالمين لهذا الدين من الذين قال تعالى فيهم : ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) . (23) الأحزاب.
نفعني الله وإياك بهذه الرسالة الموجزة، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتب: إبراهيم بن عبد العزيز بركات
3 صفر 1426 هجري ... ...
================
فقه الولاء والبراء في ضوء الحروب الصليبية
د. محمد عمر دولة*
الحمد لله الكبير المتعال، القائل في كتابه العزيز: ((ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. وإنّ جندنا لهم الغالبون)) [سورة الصافات: 171-173]، والقائل جل جلاله: ((وكان حقاً علينا نصر المؤمنين)) [سورة الروم: 47]. والصلاة والسلام على إمام المجاهدين، وسيّد المرسلين, القائل: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق لا يضرُّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس) [رواه أحمد والشيخان]. وبعد.. فهذه أيامٌ مِن أيامِ الله, أيامٌ نلمس فيها فتناً وحروباً ودماءً, ولكننا نلمح فيها بشائر عزٍّ للإسلام، وضياءٍ للحقِّ، وتوكّلٍ على الله, ونستشرف يقظةً للأمة وجهاداً وبلاءً. فهي أيامٌ فاصلة, كما كانت بدر فارقةً بين استضعاف الكُفَّار للمسلمين, وانتصار أهل الإسلام على من ظلمهم وعاداهم من الكافرين ((يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)) [سورة الأنفال: 41]، وهذا وعد الله الذي لا يتخلّف، وسنته التي لا تتبدّل ((يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفِّر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم)) [سورة الأنفال: 29].
أولاً: واقع الأمة الإسلامية:
إنّ لهذه الأيام وشيجةً تصلها بسنن الله الماضية في الأمم السالفة, ولها ـ بإذن الله ـ بشائر في نهضة هذه الأمة القاهرة للملل الكافرة. فقد تحوّلت هموم الشباب المسلم إلى العلم والدعوة والجهاد, فتحلّقوا حول علماء الأمة، الذين حاول الأعداء طمسَ دورهم في تربية المسلمين وتزكيتهم ((والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون)) [سور يوسف: 21].
فقد فشلت خطط الظالمين في تجفيف ينابيع التدّين الموجَّهة إلى مناهج التعليم ووسائل الإعلام لإفساد شباب الأمة، وإشغالهم بسفاسف الأمور، والتحم علماء الأمة الأبرار ـ والرائد لا يكذب أهله ـ بشبابها الأخيار،
على الرغم من الحملات الضارية من الغزو الثقافي, والترسانة الضاربة مِن التدخُّل الاستعماري عند سقوط الخلافة الإسلامية. فقد كان أعداء الأمة يطمعون أن لا تقوم للإسلام قائمة بعد ما قضوا على الخلافة الجامعة للمسلمين, واستعاضوا عنها بسياسة تابعةٍ لهم, نابعةٍ من المنظومة الفكرية الاستعمارية (والمغلوب مُولع بتقليد الغالب) كما قال ابن خلدون, وقد تمثّل ذلك في الدساتير العلمانية للدول الإسلامية, والأحكام الوضعية المناقضة لهوية الأمة وشريعتها الربّانية.
ولا شكَّ أنّ نجاح الأعداء ـ على مدى عقود من القرن الماضي ـ في إفراغ العالم الإسلامي من كلّ نَبْض إسلامي حقيقي راجعٌ إلى إبعاد الإسلام ـ كنظام سياسي واقتصادي واجتماعي ـ من حياة المسلمين؛ ليصبح الدين مجرّد شعائر قاصرة في ظل الشريعة الغائبة. فإنّ أمة الإسلام لا تحيا إلا بشرائعها وشعائرها معاً (وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب) [رواه البخاري]؛ فإنه يقود الحياة كلَّها بقيم الإسلام ومبادئه وأخلاقه في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية والإعلام، ((قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له)) [سورة الأنعام: 162]، ((قل أغير الله أبغي رباً وهو ربُّ كل شيء)) [سورة الأنعام: 164]، ((ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)) [سورة الملك: 14]. وقد كان طبيعياً ـ بعد غياب الإسلام بأنظمته الشرعية وهويّته الحضارية ـ أن تضعف مكانة الأمة, وتضمحلّ شعاراتها, وتتساقط راياتها, فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير!! بالرايات العميّة والقوانين الوضعية والأنظمة الجاهلية قومية كانت أو علمانية أو إلحادية!!(1/415)
ولا شكّ أنّ الأعداء قد أوشكوا أن يصيبوا الأمة في مقتل يوم أن أوهنوا في قلوب المسلمين عقيدة الولاء والبراء, حتى كاد المسلم والكافر أن يكونا في رأيهم سواءً, بل ملأ الرويبضات عقيدة الأمة الإسلامية ـ في التعليم والإعلام وغير ذلك ـ بالضآلة النفسية تجاه القوة المادية الغربية, وأشعروهم بالضّحالة الفكرية للمسلين في مقاومة نظريات الكافرين والعلمانيين, فأولئك هم المسؤولون عن هزائم المسلمين في حروبهم الخاسرة؛ لأنّ فيهم (قابلية الاستعمار) بتعبير مالك بن نبي, وروح الهزيمة والصّغار, فهم عوامل النكسة العربية ومعاول الهدم في صرح الحضارة الإسلامية؛ لأنهم يعيشون اغتراباً عن الأمة, وانحيازاً إلى أعداء الملة فهم بتعبير بعض المؤلِّفين بمثابة (جُزُر في أوطانهم). وما ظنّك بعامة العلمانيين؟ إذا كان عميد الأدب العربي [كما سمّاه المستغربون، وإلاّ ففي أترابه من هو خيرٌ منه فكراً وأسلوباً، منهم أديب الإسلام مصطفى صادق الرافعي رحمه الله. والأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة سنين خدّاعة، يُتّهم فيها الأمين، ويُؤتمن الخائن، ويُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق...). رواه الطبراني، والحاكم في الكُنى، وابن عساكر، كما في كنز العمّال: 38511.] طه حسين ـ رمز الثقافة المنبتّة عن الأمة ـ ينادي بأعلى صوته: "لو أننا هممنا الآن أن نعود أدراجنا، وأن نحيي النظم العتيقة لما وجدنا إلى ذلك سبيلاً, ولوجدنا أمامنا عِقاباً لا تُجاز ولا تذلّل, عقاباً نُقيمها نحن, وعِقاباً تُقيمها أوروبا؛ لأننا عاهدناها أن نسايرها ونجاريها في طريق الحضارة)! [مستقبل الثقافة في مصر الجزء الأول: 36-37]فقد حاز سبع هزائم: الأولى: أنه لا يقدر أن يحيي نُظُم الإسلام ((ومن يُهِنِ الله فما له من مكرم))!! [سورة الحج: 18] الثانية: أنه يراها عتيقةً ما عادت صالحة للذين يُبدّلون ويغيّرون ويلبسون لكل مناسبة لَبوساً!! الثالثة: أنه لا يقدر أن يَهِمَّ بذلك مجرّد الهمِّ، وكفى بذلك همّاً وغمّاً!! الرابعة: أنه يعترف بتبعيّته، ولا يستنكف من عبوديته للغرب!! الخامسة: أنه يَرعى عهده مع أوربا ولا يراعي عهده مع الله في إحياء النظم العتيقة!! السادسة: أنه يخشى أوربا؛ لأنها وضعت أمامه عِقاباً لا تُجاز ولا تُذلّل!! السابعة: ـ وهي عار الدهر! ـ أنه ذلّل نفسه لخدمة أوربا, وأذلّها لعز الكافرين! وذلك ظاهر في قوله "عِقاباً نُقيمها نحن" فاستعماره عميق في داخله, واستلابه عتيق يملأ عليه أرجاء فؤاده!
فالحقيقة ـ التي لا يُمارِي فيها عاقلٌ منصف ـ أنّ الذين ضيّعوا الحضارة الإسلامية وعطّلوا نهضة الأمة هم العلمانيّون الذين أحسن وصفهم العلامة أحمد شاكر فالواحد منهم قد "استولى المبشرون على عقله وقلبه, فلا يرى إلا بأعينهم, ولا يسمع إلا بآذانهم, ولا يهتدي إلا بهديهم, ولا ينظر إلا على ضوء نارهم يحسبها نوراً, ثم هو قد سمّاه أبواه باسم إسلامي, وقد عُدّ من المسلمين ـ أو عليهم ـ في دفاتر المواليد وفي سجلات الإحصاء, فيأبى إلا أن يدافع عن هذا الإسلام الذي أُلبِسَه جنسيةً ولم يعتقده ديناً, فتراه يتأوّل القرآنَ ليُخضعه لما تعلّم من أُستاذيه، ولا يرضى من الأحاديث حديثاً يخالف آراءهم وقواعدهم, يخشى أن تكون حجتهم على الإسلام قائمة!!" [حراسة الفضيلة للشيخ بكر أبو زيد: 160]، وما أصدق ما وصفهم به الأديب الكبير كامل كيلاني بـ (المجدِّدينات)، مبيّناً أنّ هذا (جمع مخنث سالم!) [المرجع السابق]، وصدق الله العظيم القائل: ((ولا تكونوا من المشركين. من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون)) [سورة الروم: 31-32].
فوالله ما ضيّع فلسطينَ ـ بعد أن فتحها عمر رضي الله عنه وحرّرها صلاح الدين ـ إلا هؤلاء العلمانيون, وما أسَرَ اليهود فلسطين الغراء من أيدينا, إلا بسبب ضعف الولاء والبراء في قلوبنا. نسأل الله أن يردّنا إلى رشدنا.
ثانياً: مكانة الولاء والبراء في القرآن الكريم:
إنّ دارس الكتاب العزيز, يرى أنّ الآيات الشريفة المتعلّقة بهذا الموضوع كثيرة جداً، بحيث يتبيّن لكل عاقل عظمة هذه القاعدة في دين الله. فليس الولاء والبراء قضيةً فرعية أو من باب الآداب أو فضائل الأعمال أو المسائل الخلافية التي يعذر فيها بعضنا بعضاً. ولكنه ركنٌ من أركان العقيدة, وأساسٌ من أُسُس الإيمان، وقاعدةٌ من قواعد الإسلام، من تركها فقد ترك الدين, ومن أخذ بها فقد هُدي إلى صراطٍ مستقيم.
[1] فقد فرض الله على المسلمين أن يتولى بعضهم بعضاً, وأن ينصر بعضهم بعضاً ((إنما المؤمنون إخوة)) [سورة الحجرات: 10]، ((إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون. ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون)) [سورة المائدة: 55]، قال الحافظ ابن كثير: "هذه الآيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت رضي الله عنه حين تبرأ من حلف اليهود, ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين؛ ولهذا قال تعالى: ((كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي إنّ الله قوي عزيز. لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون)) [سورة المجادلة: 21-22]، فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين فهو مفلحٌ في الدنيا والآخرة, ومنصورٌ في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال تعالى في الآية الكريمة: ((ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون))" [تفسير القرآن العظيم: 2/105].(1/416)
وقال سبحانه وتعالى: ((إنّ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض)) [سورة الأنفال: 72]، قال ابن كثير رحمه الله :"أي كل منهم أحقُّ بالآخر من كل أحد؛ ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، كلُّ اثنين أخَوَانِ" [تفسير القرآن العظيم: 2/433].
[2] حسم القرآن مسألة انتساب اليهود والنصارى إلى موسى وعيسى عليهما السلام؛ لئلا يغترَّ المسلمون بكون أولئك من (أهل الكتاب)؛ فبيّن عز وجل كفر اليهود والنصارى وتحريفهم الكتب السماوية, وبراءة أنبياء الله منهم ((لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة)) [سورة المائدة: 73]، ((وقالت اليهود عزيرٌ ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنّى يؤفكون)) [سورة التوبة: 31]. وأظهر الله تعالى كذبهم في دعوى النسبة الإبراهيمية, فقال جل جلاله: ((ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين)) [سورة آل عمران: 67]، ((وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين)) [سورة البقرة: 135], كما صرَّح عز وجل بأن الإسلام ناسخٌ لما قبله من الأديان؛ فلا يقبل الله دينا سواه ((إنّ الدين عند الله الإسلام)) [سورة آل عمران: 19]، ((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)) [سورة آل عمران: 85]. وهذا ـ لعمري ـ ركنٌ عظيم من قاعدة الولاء والبراء؛ لأنه تحريرٌ للمفاهيم الشرعية من تلبيس العلمانيين, ودفعٌ لشبهات المنافقين الذين يريدون نقض عُرى الإسلام وإرضاءَ الكافرين بالدعوة إلى الإبراهيمية ووحدة الأديان ((إنّ أولى الناس بإبراهيم لَلَّذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين)) [آل عمران: 68].
[3] نهى القرآن عن اتخاذ الكافرين أولياء؛ لأنهم أعداء الله ورسوله والمؤمنين, فقال عز وجل: ((لا يتخذِ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء)) [سورة آل عمران: 28]، قال ابن جرير:"قد برئ من الله وبرئ الله منه؛ لارتداده عن دينه ودخوله في الكفر"، وقال ابن كثير:"نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين, وأن يتّخذوهم أولياء يُسِرّون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعّد على ذلك فقال تعالى: ((ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيءٍ)) أي: ومن يرتكب نهي الله في هذا فقد برئ من الله كما قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تُلقون إليهم بالمودة)) إلى أن قال: ((ومن يفعله منكم فقد ضلَّ سواء السبيل)) [سورة الممتحنة: 1] وقال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين. أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً))" [تفسير القرآن العظيم: 1/466]، وليت شعري ما عذر المسلمين عند الله في موالاة الكافرين الذين وصفهم رب العالمين بأنهم: ((لا يرقُبون في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذمّةً وأولئك هم المعتدون))؟! [سورة التوبة: 10].
[4] حَكَم الله جل جلاله بالكفر على من والى الكافرين وظاهرهم على المسلمين، فقال تبارك وتعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض. ومن يتولهم منكم فإنه منهم إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين)) [سورة المائدة: 51]، قال ابن جرير:"ومن تولاّهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملّتهم؛ فإنه لا يتولى متولٍّ أحداً إلا وهو به ـ وبدينه وما هو عليه ـ راضٍ. وإذا رضيه ورضيَ دينه فقد عادى ما خالفه وسَخَطَه وصار حكمُه حكمَه"، قال عز وجل: ((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون. ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنّ كثيراً منهم فاسقون)) [سورة المائدة: 80-81]. وقال تبارك وتعالى: ((بشّر المنافقين بأنّ لهم عذاباً أليماً. الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. أيبتغون عندهم العزة فإنّ العزة لله جميعاً)) [سورة النساء: 138-139] وقال عز وجل: ((يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من أهل الكتاب يرُدّوكم بعد إيمانكم كافرين)) [سورة آل عمران: 100]، وهذا من صميم الولاء والبراء يشهد لذلك قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردّوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين. بل الله مولاكم وهو خير الناصرين)) [سورة آل عمران: 149-150].
[5] أبان الله تعالى مقدار العداوة التي يُكنّها الكفّار للمسلمين، والتي لا يمكن أن تخالطها محبّة؛ لأنها عداوة في الدين، كما قال الشاعر:(1/417)
وأوضح تبارك وتعالى لعباده المسلمين أنّ الكفار لن يرضوا عنهم حتى يفارقوا دينهم الحق ويكونوا أتباعاً للدين الباطل فقال سبحانه: ((ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتّبع ملتهم)) [سورة البقرة: 120]، وقال عزّ وجلّ: ((ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً)) [سورة النساء: 89]، وقال جلّ جلاله: ((ودّ كثير من أهل الكتاب لو يرُدّونكم من بعد إيمانكم كفّاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيَّن لهم الحقّ)) [سورة البقرة: 109]. ومن ثَمّ جاءت الآيات تفضح الذين يُلقون إليهم بالمودة, والذين يسارعون فيهم, والذين يخشونهم, والذين يبتغون عندهم العزّة؛ لتنزع هذه الآيات من قلوب المسلمين تلكم العواطف الكاذبة والصداقات الباطلة ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتُّم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبر قد بيّنا لكم الآيات إن كنتم تعقلون. ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كلِّه وإذا لقوكم قالوا آمنّا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ. قل موتوا بغيظكم إنّ الله عليم بذات الصدور)) [سورة آل عمران: 118-119].
فيتبين مما سبق أنّ هذا الأمر عظيمٌ وجليل، أمر إيمانٍ وكفر, كما قال ابن كثير في تفسير قول الله تعالى: ((إلاّ تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير)) [سورة الأنفال: 73]، "أي: إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين. وإلاّ وقعت فتنةٌ في الناس وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين؛ فيقع بين الناس فسادٌ منتشرٌ عريضٌ طويل" [تفسير القرآن العظيم: 2/435].
فينبغي على المسلم أن يحتاط لدينه وأن يراجع أمره، وأن يُخلص الولاء للمسلمين والبراء من المشركين. وصدق الله العظيم: ((قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده)) [سورة الممتحنة].
ثالثاً: مكانة الولاء والبراء في السنة النبوية:
لقد جاءت نصوص السنة واضحةً جليَّةً في عقيدة الولاء والبراء، ويمكن بيان الهدْي النبويِّ في المعالم التالية:
[1] حدّد النبي صلى الله عليه وسلم الأُخوّة في الدّين رابطاً بين المسلمين كما جاء في صحيح مسلم: (المسلم أخو المسلم)، وجاء في الصحيحين: (كونوا عباد الله إخواناً).
[2] رتّب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وجوب المحبّة والنصرة والتأييد بحيث (لا يُسلمه ولا يظلمه) (ولا يخذله) كما في حديث الصحيحين، وجاء في أحمد والترمذي: (والذي نفسي بيده لا تؤمنوا حتّى تحابّوا)، وفي الصحيحين: (لا يؤمن أحدكم حتى يحبُّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه). وورد في أبي داود: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمّتهم أدناهم، ويُجير عليهم أقصاهم، وهم يدٌ على مَن سواهم)، و(المؤمن أخو المؤمن يكفّ عنه ضيعته، ويحوطه من ورائه)، وفي مسلم: (المسلمون كرجل واحد إذا اشتكى رأسه اشتكى كلّه، وإذا اشتكى عينه اشتكى كلّه)، وفي الصحيحين: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً). قال الحافظ ابن رجب: "إنّ الأخ من شأنه أن يوصل لأخيه النفع، ويكفّ عنه الضر. ومن أعظم الضرر الذي يجب كفّه عن الأخ المسلم: الظلم" [جامع العلوم والحكم: 441]. وقال يحيى بن معاذ الرازي: "ليكن حظّ المؤمن منك ثلاثة: إن لم تنفعه فلا تضرّه، وإن لم تُفرحه فلا تَغُمّه، وإن لم تمدحه فلا تذمّه" [المرجع السابق: 446].
[3] قرّر النبي صلى الله عليه وسلم أن الولاء والبراء من العقائد التي لا يصح إسلام العبد إلا بها، ومن أعظم الشواهد على صدق الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم: (أوثق عُرى الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله) [رواه أحمد].
وكفى بذلك دليلاً على خطورة هذا الأمر وضرورة أن يعالج المسلم ما يعتريه في ذلك من خللٍ ويهتدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً)) [سورة الأحزاب: 21].
رابعاً: مظاهر الولاء للكفار في زماننا : [أفاد ذلك الشيخ: عبد الحي يوسف في دروس تفسير آيات الأحكام في رمضان 1421هـ، وذلك بتصرف يسير]
[1] الرضا بكفر الكافرين، وعدم تكفيرهم [وقد أفتى علماء الإسلام في لجنة الفتوى والبحوث بجامعة القرآن الكريم بكفر من قال بإيمان اليهود والنصارى]، أو الشك في كفرهم، أو تصحيح أي مذهب من مذاهبهم الباطلة، أو السماح لهم بترويج كفرهم والدعوة إليه ونشره بين المسلمين. ويدخل في ذلك ما يسمّى بمؤتمرات حوار الأديان التي تهدف إلى إزالة الفوارق بين الإسلام والديانات المحرّفة, وتجاوز الخلاف العقدي بين المسلمين وغيرهم.
[2] التولِّي العام، واتخاذهم أعواناً وأنصاراً، ومداهنتهم على حساب الدين. قال تعالى: ((ودّوا لو تُدهن فيُدهنون)) [سورة القلم: 9]. ومن ذلك مشاركتهم في أعيادهم أو تهنئتهم بها, قال تعالى: ((والذين لا يشهدون الزور)) [سورة الفرقان: 72] أي أعياد المشركين. ومنه أيضا زيارة الكنائس والمعابد الشركيَّة التي يُسبُّ فيها الله تعالى ويُكفَر به.(1/418)
[3] طاعتهم فيما يشيرون به وتوليتهم أمور المسلمين مع أنّ التولية شقيقة الولاية, لذلك كانت توليتهم المناصب نوعاً من توليهم، وقد حكم الله أنَّ من تولاهم فإنه منهم قال الإمام ابن حزم: "صحّ أنّ قول الله تعالى: ((ومن يتولّهم منكم فإنه منهم)) إنما هو على ظاهره فإنه كافرٌ من جملة الكفار, وهذا حقٌّ لا يختلف فيه اثنان من جملة المسلمين". أخرج الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:"قلت لعمر رضي الله عنه: لي كاتب نصراني. قال: مالك قاتلك الله! أما سمعت قول الله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء)) [سورة المائدة: 51]، ألا اتخذت حنيفاً ـ مسلماً ـ . قلت: يا أمير المؤمنين! لي كتابته وله دينه. قال: لا أُكرمهم إذ أهانهم الله, ولا أُعزّهم إذ أذلّهم الله, ولا أُدنيهم وقد أقصاهم الله". وأقرب مثال على عاقبة ذلك ما حدث بنيجيريا ((فاعتبروا يا أولي الأبصار)) [سورة الحشر: 2].
[4] تعظيمهم وإطلاق الألقاب عليهم, وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقال للمنافق: يا سيّد [رواه أبو داود بإسناد صحيح، كما في رياض الصالحين بتخريج الألباني], والكافر من باب أولى, ونهى أيضاً عن ابتداء الكافرين بالسلام, قال صلى الله عليه وسلم: (لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام) [رواه مسلم].
[5] التآمر معهم، وتنفيذ مخططاتهم، والدخول في أحلافهم وأحزابهم وتنظيماتهم, والتجسس من أجلهم، ونقل عورات المسلمين وأسرارهم إليهم، والقتال في صفهم.
خامساً: شواهد تاريخية على خطورة الغفلة عن الولاء والبراء:
لقد أقام الله الحجة على المسلمين بتنبيههم إلى ضرورة أخذ الاحتياط من الكفّار المعتدين، فقد أمر المسلمين أن لا يركنوا إلى الظالمين فإنهم لا أيْمان لهم ولا إيمان، ومنع مجالسة الخائضين في دين الله بالاستهزاء، وذلك دأْب الكافرين والمنافقين، وأبان سبحانه حقيقةً في منتهى الأهمية وغاية الخطورة وهي أن الكفر شرٌّ مستطير، وشأن الباطل الاعتداء كما قال رب العالمين: ((والكافرون هم الظالمون)) [سورة البقرة: 254]. وشرع تعالى من الأحكام ما يذكّرهم بذلك كما في صلاة الخوف، وأوجب أخذ الحذر والاحتياط من مهاجمة الكفّار لهم ((هم العدوّ فاحذرهم)) [سورة المنافقون: 4]، ((يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم)) [سورة النساء: 71]، ((ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلةً واحدة)) [سورة النساء: 102].
وهذا كلّه يقوّي في نفس المسلمين البراء من المشركين، ويجعلهم مستعدّين لمقارعتهم في كلّ حين، أما الغفلة عن ذلك فمن أكبر المصائب، إذ تؤدي إلى أن تحلّ بأهل الإسلام أعظم النوائب.
ولنضرب على ذلك مثلين:
[1] الغفلة عن الخطر المغولي المهدد للأمة:
فقد قصّر المسلمون في القرن السابع الهجري في الإعداد للجهاد في سبيل الله, والتأهُّب لحماية الأمّة من خطر التتار الدّاهم، لاسيما بعدما رأوْا جرائم المغول ضدّ كلّ الملل، حتى لُقِّب هولاكو بـ (مبيد الأمم). ولكن كلّما ضَعُفت في المسلمين روح الولاء والبراء، وشغلتهم الدنيا، وفرّقتهم الأهواء؛ تسلّط عليهم الأعداء. وما شأن الأندلس ببعيد، فقد ضيّعها ملوك الطوائف الغارقون في الشهوات، حين غفلوا عن عداوة النصارى لهم؛ فما شعروا إلاّ بسنابك الخيل تدكُّ عروشهم، كما قال ابن رشيق:
وهكذا حدث في بغداد، فقد حكى الذهبي هذه الهجمة بقوله: "قصد الطاغية هُولاكو بغداد بجيوشه.. ودخل التتار بغداد واقتسموها.. وبقي السيف يعمل أربعة وثلاثين يوماً، وقَلَّ من سَلِم. فبلغت القتلى ألفَ ألفٍ وثمانمائة ألف وزيادة.. وإنّا لله وإنّا إليه راجعون" [دول الإسلام للذهبي: 2/159-160]، وقال أيضاً: "حتى اشتد الوباء بالشام ـ ولا سيما بدمشق وحلب ـ لفساد الهواء" [العبر في أخبار من عبر للذهبي: 3/171].
فهذه الغفلة عن عداوة الكفّار للمسلمين قد نكبت الأمّة بأعظم مصابٍ حلَّ بها حتى فُجع أفذاذ المؤرخين منذ مطلع القرن السابع، وشقَّ على بعضهم أن يصوّر ما أَلَمّ بأمّة الإسلام. فقد كتب ابن الأثير صفحاتٍ مبكيةً حكى فيها نكبة المسلمين ونكستهم في تلك الأيام، حتى تمنّى أن لم يكن حاضراً تلك النائبة العظيمة، فقال رحمه الله: " لقد بقيتُ ـ عدّة سنين ـ مُعْرِضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدّم رِجلاً وأؤخر أخرى. فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فياليت أمّي لم تلدني! ويا ليتني مِتُّ قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً!" [الكامل في التاريخ: 12/358].
[2] خيانة الشيعة الروافض للأمة الإسلامية، وتحالفهم مع التتار والصليبيين لحرب المسلمين:(1/419)
وقد كان ذلك دلالةٌ بيّنةٌ على كفرهم وخلوِّ قلوبهم من ولاء المسلمين ومعاداة الكافرين، بل كانوا برآء من المسلمين أولياء للكافرين. وكذلك المسلمون ـ بحمد الله ـ برآء منهم. وما الذي يُرجى ممّن يكفّر الصحابة الكرام ويُظهر العداوة لأهل السنّة؟ فقد استَعْدَوا المغول على المسلمين، واستَدْعَوْهم إلى حاضرة الإسلام ومدينة السلام بغداد؛ فما خرجوا منها حتى جعلوها خراباً. فقد خان الروافض أمة محمد صلى الله عليه وسلم بثمنٍ بخسٍ وكانوا فيها من الزاهدين قال الذهبي: "ثارت فتنةٌ مهولةٌ ببغداد بين أهل السنة والرافضة؛ أدّت إلى نهبٍ عظيمٍ وخراب, وقتل عِدة من الرافضة؛ فغضب لها وتنمّر ابن العلقمي الوزير وجسّر التتار على العراق ليشتفي من السنة". وبيّن أنّ هذا الوزير الرافضي: "قرّر مع هولاكو أموراً فانعكست عليه وعضّ يده ندماً... فمات غبناً وغمّاً لا رحمه الله" [دول الإسلام: 2/159، والعبر: 3/277]، "فقد خدع السلطان وأوهمه بأنّ هولاكو سيصالحه "فأخرجه وأكابر الوقت؛ فضُربت رقاب الجميع" [المرجعان السابقان]. وذلك شأن الروافض دائماً فإنّ أصول اليهود حيّة فيهم، لا تنقضي عنهم صفات المكر والخديعة والكيد والخيانة للمسلمين وعدم النظر في العواقب, فقد حكى ابن الأثير أنّ الإسماعيلية ـ وهم من غلاة الرافضة الباطنية ـ استدعوا المغول لقتال جلال الدين الخوارزمي وكشفوا لهم عن نواحي ضعفه [الكامل في التاريخ: 9/283]. وجاء في [النجوم الزاهرة] لابن تغري بردي أنه لما قُتل جلال الدين الخوارزمي "دخل جماعة على الأشرف موسى" وكان حاكم أهل السنة فهنئوه بموته. فقال: تهنئوني به وتفرحون! سوف ترون غِبَّه! والله لتكوننّ هذه الكسرة سبباً لدخول التتار إلى بلاد الإسلام. ما كان الخوارزمي إلا مثل السُدِّ الذي بيننا وبين يأجوج ومأجوج" قال ابن تغري بردي: "فكان كما قال الأشرف" [النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: 6/277].
ورحم الله العلامة محمد كرد علي فقد قال في [خطط الشام]: "الغريب أن شيعة جبل عاملة كانوا من حزب الصليبيين على المسلمين إلاّ قليلاً، كما كان هوى الموارنة مع الصليبيين ويعملون عندهم أدلاّء وتراجمة" [خطط الشام: 2/14، نقلاً عن أيعيد التاريخ نفسه؟ لمحمد العبدة: 40]، قال الذهبي: "وضاع أمر الإسلام بدولة بني بويه وبني عبيد الرافضة، وتركوا الجهاد، وهاجت نصارى الروم وأخذوا المدائن" [سير أعلام النبلاء 16/232، نقلاً عن أيعيد التاريخ نفسه؟: 67]، وقد فضح هؤلاء الباطنية على أيدي علماء الإسلام من أمثال ثابت بن سنان في [تاريخ أخبار القرامطة]، وعلي بن نصر في: [الرد على الباطنية]، وقد خصّهم أبو شامة بكتاب سمّاه: [كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والمكر والكيد]، وقال الحافظ ابن كثير: "جلس أميرهم أبو طاهر ـ لعنه الله ـ على باب الكعبة وهو يقول: "أنا الله، أنا أخلق الخلق وأفنيهم"، قال ابن كثير: "ولم يعجّل الله سبحانه وتعالى بعقوبةٍ على هؤلاء الملحدين كما عجّلها على أصحاب الفيل وهم نصارى، وهؤلاء شرٌّ من اليهود والنصارى والمجوس" [البداية والنهاية: 11/160].
ومن اطلع على تاريخ الحروب الصليبية ـ لا سيما [كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية] ـ عرف دور الروافض والباطنية في حرب الإسلام؛ ولذلك عقد الحافظ أبو شامة فصولاً عدةً في بيان كيدهم ومكرهم وعداوتهم للمسلمين، فهم الذين حاولوا قتل صلاح الدين مرتين [مختصر كتاب الروضتين: 188-191]، وكشف رحمه الله كذبهم وزورهم فقال: "كثرت الرافضة واستحكم أمرهم.. وأفسدت عقائد طوائف من أهل الجبال الساكنين بثغور الشام كالنصيرية والدرزية والحشيشية ـ نوع منهم ـ وتمكن دعاتهم منهم لضعف عقولهم وجهلهم ما لم يتمكنوا من غيرهم. وأخذت الفرنج أكثر البلاد بالشام والجزيرة إلى أن منّ الله على المسلمين بظهور البيت الأتابكي وتقديمه مثل صلاح الدين، فاستردوا البلاد وأزالوا هذه الدولة عن رقاب العباد.. يدّعون الشرف، ونسبتُهم إلى مجوسي أو يهودي حتى اشتهر لهم ذلك بين العوام فصاروا يقولون الدولة الفاطمية والدولة العلوية وإنما هي الدولة المجوسية أو اليهودية الباطنية الملحدة" [مختصر كتاب الروضتين: 157].
ولك أن تقارن موقف المخلصين من أهل السنة بمواقف الرافضة الباطنية فقد حكى أبو شامة عن زنكي ـ والد نور الدين ـ أنه استعان بالسلطان محمد السلجوقي لمّا هاجم النصارى مدينة حلب فقيل له في ذلك فقال: "إن هذا العدو قد طمع فيّ، وإن أخذ حلب لم يبق بالشام إسلام، وعلى كل حالٍ فالمسلمون أولى بها من الكفار" [كتاب الروضتين: 1/35، نقلاً عن أيعيد التاريخ نفسه: 104. فأين هذا الموقف المشرف من المواقف المخزية التي صدرت عن الدول المنتسبة إلى الإسلام في هذه الحملة الصليبية الجديدة على العالم الإسلامي بدءاً بأفغانستان، حفاظاً على عروشهم وخيانةً لأمة الإسلام]. وأمّا شاور الذي كان حاكماً على مصر في دولة الرافضة فقد استنجد بالنصارى حتى لا يجعل لنور الدين على مصر سبيلاً! [وما أشبه الليلة بالبارحة! فهاهي دولة الرافضة تعلن عداوتها ومنابذتها لإمارة أفغانستان الإسلامية وتدعم بالمال والسلاح والرجال الأحزاب الشيعية المتحالفة مع الجيوش الصليبية، وتفتح أجواءها لهم بعد أن ظلت زمناً طويلاً تخدع عوام المسلمين بشعارات: الموت لأمريكا.. الشيطان الأكبر ((ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعضٍ فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون))].(1/420)
وخلاصة القول في أمر النكبات ـ التي تصيب الأمة عند غفلتها عن الولاء والبراء ـ أنّ ذلك مرتبط بما يسبقه من الإعداد لجهاد الأعداء, وهو راجع بدوره إلى قلة الفقه بالولاء والبراء ((إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم))، ورحم الله أبا الوفاء بن عقيل حيث قال: "إذا أردتَ أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان, فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع, ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك! وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة" [الآداب الشرعية لابن مفلح: 1/255].
سادساً: بين الأمس واليوم:
ها هم كفار اليوم يجلبون على هذه الأمة التي كتب الله لها الغلبة والسعادة والفوز في الدّارين؛ يريدون أن يردّوها عن دينها ويحاربوا طليعتها المجاهدة؛ لأنها قائمة على الحق ممسكة بـ (ذروة سنام الإسلام), يحبون أن يحولوا بين رايتهم الظافرة وبين الأمة التي أقضَّت مضجعها المعارك الخاسرة, وطال عهدها بأيام العزة والحماسة حين كانت تترنّم بأناشيد الجهاد وكان شعارها:
فعدوّ اليوم هو عدوّ الأمس, ونفاق اليوم هو نفاق الأمس يتمثّل في تلك القلوب المريضة ((فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم)) [سورة المائدة: 52]، وتلك العزائم الخائرة ((فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حِدادٍ أشحةً على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم)) [سورة الأحزاب: 19]، وتلك النفوس الحائرة المترددة ((مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء)) [سورة النساء: 143]، ((الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نسْتحوذْ عليكم ونمنعكم من المؤمنين)) [سورة النساء: 141].
والروافض هم الروافض في التآمر والتخاذل والتحالف مع الكافرين! والمجاهدون هم المجاهدون (لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم) فالحزم هو الحزم ((الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)) [سورة آل عمران: 173]، والعزم هو العزم ((ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً)) [سورة الأحزاب: 22].
نسأل الله تعالى أن يقوّي فينا عقيدة الولاء والبراء؛ فننحاز إلى صفوف المجاهدين الصالحين استجابة لأمر الله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)) [سورة التوبة: 119], ونبرأ من الكافرين, ونحيي في نفوسنا معاني العزة بالله والجهاد في سبيله كما قال مَن قبلنا:
فإنه لا إيمان ولا عزة ولا جهاد إلا بالولاء والبراء؛ فحينما تحقق الأمة ذلك تنشد بين الورى:
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
التعقيب على ورقة الولاء والبراء
د. عبد الله عبد الحي:
[1] تقسيم الولاء إلى مراتب بعضها:
أ - كبيرة: مثل (اتخاذهم بطانة, ومداهنتهم والتذلل لهم, والمبالغة في تعظيمهم ورفع شأنهم, والدخول في سلطانهم بدون حاجة, والتشبّه بهم في أخلاقهم وشعائرهم, والإقامة بينهم لمن يستطيع إعلان دينه مع قدرته على الهجرة).
ب - أقلّ من ذلك مثل (ميل القلب غير الإرادي إلى الزوجة الكتابية, وكذلك مدحهم والثناء عليهم بدون مسوّغ, والعمل لديهم مع وجود الإهانة والاحتقار).
ج - مباحة: مثل (معاملة غير المحاربين بالحسنى, والإهداء إلى المسالمين منهم تأليفاً لقلوبهم على الإسلام, وكذلك الإقامة ببلاد الكفار لغرض صحيح مثل طلب العلم مع القدرة على أداء الفرائض).
[2] التحذير من التساهل في شأن الولاء والبراء.
الشيخ مدثر أحمد إسماعيل:
من النقاط التي طرحها:
[1] تعريف الولاء بأنه محبة ومودّة وقرب, وتعريف البراء بأنه بُغضٌ وعداوةٌ, وهما من أعمال القلوب.
[2] ذكر مقتضياتهما من النصرة والمعاونة والجهاد.
[3] ضرورة تحرير الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين من الولاءات الجاهلية كالقومية والعلمانية وغيرها.
[4] التأكيد على خطورة الحملة الصليبية الفكرية ممثّلة في المبشّرين والمستشرقين وأعوانهم من العلمانيين.
============
كلمات في « الولاء والبراء »
عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
من الانحرافات الظاهرة التي تبدو طافية على السطح في مثل هذه الأيام ما
نسمعه ونقرؤه من نشاط محموم ومكثف من أجل إقامة « السلام » مع يهود ، وإنهاء
الصراع معهم في ظل الوفاق الدولي . ومن جانب آخر نشاهد كثرة ما يعقد في
الساحة من مؤتمرات وملتقيات للتقارب بين الأديان ! والحوار والزمالة - بالذات -
بين الإسلام والنصرانية .. وتلحظ على هؤلاء المشاركين في تلك المؤتمرات ممن
يحسبون من أهل الإسلام هزيمة بالغة في نفوسهم ، وحبّاً للدعة والراحة .. وكرهاً
للجهاد وتوابعه ، فالإسلام دين السلام والوئام و « التعايش السلمي » ! حتى قال
أحدهم : هيئة الأمم المتحدة تأخذ بالحل الإسلامي لمعالجة المشكلات التي تواجه
الإنسانية ! [1] كما تلمس من كلامهم استعداداً كاملاً للارتماء في أحضان الغرب ..
فضلاً عن جهلهم المركب بعقيدة الإسلام الصحيح .. ومن أهمها عقيدة الولاء
والبراء ..
وهذه المكائد والمخططات - عموماً - حلقة من حلقات سابقة تستهدف القضاء
على عقيدة البراءة من الكفار وبغضهم .. إضافة إلى كيد المبتدعة من الباطنيين
وأشباههم .. ومع هذه الحملة الشرسة والمنظمة من أجل « مسخ » عقيدة البراء
فإنك ترى - في الوقت نفسه - الفرقة والشحناء بين الدعاة المنتسبين لأهل السنة ،
ولأجل هذا وذاك ، أحببت أن أؤكد على موضوع الولاء والبراء من خلال النقاط
التالية .
- 1 -
إن الولاء والبراء من الإيمان ، بل هو شرط من الإيمان ، كما قال سبحانه :(1/421)
[ تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * ولَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ ومَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا
اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ولَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ] [المائدة : 80-81] .
يقول ابن تيمية عن هذه الآية : « فذكر جملة شرطية تقتضي أن إذا وجد
الشرط وجد المشروط بحرف ( لو ) التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط فقال :
[ ولَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ ومَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ] فدل ذلك على
أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده ، لا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء
في القلب ، ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء ، ما فعل الإيمان الواجب من
الإيمان بالله والنبي ، وما أنزل إليه .. » [2] .
والولاء والبراء أيضاً أوثق عرى الإيمان ، كما قال -صلى الله عليه وسلم- :
« أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله » رواه أحمد والحاكم .
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب : « فهل يتم الدين
أو يقام علم الجهاد ، أو علم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالحب في الله
والبغض في الله .. ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة ومحبة من غير عداوة
ولا بغضاء ، لم يكن فرقاناً بين الحق والباطل ، ولا بين المؤمنين والكفار ، ولا بين
أولياء الرحمن وأولياء الشيطان » [3] .
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبايع أصحابه على تحقيق هذا الأصل
العظيم ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : « أبايعك على أن تعبد الله وتقيم الصلاة
وتؤتي الزكاة وتناصح المسلمين وتفارق المشركين » رواه النسائي وأحمد .
وتأمل معي هذه العبارة الرائعة التي سطرها أبو الوفاء بن عقيل
( ت 513 هـ ) :
« إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان ، فلا تنظر إلى زحامهم في
أبواب الجوامع ، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك ، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء
الشريعة ، عاش ابن الراوندي والمعري عليهما لعائن الله ينظمون وينثرون كفراً ..
وعاشوا سنين ، وعظمت قبورهم ، واشتريت تصانيفهم ، وهذا يدل على برودة
الدين في القلب » [4] .
- 2 -
الولاء معناه المحبة والمودة والقرب ، والبراء هو البغض والعداوة والبعد ،
والولاء والبراء أمر قلبي في أصله .. لكن يظهر على اللسان والجوارح .. فالولاء
لا يكون إلا لله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين كما قال سبحانه :
[ إنَّمَا ولِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا .. ] .. فالولاء للمؤمنين يكون بمحبتهم
لإيمانهم ، ونصرتهم ، والإشفاق عليهم ، والنصح لهم ، والدعاء لهم ، والسلام عليهم ، وزيارة مريضهم وتشييع ميتهم ومواساتهم وإعانتهم والسؤال عن أحوالهم ، وغير
ذلك من وسائل تحقيق هذا الولاء .
والبراءة من الكفار تكون : ببغضهم - ديناً - وعدم بدئهم بالسلام وعدم التذلل
لهم أو الإعجاب بهم ، والحذر من التشبه بهم ، وتحقيق مخالفتهم - شرعاً -
وجهادهم بالمال واللسان والسنان ، والهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام [5]
وغير ذلك من مقتضيات البراءة منهم [6] .
- 3 -
أهل السنة يرحمون الخلق ويعرفون الحق ، فهم أحسن الناس للناس ، أذلة
على المؤمنين أعزة على الكافرين ، وهم في وئام تام ، وتعاطف وتناصح وإشفاق
كالجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ، حتى
قال أحد علمائهم وهو - أيوب السَّخِتْياني - : « إنه ليبلغني عن الرجل من أهل
السنة أنه مات ، فكأنما فقدت بعض أعضائي » [7] .
ولذا قال قوّام السنة إسماعيل الأصفهاني : ( وعلى المرء محبة أهل السنة في
أي موضع كانوا رجاء محبة الله له ، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يقول الله تعالى : « وجبت محبتي للمتحابين فيّ ، والمتجالسين فيّ ، والمتلاقين
فيّ » رواه مالك وأحمد ، وعليه بغض أهل البدع في أي موضع كانوا حتى يكون ممن أحب في الله وأبغض في الله ) [8] .
ولا شك أن هذا الولاء فيما بين أهل السنة ، إنما هو بسبب وحدة منهجهم ،
واتحاد طريقتهم في التلقي والاستدلال ، والعقيدة والشريعة والسلوك ، ..
- 4 -
الكفار هم أعداؤنا قديماً وحديثاً سواء كانوا كفاراً أصليين كاليهود والنصارى
أو مرتدين ، قال تعالى : [ لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ
ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ] [آل عمران 28] .
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية : ( نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن
يوالوا الكفار وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين ، ثم توعد
على ذلك فقال تعالى : [ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ] أي ومن يرتكب
نهي الله في هذا فهو بريء من الله ، كما قال تعالى : [ يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا
الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً .. ]
[النساء 144] ، وقال تعالى : [ يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى
أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ومَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ ] [9] .
فهذه حقيقة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل ، وهي أن الكفار دائماً وأبداً هم أعداؤنا
وخصومناً .. كما قرر ذلك القرآن في أكثر من موضع ، فقد بين الله سبحانه وتعالى(1/422)
هذه الحقيقة فقال سبحانه عنهم : [ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاًّ ولا ذِمَّةً .. ] ، وقال
تعالى : [ مَا يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ ولا المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ
خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ .. ] ، وقال سبحانه : [ ودَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ
بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم .. ] ، هكذا حذر الله تعالى من الكفار :
[ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ] .. ولكي يطمئن قلبك .. فانظر إلى التاريخ في القديم والحديث .. وما فعله الكفار في الماضي وما يفعلونه في هذه الأيام ، وما قد سيفعلونه مستقبلاً .
ورحم الله ابن القيم عندما عقد فصلاً فقال : « فصل في سياق الآيات الدالة
على غش أهل الذمة للمسلمين وعداوتهم وخيانتهم وتمنيهم السوء لهم ، ومعاداة
الرب تعالى لمن أعزهم أو والاهم أو ولاّهم أمر المسلمين » [10] .
- 5 -
إن الناس في ميزان الولاء والبراء على ثلاثة أصناف ، فأهل الإيمان
والصلاح يجب علينا أن نحبهم ونواليهم . وأهل الكفر والنفاق يجب بغضهم
والبراءة منهم ، وأما أصحاب الشائبتين ممن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ،
فالواجب أن نحبهم ونوليهم لما سهم من إيمان وتقوى وصلاح ، وفي الوقت نفسه
نبغضهم ونعاديهم لما تلبسوا به من معاصٍ وفجور . وذلك لأن الولاء والبراء من
الإيمان ، والإيمان عند أهل السنة ليس شيئاً واحداًلا يقبل التبعيض والتجزئة ،
فهو يتبعض لأنه شعب متعددة كما جاء في حديث الصحيحين في شعب الإيمان
( الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن
الطريق ) ، والأحاديث في ذلك كثيرة معلومة ، فإذا تقرر أن الإيمان شعب متعددة
ويقبل التجزئة ، فإنه يمكن اجتماع إيمان وكفر - غير ناقل عن الملة - في
الشخص الواحد ودليله قوله تعالى : [ وإن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا .. ]
فأثبت الله تعالى لهم وصف الإيمان ، مع أنهم متقاتلون ، وقتال المسلم كفر كما في
الحديث : « سباب المسلم فسوق وقتاله كفر » ، وفي الحديث الآخر يقول -صلى
الله عليه وسلم- : « لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض » ، فدل
ذلك على اجتماع الإيمان والكفر - الأصغر - في الشخص الواحد .
يقول ابن تيمية :
« أما أئمة السنة والجماعة ، فعلى إثبات التبعيض في الاسم والحكم ، فيكون
مع الرجل بعض الإيمان ، لا كله ، ويثبت له من حكم أهل الإيمان وثوابهم بحسب
ما معه ، كما يثبت له من العقاب بحسب ما عليه ، وولاية الله بحسب إيمان العبد
وتقواه ، فيكون مع العبد من ولاية الله بحسب ما معه من الإيمان والتقوى ، فإن
أولياء الله هم المؤمنون المتقون ، كما قال تعالى : [ أَلا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وكَانُوا يَتَّقُونَ ] ) [11] .
- 6 -
موالاة الكفار ذات شعب متعددة ، وصور متنوعة .. وكما قال الشيخ عبد
اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله - :
» مسمى الموالاة يقع على شعب متفاوتة ، منها ما يوجب الردة وذهاب الإسلام بالكلية .. ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات « [12] .
ويقول أيضاً : ( ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة
والركون والشرك ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة قد يراد بها
مسماها المطلق وحقيقتها المطلقة ، وقد يراد بها مطلق الحقيقة ، والأول هو الأصل
عند الأصوليين ، والثاني لا يحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية ، وإنما
يعرف ذلك بالبيان النبوي وتفسير السنة .. إلى أن قال : » فقوله تعالى : [ ومَن
يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ .. ] قد فسرته السنة وقيدته وخصته بالموالاة المطلقة ،
العامة .. ) [13] .
فمن شعب موالاة الكفار ، التي توجب الخروج من الملة ؛ مظاهرة المشركين
ومعاونتهم على المسلمين كما قال سبحانه : [ ومَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ .. ]
[ البقرة : 102] .
ومنها عدم تكفير الكفار أو التوقف في كفرهم أو الشك فيه ، أو تصحيح
مذهبهم [14] .. فما بالك بحال من يدافع عنهم ويصفهم بأنهم إخواننا في
الإنسانية - إن كانوا ملاحدة أو وثنيين - أو ( أشقاؤنا ) - إن كانوا يهوداً أو
نصارى - فالجميع في زعمهم على ملة إبراهيم عليه السلام !
- 7 -
يقع خلط ولبس أحياناً بين حسن المعاملة مع الكفار - غير الحربيين -
وبغض الكفار والبراءة منهم ، ويتعين معرفة الفرق بينهما ، فحسن التعامل معهم أمر ، وأما بغضهم وعداوتهم فأمر آخر ، وقد أجاد القرافي في ( الفروق ) عندما فرّق
بينهما قائلاً :
« اعلم أن الله تعالى منع من التودد لأهل الذمة بقوله [ يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ
الحَقِّ .. ] الآية ، فمنع الموالاة والتودد ، وقال في الآية الأخرى : [ لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ .. ] فلا بد من الجمع بين هذه النصوص ، وأن الإحسان لأهل الذمة مطلوب ، وأن التودد والموالاة منهي عنهما .. وسر الفرق أن عقد الذمة يوجب حقوقاً علينا لهم ؛ لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمة الله تعالى وذمة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ودين الإسلام ، وقد حكى ابن حزم الإجماع - في مراتبه - على أن من كان في الذمة ، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه ، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع(1/423)
والسلاح .. فيتعين علينا أن نبرهم بكل أمر لا يكون ظاهره يدل على موادات القلوب ولا تعظيم شعائر الكفر ، فمتى أدى إلى أحد هذين امتنع ، وصار من قبل ما نهي عنه في الآية وغيرها ، ويتضح ذلك بالمثل ، فإخلاء المجالس لهم عند قدومهم علينا والقيام لهم حينئذ ونداؤهم بالأسماء العظيمة الموجبة لرفع شأن المنادى بها ، هذا كله حرام ، وكذلك إذا تلاقينا معهم في الطريق ، وأخلينا لهم واسعها ورحبتها ... والسهل منها ، وتركنا أنفسنا في خسيسها وحزنها وضيقها كما جرت العادة أن يفعل ذلك المرء مع الرئيس والولد مع الوالد ، فإن هذا ممنوع لما فيه من تعظيم شعائر الكفر وتحقير شعائر الله تعالى وشعائر دينه واحتقار أهله ، وكذلك لا يكون المسلم عندهم خادماً ولا أجيراً يؤمر عليه وينهى .. وأما ما أمر من برهم من غير مودة باطنية كالرفق بضعيفهم ، وإطعام جائعهم ، وإكساء عاريهم ، ولين القول لهم على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة ، واحتمال أذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفاً معهم لا خوفاً وتعظيماً ، والدعاء لهم بالهداية وأن يجعلوا من أهل السعادة ونصيحتهم في جميع أمورهم .. فجميع ما نفعله معهم من ذلك لا على وجه التعظيم لهم وتحقير أنفسنا بذلك الصنيع لهم ، وينبغي لنا أن نستحضر في قلوبنا ما جبلوا عليه من بغضنا وتكذيب نبينا -صلى الله عليه وسلم- ، وأنهم لو قدروا علينا لاستأصلوا شأفتنا واستولوا على دمائنا وأموالنا ، وأنهم من أشد العصاة لربنا ومالكنا عز وجل ، ثم نعاملهم بعد ذلك بما تقدم ذكره امتثالاً لأمر ربنا .. » [15] .
- 8 -
وإن من أعظم ثمرات القيام بهذا الأصل : تحقيق أوثق عرى الايمان ، والفوز
بمرضاة الله الغفور الرحيم ، والنجاة من سخط الجبار جل جلاله ، كما قال سبحانه :
[ تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * ولَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ ومَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا
اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ولَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ] [المائدة : 79-80] .
ومن ثمرات القيام بالولاء والبراء : السلامة من الفتن .. قال سبحانه :
[ والَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وفَسَادٌ كَبِيرٌ ] [ الأنفال : 73] .
يقول ابن كثير : ( أي إن تجانبوا المشركين ، وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت
فتنة في الناس وهو التباس واختلاط المؤمنين بالكافرين ، فيقع بين الناس فساد
منتشر عريض طويل ) [16] .
ومن ثمرات تحقيق هذا الأصل : حصول النعم والخيرات في الدنيا ، والثناء
الحسن في الدارين ، كما قال أحد أهل العلم : ( وتأمل قوله تعالى في حق إبراهيم
عليه السلام : [ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ ومَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ ويَعْقُوبَ
وكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِياً * ووَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياً ]
[مريم : 50] ، فهذا ظاهر أن اعتزال الكفار سبب لهذه النعم كلها ولهذا الثناء
الجميل - إلى أن قال - فاعلم أن فرط اعتزال أعداء الله تعالى والتجنب عنهم صلاح الدنيا والآخرة بذلك ، يدل على ذلك قوله تعالى : [ ولا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ومَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ ]
[ هود : 113] ) [17] .
وهذا أمر مشاهد معلوم ، فأعلام هذه الأمة ممن حققوا هذا الأصل قولاً وعملاً ، لا زلنا نترحم عليهم ، ونذكرهم بالخير ، ولا يزال لهم لسان صدق في العالمين ..
فضلاً عن نصر الله تعالى لهم والعاقبة لهم .. فانظر مثلاً إلى موقف الصديق -
رضي الله عنه- من المرتدين ومانعي الزكاة .. عندما حقق هذا الأصل فيهم ..
فنصره الله عليهم وأظهر الله تعالى بسببه الدين .. وهذا إمام أهل السنة الإمام أحمد
ابن حنبل -رحمه الله- يقف موقفاً شجاعاً أمام المبتدعة في فتنة القول بخلق
القرآن .. فلا يداهن ولا يتنازل .. فنصر الله به مذهب أهل السنة وأخزى المخالفين .. وهذا صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- يجاهد الصليبيين - تحقيقاً لهذا الأصل - فينصره الله تعالى عليهم ويكبت القوم الكافرين .. والأمثلة كثيرة ..
فيجب على الدعاة إلى الله تعالى أن يحققوا هذا الأصل في أنفسهم اعتقاداً
وقولاً وعملاً ، وأن تقدم البرامج الجادة - للمدعوين - من أجل تحقيق عقيدة الولاء
والبراء ولوازمهما .. وذلك من خلال ربط الأمة بكتاب الله تعالى ، والسيرة النبوية ، وقراءة كتب التاريخ ، واستعراض تاريخ الصراع بين أهل الإيمان والكفر القديم
والحديث ، والكشف عن مكائد الأعداء ومكرهم ( المنظم ) في سبيل القضاء على
هذه الأمة ودينها ، والقيام بأنشطة عملية في سبيل تحقيق الولاء والبراء كالإنفاق في
سبيل الله ، والتواصل واللقاء مع الدعاة من أهل السنة في مختلف الأماكن ، ومتابعة
أخبارهم ونحو ذلك .
__________
(1) د. معروف الدواليبي / انظر جريدة العالم الإسلامي بمكة عدد 1243 وانظر دور هيئة الأمم في إسقاط عقيدة الولاء في كتاب الجهاد للعلياني .
(2) من كتاب الإيمان ص 14 .
(3) من رسالته أوثق عرى الإيمان ص 38 .
(4) من الآداب الشرعية لابن مفلح 1/268 .
(5) يقول القاضي أبو يعلي : ( وكل دار كانت الغلبة فيها لأحكام المسلمين دون الكفر فهي دار الإسلام ، وكل دار كانت الغلبة فيها لأحكام الكفر دون أحكام الاسلام فهي دار الكفر ) ، المعتمد في أصول الدين ص 276 .(1/424)
(6) انظر تفصيل ذلك في كتاب الولاء والبراء للقحطاني ، وكتاب الموالاة والمعاداة للجلعود .
(7) الحجة في بيان المحجة للأصفهاني (قوام السنة) 2/487 .
(8) المرجع السابق 2/501 .
(9) تفسير ابن كثير 1/ 357 .
(10) أحكام أهل الذمة 1/238 .
(11) الأصفهانية ص 144 .
(12) الدرر السنية 7/159 .
(13) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 3/7-10 .
(14) انظر الشفا لعياض 2/1071 .
(15) مختصراً من الفروق 3/14-15 .
(16) تفسير ابن كثير 2/316 .
(17) من كتاب منهاج الصواب في قبح استكتاب أهل الكتاب ص 52 ، وانظر اضواء البيان للشنقيطي 2/485 .
==============
معالم غائبة في الولاء والبراء
د . عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف [*]
ما كان لشعيرة الولاء والبراء أن تندرس وتضعف في واقع الكثير من
المسلمين إلا بسبب ضعف عبوديتهم ومحبتهم لله تعالى ؛ فإن عبادة الله ومحبته هي
الأصل ، ويتفرع عنها الحبّ والولاء في الله ، والبغض والبراء في الله تعالى ؛
فكلما كان الشخص أكمل عبودية ومحبة لله تعالى كان أكثر تحقيقاً للولاء والبراء .
ولما غلب على الكثير الولعُ بالشهوات من الأموال والنساء والمناصب وأُشربوا حبّ
الهوى صاروا يوالون ويوادون على حسب أهوائهم وعقولهم المعيشية ؛ فضعفت
عبوديتهم لله تعالى بسبب الانهماك في تلك المحبوبات والشهوات ، فزاحمت عبوديةَ
الله تعالى ومحبته ، ومن ثم ضعف حبهم في الله تعالى ، وبغضهم في الله ؛ فالحب
في الله والبغض في الله ولوازمهما متفرع عن حب الله تعالى وعبادته . يقول
العلامة عبد الرحمن السعدي : « أصل التوحيد وروحه إخلاص المحبة لله وحده ،
وهي أصل التأله والتعبد له ؛ بل هي حقيقة العبادة ، ولا يتم التوحيد حتى تكمل
محبة العبد لربه ، وتسبق محبته جميع المحابِّ وتغلبها ، ويكون لها الحكم عليها
بحيث تكون سائر محاب العبد تبعاً لهذه المحبة التي بها سعادة العبد وفلاحه . ومن
تفريعها وتكميلها الحب في الله ؛ فيحب العبد ما يحبه الله من الأعمال والأشخاص ،
ويبغض ما يبغضه الله من الأشخاص والأعمال ، ويوالي أولياءه ، أو يعادي أعداءه ،
وبذلك يكمل إيمان العبد وتوحيده »[1] .
ولما كان الخليلان ( إبراهيم ونبينا محمد عليهما الصلاة والسلام ) أكمل الناس
عبادة لله تعالى ، حتى خُصّا بمرتبة الخلّة ، وكانا أكمل وأعظم الناس تحقيقاً للولاء
والبراء . قال تعالى : [ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ ]
( النحل : 120 ) [2] .
وقال عز وجل : [ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا
لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ
وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ] ( الممتحنة : 4 ) .
وأما عن عبادة نبينا صلى الله عليه وسلم لربه سبحانه فكان يقوم الليل حتى
تتورم قدماه ، ويستغفر الله في اليوم مائة مرة ، وقالت عائشة رضي الله عنها عن
عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كان عمله ديمة ، وأيكم يطيق ما كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق ؟ » [3] .
وقد حفلت سيرته الشريفة بأمثلة رائعة في تحقيق الولاء والبراء ، وقد قال
تعالى : [ مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ]
( الفتح : 29 ) . ، فكان نبي المرحمة ، ونبي الملحمة ، وهو الضحوك
القتّال .
فأما عن موالاته للمؤمنين فقال تعالى : [ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ] ( التوبة : 128 ) .
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : كنا عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم في صدر النهار ، قال : فجاءه قوم حفاة عراة ، مجتابي النمار أو
العباء ، متقلدي السيوف ، عامتهم من مضر ، بل كلهم من مضر ، فتمعّر ( تغيّر )
وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة ، فدخل ثم خرج ، فأمر
بلالاً فأذَّن وأقام فصلَّى ، ثم خطب فقال : [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن
نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي
تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ] ( النساء : 1 ) ، [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ]
( الحشر : 18 ) ، تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع برّه ،
من صاع تمره حتى قال : ولو بشق تمرة . قال : فجاء رجل من الأنصار بصُرَّة
كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت ، قال : ثم تتابع الناس حتى رأيتُ كومين من
طعام وثياب ، حتى رأيتُ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل ( يستنير )
كأنه مُذْهَبة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من سنّ في الإسلام سنة
حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم
شيء » [4] .
قال النووي رحمه الله : « وأما سبب سروره صلى الله عليه وسلم ففرحاً
بمبادرة المسلمين إلى طاعة الله تعالى ، وبذل أموالهم لله ، وامتثال أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولدفع حاجة هؤلاء المحتاجين ، وشفقة المسلمين بعضهم على
بعض ، وتعاونهم على البر والتقوى . وينبغي للإنسان إذا رأى شيئاً من هذا القبيل
أن يفرح ويُظهر سروره ويكون فرحه لما ذكرناه » [5] .(1/425)
وأما عن بغضه لأعداء الله تعالى ، فقد قال تعالى في صفة النبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه : [ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ
فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ ] ( الفتح : 29 ) .
وفي صلح الحديبية « نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في جملة هديه
جملاً كان لأبي جهل ليغيظ به المشركين ، وكان هذا الجمل قد غنمه صلى الله عليه
وسلم يوم بدر » [6] .
واستنبط ابن القيم من هذه القصة : استحباب مغايظة أعداء الله تعالى [7] .
ولما منّ صلى الله عليه وسلم على أبي عزة الجمحي وعاهده ألا يعين عليه
فغدر به ، ثم قدر عليه بعد ذلك وطلب أن يمنّ عليه ، فقال صلى الله عليه وسلم :
« لا تمسح عارضيك وتقول : سخرت بمحمد مرتين » ، ثم قال صلى الله عليه
وسلم : « لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين ؛ اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت !
فضرب عنقه » [8] .
والمقصود أن ننظر في هديه صلى الله عليه وسلم بعلم وشمول ؛ فلا يقتصر
على جانب كونه نبي الرحمة أو التسامح أو المحبة ، كما لا يقتصر على الطرف
المقابل ، بل إن المتعيّن أن نشتغل باتباع هديه وسيرته في الحب والبغض ، والولاء
والبراء .
ولما كان الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان كما قال المصطفى
صلى الله عليه وسلم : « أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله » [9] ،
ولما كان الإيمان له ظاهر وباطن ؛ فكذا الحبّ والبغض والولاء والبراء ؛ فالحبّ
والبغض هما الأصل وهما أمران قلبيان ، والولاء والبراء أمران ظاهران ؛ فلازم
الحبّ الولاء ، ولازم البغض البراءة والعداء .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : « أصل الموالاة هي المحبة ، كما أن أصل
المعاداة البغض ؛ فإن التحاب يوجب التقارب والاتفاق ، والتباغض يوجب التباعد
والاختلاف » [10] .
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن : « أصل الموالاة الحبّ ،
وأصل المعاداة البغض ، وينشأ عنهما من أعمال القلب والجوارح ما يدخل في
حقيقة الموالاة والمعاداة كالنصرة والأنس والمعاونة ، وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك
من الأعمال » [11] .
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي : « فالولاء والبراء تابع للحب والبغض ،
والحبّ والبغض هو الأصل » [12] .
فالولاء والبراء لازم الحبّ والبغض ، وإذا تخلّف اللازم تخلّف الملزوم ؛
فالظاهر والباطن متلازمان ، ولا يكون الظاهر مستقيماً إلا مع استقامة الباطن ، وإذا
استقام الباطن فلا بد أن يستقيم الظاهر [13] .
ومن لوازم الحب في الله : النصح للمسلمين والإشفاق عليهم ، ونصرتهم ،
والدعاء لهم ، وتفقد أحوالهم .
ومن لوازم البغض في الله : الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ، وعدم
التشبه بهم ، وعدم مشاركتهم في أعيادهم .
ولما كان الإيمان شُعَباً متعددة ، فيمكن زوال بعضها مع بقاء بعضها الآخر ،
ويجتمع في الشخص الواحد بعض شُعَب الإيمان مع بعض شعب الكفر الذي لا
يخرج من الملة ؛ فكذا الولاء والبراء وهو من الإيمان فيجتمع في الشخص الواحد
موجب الولاية من جهة ، وموجب العداوة من جهة أخرى ، كما هو حال الكثير منا
معشرَ المسلمين ممن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ؛ فالواجب أن نحبهم ونواليهم
لما معهم من إيمان وصلاح ، كما نبغضهم على قدر معاصيهم وتفريطهم .
يقول ابن تيمية : « أما أئمة السنة والجماعة فعلى إثبات التبعيض في الاسم والحكم ،
فيكون مع الرجل بعض الإيمان ، لا كله ، ويثبت له من حكم أهل الإيمان وثوابهم
بحسب ما معه ، كما يثبت له من العقاب بحسب ما عليه ، وولاية الله بحسب
إيمان العبد وتقواه ؛ فيكون مع العبد من ولاية الله بحسب ما معه من الإيمان
والتقوى » [14] .
ويقول أيضاً : « والمؤمن عليه أن يعادي في الله ، ويوالي في الله ، فإن كان
هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه ، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية ، قال
تعالى : [ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى
الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ] ( الحجرات : 9-10 ) ،
فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي ، وأمر بالإصلاح بينهم ، ... وليعلم أن المؤمن
تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك ، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن
إليك ؛ فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله ، فيكون الحب
لأوليائه والبغض لأعدائه ، ... وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر ، وفجور
وبر ، وطاعة ومعصية ، وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من
الخير ، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر ، فيجتمع في الشخص
الواحد موجبات الإكرام والإهانة ، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ، ويُعطى من
بيت المال ما يكفيه لحاجته » [15] .
ومما يبيّن هذا الأمر ما جاء في هدي النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقد حقق
عليه الصلاة والسلام موجب العداوة والولاية في قصة ذاك الرجل الذي كان يشرب
الخمر ، واسمه عبد الله ، وكان كثيراً ما يُؤتى به فيجلد ، فأتي به في إحدى المرات
فقال أحد الحاضرين : اللهم العنه ، ما أكثر ما يؤتى به ! فقال عليه الصلاة والسلام :
« لا تلعنوه ! فوالله ما علمتُ إنه يحب الله ورسوله » [16] .
ومن المعالم المهمة أن نتجرد لله تعالى في حبّنا وبغضنا ، وأن نُخلِّص الولاء
والبراء من حظوظ النفس وشهواتها ؛ فلا بد من المجاهدة والمحاسبة حتى يكون
الولاء والبراء ابتغاء وجه الله .(1/426)
سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن الحبّ في الله ، فقال : « ألاَّ تحبه
لطمع في دنياه » [17] .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : « من أحب إنساناً لكونه يعطيه فما
أحب إلا العطاء ، ومن قال إنه يحب من يعطيه لله فهذا كذب ومحال وزور من
القول ، وكذلك من أحب إنساناً لكونه ينصره إنما أحبّ النصر لا الناصر ، وهذا كله
من اتباع ما تهوى الأنفس ؛ فإنه لم يحبّ في الحقيقة إلا ما يصل إليه من جلب
منفعة أو دفع مضرة ؛ فهو إنما أحبّ تلك المنفعة ودفع المضرة ، وإنما أحبّ ذلك
لكونه وسيلة إلى محبوبه وليس هذا حباً لله ولا لذات المحبوب .
وعلى هذا تجري عامة محبة الخلق بعضهم مع بعض ، وهذا لا يثابون عليه
في الآخرة ولا ينفعهم ؛ بل ربما أدى ذلك إلى النفاق والمداهنة ؛ فكانوا في الآخرة
من الأخلاَّء الذين بعضهم لبعض عدو إلا المتقين .
وإنما ينفعهم في الآخرة الحبّ في الله ولله وحده ، وأما من يرجو النفع
والنصر من شخص ثم يزعم أنه يحبه لله فهذا من دسائس النفوس » [18] .
ومما يجدر تقريره أن هذه الوشائج الإيمانية تبقى أو تدوم ؛ لأن الولاء والبراء
يراد به وجه الله تعالى ، والله تعالى هو الآخر ليس بعده شيء فلا يفنى ولا يبيد ؛
بخلاف الصِّلات التي ليست لله تعالى ؛ فسرعان ما تنقلب إلى عداوات في الدنيا
والآخرة .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : « من أحبّ في الله ، وأبغض في الله ،
ووالى في الله ، وعادى في الله ؛ فإنما تُنال ولاية الله بذلك ، ولن يجد عبدٌ طعم
الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك ، وقد صارت عامة مؤاخاة
الناس على أمر الدنيا ؛ وذلك لا يجدي على أهله شيئاً » [19] .
وقال ابن تيمية : « والناس إذا تعاونوا على الإثم والعدوان أبغض بعضهم
بعضاً ، وإن كانوا فعلوه بتراضيهم ، قال طاووس : ما اجتمع رجلان على غير
ذات الله إلا تفرقا عن تَقَالٍ ( بغضاء ) ، وقال الخليل عليه السلام : [ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم
مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ
وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ] ( العنكبوت : 25 ) .
وهؤلاء لا يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضاً لمجرد كونه عصى الله ، بل
لما حصل له بمشاركته ومعاونته من الضرر » [20] .
ومما قاله ابن القيم في هذا المقام : « كل من اتخذ من دون الله ورسوله وليجة
وأولياء ، يوالي لهم ويعادي لهم ، ويرضى لهم ويغضب لهم ، فإن أعماله كلها باطلة
يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه ؛ إذ لم يجرد
موالاته ومعاداته ، ومحبته ، وبغضه ، وانتصاره وإيثاره لله ورسوله ؛ فأبطل الله
عز وجل ذلك العمل كله ، وقطع تلك الأسباب ، فينقطع يوم القيامة كل سبب وصلة
ووسيلة ومودة وموالاة كانت لغير الله تعالى » [21] .
ونختم هذه المقالة بالجواب عما يظنه بعضهم أن تحقيق الولاء والبراء قد
يؤدي إلى نفور الكفار عن الإسلام ؛ وليس الأمر كذلك ؛ فإن الله تعالى هو أرحم
الراحمين ، وهو سبحانه أحكم الحاكمين ؛ حيث شرع بغض الكفار وعداوتهم [ أَلاَ
يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ] ( الملك : 14 ) ، فلا يتوهم أن تحقيق شعيرة
البراءة من الكافرين يؤول إلى مجانبة الإسلام ، بل إن الالتزام بهذه الشعيرة وسائر
شرائع الإسلام سبب في ظهور الإسلام وقبوله ، كما وقع في القرون المفضلة ، ومن
ذلك أن اليهود خافت وذلت من يوم قتل رئيسهم كعب بن الأشرف على يد محمد بن
مسلمة رضي الله عنه [22] .
ويقول ابن تيمية : « وكان عدد من المشركين يكفُّون عن أشياء مما يؤذي
المسلمين خشية هجاء حسان بن ثابت ؛ حتى إن كعب بن الأشرف لما ذهب إلى
مكة كان كلما نزل عند أهل بيت هجاهم حسان بقصيدة ، فيخرجونه من عندهم ،
حتى لم يبق بمكة من يؤويه » [23] .
وجاء في سيرة ابن هشام : « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » من
ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه « [24] ، فوثب محيصة بن مسعود على ابن سُنَيْنَة
رجل من تجار اليهود يبايعهم فقتله ، وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يُسلم ،
وكان أسنّ من محيصة ، فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول : أي عدو الله !
أقتلته ؟ أما والله لربّ شحم في بطنك من ماله ، قال محيصة : والله ! لقد أمرني
بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك ، قال : فوالله إن كان لأول إسلام حويصة ،
قال : آلله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني ؟ قال : نعم ! والله لو أمرني بضرب
عنقك لضربتها ، قال : والله إن ديناً بلغ بك هذا لعجب . فأسلم حويصة » [25] .
وها هم الكثير من بني جلدتنا قد ارتموا في أحضان الكفار ، وتنازلوا عن
دينهم مداهنة لأعداء الله تعالى ؛ فما زاد الكفار إلا عتواً ونفوراً عن الإسلام ،
واستخفافاً وامتهاناً للمنتسبين له .
ولما عمد علماء السوء إلى تحليل ما حرم الله تعالى بأدنى الحيل كان ذلك
سبباً في الصدّ عن دين الله تعالى ، وامتناع الكثيرين من الدخول فيه ، كما بينه ابن
القيم رحمه الله [26] .
بل إن المشركين ، وأهل الكتاب إذا رأوا المسلم القائم بالإسلام عظموه
وأكرموه [27] .
يقول ابن تيمية : « مثل الآصار والأغلال التي على أهل الكتاب وإذلال
المسلمين لهم ، وأخذ الجزية منهم ، فهذا قد يكون داعياً له أن ينظر في اعتقاده :
هل هو حق أو باطل ؟ حتى يتبين له الحق ، وقد يكون مرغباً له في اعتقاد يخرج
به من هذا البلاء ، وكذلك قهر المسلمين عدوهم بالأسر يدعوهم للنظر في محاسن
الإسلام » [28] .
__________
(*) أستاذ مساعد في قسم العقيدة ، كلية أصول الدين ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية .(1/427)
(1) القول السديد ، ص 110 ، 111 .
(2) قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن هذه الآية الكريمة : « [ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ] (النحل : 120) لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين ،ٍٍ[ قَانِتاً لِّلَّهِ ] (النحل : 120) لا للملوك ولا للتجار المترفين ، [ حَنِيفًا] (النحل : 120) لا يميل يميناً ولا شمالاً كفعل العلماء المفتونين ، [ وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ ] (النحل : 120) خلافاً لمن كثر سوادهم وزعم أنه من المسلمين » ، مجموعة مؤلفات الشيخ ابن عبد الوهاب ، 4/237 .
(3) أخرجه البخاري ، رقم 1987 ، ومسلم ، رقم 741 ، 783 .
(4) أخرجه مسلم ، رقم 1017 .
(5) صحيح مسلم بشرح النووي ، 7 / 103 .
(6) انظر : زاد المعاد ، 1/134 ، 2/ 299 .
(7) انظر : زاد المعاد ، 2/ 301 .
(8) انظر : السيرة لابن هشام ، 2/ 104 ، طبقات ابن سعد ، 2/ 43 ، وتاريخ الطبري ، 2/ 500 .
(9) أخرجه أحمد ، 4/ 286 ، و الحاكم في المستدرك ، 2/ 480 ، وحسّنه الألباني في الصحيحة ، ح/ 1728 .
(10) قاعدة في المحبة ، ص 387 ، وانظر : الفتاوى ، 14/280 .
(11) الدرر السنية ، 2/ 157 .
(12) الفتاوى السعدية ، 98 .
(13) انظر : مجموع الفتاوى ، لابن تيمية ، 18/272 .
(14) شرح الأصفهانية ، ص 144 .
(15) مجموع الفتاوى ، 28/ 208 ، 209 .
(16) أخرجه البخاري ، ح/ 6780 والمعنى : أن الذي أعلمه أنه يحب الله ورسوله .
(17) طبقات الحنابلة ، 1/ 57 .
(18) مجموع الفتاوى ، 10/ 609 ، 610 .
(19) أخرجه ابن المبارك في الزهد ، 353 .
(20) مجموع الفتاوى ، 15/ 128 .
(21) الرسالة التبوكية ، ص 66 .
(22) انظر : الصارم المسلول ، 2/ 152 .
(23) انظر : الصارم المسلول ، 2/ 39 .
(24) أخرجه أبو داود ، كتاب الإمارة .
(25) سيرة ابن هشام ، 2/ 821 .
(26) انظر : أعلام الموقعين ، 3/ 41 .
(27) مجموع الفتاوى ، لابن تيمية ، 18/293 .
(28) جامع الرسائل ، 3/ 238 .
=============
نماذج مضيئة في تحقيق عقيدة الولاء والبراء
خالد بن عبد المحسن التويجري
لقد حقق سلف هذه الأمة وعلماؤها العاملون عقيدة الولاء والبراء في حياتهم، فكانوا موالين لأهل الإيمان، محبين لهم، ناصرين لهم، وأيضاً أعلنوا بوضوح براءتهم من أهل الكفر، وعدواتهم وبغضهم لهم. وسأعرض لبعض النماذج والأمثلة المشرقة من حياتهم؛ لعلنا نحذو حذوهم ونقتدي بهم.
فمن صور تحقيقهم للولاء والبراء:
1 ـ إظهار البراءة من المشركين، ومحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين حتى عند الشدائد والمحن. وأبرز مثال على ذلك قصة زيد بن الدَثِّنة ـ رضي الله عنه ـ الذي اشتراه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف، فخرجوا بزيد إلى (التنعيم)، حيث اجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قُدِّم ليقتل: أنشدك الله يا زيد: أتحب محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه؛ وأني جالس في أهلي. فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً. ثم قتلوا زيداً ـ رضي الله عنه ـ(1). فانظر إلى ولاء زيد ـ رضي الله عنه ـ الصادق للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فهو لا يحب أن يصيب النبي -صلى الله عليه وسلم- شوكة؛ فضلاً عن أن يصيبه ما هو أعظم من ذلك!
وها هو أبو الفرج الجوزي يروي لنا قصة الشهيد أبي بكر النابلسي فيقول: أقام (جوهر) القائد لأبي تميم صاحبِ مصر أبا بكر النابلسي فقال له: بلغنا أنك قلت: إذا كان مع الرجل عشرة أسهم وجب أن يرمي في الروم سهماً وفينا تسعة؟ قال: ما قلت هذا؛ بل قلت: إذا كان معه عشرة أسهم؛ وجب أن يرميكم بتسعة وأن يرمي العاشر فيكم أيضاً؛ فإنكم غيرتم الملة، وقتلتم الصالحين، وادعيتم نور الإلهية. فضربه، ثم أمر يهودياً فسلخه، فكان يذكر الله ويقرأ قوله ـ تعالى ـ: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}. ويصبر حتى بلغ الصدر فطعنه، ثم حُشي تبناً، وصُلِب. وقد حكى ابن السعساع المصري أنه رأى في النوم أبا بكر النابلسي بعدما صلب، وهو في أحسن هيئة، فقال: ما فعل الله بك؟ فقال:
حباني مالكي بدوام عزٍ
وواعدني بقرب الانتصار
وقرّبني وأدناني إليه
وقال: أنعِمْ بعيشٍ في جواري(2)
فتأمل شدة بغض أبي بكر النابلسي ـ رحمه الله ـ لأعداء الدين، وبراءته منهم، وإنكاره علهم، وكيف لم يخَفْ في الله لومة لائم؟!
وانظر إلى طريقة أهل الكفر والنفاق في التنكيل بعلماء الإسلام ومحاربتهم! وذلك لما يحملونه في صدورهم الخَربة من بغض المؤمنين وعداوتهم. وهذا ما تواطأت عليه قلوب جميع أعداء الملة، فهم؛ وإن اختلفوا فيما بينهم؛ إلا أنهم يجتمعون في شدة عدواتهم للمسلمين.(1/428)
2 ـ البراءة من أهل الكفر والمشركين وإن كانوا من الأقربين: وذلك تحقيقاً لقوله ـ تعالى ـ: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ...} [المجادلة: 22]. قيل إنها نزلت في أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ، حيث سب أبو قحافة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فصكه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ صكة فسقط منها على وجهه، ثم أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «أوَ فعلته؟! لا تعد إليه» فقال: «والذي بعثك بالحق نبياً، لو كان السيف مني قريباً لقتلته». وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «نزلت في أبي عبيدة بن الجراح ـ رضي الله عنه ـ قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد، [وقيل: يوم بدر]، وكان الجراح يتصدى لأبي عبيدة، وأبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر؛ قصد إليه أبو عبيدة، فقتله»، وقيل في سبب نزول الآية غير ذلك. بل يصل الأمرُ أحياناً بأولئك الصادقين إلى الرغبة في التمكين من قتل أقربائهم من الكفار؛ ليُرُوا اللهَ منهم خيراً بذلك، وابتغاءً لمرضاته.
فها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما استشار الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في أسرى بدر، فقال: «ما ترى يا بن الخطاب؟» قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر؛ ولكن أرى أن تُمكِّنني من فلان [قريب لعمر] فأضرب عنقه، وتُمكِّن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان [أخيه] فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين»(1).
وقد روي «أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال لسيعد ابن العاص ـ رضي الله عنه ـ إني أراك كأنك في نفسك شيء! أراك تظن أني قتلت أباك؟ إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله، ولكني قتلت خالي العاص بن هشام بن المغيرة، فأما أبوك فإني مررت به وهو يبحث بحث الثور بروقه(2)؛ فحدت عنه، وقصد له ابن عمه علي فقتله. فقال سعيد بن العاص ـ رضي الله عنه ـ: «لو قتلته لكنت على حق وكان على الباطل» فأعجبه قوله»(3).
3 ـ ثبات المؤمن على عقيدته مع شدة إغراءات أهل الباطل بضمه إليهم: فقد يبذل الحاقدون على المسلمين إغراءاتهم وما بوسعهم في سبيل تخلي المسلمين عن دينهم، ويسلكون في ذلك وسائل مختلفة للوصول إلى هذا الهدف. وفي قصة عبد الله بن حذافة السهمي ـ رضي الله عنه ـ ما يدل على ذلك: فإنه قد أُسِر في أحد المعارك مع الروم، فعرض عليه ملك الروم أن يتنصَّر، فرفض، ثم قال له: إن فعلتَ شاطرتُك مُلْكي، وقاسمتك سلطاني، فقال عبد الله: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن ديني طرفة عين؛ ما فعلت ذلك، ثم هدده الملك بالقتل، وصَلَبَه ورماه قريباً من رجليه وقريباً من يديه، وهو يعرض عليه مفارقة دينه، فأبى، فقال له: هل لك أن تقبِّل رأسي وأخلي عنك؟ فقال عبد الله له: وعن جميع أسارى المسلمين أيضاً؟ قال نعم: فقبَّل رأسه، فأمر الملك بإطلاق سراحه وسراح جميع المسلمين المأسورين لديهم، وقدِم بالأسرى على عمر ـ رضي الله عنه ـ فأخبره خبره، فقال عمر: حق على كل مسلم أن ىُقبِّل رأس ابن حذافة؛ وأنا أبدأ، فقبَّل رأسه(4).
إنها عزة المسلم الحق، وثباته عند الشدائد، وعدم تنازله عن دينه؛ حتى لو أدى ذلك إلى موته. وتأمل حب عبد الله ـ رضي الله عنه ـ لأسرى المسلمين واهتمامه لهم! فإنه لم يغفل عنهم في تلك الظروف الحرجة؛ بل حرص على فكاك أسرهم.
والمؤمن مطالب ومأمور بولائه لدينه ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين؛ وإنْ هَجَرَه المؤمنون لسبب من الأسباب المشروعة لذلك. وهذا يذكرنا بما حدث لكعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ الذي هجره المسلمون حتى في رد السلام..، فابتلي في هذا الوقت العصيب بإغراء عظيم من قبل أحد الملوك في ذلك الوقت، فرفض ذلك الإغراء وثبت ـ رضي الله عنه ـ. يقول حاكياً ما حدث: «... فبينما أنا أمشي في سوق المدينة؛ إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلني على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني؛ دفع إليِّ كتاباً من ملك غسان، فإذا فيه: «أما بعد: فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحقْ بنا نواسِك!» فقلت لما قرأتها: وهذا من البلاء. فتممت بها التنور فسجرته بها...»(5)، فرفض ـ رضي الله عنه ـ هذا الود الظاهر في وقت هو فيه أحوج ما يكون إلى من يواسيه ويواليه؛ لكن لِما قام في قلبه من عظم الولاء لله ولرسوله، والبراءة من أعداء الدين؛ رفض هذه الدعوة التي كشفت له بصيرته ما وراءها، فرفضها وعدَّها بلاءً آخر فكانت عقباه الخير. فكيف أخي المسلم بمن يتنازل عن ثوابت دينه ومعتقده؛ خوفاً من أعداء الدين، أو حباً في مال أو رئاسة في هذه الدنيا الزائلة؟!(1/429)
4 ـ دور الخلفاء والسلاطين في موالاة المؤمنين ونصرتهم، والبراءة من المشركين ومحاربتهم: وشواهد التاريخ على هذا كثيرة، من ذلك ما يروى من أنه عندما أسر الرومُ أحد المسلمين قال له ملك الروم: ماذا يريد خليفتكم من الإغارة علينا؟ أما تكفيكم بلادكم؟ فأخبره الجندي المسلم أنهم يهدفون إلى نشر الإسلام، وإقامة العدل بين الناس الذي افتقده الناس؛ بسبب بعدهم عن الحق، فغضب عند ذلك البطريرك الذي كان جالساً قرب الملك، وقام من مجلسه وصفع الجندي على وجهه صفعة مؤلمة، وأمر به إلى السجن، ثم بعد ذلك جرى تبادل الأسرى بين المسلمين والروم، وعاد الجندي المسلم إلى أهله، واستدعاه الخليفة وأكرمه، وسمع خبره، ثم أمر بتوجيه بعثة من الجنود تنكَّروا على شكل صيادين حتى وصلوا إلى القسطنطينية، فدخلوها، واحتالوا على البطريرك؛ فقبضوا عليه، وجاؤوا به مكبلاً إلى أن أُدخل على مجلس الخليفة معاوية ـ رضي الله عنه ـ، وكان الجندي الذي أُسِر بجانب الخليفة، فقال له معاوية ـ رضي الله عنه ـ: أهذا هو؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال له: دونك فاقتص منه! فقال الجندي: بل عفوت عنه يا أمير المؤمنين. فقال معاوية ـ رضي الله عنه ـ للبطريرك: اذهب إلى مَلِكِك، وقل له: إن أمير المؤمنين يقيم العدل ويقتص من الجاني حتى من مملكتك(6)؛ فرضي الله عن معاوية بن أبي سفيان الذي ضرب بتلك الحادثة أروع الأمثلة في مدافعة الحاكم المسلم عن حقوق المسلمين أفراداً وجماعات.
وروي أن أحد الجنود المسلمين وقع أسيراً في حوزة الرومان، وأنهم حملوه إلى إمبراطورهم الذي حاول أن يُكْرِهَه على ترك إسلامه، فرفض الأسير المسلم، فأمر الإمبراطور أن تُفقأ عيناه..، وسمع عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ بذلك، فكتب إلى ملك الروم يقول: «أما بعد: فقد بلغني ما صنعت بالأسير المسلم، وإني أقسم بالله لئن لم ترسله إليَّ من فورك لأبعثنَّ إليك من الجند؛ ما يكون أولهم عندك وآخرهم عندي». وعندما وصل الخطاب تراجع ملك الروم أمام هذه العزيمة، وأمر بإعادة الأسير المسلم إلى أهله وقومه(1).
ومن ذلك أيضاً ما اشتهر عن المعتصم في نصرته لتلك المرأة التي صاحت بأعلى صوتها: (وامعتصماه!)؛ حيث كانت ضمن الأسرى عند الروم، فنقل بعضُ الحاضرين هذه الصيحة إلى المعتصم فنهض مردداً: لبيكِ لبيكِ! يا أختاه، وأمر بالنفير العام، واستدعى القضاة والشهود، وأشهدهم على وصيته: أن ماله إذا استُشهد في هذه المعركة يقسّم إلى ثلاثة أقسام: ثُلثه صدقة، وثُلثه لأولاده، وثُلثه لمواليه. وسار بنفسه ومن معه من المسلمين، فحاصر عموريَّة حتى فتحها بعد حصار شديد، وثأر المعتصم من أعداء الله، واسترد كرامة المسلمين، وتبيَّن كيف تكون غضبة الحاكم المسلم إذا انتُهكت حرمات الله(2).
5 ـ دور علماء الأمة في بيان الولاء والبراء، والحث على تحقيقها وذلك عبر: الفتيا، الرسالة، التصانيف، والردود.
يُروى أنه نشأ خلاف كبير بين الأخوين: سلطان الشام الملكُ الصالحُ إسماعيل، وسلطان مصر الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان من نتيجته أن استعان الملك إسماعيل بالصليبيين أعداء الإسلام، وتحالف معهم على قتال أخيه نجم الدين، وأعطاهم مقابل ذلك مدينة صيدا، وكذلك قلعة (صفد) وغيرها؛ بل سمح للصليبيين أن يدخلوا دمشق، ويشتروا منها السلاح وآلات الحرب، وما يريدون! فأثار هذا الصنيعُ المنكر استياءَ علماء الإسلام، فقام سلطانُ العلماء العزُّ بن عبد السلام وأنكر على السلطان فعلَه ذلك، وأفتى المسلمين بتحريم بيع النصارى السلاح. فسُجن بسبب ذلك(3). هذا في الفتيا. وشواهد ذلك كثيرة، حفظها لنا التاريخ، وحفظ لنا أيضاً تلك الرسائل التي خطَّها علماء السُّنة اقتداءً بنبيهم -صلى الله عليه وسلم- في مراسلاته للملوك ورؤوس الكفر، كما مر معنا.
فقد أرسل شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ رسالةً إلى ملك قبرص (سرجوان) يخاطبه في شأن أسرى المسلمين، فمما ورد في كلامه ـ رحمه الله ـ بعد دعوته للإسلام: «... ومن العجب أن يأسِر النصارى قوماً غدراً أو بغير غدر، ولم يقاتلوهم...، وكلما كثرت الأسرى عندكم كان أعظم لغضب الله وغضب عباده المسلمين؛ فكيف يمكن السكوت على أسرى المسلمين في قبرص؟!
فما يُؤمِّنُ الملكَ أن هؤلاء الأسرى المظلومين ببلدته ينتقم لهم ربُّ العباد والبلاد كما ينتقم لغيرهم؟ وما يُؤمِّنُه أن تأخذ المسلمين حميةٌ إسلاميةٌ؛ فينالون منها ما نالوا من غيرها؟...»(4).
وهذه الرسالة من شيخ الإسلام للملك النصراني تبين شدة ولائه ـ رحمه الله ـ وحبه للمسلمين، والسعي في تخليص أسراهم من الكافرين)، وفيها بيان لعزِّة المؤمن بقوة إنكاره وشدته على أهل الباطل، وفيها أيضاً بيان لأهمية دور العلماء في الذود عن الحق وأهله أينما كانوا.
كذلك فإن أهل العلم حرصوا على التصنيف والتأليف في هذا الموضوع المهم في حياة المسلمين. فمن ذلك: ما قاله الشيخ عبد الله بن سليمان بن حميد ـ رحمه الله ـ في رسالته (الهدية الثمينة في ما يحفظ به المرءُ دينَه)؛ إذ قال ـ رحمه الله ـ: «لمَّا رأيت ما عمّ وطمّ من انقلاب الأكثرين عن دين الإسلام، وموالاتهم لعبدة الأوثان وأعداء الشريعة من: النصارى، والملحدين، والرافضة، حملتني العزة الدينية والشفقة الإنسانية أن أجمع بعض آيات قرآنية وأحاديث نبوية ومن كلام علماء السُّنة المقتدى بهم، نبذةً يسيرةً في بيان تحريم مخالطة المشركين ووجوب البعد عنهم، وحكم التولي والموالاة والسفر إلى بلادهم، وما يجب على من اضطُّر إلى العمل مع الشركات الأجنبية؛ لتكون تذكرة للمؤمنين وحجة على المعاندين، وسميتها: (الهدية الثمينة في ما يحفظ به المرء دينه)»(5).(1/430)
وأختم هذه النماذج المباركة بإضاءة من حياة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ الذي كان ينبِّه بين وقت وآخر، في دروسه ومحاضراته وفي ردوده، على وجوب موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين. ومن ذلك ردّه على ما جاء في أحد الصحف، وهو خبر يتعلق بإقامة صلاة الجمعة في مسجد قرطبة، وذُكر فيه: إن الاحتفال بذلك يعد تأكيداً لعلاقات الأخوة والمحبة بين أبناء الديانتين: الإسلام والمسيحية، فقال ـ رحمه الله ـ في رده عليهم: «... ونظراً إلى ما في هذا الكلام من مصادمةِ الأدلةِ الشرعية الدالة على أنه: لا أخوةَ ولا محبة بين المسلمين والكافرين؛ وإنما ذلك بين المسلمين أنفسهم، وأنه لا اتحاد بين الدينين الإسلامي والنصراني؛ لأن دين الإسلام هو الحق الذي يجب على جميع أهل الأرض المكلفين اتباعُهُ، أما النصرانية فكفرٌ وضلال بنص القرآن الكريم».
ومن ذلك قوله ـ رحمه الله ـ: «... فقد نشرت بعض الصحف المحلية تصريحاً لبعض الناس قال فيه ما نصه: «إننا لا نَكِنُّ العداء لليهود واليهودية، وإننا نحترم جميع الأديان السماوية»، ولما كان هذا الكلامُ في شأن اليهود واليهوديةِ؛ يخالف صريحَ الكتاب العزيز والسُّنة المطهرة، ويخالف العقيدةُ الإسلامية، وهو صريح يُخشى أن يغتر به بعض الناس؛ رأيت التنبيه على ما جاء به من الخطأ نصحاً لله ولعباده، فقد دلَّ الكتابُ والسُّنة وإجماع المسلمين على أنه: يجب على المسلمين أن ىُعادوا الكافرين من اليهود والنصارى وسائر المشركين، وأن يحذروا مودتَهم واتخاذهم أولياء(6)» ا. هـ.
نعم.. تلك أفعال لا أقوال، وحقائق لا أوهام، وتلك نتفٌ يسيرة من سِيَر أقوام، نحسبهم ـ والله حسيبهم ـ رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فهلاَّ اتبعنا أثرهم، واقتدينا بهم في هذا الزمان الذي وهنت فيه الأمة، وضعفت شوكتها، وهانت على بنيها قبل أعدائها! وما أصابها ما أصابها إلا من ضعف تحقيق هذا الأصل العظيم: الولاء لله ورسوله والمؤمنين، والبراءة من الكفار والمشركين وأعداء الدين.
__________
(*) معيد في كلية الملك عبد العزيز.
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (153/4). (2) سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي (184/16 ـ 150).
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب (الإمداد بالملائكة في غزوة بدر)، ح (1763)، (1383/2). (2) الروق: أي القرن، لسان العرب (131/10).
(3) البداية والنهاية، لابن كثير (290/3). (4) انظر: سير أعلام النبلاء (14/2).
(5) انظر: صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، ح (4418)، وفتح الباري (113/8).
(6) الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية للشيخ محامس الجلعود (311/1).
(1) المصدر السابق (325/1). (2) البداية والنهاية لابن كثير (252/14).
(3) الموالاة والمعاداة (121/1). (4) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (601/28 ـ 630). الرسالة القبرصية.
(5) الدرر السنية (463/15) وما بعدها. (6) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ عبد العزيز بن باز (173/2) وما بعدها.
============
الولاء والبراء بين الغلو والجفاء
إبراهيم الأزرق
- مكانة البراءة من الكافرين عند المؤمنين:
إن الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، كما جاءت بذلك الآثار(1)؛ فإذا انْتقَضت تلك العروة فلا تسل عن محل الإيمان من أهل الزمان. قال العلاَّمة ابن مفلح: «وقال أيضاً ـ يعني ابن عقيل ـ(2): إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك! وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة، عاش ابن الراوندي والمعري ـ عليهما لعائن الله ـ ينظمون وينثرون، هذا يقول: حديث خرافة(3).
والمعري يقول:
تلوْ باطلاً وجلوْا صارماً وقالوا صدقنا فقلنا نعم(4)
يعني بـ (الباطل) كتاب الله عز وجل. وعاشوا سنين وعظمت قبورهم واشتُريت تصانيفهم، وهذا يدل على برودة الدين في القلب». وهذا المعنى قاله الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى»(5)، وقال ابن عقيل عن ابن الراوندي أيضاً: «وعجبي! كيف عاش؛ وقد صنف (الدامغ) يزعم أنه قد دمغ به القرآن، والزمرد يزري به على النبوات ثم لا يقتل؟ وكم قد قُتل لصٌ في غير نصابٍ ولا هتْكِ حرزٍ؟ وإنما سلم مدة وعاش؛ لأن الإيمان ما صفا في قلوب أكثر الخلق، بل في القلوب شكوك وشبهات، وإلا فلمَّا صدق إيمان بعض الصحابة قتل أباه»(1).(1/431)
إن مداهنة أعداء الشريعة برودة في القلب وأي برودة! إنها برودة الذين غابت عن قلوبهم شمس الوحي، وسلبت ـ أو كادت تسلب ـ روح الإيمان، {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 81]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف (لو) التي تقتضي مع انتفاء الشرط انتفاء المشروط، فقال: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب»(2)، وهذه الآية تتناول الإيمان الواجب الذي يأثم مخالفه، كما تتناول أصل الإيمان الذي يكفر تاركه، وإنزال ذلك بحسب نوع الموالاة ودوافعها(3). فإن تقرير امتناع اسم مسمى أمرٍ أمر الله به ورسوله كنفيه؛ وهذا لا يكون إلاّ إذا ترك بعض واجباته كما قرر ذلك شيخ الإسلام في الإيمان الكبير(4). ومعلوم أن ترك الواجب لا تلازم بينه وبين زوال الأصل، بل قد يزول وقد لا يزول، وكثير نفي الإيمان في الشرع عمن ترك بعض الواجب، «كقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا صلاة إلا بأم القرآن»(5)، وقوله: «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له»(6) ونحو ذلك. فأما إذا كان الفعل مستحباً في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب»(7). فكان نفي الواجب في ترك القراءة بأم القرآن في الصلاة مبطلاً للصلاة عند الجماهير. أما ما بعدها من الأمثلة فدلت مثل هذه النصوص على وجوبها وتأثيم تاركها، فهكذا قول الله ـ تعالى ـ: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81] يتناول الإيمان الذي يبطل انتفاؤه أصل الإيمان، والإيمان الذي يوجب انتفاؤه التأثيم.
وأشد من هذه الآية في التهديد والوعيد قول الله ـ تعالى ـ قبلها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والمفسرون متفقون على أنها نزلت بسبب قوم ممن كان يظهر الإسلام وفي قلبه مرض خاف أن يُغلب أهل الإسلام، فيوالي اليهود والنصارى وغيرهم للخوف الذي في قلوبهم، لا لاعتقادهم أن محمداً كاذب واليهود والنصارى صادقون»(8)، وفي معناها قال ابن جرير: «والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله ـ تعالى ذِكْره ـ نهى المؤمنين جميعاً أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصاراً وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأخبر أنه من اتخذهم نصيراً وحليفاً وولياً من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان»(9)، ثم قال الله ـ تعالى ـ مؤكداً هذا المعنى بعدها: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 53]، فبين أن الذين يسارعون فيهم قد حبطت أعمالهم، والمسارعون هم الذين: «يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر»(10)، قاله ابن كثير، ولعل الذي أشعر بهذا المعنى الاستعاضة عن الموالاة بضمير الغائبين (هم) وتعدية الفعل إليه بحرف الجر (في) دون (إلى)، فقال: {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة: 52] (يسارعون فيهم) ولم يقل: في موالاتهم، أو إليهم، قال أبو السعود: «وإنما قيل: فيهم مبالغةً في بيان رغبتِهم فيها وتهالُكِهم عليها، وإيثارُ كلمة (في) على كلمة (إلى) للدلالة على أنهم مستقرون في الموالاة، وإنما مسارعتُهم من بعضِ مراتبها إلى بعضٍ آخر منها كما في قوله ـ تعالى ـ: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون: 61]، لا أنهم خارجون عنها متوجِّهون إليها كما في قوله ـ تعالى ـ: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]»(1). ولهذا قال ابن كثير: {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} «يبادرون إلى موالاتهم في الباطن والظاهر»، فمعنى المسارعة يتضمن إظهار آثار الموالاة عند أدنى مناسبة وحِيال أي ملابسة، في كل فرصة، فشبّه إظهارها المتكرّر بالمسارعة؛ فهؤلاء قوم موالاتهم للكافرين موالاة عامة في الظاهر والباطن، وقد ذكر بعض أهل العلم أن الموالاة العامة هي الموافقة والمناصرة والمعاونة والرضا بأفعال من يواليهم؛ فإذا صدرت من مسلم لكافر كفر، أما مجرّد الاجتماع مع الكفار، بدون إظهار تام للدين، مع كراهية كفرهم، فمعصية لا توجب الكفر. وبعض أهل العلم يخص التولي بهذه الموالاة العامة موافقة للآية: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ} [الممتحنة: 9].(1/432)
ومثل هذا الصنف من الموالين للكافرين جدير بأن يحبط عمله، حري بالخسارة، ولهذا عقب بعدها بما يزيد خسارته وحبوط عمله بياناً فذكر توعد المرتدين، وقرنه بذكر أبدالهم من المؤمنين، فخص وصفهم بضد ما ارتد به أولئك، فذكر موالاتهم للمؤمنين ومعاداتهم للكافرين، فقال ـ سبحانه وتعالى ـ بعدها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]، ثم أكد هذا المعنى تارة أخرى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 57]، فشرط للإيمان عدم اتخاذهم أولياء، وهذا بعمومه يشمل أصل الإيمان وكذلك الإيمان الواجب بحسب نوع الولاء ودوافعه، قال الشيخ سليمان بن عبد الله ابن الإمام: «موالاتهم لأجل دنياهم، يجب عليها من التعزير بالهجر والأدب ونحوه ما يزجر أمثاله. وإن كانت الموالاة لأجل دينهم؛ فهو مثلهم، ومن أحب قوماً حشر معهم»(2).
ولعل من نظر في آيات المائدة الآنفة وجد خمس تأكيدات جاءت في سياق واحد تدل على أن موالاة الكافرين خطر عظيم وشر مستطير، قد يؤول بصاحبه إلى الخسران المبين، وذلك إن كانت موالاة عامة، أو موالاة لأجل الدين.
ولعل ما سبق يبين بعض مكانة البراءة من الكافرين في نفوس المؤمنين الصادقين، وخطر الإخلال بها على الدين.
- ما تجب البراءة منه؟
البراءة من الكافرين تتضمن أموراً. قال الله ـ تعالى ـ: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فقد أمرنا الله أن نتأسى بإبراهيم والذين معه؛ إذ تبرؤوا من المشركين ومما يعبدونه من دون الله، وقال الخليل: {وَإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26 - 27]، والبراءة ضد الولاية، وأصل البراءة البغض، وأصل الولاية الحب. وهذا لأن حقيقة التوحيد أن لا يحب إلا الله ويحب ما يحبه الله لله، فلا يحب إلاّ لله، ولا يبغض إلاّ لله»(3).
والتأسي بإبراهيم والذين معه صرح فيه بذكر ثلاثة أمور:
الأول: التبرؤ من الكافرين ومما يعبدونه.
والثاني: الكفر بهم.
والثالث: إظهار العداوة وإعلانها أبداً حتى يؤمنوا بالله وحده(1).
- حكم التلطف واللين مع الكافرين:
لعل إشكالاً قد يقع في هذا؛ فبينما يغلو أناس فيحسبون بعض الأفعال المنطوية على لين وتلطُّف لا غضاضة فيها من الموالاة الموبقة؛ يتساهل آخرون فلا يرون بأساً في أضرُب من اللين والتلطف اللذين هما من قبيل الموالاة المحرمة.(1/433)
ولعل الذي يظهر هو أن الفعل المشتمل على تلطف مع الكافرين ولين لهم إما أن يكون لمقتض صحيح كدعوتهم، أو لكون المخاطَب قريباً كأب وأم وأخ أو نحو ذلك، أو لا يكون، فإن كان المقتضي صحيحاً والغرض شرعياً جاءت به النصوص؛ فلا إشكال فيه، بل قد يُندَب، بل قد يجب كما قال الله ـ تعالى ـ لموسى وهارون في شأن فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، وقال ـ تعالى ـ في الوالديْن المشركيْن: {وَإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ ثُمَّ إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15]، {وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8]، وذلك بشرط عدم المحاربة لقوله ـ تعالى ـ: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8 - 9]، قال البخاري في صحيحه: باب الهدية للمشركين وقول الله ـ تعالى ـ: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8]. ثم أورد فيه حديث أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاستفتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة؛ أفأصل أمي؟ قال: «نعم! صِلي أمك»(2)، وأورد فيه كذلك حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: رأى عمر حلة على رجل تباع، فقال للنبي -صلى الله عليه وسلم- ابتعْ هذه الحلة تلبسها يوم الجمعة، وإذا جاءك الوفد.
فقال: «إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة».
فأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها بحلل، فأرسل إلى عمر منها بحلة، فقال عمر: كيف ألبسها وقد قلتَ ما قلتَ فيها؟
قال: «إني لم أكسُكَها لتلبسها؛ تبيعها أو تكسوها».
فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يُسْلم(3).
وأما إن لم يكن للتلطف واللين مقتضٍ صحيح يدفع إليه؛ فلعل الأصل فيه هو المنع؛ لأنه مظنة إخفاء العداوة المطلوب إظهارها، ولأن موالاة القوم ممنوعة، بيد أن هذا لا يمنع من البر والقسط.
- اجتماع إبداء العداوة مع البر والقسط:
إن إبداء العداوة لا يمنع من الصدق في معاملة الكافرين، وكذلك العدل معهم، والإحسان إليهم، طالما كانوا غير حربيين، لقول الله ـ تعالى ـ: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
والحق أن هذه الآية محكمة والأمر كما قال شيخ المفسرين: «لا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ؛ لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب، غير محرم ولا منهي عنه، إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح»(4)، قال القرطبي: «وعلى هذا أكثر أهل التأويل»(1)، وهذا لا يعارض ما تقدم من الأمر بإظهار العداوة لهم، وترك البِشْر والتلطف واللين، وإظهار التوقير لغير مقتضٍ صحيح؛ فليس من برهم في الآية ذلك، وليس من برهم كذلك الخنوع والتذلل لهم، أو الانبساط معهم، أو التودد إليهم، ونحو ذلك، ويظهر ذلك بتحرير معنى البر وأصله الذي يدور عليه في لغة العرب، أما إطلاقه فهو مجمل قد يحمله بعضهم على استخدامات لغوية صحيحة لكنها غير مرادة لبيان الأدلة الأخرى؛ فإنَّ لينَ الجانب وخفض الجناح وإطلاق الوجه والتودد لهم و «كل ما عده العرف تعظيماً، وحسبه المسلمون موالاة فهو منهي عنه»(2)، ما لم يقتضِهِ مقتضٍ شرعي دال على جوازه في ذلك المقام لمعنى ظاهر.
ولعل المراد بالبر في الآية ونحوها أصلُ وضعه اللغوي الذي يدور على الصدق(3)، أو مطلق الإحسان؛ فالآية جاءت بصدقهم في المعاملة، والإحسان إليهم، والرفق بهم، والعدل معهم، ولا يخفى أن هذا يكون مع كلٍ بحسبه.(1/434)
وقد دلت نصوص أخرى على جواز التصدُّق عليهم وصلتهم بالمال(4)، فضلاً عن النفقة على من وجبت النفقة عليه منهم(5). وقد حمل بعض أهل العلم قول الله ـ تعالى ـ: {وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ} في هذه الآية على ذلك المعنى لا مطلق العدل؛ إذ العدل مفروض مع الكل، فقالوا: تقسطوا إليهم: تعطوهم قسطاً من أموالكم(6). ولعل حمله على العدل أجود؛ فهو أشمل معنى يدخل فيه ما ذكروا من أوجه البذل والإنفاق، كما أن للتذكير بالعدل ههنا مغزى؛ فكأنه ينبه على أهمية التزامه عند الإفضاء إليهم والتعامل معهم فلا يدفع الأمر بالبر إلى تجاوز حد الإنصاف، ولا طبيعة العداوة الدافعة إلى شيء من البغي إلى تخطي العدل «فلا تغلوا في مقاربتهم ولا تسرفوا في مباعدتهم»(7). ولما كان التنبيه إلى تحري العدل حال التعامل معهم مراداً لما تعتري تلك الحال من عوارض قد تصرف عنه نظراً لواقع العداوة، عدَّى القسط بإلى والأصل أن يعدَّى باللام، أو يقال: القسط مع الناس لا إليهم، ولعل النكتة تأكيد تحري العدل حال التعامل بتضمين الفعل معنى الإفضاء إليهم(8).
وإذا علم أن البر يختلف من إنسان إلى آخر بحسبه، فالبر المفروض للوالد غير المأمور به مع عامة الناس، والإحسان المتوجب تجاهه غير الإحسان المندوب إليه مع سائر الناس. ومن تأمل حال إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع أبيه لحظ ذلك؛ فلم يكن إظهاره العداوة مانعاً له من بر أبيه، فما فتئ يدعوه بذلك النداء الحاني: (يا أبتِ!) ويظهر شفقته وخوفه عليه، وما استثنى القرآن من الأمر بالاتِّساء به في ذلك شيئاً إلاّ قوله: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4].
ومما مضى يظهر وجه الجمع بين الأمر بإبداء عداوة القوم مع الأمر بالبر والقسط؛ فبر الكفار والعدل معهم والإحسان إليهم معنى واسع يختلف مع كل كافر بحسبه، وقد يشمل ذلك ترك إبداء عداوتهم، وقد لا يشمل ذلك؛ فكم من مقسط يحسن إلى عدوه بإعطائه ما يجب له على أتم الأوجه وأكملها، فضلاً عن أن يغمطه قدره أو يبخسه حقه، بل يصدق معه ويعدل. وليس من لازم الإحسان إخفاء العداوة فضلاً عن زوالها، بل ليس من لازمه ترك القتل إذا لزم القتل شرعاً؛ ففي حديث شداد بن أوس عند مسلم: ثنتان حفظتهما عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدَّ أحدكم شفرته فليرح ذبيحته»(1).
وقد نبه إلى شيء من هذا الإمام ابن القيم فقال: «فإن الله ـ سبحانه ـ لما نهى في أول السورة عن اتخاذ المسلمين الكفارَ أولياء، وقطع المودة بينهم وبينهم، توهم بعضهم أن برهم والإحسان إليهم من الموالاة والمودة؛ فبين الله ـ سبحانه ـ أن ذلك ليس من الموالاة المنهي عنها، وأنه لم ينه عن ذلك، بل هو من الإحسان الذي يحبه ويرضاه وكتبه على كل شيء، وإنما المنهي عنه تولي الكفار والإلقاء إليهم بالمودة»(2)، وذلك لأن المودة من الموالاة ولو كان الكافر ذا رحم قريبة، وقد تكون ذنباً ينقص به الإيمان، وقد تصل إلى حد الكفر الأكبر، بحسب دافعها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد تحصل للرجل موادَّتُهم لرحم أو حاجة فتكون ذنباً ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافراً كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة، لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي، وأنزل الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1]»(3).
فأخطأ من ظن أن الإحسان أو العدل أو الرفق أو البر يمنع من أن تكون العداوة بادية معروفة، وأخطأ من ظن أنه يستلزم المودة المنهي عنها، ولعل تلك واحدة من نكت التعقيب بهذه الآية بعد انتهاء سياق قوله ـ تعالى ـ: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4]، وما تعلق بها مما جاء بعدها، ثم قال: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] الآية، فجاء هذا التعقيب البديع مشيراً إلى ما قدم.(1/435)
وكما يخطئ بعضهم فيظن أن من لازم الإحسان المودة، يغلط آخرون فيظنون أن من لازم إبداء العداوة العبوس وتقطيب الجبين ومَطُّ الشفة عند رؤية كل كافر، أو عند سماعه، وليس ذلك كذلك حتى في حق الحربي، بل المراد أن تكون العداوة بين فئة المسلمين وفئة المشركين ظاهرة غير خفية، وهذا لا يلزم منه ما سبق طالما كانت العداوة معلنة صريحة معروفة، بل لا يلزم من إبداء العداوة ترك التبسم بل الضحك إذا صدر عن أحدهم ما يقتضيه إن كان حقاً، ولهذا ضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- تصديقاً لقول الحَبْر، كما في حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين قال: «جاء حَْبر من الأحبار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا محمد! إنَّا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله، -صلى الله عليه وسلم-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]»(4)، ومن تأمل السِّيَر وجد لهذا نظائر، كما لا يلزم من البر والقسط ترك الغضب والانتقام إذا بدر من أحدهم ما يقتضيه.
هذا والله أسأل أن يجعلنا سِلْماً لأوليائه، حرباً على أعدائه، نحب بحبه من أحبه، ونعادي بعداوته من عاداه، كما أسأله أن يرزقنا ديناً وَسُوطاً، لا ذاهباً شطوطاً، ولا هابطاً هبوطاً، كما رضيه وأنزله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) روي المعنى مرفوعاً عن جماعة من الصحابة منهم ابن عباس، وابن مسعود، والبراء بن عازب، رضي الله عنهم، وقد حسنه الألباني. ينظر تخريجه في السلسلة الصحيحة 2/698 ـ 700 (998)، 4/306 ـ 307 (1728).
(2) ما بين المعقوفين مقحم للتوضيح.
(3) يعني القرآن ـ عليه من الله ما يستحق ـ وقد وضع كتاباً أسماه (الدامغ) يرد به على القرآن وقد ساق ابن الجوزي في تجرمته من المنتظم شيئاً من ذلك ورد عليه، قال: «وقد ذكر في كتاب (الدامغ) من الكفر أشياء تقشعر منها الجلود، غير أني آثرت أن أذكر منها طرفاً ليعرف مكان هذا الملحد من الكفر، ويستعاذ بالله ـ سبحانه ـ من الخذلان!». (المنتظم 6/21).
(4) وقد أورد له ابن الجوزي ومن بعده ابن كثير طائفة من الأبيات التي لايمكن أن يعتذر له فيها إلاّ بزعم التوبة بعدها، انظر البداية والنهاية ترجمته 12/74 وما بعدها.
(5) الآداب الشرعية، لابن مفلح 1/237.
(1) نقله عنه تلميذه ابن الجوزي في المنتظم 6/100.
(2) كتاب الإيمان الكبير له، بتحقيق الألباني، ص17 ـ 18، وهو في المجموع 7/17.
(3) وذلك للأدلة الدالة على أن بعض الموالاة لا ترقى لحد الكفر وليس موضوع المقال يتناولها.
(4) ص10 وما بعدها، وهو في المجموع 7/14 وما بعدها.
(5) حديث عبادة بن الصامت، وهذا لفظ مسلم 1/295 (294)، وهو عند البخاري بلفظ: (فاتحة الكتاب) 1/263 (723).
(6) حديث أنس عند أحمد 3/135 (12406)، ومواضع من المسند، وهو حديث حسن خرجه ابن خزيمة في صحيحه 4/51 (2335)، وابن حبان 1/422 (194)، وغيرهم.
(7) السابق ص 15.
(8) الفتاوى 7/194.
(9) تفسير ابن جرير 4/615.
(10) ينظر تفسير ابن كثير للآية 2/94.
(1) ينظر إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، لأبي السعود، تفسير الآية، 3/48.
(2) الدرر السنية 8/160 القسم الأول من كتاب الجهاد، فصل في التنبيه على حاصل ما تقدم (في حكم موالاة المشركين)، وممن بين هذا المعنى الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن تراجع الدرر السنية 1/472 واستدل له بأثر حاطب بن أبي بلتعة المشهور، ولعله تبع فيه شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فقد ذكره في الفتاوى 7/523.
(3) الفتاوى 10/465.
(1) ينظر في هذا المعنى (أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن) لمحمد الأمين الشنقيطي، تفسير الآية 8/93، والكلام للشيخ عطية سالم ـ رحمه الله ـ ضمن تتمته المرفقة بالأضواء.
(2) ينظر الصحيح 2/924 (2477)، وقد رواه في غير موضع، وهو متفق عليه. ينظر صحيح مسلم 2/696 (1003).
(3) صحيح البخاري 2/924 (2476) وقد رواه قبلها في مواضع، والأثر متفق عليه. ينظر صحيح مسلم 3/1638 (2068). والأخ هو عثمان بن حكيم من أمه خيثمة بنت هشام بن المغيرة.
(4) هو قول ابن جرير في تفسيره 12/62 عند تفسير الآية.
(1) تفسير القرطبي للآية 18/53.
(2) من كلام للألوسي يتعقب فيه فتوى من أفتى بجواز القيام لهم في المجالس، وهو في تفسيره روح المعاني 3/120 عند كلامه عن آية آل عمران: 28 {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28].
(3) ينظر في أصل المادة معجم مقاييس اللغة لابن فارس.
(4) ومعلوم أن في كل كبد رطبة أجراً، بيد أن المؤمنين إلى ذلك أحوج وهم به أوْلى، والمراد بيان حكم عام جاء موضعه هنا.
(5) ينظر بحث المسألة في زاد المعاد للإمام ابن القيم 5/483.
(6) ذهب إليه ابن العربي، قال: «(وتقسطوا إليهم) أي تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة، وليس يريد به من العدل؛ فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل» ينظر أحكام القرآن له 4/193 عند تفسير الآية، وتبعه القرطبي في تفسيره 18/53.
(7) نقل هذا الأخير الماوردي عن ابن حبان. ينظر النكت والعيون 5/520.(1/436)
(8) أشار إلى شيء من هذا المعنى ابن عاشور في التحرير والتنوير فلينظر 28/136، ومن قبله الآلوسي 28/74.
(1) صحيح مسلم 3/1548 (1955).
(2) أحكام أهل الذمة 1/602.
(3) ينظر مجموع الفتاوى 7/522 ـ 523، وهذا في كتاب الإيمان الكبير.
(4) صحيح البخاري 4/1812 (4533)، وغير موضع، وصحيح مسلم 4/2147 (2786) وغير موضع.
- - - - - - - - - - - - - - -
المراجع والمصادر
أولا- القرآن الكريم وعلومه
القرآن الكريم
مفردات القرآن
النهاية في غريب الحديث والأثر
لسان العرب
الدر المنثور
تفسير الطبري
-زاد المسير
الكشاف للزمخشري
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
تفسير ابن كثير
-تفسير البحر المحيط
فتح القدير
التحرير والتنوير
تفسير السعدي
تفسير الألوسي
تفسير الرازي
أحكام القرآن للجصاص
أحكام القرآن لابن العربي
أحكام القرآن للشافعي
الوسيط لسيد طنطاوي
في ظلال القرآن
ثانيا = كتب الفقه
الأم للشافعي مشكل
أدب الدنيا والدين
المحلى لابن حزم
المنتقى - شرح الموطأ
قواعد الأحكام في مصالح الأنام
الفروق للقرافي
-أنوار البروق في أنواع الفروق
المدخل لابن الحاج
إعلام الموقعين عن رب العالمين )
جامع الفقه الإسلامي
الآداب الشرعية
= البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار
-أسنى المطالب للشيخ زكريا الأنصاري
-شرح البهجة الوردية
مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل
شرح النيل وشفاء العليل - إباضية
-مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
كشاف القناع عن متن الإقناع
الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني
غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب
مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
-حاشية البجيرمي على الخطيب
-مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى
نيل الأوطار للشوكاني
الموسوعة الفقهية
مجموع الفتاوى لابن تيمية
الفصل في الملل والأهواء والنحل
هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى
تنبيه الغافلين للسمرقندي
مجموع فتاوى و مقالات ابن باز
نور على الدرب
المنتقى من فتاوى الفوزان
-فتاوى الشيخ عبدالله بن عقيل
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم
فتاوى الأزهر
لقاءات الباب المفتوح
فتاوى من موقع الإسلام اليوم
فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ
فتاوى يسألونك
فتاوى الإسلام سؤال وجواب
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة
فتاوى إسلامية
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
http://www.islamtoday.net/pen/show_articles_content.cfm?id=64&catid=38&artid=8794
موقع الشيخ http://tawhed.ws/r?i=3419
http://www.alminbar.net
المكتبة الشاملة الإصدار الثاني
الفهرس العام
أولا- نص آية الولاء والبراء
وفي مفردات القرآن للأصفهاني:
وفي النهاية :
وفي اللسان :
ثانيا
أقوال المفسرين فيها
وفي الدر المنثور :
وفي تفسير الطبري :
وفي تفسير ابن الجوزي :
وفي الكشاف :
وفي القرطبي :
وفي تفسير ابن كثير :
وفي البحر المحيط :
وفي تفسير الشوكاني :
وفي تفسير الطاهر بن عاشور :
وفي تفسير السعدي :
وفي الظلال :
ويقول رحمه الله في المعالم :
جِنْسِيّة المُسْلِم وَعَقِيدَتُه
ثالثا
أقوال الفقهاء
وفي الأم :بَابُ الْوَلَاءِ وَالْحَلِفِ :
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَتُفَرَّقُ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْخُمُسِ عَلَى مَنْ سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :
وفي أحكام القرآن للشافعي :وَقَرَأْت فِي كِتَابِ ( السُّنَنِ ) رِوَايَةَ حَرْمَلَةَ بْنِ يَحْيَى عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله قَالَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } , الْآيَتَيْنِ .
وقال الجصاص :بَابُ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ
بَابُ تَزَوُّجِ الْكِتَابِيَّاتِ
وفي أدب الدنيا والدين :وَإِذَا كَانَتْ الْأُلْفَةُ بِمَا أُثْبِتَ تَجْمَعُ الشَّمْلَ وَتَمْنَعُ الذُّلَّ , اقْتَضَتْ الْحَالُ ذِكْرَ أَسْبَابِهَا . وَأَسْبَابُ الْأُلْفَةِ خَمْسَةٌ وَهِيَ : الدِّينُ وَالنَّسَبُ وَالْمُصَاهَرَةُ وَالْمَوَدَّةُ وَالْبِرُّ .
وفي المحلى :2160 - مَسْأَلَةٌ : هَلْ لِلْعَادِلِ أَنْ يَعْمِدَ قَتْلَ أَبِيهِ الْبَاغِي أَمْ لَا ؟
( صفات المنافقين )
وفي المنتقى شرح الموطأ : ( مَسْأَلَةٌ ) : (وَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ فِي الْخَوَارِجِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِكُفَّارٍ , وَمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهُمْ فَقُتِلَ يُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلِّي عَلَيْهِ غَيْرُ الْإِمَامِ وَيَرِثُهُ وَرَثَتُهُ وَتَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ , )
وقال ابن العربي :الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ قوله تعالى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَك سَكَنٌ لَهُمْ وَاَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
وفي قواعد الأحكام :فِي بَيَانِ تَقْسِيمِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ أَقْسَامٌ :
وفي الفروق :157 - إذَا كَانَ لِلْمُسْلِمِ أَبٌ كَافِرٌ ذِمِّيٌّ , أَوْ لِلْكَافِرِ أَبٌ مُسْلِمٌ يَجِبُ نَفَقَةُ الْأَبِ عَلَى الِابْنِ .
وفي أنوار البروق :( الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشَرَ ) التَّفْضِيلُ بِسَبَبِ الْإِضَافَةِ
( الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) التَّفْضِيلُ بِالْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ 0
( الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) التَّفْضِيلُ بِالثَّمَرَةِ وَالْجَدْوَى0
( الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) التَّفْضِيلُ بِأَكْثَرِيَّةِ الثَّمَرَةِ
وفي المدخل :( فَصَلِّ ) فِي ذِكْر بَعْض مَوَاسِم أَهْل الْكتاب فَهَذَا بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَوَاسِمِ الَّتِي يَنْسُبُونَهَا إلَى الشَّرْعِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ(1/437)
وفي إعلام الموقعين :[ شُبُهَاتٌ لِنُفَاتِ الْقِيَاسِ وَأَمْثِلَةٌ لَهَا ]
[ كَيْفَ يُمْكِنُ الْقِيَاسُ مَعَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ ؟ ]
وفي فتح العلي المالك : ( مَا قَوْلُكُمْ ) فِي إقْلِيمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ هَجَمَ الْكَافِرُ الْعَدُوُّ عَلَى بِلَادِهِمْ وَأَخَذَهَا وَتَمَلَّكَ بِهَا وَبَقِيَتْ جِبَالٌ فِي طَرَفِ الْإِقْلِيمِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَصِلْهَا , وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا وَهِيَ مَحْرُوسَةٌ بِأَهْلِهَا وَهَاجَرَ إلَيْهَا بَعْضُ أَهْلِ الْإِقْلِيمِ الْمَذْكُورِ بِالْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ وَبَقِيَ مَنْ بَقِيَ تَحْتَ حُكْمِ الْكَافِرِ وَفِي رَعِيَّتِهِ , وَضَرَبَ عَلَيْهِمْ خَرَاجًا يُشْبِهُ الْجِزْيَةَ الْمَعْلُومَةَ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ , وَفِيمَنْ هَاجَرَ بَعْضٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَفِيمَنْ بَقِيَ بَعْضٌ كَذَلِكَ فَصَارَ التَّشَاجُرُ بَيْنَ فَرِيقَيْ الْعُلَمَاءِ , فَمَنْ هَاجَرَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْجِبَالِ الْمَذْكُورَةِ يَقُولُ : الْهِجْرَةُ وَاجِبَةٌ وَيُفْتِي بِأَنَّ مَنْ بَقِيَ تَحْتَ الْكَافِرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْهِجْرَةِ يُبَاحُ دَمُهُ وَمَالُهُ وَسَبْيُ أَهْلِهِ وَذَرَارِيِّهِ مُسْتَدِلًّا هَذَا الْقَائِلُ بِأَنَّ مَنْ بَقِيَ مَعَهُ صَارَ مُعِينًا لَهُ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَنَهْبِ أَمْوَالِهِمْ وَسَاعِيًا فِي غَلَبَةِ الْكَافِرِ عَلَيْهِمْ وَبِأَدِلَّةٍ غَيْرِ ذَلِكَ , وَمَنْ بَقِيَ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي جُمْلَةِ مَنْ بَقِيَ تَحْتَ الْكَافِرِ , وَلَمْ يُهَاجِرْ يَقُولُ : الْهِجْرَةُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَيَسْتَدِلُّ بِدَلَائِلَ مِنْ جُمْلَتِهَا قوله تعالى { إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ } وَغَيْرُ ذَلِكَ . فَأَفِيدُوا الْجَوَابَ الْوَافِيَ بِالدَّلِيلِ الشَّافِي الَّذِي لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَلَكُمْ الثَّوَابُ مِنْ الْمَلِكِ الْوَهَّابِ .
وفي الآداب الشرعية :فَصْلٌ : فِي مَيْلِ الطَّبْعِ إلَى الْمَعْصِيَةِ , وَالنِّيَّةِ , وَالْعَزْمِ , وَالْإِرَادَةِ لَهَا وَمَا يُعْفَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : أَحِبَّ فِي اللَّهِ وَأَبْغِضْ فِي اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا تُنَالُ وِلَايَةُ اللَّهِ إلَّا بِذَلِكَ وَلَنْ يَجِدَ عَبْدٌ طَعْمَ الْإِيمَانِ وَإِنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ وَصَوْمُهُ حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ .
وفي البحر الزخار :فَصْلٌ وَالْمُوَالَاةُ وَالْمُعَادَاةُ فِي الدِّينِ وَاجِبَتَانِ إجْمَاعًا وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ ضَرُورَةً 0
وفي أسنى المطالب :( وَلَا يَبْدَأُ ) الذِّمِّيَّ ( بِتَحِيَّةِ غَيْرِ السَّلَامِ ) أَيْضًا ( إلَّا لِعُذْرٍ )
( فَرْعٌ وَيُلْجَأُ فِي الزَّحْمَةِ إلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ وَلَا يُصَدَّرُ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ مُسْلِمُونَ )
وفي الغرر البهية :( قُلْت بِلَا وُدٍّ وَلَا احْتِرَامِ )
وفي مواهب الجليل :( الْخَامِسُ ) فِي تَعْزِيَةِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ وَالْكَافِرِ بِالْمُسْلِمِ , أَوْ بِالْكَافِرِ0
ص ( بِكُرْهٍ ) ش : قَالَ فِي التَّوْضِيحِ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ إنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ سُكُونٌ إلَى الْكَوَافِرِ وَمَوَدَّةٌ لَهُنَّ 0
ص ( وَنِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ عِنْدَ وَجْهِهِ أَوْ الْفَرْضِ أَوْ اسْتِبَاحَةِ مَمْنُوعٍ )
وفي شرح النيل :وَإِذَا اجْتَمَعَ أَعْمَالُ الشِّرْكِ أَوْ أَقْوَالُهُ مَعَ أَعْمَالِ التَّوْحِيدِ وَأَقْوَالِهِ فَذَاكَ ارْتِدَادٌ 0
وفي كشاف القناع :( قَالَ جَمَاعَةٌ وَيَقْتُلُ الْمُسْلِمُ أَبَاهُ وَابْنَهُ وَنَحْوَهُمَا مِنْ ذَوِي الْقَرَابَةِ فِي الْمُعْتَرَكِ )
( الْمُقَاتَلَةُ وَيَحْرُمُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِكُفَّارٍ )
وفي الفواكه الدواني :وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالنَّسَبِ وَالصِّهْرِ وَالرَّضَاعِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالدِّينِ بِقَوْلِهِ : ( وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ) عَلَى الْمُسْلِمِ ( وَطْءَ الْكَوَافِرِ )
( وَلَا يَبْلُغُ أَحَدٌ ) كَمَالَ ( حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ ) قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ ( حَتَّى يُحِبَّ ) بِالنَّصْبِ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ ( لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ ) مِنْ الْخَيْرِ مِثْلَ ( مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ )
وفي غذاء الألباب :( الرَّابِعُ ) : تَقَدَّمَ كَلَامُ أَبِي الْخَطَّابِ وَنَصَّ الْإِمَامُ فِي الِاكْتِفَاءِ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ بِالسَّلَامِ وَعَدَمِهِ
وفي تحفة الحبيب :وَتَحِيَّةُ لِقَاءِ الْمُسْلِمِ بِالسَّلَامِ .
وفي مطالب أولي النهى :( وَ ) يُكْرَهُ ( تَعَرُّضٌ لِمَا يُوجِبُ مَوَدَّةً بَيْنَهُمَا ) , لِعُمُومِ قوله تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الْآيَةَ .
وفي النيل :بَابُ مَا جَاءَ فِي قَبُولِ هَدَايَا الْكُفَّارِ وَالْإِهْدَاءِ لَهُمْ
وفي الموسوعة الفقهية :الصِّلَةُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ :
السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ :
وقال شيخ الإسلام أحْمَدُ بن تَيْمية ـ قَدسَ اللَّه روحه : (خصائص هذه الرسالة )(1/438)
اعلم أن [ الإيمان ] و [ الإسلام ] يجتمع فيهما الدين كله، وقد كثر كلام الناس في [ حقيقة الإيمان والإسلام ] ، ونزاعهم،واضطرابهم . وقد صنفت في ذلك مجلدات، والنزاع في ذلك من حين خرجت الخوارج بين عامة الطوائف .
( قول الأشعري في الإيمان )
ومما يبني على هذا مسألة معروفة ـ بين أهل السنة وأكثر العلماء / وبين بعض القدرية ـ وهي توبة العاجز عن الفعل، كتوبة المجبوب عن الزنا، وتوبة الأقطع العاجز عن السرقة، ونحوه من العجز، فإنها توبة صحيحة عند جماهير العلماء من أهل السنة وغيرهم .
فصل -وكما عظم الله الفاحشة عظم ذكرها بالباطل وهو القذف0
فصل -( لفظ إنما )
وَسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن رجل حنفي صلى في جماعة، وأسر نيته، ثم رفع يديه في كل تكبيرة، فأنكر عليه فقيه الجماعة، وقال له : هذا لا يجوز في مذهبك وأنت مبتدع فيه، وأنت مذبذب، لا بإمامك اقتديت، ولا بمذهبك اهتديت . فهل ما فعله نقص في صلاته ومخالفة للسنة ولإمامه أم لا ؟
فصل -في الولاية والعداوة
وَسئِلَ ـ رَحِمَه اللّه ـ عن الغيبة : هل تجوز على أناس معينين أو يعين شخص بعينه ؟ وما حكم ذلك ؟ أفتونا بجواب بسيط؛ ليعلم ذلك الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، ويستمد كل واحد بحسب قوته بالعلم والحكم .
وسئل ـ قدس الله روحه ـ عن رجل أسلم : هل يبقى له ولاية على أولاده الكتابيين ؟
فصل : ( الرد على الإتحادية )
فصل -) الصحابة أعلم من جاء بعدهم )
فَصْل ( معنى الإيمان )
\فَصْل وأما قول القائل : إن النبي صلى الله عليه وسلم خص كل قوم بما يصلح لهم . . . إلخ، فهذا الكلام له وجهان :
فصل ( البينة على الناس )
فصل ( الرد على بعض خرافات العرب )
فصل -( ما يستغفر منه )
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - رحمه الله : حول معنى الاستغفار
وفي الفصل لابن حزم :هل الإحسان إلى الأبوين الكافرين من التعظيم؟:.
واعترض علينا بعض الأشعرية بأن قال: إن الله تعالى يقول: (إنك لا تهتدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) فصح أن محبته عليه السلام لمن أحب ليس فضلا؛ لأنه قد أحب عمه وهو كافر.
وفي هداية الحيارى : الفصل الرابع: نصوص الكتب المتقدمة في البشارة به وصفته ونعت أمته.
وفي تنبيه الغافلين : وقال بعض العلماء: حرمة الزاهدين عشرة أشياء:
رابعا
أقوال العلماء المعاصرين
وفي فتاوى العلامة ابن باز رحمه الله : نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع
لا أخوة بين المسلمين والكافرين ولا دين حق غير دين الإسلام
وجوب عداوة اليهود والمشركين وغيرهم من الكفار
الكافر ليس أخا للمسلم
س : يقول يسكن معي واحد مسيحي ويقول لي أخي ونحن أخوة ويأكل معنا ويشرب هل يجوز هذا العمل أم لا ؟
حكم الانتماء إلى أحزاب دينية
تعقيب على مقالة الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر بعنوان : علاقة الإسلام بالأديان الأخرى
الصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفرة لا يلزم منه مودتهم ولا موالاتهم
حكم مصاحبة الكافر
وفي فتاوى الفوزان :
148 ـ ما رأيُ فضيلتكم فيمن يتقرَّب إلى الكفَّار ويواليهم بحجَّة أنهم يفهمون في أمور المادَّة أكثر منَّا ؟ وكيف يكون التعامل معه ؟
149 ـ ما حكم من خاف من اعتداء الكفار والمشركين وجاملهم في بعض أفعالهم المنكرات؛ خوفًا منهم، وليس إقرارًا أو رضاء بما يفعلون ؟
150 ـ ما حكم زيارة الكفَّار وقبول هداياهم والقيام لجنائزهم وتهنئتهم في المناسبات ؟
153 ـ هل التأريخ بالتاريخ الميلادي يُعتبَرُ من موالاة النصارى ؟
154 ـ ما حكم السَّفر إلى بلاد غير إسلامية بقصد السُّكنى والاستيطان فيها ؟
155 ـ معنى هذا أنه لو كان مثلاً لغرض التجارة فقط؛ فيجوزُ له ذلك ؟
وفي فتاوى الشيخ عبد الله بن عقيل :[462] السفر إلى بلاد المشركين
وفي فتاوى الشيخ البراك :موادة الكافر هل تحرم مطلقاً؟
الولاية بين المؤمن وغيره
حكم الابتسامة في وجوه الكفار لكسب مقصد دنيوي:
حكم محبة الكفار
(4059- الحث على التحاكم إلى كاتب الله وسنة رسوله وموإلات أولياء الله ومقاطعة أعدائه)
قبول هدية غير المسلم
حكم مصادقة العصاة
حضور جنازة زميله غير المسلم في الكنيسة تقديرا للميت
إيضاح القاعدة العظيمة - " تحريم موالاة الكفّار
هل يرجع للإقامة في بلاد الكفر ؟
هل تجالس مسلمة لا تصلي وتأكل معها ؟
سؤال رقم 33862- معاملة الزوجة الكتابية
سؤال رقم 38125- الإفطار مع غير المسلمين
سؤال رقم 41631- اللين مع الكفار بقصد الدعوة
سؤال رقم 47322- هل يدعو لصديقه النصراني بالشفاء
سؤال رقم 59879- ما معنى اتخاذ الكفار أولياء ؟ وحكم مخالطة الكفار
سؤال رقم 6491- كيف تتأكّد من إسلام شخص تحبّه لتتزوّجه
سؤال رقم 69876- هل تقطع علاقتها مع بعض الكافرات أم تستغلها في الدعوة ؟
هل يسمح لخالته النصرانية بالبقاء معه في السكن حتى يدعوها للإسلام ؟
سؤال رقم 85108- قبول هدية الكافر في يوم عيده
سؤال رقم 8798- هل يجوز إجابة دعوة غير المسلم إلى الطعام للتقرب منه
سؤال رقم 27211- هل يرجع للإقامة في بلاد الكفر ؟
سؤال رقم 47322- هل يدعو لصديقه النصراني بالشفاء
سؤال رقم 2179- إيضاح القاعدة العظيمة - " تحريم موالاة الكفّار "
رقم الفتوى 9896 التعامل مع الكفار
رقم الفتوى 10327 حكم السكن مع أهل الكتاب في بيت واحد
رقم الفتوى 11768 الأخ أو القريب الكافر... صلة أم قطيعة
رقم الفتوى 15087 لا يجتمع في القلب الإيمان بالله وحب أعداء الله
رقم الفتوى 17836 جنس العمل شرط في صحة الإيمان
رقم الفتوى 20995 مخاطر مصادقة الملحد
رقم الفتوى 22048 لا تقطع إحسانك ولتكن نيتك تحبيب الخلق للإسلام
رقم الفتوى 23135 ضوابط التعامل مع النصارى لمن ابتلي بالعمل أو السكن معهم.
رقم الفتوى 26155 الصحابي الذي قتل أباه في معركة أحد(1/439)
رقم الفتوى 32583 البغض القلبي للوالد المقصر تجاه الله هل ينافي البر
رقم الفتوى 35580 أصناف الناس في الولاء والبراء، ومظاهر موالاة المؤمنين
رقم الفتوى 37086 الإحسان إلى الكافرلا يستلزم مودته
رقم الفتوى 43019 الهجرة من بلاد الكفر إذا خشي على نفسه الفتنة
رقم الفتوى 47321 ضوابط العلاقة بين المسلم وغيره
رقم الفتوى 49403 الواجب تجاه من لا يصلي ويتلفظ بالكفر
رقم الفتوى 52996 ليس في القرآن ما يدعو إلى مودة أهل الكتاب
رقم الفتوى 54607 حكم الزواج ممن أسلم بالاسم فقط
رقم الفتوى 56071 الإحسان إلى الأقارب غير المسلمين وصلتهم دون المودة
رقم الفتوى 56629 أعظم أخوة عرفها تاريخ الإنسانية
رقم الفتوى 56692 الصداقة مع الكفار
رقم الفتوى 57416 حكم زيارة المسلم أهله الكفار في أعياد الميلاد
الاحتفال بعيد الحب
رقم الفتوى 59555 النطق بكلمة الكفر
رقم الفتوى 67185 حكم قول المسلم للكافر ((الأخ فلان))
رقم الفتوى 68016 مصادقة الملحد وإكرام ضيافته
رقم الفتوى 71699 الاشتغال بكتابة الروايات الإنجليزية
رقم الفتوى 72574 الدعاء للكافر.. الجائز والممنوع
رقم الفتوى 72626 صحابة ولدوا لآباء كانوا من صناديد الكفر
معنى قوله تعالى ( لا تتولوا قوما غضب الله عليهم )
حكم استقدام غير المسلمين للعمل في بلاد المسلمين وخاصة الجزيرة العربية
مخالطة غير المسلمين تمحو غيرتك الدينية
معنى قوله تعالى { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر .. }
معنى الولاية
حكم كفار أهل الكتاب المقيمين بين أظهرنا
ما معنى قوله تعالى: سورة الممتحنة الآية 13 لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وما معنى الولاية معهم؟
تهنئة النصارى بأعيادهم
تفسير سورة المجادلة
الدعوة إلى الإسلام تستلزم إقامة علاقات شخصية مع الكفار
بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن حكم الاحتفال بحلول عام 2000 الإفرنجي وما يتعلق به من أمور
بين الولاء الإسلامي والفطري
حكم المشاركة في المجلس التشريعي
مظاهر موالاة المشركين
الولاء والبراء
الولاء والبراء
الولاء والبراء
الولاء والبراء
الولاء والبراء
أولاً: تعريف وبيان:
ثالثاً: الغلو في الولاء والبراء:
خامساً: ولاء المؤمنين بعضهم بعضاً:
سادساً: ولاء الكفار والمنافقين:
سابعاً: البراءة من الكفّار والمنافقين ومعاداتهم:
الولاء والبراء بين العلم والحال في نازلة الزمان
عقيدتنا بين الولاء والبراء ووجوب الحكم بما أنزل الله
فقه الولاء والبراء في ضوء الحروب الصليبية
كلمات في « الولاء والبراء »
معالم غائبة في الولاء والبراء
نماذج مضيئة في تحقيق عقيدة الولاء والبراء
الولاء والبراء بين الغلو والجفاء
المراجع والمصادر(1/440)