- - - - - - - - - - - - - - - - - -
المعجم الصوفى
أول دراسة علمية فى الأصول القرآنية للمصطلح الصوفى
رسالة دكتوراه منحت مرتبة الشرف الأولى
من كلية دار العلوم جامعة القاهرة
إعداد
د / محمود عبد الرازق
الأستاذ المساعد بكلية الشريعة وأصول الدين جامعة الملك خالد
قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
كثيرا ما يتبادر إلى الذهن أن يتساءل الإنسان عن جدوى وجوده وغايته فى الحياه ، وفى أكثر الأحيان يخضع الحياة بأنشطتها الاجتماعية والعملية والفكرية والجمالية لنوع من النقد قد يصل إلى حد الحكم بعدم الجدوى من التواصل والاستمرار ، ويغدو الحل الأكثر ترجيحا هو الانتقال من حالة الفعل إلى عدمه ومن الإجابي إلى السلبى ، من الحياة الزاخرة إلى شكل من أشكال الموت .
وتظهر لنا الموروثات الثقافية فى الحضارات المختلفة أن الإنسان قد وجه اهتماما بالغا إلى قضية الكيفية المثلى التى يجب أن يحيا عليها ، وقد وجدت منذ سالف العصور محاولات جادة لتحقيق هذا الهدف أو إعادة تشكيل جملة الأعراف السائدة والمعتقدات والمعلومات على ضآلتها بغرض الوصول بالنفس الإنسانية إلى شاطئ السلامة والاطمئنان إلى الحاضر والمستقبل .
لكن قصور إدراكات الإنسان عن تصور صلاحه يجعل الموضوعات الفلسفية التى يطرحها فى تصور الحقائق مهما بلغلت من الكمال متواضعة أما نفرات النفس الوثابة التى لا تهدأ إلا إذا غمرها العجز والإحساس بعظمة ما بين يديها من كمال فى دين الله ومنهج الرسل ، ومن ثم سكنت النفس إلى خالقها الذى ليس كمثله شئ فى علمه أو حسن توجيهه لخلقه ، وكانت الفطرة مهيئة لاستقبال منهج الله الذى أنزله على رسله ، وكان هذا القرآن الذى أنزله الله على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - وجعله خاتما لرسالة الإسلام وآخر لبنة فى بناء الرسالات السماوية ، فوضع فيه أسس الكمال اللازمة لقيادة البشرية فى حقبتها الأخيرة إلى يوم القيامة ، كما قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا } [المائدة/3] .(2/1)
وقد ميز الله القرآن عن سائر ما سبق من الكتب الإلهية ، ليس فقط فى كونه النص الوحيد فى العالم الذى يقرأ بأسلوب الوحى الأول بإعجاز تركيبه وبلاغة كلماته ، ولكن ميزه الله بدوام حفظه وبقائه إلى يوم القيامة من خلال أمرين اثنين :
الأمر الأول : أن الله حفظه منهجا ثابتا لا يتغير ، فهيأ الأسباب لحفظ القرآن والسنة على الدوام ، فقال تعالى فى حفظ منهجه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر/9] وفى حفظ السنة تميزت الأمة الإسلامية بالأسانيد فى براعة نادرة فوضعت قواعدها التى تميز بين المقبول والمردود أو الصحيح والضعيف مما نسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ما عرف بعلم مصطلح الحديث الذى يعد معلما من معالم الفكر الإسلامى .
الأمر الثانى : أن الله حفظه واقعا مرئيا تقام به الحجة على العباد ، فقال - صلى الله عليه وسلم - فى وجوده واقعا مستمرا إلى قيام الساعة : " لا تزال طائفة من أمتى على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتى أمر الله تبارك وتعالى " (1) .
ـــــــــــــــــــ
نص الحديث فى صحيح ابن حبان ،من طريق ثوبان ،برقم (6714) 15/110 وأخرجه البخارى ومسلم بطرق وألفاظ أخرى كثيرة ، انظر فتح البارى 13/293 .
وقد كتب الله السعادة فى الدارين لأتباع هذه الرسالة الذين قدروها حق قدرها ، وقاموا بها على مراد الله وهدى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فكان منهم خير القرون ومن جاء بعدهم ، ممن زكاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى قوله : " خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " قال عمران بن حصين راوى الحديث : " فلا أدرى أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة " (1) .(2/2)
فتقبلوا القرآن الكريم بقلب محب وصدر رحب ، وتلقوه بالقبول حفظا وفهما وعلما وعملا ، وطبقوا كل ما جاء به فى حياتهم الخاصة والعامة ، إيمانا منهم بقوله : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } [الإسراء/9] .
وظل الحال كذلك والأمة الإسلامية تفتح للقرآن الكريم ولغته العظيمة كل إمكانياتها ، ودخل الناس فى دين الله أفواجا ، دخل فيه الفارسي والرومى والحبشي وكل من بلغه هذا النور وشرح الله صدره له ، وتكونت دولة واحدة لا فرق فيها بين الناس وإن اختلفوا فى الجنس أو اللغة أو اللون ، ثم جاءت الفتوحات الإسلامية واتسعت الرقعة الإسلامية واختلط العرب بغيرهم والإسلام فى تلك الأدوار كلها يقضى على العصبيات والقوميات وينادى الناس جميعا : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات/13] .
ـــــــــــــــــــ
أخرجه مسلم فى كتاب فضائل الصحابة الحديث (2535) 4/1964 ، والبخارى بلفظ : خيركم قرنى ، حديث (2508) 2/938 .
حتى وصل الأمر فى رسوخ ميزان التقوى كميزان أوحد للمفاضلة بين الناس إلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض الموالى على زعماء قريش وكبار الصحابة من المهاجرين والأنصار .(2/3)
لهذا امتزج المسلمون العرب بغيرهم من الأمم ، ونتج عن هذا الامتزاج جيل جديد يسمع عربية خالصة ولكنة أعجمية غريبة على البيئة العربية ، وإذا كان الاختلاف مقدرا فى سنن الله الكونية ، ومحلا للابتلاء بين العباد ، كما قال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود/118] .
فإن الله نهانا عنه وحذرنا منه وأمرنا بالاعتصام بمنهجه الممثل فى كتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال جل ذكره :
{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا } [آل عمران/103] .
وقال أيضا : { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور/63] .
فمن جانب السنن الكونية حدث الاختلاف بين الأمة ، ومن جانب التكليف والعلم كلفنا الله سبحانه وتعالى بأخذ الأسباب فى خدمة الكتاب والسنة ، ومما يثلج الصدر أن همم المسلمين لم تفتر ولم تستكن رغم الكبوات التى تحل أحيانا بالأمة الإسلامية ، فتجدها تعود سيرتها الأولى قوية عزيزة ، تغترف من القرآن والسنة الزاد الذى يقوى شكيمتها ويصحح مسيرتها .(2/4)
وقد حاولت فى هذه الأطروحة التى تقدمت بها لنيل درجة الدكتوراه أن تكون سببا من الأسباب فى خدمة الكتاب والسنة ، والسعى الجاد إلى وحدة المسلمين ونبذ الخلاف من بينهم فى ميدان من أخطر الميادين وأوسعها انتشارا وهو ميدان التصوف ، فمن المعلوم أن التصوف التصق عبر تاريخه الطويل بمعتقدات اتحادية حلولية ومفاهيم فلسفية غريبة عن البيئة الإسلامية ، أدت إلى كثير من مظاهر التقديس والمبالغة فى تعظيم المريدين لأوليائهم ، حتى نسبوا إليهم أوصافا لا تليق إلا بجناب الربوبية ، واتخذوهم وسطاء شفعاء يطاف بقبورهم ويستغاث بهم وتشد الرحال إليهم .
وأصبح الأمر بعيدا عن مفهوم التوحيد البسيط الذى نزلت به الكتب وبعثت به الرسل ، والذى لا يجعل واسطة بين العبد وربه ، وقد توارثت أجيال العامة من الصوفية وغيرهم هذه الأمور المشينة ، بحيث تراكمت حول الطرق الصوفية أكداس من المفاهيم تتعارض فى كثير من الأحايين مع أصول العقيدة الإسلامية وتخالف الأصول القرآنية والنبوية .
ولما كانت الاستقامة لابد من تلمس مبادئها ودعائمها من الأصول المطهرة التى انبثق عنها الإسلام فى مطلعه الأول وهو الكتاب والسنة ، فقد كان لزاما على الباحثين أن يتجهوا إلى المعين الأول والمباشر ، إلى الاعتصام بالقرآن والسنة ، فكان موضوع الرسالة عن مدى العلاقة بين مصطلحات الصوفية وألفاظهم وما ورد فى القرآن والسنة ، وقياس مدى قربهم أو بعدهم من هذين الأصلين ، ودورهم إيجابا أو سلبا فى الحفاظ على العقيدة الإسلامية .
كما حاولت أيضا إظهار المنهج السليم الذى يؤدى إلى الاحتراز من سلبيات الواقع الصوفى المنتشرة فى البلاد الإسلامية قديما وحديثا .
أهمية الموضوع :
تكمن أهمية الموضوع فى الجوانب الآتية :
تقديم رؤية إسلامية صحيحة للحياة الروحية فى الإسلام ، من خلال تقديم المصطلحات الصوفية ذات الصلة بالأصول القرآنية والنبوية ، فى بحث نظرى وتطبيق معجمى .(2/5)
واقعية الموضوع وأثره فى تصحيح الحياة الصوفية المعاصرة ، من خلال تقديم دراسة علمية نزيهة للمؤيدين أو المعارضين للتصوف ، وذلك بغية التجرد للوصول إلى الحقيقة .
الوقوف على مكانة المستقيمين من أوائل الصوفية وسلوكهم ومنهجهم فى الحياة بذكر ما لهم وما عليهم ، ليتأسى الناس بالفضيلة والأخلاق الحميدة والعمل على كشف الشخصيات التى أسهمت فى إيجابية الفكر الإسلامى بصورة عامة .
الوقوف على تطور الفكر الصوفى وقياس زاوية الانحراف عن الأصول القرآنية والنبوية من حيث القرب أو البعد عن المنهج الإسلامى .
الوقوف على ضوابط الاعتماد على الأصول القرآنية والنبوية فى العمل المعجمى .
الدراسات السابقة :
ظهرت محاولات متعددة فى التراث الصوفى ، ومنذ وقت مبكر ، تتصدى لشرح ألفاظ الصوفية ومصطلحاتهم ، وانشغل أغلب الذين كتبوا عن التصوف بمحاولة تقريبيه إلى الآخرين ، وشرح الألفاظ الجارية على ألسنة الصوفية وحاولوا جاهدين أيضا التنبيه على أن دلالة الألفاظ عندهم تحمل معان خاصة وأن طبيعتها النوعية طبيعة رامزة ، يصعب على غيرهم استيعاب دلالتها أو فك شفرتها ، وقد كان لهؤلاء دور رائد فى وضع علم الاصطلاحات ، حتى قال عنهم المستشرق الفرنسى لويس ماسينيون :
( إنهم تقريبا وضعوا علم الاصطلاحات ) (1) ومن أقدم ما خلفوه فى تلك المحاولات ، القسم الذى عقده أبو نصر السراج الطوسى (ت:387هـ) فى كتابه اللمع تحت عنوان : ( كتاب البيان عن المشكلات ) (2) شرح فيه الألفاظ الجارية فى كلام الصوفية ، وبين مقصودهم منها .
ثم يتكرر الأمر نفسه بطريقة أوسع عند أبى القاسم عبد الكريم القشيرى (ت:465هـ) فى رسالته المشهورة ، فنراه يفرد بابا خاصا لتفسير ألفاظ الصوفية وشرح مدلولها (3) ، ويتواصل الجهد عند أبى الحسن على بن عثمان الهجويرى (ت:465هـ) (4) .
ـــــــــــــــــــ(2/6)
تاريخ الاصطلاحات الفلسفية العربية ، لويس ماسينيون ، تحقيق الدكتوره زينب الخضيرى ، طبعة المعهد الفرنسى للآثار الشرقية ، سنة 1991م ص 46 .
اللمع فى التصوف ، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود ، وطه عبد الباقى سرور طبعة دار الكتب الحديثة ، القاهرة سنة 1960 م ، ص409 وما بعدها .
الرسالة القشيرية ، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود ، ومحمود بن الشريف ، طبعة دار الكتب الحديثة ، القاهرة سنة 1974م ، حـ1ص200 وما بعدها .
كشف المحجوب ، تحقيق الدكتور إبراهيم الدسوقى شتا ، طبعة دار التراث العربى القاهرة 1394 هـ سنة 1974م ص 443 وما بعدها .
ومن بعده أبو حامد الغزالى (ت:505هـ) (1) ، ثم شهاب الدين أبى حفص عمر السهروردى (ت:632هـ) (2) ، ثم ظهرت معاجم خاصة عند محى الدين بن عربى (ت:638هـ) (3) ، وعبد الرزاق الكاشانى السمرقندى (ت:735هـ) (4) .
وعلى الرغم من كون المحاولات السابقة لكتاب المصطلحات كثيرة ومتكررة إلا أن التركيز فيها كان على إظهار المعنى الدلالى للمصطلح الصوفى (5) ، فلم يتناول أحدهم البحث عن العلاقة بين المصطلح الصوفى وأصوله القرآنية ، وإنما يكتفى بذكر بعض الشواهد القرآنية إن وجدت وذكر الشواهد النبوية بغض ـــــــــــــــــــ
1.الإملاء عن إشكالات الإحياء للغزالى ، نسخة مطبوعة على هامش إحياء علوم الدين طبعة فيصل الحلبى دار إحياء الكتب العربية ، بدون تاريخ حـ1ص49 .
2.عوارف المعارف ، تحقيق د/عبد الحليم محمود ، مطبعة السعادة القاهرة 1971م وطبعة ملحقة بإحياء علوم الدين ، دار الريان حـ5 ص330 .
3. اصطلاحات الصوفية لابن عربى ، جمعية المعارف العثمانية ، حيدر أباد 1948م .
4. لطائف الإعلام فى إشارات أهل الإلهام ، تحقيق سعيد عبد الفتاح ، دار الكتب المصرية 1996م ، ومعجم اصطلاحات الصوفية ، تحقيق د/ عبد العال شاهين ، دار المنار 1992م ، ورشح الزلال تحقيق سعيد عبد الفتاح ، المكتبة الأزهرية 1995م .(2/7)
5. انظر المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين لسيف الدين الآمدى ، مقدمة التحقيق للدكتور حسن الشافعى ، فى حديثه عن تاريخ المؤلفات فى المصطلح العلمى وانظر أيضا للمقارنة : اصطلاحات الصوفية ص19 ، ص20 ، والمعجم العربى نشأته وتطوره د/ حسين نصار ، طبعة دار نهضة مصر 1956م ص 35 وما بعدها .
النظر عن كون الحديث صالحا للاحتجاج من عدمه ، فمثلا فى رسالة ابن عربى التى وضعها لشرح اصطلاحات الصوفية لا يوجد سوى ثلاثة شواهد قرآنية ، كل شاهد ورد فى شرح مدخل اصطلاحي لا علاقة للمصطلح فيه بالشاهد (1) .
وحتى الدراسات الحديثة للمصطلح الصوفى ، سار المنهج فيها على طريقة القدماء ، وهى التركيز على إبراز المعنى المقصود عند الصوفية مع إضافة صبغة الترتيب المعجمى لها ، نرى ذلك فى معجم الدكتور الحفنى (2) ، والمعجم الصوفي للدكتوره سعاد الحكيم (3) ، ومعجم الدكتور الشرقاوى (4) ، وإن كانوا جميعا قد بذلوا جهدا مشكورا فى مجال العمل المعجمى ، كل واحد بأسلوبه ومنهجه الخاص (5) كما سنرى بعد ذلك .
ـــــــــــــــــــ
1. اصطلاحات الصوفية لابن عربى ص139 ، ص140 ، ص141 .
2. معجم مصطلحات الصوفية ، د/عبد المنعم حفنى ، دار المسيرة ، بيروت 1980م .
3. المعجم الصوفى ، د/ سعاد حكيم ، طبعة دندرة ، بيروت 1981م .
4. معجم ألفاظ الصوفية د/ حسن الشرقاوى ، مؤسسة المختار ، 1987م .
5. لم يبلغ أى معجم فى الدراسات الحديثة من حيث كثافة مصطلحاته مبلغ لطائف الإعلام ، إذ بلغت كثافة المداخل فيه ألفا وستمائة وثمانية وخمسين مدخلا ، فى حين بلغ أكبر معجم فى الدرسات الحديثة للدكتورة سعاد حكيم ست وسبعمائة ، وعلى الرغم من ذلك ، فإن المعجم الصوفى على ضخامة حجمه ، حيث بلغ عدد صفحاته 1312صفحة ،غير شامل لكل مصطلحات ابن عربى وإنما يضم جلها أو أهمها وفق اختيار المؤلفة ، وأكثر مصطلحاته يمثل فكره ونظرياته فى التصوف .(2/8)
ويعد المستشرق الغربى لويس ماسينيون أول من حاول رد المصطلح الصوفى إلى الأصول القرآنية ، حتى رأى أن التصوف الإسلامى فى أصله وتطوره صدر عن إدامة تلاوة القرآن وممارسته ، وأن القراءة المستمرة لهذا النص أعطت التصوف خصائصه المميزة ، كإقامة مجالس الذكر المنتظمة ، والذكر فى مجموعات بصوت مرتفع ، وإلقاء الأناشيد فى السماع ، والموضوعات المنظومة والمنثورة الداعية إلى التأمل ، وكتب بحثا فى نشأة المصطلح الفنى للتصوف الإسلامى (1) ، ضمن أعماله فى التعرف على تاريخ الاصطلاحات الفلسفية العربية ، لكن ماسينيون قدم نماذج نظرية محدودة لهذه الفكرة ، تحتاج إلى جهد تطبيقى شامل ، كما أن أغلب المصطلحات التى تخيرها ليرد أصولها إلى القرآن كمصطلحات : النور ، والنار ، والطائر ، والشجرة ، والكأس ، والشرب وغير ذلك ، هى فى مجملها ألفاظ قرآنية موضوعة على معانى معبرة عن فلسفة ـــــــــــــــــــ
- - ? تمهيد - - - } - فهرس - فهرس ?? - ? - - - عليه السلام - } - ?? - ? الله - - - } ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -? - - صلى الله عليه وسلم - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - صلى الله عليه وسلم - } - } فهرس - صلى الله عليه وسلم - - - - صلى الله عليه وسلم -?? - - صلى الله عليه وسلم - - } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - فهرس } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? - - صلى الله عليه وسلم -? - - ?? تمهيد - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? تمهيد - عليه السلام - - - عليه السلام - - مقدمة - فهرس - صلى الله عليه وسلم -??? - ? - ? - - صلى الله عليه وسلم - } فهرس ? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - - صلى الله عليه وسلم - } - ? - ? - - تمهيد - ? - ??(2/9)
ويعتبر هذا المستشرق الفرنسى رائدا فى دراساته عن التصوف ، فقد كتب المنحنى الشخصى لحياة الحلاج ، ترجمة عبد الرحمن بدوى دار النهضة المصرية 1964م ، ونشر للحلاج كتاب الطواسين ، طبعة باريس سنة 1913م ، ونصوص أخرى عن أخبار الحلاج ، شاركه فى جمعها المستشرق بول كراوس ، وطبعت فى باريس سنة 1936م .
وله أيضا بحث فى تاريخ الاصطلاحات الفلسفية العربية ، وغير ذلك من الأعمال ونقل عنه وحاكاه فى منهجه كثير من المستشرقين ، انظر مثلا ما كتبه المستتشرق شاخت وبوزورث عن التصوف فى كتابه تراث الإسلام ، الجزء الثانى ، طبعة عالم المعرفة الكويت ص87 وما بعدها ، حيث نقل عن ماسينيون فكرته فى رد المصطلح الصوفى =
الحلول والاتحاد أو حدة الوجود أو التصوف الفلسفى بصفة عامة ، ولا علاقة لها بالمعانى التى حملت عليها فى القرآن ، ولا تتمشى إلا مع المنهج العام الذى سلكه المستشرقون فى دراسة الإسلام .
منهج البحث :
ليس من السهل إعداد بحث شامل عن الأصول القرآنية للمصطلح الصوفى يتناول الجانب التطبيقى المعجمى ، وإن كان من السهل تناول الجانب النظرى على نماذج محدودة من المصطلحات ، فالبحث عن الأصول القرآنية لجميع المصطلحات الصوفية ، يقتضى أولا استقصاءا شاملا لألفاظ الصوفية التى أدرجها كتاب المصطلحات فى معاجمهم ، ثم البحث عن الأصول القرآنية لكل مصطلح على حدة ، وذلك من خلال النظر فى القرآن الكريم عن استعمالات اللفظ والتعريف بمعناه ، وإن وقفنا عند معانى اللفظ فى القرآن وأغفلنا ما ورد فى السنة ، فربما يدل المعنى النبوى على نتيجة مخالفة للمعانى التى توصلنا إليها ـــــــــــــــــــ(2/10)
= إلى الأصول القرآنية وحاكاه فى عرض المزيد منها ، لكن يلاحظ في منهجه تأثره الواضح بالأهداف الاستشراقية فى دراسة الإسلام ،حتى إن مترجمى الكتاب الدكتور حسين مؤنس ، وإحسان صدقى العمد ، لقيا مشقة بالغة فى التعليق على كل مصطلح والإنكار على شاخت فى تجنيه على الحقيقة ، ورده إياه إلى أصول قرآنية بعيدة فى المعنى ولا علاقة لها به ، انظر : تراث الإسلام حـ2 ص 93 ، 94 وانظر أيضا الاتجاهات الحديثة فى دراسة التصوف الإسلامى للدكتور محمد عبد الله الشرقاوى ، دار الفكر العربى ، القاهرة 1993م ص167 وما بعدها وانظر أيضا :
- ? - - صلى الله عليه وسلم - تمت - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنهم -? - ? - فهرس ?- سبحانه وتعالى - فهرس - رضي الله عنه -- صلى الله عليه وسلم - - - - عليه السلام -- رضي الله عنه - } - فهرس ??- رضي الله عنه - - ??- رضي الله عنه - - - صلى الله عليه وسلم -?? - } - - رضي الله عنه -- صلى الله عليه وسلم - - - صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنهم -?? - - ?? - - عليه السلام - - } - مقدمة ? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - - - - صلى الله عليه وسلم - - ? - ? - - - - ? { - - - ? -
- ? - - - { - صلى الله عليه وسلم - فهرس - - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - } مقدمة } فهرس - - - مقدمة ? - ? الله أكبر - - صلى الله عليه وسلم -? - - عليه السلام - - } ? بسم الله الرحمن الرحيم - صلى الله عليه وسلم - - - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - ? } فهرس ?- سبحانه وتعالى - - - - مقدمة ? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - - - - صلى الله عليه وسلم - - ? - ? - - - - ? { - - ? -(2/11)
باجتهادنا من القرآن ، فلا بد من مراعاة السنة لأنها شارحة للقرآن وموضحة لمعانيه ، كما أننا سنجد بالضرورة محاولات متكررة لا ستشهاد الصوفية بالأصول النبوية ، والرجوع إليها كالقرآن سواء بسواء ، فى استدلالهم على مصطلحاتهم .
ومن ثم يلزم الباحث أيضا استقصاء اللفظ واستعمالاته اللغوية والشرعية فى جميع كتب السنة حتى يصبح بحثه بحثا جادا ، والرجوع إلى السنة فى كل مصطلح على حدة ، والبحث عن استعمالات اللفظ فيها يتطلب بالضرورة جهدا جماعيا أعلى من طاقات البشر فى رسالة محدودة ، لأننا مثلا لو حصلنا من كتب السنة عددا من الأحاديث والروايات المسندة التى تشهد للمعنى الصوفى المستخدم تحت لفظ الاصطلاح ، فمن أين لنا الحكم على صحة ثبوتها وصلاحيتها للاحتجاج ؟(2/12)
كما أن إغفال الحكم على الحديث فى أى بحث جاد يضعف الثقة فى البحث ويؤثر فى قيمته العلمية ، ولذا لا بد من مراعاة ذلك فى هذا العمل ، لكن المشكلة التى تفرض نفسها أن جهد علماء الحديث فى الحكم على الروايات المسندة بالصحة أو الضعف أو القبول والرد بلغ قرابة الثمانين ألفا ، ومجمل الروايات المسندة يزيد على المائتين وخمسين ألفا ، فالاكتفاء بالمحكوم عليه فقط يعنى ترك الكثير من الأصول التى تؤثر فى مصداقية الحكم على الصوفية عند استشهادهم بالسنة ، وتجعل الأصول التى يرجع إليها المصطلح الصوفى هزيلة ولا تتصف بالشمولية فى تحرى الحقيقة ، فكان لا بد من الرجوع إلى أسلوب عصرى جديد نجح المسلمون فى تقنيته واستخدامه فى خدمة السنة على نطاق واسع فى السنوات الأخيرة ، وهو استخدام الكمبيوتر فى تقنية البحث الصرفى للألفاظ الواردة فى السنة ، والسرعة الخارقة فى جمع شواهدها ، وفحص السند المتصل والمنقطع والتعرف على رواة الحديث من جهة الجرح والتعديل والحكم علي رواياتهم بالقبول أو الرد ، ويكفى الباحث أن يطبق قواعد مصطلح الحديث بضوابطها من اتصال السند ، وعدالة الرواه ، ومدى الضبط فى النقل وانعدام الشذوذ والعلة للحكم عليه بالقبول أو الرد ، ولو بصورة قريبة من الصواب تعد تمهيدا للباحثين من بعد ، وقد أسفر هذا الأمر عن نتائج إيجابية كان من الصعب الوصول إليها بجهد فردى وفترة زمنية محدودة ، وقد التزمت فى هذا البحث منهجا تبدو معالمه فيما يلى :(2/13)
استقراء التراث الصوفي لحصر ألفاظ الصوفية ومصطلحاتهم على منهج واضح ، فلم أكتف بمجرد ذكر المصطلح فى المعاجم الصوفية ، وإنما استخرجت الشواهد الدالة على استعمال المصطلح فى عباراتهم ، والمعانى التى أشاروا إليها به ، مع تقرير ثبوتها عنهم ، ليكون الحكم حكما سليما معبرا بحق عن رأى الصوفية ، كما رتبت الشواهد فى كل مصطلح حسب التسلسل الزمنى الذى يظهر مدى التغير الدلالى للفظ عبر مراحل التصوف المختلفة .
الاعتماد على الشخصيات الصوفية البارزة التى تركت بصمات واضحة فى مجال التصوف ، وخصوصا أصحاب المؤلفات الأساسية الذين كتبوا عن التصوف ، وفسروا ألفاظ الصوفية ، وعليها بنى أصحاب المعاجم الحديثة معاجمهم ، وقد تدرجت فى انتقاء هذه المؤلفات حتى القرن العاشر الهجرى لأن التأليفات التى حُققت بعد هذا التاريخ هى فى مجملها إعادة وتبسيط للدلالات القديمة لهذه المصطلحات أو شروح لها وملخصات ، وبعد الاطلاع على ما هو مشهور ومؤكد الأهمية فى مضمار التصوف فى تلك الحقبة التى تمثل فترة العزو والصفاء للتآليف فى التصوف الإسلامى ، وقع الاختيار بعد تكلف وعناية شديدة فى عشر مؤلفا ، شكلت فى الغالب المظان التى سننهل منها معانى المصطلحات التى تتصل بالقرآن والسنة ، كما أنهما جمعت أغلب المصطلحات التى تعارف المتصوفون على استعمالها ، ولم يمنع ذلك الاستعانة بما يلتقط من المراجع الأخرى .
إخراج المادة العلمية فى كل مبحث فى أفكار محددة جامعة للموقف الصوفى ، تجسد الفكرة وتقرب المراد إلى القارئ ، وتقرير القضايا المعينة مع الاستشهاد بأقوال الآخرين كلما أمكن .
الرجوع المستمر إلى النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والتعليقات العلمية ، لمقارنة الرأى الصوفى بالمنهج الإسلامى الصافى ، ومدى قربه أو بعده منه ، وتخريج الآيات والأحاديث على منهج أهل الحديث ، مع النص على درجة الحديث من الثبوت .(2/14)
البعد عن التهويل والتهوين ، والإفراط والتفريط ، فى عرض القضايا والاقتصار على التجرد فى طرح الحقائق الموصولة للحكم ، وبسط المقدمات ونتائجها ، كما استخدمت المنهج التاريخى مرة ، والتحليلى أخرى ، والمقارن والنقدى ، طبقا لما تمليه طبيعة المسائل المبحوثة .
خطة البحث :
وقد جاء البحث مقسما إلى قسمين ومرتبا على هذا النحو :
* المقدمة : وقد اشتملت على سبب اختيار البحث ، وأهمية الموضوع والدراسات السابقة ، ومنهج البحث ، والخطة التى سار البحث على ضوئها .
* القسم الأول : ويتناول دراسة الأصول القرآنية للمصطلح الصوفى من الجانب النظرى التأصيلى ، وقد اشتمل على ستة فصول :
- الفصل الأول : الضوابط الأساسية للاستدلال بالقرآن .
- الفصل الثانى : بين التفسير والتأويل الصوفى للقرآن الكريم .
- الفصل الثالث : ينابيع المصطلح الصوفىمع دراسة فى المعاجم الصوفية .
- الفصل الرابع : مراحل التصوف وأثرها على التغير الدلالى للمصطلح
الصوفى وعلاقة ذلك بالأصول القرآنية .
- الفصل الخامس : دراسة منهجية فى معرفة المصطلح الصوفي وأصوله
القرآنية .
- الفصل السادس : الأصول القرآنية لمصطلح التصوف .
* القسم الثانى : ويتناول دراسة الأصول القرآنية للمصطلح الصوفى فى جانبه التطبيقى المعجمى ، وقد اشتمل على معجمين :
- الأول : ويشمل المصطلحات الصوفية ، التى تجيزها الأصول القرآنية والنبوية ، وهى مصطلحات صوفية مكونة من ألفاظ قرآنية أو نبوية وموضوعة على معانيها ، أو معان أخرى تجيزها الأصول القرآنية والنبوية ومرتبة ترتيبا ألف بائيا مشرقيا ، من حرف الألف إلى حرف الياء على النحو التالى :(2/15)
الأبد ، الاتصال ، الإحسان ، الإخبات ، الاختيار ، الإخلاص ، الإرادة الاستقامة ، الاصطفاء ، الاصطناع ، الاعتصام ، الامتحان ، الإنابة ، الإيثار البخل ، البسط ، البصيرة ، البعد ، البقاء ، البلاء ، التبتل ، التجلى ، التسليم التفريد ، التفكر ، التقديس ، التقوى ، التواضع ، التوبة ، التوجه ، التوحيد التوفيق ، التوكل ، الثقة ، الجنة ، الجوع ، الحال ، الحجاب ، الحرص الحرمة ، الحرية ، الحزن الحسد ، الحق ، الحقيقة ، الحكمة ، الحياء ، الحياة الحيرة ، الخاصة ، الخاطر الختم ، الخشوع ، الخشية ، الخلق ، الخلة ، الخلوة الخليفة ، الخوف ، الدعوى ، الدنيا ، الذكر ، ذو العقل ، الذوق ، الران الرجاء ، الرضا ، الرعاية ، الرغبة ، الرهبة ، الروح ، الرياء ، الزهد ، السالك الستر ، السكر، السكينة ، السماع ، الشاهد ، الشريعة ، الشكر ، الصبر الصدق ، الصفاء ، الطهارة ، العارف ، العامة ، العبرة ، العبادة ، العجب العدو ، العزم ، الغرق ، الغرور ، الغشاوة ، الغضب ، الغيبة ، الغيرة ، الفتوة الفرار ، الفقر ، الفناء ، القرب ، القلب ، الكبر ، اللطف ، المأخوذ والمستلب المجاهدة ، المحاسبة ، المحبة ، المحو ، المراقبة ، المقام ، المكر ، النفس ، الهمة الهوى ، الهيبة ، الورع ، الوفاء بالعهد ، الولى ، اليقظة ، اليقين .
- الثانى : ويشمل المصطلحات الصوفية ، التى لا تجيزها الأصول القرآنية والنبوية ، وهى مصطلحات صوفية مكونة من ألفاظ قرآنية أو نبوية ، منفصلة الدلالة عن معانيها الواردة فى الكتاب والسنة ، وموضوعة على معان أخرى استحدثها الصوفية وتداولوا الألفاظ عليها ، مرتبة ترتيبا ألف بائيا مشرقيا من حرف الألف إلى حرف الياء على النحو التالى :(2/16)
الإحرام ، الاعتكاف ، الأعراف ، الأفق الأعلى ، الأفق المبين ، أم الكتاب الأوتاد ، البدنة ، البرق ، البقرة ، البيت الحرام ، البيت المعمور ، البيضاء التدانى والتدلى ، التلبيس ، التلوين ، التمكين ، الجلاء ، الجلال ، الجلوة ، الجمال جلال الجمال ، الجمع ، الحرق ، الحضرة ، الخلق الجديد ، الدبور ، الرتق والفتق ، الرداء ، الردى ، الرق المنشور ، الركوع ، الزبور ، الزجاجة ، الزكاة سدرة المنتهى ، السر ، السفر ، السقف المرفوع ، السكر ، سواد الوجه الشجرة ، الشرب ، الشفع ، الشمس ، الشيخ ، الصنم ، الضنائن ، الضياء الطور ، الظل ، الظلمة ، العرش ، العمد المعنوية ، الغراب ، الفتح ، الفراق الفرق ، الفرقان ، قاب قوسين ، القدم ، القرآن ، القلم ، القيامة ، الكأس الكتاب ، الكرسى ، الكفر ، الكوكب ، اللوح المحفوظ ، ليلة القدر ، المثل مجمع البحرين ، المسافر ، المسامرة ، المستريح ، المسخ ، المسيرون ، المشرق مغرب الشمس ، الملامتية ، المنهج الأول ، الموت ، الميزان النار ، النعلان النفَس ، النقباء ، النكاح ، النور ، النون ، الواقعة ، الوطر ، الوطن ، الوقفة الياقوتة ، اليتيم ، اليدان ، يوم الجمعة .
* الخاتمة : وقد اشتملت على خلاصة البحث ، وأهم النتائج التى أسفر عنها البحث والتوصيات المقترحة .
* وختاما ...(2/17)
أحسب أننى بذلت جهدى ما استطعت فى بيان الأصول القرآنية للمصطلح الصوفى ، ولا أدعى أن هذا العمل على الرغم من استخدام الكمبيوتر والتقنية الحديثة فى سرعة البحث وإنجازه أنه لايحتاج إلى المزيد ، وإنما فتح الباب للإضافة والتعليق والنقد والمقارنة وإثراء الفكر الإسلامى بوجه عام والتصوف بوجه خاص ، ويمكن للباحث أو القارئ من خلال هذا العمل المتواضع أن يقارن بين استعمال المصطلح فى القرآن والسنة ومفهوم الصحابة ، وبين استعمال الصوفية له عبر مراحل التصوف المختلفة ، كما يمكن أن يصل إلى مقدار المعنى الذى له أصل فى الكتاب والسنة فى كل مصطلح بعينه ، ولعل الرؤية تتضح للمعاصرين من الصوفية وعامة المسلمين ، فيلتزموا طريق الأوائل الذين استندوا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقد أخلصوا النية وجردوها لله واتبعوا دون ابتداع فى دينه .
وأقدر أن هذه الرسالة جهد متواضع فأنا أعلم يقينا أن مثلى لا يعطى هذا الموضوع حقه من البحث والدراسة ، نظرا لسعة الموضوع وقلة الجهد وحسبى أننى بذلت قصارى جهدى ، وهو جهد المقل ، واجتهدت أن أصل به إلى الصورة التى تليق به ، فإن أصبت فذاك ما أردت والفضل كله لله ، وإن أخطأت فأستغفر الله لذنبى ، فهذه لبنة أمام من يريد إتمام البناء ، كما لايفوتنى أن أتوجه بخالص الشكر إلى القائمين على شركة صخر لبرامج الحاسب لما بذلوه من جهد كبير فى إخراج موسوعتى القرآن والسنة على أجهزة الكمبيوتر بهذه الكفاءة المتميزة ، وكذلك مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلى الذين أخرجوا الموسوعة الذهبية للحديث النبوى الشريف وعلومه ، وادعو اللَّه أن يوفقهم إلى المزيد فى خدمة السنة النبوية المطهرة وسائر العلوم الإسلامية .(2/18)
الضوابط الأساسية للاستدلال بالقرآن الكريم
من نعم الله الظاهرة على الإنسان ، أنه لم يتركه يستهدى فى الحياة بما أودعه فيه من فطرة ترغبه على الدوام فى تحصيل الخيرات ، فربما تعارضت وجهات النظر بين البشر فى تحديد ضوابط الخير والشر ، ومن ثم كانت معونة السماء زادا لفقر الإنسانية فى علومها المحدودة ، فبعث الله رسله بمنهج النجاة ورسالة الهدى إلى عباده ، ومن وقت أن قال الله لآدم عليه السلام بعد أن أنزله إلى الأرض : { قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة /38] إلى أن أنزل على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [المائدة/16:15] ،ظلت الإنسانية فى تطورها ورقيها ، يعاودها الوحى بما يناسبها ، ويحل مشاكلها فى نطاق قوم كل رسول ، حتى تم أمرها واكتمل نضجها .(3/1)
وقد أراد الله لرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن تكون خاتمة الرسالات السماوية ، فأرسله الله بهذا القرآن المعجز ، الذى هيأه الله بكل سبل الإعجاز ليبقى إلى ختام البشرية ، قال تعالى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } [الأحزاب/40] ، وفى حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية ، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة ؟ قال : فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين " (1) .
والقرآن هو كلام الله المعجز المنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين بواسطة الأمين جبريل عليه السلام ، المكتوب فى المصاحف ، المنقول إلينا بالتواتر المتعبد بتلاوته ، والمبدؤ بسورة الفاتحة والمختتم بسورة الناس ، وقد تلقاه النبى - صلى الله عليه وسلم - بحروفه وألفاظه عن رب العزة (2) ، قال الزرقانى : ( وقد زعم بعض الناس أن جبريل كان ينزل على النبى - صلى الله عليه وسلم - بمعانى القرآن ، والرسول يعبر عنها بلغة العرب وزعم آخرون أن اللفظ لجبريل ، وأن الله كان يوحى إليه المعنى فقط ، وكلاهما قول باطل مصادم لصريح الكتاب والسنة والإجماع ) (3) .
لقد كانت أشرف خصوصية للقرآن أن يكون محفوظا فى صدور الناس ، وأن يعتمد فى نقله على حفظ القلوب والصدور ، لا على كتابته فى المصاحف والسطور فحسب ، بخلاف أهل الكتاب الذين يعتمدون فى حفظ التوراة أو الإنجيل على الكتب المسطرة ، ولا يقرأونه إلا نظرا لا عن ظهر قلب ـــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب المناقب برقم (3535) 3/1300 ، ومسلم فى كتاب الفضائل (2286) 4/1790 .(3/2)
2. انظر مناهل العرفان فى علوم القرآن ، تأليف محمد الزرقانى ، طبعة عيسى البابى الحلبى ، مصر1/42 .
3. السابق حـ1ص42 .
ولهذا دخل إليهما التحريف والتبديل (1) .
يقول موريس بوكاى : ( صحة النص القرآنى المنزل على محمد لا تقبل الجدل ، وتعطى النص مكانة خاصة بين كتب التنزيل ، ولا يشترك مع نص القرآن فى هذه الصحة لا العهد القديم ولا العهد الجديد ، وسبب ذلك أن القرآن قد دون فى عصر النبى - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يتعرض النص القرآنى لأى تحريف من يوم أن أنزل على الرسول حتى يومنا هذا ) (2) .
ومن الأسباب العظيمة لحفظ القرآن التى تضاف إلى حفظه فى صدور الناس وكتابته فى المصاحف ، معرفة الضوابط اللازمة للاستدلال به ، وفهمه على النحو الذى أراده منزله .
فإذا كانت مادة البحث فى هذه الرسالة تعتمد على القرآن ، كأصل من الأصول التى يقاس بها معدن كل علم لا سيما التصوف ، حيث زعم جميع الصوفية أن القرآن معينهم ، وقد بنوا عليه قوامهم ، فلا بد من بيان الضوابط أو القواعد الأساسية اللازمة للقول بأن التصوف أو غيره من العلوم بنى على ـــــــــــــــــــ
1. انظر فى التعريف بالقرآن ومنزلته فى الإسلام : مباحث فى علوم القرآن لصبحى صالح طبعة دار العلم ص25 ، والإتقان فى علوم القرآن للسيوطى 1/101 ، والبرهان فى علوم القرآن للإمام بدر الدين الزركشى ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار المعرفة 1/273 ، ومباحث فى علوم القرآن لمناع القطان ص16 ، والهدى والبيان فى أسماء القرآن ، لصالح إبراهيم البليهى ، طبعة جامعة الإمام 1397هـ ، ص147 .
2. القرآن والتوراة والإنجيل والعلم موريس بوكاى ص151 .
أصول قرآنية صحيحة ، لأن تلك القواعد تمثل فى الحقيقة اتفاقا وثيقا وأصولا راسخة ، أو بنية أساسية فى اعتقاد المسلمين الذين عظموا كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .(3/3)
بل إن تلك الأسس لها من الهيبة فى نفس المسلم فضلا عن أهل العلم ، ما يبعث على الخوف والحذر من خدش إحداها أو المساس بها ، ولعل ما نجم من اختلاف بين الفرق ، كان مرده إلى تجاوز هذه الأسس أو بعضها عند البحث فى الكتاب والسنة ، ويمكن إجمال هذه الأصول وتلك القواعد والأسس فى الحقائق التالية :
[1]- أن الدين المقبول عند الله هو دين الإسلام ، ولا يقبل الله دينا سواه وأن القرآن الذى نزل على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ناسخ لما سبق من الرسالات السماوية ومهيمن عليها ، لقوله سبحانه وتعالى : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [آل عمران/19] .
وقال سبحانه : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } [آل عمران/85] .
وفى السنة من حديث أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " والذي نفس محمد بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " (1) .
ـــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الإيمان (153) 1/134 .
ولا يقبل تحت أى ادعاء أو حسن نية القول بعكس ذلك ، كمن قال بوحدة الأديان أو صحح دين اليهود والنصارى ، أو أى ملة من ملل الكفر ، ومهما استند إلى القرآن واستخرج ما شاء من آياته ، أو انتقى ما شاء من كلماته ليستدل بها على جودة مطلبه ، وأصالة مذهبه ، فلن يقبل منه ، كمن زعم من الصوفية أن فلسفته الذوقية أو مواجيده الإيمانية فى النظر إلى حقيقة الألوهية حكمت بوحدة الوجود ، فأداه ذلك إلى القول :
عقد الخلائق فى الإله عقائدا : وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه (1)
أو كقوله :(3/4)
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبى : إذا لم يكن دينى إلى دينه دانى
لقد صار قلبى قابلا كل صورة : فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف : وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت : ركائبه فالدين دينى وإيمانى (2)
لقد حاول بعض المستشرقين الأوائل أن يقيموا دراساتهم للإسلام على أساس تمييع هذا الأصل فى نفوس المسلمين ، من خلال تبنيهم لمثل هذا الفكر ونشره على الناس كدراسات بحثية مزينة بالصبغة العلمية ، أو مخطوطات محققة مستخرجة من تراث الصوفية ، أو أعمال أخرى تخلط بين العقيدة الإسلامية بجوانبها الغيبية التى لا تقبل الشك والجدل ، وبين فكر المسلمين المنسوب إلى ـــــــــــــــــــ
1. فصوص الحكم شرح عبد الرزاق الكاشانى ، مكتبة البابى الحلبى 1966م ص154 .
2 . ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق ، لابن عربى ص39 .
جهد العقل البشرى الذى يتسم فى الغالب بالنقص ، لا سيما من اصطبغ فكره بالشطط والخلط فى الدين (1) .
فأى كلام يقدم لهؤلاء المستشرقين الأعداء ، وأى فكر يعتصمون به أعظم ممن دعى إلى الإيمان بوحدة الأديان ، وتصحيح ملة المجرمين المشركين المعذبين فى جهنم ، وادعى أن فهم الكمل من الأولياء فى قوله تعالى : { وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا } [مريم/86] ، هو أن المجرمين هم أهل الاستقامة على صراط رب العالمين : ( والمجرمون هم الذين استحقوا المقام الذى ساقهم إليه بريح الدبور ، التى أهلكهم عن نفوسهم بها ، فهو يأخذ بنواصيهم ، والريح تسوقهم وهى عين الأهواء التى كانوا عليها إلى جهنم ، وهى البعد الذى كانوا يتوهمونه فلما ساقهم إلى ذلك الموطن حصلوا فى عين القرب ، فزال البعد ، فزال مسمى جهنم فى حقهم ، ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق ، لأنهم مجرمون ـــــــــــــــــــ(3/5)
1. انظر فى علة تبنى المستشرقين لفكر الحلاج و ابن عربى وتلاميذ مدرسته : الفكر الإسلامى والفلسفات المعارضة فى القديم والحديث ، للدكتور عبد القادر محمود ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986م ص 90 ، وانظر فى لمعرفة المزيد عن هذه الحقيقة الدراسات العربية والإسلامية فى الجامعات الألمانية تأليف رودىبارت ، ترجمة الدكتور مصطفى ماهر ، دار الكتاب العربى بمصر 1967م ، والإسلام فى مواجهة الاستشراق العالمى ، للدكتور عبد العزيز المطعنى ، طبعة دار الوفاء بمصر 1987م ، والتصوف عند المستشرقين ، لأحمد الشرباصى ، القاهرة 1966م ، ومناهج المستشرقين فى الدراسات العربية الإسلامية ، للدكتور جعفر شيخ إدريس الجزء الخاص بمنهج المستشرق واط فى دراسة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم 1/223 .
فما أعطاهم هذا المقام الذوقى اللذيذ من جهة المنة ، وإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من أعمالهم التى كانوا عليها ، وكانوا فى السعى فى أعمالهم على صراط الرب المستقيم ، لأن نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة ، فما مشوا بنفوسهم ، وإنما مشوا بحكم الجبر إلى أن وصلوا إلى عين القرب : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ } [الواقعة/85] ) (1) .
فهذا الكلام وأمثاله بنى على أساس باطل ، وهو خلط وتدليس ، وبهتان وتلبيس ، يورد صاحبه الآية فى كلامه ليوهم القارئ بأنه اعتمد على الأصول القرآنية والنبوية ، ويوحى للآخرين بأنه عميق الفكر بعيد المنال عن أصحاب العقول المحدودة ، فهذا ومن وافقه لو زعم آلاف المرات أنه يستند إلى الأصول القرآنية والنبوية ، فزعمه كاذب وكلامه مردود من حيث المبدأ .(3/6)
[2] - أن جملة الرسالة التى نزلت من الله إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - تمثلت فى القرآن وما ثبت فى السنة المطهرة ، وقد تلقاها النبى - صلى الله عليه وسلم - بالوحى على أشكاله المختلفة كما قال سبحانه : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } [النجم/5:1] .
وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الشورى/51] .
ـــــــــــــــــــ
1. فصوص الحكم لمحى الدين بن عربى الحاتمى ، شرح عبد الرزاق الكاشانى ، مكتبة البابى الحلبى 1966م ص108 ، وانظر تفسير القرآن الكريم ، للكاشانى ، منسوب إلى ابن عربى طبعة دار الأندلس ، بيروت 1978 ، 2/27 .
فتحددت بالآية وسائل خطاب الرسل مع ربهم على الأنواع الآتية :
1- الوحى من خلال الرؤيا فى المنام ، كما أوحى الله لإبراهيم بقتل ولده إسماعيل عليهما السلام : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ } [الصافات/102] .
وهذه الرؤيا للأنبياء وحى ، ولغيرهم مبشرات ، لكن لا قيمة لها فى إثبات الأحكام أو إلزام النفس أو الغير بمقتضاها ، لما روى من حديث أم كرز الكعبية رضى الله عنها ، قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ذهبت النبوة وبقيت المبشرات " (1) وقد فسرت المبشرات فى غير رواية بالرؤيا الصالحة .(3/7)
2- الكلام الإلهى المباشر من وراء حجاب بدون واسطة يقظة ، كما كلم الله موسى عليه السلام فقال : { وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [النساء/164] .
وقال أيضا : { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } [الأعراف/143] .
3- الكلام الإلهى غير المباشر بواسطة إرسال أمين الوحى جبريل ،وله فى كيفية التبيلغ إحدى حالتين ، وردتا فى حديث الحارث بن هشام - رضي الله عنه - لما سأل ـــــــــــــــــــ
1. أخرجه ابن ماجة فى كتاب تعبير الرؤيا (3896) وصححه الألبانى 2/1283.
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا ، فيكلمني فأعي ما يقول ، قالت عائشة رضي الله عنها : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا " (1) .
ثم انقطع الوحى بعد ذلك ، فلا ينزل على أحد من البشر إلى يوم القيامة كما قال تعالى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } [الأحزاب/40] .(3/8)
فمن ادعى الاتصال المباشر فى الخطاب مع الله تحت أى تأويل أو مسمى ليجعل كلامه مقبولا بين الناس ، أو حاول أن يضفى القدسية على كلامه بادعائه أن ما يقوله أو ما يكتبه إنما تلقاه بطريق من طرق الوحى السابقة ، فقد تجاوز أصول القرآن والسنة وسعى فى هدمها ، كقول القائل :
( أخذتم علمكم ميتا عن ميت ، وأخذنا علمنا عن الحى الذى لا يموت يقول أمثالنا : حدثنى قلبى عن ربى ، وأنتم تقولون : حدثنى فلان وأين هو ؟ قالوا : مات ، عن فلان ، وأين هو ؟ قالوا : مات ) (2) .
أو كادعاء الآخر أن كتاب الفصوص أخذه من يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكتوبا من
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب بدء الوحى ، رقم (2) 1/4.
2. من كلام أبى يزيد البسطامي ، والنسبه على ابن عربى فى فتوحاته ، انظر الفتوحات المكية 1/365 .
اللوح المحفوظ ، وهو مجرد ناقل أمين بلا زيادة أو نقصان ، كما قال :
( فحققت الأمنية ، وأخلصت النية ، وجردت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب ، كما حده لى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير زيادة ولا نقصان ) (1) .
وقوله أيضا : ( فاقتصرت على ما ذكرته من هذه الحِكَم فى هذا الكتاب على حد ما ثبت فى أم الكتاب ، فامتثلت ما رسم لى ووقفت عندما حد لى ولو رمت زيادة على ذلك ما استطعت ، فإن الحضرة تمنع من ذلك ) (2) .
حيث يشبه ابن عربى نفسه بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فى دقة البلاغ عن الله وخوفه من الوعيد الذى ورد فى قوله تعالى عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - : { تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل ِلأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [الحاقة/47:43] .
أو كما قال عبد الكريم الجيلى يحاكى طريقة الوحى فى التجلى الصوفى :(3/9)
( يتجلى الحق سبحانه وتعالى على العبد بتجل يسمع فيه صلصلة الجرس ويسمع تصادم الحقائق بعضها مع بعض ، فيجد لها أطيطا يملأ ما بين السماء والأرض ، ثم إذا تقوى وثبت لسماع ذلك ، يترقى ويسمع صلصلة الجرس عند رفع الستر عن الصفة القاهرية ) (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. فصوص الحكم ، تحقيق أبى العلا عفيفى ، طبعة بيروت ص47 .
2. السابق ص 58 .
3. المناظر الإلهية لعبد الكريم الجيلى ، تحقيق الدكتور نجاح محمود الغنيمى ، طبعة دار المنار ، ص194.
كل ذلك وأمثاله تهوين لحرمة الدين ، وانتهاك مقبوح مشين للثوابت المستقرة فى اعتقاد المسلمين ، وإن جوزه البعض من باب المخاطبات الروحانية والمحادثات الإيمانية ، عند المكاشفات والتجليات التى تحدث لبعض الصوفية فى شطحاتهم ، فإنه باب مفتوح على مصراعيه للمغرضين والحاقدين ، ويكفى الباحث أن يقف على نظرة المستشرقين للوحى فى الإسلام ، وكيف وجدوا فيما سبق من الأمثلة مرتعا خصبا لمآربهم (1) .
[3]- الاحتجاج بالسنة النبوية احتجاج بالأصول القرآنية ، وقد اعتمدت على هذا الأصل فى معرفة الأصول القرآنية للمصطلح الصوفى ، فالاحتجاج بالأصول النبوية كالاحتجاج بالأصول القرآنية سواء بسواء ، وذلك لأنه ــــــــــــــــــــ(3/10)
1. انظر المزيد فى نظرة المستشرقين للوحى ومقارنة ذلك بمنهج فلاسفة التصوف : التصوف عند المستشرقين للدكتور أحمد الشرباصى ص 6: 12 ، والمستشرقون والسيرة ، للدكتور عماد الدين خليل ، طبعة دار الثقافة ، الدوحة ، قطر 1989م ص64 ، والوحى فى المنظور الاستشراقى ونقده للدكتور محمود ماضى ،طبعة دار الدعوة ، الإسكندرية ص123 وما بعدها ، وانظر أيضا الإسلام والمستشرقون للدكتور عبد الجليل شلبى ، طبعة دار الشعب ، القاهرة ص44 وما بعدها ، وانظر زعم المستشرق واط أن الوحى الذى نزل على رسول الله كان حالة من اللاوعى يمكن تحضيرها بالتنويم المغناطيسى فى العصر الحاضر ، وما كان جبريل إلا تخيلات أدت إلى حضور تلك الموضوعات إلى الحالة التى يسميها المسلمون بالوحى :
- الله - - رضي الله عنه -- رضي الله عنه -? - تمهيد - ? الله أكبر - - صلى الله عليه وسلم -?- سبحانه وتعالى - - - - مقدمة } - ?? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - - - رضي الله عنه - } - فهرس ? } فهرس ? الله أكبر - - صلى الله عليه وسلم -? تمهيد - - - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - فهرس ? الله - - صلى الله عليه وسلم - - - ? - - تمهيد - ? - { { ? - - - - - - - -
وانظر أيضا :
- الله - - رضي الله عنه -- رضي الله عنه -? - تمهيد - ? تمهيد - عليه السلام - - - مقدمة مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - - - بسم الله الرحمن الرحيم - صلى الله عليه وسلم - - { - - رضي الله عنه -? - فهرس - ? - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه -- صلى الله عليه وسلم - - ? تمهيد - فهرس ? المحتويات - صلى الله عليه وسلم - صدق الله العظيم - جل جلاله - - - صلى الله عليه وسلم - - ? - - - - ? - { - - - -(3/11)
لا خلاف بين جمهور العلماء الذين يعتد بهم فى أن السنة يحتج بها ، وتستقل بتشريع الأحكام ، وأنها كالقرآن الكريم سواء بسواء فى تحليل الحلال وتحريم الحرام ، وأنها المصدر الثانى لمعرفة أصول الإسلام بعد القرآن الكريم ، وأنه لا يستغنى عنها مطلقا لأنها المفصحة عن معانى القرآن ، الكاشفة عن أسراره (1) .
ولو أغفلنا السنة فى الاحتجاج فإن الأحكام التى نستخلصها بمفردنا من القرآن لن تعبر عن حقيقة الوحى ، وقد أكد القرآن بوضوح أن السنة وحى من الله يجب الإيمان به ، ويجب اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى كل شئ ، وفى كل وقت فى حياته وبعد مماته ، لأنها أصول لم تخصص بزمن دون زمن ، فيجب تصديق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى كل ما ذكره من أخبار ، وتنفيذ كل أوامره - صلى الله عليه وسلم - عن رضى ومحبة .
ــــــــــــــــــــ
1. انظر تفصيل هذا الموضوع فى : الموافقات فى أصول الشريعة للإمام الشاطبى ، طبعة المطبعة التجارية بمصر 4/6 وما بعدها ، مفتاح الجنة فى الاحتجاج بالسنة ، تأليف جلال الدين السيوطى ، طبعة البابى الحلبى ، مصر ، ص4: 26 ، ومكانة السنة فى الإسلام للدكتور محمد أبو زهرة ص17 وما بعدها ، ودراسات أصولية فى السنة النبوية للدكتور محمد إبراهيم الحفناوى ، طبعة دار الوفا ص11 وما بعدها ، والسنة ومكانتها فى التشريع الإسلامى للدكتور مصطفى السباعى ، المكتب الإسلامى بيروت 1978م ص45: 65 وانظر أيضا توثيق السنة فى القرن الثانى الهجرى أسسه واتجاهاته ، رفعت فوزى عبد المطلب رسالة دكتوره مخطوط كلية دار العلوم رقم 722 سنة 1976م ص 19وما بعدها ، ومقاييس نقد متون السنة ، مسفر عزم الله أحمد الدمينى ، رسالة دكتوره مخطوط مكتبة جامعة القاهرة رقم 832 سنة 1982م ص 12: 23.(3/12)
يقول ابن حزم : ( إن القرآن لما كان هو الأصل المرجوع إليه في معرفة الإسلام ، وجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفاً لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ کالْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } [النجم/4:3] ، فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - على قسمين :
أحدهما : وحي متلو مؤلف تأليفاً معجز النظام وهو القرآن .
الثاني : وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو لكنه مقروء وهو الخبر الوارد عن رسول الله ، وهو المبين عن الله عز وجل مراده منا ) (1) .
ومن الأصول القرآنية التى تقرر هذه الحقيقة بلا نزاع قوله سبحانه وتعالى : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [الحشر/7] وقوله : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِين } [آل عمران/31:30] وقوله : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء/65] وقوله : { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور/63] وقوله : { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا } [الأحزاب/36] .
وأمثال ذلك فى القرآن كثير ، وكله يدل على أن السنة وحي من الله تعالى ــــــــــــــــــــ
1. إحكام الإحكام فى أصول الأحكام ، لابن حزم الأندلسى ، 1/40 .(3/13)
لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا بد من اعتماد السنة فى معرفة أصول الأشياء ، والإذعان لها كالقرآن سواء بسواء .
وقد ثبتت روايات كثيرة فى السنة تؤكد أن الصحابة - رضي الله عنهم -كانوا لا يتهاونون فى ذلك ، وأن النبى - صلى الله عليه وسلم - حذرهم من الكذب عليه أو التكذيب بسنته ، فمن ذلك حديث المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال :
" ألا إنى أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا يوشك رجل ينثنى شعبان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه " (1) .
وفى رواية أخرى : ( يوشك أحدكم أن يكذبنى وهو متكى على أريكته يحَدَّث بحديثى فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ، ألا وإن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما حرم الله ) (2) .
وقد روى عن علقمة عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : " لعن الله الواشمات والمستوشمات ، والنامصات والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله " قال علقمة : فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب ، وكانت تقرأ القرآن ، فأتته فقالت :ما حديث بلغني عنك ، أنك لعنت الواشمات والمستوشمات ، والنامصات والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه أبو داود فى كتاب السنة برقم (4604) وصححه الشيخ الألبانى 4/200 .
2. أخرجه الترمذى فى كتاب العلم برقم (2664) وصححه الشيخ الألبانى 5/38 .
الله ، فقال عبد الله : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله فقالت المرأة : لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته ، فقال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، قال الله عز وجل : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ } [الحشر/7] .(3/14)
فقالت المرأة : فإني أرى شيئا من هذا على امرأتك الآن ، قال : اذهبي فانظري ، قال : فدخلت على امرأة عبد الله ، فلم تر شيئا ، فجاءت إليه فقالت : ما رأيت شيئا ، فقال : أما لو كان ذلك لم نجامعها ) (1) .
وكلام عبد الله بن مسعود واضح فى التزامة بالسنة قولا وعملا كالتزامه بمقتضى أحكام القرآن ، وروى عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أنه كان جالسا مع أصحابه ، فقال له رجل من القوم : " يا أبا نجيد إنكم لتحدثوننا بأحاديث ما نجد لها أصلا في القرآن ، فغضب عمران وقال للرجل : أوجدتم في كل أربعين درهما درهم ، ومن كل كذا وكذا شاة شاة ، ومن كل كذا وكذا بعيرا كذا وكذا ، أوجدتم هذا في القرآن ؟ قال : لا قال : فعمن أخذتم هذا ؟ أخذتموه عنا ، وأخذناه عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر أشياء نحو هذا " (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب فضائل القرآن (5002) 8/662 ، ومسلم فى كتاب فضائل الصحابة (2463) 2/382 .
2. أخرجه أبو داود فى كتاب الزكاة (1561) 2/94 وأخرجه ابن عبد البر فى جامع بيان العلم وفضله 2/234 ، وأخرجه الطبرانى فى الكبير (369) 18/165 ، (547) 18/219 ، وانظر زاد المعاد لابن القيم طبعة مؤسسة الرسالة 1/37 .(3/15)
وعلى هذا فلا عبرة بمذهب الشيعة والخوارج فى رد بعض ما ورد فى السنة لأن لهم مواقف خاصة فى كثير من الصحابة ، وهم رواة الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال السيوطى : ( وأصل هذا الرأى الفاسد فى عدم الاحتجاج بالسنة أن الزنادقة وطائفة من غلاة الرافضة ، ذهبوا إلى إنكار الاحتجاج بالسنة والاقتصار على القرآن ، وهم فى ذلك مختلفوا المقاصد ، فمنهم من كان يعتقد أن النبوة لعلى وأن جبريل أخطأ فى نزوله إلى سيد المرسلين ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، ومنهم من أقر للنبى - صلى الله عليه وسلم - بالنبوة ولكن قال : إن الخلافة كانت حقا لعلى ، فلما عدل به الصحابة عنه إلى أبى بكر - رضي الله عنهم - أجمعين .. كفروا الصحابة وبنوا على ذلك رد الأحاديث كلها ، لأنها عندهم بزعمهم من رواية قوم كفار ) (1) .
ــــــــــــــــــــ
1. انظر مفتاح الجنة فى الاحتجاج بالسنة ، تأليف جلال الدين السيوطى ، مصر ص12 وانظر فى التعرف على موقف الشيعة والخوارج من السنة : الشيعة والسنة تأليف إحسان إلهى ظهير ، إدارة ترجمان السنة لاهور باكستان ط3 ، 1396هـ ، 1976م وللمؤلف أيضا الشيعة والتشيع فرق وتاريخ ، الطبعة الثالثة إدارة ترجمان السنة لاهور باكستان سنة 1984م ، 1404هـ ص339 ، وانظر قاموس الرجال فى تحقيق رواة الشيعة ومحدثيهم ، تأليف محمد تقى بن حسن التسترى ، مركز نشر الكتاب طهران سنة 1382هـ مقدمة الكتاب 1/14 ، و مذهب التأويل عند الشيعة الباطنية محمد محمود عبد الحميد أبو أحف ، رسالة دكتوراه مكتبة كلية دار العلوم رقم 866 سنة 1983م ص 121 وما بعدها وانظر آراء الخوارج لعمار الطالبى ، نشر المكتب المصرى الحديث ، الإسكندرية ص211 .
ولا عبرة أيضا ببعض آراء المعتزلة والمتكلمين الداعية إلى عدم الاحتجاج بالسنة فى الآحاد ، أو المتواتر من الروايات بحجة مخالفتها لآرائهم الكلامية كقول أبى الهذيل العلاف من شيوخ المعتزلة :(3/16)
( إن الحجة من طريق الأخبار فيما غاب عن الحواس من آيات الأنبياء عليهم السلام وفيما سواها لا تثبت بأقل من عشرين نفسا ، فيهم واحد من أهل الجنة أو أكثر ) (1) ، ويذكر عبد القادر البغدادى أن كلام العلاف تعطيل للأخبار الواردة فى الأحكام الشرعية عن فوائدها وتهكم واحتقار لما خالف ذلك من روايات السنة واستهزاء بناقليها (2) .
ويجدر التنبه إلى مسلك بعض الباحثين المعاصرين ، أو الدارسين على أيدى المستشرقين فى هجومهم على السنة المطهرة ، ونفى حجيتها ، والدعوة إلى الأخذ بالقرآن فقط ، أو محاولاتهم المتكررة لتقييم السنة لا على قواعد علم الحديث ، ولكن على استحسان أحدهم أو ادعاءاته أن العلوم العصرية تعارض مدلول الأحاديث ، أو غير ذلك من الأسباب (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. انظر الفرق بين الفرق ، تحقيق الأستاذ محمد محى الدين عبد الحميد ، طبعة صبيح بدون تاريخ ص71 .
2. السابق ص77 .
3. انظر ما كتبه الدكتور مصطفى السباعى فى كتابه السنة ومكانتها فى التشريع الإسلامى ص320 ، فى نقده لكتاب أضواء على السنة المحمدية لأبى رية وهجومه على السنة النبوية ، ونقده لأحمد أمين فى كتابه ضحى الإسلام وفجر الإسلام ، وانظر مقالة الدكتور توفيق صدقى تحت عنوان : ( القرآن هو الإسلام وحده ) مجلة المنار =
[4]- إذا كانت الأصول القرآنية لا تؤخذ بمعزل عن الاحتجاج بالسنة وفصل أحدهما عن الآخر لا يقبل فى أصول الإسلام ، فإن من أعظم الأسس فى الاعتماد على السنة ، التسليم بأن الطريق الوحيد فى ثبوتها هو الالتزام بقواعد المحدثين فى معرفتها ، وهو ما عرف عند المسلمين بعلم الحديث ، أو العلم بالأصول التى يعرف بها أحوال السند والمتن من حيث القبول والرد ، فيما نقل من أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله ، وروايتها وضبطها وتحريرها ، وإسناد ذلك إلي من عزي إليه بتحديث أو إخبار وغير ذلك .(3/17)
فليس كل ما نسب إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - يقبل بلا ضبط أو نقاش ، فلا بد من الترابط العلمي بين راوة السند ، بحيث يتلقى اللاحق عن السابق ، والمتحمل عن المؤدي ، فلا يكون بين اثنين من رواة الحديث فجوة زمنية أو مكانية يتعذر معها اللقاء أو يستحيل التلقي ، كما يلزم اتصاف الرواى بالعدالة وهى مَلَكَة في النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة ، ومجانبة الفسوق والابتداع ، ويتصف أيضا بالتتَثَبُّت من الحفظ ، والسلامة من الخطأ أو الوهم مع القدرة على استحضار ما حفظه ، وهذا شرط في جميع رواة الحديث ــــــــــــــــــــ
= العددان 7،12 السنة التاسعة ، وانظر مقدمة كتاب شفاء الصدر بنفى عذاب القبر للدكتور إسماعيل منصور فى دعوته لإعادة تقييم السنة على فهم القرآن ص16وما بعدها ، وانظر أيضا : إثبات الشفاعة لصاحب المقام المحمود والرد على الدكتور مصطفى محمود للمؤلف ، دار أم القرى للطباعة والنشر 1420هـ .
الصحيح من أول السند إلى آخره ، يضاف ذلك إلى عدم مخالفة الراوي لمن هو أوثق منه أو أرجح ، وألا يكون فى روايته علة قادحة فى ثبوت الحديث (1) .
أما الحكم على ثبوت الحديث بالأصول الكلامية أو المناهج الفلسفة العقلية أو الكشوفات الذوقية ، فلا يعد رجوعا إلى الأصول القرآنية والنبوية ، لأن الآراء متعددة ، والأذواق مختلفة ، والمواجيد متغيرة ، ولا ضابط لهذه الأشياء فالحكم فى هذه الحالة ، يحكمه الهوى ويسوقه استحسان النفس ، ومن ثم لا يعتد بقول ابن عربى :
( ربما صح عندنا من أحاديث الأحكام ما اتفق المحدثون على ضعفه وتجريح نقلته ، وقد أخذناه عن الكشف عن قائله صحيحا ، فنتعبد به أنفسنا على غير ما تقرر عند علماء الأصول ورب حديث قد صححوه واتفقوا عليه وليس بصحيح عندنا بطريقة الكشف فنترك العمل به ) (2) .
ومثله للشعرانى : ( قد رأينا فى كلام علماء الرسوم تكفير الأولياء المحدثين ـــــــــــــــــــــ(3/18)
1.ملخص لضوابط الحديث الصحيح وتمييز المقبول من المردود ، انظر المزيد فى الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث ، لأحمد محمد شاكر ، طبعة دار الكتب العلمية بيروت 1403هـ ، ومعرفة علوم الحديث للحاكم محمد بن عبد الله النيسابورى المكتبة العلمية المدينة المنورة سنة 1403هـ ، ونزهة النظر لابن حجر العسقلانى مكتبة التوعية الإسلامية 1989م ، وتيسير مصطلح الحديث لمحمود الطحان ، دار التراث الكويت 1984م ، علوم الحديث لابن الصلاح ، دار الفكر دمشق 1986م وتدريب الراوى فى شرح تقريب النواوى لجلال الدين السيوطى ، دار الفكر .
2. رسائل ابن عربى ، دار إحياء التراث العربى ، حيدر آباد ، الهند ، 1948م ص4 .
لكونهم يصححون الأحاديث التى قال الحفاظ بضعفها ، وهذا عدم انصاف منهم ) (1) ، ويرى أن أقل الأحوال أن ينزلوا الأولياء المكاشفين منزلة أهل الكتاب لا يصدقونهم ولا يكذبونهم (2) .
وقال عبد الكريم الجيلى فى كتابه الإنسان الكامل : ( ..ثم التمس من الناظر فى هذا الكتاب ، بعد أن أعلمه أنى ما وضعت شيئا فى هذا الكتاب إلا وهو مؤيد بكتاب الله أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وينبغى التسليم له وترك الإنكار حتى لا يحرم من الوصول إلى معرفته ) (3) ، ثم يفاجئ القارئ بتقرير فكره فى القول بوحدة الوجود ، فمثل هذا لا يتفق مع الضوابط الصحيحة للأصول القرآنية والنبوية .
[5]- أن الدين قد كمل فلا يحتاج إلى زيادة أو نقصان ، وإنما إلى شرح وبيان ، ودعوة ببرهان ، والقرون الأولى فيها أفضل الناس ، وأولاهم بالمتابعة ومن خالفهم فهو المرجوح المفضول ، والبدعة اتهام لدين الله بالنقص ، لأنه إن ادعى صاحبها أنها واجبة أو مستحبة ، ولا يكون الدين صحيحا أو كاملا إلا بها ، يرد عليه بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما ستر شيئا مما أمر الله به المسلمين فى أمر دينهم
ــــــــــــــــــــ(3/19)
1. اليواقيت والجواهر فى بيان عقائد الأكابر ، لعبد الوهاب الشعرانى ، طبعة دار المعرفة بيروت ، بدون تاريخ 2/90 .
2. السابق حـ2ص91 .
3. الإنسان الكامل فى معرفة الأواخر والأوائل ، لعبد الكريم بن إبراهيم الجيلى ، طبعة مصطفى البابى الحلبى ، القاهرة 1956م ، 1375هـ ، 1/8 .
ولم يدع إلى تلك البدعة ، ولما قال الله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا } [المائدة/3] ، علمنا أنه إما أن يكون الله تعالى الصادق فى إكمال دينه ، أو أن المبتدع هو الصادق فى نقصانه ؟ ولما استحال الثانى ثبت الأول .
ولو سُأل المبتدع عن بدعته ، هل علمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم جهلها ؟ فإن ادعى علم الرسول بها ، فسيقال له : وما الدليل ؟ وعلى فرض أنه - صلى الله عليه وسلم - علمها ، فإنه لم يثبت أنه دعى إليها ، بل سكت عنها ، فنحن أولى بالسكوت عنها ، وإذا قال : جهلها ادعى أنه أعلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما ينفع الناس .
ولا ينفع المبتدع فى ترك السنة والتمسك بالبدعة حسن النية ، فقد ثبت أن رسول الله أنكر على المتشددين فى العبادة ، فمن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال :
" جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا كأنهم تقالوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " (1) .
ــــــــــــــــــــ(3/20)
1. أخرجه البخارى فى كتاب النكاح (4776) 5/1949.
وعن عائشة رضي الله عنها ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد ) (1) .
ومن حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى المقبرة فقال : ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، وددت أنا قد رأينا إخواننا قالوا : أولسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال : أنتم أصحابي ، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد ، فقالوا : كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله ؟ فقال : أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة ، بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء ، وأنا فرطهم على الحوض ، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ، أناديهم ألا هلم ، فيقال : إنهم قد بدلوا بعدك ، فأقول : سحقا سحقا ) (2) .
ومن ثم فإن البدعة مرفوضة بكل سبيل ، ولن تتحمل الأصول القرآنية والنبوية مثل فعل رويم بن أحمد البغدادى الصوفى (ت:303هـ) عندما عطش عطشا شديدا فاستسقى جارية ، فقالت : ( ويحك صوفى يشرب بالنهار ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الصلح برقم (2550) 2/959 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب الطهارة برقم (249) 1/218 ، وانظر فى البدعة بتوسع اتباع السنن واجتناب البدع ، لأبى عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسى ، تحقيق على حسن على ، دار ابن القيم ، الرياض ، السعودية 1988م ، 1409هـ ص31 وما بعدها ، وانظر الأمر بالاتباع والنهى عن الابتداع ، للحافظ السيوطى ، تحقيق مشهور حسن سليمان ، طبعة دار الأرقم ، الدمام 1410هـ ص47 وما بعدها .
فاستحى منها ونذر ألا يفطر أبدا ) (1) .
ولا تجيز الأصول القرآنية والنبوية مثل رأى ابن عربى فى دعوته إلى ترك الذكر بحجة انعدام النسيان والاستحضار الدائم ، فقال :
دع الذكر والتسبيح إن كنت عاشقا : فليس يديم الذكر إلا المنافق(3/21)
إذا كان من تهواه فى القلب حاضرا : وأنت تديم الذكر كنت منافقا
ألا بذكر اللَّه تزداد الذنوب : وتنعكس البصائر والقلوب
وترك الذكر أفضل كل شئ : فشمس الذات ليس لها غروب (2)
[6] - عدم المساس بأصل الإسلام وهو التوحيد ، والمقصود به إفراد الله عمن سواه ، فالأصول القرآنية والنبوية جاءت فى الإجمال والتفصيل بالدعوة إلى توحيد الله ، سواء كان ذلك فى توحيد الربوبية وإفراده بالخلق والأمر ، كما قال : { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّه رَبُّ الْعَالمِينَ } [الأعراف/54] ، أو كان فى توحيد العبادة ، كما قال : { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [البينة/5] .
فلا ينبغى فى الأصول القرآنية أو النبوية الخضوع عن محبة ورغبة لأحد إلا لله وحده ، فلا شريك له فى العبادة ، أو كان فى الإيمان بما أثبته اللَّه لنفسه من أنواع الكمالات فى الأسماء والصفات ، فلا بد من إفراد اللَّه سبحانه وتعالى ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة القشيرية حـ1ص128 .
2. وسائل السائل ص25 ، وديوان ترجمان الأشواق ص5:4 ، وانظر أيضا كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوى 4/116 .
بذاته وصفاته وأفعاله ، عن الأقيسة والقواعد والقوانين التى تحكم ذوات المخلوقين وصفاتهم وأفعالهم ، والدليل على ذلك من القرآن قوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى/11] .(3/22)
فبين سبحانه انفراده عن كل شئ من أوصاف المخلوقين بجميع ما ثبت له من أوصاف الكمال والجلال ، وقال تعالى فى أول سورة الإخلاص : { قلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ } [الإخلاص/1] ، وقال فى نهايتها مبينا معنى الأحدية : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [الإخلاص/4] ، أى أن الأحد هو المنفرد بأوصاف الكمال ، الذى لا مثيل له فنحكم علي كيفية أوصافه من خلاله ، ولا يستوى مع سائر الخلق فيسرى عليه قانون أو قياس أو قواعد تحكمه كما تحكمهم ، لأنه المتصف بالتوحيد المنفرد عما يحكم العبيد .
وقال تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [مريم/65] ، أى هل تعلم له شبيها مناظرا يدانيه أو يساويه ، أو يرقى إلى سمو ذاته وصفاته وأفعاله ، وعلى ذلك فلا يمكن بحال من الأحوال ، أن نخضع أوصاف اللَّه لما يحكم أوصاف البشر من قوانين أو نجعل أوصاف البشر تشبه أوصاف الله عز وجل ، تحت أى ادعاء أو فكر أو ذوق أو كشف .
يقول الجنيد بن محمد : ( التوحيد إفراد القديم عن الحدث ) (1) .
ويقول الهجويرى معقبا : ( ويعنى ذلك أنه لا يجوز لك اعتبار القديم محلا ـــــــــــــــــــــ
1.كشف المحجوب للهجويرى ص334 ، والرسالة القشيرية 1/28 ، 29 .
للحادث ومقاييسه ، ولا الحادث أن يكون محلا للقديم ) (1) .
ويفصح الجنيد عن المعنى السابق بقوله : ( التوحيد هو إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته ، بكمال أحديتة ، وأنه الواحد الذى لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، بنفى الأضداد والأنداد والأشباه ، بلا تشبيه ولا تكييف ولا تصوير ، ولا تمثيل لقوله تعالى :
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى/11] ) (2)(3/23)
فهذه الآية جعلها الجنيد أساسا لاعتماده فى إظهار التوحيد ، وإفراد المتوحد أولا ، ثم إثبات الصفات ثانيا على ما يليق بجلال الله وعظمته ، وسئل أبو على الروذبارى عن التوحيد فقال : ( التوحيد فى كلمة واحدة كل ما تصوره الأوهام والأفكار فالله سبحانه وتعالى بخلافه لقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى/11] ) (3) .
ويقول المكى : ( ونعتقد نفى التشبيه والتكييف عن الأسماء والصفات إذ لا ـــــــــــــــــــــ
1. السابق ص334 ، وانظر فى هذه النقطة بتوسع ، الصفات الإلهية فى الكتاب والسنة فى ضوء الإثبات والتنزيه لمحمد آمان بن على الجامى ، رسالة دكتوراه بمكتبة كلية دار العلوم رقم (712) 1975م ، البيهقى ومشكلة الصفات الإلهية للدكتور عبد الفتاح أحمد الفاوى محمود ، رسلة ماجستير دار العلوم رقم 206 سنة 1975م ، وانظر أيضا كتاب الإيمان للدكتور محمد عبد الله الشرقاوى ، مكتبة الزهراء ، الطبعة الأولى القاهرة 1409 هـ ، 1989م من ص162 :ص202 .
2. التعرف لمذهب أهل التصوف ص33 .?
3. الرسالة القشيرية 1/187.
كفوء للموصوف فيشبه به ، ولا مثل له فيجنس منه ) (1) .
فهؤلاء اعتمدوا على الأصول القرآنية فى إثبات توحيدهم ، واعتبروا ما ورد فى وصف الله ينفرد به ولا يشاركه فيها غيره ، أما التوحيد الذى يجوز فيه صاحبه كفر فرعون وإبليس فى عصيانهما الأمر الإلهى ، بل يرى صاحبه أن فيهما مثالا للفتوة الحقة ، فإبليس لما عصى الله بامتناعه من السجود لآدم ، إنما عصى الأمر لأنه أبى أن يسجد إلا لله .
ولما قال الله لإبليس : لأعذبنك عذاب الأبدية ، قال له إبليس : أو لست ترانى فى تعذيبك إياى ، قال : بلى ، قال : فرؤيتك إياى تحملنى على عدم رؤية العذاب (2) ، فهو ينسى عذابه لحلول الحق فيه ، وكان إبليس فى نظر الحلاج مجيبا لله لا عاصيا له لأن إبليس قد رأى فى جحوده للأمر تقديسا للآمر (3) .(3/24)
يقول الحلاج : ( إن لم تعرفوا الله فاعرفوا آثاره ، وأنا ذلك الأثر وأنا الحق لأننى ما زلت أبدا بالحق حقا ، فصاحبى وأستاذى إبليس وفرعون ، فإبليس هدد بالنار وما رجع عن دعواه ، وفرعون أغرق فى اليم وما رجع عن دعواه وإن قتلت أو صلبت أو قطعت يداى ورجلاى ما رجعت عن دعواى ) (4) .
وثبت عنه أنه قال أيضا :
ــــــــــــــــــــ
1. قوت القلوب حـ2ص126 .?
2. الطواسين للحلاج ، نشره لويس ماسينيون ص 12 ، طبعة باريس سنة 1913م .
3. من قضايا التصوف فى ضوء الكتاب والسنة ، د/ محمد السيد الجليند ص 105 .
4. الطواسين ص 12 .
أنا من أهوى ومن أهوى أنا : نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتنى أبصرته : وإذا أبصرته أبصرتنا (1) .
وقريب من فعل الحلاج ، ما يروى عن بعض الصوفية كأبى الحسين النورى فى تفضيله نباح الكلب على تكبير المؤذن ، فلما سمع المؤذن دعا عليه قائلا : طعنة الموت ، وسمع نباح الكلاب فقال : لبيك وسعديك ، وسئل عن ذلك فقال : أما المؤذن فأنا أغار عليه أن يذكر الله ، وهو غافل يأخذ عليه الأجرة ولولا الأجرة من حطام الدنيا لما ذكر الله ، فلذلك قلت له : طعنة الموت ، وقد قال الله تعالى :
{ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء/44] .
فالكلب وكل شئ يذكرون الله بلا رياء ولا سمعة ولا طلب للعوض (2) .
وفى هذا الكلام وأمثاله ،هدم لمعانى الكتاب والسنة ، واستهزاء بتوحيد الله فالمخلوقات تسبح بواقع الربويية ، واختارت فى بداية الأمر قبول الطاعة الدائمة كما قال تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [فصلت/11] .(3/25)
أما الإنسان فهو حامل الأمانة ، مستخلف فى الأرض ، مريد حر مكلف باتباع الشرع على سبيل الابتلاء ، فلا بد من السعى والمجاهدة وتنفيذ ما أمر الله به فى الأصول القرآنية والنبوية ، وتصديق ما جاء فيها من أخبار عن الله ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص 12 .
2. اللمع فى التصوف ص492 بتصرف .
وأوصافه وأفعاله وسائر ما ورد عن عالم الغيب بصفة عامة ، أما خلط المسائل
والتلبيس فى أصول التوحيد ، فلا يجتمع مع ضوابط الاعتماد على الكتاب والسنة ، كمن جعل تنزيه الله جهلا وسوء أدب ، يقول : ( اعلم أن التنزية عند أهل الحقائق فى الجناب الإلهى ، عين التحديد والتقييد ، فالمنزة إما جاهل وإما صاحب سوء أدب ، ولكن إذا أطلقاه وقالا به ، فالقائل بالشرائع المؤمن إذا نزه ووقف عند التنزيه ، ولم ير غير ذلك فقد أساء الأدب ، وأكذب الحق والرسل وهو لا يشعر ، ويتخيل أنه فى الحاصل وهو فى الفائت ، وهو كمن آمن ببعض وكفر ببعض ) (1) ، ويرى فى تلبيسه أن توحيد أهل الحقائق أن يكون تشبيها تارة وتنزيها تارة أخرى فقال :
فإن قلت بالتنزيه كنت مقيدا : وإن قلت بالتشبيه كنت محددا
وإن قلت بالأمرين كنت مسددا : وكنت إماما فى المعارف سيدا (2)
[7]- يجب الرجوع إلى القرآن الكريم كله بالتكامل مع السنة لمعرفة الأصول القرآنية لموضوع ما أو مصطلح معين ، وذلك لكى يكون المنهج صحيحا والموضوع نابعا من القرآن بالفعل ، فالقرآن عند المسلمين هو كلام الله تعالى إلى البشر ، صدر من الله الواحد للإنسان الواحد فى النوع ، المتعدد فى الأفراد فهو يحمل فى ذاته وحدة الموضوع وإن كثرت تعلقاته ، لأنه صادر عن واحد فقط ، كما قال سبحانه وتعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا ــــــــــــــــــــ
1. فصوص الحكم ص55 .
2. السابق ص 59 .(3/26)
كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الشورى/52] .
ومن ناحية أخرى ، فهو موجه إلى الإنسان أو بنى البشر المتعددين والمختلفين زمانا ومكانا ، ومن ثم فهو يتحدث عن حقائق كثيرة وموضوعات شتى فى مائة وأربعة عشرة سورة تضم آلاف الآيات .
ومن ذلك يصبح من المعلوم بالضرورة لكل مسلم ، أن القرآن يفسر بعضه بعضا ، فما أجمله فى موضع أفاض فيه تفصيلا فى موضع آخر ، ونتيجة لهذا ينبغى علينا لمعرفة الأصول القرآنية لحقيقة من الحقائق أو موضوع من الموضوعات ، أن ننظر فى القرآن جملة باعتباره وحدة واحدة ، وأن نحاول معرفة هذه الحقيقة أو استخلاصها من هذا القرآن الواحد ككل ، وليس ككسور متباينة أو آيات متفرقة ، ومعلوم أن القرآن الكريم لا يحمل رؤوس موضوعات أو أسماء مباحث كمباحث الفلسفة ، فإذا أردنا معرفة حقيقة معينة نجد أنفسنا مضطرين بالضرورة للبحث فى آيات القرآن جميعها ، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، ولا بد أن نعود إلى آياته من أولها إلى آخرها بلا استثناء وكذلك السنة ، وأن تكون نظرتنا شاملة كلية عامة ،حتى نخرج بالحقيقة كاملة صحيحة ، ولو اقتصر الأمر على البعض دون الآخر فى الموضوع الواحد ، فسوف نصل إلى حقيقة ناقصة مشوهة ، أو سنصل إلى بعض جوانب الحقيقة فى القرآن دون الأخرى .(3/27)
فالقرآن وحدة كاملة شاملة عامة ، ويجب أن يؤخذ كله عند البحث فيه عن أى حقيقة من الحقائق ، وهذا يلزمنا بأن نستخدم فى البحث بين آياته منهجا إحصائيا استقصائيا شاملا ، بمعنى أن لا يكون هناك مجال لإغفال أو ترك بعض الآيات أو حتى آية واحدة ، ومما لا شك فيه أن طبيعة اللغة ، أى لغة ، تحتم على مستخدمها كى يصل إلى المعانى الصحيحة للألفاظ أن يتناول الجملة أو العبارة كاملة وكذلك الموضوع ، وهذا ينطبق بطبيعة الحال على اللغة العربية لغة القرآن الكريم ، فنحن إذا تركنا آية أو أخذنا بعضها دون البعض قد نصل إلى معنى مغاير أو مناقص للمعنى المقصود .
فمثلا فى قوله تعالى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } [الماعون/4] ، إذا فصلت عما بعدها يصبح معناها وعيد للمصلى ونهى عن الصلاة ، ولا شك أن هذا تناقض واضح مع نصوص الآيات الأخرى ، ولكن باستكمال سياق الآيات يتضح المعنى الحقيقى ، حيث يقول الله تعالى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [الماعون/7:4] .(3/28)
وهذا شئ معروف لدى طوائف المسلمين وعامتهم ، إلا أن الأمر الذى وقع فيه كثير من منهم ، هو عدم أخذ القرآن كله كوحدة واحدة فى الموضوع الواحد ، أو الرجوع إليه جميعا عند البحث عن أية حقيقة من الحقائق التى تضمنها ، ولقد فعل ذلك علماء بنى إسرائيل وأحبارهم بكتابهم نصا ومعنى فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، فبدلوا وحرفوا وغيروا ، وهذا نوع من التبديل والتحرييف والتغيير يمكن تسميته بالتبديل السلبى ، بمعنى أنه قائم على إخفاء بعض الحقائق وإلغائها أو تكذيبها ، والكفر بها بالتجاهل والتغاضى عنها وليس بالإنكار الصريح وفى ذلك يقول سبحانه : { ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة/85] .
فإذا كان بنو اسرائيل قد آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض ، وذلك عن قصد وسوء نية واضحين ، فإن بعض متصوفى ومتكلمى الإسلام ، قد أخذوا ببعض الكتاب وتركوا البعض عن قصد أو غير قصد ، حين تبويبهم وتصنيفهم للحقائق الإيمانية والإلهية واستخراجها من القرآن ، وذلك بتركهم النظرة الشاملة الكاملة ، فجاء تقريرهم للحقائق مشوها قاصرا غير واف أحيانا كثيرة ومضطربا ومتناقضا فى بعض الأحيان .(3/29)
ومثال ذلك أن بعض الصوفية لما غيروا مجال الاختيار المطروح أمام إرادة العبد ، من اختيار بين الدنيا والآخرة إلى الاختيار بين الله وبين غيره من المخلوقات ، فى الدنيا والآخرة وكل شئ ، كما روى عن رابعة العدوية من نساء الصوفية أنها قالت : ( ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا فى جنتك ولكن حبا لذاتك ) (1) .
حيث جعلت ذات الله موضوعا للاختيار فى مقابل الدنيا والآخرة ، ومن ثم صرح أغلبهم بأن العبد ينبغى أن يسترسل مع الله على غير انتظار للثواب وعلى غير خوف من العقاب ، بل يسترسل معه على ما ينبغى له سبحانه وتعالى من العبودية حتى وصلوا إلى درجة يحتقرون فيها من عبد الله انتظار لثوابه وخوفا ـــــــــــــــــــــ
1. صفة الصفوة حـ2ص 249 .
من عقابه ، وقد صنفوه من التجار الذين لا يعطون إلا لانتظار البدل بل غالى بعضهم فوصف هذا الفريق بأنهم عبيد السوء الذين لا يوقرون الله عز وجل لذاته ولكن لما يصلهم من نفع أو نعمة (1) حتى قال أبو بكر الشبلى : ( إن لله عبادا لو بزقوا على جهنم لأطفئوها ) (2) وقال أيضا : ( لو خطر ببالى أن الجحيم بنيرانها وسعيرها تحرق منى شعره لكنت مشركا ) (3) ، ولما رجعوا إلى الأصول القرآنية ، لم يرجوعوا إلى القرآن الكريم كله بالتكامل مع السنة لكى يكون المنهج صحيحا والموضوع نابعا من القرآن بالفعل ، ولكنهم استدلوا ببعض وتركوا دلالة البعض الآخر معطلة ، فاستدل الكلاباذى بجزء من قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } [التوبة/111] وقال معقبا : ( ليعبدوه بالرق لا بالطمع ) (4) .(3/30)
أو استدلال الآخر بقوله : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ } [الإنسان/9] وقطع الآيات عن نهايتها التى لو استكملت لتغير المعنى تماما ، فشراء الله لأنفس المؤمنين وأموالهم إنما كان بعوض وهو الجنة ، وعمل المؤمنين كان سببا للوصول إلى هذه الجنة وإن كان لا يزنها ، ولكن هذا لا يمنع المؤمن أن يطمع فى فضل الله ورحمته فقال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ ـــــــــــــــــــــ
1. طبقات الصوفية ص489 والتعرف لمذهب أهل التصوف ص161، 184 .
2. اللمع ص 490 .
3. السابق ص 491 .
4. التعرف لمذهب أهل التصوف ص168 .
وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة/111] .
وقال تعالى : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا } [الإنسان/12:9] .
وإذا أخذت نصوص القرآن والسنة مجتمعة ، فسوف نجد الثناء على عباد الله وأوليائه بسؤال الجنة ورجائها ، والاستعاذة من النار وعذابها ، كقوله تعالى :
{ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [الأنبياء/90] .
وقال سبحانه : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [الفرقان/66:65] .(3/31)
وفى الحديث عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل : " ما تقول فى الصلاة ؟ فقال : أتشهد ثم أقول : اللهم إنى أسألك الجنة وأعوذ بك من النار أنا والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال - صلى الله عليه وسلم - : حولها ندندن " (1) .
[8]- العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح بل يشهد له ويؤيده ، لأن ــــــــــــــــــــ
1. صحيح الإسناد ، أخرجه أبو داود فى كتاب الصلاة (792) 1/210 ، وأخرجه ابن ماجه فى كتاب الإقامة (910) 1/295 ، وصحح الشيخ الألبانى إسناده فى كتابه صفة الصلاة ص 202 .
المصدر واحد ، فالذى خلق العقل هو الذى أرسل إليه النقل ، ومن المحال ان يرسل إليه ما يفسده ، وهو سبحانه أعلم بصناعته لعقل الإنسان ومدى تفكيره فيما يصلحه أو يفسده ، فإذا وضع نظاما لتشغيل صنعته وتوجيه الإنسان لجنته وصلاحه فى دنيته ، علمنا أنه لو ظهر خلل أو تعارض بين العقل والنقل فليس ذلك بسبب نظام التشغيل ، ولكن بسبب قلة الالتزام بمنهج اللَّه أو اتخاذ البديل المرجوح من نظم البشر (1) .
دل على ذلك قوله تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } [طه/123] ، ولو فرضنا وجود التعارض بين العقل والنقل فسيكون مرد ذلك إلى سببين لا ثالث لهما :
(1- أن النقل لم يثبت ، فيتمسك مدعى التعارض بأحاديث ضعيفة أو مكذوبة ليست من كلام رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ومثال ذلك : إذا وصل إلى العقل حديثان منسوبان إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أحدهما يقول فيه : " إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّه الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ : اكْتُبْ فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الأَبَدِ " (2) .
والآخر يقول فيه : " أول ما خلق اللَّه العقل ، فقال له : أقبل ، ثم قال : وعزتى وجلالى ما خلقت خلقا أشرف منك " (3) .(3/32)
فالعقل يقف حائرا بين الحديثين : أيهما خلق أولا ؟ فمن الخطأ التوفيق بينهما ــــــــــــــــــــ
1. موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول لابن تيمية 1/211وما بعدها بتصرف .
2. أخرجه الترمذى فى كتاب تفسير القرآن (3319) وصححه الألبانى 5/424 .
3. قال الصنعانى : موضوع باتفاق انظر كشف الخفا للعجلونى حـ1ص263 .
قبل البحث عن ثبوتهما ، كما فعل ابن عربى عندما جعل العقل هو المخلوق الأول من عالم العقول المدبرة ، وهو جوهر بسيط ليس بمادة ولا فى مادة عالم بذاته فى ذاته ، علمه ذاته لا صفة له ، مقامة الفقر والذلة والاحتياج إلى باريه وموجده ومبدعه ، له نسب وإضافات ووجوه كثيرة ، لا يتكثر فى ذاته ، وهو من جهة أخرى يسمى القلم ، وهو أول عالم التدوين والتسطير وهو الخازن الحفيظ العليم الأمين على اللطائف الإنسانية التى من أجلها وجد (1) .
وكان يجب قبل التعسف فى الجمع بينهما البحث عن صحة الحديثين أولا وبالبحث عنهما وجد أن الحديث الأول ثابت صحيح ، والثانى ليس من كلام النبى - صلى الله عليه وسلم - بل هو موضوع باتفاق .
(2- وإما أن العقل لم يفهم نصوص الكتاب والسنة ومثال ذلك ، قوله تعالى : { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [البقرة/255] ، دل على جميع معانى العلو لله تعالى ، علو الفوقية وعلو القهر وعلو الشأن ، وهذه المعانى كلها إضافية من إضافة صفة لموصوف ، لكن ابن عربى عارض الآية بما رسخ فى عقله من فلسفة الوحدة فقال :
( ومن أسماء الله الحسنى : العلى على من ؟ وما ثم إلا هو !! فهو العلى لذاته أو عن ماذا ؟ وما هو إلا هو ، فعلوه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجودات ، فالمسمى محدثات هى العلية لذاتها وليست إلا هو ) (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. عقلة المستوفز لابن عربى نشر ليدن ، مكتبة المثنى بغداد 1336هـ ، ص40 .
2. فصوص الحكم ، ص77 .(3/33)
فالتعارض الذى أدى إلى نفى علو الفوقية لله على غيره ، سببه الفهم الملوث باعتقاد ابن عربى أن المخلوقات تعينات للخالق ولا ثم غير ، فكيف يكون عليا على نفسه ، لكن لو تميز الخالق عن المخلوق بالتوحيد لاستقام الأمر كما أراد الله عز وجل .
ومن ثم فإن الإقبال على القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، يحب أن يكون بغرض المعرفة والاسترشاد بتوجيه الله للإنسان ، لا بغرض البحث عن تأييد لرأى شخصى أو محاجة الآخرين ، أو كما أراد المستشرقون البحث عن ثغرات يطعن بها على القرآن والسنة ، لأن النتيجة المترتبة على ذلك هى فقدان الاستدلال بالأصول القرآنية حقيقة المعانى التى أرادها الله من النصوص ، فدور العقل حيال النقل إذا ، هو العلم بما فيه والعمل على رفعته والقيام على خدمته ولا بد للباحث أن تتوافق لديه الحقيقة المستنبطة من البحث فى القرآن مع غيرها من الحقائق القرآنية .(3/34)
[9]- إخلاص النية وسلامة القصد ، فلا بد من صدق النية وابتغاء الحق وحده عند البحث فى القرآن والسنة ، فالإنسان يجب أن يتنزه عن الهوى ويخلص نفسه من التعصب ، أو غير ذلك مما يقف حاجزا بين الإنسان وبين إدراك الحقيقة المنشودة ، وإخلاص النية وصدقها أو ابتغاء الحق وحده عند البحث فى القرآن أمر نفسى خلقى ، وليس أمرا فكريا منهجيا ، ولكن الإنسان وحدة واحدة ، وأجهزته تعمل جميعا حين يقوم بأعلى الأعمال وأدناها ، والفصل بين أجهزته وملكاته فى النشاط الإنسانى سبيل الخاطئ ، ومن ثم لا يصح أن نتجاهل أجهزة الأدراك البشرية عند تفسير النشاط الخلقى ، وليس كل من قرأ القرآن عمل به ، بل هناك من يسمعه وهو فى حجاب عن الحق ، كما قال الله تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } [الإسراء/46:45] وقال أيضا : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُورًا } [الإسراء/41] .
أى بينا الآيات والأمثال والوعد والوعيد ليتعظوا ولكن ما يزيدهم ذلك إلا بعدا عن الحق ونفورا منه ، ومن ثم فليس التعامل مع القرآن الكريم من خلال العقل أو الحدود المنطقية لأجهزة الإدراك البشريى فقط دون الإرادة ،بل إن الإرادة الإنسانية المختارة تعتبر عاملا حاسما فى تقبل الحق والهدى أو الانصرف عنه .(3/35)
وقوله تعالى : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } [الأنعام/33] ، يدل على أن هؤلاء المكذبين بالحق ليس لديهم نقص فى المعرفة أو بعد عقلى عن الحق ، وإنما يكذبون جحودا ونكرانا وعنادا وإصرارا على الهوى وحرصا على الدنيا .
فالعلة إذن فى كفرهم وتكذيبهم هى إرادتهم الحرة ، وليس قصورا فى إدراك الحقيقة والحق ، فالإيمان والكفر فعلان نفسيان إراديان اختياريان لسائر المكلفين من الناس ، ومن ثم تكون معرفة الحق والخير وهما مطلب العقل البشرى مرهونة بالإبمان وعمل الخير فى الأرض ، وهنا تخضع المعرفة للأخلاق فى الإسلام وليس العكس ، والمقصود بخضوع المعرفة للأخلاق ، أن إدراك الحقيقة ومعرفتها مرتبط أوثق ارتباط باختيار الإنسان المتمثل فى النية والقصد إلى الخير أو إلى الشر ، فمن يقبل على القرآن وفى نفسه ابتغاء معرفة الحق وحده يهديه الله إليه ويفتح له كنوز معرفته بقدر تقواه ، كما قال الله تعالى :
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة/282] .
ومن يقبل عليه وفى صدره حاجة أخرى ، كالبحث عن تناقضات وهمية أو تدعيم لآرائه الشخصية ، أو تبرير لشبهاته وشهواته الحيوانية ، فالنتيجة الحتمية أنه سيسلك مسلك اليهود فى جعل القرآن عضين ، ونهايته لعنة الله وغضبه .
وهذه القاعدة ليست قاعدة منهجية فكرية ، لأنها لا تتم بالفكر ولا يطلب من الفكر تطبيقها ، ولكنها قاعدة خلقية سلوكية تتم بإرادة الإنسان واختياره للخير وابتغائه للحق ، وليس فى مقدور القواعد المنهجية والأساليب الفكرية أو غيرها الزام أحد باختيار الخير دون الشر أو العكس ، لكن التجرد لله بغية معرفة الحق عند البحث فى القرآن أول القواعد وأحقها بالالتزام وأجدرها جميعا بالتمسك .(3/36)
فالعمل الذى لا تسبقه النية الواضحة الخالصة لله لا يقبله الله ، والبحث فى القرآن الكريم عبادة من أجل العبادات ، لكن لابد من الإخلاص والمتابعة كشرط لقبولها (1) .
[10]- أفهام الناس فى الدين ليست من الدين وفلسفة العلماء حول العقيدة ليست جزءا من العقيدة ، ومن الخطأ العظيم محاكمة الدين والعقيدة إلى فكر ــــــــــــــــــــ
1. القضاء والقدر فى الإسلام للدكتور فاروق الدسوقى ، طبعة دار الدعوة الإسكندرية 1/73 بتصرف .
الناس وأفهامهم لأنها جهد بشر يقبل الخطأ ويحتمل النقد ، أما الأصول الدينية القرآنية والنبوية فإنها وحى السماء ورسالة الأنبياء وهم معصومون فى البلاغ عن الله (1) .
وعلى ذلك فإن الإنسان مهما عَظُم بين الناس واشتهر فكره فى الآفاق فإنه يخر صريعا على صخرة العقيدة ، إذا كان مناقضا لها أو لم يكن له فيها أصول راسخة ، كما أنه ليس فى الإسلام بشر مهما كان صلاحه وتقواه فيه معنى يستحق به أن يعبد مع الله ، أو يطلب منه غفران الخطايا والذنوب ، فكثير من الناس لما عظموا بعض الأولياء تعظيما فيه غلو وإطراء ، واشتهر هذا التعظيم بين الناس ، وتناقلوا أساطير الخوارق والكرامات بنوع من التقديس ، أدى ذلك إلى تسليم الأجيال المتعاقبة بواقع مرير لا يقبل التغيير إلا بعمل خارق وجهد كبير ، وكانت النتيجة أنهم وقعوا فى الشرك وتشبيه المخلوق بالخالق والمملوك بالمالك ، فعظموهم كتعظيم الله ، وأحبوهم كمحبة الله ، وتعلقت قلوبهم بهم رهبة وخوفا من غضبهم ، وقد بالغوا فى تعظيمهم إلى حد قول القائل :
شيخى الرفاعى له بين الورى همم : نصالها ماضيات تشبه القدر
دخلت فى ظلها أبتغى التفيؤ من : رمضاء دهرى فجاء الدهر معتذرا (2)
ــــــــــــــــــــ
1. المنطق ومناهج البحث ، مدخل نقدى للدكتور محمد عبد الله الشرقاوى ، دار النصر 1998م ص 225،228 .(3/37)
2. الجواهر النقية فى طريقة السادة الرفاعية لصالح المكتبى ، ومعه كتاب متن أبى الشجاع طبعة المكتبه العثمانية ص15 .
والمعنى المقصود فى هذين البيتين ، أن شيخه الرفاعى قوته فى العالم تشبه قوة
الله فى جريان المقادير ، بل هى أشد ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا . وآخر من الطريقة الرفاعية الصوفية يصف ابن الرفاعى بقوله :
يا ابن الرفاعى ما زالت ضمائرنا : تطوى على حبك العالى فترتاح
مهما دعوناك فى ضيق تجيب ولو : ضاقت بنا كرة الدنيا فتزاح
إن الولاية مشكاة وأنت لها : طول المدى يا أبا العباس مصباح (1) .
هذا مع إرهابهم للعامة بعدم الاعتراض ، وإلا ينزل بالمعترض العذاب ويلحق به العقاب ، ولعنة الولى فى ضريحه ستطارده فى الملك والملكوت ، بحق ما له من تمكن وجبروت ، هكذا عكفوا على قبورهم يطلبون بركتهم ويستعينون بقوتهم ويطلبون العون والمدد منهم ، وتوفير الحماية والعناية فى أوقات الشدة والأزمات ، ولا يخفى على الناظر ما يرى من اجتماع الملايين على الأضرحة فى كل مكان ، ولا شك عند أصحاب البصيرة أن مثل هذا الاعتقاد لا علاقة له بأصول الإسلام ومبادئ التوحيد وإن ادعى صاحبه حسن النية فى تعظيم الأولياء ومحبتهم .
ــــــــــــــــــــ
1. انظر السابق ص17 ، وانظر المزيد من فى حسن الصنيع البديع فى مدح النبى الشفيع ص56 وما بعدها ، والموالد دراسة للعادات والتقاليد الشعبية فى مصر ، للدكتور فاروق أحمد مصطفى طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب 1980م ، ص295 .
منزلة القرآن والسنة عند الصوفية .
ينقل الكلاباذى إجماع أوائل الصوفية على تعظيمهم للقرآن وأنه كلام الله ليس بمخلوق ولا محدث ، فيقول :(3/38)
( وأجمعوا أن القرآن كلام الله تعالى على الحقيقة وأنه ليس بمخلوق ولا محدث ولا حدث وأنه متلو بألسنتنا مكتوب فى مصاحفنا محفوظ فى صدورنا غير حال فيها كما أن الله تعالى معلوم بقلوبنا مذكور بألسنتنا معبود فى مساجدنا غير حال فيها ) (1) .
ويذكر أيضا أنهم أجمعوا أن جميع ما فرض الله تعالى على العباد فى كتابه وأوجبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض واجب ، وحتم لازم على العقلاء البالغين ، لا يجوز التخلف عنه ، ولا يسع التفريط فيه بوجه من الوجوه لأحد من الناس من صديق وولى وعارف ، وإن بلغ أعلى المراتب وأعلى الدرجات ، وأشرف المقامات وأرفع المنازل ، وأنه لا مقام للعبد تسقط معه آداب الشريعة من إباحة ما حظر الله ، أو تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله ، أو سقوط فرض من غير عذر ولا علة والعذر ، والعلة ما أجمع عليه المسلمون وجاءت به أحكام الشريعة ، ومن كان أصفى سرا وأعلى رتبة وأشرف مقاما ، فإنه أشد اجتهادا وأخلص عملا وأكثر توفقيا (2) .
ويذكر ابن تيمية أن أوائل الصوفية ، ويطلق عليهم مصطلح المشايخ ، يتفقون ــــــــــــــــــــ
1. التعرف لمذهب أهل التصوف ص54 .
2. السابق ص 76:75 .
مع السلف الصالح فى اتباع الكتاب والسنة والعلم بالشريعة فى كثير من الأوقات ، وأن المراد بلفظ العلم الذى يتردد على ألسنة الصوفية فى عباراتهم الشريعة والالتزام بأحكام الكتاب والسنة ، وفى ذلك يقول : ( العلم فى لسان الصوفية ووصاياهم كثيرا ما يريدون به الشريعة ، يقول أبو يعقوب النهرجورى الصوفى : أفضل الأحوال ما قارن العلم ، وكقول أبى يزيد البسطامى : عملت فى المجاهدة ثلاثين سنة ، فما وجدت أشد على من العلم ومتابعته ولولا اختلاف العلماء لتعبت واختلاف العلماء رحمة إلا فى تجريد التوحيد ) (1) .(3/39)
وقد وردت أقوال كثير ة لمشايخ الصوفية اشتهرت بين الناس ولاقت القبول عند العامة والخاصة كقول الجنيد بن محمد : ( الطرق كلها مسدودة إلا على المقتفين آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمتبعين سنته وطريقته ، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه كما قال : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } [الأحزاب/21] (2) ، وقال أيضا فى بيان معتقده : ( كل توحيد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو زندقة ) (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. الاستقامة لابن تيمية ، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم ، توزيع مكتبة التوعية الإسلامية ، 1/94 .
2. الأمر بالاتباع والنهى عن الابتداع للإمام السيوطى ص53 ، وتلبيس إبليس لابن الجوزى ص10 .
3. حلية الأولياء 10/255 .
وعبارة الجنيد بن محمد من أفضل ما قيل فى التمسك بالأصول القرآنية والنبوية واتباع منهج الإسلام فى توحيد الله ، وكثير من الصوفية كان متمسكا بهذا النهج فى أقواله أيضا ، كما روى عن أبى حفص النيسابورى أنه قال :
( من لم يزن أفعاله وأقواله فى كل وقت بالكتاب والسنة ، فلا تعده من ديوان الرجال ) (1) ، وقال الشيخ عبد القادر الجيلانى : ( لا بد لكل مؤمن فى سائر أحواله من ثلاثة أشياء : أمر يمتثله ، ونهى يجتنبه ، وقدر يرضى به ، فأقل حالة لا يخلو المؤمن فيها من أحد هذه الأشياء الثلاثة ، فينبغى له أن يلزم بها قلبه ، ويحدث بها نفسه ، ويأخذ بها الجوارح فى كل أحواله ) (2) .
ويعلق ابن تيمية على كلامه بالشرح والتفصيل ، وموافقة ذلك لما جاء به الشرع ، وما يقتضى به سلوك المسلم ، وهو سلوك الأبرار والمقربين فيقول :
( هذا كلام شريف جامع يحتاج إليه كل واحد ، ومطابق لقوله تعالى : { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف/90] (3) .(3/40)
وقد كان لأوائل الصوفية وقفات صارمة تجاه المخالفين للأصول القرآنية والنبوية فى كثير من مسائل التصوف أو غيرها ، وشدد أبو نصر السراج الطوسى فى أن كل من ترسم برسوم هذه العصابة أو أشار إلى نفسه بأن له ــــــــــــــــــــ
1. الاستقامة لابن تيمية ، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم ، توزيع مكتبة التوعية الإسلامية ، 1/96 .
2. فتوح الغيب للشيخ عبد القادر الجيلانى ، طبعة الحلبى ، القاهرة ، 1973م ص6.
3. كتاب السلوك ضمن مجموع الفتاوى ، 10/456 .
قدما فى هذه القصة أو توهم أنه متمسك ببعض آداب هذه الطائفة ولم يحكم أساسه على ثلاثة أشياء فهو مخدوع ولو مشى فى الهواء ونطق بالحكمة أو وقع له قبول عند الخاصة أو العامة وهذه الثلاثة أشياء : أولها : اجتناب جميع المحارم كبيرها وصغيرها ، والثانى : أداء جميع الفرائض عسيرها ويسيرها ، والثالث : ترك الدنيا على أهل الدنيا قليلها وكثيرها إلا مالابد للمؤمن منها (1) .
وقد كتب أبو عبد الرحمن السلمى كتابا سماه أصول الملامتية وغلطات الصوفية (2) ، بين فيه أوجه الخطأ عند المنتسبين للتصوف ، وكيف يرد عليهم بالأصول الشرعيه وقد حصر غلطاتهم فى ثلاثة أوجه :
1- طبقة غلطت فى الأصول ، لقلة أحكامهم أصول الشرع ، وضعف فهمهم وإخلاصهم كما قال الجنيد : إنما منعوا من الوصول لتضييع الأصول .
2- وطبقة غلطت فى الفروع من الآداب والأخلاق والمقامات ، وذلك لقلة معرفتهم بالأصول وأتباعهم حظوظ النفس والدنيا ، ولم يتأدبوا بمن يروضهم ويجرعهم المرارات ، ويدلهم على المناهج ويعرفهم النفس وعيوبها فتسقط عنهم حظوظها ، فمثل هؤلاء مثل من يدخلون بيتا مظلما بغير
ــــــــــــــــــــ
1. اللمع فى التصوف ص519 .(3/41)
2. من الجدير بالذكر أن أبا عبد الرحمن السلمى نقل معظم هذا الكتاب مع تغيير بسيط فى ألفاظه عن كتاب اللمع لأبى نصر السراج الطوسى ، انظر للمقارنة ، اللمع فى التصوف ص554:518 وانظر تعليق الدكتور عبد الفتاح الفاوى محمود على أصول الملامتية وغلطات الصوفية ص 178 .
سراج ، يريد أن يطلب فيه شيئا ، فربما وجد ما يطلب ، وربما أفسد فى تلك الظلمة أكثر مما يصلح .
3- وطبقة غلطهم زلة أو هفوة ، فإذا يبين لهم ذلك عادوا إلى سبيل الرشد ومكارم الأخلاق ومعالى الأحوال ، وقبلوا النصح وتركوا العناد ، وأذعنوا للحق ، فلا ينقص بتلك الهفوة من مراتبهم شئ (1) .
وقد تكررت هذه المحاولات النقدية (2) بغية أن يكون تهذيب النفس فى الإسلام مقرونا بما أمر الله تعالى به وبما نهى عنه ، ويكون للمعرفة والعلم الصحيح النافع مكان عظيم مع التهذيب الروحى ، لأن النفس العاطلة من المعرفة لا تؤتى ثمارعا وهى عاطلة من التفقه فى الدين (3) .
وليس هذا بغريب حتى عند الغريين المغرضين من أبناء المستشرقين ، فمنهم من يرى أن السمو الفكرى يتطلب الاقتران بالجانب الروحى ، لكنه مع الأسف جعل العاطفة الصوفية بإطلاقها هى أعظم ملهم للمعرفة الإنسانية ــــــــــــــــــــ
1. أصول الملامتية وغلطات الصوفية لأبى عبد الرحمن السلمى تحقيق أستاذنا الدكتور عبد الفتاح الفاوى محمود سنة 1405هـ ، 1985م ص177:176 .
2. انظر للتوسع فى هذه النقطة الموقف النقدى من التصوف لدى الصوفية ، للباحث عدل أمين حافظ ، رسالة ماجستير مخطوط ، بمكتبة كلية دار العلوم جامعة القاهرة برقم 615 ، سنة 1995م .
3. التصوف فى الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه ، تأليف الدكتور عبد اللطيف محمد العبد ،طبعة دار الثقافة العربية ، القاهرة ، سنة 1407 هـ ، 1986م ص40 بتصرف .
وأن أعظم المفكرين شعروا بالحاجة إلى الجمع والتوفيق بين العلم والتصوف كى يبلغوا مرحلة السمو الفكرى (1) .(3/42)
ويجدر التنبيه على التعميم الذى أطلقه هذا المستشرق ، فليس التصوف مقبولا على إطلاقه ، كما أن الجانب الروحى فى الإسلام جسده أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - من خلال اتباعهم الصادق لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
ويمكن أن نلحظ منزلة القرآن والسنة عند المعتدلين من أوائل الصوفية من خلال موقفهم فى التعرف على أوصاف الله وأفعاله ، فقد قبحوا تقديم الرأى على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وحذروا منه ، وأعلنوا عن التزمهم بتصديق ما جاء فى الوحى من أخبار عن وصف الله عز وجل ، فقال أبو طالب المكى :
( باب ذكر العلم وطريقة السلف وذم ما أحدثه المتأخرون من الكلام .. ثم تابع كلامه فقال .. وقد ظهرت مصنفات الكلام وكتب المتكلمين بالرأى والهوى والعقل والقياس وذهب علم اليقين وغابت معرفة الموقنين من علم التقوى ) (2) ، ثم يصرح بالمعتقد الصحيح فيقول : ( فإنا قوم متبعون نقفوا الأثر غير مبتدعين بالرأى والمعقول نرد به الخبر .. وفى رد أخبار الصفات بطلان شرائع الإسلام من قبل أن الناقلين إلينا ذلك ، هم ناقلو شرائع الدين وأحكام الإيمان ، فإن كانوا عدولا فيما نقلوه من الشريعة ، فالعدل مقبول القول فى كل ما نقلوه ، وإن كانوا كذبوا فيما نقلوا من إخبار الصفات ــــــــــــــــــــ(3/43)
- - ?? الله أكبر - عليه السلام - - - - صلى الله عليه وسلم - - - ? - ? تمهيد - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - } - } - مقدمة ?? - فهرس - ? - - - } - ? - - - صلى الله عليه وسلم - - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه -- صلى الله عليه وسلم - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - { - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - ?? الله أكبر - - صلى الله عليه وسلم -? تمهيد - - - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - فهرس ?? - } تمت - صلى الله عليه وسلم - - - صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنهم -? - ? المحتويات - صلى الله عليه وسلم - صدق الله العظيم ?- جل جلاله - - - صلى الله عليه وسلم - - ?? - - - - - ? - { - تمهيد -
2. انظر قوت القلوب 2/124 .
فالكذب مردود القول فى كل ما جاء به ) (1) .
ويؤكد عبد الله بن خفيف الشيرازى أن مصدر المعرفة بالله هو ما جاء عن الله بالخبر الصحيح ، وعمل المريد هو التلقى والفهم ، والتصديق والإجابة يقول : ( وينبغى على المريد أن يعتقد فى كل الأخبار الصحيحة التى رويت فى باب الصفات لله تعالى ، يعتقدها إيمانا وتسليما لا قياسا ومناقشة أو جدالا ومباحثة .. والعقل لا يحسن ولا يقبح والشرع حاكم على العقل ) (2) .
وقد ورد أيضا أن بعض الصوفية كانت تعرض له آراء أو ألفاظ فى التصوف وسلوك الطريق ، فلا يقبلها ولا يمضيها ، إلا إذا وجد لها شاها فى الكتاب والسنة ، فقال أبو سليمان الدرانى : ( ربما تقع النكتة فى قلبى من نكت القوم أياما فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين : الكتاب والسنة ) (3) ، وقال سهل بن عبد الله التسترى : ( كل فعل نفعله بغير اقتداء فهو عيش النفس ، وكل فعل نفعله بالاقتداء فهو عذاب على النفس ) (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق 2/124 .(3/44)
2. سيرة ابن خفيف الشيرازى ، لأبى الحسن على بن محمد الديلمى ، تحقيق الدكتور إبراهيم الدسوقى شتا ، طبعة مجمع البحوث الإسلامية ص248 .
3. الاستقامة ص96 . 4. السابق ص95 وانظر أيضا ، رسالة دكتوراه بعنوان : مدى انطباق أفكار الصوفية على الكتاب والسنة ، إعداد عبد الله يوسف الشاذلى ، بمكتبة كلية أصول الدين جامعة الأزهر بالقاهرة 1978م ص 54 ، وموقف الصوفية من التكاليف الشرعية ، إعداد أحمد على عجيبة رسالة ماجستير بمكتبة كلية أصول الدين جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة سنة 1987م ، ص 34 : 56 .
ولا عجب أن ابن تيمية يستشهد بنصوص كثيرة من مرويات أوائل الصوفية ويبين موافقتها لنصوص الكتاب والسنة ، لأنها تدور حول فعل المأمور الشرعى وترك المحظور المنهى ، وهذا لب الشريعة الإسلامية ، وأثنى على عدد كبير منهم وعدهم من أئمة السلف الصالح ، وأن عقيدتهم ومنهجهم واحد وهو الاقتداء والالتزام بالأصول القرآنية والنبوية ، وأقوالهم هى أقوال سلف الأمة ، فيقول :
( وأئمة الهدى الذين جعل الله تعالى لهم لسان صدق فى الأمة ، مثل سعيد بن المسبب والحسن البصرى ، وعد منهم .. مالكا والشافعى وأحمد وبشرا الحافى والجنيد بن محمد وسهلا بن عبد الله التسترى وعمر بن عثمان المكى .. وأمثال هؤلاء المشايخ ..كل هؤلاء متفقون على أن الله سبحانه ليس هو خلقه ولا جزءا من خلقه ولا صفة لخلقه ، بل هو سبحانه متميز بنفسه ، بائن بذاته المعظمة ) (1) .
غير أن الصوفية على الرغم من كون القرآن والسنة لهما منزلة سامية فى نفوسهم ، إلا أنهم جعلوا للنصوص ظاهرا وباطنا ، وكان جل اهتمامهم ينصب على الجانب الباطنى دون الظاهر المتبادر إلى الأذهان ، يقول السراج الطوسى :(3/45)
( فأما أصحاب الحديث فإنهم تعلقوا بظاهر حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : هذا أساس الدين لأن الله يقول : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [الحشر/7] ) (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. كتاب توحيد الربوبية لابن تيمية ص 474 ، وانظر الاستقامة لابن تيمية 1/142 والفتوى الحموية ص35 37 ، 38 ، 42 . 2. اللمع ص24 .
أما الصوفية فيسميهم أهل الصفوة ويصفهم بقوله : ( وللصوفية مستنبطات فى علوم مشكلة على فهوم الفقهاء والعلماء لأن ذلك لطائف مودعة فى إشارات لهم تخفى فى العبارة من دقتها ولطافتها ) (1) .
ويخصص أيضا كتابا لوصف موقفهم من الكتاب والسنة فيقول : ( كتاب أهل الصفوة فى الفهم والاتباع لكتاب الله عز وجل ، باب الموافقة لكتاب الله تعالى ) (2) .
ثم يبين أنهم ممن يدركون المتشابه على الأفهام ، ويصلون إلى عجائب الحكمة من القرآن مستدلا بقوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [آل عمران/7] ، وقوله :
{ وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [الإسراء/82] ، وقوله : { يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } [يس/2:1] وقوله : { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } [القمر/5] ، وقول النبى - صلى الله عليه وسلم - : " القرآن حبل الله المتين ، لا تنقضى عجائبه ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، من قال به صدق ، ومن عمل به رشد ، ومن حكم به عدل ، ومن اعتصم به هدى " (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص32 .
2. السابق ص105 .(3/46)
3. ضعيف أخرجه الترمذى برقم (2906) عن الحرث الأعور قال : ( مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث ، فدخلت على علي ، فقلت : يا أمير المؤمنين ألا ترى أن الناس قد خاضوا في الأحاديث ؟ قال : وقد فعلوها ، قلت : نعم ، قال : أما إني قد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ألا إنها ستكون فتنة فقلت : ما المخرج منها =
ووجه استدلاله بهذه الأدلة ، أن القرآن لما حوى كثيرا من المتشابه على كثير من الأفهام ، وفيه شفاء لا يعرفه الأطباء فضلا عن المرضى ، وفيه من عجائب الحكمة التى تخفى على العامة والدهماء ، وفيه من علم الأولين والآخرين ، فإن الصوفية هم أولى الناس بمعرفة ذلك لأنهم الخواص ، فيقول :
( فعَلِمَ أهل العلم بهذا الخطاب أن فى كتاب الله الذى أنزل على رسوله وهو القرآن الذى لا شك فيه لأحد من المؤمنين أنه من عند الله ، أن فيه هدى وبيانا لهم فى جميع ما أشكل عليهم من أحكام الدين بعد إيمانهم بالغيب ، وهو التصديق بما أخبرهم الله به عما غاب عن أعينهم ) (1) ثم يضرب أمثلة لذلك الفهم الذى يخص الصوفية منها :
(1- قوله تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً ــــــــــــــــــــ
= يا رسول الله ؟ قال : كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا :(3/47)
{ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ } [الجن/1]من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم ، خذها إليك يا أعور ) قال أبو عيسى : هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده مجهول وفي الحرث الأعور مقال ، وضعفه الشيخ الألبانى 5/172 .
1. السابق ص106 .
وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل/89] .
فأفادت هذه الآية الفهم من أهل العلم بعد إيمانهم بالغيب أيضا ، أن تحت كل حرف من كتاب الله تعالى كثيرا من الفهم مذخورا لأهله على مقدار ما قسم لهم من ذلك ، وعلى نحو ما قال سهل بن عبد الله التسترى : لو أعطى العبد لكل حرف من القرآن ألف فهم لما بلغ نهاية ما جعل الله تعالى فى آية من كتاب الله تعالى من الفهم ، لأنه كلام الله تعالى وكلامه صفته ، وكما أنه ليس لله نهاية ، فكذلك لا نهاية لفهم كلامه ، وإنما يفهمون على مقدار ما يفتح الله تعالى على قلوب أوليائه من فهم كلامه ، وكلام الله غير مخلوق فلا تبلغ إلى نهاية الفهم فيه فهوم الخلق لأنها محدثة مخلوقة (1) .
(2- وقال عز وجل فى آية أخرى :
{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَم ُ } [الإسراء/9] ، يعنى يدل إلى الذى هو أصوب ، فعلم أهل الفهم من أهل العلم أن لاسبيل إلى التعلق بالأصوب مما يهدى إليه القرآن ، إلا بالتدبر والتفكر والتيقظ والتذكر وحضور القلب عند تلاوته ، وعلموا ذلك أيضا بقوله : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } [ص/29] .
ثم استفاد أهل الفهم من هذه الآية أيضا أن التدبر والتفكر والتذكر لا وصول إليه إلا بحضور القلب ، لقوله عز وجل : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } [ق/37] يعنى حاضر القلب (2) .
ــــــــــــــــــــ(3/48)
1. السابق ص107 . 2. السابق ص106 .
ولئن كان البحث والاستنباط من كتاب الله عملا محمودا فى الإسلام إذا كان مضبوطا بقواعد النظر وأصول الاستدلال ، فإن بعض الصوفية غالى فى الجانب الباطنى ، حتى أخرج نصوص القرآن والسنة من هذه القواعد وتلك الأصول ، إلى درجة ضاعت فيها هيبتها وتغيرت مفاهيمها ، التى يعز فى ظلها تحصيل مراد الله من كلامه ، ومعرفة الغاية من خطابه سبحانه وتعالى .
فمنهم من توهم أن العبد ما دام بينه وبين الله تعبد ، فهو مسمى باسم العبودية ، فإذا وصل إلى الله صار حرا ، وإذا صار حرا سقطت عنه العبودية وأمكنه عند ذلك التحلل من الشرع وإسقاط التكاليف (1) .
ومنهم من قال : ( اعلم أن المرء قائم على بساط الشريعة ما لم يصل إلى التوحيد فإذا وصل إليه سقطت من عينه ، وصارت عنده هوسا ) (2) .
بل وصل الأمر إلى أن يكون معنى مصطلح القرآن نفسه عند بعضهم غير ما يعنيه سائر المسلمين ، فأصبح القرآن يعنى العلم اللدنى الإجمالى الجامع للحقائق كلها ويقابله الفرقان (3) .
قال ابن عربى : ( قال فى التنزيل بلسان نوح : { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا } [نوح/6] ، وعلم العلماء أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان ، والأمر قرآن لا فرقان ، ومن أقيم فى القرآن ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص 531 .
2. أخبار الحلاج نشر ماسينون ، بول كرواس مكتبة باريس سنة 1936 ص 55 .
3. معجم اصطلاحات الصوفية للكاشانى ص153 .
لا يصغى إلى الفرقان وإن كان فيه ، فإن القرآن يتضمن الفرقان ، والفرقان لا يتضمن القرآن ، ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه أوتى جوامع الكلم فما دعا محمد قومه ليلا ونهارا ، بل دعاهم ليلا فى نهار ، ونهارا فى ليل ) (1) .(3/49)
وهذا الموقف الصوفى الأخير انتشر وزاع بين الصوفية إلى عصرنا هذا ، حتى إن المرء لا يعلم طريقة معينة يستطيع بها الحوار معهم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .
ــــــــــــــــــــ
1. فصوص الحكم حـ1 ص70 ، 71 .(3/50)
بين التفسير والتأويل الصوفي للقرآن الكريم
من المعلوم أن الله تعالى خاطب خلقه بما يفهمونه ، ولذلك أرسل كل رسول بلسان قومه ، وأنزل كتابه على لغتهم ، وإنما دعت الضرورة للتفسير لأن كل من وضع من البشر كتابا ، وضعه ليفهم بذاته من غير شرح ، وإذا بحثنا عن الأسباب الداعية إلى الشروح ، وجدناها تكاد تنحصر فى ثلاثة أمور :
أحدها : كمال فضيلة المصنف ، فإنه لقوته العلمية يجمع المعانى الدقيقة فى اللفظ الوجيز ، فربما عسر فهم مراده ، فقصد بالشرح ظهور تلك المعانى الخفية ، ومن هنا كان شرح بعض الأئمة تصنيفه أدل على المراد من شرح غيره له .
ثانيها : قد يكون حذف بعض مقدمات الأقيسة ، أو أغفل فيها شروطا اعتمادا على وضوحها ، أو لأنها متعلقة بعلم آخر ، فيحتاج الشارح لبيان المحذوف ومراتبه .
ثالثها : احتمال اللفظ لمعان متعددة كالمجاز والاشتراك ودلالة الالتزام ، فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه ، وقد يقع فى التصانيف ما لا يخلو منه بشر ، من السهو والغلط وتكرار الشئ وحذف المهم وغير ذلك ، فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك (1) .
ــــــــــــــــــــ
1. البرهان فى علوم القرآن للزركشى ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم1/14بتصرف =
ومعلوم أن القرآن إنما أنزل بلسان عربى مبين فى زمن أفصح العرب ، وقد أثار منذ اللحظات الأولى لنزوله أذهانهم ، ودعاهم إلى الالتفات إلي ما جاء به من جديد فى أساليب التعبير والبيان ، وعلقت أفئدتهم وأسماعهم بما جمع من ألفاظ حسان ، ومن ثم وجدنا كتيرا من الصحابة - رضي الله عنهم - يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن معنى بعض الألفاظ ليفهم بها خطاب الله عز وجل ، كما روى عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال :(4/1)
" لما نزلت : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } [الأنعام/82] قلنا : يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه ؟ قال : ليس كما تقولون ، { َلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } بشرك ، أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان/13] " (1) .
ففسر النبى - صلى الله عليه وسلم - الظلم بالشرك من خلال تفسير القرآن بالقرآن وشرح آية لأخرى ، وكما روى أيضا عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة ، لا يزن عند الله جناح بعوضة ، اقرؤوا إن شئتم : { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } [الكهف/105] " (2) .
ــــــــــــــــــــ
= وانظر فى ذلك أيضا مرويات السنة فى تفاسير المحدثين فى مصر ، بخيته محمد على إلإبراهيم الدوسرى ، رسالة دكتوراه مخطوط بمكتبة كلية دار العلوم ، جامعة القاهرة رقم (1066) لسنة1996م ص 34 .
1. الجامع الصحيح المختصر للإمام البخارى رقم (3181) 3/1226.
2. أخرجه البخارى انظر السابق حديث رقم (4452) 4/1759 .
غير أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يعلمون من خطاب الله ظواهر القرآن وأحكامه أما دقائقه وأعماقه البعيدة فإنما كانت تظهر لهم بعد البحث والنظر من سؤالهم النبى - صلى الله عليه وسلم - فى الأكثر .
ولم ينقل إلينا عنهم تفسير القرآن وتأويله بجملته (1) ، لأن إيمانهم العميق بكلام الله دعاهم إلى التصديق بخبره والاستسلام لأمره ، وليس كما صورهم المستشرق جولد تسيهر أن أفهامهم كانت فى طور النمو والاكتمال لأن الإسلام بعد موت النبى كان طفلا يافعا ولم يكن كاملا ناضجا (2) .(4/2)
فالأمر لم يكن كذلك لأن الله أنزل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - قبل موته : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا } [المائدة/3] .
وقد دلت على اكتمال الدين وتمام النعمة وأى تشكيك فى ذلك يكشف سوء النية أو دعاوى الجهل ، لقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يرتسمون ما نقل عن النبى - صلى الله عليه وسلم - بحذر شديد ، فى شرح لفظ غريب أو بيان حكمة وموعظة فيه ، فلم يكن فى القرآن ما يصعب عليهم فهمه بوجه عام ، غير أنهم لم يتصدوا للتفسير ــــــــــــــــــــ
1. حجج القرآن ، لأحمد بن محمد بن المظفر بن المختار الرازى دراسة وتحقيق ، رسالة ماجستير لشمران سركال يونس ، مكتبة كلية دار العلوم رقم 335 سنة 1980م مقدمة التحقيق ص33 .
2. انظر رأى جولد تسهير فى وصفه لحال المسلمين من الصحابة والتابعين وموقفهم من الحديث والتفسير فى كتابه مذاهب التفسير الإسلامىص55 ، والعقيدة والشريعة فى الإسلام تاريخ التطور العقدى والتشريعى فى الإسلام ، ترجمة د/ محمد يوسف موسى وآخرين ، دار الكتب العربى ، ط3 سنة1959ص46 وما بعدها .
بشكل تفصيلى تحرجا من القول على الله بلا علم ، ولذا فقد روى عن أبى بكر الصديق أنه سئل عن قوله تعالى : { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } [عبس/31] فقال : " أى سماء تظلنى ، وأى أرض تقلنى ، إن أنا قلت فى كتاب الله ما لا أعلم " (1) .
ونقل عن أنس - رضي الله عنه - أنه سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول : { فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } [عبس/31:27] .
قال : فكل هذا قد عرفناه فما الأب ؟ ثم نقض عصا كانت في يده فقال : هذا لعمر الله التكلف ، اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب (2) .(4/3)
وقد يكون صحيحا أن الصحابة - رضي الله عنهم - استعصى عليهم فهم بعض الغريب ، وقد يكون إحجامهم عن التفسير تحرجا من القول فى القرآن بالرأى ، وعلى أية حال وفى كلا الأمرين ، فالصحابة - رضي الله عنهم -كانوا أقدر الناس على معرفة مرامى القرآن ومعانيه ، وقد يختلفون فى الفهم بطبيعة الحال على قدر إلمامهم ومعرفتهم بأساليب الكلام والشعر ولغة العرب وعاداتهم ، فمن كان منهم أكثر إلماما بهذا أو بعضه ، كان أكثر معرفة وأوسع فهما لمعانى القرآن وغريب ألفاظه (3) .
ومن ثم فنحن نحتاج إلى ما كانوا يحتاجون إليه وزيادة بيان لأحكام الظواهر ــــــــــــــــــــ
1. فتح البارى شرح صحيح البخارى ، والرواية فى سندها ضعف 13/272 .
2. أخرجه الحاكم فى المستدرك (3897) 2/559 وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وانظر الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى 1/196 .
3. فجر الإسلام ، لأحمد أمين ، طبعة لجنة التأليف بمصر ، الطبعة الثالثة ، 1354هـ 1/196 وضحى الإسلام ، طبعة الاعتماد بمصر 1352هـ ، 1/138 .
وذلك لقصورنا عن إدراك أحكام اللغة بغير تعلم ، فنحن أشد الناس احتياجا إلى التفسير منهم .
ومعلوم أن تفسير القرآن يكون بعضه من قبيل بسط الألفاظ الوجيزة وكشف معانيها ، وبعضه من قبيل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض لبلاغته ولطف معانيه ، ولهذا لا يستغنى عن قانون عام يعول عليه ويرجع إليه فى تفسيره ، من معرفة مفردات ألفاظه ومركباتها وسياقه وظاهره وباطنه وغير ذلك ، مما لا يدخل تحت الوهم ويدق عنه الفهم ، وفى هذا تتفاوت الأذهان (1) .
ضوابط تفسير القرآن الكريم :(4/4)
تنوعت الاتجاهات فى تفسير القرآن وتعددت غاياتها ، فظهر تفسير القرآن بالمأثور والمنقول من الأحاديث والأخبار والسيرة والأشعار وعادات العرب وأخبارهم ، وهذا التفسير كله منقول عن الصحابة والتابعين ، وقد يرفع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو فى الأغلب مشفوع بالسند ، وهناك من تبنى التفسير اللغوى للقرآن ، وقد اتخذه علماء اللغة ميدانا لهم ، وحاولوا التعرف على لغته وتراكيبه النحوية ، وألوان الغريب من الألفاظ فيه ، أهى عربية أصلية أو معربة من لغات البلدان المحيطة بجزيرة العرب والتى أثرت فى لسانهم بحكم التلاصق والتجارة وغيرها ؟
وقد حاولوا أيضا البحث فى المدلول اللفظى ، وصلة اللفظ بالمعنى العام للعبارة ، وغير ذلك من ألوان النواحى اللغوية والأساليب البيانية الواردة فى ــــــــــــــــــــ
1. البرهان فى علوم القرآن 1/15بتصرف .
القرآن ، وهناك من نظر إلى الإشارات الرقيقة التى تظهر بين جمل الكلام فظهر التفسير الإشارى للقرآن ، وهو تأويل القرآن على خلاف ظاهره ، لإشارات خفية لبعض المجتهدين من أولى العلم أو تظهر للعارفين بالله من أرباب السلوك والمجاهدات ، ممن نور الله بصائرهم فأدركوا من أسرار القرآن ما خفى على غيرهم وانقدحت فى أذهانهم بعض المعانى الدقيقة (1) .
فتعددت الأغراض وكثرت مدارس التفسير بصورة توجب فى هذا البحث تقرير الأساس الذى يبنى عليه فهم القرآن ، وضبط منهج التفسير وطريقة التأويل ، ذلك لأننا لم نعدم فى تاريخ التراث الإسلامى استغلال معظم الفرق الإسلامية لهذا السلاح ، أعنى تفسير القرآن أو تأويله بالرأى ، تدعيما لأصول هذه الطائفة أو تلك ، وقد تفاوتت عندهم مراتب التفسير والتأويل بتفاوت البراعة فى استغلال الألفاظ ودلالتها المتعددة ، والانتفاع بالأحاديث النبوية المكملة أو المفسرة (2) .
ومن ثم كان من الضرورى إظهار الوسيلة المثلى التى يبنى عليها فهم القرآن ــــــــــــــــــــ(4/5)
1. من أمثلة التفسير بالمأثور تفسير ابن جرير الطبرى وتفسير ابن كثير ، ومن أمثلة الفسير اللغوى النحوى مجاز القرآن لأبى عبيدة معمر بن المثنى ، ومعانى القرآن لأبى زكريا يحى بن زياد الفراء ، ومن أمثلة الإشارى ، تفسير أبى عبد الرحمن السلمى ولطائف الإشارات لعبد الكريم القشيرى ، وتفسير القرآن الكريم لعبد الرزاق الكاشانى ، وهو منسوب فى جميع طبعاته إلى محى الدين بن عربى .
2. التصوف طريقة وتجربة ومذهبا ، للدكتور محمد كمال جعفر ، طبعة دار الكتب الجامعية 1970م ، ص26 بتصرف .
وكيفية تفسيره من خلال ما ورد فى كتب التفسير المختلفة (1) .
فالقرآن كتاب عربى مبين جديد فى أسلوبه معجز ، وهو مع ذلك لم يخرج عن أساليب العرب وعادتهم فى نظم الكلام ، وكان طبيعيا أن يجمع أساليب العرب فى التعبير من قواعد فنية وتركيبية ، ففيه الحقيقية وفيه المجاز وفيه الكناية وغيرها من أساليب العرب ، ومع هذا التشابه الظاهرى بين أساليب العرب فى نثرهم وشعرهم بقيت للقرآن ميزة جعلته المثل الأعلى للبلاغة العربية (2) .
ويمكن أن تتحدد معالم المنهج الصحيح ،لمن أراد التعرف على مراد الله من خطابه فيما يلى :
(1- الاعتماد على تفسير القرآن بالقرآن ، فقد أجمع علماء التفسير على أن أشرف أنواع التفسير وأجلها تفسير كتاب الله بكتاب الله ، إذ لا أحد أعلم بمعنى كلام الله من الله عز وجل ولا يصح العدول عن هذا التفسير إلى غيره بعد ظهور مراد الله من الآيات (3) .
ومن أمثلة هذا النوع ، ما جاء مجملا فى موضع جاء مبينا فى موضع آخر كقوله تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } [المائدة/1] فقد ــــــــــــــــــــ(4/6)
1. انظر للتوسع فى هذه النقطة ، أثر القرآن على منهج التفكير الفلسفى ، محمود السعيد طه الكردى ، رسالة دكتوره بمكتبة كلية الآداب جامعة القاهرة سنة 1979م ، والحافظ ابن كثير ومنهجه فى التفسير إسماعيل سالم عبد العال ، رسالة ماجستير بمكتبة كلية دار العلوم جامعة القاهرة ، رقم 125سنة 1977م .
2. أضواء البيان فى إيضاح القرآن بالقرآن ، لمحمد الأمين الشنقيطى 1/5 .
3. السابق 1/7 .
جاء تفسير قوله : إلا ما يتلى عليكم ، فى آية كريمة أخرى هى قوله تعالى :
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ } [المائدة/3] .
وكذلك قوله تعالى : { وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ } [الطارق/1] جاء تفسير الطارق فى نفس السورة : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِب ُ } [الطارق/3:2] ، فلا يصح العدول عن معنى اللفظ بعد أن بينه الله عز وجل إلى أى معنى آخر .
وكذلك قوله سبحانه وتعالى : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة/37] جاء تفسير الكلمات التى تلقاها آدم - عليه السلام - فى موطن آخر من القرآن ، فى قوله تعالى : { قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف/23] (1) .(4/7)
ومن الأمثلة أيضا على تفسير القرآن بالقرآن ، أن يذكر شئ فى موضع ثم يقع سؤال عنه وجواب فى موضع آخر يفسره ، كقوله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الفاتحة/1] ، فإنه لم يبين هنا ما المراد بالعالمين ؟ ولكنه وقع سؤال وجواب فى موضع آخر يفسر المراد ، وهو قوله تعالى :
{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا ــــــــــــــــــــ
1. السابق 1/9 .
إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } [الشعراء/24:23] ، وسؤال فرعون وإن كان فى الأصل عن الرب جل وعلا ، فقد دخل فيه الجواب عن المراد بالعالمين .
وكذلك قوله تعالى : { مالك يوم الدين } [الفاتحة/2] فإنه لم يبينه هنا ، مع أنه وقع سؤال عنه وجواب فى موضع آخر وهو قوله : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [الانفطار/19:17] .
ومن أمثلته أيضا أن يكون الظاهر المتبادر من الآية بحسب الوضع اللغوى غير مراد بدليل قرآنى آخر على أن المراد غيره ، ومثاله قوله تعالى : { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [البقرة/229] ، فإن ظاهره المتبادر منه أن الطلاق كله محصور فى المرتين ، ولكنه تعالى بين أن المراد بالمحصور فى المرتين خصوص الطلاق الذى تملك بعده الرجعة بقوله : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } [البقرة/230] (1).(4/8)
وعلى الرغم من اشتهار الصوفية بالتفسير الإشارى إلا أن كثيرا منهم اهتم بهذا النوع من التفسير لتوضيح بعض المعانى القرآنية المتعلقة بالجانب الروحى فى الإسلام ، وأسفرت محاولاتهم عن نتائج إيجابية مثمرة ، نرى مثلا يدلل على ذلك فى كتاب قوت القلوب لأبى طالب المكى (ت:386هـ) وهو يستقصى ــــــــــــــــــــ
1. السابق 1/13 ، وانظر المزيد فى تفسير القرآن بالقرآن ، ابن العربى ومنهجه فى التفسير ، لمحمد عبد السلام زغوان ، رسالة ماجستير بمكتبة جامعة القاهرة ، رقم 267لسنة 1978م .
حقيقة الدنيا معتمدا على تفسير القرآن بالقرآن ، فقال : ( لا يمكن لعبد أن يعرف الزهد حتى يعرف الدنيا أى شئ هى ، فقد قال الناس فى الزهد أشياء كثيرة ، ونحن غير محتاجين إلى ذكر أقوالهم ، بما بين الله تعالى وأغنى بكتابه الذى جعل فيه الشفاء والغنى ) (1) .
ويعتمد المكى فى معرفة الدنيا على مجموعة من الآيات يفسر بعضها بعضا ويقارن بينها إلى أن يصل إلى وصف واحد يبين حقيقة الدنيا ، فقوله تعالى :
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآب ِ } [آل عمران/14] ،بين الله لنا فيه أنواع المشتهيات في الدنيا وحصرها فى سبعة أصناف جامعة ، يقول المكى معقبا :
( فهذه سبعة أوصاف هى جملة متاع الدنيا ، وما تفرع من الشهوات رد إلى أصل من أصول هذه الجمل ، فمن أحب جميعها فقد أحب جملة الدنيا ، ومن أحب أصلا منها أو فرعا من أصل فقد أحب بعض الدنيا ، وعلمنا بنص كلام الله أن الشهوة دنيا ، وفهمنا من دليله أن الحاجات ليست بدنيا ، لأنها تقع ضرورات ، فإذا لم تكن الحاجة دنيا ، دل أنها لا تسمى شهوة وإن كانت قد تشتهى ) (2) .
ــــــــــــــــــــ(4/9)
قوت القلوب فى معاملة المحبوب ، لأبى طالب محمد بن أبى الحسن على بن عباس المكى ، طبعة مكتبة المتنبى ، القاهرة سنة 1310هـ ، 1/245.
السابق 1/245 .
ثم يجمع المكى بأسلوب رائع بين الآية السابقة وبين آية أخرى تفسر لنا علل الاشتهاء وقد جمعها الله تعالى فى خمسة أنواع فقال : { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ } [الحديد/20] .
يقول المكى معقبا : ( فرد الأوصاف السبعة إلى خمسة معان هى وصف من أحب تلك السبعة ) (1) .
ثم يجمع ما سبق من أصناف المشتهيات فى الدنيا وعلل اشتهائها ، ويضيف إليها آية أخرى تفسر الوصف الجامع للحياة الدنيا ، وهى قوله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [النازعات/41:37] .
يقول المكى : ( فصارت الدنيا طاعة النفس للهوى فمن نهى نفسه عن الهوى فهو لم يؤثر الدنيا ، وإذا لم يؤثر الدنيا فهذا هو الزاهد الذى لا يفرح بعاجل موجود من حظ النفس ولا يحزن على مفقود من ذلك ، يأخذ الحاجة من كل شئ عند الحاجة إلى الشئ ، ولا يتناول عند الحاجة إلا سد الفاقة ، ولا يطلب الشئ قبل الحاجة ، فأول الزهد دخول غم الآخرة فى القلب ، ثم وجود حلاوة المعاملة لله تعالى ، ولا يدخل هم الآخرة حتى يخرج هم الدنيا ، ولا تدخل حلاوة المعاملة حتى تخرج حلاوة الهوى ) (2) .
والتنيجة المثمرة التى توصل إليها المكى بالدليل ، ومن خلال تفسيره للقرآن ــــــــــــــــــــ
السابق 1/246 .
2. السابق 1/246 .(4/10)
بالقرآن ، أن الدنيا هى طاعة النفس للهوى ، وأن الهوى يتعلق بسبعة أصناف جامعة لكل ما يشتهى فيها ، وأن علل اشتهاء الهوى لتلك الأصناف الدنيوية لن تخرج عن خمسة أسباب ، وحقيقة الزهد فى الدنيا تكمن فى طاعة العبد لله ومعصيته لهواه (1) .
(2- الاعتماد على تفسير القرآن بالسنة ، فقد أجمعوا أيضا على أن ذلك من أشرف أنواع التفسير وأجلها ، لأنه لا أحد أعلم بمعنى كلام الله من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يصح أيضا العدول عنه إلى غيره بعد كشف الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمعنى المراد فى خطاب الله عز وجل (2) .
ومن أمثلة هذا النوع ، تفسيره - صلى الله عليه وسلم - الحساب اليسير بالعرض ، أى عرض الأعمال على المؤمن وتذكيره بها فقط ، فعن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "من حوسب عذب ،قالت عائشة : فقلت أو ليس يقول الله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } [الانشقاق/8] فقال : إنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب يهلك " (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. تفتقر المكتبة الإسلامية إلى تفسير علمى جاد فى الجانب الروحى ، يكشف عن أعمال القلوب والجوارح وسائر مقامات الإيمان ، وينتهج طريقة أبى طالب المكى فى هذه الجزئية .
2. أضواء البيان 1/20 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب العلم (103) 1/51 .(4/11)
وكذلك تفسير النبى - صلى الله عليه وسلم - الزيادة فى قوله تعالى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [يونس/26] بالرؤية ، فعن صهيب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في هذه الآية : " إذا دخل أهل الجنة الجنة ، نادى مناد إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه ، قالوا : ألم تبيض وجوهنا وتنجنا من النار وتدخلنا الجنة ؟ قال : فيكشف الحجاب ، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه " (1) .
وكتفسيره - صلى الله عليه وسلم - القوة بالرمى ، فعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال : " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقول :
{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } [الأنفال/60] ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي " (2) .
وكثيرا ما نرى للصوفية تفسيرا من هذا القبيل فى بعض المواضع من تراثهم لكن ينقصه فى الغالب التثبت وعدم التهاون فى قبول الأخبار الضعيفة والموضوعة ، كما أشار أبو طالب المكى إلى ذلك فقال : ( باب ذكر الرخص والسعة فى النقل والرواية .. ولم أعتبر ألفاظ الأخبار ، ولم آل عن سياق المعنى فى كله إذ ليس تحليل الألفاظ عندى واجبا ) (3) .
ويذكر أبو القاسم القشيرى نماذج متعددة لهذا التفسير فى رسالته ، فيذكر الآية ، ثم يأتى ببضعة أحاديث يدلل بها على سياق المعنى ، أو يشرحه بها ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه الترمذى فى كتاب التفسير (3105) وصححه الألبانى 5/286 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب الجهاد (1917) 3/1522 .
3. قوت القلوب لأبى طالب المكى 1/176 .(4/12)
ويوضحه ، فيروى بسنده عن أبى الدرداء - رضي الله عنه - حديثا يفسر به معنى قوله تعالى : { لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } [يونس/64] ، قال : " سألت النبى - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية ؟ فقال : ( ما سألنى عنها أحد قبلك ، هى الرؤيا الحسنة يراها المرء أو ترى له " (1) .
قال الصابونى : ( وكلا هذين القسمين ، تفسير القرآن بالقرآن ، وتفسير القرآن بالسنة ، لا شك فى أنه أعلى أنواع التفسيبر ، ولا شك فى قبوله ، أما الأول فلأن الله تعالى أعلم بمراد نفسه من غيره وكتاب الله تعالى أصدق الحديث ، لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأما الثانى فلأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بين مهمته القرآن ، وذكر أنها مهمة التوضيح والبيان { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل/44] ، فما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شرح أو بيان بسند صحيح ثابت ، فإنه مما لا شك فيه أنه حق يجب اعتماده ) (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة القشيرية 2/714 ، والحديث بهذا اللفظ لم أجده فى كتب السنة ، ولكن معناه ورد فى حديث صحيح ، فمن حديث محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا اقترب الزمان ، لم تكد رؤيا المسلم تكذب ، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ، ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءا من النبوة ، والرؤيا ثلاثة : فالرؤيا الصالحة بشرى من الله ، ورؤيا تحزين من الشيطان ، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه فإن رأى أحدكم ما يكره ، فليقم فليصل ولا يحدث بها الناس ) أخرجه الإمام مسلم فى كتاب الرؤيا ، برقم (2263) 4/1773 .
2. التبيان فى علوم القرآن ، محمد بن على الصابونى ص 65 .(4/13)
(3- الاعتماد على ما أثر عن الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين ، فذهب جمهور المفسرين إلى أن التفسير بالمأثور عن الصحابة - رضي الله عنهم - له قيمته ، وأن تفسير الصحابى له حكم المرفوع ، إذا كان مما يرجع إلى أسباب النزول وكل ما ليس للرأى فيه مجال ، أما ما يكون للرأى فيه مجال فهو موقوف عليه ما دام لم يسنده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) .
قال الزركشى : ( اعلم أن القرآن قسمان : قسم ورد تفسيره بالنقل وقسم لم يرد ، والأول : إما أن يرد عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أو الصحابة - رضي الله عنهم - أو رؤس التابعين فالأول يبحث فيه عن حجة السند ، والثانى ينظر فى تفسير الصحابى ، فإن فسره من حيث اللغة ، فهم أهل اللسان ، فلا شك فى اعتماده ، أو بما شاهدوه من الأسباب والقرائن فلا شك فيه ) (2) .
وذكر الحافظ ابن كثير فى مقدمة تفسيره ، أنه إذا لم نجد التفسير فى القرآن ولا فى السنة ، رجعنا فى ذلك إلى أقوال الصحابة - رضي الله عنهم - ، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن والأحوال التى اختصوا بها ، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح ، ولا سيما علماؤهم وكبراؤهم ، كالأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين المهديين وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم - (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. انظر بتوسع ، أثر القرآن فى تطور النقد العربى ، محمد زغلول سلام ، رسالة ماجستير مخطوط كلية الآداب جامعة الإسكندرية سنة 1982م من ص39 :ص66 .
2. الإتقان فى علوم القرآن 2/183 .
3. تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/3 .
ويرى الزرقانى أن الإنصاف فى التفسير بالمأثور أنه على نوعين :
أحدهما : ما توافرت الأدلة على صحته وقبوله ، وهذا لا يليق بأحد رده ، ولا يجوز إهماله وإغفاله ، ولا يجمل أن نعتبره من الصوارف عن هدى القرآن ، بل هو على العكس عامل من أقوى العوامل على الاهتداء بالقرآن .(4/14)
ثانيهما : ما لم يصح مما نقل من غير إسناد أو تثبت أو خرافات مروية عن الإسرائيليات تصادم العقيدة ، فهذا يجب رده ولا يجوز قبوله أو الاشتغال به ، ولا يزال كثير من أيقاظ المفسرين كابن كثير وغيره يتحرون الصحة فيما ينقلون ، ويزيفون ما هو باطل أو ضعيف (1) .
(4- الاعتماد على قوانين اللغة العربية وأحكامها ، لأن القرآن نزل بلغة العرب ، فقال تعالى : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [يوسف/2:1] ، والمفسر لكتاب الله تعالى هنا ، لا يعتمد على المأثور المنقول عن الصحابة - رضي الله عنهم - أو التابعين ، بل يعتمد على اللغة العربية وفهم أسلوبها على طريقة العرب ، ومعرفة طريقة التخاطب ، وإدراك العلوم الضرورية التى ينبغى أن يكون ملما بها كل من أراد تفسير القرآن ، كالنحو والصرف وعلوم البلاغة وأصول الفقه ، ومعرفة أسباب النزول إلى غير ما هنا لك من العلوم التى يحتاج إليها المفسر (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. مناهل العرفان للزرقانى ص491 .
2. التبيان فى علوم القرآن ، محمد بن على الصابونى ص 153.
وربما يطلقون على هذا التفسير التفسير بالرأى ، والمراد بالرأى هنا الاجتهاد المبنى على أصول صحيحة ، وقواعد سليمة متبعة ، يجب أن يأخذ بها من أراد الخوض فى تفسير الكتاب أو التصدى لبيان معانيه ، وليس المراد به مجرد الرأى أو مجرد الهوى ، أو تفسير القرآن بحسب ما يخطر للإنسان من خواطر ، أو بحسب ما شاء ، كما قال ابن عطية :(4/15)
( يسأل الرجل على معنى فى كتاب الله عز وجل ، فيتسور عليه برأيه دون نظر فيما قال العلماء ، واقتضته قوانين العلم كالنحو والأصول ، وليس يدخل فى هذا الحديث أن يفسر اللغويون لغته ، والنحويون نحوه ، والفقهاء معانيه وأحكامه ، ويقول كل واحد باجتهاده المبنى على قوانين العلم والنظر ، فإن القائل على هذه الصفحة ليس قائلا بمجرد رأيه ) (1) ، وقال القرطبي : ( من قال فى القرآن بما سنح فى وهمه ، أو خطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول ، فهو مخطئ مذموم وعليه يحمل حديث ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم ، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ، ومن قال في القرآن برأيه ، فليتبوأ مقعده من النار " (2) ويعنى من قال فى القرآن قولا يعلم أن الحق غيره ، فليتبوأ مقعده من النار ) (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/32 .
2. أخرجه الترمذى برقم (2951) وضعفه الألبانى من هذا الطريق 5/ص199 ولكنه صحيح بغير هذا اللفظ .
3. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/32 .
وهذا التفسير فى الجملة يكون محمودا إذا كان موافقا لغرض الشارع بعيدا عن الجهالة والضلالة متمشيا مع قواعد اللغة ، معتمدا على أساليبها فى فهم النصوص القرآنية الكريمة ، فمن فسر القرآن ملتزما الوقوف عند هذه الشروط معتمدا عليها فيما يرى من معانى الكتاب العزيز كان تفسيره جائز سائغا (1) .
التأويل فى القرآن والسنة :
التأويل فى اللغة بمعنى الرجوع والمآل والعود والمصير والعاقبة (2) ، وقد استعمل التأويل فى الكتاب والسنة وبين الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين على معنيين :
المعنى الأول : هو الحقيقة التى يؤول إليها الكلام ، أو حقيقة ما ينطبق عليه اللفظ (3) ، وهذا المعنى هو الذى جاء فى القرآن ، فلقد تكررت كلمة التأويل ــــــــــــــــــــ(4/16)
1. انظر للتوسع فى معرفة هذه الضوابط على وجه التفصيل ، النص القرآنى بين التفسير والتأويل ، للدكتور عبد الفتاح سلامة ، رسالة دكتوراه ، بمكتبة كلية أصول الدين جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة سنة 1979م ، وابن جرير الطبرى ومنهجه فى التفسير لمحمود محمد السيد شبيكة ، رسالة دكتوراه بمكتبة كلية أصول الدين جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة سنة 1976م ، ونشأة التفسير واتجاه تطوره ، إعداد السيد أحمد خليل رسالة ماجستير بمكتبة كلية الآداب جامعة القاهرة 1947م ، والتفسير بين الرأى والأثر إعداد محمد حلمى محمود أبو غزالة ، رسالة ماجستير بمكتبة جامعة أم القرى بمكة المكرمة سنة1397هـ .
2. انظر لسان العرب لابن منظور 13/33 ، ومعجم مقاييس اللغة 1/159 ، وتهذيب اللغة للأزهرى 15/437 .
3. الرسالة التدمرية لابن تيمية ص57 ، والفتوى الحموية ص19 .
فى القرآن فى أكثر من عشرة مواضع ، كان معناها فى جميع استعمالاتها الحقيقة التى يؤول إليها الكلام ، أو الأثر الواقعى لمدلول اللفظ المستعمل ، سواء كان ذلك فى الماضى أو فى المستقبل ، كقوله تعالى حكاية عن المشركين وتكذيبهم لأخبار القيامة : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [الأعراف/53] .
فاللَّه تعالى يخبرنا أنهم يوم يتحققون من وقوع ما أخبرهم به فى القرآن من جراء تكذيبهم الرسل ، يعلمون يقينا أن ما جاءت به الرسل ، كان هو الحق الذى لا ريب فيه فيقولون : { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُون َ } [السجدة/12] { قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [الأعراف/53] (1) .(4/17)
ووقوع هذه الأخبار يوم القيامة ، هو تأويل ما أخبر به القرآن من الوعد والوعيد والجنة والنار وما يؤول إليه أمر هؤلاء ، وقال تعالى : { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [يونس/ 39] ردا على من أنكر الحقائق التى جاء بها القرآن ، حيث كذبوا به مع جهلهم بتلك الحقائق ، ولما يأتهم تأويله أى مصيرهم وعاقبة أمرهم ، ولكون تأويله لم يأتهم بعد ، قالوا : إن محمدا افتراه وأنشأه وسارعوا فى عدائه (2) .
وتأويل أخبار القرآن ، منه ما مضى كإخباره عن الأمم الماضية وما حدث لهم من أمور ، ومنه ما سيأتى كإنبائه عن أحوال القيامة وما فيها من بعث ــــــــــــــــــــ
1. انظر تفسير الطبرى 12/478 .
2. السابق 15/93 .
ونشور وحساب وجنة ونار والتأويل بهذا المعنى قد استعمل فى نوعى الأسلوب لأن الكلام نوعان :
1- إنشائى : وهذا يشتمل على أمور الشريعة التكليفية ، من الأوامر والنواهى ، وتأويل الأمر فى هذا النوع تنفيذه ومن هنا قال السلف : إن السنة هى تأويل الأمر ، وقالت عائشة أم المؤمنين رضى اللَّه عنها : " كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول فى ركوعه وسجوده : سبحانك اللَّهم وبحمدك ، اللَّهم اغفر لى يتأول القرآن " تعنى أنه كان ينفذ فى سجوده الأمر فى قوله تعالى : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } [النصر/3] (1) .(4/18)
2- خبرى : وهذا يشتمل على إخبار اللَّه عن أمور الغيب ، كالقيامة وأحوالها وأهوالها ، ومن هذا الباب الكلام فى ذات اللَّه وصفاته ، وتأويل هذا النوع هو عين المخبر به إذا وقع ، وليس تأويله فهم معناه ، وهذا النوع لا يعلم حقيقته كيفا ولا قدرا إلا اللَّه سبحانه وتعالى ، لأن اللَّه يقول : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [السجدة/17] ،فإن اللَّه أخبر أن فى الجنة خمرا ولبنا وعسلا ، ونحن نعلم أن حقيقة هذه الأشياء ليست مماثلة لحقيقة ما نراه منها فى الدنيا ، بل بينهما تباين عظيم مع وجود نوع من التشابه فى الأسماء ، من قبيل المواطأة أو المشاركة فى الأسماء ، ولكن هناك خاصية لتلك الحقائق فى ذاتها ، لا سبيل لنا إلى إدراكها فى الدنيا لعدم وجود نظيرها عندنا ومعرفة هذه الحقائق على ما هى عليه ، هى تأويل ما أخبر ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الأذان (784) 1/281.
اللَّه به فى القرآن ، وهذا هو التأويل الذى اختص اللَّه بعلمه ، ولا سبيل لأهل العلم إليه لقوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ } [آل عمران/7] .
فيجب الوقوف على لفظ الجلالة بهذا الاعتبار ، ولكن يجب التنبه إلى أن جهلنا بحقائق هذه الأشياء فى ذاتها لا ينفى علمنا بالمعنى الذى خوطبنا به فى ذلك ، لوجود الفرق الكبير بين علم المعنى وبين علم التأويل ، والكيفية التى دلت عليها النصوص (1) .(4/19)
وقد استعمل عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - التأويل بالمعنى الأول فى الخبر من الكلام وهو وقوع المخبر به ووجوده ، سواء كان ذلك فى الماضى ، كالقصص التى أخبرنا عنها القرآن ، أو فى المستقبل كأخبار القيامة والجنة والنار ، فقد روى أن هذه الآية قرئت على ابن مسعود - رضي الله عنه - : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة/105] .
فقال : " ليس هذا بزمانها قولوها ما قبلت منكم ، فإذا ردت عليكم فعليكم أنفسكم ، ثم قال : إن القرآن نزل حيث نزل ، منه آيات قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ، ومنه آيات وقع تأويلهن على عهد النبى - صلى الله عليه وسلم - ، ومنه آيات وقع ــــــــــــــــــــ
1. انظر رسالة الإكليل فى المتشابه والتأويل لشيخ الإسلام ابن تيمية ، ضمن مجموعة الرسائل الكبرى ص21:10 بتصرف ، وانظر أيضا ابن تيمية وموقفه من قضية التأويل ، للدكتور محمد السيد الجليند ص151 وما بعدها ، وانظر أيضا البرهان فى متشابه القرآن للكرمانى تحقيق ودراسة ، منصور محمد منصور الحفناوى ، رسالة ما جستير بمكتبة كلية دار العلوم جامعة القاهرة رقم 200 لسنة 1975م 1/ 72 .
تأويلهن بعد النبى بيسير ، ومنه آيات يقع تأويلهن يوم القيامة ، وهو ما ذكر من الحساب والجنة والنار ، فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة ، ولم تلبسوا شيعا ، ولم يذق بعضكم بأس بعض ، فأمروا وانهوا ،فإذا اختلفت القلوب والأهواء ، وألبستم شيعا ، وذاق بعضكم بأس بعض ، فامرؤ ونفسه فعند ذلك جاء تأويلها " (1) .(4/20)
وعن عائشة رضى اللَّه عنها قالت : " قرأ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الأَلْبَابِ } [آل عمران/7] قالت : فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذين سمّى اللَّه فاحذروهم " (2) .
المعنى الثانى : ورد التأويل فى الكتاب والسنة على معنى التفسير والبيان والمفسرون يقصدون به كشف المعنى وتوضيح مراد المتكلم ، وهذا التأويل كالتفسير يحمد حقه ويرد باطله ، وحين قرأ عبد اللَّه بن عباس - رضي الله عنه - الآية ــــــــــــــــــــ
1. انظر تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية ص 107 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب التفسير ، باب منه آيات محكمات (4273) 4/1655 وانظر المحكم والمتشابه فى القرآن الكريم ، إعداد إبراهيم عبد الرحمن خليفة ، رسالة دكتوراه مخطوط بمكتبة كلية أصول الدين جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة ، سنة 1973م ص117 .
السابقة ، قال : " أنا ممن يعلمون تأويله " (1) .
ومقصده بهذا القول هو العلم وتفسير القرآن وبيانه ، وكذلك دعاء رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - له : " اللَّهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل " (2) وكل ما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنه - من أنه يعلم تأويل القرآن ، فيجب حمله على معنى التفسير والبيان ولا يجوز القول بأنه يعلم حقائق الغيب ، أوتأويل الأخبار الواردة عنها فى القرآن لأن ذلك من الغيوب التى استأثر اللَّه بعلمها .(4/21)
والطبرى فى تفسيره قد استعمل التأويل أيضا فى معنى التفسير والبيان ، إذ يقول : تأويل الآية عندنا كذا ، ثم يشرع فى تفسيرها ، وقال أهل التأويل فيها كذا ثم يحكى أقوال المفسرين من السلف فيها ، والأشبه بتأويل الآية كذا ومراده بكل ذلك تفسير الآية وتوضيح معناها ، ونظرا لكثرة استعمال التأويل فى هذا المعنى عند السلف ولشيوعه بينهم اختلط بمعنى التفسير ، وأصبح كل منهما يستعمل حيث يستعمل الآخر ، فإذا كان مقصدهم بالتأويل هو التفسير وتوضيح المعنى المخاطب به فإنه يجوز الوقف على قوله : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } [آل عمران/7] بعطف الراسخين فى العلم على لفظ الجلالة .
ــــــــــــــــــــ
1. تفسير ابن جرير الطبرى 6/170 ، وتفسير سورة الإخلاص لابن تيمية ص120 وتفسير ابن كثير 1/328 .
2. رواه الإمام أحمد بلفظه 1/ 266 ، والحديث صحيح ، أخرجه البخارى فى كتاب المناقب بلفظ : ( اللَّهم علمه الحكمة ) رقم (3546) 3/1371 ، وابن ماجه فى المقدمة بلفظ : ( اللَّهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب ) رقم (164) 1/58 والطبرانى فى المعجم الكبير 1/84 .
التأويل فى اصطلاح المتأخرين :
اشتهر التأويل فى عرف المتأخرين من الفقهاء ورجال الأصول ، بمعنى صرف الآية عن معناها الظاهر إلى معنى تحتمله ، إذا كان هذا المعنى الذى تصرف إليه الآية موافقا للكتاب والسنة ، وقد اشتهر هذا التأويل فى كتب الأصول والفقه وكأنه هو المقصود عند إطلاق كلمة التأويل ، وأصبح من الشهرة بحيث تجاهلوا بجانبه المعنى اللغوى العام الوارد فى القرآن والسنة ، وقد استخدم المفسرون من المتكلمين وكثير من الصوفية والباطنية التأويل بهذا المعنى فى تفسير مذاهبهم (1) .(4/22)
وربما يعرف هذا التأويل فى الاصطلاحات المتأخرة بالمجاز اللغوى المقابل للحقيقة ، وهذا النوع يقبل بشروط معينة ، أو أحكام موضوعة لمعرفة الدلالة المجازية للألفاظ ، ولابد من الالتزام بها حتى يقبل ، ويتمثل أهمها فيما يلى :
1- بيان أن ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى المجازى ، وأن ذلك المجاز مما يراد من اللفظ ، لأن لغة القرآن يجب أن تفسر فى ضوء العرف اللغوى العام الذى كان سائدا فى عصر نزوله .
2- أن يكون هناك دليل قاطع فى وجوب صرف اللفظ وتأويله من الحقيقة إلى المجاز ، لأن المتأخرين اشترطوا فى التأويل وحمل اللفظ على المعنى المجازى ، وجود الدليل الصارف له عن الحقيقة ، ولا بد أن ذلك الدليل
ــــــــــــــــــــ
1. انظر بتوسع ، قضية التأويل عند الإمام ابن تيمية ، رسالة ماجستير للدكتور محمد السيد الجليند ، دار العلوم جامعة القاهرة رقم 113، 1970م ص153 وما بعدها .
قاطعا فى دلالته .
3- لابد أن يسلم الدليل عن المعارض ، فإذا قام دليل قرآنى أو فطرى يبين أن الحقيقة مراده ، امتنع تركها ، فإذا كان الدليل نصا فى الدلالة ، لم يلتفت إلى نقيضه ، وإن كان ظاهرا ، فلابد من المرجح ، وعدم علمنا بوجود الدليل المعارض لا يدل على عدم وجوده ، بل قد يكون هناك دليل يمنع الصرف إلى المجاز ولكن لا نعلمه .(4/23)
4- إذا تكلم الرسول بكلام وأراد به خلاف ظاهره ، فلا بد أن يقرن بخطابه دليلا آخر يبين أن الحقيقة غير مرادة ، ولا سيما فى الخطاب عن الأمور الغيبية ، التى يطلب من العبد فيها الإيمان بها ، والاعتقاد بما جاءت به وفقط ، وهذا ما يسميه علماء البيان بالقرينة المانعة من إيراد المعنى الأصلى للفظ ، وإذا لم ينصب لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - دليلا على ذلك ، فيكون خطابه للأمة من باب التلبيس والتدليس وليس من باب الهدى والبيان والرسل يتنزهون عن ذلك ، وإذا أقام دليلا على إرادة المجاز لا الحقيقة فلابد أن يكون دليلا بينا وواضحا ظاهرا بنفسه ، ولا يجوز أن يحيلهم فى ذلك إلى دليل خفى لا يفهمه إلا بعض الناس وخاصتهم ، لا سيما إذا كان ذلك فيما يتعلق بالأمور الإلهية التى هى أساس الاعتقاد ، حتى لا يكون خطابه فى ذلك أشبه بالأحاجى والألغاز (1) .
ــــــــــــــــــــ
1. رسالة الحقيقة والمجاز لابن تيمية ص9 ، وانظر منع جواز المجاز فى المنزل للتعبد والإعجاز إعداد محمد الأمين المختار الشنقيطى ، تحقيق أبو حفص سامى بن العربى =
فإذا اختل واحد من هذه الشروط سقط الإفهام والبيان من الخطاب ، لأن الخطاب فائدته تتوقف على أمرين :
الأول : حسن بيان المتكلم عما فى نفسه من المعانى بالألفاظ الدالة على ذلك .
الثانى : تمكن السامع من الفهم وحسن تقبله للخطاب ،فإذا افتقد أحد هذين الأمرين لم يحصل المطلوب ولا يكون للخطاب فائدة ما وكان الخطاب نوعا من العبث (1) .
أنواع التأويلات الباطلة :
ويمكن حصر أنواع التأويلات الباطلة الممقوتة ، التى تخالف مقتضى اللغة فيما يأتى :
[1] -كل تأويل لا يحتمله اللفظ فى أصل وضعه ، وكما جرت به عادة الخطاب بين العرب ، كتأويلهم لفظ الأحد فى قول الله تعالى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد ٌ } [الإخلاص/1] بأنه المجرد من الصفات ، أو هو الذى لاجزء له ولا قسيم له فإن هذا غير معروف فى لغة العرب .(4/24)
[2] - كل تأويل لا يحتمله اللفظ بحسب التركيب الخاص من تثنية وجمع وإن جاز أن يحتمله اللفظ فى تركيب آخر ، كتأويلهم قوله تعالى : { قَالَ ــــــــــــــــــــ
= مكتبة السنة ص 26: 60 بتصرف ، وانظر أيضا المجاز فى القرآن بين مثبتيه ونافيه إعداد عبد السلام محمد وفا ، رسالة دكتوراه بمكتبة كلية أصول الدين جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة سنة 1986م .
1. انظر قضية التأويل عند الإمام ابن تيمية ص181 .
يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص/75] بأن اليدين هما القدرة أو النعمة ، فإن لفظ اليد مفردا وعند إطلاقه قد يحتمل أحد هذين المعنين ، أما وهو فى صيغة التثنية ، وفى هذا التركيب بالذات ، فإنه لم يرد فى لغة العرب بهذا المعنى .
[3] - كل تأويل لا يحتمله السياق المعين ، وإن جاز فى غيره ، كتأويلهم قوله تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك َ يَوْم َ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } [الأنعام/158] ، بأن إتيان الرب هنا معناه إتيان بعض آياته ، أو إتيان أمره ، فهذا التأويل لا يحتمله السياق بحال من الأحوال .
[4] - كل تأويل لا يؤلف استعمال اللفظ فى ذلك المعنى المراد فى لغة المخاطب ، وإن كان مألوفا كاصطلاح خاص ، كتأويل لفظ الأفول بالحركة فى قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ } [الأنعام/76] ، فإن هذا غير معهود فى لغة العرب ، بل المعهود الأفول بمعنى الغياب ، فلا يجوز حمل آية من القرآن عليه لأنه نوع من التلبيس .
[5] - التأويل الذى لا دليل عليه من سياق أو قرينة ، لأن هذا لا يقصده المتكلم الذى يريد فى خطابه هداية الناس والبيان لهم (1) .
ــــــــــــــــــــ(4/25)
1. مقدمة فى أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية ص43 وما بعدها .
تفسير الصوفية للقرآن :
عرف التفسير الصوفى بالتفسير الإشارى ، ويتمثل على زعمهم فى أن يرى المفسر معنى آخر غير المعنى الظاهر ، ربما تحتمله الآية الكريمة ولكنه لا يظهر للعامة من الناس ، وإنما يظهر لخاصتهم ومن فتح الله قلبه وأنار بصيرته وسلكه ضمن عباده الصالحين ، الذين منحهم الله الفهم والإدراك ، وهذا النوع من العلم ليس من العلم الكسبى الذى ينال بالبحث والمذاكرة وإنما هو من العلم الوهبى الذى هو أثر التقى والاستقامة والصلاح ، كما قال تعالى :
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة/282] .
والتفسير الصوفى يعتمد أساسا على أن للقرآن ظاهرا وباطنا ، ويقصد بالظاهر الشريعة وبالباطن الحقيقة ، وعلم الشريعة علم المجاهدة ، وعلم الحقيقة علم الهداية ، وعلم الشريعة علم الآداب وعلم الحقيقة علم الأحوال ، وعلم الشريعة يعلمه علماء الشريعة وعلم الحقيقة يعلمه العلماء بالله ، يقول السلمى فى مقدمة تفسيره عن الباعث لإقدامه على كتابة تفسير القرآن :
( لما رأيت المتوسمين بعلوم الظاهر قد سبقوا فى أنواع فرائد القرآن ، من قراءات وتفاسير ومشكلات وأحكام وإعراب ولغة ومجمل ومفصل وناسخ ومنسوخ ، ولم يشتغل أحد منهم بفهم الخطاب على لسان أهل الحقيقة إلا آيات متفرقة ، أحببت أن أجمع حروفا أستحسنها من ذلك وأضم أقوال مشايخ أهل الحقيقة إلى ذلك وأرتبه على السور حسب وسعى وطاقتى ) (1) .
ـــــــــــــــــــ
1. تفسير القرآن الكريم على الطريقة الصوفية ، دراسة وتحقيق حقائق التفسير لأبى =(4/26)
ويقول سهل بن عبد الله التسترى فى تفسيره ، وهو أول ما ظهر للصوفية من تفسير للقرآن : ( ما من آية فى القرآن إلا ولها أربعة معان ، ظاهر وباطن وحد ومطلع ، فالظاهر التلاوة ، والباطن الفهم والحد حلالها وحرامها والمطلع إشراف القلب على المراد بها فقها من الله عز وجل ، فالعلم الظاهر علم عام ، والفهم لباطنه والمراد به خاص ) (1) .
وقد ظهر أيضا تفسير ثالث للعبد الكريم القشيرى سلك فيه مسلك الصوفية فى إدراك الإشارات التى يراها الصوفى خلف آيات القرآن ، وسماه لطائف الإشارات ، قال عن الباعث لتأليفه :
( وكتابنا هذا يأتى على طرف من إشارات القرآن على لسان أهل المعرفة إما من معانى قولهم أو قضايا أصولهم ، سلكنا فيه طريق الإقلال خشية الملال مستمدين من الله تعالى عوائد المنة ، متبرئين من الحول والمنة مستعصمين من الخطأ والخلل ، مستوثقين لأصوب القول والعمل ) (2) .
ولم يظهر فى تاريخ التفسير الإشارى حتى القرن الخامس ، أهم من حقائق التفسير للسلمى ، ولطائف الإشارات للقشيرى وإن كان القشيرى قد استفاد ـــــــــــــــــــ
= عبد الرحمن محمد بن الحسين الأزدى السلمى رسالة ماجستير ، إعداد سلمان نصيف جاسم التكريتى ، مكتبة كلية دار العلوم ، جامعة القاهرة سنة 1975م ص22 .
1. تفسير القرآن العظيم لسهل بن عبد الله ، مطبعة السعادة ، سنة 1908م ص61 .
2. لطائف الإشارات ، للقشيرى ، تحقيق الدكتور إبراهيم بسيونى ، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الطبعة الثالثة ، القاهرة ، سنة 1981م ، 1/41 .
من السلمى فائدة كبرى واقتبس منه كثيرا من آرائه (1) .(4/27)
وقد ظهر تفسير القرآن المنسوب لابن عربى ، ولكنه فى الحقيقة للكاشانى السمرقندى ، ويعد هذا التفسير أهم تفسير إشارى بعد اللطائف ، قال مؤلفه فى مقدمته : ( ما نزل من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن ، ولكل حرف حد ومطلع ، فالظهر هو التفسير ، والبطن هو التأويل ، والحد هو ما تتناهى إليه الفهوم من معنى الكلام ، والمطلع ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام ) (2) .
ويمكن القول باستقراء التفسيرات الصوفية السابقة أن السمة الغالبة فى التفسير الإشارى لدى الصوفية تتمثل فيما يلى :
(1- أن للقرآن ظاهرا وباطنا ، وأن الظاهر للعوام والباطن لا يدركه إلا الخواص وإدراك الخواص مستمد من فيض إلهى ينير بصائرهم ، ويكشف لهم على زعمهم عن معارف لدنية مباشرة .
(2- أن العلم بالقرآن على هذا النحو يفترق عن العلوم القرآنية الأخرى فى بدايته وفى طرائقه وفى غاياته ، فضلا عن أنه يفترق عن سائر العلوم بضرورة العمل ، فالعالم لابد أن يكون عاملا وعمله هو جهاده ورياضاته التى تؤدى إلى
ـــــــــــــــــــ
1. تاريخ أدبيات در إيران للدكتور ذبيح الله صفا الطبعة الثالثة سنة1339هت2/257 .
2. تفسير ابن عربى 1/4 وانظر تحقيق نسبته فى تفسير المنار1/18 ، ومحى الدين بن عربى مفسرا ، إعداد حامد محمود الزفرى ، رسالة دكتوراه ، بمكتبة كلية أصول الدين جامعة الأزهر القاهرة سنة 1972م ص174.
صقل إرادته وشحذ همته وتنقية مرآته الباطنية من كل شائبة ، فالتفسير عموما ليس تفسيرا مباشرا ، بل يسلك تزكية النفوس وتطهير القلوب والحث على التحلى بالأخلاق الفاضلة .
(3 - أن التفسير الإشارى وإن كان يعتمد على ما وراء العبارة الظاهرية إلا أنه لم تخل من بعض ما نقل من الآثار على النحو المذكور فى التفسير بالمأثور أو التفسير بالرأى بالطريقة الاستنباطية ، أو تفسيرات تعتمد على معانى الألفاظ والتفسيرات بلاغية .(4/28)
(4- تتعرض هذه التفسيرات لكثير من المعانى والمصطلحات الصوفية التى تكشف عن طريقتهم وتجربتهم ، لا سيما أنهم يوجهون الآيات كشواهد لهذه الرموز والمصطلحات .
(5- ومع ما فيها من معانى تقبل بصعوبة ، أو يلتمس لها وجها تحمل عليه بمشقة ، إلا أن هناك معان مشكلة تصل فى بعض الأحيان إلى الكفر والزندقة .
(6-لم تسلم هذه التفسيرات من الإسرائيليات ، والاستشاد بغير القرآن والسنة ، ولم تتبع الدقة فى تحرى ثبوت الحديث ، أو مراعات التعليق على الأسانيد ، وكذلك لم تخل من فكر باطنى (1) .
ـــــــــــــــــــ
1. انظر الموافقات للشاطبى 3/403 وما بعدها ، وانظر أيضا فى التفسير الصوفى للقرآن إعداد حسن عبد التواب رسالة دكتوراه بمكتبة كلية أصول الدين جامعة الأزهر الشريف القاهرة ، سنة 1972م ص144 .
أدلة المجيزين للتفسير الإشارى :
استدل الصوفية بكثير من الآيات القرآنية العامة ، التى تدعو إلى التدبر وفهم كتاب الله بالتأمل وحسن الاستماع ، كقوله تعالى : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [البقرة/3:1] وكقوله :(4/29)
{ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } [النساء/78] ، والمعنى لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب ، ولم يرد أنهم لا يفهمون نفس الكلام وكقوله تعالى : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد/24] حيث دل على أن ظاهر المعنى شئ وهم عارفون به لأنهم عرب ، والمراد هو شئ آخر وهو الذى لا شك فيه أنه من عند الله ، والتدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد ، وذلك ظاهر فى أنهم أعرضوا عن مقاصد القرآن ، فلم يحصل منهم تدبر ، وكقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } [ق/37] ، وقال أبو سعيد الخراز : ( أول الفهم لكتاب الله عز وجل العمل به ، لأن فيه العلم والفهم والاستنباط ، وأول الفهم إلقاء السمع والمشاهدة لقوله عز وجل : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد ٌ } [ق/37] (1) .
ويواصل السراج الطوسى استدلاله على التفسير الإشارى فيقول : ( وقال تعالى : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [الزمر/18] فالقرآن كله حسن ـــــــــــــــــــ
1. اللمع فى التصوف للسراج الطوسى ص 113 .
ومعنى اتباع الأحسن ، ما يكشف للقلوب من العجائب عند الاستماع وإلقاء السمع من طريق الفهم والاستنباط ) (1) .(4/30)
ومن السنة يستدلون بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ومطلع" (2) ، فلفظ الظاهر والباطن على زعمهم قرآنيان ، ولا يمكن الاعتراض على الفكرة القائلة بأن فى القرآن ناحية واضحة تدرك فى ضوء الاشتقاق ، وأن به ناحية أخرى ربما كانت أخفق وأعمق بالنسبة للأولى ، لأن هذه الفكرة يمكن أن تطبق فى الواقع على أى نص فكل نص له ناحية قريبة مباشرة تدرك بلا عناء ، وناحية أخرى تحتاج إلى تعمل وجهد فى استيعابها وفهمها ، كما لا يمكننا أن ننكر أن الحقيقة الإنسانية الثابتة تشير إلى عدم تساوى الناس فى الفهم والإدراك ، وقد ظهرت تلك الحقيقة فى حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته - رضي الله عنهم - الذين تفاوتت أقدارهم فى سرعة ومدى فهمهم للقرآن ، وهذا يفسر ما أثر عنهم من تفسيرات مختلفة (3) .
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : " كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فقال بعضهم : لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال : إنه ممن قد ـــــــــــــــــــ
1. اللمع فى التصوف للسراج الطوسى ص 113 .
2. لا أصل له ، ولم أجده في كتب السنة مرفوعا إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - ولكنه أثر موقوف على عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ولفظه قال : " إن القرآن ليس منه حرف إلا له حد ولكل حد مطلع " انظر معجم الطبرانى الكبير رقم (8667) 9/136 .
3. انظر التصوف طريقا وتجربة ومذهبا للدكتور محمد كمال جعفر ص157 بتصرف .(4/31)
علمتم قال : فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم ، قال : وما أريته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني ، فقال : ما تقولون في : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } [النصر/2:1] حتى ختم السورة ؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ، وقال بعضهم : لا ندري أو لم يقل بعضهم شيئا ، فقال لي : يا بن عباس أكذاك تقول ؟ قلت : لا ، قال : فما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه الله له : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } فتح مكة ، فذاك علامة أجلك { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } [النصر/4:3] قال عمر - رضي الله عنه - : ما أعلم منها إلا ما تعلم " (1) .
والشاهد هنا أن ابن عباس - رضي الله عنه - فهم من خطاب الله معنى خفيا وراء ظاهر الألفاظ لم يدركه عامة الصحابة فى مجلسهم ، وهذا يشبه عمل الصوفية فى التفسير الإشارى .
ومثله أيضا ما روى عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلس على المنبر فقال : " إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده ، فبكى أبو بكر وقال : فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، فعجبنا له وقال الناس : انظروا إلى هذا الشيخ ، يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده ، وهو يقول فديناك بآبائنا وأمهاتنا فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المخير ، وكان أبو بكر هو أعلمنا به .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر ، ولو ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى برقم (4043) 4/1563 .
كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر إلا خلة الإسلام ، لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر " (1) .(4/32)
فأبو بكر الصديق فهم بطريق الإشارة ما لم يفهمه عامة الصحابة وأسعد بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان الأمر كما قال .
وعن عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَرِهَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَسْخَ الْمَصَاحِفِ ، وَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُعْزَلُ عَنْ نَسْخِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ وَيَتوَلاهَا رَجُلٌ وَاللَّهِ لَقَدْ أَسْلَمْتُ وَإِنَّهُ لَفِي صُلْبِ رَجُلٍ كَافِرٍ ، يُرِيدُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - : يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ اكْتُمُوا الْمَصَاحِفَ الَّتِي عِنْدَكُمْ وَغُلُّوهَا ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [آل عمران/161] فَالْقُوا اللهَ بِالْمَصَاحِفِ (2) .
فالغلول ، وهو إخفاء الغنائم طمعا قبل تقسيمها فعل المجرمين ، وظاهر الآية ورد فى عقابهم وفضحهم يوم القيامة ، وقد استخدمها ابن مسعود - رضي الله عنه - بطريق الإشارة فيمن غل القرآن وأخفاه ، ويرد عليهم بأن الصحابة انكروا عليه ذلك فقَالَ الزُّهْرِيُّ :
( فَبَلَغَنِي أَنَّ ذَلِكَ كَرِهَهُ مِنْ مَقالَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِجَالٌ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ) (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى برقم (3691) 3/1417 .
2. أخرجه الترمذى فى كتاب تفسير القرآن (3104) 5/282 حسن صحيح .
3. السابق 5/ 282.
آراء العلماء فى التفسير الإشارى :
اختلف العلماء فى التفسير الإشارى ، وتباينت فيه أراؤهم فمنهم من أجازه ومنهم من منعه ، ومنهم من عده من كمال الإيمان ومحض العرفان ، ومنهم من اعتبره زيغا وضلالا وانحرافا عن دين الله تبارك وتعالى .(4/33)
والواقع أن الموضوع دقيق يحتاج إلى بصيرة وروية ونظرة إلى أعماق الحقيقة ليظهر ما إذا كان الغرض من هذا النوع من التفسير هو اتباع الهوى والتلاعب فى آيات الله كما فعل الباطنية والشيعة (1) ، فيكون ذلك من قبيل الزندقة والإلحاد ، أو الغرض منه الإشارة إلى أن كلام الله تعالى يعز أن يحيط به بشر إحاطة تامة ، وأن كلامه تعالى وضعت فيه مفاهيم وأسرار ودقائق وعجائب لا تنقضى على مدار الأزمان ، ويتوالى إعجازه مرة بعد أخرى ، فيكون ذلك من محض العرفان وكمال الإيمان ، كما نسب السيوطى إلى ابن عباس رضى الله عنهما : " إن القرآن ذو شجون وفنون وظهور وبطون ، لا تنقضى عجائبه ولا تبلغ غايته ، فمن أوغل فيه برفق نجا ومن أوغل فيه بعنف هوى ، أخبار وأمثال ــــــــــــــــــــ
1. انظر للمقارنة والتوسع فى هذه النقطة ، الفكر السياسى عند الباطنية وموقف الغزالى منه ، إعداد أحمد عرفات أبو الحسن القاضى رسالة ماجستير بكلية دار العلوم جامعة القاهرة 1988م ، الفصل الخاص بحيل الباطنية وأصناف المتبعين لهم ص 217:19 . ومذهب التأويل عند الشيعة الباطنية ، دراسة تحليلية نقدية ، إعداد محمد محمود عبد الحميد رسالة ماجستير بالموضع السابق سنة1983، وانظر أيضا الشيعة الإمامية الاثنا عشرية ومنهجهم فى التفسير إعداد محمد محمد إبراهيم العسال ، رسالة دكتوراه بمكتبة كلية أصول الدين ، جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة سنة1981م .
وحلال وحرام ، وناسخ ومنسوخ ، ومحكم ومتشابه ، وظهر وبطن ، فظهره التلاوة ، وبطنه التأويل ، فجالسوا به العلماء وجانبوا به السفهاء " (1) .
ويمكن أن نعرض أهم آراء العلماء التى نسترشد بها فى تحديد شروط قبول التفسير الإشارى فمن ذلك :(4/34)
(1- رأى ابن الصلاح : ينقل ابن الصلاح عن الإمام أبى الحسن الواحدى المفسر أنه قال : ( صنف أبو عبد الرحمن السلمى حقائق التفسير ، فإن كان قد اعتقد أن هذا تفسير فقد كفر ) ثم يعقب على ذلك بقوله : ( وأنا أقول : الظن بمن يوثق به منهم أنه إذا قال شئ من أمثال ذلك أنه لم يذكره تفسيرا ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة من القرآن العظيم ، فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية ، وإنما ذلك ذكر منهم لنظير ما ورد به القرآن فإن النظير يذكر بالنظير ومن ذلك ، قتال النفس فى الآية المذكورة فى قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ } [التوبة/123] فكأنه قال : أمرنا بقتال النفس ومن يلينا من الكفار ومع ذلك فياليتهم لم يتساهلوا فى مثل ذلك لما فيه من الإلهام والإلباس ) (2) .
(2- رأى الشاطبى : يقسم الشاطبى الاعتبارات القرآنية الواردة على القلوب الطاهرة وأصحاب البصائر إذا صحت على كمال شروطها على ضربين :
ــــــــــــــــــــ
1. الإتقان فى علوم القرآن 2/185 .
2. انظر فتاوى ابن الصلاح فى التفسير والحديث والأصول والفقه ، تحقيق الدكتور عبد المعطى أمين قلعجى ، الطبعة الأولى ، دار الوعى ، سوريا 1403هـ ، 1/29 .
1- ما يكون أصل انفجاره من القرآن ويتبعه سائر الموجودات ، فإن الاعتبار الصحيح فى الجملة هو الذى يخرق من البصيرة فى حجب الأكوان من غير توقف ، فإن توقف فهو غير صحيح حسبما بينه أهل التحقيق بالسلوك .
2- ما يكون انفجاره من الموجودات كليا أو جزئيا ويتبعه الاعتبار فى القرآن .
فإن كان الأول فهذا الاعتبار صحيح وهو معتمد على فهم باطن القرآن من غير إشكال ، وإن كان الثانى فالتوقف على اعتباره فى فهم باطن القرآن لازم وأخذه على إطلاقه ممتنع لأنه بخلاف الأول (1) .(4/35)
(3- رأى تاج الدين بن عطاء الله : ويعتبر ابن عطاء الله تفسير الصوفية لكلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بالمعانى الغريبة ، ليس إحالة للظاهر عن ظاهره ، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت الآية له ودلت عليه فى عرف اللسان ، وثمة أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه ، وقد جاء فى الحديث لكل آية ظهر وبطن ، فلا يصدنك عن تلقى هذه المعانى منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة هذا إحالة لكلام الله ورسوله ، فليس ذلك بإحالة وإنما يكون إحالة لو قالوا : لا معنى للآية إلا هذا وهم لم يقولوا ذلك بل يقرون بالظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها ويفهمون عن الله ما أفهمهم (2) .
(4- رأى حاجى خليفة : يرى حاجى خليفة أن التصوف علم يعرف به ــــــــــــــــــــ
1. الموافقات فى أصول الشريعة للإمام الشاطبى ، المطبعة التجارية بمصر ، 3/272 .
2. الإتقان للسيوطى 2/314 ، والأثر المذكور موقوف على عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وقد تقدم تخريجه ص114 .
كيفية رقي أهل الكمال من النوع الانساني في مدارج سعادتهم ، والأمور العارضة لهم في درجاتهم ، بقدر الطاقة البشرية ، وأما التعبير عن هذه الدرجات والمقامات كما هو حقه ، فغير ممكن لأن العبارات إنما وضعت للمعاني التي وصل إليها فهم أهل اللغات ، وأما المعاني التي لا يصل إليها إلا غائب عن ذاته فضلا عن قوى بدنه ، فليس يممكن أن يوضع لها ألفاظ ، فضلا عن أن يعبر عنه بألفاظ ، فكما أن المعقولات لا تدرك بالأوهام والموهومات ، لا تدرك بالخياليات ، والتخيلات لا تدرك بالحواس ، كذلك ما من شأنه أن يعاين بعين اليقين لا يمكن أن يدرك بعلم اليقين ، فالواجب على من يرد ذلك أن يجتهد في الوصول إليه ، بالعين دون أن يطلبه بالبيان فإنه طور وراء طور العقل (1) .(4/36)
(5- رأى سعد الدين التفتازانى : فى شرحه للعقائد النسفية وتحت قول النسفى : ( النصوص على ظاهرها والعدول عنها إلى معان يدعها أهل الباطن إلحاد ) علق سعد الدين التفتازانى بقوله : ( سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها ، بل لها معان باطنة لا يعرفها إلا المعلم وقصدهم فى ذلك نفى الشريعة بالكلية ، وأما ما يذهب إليه بعض المحققين بأن النصوص على ظاهرها ، ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تكشف عن أرباب
ـــــــــــــــــــ
1. كشف الظنون عن أسامى الكتب والفنون ، تأليف مصطفى بن عبد الله ، المشهور بحاجى خليفة ، نشرة المستشرق جوستاف فلويجل ، طبعة مكتبة المثنى ، بغداد ، بدون تاريخ 1/413 ، وكلام حاجى خليفة يفتح بابا لا يغلق لتلبيس للباطنية وتراهات الصوفية ، وكل من اكتسى بزيهم .
السلوك ، يمكن التوفيق بينها وبين الظواهر المرادة ، فهى من كمال الإيمان ومحض العرفان ) (1) .
(6- رأى محى الدين ابن عربى :
يقول : ( وكما كان أصل تنزيل الكتاب من الله على أنبيائه ، كان تنزيلا للفهم على قلوب بعض المؤمنين ، والأنبياء ما قالت على الله مالم يقل لها ، ولا أخرجت ذلك من نفوسها ولا أفكارها ، ولا تعملت فيها ، بل جاءت من عند الله ، قال تعالى : { تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد ٍ } [فصلت/42] وقال فيه : { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ } [فصلت/42] ، وإذا كان الأصل المتكلم فيه من عند الله لا من فكر الإنسان ورؤيته ، وعلماء الرسوم يعلمون ذلك ، فينبغى أن يكون أهل الله العاملون به أحق بشرحه ، وبيان ما أنزل الله فيه من علماء الرسوم فيكون شرحه أيضا تنزيلا من عند الله على قلوب أهل العلم كما كان الأصل ) (2) .
(7- رأى أبى حامد الغزالى :
ــــــــــــــــــــ
1. العقائد النسفية وشرحها لسعد الدين التفتازانى ص143 .(4/37)
2. الفتوحات المكية 1/280 ، وينبغى التنبيه على أن ابن عربى يقول هذا الكلام كخطاب لأهل الظاهر ، أما حقيقة مذهبة ، فكلام الصوفية وغيرهم فى القرآن وغيره هو كلام الله على اعتبار أنه تجلى فى هذه التعينات فتنبه ، انظر المزيد عن رأى ابن عربى فى التفسير الإشارى للقرآن ، محى الدين بن عربى مفسرا ، إعداد حامد محمود الزفرى ، رسالة دكتوراه ، بمكتبة كلية أصول الدين ، جامعة الأزهر ، القاهرة سنة 1972م .
يقول الغزالى : ( لا تظنن فى ضرب الأمثال ، فرصة منى فى رفع الظواهر واعتقادا فى إبطالها حتى أقول مثلا لم يكن مع موسى نعلان ولم يسمع الخطاب بقوله : { فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } [طه/12] حاشا لله فإن إبطال الظواهر رأى الباطنية الذين نظروا بعين عوراء إلى أحد العالمين ، وجهلوا جهلا بالموازنة بينهما ، فلم يفقهوا وجهه ، كما أن إبطال الأسرار مذهب الحشوية ، فالذى يجرد الظاهر حشوى ، والذى يجرد الباطن باطنى ، والذى يجمع بينهما كامل ، بل أقول : موسى فهم من خلع النعلين اطرح الكونين ، فامتثل الأمر ظاهرا بخلع النعلين وباطنا بخلع الكونين ) (1) .
(8- رأى الأستاذ محمد عبد العظيم الرزقانى :
يرى الزرقانى أن بعض الناس قد فتنوا بالإقبال على دراسة تلك الإشارات والخواطر ، فدخل فى روعهم أن الكتاب والسنة بل والإسلام كله ما هو إلا سوانح وواردات على هذا النحو من التأويلات والتوجيهات ، وزعموا أن الأمر ما هو إلا تخييلات ، وأن المطلوب منهم هو الشطح مع الخيال أينما شطح فلم يتقيدوا بتكاليف الشريعة ، ولم يحترموا قوانين اللغة العربية فى فهم أبلغ النصوص العربية ، كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والأدهى من ذلك أنهم يتخيلون ويخيلون للناس أنهم هم أهل الحقيقة ، الذين أدركوا الغاية واتصلوا بالله اتصالا ــــــــــــــــــــ(4/38)
1. مشكاة الأنوار ، لأبى حامد الغزالى ، تحقيق الدكتور أبى العلا عفيفى ، الدار القومية القاهرة 1964م ، ص33 ، وتفسير الغزالى لخلع النعلين باطنا بخلع الكونين ، تعسف كبير ، فليس فى دلالة اللغة ولا قرينة الخطاب اطلاق الكونين وإرادة النعلين .
أسقط عنهم التكليف ، وسما بهم عن حضيض الأخذ بالأسباب ما دموا فى زعمهم مع رب الأرباب ، وهذا لعمر الله هو المصاب العظيم الذى عمل له الباطنية ، كيما يهدموا التشريع من أصوله ويأتوا بنيانه من قواعده ، فواجب النصح لإخواننا المسلمين يقتضينا أن نحذرهم الوقوع فى هذه الشباك ، ونشير عليهم أن ينفضوا من أمثال تلك التفاسير الإشارية الملتوية ، لإنها كلها أذواق ومواجيد خارجة عن حدود الضبط والتقييد ، وكثيرا ما يختلط فيها الخيال بالحقيقة والحق بالباطل فالأحرى بالفطن العاقل أن ينأى بنفسه عن هذه المزالق وأن يفر بدينه من هذه الشبهات ، وأمامه فى الكتاب والسنة وشروحهما على قوانين الشريعة واللغة رياض وجنات ) (1) .
(9- رأى الأستاذ محمد حسين الذهبى :
يقرر الذهبى أن الأدلة مجتمعة تعطينا أن القرآن الكريم له ظهر وبطن ، ظهر يفهمه كل من يعرف اللسان العربى ، وبطن يفهمه أصحاب الموهبة وأرباب البصائر ، غير أن المعانى الباطنية للقرآن ، لا تقف عند الحد الذى تصل إليه مداركنا القاصرة بل هى أمر فوق ما نظن وأعظم مما نتصور (2) .
يقول : ( أما المعنى الباطن فلا يقف على جريانه على اللسان وحده بل لا بد فيه مع ذلك إلى نور يقذفه الله تعالى فى قلب الإنسان ، يصير به نافذ البصيرة سليم التفكير ، ومعنى هذا أن التفسير الباطن ليس أمرا خارجا عن مدلول ــــــــــــــــــــ
1. مناهل العرفان فى علوم القرآن للزرقانى ، طبعة عيسى البابى 1953م ، 1/558 .
2. التفسير والمفسرون للدكتور محمد حسين الذهبى ، دار الكتب الحديثة 3/22 .(4/39)
اللفظ القرآنى ) (1) ويقول أيضا : ( أما الصوفية أهل الحقيقة وأصحاب الإشارة فقد اعترفوا بظاهر القرآن ولم يجحدوه كما اعترفوا بباطنه ولكنهم حين فسروا المعانى الباطنية خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، فبينما تجد لهم أفهاما مقبولة تجد لهم بجوارها أفهاما لا يمكن أن يقبلها العقل أو يرضى بها الشرع ) (2) .
والخلاصة فى رأى الذهبى أن مثل هذه التفاسير الغريبة للقرآن مزلة قدم لمن يعرف مقاصد القوم ، وليتهم احتفظوا بها عند أنفسهم ولم يذيعوها على الناس فيوقعهم فى حيرة واختلاف ، منهم من يأخذها على ظاهرها ويعتقد أن ذلك هو مراد الله من كلامه ، وإذا عارضه ما ينقل فى كتب التفسير على خلافها ربما كذب بها أو أشكل عليه ومنهم من يكذبها على الإطلاق ويرى أنها تقول على الله وبهتان ، إذن ليتهم ما فعلوا ذلك ، إذن لأراحونا من هذه الحيرة وأراحوا أنفسهم من كلام الناس فيهم وقذف البعض لهم بالكفر والإلحاد فى آيات الله (3) .
(10 - رأى الدكتور محمد كمال جعفر :
ويرى الدكتور جعفر أنه يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أنه من الطبيعى أن لا يقف الصوفى عند المعانى التقليدية فى أى من القرآن أو السنة قولا وعملا ، لأنه ليس كالفقيه أو العالم الذى يعتمد على النظر العقلى فحسب ، لأن ذلك لا ــــــــــــــــــــ
1. السابق 3/22 .
2. السابق 3/22 .
2. السابق 3/42 .(4/40)
يشبع رغبته ولا يمد روحه بالزاد الضرورى ، بل إنه يتعمق إلى معان وراء المعنى الظاهر المباشر ، وإن لم يكن من الضرورى أن تكون هذه المعانى العميقة متناقضة مع تلك المعانى الظاهرية ، ويشير الدكتور جعفر إلى نقطة هامة ، وهى أن القرآن بالنسبة للصوفى يحمل حقيقتين متساويتين فى الأهمية ، فهو من جهة وحى تاريخى اتخذ وضعه فى الزمان والمكان المحددين ، وهو من جهة أخرى النبع الفياض الذى لا تنفد حقائقه الإلهية الصادرة عن الله جل جلاله ، وهو لا متناه لأنه كلام الموجود الذى لا يتناهى ، والمعانى الباطنية لكلماته غير متناهية كذلك أيضا (1) .
كما أن الصوفى المتأمل قد يصل إلى مرحلة يدرك فيها أعمق المعانى الروحية فى القرآن ، وهذه الفكرة فى حد ذاتها بصرف النظر عن الاعتبارات الأخرى قد تثير صعوبات ، بحيث أنها تؤدى إلى أن يكون تفسير القرآن مختلفا باختلاف الذوات المشتركة فيها أى أن يكون الموقف موقفا ذاتيا مما ينتج بدوره تفسيرات متعارضة ويؤدى إلى اضطرار كبير ، ولكن الحقيقة أن الصوفية فعلا يرون أن تعدد التفسيرات أمر حتمى ، لأن معانى القرآن لا نهائية وتتكشف لكل صوفى حسب طاقته الروحية وحسب فضل الله يؤتيه من يشاء ، وليس فى ذلك أى ضير ما دام هذا متصلا بالمعانى الكمالية التى لا تتجاوز حدود المعانى المباشرة المتفق عليها (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. التصوف طريقا وتجربة ومذهبا 1970م ص157 .
2. من التراث الصوفى لسهل بن عبد الله التسترى ،ص 109 .
أراء المستشرقين فى التفسير الصوفى :
وقبل النظر والتعقيب على الآراء السابقة فى التفسير الإشار لنستخلص منها ما يمكن أن نصل إليه فى تقرير شروط التفسير الإشارى ، تجدر الإشارة إلى رأى بعض المستشرقين الغربيين من قبيل المقارنة المؤثرة فى توجيه الآراء إلى الأفضل .(4/41)
فنرى المستشرق نكلسون أستاذ مدرسة كمبردج الاستشراقية يصرح بأن التفسير الصوفي يشابه التفسير الشيعى وكلاهما عنده من التأويلات المغرضة التى تتلاعب بالنصوص ، فيقول :
( استطاع الصوفية متبعين فى ذلك الشيعة ، أن يبرهنوا بطريقة تأويل نصوص الكتاب والسنة تأويلا يلائم أغراضهم على أن كل آية بل كل كلمة من القرآن تخفى وراءها معنى باطنيا لا يكشفه الله إلا لخاصة العباد ، الذين تشرق هذه المعانى فى قلوبهم وفى أوقات وجدهم ، واعتبروا أنفسهم خاصة أهل الله الذين منحهم الله أسرار علم الباطن المودعة فى القرآن والحديث ، وأنهم استعملوا فى التعبير عن هذا العلم لغة الرمز والإشارة ، التى لا يقوى على فهمها غيرهم من المسلمين ) (1) ، وربما كان هذا الموقف للمستشرق نيكلسون بسبب ما أشارت إليه الباحثة - فهرس فهرس - صلى الله عليه وسلم - مقدمة - - صلى الله عليه وسلم - } - صلى الله عليه وسلم -? - - - } مقدمة مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - أن المستشرقين فى القرن التاسع عشر قد عرفوا المصادر الصوفية المتأخرة والتى لا تصور التصوف فى مراحله الأولى (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. فى التصوف الإسلامى وتاريخه لرينولد نكلسون ، ترجمة الدكتور أبى العلا عفيفى طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر بمصر ص76 .
- ? - ? - فهرس فهرس - صلى الله عليه وسلم - مقدمة - - صلى الله عليه وسلم - } - صلى الله عليه وسلم -? - - - } مقدمة مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - - ? تمهيد - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - } - - - ? - } مقدمة - صلى الله عليه وسلم - فهرس - } - فهرس ? - - ?- سبحانه وتعالى - - - - مقدمة - ? المحتويات - - صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنه - - ? - - - صلى الله عليه وسلم - - - } فهرس - ? - ?- عز وجل - - - ? - ? - - - - ? { - - .(4/42)
فحكم نيكلسون على جميع الصوفية فى تفسيرهم للقرآن بما رآه من الغلو فى التفسير الإشارى عند المتأخرين ، ولذا أدرك نيكلسون بعد ذلك استحالة وضع حكم منصف للتصوف قبل أن تعد مصادره الأولى إعدادا علميا دقيقا ، وقد تولى هو زمام المبادرة فى نشر المخطوطات وتحقيقها والتعليق عليها وترجمتها وتحليل مادتها (1) .
ويرى المستشرق جولد تسهير أن العمل بما روى عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : ( من أراد علم الأولين والآخرين فليتثور القرآن ) لا يحصل بمجرد تفسيره الظاهر ، فالأمور كلها داخلة فى أفعال الله عز وجل وصفاته ، وهذه العلوم لا نهاية لها ، وفى القرآن إشارة إلى مجامعها ، وفيه رموز ودلالات لكل ما أشكل من ذلك على النظار ، ومهمة التفسير هى استخراج كل ذلك العلم من الكتاب والتعمق فى تفصيله ، ووراء هذه المعانى الظاهرة يحتجب المعنى الباطن وتسكن أسرار القرآن التى ينبغى البحث عنها بتغلغل ونفاذ أعمق من ذلك ، ولن يترتب على ذلك القضاء على ظاهر التفسير بل هو استكمال له ووصول إلى لبابه ، وإذا كان التفسير الصوفى فيه تجاوز للتفسير المنقول المحدود فى حرية لا توقفها قيود ، ومع استخدام أمثلة بعيدة المدرك والمورد فى الغالب فى الكشف عن أفكار الورى إلا أن أثرث فى التغلغل إلى ما وراء المسموع ــــــــــــــــــــ
1. انظر الاتجاهات الحديثة فى دراسة التصوف الإسلامى ، للدكتور محمد عبد الله الشرقاوى ص19وما بعدها .
والمنقول من المعانى المقصودة فى كلام الله والمكنونة فى حجبها والتى لا يعقلها إلا العالمون (1).
ويرى المستشرق هنرى كوربان أن المستمع للكلام الإلهى يحق له أن يفهم منه كل شئ ، وفى أى حقل من المعرفة وفى أى درجة من العمق والخفاء شرط ألا يتجاوز فهم السامع ، ولا يتعدى التفسير من محتوى الكلام ودلالاته الوصفية حقيقة ومجازا وكناية حيث أن علم الله عين ذاته (2) ولا حد له وسع كل شئ علما (3) .
ــــــــــــــــــــ(4/43)
1. مذاهب التفسير الإسلامى للمستشرق إجناز جولد تسهير ترجمة محمد يوسف موسى وآخرين ، طبعة دار الكتاب العربى سنة 1959م ص207 .
2. القول بأن علم الله عين ذاته نقلها كوربان عن الفكر الاعتزالى الذى بنى على إثبات الأسماء ونفى الصفات ، ومعنى ذلك أنهم أثبتوا وجود الذات بلا صفة ، وجعلوا أسماء اللَّه الدالة علي ذاته أسماء بلا مسمى أى فارغة من الأوصاف فقالوا : عليم بلا العلم وسميع بلا سمع وهكذا ، وهذا مخالف للأصول القرآنية والنبوية لأن الصفات قائمة بالموصوف وليست عينه ، وهى ثابتة لله عز وجل وليس كمثله شئ لا فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى أفعاله ، فإذا كان لذات اللَّه وجود حقيقى لا يماثل سائر الذوات من المخلوقات فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل سائر الصفات ، انظر المزيد فى هذه النقطة ، موقف القاضى عبد الجبار المعتزلى من آراء الأشعرية إعداد محمد عبد الفتاح إمام ، رسالة ماجستير بكلية الآداب جامعة القاهرة سنة 1983م ص194وما بعدها .
3. تاريخ الفلسفة الإسلامية ، القسم الأول ، تأليف المستشرق هنرى كوربان ، ترجمة حسن قبيسى وزميله ، الطبعة الأولى 1966 م بيروت ص10 .
شروط قبول التفسير الصوفى :
يرى الدكتور محمد كمال جعفر أنه لا بد قبل تقرير شروط قبول التفسير الصوفى التنبه إلى أن التفسير الصوفى يرتبط بنوعية اعتقاد المفسر ، ويمكن إجمال تفسيراتهم فى نوعين :
(1- التفسير النظرى : وهو التفسير المبنى على نزعة فلسفية حيث تتوجه الآيات القرآن لديهم وفق نظرياتهم وتتفق مع تعاليمهم .
(2- التفسير الإشارى : هو تأويل آيات القرآن الكريم على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك ولا يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة .(4/44)
والفرق بين التفسير النظرى و التفسير الإشارى فى أثرهما على تفسير القرآن أن التفسير النظرى يبنى على مقدمة علمية تنقدح فى ذهن الصوفى أولا ثم ينزل القرآن عليها بعد ذلك ، أما التفسير الإشارى فلا يرتكز على مقدمات علمية بل يرتكز على مجاهدات رياضية ، يأخذ الصوفى نفسه بها حتى يصل إلى درجة إيمانية تنكشف له فيها من سبل العبارات هذه الإشارات ، وتتوالى على قلبه تحليل الآيات من المعانى الربانية .
كما أن التفسير الصوفى النظرى يرى صاحبه أنه كل ما تحتمله الآية من معانى وليس وراءه معنى آخر يمكن أن تحمل عليه إلا هذا ، على حسب طاقته أما التفسير الإشارى فلا يرى الصوفى أن كل ما يراد من الآية بل يرى أن هناك معنى آخر تحتمله الآية ويراد منها أولا وقبل كل شئ ذلك المعنى الظاهر الذى ينساق إليه الذهن قبل غيره .
ويرى الدكتور جعفر فى شرطه لقبول التفسير الصوفى أن تأويل الصوفية للقرآن أو الفهم الخاص له إذا خلا من أى هدف سياسى أو اجتماعى ، سواء كان لرد اعتبار أو كوثيقة أمن أو بسط سلطان أو كسب ثروة أو احتفاظ بمراكز نفوذ تتعلق بأشخاص أو بجماعات ، إذا لم يكن له مثل هذا الهدف وإذا كان لا يعارض نصا قرآنيا آخر ، ولا يعارض الاستعمال العربى ، ولا يؤدى إلى تحريف أو انحراف ، وإذا كان وجوده يضيف ثروة روحية أو عقلية ، وإذا كان لا يدعى من السلطة ما يجعله أمرا ملزما ، بفرض واحديته فى الأحقية ، إذ كان كذلك فهو تأويل مقبول ، ليست له غاية إلا تعميق الفهم عن الله الذى ما زال كتابه منبعا لا يغيض ومعينا لا ينضب للحقائق والأسرار (1) .
ومن ثم وبناء على ما سبق من الآراء يمكن تقرير الشروط التى يقبل بها التفسير الصوفى فى العناصر الآتية :
1- ألا يكون التفسير الصوفى منافيا للظاهر من النظم القرآنى الكريم .
2- أن يكون له شاهد شرعى يؤيده .
3- ألا يكون له معارض شرعى أو عقلى .
4- ألا يدعى أن التفسير الصوفى هو المراد وحده من الظاهر .(4/45)
5- ألا يكون التأويل بعيدا لا يحتمله اللفظ فيه تلبيس على أفهام الناس .
فإذا توفرت هذه الشروط ، وليس للتفسير ما ينافيه أو يعاضه من الأدلة الشرعية ، جاز الأخذ به أو تركه ، لأنه من قبيل الوجدانيات ، والوجدانيات ــــــــــــــــــــ
1. التصوف للدكتور محمد كمال جعفر ص26 .
لا تقوم على دليل نظرى ، وإنما هو أمر يبعث على تنمية المشاعر وتحصيل مكارم الأخلاق ، فيجده الصوفى من نفسه ويسره بينه وبين ربه ، فله أن يأخذ به أو يعمل بمقتضاه دون أن يلزم به أحدا من الناس ، والأحرى ألا يسمى هذا اللون من الفهم تفسيرا وإنما يسمى ذكر النظير بالنظير الذى يعتبر صحيحا (1) .
أمثلة على التفسير الإشارى يترك تقديرها للقارئ :
ما ذكره سهل بن عبد الله التسترى فى قوله تعالى : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِي وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } [الشعراء/81:80] قال : ( يعنى إذ تحركت بغيره لغيره عصمنى ، وإذا ملت إلى شهوة من الدنيا منعها عنى ، وقوله والذى يميتنى ثم يحين أى الذى يميتنى بالغفلة ثم يحينى بالذكر ) (2) وفى قوله : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا } [النمل/52] قال : ( الإشارة فى البيوت إلى القلب فمنها ما هو عامر بالذكر ، ومنها ما هو خرب بالغفلة ومن ألهمه الله عز وجل بالذكر فقد خلصه من الظلم ) (3) .
وقال فى قوله تعالى :
{ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا ــــــــــــــــــــ
1. انظر السابق ص160 .
2. تفسير القرآن العظيم ، لسهل بن عبد الله التسترى ، طبعة دار الكتب العربية الكبرى القاهرة سنة 1329هـ ، ص70.
3. السابق ص70 .
بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [الحجرات/9] .(4/46)
ظاهرهما ما عليه من أهل التفسير ، وباطنها هو الروح والعقل والقلب والطبع والهوى والشهوة ، فإن بغى الطبع والهوى والشهوة على القلب والعقل والروح ، فليتقاتل العبد بسيوف المراقبة وسهام المطالعة وأنوار الموافقة ليكون الروح والعقل غالبا والهوى والشهوة مغلوبا (1) .
وأورد أبو نصر السراج الطوسى بعض الأمثلة التى ذكرها الصوفية من طريق الإشارة والاستنباط والفهم الصحيح ، وبين أنهم لم يقدموا فيها ما أخر الله تعالى ولا أخروا ما قدم الله ، ولا نازعوا الربوبية ولا خرجوا عن العبودية ولا يكون فيه تحريف الكلم ، منها قوله تعالى : { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم ٍ } [الشعراء/89:88] سئل عنه أبو بكر الكتانى فقال : القلب السليم على ثلاثة أوجه من طريق الفهم :
أحدها : هو الذى يلقى الله تعالى عز وجل وليس فى قلبه مع الله شريك .
والثانى : هو الذى يلقى الله تعالى وليس فى قلبه شغل مع الله عز وجل ولا يريد غير الله تعالى .
والثالث : الذى يلقى الله عز وجل ولا يقوم به غير الله عز وجل ، فنى عن الأشياء بالله ، ثم فنى عن الله بالله (2) .
ويعقب السراج الطوسى بقوله : ( معنى قوله : فنى عن الله بالله ، يعنى يذهب ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص91 .
2. اللمع فى التصوف ص126.
عن رؤية طاعة الله عز وجل ورؤية ذكر الله ورؤية محبة الله ، بذكر الله له ومحبته قبل الخلق ، لأن الخلق بذكره لهم ذكروه ، وبمحبته لهم احبوه ، وبقديم عنايته بهم أطاعوه ) (1) .
ومثل ما أشار الجنيد بن محمد سيد الصوفية فى عصره بقوله تعالى : { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } [النمل/88] ، إلى سكونه وقلة اضطراب جوارحه عند السماع ، وكذلك ما كان يشير به أبو على الروذبارى إذا رأى أصحابه مجتمعين فيقرأ :
{ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِير ٌ } [الشورى/29] (2) .(4/47)
وقال أبو القاسم القشيرى فى قول الله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا } [الإسراء/33] ، لا يجوز قتل نفس الغير بغير الحق ، ولا للمرأ أن يقتل نفسه أيضا بغير الحق ، وكما أن قتل النفس بالحديد وما يقوم مقامه من الآلات محرم ، فكذلك القصد إلى هلاك المرأ محرم ، ومن انهمك فى مخالفة ربه فقد سعى فى هلاك نفسه ، وقوله : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } أى تسلطا على القاتل فى الاقتصاص منه ، وعلى معنى الإشارة إن النصرة من قبل الله ومنصور الحق لا تنكسر سنانه ولا تطيش سهامه (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص126.
2. السابق ص129 .
3. لطائف الإشارات 2/346 .(4/48)
ينابيع المصطلح الصوفى ودراسة فى المعاجم الصوفية
إذا كان فهم المصطلح المعين الذى يرتكز على دلالته الدقيقة والواضحة يشكل المدخل الصحيح لفهم أى علم من العلوم ، أو الحكم عليه بصورة موضوعية ، أو محاولة تطويره وتجنيبه المنازعات والمشاحنات اللغوية العقيمة فإنه من الضرورى أن يتزايد الاهتمام به يوما بعد يوم وبشكل مطرد ، ويرافق ذلك أيضا بحوث مكثفة ودراسات عميقة فى مواضيع الدلالة وقوانين اللغة ومعانى الحدود وغيرها ، كل ذلك وسائل لتأصيل العلوم وإعداد الأبحاث المتخصصة فى كل علم منها ، فدراسة أوجه الدلالة لمصطلح علمى ما يساعد بشكل فعال على معرفة هذا العلم واستغلاله (1) .
ــــــــــــــــــــ
1- يمكن الرجوع لنوعية البحث فى الدراسات المتعلقة بالمصطلح العلمى والتوسع فى معرفة أساليب الصياغه والتراكيب الدلالية من خلال المراجع الآتية : علم الدلالة للدكتور أحمد مختار عمر ، طبعة مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع ، الكويت سنة1982م ، ودلالة الألفاظ للدكتور إبراهيم أنيس ، الطبعة الثالثة ، مكتبة الأنجلو المصرية سنة1972م ، المصطلح العلمى وأساليب صوغه فى مصر فى العصر الحديث إعداد إبراهيم عبد المجيد عبد العزيز ضوه ، رسالة ماجستير بكلية دار العلوم جامعة القاهرة سنة 1985م ، دراسة فى توليد الألفاظ للدلالة على المعانى ، إعداد محمد إبراهيم حسن العفيفى رسالة ماجستير بمكتبة كلية اللغة العربية جامعة الأزهر القاهرة سنة1979م ، المصطلحات النقدية فى التراث العربى حتى القرن السابع الهجرى لعبد=(5/1)
ولما كان التصوف بوجه من الوجوه سلوكا له إطاره النظرى والتجريبى ، فإن دراسة مصطلحاته تعين بشكل فعال فى التعرف عليه ، ومن ثم انشغل أغلب الذين كتبوا عن التصوف بمحاولة تقريبه إلى الآخرين ، وشرح الألفاظ الجارية على ألسنة الصوفية ، وحاولوا جاهدين فى وقت مبكر التنبيه على أن دلالة الألفاظ عندهم تحمل معان خاصة ، واصطلاحات مشتركة بين الصوفية دون غيرهم ، وقد أدرك أئمة الصوفية كما أدرك غيرهم من طوائف المجتمع الطبيعة النوعية لاصطلاحاتهم ، ولم يروا فى ذلك خروجا عن قوانين اللغة ، لأن لكل علم من العلوم ألفاظه ومصطلحاته الخاصة ، والتى لا يفهم دلالتها الحقيقية إلا أبناء كل علم منها ، فقال القشيرى منبها على هذه الحقيقة :
( إن لكل طائفة من العلماء ألفاظا يستعملونها ، انفردوا بها عمن سواهم وتواطئوا عليها لأغراض لهم من تقريب الفهم على المخاطبين بها أو تسهيل على أهل تلك الصنعة فى الوقوف على معانيهم بإطلاقها ) (1) .
ــــــــــــــــــــ
= المطلب عبد المطلب زيد رسالة دكتوراه بمكتبة كلية دار العلوم 1989م ، الأبعاد الدلالية للتركيب عند ابن تيمية ، إعداد أحمد طاهر عبد الرحمن رسالة ماجستير بالمكان السابق سنة1994م ، الغموض فى الدلالة أنماطه وعوامله ووسائل التخلص منه ، إعداد محمد أحمد محمود حماد رسالة دكتوراة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة سنة1986م ، دراسة دلالية للمصطلحات الإسلامية فى القرآن الكريم ، إعداد عودة خليل أبو عودة رسالة ماجستير بالمكان السابق سنة 1981م .
1. الرسالة القشيرية ، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود 1/200 .(5/2)
وربما أخفق بعض الدارسين الغربيين فى دراساتهم للتصوف من الناحية النفسية ووصلوا إلى نتائج لاتتسم بالإيجابية ، بسبب أنهم كانوا يحصرون أنفسهم فى أهداف مغرضة غير خالصة أو دائرة التجربة الحسية والمقاييس المادية فى فهمهم لاصطلاحات الصوفية ، ولم يدققوا فى الألفاظ التى عبر بها هؤلاء عن أحوالهم الوجدانية وتجاربهم الذاتية ، وأن تلك الألفاظ تعد من المصطلحات الخاصة التى لا تتصف بالعمومية .
ومن الضرورى لكى يتصف البحث فى مصطلحات الصوفية بالجدية والإيجابية أن يراعى الباحث الطبيعة النوعية فى إشارات الصوفية وتحليل نفسيتهم عند النطق بالألفاظ ، فهؤلاء العلماء لا يدرسون الصوفية فى الواقع كائنين بين أيديهم وإنما يكتفون بتحليل ما خلفه الصوفية القدامى من آثار أدبية ، مما يعنى أن دراساتهم ليست دراسات مطابقة للحقيقة بمعنى الكلمة (1) .
ولا يعنى ذلك استحالة دراسة غير الصوفى ألفاظ الصوفية بصورة علمية ، كما ذكر بعض الباحثين (2) ، وإلا لكانت ألفاظ الصوفية فى طى الكتمان ، ولكان التصوف نكرة إلى الآن ، أو كانت ألفاظهم من قبيل الطلاسم والأحاجى التى ــــــــــــــــــــ
1. انظر على سبيل المثال :(5/3)
- ?? - - مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ? - ? - - ? - - صلى الله عليه وسلم -- عليه السلام - تمت - ? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - - رضي الله عنهم - - - - - - - } - صلى الله عليه وسلم -? - - عليه السلام -? مقدمة - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - } - } - مقدمة - صلى الله عليه وسلم -?- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - } - } - صلى الله عليه وسلم -- عليه السلام - - ??- رضي الله عنه -- صلى الله عليه وسلم - - - - عليه السلام - - - رضي الله عنه - } - فهرس ?? - - صلى الله عليه وسلم - - فهرس - - } - - صلى الله عليه وسلم -? بسم الله الرحمن الرحيم - - صلى الله عليه وسلم -? - ? - - عليه السلام - - } - صلى الله عليه وسلم - فهرس ? - - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -? - ? - - - - ? -
- ?? الله - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - فهرس ?- عز وجل - فهرس - - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - } - - ? تمهيد - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - } - } - مقدمة ? - - - رضي الله عنه -- عليه السلام - - - رضي الله عنهم -? } فهرس ?- رضي الله عنه - - - صلى الله عليه وسلم -? فهرس - - رضي الله عنه -- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -? - فهرس - ? - - صلى الله عليه وسلم - - - صلى الله عليه وسلم - - - { مقدمة - صلى الله عليه وسلم - فهرس - رضي الله عنه -?? - - ?? مقدمة - فهرس - - ? - { } - صلى الله عليه وسلم - } - رضي الله عنه -- عليه السلام - - - ? - - فهرس - - } - - عليه السلام - - فهرس - صلى الله عليه وسلم - - - ? - - - - ? -(5/4)
- ?? الله أكبر - تمت - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -? الله أكبر - - - عليه السلام - - - صلى الله عليه وسلم - - - ?? - فهرس ??- سبحانه وتعالى - فهرس - رضي الله عنه -- صلى الله عليه وسلم - - - - عليه السلام - - - رضي الله عنه - } - فهرس ??- رضي الله عنه - - ??- رضي الله عنه - - - صلى الله عليه وسلم -? بسم الله الرحمن الرحيم - - رضي الله عنهم - - - - - - - - رضي الله عنهم -?? - - ?? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - } - } - فهرس ? - - مقدمة تمت - صلى الله عليه وسلم - } - - - صلى الله عليه وسلم -? - ? - - - - ? -
2. مدخل إلى التصوف الإسلامى للدكتور أبى الوفا التفتازانى ص11 .
لا يعرفها إلا من خاض مضمار التصوف ، أو لبس خرقتهم واكتسى حلتهم لكن الأمر فى نظرى أبسط من ذلك .
ومن الملاحظ أن الصوفية سعوا عن قصد إلى أن تكون معانى اصطلاحاتهم مبهمة على غيرهم ، وقصدوا عن وعى إلى الرمز الغامض والإشارة البعيدة يقول القشيرى : ( وهذه الطائفة يستعملون ألفاظا فيما قصدوا إليها الكشف عن معانيهم لأنفسهم ، والإخفاء والستر علىمن يباينهم فى طريقتهم ، لتكون معانى ألفاظهم مستبهمة على الأجانب ، غيرة منهم على أسرارهم أن تشيع فى غير أهلها ) (1) .
ويعلل القشيرى ذلك باختلاف حقائق التصوف عن حقائق هذه العلوم ، إذ ليست حقائقهم مجموعة بنوع تكلف أومجلوبة بضرب تصرف بل هى معان أودعها الله تعالى قلوب قوم واستخلص لحقائقها أسرارهم (2) .(5/5)
ويشير الشعرانى إلى أن ألفاظ الصوفية تختلف عن ألفاظ العلوم الأخرى ، وأن فهم دلالات اصطلاحاتهم لا يستعصى على الصادقين من أبنائهم ، فالمريد الصادق إذا دخل مجلسا من مجالس الصوفية ، وليس عنده فكرة عما يتكلمون فيه من موضوعات ، وما يتحدثون به من ألفاظ وإشارات ، فإنه يفهم جميع ما يتكلمون به ، وكأنه واضع تلك الاصطلاحات والإشارات ، ويمكنه أن يشاركهم فى الخوض فى علومهم ، أما المريد الكاذب فمثله مثل علماء الظاهر ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة القشيرية 1/200 .
2. السابق 1/200 .
الذين يعجزون عن فهم كلام الصوفية ، ولا يعرف ذلك إلا بتوقيف ولا يسمح له قبل إخلاصه فى الإرادة (1) ، ويرجع الشعرانى عدم وضوح الدلالة فى المصطلح الصوفى إلى أن الفقيه إذا لم يوفق يقال : إنه أخطأ ، أما الصوفى فإنه عندما لا يوفق يقال : إنه كفر ، لذلك كان لزاما على الصوفية استخدام الإشارات حتى لا يشتد إنكار العامة لهم (2) .
وعبر ابن الفارض عن دافع الرمز والإشارة بالخوف من الفهم غير المقصود الذى يمكن أن يترتب عليه إباحة دمه بقوله :
وعنى بالتلويح يفهم ذائق : غنى عن التصريح للمتعنت
بها لم يبح من لم يبح دمه وفى : الإشارة معنى ما العبارة حدت (3) .
وقد كان أبناء الطبقات الأخرى فى المجتمع يدركون غرابة تلك الألفاظ وغموض معانيها ، وقد ذكر الكلاباذى أن أحد المتكلمين سأل أبا العباس بن عطاء : ما بالكم أيها الصوفية قد اشتققتم ألفاظا أغربتم بها على السامعين وخرجتم عن اللسان المعتاد ، هل هذا إلا طلب للتمويه أو ستر لعوار المذهب ؟ فقال : ما فعلنا ذلك إلا لغيرتنا عليه ولعزته علينا ثم اندفع يقول :
إن أهل العبارة سألونا : أجبناهم بأعلام الإشارة
نشير بها فنجعلها غموضا : تقصر عنه ترجمة العبارة
ــــــــــــــــــــ
1. اليواقيت والجواهر فى بيان عقائد الأكابر ، للشعرانى ، دار المعرفة بيروت ، 1/3 .
2. السابق حـ1ص9 .(5/6)
3. ديوان بن الفارض، دار صاردر ، بيروت ص83 ، ص84 .
ونشهدها وتشهدنا سرورا : له فى كل جارحة إشارة
ترى الأقوال فى الأحوال أسرى : كأسر العارفين ذوى الخسارة (1) .
وقد نبه أئمة الصوفية إلى أن ألفاظهم وعباراتهم لا يقصد بها الدلالات الظاهرية وإنما يشيرون بها إلى معان باطنية ، وعلى من يريد أن يفهمها حق الفهم أن يلتمس المعنى الباطن ، ويصرف الخاطر عن المعانى الظاهرية يقول ابن عربى :
كل ما أذكره من طلل : أو ربوع أو مغان كل ما
أو خليل أو رحيل وربا : أو رياض أو غياض أو حمى
أو نساء كاعبات نهد : طالعات كشموس أو دمى
فاصرف الخاطر عن ظاهرها : واطلب الباطن حتى تعلما (2) .
ولما كانت الطبيعة النوعية لاصطلاحات الصوفية طبيعة رامزة ملغزة يصعب على غيرهم استيعاب دلالتها إنما تعرف عندهم عن طريق الذوق والكشف وهو من أهم خصائص علم الحقائق إلا فى الصوفية وحدهم ، لأن علم الحقائق كما يرى ثمرة العلوم كلها ونهايتها ، ويؤول بالضرورة فى النهاية إلى علم القلوب وعلم الأسرار وعلم الباطن وعلم التصوف وعلم الأحوال والمعاملات ــــــــــــــــــــ
1. التعرف لمذهب أهل التصوف الكلاباذى ، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود ، وطه 2عبد الباقى سرور القاهرة طبعة عيسى الحلبى سنة 1960م ، ص89 .
2. ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق لابن عربى ، تحقيق الدكتور عبد الرحمن الكردى ، بيروت سنة 1312هـ ص5 .
3. ظهر الإسلام القاهرة لأحمد أمين ، دار النهضة العربية سنة 1961هـ ، 2/59 .
وهذا بحر واسع يفتقر إلى بحر مثله من الرموز والألفاظ ، كالمذكور فى قوله تعالى : { قُلْ لَوْ كانَ البَحْرُ مِدَادا لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مددا } [الكهف/109] (1) .(5/7)
فلما كان الأمر كذلك كان من الضرورى أن يلتزم كل كاتب صوفى يسعى إلى تعريف الآخرين بالتصوف الكشف عن المعانى الخاصة لهذه الألفاظ ، لا سيما إذا كان ظاهرها مستشنعا فى عرف الناس ، وباطنها سليما مستقيما عند الصوفية ، فتمهد بذلك وبصورة تلقائية الطريق لإعداد العملية المعجمية لاصطلاحات الصوفية .
فبدأ الأمر عند المشتغلين فى التأليف عن التصوف قديما ، ثم تطور شيئا فشيئا ففى أقدم مرجع صوفى معروف ، رأينا السراج الطوسى فى كتابه اللمع الذى يعد الكتاب الأم فى تاريخ التصوف الإسلامى (2) يفرد للمصطلح الصوفى جزءا كبيرا يشرح فيه الألفاظ الجارية فى كلام الصوفية ويبين مقصودهم منها (3) .
ويعد السراج الطوسى أول من تكلم فى مصطلحات الصوفية وأول من أخذ بزمام المبادرة فى وضع عمل مرجعى للتعرف على الألفاظ والمصطلحات ، ومن
ثم فإنه من أصحاب الفضل فى نشأة علم الاصطلاحات فى الإسلام ، وقد أشار ــــــــــــــــــــ
1. اللمع لأبى نصر السراج الطوسى دار الكتب الحديثة بمصر 1960هـ ص 457 .
2. السابق ، مقدمة التحقيق للدكتور عبد الحليم محمود ص 10 .
3. السابق ص409 : ص 452 .
المستشرق لويس ماسينيون إلى هذه النتيجة فى بحثه عن المصطلح الفنى للتصوف الإسلامى (1) .
ثم يتكرر الأمر نفسه بطريقة أوسع عند مؤلف آخر من المؤلفين الراسخين فى التصوف ، وهو أبو القاسم عبد الكريم القشيرى فى رسالته المشهورة ، فنراه يفرد بابا خاصا لتفسير ألفاظ الصوفية وشرح مدلولها (2) وتمتد السلسلة مرورا بأبى الحسن على بن عثمان الهجويرى (3) ، ثم أبى حامد الغزالى (4) ، فشهاب الدين أبى حفص عمر السهروردى (5) .
ثم يبدأ الاصطلاح بالاستقرار والثبات على معناه ، ويكتسب دلالته النهائية ويدون فى معاجم خاصة عند محى الدين بن عربى (6) وعبد الرزاق الكاشانى (7) ــــــــــــــــــــ(5/8)
- ? - ? تمهيد - - - } - فهرس - فهرس ?? - ? - - - عليه السلام - } - ? - ? الله - - - } ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -? - - صلى الله عليه وسلم - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - صلى الله عليه وسلم - } - } فهرس - صلى الله عليه وسلم - - - - صلى الله عليه وسلم -?? - - صلى الله عليه وسلم - - } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - فهرس } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? - - صلى الله عليه وسلم -? - - ?? تمهيد - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? تمهيد - عليه السلام - - - عليه السلام - - مقدمة - فهرس - صلى الله عليه وسلم -??? - ? - ? - - صلى الله عليه وسلم - } فهرس ? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - - صلى الله عليه وسلم - } - ? - ? - - تمهيد - ? - ? { - - ? - ??
2. الرسالة القشيري تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود 1/200وما بعدها .
3. كشف المحجوب للهجويرى تحقيق الدكتور إبراهيم الدسوقى ص 443 وما بعدها .
4. الإملاء عن إشكالات الإحياء للغزالى ، نسخة مطبوعة على هامش إحياء علوم الدين طبعة الحلبى 1/49 .
5. عوارف المعارف للسهروردى دار الكتاب العربى بيروت سنة 1983م ، وطبعة أخرى ملحقة بإحياء علوم الدين دار الريان للتراث 5/330 .
6. اصطلاحات الصوفية لمحى الدين ابن عربى ، طبعة جمعية دائرة المعارف العثمانية حيدر أباد الدكن سنة 1948م .
7. انظر لطائف الإعلام ، ومعجم اصطلاحات الصوفية ، ورشح الزلال .
ويصبح جزءا لا يتجزأ من المصطلحات العلمية والفنية للحضارة الإسلامية مع الشريف الجرجانى فى تعريفاته (1) ومحمد بن على الفاروقى التهانوى فى كشافه (2) .(5/9)
وإذا كان بعض مؤلفى كتب الصوفية الأساسية ، لم يصنعوا جداول أو معاجم خاصة بالمصطلحات الصوفية ، لكنهم كانوا المصدر الذى استمد منه مؤلفو المعاجم الفنية والعلمية والصوفية ، معانى المصطلحات التى ذكروها وقدموها .
ونظرا لأن البحث فى هذه الرسالة يرتكز على معرفة الأصول القرآنية للمصطلحات الصوفية ، فإنه ليس من السهل تحديد المصادر والمراجع الضرورية لانتقاء المصطلحات الصوفية المرتبطة بالأصول القرآنية والمبنية عليها ، فالأمر لا يتناول استقصاء جميع المصطلحات الصوفية لإعداد معجم شامل ولكنه يمتد إلى استعاب المصطلحات ذات الصلة بالقرآن والسنة على وجه التفصيل ، لنصل من خلال أذواقهم ومواجيدهم إلى مفردات اللغة التى يتعامل بها الصوفية والألفاظ التى تناولها المصطلحون فى أصل كلامهم ، فلعل واحدا من الصوفية وضع لفظا معينا على معني معين ثم وافقه عليه الباقون ، أو ربما وضع أحدهم معنى معينا للفظ عام من مفردات اللغة حتى أصبح اصطلاحا خاصا ، أو لعله ــــــــــــــــــــ
1. التعريفات للشريف الجرجانى طبعة مكتبة لبنان ، بيروت سنة 1978م .
2. كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوى ، طبعة طهران سنة 1947 ، وأربعة أجزاء تصل إلى فصل الباء من باب الصاد ، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب ، تحقيق لطفى عبد البديع وعبد المنعم حسنين .
يتفق وضع أحد الصوفية للفظ على معنى معين ، واصطلح عليه آخر بإزاء نفس المعنى ، أو ما يقرب منه ، من غير شعور لكل واحد بما وضعه الأخر ثم يشتهر الوضعان بينهم ، أو يذكر أحدهم لفظا مجملا اشتهر بينهم وورد تفصيله عند آخر ، أو ربما حدث للاصطلاح تطورات دلالية متعددة حتى صارت مفاهيم محددة لكل مرحلة من مراحل الطريق .(5/10)
ومن ثم كان من الضرورى انتقاء المؤلفات التى تشكل أمهات الكتب الصوفية ثم الاستعانة بالمعاجم الصوفية القديمة والمعاجم العلمية التى تتناول ألفاظ الصوفية أيضا ، هذا علاوة على تتبع أقوال الصوفية وإشارات أعلامهم فى متفرقات ما أثر عنهم فى التراث الصوفى ، ولذا انحصرت ينابيع المصطلح الصوفى لهذه الرسالة فى نوعين :
النوع الأول : المؤلفات الأساسية للذين كتبوا عن التصوف وفسروا ألفاظ الصوفية وعليها بنى أصحاب المعاجم الحديثة معاجمهم ، وقد تدرجت فى انتقاء هذه المؤلفات حتى القرن العاشر الهجرى ، لأن التأليفات التى حُققت بعد هذا التاريخ هى فى مجملها إعادة وتبسيط للدلالات القديمة لهذه المصطلحات أو شروح لها وملخصات (1) .
وبعد الاطلاع على ما هو مشهور ومؤكد الأهمية فى مضمار التصوف فى ــــــــــــــــــــ
1. التصوف الإسلامى ، لزكى مبارك ، طبعة الاعتماد ، القاهرة 1937م ، 1/378 وانظر الحياة الروحية فى الإسلام للدكتور مصطفى حلمى ، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1984م ، ص197 .
تلك الحقبة التى تمثل فترة العزو والصفاء للتآليف فى التصوف الإسلامى ، يمكن حصر الاختيار بعد تكلف وعناية شديدة فى عشرة مؤلفات ، هذه المؤلفات شكلت فى الغالب المظان التى سننهل منها معانى المصطلحات التى تتصل بالقرآن والسنة ، كما أنها جمعت فى الغالب كامل المصطلحات التى تعارف المتصوفون على استعمالها ، وهذه المؤلفات المختارة مع ترجمة تفصيلية لمؤلفيها مرتبة وفقا للتسلسل التاريخى على النحو التالى :(5/11)
(1- اللمع فى التصوف ، لأبى نصر عبد الله بن على بن محمد بن يحى السراج الطوسى ، أصله من طوس (1) ويعد من أكبر المؤلفين الصوفيين ، وهو صاحب مدرسة كبرى فى التصوف فى نيسابور اتخذت من الكتب منابر لدعوتها وشرح رسالتها ونشر علومها وأذواقها ومعارفها (2) تتلمذ عليه بعض مشاهير الصوفية كأبى عبد الرحمن السلمى صاحب الطبقات (3) ،ومن مآثر مدرسته أنها حفظت تراث الجنيد وتلاميذه ورجاله ، وكان على طريقة أهل السنة فى أغلب ما ترك من تراث (4) توفى سنة 378هـ ، وقد أفرد السراج الطوسى بابين لشرح الألفاظ الجارية فى كلام الصوفية ، وبيان هذه الألفاظ (5) .
ــــــــــــــــــــ
1. تاريخ التراث العربى لفؤاد سيزكن ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1978، 2/487.
2. اللمع فى التصوف ، ص7 .
3. طبقات الصوفية ، للسلمى ، تحقيق نور الدين شربية ، سنة 1969 ، 2/19 .
4. انظر مصادر ترجمته فى تاريخ التراث العربى ، 2/487 .
5. اللمع ، كتاب البيان عن المشكلات ، ص409 .
وقد نهج فيها إيراد المصطلح ، ثم شرح معناه مع ذكر بعض الشواهد من أقوال الصوفية ، وكان التركيز فى ذلك على توضيح المشكل من ألفاظ الصوفية التى أخذت عند عامة الناس فى وقته بمعان أخرى ، أما بقية الألفاظ التى وردت فى المقامات والأحوال ، كالتوبة والإنابة والورع والزهد والصبر والتوكل والرضا والمحبة والخوف والرجاء .. إلخ ، فيمكن التقاطه من سائر صفحات الكتاب .
كما حاول السراج الطوسى أن يدعم شرحه للمعانى المختلفة بشواهد متعددة من القرآن والسنة ، سواء كان ذلك باجتهاده ، أو بالنقل عن الآخرين من مشايخ الصوفية ، وقد اعتبر المستشرق نيكلسون كتاب اللمع لكثرة اعتماده على القرآن والسنة ، مدرسة عليا لتخريج الفحول من المتصوفة الصادقين فى مبادئ التصوف النقية التى تعبر عن الجانب الروحى فى الإسلام (1) .(5/12)
(2- التعرف لمذهب أهل التصوف ، لأبى بكر محمد بن اسحاق بن إبراهيم البخارى الكلاباذى ، فقيه حنفى عالم عارف وعلم من أعلام الصوفية (1) .
جاء كتابه التعرف معبرا عن العصر الذهبى للتصوف فى القرن الرابع الهجرى حتى قيل عنه لولا التعرف لما عرف التصوف (2) توفى سنة 380هـ على ــــــــــــــــــــ
1. فى التصوف الإسلامى وتاريخه لرينولد نكلسون ترجمة الدكتور أبى العلا عفيفى طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر بمصر ص101 .
2. انظر فى ترجمته تاريخ التراث العربى 2/492 ، وكشف الظنون لحاجى خليفة ص419 ، وهدية العارفين للبغدادى 2/54 .
3. كشف الظنون لحاجى خليفة 1/419 .
الأرجح (1) ، لم يفرد الكلاباذى بابا خاصا لشرح المصطلحات الصوفية ولكن العناوين الغزيرة التى بوب بها فى الكتاب لعلوم الصوفية ، تعتبر كمصطلحات وردت ألفاظها فى المعاجم الأخرى ، حيث تضمن الكتاب خمسة وسبعين بابا من أبواب علوم الصوفية ، ورد منها أكثر من ستين لفظا منسوبا للمصطلح الصوفى عند الكتاب الآخرين ، كما أن هذا الكتاب الينبوعى تميز بغزارة أقوال المتصوفة الأوائل كشواهد يعتمد عليها ، ونادرا ما يبدى الكلاباذى آراءه الشخصية حولها ، ولذلك يعتبر التعرف من أصدق المصادر التى يعول عليها لفهم بدايات التصوف ورموزه ، كما أنه يتميز أيضا بالاعتدال ، دون إفراط أو إخلال فى دفع ما نسب إليهم مما ليس فى ألفاظهم واصطلاحاتهم ، كما بين ذلك فى مقدمته فقال :(5/13)
( رسمت فى كتابى هذا وصف طريقتهم ، وبيان نحلتهم وسيرتهم ، من القول فى التوحيد والصفات ، وسائر ما يتصل به مما وقعت فيه الشبهة عند من لم يعرف مذاهبهم ، ولم يخدم مشايخهم ، وكشفت بلسان العلم ما أ مكن كشفه ، ووصفت بظاهر البيان ما صلح وصفه ، ليفهمه من لم يفهم إشاراتهم ويدركهم من لم يدرك عباراتهم ، وينتفى عنهم خرص المتخرصين وسوء تأؤيل الجاهلين ، ويكون بيانا لمن أراد سلوك طريقه ، مفتقرا إلى الله تعالى فى بلوغ تحقيقه ، بعد أن تصفحت كتب الحذاق فيه ، وتتبعت حكايات المتحققين
ــــــــــــــــــــ
1. هدية العارفين 2/54 .
له ، بعد العشرة له والسؤال عنهم ) (1) .
(3- قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد في التصوف لأبي طالب محمد بن على بن عطية العجمي ثم المكى ، نشأ بمكة ورحل إلى البصرة ثم بغداد ، كان زاهدا عابدا جمع الناس عليه فى الوعظ وكان رجلا صالحا مجتهدا توفى ببغداد سنة 386هـ (2) ، وقيل عن كتابه قوت القلوب : لم يؤلف فى هذا الباب مثله (3) ، والمكى شأنه شأن الكلاباذى لم يفرد بابا خاصا لشرح المصطلحات ، ولكنه عرض طريق السالكين فى أبواب وتقسيمات ، منبها على دقائق المنازل فى المقامات ومراعاة الأحوال فى سائر الأوقات ، حتى يصل المريد إلى مقام التوحيد ، وكلها كما هو ظاهر ترجع إلى ألفاظ ومصطلحات ، متداولة بين الآخرين من المؤلفين ، بلغ عددها أكثر من ثلاثين مصطلحا .
ويتميز هذا المصدر الينبوعى باعتماده فى معظم ما يورده من اصطلاحات ــــــــــــــــــــ
1. التعرف لمذهب أهل التصوف تحقيق محمود أمين النواوى طبعة مكتبة الكليلات الأزهرية 1980م ص28 ، كما اعتمدت أيضا على نسخة أخرى حققها الدكتور عبد الحليم محمود وآخر ، طبعة دار إحياء الكتب العربية سنة 1960م .(5/14)
2. المنتظم فى تاريخ الأمم والملوك لابن الحوز ى ، طبعة دار الكتب العلمية بيروت سنة 1412هـ ، 4/385 وتاريخ بغداد للخطيب البغدادى ، مطبعة السعادة ، القاهرة سنة 1349هـ ، 3/89 .
3. كشف الظنون 2/1361 .
للصوفية على الأصول القرآنية والنبوية ، وإن كان متوسعا فى النقل متساهلا فى توثيق الأحاديث أو التحرى فى ثبوتها ، كما أشار هو إلى أسباب الرخصة والسعة فى النقل والرواية فقال : ( وربما كان المقطوع والمرسل أصح من بعض المسند إذ رواه الأئمة وجاز لنا رسم ذلك لمعان :
1- أنا لسنا على يقين من باطلها .
2- أن معنا حجة بذلك وهو روايتنا له وأنا قد سمعنا ، فإن أخطأنا الحقيقة عند الله تعالى فذلك ساقط عنا .
3- أن الأخبار الضعاف غير مخالفة الكتاب والسنة ، لا يلزمنا ردها بل فيها ما يدل عليها .
4- أنا متعبدون بحسن الظن منهيون عن كثير من الظن مذمومون بظن السوء .
5- أنه لا يتوصل إلى حقيقة ذلك إلا من طريق المعاينة ولا سبيل إليها فاضطررنا إلى التقليد والتصديق بحسن الظن بالنقلة ) (1) .
لكن يبقى اعتماده على استقصاء الأصول القرآنية والشواهد النبوية فى شرح ألفاظ الصوفية ومصطلحاتهم بشكل تفصيلى دقيق خادما لموضوع البحث (2) .
(4- كشف المحجوب لأبى الحسن على بن عثمان بن أبى على الهجويرى ــــــــــــــــــــ
1. قوت القلوب 1/176 .
2. انظر المزيد عن أبى طالب المكى وكتابه قوت القلوب فى رسالة ماجستير بعنوان أبو طالب المكى ومنهجه الصوفى للدكتور عبد الحميد مدكور ، مخطوط بمكتبة كلية دار العلوم جامعة القاهرة برقم (146) سنة 1972م .(5/15)
الغزنوى (1) صوفى حنفى من علماء الصوفية فى القرن الخامس الهجرى ، عاصر الدولة الغزنوية وتتلمذ على أبى العباس الشقانى واتبع مسلك الصوفية مسترشدا بأيى الفضل محمد بن الحسن الختلى ، وتلقى بعض التعاليم الصوفية على يد أبى القاسم الجرجانى والمظفر أحمد بن حمدان ، كما التقى بأبى القاسم القشيرى الذى يعد من أشهر معاصريه ، وقد سلك الهجويرى مسلك علماء عصره فسافر وتجول وقام برحلات واسعة النطاق فى أرجاء العالم الإسلامى ، زار العراق وخراسان وما وراء النهر وخوزشنان وفارس وأزربيجان وجرجان والهند ، ثم عاد إلى غزنة وظل بها حتى وفاته فى عهد السلطان إبراهيم الغزنوى سنة 465هـ على الأرجح (2) .
ويحتوى الكتاب على باب خاص فى بيان منطقهم وحدود ألفاظهم وحقائق معانيهم حيث ورد فيه أكثر من تسعين اصطلاحا مقسمة إلى ثلاثة أنواع :
النوع الأول : عبارات وكلمات فى جريان أسرارهم وكلمات لا يعرف معناها سواهم كالحال والوقت والمقام والتمكين وغير ذلك مع بيان الفرق بين هذه الاصطلاحات مع شروح تفصيلية واسعة أحيانا .
النوع الثانى : العبارات التى تقبل الاستعارة فى كلامهم ويصير حكمها ــــــــــــــــــــ
1. انظر مصادر ترجمته فى مقدمة تحقيق الدكتورة إسعاد قنديل لكشف المحجوب طبعة دار النهضة العربية بيروت سنة1980م ، وتحقيق الدكتور إبراهيم الدسوقى ، طبعة دار التراث العربى 1974م .
2. كشف الظنون لحاجى خليفة 2/14.
بالتفصيل والشرح أصعب كالطمس والرمس والعلايق والزوايد .
النوع الثالث : العبارات التى تحتاج إلى شرح وهى متداولة بين الصوفية وليس مقصودهم بها ما هو معلوم لأهل اللسان ، من مظاهر اللفظ كالواقع والتحلى والتخلى والمقصود والشرور ، إلى غير ذلك من الاصطلاحات (1) .
وقد بين الهجويرى فى هذا الكتاب السبب فى تخصيصه هذا الباب فقال :(5/16)
( اعلم أسعدك الله أن المشتغلين بأى حرفة أو عمل ، يستعملون عند فك رموزهم بعض الألفاظ والعبارات يعرفون معناها فقط ، وقد اخترعت هذه العبارة لأمرين أساسيين ، أولهما : لتسهيل الفهم وتذليل المصاعب وتقريبها لفهم الطالب ، وثانيهما : لحجب أسرار هذا العلم عن غير أهله ، والصوفية لهم أيضا اصطلاحات فى بيان مذاكراتهم ، ولكن يكشفوا ويوضحوا معانيهم كما يحبون ) (2) .
كما تميز هذا المصدر أيضا باجتهاد الهجويرى فى تدعيم المصطلحات بأصولها القرآنية والنبوية كلما أمكن .
(5- الرسالة القشيرية لعبد الكريم بن هوزان بن عبد الملك بن طلحة بن ــــــــــــــــــــ
1. كشف المحجوب تحقيق الدكتورة إسعاد قنديل طبعة دار النهضة العربية بيروت 1980م ص466 .
2. السابق ، تحقيق الدكتور إبراهيم الدسوقى ، دار التراث العربى 1974م ص443 .
محمد الاستوائى أبو القاسم القشيرى النيسابورى (1) ولد سنة 376هـ فى بلدة أستوا ، وكان سكانها من العرب الذين قدموا من خرسان ، اشتغل بعلوم الشريعة فدرس عند أبى بكر الطوسى ، وأخذ عنه الفقه وأخذ علم الأصول عن أبى بكر بن فورك ، وأخذ علم الطريقة على يد أستاذه أبى على الدقاق ، اشتغل بالتدريس فى نيسابور وبغداد ومرو ، وكان يقضى معظم أوقاته فى التأليف والتنسك والاجتماع بالأصحاب والمريدين ، وكان سنيا شافعيا أشعريا توفى سنة 465 هـ فى نيسابور (2) ، والقشيرى فى رسالته خصص بابا فى تفسير الألفاظ التى تدور بين هذه الطائفة وبين ما يشكل فيها تيسيرا لهم ولغيرهم كما قال : ( ونحن نريد بشرح هذه الألفاظ تسهيل الفهم على من يريد الوقوف على معانيهم من سالكى طرقهم ومتبعى سنتهم ) (3) .
وتميزت الرسالة بالإسهاب فى عرض معانى ألفاظ الصوفية ، والإفاضة فى شرحها وكثرة شواهدها ، ورد أغلب المصطلحات إلى أصولها القرآنية والنبوية ــــــــــــــــــــ(5/17)
1. انظر ترجمته فى هداية العارفين 5/607 ، وطبقات الشافعية 3/243 ، ومقدمة ابن خلدون ص405 ، وجمهرة الأنسب ص273 ، وانظر للتوسع فى معرفة القشيرى وأتره فى التصوف ، الإمام القشيرى سيرته وآثاره ومذهبه فى التصوف ، إعداد إبراهيم بسيونى رسالة دكتوراه مكتبة كلية أصول الدين جامعة الأزهر سنة1971م .
2. انظر وفيات الأعيان لابن خلكان 1/481 ، وتاريخ بغداد 2/248 ، وكشف الظنون 1/58 .
3. الرسالة القشيرية 1/200 .
ولذلك فإن الرسالة القشيرية تعد من أمهات المصادر الينبوعية فى هذا البحث .
(6- الإملاء عن إشكالات الإحياء ، لأبى حامد محمد بن أحمد الطوسى الغزالى (1) فقيه وفيلسوف ومتصوف ، ولد فى الغزالة وهى بلدة فى جوار طوس من أعمال خرسان عام 450هـ ، وكان شافعيا ينتمى إلى المدرسة الأشعرية فى علم الكلام ، ولى منصب التدريس فى المدرسة النظامية ببغداد سنة 484هـ بعد أن أعجب به نظام الملك ، ولكنه تعرض لأزمات نفسية وصحية حادة اضطرته إلى ترك التدريس بعد مرور أربع سنوات على وجوده بها ، فاعتزل التدريس ومكث عشر سنوات فى عزلة يمارس السلوك الصوفى ، من رياضة ومجاهدة واعتكاف وتأليف ، ثم رحل إلى بيت المقدس والخليل ، وبعدها إلى الحجاز لتأدية فريضة الحج كما سافر إلى مصر ، واستمر يجول فى البلدان والأقطار ويهيم على وجهه لابسا المرقعة ومعه المزود وبيده العصا ثم رجع إلى التدريس فى نيسابور سنة 499هـ ، ولكنه لم يقم بها إلا سنتين عاد بعدهما إلى طوس وأنشأ زاوية للمتصوفين ومدرسة لطلاب الفقه ثم انقطع خلال السنوات الأخيرة من حياته إلى العبادة ومجالسة الصوفية وأهل الحديث وكانت وفاته سنة505هـ ، ومن أهم مؤلفاته كتاب إحياء علوم الدين ، أما كتابه الينبوعى الإملاء فيخصص فيه الغزالى مقدمة ، الغرض منها تبين عبارات انفرد بها أرباب
ــــــــــــــــــــ(5/18)
1. انظر ترجمة الغزالى فى كتاب الغزالى للشيخ مصطفى المراغى ، القاهرة طبعة دار المأمون سنة1926 م ، وإحياء علوم الدين طبعة الحلبى 1/49 ، وكشف الظنون لحاجى خليفة 1/24 ، وهدية العارفين للبغداى 6/273 .
الطريق عد فيها نحو خمسين مصطلحا (1) .
(7- عوارف المعارف لشهاب الدين أبى حفص بن محمد السهروردى (2) فقيه شافعى المذهب واعظ من أئمة المتصوفين ، ولد سنة 539هـ بسهرورد وسكن بغداد وصحب عمه أبا النجيب ، وتفقه وتفنن وصنف التصانيف فى بيان طريقة القوم ، منها عوارف المعارف وانتهت إليه تربية المريدين وتسليك العباد ومشيخة العراق وقيل عنه : لم يخلف بعده مثله ، وكان شيخ وقته فى علم الحقيقة وولى عدة ربط للصوفية وتوفى فى سنة 632هـ (3) .
وقد بين فى كتابه ما رزق به الصوفية من العلوم التى أشار إليها المتقدمون كعلم الحال وعلم القيام وعلم الخواطر وعلم اليقين وعلم الإخلاص وعلم النفس ومعرفتها ومعرفة أخلاقها ، وعلم معرفة أقسام الدنيا ، ووجود دقائق الهوى وخفايا شهوات النفس وشرها ، وعلم الضرورة ومطالبة النفس بالوقوف على حد الضرورة ، ومعرفة حقائق التوبة ، وعلم خفى الذنوب ، ثم علوم المشاهدات كعلم الهيبة والأنس والقبض والبسط ، والفرق بين القبض والهم والبسط والنشاط وعلم الفناء والبقاء وغير ذلك ، كما خصص السهروردى ــــــــــــــــــــ
1. إحياء علوم الدين طبعة الحلبى 1/ص56 .
2. انظر ترجمته فى وفيات الأعيان لابن خلكان 3/119 ، وشذارت الذهب 5/153 والنجوم الظاهرة فى ملوك مصر والقاهرة 6/283 .
3. لسان الميزان 5/195 ، وكشف الظنون 1/50 .
بابين لشرح مصطلحات الصوفية فى كتابه بلغت قرابة الخمسين (1) .(5/19)
(8- اصطلاحات الصوفية لمحى الدين أبى بكر محمد بن على العربى الحاتمى الطائى الأندلسى (2) أطلق عليه أتباعه لقب الشيخ الأكبر ابن عربى ، وعرف فى الأندلس باسم ابن سراقة ، وهو صوفى كبير ولد فى مرسية بالأندلس عام 560هـ ، وسكن فى إشبيلية حوالى ثلاثين عاما تقريبا ، حيث درس الحديث والفقه ، زار تونس سنة 590هـ ثم نزح إلى المشرق نهائيا ، طاف بمصر ومكة وبغداد والموصل وآسيا الصغرى ، ثم استقر أخيرا فى دمشق حيث عاش فيها بقية عمره وتوفى بها عام 638هـ ودفن بسفح جبل قاسيون ، كان ابن عربى على مذهب الظاهرية فى الفقه ، وكان صوفيا باطنيا إلى أقصى الحدود ، ومن مزاعمه الشهيرة أنه رأى النبى - صلى الله عليه وسلم - ورأى الخضر يقظة ، وعرف اسم الله الأعظم وعرف الكيمياء بالمكاشفة لا بالتحصيل وأتهم بالزندقة والقول بوحدة الوجود فأثار ذلك حفيظة الناس عليه وحاولوا قتله ، وممن رماه بالزندقة ابن تيمية وسعد الدين التفتازانى وابن الخطيب الأندلسى المالكى وشمس الدين الموصلى وشمس الدين الذهبى وغيرهم (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. عوارف المعارف ، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود ، والدكتور محمود بن الشريف طبعة مطبعة السعادة ، 1/177 : 179 .
2. هدية العارفين ، لإسماعيل باشا البغدادى 6/114 .
3. انظر مصرع التصوف ، للعلامة برهان الدين البقاعى ، تحقيق عبد الرحمن الوكيل مطبعة السنة المحمدية القاهرة سنة 1373هـ ، 1953م ص150 وما بعدها .
وكان ابن عربى غزير التأليف ، وأهم مصنفاته الفتوحات المكية (1) .(5/20)
وتعد رسالته اصطلاحات الصوفية من بواكير إعداد المعاجم الصوفية ، وليس ببعيد أن تكون البادرة الأولى لنشأة المعاجم المستقلة ، ويشير ابن عربى إلى سبب تأليفها ، أن بعضهم أشار عليه وطلب منه شرح الألفاظ التى يتداولها الصوفية لأنها مبهمة على الناس فأجابه : ( أما بعد ، فإنك أشرت إلينا بشرح الألفاظ التى تداولها الصوفية المحققون من أهل الله بينهم ، لما رأيت كثيرا من علماء الرسوم وقد سألونا فى مطالعة مصنفاتنا ومصنفات أهل طريقتنا مع عدم معرفتهم بما تواطأنا عليه من الألفاظ التى بها يفهم بعضنا عن بعض كما جرت عادة أهل كل فن من العلوم فأجبتك إلى ذلك ) (2) .
وقد أورد ابن عربى فى تلك الرسالة مائة وثمانية وتسعين مصطلحا شرحت معانيها باختصار شديد وهى أيضا فقيرة الشواهد القرآنية والنبوية (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. انظر مصادر ترجمته فى دائرة المعارف الإسلامية ، تحقيق إبراهيم زكى خورشد وأحمد الشناوى وعبد الحميد يونس ، القاهرة دار الشعب سنة1933م ، حـ1ص345 .
2. اصطلاحات الصوفية لابن عربى ، طبعة ملحقة فى نهاية كتاب التعريفات ص138 .
3. انظر المزيد عن ابن عربى وأثره فى التصوف :
- الولاية عند محى الدين بن عربى ، لأستاذنا الدكتور ر عبد الحميد مدكور ، رسالة دكتوراه مخطوط بمكتبة كلية دار العلوم جامعة القاهرة برقم 806 سنة 1980م .
- - - } - } ??? } ? - - صلى الله عليه وسلم -? - ? - ? - ? { ? - ?? الله أكبر - - صلى الله عليه وسلم -?? تمهيد - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - } - - - ?? بسم الله الرحمن الرحيم - } - - - - { - - رضي الله عنهم -?? - - ?? تمهيد - عليه السلام - - - رضي الله عنهم - } - ?? - ?? - } فهرس ?- سبحانه وتعالى - تمت فهرس ? - - صلى الله عليه وسلم - - تمت } ? - ? - - مقدمة تمت - صلى الله عليه وسلم - } - - - صلى الله عليه وسلم -? - - - - ? -(5/21)
- الإنسان الكامل عند محى الدين بن عربى ، إعداد هالة أحمد فؤاد مصطفى ، رسالة =
(9- معجم المصطلحات والإشارات الصوفية والمعروف باسم : ( لطائف الإعلام فى إشارات أهل الإلهام ) (1) لكمال الدين عبد الرزاق بن جمال الدين الكاشانى السمرقندى ، صوفى كبير مؤلف يرجح انتماؤه إلى الشيعة الإمامية ويعد انتماؤه معبرا عن مذهب هذه الفرقة من قبل الشيرازى ، وينفى الدكتور كمال جعفر انتسابه إلى هذه الفرقة ، ولكنه يؤكد أنه قد تعرف على بعض أعلام الشيعة الإمامية (2) ، لا يعرف تاريخ مولده بالتحديد ولا تتوفر المعلومات عن تفاصيل حياته توفى سنة 735هـ (3) .
وللكاشانى أيضا كتاب اصطلاحات الصوفية وهو غنى بالمصطلحات الصوفية ويتميز بجودة الترتيب والتصنيف (4) ، وله أيضا كتاب رشح الزلال فى شرح ــــــــــــــــــــ
= ماجستير ، مخطوط بمكتبة كلية الآداب ، جامعة القاهرة سنة 1990م ، مشكلة الذات والصفات عند محى الدين بن عربى ، إعداد إسماعيل منصور جوده ، رسالة ماجستير مخطوط بمكتبة كلية الآداب ، جامعة القاهرة سنة 1990م .
1. لطائف الإعلام فى إشارات أهل الإلهام ، تحقيق ودراسة سعيد عبد الفتاح ، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة سنة1996م .
2. اصطلاحات الصوفية للكاشانى تحقيق الدكتور كمال جعفر ، مقدمة التحقيق ص3 .
3- انظر ترجمته فى معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة 5/215 ، الأعلام لخير الدين الزركلى3/350 وهدية العارفين 1/566 ، وانظر أيضا للتوسع ، المنهج الصوفى عند عبد الرزاق الكاشانى ، إعداد عصام على معوض رسالة ماجستير مخطوط بكتبة كلية دار العلوم جامعة القاهرة سنة 1997م . 4. انظر كشف الظنون 1/107 .(5/22)
الألفاظ المتداولة بين أرباب الأذواق والأحوال (1) ، لكن يقل فى جودة ترتيبه وكثافة مداخله عن المرجعين السابقين ويحتاج الكتاب إلى إعادة تحقيقه بصورة أفضل ، وكل ما سبق من مؤلفات للكاشانى ينابيع فياضة بالمصطلحات غير أن لطائف الإعلام يكاد يحوى جميع الرسائل ، ويستوعب جميع الكتب التى عنيت بشرح ألفاظ الصوفية ، فقد حوى على وجه التفصيل شرح ما يزيد على ألف وخمسمائة مصطلح صوفى ، ولذا كانت مؤلفات الكاشانى من أهم الدعائم الأساسية التى ساعدت فى انتقاء ما له صلة بالقرآن والسنة من ألفاظ الصوفية وإشاراتهم .
(10– المناظر الإلهية لعبد الكريم بن إبراهيم بن خليفة بن أحمد الجيلى (2) ينسب إلى الشيخ الصوفى عبد القادر الجيلانى (3) ، وهو حنبلى المذهب من خلفاء الشيخ إسماعيل الجبرتى (4) ، والجيلانى نسبة إلى جيلان اسم لبلاد كثيرة من وراء بلاد طبرستان (5) .
ويعتبر الجيلى من أبرز تلاميذ مدرسة ابن عربى ، وكانت لديه الشجاعة لنقد ــــــــــــــــــــ
1. رشح الزلال للكاشانى ، تحقيق وتقديم سعيد عبد الفتاح ، طبعة المكتبة الأزهرية للتراث ، القاهرة سنة 1995م .
2. المناظر الإلهية للجيلى ، تحقيق الدكتور نجاح محمود الغنيمى ، دار المنار سنة1987م .
3. الأعلام للزركلى 4/175 .
4. هدية العارفين للبغدادى 5/610 .
5. معجم البلدان لياقوت الحموى 2/179 .(5/23)
العديد من قضايا فكره وتوجيهها وجهة جديدة ، ولم يسلك مسلك أقرانه فى مدرسة ابن عربى الذين وقفوا عند شرح فكره أو توضيحة أو تقنين مصطلحاته فى معاجم اصطلاحية ، ولذا يلقب بالقطب الجيلى (1) ، وليس فى المصاد ما يدل على ترجمة تفصيلية تشير إلى سيرة حياته ، ولكن ذكر لويس ماسنيون أنه دفن فى بغداد ووافقه على ذلك بنرت (2) ، وتوفى سنة 832هـ تقريبا (3) وقد أورد فى كتابه المناظر الإلهية قرابة مائة مصطلح صوفى ، وله من التصانيف التى اعتمدت عليها أيضا ، كتاب الإنسان الكامل فى معرفة الأواخر والأوائل والكمالات الإلهية فى الصفات المحمدية (4) .
النوع الثانى : المؤلفات التى تحوى شواهد المصطلحات الصوفية وتحقيق نسبتها إلى أعلامهم ، من أقوال أو آراء أو تفسير لآيات أو أحاديث أو غير ذلك من شواهد المصطلحات ، وقد قسمت هذه المصادر التى ينبع منها معين فياض يمدنا بالشواهد الصوفية إلى ثلاثة أنواع :
ــــــــــــــــــــ
1. الأعلام للزركلى 4/175 .
2. انظر :
- ? - - ? - ? تمهيد - - - } - فهرس - فهرس ? - ? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ? - - صلى الله عليه وسلم -?- رضي الله عنه -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - - ? - ? { - - - ? - ? فهرس - ? - ?.?
- ? تم بحمد الله - فهرس فهرس - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنه - - ? - - صلى الله عليه وسلم -? - ? - - - ? - ? تم بحمد الله - عليه السلام - - - ? - - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -? - } - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - } - ? - - رضي الله عنه -- عليه السلام - - - صلى الله عليه وسلم - فهرس ? - - - - - .(5/24)
- ? - - - - - } - - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -? - ? الله فهرس - - رضي الله عنهم - - - ? - ? - - ?- سبحانه وتعالى - - - - مقدمة ?.? - - صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنه -? - ? - تمت - - ? - - - صلى الله عليه وسلم - } مقدمة ? - - - ?- سبحانه وتعالى -? - ? { - ? - تمهيد - - صلى الله عليه وسلم - - - ? - - - - -
3. يذكر البغدادى أنه توفى سنة 820هـ ، انظر هدية العارفين حـ5ص610 .
4. الكمالات الإلهية فى الصفات المحمدية لعبد الكريم الجيلى ، تحقيق سعيد عبد الفتاح طبعة مكتبة عالم الفكر ، القاهرة ، سنة 1997م .
(1- المؤلفات السابقة لكتاب المصطلحات ، فهى على الرغم من كونها أفردت أبوابا أو كتبا لتفسير ألفاظ الصوفية الملغزة وشرح مصطلحاتهم الرامزة إلا أنها أيضا غنية بأقوال الصوفية ، وشرح مقاماتهم وأحوالهم والكشف عن طريق المريدين والسالكين فى تجاربهم وسيرهم إلى الله ، مما يتيح لنا إمكانية التقاط الشواهد الدلالية ، والتعرف على الأصول القرآنية والنبوية لاصطلاحات الصوفية .(5/25)
(2- المؤلفات الخاصة ببعض الصوفية الذين كتبوا عن أرائهم وتجاربهم الشخصية ، سواء كانت مطبوعة أو مخطوطة وهذه المؤلفات من أوثق المصادر فى نسبة الشواهد إلى قائليها لأنهم دونوا كلامهم بأنفسهم فهى حجة فى إثبات أراء الصوفية ومعتقداتهم ، وقد اعتمدت على أغلب ما وجد من هذه المؤلفات مثل تراث الحارث بن أسد المحاسبى (243هـ) وأبى سعيد الخراز (279هـ) وسهل بن عبد اللَّه التسترى (293هـ) والحسين بن منصور الحسين بن منصور الحلاج (309هـ) وتراث الحكيم الترمذى (320هـ) والشخ عبد اللَّه بن خفيف (371هـ) وتراث أبى القاسم عبد الكريم القشيرى (465هـ) وأبى حامد الغزالى (505هـ) ، وابن عطاء الله السكندرى (709هـ) وابن عربى وتلاميذ مدرسته ، كالكاشانى والجيلى والشعرانى وغيرهم ، وكذلك التفسيرات الصوفية للقرآن الكريم كتفسير سهل بن عبد الله التسترى ، وتفسير أبى عبد الرحمن السلمى ، ولطائف الإشارات للقشيرى ، وتفسير القرآن لعبد الرزاق الكاشانى ، وقد كانت هذه التفسيرات منبعا غنيا لمعرفة الأصول القرآنية للمصطلحات الصوفية .
(3- المؤلفات التى جمعت متفرقات ما أثر من كلام الصوفية فى تراجمهم مثل طبقات الصوفية لأبى عبد الرحمن السلمى ، وحلية الأولياء لأبى نعيم الأصبهانى وصفة الصفوة لابن الجوزى ، وطبقات الشعرانى ، ونفحات الأنس لأبى البركات عبد الرحمن الجامى ، وكثير من كتب التراجم الأخرى .
دراسة فى المعاجم الصوفية :
كان طبيعيا نتيجة لتلك الطبيعة الخاصة للمصطلح الصوفى أن تنشأ المحاولات لفك الرموز المغلقة أمام قارئ مؤلفات الصوفية ومصنفاتهم ، وكان أمرا طبيعيا أن يتساءل جمهور القراء عن معنى هذه الاصطلاحات ويسألون أهل المعرفة والذوق الذين لديهم القدرة على فك هذه الرموز وإزالة تلك الصعوبات فى الفهم والتفسير والشرح ولقد كثرت الأسئلة وبدأت الإجابات .(5/26)
ويعتبر ما أورده السراج الطوسى فى كتابه اللمع فى التصوف من بواكير تلك المحاولات ، وليس ببعيد أن تكون البادرة الأولى لنشأة المعجم الصوفى ثم تتابعت الجهود والمحاولات تترى حتى ظهر كتاب الإملاء فى إشكالات الإحياء لإبى حامد الغزالى حيث خصصه لتبيين عبارات انفرد بها أرباب الطريق ، ثم رسالة ابن عربى اصطلاحات الصوفية الواردة فى الفتوحات المكية حيث تعد بداية جادة لنشأة المعجم الصوفى ، وقد بين ابن عربى أنه أعد هذه الرسالة تحقيقا لرغبة عامة ونتيجة الإحساس بالحيرة التى انتابت من يطالع مصنفات الصوفية ومصنفات ابن عربىعلى وجه الخصوص ، لعدم معرفتهم بمعانى هذه الألفاظ ، وهى معان خاصة تواطئوا عليها ، وبها يفهم بعضهم عن البعض الآخر (1) .
ولكن ابن عربى لم يجمع كل الألفاظ الصوفية ويقوم بشرحها وإنما يقول : ــــــــــــــــــــ
1. اصطلاحات الصوفية ، لابن عربى ملحق بكتاب التعريفات للجرجانى ص138 .
( ولم أستوعب الألفاظ كلها ولكن اقتصرت منها على الأهم فالأهم وأضربت عن ذكر ما هو مفهوم من ذلك عند كل من ينظر فيه بأول نظرة لما فيها من الاستعارة والتشبيه ) (1) .
ومعنى ذلك أن رسالة ابن عربى اصطلاحات الصوفية كانت بخصوص المصطلحات الصوفية بعامة دون اقتصار على المصطلحات الواردة فى الفتوحات المكية أو غيرها من المؤلفات ، ودون اقتصار على ما ليس فيه استعارة أو تشبيه وأن الاختيار فيها إنما وقع من المؤلف وحده فاصطلاحات الصوفية رسالة فيها العناية بعموم المصطلح الصوفى بشكل عام .(5/27)
ولم تكن رسالة اصطلاحات الصوفية لابن عربى وحدها تلبية لرغبة ملحة وإجابة لسؤال حار فى إجابته غير المتصوفة ، وإنما جاء معجم الكاشانى (735) اصطلاحات الصوفية تلبية لسؤال أشار به سلطان الوزراء محمد بن أبى الخير الوزير والمؤرخ الكبير ، وعبر به عن غيره من أهل العلوم المعقولة والمنقولة لعدم تعارفهم على اصطلاحات الصوفية ، وفى ذلك يقول الكاشانى فى مقدمته لمعجمه : ( فإنى لما فرغت من تسويد كتاب شرح منازل السائرين ، وكان الكلام فيه وفى شرح فصوص الحكم وتأويلات القرآن الحكيم مبنيا على اصطلاحات الصوفية ولم يتعارفها أكثر أهل العلوم المعقولة والمنقولة ولم تشتهر بينهم سألونى أن أشرحها وقد أشرت فى ذلك الشرح إلى أن الأصول المذكورة
ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص138 .
فى الكتاب من مقامات القوم تتفرع إلى ألف مقام ، ولوحت إلى كيفية تفريعها وما بينت تفاريعها ولم أفصل فروعها ودرجاتها ولم أصرح بصنوفها وتفريعاتها فتصديت للإسعاف بسؤالهم وزدت ذلك ترويحا لقلوبهم ببيان ما أهمل من ذلك وتفصيل ما أجمل هنا لك ) (1) .
ويتضح من هذا النص الطويل أمور أهمها ، أن مؤلفات الصوفية وبخاصة منازل السائرين لأبى إسماعيل عبد الله الهروى (ت:481هـ) وفصوص الحكم لابن عربى (ت:638هـ) وتأويلات القرآن للكاشانى (ت:730هـ) كانت بحاجة إلى من يشرحها حتى يمكن فهمها ، لأنها مبنية على اصطلاحات الصوفية ثم وهو أمر طبيعى لم تكن هذه الاصطلاحات مشتهرة بين أهل العلوم الأخرى فلم يتعارفوا هذه الإشارات ، ولم يألفوا استخدام الألفاظ فى مثل هذه الملغزات وإلى جانب ذلك يتضح أن الكاشانى فى معجمه اصطلاحات الصوفية لم يتناول جميع الاصطلاحات ، فقد شرح ما يختص منها بالمقامات فى شرحه لفصوص الحكم ، ويتضح أخيرا أن أبا الخير الوزير المؤرخ (ت:736هـ) قد أشار إليه بشرح هذه الاصطلاحات وكانت إشارته الباعث على تأليفه لهذا المعجم .(5/28)
ويعد معجم الكاشانى ممثلا لمرحلة نضج المعجم الصوفى فى عصره وتمهيدا للمعجم الأكبر الذى يمثل المرحلة النهائية فى جهد الكاشانى لجمع ألفاظ الصوفية وحصر إشاراتهم وتفسير اصطلاحاتهم ، فكتب مؤلفا معجميا كبيرا ــــــــــــــــــــ
1. اصطلاحات الصوفية للكاشانى تحقيق الدكتور عبد الخالق محمود ص44 .
سماه لطائف الإعلام فى إشارات أهل الإلهام ، حوى من المصطلحات عددا أعجز من بعده ، فلم يظهر حتى الآن معجما فاق اللطائف فى عدد مصطلحاته كما أنه بناه على نظم معجمى متكامل ، وقد ذكر الكاشانى الباعث لتأليفه ومنهجه فى نظمه فقال :
( إنى لما رأيت كثيرا من علماء الرسوم ربما استعصى عليه فهم ما تتضمنه كتبنا وكتب غيرنا من النكت والأسرار التى يشير إليها المحققون العالمون بالله من أكابر شيوخ الصوفية الوارثين للعلوم الحقيقية والمعارف الحقية من مشكاة النبوة المحمدية ، المعتلية عن حضيض التلبيسات الخلقية إلى أوج الحضرات الحقية القدسية ، الجامعة جوامع الكلم الحكمية والأسرار الإلهية أحببت أن أجمع هذا الكتاب مشتملا على شرح ما هو الأهم من مصطلحاتهم وما تواطأوا عليه من الألفاظ والألقاب التى يعبرون بها عما يتداولونه بينهم من علومهم الإلهية وأسرارهم الشريفة الربانية وما به يفهم بعضهم عن بعض كما جرت عليه عادة أهل كل فن ، وبينت ذلك بالبيان المتقن المحكم المرتب على حروف المعجم بحيث أنى جعلت الحرف الثانى من كل كلمة على ترتيب الحروف أيضا ليكون ذلك أضبط فى النظم وأظهر للفهم ) (1) .
ولم يظهر للمصطلح الصوفى بعد القرنين السابع والثامن للهجرة وبعد رسالة اصطلاحات الصوفية لابن عربى ولطائف الإعلام للكاشانى أى معاجم جديدة ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام 1/105 .(5/29)
إلا فى العصر الحديث ، وإن كانت أغلب ألفاظ الصوفية قد دخلت ضمن معاجم أخرى فى إطار تقنين المصطلحات الفنية لمختلف العلوم ، حيث حققت الصناعة المعجمية تقدما واسع النشاط ، ووضعت المعايير المختلفة والأسس الدلالية لمختلف العلوم حتى أصبحت المعاجم أعمال موسوعية تشمل المعارف العامة والخاصة (1) .
وقد ظهر فى بداية القرن التاسع كتاب التعريفات للشريف محمد بن على الجرجانى (ت:816هـ) وهو أقرب إلى الموضوعات الموسوعية التى تتضمن الكثير من التعريفات فى العلوم المختلفة ، فالكتاب يشمل المصطلحات اللغوية نحوية وبلاغية وغيرها ، والمصطلحات الكلامية والفلسفية بما فيها المنطقية والرياضية والطبيعية ومصطلحات العلوم الشرعية من حديث وفقه وأصول إلى جانب المصطلحات الصوفية ومصطلحات الجدل والمناظرة كما يتعرض أحيانا ــــــــــــــــــــ
1. انظر للتوسع فى هذه النقطة : المعجم العربى نشأته وتطوره ، للدكتور حسين نصار القاهرة ، دار نهضة مصر ، مصر سنة 1956م ، والمعاجم العربية دراسة تحليلية للدكتور عبد السميع محمد أحمد ، دار الفكر العربى ، الطبعة الرابعة القاهرة سنة1984م ، وعلم اللغة وصناعة المعجم ، للدكتور على القاسمى ، مطبوعات جامعة الرياض بالمملكة العربية السعودية ، سنة 1975م ، التعبير الاصطلاحى دراسة فى تأصيل المصطلح ومفهومه ومجالاته الدلالية وأنماطه التركيبية ، للدكتور زكى حسام الدين كريم ، طبعة مكتبة الأنجلو المصرية ، القاهرة ، سنة 1985م .(5/30)
- - عز وجل -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - ? - ? - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - فهرس - - صلى الله عليه وسلم -? - ? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - } - صلى الله عليه وسلم - صدق الله العظيم ? - - ? { - صلى الله عليه وسلم - - تمت - - صلى الله عليه وسلم - مقدمة - ? } فهرس ? - - صلى الله عليه وسلم - - } - - - - صلى الله عليه وسلم - - { - - رضي الله عنهم -? - ? - - فهرس - - عليه السلام - - - - صلى الله عليه وسلم -?? - -
? } - - تمهيد - { ?? - - تمهيد ? - ? - - - .
للتعريف بالفرق والجماعات والمذاهب والطوائف ، ويلاحظ أنه يمتاز بالترتيب الهجائى المنظم ، وإلى جانب هذه الناحية التطورية ، فإن له عناية خاصة بالمصطلحات الفقهية ، ولكن بنزعة حنفية ، وبالمصطلحات الصوفية ولكن بمشرب يميل إلى استعمالات صاحب الفتوحات (1) .
وقد ظهر أيضا فى الساحة المعجمية كتاب كشاف اصطلاحات العلوم والفنون للشيخ محمد بن على بن القاضى محمد حامد بن محمد صابر الفاروقى الحنفى الهندى التهانوى الذى فرغ من تأليفه عام1158هـ (2) وقد تضمن اصطلاحات الصوفية ضمن بقية العلوم وهو كتاب يحتل مكانة مرموقة بين كتب التعريفات العامة لكونه من أكثرها شمولا واستيعابا مع الدقة والترتيب وهو أشهرها وأكثرها نفعا للباحثين المحدثين دون منازع (3) يقول محققه بعد أن تعرض للمؤلفات الأخرى فى بابه : ( إنه يقع منها موقعا حسنا فقد استقصى فيه التهانوى بحث الموضوعات العلمية متدرجا من الدلالات اللغوية إلى غيرها من الدلالات فى شتى العلوم من نقلية وعقلية بحيث أضحى الكتاب معلمة للثقافة الإسلامية ) (4) . ...
ثم ظهرت للمصطلح الصوفي المعاجم الحديثة ، فبدأها الدكتور عبد المنعم ــــــــــــــــــــ
1. المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين ، د/ حسن الشافعى ص12 .
2. هدية العارفين 1/326 .
3. المبين ص14 .(5/31)
4. كشاف اصطلاحات الفنون ، مقدمة التحقيق للدكتور لطفى عبد البديع ح1ص د .
الحفنى بوضع معجم مصطلحات الصوفية سنة 1980م ، ثم المعجم الصوفى للدكتورة سعاد حكيم سنة 1981م ، ثم معجم ألفاظ الصوفية للدكتور حسن الشرقاوى سنة 1987م .
ونظرا لأن هذه المعاجم القديمة والحديثة تعد من الدراسات السابقة المعنية بالمصطلح الصوفى وتتبع شواهده القرآنية والنبوية ، وما فى ذلك من صلة وثيقة بموضوع الرسالة ، فإن الأمر يتطلب دراسة مقتضبة لتلك المعاجم من حيث ترتيبها ، ومدى كثافة المداخل فيها ، والتعريف بالأصول القرآنية والنبوية للمصطلحات إن وجدت ، وقد رتبت هذه الدراسة على النحو الآتى :
أولا : ترتيب المداخل فى معاجم المصطلح الصوفى .
عرفت المعاجم العربية العامة عدة اتجاهات فى ترتيب المداخل بها (1) واتضحت هذه الاتجاهات فى المجتمع اللغوى العربى قبل ظهور أول معجم صوفى يلتزم بطريقة واضحة فى ترتيب المداخل المعجمية فى القرن الثامن الهجرى ، ومع ذلك جاء معجم عبد الرزاق الكاشانى (735هـ) على ترتيب جديد للمداخل لم تعهده المعاجم العامة ، وإن كانت المعاجم الأخرى قد اقتفت أثر بعض المعاجم العامة ، وفيما يلى محاولة لتحديد اتجاهات الترتيب المعجمى للمداخل فى المعاجم الصوفية :
ــــــــــــــــــــ
1. انظر المعجم العربى نشأته وتطوره ، للدكتور حسين نصار 1/ 42 ، والاتجاهات الحديثة فى صناعة المعجمات للدكتور محمود فهمى حجازى ، مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة الجزء الأربعون سنة 1977م ص86 وما بعدها .(5/32)
(1- الترتيب العشوائى فى رسالة ابن عربى (638هـ) فلم يكن من أهداف المؤلف أن يقدم معجما فى المصطلحات الصوفية ولا حصرا بألفاظ الصوفية فى مؤلفاته أو فى كتابه الفتوحات المكية ، وإنما سعى إلى تحقيق شئ واحد وهو شرح مجموعة من الألفاظ اختارها ، ولم يراع ترتيبها هجائيا أو أبجديا وإنما أوردها بطريقة عشوائية أو كما قال : ( وقد أوردنا ذلك لفظة لفظه ) (1) .
(2- الترتيب الهجائى الأبجدى فى اصطلاحات الكاشانى ، فقد رتب الكاشانى مداخل معجمه اصطلاحات الصوفية ترتيبا يتخذ صورتين مختلفتين :
الصورة الأولى : الترتيب العام ، وفيه صنفت اصطلاحات الصوفية وفق الحرف الأول إلى ثمانية وعشرين بابا ورتبت الأبواب وفق حروف أبجد هوز فى نظام الكتابة السريانى ، وقد أشار إلى هذا الترتيب فى مقدمته القصيرة لمعجمه مبينا هدفه من هذا الترتيب يقول : أما القسم الأول فمبوب تبويبا مبنيا على ترتيب حروف أبى جاد تسهيلا لمن يتفحص عنها ويتطلب واحدا واحدا منها .
الصورة الأخرى : الترتيب الداخلى للمداخل ولم يتبع عبد الرزاق الكاشانى النظام الأبجدى السريانى فى الترتيب الداخلى للمداخل فى كل باب من أبواب المعجم وإنما أخذ بالترتيب الهجائى الأبتثى لصورة الكلمة المكتوبة .
وأما لطائف الإعلام فقد أخذ فيه بالترتيب الهجائى الأبتثى لصورة الكلمة المكتوبة ، وجعل الحرف الثانى من كل كلمة على ترتيب الحروف الهجائية
ــــــــــــــــــــ
1. اصطلاحات الصوفية لابن عربى ص38 .
أيضا ، وعلل ذلك بأنه أضبط فى النظم وأظهر للفهم (1) غير أنه وإن التزم فى المداخل والأبواب العامة بالحروف الهجائية إلا أنه لم يلتزم بذلك كما قطع على نفسه فى الحرف الثانى ، فقد خرج عن هذا الترتيب فى كثير من المداخل فمثلا يقدم مصطلح الأحوال على مصطلح الاحتساب ، أو يقدم الإخلاص على الإخبات وهكذا .(5/33)
(3- الترتيب الهجائى الألفبائى المشرقى لحروف الكلمة المكتوبة عند كل من الدكتور الحنفى والدكتور حسن الشرقاوى ، فلم يكتب الدكتور الحنفى مقدمة يبين فيها خطة عمله من حيث ترتيب المداخل أو غيره ويمكن بعد قراءة المعجم أن نحدد طريقته فى الترتيب ، فمن حيث الترتيب العام ، أخذ الدكتور الحنفى فى ترتيب مداخل معجمه بطريقة الترتيب الهجائى الألفبائى فى المشرق العربى فصنف المعجم إلى أبواب أطلق على كل باب حرف ، فحرف الألف ثم حرف الباء ثم حرف التاء ، فحرف الثاء ثم حرف الجيم ، فحرف الحاء فالخاء فالدال إلى آخر حروف الهجاء ، باستثناء حرفى الهاء الياء ، فليس لهما مداخل فى المعجم ، ومعنى ذلك أن أبواب المعجم ستة وعشرون بابا أو ستة وعشرون حرفا ، أما الترتيب الداخلى للمداخل فقد راعى المؤلف فى كل حرف جميع حروف الكلمة المدخل الأول فالثانى فالثالث وما يليها .
وفى معجم الدكتور الشرقاوى لم يحدد لنا فى مقدمته التى بلغت إحدى عشرة
ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام 1/105 .(5/34)
صفحة الطريقة التى اختارها لترتيب مداخل معجمه ، ويمكننا بعد النظر فى ترتيب ألفاظ الصوفية فى المعجم الذى أخذ به المؤلف ، أن نقف على هذه الطريقة ، فمن حيث الترتيب العام صنف المؤلف ألفاظ الصوفية إلى مجموعات وفق حروف الهجاء التى تبدأ بها هذه الألفاظ ، ثم رتب هذه المجموعات وفق الترتيب الهجائى المعروف مع تجاوز الحرف الذى لم ترد ألفاظ صوفية تبدأ به مثل حرفى الثاء والضاد ، وبذلك ضم معجمه ستة وعشرين بابا ، اختص كل باب منها بحرف من حروف الهجاء الباقية ، فباب الهمزة ثم باب الباء ثم باب التاء وهكذا ، ومن حيث الترتيب الداخلى ، رتب الدكتور حسن الشرقاوى الألفاظ فى داخل كل مجموعة ، أو فى داخل كل باب ترتيبا هجائيا ألفبائيا مشرقيا أيضا ،مع الاعتداد بجميع حروفها فى الترتيب ، وبذلك يتضح أن الأساس فى الترتيب ليست المادة اللغوية ، وإنما صورة الكلمة المكتوبة ، مع ملاحظة أن باب الهمزة فى المعجم قد ضم كل ما أوله همزة أو ألف وصل كما هو عند الدكتور الحفنى ، ولا يوجد تمييز بين المجموعتين فجميع ألفاظهما تبدأ عند المؤلف بهمزة ، وهو يراعى فى الترتيب الداخلى بين الألفاظ الحرف الثانى والحرف الثالث وما بينهما أيضا ، وفى المصطلحات المركبة لم يعتد المؤلف بالجزء الآخر من التركيب عند الترتيب ، سواء أكان هذا الجزء هو الجزء الأول أم الثانى أم الثالث .(5/35)
(4- الترتيب الهجائى وفق الحروف الأصول عند الدكتورة سعاد الحكيم فى المعجم الصوفى ، حيث قامت المؤلفة بتصنيف المصطلحات الصوفية التى جمعتها من مؤلفات ابن عربى إلى مجموعات وفق الحرف الأول من حروف الهجاء للمادة اللغوية لكل منها ، إذ الاعتداد عندها فى المدخل بالحروف الأصول للمادة اللغوية ، وإن كان ترتيب المشتقات من المادة اللغوية الواحدة لا يحكمه نظام معين ، وفى الترتيب الداخلى فى المجموعة الأخيرة سارت المؤلفة وفق حروف الهجاء من حيث صورة الكلمة المكتوبة ، وبذلك تتعد طرق الترتيب الداخلى ، بحيث لا يمكن القول بأن المؤلفة قد التزمت طريقة معينة ، ومعنى ذلك أن المؤلفة وإن كانت قد أخذت فى الترتيب العام للمداخل بالمادة اللغوية وترتيب حروفها أساسا ، لم تعتمد هذا الأساس أو غيره فى الترتيب الداخلى على النحو المتكامل .
ثانيا : كثافة المداخل فى معجم المصطلح الصوفى .
بلغ عدد المصطلحات فى رسالة ابن عربى 198 مصطلحا ، شرحت معانيها باختصار شديد ، وقد رتبها كما سبق ترتيبا عشوائيا ، أما كثافة المداخل فى اصطلاحات الكاشانى ، فقد بلغ عدد المداخل فى اصطلاحات الصوفية للكاشانى وفق طبعة الدكتور عبد الخالق محمود 498 أربعمائة وثمانية وتسعين مدخلا ، وبلغت 502 مدخلين وخمسمائة مدخل وفق طبعة الدكتور كمال جعفر ، وبلغت 510 عشرا وخمسمائة مدخل وفق طبعة الدكتور عبد العال شاهين ، أما كثافة المداخل فى لطائف الإعلام فقد بلغت 1658 ألفا وستمائة وثمانية وخمسين مدخلا ، ويعتبر هذا المعجم أكثر المعاجم التى ظهرت حتى الآن من حيث عدد المداخل ، وفى معجم الدكتور الشرقاوى يقل عدد المداخل إلى الحد الملحوظ بحيث نرى أبوابا لا يرد فى كل منها سوى مدخل أو مدخلين أو ثلاثة مداخل ، وبلغت كثافته المداخل 195 مائة وخمسة وتسعين مصطلحا .(5/36)
وفى المعجم الصوفى للدكتورة سعاد الحكيم ، قامت المؤلفة بترقيم المصطلحات ترقيما متسلسلا فلكل مدخل رقمه ، ورقم المصطلح الأخير يحدد لنا عدد المداخل التى ضمها المعجم ، حيث بلغت كثافة المداخل فى معجمها 706 ستة وسبعمائة مدخل ، وجدير بالذكر أن هذا العدد يعد قليلا ولا يضم كل ما ورد عند بن عربى فى مؤلفاته من مصطلحات ، والمؤلفة لا تدعى حصرا لها وإنما تقول : ( الواقع أن عملا كهذا لا يعتبر كاملا ، وذلك نظرا لضخامة المشروع فمعجم صوفى تنتقى مفرداته من قمة تفتح التجربة الصوفية واللغة الصوفية فى إطلالتها على الفلسفة بأنواعها والفلك و.. ، يجعل عملا كهذا فى حكم المشروع الإنسانى ، يضاف إلى ذلك غزارة نتائج الشيخ الأكبر إذ أن فتوحاته تزيد على ثلاثة آلاف صفحة ) (1) .
وبذلك يعد هذا المعجم على ضخامة حجمه حيث بلغ عدد صفحاته 1312صفحة غير شامل لكل مصطلحات ابن عربى ، وإنما يضم جلها أو أهمها وفق اختيار المؤلفة ، وأكثر مصطلحاته تعبيرا عن فكره ونظرياته فى التصوف .
وفى معجم المصطلحات الصوفية الذى أعده الدكتور عبد المنعم الحفنى بلغت كثافة المداخل المعجمية ألف مصطلح تقريبا فقد بلغت مداخله 998 ثمانية وتسعين وتسعمائة مصطلحا .
ــــــــــــــــــــ
1. مقدمة المعجم الصوفى للدكتورة سعاد حكيم ص24 .
ثالثا : الأصول القرآنية والنبوية فى معجم المصطلح الصوفى .(5/37)
احتلت الشواهد من القرآن الكريم والحديث الشريف مكانة واضحة فى شرح المداخل بمعاجم المصطلح الصوفى ، وكثرت الأقوال المأثورة وبخاصة أقوال أئمة الصوفية فى شرح المداخل ، حتى كاد الدكتور الحفنى أن يجعلها أساسا للشرح فى جميع مداخل معجمه كما عنى بالنقل عن المتصوفة جميع أصحاب المعاجم الصوفية عناية ملحوظة فى شرح المداخل بمعاجمهم ، وهو أمر طبيعى فمصطلحات الصوفية لا يفهم دلالتها غير الصوفية ، فكانت شروحهم لها وتفسيراتهم ضرورية لكل من يحاول أن يجمع هذه الاصطلاحات فى معجم يعين القارئ على فهمها .
[1]- الشواهد القرآنية : تندر الشواهد القرآنية فى رسالة ابن عربى فى شروح الاصطلاحات ولا يوجد سوى ثلاثة شواهد قرآنية فى شرح ثلاثة مداخل اصطلاحية ، وليس ثمة شواهد من الحديث القدسى أو النبوى ، وقد جاء بالشواهد القرآنية الثلاثة شاهدا للمعنى دون اللفظ ، وإن كان أحدها قد تضمن لفظا ، له بأحد ألفاظ المدخل علاقة صرفية اشتقاقية ، يقول ابن عربى : ( العدل والحق مخلوق به ، عبارة عن أول موجود خلقه الله وهو قوله : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَق ِّ } [الحجر/85] ) (1) .
ــــــــــــــــــــ
1. اصطلاحات الصوفية ص139 .
وقد تضمن الشاهد القرآنى لفظ : (خلقنا) ولفظ : (بالحق) ، والأول بصيغة الماضى واللفظ الوارد بالمدخل : (المخلوق) اسم مفعول على صيغة : (مفعول) أما الثانى فقد ورد بلفظه ولكن المدخل لم يرد بلفظه فى الشاهد بنفس العلاقات بين أجزائه ، ويلاحظ أنه قد فصل بين المدخل والشاهد بشرح المدخل بمرادف تفسيرى ، ويقول فى المصطلح الثانى :(5/38)
( الحقيقة سلب آثار أوصافك عنك بأوصافه بأنه الفاعل بك فيك منك لا أنت : { مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } [هود/56] ) (1) ، فقد خلا الشاهد من لفظ المدخل ، فهو شاهد على معناه دون لفظه ، ويلاحظ أن الشاهد لم يسبق بعبارة ، قوله تعالى أو قال تعالى التى تدل على أن الشاهد قرآنى ، وقد فصل بينه وبين المدخل بشرحه بمرادف تفسيرى أيضا ، وجاء الشاهد فى نهاية الشرح ، وفى شرح المصطلح الثالث يقول : ( التلوين تنقل العبد فى أحواله وهو عند الأكثرين مقام ناقص ، وعندنا هو أكمل المقامات ، وحال العبد فيه حال قوله تعالى : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [الرحمن/29] ) (2) ، وهو شاهد على المعنى أيضا ، وقد فصل بينه وبين المدخل بشرح تفسيرى ثم جاء الشاهد القرآنى فى نهاية شرح المدخل أيضا ، وبذلك يتضح أن رتبة الشاهد القرآنى فى هذه الشروح الثلاثة تأتى بعد المدخل، ثم الشرح بمرادف تفسيرى ، ثم الشاهد القرآنى .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص140 . 2. السابق ص141 .
* وفى معجم الكاشانى تأتى الشواهد القرآنية من حيث الرتبة ، بعد شرح المدخل شرحا دلاليا بذكر مرادفه الإفرادى أو التركيبى أو التفسيرى أو بوسيلة أخرى غير الاستشهاد ، ويتمثل ذلك فى شرح عدة مداخل تختلف باختلاف الشرح الدلالى ، ففى قوله : ( الكتاب المبين : هو اللوح المحفوظ المراد بقوله تعالى : { وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [الأنعام/59] ) (1) .(5/39)
شُرح المصطلح المدخل بمرادف تركيبى مثله وهو : (اللوح المحفوظ) ، ثم جاء بالشاهد القرآنى المتضمن للفظ المصطلح ، أما فى المدخل : ( النفس الأمارة ) فيقول : ( النفس الأمارة هى التى تميل إلى الطبيعة البدنية ، وتأمر باللذات والشهوات الحسية ، وتجذب القلب إلى الجهة السفلية ، فهى مأوى الشر ومنبع الأخلاق الذميمة والأفعال السيئة ، قال الله تعالى : { إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوء } [يوسف/53] ) (2) .
فقد اتسع الشرح الدلالى فجأة فى عدة جمل متتابعة فى علاقة عطفية ، ثم انتهى الشرح بالاستشهاد بالشاهد القرآنى ، وقلما يقدم الشاهد القرآنى على شرح المدخل دلاليا كما جاء فى قوله :
( نون فى قوله تعالى : ? { ن وَالْقَلَمِ } [القلم/1] ، هو العلم الإجمالى فى الحضرة الأحدية ، والقلم حضرة التفضيل ) (3) ، ومن ذلك أيضا أن يأتى بالمدخل ثم ــــــــــــــــــــ
1. اصطلاحات الصوفية للكاشانى تحقيق الدكتور عبد العال شاهين ص88 .
2. اصطلاحات الصوفية ص115 ، ولطائف الإعلام 2/359 .
3. السابق ص118 ، ولطائف الإعلام 2/365 .
يشير إلى الشاهد دون ذكره ، ثم يشرح المعنى كما فى قوله : ( الزجاجة المشار إليها فى آية النور ، هى القلب والمصباح هو الروح ، والشجرة التى تتقد منه الزجاجة المشبهة بالكوكب الدرى ، هى النفس والمشكاة هى البدن ) (1) .
وإن كان لم يكتف فى شرح المدخل بشرح الزجاجة ، وإنما شرح ألفاظا أخرى وردت فى الآية على أنها مصطلحات صوفية أيضا .
ويستشهد الكاشانى بالشاهد القرآنى للمصطلح المدخل لفظا ومعنى أو لمعناه فحسب ، أى أن الشاهد القرآنى قد يتضمن لفظ المدخل إذا كان مفردا أو مركبا ويدل على معناه ، وقد يكون شاهدا على معنى المدخل سواء أكان مفردا دون أن يتضمن لفظه ، وفى بعض المداخل المركبة يتضمن الشاهد القرآنى لفظ أحد جزئى التركيب الاصطلاحى مثل :(5/40)
1- مداخل تتضمن شواهدها القرآنية لفظ المصطلح المدخل ، ومن أمثلتها مصطلح : (النفس المطئنة) ، قال : ( هى التى تم تنورها بنور القلب حتى اتخلعت عن صفاتها الذميمة ، وتخلقت بالأخلاق الحميدة ، وتوجهت إلى جهة القلب بالكلية ، مشايعة له فى الترقى إلى جانب عالم القدس ، متنزهة عن جانب الرجس ، مواظبة على الطاعات ، مساكنة إلى حضرة رفيع الدرجات ، حتى خطابها ربها بقوله :
{ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص80 ، ولطائف الإعلام 1/507 .
عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي } [الفجر/ 30:27] ) (1) ومن الواضح أن مصطلح (النفس المطمئنة) قد ورد بلفظه فى الشاهد القرآنى كما تضمن الشاهد معنى المدخل أيضا .
2- مداخل شواهدها القرآنية للمعنى ولا تتضمن لفظها ، ومن ذلك مصطلح المكانة يقول : ( وهى المنزلة التى هى أرفع المنازل عند الله تعالى وقد يطلق عليها المكان ، وهو المشار إليه بقوله تعالى : { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } [القمر/55] ) (2) ومن الواضح أن لفظ : (المكانة) لم يرد فى نص الشاهد القرآنى وإنما ورد معناه المتضمن مرادفه .(5/41)
3- مداخل مركبة الشواهد القرآنية للجزء الثانى منها ، ومن أمثلتها قوله : ( عبد المجيب هو الذى أجاب دعوة الحق وأجابه وأطاعه حين يسمع قوله : { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ } [الأحقاف/31] ، وأجاب الله تعالى دعوته حتى تجلى له باسمه المجيب ، فيجيب كل من دعاه من عباده إلى حاجته ، لأنه من جملة الاستجابة التى أوجبه عليه لإجابته تعالى له ، فى قوله : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي } [البقرة/186] لأنه يرى دعائهم دعائه بحكم القرب ، والتوحيد اللازم للإيمان الشهودى فى قوله : { وَلْيُؤْمِنُوا بِي } [البقرة/186] ) (3) فالجزء الأول
ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص 116 ، ولطائف الإعلام حـ2ص360 .
2. السابق ص108 ، ولطائف الإعلام 2/333 .
3. السابق ص 136، ولطائف الإعلام 2/127 .
من : (عبد المجيب) ،لم يرد فى الشاهد ، وإنما ورد بالشاهد لفظ من مادة الجزء الثانى ، ومن الواضح أن صيغة الجزء الثانى من المدخل المركب فى : ( عبد المجيب ) تخلفت عن صيغة اللفظ الوارد بالشاهد القرآنى : ( أجيبوا أجيب – فليستجيبوا ) ، وثمة أمر تجدر الإشارة إليه ، وهو أن الشاهد القرآنى فى معجم الكاشانى لم يأت فى نهاية شرح المدخل فى جميع حالاته وإنما اكتنفه الشرح الدلالى فى بعض الأحيان ، بحيث توسط الشاهد بين أجزء الشرح أو ايضاح المدخل .(5/42)
* وأما الشواهد القرآنية فى معجم الدكتور الحفنى ، فقد بلغ خمسة وأربعين شاهدا ، استعان المؤلف بها وحدها فى شرح خمسة وثلاثين مدخلا ، وتعدد الشاهد القرآنى فى خمسة مداخل منها ، وجاء وحده فى ثلاثين مدخلا وقد أخذ الشاهد القرآنى فى شرح المداخل عند الحفنى اتجاهين من حيث الرتبة ، فإما يأتى المدخل ، ثم الشرح بمرادف تفسيرى ، ثم يأتى الشاهد القرآنى ، كما ورد فى مصطلح : (الاصطفاء ) قال : ( الاصطفاء أن يجعل الله تعالى قلب العبد فارغا لمعرفته ،حتى تبسط معرفته الصفاء فى قلبه ، وتتساوى فى هذه الدرجة خواص المؤمنين وعامتهم من عاص ومطيع وولى ونبى لقوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } [فاطر/32] ) (1) .
ـــــــــــــــــــ
1. معجم مصطلحات الصوفية للدكتور عبد المنعم حنفى ص 17 .
ومن الواضح أن الشاهد القرآنى جاء فى نهاية شرح المدخل ، وأن الشرح قد بدأ بمرادف تفسيرى من عدة جمل ، وجاء الشاهد شاهدا على اللفظ والمعنى جميعا ، وإما أن يأتى الشرح بمرادف تركيبى ثم يأتى بعده الشاهد (1) .
وقد يتسع شرح المدخل فيتجاوز الإطار المعجمى إلى الإطار الموسوعى المقالى وينتهى بالشاهد القرآنى (2) ، لكن الشاهد القرآنى فى معجم الحفنى لا يتقدم شرح المدخل ، سواء أكان فى نهاية الشرح أم كان متوسطا بين الشرح ، كما أن الجزء الثانى من الشرح ، قد يختلف فى علاقته بالجزء الأول بين أن يكون رأيا جديدا منقولا عن أحد الأئمة أو الصحابة ، أو أن يكون تكملة للجزء الأول من الشرح أو يكون تعليقا على الشاهد القرآنى .(5/43)
* الشواهد القرآنية فى المعجم الصوفي : كان للطريقة التى حددتها الدكتورة سعاد الحكيم لشرح المداخل فى معجمها ، أثر كبير فى نمطية الاستعانة بالشاهد القرآنى فى شرح المصطلح الصوفى عند ابن عربى على وجه الخصوص ، فلقد تضمن المعجم معجما للألفاظ القرآنية التى استخدمها الصوفية استخداما خاص بهم ، وبخاصة ما ورد من هذه الألفاظ من مؤلفات ابن عربى ، أما ما لم يرد من هذه الاصطلاحات فى القرآن الكريم ، فقد أشارت إليه أحيانا بتعبير : ( المفرد غير وارد فى القرآن ) ، وبذلك يمكن تقسيم مداخل المعجم إلى قسمين :
الأول : ألفاظ وردت فى القرآن الكريم ، وقد بلغ عدد ألفاظ هذا القسم مائة ـــــــــــــــــــ
1. السابق ص34 ، ص213 .
2. السابق ص68 .
وخمسة وسبعين لفظا (175) وتعددت معها الشواهد القرآنية وفقا لتنوع كل لفظ منها فى القرآن الكريم (1) .
الثانى : ألفاظ غير واردة فى القرآن الكريم ، وبلغت ألفاظ القسم الثانى خمسمائة وواحدا وثلاثين لفظا (531) ، جاء منها اثنان وعشرون لفظا ، أورت المؤلفة نصا على عدم ورود كل منها فى القرآن الكريم بتعبير : ( المفرد غير وارد فى القرآن ) أو ( غير قرآنية ) أو ( لم يرد المفرد فى القرآن ) ، إلى غير ذلك من التعبيرات (2) .(5/44)
وقد أخذ الشاهد القرآنى من حيث الرتبة مكانا معينا لم يتغير بالنسبة للمدخل والشرح عند ابن عربى ، فقد توسط بين شرح المعنى اللغوى وبين شرح المعنى عند ابن عربى وهى رتبة طبيعية ، اختارتها له المؤلفة منذ بداية المعجم ، أو منذ شرعت تقدم لمعجمها ، والتزمت باختيارها لذلك إلى حد ملحوظ ، كما أنه من الواضح أن المؤلفة تعنى بعدد مرات ورود الشاهد فى القرآن الكريم ، كما عنيت بالتعليق على الشاهد القرآنى فى كثير من الأحيان ، وتوثيقه بذكر السورة ورقم الآية ، وربما يأتى التعليق متقدما فى بعض المداخل على الشواهد وهى تبرز فى عمومها الصلة الوثيقة بين المعنى الصوفى والمعنى القرآنى ، وهو أمر يشير إلى مدى اهتمام المؤلفة وعنايتها بالشاهد القرآنى فى شرح مصطلاحات ابن عربى على وجه الخصوص .
ــــــــــــــــــــ
1. انظر على سبيل المثال مصطلح (الأمانة) فى المعجم الصوفى ص131 .
2. انظر على سبيل المثال مصطلح (العماء) فى المرجع السابق ص820 .
* الشواهد القرآنية فى معجم الدكتور الشرقاوى :
اختلفت طريقة الاستعانة بالشواهد القرآنية فى المعجم اختلافا ملحوظا ، ففى رتبة الشاهد فى المداخل التى عنى فيها المؤلف بشرح المعنى اللغوى يقدم الشرح اللغوى ، ثم يورد بعد ذلك الشاهد القرآنى ، وبعد ذلك يذكر المعنى الصوفى كما فى مصطلح (البرزخ) ، وقد يستشهد بشاهدين من القرآن الكريم ، ثم يعلق بشرح الشاهد ، ويكون الشاهد القرآنى متوسطا بين ذكر المعنى اللغوى وبين ذكر المعنى الصوفى أيضا كما فى مصطلح ( الأثر ) (1) .(5/45)
وقد يقدم الشاهد القرآني مشيرا إلى أن المصطلح الصوفى مستمد منه ، ثم يذكر المعنى اللغوى ثم المعنى الصوفى (2) ، وإذا كان المصطلح متعدد الدلالة تتعدد الشواهد القرآنية وفقا لهذا التعدد فى المعنى ففى مصطلح : (الإحسان) ، جاء المؤلف بعشرة معان فأورد عشرة شواهد ، لكل معنى شاهد من القرآن الكريم يقدم المعنى ثم يعقبه بالشاهد (3) ، وقد تنتشر الشواهد فى أثناء الشرح تبعا لذكر الملامح المختلفة للمعنى كما فعل فى مصطلح : (الرؤيا) (4) ، وغالبا ما كانت العلاقة الصرفية بين صيغة المصطلح المدخل وصيغة اللفظ الوارد بالشاهد القرآنى متوافقة فى أغلب الشواهد .
ــــــــــــــــــــ
1. معجم ألفاظ الصوفية للدكتور حسن الشرقاوى ص71 .
2. السابق ص27 .
3. السابق ص105 .
4. السابق ص28 .
ومما يجد التنبيه إليه أن كل المعاجم السابقة خلت فى الغالب من ضوابط اعتبار الأصول القرآنية للمصطلحات ، فالكل يورد الشاهد على أنه أصل قرآنى للاصطلاح ، دون نقد أو تعليق يبين السبب فى ذلك ، وعلى أى منهج اعتبر الشاهد صالحا للاحتجاج ، سواء هو الذى استشهد للمصطلح ، أو نقله عن غيره من أعلام الصوفية ولعل ذلك يرجع إلى اهتمامهم بالعملية المعجمية فى المقام الأول ، فما يعنيهم هو حصر ألفاظ الصوفية والاستدلال لها بغض النظر عن كون ذلك مقبولا أو غير مقبول .
ثانيا : الشواهد الحديثية .
* الشواهد الحديثية عند الكاشانى : لا تختلف طريقة الكاشانى فى استخدام شواهد الحديث النبوى عن طريقته فى استخدام الشواهد القرآنية أو شواهد الحديث القدسى ، فهو يأتى بشاهد الحديث النبوى بعد شرح المدخل دلاليا فى بعض المداخل ، وفى بعض ثان يتسع الشرح ليشمل الشاهد ، كما أن بعض الشواهد تتضمن المدخل لفظا ومعنى ، فتتشابه الصيغة الصرفية للفظ المدخل واللفظ الوارد بالشاهد وقد تختلف .(5/46)
فمثلا فى مصطلح : (القدم) يأتى المصطلح المدخل ، ثم الشرح الدلالى ، ثم الشاهد من الحديث النبوى ، يقول الكاشانى (1) : ( القدم هى السابقة التى حكم الحق بها للعبد أزلا ويخص بما يكمل ويتم به الاستعداد من الموهبة الأخيرة ــــــــــــــــــــ
1. معجم اصطلاحات الصوفية ص160، لطائف الإعلام 2/228 .
بالنسبة إلى العبد لقوله عليه السلام : " لا يزال جهنم تقول : هل من مزيد ؟ حتى يضع الجبار فيها قدمه فيقول قطنى قطنى " (1) ، وقد جاء الحديث شاهدا على لفظ المدخل دون معناه ، وقد يستشهد الكاشانى بشاهدين من الحديث النبوى ، ويأخذان نفس الموضع من الترتيب أيضا ، كما فى مصطلح ( صبيح الوجه ) (2) ، فقد استشهد فيه بحديثين جاء أحدهما شاهدا على لفظ المدخل ومعناه ، وجاء الآخر ويشاركه قول الصحابي شاهدا على المعنى دون اللفظ .
* الشواهد الحديثية فى معجم الحفنى : بلغ عدد شواهد الحديث النبوى أربعين حديثا ، فى حين قل عدد شواهد الحديث القدسى إلى حد ملحوظ إذا ما قورن بعدد شواهد الحديث النبوى ، فقد بلغ ثلاثة أحاديث فقط ، وجاء حديث قدسى واحدا شاهد فى شرح أحد المداخل فى المعجم تقدم عليه الشرح بمرادف تفسيرى وفصل بينه وبين المدخل (3) .
ومن الواضح أن المؤلف قد استخدم عبارة : (قوله تعالى) ، وهى العبارة التى يستخدمها فى كثير من الشواهد القرآنية ، مما يجعل القارئ قد يخلط بين النص القرآنى ونص الحديث القدسى ، فلم يقل : وفى الحديث القدسى أو قال رسول
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تزال جهنم تقول : هل من مزيد ؟ حتى يضع فيها رب العزة تبارك وتعالى قدمه ، فتقول : قط قط وعزتك ويزوى بعضها إلى بعض " انظر صحيح مسلم حديث رقم (2848) 4/2187 .
2. معجم اصطلاحات الصوفية ص155 ، لطائف الإعلام 2/52 .
3. معجم مصطلحات الصوفية للدكتور عبد المنعم حنفى ص 130 .(5/47)
الله عن رب العزة ، أو غير ذلك من التعبيرات التى اعتاد الدارسون استخدامها عند الاستشهاد بحديث قدسى ، ويتضح من شرح المدخل أن الحديث القدسى لم يتضمن لفظ المدخل ، وإنما جاء شاهدا على معنى المدخل دون لفظه ، كما أورده المؤلف فى نهاية الشرح دون أن يعلق عليه ، وفى الشاهدين اللذين أوردهما المؤلف من الأحاديث القدسية مع نوعين آخرين من الشواهد استخدم عبارة : (قوله تعالى) أيضا ، وهى عبارة متلابسة وبخاصة عند اجتماع شاهدين أحدهما قرآنى والآخر حديث قدسى (1) .
أما شواهد الحديث النبوى فقد جاء منها ثلاثة وثلاثون حديثا ، كل منها فى شرح المدخل المعجمى ، وتعدد الشاهد الحديثى فى شرح مدخلين ، وجاء مع غيره فى خمسة مداخل ، وقد أخذ الشاهد الحديثي ثلاث رتب بالنسبة للمدخل والشرح :
أن يأتى الشاهد الحديثي بعد المدخل وقبل الشرح .
أن يأتى المدخل ثم الشرح ثم الحديث .
أن يأتى الشرح شاملا للشاهد بعد المدخل المعجمى بحيث يتقدمه جزء من الشرح ويتأخر عنه جزء آخر .
* الشواهد الحديثية فى المعجم الصوفى : عنى ابن عربى بالأحاديث الشريفة فى استقصاء مصطلحاته منها ، أو فى تأويل معانيها لتساير المعنى الصوفى الغامض ـــــــــــــــــــ
1. السابق ص199 .
بالرمز والإشارة ، وكان أمرا طبيعيا أن ترد بالمعجم الصوفى شواهد من الحديث الشريف ، فالمؤلفة تنقل نصوص ابن عربى فى شرح كل مصطلح من المصطلحات فى المعجم ، وكثير من هذه النصوص يتضمن شواهد من الحديث الشريف ، ولذلك تعد نصوص ابن عربى المكان الواضح والرتبة البارزة للشاهد الحديثى ، فمثلا فى مصطلح : (جنة ميراث) تنقل المؤلفة فى شرحه نصا من عوارف المعارف يبدأ بحديث شريف ، قالت :
( جنة ميراث قال - صلى الله عليه وسلم - : " إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع .. الحديث " ) (1) .(5/48)
ثم تشرح المؤلفة معنى المصطلح بإيجاز ، وتنقل نصوصا من فتوحات ابن عربى وهى تعتمد فى عدم إيراد المعنى فى اللغة أو المعنى فى القرآن على ذكر ذلك فى المدخل الرئيسى ، وقد تذكر المؤلفة الشاهد الحديثى تحت عنوان : (فى القرآن) فى شرح المدخل وهو أمر نادر كما حدث فى شرح : (ترجمان) فقد ذكرت المؤلفة المعنى فى اللغة ثم قالت : ( فى القرآن كلمة ترجمان ليست قرآنية ولكنها وردت فى الحديث الشريف بالمعنى اللغوى السابق : ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ) (2) ، ثم ذكرت بعد ذلك المعنى عند ابن عربى وكأن المؤلفة كانت تفكر فى أن تجعل للحديث رتبة بارزة بعد القرآن فى شرح المداخل فى معجمها ، ولكن السمة البارزة فى جميع المصطلحات ، هى ورود ــــــــــــــــــــ
1. المعجم الصوفى ص281 .
2. السابق ص237 .
الشواهد الحديثية فى أثناء شرح المعنى عند ابن عربى وبخاصة بين جنبات نصوصه السياقية .
* الشواهد الحديثية فى معجم الشرقاوى : اشتمل معجم الدكتور الشرقاوى على واحد وعشرين شاهدا من الحديث النبوى ، وأربعة شواهد من الحديث القدسى ، وفيما يلى محاولة لتوضيح أهم ملامح كيفية الاستعانة بهذا النوع من الشواهد فى شرح مداخل المعجم :
1- فقد يتوسط الشاهد من الحديث النبوى الشريف بين ذكر المعنى اللغوى وشرح الدلالة الصوفية كما فى مصطلح ( الغين ) (1) .
2- وقد يبدأ الشرح بذكر المعنى عند الصوفية ثم يأتى بالشاهد من الحديث النبوى الشريف كما جاء فى شرح مصطلح ( الإيمان ) (2) .
3- وعندما يجتمع الشاهد القرآنى والشاهد الحديثى ، يقدم الشاهد أو الشواهد القرآنية ثم يعلق عليها وبعد ذلك يأتى بالشاهد من الحديث النبوى الشريف كما حدث فى شرح مدخل (الابتلاء) (3) .
4- وقد يقدم الشاهد من الحديث النبوى على الشاهد القرآنى كما حدث فى شرحه لمصطلح (الدعاء) (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. معجم ألفاظ الصوفية للدكتور حسن الشرقاوى ص221 .(5/49)
2. السابق ص63.
3. السابق ص20.
4. السابق ص138 .
4- أما الحديث القدسى ، فقد ورد شاهدا مقترنا بالقرآن الكريم ، ففى مدخل (الجوع) ،جاء المعنى اللغوى : ثم الشاهد القرآنى ، ثم الحديث القدسى وفى مصطلح (الذكر) ، فصل بين الشواهد القرآنية وشاهد الحديث القدسى فبدأ بالشرح اللغوى ، ثم بذكر المعنى الصوفى ثم أتى بشواهد قرآنية ، ثم آراء لبعض الصوفية ثم جاء الحديث القدسى (1) .
ومما يجدر التنبيه إليه أن كل المعاجم السابقة كما خلت فى الغالب من ضوابط اعتبارية للاحتجاج بالأصول القرآنية ـ فالكل يورد الشاهد على أنه أصل قرآنى للاصطلاح كأمر مسلم به دون نقد أو تعليق يبين السبب فى ذلك وعلى أى منهج اعتبر الشاهد صالحا للاحتجاج ـ كذلك سار الأمر فى الشواهد الحديثية ، هذا فضلا عن خلوها من التحقيق العلمى لدرجة الحديث من حيث الثبوت أو عدمه ، فأغلبهم يشير إلى تخريج الحديث من مصدره بغض النظر عن صلاحيته للاحتجاج أو يعزوه إلى مصدر آخر نقله عنه .
ــــــــــــــــــــ
السابق ص111 .(5/50)
مراحل التصوف وأثرها على التغير الدلالى
للمصطلح الصوفى وأصوله القرآنية
منذ مطلع القرن التاسع عشر إلى اليوم وآراء المستشرقين الذين عنوا بدراسة التصوف الإسلامى مختلفة فى مسألة المصدر الذى يمكن أن يرد إليه التصوف وقد كان أوائل المستشرقين أميل إلى رد التصوف إلى مصدر واحد وهو المصدر الأجنبى (1) .
ويعلل أستاذنا الدكتور محمد عبد الله الشرقاوى هذا التوجه ، بأن الباحثين الغربيين قد ولجوا إلى معرفة التصوف الإسلامى من خلال دراساتهم للشعر الفارسى المتأخر ، وقد طبعت هذه المعرفة - الناقصة المحدودة التى اعتمدت على وثائق متأخرة ذات طابع خاص - على دراساتهم الأولى ذلك التوجه ، فكانت بحوثهم فجة فى جانب كبير منها ، جدلية فى جوانب أخرى ، كما أن الدوافع التى أملتها طبيعة العلاقة بين الغرب والشرق فى فترة دراستهم للتصوف تركت أثرا كبيرا على أسلوب هذه البحوث ومعطياتها ، هذا بالإضافة إلى قلة البضاعة عند المستشرقين فى معرفتهم بالإسلام ، فقد كانت دراساتهم أسيرة فى إطار ــــــــــــــــــــ
1. مدخل إلى التصوف الإسلامى ، تأليف الدكتور أبو الوفا التفتازانى ، طبعة دار الثقافة ص25 بتصرف .
الصورة التى رسمت للإسلام فى العصور الوسطى ، وهى صورة كالحة السواد وضاربة فى البشاعة (1) .
وقد تنوعت آراء المستشرقين القدامى فى رد التصوف إلى أصول أجنبية ، فمن قائل إنه مأخوذ من أصل مجوسى فارسى وحجته فى ذلك أن التصوف جاء إلى المسلمين من فارس ، حيث كان موجودا قبل الإسلام ، وأنه جاء إلى فارس من الهند فقد ظهرت على حد زعمه فى فارس منذ أحقاب بعيدة فكرة صدور كل شئ عن الله والقول بأن العالم لا وجود له فى ذاته ، وأن الموجود الحقيقى هو الله ، وكل هذه المعانى يفيض بها التصوف الإسلامى (2) .
وتعقبه المستشرق آربرى هذا الرأى بأن المادة الأساسية التى اعتمد عليها ــــــــــــــــــــ(6/1)
1. الاتجاهات الحديثة فى دراسة التصوف الإسلامى ، لأستاذنا الدكتور محمد عبد الله الشرقاوى ، طبعة دار الفكر العربى ، القاهرة سنة 1993م ، ص 7 ، 22 بتصرف وانظر أيضا : الاستشراق دراسات تحليلية تقويمية ، للدكتور محمد عبد الله الشرقاوى طبعة دار الفكر العربى ?القاهرة سنة 1992م .
- ? - - صلى الله عليه وسلم - تمت - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنهم -? - ? - فهرس ?- سبحانه وتعالى - فهرس - رضي الله عنه -- صلى الله عليه وسلم - - - - عليه السلام -- رضي الله عنه - } - فهرس ??- رضي الله عنه - - ??- رضي الله عنه - - - صلى الله عليه وسلم -?? - } - - رضي الله عنه -- صلى الله عليه وسلم - - - صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنهم -?? - - ?? - - عليه السلام - - } - مقدمة ?? - ?? بسم الله الرحمن الرحيم - - - - صلى الله عليه وسلم - - ? - ? - - - - ? { - - -
- ? الله أكبر - صدق الله العظيم - ? - - - عليه السلام -- رضي الله عنه - - - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - فهرس ? - ? الله - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - فهرس ? - } - صلى الله عليه وسلم - صدق الله العظيم - ? - - ?- سبحانه وتعالى - - - - مقدمة ? } فهرس ?- رضي الله عنه - - - صلى الله عليه وسلم -? تمهيد } - - - - صلى الله عليه وسلم -? - - - صلى الله عليه وسلم - - ? - ? - - - صلى الله عليه وسلم - - - - صلى الله عليه وسلم - -
??? - - مقدمة تمت - صلى الله عليه وسلم - } - - - صلى الله عليه وسلم -? - ? - - تمهيد - ? -(6/2)
- المحتويات - - صلى الله عليه وسلم - مقدمة - فهرس ? - - فهرس } - صلى الله عليه وسلم - - ? - ?- سبحانه وتعالى - - - - مقدمة ? - فهرس - ?- رضي الله عنه - - - صلى الله عليه وسلم -? صدق الله العظيم - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه -? - ? - - فهرس - - فهرس ? - ? - - تمهيد - ? - - فهرس - - فهرس ? - ? - - - - ? -
- ? - فهرس ? - - - - - عليه السلام - فهرس - رضي الله عنه -?? - - ??- رضي الله عنه - - - صلى الله عليه وسلم -? الله أكبر } - - صلى الله عليه وسلم -? - فهرس - ? بسم الله الرحمن الرحيم - صلى الله عليه وسلم - - - - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - ? - - ? مقدمة - - - مقدمة - صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنه - - ? فهرس } - مقدمة ? - ? تم بحمد الله - رضي الله عنهم -? - - صلى الله عليه وسلم -? - ? - - صلى الله عليه وسلم - فهرس - صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنهم -
??? - - رضي الله عنه -- عليه السلام - تمت تمت - - صلى الله عليه وسلم -? - ? - - - - - صلى الله عليه وسلم -? - ? - - - - - ?
2. فى التصوف الإسلامى وتاريخه نيكلسون ، ترجمة أبى العلا عفيفى مقدمة الترجمة ص3 وانظر أيضا : - - - - رضي الله عنهم -? - ? الله - - - } ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -? - - ? - } - - رضي الله عنه - - } - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -? - - صلى الله عليه وسلم -? - - ?- سبحانه وتعالى - - - - مقدمة } - مقدمة - صلى الله عليه وسلم -? - -
صاحبه كانت مستقاه من المصادر الفارسية رأسا (1) .
وهناك من رد التصوف إلى أصول يونانية ، كما قال المستشرق نيكلسون :
( إن التصوف الفلسفى الإلهى أثر من آثار النظر اليونانى ، ولا مناص من الاعتراف بما فى التصوف من امتزاج الفكر اليونانى والدين الشرقى ، لاسيما الأفلاطونية المحدثة والمانوية والغنوصية ) (2).(6/3)
وربما نسب بعضهم التصوف إلى أصول مسيحية بحجة التشابه فى بعض المظاهر ، مثل استعمال الخرقة فى مقابل ما يستعمله رهبان النصارى من ثوب على الكتفين ، وكذا استعمال الصوف واتخاذه شعارا للتصوف ، والتشابه فى بعض الأفكار والموضوعات ، مثل محاسبة النفس واختلاط المسلمين بالنصارى العرب فى مناطق عديدة قبل الإسلام فى الحيرة والكوفة ودمشق ونجران وبعد الإسلام فى مناطق عديدة ، وما يرويه الصوفية الأوائل من أقوال ينسبونها إلى المسيح عليه السلام (3).
وهناك آخرون زعموا أن التصوف مصدره هندى بحجة أن التصوف ظهر ــــــــــــــــــــ
1. الاتجاهات الحديثة فى دراسة التصوف الإسلامى ص52 ، وانظر أيضا :
- ? - - صلى الله عليه وسلم - تمت - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنهم -? - ? - فهرس ?- سبحانه وتعالى - فهرس - رضي الله عنه -- صلى الله عليه وسلم - - - - عليه السلام -- رضي الله عنه - } - فهرس ?- رضي الله عنه - - ?- رضي الله عنه - - - صلى الله عليه وسلم -? - } - - رضي الله عنه -- صلى الله عليه وسلم - - - صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنهم -?? - - ?? - - عليه السلام - - } - مقدمة ?? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - - - - صلى الله عليه وسلم - - ? - ? - - - - ? - ? { - - ? - ?
2. انظر الصوفية فى الإسلام رينولد نيكلسون ، ترجمة نور الدين شريبة ، القاهرة 1947م ص15 وما بعدها .
3. الاتجاهات الحديثة فى دراسة التصوف الإسلامى ص73 وانظر أيضا : تاريخ التصوف الإسلامى للدكتور عبد الرحمن بدوى ص33،34 .(6/4)
أولا فى خرسان ، فكانت تركستان مركز تلاقى الديانات والثقافات الشرقية والغربية ، فلما دخل أهلها فى الإسلام صبغوه بصبغتهم الصوفية القديمة وأن المسلمين أنفسهم يعترفون بوجود ذلك الأثر الهندى (1) ، وأن الزهد الإسلامى الأول هندى فى نزعته وأساليبه ، فالرضا فكرة هندية الأصل واستعمال المخلاة والسبح عادات هندية ، يضاف إلى ما تقدم التشابه بين عقائد الهنود فى وحدة الوجود والفناء وعقائد متفلسفة الصوفية فيهما (2).
كل هذه الآراء تركت ردود أفعال واسعة النطاق فى الشرق الإسلامى فتعقبها الباحثون يمحصون ويدققون ، وقد وصلوا فى دراساتهم ، إلى أن أوائل المستشرقين ظالمون فى نسبة التصوف إلى مصادر أجنبية كقول واحد دون تمييز ، فعلى الأقل قد يكون التصوف فى مرحلته الأقرب إلى السنة أو مرحلته الفلسفية تشابه فى أجزاء من التجربة الروحية ، أو فى بعض الوجوه الشكلية أو الأفكار الفلسفية مع ما يماثلها فى الحضارات المختلفة ، إلا أن ذلك لا يعنى دائما وأبدا أخذه كلية عن المصادر الأجنبية ، فالنفوس البشرية واحدة فى تركيبها الروحانى ، وهى بين نازعين نفسيين متقابلين ومتضادين أحدهما يدعو النفس إلى فعل الخيرات ، والثانى يجرها إلى التمرد واتباع الهوى حتى تتهاوى فى ــــــــــــــــــــ
1. إشارة إلى ما عقده البيرونى فى كتابه ، تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة فى العقل أو مزدولة من مقارنات بين عقائد الهنود وعقائد صوفية الإسلام .
2. مدخل إلى التصوف الإسلامى ، تأليف الدكتور أبو الوفا التفتازانى ص31 بتصرف .
المهلكات ، والشعور الوجدانى قائم أيضا فى جميع الأنفس على اختلاف النحل والديانات ، وما تصل إليه نفس بشرية بطريق المجاهدات والرياضات الروحية قد تصل إليه أخرى دون اتصال (1) .(6/5)
ومن ثم لم يعد القول القديم بأن أصول التصوف أجنبية قولا مقبولا فى الأوساط الإسلامية فضلا عن المستشرقين أنفسهم ، فقد تراجع المستشرق الانجليزى رينولد نيكلسون عن هذا الرأي فى كتابه ( الله أكبر - - صلى الله عليه وسلم -? تمهيد - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - } - - ? - - ?- سبحانه وتعالى - - - - مقدمة ? ) فقال : ( برهن البحث الحديث على أن أصل الصوفية لا يمكن أن يرد إلى سبب واحد محدود ، ومن هنا لم يرتض باحث مصنف هذه التعميمات الجارفة من أمثال أنها رد فعل العقل الآرى تجاه الدين السامى الفاتح ، أو أنها ليست إلا نتاجا خالصا للفكر الفارسى أو الهندى ) (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص34 ، وانظر أيضا للمقارنة : الحياه الروحية فى الإسلام ص64 وما بعدها وتاريخ التصوف فى الإسلام للدكتور قاسم غنى ، ترجمة صادق نشأت ، طبعة مكتبة النهضة المصربية ، القاهرة سنة 1970م ، 1/14 وما بعدها ، وفصول فى التصوف لأستاذنا الدكتور حسن الشافعى ص64 ، والتصوف إيجابياته وسلبياته للدكتور أحمد محمود صبحى ، طبعة دار المعارف سنة1984م ص19 وما بعدها ، ودراسة فى التصوف الإسلامى الفلسفى تأليف الدكتور السيد محمد عقيل بن على المهدى ، طبعة دار الحديث ، القاهرة سنة 1993م ص15 ، 16 .
2. الصوفية فى الإسلام رينولد نيكلسون ص11 وما بعدها .
ويقول المستشرق أربرى :
( يجب أن يكون مفهوما بوضوح أن بناء تاريخ التصوف الإسلامى يظل أمرا مقلقا ، وتلك التعميمات التى تطلق على التصوف الإسلامى فى الغرب أمر لا قيمة له ومن ناحيتى أود أن أطلب هدنة لمدة جيل على الأقل نتوقف خلالها عن مثل هذه الافتراضات ونستجمع كل ما لدينا من قوة على المهمة التى نحن بصددها ، وهى العمل بواسطة المتخصصين على وصف وتحليل المذهب الصوفى وتطبيقه على أساس من المصادر الإسلامية وحدها ) (1) .(6/6)
وقد كان رد الفعل الاستشراقى المعاصر للاتجاهات القديمة – بعد ظهور المصادر الصوفية إلى النور بغزارة وتحقيق كتب التراث وانتشارها - معاكسا لما سبق ، إذ صرح كبار المستشرقين وعلى رأسهم رينولد نيكلسون بأن مصدر التصوف إسلامى فقال : ( لقد وجد التصوف فى حقيقة الأمر جذوره فى الكتاب والسنة ، مثله فى ذلك مثل كل حركة دينية فى الإسلام .. ومهما يكن من أمر فإن هناك أمورا كثيرة فى القرآن تشكل أساسا حقيقيا للتصوف ) (2) .
وقد لاقى هذا الرأى قبولا واسعا فى الأوساط الإسلامية الحديثة وخصوصا
رأى رائد المدرسة الفرنسية فى دراسة التصوف الإسلامى لويس ما سينيون ، إذ اعتبروه صاحب النظرة العلمية المنصفة ، الذى اتخذ لإثبات نظريته فى مصدر ـــــــــــــــــــ
- - ? - - صلى الله عليه وسلم - تمت - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنهم -? - ? - فهرس ?- سبحانه وتعالى - فهرس - رضي الله عنه -- صلى الله عليه وسلم - - - - عليه السلام -- رضي الله عنه - } - فهرس ??- رضي الله عنه - - ??- رضي الله عنه - - - صلى الله عليه وسلم -?? - } - - رضي الله عنه -- صلى الله عليه وسلم - - - صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنهم -?? - - ?? - - عليه السلام - - } - مقدمة ?? - { - تمهيد ? -
- - ?? المحتويات } - - - - - - فهرس ? - ? الله أكبر - - صلى الله عليه وسلم -?- سبحانه وتعالى - - - صلى الله عليه وسلم - - ?? - - ?? بسم الله الرحمن الرحيم - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - - } - رضي الله عنه -- رضي الله عنهم -? } فهرس ? - - عليه السلام - - } - مقدمة ? - ? { ? - ? -(6/7)
التصوف منهجا علميا دقيقا ، يتمثل فى بحث مصطلحات الصوفية وإرجاعها إلى مصادرها الأولى ، مظهرا بذلك العوامل التى ساعدت على نشأة التصوف فى الإسلام وكان لها تأثير فى تكوينه وتطوره ، وقد كتب فى ذلك كتابه ( بحث فى أصول المصطلح الفنى للتصوف الإسلامى ) ، وانتهى من بحثه هذا إلى أن مصادر المصطلحات الصوفية أربعة هى :
1- القرآن وهو أهمها .
2- العلوم العربية الإسلامية كالحديث والفقه والنحو وغيرها .
3- مصطلحات المتكلمين الأوائل .
4- اللغة العلمية التى تكونت فى الشرق فى القرون الستة الميلادية الأولى من لغات أخرى كاليونانية والفارسية وغيرها وأصبحت لغة العلم والفلسفة (1) .
ويذكر الدكتور عبد الرحمن بدوى أن هذا الكتاب لماسينيون ، هو رسالته الثانية للدكتوراه استعرض فيها نشأة التصوف الإسلامى منذ عهد الرسول حتى الحلاج ، ودرس المصطلحات الصوفية الكبرى التى ظهرت فى تلك الفترة وأدلى برأيه السديد الأصيل ، وهو أن التصوف الإسلامى نشأ عن أصول إسلامية ــــــــــــــــــــ
? - - ?? تمهيد - - - } - فهرس - فهرس ?? - ? - - - عليه السلام - } - ?? - ? الله - - - } ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -? - - صلى الله عليه وسلم - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - صلى الله عليه وسلم - } - } فهرس - صلى الله عليه وسلم - - - - صلى الله عليه وسلم -?? - - صلى الله عليه وسلم - - } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - فهرس } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? - - صلى الله عليه وسلم -??(6/8)
??????? - - ?? تمهيد - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? تمهيد - عليه السلام - - - عليه السلام - - مقدمة - فهرس - صلى الله عليه وسلم -? - ???? - ? - ? - - صلى الله عليه وسلم - } فهرس ? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - - صلى الله عليه وسلم - } - ? - ? - - تمهيد - ?.? { - - - ? - ??
وانظر أيضا : مدخل إلى التصوف الإسلامى للتفتازانى ، ص36 ، والاتجاهات الحديثة فى دراسة التصوف الإسلامى ص168 ، 169 .
خالصة ، مستمدة من القرآن الكريم وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وحياته وحياة
أصحابه - رضي الله عنهم - ذوى النزعات الزاهدة ، وبهذا دفع فى صدر تلك الآراء المغالية الواهية التى انتشرت فى أواخر القرن الماضى وأوائل هذا القرن نتيجة للمنهج الهزيل الذى اتبع منهج الأشباه والنظائر الواهية الظاهرية للتدليل على التأثير والتأثر ، ولهذا اعتبر الدكتور عبد الرحمن بدوى أن للأستاذ ماسنيون الفضل العظيم فى تفسير نشأة التصوف الإسلام ونموه ، على الأقل فى القرون الثلاثة الأولى تفسيرا مستمدا من أصول إسلامية خالصة ، ومن الكتاب والسنة على وجه الخصوص (1) .
ــــــــــــــــــــ(6/9)
1. شخصيات قلقة فى الإسلام ، للدكتور عبد الرحمن بدوى ، طبعة وكالة المطبوعات الكويت ، 1978م ص ح ، وقد تأثر الدكتور بدوى بنزعة العودة إلى الأصل الإسلامى للتصوف بعد غرقه مع المستشرقين فى اتجاهاتهم ، فقال فى افتتاحية هذا الكتاب : ( آن لنا أن ننفذ إلى صميم الحياة الروحية فى الإسلام ممثلة فى أولئك الذين أشاعوا التوتر الحى معرضين عن الظاهر الساذج المستقيم إلى الباطن الشائك الزاخر بالمتناقضات ) ، وقد اشتمل الكتاب على دراسات استشراقية عن سلمان الفارسى والبواكير الروحية للإسلام فى إيران ، والمنحنى الشخصى للحلاج ، والمباهلة بين النبى ونصارى نجران وكلها أعمال بحثية من تأليف المستشرق لويس ماسينيون ، وفيه أيضا بحث عن السهروردى المقتول مؤسس المذهب الإشراقى تأليف هنرى كوربان تلميذ ماسينيون ، ثم رسالة السهروردى أصوات أجنحة جبرائيل التى ترجمها من الفارسية إلى العربية باول كراوس ، ولم يكن نصيب الدكتور بدوى فى كتابه شخصيات قلقة إلا صفحات ثلاث ، أما بقية الكتاب=
غير أن ماسينيون وإن كان قد بذل جهدا كبيرا فى رد المصطلح الصوفى إلى أصوله القرآنية ، والذى تلقاه كثير من الدارسين المسلمين بالترحيب والقبول والموافقة تعاطفا مع دعوته أصالة المصدر الإسلامى التصوف ، إلا أن كلامه يحتاج إلى وقفات متأنية ونظرات اعتدالية ، يحكمها ميزان الوحى وضوابط الاعتماد على الأصول القرآنية والنبوية ، مع مراعاة هدف المستشرقين فى الكيد لدين الإسلام ، فبعد استقصاء المصطلحات الصوفية استقصاء شاملا لكل ما له علاقة بالأصول القرآنية والنبوية ، سواء من جهة اللفظ أو المعنى من جميع كتب الاصطلاحات والمراجع المختلفة للتصوف ، والتدقيق والنظر فى معانى الشواهد القرآنية والنبوية ، لا نجد تبريرا مقبولا لحكم لويس ماسينيون برد هذه المصطلحات التى تمثل فكر ابن عربى فى وحدة الوجود إلى أصول قرآنية أو نبوية ــــــــــــــــــــ(6/10)
= فهو الدراسات الاستشراقية السابقة ، ترجمها الدكتور بدوى من دون هامش نقدى واحد ومن دون معارضة ، ولما أضاف فى طبعة تالية للكتاب كانت الإضافة مقالة تأبين للمستشرق الفرنسى الكبير لويس ماسينيون ، أنهاها بالتصريح أن ماسينيون لم يكن يردد فى لحظاته الأخيرة غير هاتين الآيتين الكريمتين اللتين رددهما الحلاج باستمرار قبل موته وهما قوله تعالى : { قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ } [الجن/22] وقوله : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } [الشورى/18] .
انظر المتواليات دراسات فى التصوف للدكتور يوسف زيدان ، طبعة الدار المصرية البنانية القاهرة ، سنة1998م الفصل السابع قراءة فى أعمال عبد الرحمن بدوى من تاريخ الإلحاد إلى تاريخ التصوف ص191:173 .
ولنبرهن على ذلك بعدة أمثله من صنيع ماسينيون :
(1- مصطلح : (النار) فى عرف الصوفية يراد به ذات اللَّه عز وجل ويقصدون ظهور الحق تعالى محتجبا بالصورة النارية ، فلما كان هو الظاهر فى كل مفهوم الباطن على كل فهم ، صار يلتبس على الناظر عندما يراه فى كل شئ ، بحيث ينحجب بمجاليه عن تجليه ، فينحجب عن رؤية وجوده عند ظهوره فى الموجودات التى كلها أشعة نوره الوجودى ، فكان الانحجاب بالنار هو المجوسية ورؤية الثنوية وهى تشبيه النورية الحقية بالنار الخلقية (1) كما قال ابن الفارض :
رأوا ضوء نورى مرة فتوهموا : نارا فضلوا فى الهدى بالأشعة (2) .
وربما عنوا بالنار أيضا عذوبة الطعم التى يتذوقه أهل النار ويتلذذون به كتذوق النعيم الذى يمارسه أهل الجنة ، فالنار على حد قول ابن عربى تعود علي أهلها نعيما ، ولو عرضوا عند ذلك على الجنة لتألموا لذلك العرض ، لو أخرجوا منها فى المآل لتضرروا ، فلهم فيها نعيم مقيم لا يشعر به إلا العلماء باللَّه ، قال ابن عربى :(6/11)
فلم يبق إلا صادق الوعد وحده : وما لوعيد الحق غيره تعاين
وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم : على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد فالأمر واحد : وبينها عند التجلى تباين
ــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام فى إشارات أهل الإلهام 2/354 .
2. ديوان عمرو بن الفارض طبعة المكتبة الثقافية بيروت ص 30 .
يسمى عذابا من عذوبة طعمه : وذاك كالقشر والقشر صائن (1)
وهذه المعانى لا علاقة لها بما ورد فى الأصول القرآنية بأى وجه من وجوه المعنى ، غير أن لفظ النار ورد فى القرآن فقط ، إلا أن لويس ماسينيون من باب التلبيس والتدليس الذى يتسم به المستشرقون ، يصرح بلا لبس أو غموض أن مصطلح النار ، الذى يعنى به ابن عربى وابن الفارض الذات الإلهية المحتجبة بالصورة النارية له أصل قرآنى فى قوله تعالى : { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن ْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [القصص/30:29] (2) .
(2- مصطلح : (النور) ورد فى القرآن والسنة بمعنى الضوء المنتشر الذى يعين على الإبصار وهو المحسوس بعين البصر ، نحو قوله : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا } [يونس/5] ، ويطلق أيضا على نور الإيمان والبصيرة ونور العقل ونور القرآن وحجاب الحق ، والنور المحسوس بمدار الإنسان فى الآخرة ــــــــــــــــــــ
1. فصوص الحكم ص122 ، ص123 ، والفتوحات المكية 4/120 ، ص137 وانظر تفسير القرآن الكريم للكاشانى ، ولكنه منسوب لابن عربى 2/35 .(6/12)
? - - ?? تمهيد - - - } - فهرس - فهرس ?? - ? - - - عليه السلام - } - ?? - ? الله - - - } ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -? - - صلى الله عليه وسلم - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - صلى الله عليه وسلم - } - } فهرس - صلى الله عليه وسلم - - - - صلى الله عليه وسلم -?? - - صلى الله عليه وسلم - - } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - فهرس } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? - - صلى الله عليه وسلم -??
??????? - - ?? تمهيد - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? تمهيد - عليه السلام - - - عليه السلام - - مقدمة - فهرس - صلى الله عليه وسلم -? - ? { ? - - ?.??
والنور أيضا ورد كوصف لله تعالى ، فمن ذلك قوله : { وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [الأنعام/122] وقوله تعالى : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِين ٌ } [المائدة/15] ومن النور الذى هو حجاب الحق ، ما روى عن أبي موسى الأشعرى - رضي الله عنه - قال :
" قام فينا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بخمس كلمات وذكر منها .. حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ،ما انتهى إليه بصره من خلقه " (1) ، ومن النور الأخروى قوله تعالى : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا } [الحديد/13] ، وسمى اللَّه تعالى نفسه نورا فقال سبحانه وتعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } [النور/35] وتسميته تعالى بذلك لمبالغة فعله .(6/13)
والنور فى اصطلاح الصوفية يطلق على نور الوجود ، يقول ابن عربى : ( ولله نور منبسط على جميع الموجودات يسمى نور الوجود ، واللَّه تعالى أخرجنا من ظلمة العدم إلى نور الوجود ، فكنا نورا بإذن ربنا إلى صراط العزيز الحميد فنقلنا من النور إلى ظلمة الحيرة ) (2) ويتضح معنى النور أكثر إذا علمنا مقصوده
ـــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الإيمان برقم (179) 1/161 ، وانظر المفردات فى غريب القرآن ص508 ، لسان العرب لابن منظور ، مادة نور .
2. اصطلاحات الصوفية لابن عربى ص14 ومعجم الكاشانى ص176 ، ورشح الزلال ص141 .
بنور الشهود ، فيقول ابن عربى : ( من عرف نفسه عرف ربه ، فيعلم أنه الحق فيخرج العارف المؤمن الحق بولايته ، التى أعطاه اللَّه من ظلمة الغيب إلى نور الشهود ، فيشهد ما كان غيبا له ، فيعطيه كونه مشهودا ) (1) .
ويفسر الكاشانى النور فى القرآن من منظور مذهب ابن عربى ، فقوله تعالى : { ِمَثَلُ نُورِهِ } أى صفة وجوده وظهوره فى العالمين بظهورها به كمثل { َمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } ، وهى إشارة إلى الجسد لظلمته فى نفسه ، وتنوره بنور الروح فلما وجد الوجود بوجوده وظهر بظهوره ، كان نور السماوات والأرض أى مظهر سماوات الأرواح وأرض الأجساد ، وهو الوجود المطلق الذى وجد به ما وجد من الموجودات والإضاءة (2) ، والنور الإلهى هو المعبر عنه باللوح المحفوظ وهو نور ذات اللَّه تعالى ، ونور ذاته عين ذاته لاستحالة التبعيض والانقسام عليه ، فهو حق مطلق وهو المعبر عنه بالنفس الكلية (3) .
ويرى عبد الكريم الجيلى - من أبرز أعلام مدرسة ابن عربى - أن النور الأحدى هو نور محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو التجلى الأول ، وهو ظهور الذات لذاتها فى عين وحدتها فلكونه أول التعينات ، قال - صلى الله عليه وسلم - : أول ما خلق اللَّه نورى (4) وهو ــــــــــــــــــــ
1. الفتوحات المكية 3/412 ، والسابق 4/147 .(6/14)
2. تفسير القرآن الكريم للكاشانى 2/140 وانظر السابق 2/53 .
3. السابق 2/140 ، وانظر لطائف الإعلام 2/366 .
4. حديث ضعيف ، روى عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما ونصه ، قلت =
أصل جميع الأسماء الإلهية (1) ، ومن بين كل ما ورد من الأدلة القرآنية والنبوية وهو كثير جدا تخير المستشرق الفرنسى لويس ما سينيون بالذات الآية الخامسة والثلاثين من سورة النور :
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ } [النور/35] ليرد إليها مصطلح (النور) (2) .
(3- ومصطلح (الشجرة) يعنى عند الصوفية الإنسان الكامل ، كما قال عبد الرزاق الكاشانى : ( الشجرة يعنون بها فى اصطلاحهم الإنسان الكامل المشار إليه فى آية النور ، وهى الشجرة المباركة الزيتونة التى لا شرقية ولا غربية ــــــــــــــــــــ
= يارسول الله : " بأبى أنت ، وأمى أخبرنى عن أول شئ خلقه الله قبل الأشياء ، قال : إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك ياجابر ، ثم خلق منه كل خير وخلق بعده كل شئ " انظر كشف الخفا ومزيل الإلباس فيما اشتهر على ألسنة الناس ، للعجلونى ص263 وما بعدها ، وهذا الحديث يتمسك به أكثر الصوفية وخصوصا أصحاب الوحدة و كل ما ورد فى كون النبى - صلى الله عليه وسلم - هو أول ما خلق الله وما فى معناه فهو باطل لا يصح كما ذكر العجلونى .
1. الإنسان الكامل للجيلى 2/7 .(6/15)
- - ?? تمهيد - - - } - فهرس - فهرس ?? - ? - - - عليه السلام - } - ?? - ? الله - - - } ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -? - - صلى الله عليه وسلم - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - صلى الله عليه وسلم - } - } فهرس - صلى الله عليه وسلم - - - - صلى الله عليه وسلم -?? - - صلى الله عليه وسلم - - } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - فهرس } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? - - صلى الله عليه وسلم -??
??????? - - ?? تمهيد - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? تمهيد - عليه السلام - - - عليه السلام - - مقدمة - فهرس - صلى الله عليه وسلم -? - ? { ? - - ?.??
لاعتدالها بين طرفى الإفراط والتفريط فى الأقوال والأفعال والأحوال ، ويطلقونها على الأسماء الإلهية ، لتشاجرها وتقابلها كالغفور والمنتقم ، والضار والنافع والمعطى والمانع ) (1) .
أو يعنون بها ذات اللَّه تعالى كما ذكر ابن عربى أنه رأى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فى المنام قال : ( فقلت له قول اللَّه : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ } [النور/35] ما هذه الشجرة ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : كنى عن نفسه سبحانه ، ولهذا نفى عنها الجهات والغرب والشرق كناية عن الفرع والأصل فهو خالق المواد وأصلها ، وكان قبل أن يقول هذا الكلام ، يقول لى : أنت تعرف ما هى الشجرة - وما كان لى علم بها - فلما قال لى : أنت تعرفها وجدت العلم بها فى نفسى عند قوله : أنت تعرفها ، وكنت أقول له : نعم أعرفها وأحب أن أسمعها من فيك ، فكان يقول لى ما ذكرت واستيقظت (2) .(6/16)
أو تعنى الشجرة أيضا الحقيقة المحمدية أو الكون وتفريعاته (3) فكل هذه المعانى الموضوعة تحت مصطلح الشجرة ، أمن الإنصاف أن يرد ماسينيون أصولها إلى ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام 2/35 ، 36 وانظر اصطلاحات الصوفية لابن عربى ص12 .
2. السابق 2/36 ، وشجرة الكون لابن عربى ص58 .
3. تذكرة الخواص فقرة 57 ، وانظر تفصيل هذه المعانى الخبيثة فى الدراسة المعجمية مصطلح النور .
القرآن ، بحجة أن لفظ الشجرة ورد فى قوله تعالى : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [القصص/30] أو قوله : { أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء ِ } [إبراهيم/24] ؟ ! .
ومن المؤسف أن ماسينيون الذى هللوا له وفرحوا به ، وجعلوه أستاذا لا يشق له غبار فى رد التصوف إلى أصول قرآنية ، قد انتهج هذا السبيل المبنى على الخبث والتدليس والمكر والتلبيس فى كثير من المصطلحات ، وتناسى أغلبهم أنه كان مكتسيا برداء المستشرقين ومنهجهم فى دراسة الإسلام (1) .
ولقد أحسن الدكتور عبد القادر محمود ، عندما أشار إلى أن ماسينيون ادعى أن الحلاج ، إنما قتل بسبب الحقد السياسى والمؤامرة السياسية ، لجمع كلمة الإسلام والعروبة ، وأنه لم يقتل بسبب مخالفته لأصول الإسلام ، وعبثه بأدلة الكتاب والسنة ، أو جرأته على حدود الشريعة ، مما يعنى أن ماسينيون يشير إلى أن أصول مذهب الحلولية والاتحادية لا تخالف المنهج العام للأصول القرآنية والنبوية (2) .
ــــــــــــــــــــ(6/17)
- - ??? تمهيد - - - } - فهرس - فهرس ?? - ? - - - عليه السلام - } - ?? - ? الله - - - } ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -? - - صلى الله عليه وسلم - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - صلى الله عليه وسلم - } - } فهرس - صلى الله عليه وسلم - - - - صلى الله عليه وسلم -?? - - صلى الله عليه وسلم - - } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - فهرس } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? - - صلى الله عليه وسلم -??
??????? - - ?? تمهيد - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? تمهيد - عليه السلام - - - عليه السلام - - مقدمة - فهرس - صلى الله عليه وسلم -? - ? { ? - - - ? - ? - - تمهيد ?.??
2. الفكر الإسلامى والفلسفات المعارضة فى القديم والحديث ، للدكتور عبد القادر محمود الطبعة الثانية الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1986م ص90 ، وانظر المنحنى الشخصى لحياة الحلاج ، لويس ماسنيون ص70 .
ويصرح المستشرق نيكلسون - شأنه شأن لويس ماسينيون - أن بذور وحدة الوجود ، قائمة واضحة فى القرآن واستدل لها بقوله تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } [القصص/88] وقوله : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } [البقرة/115] (1) .(6/18)
وليس فى هذه الآيات أو ما يماثلهما أى شئ عن وحدة الوجود ، وقد حاول المستشرق مارجليوت رد فكرة وحدة الوجود إلى مصادر خارجية عن الحقل الإسلامى ، لكنه رجع فتناقض حي ن أكد أن القرآن هو الأصل فيها ، وأنها بعيدة عن المصادر الخارجية ، فيقول مارجليوث : ( إن الصوفية عندما نظروا إلى الآية : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } [الأنبياء/22] حاولوا وضع حد ميتافيزيقى لله أدى بهم البحث النظرى فى واجب الوجود أو الوجود الحق إلى تقرير وحدة الوجود ) (2) .
كل هذه الاعاءات ، أو سمها على مصطلحاتهم دراسات تمثل نوعا من التعميم المرن والمكر الملفق ، الذى اتبعه المستشرقون من بداية نشأتهم وظهور حركتهم انتهجه ماسينيون ، عندما نسب بصورة أو بأخرى أصول الرموز والمصطلحات الصوفية إلى القرآن ، بغض النظر عن كونها تتوافق مع الوجهة الحقيقية للأصول القرآنية والنبوية ، أو تتمشى مع النهج العام لمراد الله من خطابه ، أو تخالف الغاية من رسالة السماء ، المهم أن يكون لمصطلحات الصوفية الفلسفية أصل ــــــــــــــــــــ
1. فى التصوف الإسلامى وتاريخه نيكلسون ترجمة الدكتور عفيفى ص71 .
- - ?? تمهيد - - صلى الله عليه وسلم - - - - } - - عليه السلام -- رضي الله عنه - - ?? - ? - - صلى الله عليه وسلم - - - صلى الله عليه وسلم - - - { مقدمة - صلى الله عليه وسلم - فهرس - رضي الله عنه -? - - ?? تمهيد - - - مقدمة مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - - فهرس } - مقدمة ?? - ? { ? - - .??(6/19)
فى القرآن ، حتى تعممت الأحكام عند ماسينيون فرأى أن التصوف الإسلامى فى أصله وتطوره ، صدر عن إدامة تلاوة القرآن وممارسته وأن القراءة المستمرة لهذا النص أعطت التصوف خصائصه المميزة ، كإقامة مجالس الذكر المنتظمة والذكر فى مجموعات بصوت مرتفع ، وإلقاء الأناشيد فى السماع والموضوعات المنظومة والمنثورة الداعية إلى التأمل (1) .
وكأن الصوفية وحدهم ، إذا واظبوا على قراء القرآن اكتسبوا خصائصهم المميزة التى يتصفون بها فى الحضرة والذكر وعند الموالد ، وحال عكوفهم على قبور أوليائهم ، وطوافهم بغير بيت الله ، أما علماء الحديث والفقه والتفسير والعقائد ، فتلاوتهم للقرآن أكسبتهم خصائص أخرى !!
صحيح أن الصوفية يعتبرون رأس حركة التصوف الإسلامى بمعناها السلوكى الدقيق هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن جهل معظمهم بسلوك النبى - صلى الله عليه وسلم - وتهاونهم فى النقل عنه وابتعادهم عن علوم الحديث ، وكثرة الاجتهادات والتأويل الشخصى جعل الصوفى حرا فى فهم السلوك النبوى ، وفتح له المجال إلى تفسيره بحسب ما يعن له من نظريات واردة أو غير واردة ، فكان من ذلك أخطار لم يسلم منها تيار التصوف خلال سريانه وتطوره .
وليس معنى أن كثيرا من ألفاظ المصطلحات التى انتزعت من الأيات القرآنية ــــــــــــــــــــ
- - ? تمهيد - - - } - فهرس - فهرس ?? - ? - - - عليه السلام - } - ?? - ? الله - - - } ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -? - - صلى الله عليه وسلم - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - صلى الله عليه وسلم - } - } فهرس - صلى الله عليه وسلم - - - - صلى الله عليه وسلم -?? - - صلى الله عليه وسلم - - } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - فهرس } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? - - صلى الله عليه وسلم -?? - -(6/20)
????? تمهيد - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? تمهيد - عليه السلام - - - عليه السلام - - مقدمة - فهرس - صلى الله عليه وسلم -? - ? { ? - - - ?.??
واستخدمها ابن عربى أو غيره فى صياغة أفكاره أو سياقات تعبيراته ، كاف للقول بأن أصولها قائمة فى القرآن والسنة ، وليس من إنصاف الباحث المتجرد أن ينسب نتاج التصوف عبر مراحله المختلفة إلى القرآن ، كما فعل بعض المستشرقين أو المتعصبين للصوفية ، بل لا بد من مراعاة التغير الدلالى للمصطلح الصوفى ، وتتبع المعنى المراد من الاصطلاح ، ومدى علاقته بالأصول القرآنية والنبوية ، ومع أن الآيات القرآنية لها وأصول راسخة وضوابط محددة وقواعد أساسية لازمة للقول بأن التصوف أو غيره من العلوم بنى على أصول قرآنية صحيحة كما سبق بيانها فى الفصل الأول ، إلا أن مسيرة التصوف ومراحل تطوره حاولت التأثير على هذه القواعد ، حتى كادت أن تقتلعها من جذورها فى التصوف الفلسفى على وجه الخصوص .
مراحل التصوف وأثرها على التغير الدلالى للمصطلح الصوفى :
إذا نظرنا إلى التصوف عبر مراحله الفكرية المختلفة ، وجدنا أنه يكاد ينحصر فى عدة مراحل متميزة ومتدرجة ، ومؤثرة فى علاقة الأصول القرآنية بما أفرزته كل مرحلة من رموز وألفاظ واصطلاحات تتنوع فى معناها الدلالى ، وتتمثل تلك المراحل فيما يلى :
المرحلة الأولى : التصوف الأوَّلى البسيط ، وأقصد به التصوف الذى نجم عن حركة الزهد ومسلك التوكل على الله ، فالتصوف الذى يعنى فى اصطلاح البعض ، نماء الحياة الروحية فى الإسلام ، اتخذ من حياة النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -وما كانوا يأخذون به أنفسهم من زهد فى الدنيا وإعراض عن زخرفها وجاهها وإقبال على الله عز وجل بقلوبهم ، المصدر الأصيل لبدايته (1) .(6/21)
ومن المعلوم أيضا أن أغلب الصوفية ، أكدوا على اتباعهم لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما سبق فى بيان موقفهم من الكتاب والسنة ، إن كان أكثرهم لم يسلم من وقوع فى بعض المخالفات قلت أو كثرت ، لكن السمة الغالبة للتصوف فى بدايته كانت تتمثل فى الترقى بالأخلاق إلى درجتها القصوى التى دعى إليها النبى - صلى الله عليه وسلم - .
فالنبى - صلى الله عليه وسلم - دعا إلى الزهد فى الدنيا ، ودعا إلى مكارم الإخلاق ومجاهدة النفس وتأديبها والصدق مع الله عز وجل ، وأمثال ذلك من أنواع الفضائل التى قام ــــــــــــــــــــ
1. الحياة الروحية فى الإسلام للدكتور مصطفى حلمى ص15 .
عليها التصوف فى بدايته ، غير أنه من الملاحظ أن الجيل الأول من الصوفية لم يكن لأغلبهم أنسقة فكرية معقدة ، وإنما هى إضافات نابعة من مسالك شخصية وتجارب إيمانية وأنماط تعبدية ، قد تتسم بالمبالغة فى كثير من الأحيان نتيجة الإعجاب ببعض المواقف فى سلوكيات عدد من الصحابة - رضي الله عنهم - على وجه الخصوص ، كأبى بكر الصديق وعمر وعثمان وعلى وأبى ذر الغفارى وأبى الدرداء وأويس القرنى وغيرهم - رضي الله عنهم - (1) فقد رأى هؤلاء الصوفية ملامح نزعتهم فى أفعال خير القرون .
وقد أكد الصوفية دائما أنهم يتأسون أخلاق النبى - صلى الله عليه وسلم - وسلوكه ، وبين السراج الطوسى أن الله ندب المؤمنين إلى الأسوة الحسنة باتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال :(6/22)
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب/21] ، وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبار الأخذ بها لازم لجميع المسلمين ، لأنها نقل الثقة عن الثقة حتى انتهى إلينا ، ولأن الله تعالى يقول : { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [النور /56] وقوله : { إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الزخرف/43] ، فصارت الأسوة به والاتباع له والطاعة لأمره ، واجبا على جميع خلقه ممن شهد أو غاب إلى يوم القيامة غير الثلاثة الذين رفع القلم عنهم (2) .
ويؤكد السراج الطوسى أنه ليس معنى النظر فى القرآن والاستدلال ببعض ــــــــــــــــــــ
1. اللمع من ص 185: ص193 .
2. السابق ص131 .
آياته ، سواء كان استدلالا صحيحا أو باطلا ، أن ذلك يعنى الموافقة لله تعالى فى خبره وأمره ، وإنما يلزم الصوفى مراعاة أصول الاستدلال من خلال النظر فى أقوال النبى وأفعاله ، فيقول :
( فمن وافق القرآن ، ولم يتبع سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مخالف للقرآن غير متبع له ، والمتابعة والاقتداء هى الأسوة الحسنة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى جميع ما صح عنه ، من أخلاقه وأفعاله وأحواله وأوامره ونواهيه وندبه وترغيبه وترهيبه إلا ما قام الدليل على خلافه كقوله عز وجل : { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } [الأحزاب/50] ، وقول النبى - صلى الله عليه وسلم - فى الوصال : " لست كأحدكم " (1) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - فى الأضحية لأبى بردة بن ينار : " اذبح ولا تجزئ عن أحد بعدك " (2) وما يشبه ذلك ، مما يقوم عليه الدليل من نص الكتاب والآثار ) (3) .
ــــــــــــــــــــ(6/23)
1. أخرجه البخارى عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما بلفظ : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال ، قالوا : إنك تواصل ، قال : إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى " انظر الجامع الصحيح المختصر حديث رقم (1861) 2/ 693 .
2. أخرجه البخارى عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن أول ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر ، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ، ومن نحر قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله ، ليس من النسك في شيء ، فقال رجل من الأنصار يقال له أبو بردة بن نيار : يا رسول الله ذبحت وعندي جذعة خير من مسنة ، فقال : اجعله مكانه ولن توفى أو تجزي عن أحد بعدك "الجامع الصحيح المختصر حديث رقم (922) 1/ 328 . 3. اللمع ص132 .
واعتبر السهروردى فى عوارفه أن الصوفية أوفر الناس حظا فى الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأحقهم بإحياء سنته ، وقد فصل أخلاق الصوفية محاولا مطابقتها مع أخلاق النبى - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر التواضع والمداراة ، واحتمال الأذى والتجاوز والعفو ومقابلة السيئة بالحسنة والبشر وطلاقة الوجه والإنفاق من غير إقتار (1) .(6/24)
ويرى السراج الطوسى أن هذه الصفة هى التى ميزتهم عن سائر الناس ، لأن ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى الحدود والأحكام والعبادات ، من الفرائض والسنن والأمر والنهى والاستحاب والرخص والتوسع ، فذلك من أصول الدين وهو مدون عند العلماء والفقهاء ومستعمل فيما بينهم ومشهور عندهم فهؤلاء هم الخاصة من العامة ، أما الصوفية فهم الخاصة من هؤلاء الخاصة لما أحكموا الأصول وحفظوا الحدود وتمسكوا بهذه السنن ، ولم يبق عليهم من ذلك بقية فاستبحثوا أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، التى وردت فى أنواع الطاعات والآداب والعبادات والأخلاق الشريفة والأحوال الرضية ، وطالبوا أنفسهم بمتابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأسوة به واقتفاء أثره ، بما بلغهم من آدابه وأخلاقه وأفعاله وأحواله ــــــــــــــــــــ
1. عوارف المعارف لعبد القادر السهروردى ، طبعة بيروت ، سنة 1966م ص299 ويجدر التنبيه على أن هذه الأوصاف ، التى ذكرها السهروردى والسراج الطوسى إنما تنطبق على الجانب النظرى الذى يتخيله كل كاتب منهم عن الصوفى الأمثل ، لكن الجانب العملى على أرض الواقع - فى صفة التصوف والصوفية - يشهد بغير ذلك منذ وقت مبكر فتنبه .
فعظموا ما عظم ، وصغروا ما صغر ، وقللوا ما قلل ، وكثروا ما كثر وكرهوا ما كره ، واختاروا ما اختار ، وتركوا ما ترك ، وصبروا على ما صبر ، وعادوا من عادى ، ووالوا من والى ، وفضلوا من فضل ، ورغبوا فيما رغب وحذروا ما حذر (1) ، ودليله فى ذلك كله أن عائشة رضى الله عنها ، سئلت عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقالت : " كان خلقه القرآن " (2) تعنى موافقة القرآن وروى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " بعثت بمكارم الأخلاق " (3) .(6/25)
وقد سرد المكى فى قوت القلوب (4) والقشيرى فى رسالته (5) وغيرهم مقامات وأخلاق الصوفية ملتمسين لها من القرآن أو سيرة النبى - صلى الله عليه وسلم - دعما ودليلا ، فعدوا فيها التوبة والمجاهدة والمراقبة والتقوى والخوف والرجاء والحزن والجوع وترك ـــــــــــــــــــ
1. اللمع ص132 ، ص133 .
2. أخرجه مسلم عن حكيم بن أفلح أنه سأل أم المؤمنين عائشة فقال : " يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَتْ : أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟ قُلْتُ بَلَى ، قَالَتْ : فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كَانَ الْقُرْآنَ ، قَالَ : فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ وَلا أَسْأَل أَحَدًا عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَمُوتَ " انظر كتاب صلاة المسافرين وقصرها حديث (746) 1/512 .
3. صحيح عن أبى هريرة - رضي الله عنه - بلفظ : " بعثت لأتمم صالح الأخلاق " وهو اللفظ المروى فى مستدرك الحاكم حديث رقم (4221) ، وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه 2/670 ، وأخرجه أحمد فى المسند برقم (8939) 2/381 .
4. قوت القلوب 1/178 وما بعدها .
5. الرسالة 1/200 وما بعدها .
الشهوة والخشوع والتواضع ومخالفة النفس وإصلاح عيوبها وترك الحسد والغيبة والنميمة والتباغض والقناعة والتوكل والشكر واليقين والصبر والمراقبة والرضا والعبودية والاستقامة والإخلاص والصدق ، والحياء والذكر والجود والسخاء والغيرة والدعاء والفقر والأدب والسفر والتوحيد والإرادة ، والموقف من الموت والمعرفة بالله والمحبة والشوق ، والسماع والرؤية وغير ذلك من السلوكيات الصوفية .(6/26)
ومن الطبيعى أن يتداول الصوفية فيما بينهم ألفاظا تعبر عن وجهتهم الأخلاقية وحصيلتهم الروحية ، أفرزتها حركة التصوف الأولى البسيط ، وكان القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة مجالا لإشباع رغباتهم الروحية ، يقول الطوسى : ( فالصوفية استنبطوا من ظاهر القرآن وظاهر الأخبار ، معانى لطيفة باطنة وحكما مستطرفة ، وأسرارا مذخورة ، وهم أيضا فى مستنبطاتهم مختلفون كاختلاف أهل الظاهر ، غير أن اختلاف أهل الظاهر يؤدى إلى الغلط والخطأ والاختلاف فى علم الباطن لا يؤدى إلى ذلك ، لأنها فضائل ومحاسن ومكارم وأحوال وأخلاق ومقامات ودرجات ، وكل واحد من الصوفية يتكلم من حيث وقته ، ويجيب من حيث حاله ، ويشير من حيث وجده ) (1) .
ومن الملاحظ فى طبيعة الألفاظ الدائرة بين الصوفية فى هذه المرحلة أنها ألفاظ واصطلاحات قرآنية أو نبوية متماسكة مع معانيها الدلالية الواردة فى الكتاب ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص105 .
والسنة لا تنفك عنها إلى حد كبير ، ودور الصوفية يكمن فى توضيح المعنى أو استنباط حقيقة إيمانية دلت عليها الآيات القرآنية أو السنة النبوية ، أو تقويم ما اعوج من أفهام الأدعياء منهم حول معنى قرآنى أو نبوى ، ويرى الباحث فيما أثر عن الصوفية من أقوال جمعها أبو عبد الرحمن السلمى فى طبقاته ، وأبو بكر الكلاباذى فى كتابه التعرف ، وأبو طالب المكى فى قوت القلوب ، وعبد الكريم القشيرى فى الرسالة ، والهجويرى فى كشف المحجوب ، وغير ذلك مثلا صادقا لتماسك أغلب الألفاظ مع المعنى الدلالى المراد فى الأصول القرآنية والنبوية (1) ولنضرب مثالين لتوضيح ذلك :
ــــــــــــــــــــ(6/27)
1. انظر للمقارنة والتوسع فى التعرف على طبيعة هذه المرحلة : مدخل إلى التصوف الإسلامى للدكتور التفتازانى ص63 وما بعدها ، الحياة الروحية فى الإسلام ص26 وما بعدها ، التصوف الثورة الروحية فى الإسلام ، دكتور أبو العلا عفيفى ، نظرة تاريخية فى أصل التصوف ، بحث نشر فى مجموعة أبحاث نيكلسون التى ترجمها الدكتور عفيفى بعنوان فى التصوف الإسلامى وتاريخه ص3 ، وأيضا : فصول فى التصوف للدكتور حسن الشافعى ، وانظر ما كتبه الدكتور محمد عبد الله الشرقاوى فى كتابه الاتجاهات الحديثة فى التصوف تحت عنوان القرآن الكريم مصدر المقامات والأحوال ص154 وما بعدها ، وانظر أيضا :
- ? - ? - - { - صلى الله عليه وسلم - فهرس - - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -?? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - } مقدمة } فهرس - - - مقدمة ? - ? الله أكبر - - صلى الله عليه وسلم -? - - عليه السلام - - } ? بسم الله الرحمن الرحيم - صلى الله عليه وسلم - - - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - ? } فهرس ?- سبحانه وتعالى - - - - مقدمة ? - بسم الله الرحمن الرحيم - - - - صلى الله عليه وسلم - - ? - ? - - - - - ? { ? - - ?? -
- ? - ? - ? - - - } مقدمة مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ? - ? تمهيد - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - } - - - ?? - } مقدمة - صلى الله عليه وسلم - فهرس - } - فهرس - ?? - - ??- سبحانه وتعالى - - - - مقدمة ? - ? الله أكبر - - صلى الله عليه وسلم -???- عز وجل - فهرس } - - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - } - رضي الله عنه -- رضي الله عنهم -? - - ?
??? المحتويات ? - ? - - - صلى الله عليه وسلم - - - } فهرس - صلى الله عليه وسلم -? { - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - ? - - - - - ? { { ? - - ? - ? - - ? -(6/28)
[1- مصطلح التقوى : ورد اللفظ فى القرآن والسنة بمعنى حفظ النفس عما يؤثم وذلك بترك المحذور ، فالمتقى هو الذى يجعل طاعته لله وامتثاله لأوامره وقاية له من عذابه ، ويتم ذلك أيضا بترك بعض المباحات المشتبهات حتى لا يقع فى الحرام ، ويمكن تتبع هذا المعنى الدلالى من خلال ألفاظ التقوى التى ورت فى الأصول القرآنية والنبوية ، كقوله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [المائدة/93] .
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُم ْ } [محمد/17] ، وفى حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس ، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه " (1) ، وعن تميم بن طرفة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول :
" من حلف على يمين ، ثُمَّ رَأَى أَتْقَى لِلَّهِ مِنْهَا ، فَلْيَأْتِ التَّقْوَى مَا حَنَّثْتُ يَمِينِي " (2) وقال ابن عمر رضى الله عنهما : " لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر " (3) .
وهذا المعنى القرآنى لمصطلح التقوى ، باق على معناه الدلالى فى استعمال ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى الإيمان (52) 1/، 153ومسلم فى الإيمان (1599) 3/1219.
2. أخرجه مسلم فى الإيمان برقم (1651) 3/ 1223.
3. أخرجه البخارى فى الإيمان ، انظر فتح البارى 1/60 .(6/29)
الصوفية له ، ولم يطرأ عليه أى تغير يذكر ، فقد ورد عن أبى العباس الطوسى البغدادى (ت:299هـ) فى قوله : ( التقوى ألا تمد عينيك إلى زهرة الدنيا ولا تتفكر بقلبك فيها ) (1) ، وينسب إلى أحمد بن عطاء الآدمى (ت:311هـ) : ( للتقوى ظاهر وباطن ، فظاهرها محافظة الحدود وباطنها النية والإخلاص ) (2) وروى عن أبى الحسن الوراق النيسابورى (ت:320هـ) أنه قال :
( أجل شئ يفتح اللَّه تعالى به على عبده التقوى ، فإن منها تتشعب جميع الخيرات وأسباب القرب والتقرب ، وأصل التقوى الإخلاص وحقيقتها التخلى عن كل شئ إلا ممن إليه تقواك ) (3) ولأبى القاسم النصرباذى (ت:367هـ) أيضا ، فى التبصير بمعنى التقوى : ( من لزم التقوى اشتاق إلى مفارقة الدنيا لأن اللَّه سبحانه يقول :
{ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [الأنعام/32] ) (4) .
وقال الطوسى (ت:387هـ) : ( معنى قوله تعالى : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران/102] راجع إلى قوله : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم ْ } [التغابن/16] (5) .
ــــــــــــــــــــ
1. طبقات الصوفية ص241 .
2. الرسالة القشيرية 1/308 .
3. طبقات الصوفية ص300 .
4. الرسالة القشيرية 1/307 .
5. اللمع ص122 .
ويقول القشيرى أيضا (ت:465هـ) : ( أصل التقوى ، اتقاء الشرك ، ثم بعده اتقاء المعاصى والسيئات ، ثم بعده اتقاء الشبهات ، ثم يدع بعده الفضلات ) (1) .
[2- مصطلح الذكر : ورد اللفظ فى القرآن والسنة بمعنى حضور الشئ فى القلب وذكره وتذكره بإرادة أو بغير إرادة ، وضده نسيانه وتناسيه ، كما فى قوله تعالى :(6/30)
{ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِي إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَه ُ } [الكهف/63] ، وقال : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرا } [البقرة/200] ، وعن عبد الله بن عباس رضي اللَّه عنهما أنه قال : " إن أم الفضل سمعته وهو يقرأ : والمرسلات عرفا فقالت : يا بني ، واللَّه لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة ، إنها لآخر ما سمعت من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في المغرب " (2) ، وورد أيضا الذكر ، ويعنى ذكر اللسان سواء باستحضار القلب أو غيره ، كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا } [الأحزاب/41] .
والذكر قد يطلق على بعض المعانى الاصطلاحية الواردة فى الكتاب والسنة كالقرآن سماه الله ذكرا فى قوله تعالى : { وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا مَنْ أَعْرَضَ ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة القشيرية 1/306 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الأذان برقم (763) 2/287 .
عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا } [طه/99] ، وكاللوح المحفوظ فى حديث عمران بن حصين رضي اللَّه عنهما سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرا فقال :
" كان اللَّه ولم يكن شيء غيره ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض " (1) .(6/31)
ويراد بالذكر أيضا الصلاة ، لقوله سبحانه وتعالى عن المنافقين : { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا } [النساء/142] ولما روى عن حنظلة الأسيدي - رضي الله عنه - قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي ، وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم " (2) .
وقد استعمل الصوفية مصطلح الذكر متماسك الدلالة فى إطار هذه المعانى القرآنية والنبوية ، ولم يخرج فى بدايات التصوف عن هذه المعانى ، واعتبروه ركنا قويا فى طريق الحق سبحانه وتعالى ، بل جعلوه عمدة الأمر فلا يصل أحد إلى الله عندهم إلا بدوام الذكر ، لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا } [الأحزاب/41] ، ومن خصائصه عندهم أنه غير مؤقت ، بل ما من وقت من الأوقات إلا والعبد مأمور بذكر الله إما فرضا وإما ندبا ، فروى عن أحمد بن الحوارى (ت:230هـ) أنه قال : ( إنما كره الأنبياء الموت لانقطاع ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب بدء الخلق برقم (3192) 6/331 .
2. الموضع السابق حديث رقم (3211) 6/351 .
الذكر عنهم ، وعلامة حب الله حب ذكر الله ) (1) .(6/32)
وينسب إلى ذى النون المصرى (ت:248هـ) أنه قال : ( من ذكر الله تعالى ذكرا على الحقيقة نسى فى جنب ذكره كل شئ وحفظ الله تعالى عليه كل شئ وكان له عوضا عن كل شئ ) (2) ، وروى أيضا عن أبى عثمان النيسابورى (ت:298هـ) أنه قال : ( الذكر الكثير أن تذكره فى ذكرك له، أنك لم تصل إلى ذكره إلا به وبفضله ) (3) ، ويروى أن أبا بكر الواسطى (ت:بعد320هـ) سئل عن الذكر فقال : الخروج من ميدان الغفلة إلى قضاء المشاهد على غلبة الخوف وشدة الحب له ) (4) ، ويجب أن يلاحظ أن التصوف بالمعنى الأولى البسيط ، والقائم على هذا المنهج هو الذى حظى بالقبول إلى حد كبير ، منذ عهده الأول وحتى عصرنا الحاضر (5) .
ولكن يمكن أن نلاحظ فى المرحلة الأولى من تطور التصوف مجموعة من الأنماط السلوكية أثرت بشكل فعال فى المراحل التالية ، حيث تبارى المقبلون على التصوف فى تشديد القيود على أنفسهم طمعا فى زيادة القرب من الله ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة القشيرية 2/468:464 .
2. طبقات الصوفية ص101.
3. الرسالة 2/466 .
4. طبقات الصوفية ص101.
5. الحياة الروحية فى الإسلام ص 25 بتصرف .(6/33)
فجعل الصوفى نفسه سجينة فى بدنه يمارس الرقابة عليها بلا هوادة ، ولا مناص من المراقبة فى النظر والسمع والقول والفعل والحركة والتفكير وإرواء الرغبة فى الانتصار على النفس ، إذ يتحقق بهذا للمرء إغلاق الأبواب على ذاته وتتركز اهتماماته جميعا حول موضوع النجاة من كل احتمال يتسرب إليه الخطأ فى عمله أو ظنه بخالقه ، فقال الجنيد بن محمد (ت:297هـ) الملقب سيد الصوفية فى عصره : ( ما أخذنا التصوف عن القيل والقال ، لكن عن الجوع وترك الدنيا ، وقطع المألوفات والمستحسنات ، لأن التصوف هو صفاء المعاملة مع اللَّه وأصله التعزف عن الدنيا ) (1) ، وروى عن أبى تراب النخشبى (ت:245هـ) أن مريدا من مريديه كان يسير معه ، فغلبته نفسه وشهوته إلى الطيب من ألوان الطعام ، وامتدت يده إلى قشر البطيخ يريد أن يأكله فقال له : ( أنت لا يصلح لك التصوف الزم السوق ) (2) .
ونرى مثلا آخر لأبى الحسين أحمد بن محمد النورى (ت:295هـ) ونظرته الصارمة فى التعامل مع المال ، إذ يروى عنه أنه صعد قنطرة على نهر دجلة وأخذ يرمى ثلاثمائة دينار فى الماء واحدا واحدا ثمن عقار بيع له ، وهو يقول مخاطبا ربه : ( حبيبى تريد أن تخدعنى منك بمثل هذا ) (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. طبقات الصوفية ص 158.
2. الرسالة القشيرية 1/ 109 .
3. اللمع فى التصوف ص 493 .
وإذا كانت نظرة الإسلام للمال نظرة ابتلاء واختبار إلا أن أبا الحسين النورى تعامل معه بشكل صارم فيه نوع من التشدد والغلو ، والمبالغة فى التعبير عن كراهية الدنيا .
وقريب من هذه الأفعال ، ما روى عن إبراهيم بن شيبان أنه قال لأبى بكر الشبلى (ت:334هـ) : ( كم فى خمس من الإبل ؟ ، أى مقدار الزكاة فيها فقال أبو بكر الشبلى : فى واجب الأمر شاة ، وفيما يلزمنا كلها ) (1) .(6/34)
ويعنى أن حكم الشرع عند عامة المسلمين فى الزكاة الوقوف عند الفرائض فيخرجون شاة لكل خمس من الإبل ، أما فى عرف الصوفية فإنهم يخرجون أموالهم كلها ولا يبقون على شئ منها .
كل ذلك أيضا بدافع المبالغة والتعبير عن الزهد فى الحياة ، إذ أنهم يعتبرون أن من ادعى العبودية وله مراد باق فيها فهو كاذب فى دعواه (2) ، ويتكرر الأمر ملحوظا فى الصلاة والصوم وغير ذلك من أنواع العبادات ، ففى الصلاة يقول أبو بكر الشبلى : ( كنت فى أول بدايتى إذا غلبنى النوم أكتحل بالملح ، فإذا زاد على الأمر أحميت الميل فأكتحل به ) (3) .
ومع أن صلاة الليل من فضائل الأعمال ومندوباتها ، إلا أن الشبلى أخذها ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص 210 .
2. مقولة محمد بن اسماعيل الصوفى (ت:299 هـ) ، طبقات الصوفية ص44 ، 245.
3. اللمع فى التصوف ص 204 .
بقوة ، كالفرض سواء بسواء ، وفى الصيام كذلك ، يروى عن رويم بن أحمد البغدادى (ت:303هـ) أنه عطش عطشا شديدا فاستسقى جارية ، فقالت : ( ويحك صوفى يشرب بالنهار فاستحى منها ونذر ألا يفطر أبدا ) (1) .
وفضلا عن كون الصورة المرتسمة فى أذهان العامة عن صوم الصوفية ، أنه صوم دائم لا ينقطع ، إلا أن رويم بن أحمد بدلا من أن يوضح للجارية أن ذلك من السنة ، وأن النبى - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الوصال فى الصوم ، سعى إلى المزيد فى وصم الصوفية بالمداومة على هذا الوضع ونذر ألا يفطر أبدا ، فصار حال التصوف فى بدايته عبودية على وجه الاضطرار بلا اختيار ، أو كما قال عبد الله بن محمد بن منازل (ت:329 هـ) : ( العبودية اضطرار لا اختيار فيه ) (2) .(6/35)
المرحلة الثانية : مرحلة التصوف الأوَّلى المركب ، وأعنى بذلك التصوف المبنى على الفكر المنظم ، الذى نتج عن إضافات الصوفية الاجتهادية فى رسم خطوات الطريق للمريدين وتدرجهم فى منازل السائرين ، وترتيب المقامات والأحوال عند المتحققين ، فلم تعد قضية الاكتفاء بالممارسة العملية كافية لإبراز الوجهة الحقيقية للعلاقة القائمة بين الصوفية وربهم ، ولكن تطور الأمر عندهم إلى ما هو أرقى من مجرد الزهد فى الدنيا وترك المألوفات والمستحسنات فأصبح التصوف قريبا من الفكر المنطقى المنظم إلى حد بعيد ، وأفرز الطريق ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة 1/128 .
2. طبقات الصوفية ص368 .
الذى التزمه أوائل الصوفية وباشروه فى تجاربهم الشخصية ، نتاجا فكريا أطلقوا عليه مقامات السائرين وأحوال المتحققين .
فأعلن أغلبهم أنه يبدأ بالتوبة ثم الورع يعقبه الزهد ثم الصبر والتوكل والرضا وينتهى الطريق بالحرية ، فالحرية عندهم آخر مقام للعارف ، وهى تعنى بلوغ الصوفى تمام العبودية لله ، روى عن أحمد بن خضرويه (ت:240هـ) أنه قال : ( فى الحرية تمام العبودية وفى تحقيق العبودية تمام الحرية ) (1) .
ثم يبدأ الصوفية فى جنى ثمار المجاهدة التى بذلوها حتى وصلوا إلى الحرية أو الدرجة الرفيعة فى مقام العبودية ، فأول ثمار الحرية أن يبلغ الصوفى طريق الحب فرسموا لهذا الطريق بداية ونهاية ، فالبداية تكون بالخوف والرجاء يعقبها القبض والبسط ثم الهيبة والأنس ثم التواجد والوجد والوجود ثم ينتهى عندهم بالفناء .
وعندما ينتهى طريق الحب يبدأ طريق ثالث بدايته عند نهاية حال الفناء ، وفيه يتقلب الصوفى بين ممارسة الفناء والبقاء ثم الجمع والفرق ثم الغيبة والحضور ثم المحو والإثبات ثم التلوين والتمكين حتى يصل إلى التحقق .(6/36)
فإذا وصل إلى التحقق وصل إلى الكمال فى جنى المحصول الصوفى ، وهو ما يسمى بلوغ الصوفى درجة الحقيقة التى تقابل الشريعة فى عرفهم (2) ، وربما تسمى هذه المرحلة عندهم مرحلة الحب والفناء .
ــــــــــــــــــــ
1. اللمع للسراج الطوسى ص448 طبقات الصوفية ص104 .
2. انظر تفصيل ذلك فى كتاب الإمام القشيرى سيرته آثاره مذهبه فى التصوف =
ويذكر الدكتور التفتازانى أن تحولا واضحا طرأ على الزهد منذ أوائل القرن الثالث الهجرى على وجه التقريب ، ولم يعد الزهاد فى هذه الفترة يسمون بهذا الإسم ، وإنما عرفوا بالصوفية واتجهوا إلى الكلام عن معانى لم تكن معروفة من قبل ، فتكلموا عن الأخلاق والنفس والسلوك ، محددين طريقا إلى الله يترقى السالك له فيما يعرف بالمقامات والأحوال .
وتكلموا أيضا عن المعرفة ومناهجها والتوحيد والفناء ، ووضعوا القواعد النظرية لهذا كله ، كما حددوا رسوما عملية معينة لطريقتهم وأصبحت لهم لغة رمزية خاصة لا يشاركهم فيها سواهم (1) .
ويشير الدكتور أبو العلا عفيفى أيضا ، إلى أن التصوف بعد أن كان زهدا بسيطا ، دخل طورا جديدا ولعب دورا مؤثرا إلى حد بعيد فى الأذواق والمعرفة والمواجيد ، وقع هذا الدور فى القرنين الثالث والرابع ، اللذين يمثلان العصر الذهبى للتصوف فى أرقى وأصفى مراتبه (2) .
ــــــــــــــــــــ
= للدكتور إبراهيم بسيونى ، مجمع البحوث الإسلامية 1972م ، ص 230 : ص300 وانظر أيضا فى ترتيبهم للأحوال والمقامات ، مفهوم الحرية عند الصوفية فى القرنين الهجريين الثالث والرابع ، رسالة ماجستير للدكتور محمود عبد الرازق ، مخطوط بمكتبة كلية دار العلوم جامعة القاهرة برقم (618) 1995م ، من ص316 إلى ص366 .
1. مدخل إلى التصوف الإسلامى ، تأليف الدكتور أبو الوفا التفتازانى ص95 بتصرف .
2. التصوف الثورة الروحية فى الإسلام ، دكتور أبو العلا عفيفى ص92 ، وانظر =(6/37)
وقد أطلق الصوفية منذ هذا العصر وما بعده ، تسميات خاصة على علمهم فعرف بعلم الباطن ، وبعلم الحقيقة ، وبعلم الوراثة ، وبعلم الدراية فى مقابل علم الظاهر ، وعلم الشريعة ، وعلم الدراسة ، وعلم الرواية (1) .
وفى هذه المرحلة يعتور الصوفى فى رحلته طوارئ شعورية وإيحاءات نفسية قد تكون عابرة ومتغيرة فيسميها بعض الصوفية أحوالا ليفرقوا بينها وبين الإطار النفسى الذى يطول مكثه فيسمى مقاما ، فشعور الخوف مثلا يسبب الانقباض والانكماش النفسى ، بحيث تضيق الأرض بما رحبت فى نظر الصوفى ، ولذا سميت هذه الحالة بحالة القبض ، والشعور بالرجاء يؤنس النفس ويؤدى إلى انبساط الإنسان وتفتحه ويسمى الصوفية هذه الحالة بالبسط (2) .
ويعبر المستشرق نيكلسون عن التطور الذى حدث فى هذه المرحلة بوضع ــــــــــــــــــــ
= للتوسع فى هذه النقطة ، المنهج الصوفى فى الأخلاق ، إعداد محمد يوسف بن الحاج محمد نور ، رسالة دكتوراه بمكتبة كلية دار العلوم سنة 1974م ، وأثر التصوف الإسلامى فى الآداب والأخلاق، إعداد محمد زكى عبد السلام مبارك رسالة دكتوراه بمكتبة كلية الآداب جامعة القاهرة سنة 1937م ، ومدارك السالكين عند الصوفية وأثرها فى السلوك ، إعداد محمد هاشم شكرى ، رسالة دكتوراه بمكتبة كلية أصول الدين جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة سنة 1977م .
1. مدخل إلى التصوف الإسلامى ص97 .
2. التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص148:147 بتصرف .
قواعد السلوك الصوفى ، فيقول : ( أما تقعيد القواعد وتنظيم رسوم الطريق الصوفى ، فإنك تلمحهما واضحين كل الوضوح فى أقوال مشايخ ذلك العصر أينما قرأتها ، فإنهم قسموا الطريق إلى سلسلة من المراحل ، بل ميزوا بين أنواع مختلفة من الطرق ) (1) .(6/38)
وأصبحت كلمة طريقة عند الصوفية ، ثمثل منهجا منظما يشير إلى مجموعة الآداب والأخلاق التى يتمسك بها طائفة من الصوفية ، حتى جعل القشيرى مصطلح الطريقة الصوفية مقابلة لطريقة أرباب العقل والفكر ، ويذكر أيضا كلمة طريقة بمعنى منهج الإرشاد النفسى والخلقى ، الذى يربى به الشيخ مريده فيروى عن أبى على الدقاق قوله : ( الشجرة إذا نبتت بنفسها من غير غارس فإنها تورق ، لكن لا تثمر ، كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يأخذ منه طريقته نفسا فنفسا ، فهو عابد هواه لا يجد نفاذا ) (2) .
وقد أفرزت هذه المرحلة معان واسعة الدلالة للمصطلح الصوفى ، ومضى بعض الصوفية إلى الاستقصاء والبحث عما ورد فى الأصول القرآنية والنبوية من شواهد ، تؤيد ذلك بحيث بدت غالبية القضايا الفكرية اللاحقة فى التأمل الذوقى النظرى ، نتائج ضرورية من إفراز هذا الميدان واتسعت دلالة المصطلح ــــــــــــــــــــ
1. فى التصوف الإسلامى وتاريخه نيكلسون ، ص20 .
2. الرسالة القشيرية ، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود وآخر 2/735 وانظر مدخل إلى التصوف الإسلامى ص97 .
الصوفى وزادت مساحتها ، لتنتقل من دلالة قرآنية عامة تتناول سائر الناس إلى دلالة تفرق بين العامة والخاصة وخاصة الخاصة وأنواع أخرى متزايدة ، فالتغير الدلالى لمصطلح التقوى اتسع ليشمل إطارات مركبة ، وحدود مفصلة لمعانى التقوى من وجهة النظر الصوفية ، فتعددت درجاته وتباينت أنواعه فظهر من ذلك عدة اصطلاحات محدثة منها :
1- تقوى العوام : وهى التى تقدمت فى المرحلة الأولى بالمدلول القرآنى وتتمثل فى طاعة العبد لربه فيما أمر ونهى .
2- تقوى الخواص : وهى موافقة العبد لربه فيما قدر وقضى .
3- تقوى خاصة الخاصة : وهى أن تعرف ما لك وما له فلا تضف ما بك من نعمة إلا إليه وإن وجدت غير ذلك فلا تلومن إلا نفسك .
4- التقوى من التقوى : وهى أن تنخلع من إضافة التقوى إليك لمشاهدتك قيومية الحق تعالى للأشياء .(6/39)
5- تقوى المنتهين : هو طهارة قلوبهم عن أن يلم بها شئ غير الحق وهذا القلب يطلقون عليه البيت المحرم .
6- تقوى المحققين : هو التقوى منه به أى تقواك من مقتضيات اسم المنتقم والضار بالالتجاء إلى اسمه النافع والغفار ، كماقال النبى ?- صلى الله عليه وسلم -: - اللَّهم إنى أعوذ بك منك " (1) .
ــــــــــــــــــــ
جزء من حديث أخرجه مسلم فى كتاب الصلاة (486) 1/352 عن عائشة=
7- تقوى الحقيقة : هو أن يتقى اللَّه من أن يضيف إليه مالا ينبغى لقدسه من الحدث وتوابعه أو أن يضيف إلى خلقه ما لا ينبغى إلا له مما استأثر به لنفسه وهذا إيثار المتقين (1) .
ومصطلح الذكر أيضا اتسعت دائرته الدلالية ، من لفظ ورد فى القرآن والسنة بمعنى حضور الشئ فى القلب دون نسيان وذكره وترديده على اللسان كما فى المعنى السابق الذى ورد فى التصوف الأولى البسيط لتستوعب هذه المعانى :
1- ذكر العامة : وهو ما يتقرب به عامة أهل الإيمان من ذكر الله تعالى إما بكلمة الشهادة وهى كلمة لا إله إلا الله وإما غيرها من التسبيحات والأدعية والأذكار .
2- ذكر الخصوص : وهو الذكر الذى يكون من تلقين الشيخ المرشد لذكر معين إما كلمة لا إله إلا الله أو غيرها ، وذلك لإزالة قيد وحجاب معين مرشد إلى إزالته شيخ عارف بأدواء النفوس ، يكون تلقينه لذلك الذكر أقوى أثرا فى إزالة ظلمة الحجب ، عندما تكون الملازمة لذلك الذكر عن حضور يدفع كل خاطر حتى خاطر الحق أيضا ، ويمنع كل تفرقة تخطر بالبال ويجعل الهم هما واحدا بحيث لا
ــــــــــــــــــــ
= رضى اللَّه عنها أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " اللَّهم أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " .
1. لطائف الإعلام 1/341:339 .(6/40)
يخطر بالبال غير المذكور ، متوجها إليه بتوجه ساذج عن العقائد المقيدة بل على اعتقاد ما يعلم الحق نفسه بنفسه فى نفسه ، ويعلم كل شئ وعلى ما تعلم رسله وتفهمه عنه بحيث لا يدخل خلوة الذكر إلا وهو خال عن كل معتقد سوى الإيمان بما جاء من عند الله على مراد الله وبما أخبر به رسول الله ?- صلى الله عليه وسلم -على مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
3- الذكر الظاهر : ويعنى به ذكر اللسان الذى بمداومته يحصل الخلاص من الغفلة والنسيان .
4- الذكر الخفى : وهو الذكر بالجنان مع سكوت اللسان .
5- ذكر السر : وهو ما يتجلى له من الواردات .
6- الذكر الشامل : يعنى به استعمال الظاهر والباطن فيما يقرب من الله تعالى بحيث يكون اللسان مشغولا بالذكر ، والجوارح بالطاعات ، والقلب بالواردات .
7- الذكر الأكبر : يعنى به ما وقعت الإشارة إليه بقوله تعالى : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } [العنكبوت/45] والمراد به كمال المعرفة والطاعة قال - صلى الله عليه وسلم -: - أنا أعرفكم بالله وأتقاكم له " (1) ، فمن كان فى معرفته وطاعته على هذا
ــــــــــــــــــــ
1. لم يرد فى الحديث لفظ : " أنا أعرفكم بالله " ولكنه صحيح عن عمر بن أبي سلمة - رضي الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - بلفظ : " أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له " أخرجه الإمام مسلم فى كتاب الصيام برقم (1108) 2/779 .
الحد فهو عندهم صاحب الذكر الأكبر .
8- الذكر الأرفع : وهو الذكر الأكبر لأنه أرفع الأذكار ، ويسمى الذكر المرفوع أيضا ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك } [الشرح/ 4] ، فإنه تعالى رفعه بذكره وطاعته له إلى مرتبة فى الذكر لا يعلوها غيره من الخلائق .(6/41)
9- الذكر المرفوع : هو الأرفع ، وقد يعنى بالذكر المرفوع ذكر الحق لعبده جزاء له على ذكره لربه ، كما جاء فى الكلمات القدسية إنه تعالى يقول : " من ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى ، ومن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم " (1) .
نتائج سلبية أفرزتها المرحلتان السابقتان :
ولئن كان التصوف فى مرحلتيه السابقتين ،متوافقا فى أغلب الأحوال مع ضوابط النظر إلى الأصول القرآنية والنبوية إلا أنه ظهرت بعض الصفات السلبية كنتائج مؤثر فى المراحل التالية ، فالتصوف الذى بدأ زهدا بسطا وتوكلا تلقائيا عفويا على الله باعتباره هو الذى يكفى عباده المتقين وإن كان قد استمر اتجاها معتبرا عند المحافظين إلا أنه اكتسب أطرا تصنيفية عند آخرين ، وتشبع بتطلعات نظرية ازدادت تعقيدا وتشعبا يوما بعد يوم ، إلى جانب ظهور اتجاهات فرعية ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب التوحيد (6856) 1/2ص187 ، وانظر لطائف الإعلام ص 468: 471 .
نمت وربت وتطورت واتسعت إلى درجة أن الزهد أو التوكل ، الذى يعد حجرا أساسيا أو زاوية فى بنائها العقدى والسلوكى ، لم يعد هو المهيمن على بواعث السلوك ، وطرأت مشكلات جديدة لم يألفها السلف أفرزتها طبيعة العصر والثقافات الواردة والهمم التى مارست هذا النوع من التجارب الصوفية التى قصدت الحقيقة .(6/42)
ولقد أبت المستويات المتطورة والمتلاحقة من الثقافات الوقوف عند حد الانقياد والتسليم للكتاب والسنة ، بل ما فتئت تبحث لاتجاهاتها عن مسوغات ومبادئ نظرية تذود عنها ، وتقيمها مذهبا فكريا يقف أمام تيارات النقد الموجهة من المخالفين ، فى النظرة إلى جدوى هذا النوع من السلوك فى تحقيق معنى التوحيد وفهمه الفهم الأقوم ، وخلال تلك المسيرة لم يفتر التصوف عن الاستفادة من كل ما وقعت عليه يداه ، فقد صرف المتصوفون جهودا كبيرة فى الرياضات النفسية ، ولم يدخروا وسعا فى الاطلاع على الآثار الدينية السابقة وجندوا معلوماتهم التى استقوها من التوراة والإنجيل ، مع ما ارتبط بذلك من دعوة إلى الزهد والفقر والاستسلام .
يقول الدكتور كمال جعفر : ( ظهر فى تعبير الصوفية العملى والمكتوب آثار التطور ، إما بطريقة مباشرة أو خفية فى أحيان كثيرة ، وغدت آثار المفكر الصوفى الواحد تشتمل على كثير من العقائد ذات الأصول المختلفة تتم المؤخاة بينها ، من خلال إمكانية التفسير والصرف ، بسبب طبيعة اللغة التى كتبت بها وطبيعة تكوين التجربة المعرفية الدينية ذاتها ، وحفلت الإشارات لدى أعلام التصوف ، بالمعانى الزاخرة التى تستند أصلا إلى قدر غير يسير من التراث السابق ) (1) .
ويمكن الإشارة إلى نماذج من السلبات التى لازمت التصوف فى مرحلتيه الأولى والثانية ، والتى دفعت بعض الصوفية إلى الجرأة على كسر حاجز الاتباع وإطلاق العنان أمام الدوافع والانفعالات الروحية لتعطى ما أفرزته حرية التجربة الصوفية ، وأهم هذه السلبيات يتمثل فيما يلى :(6/43)
(1- التأكيد على إظهار الذات الصوفية من خلال الاعتراف بالجهد النفسى الذى يتكلفه الصوفى لكبت رغباته وشهواته مما يوقع فى المغالاة وانعدام التأسى ، كما رأينا نماذج متعددة فيما سبق وكقول مالك بن دينار : ( ما أكلت العام رطبة ولا عنبة ولا بطيخة ألست أنا مالك بن دينار ، وقال لرجل من أصحابه : إنى لأشتهى رغيفا لينا بلبن رائب ، فانطلق فجاء به فجعل مالك يقلبه وينظر إليه ثم قال : أشتهيك منذ أربعين سنة ، فغلبتك حتى كان اليوم وتريد أن تغلبنى ، إليك عنى وأبى أن يأكله ، لقد اشتريت لأهلى طيبا بدرهم وإنى لأحاسب نفسى فيه منذ عشرين سنة فما أجد له مخرجا ) (2) .
ويسفر هذا النص عن الاعتراف بالجهد النفسى الذى يتكلفه الصوفى لكبت رغباته وشهواته ومشاعره وحاجاته الحقيقية ، وهذه المجاهدة الشخصية تكشف ــــــــــــــــــــ
1. من التراث الصوفى 1/19 .
2. حلية الأولياء 2/365 .(6/44)
عن عدم التأسى التام بما كان يفعله النبى - صلى الله عليه وسلم - خاصة فى الإقبال على الطيبات وتظهر جانبا هاما من تحول التصوف من مجرد طريقة لنيل رضى الله إلى طريقة تؤكد قوة الذات السالكة فى طريق الوصول إلى الله ، وفى هذا السياق يبدوا الموقف العدائى الذى اتخذه الصوفى إزاء الدنيا ، وقد اتسم بنوع من الفاعلية تدفع إلى الرغبة فى الانتصار ، بحيث تكون مقاومة المغريات شاملة لما هو خارج نطاق الأحكام الأخلاقية ، فأكل رغيف الخبز مع لبن رائب ليس قضية إشكالية على المستوى الأخلاقى أو الدينى التعبدى ، ولم يتحول إلى ذلك إلا بجهد شخصى خاص ، عمد فيه مالك إلى تكريسه لدى الآخرين ، كطريقة عفوية فى تثبيت الانفرادية والشعور بالتميز وبالتأنى والتفوق ، وقد اعتبر مالك التجرد من كل شئ سبيلا ملائما للعبادة ، ووصل إلى حد القول : ( لو استطعت لطلقت نفسى ) (1) ، خشية وجود علاقة بين شيئين ، هو أحدهما يترتب عليها نتائج سلوكية يحاسب عنها ، وقد حدث على مثل هذا التصرف فقال : ( لا يبلغ الرجل منزلة الصديقين ، حتى يترك زوجته كأنها أرملة ، ويأوى إلى مزابل الكلاب ) (2) .
وهذا سهل بن عبد الله التسترى ، واظب على صوم الوصال بهيئات متعددة ثلاثة أيام متواصلة ، ثم خمسة ، فسبعة ، وحاول صيام خمس وعشرين ليلة (3) معتبرا إضعاف قدرة البدن عن الحركة ، طريقا للوصول إلى الكمال الممكن فى ــــــــــــــــــــ
1. السابق 2/365 . 2. السابق 2/359 . 3. اللمع ص269.
تأديب النفس مع الاعتقاد بأن البدن عائق فى سبيل المعرفة والوصول إلى الكشف عن الحقيقة ، وأفعال الصوفية فى هذا الميدان أكثر من أن تحصى .(6/45)
(2- زعم الوصايا الإلهية للنبى - صلى الله عليه وسلم - ومحاكاة القرآن فى النظم المسجوع ، حيث نشأت أقوال وعظية لدى أوائل الصوفية ، تحمل اتجاها خطيرا يتمثل فى محاكاة القرآن الكريم فى اصطناع الأسجاع فى مواعظهم ، فمن ما ذكره إبراهيم بن أدهم فى نصحه الإرشادى ومخاطباته الوعظية حيث قال :
( إياكم والكبر ، إياكم والإعجاب بالأعمال ، انظروا إلى من دونكم ، ولا تنظروا إلى من فوقكم ، من ذلل نفسه رفعه مولاه ، ومن خضع له أعزه ، ومن اتقاه وقاه ، ومن أطاعه أنجاه ، ومن أقبل عليه أرضاه ، ومن توكل عليه كفاه ومن سأله أعطاه ، ومن أقرضه قضاه ، ومن شكره جزاه ، اشغلوا قلوبكم بالخوف من الله ، وأبدانكم بالدأب فى طاعة الله ، ووجوهكم بالحياء من الله وألسنتكم بذكر الله ، وغضوا أبصاركم عن محارم الله ، فإن الله تعالى أوحى إلى نبيه : يا محمدا كل ساعة تذكرنى فيها ، فهى لك مذخورة ، والساعة التى لا تذكرنى فيها ، فليست لك ، هى عليك لا لك ) (1) .
فالجديد فى هذا الأقوال ليس الوعظ وطريق النجاة اللذين ذكرهما إبراهيم بن أدهم ، بل الجديد والغريب فى وقت واحد ، هو الاتجاه إلى زعم الوصايا الإلهية للنبى - صلى الله عليه وسلم - مما سنجده عند الصوفية تباعا ، حيث أفاد هذا الرجل صدور وعيد ــــــــــــــــــــ
1. حلية الأولياء 8/40 .
إلهى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أن الساعة التى لا يذكر فيها ربه ستحسب عليه إذ لا أصل فى الدين لهذا الزعم .(6/46)
ومن ذلك أيضا ما روى عن إبراهيم بن أدهم أنه قال : ( يقول الرحمن : إلىَّ عبادى ، إلى عبادى ، إلى أوليائى المطيعين ، إلى أحبائى المشتاقين ، إلى أصفيائى المحزونين ، ها أنا ذا ، عرفونى من كان منكم مشتاقا أو محبا أو متعلقا فليتمتع بالنظر إلى وجهى الكريم ، فوعزتى وجلالى لأفرحنكم بجوارى ولأسرنكم بقربى ، ولأبيحنكم كرامتى ، من الغرفات تشرفون ، وتتكئون على الأسرة فتتملكون ، تقيمون فى دار المقامة أبدا لا تظعنون ، تأمنون فلا تحزنون وتصحون فلا تسقمون ، تنعمون فى رغد العيش لا تموتون ، وتعانقون الحور الحسان فلا تملون ، كلوا واشربوا هنيئا ، وتنعموا بما أنحلتم الأبدان ، وأنهكتم الأجسام ، ولزمتم الصيام ، وسهرتم بالليل والناس نيام ) (1) ، ويفهم من هذا الكلام أمور خطيرة ، أهمها :
1- الرغبة فى المحسنات البديعية للكلام من خلال السجع المصطنع ، الذى يعطى وقعا مقبولا فى النفوس .
2- نسبة الوعد إلى الحق فى إباحة كرامته للعبد ، وهذا من باب القول على الله بلا علم ، وؤدى إلى فتح طريق من الصعب أن يغلق فى هذا الباب .
3- خطور الأبعاد الاعتقادية التى يوصل إليها مثل هذا الكلام .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق 2/37.
(3- الجرأة على الفتيا فى الأمور الروحية وتقسيماتها بلا دليل ، وهذا الاتجاه قل من سلم منه ، يقول شقيق البلخى : ( عشرة أبواب من الزهد يسمى الرجل منها زاهدا إذا فعلها ، فإذا خالفها سمى متزهدا ) (1) .
ولا يدرى الباحث على أى دليل قام هذا التقسيم ، ومثله قوله : ( هنا سبعة أبواب يسلك منها الرجل إلى طريق الزهد ) (2) ، ويقول أيضا فى التوكل :(6/47)
( أربعة أنواع من التوكل ، يمكن أن يختلط بعضها ببعض ، فتلتبس الأمور على السالك ، التوكل على المال : أن نقول ما دام هذا المال فى يد فلان فلا أحتاج أحدا ، التوكل على النفس : وهو الاعتداد بقوى الإنسان الخاصة وحدها ، التوكل على الناس : وهو الاعتماد عليهم فى كل الحوائج ، التوكل على الله : وهو أن تعرف أن الله تعالى خلقك وهو الذى ضمن رزقك وتكفل برزقك ، ولم يحوجك إلى أحد ، وأنت تقول بلسانك : { وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي } [الشعراء/79] ) (3) .
ويقول سهل بن عبد الله ، تاركا عنان الخيال التصويرى : ( للقلب سبعة حجب سماوية وسبعة أرضية ، ولا ترتفع الحجب حتى يدفن المؤمن نفسه فى أرض أرض ، فيكشف له سماء سماء ، لكل أرض سماء حتى ينتهى إلى الثرى ــــــــــــــــــــ
1. طبقات الصوفية ص61 .
2. حلية الأولياء 1/66.
3. السابق 1/61 .
ثم إذا صار إلى الثرى ، وصل القلب إلى العرش ) (1) .
وكل هذه الاجتهادات والتقسيمات الروحية تفتقر إلى الدليل ، ومن ثم فإنه من الطبعى أن تكون النظرة فى الأصول القرآنية ، نظرة انتقائية تدعيمية للتدليل على صدق التجربة الصوفية .(6/48)
(4- اتجاه التبصير بجدوى الفعل الصوفى ومنحاه ، حيث تجرأ كثير من الصوفية على منح الجزاء على الأفعال الصوفية ونسبتها إلى الله ، كقول شقيق : ( أقرب الزهاد من الله أشدهم خوفا ، وأحب الزهاد إلى الله أحسنهم عملا وأفضل الزهاد عند الله أعظمهم فيما عنده رغبة ، وأكرم الزهاد عليه أتقاهم له وأتم الزهاد زهدا أسخاهم نفسا وأسلمهم صدرا ، وأكمل الزهاد زهدا أكثرهم يقينا ) (2) ، وما يؤخذ على هذا التعداد لمراتب القرب والفضل والكرم والتمام والكمال فى الزهد ، هو أن صاحبها خرج بها لترغيب مريديه من حيز أحكامه الشخصية ورؤيته الخاصة إلى اعتبارها درجات أو مراتب أو تسميات معتمدة عند الله ، فارتكب خطأ كبيرا فى فتح باب الابتداع ونقل الخاص إلى عام والوصفى إلى إلزامى ، وتتابعه على ذلك أقرانه من المتصوفين الآخرين الذين لا ينفكون عن ارتكاب هذا الخلط غير المشروع بتأثير الرغبة الجامحة فى تعميم ما هو شخصى على ما هو جماعى ، بدافع دعوى نفعه وصلاحه .
ــــــــــــــــــــ
1. من رسالة الحروف لسهل بن عبد الله التسترى ص184 .
2. حلية الأولياء 1/76.
( 5- تأثر التصوف بعناصر غير إسلامية ، فقد كان بعض الصوفية يغشى أديرة النصارى ، ويديم الاطلاع على العهد القديم والجديد ، وقد كان ذلك بغية البحث عن عوامل ترقيق القلوب ، وما هو مستغرب من الأخبار التى تدفع الصوفية إلى المزيد والمزيد ، وقد أفاد الدكتور عبد الرحمن بدوى أن مالك بن دينار هو أول شخصية صوفية امتزجت فيها الحياة الروحية الإسلامية بعناصر غير إسلامية وكتابية على وجه التخصيص (1) .(6/49)
ومثال ذلك قول مالك : ( قرأت فى الزبور : إنى لأنتقم من المنافق بالمنافق ثم أنتقم من المنافقين جميعا ، ونظير ذلك فى القرآن : { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون َ } [الأنعام/129] ) (2) ويقول أيضا : ( مكتوب فى الزبور ، طوبى لمن لم يسلك طريق الأئمة ولم يجالس البطالين ، ولم يقم فى هوى المستهزئين إنما همه حكمة الله ، لها يطلب وبها يتكلم ، فمثله مثل الشجرة فى وسط الماء ، لا يتساقط من ورقها شئ ) (3) ، وله أيضا : ( قال موسى عليه السلام : يارب أين أبغيك ؟ قال : ابغنى عند المنكسرة قلوبهم ) (4) .
ولئن كانت المفترض فى التصوف ، أن يرجع فى أصله إلى الأصول القرآنية ــــــــــــــــــــ
1. تاريخ التصوف الإسلامى للدكتور عبد الرحمن بدوى ، ص207 .
2. حلية الأولياء 8/70 .
3. السابق 2/376 .
4. السابق 2/364 .
والنبوية وأن تكون اللبنات الأساسية ، التى يقام عليها صرح الحياة الروحية الإسلامية مركبة من مواد إسلامية ، إلا أنها بمرور الزمن وبحكم اتصال الأمم واحتكاك العقائد ، قد تأثرت ودخلت فيها عناصر نصرانية فتشابهت المذاهب الصوفية وكثير من التعاليم النصرانية بعد ذلك (1) .
ولا يعنى ذلك أبدا القول بنظرية المصدر المسيحى للتصوف ، كما استغل ذلك كثير من المستشرقين أمثال جولد زيهر وفون كريمر ، وجوليان بالديك وغيرهم (2) ، ولكن الصوفية فى مؤلفاتهم تساهلوا فى النقل عن أهل الكتاب وأكثروا فى كلماتهم من العبارات المرويه عن الإسرائيليات ، وللأسف أن هذا الأمر سرى عند أقرانهم من أصحاب العلوم الأخرى ، فعلماء التفسير أكثر رواية من الصوفية فى النقل عن أهل الكتاب ، ولا يعنى ذلك أن علم التفسير تولد عن مصدر مسيحى .(6/50)
المرحلة الثالثة : التصوف الحلولى الذى نجم عن الغلو فى الحب والفناء ودعوى الاتحاد ، وهى حركة صوفية اهتزت فيها معايير الأصول القرآنية للمصطلح الصوفى ، وفارق فيها اللفظ فى أغلب الأحيان معناه ، حيث غدت الرياضة الصوفية فى المرحلة اللاحقة ترمى إلى الوصول لله والاتحاد به ، على نحو يعطى الصوفى تميزا أعلى مما كان يرمى إليه كل سالك فى أهدافه المتواضعة ، وغدا ــــــــــــــــــــ
1. الحياة الروحية فى الإسلام للدكتور مصطفى حلمى ص65 بتصرف .
2. الاتجاهات الحديثة فى دراسة التصوف للدكتور محمد عبد الله الشرقاوى ص73 .
الاقتصار على التوقف فى مستوى المرحلتين السابقتين ، قصورا سلوكيا ينبغى للصوفى ألا يطيل اللبث فيه طويلا ، وانتقل التصوف نقلة إلى مرحلة جديدة فى تحول الصوفى من مجرد سالك أو متوكل يجعل كده وجهده فى مزيد من التأسى والمجاهدة فى العمل ، إلى صوفى ينقل إلينا تجربته الدينية الشخصية ، ويدفعنا إلى الاقتداء بطريقة تفكيره وتدبره إلى جانب اقتدائنا بطريقته السلوكية العملية .
وينسب إلى أبى سعيد الخراز ، أنه أول من تكلم عن الفناء ، بمعنى الفناء عن الحواس أثناء مشاهدة الحق ، وأنه ذهاب القلب عن حس المحسوسات بمشاهدة ما شاهد ، ثم يذهب عن ذهابه ، والذهاب عن الذهاب يتواصل بلا نهاية ومن ثم تحول الفناء عن الحواس إلى فقدان الصوفى وعيه فقدانا تاما (1) .
ويقول أبو يزيد البسطامى : ( طلقت الدنيا ثلاثا ثلاثا ، بتاتا لا رجعة فيها وصرت إلى ربى وحدى ، فناديته بالاستغاثة : إلهى أدعوك دعاء من لم يبق له غيرك ، فلما عرف صدق الدعاء من قلبى ، والإياس من نفسى ، كان أول ما ورد على من إجابة هذا الدعاء ، أن أنسانى نفسى بالكلية ونصب الخلائق بين يدى مع إعراضى عنهم ) (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. الصوفية فى الإسلام نيكلسون ص139 وانظر اللمع ص423 .(6/51)
2. حلية الأولياء 1/36 وانظر أيضا :كتاب الفناء للجنيد بن محمد ، نشره الدكتور محمد كمال جعفر فى كتابه التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص303 وفيه تفاصيل دقيقة عن الفناء الصوفى ، وحال الفناء فى التصوف الإسلامى ، إعداد إبراهيم محمد ياسين رسالة =
ويسرف أبو يزيد البسطامى فى التعبير عن حال فنائه واتحاده بمحبوبه فينطق بشطحات غريبة ، نحو قوله : ( إنى أنا الله لاإله إلا أنا فاعبدنى ) (1) ، وقوله : سبحانى ما أعظم شأنى (2) ، وقوله : خرجت من بايزيديتى كما تخرج الحية من جلدها ونظرت فإذا العاشق والمعشوق والعشق واحد لأن الكل واحد فى عالم التوحيد (3) ، وسئل ما هو العرش ؟ فأجاب : أنا هو ، وما هو الكرسى ؟ فأجاب : أنا هو ، وما هو اللوح والقلم ؟ فأجاب : أنا هو (4) .
وقد تطور معنى الفناء عبر المراحل السابقة على درجات متعددة ، ليصل إلى محله فى هذه المرحلة ويبلغ بذلك منتهاه :
1- فناء بمعنى تغيير معنوى للصوفى بإفناء ميوله ورغباته جميعا من المخالفة إلى الموافقة .
2- فناء بمعنى التجريد العقلى وعدم الالتفات إلى المدركات والأفكار والأفعال والأحاسيس وذلك بانحصاره فى التفكير فى الله .
ــــــــــــــــــــ
= ماجستير بمكتبة كلية الآداب جامعة القاهرة سنة 1980م .
- ? تمهيد - - - } - فهرس - فهرس ? - ? - - - عليه السلام - } - ? - ? الله - - - } ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -? - - صلى الله عليه وسلم - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - صلى الله عليه وسلم - } - } فهرس - صلى الله عليه وسلم - - - - صلى الله عليه وسلم -?? - - صلى الله عليه وسلم - - } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - فهرس } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? - - صلى الله عليه وسلم -? - -(6/52)
?? تمهيد - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?? تمهيد - عليه السلام - - - عليه السلام - - مقدمة - فهرس - صلى الله عليه وسلم -? - ?? بسم الله الرحمن الرحيم - - صلى الله عليه وسلم - } - ? - ? - - - - ? - { - - ? - ??
1. تذكرة الأولياء 1/137 .
2. السابق 1/160 .
3. السابق 1/160 .
4. السابق 1/171 .
3- فناء بمعنى ابطال قوى الفكر الواعى حتى لا يدرك فى الفناء الفناء وهو ما يدعى بفناء الفناء كخطوة نهائية لحلول الله فى الذات الصوفية (1) .
وألفاظ الفانى ومصطلحاته فى هذه المرحلة ، تظهر فكرا جديدا لا يتميز بالبساطة التلقائية التى كان السالكون فى المرحلة السالفه يتبعونها ، وتطلب الأمر إعادة تعريف بعض ألفاظ الصوفية الشائعة ، باعتبار التغير الدلالى الذى طرأ عليها ، فتعريفها أصبح يمثل جزءا هاما فى تحديد الإطار الفكرى لكل تجربة صوفية على حده ، وبدا من ذلك أيضا ملمحا جديدا لم يكن من مقبل وهو ابتعاد الصوفى فى هذا الطور من التفكير ، عن إلحاحه فى طلب الجنة باعتبارها الجزاء الأوفى الذى كانت تتجه إليه مجاهدات الزاهدين ، وانصرافه إلى التركيز على الذات الإلهية لاعتبارها غاية الغايات مما جعل البسطامى يضع فى سلوكية العارف أنه لا يفتر من ذكره ولا يمل من حقه ولا يستأنس بغيره فقال : ( إن الله تعالى أمر العباد ونهاهم فأطاعوه ، فخلع عليهم خلعة من خلعة فاشتغلوا بالخلع عنه وإنى لا أريد من الله إلا الله ) (2) ، ولذلك اتسم سلوك البسطامى بطابع أفرده واشتهر به ، فقد روى أن أحمد بن حرب الصوفى وجه إليه حصيرا وكتب معه : ( صلى عليه بالليل ، فكتب أبو يزيد إليه : إنى جمعت عبادات أهل السموات والأرضين السبع فجعلتها فى مخدة ووضعتها تحت خدى ، وكان
ــــــــــــــــــــ
1. الفكر الإسلامى والفلسفات المعارضة ، للدكتور عبد القادر محمود ص76 .(6/53)
2. طبقات الصوفية للسلمى ص70 ، وانظر حلية الأولياء 1/36 .
يقول : (لم أزل أجول فى ميدان التوحيد ، حتى خرجت إلى دار التفريد ، ثم لم أزل أجول فى دار التفريد ، حتى خرجت إلى الديمومية ، فشربت بكأسه شربة لا أظمأ من ذكره بعدها أبدا ) (1) .
ويبدو واضحا من بين السطور مشاعر التميز لدى صوفى لا يريد من الله إلا الله فيحبه لذاته دون مكاسب أخرى عاجلة أو آجلة ، وقد أدى هذا الشعور إلى طلب الاستزادة ، والبحث الدائم عن وسيلة تنفع فى إفناء النفس فى الله ولله وفى المقابل استحقار من هو قائم فى البدايات ، واقف مع نفسه على طلب الجنة ، يقول البسطامى : ( الجنة لا خطر لها عند المحبين وأهل المحبة محجوبون بمحبتهم ، وإن لله خواصا من عباده لو حجبهم فى الجنة عن رؤيته لاستغاثوا بالخروج من الجنة ، كما يستغيث أهل النار بالخروج من النار ) (2) .
ويشاركه أبو بكر الشبلى (ت:334هـ) ويصرح بأنه لا يخاف من النار ولا تمثل عنده شيئا يلتفت إليه ، فقال : ( إن للَّه عبادا لو بزقوا على جهنم لأطفئوها ) (3) وقال أيضا : ( لو خطر ببالى أن الجحيم بنيرانها وسعيرها تحرق ــــــــــــــــــــ
1. حلية الأولياء 1/35 .
2. السابق 1/36 وانظر المزيد عن فلسفة الحب عند أبى يزيد ، الحب الإلهى عند صوفية القرنين الثالث والرابع الهجريين ، إعداد صبرى متولى منصور الشرقاوى ، رسالة ماجستير بمكتبة كلية الآداب جامعة القاهرة سنة 1986م ص132 وما بعدها .
3. اللمع ص490 .
منى شعره لكنت مشركا ) (1) ولما سمع قارئا يقرأ هذه الآية : { قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُون } [المؤمنون/108] قال : ليتنى كنت منهم (2) .(6/54)
فالأمور لم تعد تعالج من خلال النظر إلى طبيعتها المألوفة التى اعتاد عليها الناس ، فقد كان من سبق يغمره إحساس بالخوف من عذاب الحريق ، الذى يصعق سمعه بمثل قوله تعالى : { كَلا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى } [المعارج/19:15] أو قوله تعالى : { قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون/108] ، ويضطرب إشفاقا على نفسه من ذنبه الذى أحاط به ، أصيب هذا وأمثاله بخيبة الأمل فى تعلقهم بشئ ظنوا أنه نافع ذو جدوى وهو عند أبى يزيد ورفقائه من الصوفية لا شئ .
لقد أصبح للمتحققين فى التصوف نوع من البعد الجديد يظهر عبر الاتصال بالذات الإلهية دون النظر إلى مسألة الحساب أو الترغيب فى الثواب أو الترهيب من العقاب ، التى قامت عليها الشرائع ونزل من أجلها الوحى ، إن الحرص على الوصول إلى رب الحنة وليس إلى الجنة ، والخوف من إعراض رب النار وليس من حريقها مرتبتان أعلى عند هؤلاء ، من مرتبة التجارة التى كان ينظر بها للعلاقة بين العبد وربه (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص491 .
2. السابق ص491 والتعرف لمذهب أهل التصوف ص161، 184 .
3. الحب الإلهى عند صوفية القرنين الثالث والرابع الهجريين ، ص135 .
وبهذا التفريق أصبح من الضرورى عدم التوقف عند حدود مراسم التصوف الأولى وقطع مدارج السالكين فى مقاماتهم وأحوالهم ، فالزهد والعبادة ولبس والمرقعات والإقبال على السياحة وترك لذائذ الحياة العاجلة ، لم تعد كلها كافية عند هؤلاء للوصول الحقيقى إلى المحبوب ، إذ لا بد من توحيد الهم الذى يملأ القلب ويشغل البال ويجتذب الهمة ويستدعى الفعل ، فيقبل السالك تاركا المعرفة والعلم والإشارة وقد توقدت ذاته شوقا لمولاه ، فيزهد فى كل ما عداه لذا تابع البسطامى موقفه قائلا :(6/55)
( أشد المحجوبين عن الله ثلاثة بثلاثة ، فأولهم الزاهد بزهده ، والثانى العابد بعبادته ، والثالث العالم بعلمه ، الزاهد مسكين لأنه ألبس زهده وجرى به فى ميدان الزهاد ، ولو علم المسكين أن الدنيا كلها سماها الله قليلا ، فكم ملك من القليل وفى كم زهد مما ملك ، والزاهد هو الذى يلحظ إليه بلحظة ، فيبقى عنده ثم لا ترجع نظرته إلى غيره ولا إلى نفسه ، وأما العابد فهو الذى يرى منة الله عليه فى العبادة أكثر من العبادة ، حتى تعرف عبادته المنة ، وأما العالم فلو علم أن جميع ما أبدى الله من العلم سطر واحد من اللوح المحفوظ ، فكم علم هذا العالم من ذلك السطر وكم عمل فيما علم ) (1) .
ويعتبر البسطامى أول من مارس لفظ الفناء بمعناه الاتحادى ، وقدم فيما قدم نظريته فى الاتحاد بالله ، تلك التى قال فى سعيه إليها : ( أشرقت على ميدان ــــــــــــــــــــ
1 . حلية الأولياء لأبى نعيم الأصفهانى1/37 .
الليسية فما زلت أطير فيه عشر سنين ، حتى صرت من ليس فى ليس بليس ، ثم أشرفت على التضييع ، وهو ميدان التوحيد فلم أزل أطير بليس فى التضييع حتى ضعت فى الضياع ضياعا ، وضعت فضعت عن التضييع ، بليس فى ليس فى ضياعه التضييع ، ثم أشرفت على التوحيد ، فى غيبوبة الخلق عن العارف وغيبوبة العارف عن الخلق ) (1) .
ويرى المستشرق ستيس أن التجربة الصوفية تكمن فى قول أبى يزيد : ( ألبسنى أنانيتك ، وفى قوله : فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك ) ، وهذه العبارة الأخيرة تعنى فى رأيه أن ذاتية أبى يزيد قد اختفت أو تلاشت فى الذات الكلية لله ، بحيث لم يعد هناك أنا وإنما أنت فقط ، ويرى ستيس أيضا أن تجربة فقدان الفردية أو الذاتية فى الوجود المطلق ، هى ما يطلق عليه اصطلاحا الفناء (2) .(6/56)
وهنا يتواصل الطريق الذى مهده البسطامى لرفيقه فى الرحلة ، الحسين بن منصور الحلاج ، أو يقدم الأرض الخصبة للحلاج ليغرس بها بذور نظريته فى الحلول بعد الاتحاد (3) ، فالحلاج توسم منذ وقت مبكر أن التوحيد لا يكون حقا ، إلا إذا كانت صيغته هى التى نطق بها الله نفسه ، فأعمل فكره فى لغة ــــــــــــــــــــ
1. اللمع 469 .
- - ? - - رضي الله عنه - - - - صلى الله عليه وسلم -? - ? تمهيد - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - } - } - مقدمة ? - فهرس - ? { - } - - - - { - - رضي الله عنهم -? - تمهيد - - ? تمهيد } - - - فهرس ? - ? - - فهرس - - - فهرس
???? - - تمهيد - ? بسم الله الرحمن الرحيم - - - - بسم الله الرحمن الرحيم ? - - -
3. الصوفية فى الإسلام نيكلسون ص212 .
القرآن ومبانيه ومعانيه ، وكانت له فى ذلك مواقف معروفة ، وقد عبر عن ذلك بقوله : ( حقيقة المحبة ، قيامك مع مجبوبك بخلع أوصافك والاتصاف بأوصافه ) (1) .
وزعم الحلاج أن من هذب فى الطاعة نفسه وأشغل بالأعمال الصالحة قلبه وصبر على مفارقة اللذات وملك نفسه فى منع الشهوات ، ارتقى به إلى مقام المقربين ، ثم لا يزال يتنزل فى درج المصافاة حتى يصفو عن البشرية طبعه ، فإذا لم يبق فيه من البشرية نصيب ، حل فيه روح الله الذى كان منه عيسى بن مريم فيصير مطاعا ، فلا يريد شيئا إلا كان من كل ما ينفذ فيه أمر الله ، وأن جميع فعله حينئذ فعل الله ، وجميع أمره أمر الله ، وهذا يعنى أن الحلاج اعتنق عقيدة حلول الله فى الإنسان ، واستحالة الإرادة الإنسانية إلى إرادة إلهية ، بحيث يصبح كل ما يصدر عن الإنسان من فعل فعلا لله (2) .
ونظم الحلاج نصوصا شعرية كثيره ، فلسف فيها نظريته فى حلول المحبوب فى المحب ، أو حلول الرب فى العبد منها :
مزجت روحك فى روحى كما تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسك شئ مسنى فإذا أنت أنا فى كل حال
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا(6/57)
ــــــــــــــــــــ
1. أخبار الحلاج نشرة ماسينيون ص24 .
2. الحياه الروحية فى الإسلام للدكتور مصطفى حلمى ص140،141 .
فإذا أبصرتنى أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا (1) .
لقد اعتمد الحلاج فى أصل فلسفته على تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً َ } [البقرة/30] ، وفلسفته تتمثل فى أن الله خلق آدم على صورته ، أخرجها وصاغها من حبه الخالد لما أراد أن يعرف كما يقول الحديث الموضوع أو النص الصوفى المقدس : ( كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف ، فخلقت الخلق لأعرف ) (2) .
ولما كان الإنسان بما هو إنسان يعيش فى حجاب اسمه الجسد وتشغله الأديان بأشكال ورسوم العبادات فى سجن الشرائع ، فإنه يعانى قلقا عارما متصلا عن طريق حبه لله فى ذاته ، وتمور به تبدلات روحانية عاصفة حتى يجد الله فى ذاته فإذا لم يبق فيه من البشرية نصيب ، حل فيه روح الله كما حل فى عيسى على نظرة الحلاج (3) ، وعلى هذا أمر الله الملائكة بالسجود لآدم ، الذى تجسد ــــــــــــــــــــ
1. الطواسين للحلاج ص130 وانظر أيضا للتوسع فى ذلك بحث عن الحب الإلهى فى التصوف بين الإسلام والنصرانية إعداد دين محمد ميرا صاحب ، رسالة دكتوراة بمكتبة كلية أصول الدين جامعة الأزهر الشريف ، القاهرة سنة1991م ، وللمقارنة الحب الصوفى عند الإمام البرعى إعداد سبع متولى أيوب ، رسالة ماجستير بالمكان السابق سنة 1984م .
2. موضوع ، انظر كشف الخفا ومزيل الإلباس للعجلونى 2/116 .
3. الفكر الإسلامى والفلسفات المعارضة فى القديم ، ص78 .
أو تشخص فيه ، يقول الحلاج فى كثير من نصوصه الشعرية نظما ونثرا :
سبحان من أظهر ناسوته : سرا سن ى لاهوته الثاقب
حتى بدأ فى خلقه ظاهرا : فى صورة الآكل والشارب (1) .(6/58)
وقد فاضل الحلاج بين موقفى إبليس وموسى الذى تطلع إلى رؤية الله ، فرأى أن موقف إبليس فى رفض السجود أقوم ، وهو أشبه ما يكون بموقف محمد - صلى الله عليه وسلم - وكل ما هنالك من فرق بينهما أن محمدا لم يرجع إلى حوله بعد توقفه ، فقال : بك أحول وبك أجول ، بينما رجع إبليس إلى حوله بقوله : أنا خير منه ، لذا رأى الحلاج أن فرعون وإبليس مثالان رائعان للفتوة والثبات على الدعوة رغم ما لحقهما من لعن ، واتخذهما قدوة فى الثبات على دعواه أنا الحق ، قائلا : ( فصاحبى وأستاذى إبليس وفرعون ، فإبليس هدد بالنار ، وما رجع عن دعواه وفرعون أغرق فى اليم ، وما رجع عن دعواه ، ولم يقر بالواسطة البتة ) (2) .
أما محمد - صلى الله عليه وسلم - فتوقف فى المعراج عند أعتاب الحريق الإلهى ، وكان عليه كما يقول الحلاج أن يتقدم للدخول فى نار الإرادة الإلهية حتى يفنى فيها كما تحترق ـــــــــــــــــــ
1. كتاب الطواسين للحلاج ص130.
2. الصوفية فى الإسلام لنيكلسون ص140 وانظر السابق ص51 ، وانظر أيضا ما كتبه الدكتور مصطفى كامل الشيبى عن الحلاج ، وأنه كان داعيا إسماعيليا أو قرمطيا فى كتابه الفكر الشيعى والنزعات الصوفية ، طبعة بغداد سنة 1966م ص72 ، وانظر أيضا الفهرست لابن النديم ص204 .
الفراشة المقدسة وأن تفنى نفسه فى الله ، لقد أعاد محمد - صلى الله عليه وسلم - الحج وأقام شعائره لكن لم يتمم الإسلام ، وكان عليه لإتمامه أن يرد القبلة إلى القدس ، ويدخل الحج فى العمرة ، وإذا كان محمدا قد وحد وترك الوحدة الإلهية محجوبة مشوقة ومسورة من كل الجهات بسور الشريعة المانع ، فما هذا إلا موقت إلى يوم آت ينتهى فيه الإسلام إلى اجتماع كامل للإنسانية وقد غفرت لها خطاياها (1) .(6/59)
لقد كانت هذه المرحلة فى تطور التصوف مرحلة عاتية ، أتت على صفاء المفاهيم وأصالة المعانى فى المصطلحات القرآنية فزلزلت استقرارها ، وحولت المفاهيم إلى أوضاع معكوسة ، لكل ما تعارف عليه الناس واصطلحوا عليه فالتقوى لم تعد هى التقوى ، فلو مارس العبد تقواه ، لم يوحد الله فى أعين هؤلاء لأنه أثبت الغير ، والذكر لم يعد هو الذكر ، لأن الذاكر هو الله ولا أثر لسواه البتة حتى يذكره .
لقد رأى الحلاج أن إسقاط الوسائط بين الله وخلقه بسلوك دينى لازم يظهر فى رسوم الشريعة وفرائضها ، أمر يمكن الاستعاضة عنه بغيره ، فقال : ( من ظن أنه يرضيه بالخدمة فقد جعل لرضاه ثمنا ، فإن المرأ قائم على بساط الشريعة ما لم يصل إلى بساط التوحيد ، فإذا وصل إليه سقطت من عينه الشريعة واشتغل باللوائح الطالعة من معدن الصدق ، فإذا ترادفت عليه اللوائح وتتابعت عليه الطوالع صار التوحيد عنده زندقة والشريعة هوسا ، فيبقى بلا عين ولا أثر ــــــــــــــــــــــــ
1. المنحنى الشخصى لحياة الحلاج لويس ماسينيون ص72 .
إن استعمل الشريعة استعملها رسما وإن نطق ابلتوحيد نطق غلبة وقهرا ) (1) .
وحكم الحلاج بأن الأديان كلها لله عز وجل ، وأنه شغل بكل دين طائفة لا اختيارا فيهم بل اختيارا عليهم ، وأن من لام أحدا ببطلان ما هو عليه فقد حكم أنه اختار ذلك لنفسه ، وأن اليهودية والنصرانية والإسلام وغير ذلك من الأديان هى ألقاب مختلفة وأسماء متغايرة والمقصود فيها لا يتغير ولا يختلف (2) .
وهذا يعنى أن الأصول القرآنية التى جعلت الإسلام ناسخا لما سبق من الأديان كقوله تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } [آل عمران/85] ، وقوله سبحانه وتعالى : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ } [آل عمران/19] تعد عند الحلاج نوعا من اللغو وتجاوزا غير مشروع .(6/60)
المرحلة الرابعة : تصوف أصحاب وحدة الوجود ، والقاسم المشترك بين هذه المرحلة وبين ما سبق فى التصوف الحلولى ، مفارقة الألفاظ الاصطلاحية لمعانيها الدلالية ، والعبث بطريقة الاستدلال فى الأصول القرآنية والأحاديث النبوية للمصطلح الصوفى ، فقد ذهب فريق من الصوفية فى القرن السادس وما بعده يتزعم زمام المبادرة محى الدين بن عربى الأندلسى ، إلى أن الله هو هذا الوجود ــــــــــــــــــــــــ
1. أخبار الحلاج لأبى يوسف القزوينى نشرة لويس ماسينيون ص73 .
2. السابق ص70 وانظر أيضا :
- ? تمهيد - - - } - فهرس - فهرس ? - ? الله فهرس - - رضي الله عنهم - - - - { - صلى الله عليه وسلم - - } - ? - - - ?- سبحانه وتعالى - - - - مقدمة ?.? - - صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنه -? - ? - - ? - ? - - - - - - - - ? -
- ? - - ?? { - - - } - فهرس ? - ? - - ? - - ? - ? - - - - - - - - ? تمهيد - - صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنه -- رضي الله عنهم -- صلى الله عليه وسلم -? تمهيد - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -? - - صلى الله عليه وسلم -? - - ?- سبحانه وتعالى - - - - مقدمة ? بسم الله الرحمن الرحيم - - صلى الله عليه وسلم - } - ? - ? - - - -
بعينه وأنه لا موجود إلا الله ، ويذكر التفتازانى أن هذا المذهب لم يظهر فى صورته الكاملة إلا بمجئ هذا الرجل ، وأنه سبقت ظهوره فى الأندلس ممهدات تحدث عنها المستشرق بلاثيوس فى بحثه عن ابن مسرة ومدرسته ، ويذكر بلاثيوس أن آراء ابن مسرة ، أثرت فى جميع الصوفية الأندلسيين الذين مزجوا التصوف بالفلسفة ، وظهر له فى أسبانيا تلاميذ كثيرون اعتقدوا آراءه على مر العصور ، منهم إسماعيل الرعينى ، ومحمدبن عيسى الألبيرى ، وابن برجان فى أشبيلية وهو أستاذ ابن عربى (1) .(6/61)
وقد انتقل تصوف وحدة الوجود من الأندلس والمغرب إلى المشرق على يد ابن عربى وابن سبعين الأندلسيين اللذين استقرا بهما المطاف فى الشرق ، حيث نشرا تعاليم هذا النوع من التصوف (2) ، وتصوف وحدة الوجود هو التصوف المبنى على القول بأن ثمة وجودا واحدا فقط هو وجود الله ، أما التكثر المشاهد فى العالم فهو وهم على التحقيق تحكم به العقول القاصرة ، فالوجود إذن واحد لا كثرة فيه .
على أن من أصحاب وحدة الوجود كابن عربى ، من يفسح المجال للقول بوجود الممكنات أو المخلوقات على نحو ما ، ومنهم من يطلق القول بالوحدة ــــــــــــــــــــ
1. مدخل إلى التصوف الإسلامى ص198 بتصرف .
2. ابن سبعين وفلسفته الصوفية ، للدكتور أبى الوفا التفتازانى ، طبعة دار الكتاب اللبنانى بيروت ، سنة1973م ص72 وما بعدها .
ويمعن فى ذلك إلى الحد الذى يجعله لا يثبت إلا وجود الله فقط ، وهؤلاء هم أصحاب الوحدة المطلقة وعلى رأسهم ابن سبعين (1) .
وأيا كانت الاختلافات بين القائلين بوحدة الوجود إلا أن النتيجة المترتبة على هذا الفكر الصوفى الفلسفى أن هذه الكثرة التى نراها إنما هى مظاهر لله فقط أو مرآة يتعين فيها ويرى نفسه فيها ، أو أثواب يلبسها ويخلعها ، فهو السماء بما فيها من شمس وقمر ونجوم وأفلاك ، وهو هذا السحاب الذى نراه مسخر بين السماء والأرض بما فيه من ثلج وبرد وأمطار ، ولا فرق بين الأضاد ولا فرق بين العبد والرب فالعابد هو المعبود والذاكر هو المذكور ، يقول ابن عربى :
( ما فى الوجود مثل ، ما فى الوجود ضد ، فإن الوجود حقيقة واحدة والشئ لا يضاد نفسه ، فإذا أدخلت جنته دخلت نفسك معرفة أخرى غير المعرفة التى عرفتها حين عرفت ربك بمعرفتك إياه ، فتكون صاحب معرفتين ، معرفة به من حيث أنت ، ومعرفة به من حيث هو ، لا من حيث أنت ) (2) .
فيحمدنى وأحمده : ويعبدنى وأعبده : ففىحال أقربه : وفى الأعيان أجحده
فيعرفنى وأنكره : وأعرفه فأشهده(6/62)
فأنت عبد وأنت رب لمن له فيه أنت عبد
وأنت رب وأنت عبد لمن له فى الخطاب عهد (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. مدخل إلى التصوف الإسلامى ص199 وانظر السابق ص191.
2. فصوص الحكم 92 . 3. السابق ص95 ، والفتوحات المكية 2/320 .
والحق أيضا عنده هو الهواء والماء والتراب والنار ، التى منها تتركب سائر الموجودات ، والأمر قسمة بينه وبين هذه العوالم التى هى مجالى له يظهر فيها فكما أنها فقيرة ومحتاجة إليه لأنه هو جوهرها ووجودها الأصيل ، فكذلك هو مفتقر إليها من أجل تعينه وظهوره فيها ، كما تفتقر الروح فى ظهور آثارها للأبدان (1) يقول ابن عربى : ( سبحان من خلق الأشياء وهو عينها ) (2) .
وقال أيضا :
عز الإله فما يحويه من أحد : وبعد هذا فإنا قد وسعناه
لما أراد الإله الحق يسكنه : لذاك عدله خلقا وسواه
فكان عين وجودى عين صورته : وحى صحيح ولا يدريه إلاه
يا خالق الأشياء فى نفسه : أنت لما تخلقه جامع
تخلق مالا ينتهى كونه : فيك فأنت الضيق الواسع (3)
فالأشياء لا تزال تتوارد عليه فى عملية إيجاد وإعدام مستمر ، كلما فنت صورة وخلعت ذلك الوجود لبست أخرى ، وكذلك هو يظل يلبسها ويخلعها بلا انقطاع وهذا حكم اقتضاه ظهور هذا الوجود ، فإنه لو دام على إطلاقه فى ــــــــــــــــــــ
1. عقلة المستوفز ص66 وانظر تعليق على مادة ابن عربى فى دائرة المعارف الإسلامية الترجمة العربية ، للدكتور أبى العلا عفيفى .
2. الفتوحات المكية 2/604 .
3. فصوص الحكم ص94 .(6/63)
الأزل لما أمكن رؤيته وظهوره للعيان ، ونسبة تلك الموجودات المتكثرة إلى ذلك الوجود المطلق كنسبة الأعضاء المختلفة لجسم الإنسان أو الحيوان إليه ، أو كنسبة قوى النفس المختلفة إليها ، أى أنها كنسبة الجزء إلى كله ، وكما أن الجسم ذى الأعضاء له اعتباران ، اعتبار أنه وحدة قائمة بذاتها ، وهو بهذا يصح أن يقال أنه شئ واحد ، واعتبار أنه مركب من أعضاء وقوى ، وهى من هذه الجهة تسمى كثيرا ، فكذلك هذا الوجود له اعتباران ، اعتبار الإطلاق وعدم التقيد ، وهو من هذه الجهة واحد لا حدود فيه ولا قيود ، واعتبار ظهوره فى عالم الإمكان والتقيد ، وهو من هذه الجهة كثير كثرة لا حد لها (1) .
يقول ابن عربى : ( فالعالم يعلم من عبد ، وفى أى صورة ظهر حتى عبد وأن التفريق والكثرة ، كالأعضاء فى الصورة المحسوسة ، وكالقوى المعنوية فى الصورة الروحانية ) (2) .
وقد كان لابن عربى من الخائص والقدرات العجيبة على صياغة مذهبه شعرا ونثرا ما يثير استغراب العقول ، يقول فى الإفصاح عن فلسفته :
فإنا أعبدٌ حقا : وإن الله مولانا : وإنا عينه فاعلم : إذا ما قلت إنسانا : فلا تحجب بإنسان : فقد أعطاك برهانا : فكن حقا وكن خلقا : تكن بالله رحمانا (3) .
ــــــــــــــــــ
1. ملخص من شرح الكاشانى لفصوص الحكم ص11وما بعدها .
2. السابق ص 61 .
3. السابق ص 143 .
وهذه العبارات التى نطق بها ابن عربى فى وحدة الوجود مهما اختلفت وتنوعت فإن مضمونها شئ واحد ، وهو أنه ما ثم غير الله فى هذا الوجود ، سواء جعلت الكثرة أجزاء له ، أو أنواع ، أو أنها وهم ، أو جعلتها مظاهر وتجليات ، فالمآل واحد وهو أنه ماثم إلا وجود واحد (1) .(6/64)
ويلزم على هذا المذهب الخبيث ، أن يكون الله هو الأشياء جميعا بما فيها متقابلات ومتضادات ، ويلزم أن يكون هو الأنس والجن والشجر والحيوان وكل شئ ، ولذا يرى ابن عربى أن الأديان كلها حق ، وأن المجوس عبدة النار والمشركين عابدى والأوثان وغيرهم ليسوا كفار وضلالا ، بل مذاهبهم هى عين الهدى والإيمان ، لأنهم حين عبدوا النار والحجارة والصلبان ، ما عبدوا إلا
ــــــــــــــــــ
1. السابق ص 143 ، وانظر للتوسع فى معرفة فلسفة ابن عربى الأبحاث التالية : الصلة بين الفلسفة والتصوف عند محى الدين ابن عربى إعداد محمد عبد التواب السيد يوسف رسالة ماجستير بمكتبة كلية أصول الدين جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة 1983م وحدة الوجود بين الصوفية والفلاسفة وعلاقتها بصفة الوحدانية ، إعداد ديدار سيدى محمد مختار رسالة ماجستير بالمكان السابق سنة1983م ، الوجود والعدم فى فلسفة ابن عربى الصوفية إعداد جمال أحمد سعيد المرزوقى رسالة ماجستير بمكتبة كلية الآداب جامعة القاهرة سنة1979م ، مشكلة الذات والصفات عند محى الدين ابن عربى إعداد إسماعيل منصور جودة رسالة دكتوراه بالمكان السابق سنة1990م ، الولاية عند محى الدين ابن عربى ، إعداد الدكتور عبد الحميد مدكور ، رسالة دكتوراة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة سنة1980م .(6/65)
الله عز وجل ، فإذا كان الله عز وجل قد تجلى بذاته لذاته فى جميع هذ الصور والمتعينات ، فالهدى والإيمان فى زعمهم أن تعبد وتعظم جميعا ، والضلال أن تخصيص بعض هذه المظاهر بالعبادة دون بعض ، فالكفر عندهم ليس هو عبادة غير الله ، إذا ليس هناك غير ، ولكنه ستر حقيقة المعبود بتخصيص بعض مجالية بالعبادة دون البعض الآخر ، وحكم أيضا بإيمان فرعون ، وأنه كان يشاهد عين الحقيقة حين قال : أنا ربكم الأعلى ، ولم يكن كاذبا فى دعواه أنه هو الله ، بل كان فى أعلى مقامات التوحيد ، ولذا كان أغراقه فى البحر تطهيرا من إسلامه فى لحظاته الأخيرة وتوهم الغيرة ، وخالف في ذلك صريح القرآن الذى نطق بموته على الكفر ، وإنه لم ينفعه إيمانه حين أدركه الغرق وأن الله إنما نجاه ببدنه ليكون عبرة ماثلة للأجيال من بعده ، وزعم أيضا أن موسى عليه السلام لم يلم قومه على عبادة العجل ولم ينكرها عليهم .
وقد أكد ابن عربى فى فلسفته لمعانى الجزاء والطاعة والمعصية ، بأن هذه الأمور لا مدلول لها فى مذهبه بالمعنى الذى نفهمه نحن منها ، فإنه لا نعيم ولا عذاب بالمعنى المفهوم من الشرائع ، بل أن مآل الخلق جميعا إلى النعيم حتى من كان فى عذاب فهو فى نعيم بهذا العذاب الذى سمى عذابا من عذوبته ، وزعم أن الكفار فى جهنم لهم فضل على الله فى إظهار اسمه الجبار ، والتجلى باسمه القوى واسمه المنتقم المنتقم ، يقول فى زندقته :
وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد فالأمر واحد وبينهما عند التجلى تباين
يسمى عذابا من عذوبة طعمه وذاك كالقشر والقشر صائن (1) .
وكل هذه الأمور فى واقع مذهب ابن عربى تجليات من الله فى صور الرضا والغضب كتجلياته تماما فى صور الهدى والضلال (2) .(6/66)
ويهم البحث فى نتائج هذه المرحلة التعرف على منهج ابن عربى وأسلوبه فى صياغة المصطلحات وتشكيل مدلولاتها من ناحية ، وكيفية الاستلال بالأصول القرآنية والنبوية من ناحية أخرى ، ويمكن تركيز ذلك فى النقاط الآتية :
[1- يتعمد ابن عربى تعقيد البسيط وإخفاء الظاهر ، لأغراض يصعب معرفتها فعباراته تحتمل فى أغلب الأحيان معنيين على الأقل ، أحدهما ظاهر وهو ما يشير إليه ظاهر الشرع ، والآخر باطن وهو ما يشير به إلى مذهبه ، ومن يعمق النظر فى معانيه ومراميه ، يدرك أن المعنى الثانى هو الهدف الذى يرمى إليه ، أما ــــــــــــــــــ
1. فصوص الحكم ص122 ، ص123 .
2. انظر للمقارنة بين فلسفة ابن عربى وتلاميذ مدرسته فى وحدة الوجود الأبحاث الاتية :
ابن سبعين ومنهجه فى التصوف رسالة دكتوراه بمكتبة كلية أصول الدين جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة إعداد أحمد محمد محمود سليمان سنة1977م ، ابن سبعين وفلسفته الصوفية أبو الوفا الغنيمى التفتازانى ، دار الكتب اللبنانى ، بيروت سنة1973 فلسفة ابن سبعين ، إعداد محمد ياسر شرف ، رسالة ماجستير بمكتبة جامعة دمشق سوريا سنة 1977م ، ابن الفارض والحب الإلهى للدكتور محمد مصطفى حلمى الطبعة الثانية ، طبعة دار المعارف ، القاهرة سنة1971م .
ما يذكره مما له صلة بظاهر الشرع ، فإنما يقدمه إرضاء لأهل الظاهر من الفقهاء وعلماء السلف ، الذين يخشى أن يتهموه بالخروج والمروق .
[2- أنه يستعمل كثيرا من المصطلحات الفلسفية والكلامية على سبيل الترادف أو المجاز مع ألفاظ أخرى واردة فى القرآن والحديث ، فيحملها من المعانى ما يخرجها عن أصلها ، فالخير الذى تكلم عنه أفلاطون ، والواحد الذى تكلم عنه أفلوطين ، والجوهر عند الأشاعرة والحق والله كما يفهمهما المسلمون كل هذه مستعملة عنده بمعنى واحد ، وغير ذلك كثير .(6/67)
[3- قوة التفكير عنده خاضعة إلى حد كبير لقوة خياله ، لذلك نراه يلجأ إلى الأساليب الشعرية ، والتشبيهات والمجازات ، فى إيضاح أدق المعانى الفلسفية فى مذهبه ، فيؤدى ذلك إلى تضليل القارئ الذى يأخذ بجميع لوازم ذلك .
[4- يتلاعب بالألفاظ والمعانى ويحملها أكثر مما تحتمل لدرجة التعسف ويتجه بها كثيرا نحو الغموض ، ويتمتع بدرجة عالية من الحصيلة الفظية ، كما يتمتع بقدرة فائقة على صياغة أفكاره شعرا ونثرا ، ولا يلتزم الرمزية على صعوبتها التزاما مطردا ، فإذا رمز بشئ فى موضع عاد فرمز به هو نفسه إلى شئ آخر .
[5- الاستناد الكثير والمتكرر إلى كتاب الله وتأويل آياته وفق نظريته ويسهل على ابن عربى إلى حد كبير التقاط ما يشاء من ألفاظ القرآن ، ليضعها على أى معنى مفارق يعن له ، ويكاد المتتبع لوجوه الاستدلال تنقطع أنفاسه فى معرفة تبرير معقول أو وجه من الوجوه لارتباط ألفاظ ابن عربى ومصطلحاته بأصولها القرآنية ، وكثيرا ما يمزج الآيات القرآنية بعضها ببعض ، حيث لا توجد صلة ظاهرة بينها فيؤدى إلى خلط كثير ، كما أنه يفعل ذلك أيضا فى السنة فيستند إلى أحاديث منسوبة للنبى - صلى الله عليه وسلم - ويأولها على ما يوافق المذهب ، كما أن تلك الأحاديث أكثرها ضعيف أو موضوع ، ويستند أيضا إلى أقوال منسوبة إلى الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين ، ويعوز تلك الأقوال جميعها الصدق والأمانة العلمية .
[6- يستند إلى أقوال كبار رجال التصوف السابقين ، أمثال الجنيد بن محمد وأبى يزيد البسطامى وغيرهما ، ويذكر الكرامات للأولياء والصالحين والمبالغة فيها إلى حد كبير .
[7- الاعتماد على المنامات والأحلام والإلهامات ، والتعامل معها كما يتعامل مع الواقع ، لدرجة أنه ادعى أنه رأى النبى - صلى الله عليه وسلم - وأعطاه كتاب فصوص الحكم وأنه كتبه بناء على توصياته ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - هو الذى وضع له حدوده .(6/68)
[8- تأدى به اعتقاده فى وحدة الوجود إلى جرأة في وصفه للحق تبارك وتعالى تهتز لها أفئدة المسلمين (1) .
ــــــــــــــــــــ
1. انظر المزيد عن منهج ابن عربى وتلاميذ مدرسته فى تناول الأصول القرآنية والنبوية ابن تيمية وفلاسفة التصوف للدكتور محمد سليمان داود ، الطبعة الثانية سنة1983م وتعليقات على فصوص الحكم للدكتور أبى العلا عفيفى ص18 ، محى الدين ابن عربى مفسرا ، إعداد حامد محمود الزفرى ، رسالة دكتوراه بمكتبة كلية أصول الدين جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة ، سنة 1972م .
وقد ظهر أثر هذا المنهج العجيب على التغير الدلالى للمصطلح الصوفى فى علاقته بالأصول القرآنية ، فبدلا من أن يكون اللفظ موضوعا على المعنى المراد فى الكتاب والسنة ، أصبح اللفظ نفسه موضوعا على نقيضه تماما تحت هذه الفلسفة الصوفية ، فمصطلح الذكر فى مفهوم محى الدين بن عربى لايؤدى إلى معنى تطمئن به القلوب وتغفر به الذنوب ، ولكن يؤدى إلى ما ذكره ابن عربى فى قوله :
ألا بذكر الله تزداد الذنوب : وتحتجب البصائر والقلوب
وترك الذكر أفضل كل شئ : فشمس الذات ليس لها غروب (1)
دع الذكر والتسبيح إن كنت عاشقا : فليس يديم الذكر إلا المنافق
إذا كان من تهواه فى القلب حاضرا : وأنت تديم الذكر كنت منافقا (2)
ــــــــــــــــــــ
1. وسائل السائل ص25 .
2. السابق ص26 .(6/69)
دراسة منهجية فى معرفة المصطلح الصوفى وأصوله القرآنية
من الأساسيات الضرورية للتعرف على المصطلح الصوفي ، تحديد المنهج الذى نميز به بين ما يمكن أن يكون مصطلحا تعارف عليه الصوفية ، أو لفظا صوفيا يشابه سائر الألفاظ ، فلا يمكن أن نعتبر كل لفظ نطق به أحد الصوفية وأراد التعبير عن فكرة عنت له فى كشف مذهبه أو خوض تجربته ، اصطلاحا ينسب إلى جميع الصوفية بدعوى الانتساب إلى التصوف .
فالاصطلاح فى علم اللغة : هو اتفاق طائفة مخصوصة على أمر مخصوص ، أو إجماع قوم على تسمية شئ من الأشياء (1) .
والتعبير الاصطلاحى فى علم اللغة ، له ضوابط محددة لا يصح إغفالها ، فلا بد للمصطلح أن يكون دقيقا محدد المعنى تحديدا تاما ، وأن تكون دلالته على معناها دلالة جامعة مانعة ، فلا يأتى المصطلح على معنى أوسع من لفظه ، وأن يكون لكل مفهوم دلالى مصطلح واحد ، لأن التعدد يوجب الخلط والاضطراب وهو ــــــــــــــــــــ
1. انظر مادة صلح فى المعاجم الآتية : المغرب في ترتيب المعرب ، لأبى الفتح ناصر الدين بن المطرز ، تحقيق محمود فاخوري ، و عبدالحميد مختار ، مكتبة أسامة بن زيد ، سوريا حلب 1979م ، 1/479 ، ولسان العرب لابن منظور 2/516 ، والقاموس المحيط للفيروز أبادى 1/293 .
ما لا يجوز فى لغة التخاطب العلمى ، وأن يكون مختصرا سهلا غير متنافر الحروف حتى يسهل نطقه وتداوله (1) .(7/1)
ومن ثم لا بد من وضع الضوابط المنهجية التى تحكم قواعد اعتبار اللفظ ، بين كونه لفظا عاما ، أو اصطلاحا خاصا عندهم ، كما أنه من الضرورى أيضا التعرف على المنهج الذى نعتمد عليه فى استخراج الأصول القرآنية لتلك المصطلحات ، بحيث يكون منهجا شاملا صحيحا ، يؤدى إلى إظهار موضوع المصطلح من القرآن والسنة ، والكشف عن معناه ، فمن المعلوم أن القرآن لا يحمل رؤوس موضوعات ، أو أسماء أبواب وفصول كالمباحث الفلسفية ، ولكن الباحث يستخرج مما ورد فى آيات القرآن جميعها ، شاهدا يدل على أصالة ــــــــــــــــــــ
1. انظر المزيد عن المصطلح وصياغته من الناحية اللغويه : التعبير الاصطلاحى دراسة فى تأصيل المصطلح ومفهومه ومجالاته الدلالية وأنماطه التركيببية ، للدكتور زكى حسام الدين كريم ، مكتبة الأنجلو المصرية القاهرة سنة1985م ، الألفاظ المترادفة المتقاربة المعنى لأبى الحسن على بن عيسى الرمانى ، تحقيق ودراسة للدكتور فتح الله المصرى ، دار الوفاء القاهرة سنة1987م ، المصطلحات النقدية فى التراث العربى حتى القرن السابع الهجرى دراسة دلالية تاريخية ، رسالة دكتوراة إعداد عبد المطلب زيد ، مكتبة كلية دار العلوم سنة1989م ، المصطلح العلمى وأساليب صوغه فى مصر فى العصر الحديث ، رسالة ماجستير بمكتبة دار العلوم ، إعداد إبراهيم عبد المجيد عبد العزيز ضوه سنة1985م ، دلالة الألفاظ للدكتور إبراهيم أنيس ، الطبعة الثالثة ، مكتبة الأنجلو المصرية سنة1972م .
موضوعه وصحة المعنى الذى يشير إليه ، أو على الأقل يدلل على أن ما ذهب إليه لا يخالف أصول القرآن والسنة ، بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، ومن ثم يتطلب الأمر استقصاءا شاملا للقرآن والسنة وفق منهج واضح فى بحث الأصول القرآنية لكل مصطلح صوفى على حده ، وقد اتبعت الدراسة المنهجية التالية فى معرفة المصطلح الصوفي وأصوله القرآنية :
أولا : منهج التعرف على المصطلح الصوفي :(7/2)
تتنوع المصطلحات الصوفية التى لها أصول قرآنية وتنحصر فى نوعين :
النوع الأول : مصطلحات صوفية لها أصول قرآنية أو نبوية من جهة اللفظ والمعنى ، وقد أوردتها فى الجانب التطبيقى المعجمى من القسم الثانى فى الرسالة وقد استوعبت أربعة فصول متتالية ، الفصل الأول ويشمل المصطلحات التى بدأت بحرف الألف إلى حرف التاء ، والفصل الثانى ويشمل المصطلحات التى بدأت بحرف الثاء إلى حرف الذال ، والفصل الثالث ويشمل المصطلحات من حرف الراء إلى حرف الغين ، والفصل الرابع ويشمل المصطلحات ، من حرف الفاء إلى حرف الياء .
وقد التزمت فى حصر هذه النوعية من المصطلحات شرطا صارما يتمثل فى اتفاق جمع من الصوفية على ذكر مدخل المصطلح ، أو أحد تصاريفه اللغوية ، ولما كان أقل الجمع اثنين فصاعدا على خلاف بين علماء الأصول فى ذلك ، حيث قال بعضهم : أقل الجمع اثنان ، لأن الجمع في اللغة ضمّ شيء إلى شيء آخر فلما ضمّ الواحد إلى الواحد كان ذلك جمعاً صحيحاً ، وقال آخرون : أقل الجمع ثلاثة لأن الألفاظ في اللغة إنما هي عبارات عن المعاني ، ولا خلاف بين العرب في أن الاثنين لهما صيغة في الإخبار عنهما غير الصيغة التي للثلاثة فصاعداً ، وإن للثلاثة فصاعداً إلى ما لا نهاية له من العدد صيغة غير صيغة الخبر الاثنين ، وهي صيغة الجمع ، ولا خلاف بين أحد من أهل اللسان في أن ضمير الغائب موضوع بلا خلاف بين أحد من أهل اللسان في موضع اسم الغائب ومبدل منه ، فلا يجوز أن يبدل ضمير الجماعة إلا من الجماعة ، ولا ضمير الاثنين إلا من الاثنين ، ولو كان ذلك لوقع الإشكال وارتفع البيان ، فصح أن حكم ظاهر اللغة التي بها نزل القرآن وبها تكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أقل الجمع ثلاثة (1) .(7/3)
وقد أخذت بالرأى الأخير من باب الأخذ بالأحوط ، والتزام الدقة على قدر الإمكان والاطمئنان فى حصر المصطلح الصوفى ، فاشترطت أن يتفق ثلاثة من الصوفية على الأقل على ذكر المصطلح بلفظه أو أحد تصاريفه المرتبطة بمعناه .
وقد بلغ عدد المداخل العامة على هذا الشرط فى الفصل الأول والثانى والثالث والرابع من القسم المعجمى ، مائة وأربعة وعشرين مصطلحا لهم أصول قرآنية .
وبلغ مجموع المداخل الفرعية والعامة فى هذه الفصول ، ثلاثمائة وتسعة وثلاثين مصطلحا ، وقد تنوعت الأوجه فى الالتزام بهذا الشرط على أربعة أنواع :
ــــــــــــــــــــ
1. إحكام الإحكام فى أصول الأحكام ، لابن حزم الأندلسى 1/33 .
[1] - أن يتداول المصطلح أو أحد مشتقاته المرتبطة بمعناه ، ثلاثة من أعلام الصوفية على الأقل ، فيرد التصريح به والنص عليه فى ألفاظهم ومثال ذلك :
مصطلح : (الخلوة) ، حيث ورد على معنى الانفراد والوحدة ، والتخلى لذكر الله ، فى قول بشر بن الحافى الصوفى (ت:227هـ) ، عندما سئل عمن يتفرد ويختار الخلوة ؟ : ( ليتق الله تعالى عند خلوته وليلزم بيته ، وليكن أنيسه الله عز وجل وكلامه ) (1) ، وقول ذى النون المصرى (ت:245هـ) : ( لم أر شيئا أبعث لطلب الإخلاص من الوحدة ، لأنه إذا خلا ،لم ير غير اللَّه تعالى ، فإذا لم ير غيره ، لم يحركه إلا حكم اللَّه ، ومن أحب الخلوة ، فقد تعلق بعمود الإخلاص ، واستمسك بركن كبير من أركان الصدق ) (2).
وقول أبى عثمان المغربى (ت:373هـ) : ( من اختار الخلوة على الصحبة ينبغى أن يكون خاليا من جميع الأذكار إلا ذكر ربه ، وخاليا من جميع الإرادات إلا رضا ربه ، وخاليا من مطالبة النفس من جميع الأسباب ، فإن لم يكن بهذه الصفة ، فإن خلوته توقعه فى فتنة أو بلية ) (3) ، فجميعهم صرح بلفظ المدخل وهو مصطلح (الخلوة) .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص 34 .
2. اللمع فى التصوف ص277 .
3. طبقات الصوفية ص21 .(7/4)
ومثال ذلك أيضا مصطلح : (الدعوى) ، حيث ورد فى قول سهل بن عبد الله (ت:293هـ) : ( أغلظ حجاب بين العبد وبين الله الدعوى ) (1) ، وقول ابن عطاء الأدمى (ت:311هـ) :
( ثلاثة مقرونة بثلاثة الفتنة مقرونة بالمنية ، والمحبة مقرونة بالاختيار ، والبلوى مقرونة بالدعوى ) (2) ، وقول أبى الخير الأقطع (ت:340هـ) : ( الدعوى رعونة لا يحتمل القلب إمساكها فيلقيها إلى اللسان ، فتنطق بها ألسنة الحمقى ولا يعرف الأعمى ما يبصره البصير من محاسنه وقبائحه ) (3) ، فجميعهم صرح بلفظ المدخل وهو مصطلح : ( الدعوى ) .
[2] - أن يرد المصطلح أو أحد تصاريفه المرتبطة بمعناه عند ثلاثة على الأقل من كتاب الصوفية الذين فسروا ألفاظهم وشرحوا رموزهم ، فيصرح كل منهم بأن المصطلح لفظ جرى على ألسنة الصوفية ، وإن اختلفوا فى توضيح معناه ، ومثال ذلك مصطلح : (الإحسان) ، حيث ورد عند السراج الطوسى على معنى أن تعبد اللَّه كأنك تراه ، بدوام المراقبة والمشاهدة بالإيمان واليقين (4) ، وذكره عبد الرزاق الكاشانى على معنى رؤية الرب نفسه فى عبده ، ورؤية العبد نفسه فى ربه كالمرآة يرى الناظر فيها نفسه ، فالإحسان رؤية الحق موصوفا بصفات العبد
ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة القشيرية ص300 . 2. اللمع ص429 .
3. طبقات الصوفية ص269 . 4. اللمع 544 .
فيراه العبد وراء حجب صفاته بعين صفاته لأنه فى عين اليقين ، فلا يرى الحقيقة بالحقيقة لأنه تعالى هو الرائى وصفه بوصفه ، فالكل تعيناته فلا شئ يوصف مما سواه بأنه عينه أو أنه غيره (1) ، وورد عند عبد الكريم الجيلى على معنى اتحاد البصر بالبصيرة ، فيشهدك الحق تعالى أنوار عظمته ساطعة على الوجود فيأخذك الصعق ، فحينئذ تبدو عليك شموس الجلال وأقمار الجمال من فلك الكمال على وفق مقتضى الحال مما لا يدخل تحت المقال ، فتشهدها ببصيرتك كأنك ناظر إليها بالبصر ، لاتحادها بقوة أحدية نور اليقين (2).(7/5)
ومصطلح ، (الإنابة) ، وردت الإنابة عند أبى بكر الكلاباذى (ت:380هـ) على معنى ، إخراج القلب من ظلمات الشبهات ، والرجوع من الكل إلى من له الكل ، والرجوع من الغفلة إلى الذكر ، ومن الوحشة إلى الأنس (3) .
وذكرها أبو اسماعيل الأنصارى الهروى (ت:481هـ) ،على معنى الرجوع إلى الحق اصلاحا ، كما رجع إليه اعتذارا ، وذلك يكون بالخروج من التبعات والتوجع للعثرات ، واستدراك الفائتات ، والرجوع إليه وفاء ، كما رجع إليه إجابة ، وذلك يكون بالخلاص من لذة الذنب ، وبترك استهانة أهل الغفلة تخوفا ــــــــــــــــــــ
1. معجم الكاشانى ص53 ، وانظر لطائف الإعلام 1/178.
2. المناظر الإلهية ص181 .
3. التعريفات ص39 .
عليهم مع الرجاء لنفسك بالاستقصاء فى رؤية علل الخدمة ، والرجوع إليه حالا كما رجع إليه إجابة ، وذلك بالإياس من عملك ومعاينة اضطرارك وشيم برق لطفك (1) ، وعند عبد الرزاق الكاشانى على المعنى نفسه ، ولكن سماها إنابة العوام ، ثم ذكر أنواعا أخرى كإنابة الخاصة ، وإنابة خاصة الخاصة ، وإنابة خلاصة خاصة الخاصة ، وإنابة صفاء خلاصة خاصة الخاصة (2) .
[3] - أن يتداول المصطلح أو أحد مشتقاته المرتبطة بمعناه ، اثنان من أعلام الصوفية ، ويشهد لهم واحد من كتاب الصوفية الذين فسروا ألفاظهم وشرحوا رموزهم ، ومثال ذلك : مصطلح : (الإيثار) ، فقد ورد النص عليه فيما يروى عن أبى حفص النيسابورى (ت:270هـ) : ( الإيثار أن تقدم حظوظ الإخوان على حظك فى أمر آخرتك ودنياك ) (3) ، وفيما ذكره عبد اللَّه بن خفيف الشيرازى (ت:371هـ) : ( إن استطعت ألا يسبقك أحد إلى مولاك فافعل ولا تؤثر على مولاك شيئا ) (4) .
ثم ذكره عبد الرزاق الكاشانى (ت:735هـ) ، عند الصوفية على معنى تخصيص الغير على النفس وهو عندهم يسمى إيثار الشريعة ، فيقول : ( إيثار الشريعة هو الإيثار الذى تدعوا إليه الشريعة ، وهو أن يكون العبد مؤثرا اللَّه ــــــــــــــــــــ(7/6)
1. منازل السائرين للهروى ص 178 . 2. لطائف الإعلام 1/248 ، 249 .
3. طبقات الصوفية ص122 . 4. السابق ص144 .
ورسوله على هوى نفسه ، بحيث لا يعصى اللَّه فى شئ مما أمر ونهى ، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم ، حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " ثم ذكر معان أخرى للإيثار عندهم (1) .
ومصطلح : (الإخبات) ، ورد النص على لفظه عند الحكيم الترمذى وأبى القاسم القشيرى ، وهما من أعلام الصوفية ، وإن كان القشيرى من كتاب الصوفية الذين فسروا ألفاظهم وشرحوا رموزهم ، ولكن الإخبات ورد فى متفرقات كلامه ، ولم يذكره كلفظ جرى على ألسنة الصوفية ، فهو يمثل هنا واحدا من أعلام الصوفية لا واحدا من كتابهم ، قال الحكيم الترمذى : ( القلب هو معدن التقوى ، والسكينة والوجل والإخبات واللين ) ، ثم استدل له بقوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } [الحج/54] ) (2) ، ويقول القشيرى (ت:465هـ) : ( الإخبات استدامة الطاعة بشرط الاستقامة بقدر الاستطاعة ومن أمارات الإخبات كمال الخضوع بشرط دوام الخشوع ، وذلك بإطراق السريرة ، قال تعالى : { فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِين َ } [الحج/34] (3) ، ويعرفه مرة أخرى بأنه ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام 1/257 .
2. بيان الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللب ، للحكيم الترمذى ص54 .
3. لطائف الإشارات 2/ 542 .
التخشع لله بالقلب بدوام الانكسار ، ومن علامته الذبول تحت جريان المقادير بدوام الاستغاثة بالسر ، لقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون َ } [هود/23] (1) .(7/7)
كما أورد الكاشانى (ت:735هـ) الإخبات عند الصوفية فى مصطلحاته وجعله على أربعة أنواع ، السابق وهو إخبات العوام ، ثم إخبات المتوسطين وإخبات الخواص ، وإخبات البالغين (2) ، وكذلك مصطلح (البخل) حيث ورد فى قول أبى حفص النيسابورى (ت:270هـ) عندما سئل عن البخل ؟ فقال : ( ترك الإيثار عند الحاجة إليه ) (3) .
وقال أبو على الجوزجانى (ت:بعد300هـ) فى البخل : ( هو ثلاثة أحرف : الباء وهو البلاء ، والخاء وهو الخسران ، واللام وهو اللوم ، فالبخيل بلاء فى نفسه وخاسر فى سعيه وملوم فى بخله ) (4) ، وذكر القشيرى (ت:465هـ) أن حده على لسان أهل العلم منع الواجب ، وعلى بيان الإشارة ترك الإيثار فى زمان الاضطرار ، وأمر الناس بعدم البخل فى قوله تعالى : { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } [الحديد/24] ، معناه منعهم عن مطالبات الحقائق فى معرض الشفقة عليهم بموجب الشرع ، وبيان هذا أن يقع بلسانك الانسلاخ ــــــــــــــــــــ
1. السابق 2/130 . 2. معجم الكاشانى ص214 .
3. طبقات الصوفية ص120 . 4. السابق ص246 .
عن العلائق وحذف فضولات الحالة (1) .(7/8)
[4] – أن يرد المصطلح أو أحد مشتقاته المرتبطة بمعناه ، عند اثنين من كتاب الصوفية الذين فسروا ألفاظهم وشرحوا رموزهم ، فيصرح كل منهم بالمصطلح كلفظ جرى على ألسنة الصوفية واصطلحوا عليه ، ويشهد لهم أيضا واحد من أعلام الصوفية ، ومثال ذلك مصطلح : (الاصطفاء) ، حيث أورده السراج الطوسى (ت:387هـ) ، ضمن شرحه لاصطلاحات الصوفية وألفاظهم على معنى الاجتباء فى سابق العلم ، لقوله تعالى : { وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الأنعام/87] ، ولقوله : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنْ النَّاسِ } [الحج/75] (2) ، وذكره الهجويرى أيضا (ت:465هـ) ، أن الاصطفاء هو أن يفرغ الحق قلب المؤمن لمعرفته ، حتى تنشر معرفته صفاءها فيه ، واستدل لذلك بقوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } [فاطر/32] (3) ، كما ذكره الحكيم الترمذى (ت:320هـ) ، وهو من أعلام الصوفية ، فقال : ( الاصطفاء هو الاجتباء ، فالعبد المجتبى منذ بداية أمره رهن الفيضة الإلهية ) (4) .
ومصطلح : (الامتحان) ، حيث ورد عند السراج الطوسى (ت:387هـ) فى ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإشارات 1/332 ، 333 . 2. اللمع ص447 .
3. كشف المحجوب ص635 .
4. الحكيم الترمذى ونظريته فى الولاية ص118 .(7/9)
شرحه للألفاظ الجارية على ألسنتهم ، على معنى ابتلاء من الحق يحل بالقلوب المقبلة على اللَّه تعالى ، ومحنتها انقسامها وتشتتها ، ثم يقسم الامتحان إلى ثلاثة أنواع : امتحان لقوم منهم عقوبة ، وامتحان لقوم منهم تمحيص وكفارة وامتحان لقوم منهم استدعاء الزيادة وارتفاع الدرجة (1) ، وعند الهجويرى أيضا حيث قال : ( هذا الاصطلاح يدل على تجربة قلوب الأولياء بالبلوى التى يبتليهم الله تعالى بها فى الخوف والحزن والقبض والخشية قال تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } [الحجرات/3] ) (2) .
كما ذكر خير النساج من أعلام الصوفية (ت:بعد300هـ) تصريفه ، فروى عنه أنه دخل بعض المساجد ، فتعلق به شاب من أصحابه ، فقال له : يا شيخ تعطف على فإن محنتى عظيمة ، فقال النساج : وما محنتك ؟ فقال : افتقدت البلاء وقورنت بالعافية ، وأنت تعلم أن هذه محنة عظيمة (3) .
ويجدر التنبيه على أن النوع الأول من المصطلحات ، روعى فيه تحقق معظم الأوجه السابقة مجتمعة ، أعنى أنه قد يجتمع فى المصطلح الواحد اتفاق ثلاثة من أعلام الصوفية على ذكره ، مع إضافة واحد من من كتاب المصطلحات أو اثنين أو ثلاثة ، وكذلك العكس يتفق ثلاثة من كتاب المصطلحات على ذكره ، مع إضافة شاهد لعلم من أعلام الصوفية أو اثنين أو ثلاثة ، وربما يرد فى المصطلح ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص449 . 2. كشف الحجوب ص471. 3. اللمع ص448 .(7/10)
الواحد أربعة أو أكثر من أعلام الصوفية أو كتاب المصطلحات ، على حسب ما يظهر من المعانى الصوفية التى تبرز الأصول القرآنية ، أو تسهم فى توضيحها بشكل فعال ، أو تضيف بعض الاجتهادات المؤثرة فى إثراء الجانب الروحى فى الإسلام ، أو تبين معنى مفارقا للأصول القرآنية والنبوية ، كما ورد فى مصطلح (التوكل) ، حيث ذكرت فيه خمس عبارات صوفية ، مؤثرة فى توضيح الأصول القرآنية والنبوية ، ولا يسع الباحث تركها ، كقول الحارث بن أسد المحاسبى (ت:243هـ) : ( التوكل المفترض على الناس فى جملتهم ، هو التصديق لله عز وجل فيما أخبر من قسم ، حيث قال :
{ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [الذاريات/23:22] ، وكفالته من سياقه الأرزاق إليهم ، وإيصال الأقوات التى قسمها فى الأوقات التى وقتها ، بتصديق تقوم الثقة به فى قلوبهم وينفى به الشكوك عنهم والشبه ، ويصفون به اليقين ، ويثبت به حقائق العمل أنه الخالق الرازق ، المحيى المميت ، المعطى المانع ، المنفرد بالأمر كله ، فإذا صح هذا العلم فى القلوب ، وكان ثابتا فى عقود الإيمان ، تنطق به الألسنة ، إقرارا منها بذلك لسيدها ، ويرجع إلى ذلك العلم عند تذكرها ، دفع الإسم عليها بالتوكل ) (1) ، وما يروى عن أبى تراب النخشبى (ت:245هـ) حيث سأل ــــــــــــــــــــ
1. الرزق الحلال وحقيقة التوكل على اللَّه للمحاسبى ص40 .
عن التوكل فأجاب بعبارة جامعة معبرة عن أركان التوكل فى الإسلام ، فقال :(7/11)
( التوكل طرح البدن فى العبودية ، وتعلق القلب بالربوبية ، والطمأنينة إلى الكفاية ، فإن أعطى شكر ، وإن منع صبر راضيا موافقا للقدر ) (1) ، وكذلك من أجود ما ينسب لسهل بن عبد اللَّه (ت:293هـ) أنه قال : ( من طعن فى الحركة فقد طعن فى السنة ومن طعن فى التوكل فقد طعن فى الإيمان ، والتوكل حال النبى - صلى الله عليه وسلم - والكسب سنته ، فمن بقى على حاله فلا يتركن سنته ) (2) .
وهذا مما لاشك فيه باعث لعوام الصوفية فى عصرنا إلى والسعى والعمل والأخذ بالأسباب ، وترك التواكل والنهى عن بقائهم عالة على المجتمع ، ومثله أيضا ما ورد فى قول الحكيم الترمذى (ت:320هـ) ، فيمن ترك الطلب والسعى فى الأسباب وتواكل بحجة أن الرزق يطلب العبد كما يطلبه أجله ، وقد ضمن اللَّه الرزق لمخلوقاته : ( إن كانوا قعدوا ينبغى لهم أن يقوموا وأن يطلبوا ، تحرزا من الطمع وفساد القلب ، فلا يضيع حق الزوجة والولد ، برغم أن أرزاقهم على اللَّه ، فهذا تارك للسبيل والسنة ، لقوله تعالى : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَه ُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [البقرة/233] (3) ، وقال عبد اللَّه بن خفيف الشيرازى (ت:371هـ) : ( التوكل الاكتفاء بضمانه وإسقاط التهمة عن قضائه ) (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة القشيرية 1/418 . 2. قوت القلوب فى معاملة المحبوب 2/16 .
3. آداب المريدين للترمذى ص168،169 .
4. طبقات الصوفية ص465 .(7/12)
وقد بين أبو طالب المكى (ت:386هـ) ، فى دراسة مستفيضة درجات التوكل ومراحله ، أوردت مختصرا يكشف أصالة ما ورد فى هذا الاصطلاح عند الأوائل (1) ، وكذلك أوردت ما ذكره السراج الطوسى (ت:387هـ) - وهو من كُتَّاب المصطلحات - فى كيفة الاستنباط من الأصول القرآنية التى يرد إليها المصطلح الصوفى (2) ، ثم ذكرت بعد ذلك ، ما يدلل على أن هذا التقسيم السابق فى أقوال الصوفية الذى تشهد له الأصول القرآنية والنبوية إلا أنه يعد مفهوما متواضعا عند كثير منهم ، حيث يسمونه توكل العامة ، أما التوكل عندهم ، فقد أخذ بنظرة أخرى ، فقالوا : ( التوكل ترك التوكل ) (3) ، حيث يكون العبد في هذه الدرجة ، مضمحلا لا وجود له ، ومن ثم يسقط التوكل فيقول الكاشانى : ( التوكل أن ملكة الحق للأشياء ملكة عزة ، لا يشاركه فيها مشارك ، ليكل شركته إليه ) (4) .
ومثال ذلك أيضا مصطلح : (الاستقامة) ، حيث ورد فيه أربع عبارات للصوفية وذكره أيضا ثلاثة من كتاب المصطلحات ، فروى عن حاتم الأصم (ت:237هـ) أنه قال :
ــــــــــــــــــــ
1. قوت القلوب 2/13 .
2. اللمع ص78 .
3. السابق ص79 ، وانظر التعرف ص121 ، وعوارف المعارف ص346 .
4. الرسالة القشيرية 2/442 .
( يعرف الإخلاص بالاستقامة ، وتعرف الاستقامة بالرجاء ) (1) ، وينسب ليحى بن معاذ (ت:258هـ) : ( الاستقامة على ثلاثة أضرب : استقامة اللسان على كلمة الشهادة ، واستقامة الجنان على صدق الإرادة ، واستقامة الأركان على الجهد فى العبادة ) (2) .
وروى عن أبى بكر الواسطى (ت:بعد320هـ) أنه قال : ( الخصلة التى بها كملت المحاسن وبفقدها قبحت المحاسن الاستقامة ) (3) ، ويذكر لأبى على الدقاق (ت:410هـ) أن الاستقامة توجب دوام الكرامات ، لقوله تعالى :(7/13)
{ وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } [الجن/16] ، ولم يقل سقيناهم ، بل قال : أسقيناهم ، يقال : أسقيته إذا جعلت له سقيا فهو يشير إلى الدوام (4) .
كل هذه المعانى تدل علي حد الاستقامة عند الصوفية من خلال الأصول القرآنية ، ويؤيدها أيضا أحد كتاب المصطلحات ، وهو عبد الكريم القشيرى (ت:465هـ) فعرفها بأنها درجة بها كمال الأمور وتمامها ولوجودها حصول الخيرات ونظامها ، ومن لم يكن مستقيما فى حالته ضاع سعيه وخاب جهده ثم استدل لذلك بقوله تعالى :
ــــــــــــــــــــ
1. السابق 2/441 .
2. لطائف الإعلام 1/ 362 وانظر معجم الكاشانى ص238 .
3. طبقات الصوفية ص94 . 4. الرسالة القشيرية 2/442 .
{ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا } [النحل/92] ، وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } [الأحقاف/13] ، وقد استدل على معنى الاستقامة بحديث سفيان بن عبد اللَّه الثقفى - رضي الله عنه - لما قال له النبى - صلى الله عليه وسلم - :" قل آمنت باللَّه ثم استقم " (1) .
ولكن الاستقامة تأخذ مفهوما مفارقا عند آخرين ، فأوردت ما يؤيد ذلك من كلام ابن عربى (ت:638هـ) ، وعبد الكريم الجيلى (ت:829هـ) وكلاهما من كتاب المصطلحات ، فابن عربى يجعل الاستقامة عامة فى الوجود ، فالكل على صراط مستقيم ، لقوله تعالى : { مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ٍ } [هود/56] ، فيقول ابن عربى (ت:638هـ) : ( فما من أحد من العالم إلا على صراط مستقيم وهو صراط الرب تبارك وتعالى ) (2) .(7/14)
ويقول عبد الكريم الجيلى (ت:829هـ) : ( الصراط المستقيم ، هو صراط اللَّه الذى هو تنوعات تجليه فى ذاته لذاته ، فمن حصل فى هذا الصراط واستقام على علم كيفية الاتصاف بأسماء اللَّه تعالى وصفاته ، فيتنوع بتجلياتها فى العالم على حسب مقتضى الشأن ) (3) .
وقد تكرر هذا المنهج فى مصطلحات كثيرة ، كالأبد والإخلاص والتجلى والتفكر والتقوى والتوبة والتوحيد والجوع والحرية والحزن والخوف .. إلخ .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق 2/441 . 2. فصوص الحكم ص241 . 3. المناظر الإلهية ص214 .
النوع الثانى : مصطلحات صوفية لها أصول قرآنية أو نبوية من جهة اللفظ دون المعنى ، وقد أوردتها فى الفصل الخامس من حرف الألف إلى حرف الضاد وفى الفصل السادس من حرف الطاء إلى حرف الياء ، ولم أشترط فى حصرها المنهج المتبع فى النوع الأول ، وإنما اكتفيت فى معظمها أن يذكر المدخل عند كتاب المصطلحات ، مع بعض الشواهد إن وجد ، وسبب ذلك أن أغلب هذه الاصطلحات ، إنما تمثل فى الحقيقة المفاهيم المعبرة عن آراء محى الدين بن عربى (ت:638هـ) وتلاميذ مدرسته ، حيث استخدمت فيها ألفاظ القرآن والسنة منزوعة الدلالة تماما عن معانيها المتعارف عليها بين الصحابة والتابعين وعامة السلف ، وكسيت بها فلسفة ابن عربى فى وحدة الوجود .(7/15)
ولما لم يظهر هذا الفكر قبل ابن عربى ، تعذر تطبيق المنهج فى النوع الأول من المصطلحات على هذه النوعية ، فمن أمثلة ذلك مصطلح : (الغراب) يطلق فى الكتاب والسنة ويراد به الطائر المعروف سمى بذلك لسواده وكونه مبعدا فى الذهاب (1) ، فذكر فى قوله تعالى : { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ } [المائدة/31] ، وقوله : { قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ } [المائدة/31] ، وورد فى السنة من حديث أم المؤمنين حفصة ، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " خمس من الدواب ــــــــــــــــــــ
1. المفردات فى غريب القرآن ص359 .
لا حرج على من قتلهن ، الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور " (1) .
وقال ابن عمر رضى الله عنه : " من يأكل الغراب وقد سماه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فاسقا ، واللَّه ما هو من الطيبات " (2) .
ولكنه يعنى فى اصطلاح ابن عربى شيئا آخر فيقول : ( فقام الغراب وقال : أنا هيكل الأنوار ، ومحل الكيف والكم ، وأنا الرئيس المرؤس ، ولى الحس والمحسوس بى ظهرت الرسوم ، وأنا أصل الأشكال ، وبمراتب صورى تضرب الأمثال ، أنا صورة الفلك ، ومحل الملك على صح الاستواء ، وعنى كنى بالمستوى ، وأنا اللاحق الذى لا ألحق كما العقاب ، والسابق الذى لا يسبق ، هو الأول وأنا الآخر ، وله الباطن ولى الظاهر ، قسم الوجود بينى وبينه ، وأنا أظهرت عزه وكونه ) (3) .(7/16)
ثم يورده عبد الرزاق الكاشانى على أنه اصطلاح عند الصوفية ، ومعلوم أنه ينتمى إلى مدرسة ابن عربى ، ولهذا يشرح مقصود ابن عربى منه بصورة أوضح وأن الغراب يعنى الجسم الكلى لكونه فى غاية البعد عن عالم القدس والحضرة الأحدية والخلوه عن الإدراك والنورية (4) ، يقول : ( الغراب الجسم الكلى وهو ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الحج برقم (1828) 4/4 .
2. أخرجه ابن ماجة فى كتاب الصيد (3248) وصححه الشيخ الألبانى 2/1082.
3. رسالة الاتحاد الكونى ق146ب وانظر اصطلاحات الصوفية لابن عربى ص12 .
4. اصطلاحات الصوفية للكاشانى ص185 .
أول صورة الجوهر الهبائى ، وبه عم الخلاء ، وهو امتداد متوهم من غير جسم وحيث قبل الجسم الكلى من الأشكال الاستدارة ، علم أن الخلاء مستدير ، ولما كان هذا الجسم أصل الصور الجسمية الغالب عليها غسق الإمكان وسواده فكان فى غاية البعد من عالم القدس وحضرة الأحدية ، سمى بالغراب الذى هو مثل فى البعد والسواد ) (1) .
ومصطلح : (الفرقان) ورد فى الكتاب والسنة على معنى القرآن ، فقال تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [الفرقان/1] ، وقال سبحانه : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } [البقرة/185] ، فالفرقان كلام اللَّه تعالى ، سمى بذلك لفرقه بين الحق والباطل فى الاعتقاد ، والصدق والكذب فى المقال ، والصالح والطالح فى الأعمال (2) .
قال الإمام البخارى : " سمي الفرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل " (3) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - فى دعائه : " ربنا رب كل شيء ، فالق الحب والنوى ، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان " (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. رشح الزلال ص128،129 .
2. المفردات ص378 .
3. الجامع الصحيح المختصر للإمام البخارى ، طبعة دار ابن كثير 4/1770 .(7/17)
4. أخرجه مسلم فى كتاب الذكر برقم (2713) 4/2084.
ولكنه عند ابن عربى ، يأخذ معنى مفارقا ، فالفرقان ضد القرآن حيث القرآن هو العلم اللدنى الإجمالى الجامع للحقائق كلها ، فيقول :
( قال فى التنزيل بلسان نوح : { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا } [نوح/6] ، وعلم العلماء أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان ، والأمر قرآن لا فرقان ، ومن أقيم فى القرآن ، لا يصغى إلى الفرقان وإن كان فيه ، فإن القرآن يتضمن الفرقان ، والفرقان لا يتضمن القرآن ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه أوتى جوامع الكلم ، فما دعا محمد قومه ليلا ونهارا ، بل دعاهم ليلا فى نهار ونهارا فى ليل ) (1) .
ويقول أيضا : ( فإن اللَّه يقول : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة/ 3] هذا هو الفرقان عند أهل اللَّه بين الأمرين ، فإنهم قد يرونه - صلى الله عليه وسلم - فى كشفهم فيصحح لهم من الإخبار ما ضعف عندهم بالنقل ، وقد ينفون من الأخبار ما ثبت عندنا بالنقل ) (2) .
ثم يذكره عبد الكريم الجيلى على معنى قريب من المعنى الذى أشار إليه ابن عربى ، فيقول : ( الفرقان عبارة عن حقيقة الأسماء والصفات على اختلاف تنوعاتها ، فباعتباراتها تتميز كل صفة واسم عن غيرها ، فحصل الفرق فى نفس ــــــــــــــــــــ
1. فصوص الحكم 1 /70،71 .
2. الفتوحات المكية 4/28 .
الحق من حيث أسماؤه الحسنى وصفاته ، فإن اسمه الرحيم غير اسمه الشديد واسمه المنعم غير اسمه المنتقم ، وصفة الرضا غير صفة الغضب ، فكما أن الفرق حاصل فى الأفعال ، فكذلك فى الصفات ، وكذلك فى نفس واحدية الذات التى لا فرق فيها ، لكن من غرائب شئؤون جمع الذات النقيضين من المحال والواجب ) (1) .(7/18)
ومثله أيضا فى مصطلح : (الكفر) يراد به فى القرآن والسنة الكفر بالله ورسله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال تعالى فيمن يجحد الوحدانية : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ } [المائدة/73] ، وقال عن كفر اليهود بالرسالة المحمدية :
{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [البقرة/89] وقال فيمن جحد الشريعة : { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا } [فاطر /39] ، وفى السنة عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لي خمسة أسماء ، أنا محمد وأحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب ) (2) .
ولكن الكفر يراد به عند ابن عربى الإيمان الحقيقى ، حيث يقول : ( وأما ــــــــــــــــــــ
1. الإنسان الكامل 1/75 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب المناقب (3268) 6/385.
الإيمان فهو أمر عام ، وكذلك الكفر الذى هو ضده ، فإن اللَّه قد سمى مؤمنا من آمن بالحق ، وسمى مؤمنا من يؤمن بالباطل ، وسمى كافرا من يكفر باللَّه وسم كافرا من يكفر بالطاغوت ، والكافر من الأولياء من كان ختم الحق على قلبه لأنه اتخذه بيته ، وختم على سمعه فلا يصغى إلى كلام أحد إلا كلام ربه ) (1) .(7/19)
ثم يتنوع الأمر عند أتباع ابن عربى على هذا المنوال فيقول عبد الرزاق الكاشانى : ( ومنهم الكافرون يقصد الأولياء ، وهم الساترون ، مقامهم مثل الملامتية والكفار الزارعون لأنهم يسترون البذرة فى الأرض ) (2) ، ويقول الجيلى : ( وفى منظر الكفر ، يتجلى الحق تعالى على العبد بتجلى يستتر عنه حقائق ما يجب الإيمان به ، لظهور سمات الجمال ، فيقال : كافر بمعنى ساتر ) (3) .
وكذلك فى مصطلح : (النكاح) ، حيث ورد فى الكتاب والسنة على معنى الزواج ، فقال تعالى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُم ْ } [النساء/6] ، وقال سبحانه : { فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ } [النساء/25] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وفى السنة ما روى أن زينب بنت جحش رضي اللَّه عنها ، كانت تفخر على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقول : " إن ــــــــــــــــــــ
1. الفتوحات 2/136، 3/388 .
2. تفسير القرآن الكريم للكاشانى ، منسوب لابن عربى 1/339 .
3. المناظر الإلهية ص178 .
اللَّه أنكحني في السماء " (1) ، وعن المسور بن مخرمة - رضي الله عنه - قال : " إن عليا خطب بنت أبي جهل ، فسمعت بذلك فاطمة ، فأتت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يزعم قومك ، أنك لا تغضب لبناتك ، وهذا علي ناكح بنت أبي جهل " (2) .
ولما دخل عبد اللَّه بن عباس - رضي الله عنه - على عائشة رضى الله عنها قبل موتها وهي مغلوبة ، قال : " فأنت بخير إن شاء اللَّه زوجة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكح بكرا غيرك ، ونزل عذرك من السماء " (3) .(7/20)
ولكن النكاح عند ابن عربى يقصد به التزاوج بين الذات اللإلهية فى خفائها بالمخلوقات العينية فى ظهورها عن طريق التوجه الحبى ، فالذات فى الأزل على زعمه كانت كنزا مخيفا بالغيبة وانعدام الظهور فأرادت أن تعرف بالميل الأصلى والحب الذاتى للظهور ، هذا الحب هو الوصلة بين الخفاء والظهور ، يسرى ذلك إلى كل متعين ظاهر فى جميع مراتب التعينات ، فتلك الوصلة هى أصل النكاح السارى فى جميع الزرارى عند أصحاب الوحدة ، يقول ابن عربى :
( المخلوقات زوج لأنها شفعت وجود الحق بعد أحديته فى الأزلية ، كما أن هناك المرأة شفعت بوجودها الرجل ، فصيرته زوجا فظهرت الثلاثة ، حق ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب التوحيد (7421) 13/415 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب المناقب (3729) 7/106 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب تفسير القرآن (4754) 8/341 .
ورجل وامرأة ، فحن الرجل إلى ربه الذى هو أصله حنين المرأة إليه ، فحبب إليه ربه النساء ، كما أحب اللَّه من هو على صورته ، فإذا شاهد الرجل الحق فى المرأة كان شهودا فى منفعل ، وإذا شاهده فى نفسه من حيث ظهور المرأة عنه شاهده فى فاعل ، وإذا شاهده فى نفسه من غير استحضار صورة ما ، كان شهودا فى منفعل عن الحق بلا واسطة ، فشهوده للحق فى المرأة أتم وأكمل ، لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل ) (1) .
ثم يعلل بذلك ما روى عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - من قوله - صلى الله عليه وسلم - : " حبب إلي من الدنيا النساء والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة " (2) ، فيقول : ( فلهذا أحب - صلى الله عليه وسلم - النساء ، لكمال شهود الحق فيهن ، إذ لا يشاهد الحق مجردا عن المواد أبدا ولما لم تكن الشهادة إلا فى مادة ، فشهود الحق فى النساء ، أعظم الشهود وأكمله ، وأعظم الوصلة الجماع الحلال وهو نظير التوجه الإلهى على من خلقه على صورته ليخلفه فيرى فيه نفسه ) (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. فصوص الحكم ص 332.(7/21)
2. أخرجه النسائى فى كتاب عشرة النساء برقم (3939) ، وقال الشيخ الألبانى : حديث حسن صحيح 7/ 61 ، ورواه الحاكم فى المستدرك وقال : صحيح على شرط مسلم برقم (2676) 2/174 ، وأخرجه أبو يعلى فى مسنده برقم (3482) وقال الشيخ حسين أسد : اسناده حسن 6/199 .
3. فصوص الحكم ص 332 .
وقال أيضا : ( ولما أحب الرجل المرأة ، طلب الوصلة ، أى غاية الوصلة التى تكون فى المحبة ، فلم يكن فى صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح ولهذا تعم الشهوة أجزاءه كلها ، ولذلك أمر بالاغتسال منه ، فعمت الطهارة كما عم الفناء فيها عند حصول الشهوة ، فإن الحق غيور على عبده أن يعتقد أنه يلتذ بغيره فطهره بالغسل ليرجع بالنظر إليه فيمن فنى فيه ، إذ لا يكون إلا ذلك ) (1) .
وعلى هذه الوتيرة ، يفسر قوله تعالى : { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } [فاطر/13] ، فيقول : ( فجعله اللَّه نكاحا معنويا ، لما كانت الأشياء تتولد فيهما معا ، وأكد هذا المعنى بقولة : { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ } [الأعراف/54] من قوله : { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا } [الأعراف/189] ، فأراد النكاح فكان ) (2) .
وقد تكرر الأمر على هذا النهج فى المصطلحات كثيرة كالفتح المبين ، والفتح القريب والفراق ، وقاب قوسين ، والقدم ، والقلم والقيامة ، والكأس والكتاب المبين ، والكتاب المسطور ، والكوكب ، وليلة القدر ، والمثل ، ومجمع البحرين ومشرق الشمس ، ومغرب الشمس ، والموت ، والنار ، والثقلان ، والنقباء والنور ، والواقعة ، والياقوت ، ويوم الجمعة ، وجميعها ألفاظ قرآنية أو نبوية منزوعة الدلالة عن معانيها المرادة فى مقصود المتكلم ، وموضوعة بتعسف على ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص 332،333 .
2. كتاب أيام الشأن ص7 .(7/22)
متفرقات جزئية لفكر ابن عربى ، تتابع أتباعه على شرحها أو إعادة صياغتها بصورة أخرى ، وقد توسعت الدكتوره سعاد حكيم فى معجمها الصوفى فى حصر هذه النوعية من المصطلحات عند ابن عربى ، سواء ورد اللفظ فى القرآن أو لم يرد ، واعتبرت كل ما ورد عنه من هذه النوعية اصطلاحات صوفية ومداخل معجمية تنطق بالحكمة .
أما إذا كان الاصطلاح له امتداد عند الأوائل ، أو ما قبل عصر ابن عربى موضوع على معنى باطنى ، لا يدل عليه مقتضى ظاهر القرآن أو السنة ، ذكرته على شرط منهج النوع الأول من المصطلحات مثل مصطلح الإحرام ، والبيت المعمور ، والتلبيس والتلوين ، والتمكين ، والجمع ، والزكاة ، والسكر ، والشرب والفرق والمسامرة ، والملامتية ، والوطن وغير ذلك من المصطلحات .(7/23)
فمصطلح : (الإحرام) ورد فى القرآن والسنة على نية أحد النسكين الحج أو العمرة أو لهما معا ، وهو فيهما بمنزلة التكبير فى الصلاة ، فالتكبيرة الأولى فى الصلاة يقال لها تكبيرة الإحرام ، فإذا أحرم الحاج أو المعتمر منع من أشياء تحل له فى غير الإحرام ، كحلق الشعر وتغطية الرأس وصيد البر والنكاح والجماع وغير ذلك مما بينه القرآن والسنة ، ففى القرآن : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُم ٌ } [المائدة/95] وقال سبحانه : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } [المائدة/1] وقال : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } [المائدة/96] ، وفى السنة عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما قال : " قام رجل فقال : يا رسول اللَّه ، ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تلبسوا القميص ولا السراويلات ، ولا العمائم ولا البرانس ، إلا أن يكون أحد ليست له نعلان فليلبس الخفين وليقطع أسفل من الكعبين ، ولا تلبسوا شيئا مسه زعفران ولا الورس ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين " (1) .
والإحرام ينتهى بانتهاء النسك ، ولا دليل فى إيجاب الإحرام على غير من دخل لأحد النسكين الحج أو العمرة ، لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } [المائدة/2] (2) .(7/24)
أما الإحرام فى الاصطلاح الصوفى ، فيعنى عندهم معنى باطنيا يخالف المعنى الظاهر المتعارف عليه بين النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، فإذا قيل فى عرفهم : رجل محرم فإنهم يعنون أنه ترك شهوة المخلوقات ، كما أن الخروج عن الإحرام ليس بالتحلل منه كما هو المقصود فى القرآن والسنة ، ولكنه عبارة عن التوسع للخلق والنزول إليهم بعد العندية فى مقعد صدق (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الحج (1838) 4/63 .
2. الروضة الندية شرح الدرر البهية ، لأبى الطيب صديق بن حسن البخارى ، مكتبة التراث القاهرة ، بدون تاريخ 1/250 ، والمفردات فى غريب القرآن ص115 .
3. كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوى 6/131 .
وهذا المعنى نقله التهانوى عن الصوفية دون نسبته إلى أحد ، ولكن له امتداد عند الجنيد بن محمد (ت:298هـ) ، فيروى عنه أنه قال لرجل محرم يريد الحج إلى مكة : هل تخليت عن صفاتك الآدمية كما تخليت عن ثيابك الاعتيادية ؟ فقال : اللَّهم لا ، قال له : إنك إذا لم تحرم (1) ، ويؤيده فى هذا الفكر الباطنى السراج الطوسى (ت:378هـ) فيقول :
( وإذا نزعوا ثيابهم للإحرام وتجردوا وحلو العقد واتزروا وارتدوا ، كذلك نزعوا عنهم أسرارهم الغل والحسد وحلوا عن قلوبهم عقد الهوى ومحبة الدنيا ولم يعودوا إلى ما خرجوا منه من ذلك ) (2) ، ويصرح على بن عثمان الهجويرى فى كشف المحجوب (ت:465هـ) أن الإحرام فى عرف الصوفية ، هو أن يحرم على نفسه ذكر الغير (3) .
أما من جهة الأصول القرآنية والنبوية ، فإن الشواهد ظاهرة فى أن الإحرام فعل ظاهر من أفعال العبادات يرتبط بالنية وإرادة اللَّه بالعمل ، كما هو الحال فى سائر العبادات ، فيتحتم أن يتوفر فيها شرطان أساسيان حتى يقبل العمل وهما :
ــــــــــــــــــــ
1. كشف المحجوب ص393 .
2. اللمع ص228 .
3. كشف المحجوب ص 391 .(7/25)
1- الإخلاص لله ، لقوله تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة ِ } [البينة/5] .
2- متابعة السنة ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما روى عن عائشة رضى الله عنها : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " (1) .
أما ما ذكره الصوفية لمعنى الإحرام من ترك شهوة المخلوقات ، ففيه نوع من الإطلاق يفتقر إلى ضبطه بمقياس الشرع ، فليس كل ما يشتهى محرما ، والتخلى عن صفات الآدمية ، وذكر الغير ليس على إطلاقه أيضا ، وإنما التخلى عن الصفات الذميمة من الوجهة الشرعية هو المراد ، فليس كل الصفات الآدمية ذميما ، ولا ينبغى أن يسمى ذلك إحراما ، لأن الإحرام له مفهومه الشرعى وقدسيته الخاصة ، التى لا يجوز المساس بها أو تمييع مدلولها .
كما أن نزع الغل والحسد ، وخلع عقد الهوى ، ومحبة الدنيا عن القلب ، كل ذلك من المعانى ، لا تقترن بالحج أو غيره من العبادات عند أدائها أو أداء بعضها فقط ، ولكنها معان مصاحبة للمسلم عند نطقه بالشهادتين وإذعانه لربه وإعلانه الإسلام ، فالصحابة وهم خير القرون ، لم يذكر عنهم أنهم التفتوا فى إحرامهم إلى ذلك ، ولم يتناقلوه فيما بينهم ، ولم يثبت عنهم ذلك ، ولو كان خيرا ما تركوه .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الصلح (2697) .
ثانيا : منهج ترتيب مداخل المصطلحات الصوفية .
التزمت فى ترتيب مداخل المصطلحات منهجا تبدو معالمه فيما يأتى :
[1] - رتبت المداخل حسب الترتيب الهجائى للمشرق العربى (1) فصنفت المصطلحات ، دون اعتبار ألف ولام التعريف ، إلى ثمانية وعشرين مدخلا وفق الحرف الأول من المصطلح .(7/26)
[2]- اعتمد ترتيب الحروف فى كل مصطلح على صورة الكلمة ، لا على نظام المواد اللغوية الذى يرجع اللفظ إلى أصوله اللغوية ، ثم يعتمد حروف المواد الأصول فى الترتيب ، وإنما المدخل هو صورة الكلمة المكتوبة فقط ، فمثلا فى باب الألف ، وردت الاصطلاحات الآتية : ( الأبد ، الاتصال ، الإحسان الإخبات ، الاختيار ، الإخلاص ، الإرادة ، الاستقامة ، الاصطفاء ، الاصطناع الاعتصام ، الامتحان ، الإنابة ، الإيثار ) ، فالمعتبر هو النظر إلى المدخل بحروف الكلمة ، لا بالمادة اللغوية أو حروفها الأصول ، كما أن حرف الألف ليس ــــــــــــــــــــ
1. ترتيب المشرق العربى : ( أ - ب - ت - ث - ج - ح - خ - د - ذ - ر - ز - س ش - ص - ض- ط ظ - ع - غ - ف - ق - ك - ل - م - ن -هـ - و- ى ) .
وترتيب المغرب العربى : ( أ - ب - ت - ث - ج - ح - خ - د - ذ - ر - ز- ط ظ - ك - ل - م - ن - ص - ض - ع - غ - ف- ق- س - ش – هـ - و- ى )
فالاختلاف بينه وبين ترتيبها فى المشرق العربى بعد الزاى .
مقصورا على المصطلحات التى تبدأ بالألف فقط وإنما ضم إليه ما بدأ بالهمزة .
[3]- الاصطلاحات المركبة ، لا يعتد فى ترتيبها ، إلا بالجزء الأول من تركيبها كما فى اصطلاحات : ( المأخوذ والمستلب ، الأفق الأعلى ، الأفق المبين ، التدانى والتدلى ، مشرق الشمس ، مغرب الشمس ، الوفاء بالعهد ، يوم الجمعة .. ) حيث تقدم الأول فى الترتيب على الثانى مع النظر إلى الحرف الأول من الجزء الثانى فى الترتيب العام للمداخل .(7/27)
[4] - الترتيب الداخلى للمداخل روعى فيه ترتيب المداخل المعجمية حسب كل حرف من حروف الكلمة ، الأول فالثانى فالثالث وما يليها ، كما فى المصطلحات الواردة فى حرف التاء : ( التبتل ، التجلى ، التسليم ، التفريد التفكر ، التقديس ، التقوى ، التواضع ، التوبة ، التوجه ، التوحيد ، التوفيق التوكل .. ) حيث تقدم مدخل التبتل على التجلى ، لتقدم الباء على الجيم ، والتجلى على التسليم ، لتقدم الجيم على السين ، وهكذا فى جميع المداخل .
[5] - إذا اشتمل المدخل العام على بعضى المداخل الفرعية ، فإنه لا ينطبق عليها ما تقدم ، وإنما رتبت المداخل الفرعية حسب القرب أو البعد من المعانى ذات الأصول القرآنية ، كما فى مصطلح : (التفكر) ، حيث اشتمل هذا المدخل على بعض المداخل الفرعية مثل : (تفكر العامة) ، (تفكر الخاصة) ، (تفكر خاصة الخاصة) ، فجاء (تفكر العامة) أولا ، لأنه أقرب إلى الأصول القرآنية والنبوية ، فيعنى عندهم : ( التفكر لعامة الناس من غير الصوفية ، لتحصيل ما به يسهل عليهم الخلاص من إتيان الشهوات التى زينت للناس ، حتى ملكت رقهم ، فإذا أمكن العبد التحرر من رقها بالتحرر من إتيانها ، حتى خرج من ظلمة الشهوات إلى أنوار المشاهدات ، صار من أهل القربات لا محالة ) (1) ، ثم (تفكر الخاصة) ثانيا ، وهو عند الصوفية أرقى ، إلا أنه من الأصول القرآنية أبعد فجاء على معنى :( تحصيل ما يسهل سلوك طريق الحقيقة ) (2) ، ثم (تفكر خاصة الخاصة) ، إذ هو أشد بعدا ، حيث ينقلب الأمر بالتفكر ، إلى ترك حضيض التفكر ، فورد كما ذكر عنهم : ( وأما خاصة الخاصة ، فقد ارتفعوا عن حضيض التفكر ، الذى هو طلب أمر مفقود ، إلى أوج التذكر الذى هو مشاهدة الحق الموجود ) (3) .(7/28)
وربما تعددت المداخل الفرعية إلى ما هو أكثر من ذلك ، كما فى مصطلح : (الإنابة) ، حيث ورد تحت المدخل العام ، خمسة مداخل وهى : (إنابة العوام) فذكرت أولا ، لأنها مبنية على الشواهد الصحيحة من الكتاب والسنة ، ثم (إنابة الخاصة) ، وهى الرجوع من مخالفة الإرادة الإلهية إلى موافقتها ، بحيث لا يختلج فى القلب إرادة شئ من الأشياء لعلمه أنه لا يقع إلا ما أراد اللَّه وقوعه (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. معجم الكاشانى ص196 .
2. السابق ص 196 .
3. لطائف الإعلام 1/336 ، 337 .
4. السابق 1/248 ،249 .
وهذ قريب من مذهب الجبر ، ثم (إنابة خاصة الخاصة ) ، وهى ألا يرى مع اللَّه سواه (1) ، ثم (إنابة خلاصة خاصة الخاصة) ، وهى ألا يرى فيما يقال إنه سواه أنه شئ سوى مراتب تجلياته ، ثم (إنابة صفاء خلاصة خاصة الخاصة ) .
ويعرف الكاشانى حدها عندهم بقوله : ( تمكنك عند إنابتك إليه ، بحيث لا تنقهر تحت سلطنة التجلى عن رؤية المجلى ، باستهلاكك فى نور المتجلى ، لئلا يستهلك أحكام المراتب ، فيفوتك الخير الكثير ، الذى هو معرفة الحكمة فى أحكام مواقع تلك التجليات ، والقيام بحقوقها ) (2) ، وجميع هذه المعانى ما عدا (إنابة العوام) ، تميل عن المعنى القرآنى على اختلاف بينها فى زاوية البعد .
ثالثا : منهج ترتيب الشواهد الصوفية فى المداخل .
التزمت فى ترتيب شواهد المداخل العامة ، سواء من أقوال الصوفية أو كتاب المصطلحات فى الأبواب ، الثالث والرابع والخامس منهجا يرتكز على ما يلى :(7/29)
(1 - عرض أقوال الصوفية حسب الترتيب الزمنى لتاريخ الوفاة من الأدنى إلى الأعلى ، ليتسنى للقارئ متابعة التطور فى معنى المصطلح الصوفي ، وما طرأ عليه من تغير عبر الزمن ، ومن الأمثلة الدالة على ذلك مصطلح : (الحرية) ، حيث ورد فى هذا المدخل سبعة شواهد من أقوال أعلام الصوفية ، وثلاثة من أقوال كتاب المصطلحات ، فرتبتهم حسب التسلسل الزمنى لتاريخ الوفاة ، فالأول ما ــــــــــــــــــــ
1. السابق 1/249 . 2. السابق 1/249 .
روى عن بشر الحافى ، حيث توفى سنة (227هـ) (1) ، ثم ما نسب لأحمد بن خضرويه توفى سنة (240هـ) (2) ، ثم ما يروى عن الجنيد بن محمد سيد الطائفة فى عصره (ت:297هـ) (3) ثم إبرهيم بن شيبان (ت:330هـ) (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. انظر فى ترجمته ومعرفة تارخ وفاته ، الرسالة القشيرية 1/73 ، ومرآة الجنان 2/92 وطبقات الشعرانى 1/84 ، وشذرات الذهب 2/60 ، وتاريخ بغداد 2/67 ، والبداية والنهاية 10/297 ، وحلية الأولياء 8/336 معجم البلدان 1/444 ، والفهرست 1/184 .
2. يراجع فى ترجمته : تاريخ بغداد 4/137، وحلية الأولياء 10/42 ، وصفة الصفوة 4/137 وطبقات الشعرانى 1/95 ، الرسالة القشيرية 1/103 وسير أعلام النبلاء 8/129 ، ومعجم المؤلفين 1/214 ، وكنوز الأولياء ص94 ، وجامع كرامات الأولياء 1/290 ، والكواكب الدرية 1/198 ، و النجوم الزاهرة 2/303 ، وتذكرة الأولياء 1/247 .
3. انظر ترجمته فى طبقات الصوفية ص155، ولواقح الأنوار 1/98 ، ومرآة الجنان 2/231 والمنتظم 6/105 وفيات الأعيان 1/146 وطبقات الشفاعية 2/28 ، والأنساب ص464 والبداية والنهاية 11/4113 ، وسير أعلام النبلاء 9/155 ، وطبقات الحنابلة 1/127 ونتائج الأفكار القدسية 1/139 وهدية العارفين 1/258 ، وفهرست بن النديم 1/185 وفهرست الخديوية 2/87 ، وروضات الجنات ص 164، والنجوم الزاهرة 3/76 ، وسير السلف الصالحين ص195 .(7/30)
4. انظر ترجمته فى حلية الأولياء 10/361 ، وشذرات الذهب 2/344 ، والرسالة القشيرية 1/174 ونتائج الأفكار القدسية 1/199 ، وطبقات الشعرانى 1/132 ، وطبقات الصوفية ص403 .
ثم أبو بكر الشبلى (ت:334هـ) (1) والشيخ عبد الله ابن خفيف الشيرازى (ت:371هـ) (2) وكل هؤلاء من أعلام الصوفية ، ثم أوردت قول أبى نصر السراج الطوسى (ت:387هـ) (3) ، ككاتب للمصطلحات الصوفية ، ثم ما يروى عن أبى على الدقاق (ت:410هـ) (4) ، وهو من أعلام الصوفية لا من كتابهم ، ولكنه جاء فى الترتيب متأخرا فى الزمن عن السراج الطوسى ، ثم أوردت بعد ذلك فى المدخل ، شرح المصطلح لأبى القاسم القشيرى ، حيث ــــــــــــــــــــ
1. انظر ترجمته فى حلية الأولياء 10/366 ، وصفة الصفوة 2/258 ، ونتائج الأفكار القدسية 1/187 ، وطبقات الشعرانى 1/121 ، ووفيات الأعيان 1/225 ، وتاريخ بغداد 14/389 ، واللباب 2/10 ، والأنساب ص329 ، والديباج المذهب ص116 وهدية الأحباب ص140 ، والكامل 8/350 ، والمنتظم 6/347 .
2. انظر ترجمته فى حلية الأولياء 10/385 ، ونتائج الأفكار القدسية 2/6 ، وطبقات الشعرانى 1/142 ، وشذرات الذهب 3/76 ، ومعجم البلدان 3/350 ، وطبقات الشافعية 2/150، والمنتظم 7/112 .
3. تقدمت ترجمته انظر ص 147 .
4. أستاذ القشيرى صاحب الرسالة ، توفى ودفن بنيسابور سنة 410 هـ انظر وفيات الأعيان لابن خلكان 2/375 ، وطبقات الشافعية 3/112 ، والكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية لعبد الرؤف المناوى 1/225 .
توفى سنة (465هـ) (1) ، ثم رأى محى الدين بن عربى (ت:638هـ) (2) من خلال ما ذكره عبد الرزاق الكاشانى (ت:735هـ) فى تصنيفه للمداخل الفرعية فى مصطلح (الحرية) .(7/31)
ويمكن للقارئ أن يلحظ بمجرد النظر إلى الشواهد فى ترتيبها تطور معنى الحرية عند الصوفية من معنى بسيط يعنى إتمام العبودية لله والإخلاص لله وحده ، وألا يكون العبد عبدا لدرهم أو دينار أو استرقه شئ سوى الله (3) إلى معنى مركب بعيد الصلة تماما عن الأصول القرآنية فى عصر ابن عربى ، حيث تعنى الخروج عن رق الرسوم والآثار ، لانمحاق ظلمة كونهم فى تجلى نور الأنوار ، فالحرية تحرر من ظلمات أهل الحجاب، الذين لا يعبدون إلا صور الكثرة الأسمائية المحتجبين بها عن الوحدة (4) .
(2 - رجعت فى تحديد تاريخ الوفاة إلى جميع كتب التراجم الممكنة ، مثل ما ورد من مراجع فى الترجمة السابقة لبشر الحافى وأحمد بن خضرويه والجنيد بن محمد وإبرهيم بن شيبان وغيرهم ، كما اكتفيت بوضع سنة الوفاة بجوار الإسم ــــــــــــــــــــ
1. تقدمت ترجمته انظر ص 154 .
2. تقدمت ترجمته ص 157 .
3.اللمع ص450 .
4. فصوص الحكم ص 73:71 .
مباشرة ، ولم أبين فى الهامش المصادر التى اعتمدت عليها فى تحديد سنة الوفاة لأن صفحات الرسالة تضيق ولا تتسع بشكل تفصيلى أو إجمالى ، لذكر مصادر الترجمة لهذا العدد الكبير من الصوفية ، فقد بلغ عدد أعلام الصوفية وكتابهم فى جميع المداخل أكثر من خمسمائة صوفى ، ولذا اكتفيت بوضع سنة الوفاة بجوار الإسم فقط ، وقد راعيت عند اختلاف أصحاب التراجم فى تاريخ الوفاة لأحد أعلام الصوفية الأخذ بالرأى الذى عليه جمهور المترجمين ، فإن لم يكن غير رأيين أو ثلاثة أخذت بالأحوط دائما ، مثال ذلك فى ترجمة (الجنيد بن محمد) اختلفوا فى وفاته ، فمن قائل إنه توفى سنة سبع وتسعين ومائتين (1) ، ومن قائل إنه توفى ببغداد سنة ثمان وتسعين ومائتين (2) ، ومن قائل إنه توفى ببغداد سنة تسع وتسعين ومائتين (3) ، وجمهور المترجمين أو ما يزيد على العشرين منهم على أنه توفى سنة (ت:297هـ) فأخذت به .
ــــــــــــــــــــ(7/32)
1. ذكره أبو القاسم القشيرى فى ترجمته ، انظر الرسالة القشيرية 1/116 ، وأبو عبد الرحمن السلمى فى طبقات الصوفية ص156 .
2. ذكره الخطيب البغداى بسنده عن الحسين بن المنادي قال : ( مات الجنيد بن محمد ليلة النيروز ودفن من الغد وكان ذلك في سنة ثمان وتسعين ومائتين ) ، انظر تاريخ بغداد 7/241.
3. انظر كتاب نفحات الأنس من حضرات القدس لأبى البركات عبد الرحمن الجامى طبعة الأزهر الشريف ، دار التراث العربى سنة 1409ه ، 1989م ، ص258 .
ومثال ذلك أيضا ترجمة (شاه الكرمانى) حيث ورد قولان فى وفاته ، القول الأول أنه مات سنة ست وسبعين ومائتين (1) ، والثانى أنه مات قبل الثلاثمائة (2) وقد ترددت أقوال المترجمين جميعا بين هذين القولين ، فأخذت بالأحوط وهو الرأى الثانى ، وكتبت بجوار شاه الكرمانى (ت:قبل300هـ) .
(3- ألحقت فى كل مصطلح على حدة ، تاريخ الوفاة لكل شخصية صوفية وذلك حتى يتسنى ترتيبهم زمنيا من جهة الأقرب إلى عصر خير القرون ، ومن ناحية أخرى مراعاة ترتيب الأفكار قربا من المعنى الوارد فى الأصول القرآنية والنبوية ، وثالثة أنه ربما أراد القارئ البحث عن مصطلح بعينه دون الرجوع إلى ما سبق ، فيمكِّنه ذلك من معرفة الترتيب الزمنى للشواهد فى هذا المدخل ، ولهذا ربما يتكرر ذكر تاريخ الوفاة لصوفى ما فى كل مصطلح ، مثل الحارث بن أسد المحاسبى (ت:243هـ) ذكر فى مصطلح (الإخلاص) وذكر مرة أخرى فى مصطلح (البلاء) ومصطلح (الحرص) وغير ذلك من المداخل ، أما إذا تكرر ذكر شخصية صوفية أكثر من مرة فى المصطلح الواحد ، اكتفيت بذكر تاريخ الوفاة مرة واحدة ، كما فى مصطلح : (الخليفة) ، حيث ورد ذكر ابن عربى
ــــــــــــــــــــ
1. ذكره صاحب نفحات الأنس ص274 .
2 . ذكره أبو عبد الرحمن السلمى فى طبقات الصوفية ص192 ، وأبو القاسم القشيرى فى الرسالة 1/136 .
(ت:638هـ) أربع مرات ، فأوردت تاريخ وفاته عند أول ما ذكر .(7/33)
(4 - عرضت أقوال الصوفية فى القسم الثانى ، من الفصل الأول إلى الفصل الرابع فى جميع المداخل ، بصورة تمكن القارئ من معرفة ما إذا كان القول ثابت النسبة أو محتمل ، ففرقت بين ما هو مؤكد من الأقوال فى نسبتها إلى أصحابها وبين ما يروى عنهم ، مما لا يخضع للضوابط المتفق عليها ، فى اتصال السند وعدالة الرواة ، وضبطهم ، ومدى توثيق النقل عندهم ، فإذا كان القول مرويا عن شخصية صوفية ، دون سند صحيح منصوص عليه ، ومتصل إلى ذلك الصوفى ، ذكرته بصيغة التمريض أو البناء للمجهول ، مثل : (روى عن فلان) أو (ينسب لفلان كذا) ، أو (يذكر لفلان) ، أو (أن فلانا قال) ، أو ما شابه ذلك من الصيغ التى تعطى معنى إمكانية الثبوت أو عدمها ، أما إذا كان القول ثابتا فى تراث منسوب له نسبة صحيحة ذكرته بصيغة الجزم ، أو البناء للمعلوم مثل : (قال فلان) ، أو (ذكر فلان) ، أو غير ذلك من صيغ الأداء .
ومثال ذلك الشواهد الواردة فى مصطلح : (الشكر) ، حيث ورد فى هذا المدخل شاهدان مرويان عن أبى سعيد الخراز ، ورويم بن أحمد البغدادى ، الأول ذكره أبو بكر محمد الكلاباذى فى كتابه التعرف بصيغة الجزم ، فقال : ( قال أبو سعيد الخراز : ( الشكر الاعتراف للمنعم والإقرار بالربوبية ) (1) ، والثانى ــــــــــــــــــــ
1. التعرف ص100 .
ذكره أبو القاسم القشيرى فى الرسالة بصيغة الجزم أيضا ، فقال : ( وقال رويم : الشكر استفراغ الطاقة ) (1) ، مع أن الكلاباذى لم يدرك أبا سعيد الخراز ، ولم يسمع منه فأبو سعيد توفى سنة (279هـ) ، والكلاباذى توفى سنة (380هـ) ولم يصرح أنه سمع من ثقة نقله عن أبى سعيد وكذلك القشيرى (ت:465هـ) لم يدرك رويم بن أحمد البغدادى (ت:303هـ) ومن ثم عرضت قولهما بصيغة البناء للمجهول هكذا :(7/34)
( ويروى عن أبى سعيد الخراز (ت:279هـ) أنه قال : ( الشكر الاعتراف للمنعم والإقرار بالربوبية ) وحكى عن رويم بن أحمد البغدادى (ت:303هـ) أنه قال : ( الشكر استفراغ الطاقة ) .
والمراد من ذلك أن يتحقق القارئ قبل الحكم على الصوفية ، أن ما ينسب إليهم هو من كلامهم ، فهذه من أعظم أمور الإنصاف فى ذكر ما للصوفية وما عليهم ، ولذلك نجد ابن تيمية يراعى فى منهجه هذه المسألة بدقة ، إنصافا لأوائل الصوفية ، أو ما أطلق عليهم اصطلاحا لفظ : (المشايخ ) ، فقال فى رواية نقلها القشيرى فى الرسالة عن أحمد بن عطاء (ت:269هـ) (2) ، بدون سند : ( لم يذكر لهذه الحكاية إسنادا ، ومثل هذا لا تقوم به حجة ، ولا يحل لأحد أن يدل المسلمين فى أصول دينهم بكلام لم تعرف صحة نقله ، مع ما علم ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة القشيرية 1/439 .
2. السابق 2/644 .
من كثرة الكذب على المشايخ المقتدى بهم ، فلا يثبت بمثل هذا الكلام ، قول لابن عطاء ولا مذهب ، بل قد ظهر على هذه الحكاية ، كذب ناقلها وجهل قائلها ) (1) ، ويقول أيضا فى مثل ما نقله القشيرى من غير تثبت عن أحمد بن أبى الحوارى (ت:230هـ) فى السماع : ( هذا المقالة ذكرها مرسلة ، فلا يعتمد عليها ) (2) .
وورد أيضا فى مدخل الشكر عدة شواهد أخرى للحارث بن أسد المحاسبى (ت:243هـ) ، وسهل بن عبد اللَّه التسترى (ت:293هـ) ، وأبى طالب المكى (ت:386هـ) ، وأبى القاسم القشيرى ، لكنها ذكرت بصيغة الجزم لأنها نقلت من كتبهم ، وبهذا يمكن إلى حد ما ، تحرى الدقة فى التعرف على آراء الصوفية ومعتقداتهم (3) .
(5- أردفت بجوار المداخل تعليقا موجزا يكشف بصورة مختصرة عن معنى ــــــــــــــــــــ
1. الاستقامة لابن تيمية 1/198.
2. السابق 1/410 ، وانظر أيضا فى مثل ذلك : التصوف فى تراث ابن تيمية للدكتور الطبلاوى محمود سعد ص206 .(7/35)
3- انظر قول الحارث المحاسبى فى كتابه : القصد والرجوع إلى اللَّه ص70 ، وكلام سهل بن عبد الله التسترى فى كتابه : تفسير القرآن العظيم ص 7 ، وكلام أبى طالب المكى فى كتابه : قوت القلوب 1/204 ، وكلام أبى القاسم عبد الكريم القشيرى فى كتابه : الرسالة القشيرية 1/438:437 .
المصطلح عند الصوفية بصفة عامة ، ومستخلص من مجموع ما ورد من ألفاظهم فقد يكون مقتبسا من قول منسوب لأحدهم كما ورد فى مصطلح : (الأبد) ومصطلح : (الاتصال) وغيرهما ، وقد يكون ملخصا من المعانى الصوفية الواردة فى المصطلح كما فى مصطلح : (الحقيقة) ، حيث ورد التعريف به على هذه الصورة : ( وردت الحقيقة فى ألفاظ الصوفية على عدة معان ، تدور أغلبها حول الصدق فى الإيمان ، وبلوغ درجة الإحسان ، وكمال المراقبة ، والمداومة على النظر فى أفعال الله ) ، وقد يكون المعنى مطابقا لما ورد فى الأصول القرآنية فأكتفى بالتنبيه على ذلك ، كما فى مصطلح : (الإخلاص) ، وقد يكون المعنى فى الاصطلاح الصوفى متعدد ومتنوع ، فأذكر مداخله ، كما فى مصطلح : (الإرادة) ، وقد تكون العبارة الجامعة مقتبسة من كتاب المعاجم ، كما فى مصطلح : (الاستقامة) ، حيث اقتبست عبارة موجزة من أصل ما ورد عند التهانوى ، وربما أذكر شاهدا لأحد أعلام الصوفية أو أصلا قرآنيا أو نبويا بجوار المدخل ، يوضح المعنى العام للمصطلح ، كما فى مدخل : (التبتل) ، كل ذلك مع التنبيه على نسبة الأقوال لمصادرها .
(6 - نظرا لما دار حول مصطلح : (التصوف) من خلافات فى أصوله التى يرد إليها ، أو زمن نشأته واشتهاره بين الناس ، فقد أفردت فصلا كاملا لتحقيق الأصول القرآنية التى يرد إليها التصوف عند الصوفية أنفسهم ، ثم ناقشت ذلك مناقشة مبنية على تقرير تلك الأصول أو النظر فيها ، فاستقصيت لذلك جميع ما ورد فى كتب السنة مما يمكن إضافته لهذ الموضوع ، بالإضافة إلى تحليل لمنشأ الإصطلاح وأول من أطلقه علي الزهاد الأوائل .(7/36)
رابعا : منهج التعرف على الأصول القرآنية للمصطلح الصوفى .
راعيت فى ترتيب مداخل المصطلحات بصفة عامة ، أن أبدأ باستقصاء شامل للمداخل ، يحتوى على ذكر المعنى اللغوى للمصطلح ، ثم الأصول القرآنية والنبوية ، ثم عرض أقوال الصوفية حسب القرب أو البعد من المعنى القرآنى فى تناسب مطرد ، فالأقرب إلى الأصول القرآنية والنبوية ، يوضع مجاورا لها فى المدخل ، مع مراعاة الترتيب الزمنى للشواهد من أقوال الصوفية أيضا ، بمعنى أن الأقرب منهم إلى عصر خير القرون يوضع مجاورا للأصول القرآنية ثم الأبعد فى الزمن ، وقد التزمت فى التعرف على الأصول القرآنية للمصطلح الصوفى منهجا تتضح معالمه فيما يأتى :
[1- اعتبار القرآن والسنة شواهد لغوية لجميع المداخل ، واستقصاء وجوه استعمال اللفظ فى هذه الشواهد ، حتى تظهر بوضوح جذور استعمال اللفظ فى الأصول القرآنية والنبوية ، والمعانى المتنوعة التى ترددت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - ، ثم مقارنة ذلك باستعمال الصوفية لمعنى المصطلح عندهم ، وقد قدمت هذه الشواهد على غيرها فى توجيه المعانى وترتيبها ، لأن القرآن والسنة من أرقى أنواع الشواهد اللغوية ، فالقرآن كلام معجز نزل بلغة العرب وتحداهم الله به ، ودعاهم الله إلى الالتفات إليه ، والتدبر فيه من جميع الوجوه فقال تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [الزخرف/3] .(7/37)
وقال أيضا : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِين ٌ } [النحل/103] فحوى من أساليب التعبير والبيان وروعة الأثر فى العقول والنفوس ، ما دعى بلغاءهم وألو الفطن منهم أن يتحيروا فيه أهو شعر أم سحرا ؟ حتى أقروا أنه ليس من كلام البشر ، وأن أعلى الطاقات البشرية فى الفصاحة ، لا يمكن أن ترقى إلى هذا المستوى (1) ، ومن ثم اعتبرت القرآن له الأسبقية فى الشواهد اللغوية ، كما أن السنة أيضا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أعلم الناس بكلام الله وكلام العرب ، وأفصحهم لسانا وأحسنهم بيانا وأعلمهم بجوامع الكلم ، كما قال فى حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - : " بعثت بجوامع الكلم " (2) .
ولا يعنى تقديم الكتاب والسنة فى الشواهد اللغوية ، إهمال المصادر والمعاجم اللغوية ، ولكن اعتبرت شواهد المعانى اللغوية الواردة فى القرآن والسنة لها الأولويه فى حصرالمعانى وترتيبها ، ومثال ذلك مصطلح : (الاتصال) ، حيث ــــــــــــــــــــ
1. انظر أثر القرآن فى تطور النقد العربى للدكتور محمد زغلول سلام ، طبعة مكتبة الشباب سنة 1982م ، ص39 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد والسير (2977) 6/149 ، ومسلم فى كتاب المساجد (523) 1/371 وبلفظ : أعطيت .
ورد فى كتب المعاجم على معنى ارتباط الأشياء بعضها ببعض ، كاتحاد طرفى الدائرة ويضاد الانفصال (1) ، لكن اعتمدت على الشواهد القرآنية والنبوية فى التدليل على هذا المعنى ، وحصر المعانى المتعلقة به ، لأنها أوضح وأيسر مما ذكر عندهم ، فقد استعمل الاتصال فى القرآن والسنة على نوعين :(7/38)
1- الاتصال فى الأعيان ، كقوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ ً } [هود/70] ، ونحو حديث أسماء رضى اللَّه عنها قالت :" سألت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول اللَّه إن ابنتي أصابتها الحصبة فامرق شعرها ، وإني زوجتها أفأصل فيه ؟ فقال : لعن اللَّه الواصلة والموصولة " (2) .
2- الاتصال فى المعانى ، وهو ما يعنينا فى التدليل على استخدام الصوفية لمصطلح الاتصال على المعنى المذكور عندهم ، فأكثرت من ذكر الشواهد الموضحة لاستعمال الاتصال فى المعانى ، كقوله عز وجل : { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [القصص/51] ، أى أكثرنا لهم القول موصولا بعضه ببعض .
وقالت خديجة رضي اللَّه عنها لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " واللَّه ما يخزيك اللَّه أبدا إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف وتعين ــــــــــــــــــــ
1. المفردات فى غريب القرآن للراغب الأصفهانى ص525 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب اللباس (5941) 1/391.
على نوائب الحق " (1) ، وعن عبد اللَّه بن عمر ?- رضي الله عنه - : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - واصل فواصل الناس فشق عليهم فنهاهم ، قالوا : إنك تواصل ؟ قال : لست كهيئتكم إني أظل أطعم وأسقى " (2) .(7/39)
وفى مصطلح : (التجلى) ، ورد فى جميع كتب المعاجم على معنى الظهور يقال : أجليت الأمر بينته وأظهرته ، ولكن اعتمدت على الأصول القرآنية والنبوية كشواهد لغوية ، فمن حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال : " خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس معه .. ثم انصرف وقد تجلت الشمس " (3) أى ظهرت ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم - : " تخرج الدابة معها خاتم سليمان ، وعصا موسى ، فتجلو وجه المؤمن ، وتختم أنف الكافر بالخاتم " (4) ، أى تظهره للناس ، وقد يكون التجلى بالذت أو الأمر (5) :
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب بدء الوحى (4) 1/37 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الصوم برقم (1922) 4/165.
3. أخرجه البخارى فى كتاب النكاح برقم (5197) 9/209 .
4. أخرجه الترمذى فى كتاب تفسير القرآن (3187) ، وقال حسن غريب ، وضعفه الشيخ الألبانى 5/340 ، ورواه ابن ماجة فى كتاب الفتن 2/1351 برقم (4066) وأحمد فى مسنده 2/295 برقم (7924) وأبو داود الطيالسى فى مسنده ص334 برقم (2564) .
5. المفردات فى غريب القرآن ص96 .(7/40)
1- فمن الأول : قوله : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } [الليل/ 2:1] وقوله : { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } [الأعراف/143] وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } قال حماد : هكذا وأمسك سليمان بطرف إبهامه على أنملة إصبعه اليمنى قال : فساخ الجبل وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا (1) ، وفى رواية أخرى ، قال أنس - رضي الله عنه - : " قال هكذا ، يعني أنه أخرج طرف الخنصر ) (2) ، وثالثة قال : ( فأومأ بخنصره ، قال : فساخ ) (3) وكرؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ، كما فى حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم - : " ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول : من تنظرون ؟ ، فيقولون : ننظر ربنا فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : حتى ننظر إليك فيتجلى لهم يضحك " (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه الترمذى فى كتاب تفسير القرآن (3074) وصححه الشيخ الألبانى 5/265 وأحمد فى المسند 3/125 (12282) والحاكم فى المستدرك على الصحيحين 1/77 برقم (66) المعجم الأوسط 2/497 (1857) .
2. أخرجه أحمد برقم (11851) والحاكم برقم (3249) وقال : صحيح على شرط مسلم 2/351 ، وصححه الشيخ الألبانى فى سنن الترمذى 5/265 .
3. أخرجه أحمد (12766) والحاكم (4104) وقال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه 2/630 . 4. أخرجه مسلم فى كتاب الإيمان (191) 1/17 .(7/41)
وعن صهيب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، نودوا يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا .. فيكشف الحجاب فيتجلى الله عز وجل لهم ، قال : فما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه " (1) .
2- ومن الثانى : ما روى عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - : " أن الشمس انكسفت فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين حتى انجلت ، ثم قال : إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ، ولكنهما خلقان من خلقه ، ويحدث الله في خلقه ما شاء ، ثم إن الله تبارك وتعالى ، إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له ، فأيهما انخسف ، فصلوا حتى ينجلي ، أو يحدث الله أمرا " (2) ، فظاهر من الحديث أن التجلى تجلى الأمر ، وقد استدل الراغب الأصفهانى على تجلى الأمر بقوله تعالى : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } ولكن هذا فى غير موضعه كما بينت السنة أنه تجلى الذات ، فذكرت ما ورد فى السنة وأغفلت ما ذكره الراغب (3) .
[2 - التنبيه على المعانى الاصطلاحية الواردة فى الكتاب والسنة إذا وجدت ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الإيمان برقم (181) 1/163.
2. أخرجه الحاكم فى المستدرك برقم (1235) وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ 1/481 ، وأخرجه النسائى عن قبيصة الهلالى فى كتاب الكسوف برقم (1487) ولكنه ضعيف كما ذكر الألبانى 3/144 .
3. المفردات ص96 .
كما فى مصطلح : (الجمع) ، حيث ورد فى القرآن والسنة على معنى ضم الشئ بتقريب بعضه من بعض ، كقوله تعالى : { وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } [القيامة/9] ومن حديث ابن عمر عن النبى - صلى الله عليه وسلم - : " فيومئذ يبعثه اللَّه مقاما محمودا ، يحمده أهل الجمع كلهم " (1) .(7/42)
ولكن الجمع ورد فى السنة ، كاصطلاح خاص يراد به التمر المتنوع المختلط لما روى عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : " كنا نرزق تمر الجمع ، وهو الخلط من التمر وكنا نبيع صاعين بصاع فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا صاعين بصاع ولا درهمين بدرهم " (2) وفى رواية " لا تفعل بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا " (3) ، وقد يستخدم البخل أيضا على معنى اصطلاحى ، وإن احتفظ بمدلوله اللغوى العام ، كما روى عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " البخيل الذي من ذكرت عنده فلم يصل علي " (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الزكاة (1475) 3/396 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب البيوع (2080) 4/364 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب البيوع (2202) 4/467 .
4. أخرجه الترمذى فى كتاب الدعوات برقم (3546) ، وقال : حديث حسن صحيح وقال الشيخ الألبانى : صحيح 5/551 ، والنسائى (9885) 6/20 ، وابن حبان فى صحيحه برقم (909) 3/189، وأحمد فى المسند برقم (1738) .
وفى مصطلح : (ذو العقل) استخدم العقل على معنى اصطلاحى خاص بين العرب ، فيقال للعوض المالى المقدر فى الشرع مقابل القتل أو الجراح ، فعن أبي جحيفة قال : قلت لعلي بن أبي طالب : هل عندكم كتاب ؟ قال لا إلا كتاب اللَّه أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة ، قلت : فما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر ) (1) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال : " قضى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في جنين امرأة من بني لحيان ، سقط ميتا بغرة عبد أو أمة ، ثم إن المرأة التي قضى لها بالغرة توفيت فقضى رسول اللَّه ، بأن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها " (2) .(7/43)
وفى مصطلح : (الصبر) ، استخدم الصبر على معنى اصطلاحى بين العرب غير ما عرف من المعنى العام ، فيقال لعصارة شجرة مرة تستعمل كدواء ، فعن أم سلمة رضى الله عنها قالت :
"حين توفي أبو سلمة : جعلت على عيني صبرا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ما هذا يا أم سلمة ؟ قلت : إنما هو صبر يا رسول اللَّه ليس فيه طيب ، قال إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل ، ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء ، فإنه خضاب ، قلت ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب العلم برقم (111) 1/246 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الفرائض برقم (6740) 1/2ص25 .
بأي شيء أمتشط يا رسول اللَّه : قال : بالسدر تغلفين به رأسك " (1)
وأطلق أيضا على هيئة مخصوصة للقتل ، يقيد فيها الكائن الحى ثم يرمى حتى الموت ، وقد نهى عنها الشرع ، فعن أبى أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال : " سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، ينهى عن قتل الصبر ، فوالذي نفسي بيده ، لو كانت دجاجة ما صبرتها " (2) ، وعن جابر بن عبد اللَّه - رضي الله عنه - قال : " نهى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يقتل شيء من الدواب صبرا " (3) .
[3 - معظم الباحثين فى التصوف ، لا يأخذون بعين الاعتبار ، التحقق من الأحاديث ، ومدى ثبوتها عن النبى - صلى الله عليه وسلم - ، ويكتفون بمجرد الإحالة على كتب السنن أو من نقل عنها دون تحقيق ، ولا يذكرون درجة الحديث من الصحة أو الضعف ، مما يضعف الثقة فى الاستشهاد بالأصول النبوية ونسبة الكلام إلى ــــــــــــــــــــ
1. صحيح بغير هذا اللفظ ، انظر الجامع الصحيح المختصر (4025) 5/2043 ومسلم (1488) 2/1124 ، وأخرجه النسائى فى كتاب الطلاق (3537) هذا اللفظ ، وقد ضعفها الشيخ الألبانى 6/204 .(7/44)
2. أخرجه ابن حبان فى صحيحه (5610) وقال شعيب الأرناؤوط : إسناده قوى 1/2ص424 ، والطبرانى فى الكبير (4002) 4/159 وأخرجه أبو داود (2687) برواية ضعفها الألبانى 3/60 .
3. أخرجه مسلم فى كتاب الذبائح برقم (1959) 3/1550وابن ماجة فى سننه برقم (3188) 2/1064 .
قائليه ، وربما تطلب هذا جهدا كبيرا ، ولكنه أمر ضرورى لإظهار جدية البحث ، وإضفاء الثقة فى نفس القارئ ، ولهذا راعيت النص على ذكر درجة الحديث والتحقق من صحتة أو ضعفه ، على الرغم من كثرة الأحاديث الواردة فى الرسالة ، مع التنبيه فى هامش كل مصطلح على نسبة الأحكام إلى قائلها وقد راعيت تحرى الأصوب والأحوط فى الحكم على الحديث ، وقد بلغ عدد الأحاديث والشواهد المرفوعة والموقوفة ، من كتب السنة أكثر من ألفى حديث اتبعت فيهم المنهج الآتى :
1- إذا وجد الشاهد فى الصحيحين ، صحيح الإمام البخارى ، وصحيح الإمام مسلم اكتفيت به فى بيان المعنى ، واكتفيف أيضا بعزوه إليهما ، لأن العزو إليهما حكم للحديث بالصحة ، كما هى طريقة الحافظ العراقى فى تخريج أحاديث إحياء علوم الدين ، فذكرته فى الهامش هكذا : ( أخرجه البخارى فى كتاب ... برقم (....) حـ ...ص....) ، وكذلك بالنسبة لأحاديث الإمام مسلم .
2- إذا وجد الشاهد فى غير الصحيحين ، تحريت على قدر المستطاع أن يكون الحديث صحيحا أو حسنا صالحا للاحتجاج ، وإذا كان الحديث ضعيفا نبهت على ذلك أيضا ، مع ذكر علة الضعف أحيانا .(7/45)
3- خرجت جميع الشواهد الحديثية التى وردت فى كلام الصوفية ، وذكرت الألفاظ الصحيحة لهذه الأحاديث وأماكن ورودها ، مع ذكر الحكم عليها من ناحية الصحة والضعف ، مثال ، ذلك الحديث الذى ذكره أبو القاسم القشيرى فى مصطلح : (البعد) ، حيث أورده بالمعنى ، فقال : ( قال - صلى الله عليه وسلم - : وما تقرب إلى المتقربون ، بمثل آداء ما افترضتهم عليهم ، ولا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى يحبنى وأحبه ، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ، فبى يبصر وبى يسمع " (1) وقد نقلته بلفظه الصحيح فى الهامش من صحيح البخارى عن أبى هريره - رضي الله عنه - : " وما تقرب إلي عبدي بشيء ، أحب إلي مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها " (2) .
4- راعيت فى جميع الشواهد الحديثية التى وردت فى الرسالة ، ذكر الراوى الأعلى فى السند الذى تنسب إليه الرواية ، حتى يتيسر لدى الباحثين بعد ذلك طريق البحث عن الحديث من خلال التعرف على راويه .
[4- تفسير المعانى القرآنية والنبوية إذا تطلب الشاهد ذلك ، بالرجوع إلى كتب التفسير المعروفة وخصوصا التفسيرات اللغوية ، والشروح المختلفة لكتب السنة ، مع ترتيب المعانى الأصولية فى شواهد القرآن والسنة فى نقاط محددة كلما أمكن ، والتركيز على المعانى الصالحة لشواهد المصطلحات الصوفية .
ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة القشيرية 1/257 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الرقاق برقم (6502) 1/348 .(7/46)
الأصول القرآنية لمصطلح التصوف
يعتبر الوحى الإسلامى الممثل فى الكتاب والسنة هو النبع الصافى لجميع الأصول الإسلامية ، وقد جعله الله عز وجل فى منزلة الماء الذى ينزل من السماء ، فيطهرُ الأرضَ ويذهبُ الزبدَ جفاء ، أو كجودة المعادن فى الأصالة والنقاء ، ونفع الناس ودوام البقاء ، كما قال تعالى : { أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ، كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِل َ } [الرعد/17] .
وإذا كانت العلوم الإسلامية قد فاضت من هذا النبع الصافى ، فإن أصالة كل علم ونقاء معدنَه وما فيه من نفع للإنسانية ، يقاس بمقدار أصوله الممتدة وجذوره الراسخة فى الكتاب والسنة ، مصداقا لقوله تعالى : { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَال } [الرعد/17] .
وأول ما يطالب به أصحاب كل نوع من أنواع العلوم الإسلامية ، أو كل طريقة أو تجربة أو مذهب ينتسب إلى الإسلام ، البحث عن الرخصة التى أهلتهم للخوض فى هذا المجال ، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - استعاذ من العلم الذى لا ينفع فمن حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال : لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يقول ، ثم ذكر من دعائه - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعوة لا يستجاب لها " (1) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب ذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2722) 4/2088 .(8/1)
أو يمكن القول بتعبير آخر مطالبة أصحاب العلوم المختلفة بالبحث عن أصالة علمهم ، وإظهار الأصول التى يعتمد عليها من الكتاب والسنة ، فمن البديهى أن العلوم الإسلامية كعلوم القرآن والحديث والفقه والمواريث والتوحيد واللغة وغير ذلك من أنواع العلوم ، لم تظهر بصورتها المتميزة فى عصر النبوة أو الخلافة الرشيدة ، إنما ظهرت بعد ذلك بفترة ، ولكن هذه العلوم قائمة على أصول قرآنية أو نبوية تمنحها شرف الانتساب ورخصة الإنشاء وجواز التوسع فيها ، حتى تصل إلى ما يمكن من الكمال ، فعلوم القرآن المختلفة كضوابط التلاوة ، وتنوع القرءات ، وتفسير القرآن ، وفهم الناسخ والمنسوخ ، وأسباب النزول ، يمكن أن ترد جميعا إلى حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، فقد روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه " (1) وفى رواية أخرى : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " (2) .
فيصح للمشتغلين بعلوم القرآن أن يحتجوا على أصالة علمهم ، وشرف نسبته بمثل هذه الأحاديث كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعا إلى البحث فى القرآن ، ليكون القول فيه عن علم وفهم ، وحذر من الخوض فيه بالرأى وحده ، وجعل المتعلم المعلم من خيرة الأمة وأفضلها ، كل هذا يضاف إلى ما ورد فى القرآن الكريم من تكليف بذلك كقوله تعالى : { وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا } [المزمل/4] ، وقوله عز وجل : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } [القمر/17] وقوله : { أَفَلا ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب فضائل القرآن (5028) 8/692 .
2. الموضع السابق (5027) 8/92 .
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد/24] ، فهذه الآيات وأمثالها تدل دلالة صريحة على أصالة هذا العلم ونقاء معدنه .(8/2)
ويحق للمشتغلين بعلوم الحديث رواية ودراية ، المعنين بدراسة العلل والأسانيد ومعرفة الرجال ووصفهم بالجرح أو التعديل ، أن يستندوا فى رد الحديث وعلومه إلى لفظ وارد فى السنة ، يحمل الدلالة على معنى التثبت فى النقل والتحذير من الكذب على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وإتاحة الجهود اللازمة لوضع الضوابط الضرورية التى تحقق تلك الغاية ، كما فى حديث أبى سعيد الخدرى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " حدثوا عني ولا حرج ، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " (1) ، فلفظ : (حدثوا ) ، فيه جواز النسبة إلى علم الحديث ، ورخصة إنشائه ، وبذل الجهد للتوسع فيه ، حتى يصل إلى الكمال الممكن ، وقال أنس بن مالك - رضي الله عنه - : " إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيرا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من تعمد علي كذبا فليتبوأ مقعده من النار " (2) ، وهو- رضي الله عنه -? ينبه بذلك على ضرورة الاحتياط فى الحديث عنه من احتمال الخطأ ، لأنه لا يُظن فى صحابى جليل الشأن كأنس بن مالك - رضي الله عنه - ، أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما يدعوا نفسه والآخرين ، إلى أن يكون الحديث عن النبى - صلى الله عليه وسلم - مضبوطا منقولا كما نطق به .
وكما وجدنا أصولا قرآنية أو نبوية لعلوم القرآن والحديث ، يمكن أن يجد ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى الزهد (3004) 4/2298 ، وابن ماجه فى المقدمة (37) 1/14 .
2. أخرجه البخارى فى العلم (108) 1/243 ، ومسلم فى المقدمة (2) 1/10 .(8/3)
المشتغلون بالفقه والفرائض والمواريث والتوحيد واللغة ، أصولا قرآنية لنسبة علومهم ، والمبررات الداعية لإنشائها ، وإتاحة الجهود اللازمة للتوسع فيها حتى تصل إلى الكمال الضروري فى وضع الضوابط لكل باب ، فنجد نسبتة الفقه ، والدعوة إلى تعلمه ونقله إلى الناس بما يلزمه من ضوابط تحقق ذلك ، فى قوله تعالى : { فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة/122] .
فقوله تعالى : { ? لِيَتَفَقَّهُوا } بنى عليه اصطلاح الفقه ، وكذلك ما ورد فى حديث معاوية بن أبى سفان - رضي الله عنه - ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ، والله المعطي وأنا القاسم " (1) .
وعلم الفرائض أو المواريث له أصول قرآنية ونبوية ، تحض على تعلمه وحفظ أحكامه واستقصاء أصوله من الكتاب والسنة ، كقوله تعالى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } [النساء/7] ، أو قوله : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ } [النساء/176] .
فقوله تعالى : (مفروضا) ، (يرثها) ، تعطى أصالة النسبة لعلم الفرائض والمواريث ، وتتيح مشروعية بذل الجهود وتضافرها من أجله ، وكذلك ما ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب فرض الخمس (3116) 6/52 ، ومسلم فى كتاب الزكاة (1037) 2/718 .(8/4)
رواه أَبو أُمَامَةَ الْبَاهِلِي - رضي الله عنه - قَال : - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته عام حجة الوداع : " إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث " (1) وقوله - صلى الله عليه وسلم - عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - : " ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر " (2) .
وعلم التوحيد أيضا ، له أصول قرآنية ونبوية منصوص علي لفظه فيها ، كما روى عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - إلى نحو أهل اليمن ، قال له : " إنك تقدم على قوم?من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم ، إلى أن يوحدوا الله تعالى ، فإذا عرفوا ذلك ، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم ... الحديث " (3) ، فقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فليكن أول ما تدعوهم ، إلى أن يوحدوا الله تعالى " ، يدل على أن علم التوحيد ، هو أصل الدين وأول العلوم التى يبدأ بها الداعى دعوته ، كما أنه يمثل له المحصلة المرجوة لكونه الغاية من دعوة النبوة ، قال تعالى :
{ هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب ِ } [إبراهيم/52] ، وقوله سبحانه :
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه الترمذى فى الوصايا (2120) ، وقال الألبانى : صحيح 4/433 ، والنسائى فى الوصايا (3641) 6/47 ، وأبو داود فى الوصايا (2870) 3/114 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الفرائض (6354) 12/16 ، ومسلم فى كتاب الفرائض (1615) 3/1233 .
3. أخرجه البخارى فى التوحيد (7372) 1/3ص359 ، ومسلم فى الإيمان (19) .(8/5)
{ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا } [الحج/34] ، وما يقال في العلوم السابقة يقال أيضا فى علم اللغة وحسن التعبير والبيان ، فلأهل اللغة المشتغلين بضوابط الكلمة ووضع القواعد التى تحقق استقامة اللغة وعدم اعوجاجها ، أن يستندوا إلى القرآن والسنة فى نسبة علمهم وتأصيل مبناه ، ورده إلى أصول شرعية كقوله تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِين ٌ } [النحل/103] ، وقال الإمام البخارى رحمه الله : "نزل القرآن بلسان قريش والعرب ، وقول الله تعالى : { قُرْآنًا عَرَبِيًّا } [يوسف/2] ، وقوله : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين ٍ } [الشعراء/195] " (1) وقد بين رسول اللَّه- صلى الله عليه وسلم - أنه أعطى جوامع الكلم وحسن البيان ، فعن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " بعثت بجوامع الكلم " (2) ، فعلم اللغة ضرورة مفروضة لفهم القرآن والسنة ، لا سيما أن كل ما ورد عن النبى ?- صلى الله عليه وسلم - ، فيه كمال الفصاحة وروعة البلاغة اللغوية ، التى تُظهر جوامع الكلم فى قوله - صلى الله عليه وسلم - ، وهكذا يمكن بالبحث والتتبع أن نتعرف على الأصول القرآنية والنبوية لكل علم إسلامى نافع للإنسانية فى الدنيا والآخرة .
وإذا عدنا إلى التصوف وعلومه ، فالسؤال الضرورى الذى يطرح نفسه فى هذا الموضع ، هل اهتم الصوفية بالبحث عن الأصول القرآنية والنبويه لعلومهم ؟ وهل التصوف له أصل فى الكتاب والسنة يعتمد عليه ؟ .
ــــــــــــــــــــ
1. انظر فتح البارى 8/625 .
2. أخرجه البخارى فى الجهاد (2977) 6/149 ، ومسلم فى المساجد (523) .
وينبغى أن نتعرف أولا على أمرين ضرورين قبل الخوض فى تفاصيل الإجابة :
الأمر الأول : ماهيته التصوف وحقيقة ؟(8/6)
الأمر والثانى : الأصول التى يرد إليها الصوفية مصطلح التصوف ؟
حقيقة التصوف الإسلامى :
لم يعد هناك شك فى القول بأن التصوف فى مرحلته الأولى ، كان معبرا عن نزعة الزهد والتوكل على الله ، من قبل الراغبين فى الخلاص من فتن الحياه وإن كانت أفعالهم تتسم بنوع من المبالغة إلى حد كبير .
إن الباحث فى التراث الصوفى ، يجد أغلب العلوم الموروثة عن أوائل الصوفية ، تدور حول وصف سلوك طائفة من المسلمين ، أدت بهم بعض الدوافع إلى إذلال النفس ومحو أوصافها ، والزهد في الحياة بأنواعها قربة منهم إلى اللَّه ، مع مراعاتهم أداء العبادات على النحو المشروع بحرص واحتياط وتعامل مع الأحكام بدرجة واحدة ، لا فرق عندهم بين فرض ونفل ، فأمر الله ملزم ولا يسع الصوفى تركة ، سواء كان على سبيل الندب والاستحباب أو على سبيل الوجوب والإلزام ، كما رأينا ذلك فى مرحلة التصوف الأولى البسيط والمركب .
ويمكن للباحث أن يجد بداية التصوف ، المعبر عن إذلال النفس وقمعها والمجاهدة فى محو أوصافها ، والزهد في الحياة بأنواعها ، يجده مسطورا فى كتاب الصدق أو الطريق إلى اللَّه لأبى سعيد الخراز (ت:277هـ) ، وفى تراث الحارث بن أسد المحاسبى (ت:243هـ) ، لا سيما كتابه الرعاية لحقوق اللَّه ، وفى تراث سهل بن عبد اللَّه التسترى (ت:283هـ) ، وآداب المريدين للحكيم بن على الترمذى (ت:320هـ) ، وغيرهم ممن كتبوا فى التصوف أو كتب عنهم ، غير أنهم من غير تعمد ، لا يشيرون فى كتاباتهم إلى مصطلح التصوف ، وإنما يذكرون مصطلح المريد وآداب المريدين والزهد والصدق والتوكل ، والرعاية لحقوق اللَّه ومحاسبة النفس ، وما شابه ذلك من ألفاط وتعبيرات (1) .(8/7)
كما يجد الباحث التصوف ، وقد أصبح قريبا من الفكر المنظم إلى حد ما مشروحا مسطرا عند أبى نصر السراج الطوسى (ت:378هـ) ، فى كتابه اللمع فى التصوف ، وأبى بكر محمد الكلاباذى (ت:380هـ) ، صاحب التعرف لمذهب أهل التصوف ، وأبى طالب المكى (ت:386هـ) ، فى كتابه قوت القلوب ، والهجويرى (ت:465هـ) ، صاحب كشف المحجوب ، كما نجد الترقى فى طريق التصوف ، بارزا فى ترتيب المقامات والأحوال ، عند أبى القاسم عبد الكريم القشيرى (ت:465 هـ) ، صاحب الرسالة القشيرية ، وما خلفه من تراث كبير فيها ، وكذلك عند أبىحامد الغزالى (ت:505هـ) فى كتابه إحياء علوم الدين ، والسهروردى (ت:632هـ) صاحب عوارف المعارف ، غير أنهم جميعا أظهروا عَلَمِيَّة التصوف ، وأنه اصطلاح يخصهم ومذهب يستقلون به دون سائر الناس ، فحاولوا جاهدين أن يضعوا حدا للتصوف ، يتميز باستقلالية خاصة عن بقية العلوم ويعرفون به ، فنقلوا عن ــــــــــــــــــــ
1. انظر مدخل إلى التصوف الإسلامى للدكتور التفتازانى ص95 وانظر أيضا :
- ? تمهيد - - - } - فهرس - فهرس ? - ? - - - عليه السلام - } - ? - ? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ? - - صلى الله عليه وسلم -? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه -- صلى الله عليه وسلم - - ?- سبحانه وتعالى - فهرس - صلى الله عليه وسلم - - } - رضي الله عنه - - ? - ? - - فهرس - - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - فهرس - فهرس - رضي الله عنه -? - - - } - - رضي الله عنه - - } - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -? - - صلى الله عليه وسلم -(8/8)
?? - - ? تمهيد - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - } قرآن كريم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -?- صلى الله عليه وسلم - فهرس ? بسم الله الرحمن الرحيم - - رضي الله عنهم - - ? - - صلى الله عليه وسلم -? - - - سبحانه وتعالى - - - - مقدمة ? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - - صلى الله عليه وسلم - } - ? - - - - ? - ? { { ? - - - ? -
الأوائل بعض العبارات الجامعة فى حد التصوف ، تدل فى مجملها إما على كمال التوحيد فى العبادة وعلو الإيمان ، وإما على الأخلاق الفاضلة والخلق العظيم الذى اتصف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
[1- فمن الأول : نجد عبارات كثيرة ومتكررة ، تدل فى مجملها على أداء العبودية وتوحيد الله فى أبهى صوره المرجوة التى دعا إليها الإسلام ، كقول ذى النون المصرى (ت:245هـ) : ( الصوفية قوم آثروا الله تعالى عن كل شئ فآثرهم الله عن كل شئ ) (1) ، ويناظره قول الجنيد بن محمد ، سيد الطائفة فى عصره (ت:297هـ) : ( التصوف أن يميتك الحق عنك ويحييك به ) (2) .
وكذلك أيضا قول أبي بكر الشبلى (ت:334هـ) فى حد الصوفى وتعريفه : ( هو من انقطع عن الخلق واتصل بالحق ) (3) ، والمعنى نفسه نجده لأبى القاسم المقرئ الرازى (ت:366هـ) : ( التصوف استقامة الأحوال مع الحق ) (4) .
وهذه العبارات وأمثالها ، تدل جميعها على معنى جامع يعبر عن قرب العبد من ربه ، من خلال حفظه لعبوديته ، وتوكله عليه واستعانته به ، حتى يصل إلى مرضاته ومحبته ، وعندها يتولاه بحفظه ورعايته ، فيحفظ عليه بدنه فى حركته وسكنته ، فيسمع بسمع الله ، ويرى بنور الله ، ويمشى فى طاعة الله فيحي بالله ولله ، ميتا عن كل ما سواه ، فهذه التعريفات فى الحقيقة معان ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة 2/555 . 2. السابق 2/551 .
3. السابق 2/554 . 4. طبقات الصوفية ص511 .(8/9)
جامعة للتعبير عن الطريق الموصل إلى الصدق فى الإيمان ، وأداء العبوديه على وجه الإحسان ، فلا فرق بين هذه العبارات وما ورد فى حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - عن النبى ?- صلى الله عليه وسلم - ، عن رب العزة قال : " وما تقرب إلي عبدي بشيء ، أحب إلي مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه " (1) .
[2- ومن الثانى : عبارات كثيرة ومتكررة ، تدل فى مجملها على الأخلاق الفاضلة التى اتصف بها النبى - صلى الله عليه وسلم - ، فالخلق العظيم يمثل فى مجموعه الصورة المثلى التى أرادها الله من عباده ، حيث اختار لهم الحسن من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنه ، وقبح ما يقابلها من الأضاد ، فقال سبحانه تعالى فى وصف نبيه - صلى الله عليه وسلم - : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم/4] ، وقال أَنَس بن مالك - رضي الله عنه - : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقا " (2) ، ومن حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " إن من أخيركم أحسنكم خلقا " (3) ، وسأل حكيم بن أفلح عائشة رضى الله عنها : " يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ ، قالت : ألست تقرأ القرآن ؟ ، قلت : بلى ، قالت : فإن خلق نبي الله ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الرقاق (6502) 11/348 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الأدب برقم (6203)10/598 ، ومسلم فى كتاب الأدب برقم (2150) 3/1692 .
3. أخرجه البخارى فى الموضع السابق برقم (6029)10/466 .
- صلى الله عليه وسلم - كان القرآن ، قال حكيم : فهممت أن أقوم ، ولا أسأل أحدا عن شيء حتى أموت " (1) .(8/10)
كل هذه المعانى الخلقية الدالة على شمولية التزام المسلم بمنهج الله ، عبر عنها كثير من أوائل الصوفية بمصطلح التصوف ، فجعلوه معبرا عن حسن الخلق ودعوة إلى الأخلاق الفاضلة ، فروى عن أبى الحسين النورى (ت:295هـ) أنه قال : ( ليس التصوف رسوما ولا علوما ، ولكنه أخلاق ) (2) ، وعن أبى محمد الجريرى (ت:311هـ) ، قال : ( التصوف ، هو الدخول فى كل خلق سنى ، والخروج من كل خلق دنى ) (3) ، ومثله لأبى بكر محمد بن على الكتانى (ت:322هـ) : ( التصوف خلق ، فمن زاد عليك فى الخلق ، فقد زاد عليك فى التصوف ) (4) ولأبى محمد المرتعش (ت:328هـ) : ( التصوف حسن الخلق ) (5) ، رغبة منه أن يكون التصوف معبرا عن جماع البر المشار إليه فى حديث النواس بن سمعان الأنصاري - رضي الله عنه - قال : " سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البر والإثم ؟ فقال : " البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس " (6) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب صلاة المسافرين وقصرها (746) 1/512 ، والنسائى فى كتاب قيام الليل وتطوع النهار (1601) 3/199 ، وأبو داود (1342) 2/40 .
2. كشف المحجوب ص52 ، طبقات الصوفية ص 167. 3. اللمع ص45 .
4. السابق ص52 . 5. الرسالة 2/495 ، كشف المحجوب ص48 .
6. أخرجه مسلم فى كتاب البر والصلة والآداب (2553) 4/1980 .(8/11)
وسواء عبرت تلك التعريفات الصوفية عن توحيد الله وعبادته فى أبهى صوره المرجوة ، أو دلت على الأخلاق الفاضلة التى اتصف بها النبى - صلى الله عليه وسلم - ، إلا أنها تدل على رغبة أكيدة عند قائليها ، أن يكون التصوف معنى شاملا للالتزام الصحيح بالإسلام ، وفى أعلى درجاته الممكنة ، كما عبر عن ذلك تصريحا أبو القاسم النصرباذى (ت:367هـ) ، فقال : ( أصل التصوف ، ملازمة الكتاب والسنة وترك الأهواء والبدع ، وتعظيم حرمات المشايخ ، ورؤية أعذار الخلق وحسن صحبة الرفقاء ، والقيام بخدمتهم ، واستعمال الأخلاق الجميلة ، والمداومة على الأوراد ، وترك ارتكاب الرخص والتأويلات ، وما ضل أحد فى هذا الطريق إلا بفساد الابتداء فإن فساد الابتداء يؤثر فى الانتهاء ) (1) ، وهنا بدا اعتراض أو تساؤل يتوجه إلى الصوفية فى محورين :
الأول : أن الإسلام لم يسم تصوفا ومن ثم لا بد من تبرير مقبول لتسميتهم أخلاق الإسلام وأمور الإيمان بالتصوف ، كما أن المعترض لو أنكر التسمية فلن ينكر الواقع ، إذ أصبح التصوف علما علي كم كبير من الصوفية ، لهم كيانهم واصطلاحاتهم رموزهم وألفاظهم ، وأنهم عرفوا عند الناس بصبغة الزهد فى الحياة ، وهيئة ملبسهم الداعية إلى ذلك ، والاهتمام البالغ فى كثير من العبادات ، كالصلاة والزكاة والصوم والحج ، وأغلب الأنواع الأخرى من الأحكام .
الثانى : أن التصوف إن كان معبرا عن الإسلام وبلوغ العبد حقيقة الإيمان ــــــــــــــــــــ
1. طبقات الصوفية ص488 .(8/12)
فسوف يقف المنهج الإسلامى حائلا للمبالغة فى العبادة ، والمطالبة بالدليل على كل قول أو فعل يستحدثه الصوفية فى تجربتهم الإيمانية ، لا سيما وقد نهى النبى - صلى الله عليه وسلم - عن الغلو والتشدد ، والابتداع فى الدين ، وتبرأ من ذلك على الملأ فمن حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ قال : أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا ، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس منى " (1) .
فالنبى - صلى الله عليه وسلم - لو سمح لهؤلاء بفعلهم ، وبارك للناس اجتهادهم ، لظهر التصوف فى عهد النبوة ، بدليل شرعى مقبول ، ومن ثم بات الناس يخوضون فى رد التصوف إلى أصول إسلامية مقبولة ، سواء كانوا من أبناء الصوفية أو من غيرهم ، فالتصوف باعتباره طريقة وتجربة ومذهبا لعدد كبير من المسلمين أصبح علما عليهم وشعارا ، يحتاج إلى فهم اصطلاحاته ، وفك رموزه وألفاظه إضافة إلى أنه قد ظهر لدى الصوفية ، نوع من المخالفات المحدثة فى وقت مبكر إما بدافع المبالغة فى الزهد والعبادة ، أو ثأثير بعض الأفكار الغريبة عن البيئة الإسلامية كقول الحلاج بالحلول والاتحاد ، تلك المخالفات كانت مثارا لإنكار ــــــــــــــــــــ
1. البخارى فى النكاح (5063) 9/5 ، ومسلم فى النكاح (1401) 2/1020 .(8/13)
أهل العلم من الطوائف الأخرى ، لا سيما أهل الفقه والحديث ، كما أنه لا ينبغى فى الأصل مخالفة الكتاب والسنة أو الانحراف عن منهجه تحت أى دعوة وإن بنيت على إخلاص السريرة وحسن النية ، فجميع العلوم الإسلامية قامت على خدمة الكتاب والسنة ، وتعمل فى إطار توجيهه وهدايته ، ومن هنا التفتت الأنظار إلى تحديد موقف واضح للتصوف وتأصيل نسبته ومشروعيته .
الأصول التى رد إليها الصوفية مصطلح التصوف :
اختلف الناس فى نسبة التصوف اختلافا شديدا ، ولا زالوا بين طرفين يتردد بينهما مؤشر الأراء :
[1- الطرف الأول ينكر أصالة التصوف جملة وتفصيلا ، ويقول ببدعيته محتجا بأن عصر النبوة لا تصوف فيه ، ولم يعرف عن واحد من أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه كان متصوفا ، كما أن القرآن والسنة فيهما من الحياة الروحية والأخلاق الكريمة ما يغنى عن التصوف وعلومه ، وتارة يرده إلى أصل هندى وأخرى إلى مصدرى فارسى ، وثالثة إلى أصول يونانية أو نصرانية (1) .
[2- الطرف الثانى مؤيد داعى يؤكد أن سيد الصوفية وأسوتهم هو رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ويجعله على رأس طبقاتهم ، ثم خيار الصحابة والتابعين لهم ، ويحاول جاهدا أن يرد التصوف إلى نسبة محمودة أو تبرير معقول ، فتارة ينسبه إلى الصوف ، وأخرى إلى الصفاء ، وثالثة إلى أهل الصفة ، ورابعة إلى الصف الأول .
ــــــــــــــــــــ
1. انظر الحياة الروحية فى الإسلام ، للدكتور مصطفى حلمى ص79:40 .
وآخرون يؤكدون أنه علم وهو اسم ظهر بلا اشتقاق أو غيره (1) ، والصوفية أنفسهم مختلفون فى تأصيل نسبة التصوف ، وإيجاد أصل قرآنى أو نبوى يستندون إليه فى بناء مذهبم ، أو ما يباشرونه من تجربة فى سلوك الطريق كما هو ميسور فى العلوم الأخرى .(8/14)
ففى الوقت الذى يرده إلى الصوف السراج الطوسى (2) ، ويشاركه فى ذلك أبو بكر الكلاباذى (3) ، والسهروردى البغدادى (4) ، يصف غيرهم تلك الردة جهلا بالتصوف ، حتى قال أحدهم معبرا عن ذلك :
تنازع الناس فى الصوفى واختلفوا : جهلا وظنوه مأخوذا من الصوف
ولست أ نحل هذا الإسم غير فتى : صافى فصوفى حتى سمى الصوفى (5)
وفى المقابل لهذين الرأيين نجد أبا القاسم القشيرى (6) ويشاركه الهجويرى (7) يميلان إلى أن الكلمة لا تخضع للاشتقاقات اللغوية المعروفة ، إذ أن الصوفية من الرفعة بحيث لا يكون لها أصل تشتق منه ، يقول الهجويرى : ( يؤكد البعض ــــــــــــــــــــ
1. انظر التصوف فى الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه ، للدكتور عبد اللطيف محمد العبد طبعة دار الثقافة العربية سنة 1407هـ ، 1986م ص13: 25 .
2. اللمع فى التصوف ص41 . 3. التعرف لمذهب أهل التصوف ص30 .
4. عوارف المعارف 1/211 .
5. الدر الثمين والمورد المعين لمحمد بن محمد المالكى ، طبعة مصطفى البابى الحلبى بمصر سنة 1954م 2/169 ، وانظر التصوف عند العرب لجبور عبد النور ، طبعة بيروت لبنان سنة 1938م ص78 .
6. الرسالة القشيرية 2/550 . 7. كشف المحجوب ص39 .
أن الصوفى لقب بهذا الاسم ، لأنه يرتدى رداء من الصوف ، ويقول البعض الآخر : إنه لقب بالصوفى لأنه فى الصف الأول ، ويقول آخرون : إن السبب هو أنهم ينتمون إلى أهل الصفة - رضي الله عنهم - ، وهناك من يقول كذلك : إن الإسم مشتق من الصفاء ، ولكن هذه التفسيرات لكلمة صوفى لا توفى متطلبات الاشتقاقات اللغوية ) (1) .(8/15)
والهجويرى يرى أن هذه التسمية اسم علم لا يحتاج إلى شرح ، فمعنى الصوفية عنده بالنسبة للصوفى واضح كضوء الشمس ، ويبرر ذلك بأن الصوفى ممنوع من العبارة عن نفسه أو الإشارة حتى لا يقع فى الرياء أو إظهار الذات ، وبما أن كلمة صوفى تتطلب شرحا ، فإن كل الناس يحاولون تفسيرها سواء عرفوا قدرها أم جهلوه أثناء تعلم معناها ولكن هكذا يلقب الكامل منهم بالصوفى ويسمى المريد والطلاب بالمتصوفة (2) وقيل : إنما سموا صوفية نسبة لبنى صوفة قبيلة من العرب لها صلة وثيقة بالبيت الحرام فلهذه الرابطة التى تتم بين القوم وبين بيوت الله تعالى نسب الصوفية إلى بنى صوفه ، وهذا إن كان موافقا للنسب من جهة اللفظ فإنه ضعيف ، لأن هؤلاء غير مشهورين ولا معروفين عند أكثر النساك ، ولو نسب النساك إلى هؤلاء لكان هذا النسب فى زمن الصحابة رضى الله عنهم والتابعين وتابيعهم أولى ولأن غالب من تكلم باسم الصوفية لا يعرف هذه القبيلة ولا يرضى أن يكون مضافا إلى قبيلة فى ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص 39 .
2. السابق ص 39 بتصرف .
الجاهلية ولا وجود لها فى الإسلام (1) ، ويحاول الكلاباذى جاهدا أن يضع الاحتمالات الممكنة لتبرير هذه النسبة بوجه مقبول ، ليجعلها متفقة فى المعانى وإن اختلفت فى الظاهر اختلاف تنوع لا تنافر أو تضاد ، فهى إن أخذت من الصفاء والصفوة ، كانت صَفَوِيَّة ، وإن أضيفت إلى الصَّف أو الصُّفَة ، كانت صَفِّية أو صُفِّية ، ويجوز عنده أن يكون تقديم الواو على الفاء فى لفظ الصوفية وزيادتها فى لفظ الصَفِّية أو الصُفِّية ، إنما كانت من تداول الألسن ، وإن جعل مأخذه من الصوف ، استقام اللفظ وصحت العبارة من حيث اللغة ، وجميع تلك المعانى عند الكلاباذى ، من التخلى عن الدنيا ، وعزوف النفس عنها وترك الأوطان ، ولزوم الأسفار ، ومنع النفوس وحظوظها ، وصفاء المعاملات وصف التصوف السابق (2) .(8/16)
والسؤال الذى يطرح نفسه الآن : هل رد التصوف إلى الصوف أو الصفاء أو الصفة أو الصف الأول ، يعتبرا أصلا مقبولا ومقنعا ، له ما يؤيده فى الكتاب والسنة ؟ .
وإذا كانت العلوم الإسلامية قد وجد لها أصل فى الكتاب أو السنة ، من جهة التسمية والنسبة كما سبق ، فما هو الأصل القرآنى أو النبوى الذى يرد إليه مصطلح التصوف ؟ وما هو موقف الصوفية من هذه التساؤلات ؟
ــــــــــــــــــــ
1. الصوفية والفقراء لابن تيمية ص 11 .
2. التعرف لمذهب أهل التصوف ص34 بتصرف .
رد التصوف إلى الصوف ومناقشته على ضوء الأصول القرآنية والنبوية :
لم يتوان الصوفية ، شأنهم شأن الآخرين ، فى وضع الإجابة المقنعة لمثل هذه التساؤلات ، ورد علمهم إلى أصل يشهد له الكتاب والسنة ، فيقول السراج الطوسى وهو من أقدم المؤرخين لدي الصوفية وأعظمهم (1) : ( باب الكشف عن اسم الصوفية ، ولم سموا بهذا الإسم ؟ ولم نسبوا إلى هذه النسبة ؟ إن سأل سائل فقال : قد نسبت أهل الحديث إلى الحديث ، ونسبت الفقهاء إلى الفقه فلم قلت : الصوفية ؟ ولم تنسبهم إلى حال ولا إلى علم ) (2) .
وبعد مقدمة طويلة نسب التصوف إلى الصوف ، لأنه كما ذكر لباس خشن بعيد عن النعومة والليونة ، وقد كان يلبسه الأنبياء والصالحون ومرتبط بالزهد فى أذهانهم ، فتبعهم الصوفية فى ذلك ، ونسبوا إليه (3) .
ويذكر السهروردى البغدادى ، أن اختيارهم للبس الصوف ، كان لتركهم زينة الدنيا ، وقناعتهم بسد الجوعة ، وستر العورة ، واستغراقهم فى أمر الآخرة وهذا الاختيار ، ملائم ومناسب من حيث الاشتقاق ، ولأن ذلك أبين فى الإشارة إليهم ، وأدعى إلى حصر وصفهم ، إذ لبس الصوف حال المقربين من الأنبياء والصالحين (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. انظر مقدمة تحقيق اللمع للدكتور عبد الحليم محمود ص 7 .
2. اللمع ص40 .
3. قضية التصوف المنقذ من الضلال للدكتور عبد الحليم محمود ص 31 بتصرف .(8/17)
4. عوارف المعارف للسهروردى تحقيق ، د/ عبد الحليم محمود 1/211 .
كما أن هذه النسبة نسبة راجحة عند كثير من العلماء ، يقول ابن خلدون فى مقدمته : ( والأظهر إن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف ، وهم فى الغالب مختصون بلبسه ، لما كانوا عليه من مخالفة الناس فى لبس فاخر الثياب ، إلى لبس الصوف ) (1) .
ومن ثم اعتمد أغلب المحققين من الصوفية وغيرهم ، فى تأصيل التصوف الردة إلى الصوف ، ويعتبرونها الأسلم والأصوب نظرا للسلامة اللغوية ، فالتصوف مصدر الفعل الخماسى المصوغ من صوف ، للدلالة على لبس الصوف ، وكما يقال : تقمص إذا لبس القميص ، يقال : تصوف إذا لبس الصوف ، كما أن الصوف يتوافق مع الهدف الصوفى الداعى إلى التقشف والخشونة ، وشظف العيش ، فالنسبة إلي الصوف على حد قول بعضهم :
( موفقة كل التوفيق ) (2) ، بل رأى بعض الباحثين ، كالأستاذين لويس ماسينيون ومصطفى عبد الرازق ، ضرورة رفض ما سواها من الأقوال التى قال بها القدماء والمحدثون على السواء فى أصل الكلمة (3) .
والمسألة التى تقتضى البحث المنهجى ، هى معرفة هدى النبى - صلى الله عليه وسلم - فى اللباس ــــــــــــــــــــ
1. مقدمة ابن خلدون ، تحقيق الدكتور على عبد الواحد وافى ، لجنة البيان العربى الطبعة الأولى سنة1960م ، 3/1062 .
2. قضية التصوف المنقذ من الضلال للدكتور عبد الحليم محمود ص36 .
3. الإسلام والتصوف ، تأليف لويس ماسينيون ومصطفى عبد الرازق ، طبعة دار الشعب بالقاهرة سنة 1399هـ ، 1979م ، ص14 .
واستقصاء الأدلة فى الكتاب والسنة ، لاستخراج الأصل الذى يدعو إلى لبس الصوف ، أو اعتباره شعارا لسلوك ما أو تفضيله على غيره من أنواع اللباس بحيث يمكننا القول : إن مصطلح التصوف له أصل قرآنى أو نبوى يرد إليه إذا نسب إلى الصوف ، وإن اتخاذ الصوف ملبسا وشعارا للصوفية فى زيهم دون غيره ، أمر لا غبار عليه شرعا ؟!(8/18)
فإذا طالعنا كتاب اللَّه وجدنا أن الصوف ورد مرة واحدة ، فى سياق آية تعدد نعم اللَّه تعالى على الإنسان ، منها أن اللَّه خلق له الأنعام ، ينتفع بها فى عدة أشياء ، ذكر منها الصوف ، لكنه نص على استخدامه فى الأثاث والمتاع فقال تعالى : { وَاللَّه جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بِيُوتِكُمْ سَكَنَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بِيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَسَاسًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ } [النحل/80] ، ولما ذكر اللَّه الملبس بعدها ، عمم ولم يخصص الصوف وحده ، فقال : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } [النحل/81] .
قال الإمام البخارى : ( سَرَابِيلَ قُمُصٌ ) (1) ، وقال قتادة : سرابيل من القطن والكتان والصوف (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. فتح البارى 8/235 .
2. فتح القدير الجامع بين فنى الرواية والدراية من علم التفسير ، لمحمد بن على الشوكانى طبعة مصطفى البابى الحلبى ، الطبعة الثانية ، سنة 1383هـ 1964 م 3/186 .
وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } يعنى الثياب (1) ، فالصوف ذكر على سبيل النعمة المستخدمة غالبا فى الأثاث والمتاع ، لقوة تحمله كالخيام والغطاء والوطاء ، وما يفرش فى المنازل ويتزين به (2) ، كما يستخدم هو وغيره من أنواع الثياب ، فى الملبس بحكم الواقع البدائى .(8/19)
وقد دلت السنة النبوية ، على أن لبس الصوف لم يكن مرغوبا بين الصحابة - رضي الله عنهم - ، وإنما فرض عليهم لأنهم لم يجدوا غيره ، وإذا تيسر استبدلوه ، فعن عكرمة مولى ابن عباس - رضي الله عنه - أَنَّ أُنَاسًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ ، جَاءُوا فَقَالُوا : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ، أَتَرَى الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبًا ؟ قَالَ : لا ، وَلَكِنَّهُ أَطْهَرُ وَخَيْرٌ لِمَنِ اغْتَسَلَ ، وَمَنْ لَمْ يَغْتَسِلْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ بِوَاجِبٍ ، وَسَأُخْبِرُكُمْ كَيْفَ بَدْءُ الْغُسْلِ ؟ كَانَ النَّاسُ مَجْهُودِينَ يَلْبَسُونَ الصُّوفَ ، وَيَعْمَلُونَ عَلَى ظُهُورِهِمْ ، وَكَانَ مَسْجِدُهُمْ ضَيِّقًا مُقَارِبَ السَّقْفِ ، إِنَّمَا هُوَ عَرِيشٌ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فِي يَوْمٍ حَارٍّ ، وَعَرِقَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الصُّوفِ ، حَتَّى ثَارَتْ مِنْهُمْ رِيَاحٌ ، آذَى بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، فَلَمَّا وَجَدَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - تِلْكَ الرِّيحَ ، قَالَ : " أَيُّهَا النَّاسُ إِذَا كَانَ هَذَا الْيَوْمَ فَاغْتَسِلُوا ، وَلْيَمَسَّ أَحَدُكُمْ أَفْضَلَ مَا يَجِدُ مِنْ دُهْنِهِ وَطِيبِهِ " ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - : " ثُمَّ جَاءَ اللَّه بِالْخَيْرِ ، وَلَبِسُوا غَيْرَ الصُّوفِ وَكُفُوا الْعَمَلَ ، وَوُسِّعَ مَسْجِدُهُمْ ، وَذَهَبَ بَعْضُ الَّذِي كَانَ يُؤْذِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنَ الْعَرَقِ " (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق 3/186 . 3. السابق 3/186 .
3. أخرجه أبو داود فى كتاب الطهارة برقم (353) وحسنه الألبانى 1/97 .(8/20)
فدلالة الحديث واضحة فى رفضهتم البقاء على الصوف بعد مجئ الخير ، ولولا أنهم لم يجدوا غيره ما لبسوه ، ومعلوم أن انتقالهم عنه إلى غيره ، لم ينقص من فضلهم شيئا ، أو يؤثر فى عبوديتهم للَّه أو قوة إيمانهم به ، فدعوى تفضيله على غيره أو مواظبة الفضلاء السابقين من الصحابة والتابعين على استعماله كملبس دال على إظهار الزهد والخشونة فى العيش ، بغية التقرب إلى اللَّه ، دعوة مرفوضة بالأصول النبوية ، وعَن أَبِي بُرْدَةَ قَالَ : " قَالَ لِي أَبُو مُوسَى - رضي الله عنه - : يَا بُنَيَّ ، لَوْ رَأَيْتَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَصَابَنَا الْمَطَرُ ، وَجَدْتَ مِنَّا رِيحَ الضَّأْنِ ، إِنَّمَا لِبَاسُنَا الصُّوفُ " (1) ، فهو يحكى واقعا مضى استبدل فى حاضره بغير الصوف من أنواع اللباس الأفضل ، عند ظهور النعمة وتوفر البديل ، ولو كان فى بقائه فضل لما غيروه ، وورد أيضا كثير من الروايات الدالة على إشفاق النبى - صلى الله عليه وسلم - ، على مجموعة من فقراء العرب ، لأنهم لم يجدوا غير الصوف ملبسا ، من شدة الحاجة والفاقة ، فحث الناس على الصدقة ، ورغب فيها أشد ما يرغب ، فدعا إلى الصدقة ، ولو بشئ يسير ، يساعد على تغيير تلك الصورة البائسة ، فعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه - رضي الله عنه - قَالَ :
" جَاءَ نَاسٌ مِنَ الأَعْرَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، عَلَيْهِمُ الصُّوفُ ، فَرَأَى سُوءَ حَالِهِمْ قَدْ أَصَابَتْهُمْ حَاجَةٌ " (2) وفى رواية أخرى يصفهم جرير بْنِ عَبْدِ ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه أحمد فى مسند الكوفيين (19259) ، والترمذى برقم (2479) وصححه الألبانى 4/560 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب العلم (1017) 2/704.(8/21)
اللَّه - رضي الله عنه - بقوله : " كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فِي صَدْرِ النَّهَارِ ، فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ ، فَدَخَلَ أى إلى منزله ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلالا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمِ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ .. إِلَى آخِرِ الآيَةِ .. إِنَّ اللَّه كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [النساء/1] وَالآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ : { اتَّقُوا اللَّه وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّه } [الحشر/18] ، تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ ، منْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ ، حَتَّى قَالَ : وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ " (1) .
وأما العادة فى ملبسه - صلى الله عليه وسلم - وهو الأسوة والقدوة لكل مسلم ، فكان المحبوب لديه دائما القطن وغيره ، دون الصوف ، لما روى عن قَتَادَة َ- رضي الله عنه - قال : " قُلْتُ لأَنَس بن مالك - رضي الله عنه - : أَيُّ الثِّيَابِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَلْبَسَهَا ؟ قَالَ : الْحِبَرَة ُ?" (2) ، والحبرة ثياب مزينة من القطن أو الكتان ، قال ابن بطال : الحبرة من برود اليمن تصنع من القطن ، وكانت أشرف الثياب عندهم (3) ولا يعنى ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن استعمال الصوف أو تركه مطلقا ولكن كان يستعمله ضمن اللباس لا يفضله على غيره ، لما ثبت عن الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رضي الله عنه -
ــــــــــــــــــــ(8/22)
1. الحديث السابق ، وأخرجه النسائى فى كتاب الزكاة (2554) 5/75 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب اللباس (5812) 10/ 287 ، ومسلم فى كتاب اللباس والزينة (2079) 3/1648 .
3. فتح البارى 10/281 .
قَالَ :" كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، فِي رَكْبِهِ وَمَعِي إِدَاوَةٌ ، فَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ ، فَتَلَقَّيْتُهُ بِالإِدَاوَةِ ، فَأَفْرَغْتُ عَلَيْهِ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ ذِرَاعَيْهِ ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ مِنْ جِبَابِ الرُّومِ ضَيِّقَةُ الْكُمَّيْنِ ، فَضَاقَتْ فَادَّرَعَهُمَا ادِّرَاعًا " (1) .
وقد أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - جُبَّةٌ مِنْ سُنْدُسٍ ، وَكَانَ يَنْهَى عَنِ الْحَرِيرِ فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا ، وفى رواية أخرى : بُعِثَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - جُبَّةٌ مِنْ دِيبَاجٍ مَنْسُوجٌ فِيهَا الذَّهَبُ ، وثالثة : أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتُقَةً مِنْ سُنْدُسٍ ، ورابعة أُتِيَ بِثَوْبٍ حَرِيرٍ ، أهداه إليه ملك الروم أكيدر صاحب دومة ، يقول أنس بن مالك - رضي الله عنه - راوى الحديث بالألفاظ السابقة : ( فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يَدَيْهَا تَذَبْذَبَانِ منْ طُولِهِمَا ، فَجَعَلَ الْقَوْمُ يَلْتَمِسُونَهَا ، وَيَقُولُونَ : أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّه هَذِهِ منَ السَّمَاءِ " فَجَعَلُوا يَمَسُّونَهُ وَيَنْظُرُونَ " " فَقَالُوا : مَا رَأَيْنَا كَالْيَوْمِ ثَوْبًا قَطُّ ، قَالَ : وَمَا يُعْجِبُكُمْ مِنْهَا ؟ " وفى رواية أخرى :(8/23)
" فَقَالَ أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذِهِ ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَمَنْدِيلٌ منْ مَنَادِيلِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى جَعْفَرٍ ، قَالَ : فَلَبِسَهَا جَعْفَرٌ ثُمَّ جَاءَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا ، قَالَ : فَمَا أَصْنَعُ بِهَا ؟ قَالَ : ابْعَثْ بِهَا إِلَى أَخِيكَ النَّجَاشِيِّ " (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الوضوء (182) 1/342 ، ومسلم فى الطهارة (274) 1/228 ، ومعنى وادرعهما أى نزع الزراعين عن الكمين .
2. جميع الروايات عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، ولفظ : جبة سندس عند مسلم (2469)=
وهذا وإن دل على أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لبسها مرة واحدة ، إلا أنه لم يمنع أن يرتدى المسلم أجود الثياب وأثمنها ، بدليل أنه أهداها إلى النجاشى ، كما أن المقارنة أو المفاضلة بين هذا الثوب وثياب سعد فى الجنة ، يدل على ذلك أيضا ، فمن المعلوم أن أجود الأشياء فى الدنيا ، كأفضل الثياب وأجملها ، أو غير ذلك من أصناف النعيم ، هو الذى يقارن مع نعيم الجنة بقياس الأولى ، وقال عَبْدُ اللَّه بْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - : لَمَّا خَرَجَتِ الْحَرُورِيَّةُ أَتَيْتُ عَلِيًّا - رضي الله عنه - فَقَالَ : ائْتِ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ فَلَبِسْتُ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنْ حُلَلِ الْيَمَنِ ، قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ سِمَاكُ بْنُ الْوَلِيدِ الْحَنَفِيُّ : وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَجُلا جَمِيلا جَهِيرًا ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - : فَأَتَيْتُهُمْ فَقَالُوا : مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ، مَا هَذِهِ الْحُلَّةُ ؟ قَالَ : مَا تَعِيبُونَ عَلَيَّ ؟ لَقَدْ رَأَيْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الْحُلَلِ (1) .(8/24)
وأنكرت أَسْمَاء بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه - على عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - ، ما بلغها أنه ــــــــــــــــــــ
= 4/1916 ، والجبة رداء يلبس فوق الثياب ، والسندس ما رق من الحرير ، ولفظ : جبة من ديباج منسوج فيها الذهب عند الترمذى (1723) 4/218 ، والديباج نوع نفيس من الحرير ، ولفظ : مستقة من سندس عند أحمد فى المسند (13214) ، والمستقة فرو طويل الأكمام ، وقيل : كلمة أصلها فارسى ، ولفظ : أتى بثوب حرير عند أحمد فى المسند ( 13526) ، والحديث أخرجه البخارى فى كتاب الهبة (2616) 5/272 ومسلم (2469) 4/1916 .
1. حسن الإسناد ، أخرجه أبو داود فىكتاب اللباس (4037) 4/45 ، والحاكم فى المستدرك (2656) وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه 2/164.
يحرم العلم فى الثوب وميثرة الأرجوان ، فبعثت إليه رسولها عبد اللَّه بن كيسان - رضي الله عنه - قَالَ : أَرْسَلَتْنِي أَسْمَاءُ إِلَى عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ فَقَالَتْ : ( بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَرِّمُ الْعَلمَ فِي الثَّوْبِ ، وَمِيثَرَةَ الأُرْجُوَانِ ، فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّه - رضي الله عنه - : أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ ، فَإِنِّي سَمِعتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّاب ِ - رضي الله عنه - يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ ، فَخِفْتُ أَنْ يَكُونَ الْعَلَمُ مِنْهُ ، وَأَمَّا مِيثَرَةُ الأُرْجُوَانِ ، فَهَذِهِ مِيثَرَةُ عَبْدِ اللَّه ، فَإِذَا هِيَ أُرْجُوَانٌ فَرَجَعْتُ إِلَى أَسْمَاءَ فَخَبَّرْتُهَا ، فَقَالَتْ :(8/25)
هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جُبَّة طَيَالِسَةٍ كِسْرَوَانِيَّةٍ ، لَهَا لِبْنَةُ دِيبَاجٍ ، وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ بِالدِّيبَاجِ ، فَقَالَتْ : هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ حَتَّى قُبِضَتْ ، فَلَمَّا قُبِضَتْ قَبَضْتُهَا ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَلْبَسُهَا " (1) .
ومعنى العلم : جزء من الحرير فى الثوب ، ومثيرة الأرجوان : المياثر أغشية للسروج تتخذ من الحرير ، والأرجوان هو الصبغ الأحمر شديد الحمرة والطيلسان : كساء غليظ مخطط ، والكسروانية : نسبة إلى كسرى ملك الفرس ، ومعنى لبنة ديباج وفرجيها مكفوفين بالديباج ، اللبنة : رقعة فى جيب القميص أو الجبة ، والديباج نوع نفيس من الحرير ، وفرجيها مكفوفين أى كسيت جوانبها ، الذيل والشقين والكمين بالحرير (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب اللباس والزينة برقم (2069) 3/1641 ، والنهى عن الحرير للرجال ، إذا استخدم كله ملبسا لا بعضه .
2. انظر صحيح مسلم بشرح النووى 1/4 ص43 ، 44 .
فمن مجموع ما تقدم من الأصول النبوية ، يمكن القول أن الصوف لم يكن ملبسا دأب النبى - صلى الله عليه وسلم - أو أحد أصحابه على تفضيله أو استعماله ، فدعوى السراج الطوسى : ( إن لبس الصوف ، دأب الأنبياء عليهم السلام والصدقين وشعار المساكين ) (1) تفتقر إلى الدليل .(8/26)
وقد تتبعت الأدلة النبوية ، جاهدا أن أصل إلى حديث ثابت ، يدل على أن الأنبياء بصفة عامة داوموا على تفضيل الصوف ، أو الالتزام به أو اقترانه لديهم بعلم ما أو سلوك ما ، فلم أجد إلا ما اشتهر عند الصوفية من حديث الترمذى الذى تنفرد به عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيّ ِ- صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " كَانَ عَلَى مُوسَى يَوْمَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ ، كِسَاءُ صُوفٍ ، وَجُبَّةُ صُوفٍ ، وَكُمَّةُ صُوفٍ ، وَسَرَاوِيلُ صُوفٍ وَكَانَتْ نَعْلاهُ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ " (2) وهو حديث ضعيف جدا (3) .
وأما ما ورد عند ابن ماجة ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ : " لَبِسَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الصّوفَ ، وَاحْتَذَى الْمَخْصُوفَ " (4) فعلى فرض ثبوته لا يدل على تفضيله أو المداومة عليه ، لما سبق من الأحاديث الأخرى .
ــــــــــــــــــــ
1. اللمع للسراج الطوسى ص40 . 2. أخرجه الترمذى فى كتاب اللباس ، باب ما جاء فى لبس الصوف (1734) وقال الشيخ الألبانى : ضعيف جدا 4/ 224.
3. علته حُمَيْدٌ بْنُ عَطّاءٍ بْنُ عَلِيٍّ الأَعْرَجِ الْكُوفِيِّ ، فهو منكر الحديث ، انظر الجرح والتعديل (996) 3/226 ، والمجروحين من المحدثين والضعفاء رقم (263) 1/262 .
4. ضعيف ، أخرجه ابن ماجة فى كتاب الأطعمة (3348) وقال عنه الشيخ الألبانى : ضعيف 2/1111 .
وتفضيله لما تقدم ، ولكن تفرد به ابن ماجة وهو ضعيف (1) ، وعلى ذلك فنسبة التصوف إلى الصوف ، وإن كانت سليمة من ناحية الاشتقاق ، إلا أنها تتطلب أصلا قرآنيا أو نبويا واضحا بينا ، نبنى عليه مشروعية الدعوة إلى تفضيل الصوف ، واتخاذ شعارا لعلم ما أو مذهب أو طريقة معينة .
كيف ظهرت نسبة التصوف إلى الصوف ؟(8/27)
لما ظهر اتجاه الزهد الذى تبناه أوائل الصوفية ، وقوى بعد عصر التابعين ، آثر أصحابة العزلة ، إما بدافع الخلوة المؤدية إلى زيادة الإيمان وبلوغ الحقيقة ، أو الابتعاد عن الفتن والمنازعات التى حدثت بين المسلمين فى أعقاب الخلافة الرشيدة فآثروا وقتها العزلة عن الناس والزهد فى الدنيا ، أو رد الفعل الطبيعى لحياة الترف التى مرت بالمسلمين إبان الفتوحات الإسلامية ، أيا كان الدافع لهذا المسلك(2) ، فإن أصحابه اتخذوا ما تيسر من اللباس المناسب وقتها لاتجاه ــــــــــــــــــــ
1. علته نوح بن ذكوان ، وهو منكر الحديث جدا ، و يحدث بأحاديث أباطيل ، انظر الكاشف فى معرفة من له رواية فى الكتب الستة ، للذهبى ترجمة رقم (5890) 2/327 والكامل فى ضعفاء الرجال (1976) 7/44 ، وكتاب الضعفاء (250) ص152 ، تهذيب التهذيب رقم (874)10/431 ، وتهذيب الكمال رقم (6491) 30/48 ، والمجروحين رقم (1102) 3/47 ، وفى الحديث أيضا : يوسف بن أبى كثير وهو مجهول ، انظر الكاشف فى معرفة من له رواية فى الكتب الستة ، ترجمة رقم (6444) 2/400 ، ولسان الميزان (5344) 7/448 ، وتقريب التهذيب رقم (7877)1/611 .
2. من قضايا التصوف فى ضوء الكتاب ، د/ محمد السيد الجليند ص 19 : ص24 .
الزهد ، فلجأ أغلبهم بالضرورة إلى نوعية الصوف ، الملائم للخشونة وشظف العيش ، متقيدين آنذاك بحكم طبيعة البيئة العربية ، أو غير العربية فى المجتمع الأوَّلى البسيط ، وذلك ليتوافق مع تأديب النفس ، وإلزامها بتحمله فترة طويلة فكان أحدهم يرتدى ملبسا خشنا من الصوف مدة عشرين سنة (1) ، ولا يخفى أن ذلك يبعث على تكوين صورة الزهد فى أذهان العامة والخاصة مقترنة بلبس الصوف على الدوام ، ويحكى الهجويرى عن شيخه ، أنه ارتدى جبة واحدة من الصوف مدة إحدى وخمسين سنة ، وكان يضع الرقع عليها دون كبير اهتمام (2) .(8/28)
ويتكرر الأمر ملحوظا عند الغالبية من أبناء التصوف ، حتى أصبح لفظ الخرقة والمرقعة ، من المصطلحات التى لها مدلول مشترك ، وفق أصول وقواعد تعارفوا عليها فى وقت مبكر ، كما وضعت لها كتب وفصول ، يقول الهجويرى : ( كتبت كتابا مفصلا فى هذا الموضوع عنوانه أسرار الخرق والمرقعات وعلى المريد أن يحتفظ لنفسه بنسخة منه ) (3) .
كل ذلك أدى إلى ظهور رأى عام بين الصوفية وغيرهم ، يربط الزهد برؤية خشونة الصوف على بدن الزاهد ، حتى أشبه الأمر الإجماع السكوتى الصامت دل على ذلك ما ذكره ابن بطال ، حيث قال : ( كره مالك لبس الصوف لمن ــــــــــــــــــــ
1. هو عبد اللَّه بن خفيف الشيرازى ، انظر كشف المحجوب ص62 .
2. السابق ص62 .
3. السابق ص69 .
يجد غيره ، لما فيه من الشهرة بالزهد ، لإن إخفاء العمل أولى ، فلم ينحصر التواضع فى لبسه ، بل فى القطن وغيره ، مما هو دون ثمنه ) (1) ، ومثله أيضا يلحظه الباحث ، فيما روى أبو الشيخ الأصفهانى ، بإسناده عن محمد بن سيرين ، أنه بلغه أن قوما يفضلون لباس الصوف ، فقال : إن قوما يتخيرون الصوف ، يقولون إنهم متشبهون بالمسيح بن مريم ، وهدى نبينا أحب إلينا وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - يلبس القطن وغيره (2) .(8/29)
وإذا أضفنا إلى ما تقدم ، سلامة اشتقاق مصطلح التصوف من مادة الصوف وجدنا تبريرا قويا يدعو إلى تبنى القول برد التصوف إلى الصوف ، فلما ظهرت حركة التأليف والتدوين فى مختلف العلوم سرى ذلك إلى ناحية التصوف ، فبدأ رجال من القوم يكتبون مناهجهم ، وما يدافعون به عن صحة اعتقادهم وسلوكهم ، فحاولوا فى طى ذلك البحث عن أصول قرآنية أو نبوية ينسبون علمهم إليها ، وكان أول من قام بذلك فيما أثر عن الصوفية من تراث هو أبو نصر السراج الطوسى (ت:378هـ) ، فهو - كما ذكر الدكتور عبد الحليم محمود - أعظم مؤرخ صوفى فى التاريخ قديما وحديثا (3) بل إن كتابه اللمع فى التصوف له مكانة عند الصوفية لا ينالها كتاب آخر ، حتى قيل عنه : ( كتاب ــــــــــــــــــــ
1. فتح البارى شرح صحيح البخارى لابن حجر العسقلانى 10/280 .
2. الصوفية والفقراء لابن تيمية ، تقديم الدكتور محمد جميل غازى ، طبعة مكتبة المدنى بالسعودية ص12، 13 وانظر كشف المحجوب ص61 وقارن .
3. اللمع ص7 .
اللمع هو الكتاب الأم فى تاريخ التصوف الإسلامى ، وقد اجتمعت له خصائص ما توافرت لغيره من كتب الحياة الروحية الإسلامية ، فهو أقدم مرجع صوفى إسلامى ، وهو فوق هذا أكبر هذه المراجع ، وأوثقها وأغزرها مادة ، وأنقاها جوهرا ولفظا ، ومن مادته الخصبة اقتبس كافة من أرخ للتصوف وعلىضوء مناهجه وأبوابه وقواعده ، جرت الأقلام التى قدمت لنا عبر التاريخ ، علوم الطريق ورجاله ) (1) .
فلم أجد فى حقيقة الأمر ، من سبق السراج الطوسى فى رد التصوف إلى الصوف ، أو محاولته تبرير ذلك بأنه دأب الأنبياء والصديقين وشعار المساكين المتنسكين ، ولذلك جزم بالأمر مرة واحدة إذ يقول : ( باب الكشف عن اسم الصوفية ولم سموا بهذا الإسم ؟ ولم نسبوا إلى هذه النسبة ؟ إن سأل سائل فقال : قد نسبت أهل الحديث إلى الحديث ، ونسبت الفقهاء إلى الفقه ، فلم قلت : الصوفية ، ولم تنسبهم إلى حال ولا إلى علم ؟ ) (2) .(8/30)
فسياق النص فى كتاب لأقدم المؤرخين ، كاللمع فى التصوف ، يشعر بأن السراج الطوسى صاحب القدم الأولى واليد الطولى فى تبرير هذه النسبة ، وقد بين فيما طرح من تساؤل ، أن الصوفية لم ينفردوا بنوع من العلم دون نوع ولم يرتسموا برسم من الأحوال دون رسم ، فليس لديه خيار إلا ظاهر اللبسة فنسبهم إليها ، ثم وجد أن ملبس الأنبياء والأولياء الأصفياء على أغلب الظن يتوافق مع ملبس الفقراء فجزم بالأمر فى رد التصوف إلى الصوف ، يقول ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص10 . 2. السابق ص40 .
السراج : ( فكذلك الصوفية عندى واللَّه أعلم ، نسبوا إلى ظاهر اللباس ولم ينسبوا إلى نوع من أنواع العلوم والأحوال التى هم بها مترسمون لأن لبس الصوف كان دأب الأنبياء وشعار الأولياء والأصفياء ، ويكثر فى ذلك الروايات والأخبار ، فلما أضفتهم إلى ظاهر اللبسة كان ذلك إسما مجملا عاما مخبرا عن جميع العلوم والأعمال والأخلاق والأحوال الشريفة المحمودة ) (1) .
ومعلوم مما تقدم أن جميع الروايات والأخبار ، لا تثبت أن نبيا من الأنبياء تخير الصوف ولازمه دون سائر اللباس ، فضلا عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - ، ولكنه وهو يتعقب الأدلة ، ليقوى رأيه فى نسبة التصوف إلى الصوف والبحث عن دليل قرآنى أو نبوى ، يصحح النسبة إلى ظاهر اللباس ، نظر إلى حال الحواريين (2) ، اتباع عيسى - عليه السلام - ، إذ لبسوا البياض وجمعوا أوصاف الإيمان ، وصدق المتابعة فى كل النواحى ، فسموا حواريين نسبة إلى ظاهر اللبسة ، يقول السراج : ( ألا ترى أن اللَّه تعالى ذكر طائفة من خواص أصحاب عيسى - عليه السلام - ، فنسبهم إلى ظاهر اللبسة ، فقال عز وجل : { وإِذْ قَالَ ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص40 .(8/31)
2. الحواريون جمع حوارى وهو مأخوذ من الحور وهو البياض عند أهل اللغة ، ويقال لنساء الجنة : الحور العين لشدة بياضهن يقال : حورت الثياب إذا بيضتها ، وقال عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - :" إنما سموا الحواريين لبياض ثيابهم كانوا صيادين ، انظر فتح القدير 1/344 وقال البخارى : ( بَاب مَنَاقِبِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - : " هُوَ حَوَارِيُّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَسُمِّيَ الْحَوَارِيُّونَ لِبَيَاضِ ثِيَابِهِمْ " انظر فتح البارى 7/99 .
الْحَوَارِيُّونَ } [المائدة/112] ، وكانوا قوما يلبسون البياض ، فنسبهم اللَّه تعالى إلى ذلك ، ولم ينسبهم إلى نوع من العلوم والأعمال والأحوال التى كانوا بها مترسمين ، فكذلك الصوفية عندى واللَّه أعلم ) (1) ، فشبه حال الصوفية فى إيمانهم وعدم اختصاصهم بعلم أو رسم ينسبون إليه ، بحال الحواريين الذين لم ينسبوا إلى علم أو حال ، فالعلة المشتركة بينهم ، هى النسبة إلى ظاهر اللبسة فصحت عنده نسبة التصوف إلى الصوف .
ولما أصل السراج الطوسى هذه النسبة ، وأظهر رأيه فيها بجرأة ، تتابع المؤلفون من معاصريه ولا حقية ، يوافقون رأيه أو يخالفون ، يدققون ويبحثون عن الوازم المترتبة على رد التصوف إلى الصوف ، إما بإظهار نسبة أخرى تتآزر مع السابقة أو تنفرد دونها ، فالقول بأن التصوف إلى الصوف فقط تركيز على المظهر دون الجوهر ، والظاهر دون الباطن ، ودعوتهم فى حقيقتها تنصب على الباطن ، وتدعوا إلى النظر فى أعماق الأمور وبلوغ الحقيقة ، ومن ثم حاول الكلاباذى أن يستقصى كل الوجوه الممكنة ، ثم تابعه الهجويرى والقشيرى ، ثم الغزالى والسهروردى وغيرهم من مؤرخى التصوف ، فكانت أبرز الوجوه التى يرد إليها التصوف غير الصوف القول بأنه من الصفاء .
رد التصوف إلى الصفاء ومناقشته :(8/32)
لا يصح من جهة الاشتقاق اللغوى رد التصوف إلى الصفا ء أو الصفوة لأنه لو صح لقيل : صَفَوِىُّ لا صوفى ، قال الراغب الأصفهانى : أصل الصفاء ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص41 .
خلوص الشئ من الشوب ومنه الصفا للحجارة الصافية قال تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِاللَّه } [البقرة/158] (1) .
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يصف رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللَّه وَمَا لِي لا َبْكِي ، وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لا أَرَى فِيهَا إِلا مَا أَرَى ، وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى فِي الثِّمَارِ وَالأَنْهَارِ ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وَصَفْوَتُهُ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ " (2) ، فالمصطفى هو المختار المنتقى من سائر الناس .
والصوفية فى ردهم التصوف إلى الصفاء ، أرادوا أن يبينوا أن طريقتهم ليست فى التزام الصوف والزهد الظاهرى فقط ، وإنما هى جوهر يجعلها أسمى الطرق وأعلاها كمالا وتحققا ، فلهم من الفهم العميق ، والاستنباط الدقيق ، فى بعض النواحى ما ليس لغيرهم ، يقول السراج الطوسى : ( وللصوفية مستنبطات فى علوم مشكلة على فهوم الفقهاء والعلماء ، لأن ذلك لطائف مودعة فى إشارات لهم ، تخفى فى العبارة من دقتها ولطافتها ، وذلك فى معنى العوارض والعوائق ، والعلائق والحجب ، وخبايا السر ، ومقامات الإخلاص ، وأحوال المعارف ، وحقائق العبودية ، ومحو الكون بالأزل .. إلخ ) (3) .
ولما كان مسلك الصوفية ، هو التخلص من الشوائب الحاجبة فى الباطن ــــــــــــــــــــ
1. المفردات ص283 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب الطلاق (1479) 2/1105 .
3. اللمع ص32 .(8/33)
والتحرر مما سوى اللَّه ، وكانت النسبة إلى الصوف وحدها ، لا تكفى تبريرا لأصل التصوف ، لأنها مظهر دون جوهر ، نقب بعضهم عن شخصية مرموقة يرجعون إليها الصفاء كأصل للتصوف ، فتخيروا أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - مثلا أعلى ، وقدوة يحتذى بها الصوفى فى صفائه ، فقال الهجويرى :
إن الصفا صفة الصديق : إذا أردت صوفيا على التحقيق (1) .
ويتابع قائلا : ( ذلك أن للصفاء أصل وفرع ، فأصله انتزاع القلب من الأغيار ، وفرعه نفض اليد من هذه الدنيا الخادعة ، وكانت هاتان الصفتان تميزان الصديق ، أبا بكر عبد اللَّه بن أبى قحافة - رضي الله عنه - ، فهو إمام أهل هذه الطريقة ) (2) ، ثم يورد دليلين على صفاء أبى بكر الذى انتسب إليه الصوفية أحدهما له أصول قرآنية ، والآخر له أصول نبوية .
[1]- أما الأول : فهو قوله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِين َ } [آل عمران/144] ، ووجه استدلاله أن الصحابة كلهم انكسرت قلوبهم لموت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، حيث تعلقت قلوبهم بالفانى ، فسل عمر سيفه ، وقال : من قال إن النبى قد مات ، جززت رأسه فقال أبو بكر - رضي الله عنه - عندها بصوت عال : " من كان يعبد محمدا ، فإن محمدا قد
ــــــــــــــــــــ
1. كشف المحجوب ص40 وانظر اللمع للسراج الطوسى ص 210 ، 346 ، 483 513 ، والرسالة القشيرية 2/563 ، 585 .
2. السابق ص40 .
مات ، ومن كان يعبد اللَّه فإن اللَّه حى لا يموت ، وتلا الآية الكريمة " (1) .(8/34)
يقول الهجويرى : ( فكل من يربط قلبه بالفانى ، فإنه يفنى ويضيع سعى قلبه هباء ، والذى يمد روحه إلى اللَّه الباقى ، يكون قائما بالبقاء ، حين تفنى النفس ، فأبو بكر لم ينظر إلى ما حدث من تبديل الحياة بالموت ، ولكنه نظر إلى اللَّه الذى بدل كل شئ ، ومن ثم تحقق فيه أصل الصفاء ، وهو انتزاع القلب من الأغيار ) (2) .
[2] - وأما الثانى فهو فرع الصفاء وهو نفض اليد من هذه الدنيا الخادعة حيث تبرع أبو بكر بماله كله ومواليه وارتدى رداء الصوف - على حد قول الهجويرى - ثم جاء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فسأله : وما خلفت لعيالك ؟ فأجابه أبو بكر - رضي الله عنه - تركت لهم اللَّه ورسوله (3) ، ثم يقول معقبا على هذين الدليلين : ( إن الصفا عكس للكدر ، والكدر من صفات الإنسان ، ولهذا فإن الصوفى الحقيقى هو من يترك الكدر وراء ظهره ) (4) .
وهذا الكلام لا يعبر عن واقع الأدلة ، لأن فيه تنقيص للصحابة دون أبى بكر - رضي الله عنه - ، فهل انكسرت قلوبهم لأنهم تعلقوا بالفانى على حد قول الهجويرى ؟ أو هل فى صفائهم كدر ، وما تركوه وراء ظهورهم كأبى بكر ؟ أو أن أبا بكر يصلح أن يكون فى صفائه قدوة للصوفية وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صفاؤه مشوب ولا يصلح لذلك ؟
ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص40 . 2. السابق ص40 .
3. السابق ص40 . 4. السابق ص41 .(8/35)
إن الأمر فى حقيقته ، لا علاقة له بصفاء أبى بكر - رضي الله عنه - أو غيره ، ولكن الثابت الصحيح أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، ظن أن رسول اللَّه مغشى عليه ، وكان فى اعتقاده أن تمام الدين يلزمه القضاء على المنافقين ، ومن ثم سوف يبقى النبى - صلى الله عليه وسلم - حتى يقضى عليهم ، دل على ذلك ما قالته أم المؤمنين عائشة رضى اللَّه عنها وقد مات النبى بين يدها ، وهى تظن أنه مغشى عليه : " فَسَجَّيْتُهُ ثَوْبًا فَجَاءَ عُمَرُ وَالْمُغيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ، فَاسْتَأْذَنَا فَأَذِنْتُ لَهُمَا ، وَجَذَبْتُ إِلَيَّ الْحِجَابَ ، فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : وَاغَشْيَاهْ ، مَا أَشَدُّ غَشْيَ رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَامَا ، فَلَمَّا دَنَوَا مِنَ الْبَابِ ، قَالَ الْمُغيرَةُ : يَا عُمَرُ مَاتَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : كَذَبْتَ ، بَلْ أَنْتَ رَجُلٌ تَحُوسُكَ فِتْنَةٌ ، إِنَّ رَسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لا يَمُوتُ ، حَتّى يُفْنِيَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الْمُنَافِقِينَ " (1) وفى رواية أخرى : " وَعُمَرُ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ يَقُولُ : وَاللَّه مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وَلا يَمُوتُ ، حَتَّى يَقْطَعَ أَيْدِيَ أُنَاسٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَثِيرٍ وَأَرْجُلَهُمْ " (2) .
وفى هذا دليل قوى على رغبة عمر فى تصفية التوحيد من النفاق ، وأما بقية الصحابة كانوا ذهولا من أثر الواقعة ، وذلك من شدة صفائهم للَّه وحبهم لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وليس الأمر على ما يفسره الهجويرى ، أنهم جميعا ربطوا قلوبهم بالفانى ، وأبو بكر - رضي الله عنه - هو الذى مد روحه إلى اللَّه الباقى ، كما أن أبا ــــــــــــــــــــ
1.أخرجه البخارى فى كتاب الجنائز (1242) 3/136.(8/36)
2. جزء من حديث ، أخرجه ابن ماجة فى كتاب الجنائز برقم (1627) ، وصححه الشيخ الألبانى 1/520 .
بكر - رضي الله عنه - ، كان من أشد المنكسرين قلبا على فراق خليله ، فورد فيما ذكرته أم المؤمنين عائشة : " ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْر ٍ- رضي الله عنه - فَرَفَعْتُ الْحِجَابَ ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ : إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، مَاتَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ فَحَدَرَ فَاهُ وَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ ، ثُمَّ قَالَ : وَا نَبِيَّاهْ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ حَدَرَ فَاهُ وَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ ، ثُمَّ قَالَ : وَا صَفِيَّاهْ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَحَدَرَ فَاهُ وَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ وَقَالَ : وَا خَلِيلاهْ مَاتَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - " (1) ، وليس أدل على انكسار قلبه من ذلك .
وكذلك يقال فى استدلال الهجويرى على نفض الدنيا الخادعة ، بما فعله أبو بكر - رضي الله عنه - ، عندما قدم كل ما يملك صدقة للَّه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فقد ساق الحديث يبرر به ضرورة التلازم بين الصفاء وتخلى المرء عما يملك ، وانتقاله إلى رداء الصوف ولبس المرقعات أسوة بأبى بكر الصديق - رضي الله عنه - ، ولا يخفى أن الحديث مسوق لتبرير نسبة التصوف إلى الصفاء ، بل وصل الأمر أن يبرروا به ما فعله أبو الحسين النورى وأبو بكر الشبلى وأمثالهما ، فالنورى من صفائه كما سبق أنه حمل إليه ثلاثمائة دينار ، ثمن عقار بيع له ، فصعد قنطرة وظل يرمى واحدا واحدا منها إلى الماء ، ويقول : حبيبى تريد أن تخدعنى منك بمثل هذا ؟ (2) .
والشبلى ربما يخلع ثيابه المثمنة ثم يحرقها بالنار (3) ، وهو الذى أوجب على الصوفية كما سبق ، أن تكون زكاة خمس من الإبل ، خمسا من الإبل ، بدلا من شاة كما هو الحكم ، ولما سئل السراج الطوسى عن إمامهم فى ذلك ــــــــــــــــــــ(8/37)
1. أخرجه البخارى فى كتاب الجنائز (1242) وأحمد 6/319 واللفظ له .
2. اللمع ص493 . 3. السابق ص483 .
قال : إمامهم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ، حيث خرج من ماله كله ، فقال له النبى - صلى الله عليه وسلم - : ما خلفت لعيالك ؟ قال : اللَّه ورسوله ، فلم ينكر عليه ذلك (1) .
ومعلوم أن الاستدلال بفعل أبى بكر - رضي الله عنه -على هذه الأمثلة ، قياس مع الفارق لاختلاف العلة فى الفعلين ، فأفعالهم لا يقبلها عقل صريح ، ولا يقرها نقل صحيح ، وفعل أبى بكر - رضي الله عنه - خدمة للأمة فى وقت يجب مثله ، فلا شك أن الضرورة قد تدعو الإنسان إلى التضحية بكل ما يملك فى بعض الأوقات والأزمات لا سيما المسلم ، وهذه علة فعل أبى بكر الصديق - رضي الله عنه - ، إضافة إلى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذى أمرهم بالصدقة ما استطاعوا ، لسد حاجة المسلمين ونصرة الدين ، وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - مطاع عند المؤمنين على قدر المستطاع ، فقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فى نص الحديث المذكور : " أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالا ، فَقُلْتُ : الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا قَالَ : فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي فَقَال َ- صلى الله عليه وسلم - : ما أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ ؟ قُلْتُ : مِثْلَهُ ، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ ؟ قَالَ : أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّه وَرَسُولَهُ ، قُلْتُ : وَاللَّه لا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا " (2) ، وهو - صلى الله عليه وسلم - مع هذا يسأل أبا بكر وعمر ما خلفت لأهلك ؟ ، حرصا منه - صلى الله عليه وسلم - على الاكتفاء الذاتى للأسرة ، فليس من المعقول أو المنقول ، أن يخرج المرء كل ما عنده بغية الصفاء ، ثم يدور يسأل الناس أعطوه أو منعوه .(8/38)
ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص493 .
2. حسن ، أخرجه الترمذى فى كتاب المناقب (3675) وقَالَ الألبانى : حَسَنٌ .
إن تبرير الهجويرى فى رده التصوف إلى صفاء أبى بكر الصديق - رضي الله عنه - ، فيه تحميل الأدلة ما لا يطاق ، وتوجيه لها فى غير موضعها ، حيث بدت للناظر وكأنها مسوقة إلى غير مأتاها ، لتتوافق مع الدعوة إلى الصفاء الصوفى ، وليس من شك أن السعى إلى الصفاء والتحرر من قيود المعصية ، هو دين اللَّه عز وجل وهو عام فى كل قول وفعل ، بل يمكن القول إنه شرط الإسلام لقبول العمل ، ولكن بضوابط العبودية الممثلة فى ركنيها الأساسيين :
[1] - الإخلاص الذى هو معنى الركن الأول من الشهادة : لا إله إلا اللَّه والذى بينه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فى الحديث القدسى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - ، قَالَ اللَّه َتَعَالَى :
" أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ ، مَنْ عَمِلَ عَمَلا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ " (1) ، وفى رواية أخرى : " فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ " (2) .
[2] - المتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - التى هى معنى الركن الثانى من الشهادة : محمد رسول اللَّه ، وقد بينه النبى - صلى الله عليه وسلم - فى حديث عَائِشَةَ رضى الله عنها حيث قال :
" مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " (3) ، وفى رواية أخرى : " مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ " (4) وثالثة : " مَنْ صَنَعَ أَمْرًا مِنْ غَيْرِ ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الزهد والرقاق (2985) 4/2289.
2. ابن ماجة فى كتاب الزهد (4202) وصححه الألبانى 2/1405.
3. البخارى فى الصلح (2697) 5/354 ومسلم فى الأقضية (1718) 3/1343 .
4. أخرجه ابن ماجة فى المقدمة (14) .(8/39)
أَمْرِنَا فَهُوَ مَرْدُودٌ " (1) ، ومن ثم علمنا أن دعوة النبى - صلى الله عليه وسلم - للصدقة ، تكون على سبيل الاستحباب ، إذا أدى المسلم فرض الزكاة ، إلا فى حال يلزم فيها التضحية ، إما لجهاد ، أو بناء لازم من اللوازم الضرورية لقيام المجتمع الإسلامى ، فإذا تغير الحال ، وزادت الأموال ، وزال لازم التضحية ، فلا معنى للمداومة على نفض اليد أولا بأول ، على حد قول الهجويرى ، ولا معنى لخروج المسلم من كل ما يملك كلازم للصفاء ، إذ أن الصفاء صفاء القلب بالزهد فى الحياة ، وإدراك المسلم أنه فيها مبتلى من الله ، وأنه مطالب بتنفيد أمر الله فيما خوله واسترعاه ، وهذا متحقق فى كثير من أنبياء الله كإبراهيم وداود وسليمان عليهم السلام ، كما أن النبى - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يفارق المسلم ماله كله فى الحياه ، وإذا مات أبقاه لورثته ، إلا الثلث فله أن يوصى به لمن شاء فمن عمل عملا على غير ذلك ، وإن حسنت نيتة ، ففعله لا أصل له ، وهو مخالف للسنة ، وصفاؤه مردود عليه ، فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - ، أن سعد بن أبى وقاص - رضي الله عنه - ، قَالَ له : " يَا رَسُولَ اللَّه بَلَغَنِي مَا تَرَى مِنَ الْوَجَعِ ، وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلا يَرِثُني إِلا ابْنةٌ لِي وَاحِدَةٌ ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ ، قَالَ : لا ، قُلْتُ : أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ ؟ قَالَ : لا ، الثُّلُثُ ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ، وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّه إِلا أُجِرْتَ بِهَا ، حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ " (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه أحمد فى المسند (23929) .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الوصايا (2742) 5/427 .(8/40)
ولو كان خروجه - رضي الله عنه - من جميع المال فيه صلاح له ، لأمره النبى - صلى الله عليه وسلم - بذلك فهذا أمر النبى - صلى الله عليه وسلم - ، ليضبط مسألة الصفاء فى الفرع ، وكيف يتعامل المسلم مع المال ، والمقياس الذى ينفض به يده منه ، ومعلوم أن سعد - رضي الله عنه - من العشرة المبشرين بالجنة ، وامتثاله لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، يعد أنموذجا للصفاء المطلوب وهو بذاته يشاكل صفاء أبى بكر - رضي الله عنه - ، لأنه ولى الخلافة بعد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وكان بيت مال المسلمين بين يديه ، يقوم بعده وإحصائه والانشغال بتقسيمه على مستحقيه ، ولم يقلل ذلك من صفائه ، أو يؤثر فى كمال إيمانه ، ومعلوم أيضا أن أبا بكر - رضي الله عنه - من العشرة المبشرين بالجنة ، ومن ثم لا يكون الصفاء الذى يدعوا إليه الهجويرى وغيره ، مقصورا على أبى بكر - رضي الله عنه - وحده ، بل ذلك عام فى جميع الصحابة رضوان الله عليهم ، فدعوى تخصيص أبى بكر بأن يكون أسوة للصوفية فى صفائهم وتخليهم عن الدنيا تفتقر إلى الدليل الواضح .
ومن ثم حاول بعض الصوفية أن يبحث عن نسبة أخرى ، تجمع معنى الصدق فى أوصاف الظاهر والباطن ، لأن النسبة إلى الصوف نسبة إلى الظاهر والنسبة إلى الصفاء نسبة إلى الباطن ، فرأى بعضهم فقر أهل الصفة ، وصدق حالهم وانقطاعهم إلى الله ، فنسب التصوف إليهم ، كتبرير معقول ، يجمع معانى الإيمان الظاهرة والباطنة ، فهل نسبة التصوف إلى أهل الصفة يعتبر أصلا مقبولا ؟!
هل نسبة التصوف إلى أهل الصفة يعتبر أصلا مقبولا ؟!
من ناحية اللغة لا يصح ، فلو رد التصوف إلى أهل الصفة لقيل صُفِّى ، أما من ناحية التشبه بأفعال أهل الصفة ، والنظر والمقارنة بين طريقة الصوفية ومذهبهم وتجاربهم بحال أهل الصفة ، فالأمر يتطلب الكشف عن حال أهل الصفة أولا ، من خلال استقصاء شامل الأصول القرآنية والنبوية .(8/41)
فالصفة التى ينسب إليها أهل الصفة من الصحابة رضوان اللَّه عليهم ، كانت فى مؤخرة مسجد النبى - صلى الله عليه وسلم - ، فى شمال المسجد النبوى بالمدينة المنورة ، وقد ورد ذكرها فى حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - وفيه :
" .. ثُمَّ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : اذْهَبْ فَادْعُ لِي فُلانًا وَفُلانًا وَفُلانًا وَمَنْ لَقِيتَ ، وَسَمَّى رِجَالا ، قَالَ : فَدَعَوْتُ مَنْ سَمَّى وَمَنْ لَقِيتُ ، قَالَ جعد بن دينار راوى الحديث عن أنس : قُلْتُ لأَنَسٍ : عَدَدَ كَمْ كَانُوا ؟ قَالَ : زُهَاءَ ثَلاثِ مِائَةٍ وَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا أَنَسُ هَاتِ التَّوْرَ ، قَالَ : فَدَخَلُوا حَتَّى امْتَلأَتِ الصُّفَّةُ وَالْحُجْرَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : لِيَتَحَلَّقْ عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ إِنْسَانٍ مِمَّا يَلِيهِ ، قَالَ : فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ، فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ ، وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ حَتَّى أَكَلُوا كُلُّهُمْ ، فَقَالَ لِي يَا أَنَسُ : ارْفَعْ فَرَفَعْتُ ، فَمَا أَدْرِي حِينَ وَضَعْتُ كَانَ أَكْثَرَ ، أَمْ حِينَ رَفَعْتُ ؟ " (1) .
وكانت الصفة متسعا لمن يأوى إليها من المهاجرين الجدد ، المتتابعين على البيئة الجديدة فى دار الهجرة ، فهى تشبه دار الضيافة ، حيث يقيم النازل حتى ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب النكاح (1428) 2/1056 .(8/42)
يدبر أمره ويتأهل للاستقلال بحياته الشخصية أو الأسرية ، ولما انتشر الإسلام فى العهد المدنى ، كثر عدد المهاجرين ، وتوالى تزاحمهم على المدينة شيئا فشيئا سواء كانوا فقراء أو أغنياء متأهلين أو عزاب ، فكان من لم يتيسر له مكان يأوى إليه ، يأوى إلى تلك الصفة التى فى المسجد ، ولذلك لم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون فى وقت واحد ، بل منهم من يتأهل أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له ، ثم يجئ أناس بعد أناس فكانوا تارة يكثرون وتارة يقلون (1) .
فإذا طال مكث أحدهم ، فهو والوافدون عليه ضيوف على الإسلام والمسلمين ، يأكلون من الصدقة أو يلبسون ، يشاركون النبى - صلى الله عليه وسلم - فى أغلب الأحيان فى الهدايا التى تبعث إليه ، وقد ورد ذلك منصوصا عليه فى الأصول القرآنية والنبوية فمن ذلك :
1- ما ثبت عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أنه قال : " وأهل الصفة أضياف الإسلام ، لا يأوون إلى أهل ولا مال ، ولا على أحد " (2) .
2- أنهم عاصروا فترة زمنية فى المدينة توالت الوفود فيها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فازدحمت بأهلها ، وأثر العجز الاقتصادى فى المدينة على الجميع ، ومن البديهى أن أهل الصفة هم الأكثر من غيرهم معاناة فهم أضياف الإسلام ، لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد ، قال أبو هريرة - رضي الله عنه - وهو واحد منهم : - أالله الذي لا إله إلا هو ، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع ــــــــــــــــــــ
1. مجموع فتاوى ابن تيمية 11/40 ، بتصرف .
2. جزء من حديث أخرجه الإمام لبخارى فى كتاب الرقاق (6452)11/286 .
وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع - (1) .(8/43)
4- أنهم على الرغم من مرارة ما يعانون من شظف العيش إلا أنهم ، كانوا يتعففون السؤال ، فمن حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : " ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه ، فمر أبو بكر ، فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني ، فمر ولم يفعل ثم مر بي عمر ، فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني ، فمر فلم يفعل ، ثم مر بي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - ، فتبسم حين رآني ، وعرف ما في نفسي وما في وجهي " (2) .
5- أن النبى كان يشركهم الطعام ، على الرغم من كثرتهم ، وعلى نحو ما ذكره أبو هريرة - رضي الله عنه - : " إذا أتته صدقة ، بعث بها إليهم ، ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها " (3) .
6- أنهم سبب فى إكرام الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - وبعض أصحابة ، بخوارق العادات وإظهار المعجزات والكرامات ، فى تكثير القليل من المشروبات والمطعومات فمن حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - أيضا ، أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أمره بدعوتهم على شراب قليل من اللبن ، ربما يكفى اثنين ، فقال له : " أبا هر ، قلت : لبيك يا رسول الله قال : الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي ، فساءني ذلك ، فقلت : وما هذا اللبن في أهل الصفة ؟ كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها ، فإذا ــــــــــــــــــــ
1. جزء من الحديث السابق 1/1ص286 .
2. جزء من الحديث السابق .
3. جزء من الحديث السابق .(8/44)
جاء أمرني ، فكنت أنا أعطيهم ، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بد ، فأتيتهم فدعوتهم ، فأقبلوا ، فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت ، قال : يا أبا هر ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : خذ فأعطهم ، قال : فأخذت القدح ، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ، ثم يرد علي القدح ، فأعطيه الرجل ، فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح ، فيشرب حتى يروى ، ثم يرد علي القدح ، حتى انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد روي القوم كلهم ، فأخذ القدح ، فوضعه على يده ، فنظر إلي فتبسم ، فقال : أبا هر ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : بقيت أنا وأنت قلت : صدقت يا رسول الله ، قال : اقعد فاشرب فقعدت فشربت ، فقال : اشرب فشربت ، فما زال يقول اشرب حتى قلت : لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا ، قال : فأرني ، فأعطيته القدح ، فحمد الله وسمى وشرب الفضلة " (1) .
ومن حديث عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنه - قال : " إن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء ، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كان عنده طعام اثنين ، فليذهب بثالث وإن أربع فخامس أو سادس ، وأن أبا بكر - رضي الله عنه - جاء بثلاثة ، وإنه تعشى عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم لبث حيث صُلِّيَتِ العشاء ، فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء الله ، قالت له امرأته : وما حبسك عن أضيافك قال : أوما عشيتيهم ، قالت : أبوا حتى تجيء ، قد عرضوا فأبوا ، قال عبد الرحمن : فذهبت أنا فاختبأت ــــــــــــــــــــ
1. جزء من الحديث السابق .(8/45)
فقال : يا غنثر فجدع وسب ، وقال : كلوا لا هنيئا ، فقال : والله لا أطعمه أبدا ، وايم الله ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها ، حتى شبعوا ، وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك ، فنظر إليها أبو بكر ، فإذا هي كما هي أو أكثر منها ، فقال لامرأته : يا أخت بني فراس ما هذا ؟ قالت : لا وقرة عيني لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات ، فأكل منها أبو بكر - رضي الله عنه - وقال : " إنما كان ذلك من الشيطان يعني يمينه ، ثم أكل منها لقمة ، ثم حملها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأصبحت عنده ، وكان بيننا وبين قوم عقد ، فمضى الأجل ففرقنا اثنا عشر رجلا ، مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل فأكلوا منها أجمعون " (1) .
7- أن الفقر الذى لزم أهل الصفة ، كان فقرا اضطراريا من أمور القدر على سبيل الابتلاء ، لمن هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وآثره على أهله وعشيرته ، ولم يكن باختيارهم أو رغبتهم فى أن يكونوا على تلك الحالة ، فهم كانوا يكتسبون عند إمكان الاكتساب ، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يراعى ضعف قوتهم وقلة حالهتم ، فيجيز من يقف أثناء صلاة الجماعة ، لينادى على النساء وهن خلف الرجال فى الصفوف ، ألا يرفعن رؤوسهن حتى يستوى الرجال جلوسا ، فربما تنكشف عورة أحدهم لقصر ملبسه ، فمن حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : " لَقَدْ رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ ، مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ ، إِمَّا إِزَارٌ ، وَإِمَّا كِساءٌ ، قَدْ رَبَطوا فِي أَعْنَاقِهِمْ ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْنِ ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب مواقيت الصلاة (602) 2/90 .
الْكَعْبَيْنِ فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ ترَى عَوْرَتُهُ " (1) .(8/46)
وقال سهل بن سعد الساعدى - رضي الله عنه - فى وصفه أهل الصفة : " كان رجال يصلون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عاقدي أزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان ، ويقال : للنساء لا ترفعن رءوسكن ، حتى يستوي الرجال جلوسا " (2) .
هذا وصف أهل الصفة كما ورد فى صحيح السنة ، قوم ألجأهم الإيمان بالله ورسوله إلى أن يتركوا رغد العيش فى أوطانهم ، ويهاجروا إلى المدينة ويصبروا على الفقر فيها ، بغية مرافقة النبى فى الدنيا والآخرة ، ولم تكن لهم رغبة فى أن يكونوا عالة على أحد ، أو يتواكلوا فيتفرغوا للعبادة تاركين للكسب والعمل مع تيسره ، وهذه الصورة لا تتفق مع وصفهم عند مؤرخى الصوفية ، فقد ذكر الهجويرى أن أهل الصفة ، قوم صرفوا وجوههم إلى ربهم ، متعبدين ومهتمين بأمر آخرتهم ، عكفوا على العبادة ورياضة النفس ، والتجرد عن أعراض الدنيا ، فانقطعوا فى المسجد يأكلون من مال المسلمين ، ويكرمون من أجل صلاحهم وتقواهم (3) .
بل إنه حكى الإجماع على ذلك ، فقال فى باب الكشف عن أهل الصفة : ( اعلم أن المسلمين جميعا ، قد اتفقوا على أن عددا من الصحابة ، لجأوا إلى
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فىكتاب الصلاة (442) 1/638 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الصلاة (362) 1/563 ، ومسلم (441) 1/326 .
3. كشف المحجوب ص101 ، وانظر التصوف عند العرب لجبور عبد النور ، طبعة بيروت سنة 1938م ، ص75 .(8/47)
مسجد الرسول ، واشتغلوا بالعبادة تاركين الدنيا ، زاهدين فى البحث عن وسائل العيش ) (1) ، واحتج لهم بأصل قرآنى ، يوحى باللوم على النبى - صلى الله عليه وسلم - لإنكاره عليهم الانقطاع للعبادة ، فقال : " ولقد عاتب اللَّه رسوله من أجلهم حين قال فى سورة الأنعام : { وَلا تَطرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنعام/52] ) (2) .
ويقول غيره - رضي الله عنه - : " وهم الذين نزلت فيهم الآية الثامنة والعشرون من سورة الكهف : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [الكهف/28] " (3) .
وهذا الكلام لا يطابق حقيقة الأصول القرآنية والنبوية ، ولا يشهد للصوفية فى ردهم التصوف لأهل الصفة ، وبرهان ذلك هو أن آيتى الأنعام والكهف نزلتا بمكة ، فالسورتان مكيتان ، ومعلوم مما أورده الهجويرى وغيره أن أهل الصفة لم يظهروا إلا فى المدينة المنورة ، بعد وجود الصفة ، وبناء المسجد النبوى ، فكيف عاتب اللَّه نبيه فى مكة على قوم لم يظهروا إلا فى المدينة ؟
أما الأصل الذى يمكن أن يرد إليه وصف أهل الصفة من القرآن ، هو قوله ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص101 .
2. السابق ص101.
3. مدخل إلى التصوف الإسلامى للدكتور أبو الوفا التفتازانى ، ص54 .(8/48)
تعالى : { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّه بِهِ عَلِيمٌ } [آل عمران/273] ، قال عبد اللَّه بن عباس - رضي الله عنه - وشاركه مجاهد ، ومحمد بن كعب القرطبى : " هم أصحاب الصفة الفقراء " (1) .
والآية واضحة الدلالة فى كونهم يعجزون عن الكسب ، لا يستطيعون ضربا فى الأرض ، ومعلوم أن العجز إما لعلة فيهم ، من مرض أو غيره أو لانعدام أسباب العمل التى يتكسبون منها ، بسبب ازدحام المدينة بالمهاجرين على أهلها ، وعجز الموارد فى الدولة الإسلامية وقتها ، وقد وصفهم اللَّه بالتعفف وعدم السؤال البتة ، لا سؤال إلحاح ، ولا غير إلحاح ، كما ذهب لذلك جمهور المفسرين (2) .
وقد سبق من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - ، فى تعففه عن السؤال مع شدة الجوع الذى كابده ، والحجر الذى ربطه على بطنه ، وإظهار نفسه لأبى بكر وعمر بمظهر السائل عن الفقه فى الدين ، وكذلك من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنه - عندما أبى ضيوف أبى بكر من أهل الصفة أن يأكلوا إلا بحضور صاحب الدار من شدة تعففهم ، كل ذلك يتفق مع ما ورد فى آية البقرة ، ويشهد لها كما أن أهل الصفة ،لم يمكثواعلى حالهم بعد وجود الخير ،وانفتاح أبوابه فأغلبهم جاهد وقاتل ، وتولى الإمرة ، وتفاعل مع الحياة على أنها وسيلته إلى الآخرة وعلى النحو المرضى للَّه عز وجل ، ولو كان فى مكثهم على حالهم ــــــــــــــــــــ
1. فتح القدير 1/292 ، 293 . 2. السابق 1/293 .
خير ما بدلوه ، وللزموا المسجد النبوى لا يفارقونه إلا بالموت .(8/49)
وكما استدل السراج الطوسى بتعسف ، لنسبة التصوف إلى الصوف على أنه ملبس الأنبياء ودأب الأولياء ، ليظهر التوافق بين الصوفية وسلوك الأنبياء فى التزام الصوف دون غيره ، سلك الهجويرى مسلكه ، فروى فى أهل الصفة حديثا لا أصل له ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - ، فيه دعوة إلى تفضيل البقاء على حال أهل الصفة ، وألا يرضى الصوفى عنه بديلا ، لأن ذلك أصل التصوف فقال :
" روى عن ابن عباس - رضي الله عنه - ، أن النبى - صلى الله عليه وسلم - وقف على أهل الصفة ، فرأى فقرهم وجهدهم ، وطيب قلوبهم ، فقال : أبشروا يا أصحاب الصفة ، فمن بقى من أمتى على النعت الذى أنتم عليه ، راضيا بما هو فيه ، فإنه من رفقائى فى الجنة " (1) .
فقول الهجويرى : فمن بقى من أمتى على النعت الذى أنتم عليه ، راضيا بما هو فيه ، إنما يعبر عن الرغبة فى إيجاد أصل مقبول للتصوف برده إلى أهل الصفة ، وقد سبق فى وصف أبى هريرة - رضي الله عنه - لأهل الصفة ، أنهم إنما كانوا أضياف الإسلام ، والضيف له إكرام لا يتعدى وقتا معلوما ، فإن تخطاه أصبح عالة على غيره ، وعبئا ثقيلا على المجتمع ، وكيف يرضى رسول الله أن يكون أهل الصفة ، عالة على غيرهم ، ويقرهم على ذلك ، وهو القائل : " لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ ، ثُمَّ يَغْدُوَ إِلَى الْجَبَلِ ، فَيَحْتَطِبَ فَيَبِيعَ ، فَيَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ
ــــــــــــــــــــ
1. كشف المحجوب ص101 ، وقد بذلت جهدا كبيرا فى تتبع هذا الحديث فى كتب السنة فلم أجده سواء فى الأحاديث المتصلة أو المنقطعة عن ابن عباس أو غيره .
خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ " (1) .(8/50)
وقد ورد فى الحض على الكسب وتحريم المسألة لغير حاجة ، أحاديث كثيرة يضيق الكلام عن ذكرها ، تدل فى جملتها على منافاة هذا الحديث ومعارضته ومن ثم فإن أهل الصفة لو وجدوا من أسباب الحياة ما يغنيهم كسائر الصحابة ما كانوا أهل الصفة ، فهم لم يخيروا فاختاروا ، ولكن اضطروا فسلموا وصاروا مؤمنين بالقدر ، وعلى ذلك فإن قياس حال الصوفية على حال أهل الصفة قياس مع الفارق ، ولذا لجأ بعضهم إلى نسبة أخرى فنسب التصوف إلى الصف الأول .
رد التصوف إلى الصف الأول ومناقشته :
يقول أبو بكر الكلاباذى : ( وقال قوم إنما سموا صوفية ، لأنهم فى الصف الأول بين يدى اللَّه عز وجل ، بارتفاع هممهم إليه ، وإقبالهم عليه ، ووقوفهم بسرائرهم بين يديه ) (2) .
من جهة اللغة لا يصح نسبة التصوف إلى الصف الأول ، لأنه لو صح لقيل : صَفِّى كما لا يصح من جهة الوصف ، فالصوفية ليس كما ذكر الكلاباذى أنهم بين يدى اللَّه عز وجل فى الصف الأول هممهم مرتفعة إليه ، وإقبالهم متزايد عليه واقفون بسرائرهم بين يديه ، بل الواقع يخالف ذلك ، وأدلة البحث تفنده ، فالسراج الطوسى صاحب أقدم المراجع الصوفية ، وأكبرها وأوثقها ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فى كتاب الزكاة (1386) 3/295.
2. التعرف ص 29 .
وأغزرها مادة ، وأنقاها جوهرا ولفظا ، ومن مادته الخصبة اقتبس كافة من أرخ للتصوف (1) ، نجد أنه يصرح بلا لبس أو غموض ، أن الصوفية ليس من آدابهم المحافظة على الصف الأول ، كما هو مذكور عند الكلاباذى ، فيقول السراج الطوسى فى وصف آدابهم فى الصلاة :(8/51)
( ومن آدابهم أيضا أنهم يكرهون الإمامة ، والصلاة فى الصف الأول ، بمكة وغيرها ويكرهون التطويل ، أما الإمامة فلو أن أحدهم يحفظ القرآن ، فإنهم يختارون الصلاة خلف من يحسن أن يقرأ الحمد وسورة أخرى ، وأما ترك الصلاة فى الصف الأول ، فإنهم يريدون بذلك ألا يزاحموا الناس ويضيقوا عليهم ، لأن الناس يزدحمون ويطلبون الصف الأول ) (2) .
والعلة فى ذلك – والتى لم يصرح بها - أن الناس إنما يزدحمون على الصف الأول ، بدافع الرغبة فى تحصيل الأجر الذى أعده اللَّه للمصلين ، عملا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا " (3) وقد تقدم أن أغلب الصوفية فى عبادتهم أحرار من التجارة وانتظار العوض والبديل ، وقد سبق قول أبى يزيد البسطامى (ت:261 هـ) : ( الجنة لا خطر لها عند أهل المحبة وأهل المحبة محجوبون ــــــــــــــــــــ
1. انظر مقدمة اللمع للدكتور عبد الحليم محمود ص10 .
2. اللمع ص 208 .
3. أخرجه البخارى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فى كتاب الأذان (580) 2/68.
بمحبتهم ) (1) ، وهذا الكلام شاع بين الصوفية قبل أبى نصر السراج الطوسى (ت:378هـ) بقرنين تقريبا ، عندما اشتهر بينهم قول رابعة العدوية ، من نساء الصوفية (ت:185هـ) : ( ما عبدتك خوفا من نارك ، ولا طمعا فى جنتك ، ولكن حبا لذاتك ) (2) .(8/52)
وقد ثبت فى السنة ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بين الغايه من محصول أفعاله ، وأنها تدور حول طلب الجنة ، والنجاة من عذاب النار ، دل على ذلك ما ذكره مُعَاذ بن رِفَاعَة الأَنْصَارِي - رضي الله عنه - ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ ، يُقَالُ لَهُ : سُلَيْمٌ أَتَى رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّه ، إِنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يَأْتِينَا بَعْدَمَا نَنَامُ وَنَكُونُ فِي أَعْمَالِنَا بِالنَّهَارِ ، فَيُنَادِي بِالصَّلاةِ ، فَنَخْرُجُ إِلَيْهِ فَيُطَوِّلُ عَلَيْنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ ، لا تَكُنْ فَتَّانًا ، إِمَّا أَنْ تُصَلِّيَ مَعِي ، وَإِمَّا أَنْ تُخَفِّفَ عَلَى قَوْمِكَ ، ثُمَّ قَالَ : يَا سُلَيْمُ ، مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ؟ قَالَ : إِنِّي أَسْأَلُ اللَّه الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِهِ مِنَ النَّارِ ، وَاللَّه مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتكَ ، وَلا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه : - صلى الله عليه وسلم - وَهَلْ تَصِيرُ دَنْدَنَتي وَدَنْدَنَةُ مُعَاذٍ ، إِلا أَنْ نَسْأَلَ اللَّه الْجَنّةَ وَنَعُوذَ بِهِ مِنَ النَّارِ " (3) .
وإذا كان هذا حال الصوفية أنهم لا يطمعون فى ثواب الصف الأول ، فكيف ــــــــــــــــــــ
1. طبقات الصوفية ص489 ، والتعرف لمذهب أهل التصوف ص161، 184 .
2. صفة الصفوة ، 2/ 249 .
3. أخرجه ابن ماجه فى كتاب الإقامة (910) ، وقال الشيخ الألبانى : صحيح 1/295 وأحمد فى المسند (20176) واللفظ له .(8/53)
يقال : إنهم سموا صوفية ، لأنهم فى الصف الأول بين يدى اللَّه عز وجل ، إن هذه النسبة يمكن أن تصح إذا بلغ من حرص الصوفى مثلا ، أن يهادى به بين الرجلين حتى يقام فى الصف ، كما هو شأن الصحابة - رضي الله عنهم - ، أوكما ذكر عَبْدِ اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - : " وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ " (1) ، وقد كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن المتخلفين عن الصلاة فى جماعة ، وكيف تركوا الصف الأول دون شهوده ، فقال أُبَي بن كَعْبٍ - رضي الله عنه - :" صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا الصُّبْحَ ، فَقَالَ : أَشَاهِدٌ فُلانٌ ؟ قَالُوا : لا ، قَالَ : أَشَاهِدٌ فُلانٌ ؟ قَالُوا : لا ، قَالَ : إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلاتَيْنِ أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَيْتُمُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الرُّكَبِ ، وَإِنَّ الصَّفَّ الأَوَّلَ عَلَى مِثْلِ صَفِّ الْمَلائِكَةِ ، وَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا فَضِيلَتُهُ لابْتَدَرْتُمُوهُ " (2) .
فكيف يتفق هذا مع قول السراج الطوسى : ( ومن آدابهم ، أنهم يكرهون الصلاة فى الصف الأول بمكة وغيرها ) ؟ ، أو يصح قول أبى بكر الكلاباذى فى تبرير بعضهم لنسبة التصوف : ( إنما سموا صوفية لأنهم فى الصف الأول بين يدى اللَّه عز وجل ) .
فالمسألة فى رد التصوف إلى الصوف أو الصفاء والصفوة أو أهل الصفة أو الصف الأول ، تفتقر إلى وجه صريح ، وتبرير صحيح يعتمد على الأصول ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب المساجد ومواضع الصلاة (654) 1/453 .
2. أخرجه النسائى فى كتاب الإمامة (843) وحسنه الألبانى 2/104 .(8/54)
القرآنية والنبوية ، ومن ثم لجأ كثير من المحققين إلى جعل النسبة عَلَما بلا اشتقاق معروف ، واعتبروه اسما بلا وصف أو علما على ذات التصوف ، دون البحث عن مضمون الإسم أو محتواه ، وهؤلاء عندى أقرب إلى الصواب فالتصوف لا أصل له فى الأصول القرآنية والنبوية ، يمكن أن يدعو إليه أو يرد عليه ، يقول القشيرى (ت:465هـ) : ( ثم هذه التسمية غلبت على هذه الطائفة ، فيقال : رجل صوفى وللجماعة صوفية ، ومن يتوصل إلى ذلك يقال له متصوف ، وللجماعة متصوفة ) (1) ، ثم علل ذلك بأنه لا يشهد للتسمية من حيث العربية ، قياس ولا اشتقاق فالأظهر أنه كاللقب ، فالذين قالوا : إنه من الصوف ولبسه فذلك وجه ، ولكنهم لا يختصون بلبس الصوف ، والذين قالوا : يرد إلى الصفة التى فى مسجد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، فالنسبة إلى الصفة لا تجئ على نحو الصوفى ، ومن قال : إنه من الصف الأول بعيد أيضا فى مقتضى اللغة (2) .
وقد أفرد السراج الطوسى بابا سماه : ( الرد على من زعم أن الصوفية قوم جهلة ، وليس لعلم التصوف دلالة من الكتاب والأثر ) (3) .
ولكنه لم يورد دليلا واحدا فى مستوى أدلة أصحاب الحديث والفقه وعلوم القرآن والتوحيد ، فى استدلالهم على نسبة علمهم بالأصول القرآنية أو النبوية ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة القشيرية 2/550 .
2. السابق 2/550 ، 551 .
3. اللمع ص34 .
بل ما ذكره لا يميز الصوفية بشئ ينفردون به عن أصحاب الطوائف الأخرى صحيح ، كما ذكر السراج الطوسى ، أنه لا خلاف بين أئمة المسلمين أن اللَّه تبارك وتعالى ، ذكر فى كتابه الصادقين والصادقات ، والقانتين والقانتات والخاشعين والخاشعات ، والموقنين والمخلصين والخائفين ، والراجين والوجلين والعابدين والصابرين والراضين ، والمتوكلين والمخبتين ، والأولياء والمتقين والمصطفين والأبرار والمقربين (1) .(8/55)
ولكن ذلك عام فى المسلمين أصحاب الدرجات العليا من التقوى ، والقول بأن الصوفية ينفردون بهذه الأوصاف دون غيرهم ، تنقيص لشأن الآخرين فهذه الأوصاف أولى بها الخلص من المحدثين والفقهاء ، وأهل التوحيد والتفسير وعلوم اللغة والقرآن ، وغير ذلك من أصناف المسلمين القائمين على خدمة دينهم الداعين إلى اللَّه عز وجل ، أو على الأقل يشاركون الصوفية فى هذه الصفات والخلاق الكريمة .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص34 .(8/56)
**********************************
1- الأبد
**********************************
صدق الله العظيم الأبد : عبارة عن مدة الزمان الممتد الذى لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان وذلك أنه يقال : زمان كذا ، ولا يقال : أبد كذا (1) ، قال تعالى : { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } [التوبة/84] ، وقال سبحانه : { وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } [النور/4] ، وعن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فى صيام الأبد : " لا صام من صام الأبد مرتين " (2) ، وقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -يقول : " من صور صورة ، فإن اللَّه معذبه حتى ينفخ فيها الروح ، وليس بنافخ فيها أبدا " (3) .
وجميع ما ورد فى القرآن والسنة من لفظ الأبد ، فإنه يعنى الزمان الممتد ، أو الدائم الذى لا ينقطع ، سواء فى الدنيا كما سبق ، أو فى الآخرة ، كقوله تعالى : { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } [البينة/8] .
ــــــــــــــــــــ
1. انظر فى بيان المعانى اللغوية ، المفردات فى غريب القرآن ، للراغب الأصفهانى ص8 ولسان العرب لابن منظور 3/68 ، والقاموس المحيط لمحمد بن يعقوب الفيروز أبادى 1/337 ، والتوقيف على مهمات التعاريف لعبد الرؤوف المناوى 1/91.
2. أخرجه البخارى فى كتاب الصوم 4/260 (1977) .
3. أخرجه البخارى فى كتاب البيوع 4/85 (2225) .
صدق الله العظيم الأبد فى الاصطلاح الصوفى :
الأبد فى اصطلاح الصوفية ، هو ما لا نهاية له ، أو ما ليس له آخر (1) ، وهو اصطلاح قرآنى فى لفظه ومعناه ، ومن ألفظ الصوفية الدالة على ذلك ، ما روى عن أبى بكر الواسطى (ت:بعد320هـ) أنه سئل عن الأبد فقال : ( إشارة إلى ترك انقطاع فى العدد ، ومحو الأوقات فى السرمد ) (2) ، والأبدية ثابتة عندهم على معنيين :(9/1)
1- نعت من نعوت اللَّه تعالى : كما ذكر السراج الطوسى (ت:387هـ) والفرق بين الأزلية والأبدية ، أن الأزلية لا بداية لها ولا أولية ، والأبدية لا نهاية لها ولا آخرية (3) ، وعن عمرو بن عثمان المكى (ت:291هـ) ، قال : ( سبحان الصمد ، القديم فى أزل ، لم يزل فى سرمد الأبد ) (4) .
2- أبدية أهل الخلدين : قال عبد اللَّه بن خفيف (ت:371هـ) : ( ويعتقدون أن نعيم أهل الجنة ، باق مع بقاء اللَّه تعالى ، وعذاب أهل الكفر باق ، مع بقاء اللَّه تعالى ) (5) ، فإذا كانت الأبدية من نعوت اللَّه التى ينفرد بها ، فإن ذلك ــــــــــــــــــــ
1. انظر كشف المحجوب ص468 وانظر كشاف اصطلاحات الفنون 3/152 .
2. اللمع ص441 .
3. السابق ص441 .
4. السابق ص441 .
5. سيرة الشيخ الكبير عبد اللَّه بن خفيف ص356 .
لا يمنع اتصاف أهل الخلدين بالأبدية ، لأن أبديتهم باقية بإبقاء اللَّه لها فهى متعلقة بمشيئته ، أما أبديته سبحانه فهى باقية ببقاء اللَّه ، ويروى عن أبى القاسم النصرباذى (ت:367هـ) أنه قال :
( الجنة باقية بإبقائه ، وذكره ورحمته ومحبته لك باق ببقائه ، فشتان بين ما هو باق ببقائه ، وبين ما هو باق بإبقائه ) (1) ، ويعقب القشيرى (ت:465هـ) على قوله ، بأن هذا المعتقد ، هو غاية التحقيق عند الصوفية ، فإن أهل الحق قالوا : صفات ذات القديم سبحانه وتعالى باقيات ببقائه تعالى (2) .
ــــــــــــــــــــ(9/2)
1. الرسالة القشيرية لعبد الكريم القشيرى 1/42 ، وجدير بالذكر ، أن مفهوم الأبدية أثار جدلا كبيرا بين فرق الإسلام وطائفة المعتزلة على وجه الخصوص ، حتى فهمها البعض بطول الأمد ، وليس البقاء اللانهائى ، كما هو اعتقاد الصوفية فى هذه الجزئية حيت يتفقون مع السلف الصالح ، وكلام النصرباذى ، من أجود ما قيل فى تقديم الحل المقنع ، والنابع من الأصول القرآنية لهذه المسألة ، إذ أنه فرق بوضوح بين بقاء صفات الذات وبقاء ما وجد بصفات الفعل ، كالجنة والنار ، ومن ثم ينفرد الله بوصف الأبدية ودوام البقاء ، انظر مقالات الإسلاميين 2/53 ، وما ذكره الشيخ عبد الله بن خفيف فى سيرته عن اعتقاد الصوفية فى هذه المسألة ص356 ، وانظر أيضا ، الاعتبار ببقاء الجنة والنار فى الرد على ابن تيمية وابن القيم القائلين بفناء النار تحقيق الدكتور طه الدسوقى حبيشى ، ص32 وما بعدها وقارن .
2. السابق 1/42 .
*********************************
2- الاتصال
**********************************
صدق الله العظيم الاتصال : ارتباط الأشياء بعضها ببعض ، كاتحاد طرفى الدائرة ، ويضاده الانفصال ، ويستعمل الوصل على نوعين (1) :
(1- الاتصال فى الأعيان ، كقوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ } [هود/70] ، ونحو حديث أسماء رضى اللَّه عنها ، قالت : " سألت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول اللَّه ، إن ابنتي أصابتها الحصبة فامرق شعرها وإني زوجتها ، أفأصل فيه ؟ فقال : لعن اللَّه الواصلة والموصولة " (2) .(9/3)
(2- الاتصال فى المعانى ، وهو الشاهد لمصطلح الاتصال ، كقوله عز وجل : { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون َ } [القصص/51] أى أكثرنا لهم القول موصولا بعضه ببعض ، وقالت خديجة رضي اللَّه عنها لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " واللَّه ما يخزيك اللَّه أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق " (3) ، وعن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنه ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - واصل ، فواصل الناس فشق عليهم ، فنهاهم ، قالوا : ـــــــــــــــــــ
1. المفردات ص525 ، لسان العرب مادة (وصل) 11/726 بتصرف .
2. أخرجه البخارى فى كتاب اللباس 10/391 (5941) .
3. أخرجه البخارى فى كتاب بدء الوحى 1/37 (4) .
إنك تواصل ؟ قال : " لست كهيئتكم إني أظل أطعم وأسقى " (1) .
والوصيلة أطلقت على ما تعارف عليه أهل الجاهلية ، أن أحدهم كان إذا ولدت له شاته ذكرا أو أنثى ، قالوا : وصلت أخاها ، فلا يذبحون أخاها من أجلها ، وهو ما عناه الحق فى قوله تعالى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ } [المائدة/103] (2) ، وقال أبو هريرة - رضي الله عنه - : " الوصيلة الناقة البكر ، تبكر في أول نتاج الإبل ، ثم تثني بعد بأنثى ، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم ، إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر " (3) .
صدق الله العظيم الاتصال فى الاصطلاح الصوفى :
ومصطلح الاتصال فى عرف الصوفية أو الواصل ، موضوع على معنى تجيزه الأصول القرآنية والنبوية ، وإن لم يرد اللفظ فى القرآن والسنة على المعنى الصوفى ، فالواصل عندهم ، هو من كان على صلة بربه ، فلا يرى بسره معنى التعظيم غيره ، ولا يسمع الأمر إلا منه (4) ، وهذا معنى شرعى محمود ، ثابت بمجمل الأصول الداعية إلى صلة العبد بربه .
ـــــــــــــــــــ(9/4)
1. أخرجه البخارى فى كتاب الصوم (1922) 4/211 .
2. فتح البارى شرح صحيح البخارى 8/134 .
3. البخارى فى كتاب تفسير القرآن (4623) 8/132.
4. التعرف ص108 ، وقارن مع ما ذكره عبد الله الأنصارى الهروى فى كتابه منازل السائرين ، وتقسيمه الاتصال إلى ثلاث درجات ، انظر منازل السائرين ، طبعة دار الكتب العلمية سنة 1988م ص122 وما بعدها .
وروى عن يحى بن معاذ الرازى (ت:258هـ) أنه قال عن الواصل : ( من لم يعم عينه عن النظر إلى ما تحت العرش ، لم يصل إلى ما فوق العرش ) (1) .
يعنى لم يلحق ما فاته من مراقبة الذى خلق العرش ، وكلامه يدل على الدعوة إلى التعلق بالله ، وترك ما سواه ومثله وعن أبى يزيد البسطامى (ت:261هـ) قال : ( الواصلون فى ثلاثة أحرف ، همهم فى اللَّه وشغلهم فى اللَّه ، ورجوعهم إلى اللَّه ) (2) ، وينسب إلى أبى بكر الشبلى (ت:334هـ) أنه قال فى إظهار معنى التواضع لمن جاهد فى الوصول إلى الإيمان بربه ، من خلال المراقبة والصدق مع الله : ( من زعم أنه واصل ، فليس له حاصل ، وسبب الحرمان من الوصول والاتصال، انعدام المراقبة ) (3) ، وروى أيضا عن عبد الله بن خفيف الشيرازى (ت:371هـ) أنه قال : ( الواصل ، من اتصل بمحبوبه دون كل شئ سواه وغاب عن كل شئ سواه ) (4) ، ويذكر الكلاباذى (ت:380هـ) فى معنى الاتصال عند الصوفية ، أن ينفصل العبد بسره عما سوى اللَّه (5) .
ويرون كما سبق أن الاتصال يوجب الافتقار فيه ، فلا يظن العبد أنه قد وصل وإلا فليتقين أنه انفصل (6) .
والاتصال بالمعنى الصوفي ، وإن كان قائما فى بدايته على أصول القرآن والسنة التى دعت إلى دوام مراقبة اللَّه عز وجل ، ومتانة الصلة بين العبد وربه ، وأداء ــــــــــــــــــــ
1. اللمع للسراج الطوسى ص433 . 2. عوارف المعارف للسهروردى ص 516 .
3. اللمع ص433 . 4. طبقات الصوفية للسلمى ص466 .
5. التعرف ص108 . 6. اللمع ص433 .(9/5)
العبودية لله على وجه الكمال ، إلا أنه أخذ بمعنى آخر ، فعند الحلاج ، الاتصال يؤدى إلى مفارقة الشريعه ، واعتقادها هوسا كما قال : ( اعلم أن العبد قائم على بساط الشريعة ما لم يصل إلى التوحيد ، فإذا وصل إليه سقطت من عينه وصارت عنده هوسا ) (1) ، والاتصال عند ابن عربى وتلاميذ مدرسته أخذ على معنى ملاحظة العبد عينه ، متصلا بالوجود الأحدى ، بقطع النظر عن تقيد وجوده بعينه وإسقاط إضافته إليه ، فيرى اتصال مدد الوجود ونفس الرحمن إليه على الدوام بلا انقطاع ، حتى يبقى موجودا به (2) ، ويرى عبد الكريم الجيلى أن الاتصال فى دوام الوصلة بلا انقطاع ، ولا فتور حيث تتواتر تجليات الحق تعالى على العبد فى هذا المشهد ، من غير رجوع إلى النفس فالوصال هو لحوق العبد بالله تعالى (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخبار الحلاج نشرة لويس ماسينيون وبول كراوس ص55 .
2. معجم اصطلاحات الصوفية للكاشانى ص50 ، وانظر لطائف الأعلام فى الكشف عن مصطلح اتصال الوجود ، واتصال الانفصال 1/165، وقارن أيضا بين مصطلح اتصال الشهود فى اللطائف الموضع السابق ، وما ذكره عبد الكريم الجيلى فى كتابه المناظر الإلهية عن مصطلح التمكين ص119 ، وانظر جامع الأصول للكمشخانوى أحمد ضياء الدين طبعة دار الكتب العربية سنة1331هـ ص59 ، ص66 فى المقارنة بمصطلح القرب والخلة .
3. المناظر الإلهية ص 160 ، لاحظ معنى وحدة الوجود ، الذى يتبدى فى ثنايا كلام الجيلى إذ يعتبر الوصال ، آفة مشعرة بالغرية والاثنينية ، والأمر منزه عنده عن ذلك فالواصل محجوب عن الوحدة ، إذ لا وصول لأنه لا فراق ولذا يقول : ( واعلم أن =
**********************************
3- الإحسان
**********************************
صدق الله العظيم الإحسان : ضد الإساءة ، والحسن كل مبهج مرغوب فيه ، والإحسان يقال على وجهين (1) :(9/6)
أحدهما : الإنعام على الغير ، كقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ } [النحل/90] ، وقوله سبحانه : { وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْك َ } [القصص/77] ، وكقوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث بن عباس - رضي الله عنه - : " أريت النار ، فإذا أكثر أهلها النساء ، يكفرن ، قيل : أيكفرن باللَّه ؟ قال : يكفرن العشير ، ويكفرن الإحسان ، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ، ثم رأت منك شيئا ، قالت ما رأيت منك خيرا قط ) (2) .
الثانى : الإحسان فى الفعل ، وذلك إذا علم علما حسنا ، أو عمل عملا حسنا كقوله تعالى : { وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْك َ } [القصص/77] ، وقوله : { الَّذِي ــــــــــــــــــــ
= الوصال المعبر عنه بتواتر التجليات الحقية ، لا يكون إلا فى حق الضعفاء المحجوبين وأما الكامل ، فإن زاته منزهة عن تجلى صفات الغير عليها ، بل هو المتجلى فى ذاته بصفاته فالفصال أعلى من الوصال ، لأن الحق إذا فصلك عن تجلياته أبقاك بذاته ) ، انظر المناظر الإلهية ص161 .
1. المفردات ص119 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الإيمان (29) 1/104 .
أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِين ٍ } [السجدة/7] ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - : " إن اللَّه كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح ، وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته " (1) .
وللإحسان معنى اصطلاحى شرعى ، وضع على درجة يبلغها العبد أعلى من درجة الإيمان ، كما نص على ذلك القرآن فى قوله تعالى :(9/7)
{ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين َ } [المائدة/93] ، ففرق اللَّه بين التقوى المبنية على درجة الإيمان والتقوى المبنية على درجة الإحسان ، وقد حدد النبى - صلى الله عليه وسلم - للإحسان معنى دوام المراقبة لله ، فى الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة ، فقال أبو هريرة - رضي الله عنه - : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بارزا يوما للناس ، فأتاه جبريل فقال : ما الإحسان ؟ ، قال : أن تعبد اللَّه كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (2) .
صدق الله العظيم الإحسان فى الاصطلاح الصوفى :
والإحسان فى اصطلاح الصوفية ، هو تهذيب القصد بعلم الشريعة والطريقة فيكون قصده مطابقا للأمر ، مبرأ عن شوب الرياء والغرض ، وإحكامه بالجزم ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الصيد والذبائح (1955) 3/1548 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الإيمان (50) 1/140 .(9/8)
وتوطين النفس على ثبات العزم ، وعدم الفتور فيه ، وتصفيته عن النظر إلى غير المقصود بشهود المعبود ، وعدم الالتفات إلى الغير ولو نفسه ، فيعبد اللَّه معتقدا أنه بمرأى من اللَّه متوجها إليه كأنه يراه بقلبه (1) ، وهذا المعنى إلى هذا الحد قرآنى خالص يدل عليه الأصل النبوى ، الوارد فى حديث جبريل السابق ، إذ جعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعلى درجات الدين بعد الإسلام الإيمان ، ويؤكد السراج الطوسى (ت:387هـ) ، أن معنى الإحسان الوارد فى الحديث ، هو المعنى عند الصوفية وأن معنى قوله : أن تعبد اللَّه كأنك تراه ، يكون بدوام المراقبة والمشاهدة بالإيمان واليقين ، وينكر على من قال بخلاف ذلك ، يقول : ( بلغنى عن جماعة من أهل الشام ، أنهم يدعون الرؤية بالقلوب فى دار الدنيا ، كالرؤية بالعيان فى دار الآخرة ، ولم أر أحدا منهم ، ولا بلغنى عن إنسان ، أنه رأى منهم رجلا له محصول ) (2) ، ثم يبين أن الصوفية أشاروا برؤية القلوب ، إلى التصديق والمشاهدة بالإيمان وحقيقة اليقين ، وأنه ينبغى أن يعلم العبد أن كل شئ رأته العيون فى الدنيا من الأنوار ، أن ذلك مخلوق ، ليس بينه وبين اللَّه تعالى شبه ، وليس ذلك صفة من صفات اللَّه ، بل جميع ذلك مخلوق (3) .
ويذكر الكاشانى (ت:735هـ) للإحسان فى عرف الصوفية ، معنى مغايرا للمعنى السابق البسيط ، ينبثق من مدرسة وحدة الوجود ، فالإحسان عندهم ــــــــــــــــــــ
1. معجم اصطلاحات الكاشانى ص286 .
2. اللمع 544 .
3. السابق 545 .
يدل على رؤية الرب نفسه فى عبده ، ورؤية العبد نفسه فى ربه ، كالمرآة يرى الناظر فيها نفسه ، والمحسن هو الذى يرى الحق موصوفا بصفات العبد ، فيراه العبد وراء حجب صفاته بعين صفاته ، لأنه فى عين اليقين ، فلا يرى الحقيقة بالحقيقة ، لأنه تعالى هو الرائى وصفه بوصفه (1) .(9/9)
يقول الكاشانى : إنما يكون الرائى هو الحق ، ولا يكون للعبد أثر حيث يبسلبه أثار أوصافه عنه بأوصافه ، بأنه الفاعل فيه منه لا هو ، وإذا استحال أن ترى شيئا سواه غير قائم به ، فالكل تعيناته ، فلا شئ يوصف مما سواه ، بأنه عينه أو أنه غيره (2) ، فنقلوا المعنى من رؤية المراقبة ، إلى رؤية الله متعينا فى جميع الأشياء (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. معجم اصطلاحات الصوفية للكاشانى ص53 ، وكلام الكاشانى فيه إجحاف وتنقيص لحق أوائل الصوفية ، حيث عمم الاصطلاح على الكل ، لأن معنى الإحسان عندهم يتوافق مع الأصول القرآنية والنيوية ، بل انكروا على من قال بخلافه كما حكى ذلك السراج الطوسى فيما تقدم .
2. مثل المرآة من الأمثلة المتكررة للتعبير عن فلسفة وحدة الوجود ، وفكرته أن الله خلق العالم كمرآة يرى فيها نفسه حتى يعرف ، لأن من ير نفسه بمرآه ، أكمل ممن يراها بغيرها فالإنسان والعالم عند أصحاب الوحدة ، صورة للحق حقيقة لا خيال ، كما أن صورة المرآة حقيقة معبرة عن ذات المرئ ، وعلى ذلك فإن الله يرى نفسه فى الكافر والمؤمن وصاحب الوحدة يرى الكافر ربا والمؤمن كذلك ، ويرى الصوفى نفسه ربا باعتبار ظهر الحق فيه وهكذا تبدو هذه الزندقة ، قارن فصوص الحكم ص15:11 .
3. لطائف الإعلام 1/178 ، وانظر السابق ص53 .
**********************************
4- الإخبات
**********************************
صدق الله العظيم الإخبات : الخبت المتسع المطمئن من بطن الأرض ، وأخبت الرجل ، قصد الخبت أو نزله ، ثم استعمل الإخبات استعمال اللين والتواضع ، قال تعالى : { فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ } [الحج/34] أى المتواضعين وقال أيضا : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [هود/23] (1) .(9/10)
والإخبات فى قوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ الَّذِين َ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } [الحج/54] ، معناه أن القلوب تلين وتخضع ونرى معنى آخر يتسم بالتعقيد الذى لا يوجد عند الأوائل ، ويخرج من المدرسة السابقة ، يذكره الجيلى (ت:829هـ) ، فيقول : ( الإحسان أن يتحد البصر بالبصيرة ، فيشهدك الحق تعالى أنوار عظمته ساطعة على الوجود ، فيأخذك الصعق ، فحينئذ تبدو عليك شموس الجلال .. فتشهدها ببصيرتك كأنك ، ناظر إليها بالبصر لاتحادها بقوة أحدية نور اليقين ) (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. المناظر الإلهية ص181 ، ويرى الجيلى أن الإحسان على المعنى الذى ذكره هو ، فيه آفة معيبة ، وهو معنى اتحاد البصر بالبصيرة ، لأن ذلك حجاب ، والشيئان لا يصيرا شيئا واحدا إلا فى المجاز ، المرجع نفسه ص181 .
2. لسان العرب 2/27 ، القاموس المحيط 1/54 .
وتخشع وهو قريب من الهبوط فى قوله : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [البقرة/74] (1) ، ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ابن عباس : " رب اجعلني لك ، شكارا لك ، ذكارا لك ، رهابا لك ، مطواعا لك ، مخبتا إليك ، أواها منيبا " (2) .
صدق الله العظيم الإخبات فى العرف الصوفى :
الإخبات فى العرف الصوفى يعنى السكون إلى اللَّه تعالى ، كما ورد فى قوله : { وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ } ، أى سكنوا إليه واطمئنوا (3) ، ومما ذكر لهم فى الإخبات قول الحكيم الترمذى (ت:320هـ) وهو يعدد أوصاف القلب ، وأعمال القلوب ، ويجعل الإخبات محله القلب :
( القلب هو معدن التقوى ، والسكينة والوجل ، والإخبات واللين والاطمأنينة والخشوع ، والتمحيص والطهارة ) (4) ، واستدل لذلك بالآية : { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } [الحج/54] (5) .(9/11)
ــــــــــــــــــــ
1. انظر المفردات ص141.
2. أخرجه الإمام الترمذى فى كتاب الدعوات 5/554 (3551) وقال : حديث حسن وأبو داود 2/83 (1510) وأحمد فى المسند 1/227 (1997 ) .
3. لطائف الإعلام 1/180،181 .
4. بيان الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللب ص54 ، وانظر فى التعرف على موقع القلب وأعمال القلوب ، موقف الصوفية من العقل حتى نهاية القرن الرابع الهجرى رسالة ماجستير ، د/محمد عبد الله الشرقاوى ، دار العلوم جامعة القاهرة 268سنة 1978م .
5. السابق ص54 .
ويذكر القشيرى (ت:465هـ) الإخبات ، على المعنى الوارد فى الأصول القرآنية ، ويفسره باستدامة الطاعة بشرط الاستقامة وبقدر الاستطاعة ، ومن أمارات الإخبات ، كمال الخضوع بشرط دوام الخشوع ، وذلك يكون بإطراق السريرة ، ويستشهد لذلك بقوله تعالى : { فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ } [الحج/34] (1) ، ويعرفه مرة أخرى بأنه التخشع لله بالقلب بدوام الانكسار ، ومن علامته الذبول تحت جريان المقادير بدوام الاستغاثة بالسر لقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [هود/23] (2) .
وينصف الكاشانى (ت:735هـ) ، عنما يجعل الإخبات عند الصوفية على أنواع (3) ، وإن كان ذلك معبرا عن تطور المعنى الدلالى للمصطلح عبر مراحل التصوف المختلفة ، وهى فى أغلبها متوافقة مع الأصول القرآنية ، فذكر منها :
1- إخبات العوام : وهو سكون النفس إلى الرجوع عن المخالفات ، وهو سكون البدايات .
2- إخبات المتوسطين : وهو الخلاص من تردد الخواطر ، بين الإقبال إلى اللَّه والإدبار عنه ، والدوام على الحضور والخدمة .
ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإشارات 2/542 ، وانظر حقائق التفسير للسلمى 1/360 وقارن .
2. السابق 2/130 .
3. معجم الكاشانى ص214 .(9/12)
3- إخبات الخواص : وهو أن يكون الإنسان ممن يستوى عنده المدح والذم مع لائمته لنفسه ، وعماه عن نقصان الخلق عن درجته ، لإقامته على دوام العذل لنفسه والعذر لغيره .
4- إخبات البالغين : وهو إخبات من انقطع عن نفسه ، فضلا عن باقى الخلق لاستغراقه فى حضرة الحق (1) .
وهذا التقسيم فضلا عن كونه يفتقر إلى الدليل ، إلا أن إخبات البالغين مخالف للأصول القرآنية ، لكونه يخرج من مشكاة الفناء الحلولى .
**********************************
5- الاختيار
**********************************
صدق الله العظيم الاختيار : طلب ما هو خير وفعله ، قال تعالى : { وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا } [المزمل/20] (2) .
والاختيار يقال لكل فعل يفعله الإنسان لا على سبيل الإكراه ، كقوله تعالى : { وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُون َ } [الواقعة/20] ، وكما روى عن عبد اللَّه بن عمر رضي
ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص214 .
2. المفردات ص161 ، وانظر الألفاظ المختلفة في المعاني المؤتلفة ، لأبى عبد الله محمد بن عبد الملك بن مالك الطائي الجياني ، تحقيق دكتور محمد حسن عواد ، دار الجيل ، بيروت سنة 1411هـ ، ص255 .
اللَّه عنهما ، قال : " قسم عمر خيبر ، فخير أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أن يقطع لهن من الماء والأرض ، أو يمضي لهن ، فمنهن من اختار الأرض ، ومنهن من اختار الوسق ، وكانت عائشة اختارت الأرض " (1) .(9/13)
والاختيار قد يقال لما يراه الإنسان خيرا وإن لم يكن خيرا ، كقول اللَّه تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُون َ } [الجمعة/9] ، وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، أن عبد اللَّه بن أبي بن سلول لما توفي ، جاء ابنه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا رسول اللَّه ، أعطني قميصك أكفنه فيه ، وصل عليه واستغفر له فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - قميصه ، فقال : آذني أصلي عليه فآذنه ، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر - رضي الله عنه - ، فقال : أليس اللَّه نهاك أن تصلي على المنافقين ، فقال : أنا بين خيرتين ، قال : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ َ } [التوبة/80] ، فصلى عليه فنزلت : { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِه ِ } [التوبة/84] (2) .
والخيرة : الحالة التى تحصل للمستخير والمختار ، كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [الأحزاب/36] ، وكقوله سبحانه : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَة ُ } [القصص/68] ، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، قال : " خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - ــــــــــــــــــــ
1. البخارى فى كتاب المزارعة (2328) 5/14 .
2. البخارى فى كتاب الجنائز (1269) 4/165 .(9/14)
فقال : إن اللَّه خير عبدا بين الدنيا ، وبين ما عنده ، فاختار ما عند اللَّه ، فبكى أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ، فقلت في نفسي : ما يبكي هذا الشيخ ، إن يكن اللَّه خير عبدا بين الدنيا ، وبين ما عنده ، فاختار ما عند اللَّه ؟ فكان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - هو العبد ، وكان أبو بكر أعلمنا " (1) .
والاستخارة : طلب الخير والتوجيه إليه ، وقد روى عن جابر بن عبد اللَّه - رضي الله عنه - قال : " كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها ، كما يعلمنا السورة من القرآن ، يقول : إذا هم أحدكم بالأمر ، فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللَّهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللَّهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي ، في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، فاقدره لي ويسره لي ، ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي ، في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ، ثم أرضني ، قال : ويسمي حاجته " (2) .
صدق الله العظيم الاختيار فى الاصطلاح الصوفى :
والاختيار فى الاصطلاح الصوفى يرد على معنيين ، أحدهما له أصول قرآنية ونبوية ، والثانى لا أصل له :
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الصلاة (466) 7/665.
2. أخرجه البخارى فى كتاب الجمعة (1166) 4/58 .
الأول : الاختيار الذى يعنى اختيار العبد لما أراده اللَّه شرعا ، فليس للعبد إرادة مخالفة لإرادة اللَّه الشرعية ، وللصوفية فى هذا المعنى ، ما روى عن يحى بن معاذ (ت:258هـ) أنه قال : ( ما دام العبد يتعرف يقال له لا تختر ، فإنك لست بأمين فى اختيارك حتى تعرف ، فإذا عرفت ، يقال له : إن شئت فاختر وإن شئت فلا تختر ، فإنك إن اخترت فبنا ، فيما تختار وفيما لا تختار ) (1) .(9/15)
والمعنى : ما دام العبد فى طريق المعرفة باللَّه ، فهو مأمور أن يختار اختيار اللَّه له بالمجاهدة فى اتباع الشرع ، ومن ثم إذا داوم على ذلك سوف تتكيف إرادته على مراد اللَّه واختياره ، وعند ذلك يسمع بسمع اللَّه ، ويرى بنور اللَّه ، فأى شئ يختاره وقتها ، سيكون اختيارا من اللَّه ، لأنه صديق يدور فى دائرة المجال الشرعى والكونى معا ، أو بعنى آخر تتفق إرادة العبد ، مع الإرادة الشرعية والكونية معا ، وهذا المعنى يشهد له أيضا ، ما روى عن أبي يزيد البسطامى (ت:261هـ) لما سئل من هو الأمير ؟ ، فقال : ( من لم يبق له اختيار وصار اختيار الحق له اختيارا ) (2) ، وقوله أيضا لما سئل ماذا تريد ؟ ، قال : ( أريد ألا أريد ) (3) ، فالاختيار فى اصطلاح الأوائل منهم ، إشارة إلى ما يختاره اللَّه ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص429 وانظر نوادر الأصول للترمذى ص89 وما بعدها حيث يبين أن اختيار العبد الذى يعود عليه بالخير يكون فى اختيار الله له وانظر ختم الأولياء ص279 .
2. كشف المحجوب ص470 ، وانظر فى تفصيل كلام أبى يزيد مفهوم الحرية عند صوفية القرنين الثالث والرابع ، رسالة ماجستير للمؤلف ، كلية دار العلوم (824) 1995م ص 240 .
3. الرسالة 2/473 ، وانظر قوت القلوب للمقارنة بكلام المكى 1/128 .
للعبد فى دنياة من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة ، والعبد يختار ذلك بعناية اللَّه له ، حتى يختار باختار اللَّه له ، لا باختيار نفسه (1) ، وهذا العبد الذى يختار اختيار اللَّه الشرعى على الدوام ، يجتمع فيه نوعان من اختيار اللَّه ، الأول هو الاختيار الشرعى ، والثانى هو الاختيار الكونى .
الثانى : وهو المعنى المخالف للأصول القرآنية والنبوية ويرد على وجهين :(9/16)
1- اختيار اللَّه للعبد الاختيار الكونى مع تجاهل العبد العمل بالأسباب ، وهو باب التواكل والاحتجاج بالقدر على نفى الأسباب ، ومن ذلك ما روى عن الجنيد بن محمد (ت:297هـ) أنه أصابته الحمى فقال : يا إلهى عافنى ، فسمع من قال له فى قلبه : من أنت حتى تتدخل فى ملكى ، وتجعل لك خيرة ، إننى أدبر ملكى خيرا منك ، فاختر ما اخترت بدلا من أن تتقدم إلى باختيارك (2) .
وقد استدل الهجويرى (ت:465هـ) بذلك ، على أن الاختيار عند الصوفية يعنى أنهم يختاروا اختيار الحق على اختيارهم ، أى أنهم فى سلبية تامة تجاه ما يبتليهم به الحق من الخير والشر من صحة ومرض وغنى وفقر (3) ، ومعلوم أن ذلك مخالف للأصول القرآنية والنبوية ، فالدعاء من الأسباب العظيمة فى جلب ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص429 ، وانظر الزيد عن هذه العلاقة فى طريق الهجرتين لابن القيم ص216 .
2. كشف المحجوب ص470 وانظر فى معرفة الاختيار على مستوى الفعل الإنسانى سلبا أو إيجابا ، دراسات فى الفكر العربى لماجد فخرى ص78 وما بعدها .
3. لعل الهجويرى يعنى أن هذه المرحلة من الاختيار يسبقها إيجابية العبد فى التزام المجاهد والاتباع وإن كان كلام الجنيد لا يسعفه ، انظر السابق ص470 .(9/17)
الخير ودفع الشر ، وقد أمرنا اللَّه به ، فقال تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم ْ } [غافر/60] ، وفى حديث أبى مالك الأشجعي - رضي الله عنه - ، كان الرجل إذا أسلم علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ، ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات : " اللَّهم اغفر لي وارحمني ، واهدني وعافني وارزقني " (1) ، ومن حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى - رضي الله عنه - ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو ، وسلوا اللَّه العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ، ثم قال : اللَّهم منزل الكتاب ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم " (2) وعن عبد اللَّه بن عمر - رضي الله عنه - ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أمر إذا أخذ الرجل مضجعه أن يقول : " اللَّهم خلقت نفسي وأنت توفاها لك مماتها ومحياها إن أحييتها فاحفظها وإن أمتها فاغفر لها اللَّهم إني أسألك العافية " (3) .
2- المعنى الثانى للاختيار المخالف للأصول القرآنية والنبوية ، هو كون اختيار العبد ، عين اختيار الرب ، كما ذكره ابن عربى فى الفصوص عند قوله تعالى : { مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [هود/56] .
قال : ( فكل ماش ، فعلى صراط الرب المستقيم ، فهو غير المغضوب عليهم من هذا الوجه ولا الضالين .. ، وقال تعالى : كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به .. فذكر أن هويته ، هى عين الجوارح التى هى عين العبد ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الذكر والدعاء (2697) 4/2073 .
2. أخرجه البخارى فى الجهاد (2966) 6/140 .
3. أخرجه مسلم فى كتاب الذكر والدعاء (2712) 4/2083 .(9/18)
فالهوية واحدة ، والجوارح مختلفة ) (1) ، وقد ذكر الجيلى (ت:829هـ) أيضا أن اختيار العبد المخلوق فينا بالإرادة ، هو عين اختيار الحق وإرادته ، فإرادة العبد واختياره ، هو عين الإرادة القديمة (2) .
ومن ثم سواء كان العبد مؤمنا أو كافرا ، على شاكلة موسى - عليه السلام - أو فرعون فالجميع عند هؤلاء الصوفية على صراط مستقيم ، واختيار الجميع هو بعينه اختيار الله ، ولا شك ان ذلك هدم لدين الله ، وضياع لمعانى التكليف ، وتبديد للعلة التى خلق الله من أجلها الدنيا والآخرة .
ــــــــــــــــــــ
1. فصوص الحكم ص149 وما بعدها ، وانظر أيضا لابن عربى شجرة الكون ، تحقيق رياض العبد الله ص49 وما بعدها ، ورأى ابن عربى واضح فى أنه لا يفرق فى الاختيار بين الخير والشر ، لا بالمعنى الشرعى ولا بالمعنى الكونى ، ويشاكله أيضا ابن سبعين حيث يرى أن الخير والشر ، لا فرق بينهما عند المحقق من حيث الحقيقة الوجودية لأن الوجود قضية واحدة ، وهو الخير المطلق ، وإننا بمحض الوهم نفرق فى عالم الظواهر بين الخير والشر ، انظر ابن سبعين وفلسفته الصوفية للدكتور أبى الوفا التفتازانى ص193 ، وقارن أيضا مع رأى فريد الدين العطار فى الاختيار ، انظر كتابه منطق الطير وادى العشق ص185 .
2. الإنسان الكامل 1/48 ، وانظر فى مقارنة رأى ابن عربى مع الجيلى ، ومدى اختلافهما ، معجم المصطلحات الصوفية للدكتورة سعاد حكيم ص441 ، وللمقارنة بين الاختيار من الوجة الكلامية والوجهة الفلسفية الصوفية ، انظر مشكلة الخير والشر بين المعتزلة والأشاعرة ، رسالة دكتوراة ، مخطوط بكلية دار العلوم ، جامعة القاهرة ، رقم (712) سنة 1975م .
**********************************
6- الإخلاص
**********************************(9/19)
صدق الله العظيم الإخلاص : الخالص كالصافى ، إلا أن الخالص هو ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه ، كقول اللَّه تعالى : { نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } [النحل/66] ، والصافى قد يقال لما لا شوب فيه (1) ، وفى حديث عبد اللَّه بن عمرو - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أربع من كن فيه ، كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن ، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها .. " (2) .
وخلصوا فى قوله تعالى : { فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا } [يوسف/80] ، أى انفردوا خالصين عن غيرهم ، وإخلاص المسلمين أنهم أفردوا اللَّه بعبادتهم ، لا يشركون به ، وتبرأوا مما يدعيه اليهود من التشبيه ، والنصارى من التثليث ، قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء َ } [البينة/5] ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا اللَّه ، خالصا من قبل نفسه " (3) ، فحقيقة الإخلاص التبرى عن ــــــــــــــــــــ
1. المفردات ص154 ، ولسان العرب 7/26 ، والقاموس المحيط 1/796 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الإيمان (34) 1/111 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب الرقاق (6570) 11/426 .
كل ما دون اللَّه تعالى ، ومن دعائه - صلى الله عليه وسلم - ، من حديث عمار بن ياسر رضى اللَّه عنه : " وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وكلمة الإخلاص في الرضا والغضب " (1) ، وركب عكرمة بن أبي جهل - رضي الله عنه - البحر ، فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة : أخلصوا ، فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا ، فقال عكرمة : واللَّه لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره (2) .
صدق الله العظيم الإخلاص فى الاصطلاح الصوفى :(9/20)
والإخلاص فى اصطلاح الصوفية ، باق فى معظم أقوالهم على المعنى الوارد فى الأصوله القرآنية والنبوية ، وكل يجتهد فى شرح معناه ، فمن ذلك ما روى عن حاتم الأصم (ت:237هـ) أنه قال : ( الإخلاص يعرف بالاستقامة ) (3) وكأنه يعنى ، أن دوام الاستقامة باعثها الإخلاص ، ولكن ذلك لا يحترز من النفاق ، فالمنافق قد يدعى الاستقامة فى الظاهر ، وقلبه خلو من الإخلاص (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه النسائى فى كتاب السهو (1306) ، وقال الشيخ الألبانى : صحيح 3/55 وأحمد فى المسند (18351) 4/264 ، وابن حبان فى صحيحه (1971) 5/304 .
2. أخرجه النسائى فى كتاب تحريم الدم (4067) وقال الألبانى : صحيح 7/105 .
3. طبقات الصوفية ص183 ، وقد صرح الشعرانى ، أيضا أن المريد لا يكون صادقا مخلصا إلا إذا كان صادقا فى الاستقامة على حدود الشرع ، انظر كشف الغمة عن جميع الأمة لعبد الوهاب الشعرانى ، طبعة الكستيلية سنة 1281هـ 1/10 ، وانظر أيضا فى هذا المعنى ، شذرات الذهب لابن العماد 8/374 .
4. ولذا كان تعبيره - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( ألا إن فى الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله =
وقد بين الحارث بن أسد المحاسبى (ت:243هـ) دقائق الإخلاص فى القول والعمل ، فى مقابل الرياء ، وأفاض فى ضرب الأمثلة التى تكشف المعانى القرآنية والنبوية وتوضحها ، يقول : ( إن الإخلاص منزلة الأقوياء ، والخاصة من العابدين .. ووصف اللَّه عز وجل قلوب المخلصين ، وأن الرياء إرادة لغير اللَّه عز وجل فرفضوه لله ، فقال : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا } [الإنسان/9] ) (1) .
وروى عن أبى حفص النيسابورى (ت:270هـ) ، أنه سئل عن العاقل ؟ فقال : ( المطالب نفسه بالإخلاص ) (2) ، وينسب إلى الجنيد (ت:297هـ) :
ــــــــــــــــــــ(9/21)
= وإذا فسدت فسد الجسد كله ) تعبيرا صادقا صحيحا ، فى حديث حيح ، رواه البخارى (52) 1/153 ، ولكن لم يصح ما نسب إليه مما اشتهر على ألسنة الناس : ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد ، فاشهدوا له بالإيمان ) أخرجه الترمذى (3093) وضعفه الشيخ الألبانى 5/277.
1. الرعاية لحقوق الله ص129، 132 ، ويعتبر كتاب الرعاية للمحاسبى من أدق ما كتب فى معرفة دقائق الإخلاص ، والوقوف على خطرات النفس ، وانظر أيضا للمحاسبى رسالة المسترشدين ، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة ، طبعة مكتبة دار السلام الطبعة الرابعة ، القاهرة سنة1982م ص113 .
2. طبقات الصوفية ص121 ، وانظر الأخلاق بين العقل والنقل ، للدكتور أبى اليزيد العجمى ، فى بيان علاقة الأخلاق بالعقل ، وأترها فى النمو الحضارى ، ص164 وما بعدها .(9/22)
( الإخلاص ما أريد به اللَّه ، من أى عمل كان ) (1) ، وعن رويم بن أحمد البغدادى (ت:303هـ) قال : ( الإخلاص ، ارتفاع رؤيتك من الفعل ) (2) وقد تكلم القشيرى (ت:465هـ) فى وصف الإخلاص ، شارحا ما ورد فى الأصول القرآنية والنبوية ، فقال : ( الإخلاص ، ألا يكون شئ من حركاتك وسكناتك إلا لله ) (3) ، واستدل له بقوله تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } [الزمر/3:2] ، وقوله تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء َ } [البينة/9] ويفسر الدين الخلص ، بأنه ما تكون جملته لله ، فما للعبد فيه نصيب ، فهو من الإخلاص بعيد ، اللَّهم إلا أن يكون بأمره تعالى ، فإنه إذا أمر العبد أن يحتسب الأجر على طاعته ، فإطاعته لا تخرجه عن الإخلاص باحتسابه ما أمره به ولولا هذا لما صح أن يكون فى العالم مخلص ، ومعنى مخلصين له الدين ، أى موحدين لا يشركون باللَّه شيئا ، ومن السنة يستدل للإخلاص بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم ، إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم الجماعة " (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. التعرف ص118 . 2. السابق ص118 .
3. الرسالة القشيرية 2/443 .
4. انظر السابق 2/443 ، والحديث صحيح ، أخرجه الترمذى فى كتاب العلم (2658) 5/34 ، وابن ماجة فى المقدمة (230) 1/84 وقال الشيخ الألبانى : صحيح ، وأحمد فى المسند (13374) 3/225 ، والدارمى فى المقدمة (227) 1/86 ، وغيرهم .
**********************************
7 - الإرادة
**********************************(9/23)
صدق الله العظيم الإرادة : فى الأصل من راد يرود ، إذا سعى فى طلب الشئ ، والإرادة فى الأصل ، قوة مركبة فى قلب الإنسان ، جعلت أسما لشروع النفس إلى الشئ مع الحكم فيه ، بأنه ينبغى أن يفعل أولا يفعل (1) ، وإرادة اللَّه صفة له ، ترد فى القرآن على معنيين :
الأول : بمعنى الحكم المنتهى والقضاء المبرم بأن يفعل أو لا يفعل فمتى قيل : أراد اللَّه كذا ، فمعناه حكم فيه أنه كذا وليس بكذا ، وتسمى الإرادة الكونية وهى بمعنى المشيئة ، كقوله تعالى : { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد ُ } [البروج/16] ، وكقوله : { قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا } [المائدة/17] .
الثانى : إرادة بمعنى الأمر الموجه إلى المكلفين ، كقوله تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } [البقرة/185] ، وكقوله سبحانه : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } [المائدة/6] وهذه الإرادة قد تتخلف ، وقد يعصيها الإنسان .
وقد تذكر الإرادة فى حق المخلوق ، ويراد به القصد والنية والعزم على الفعل ــــــــــــــــــــ
1. المفردات ص206 ، 207 ، ولسان العرب1/362 .(9/24)
كقوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [الإسراء/18] ، ومن حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال : " كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأتي بجمار ، فقال : إن من الشجر شجرة ، مثلها كمثل المسلم ، فأردت أن أقول هي النخلة ، فإذا أنا أصغر القوم فسكت ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هي النخلة " (1) .
صدق الله العظيم الإرادة فى الاصطلاح الصوفى :
والإرادة فى اصطلاح الصوفية تطلق ويراد بها عدة معان :
(1- إرادة العبد ، وهى وصف ذاتى للإنسان ، ومصدر أول وأصيل لكل الحركات والسكنات ، والرغبات والقصود ، وجميع الاختيارات فى أعمال القلوب والجوارح ، قال أبو بكر الكلاباذى (ت:380هـ) : ( وأجمعوا أن اللَّه خلق لهم الاختيار والاستحسان ، والإرادة للإيمان ، والبغض والكراهية والاستقباح للكفر ) (2) ، وهذا المعنى للإرادة معني قرآنى .
(2- إرادة اللَّه وهى على نوعين ، كما سبق فى الأصول القرآنية ، ذكرهما سهل بن عبد اللَّه (ت:293هـ) ، فيما روى عنه ، أنه سئل عن قوله تعالى :
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب العلم (72) 1/198 .
2. التعريف لمذهب أهل التصوف ص62 ، وانظر أيضا للمقارنة برأى بقية أعلام الصوفية آداب المريدين للحكيم الترمذى ص33 ، وقوت القلوب لأبى طالب المكى1/175.(9/25)
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ } [البقرة/34] ،لما أمر إبليس بالسجود ، أراد منه ذلك أم لا ؟ فقال : أراده ولم يرده (1) ، ويشرح أبو طالب المكى (ت:386هـ) كيف فرق سهل بن عبد اللَّه ، بين الوجهين من خلال نوعى الإرادة :
أ - أراده شرعا ، وإظهارا عليه إيجابا وتكليفا ، وهى إرادة اللَّه الشرعية .
ب - ولم يرده منه وقوعا وكونا ، إذ لا يكون فى ملكه إلا ما أراد اللَّه تعالى وهى الإرادة الكونية ، فلو أراد كونه لكان ، ولو أراده فعلا لوقع ، لقوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون ُ } [يس/82] فلما لم يكن ، علم أنه لم يرده ، فقد كان الأمران معا ، إرادته بالتكليف والتعبد ، وإرادته بأن لا يسجد ، فلم يقدر أن يمتنع من ألا يسجد ، كما لم يقدر من أن يمتنع أن يؤمن (2) ، وهذا المعنى قرآنى أيضا .
(3- الإرادة ، بمعنى الجانب الإيجابى فى مجاهدة الصوفى نفسه ، للتخلص من رعونات النفس وعيوبها ، وعزمه على الترقى فى سلم المقامات والأحوال ، وهى ــــــــــــــــــــ
1. قوت القلوب 1/128 .
2. السابق 1/218 ، وكلام سهل بن عبد الله فى هذا الموضوع ، معبر بتمامه عن عقيدة الإسلام فى العلاقة بين الإرادة الإلهية والإرادة الإنسانية ، وحل مقنع لإفراد الله بالفاعلية وعلاقته بحرية العباد فى أكسابهم ، انظر فى المقارنة : القضاء والقدر فى الإسلام للدكتور فاروق الدسوقى 1/359 وما بعدها ، وانظر له أيضا : مشكلة الحرية عند الفلاسفة والصوفية فى الإسلام ، دكتوراه بمكتبة دار العلوم (762) سنة 1978م .(9/26)
عندهم بدء طريق السالكين إلى اللَّه ، واسم لأول منزلة القاصدين إليه ، وتعنى حبس النفس عن مراداتها ، والإقبال على أوامر اللَّه ، والرضا بموارد القضاء عليه (1) ، وقال عبد الله بن خفيف (ت:371هـ) : ( حقيقة الإرادة ، استدامة الكد وترك الراحة ) (2) ، وقد استدل أبو القاسم القشيرى (ت:465هـ) لمعناها عند الصوفية ، بقوله تعالى : { وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [الأنعام/52] ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - : " إذا أراد اللَّه بعبد خيرا استعمله ، فقيل : كيف يستعمله يا رسول اللَّه ؟ قال : يوفقه لعمل صالح قبل الموت " (3) ، ويرى أبو القاسم القشيرى ، أن الإرادة وصف للمريد ، لأنها مقدمة كل أمر ، فما لم يريد العبد شيئا ، لم يفعله فلما كان هذا أول الأمر ، لمن سلك طريق اللَّه عز وجل ، سمى مريدا تشبيها بالقصد فى الأمور الذى هو مقدمتها (4) ، وقد عبر الدقاق (ت:410هـ) عن الإرادة ، بقوله : ( لا يكون المريد مريدا ، حتى لا يكتب عليه صاحب الشمال عشرين سنة ) (5) ، وهذا دليل على قوة الإرادة ، وصدق العزم على الطاعة ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة 2/433 ، وانظر طبقات الصوفية ص465 ، والتعريفات ص15 .
2. طبقات الصوفية ص465 .
3. الرسالة 2/433 ، والحديث صحيح ، أخرجه الترمذى فى كتاب القدر (2142) وقال : حديث حسن صحيح ، وقال الشيخ الألبانى : صحيح 4/450 .
4. السابق 2/433 وانظر فى ثناء ابن تيمية على هذا المعنى ، كتاب السلوك ص494 وما بعدها ، والإيمان لابن تيمية ص268 ، و الاستقامة 1/106 .
5. السابق 2/433 .
وإن كان تحديد العشرين سنة تحكم ظاهر لا دليل عليه ، وجميع المعانى السابقة لمصطلح الإرادة عند الصوفية ، لها شواهد فى الكتاب والسنة إلا ما يأتى :(9/27)
(4- الإرادة ، إرادة القدر فقط ، ولا إرادة لغير الله ، وهذا المعنى ذكره السراج الطوسى (ت:387هـ) عن جماعة من الصوفية ، خالفوا الشرع والاتباع حيث لم يضيفوا إلى الخلق ما أضاف اللَّه تعالى إليهم ، ولم يصفوا أنفسهم بالحركة فيما تحركوا فيه ، بل نسبوها إلى اللَّه ، ومن ثم أسقطوا اللائمة عن أنفسهم وادعوا الجبر فى حركاتهم وسكناتهم ، وخالفوا الشرع والاتباع (1) .
(5- الإرادة المخلوقة فينا عين إرادة الحق سبحانه وتعالى ، ولكن لما نسبت إلينا ، وكان الحدوث لازما لوصفنا ، قيل بأن الإرادة مخلوقة ، يعنى إرادتنا وإلا فهى بنسبتها إلى اللَّه تعالى قديمة (2) ، وهذا لعبد الكريم الجيلى (ت:829هـ) وعلى شاكلته أيضا ، ما ذكره الكاشانى (ت:735هـ) ، أن الإرادة هى التخلص عن البقية ، بطمس الاثنينية ، والتحقق بمشيئة اللَّه حال التحقق ببقاء اللَّه ، كما قال : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين } [التكوير/29] ويعنى بذلك تساوى المشيئتين (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص549 ، وهؤلاء يعبرون عن مذهب الجبرية الخالصة قال ابن تيمية : ( وقد أفضى بغلاة الصوفية والمنحرفين منهم ، إلى عدم التمييز بين الأمر الشرعى وبين ما يكون من الأحوال التى تجرى على أيدى الكفار والفجار ، فيشهدون وجه الجمع بقضاء الله وقدره وإرادته العامة ، وأنه داخل فى ملكة ولا يشهدون وجه الفرق بين أوليائه وأعدائه ) انظر التحفة العراقية فى الأعمال القلبية ، المطبعة السلفية سنة 1386هـ . ص51 .
2. الإنسان الكامل 1/48 . 3. معجم الكاشانى ص270،271 .
**********************************
8 - الاستقامة
**********************************(9/28)
صدق الله العظيم الاستقامة : تطلق على الاعتدال ، وعلى الطريق الذى يكون على خط مستوية ، والطاعة فى طريق الحق (1) ، كقوله سبحانه وتعالى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم َ } [الفاتحة/6] ، وعن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - قال :
" خط لنا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خطا ، ثم قال : هذا سبيل اللَّه ، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ، ثم قال : هذه سبل متفرقة ، على كل سبيل منها ، شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [الأنعام/153] " (2) .
واستقامة الإنسان لزومه المنهج المستقيم ، كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [الأحقاف/13] ، ومن سفيان الثقفي - رضي الله عنه - أن رجلا قال : " يا رسول اللَّه ، مرني في الإسلام بأمر ، لا أسأل عنه أحدا بعدك قال : قل آمنت باللَّه ثم استقم " (3)?.
ــــــــــــــــــــ
1. المفردات ص418 ، والقاموس المحيط 1/1487 ، ولسان العرب 12/496 .
2. أخرجه أحمد فى المسند (4131) ، وابن حبان فى صحيحه (6) وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط : إسناده صحيح 1/180 .
3. أخرجه أحمد برقم (18938) ومسلم (38) بلفظ : قل آمنت بالله فاستقم1/65 .
وقال معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من يرد اللَّه به خيرا يفقهه في الدين ، وإنما أنا قاسم ويعطي اللَّه ، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيما ، حتى تقوم الساعة ، أو حتى يأتي أمر اللَّه " (1) .
صدق الله العظيم الاستقامة فى عرف الصوفية :(9/29)
والاستقامة فى عرف الصوفية تعنى عند أغلبهم ، الجمع بين أداء الطاعات واجتناب المعاصى ، والخروج من المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات ، والقيام بأمر اللَّه بالنوافل والمكتوبات (2) ومما ورد عنهم فيها :
ما روى عن حاتم الأصم (ت:237هـ) أنه قال : ( السمة التى يعرف بها الإخلاص ، الاستقامة ) ، كما استدل عليها بالرجاء فقال : ( يعرف الإخلاص بالاستقامة ، وتعرف الاستقامة بالرجاء ) (3) ، والاستقامة لا تعرف بالرجاء وحده ، إنما تعرف بالصدق فى جميع أعمال القلوب ، وأقوال اللسان ، وأعمال الحوارح ، والأجود من كلام حاتم الأصم ، ما ينسب ليحى بن معاذ الرازى (ت:258هـ) قال : ( الاستقامة على ثلاثة أضرب ، استقامة اللسان على كلمة الشهادة ، واستقامة الجنان على صدق الإرادة ، واستقامة الأركان على الجهد فى العبادة ) (4) ، ومثله ما روى عن أبى بكر الواسطى (ت:بعد320هـ) ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7312) 13/ 306.
2. كشاف التهانوى ص1227 .
3. طبقات الصوفية ص94 . 4. كشاف التهانوى ص1227 .
أنه قال : ( الخصلة التى بها كملت المحاسن ، وبفقدها قبحت المحاسن الاستقامة ) (1) ، ويذكر لأبى على الدقاق (ت:410هـ) أن الاستقامة توجب دوام الكرامات ، لقوله تعالى : { وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم ْ مَاءً غَدَقًا } [الجن/16] ولم يقل سقيناهم ، بل قال : أسقيناهم ، يقال : أسقيته إذا جعلت له سقيا فهو يشير إلى الدوام (2) .(9/30)
وقد بين القشيرى (ت:465هـ) حد الاستقامة عند الصوفية ، مهتديا فى تعريفها بالأصول القرآنية والنبوية ، فعرفها بأنها درجة بها كمال الأمور وتمامها وبوجودها حصول الخيرات ونظامها ، ومن لم يكن مستقيما فى حالته ، ضاع سعيه وخاب جهده ، ثم استدل لذلك بقوله تعالى : { وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا } [النحل/92] ، وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } [الأحقاف/13] ، وقد استدل على معنى الاستقامة بحديث سفيان بن عبد اللَّه الثقفى - رضي الله عنه - : " قل آمنت باللَّه ثم استقم " (3) .
والاستقامة تأخذ عند ابن عربى وأتباعه ، مفهوما مخالفا لما سبق ، إذ يجعلها ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة القشيرية 2/442 .
2. السابق 2/441 .
3. السابق 2/441 ، وانظر أيضا فى تعريف القشيرى للاستقامة كتابه منثور الخطاب فى مشهور الأبواب ، نشر الدكتور قاسم السامرائى فى مجلة المجتمع العربى سنة 1969م 18/276 والحديث تقدم تخريجه .
عامة فى الوجود ، فالكل عنده على صراط مستقيم ، لقوله تعالى : { مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [هود/56] ، يقول ابن عربى (ت:638هـ) : ( فما من أحد من العالم إلا على صراط مستقيم ، وهو صراط الرب تبارك وتعالى ) (1) .(9/31)
ويقول عبد الكريم الجيلى (ت:829هـ) : ( الصراط المستقيم ، هو صراط اللَّه الذى هو تنوعات تجليه فى ذاته لذاته ، فمن حصل فى هذا الصراط واستقام على علم كيفية الاتصاف بأسماء اللَّه تعالى وصفاته ، فإنه يتنوع بتجلياتها فى العالم على حسب مقتضى الشأن ) (2) ، وعلى الرغم من كون الشعرانى ينهل من ينابيع ابن عربى فى فلسفته الداعية إلى وحدة الوجود ، إلا أن له كلاما طيبا فى الاستقامة على الشرع ، ربما يخاطب به لسان أهل الظاهر ، فمن الجدير ألا يترك ، يقول : (كل طريق لم يمش فيه الشارع - صلى الله عليه وسلم - فهو ظلام ، ولا يكون أحد ممن يمشى فيه على يقين من السلامة وعدم العطب .. دوروا مع الشرع كيف كان ، لا مع الكشف فإنه يخطئ ، وينبغى إكثار مطالعة كتب الفقه ، عكس ما عليه المتصوفة الذين لاحت لهم بارقة من الطريق ، فمنعوا مطالعة الفقه ، وقالوا إنه حجاب جهلا منهم ) (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. فصوص الحكم ص241 ، وانظر مصطلح الاستقامة عند الكاشانى ، وكيف قسمه إلى استقامة العامة ، واستقامة الخاصة ، واستقامة خاصة الخاصة ، اللطائف 1/200 .
2. المناظر الإلهية ص214 .
3. كشف الغمة عن جميع الأمة للشعرانى 1/10 .
**********************************
9 - الاصطفاء
**********************************(9/32)
صدق الله العظيم الاصطفاء : تناول صفو الشئ ، كما أن الاختيار تناول خيره ، والاصطفاء الاختيار والاجتباء (1) ، قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } [آل عمران/33] وقال : { وَإِذْ قَالَتْ الْمََلائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِين } [آل عمران/42] وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " نِعْمَ الْمَنِيحَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ ، مِنْحَةً وَالشَّاةُ الصَّفِيُّ ، تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِإِنَاءٍ " (2) ، وعنه أيضا قال : " استب رجلان رجل من المسلمين ورجل من اليهود ، قال المسلم : والذي اصطفى محمدا على العالمين ، فقال اليهودي : والذي اصطفى موسى على العالمين " (3) ، وقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " احتج آدم وموسى ، فقال له موسى : أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة ؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي اصطفاك اللَّه برسالاته وبكلامه ، ثم تلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق " (4) ، واصطفاء ــــــــــــــــــــ
1. المفردات ص283 ، ولسان العرب 14/462.
2. أخرجه البخارى فى كتاب الهبة (2629) 5/287 .
3. البخارى فى كتاب الخصومات (2411) 5/815 .
4. البخارى فى كتاب أحاديث الأنبياء (3409) 6/508.
اللَّه بعض عباده ، قد يكون بإيجاده تعالى إياه ، صافيا عن الشوب الموجود فى غيره ، وقد يكون باختياره وبحكمه وإن لم يتعر ذلك من الأول كقوله تعالى :(9/33)
{ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير ٌ } [الحج/75] وقوله : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } [فاطر/32] ، وقوله سبحانه : { وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنْ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَار } [ص/47] ، ومن حديث واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - قال : " سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن اللَّه اصطفى كنانة من ولد إسمعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " (1) .
صدق الله العظيم الاصطفاء عند الصوفية :
والاصطفاء عند الصوفية ، ورد على معنى الاجتباء فى سابق العلم ، كقول الحكيم الترمذى (ت:320هـ) : ( الاصطفاء هو الاجتباء ، فالعبد المجتبى منذ بداية أمره رهن الفيضة الإلهية ) (2) ، وذكره السراج الطوسى (ت:387هـ) ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الفضائل (2276) 4/1782.
2. الحكيم الترمذى ونظريته فى الولاية ص118 ، ويقول أيضا فىكيفية اصطفاء الله للأولياء : ( فكذلك شأن هؤلاء المجذوبين ، يجذبهم الله إليه على طريقه فيتولى اصطفاءهم وتربيتهم ، حتى يصفى نفوسهم الترابية بأنواره ، كما يصفى جوهر المعدن بالنار ، حتى تزول ترابيته ، وتبقى النفس صافية ، وتمتد تلك التصفية حتى إذا بلغوا الغاية من الصفاء أوصلهم إلى أعلى المنازل ، وكشف لهم الغطاء عن المحل ، وأهدى إليهم عجائب من كلماته وعلومه ، وإنما يمتد ذلك ، لأن القلوب والنفوس لا تحتمل =
أن الاصطفاء فى اصطلاح الصوفية هو الاجتباء فى سابق العلم ، لقوله تعالى :(9/34)
{ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ٍ } [الأنعام/87] ، ولقوله : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنْ النَّاس ِ } [الحج/75] ، ويدلل على اصطلاحهم بما ينسبه لأبى بكر الواسطى (ت:بعد320هـ) ، أنه قال : ( ابتداك بنفسه واصطفاك لنفسه ، فمن استعظم ذلك ، حسنت إخطار نفسه فيما بذلت ، فإن قابلته بنفس العناية ، تضمنك ما منه الهداية ) (1) .
ويرى الهجويرى (ت:465هـ) أن الاصطفاء ، هو أن يفرغ الحق قلب المؤمن لمعرفته ، حتى تنشر معرفته صفاءها فيه ، واستدل لذلك ، بقوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَات ِ } [فاطر/32] (2) ، وكل هذه المعانى تتوافق إلى حد ما مع الأصوله القرآنية ، وليس فيها ما يناقضها ، غير أن ابن عربى (ت:638هـ) يذكر معنى آخر ، من منظور نظريته فى وحدة الوجود ، فالاصطفاء عنده يعنى اصطفاء الكل لإظهار الوحدة ، فالكل مصطفى ، سواء كان ظالما أو مقتصدا أو سابقا بالخيرات ، ففى قوله تعالى عن قوم نوح - عليه السلام - : { وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا } [نوح/24] قال : ( أى حيروهم فى تعداد الواحد ، بالوجوه والنسب { وَلا تَزِدْ ــــــــــــــــــــ
= مرة واحدة كل ذلك ، فلا يزال يلطف بهم ، حتى يعودهم احتمال تلك الأهوال التى تستقبلهم من ملكه ) ، انظر ختم الأولياء ص409 .
1. اللمع ص447 .
2. كشف المحجوب ص635 .(9/35)
الظَّالِمِينَ } لأنفسهم من جملة المصطفين ، الذين أورثوا الكتاب ، فهم أول الثلاثة ، فقدمه على المقتصد ، والسابق بالخيرات ) (1) ، فالظالم لنفسه عند ابن عربى من المصطفين ، شأنه شأن المقتصد والسابق بالخيرات ، ويختلفون من حيث النظر إلى الوحدة والكثرة ، ويقول الكاشانى (ت:735هـ) فى شرحه لقول ابن عربى : ( إنما فضل الظالم على الباقين ، لأن المقتصد هو الشاهد للكثرة فى الواحد ، والواحد فى الكثرة ، جامعا فى شهوده بين الحق والخلق والسابق بالخيرات ، هو الذى شهد الكثير واحدا ، فوحد الكثير ، وسار من كثير إلى الواحد ، فهما ليسا فى الحيرة لكونهما معتبرين للخلق مع الحق ، وأما هذا الظالم فلا يرى إلا الواحد ، الحقيقى كثيرا بالاعتبار ، فله الضلال أى الحيرة ولذلك قال بعدها : إلا ضلالا ، إلا حيرة المحمدى ، حين قال فى ربه : زدنى فيك تحيرا ) (2) .
**********************************
10- الاصطناع
**********************************
صدق الله العظيم الاصطناع : الاصطناع المبالغة فى إخراج الشئ وإصلاحه (3) ، وعن أبي ــــــــــــــــــــ
1. فصوص الحكم ص68 ، وانظر تحذير العباد من أهل العناد لبرهان الدين للبقاعى ص218 ، فى مناقشة معنى الاصفاء عند ابن عربى وموقف علماء الإسلام من تلاميذ مدرسته .
2. السابق ص68،69 . 3. المفردات ص287 .
سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان يوم الحديبية ، قال : " لا توقدوا نارا بليل ، فلما كان بعد ذاك قال : أوقدوا واصطنعوا ، فإنه لا يدرك قوم بعدكم صاعكم ولا مدكم " (1) ، ومن حديث عبد اللَّه بن عمر - رضي الله عنه - : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اصطنع خاتما من ذهب ، وجعل فصه في بطن كفه إذا لبسه ، فاصطنع الناس خواتيم من ذهب ، فرقي المنبر ، فحمد اللَّه وأثنى عليه ، فقال : "إني كنت اصطنعته وإني لا ألبسه ، فنبذه فنبذ الناس " (2) .(9/36)
والتصنع تكلف حسن السمت ، فمن حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : " مات ابن لأبي طلحة من أم سليم ، فقالت لأهلها : لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه ، قال : فجاء ، فقربت إليه عشاء ، فأكل وشرب ، فقال : ثم تصنعت له ، أحسن ما كان تصنع قبل ذلك ، فوقع بها ، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها ، قالت : يا أبا طلحة ، أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم ، قال : لا ، قالت : فاحتسب ابنك " (3)
ويفسر الشوكانى معنى قوله تعالى : { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } [طه/41] ، وقوله : { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [طه/39] ، أى لتربى وتغذى بمرأى منى ، يقال : صنع الرجل جاريته إذا رباها ، وصنع فرسه إذا داوم على علفه والقيام عليه ، وذلك ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه أحمد فى المسند (10824) والحاكم فى المستدرك (4336) وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه 3/38 والطبرانى فى الكبير (8855) 5/268 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب اللباس (5876) 10/338 .
3. أخرجه مسلم فى كتاب فضائل الصحابة (2144) 3/1689 وأحمد (12818) .
معروف فى اللغة ، ولكن لا يكون فى هذا تخصيص لموسى ، فإن جميع الأشياء بمرأى من اللَّه ، وخص موسى بما بين اللَّه ، من تكليفه الرسالة فى قوله : { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } ، ولأن الاصطناع لفظ يحمل معنى دوام الرعاية والموالاة التى تؤدى إلى نتيجة مأمولة (1) .
صدق الله العظيم الاصطناع فى الاصطلاح الصوفى :
ومصطلح الاصطناع باق عند الصوفية على أصوله القرآنية ، وهو قريب فى المعنى من مصطلح الاصطفاء ، غير أنهم لم يخصوا موسى ، كما ورد فى القرآن ولكن جعلوه لجميع الأنبياء والصديقين ، كما ورد روى عن أبى سعيد الخراز (ت:279هـ) قال : ( أول باد من الحق ، قد أخفاهم فى أنفسهم ، وأمات أنفسهم فى أنفسهم ، واصطنعه لنفسه ، وهذا أول دخول فى التوحيد من حيث ظهور التوحيد بالديمومية ) (2) .(9/37)
وقال السراج الطوسى (ت:387هـ) : ( الاصطناع مرتبة بها الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين والصديقين ، وقال قوم : الاصطناع خص به موسى من جميع الأنبياء عليهم السلام لقوله تعالى : { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } [طه/41] وقال قوم : هى مرتبة الأنبياء عليهم السلام دون غيرهم ، وسئل بعضهم عن قوله تعالى : { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } [طه/41] ، وقوله : { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [طه/39]
ــــــــــــــــــــ
1. فتح القدير 3/365 .
2. اللمع ص447 .
فقال : ما نجا نبى ولا ولى من محنته ، ولا سلم أحد فى منته من فتنته ) (1) .
ويذكر الهجويرى (ت:465هـ) أن الاصطناع ، أن يهذب اللَّه تعالى العبد بفناء جميع الأنصبة عنه ، وزوال جميع الحظوظ ، ويبدل فيه أوصافه النفسانية حتى يفنى عن نفسه ، بزوال النعت وتبديل الأوصاف ، والمخصوصون بهذه الدرجة هم الأنبياء عليهم السلام دون الأولياء ، وجماعة من المشايخ غيرهم يجيزون هذه الصفة على الأولياء أيضا (2) .
وتكاد تكون الآيات القرآنية ، كقوله جل ذكره : { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } هى محل اهتمام الصوفية بمعنى الاصطناع كقول القشيرى (ت:465هـ) فيها : ( أى بمرأى منى ، ويقال : لا أمكن غيرى بأن يستبعدك عنى ، أو كما يقال أيضا : أحفظك من كل غير ، ومن كل حديث سوى حديثنا ، ويقال : ما وكلنا حفظك إلى أحد ) (3) .
وقال فى قوله تعالى : { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } : ( استخلصتك لى حتى لا تصلح لأحد غيرى ، ولا يتأتى شئ منك غير تبليغ رسالتى ، وما هو مرادى منك ، ويقال : أفردت سرك لى ، وجعلت إقبالك على دون غيرى ، وحلت بينك وبين كل أحد ممن هو دونى ) (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص447 .
2. كشف المحجوب ص634 .
3. لطائف الإشارات 2/456 . 4. السابق 2/458 .(9/38)
وللكاشانى (ت:735هـ) فى كيفية اصطناع اللَّه لموسى - عليه السلام - تأويل باطنى بعيد ، حيث يذكر أن اللَّه أوحى إلى النفس الحيوانية ، أن اقذفى موسى فى تابوت البدن ، أو الطبيعة الجسمانية ، فاقذفيه فى يم الطبيعة الهيولانية ، فليلقه اليم عند ظهور نور التمييز والرشد بساحل النجاة ، يأخذه عدوى ، النفس الأمارة بالسوء الجبارة الفرعونية ، فيلقى عليه اللَّه حبه ، ويجعله محبوبا إلى القلوب وإلى كل شئ حتى النفس الأمارة والقوى المنعطفة عليه ، ولتصنع على كلاءتى وحفظى لك بهذا التدبير .. واستخلصتك لنفسى ، وجعلتك من جملة خواصى ، من بين أهل مدينة البدن ، لما فيك من الخصال الشريفة والأهلية لخلافتى (1) .
**********************************
11- الاعتصام
**********************************
صدق الله العظيم الاعتصام : العصم الإمساك والمنع ، والاعتصام الاستمساك قال : { قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِم َ } [هود/43] ، أى لا شئ يعصم منه ، ومن قال معناه لا معصوم ، فليس يعنى أن العاصم بمعنى المعصوم ، وإنما ذلك تنبيه منه على المعنى المقصود بذلك ، وذلك أن العاصم والمعصوم يتلازمان ، فأيهما حصل حصل معه الآخر ، قال : { مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِم } [يونس/27] (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. تفسيرالقرآن الكريم ، منسوب إليابن عربى ، ولكنه للكاشانى 2/41، 43 .
2. انظر لسان العرب 12/403 ، والمفردات ص336، 337 .(9/39)
والاعتصام التمسك بالشئ ، قال تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا } [آل عمران/103] ، وقال : { وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [آل عمران/101] وعن سفيان بن عبد اللَّه الثقفي - رضي الله عنه - قال : " قلت يا رسول اللَّه حدثني بأمر أعتصم به ؟ قال : قل ربي اللَّه ثم استقم " (1) ، ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن اللَّه يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا ، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل اللَّه جميعا ولا تفرقوا ، ويكره لكم قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال " (2) .
صدق الله العظيم الاعتصام فى الاصطلاح الصوفى :
الاعتصام فى الاصطلاح الصوفى يعنى التمسك بحبل اللَّه ، والطاعة على وفق الكتاب والسنة ، وهذا المعنى هو السائد عند أغلبهم ، ويوافق ما عليه جمهور العلماء من غير الصوفية ، لدلالة الأصول القرآنية والنبوية عليه (3) ، ومن أهم ما ذكره الصوفية فى مصطلح الاعتصام :
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه الترمذى فى كتاب الزهد (2410) وقال : حديث حسن ، وصححه الشيخ الألبانى 4/607 ، وانظر جزء أشيب ، لأبى على الحسن بن موسى الأشيب البغدادى طبعة دار علوم الحديث ، مراجعه خالد بن قاسم الفجيرة ، سنة1990م ،1410هـ حديث رقم (33) ص60 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب الأقضية (1715) 3/1340.
3. معجم اصطلاحات الصوفية الكاشانى ص199 .(9/40)
(1- قال الحكيم الترمذى (ت:320هـ) : ( وسألت عن الاعتصام بحبل الله وعن الاعتصام بالله ، فإن الله تعالى خلق العباد ، وهو أعلم بما يفسدهم وما يصلحهم ، فحرم وأحل .. فلولا القرآن ، ما اهتدى العباد لما يصلحهم مما يفسدهم ، فمن تأدب بأدب القرآن ، فقد اعتصم بحبل الله ، أى امتنع بحبل الله عما يفسده ، وثم للنفس بعد علمه بما فى هذا القرآن تنازع وخصومة ، وتوثب فى هذه المحارم ، ويحتاج العبد إلى أن يعتصم بالله ويجاهد نفسه بقوة ، ما أعطى من العلم والعقل ، والفهم والحفظ ، والذهن والمواعظ ، ويعلم مع ذلك أنه لا ينجيه من ذلك إلا فضل الله ورحمته ، فإذا كان قلبه مع الله فى ذلك ، ولا يلجأ إلى أحد سواه فى الامتناع من ذلك السوء ، كان قد اعتصم بالله عز وجل قال الله تعالى :
{ ? وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ٍ } [آل عمران/101] ) (1).
ــــــــــــــــــــ
1. آداب المريدين وبيان الكسب ص107 ، وقارن كلامه بما ذكره الإمام الفقيه الأصولى المحدث ، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبى فى كتابيه الاعتصام والموافقات ، وما ذكره أيضا فى رسالته التى أرسلها إلى شيخ الصوفية فى عصره ، أبى عبد الله محمد بن عباد النفرى ، يسأله عن مسألة وقعت فى غرناطة ، واختلف فيها أنظار العلماء وكثر فيها القيل والقال ، وهى هل على السالك إلى الله تعالى ، أن يتخذ لزاما شيخ طريقة وتربية ، يسلك على يديه ؟ أم يسوغ له ، أن يكون سلوكه إلى الله تعالى من طريق التعلم والتلقى من أهل العلم ، دون أن يكون له شيخ طريقة ؟ ، فكتب إليه الشيخ ابن عباد رحمه الله ، كلاما نفيسا فى كيفية الاعتصام بالأصول القرآنية والنبوية ، انظر الرسائل الصغرى لابن عباد المطبعة الكاثولكية ، بيروت 1957م ص125:106.(9/41)
وقريبا من هذا المعنى ، ما ذكره أبو القاسم القشيرى (ت:465هـ) أن حقيقة الاعتصام تظهر فى صدق اللجوء إلي اللَّه ، ودوام الفرار إليه واستصحاب الاستغاثة إليه ، والاعتصام بحبله فى التمسك بآثار الواسطة العزيز ، صلوات اللَّه عليه ، وذلك بالتحقق والتعلق بالكتاب والسنة ، قال تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا } [آل عمران/103] (1) .
(2- ويدلل أبو إسماعيل الأنصارى الهروى (ت:481هـ) على الاعتصام بقوله تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا } [آل عمران/103] وقوله سبحانه : { وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُم ْ } [الحج/78] ، ويقول : ( الاعتصام بحبل الله ، هو المحافظة على طاعته ، مراقبا لأمره ، والاعتصام بالله هو الترقى عن كل موهوم ، والتخلص من كل تردد ، والاعتصام على ثلاث درجات :
1- اعتصام العامة بالخير استسلاما وإذعانا ، بتصديق الوعد والوعيد ، وتعظيم الأمر والنهى ، وتأسيس المعاملة على اليقين والإنصاف وهو الاعتصام بحبل الله .
2- اعتصام الخاصة بالانقطاع ، وهو صون الإرادة قبضا ، وإسبال الخلق على الخلق بسطا ، ورفض العلائق عزما ، وهو التمسك بالعروة الوثقى .
ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإشارات 1/265، 267 ، وانظر التوافق بين كلام القشيرى فى الاعتصام وما جاء فى كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ، تحقيق الدكتور ناصر عبد الكريم العقل 1/60 وما بعدها .
3- اعتصام خاصة الخاصة بالاتصال ، وهو شهود الحق تفريدا بعد الاستخزاء له تعظيما ، والاشتغال به قربا وهو الاعتصام بالله (1) .(9/42)
(3- ولابن عطاء الله السكندرى ، كلام نفيس فى مصطلح الاعتصام ، من قبيل التفسير الإشارى أو التذكير بالمثل المقبول ، فيقول : ( اعلم أن هلاك ابن نوح - عليه السلام - ، إنما كان لأجل رجوعه إلى تدبير نفسه ، وعدم رضاه بتدبير الله الذى اختاره لنوح - عليه السلام - ، ومن كان معه فى السفينة ، فقال له نوح - عليه السلام - : { يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ } [هود/42،43] فآوى فى المعنى إلى جبل عقله ، ثم كان الجبل الذى اعتصم به ، صورة ذلك المعنى القائم به ، فكان كما قال الله : { وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِين َ } [هود/43] ، فى الظاهر بالطوفان وفى الباطن بالحرمان ) (2) ، ثم ينبه الصوفى إلى الاعتبار ، إذا تلاطمت عليه أمواج الأقدار ، فلا يرجع إلى جبل عقله الباطل ، لئلا يكون من المغرقين فى بحر القطيعة ، ولكن يرجع إلى سفينة الاعتصام بالله والتوكل عليه { وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم } [آل عمران/101] { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه ُ } [الطلاق/3] (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. التنوير فى إسقاط التدبير لابن عطاء الله السكندرى ، تحقيق موسى محمد على وعبد العال أحمد العرابى ، طبعة مجمع البحوث الإسلامية ص119 .
2. السابق ص121 3. منازل السائرين ص256 .(9/43)
(3- ويعرف الكاشانى (ت:735هـ) الاعتصام بأنه الاحتماء لقوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا } [آل عمران/103] ، أى التجئوا إلى اللَّه بسبب النجاة الذى هو حبل اللَّه ، وهو القرآن المجيد ، ليحميكم اللَّه من وقوع العذاب بكم ، قال تعالى : { وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ٍ } [آل عمران/101] أى يحتمى به ، وهذا الاعتصام يذكره الكاشانى على عدة أنواع :
1- اعتصام العامة : ويكون بالمحافظة على الطاعة ، مراقبة لأمر اللَّه ، بحيث يكون العبد ، إنما يعبد اللَّه لأمره له بالعبادة ، لا لما يرجوه من خير أخروى أو يخافه من شر كذلك ، بل امتثالا لأمره له لا غير ، وهذا هو الاعتصام بحبل اللَّه الذى هو سبب الوصول إليه .
2- اعتصام الخاصة : وهو احتماؤهم بإرادته تعالى عن إرادتهم ، بانقطاع أنفسهم عن غرض الإرادات ، فلا يبقى لهم إرادة ، ويسمى بصون الإرادة المشار إليه فى قول أبى يزيد (ت:261هـ) : ( أريد ألا أريد ) .
3- اعتصام خاصة الخاصة : وهو احتماء العبد بهوية الحق ، عن رؤية إنية يضيفها إلى نفسه ، أو إلى غيره من الخلق .
4- اعتصام خلاصة خاصة الخاصة : وهو أن يستهلك العبد تحت قهر سلطان التجليات الإلهية (1) ، ويراعى فى تقسيم الهروى والكاشانى للاعتصام ، أنه تقسيم اجتهادى ذوقى ، يفتقر إلى الدليل النقلى المقنع ، وخصوصا تقسيم الكاشانى لأن فيه معان كثيرة ، مغايرة للأصول القرآنية والنبوية .
ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام 1/220
**********************************
12- الامتحان
**********************************(9/44)
صدق الله العظيم الامتحان : ورد فى القرآن والسنة على معنى الاختبار والابتلاء ، كقول الله تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } [الحجرات/3] ، وهم الذين يغضون أصواتهم عند رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، قال قتادة فى معنى الآية : " أخلص قلوبهم للتقوى كما يمتحن الذهب بالنار فيخرج جيده من رديئه ويسقط خبثه " (1) .
ومن حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يا معشر قريش لتنتهن ، أو ليبعثن اللَّه عليكم ، من يضرب رقابكم بالسيف على الدين ، قد امتحن اللَّه قلبه على الإيمان " (2) .
وورد الامتحان بمعنى التثبت من صدق النية واستقرار الإيمان ، كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ َ } [الممتحنة/10] وذلك أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، لما صالح قريشا يوم الحديبية ، على أن يرد عليهم من جاءهم من المسلمين ، هاجر إليه النساء فأبى اللَّه أن يرددن إلى المشركين ، وأمر ــــــــــــــــــــ
1. فتح القدير 5/59 ، ولسان العرب 13/401 .
2. أخرجه الترمذى فى كتاب المناقب (3715) وقال : حسن صحيح غريب ، وقال الشيخ الألبانى : ضعيف الإسناد ، لكن الجملة الأخيرة منه صحيحة متواترة 5/634 .
بامتحانهن ، فكان يستحلفن باللَّه ، ما خرجن من بغض زوج ، ولا رغبة من أرض إلى أرض ، ولا لالتماس دنيا ، بل حبا لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ورغبة فى دينه فإذا حلفت كذلك ، أعطى النبى - صلى الله عليه وسلم - زوجها مهرها ، وما أنفق عليها ، ولم يردها إليه (1) .(9/45)
وعن المسور بن مخرمة - رضي الله عنه - قال : " جاءت المؤمنات مهاجرات ، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، ممن خرج إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يومئذ وهي عاتق فجاء أهلها يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرجعها إليهم ؟ فلم يرجعها إليهم لما أنزل اللَّه فيهن : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنّ } ، فمن أقر بهذا الشرط منهن ، قال لها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " قد بايعتك كلاما " (2) .
صدق الله العظيم الامتحان فى عرف الصوفية :
والامتحان فى عرف الصوفية ، اختبار القلوب فى مدى صدقها وثباتها على الإيمان ، وذلك برؤية مواقفها فى ابتلاءات الحق ، روى عن خير النساج (ت:بعد300هـ) أنه دخل بعض المساجد فتعلق به شاب من أصحابه ، فقال له : يا شيخ ، تعطف على فإن محنتى عظيمة ، فقال خير النساج : وما محنتك ؟ فقال : افتقدت البلاء وقورنت بالعافية ، وأنت تعلم أن هذه محنة عظيمة (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق 5/215 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الشروط (2713) 5/368 . 3. اللمع ص448 .
يشير بذلك إلي الأصل القرآنى الوارد فى قوله تعالى : { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [العنكبوت/3:1] (1) ويقول السراج الطوسى (ت:387هـ) : الامتحان ابتلاء من الحق ، يحل بالقلوب المقبلة على اللَّه تعالى ومحنتها انقسامها وتشتتها ، ثم يقسم الامتحان إلى ثلاثة أنواع :
1- امتحان لقوم منهم عقوبة .
2 - امتحان لقوم منهم تمحيص وكفارة .
3 - امتحان لقوم منهم استدعاء الزيادة وارتفاع الدرجة (2) .(9/46)
وكلام السراج الطوسى ، معبر عن المعنى القرآنى بدرجة دقيقة ، ويماثله قول الهجويرى (ت:465هـ) : ( الامتحان فى عرف الصوفية ، يعنى امتحان قلوب الأولياء بأنواع البلايا التى تأتى من الحق تعالى ، من خوف وحزن ، وقبض وهيبة ، وأمثال ذلك لقوله تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيم ٌ } [الحجرات/3] ، وفى هذا درجة عظيمة ) (3) ، ولعلهم استقوا هذه المعانى ، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص448 . 2. كشف المحجوب ص632 ، وانظر الفتح الربانى والفيض الرحمانى ، لعبد القادر الجيلانى ، عناية رجب أحمد علام ، طبعة مصطفى البابى الحلبى 1400هـ ، 1979م المجلس التاسع فى ابتلاء المؤمن ص33 .
3. السابق ص449 ، كتب الدكتور فاروق الدسوقى بحثا عن حقيقة الابتلاء وكيف دار =
يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، فقلت : يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ، قال : نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله ، يقلبها كيف يشاء " (1) .
وقول أنس - رضي الله عنه - : هل تخاف علينا ؟ دليل على أن النبى يتوقع الامتحان من الله ، بتقليب القلب فى أى لحظة ، وأنه على المسلم أن يدعوا الله الإعانة ، قال أبو القاسم القشيرى (ت:465هـ) فى قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } ، هم الذين تقع السكينة عليهم من هيبة حضرته ، أولئك هم الذين امتحن اللَّه قلوبهم للتقوى ، بانتزاع حب الشهوات منها ، فاتقوا سوء الأخلاق وراعوا الأدب ، ويقال هم الذين انسلخوا من عادات البشرية ) (2) .(9/47)
ويقول فى قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } : ( كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يمتحنهن باليمين ، فيحلفن إنهن لم يخرجن إلا لله ولم يخرجن مغايظة لأزواجهن ولم يخرجن طمعا فى مال ، وفى الجملة الامتحان طريق إلى المعرفة ، وجواهر الناس تتبين بالتجربة ، ومن أقدم على شئ من غير تجربة تحسى كأس الندم ) (3) .
ــــــــــــــــــــ
= عليها موضوع القضاء والقدر فى الإسلام وكيف يفسر من خلالها علاقة الإنسان بربه ؟ من خلال استقصاء شامل للأصول القرآنية والنبوية ، وهو بحث قيم نفيس ، انظر القضاء والقدر فى الإسلام ، طبعة دار الدعوة ، الإسكندرية 1982م ، 1/166 وما بعدها .
1. أخرجه الترمذى فى سننه (2140) ، وقال الألبانى : صحيح 4/448 .
2. لطائف الإشارات 3/438 . 3. السابق 3/573 ، وانظر فى تفصيل الامتحان =
**********************************
13- الإنابة
**********************************
صدق الله العظيم الإنابة : الرجوع إلى اللَّه بالتوبة ، وفى الذكر الحكيم : { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ } [الروم /31] ، أى راجعين إلى ما أمر به ، غير خارجين عن شئ من أمره (1) ، والإنابة وردت فى الكتاب والسنة على معنى الرجوع إلى اللَّه تعالى ، بالتوبة وإخلاص العمل ، كقوله تعالى :(9/48)
{ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه ُ } [الزمر/54] ، وقوله سبحانه : { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَاب َ } [ص/24] وفى السنة من حديث بريدة - رضي الله عنه - : " أتقوله مُرَاءٍ يا رسول اللَّه ، فقال : لا ، بل مؤمن منيب ، بل مؤمن منيب " (2) ، ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذى رواه عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - : " اللَّهم لك أسلمت ، وبك آمنت وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ــــــــــــــــــــ
= وعلاقته بالقلوب ، وما جاء فى كيفية تقليب الله للخواطر فى قلب وانبعاثها من نازع الخير أو نازع الشر ، ومن هاتف الخير أو هاتف الشر ، وكيف تحدث العصمة بالهدية من الله ، والخذلان بالعدل والامتحان ، من التراث الصوفى لسهل بن عبد الله ص174 وما بعدها ، وقوت القلوب 1/123 .
1. لسان العرب 1/775 ، وانظر المفردات ص508 ، والمصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي ، تأليف أحمد بن محمد المقري الفيومي ، نشر المكتبة العلمية بيروت 2/629 .
2. أخرجه أحمد فى المسند ( 23002) 5/349 ، وهو حديث صحيح .
ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت " (1) ، ومن حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - أيضا ، يرفعه : " رب اجعلني لك ، شكارا لك ، ذكارا لك رهابا لك ، مطواعا لك ، مخبتا إليك ، أواها منيبا ، رب تقبل توبتي ، واغسل حوبتي ، وأجب دعوتي وثبت حجتي " (2) .
صدق الله العظيم الإنابة فى الاصطلاح الصوفى :
والإنابة فى اصطلاح الصوفية ، وردت على معنى الرجوع من مخالفة الأمر إلى موافقته ، فلا يجدك حيث نهاك ، ولا يفتقدك حيث أمرك (3) ، وقد أورد الكلاباذى (ت:380هـ) فى حدها ، بعض الأقوال التى تتوافق مع المعنى العام للأصول القرآنية أهمها (4) :
1- الإنابة إخراج القلب من ظلمات الشبهات .
2- الإنابة الرجوع من الكل إلى من له الكل .(9/49)
3- الإنابة الرجوع من الغفلة إلى الذكر ، ومن الوحشة إلى الأنس .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الجمعة (1120) 3/5 .
2. أخرجه الترمذى فى كتاب الدعوات (3551) قال أبو عيسى الترمذى : هذا حديث حسن ، وقال الشيخ الألبانى :صحيح 5/554 ، وأخرجه أبو داود (1510) 2/83 والنسائى فى السنن الكبرى (10443) ، 6/155 .
3. لطائف الإعلام 1/248 .
4. التعريفات ص39 .
وقد ذكر الشيخ أبو اسماعيل الأنصارى الهروى (ت:481هـ) تفصيلا قريبا من هذه المعانى ، اجتهد فى تقسيمها بنوع من الدقة ، يمكن اعتبارها من قبيل التفسير ، فقال : الإنابة فى قوله تعالى : { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ ُ } ثلاثة أشياء (1) :
أولا : الرجوع إلى الحق اصلاحا ، كما رجع إليه اعتذارا ، وذلك يكون بالخروج من التبعات ، والتوجع للعثرات ، واستدراك الفائتات .
ثانيا : الرجوع إليه وفاء ، كما رجع إليه إجابة ، وذلك يكون بالخلاص من لذة الذنب ، وبترك استهانة أهل الغفلة ، تخوفا عليهم مع الرجاء ، لنفسك بالاستقصاء فى رؤية علل الخدمة .
ثالثا : الرجوع إليه حالا ، كما رجع إليه إجابة ، وذلك بالإياس من عملك ومعاينة اضطرارك ، وشيم برق لطفك .
والإنابة بالمعنى القرآنى السابق عند بعض الصوفية إنابة العوام ، أما ما يتلوها من مراتب الإنابة ، فهى للخواص على اختلاف درجاتهم ، فإنابة الخاصة : هى الرجوع من مخالفة الإرادة الإلهية إلى موافقتها ، بحيث لا يختلج فى القلب إرادة شئ من الأشياء ، لعلمه أنه لا يقع إلا ما أراد اللَّه وقوعه (2) ، يقول الكاشانى : ( وهذا أحد الوجوه التى يحمل عليها قول أبى يزيد : أنا المراد وأنت المريد ، إذ لا مريد سواه ، فالكل مراد له تعالى ، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. منازل السائرين للهروى ص178 .
2. لطائف الإعلام 1/248 ،249 . 3. السابق 1/249 .(9/50)
ثم إنابة خاصة الخاصة : وهى ألا يرى مع اللَّه سواه (1) ، ثم إنابة خلاصة خاصة الخاصة : وهى ألا يرى فيما يقال إنه سواه ، أنه شئ سوى مراتب تجلياته (2) ثم إنابة صفاء خلاصة خاصة الخاصة : ويعرف الكاشانى حدها عندهم بقوله : ( تمكنك عند إنابتك إليه ، بحيث لا تنقهر تحت سلطنة التجلى ، عن رؤية المجلى باستهلاكك فى نور المتجلى ، لئلا يستهلك أحكام المراتب ، فيفوتك الخير الكثير ، الذى هو معرفة الحكمة فى أحكام مواقع تلك التجليات ، والقيام بحقوقها ) (3) .
ولا شك أن هذا التقسيم في مثل هذه المتواليات الصوفية ، جرأة عجيبة ومبالغة غريبة فى التصنيف الذى يعوزه الدليل ، لا سيما بمثل هذا الكلام الذى يخرج من دلو الوحدة ، كما أن الإنابة من أعمال القلوب وهى غيب ، فإن قسمها الكاشانى بناء على إحساسه الإيمان ، فما الدليل على تعميمه عند الصوفية ؟ ، ويمكن أن نلحظ فى مثل هذه التقسيمات ،مدى التغير الدلالى للمصطلح الصوفى ، عبر مراحل التطور فى حركة التصوف ، من معان قريبة للأصول القرآنية والنبوية فى مراحله الأولى ، إلى معان مركبة معقدة تفتقر إلى الدليل النقلى أو العقلى .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق 1/249 .
2. السابق 1/249 وهذا المعنى والذى يليه نابع من معين وحدة الوجود .
3. السابق 1/249 ، انظر فى معانى النيابة عند ابن عربى ، المعجم الصوفى للدكتورة سعاد حكيم ص1077 .
**********************************
14- الإيثار
**********************************
صدق الله العظيم الإيثار : تفضل الغير على النفس ، قال تعالى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [الحشر/9] ، أى يفضلون غيرهم عليهم ، وقوله تعالى عن إخوة يوسف : { قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا } [يوسف/91] ، أى فضلك .(9/51)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " ستكون بعدي أثرة ، وأمور تنكرونها ، قالوا يا رسول اللَّه : كيف تأمر من أدرك منا ذلك ؟ قال : تؤدون الحق الذي عليكم ، وتسألون اللَّه الذي لكم " (1) ، أى يستأثر بعضكم على بعض ، والاستئثار التفرد بالشئ من دون غيره (2) .
وقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، لأبي هريرة - رضي الله عنه - : " عليك السمع والطاعة ، في عسرك ويسرك ، ومنشطك ومكرهك ، وأثرة عليك " (3) ، وعنه - رضي الله عنه - أيضا : " أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فبعث إلى نسائه ، فقلن : ما معنا إلا الماء ، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : من يضم أو يضيف هذا ؟ ، فقال رجل من الأنصار أنا : فانطلق به إلى امرأته فقال : أكرمي ضيف رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : ما عندنا إلا قوت ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الإمارة (1843) 3/1467 .
2. لسان العرب 4/7 ، والمفردات ص 9 ، 10 ، ومختار الصحاح ص2 .
3. أخرجه مسلم فى كتاب الإمارة (1836) 3/1462 .
صبياني ، فقال : هيئي طعامك ، وأصبحي سراجك ، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء ، فهيأت طعامها ، وأصبحت سراجها ، ونومت صبيانها ، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته ، فجعلا يريانه أنهما يأكلان ، فباتا طاويين ، فلما أصبح غدا إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ضحك اللَّه الليلة ، أو عجب من فعالكما فأنزل اللَّه : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُون َ } " (1) .
صدق الله العظيم الإيثار فى الاصطلاح الصوفى :
والإيثار فى الاصطلاح الصوفى يرد على المعنى القرآنى ويرد على غيره :(9/52)
فمن المعنى القرآنى : الإيثار هو تخصيص الغير على النفس (2) ، كما روى عن أبى حفص النيسابورى (ت:270هـ) أنه قال : ( الإيثار ، أن تقدم حظوظ الإخوان على حظك ، فى أمر آخرتك ودنياك ) (3) وقولة فى حظ آخرتك ودنياك فيه نظر ، لأن إثار الدنيا ، مبتغاه ما عند الله فى الآخرة ، والزهد فى الدنيا ، مقترن بالرغبة فى الآخرة ، أما الزهد فى الآخرة ، وإيثار الغير فهو مخالف لما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فى الصف الأول : " ولو يعلمون ما فى الصف المقدم ، لاستهموا " (4) ، والأقرب من كلام الصوفية إلى الأصول ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب المناقب (3798) 7/149 .
2. لطائف الإعلام 1/257 وانظر مواقع النجوم لابن عربى ص97 وقارن .
3. طبقات الصوفية ص122 . 4. أخرجه البخارى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فى كتاب الأذان (580) 2/68 ، و مسلم فى كتاب المساجد ومواضع الصلاة (654) واللفظ له .
القرآنية والنبوية فى الإيثار ، ما ينسب لعبد اللَّه بن خفيف (ت:371هـ) أنه قال : ( إن استطعت ألا يسبقك أحد إلى مولاك فافعل ، ولا تؤثر على مولاك شيئا ) (1) .
وهذا الإيثار يسميه عبد الرزاق الكاشانى (ت:735هـ) إيثار الشريعة فيقول : ( إيثار الشريعة ، هو الإيثار الذى تدعوا إليه الشريعة ، وهو أن يكون العبد مؤثر اللَّه ورسوله ، على هوى نفسه ، بحيث لا يعصى اللَّه فى شئ مما أمر ونهى ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " والذى نفسى بيده ، لا يؤمن أحدكم ، حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " (2) .
أما الإيثار الحقيقى عند الكاشانى ، فهو الإيثار من منظور أصحاب الوحدة حيث يسميه إيثار المتقين ، وهو إيثار هؤلاء القوم الذين جعلوا أنفسهم وقاية للحق ، وهذا باطن التقوى ، فيؤثرون نسبة المذام والنقائص إليهم ، وقاية للحق ــــــــــــــــــــ(9/53)
1. السابق ص144 وانظر أيضا فى الإيثار على هذا المعنى : الفتح الربانى والفيض الرحمانى لعبد القادر الجيلانى ، المجلس الخامس عشر فى إيثار المؤمن على نفسه ص55 وما بعدها ، والتمكين فى شرح منازل السائرين ، تأليف محمود المنوفى ، طبعة دار النهضة العربية القاهرة ص137 وما بعدها ، وشفاء السائل فى تهذيب المسائل ، لابن خلدون نشر عبده خليفة ص44 .
2. لطائف الإعلام 1/257 ، والحديث أخرجه ابن رجب فى جامع العلوم والحكم عن عمرو بن العاص برقم (41) 1/376 وقال : حديث حسن صحيح ، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح ، وانظر أيضا نوادر الأصول فى أحاديث الرسول 4/164 .
وتنزيها له عن ذلك ، وكذا لا ينسب القيام والاتصاف بشئ من الفضائل والكمالات ، لأن له كل ذلك بلا مشارك ، فمن راعى جمال الحق فيما يضاف إليه من أوصاف الخلق على هذا الحد من التأدب ، معه فهو المتصف بحقيقة التقوى وباطنها ، لأنه قد جعل نفسه وقاية للحق ، أن ينسب إليه شيئا من المذام بل إليها ، واتقاه أيضا عن أن يتهجم عليه ، باعتقاد مشاركته فى شئ ينسب إلى نفسه شيئا من المحامد التى إنما ينسبها إلى ربه فقط ، مع علمه بما أخبر به تعالى عن نفسه ، بقوله : { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ } [هود/123] لأن الكل خلق اللَّه وإيجاده (1) .
وهناك معان أخرى ذكرت فى الإيثار ، بعيدة عن المعنى الشرعى ، ومخالفة للأصول القرآنية والنبوية (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام 1/260 ، وانظر المزيد فى فصوص الحكم لابن عربى 1/183 وبلغة الخواص لابن عربى ص35 .(9/54)
2. السابق 1/261:258 حيث ذكر نوعا من الإيثار سماه إيثار الحقيقة ، ونوعا آخر سماه إيثار الإيثار ثم إيثار الملامتية ، وإيثار المستأثر ، وإيثار المستفيد ، وإيثار الخلة ، وإيثار الخليل ، وإيثار الأديب ، وإيثار حق الإيثار ، والعجيب أن الكاشانى اعتبر كل هذه مصطلحات صوفية لمجرد أن ابن عربى ذكر لفظا لا يعنى به الاصطلاح ، ولكنه ورد فى سياق المعنى العام للألفاظ ، انظر مثلا كلام ابن عربى فى الإثار فى كتابه ، مواقع النجوم ص97 ،98 ، وإذا ما كان من الممكن اعتبار ما تقدم من الألفاظ التى ذكرها الكاشانى مصطلحات منسوبه إلى الصوفية .
**********************************
15 - البخل
**********************************
صدق الله العظيم البخل : البخل إمساك المقتنيات عما لا يحق حبسها عنه ، ويقابله الجود والبخل يرد فى الأصول القرآنية والنبوية على ضربين (1) :
1- بخل بمقتنيات النفس كقوله : { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } [الحديد/24] ، وقوله : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة } [آل عمران/180] وقال سبحانه : { وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى } [الليل/6] .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " مثل البخيل والمتصدق ، مثل رجلين عليهما جبتان من حديد ، قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما ، فكلما هم المتصدق بصدقته اتسعت عليه ، حتى تعفي أثره ، وكلما هم البخيل بالصدقة انقبضت كل حلقة إلى صاحبتها وتقلصت عليه وانضمت يداه إلى تراقيه " (2) .(9/55)
وعن بكر بن عبد اللَّه المزني ، قال : كنت جالسا مع عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - عند الكعبة فأتاه أعرابي ، فقال : ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ ، أمن حاجة بكم أم من بخل ؟ فقال ابن عباس - رضي الله عنه - :
ــــــــــــــــــــ
1. المفردات ص38 ، ولسان العرب 11/47 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد والسير (2917) 6/117 .
الحمد لله ما بنا من حاجة ولا بخل ، قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - على راحلته ، وخلفه أسامة فاستسقى ، فأتيناه بإناء من نبيذ ، فشرب وسقى فضله أسامة ، وقال : أحسنتم وأجملتم كذا فاصنعوا ، فلا نريد تغيير ما أمر به رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - (1) .
2- بخل بمقتنيات الغير ، وهو الأكثر مذمة ، قال تعالى : { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْل ِ } [الحديد/24] .
وعن عبد اللَّه بن عمرو - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خطب ، فقال : " إياكم والشح ، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح ، أمرهم بالبخل فبخلوا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ، وأمرهم بالفجور ففجروا " (2) ، وعن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لو كان لي عدد هذه العضاه نعما ، لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا ، ولا كذوبا ، ولا جبانا " (3) ، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قسم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قسمة ، فقلت : يا رسول اللَّه ، لغير هؤلاء أحق منهم ، أهل الصفة ، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : إنكم تخيروني ، بين أن تسألوني بالفحش ، وبين أن تبخلوني ، ولست بباخل ) (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الحج (1316) 2/953.
2. أخرجه أبو داود فى كتاب الزكاة (1698) وصححه اليخ الألبانى : 2/33 والبخارى فى الأدب المفرد (470) ص166، والبيهقى فى السنن الكبرى (7607 ) 4/187 .(9/56)
3. أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد والسير (2821) 6/42 .
4. أخرجه مسلم فى الزكاة (1056) 2/730 ، وأحمد فى المسند (128) واللفظ له .
وقد يستخدم البخل على معنى اصطلاحى ، وإن احتفظ بمدلوله اللغوى كما روى عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " البخيل الذي من ذكرت عنده ، فلم يصل علي " (1) ، وقد تعددت الروايات فى تعوذه - صلى الله عليه وسلم - من البخل عامة ، ففى حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو :
" أعوذ بك من البخل والكسل ، وأرذل العمر ، وعذاب القبر ، وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات " (2) .
صدق الله العظيم البخل فى الاصطلاح الصوفى :
والبخل ورد فى اصطلاح الصوفية ، على المعانى السابقة المذكورة فى الأصول القرآنية ، ومن كلامهم الذى يعد شرحا وتفسيرا لما سبق ، ما روى عن أبى حفص النيسابورى (ت:270هـ) أنه سئل عن البخل ؟ فقال : ( ترك الإيثار عند الحاجة إليه ) (3) ، وعن أبى على الجوزجانى (ت:بعد300هـ) أنه قال فى البخل : ( هو ثلاثة أحرف : الباء وهو البلاء ، والخاء وهو الخسران ، واللام وهو اللوم ، فالبخيل بلاء فى نفسه ، وخاسر فى سعيه ، وملوم فى بخله ) (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه الترمذى فى كتاب الدعوات برقم (3546) 5/551 ، وقال : حديث حسن وأحمد فى المسند (1738) واللفظ له .
2. أخرجه البخارى فى كتاب تفسير القرآن (4707) 8/239 .
3. طبقات الصوفية ص120 ، تجدر الإشارة إلى أن معاجم المصطلح الصوفى خلت من مصطلح البخل مع كونه من عيوب النفس التى تكلم فيها كثير من الصوفية كما نرى .
4. السابق ص246 .
وكلام الجوزجانى من قبيل مذمة البخل ، لكن اجتهاده فى تفسير الحروف لا يعتد به ، لافتقاره إلى الدليل .(9/57)
ولأبى القاسم القشيرى (ت:465هـ) فى مصطلح البخل ، كلام قريب إلى حد ما من الأصول القرآنية ، فيذكر أن البخل على لسان أهل العلم ، منع الواجب ، وعلى بيان الإشارة ، ترك الإيثار فى زمان الاضطرار ، والبخل فى قوله تعالى : { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْل } [الحديد/24] معناه منعهم عن مطالبات الحقائق ، فى معرض الشفقة عليهم بموجب الشرع ، وبيان هذا أن يقع بلسانك الانسلاخ عن العلائق وحذف فضولات الحالة (1) .
و فى قوله تعالى : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ } [آل عمران/180] .
يقول القشيرى : ( من آثر شيئا على اللَّه ، لم يبارك له فيه ، فلا يدوم له فى الدنيا بذلك استمتاع ، ولا للعقوبة عليه فى الآخرة عنه دفاع ، والبخل على لسان العلماء منع الواجب ، وعلى مقتضى الإشارة إبقاء شئ ، ولو ذرة من المال أو نفسا من الأحوال ) (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإشارات 1/332 ، 333 .
2. السابق 1/300 .
**********************************
16- البسط
**********************************(9/58)
صدق الله العظيم البسط : بسط الشئ نشره وتوسعه ، وهو ضد القبض ، ويستخدم فى المحسوسات وغيرها ، فمن الأول ، قوله عز وجل : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيد ِ } [الكهف/18] ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " قلت يا رسول اللَّه : إني أسمع منك حديثا كثيرا أنساه ، قال : ابسط رداءك ، فبسطته ، قال : فغرف بيديه ، ثم قال : ضمه ، فضممته ، فما نسيت شيئا بعده " (1) ، وعن عائشة رضى الله عنها ، أنها قالت : " كنت أنام بين يدي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، ورجلاي في قبلته ، فإذا سجد غمزني ، فقبضت رجلي ، فإذا قام بسطتهما " (2) ، وعنها أيضا : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له حصير ، يبسطه بالنهار ، ويحتجره بالليل " (3) .
ومن الثانى البسط فى المعانى ، وهو الشاهد للمعنى الصوفى ، كقوله عز وجل : { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ } [الشورى/27] ، أى لو وسعه ، وقوله : { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْم ِ } [البقرة/247] أى سعة فبسطته فى العلم ، هو انتفاعه به ونفع غيره ، فصار له به بسطة أى جود (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب العلم (119) 1/259 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الصلاة (513) 1/700 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب الأذان (730) 4/353 . 4. المفردات ص46 .
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، قال : سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من سره أن يبسط له في رزقه ، أو ينسأ له في أثره ، فليصل رحمه " (1) ، ومن حديث عروة بن الزبير - رضي الله عنه - ، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " فواللَّه ، ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا ، كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، وتهلككم كما أهلكتهم " (2) .(9/59)
وبسط اليد مدها ، وبسط الكف يستعمل على أنواع ، تارة للطلب نحو قوله تعالى : { إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِه ِ } [الرعد/14] وتارة الأخذ نحو : { وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ } [الأنعام/93] وتارة للصولة والضرب ، قال تعالى : { وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوء ِ } [الممتحنة/2] وتارة للبذل والإعطاء نحو : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان ِ } [المائدة/64] (3).
صدق الله العظيم البسط فى الاصطلاح الصوفى :
البسط فى الاصطلاح الصوفى ، بسط إيمانى ، ويعنى الفرح بالتوفيق ، والثقة بالوعد فى الآيات ، واتساع الرحمة على جميع الكائنات ، وهذا بسط البديات عندهم (4) ، وهو الذى يتوافق مع الأصول القرآنية من جهتين :
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب البيوع (2067) 4/353.
2. أخرجه البخارى فى كتاب المغازى (4015) 7/371.
3. لسان العرب 7/259 ، والقاموس المحيط 1/850 .
4. معجم الكاشانى ص354 .
1- مبادرة العبد إلى الزيادة الإيمانية المستمرة ، بإقباله على اللَّه ، وهو أحد الوجوه التى ذكرها أبو القاسم القشيرى فى قوله تعالى : { وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُط ُ } [البقرة/245] ، فقبض القلوب بإعراضها ، وبسطها بإقبالها (1) .
والبسط قد يطلق عندهم علي غلبة الرجاء فى القلب ، كما ذكر عن الجنيد بن محمد (ت:297هـ) أنه قال : ( الخوف من اللَّه يقبضنى ، والرجاء منه يبسطنى ) (2) .
ووروى عن أحمد بن عطاء الروذبارى : (ت:369هـ) أنه سئل عن القبض والبسط ؟ فقال : ( إن القبض أول أسباب الفناء ، والبسط أول أسباب البقاء ، فحال من قبض الغيبة وحال من بسط الحضور ، ونعت من قبض الحزن ، ونعت من بسط السرور ) (3) .(9/60)
2- البسط من جهة التوفيق الإلهى للعبد فى بلوغه درجة الإيمان ، فالبسط على هذا ، نور ينبسط على القلب يخلقه اللَّه فيه (4) ، وهذا الوجه يدل عليه قوله تعالى : { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلام ِ } [الأنعام/125] ، وقوله : { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [التغابن/11] .
وقد ورد للبسط عندهم معان أخرى مبنية على التقسيم الذوقى والاجتهاد الشخصى الذى يفتقر إلى الدليل النقلى ، منها :
ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإشارات 1/190 . 2. الرسالة 1/212 .
3. الرسالة 1/212 . 4. طبقات الصوفية ص499 .
1- البسط فى مقام القلب ، بمثابة الرجاء فى مقام النفس ، وهو فى مقام القلب وارد بإشارة إلى قبول ولطف ، ورحمة وأنس ، والبسط فى مقام النفس ، هو أن يبسط اللَّه العبد مع الخلق ظاهرا ، ويقبضه إليه باطنا ، رحمة للخلق ، فهو يسع الأشياء ، ويؤثر فى كل شئ ، ولا يؤثر فيه شئ (1) .
2- البسط عبارة عن تجل رحمانى ، به انتشر فى الوجود ، وما كان منطويا فى العلم الإلهى ، وكل بسط فى الوجود من هذا التجلى الرحمانى (2) .
3- البسط لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه كان متصفا بالقبض والبسط (3) ، ثم استدلوا لذلك برواية عن أسماء بنت عميس ، أنه - صلى الله عليه وسلم - قبض على الشمس ، فوقفت حتى صلى على - رضي الله عنه - (4) ، يقول الجيلى : ( فهذا دليل عظيم ، على اتصافه بالقبض والبسط ، فإنه قبض على الشمس أن تغيب وبسط فى النهار حتى زاد ووقفت الشمس على الجبال والأرض ) (5) .
ــــــــــــــــــــ
1. أبو الحسن الشاذلى ص129 للدكتور عبد الحليم محمود .
2. انظر التحبير فى التذكير للقشيرى ص45 وقارن الإملاء للغزالى ص66 واصطلاحات الصوفية لابن عربى ص5 ، لطائف الإعلام 1/283 .
3. الكمالات الإلهية فى الصفات المحمدية للجيلى ص105 .(9/61)
4. موضوع ، قال الإمام أحمد : لا أصل له ، وأورده ابن الجوزى فى الموضوعات ، انظر كشف الخفا ومزيل الإلباس 1/428 .
5. الكمالات الإلهية فى الصفات المحمدية ص278 .
**********************************
17- البصيرة
**********************************
صدق الله العظيم البصيرة : تقال لقوة القلب المدركة ، قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي } [يوسف/108] ، أى على معرفة وتحقق وتقال أيضا للحجة والاستبصار فى الشئ ، كقوله تعالى : { بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } [القيامة/14] (1) ، ومن حدث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن الدجال : " يقول له الدجال : أتؤمن بي ؟ فيقول : ما ازددت فيك إلا بصيرة " (2) .
صدق الله العظيم البصيرة فى الاصطلاح الصوفى :
والبصيرة فى الاصطلاح الصوفى ، قوة باطنة هى للقلب كعين الرأس ، ويقال هى عين القلب عندما ينكشف حجابه ، فيشاهد بها بواطن الأمور ، كما يشاهد عين الرأس ظواهرها ، ولهذا قالوا : البصيرة ما يخلص من الحيرة (3) .
ووردت عندهم أيضا على معنى التحقق من الشئ ، وزيادة اليقين وتوكيده كالتحقق من الدعوة إلى المتابع للكتاب والسنة واتباع الوحى ، يقول الجنيد بن ــــــــــــــــــــ
1. المفردات ص49 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب الفتن (2938) 4/2256.
3. لطائف الإعلام 1/284 ، ومعجم الكاشانى ص64 .
محمد (ت:297هـ) : ( الطرق كلها مسدودة ، إلا على المقتفين آثار النبى صلى الله عليه وسلم ، لقوله تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي } [يوسف/108] ) (1) .(9/62)
ويعرف السراج الطوسى (ت:387هـ) البصيرة ، بألا يشهد الصوفى لنفسه ولا يرى نفسه ، فيستقطعه بشواهده ، ويوقن أنه ليس إلى نفسه شئ من الهداية وأنه لا يملك ضرا ولا نفعا ، إلا أن يتولى اللَّه تعالى ذلك (2) ، ويقاربه أيضا قول القشيرى (ت:465هـ) : ( البصيرة اليقين الذى لا مرية فيه ، والبيان الذى لا شك فيه ، والبصيرة يكون صاحبها ملاحظا بالتوفيق جهدا ومكاشفا ، بالتحقق سرا ) (3) ، وله أيضا : ( البصيرة ، أن تطلع شموس الفرقان فتندرج فيها أنوار نجوم العقل ، لقوله تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي } (4) .
ولئن كان معنى البصيرة فيما سبق ، قريب من الأصول القرآنية ، إلا أنه أخذ عند بعض الصوفية بمعنى آخرى مفارق ، فيعنون بها الدعو إلى أحدية الذات ــــــــــــــــــــ
1. انظر حلية الأولياء 1/257 ، والأمر بالإتباع والنهى عن الابتداع للسيوطى ص53 .
2. اللمع ص153، والبصيرة التى يذكرها السراج الطوسى تعد من كمالات التوحيد ونسبة الفضل ، وأفعال الخير ، والطاعة التى يقوم بها الإنسان إلى الله ، وإن كان العبد له جهد ومبادرة .
3. لطائف الإشارات 2/213 .
4. السابق 2/213 .
الموصوفة بكل الصفات فى عين الجمع ، بحيث يرى الوحدة فى عين الكثرة والمجمل فى عين المفصل ، وعند العبور من الباطن إلى الظاهر ، وبالعكس ، أى يرى الكثرة فى الوحدة ، والمفصل فى المجمل مع وحدة المجلى والمتجلى فيه بالعين وإن وقع الاختلاف بالتعين (1) .
**********************************
18 - البعد
**********************************
صدق الله العظيم البعد : ضد القرب وليس لهما حد ممدود ، وإنما ذلك بحسب اعتبار المكان بغيره ويستعمل البعد على نوعين (2) :(9/63)
1- البعد فى المحسوس وهو الأكثر ، كقوله تعالى : { أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيد ٍ } [فصلت/44] ، وقوله سبحانه : { حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } [الزخرف/38] ، ومن دعاء النبى - صلى الله عليه وسلم - في السفر : " اللَّهم هون علينا سفرنا هذا ، واطو عنا بعده " (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. انظر لطائف الإعلام 1/285 وقارن بتفسير القرآن الكريم للكاشانى ، منسوب لابن عربى 1/624 وانظر الكمالات الإلهية فى الصفات المحمدية ص281 فى معنى البصيرة فى مفهوم الجيلى عند وصفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالأسماء والصفات الإلهية ، واحتجاجه على بصيرة النبى - صلى الله عليه وسلم - برؤيته للجنة والنار وعجائب الملكوت الأعلى ، وانظر الشفا ، للقاضى عياض تحقيق سعيد عبد الفتاح 1/283 .
2. المفردات ص53 . 3. أخرجه مسلم فى كتاب الحج (1342) 2/978 .
2- البعد فى المعنويات ، كقوله تعالى : { بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيد ِ } [سبأ/8] ، أى الضلال الذى يصعب الرجوع منه إلى الهدى، تشبيها بمن ضل عن محجة الطريق بعدا متناهيا ، فلا يكاد يرجى له العود إليها ، وقوله : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ } [هود/89] ، أى تقاربونهم فى الضلال ، فلا يبعد أن يأتيكم ما آتاهم من العذاب (1) ، ويحتمل البعد الزمنى والمكانى ، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إني فرطكم على الحوض ، من مر علي شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبدا ، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثم يحال بيني وبينهم ، فأقول : إنهم مني ؟ ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي " ، وقال عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - :(9/64)
" سحقا بعدا ، يقال : سحيق بعيد ، سحقه وأسحقه أبعده " (2) .
صدق الله العظيم البعد فى الاصطلاح الصوفى :
والبعد فى الاصطلاح الصوفى ، يذكر على معنى البعد عن اللَّه ، ويضاده القرب ، كما روى عن أبى حفص النيسابورى (ت:270هـ) ، أنه قال :
( التصوف كله آداب ، لكل وقت أدب ، ولكل مقام أدب ، فمن لزم آداب الأوقات ، بلغ مبلغ الرجال ، ومن ضيع الآداب ، فهو بعيد من حيث يظن ــــــــــــــــــــ
1. المفردات ص53 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الرقاق (6585) 11/472 .
القرب ، ومردود من حيث يرجو القبول ) (1) .
ويرى الصوفية الرياء بعدا وتجريد التوحيد الإخلاص قربا ، ويروى أن أبا الحسين النورى (ت:295هـ) رأى بعض أصحاب أبى حمزة ، فقال : أنت من أصحاب أبى حمزة الذى يشير إلى القرب ؟ ، إذا لقيته فقل له : ( إن أبا الحسين النورى يقرئك السلام ويقول لك : قرب القرب فيما نحن فيه بعد البعد ) (2) .
ومثل هذه المعانى لها أصولها القرآنية ، وربما كان اعتمادهم فى شرح المعنى على الشاهد النبوى ، كقول أبي القاسم القشيرى (ت:465هـ) : ( البعد هو التدنس بمخالفته تعالى ، والتجافى عن طاعته ، فأول البعد بعد عن التوفيق ، ثم بعد عن التحقيق ، بل البعد عن التوفيق فى الحقيقة هو بعد عن التحقيق ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " وما تقرب إلى المتقربون بمثل آداء ما فترضتهم عليهم ، ولا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى يحبنى وأحبه ، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ، فبى يبصر وبى يسمع " (3) ، والمعنى المشار إليه فى الحديث وإن كان فى القرب ، إلا
ــــــــــــــــــــ
1. طبقات الصوفية ص119 .
2. الرسالة القشيرية 1/260 .(9/65)
3. السابق 1/257 ، والحديث أخرجه البخارى فى الرقاق برقم (6502) عن أبي هريرة ولفظه : ( وما تقرب إلي عبدي بشيء ، أحب إلي مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ) وانظر للمقارنة روضة الطالبين لأبىحامد الغزالى ص59 ، وميزان العمل للمؤلف السابق ص 169 ، والمواقف لابن عباد النفرى ص2 .
أن أنه صحيح فى مصطلح البعد بمفهوم المخالفة ، ويتوافق أيضا مع الأصول القرآنية .
ومن الإنصاف أن يذكر لابن عربى بلسان الظاهر ، قوله : ( البعد الإقامة على المخالفات ، وقد يكون البعد منك ، ويختلف باخلاف الأحوال ، فيدل على ما يراد به قرائن الأحوال ) (1) .
ويذكر الكاشانى فى تفسيره ، معنى الإقامة على المخالفات ، أن المخالفة من أحكام ما به الافتراق ، والطاعة من أحكام ما به الاجتماع ، والبعد افتراق والقرب اجتماع ، وعلى ذلك يتنوع معنى البعد ، فقد يكون البعد باعتبار النعوت الذاتية ، كافتراق الأشياء وتحيزها بالحدود الذاتية ، وهذا هو البعد الأبعد ، ومن ذلك قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ } [العنكبوت/6] ، إذ لا جامع بين ذات الغنى بالذات ، وبين الذوات المفتقرة بالذات ، وقد يكون بالنعوت العرضية ، كالمكان والزمان ، والمقدار والألوان ، وقد يكون البعد منك فلا يزول هذا البعد ، إلا من باب دع نفسك وتعالى ، فإن من ترك نفسه بعد عنها ، وتركها إنما هو بترك أوصافها وأخلاقها المبعدة إياها عن مقصدها ، ولا يترك أوصافها وأخلاقها إلا عند اتصافها وتخلقها بالأخلاق الإلهية وصفاتها (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. اصطلاحات الصوفية لابن عربى ص7 ، ولطائف الإعلام 1/287 ، وانظر فى القرب أيضا الفتوحات المكية 2/173 ، 3/14 ، 4/22 وانظر بلغة الخواص ص 18 .
2. رشح الزلال ص88 ، 89 .(9/66)
**********************************
19- البقاء
**********************************
صدق الله العظيم البقاء : ثبات الشئ على حاله الأولى ، وهو يضاد الفناء ، والباقى ضربان :
1- باق بنفسه لا إلى مدة ، وهو البارى تعالى ، ولا يصح عليه الفناء ، فهو الآخر الذى ليس بعده شئ ، قال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } [الرحمن/27:26] (1) .
2- باق بغيره : وهو ما عداه ويصح عليه الفناء ، والباقى باللَّه ضربان (2) :
أ- باق بشخصه إلى أن يشاء اللَّه أن يفنيه ، كبقاء الأجرام السماوية فى الدنيا وكبقاء أهل الجنة أبدا ، فإنهم يبقون على التأبيد بمشيئة اللَّه لا إلى مدة كما قال سبحانه وتعالى : { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدا } [البينة/8] .
ب- وباق بنوعه وجنسه دون شخصه وجزئه ، كالإنسان والحيوان فى الدنيا وكبقاء نعيم الجنة فى الآخرة ، بنوعه وجنسه متجددا .
ولكون ما فى الآخرة يتصف بالدوام قال عز وجل : { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [القصص/60] ، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، قال : " قرأ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ } [مريم/39] ، قال : يؤتى بالموت كأنه كبش أملح ــــــــــــــــــــ
1. المفردات ص57 ، ولسان العرب 14/79 ، ومعجم مقاييس اللغة مادة ( بقى ) .
2. السابق ص57 .
حتى يوقف على السور بين الجنة والنار ، فيقال : يا أهل الجنة ، فيشرئبون ويقال : يا أهل النار ، فيشرئبون ، فيقال : هل تعرفون هذا ؟ فيقولون : نعم هذا الموت ، فيضجع فيذبح ، فلولا أن اللَّه قضى لأهل الجنة الحياة فيها والبقاء لماتوا فرحا ، ولولا أن اللَّه قضى لأهل النار الحياة فيها والبقاء لماتوا ترحا " (1) .
صدق الله العظيم البقاء فى الاصطلاح الصوفى :(9/67)
والبقاء فى الاصطلاح الصوفى ، يعنى دوام اتصاف العبد بالأوصاف الحميدة ومجانبته اللائمة لكل ما هو مذموم فى الكتاب والسنة ، وهذا المعنى نجده عند إبراهيم بن شيبان (ت:330هـ) حيث روى عن أنه قال : ( علم الفناء والبقاء يدور على إخلاص الوحدانية ، وصحة العبودية ، وما كان غير هذا فهو من المغاليط والزندقة ) (2) ، وقال الكلاباذى (ت:380هـ) : ( الباقى هو أن ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه الترمذى فى كتاب تفسير القرآن (3156) وقال : حديث حسن ، وقال الشيخ الألبانى : صحيح دون قوله : فلولا أن الله قضى .. 5/315 ، وأخرجه مسلم 4/2188 (2849) ، والنسائى فى السنن الكبرى (11316) 6/393 .
2. طبقات الصوفية ص404 ، ومن الجدير بالذكر أن علم البقاء والفناء ، لم يعرف فى مرحلة التصوف الأولى البسيط ، وإنما ظهر فى بداية مرحلة التصوف الأولى المركب فحمله المعتدلون من الصوفية على المعنى البسيط ، الموافق للأصول القرآنية ، كما هى عبارة إبراهيم ابن شيبان ، لكنه حمل على معنى بدعى معقد ظهر فى المراحل التالية وانظر نشأة التصوف الإسلامى ، للدكتور إبراهيم بسيونى ، طبعة دار المعارف بمصر ص228 ، والتصوف الإسلامى الخالص ، محمود أبو الفيض المنوفى ، طبعة دار نهضة مصر ص158 .
تصير الأشياء كلها له شيئا واحدا ، فتكون كل حركاته فى موافقات الحق دون مخالفته ، فيكون فانيا عن المخالفات ، باقيا فى الموافقات ، وليس معنى أن تصير الأشياء كلها له شيئا واحدا، أن تصير المخالفات له موافقات ، فيكون ما نهى عنه كما أمر به ، ولكن على معنى أن لا يجرى عليه ، إلا ما أمر به وما يرضاه اللَّه تعالى ، دون ما يكرهه ) (1) ، وهذا المعنى تؤيده الأصول القرآنية والنبوية كما ورد فى قوله تعالى :(9/68)
{ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا } [مريم/76] ، وقوله : { وجعلها كلمة باقية فى عقبه لعلهم يرجعون } [43/82] ، وقوله : { بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِين َ } [هود/86] ، فهذه الآيات تدل فى المعنى العام ، على ضرورة بقاء العبد على الأوصاف المحمودة شرعا ، من خلال التزامه بأحكام العبودية والعمل فى توحيد اللَّه ، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " استكثروا من الباقيات الصالحات ، قيل : وما هي يا رسول اللَّه ؟ قال : الملة ، قيل : وما هي يا رسول اللَّه ؟ قال : الملة ، قيل : وما هي يا رسول اللَّه ؟ قال : الملة ، قيل : وما هي يا رسول اللَّه ؟ قال : التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه " (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. التعرف ص148 ، وقارن ذلك بما ورد عند السهروردى فى عوارف المعارف ص524 ، وانظر رأى المستشرق نيكلسون فى البقاء والفناء ، فى كتابه فى التصوف الإسلامى ترجمة أبى العلا عفيفى .
2. أخرجه أحمد فى المسند (11731) 3/75 والبيهقى فى شعب الإيمان (605) 1/425 وهو صحيح الإسناد ، انظر الترغيب والترهيب 2/280 .
ويحاول أبو القاسم القشيرى (ت:465هـ) أن يجعل البقاء عند الصوفية إشارة إلى قيام الأوصاف المحمودة ، فمن ترك مذموم أفعاله بلسان الشريعة ، يقال فى العرف الصوفى : إنه فنى عن شهواته ، فإذا فنى عن شهواته ، بقى بنيته وإخلاصه فى عبوديته ، ومن زهد فى دنياه بقلبه ، فنى عن رغبته ، فإذا فنى عن رغبته فيها ، بقى بصدق إنابته ، ومن عالج أخلاقه ، فنفى عن قلبه الحسد والحقد ، والبخل والشح ، والغضب والكبر ، وأمثال هذا من رعونات النفس يقال فى عرفهم ، فنى عن سوء الخلق ، فإذا فنى عن سوء الخلق ، بقى بالصدق فى ضدها ) (1) .(9/69)
وقد تجاوز المعنى الصوفى للبقاء هذا الحد عند بعضهم ، وأخذ بمعان لا دليل عليها ، وفيها تجاوز شديد لا يتسع البحث لعرضها (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. انظر الرسالة القشيرية لعبد الكريم القشيرى 1/228 ، والإملاء فى اشكالات الإحياء ص66 ، وشرح الرسالة القشيرية للأنصارى 2/60 .
2. انظر فى تفصيل ذلك : الحب الإلهى عند محى الدين بن عربى ، إعداد منشاوى عبد الرحمن إسماعيل ، رسالة ماجستير ، مخطوط كلية دار العلوم ، جامعة القاهرة ، رقم (373) سنة 1983م ، وانظر لابن عربى فى مصطلح البقاء فصوص الحكم ، 2/14 ص72 ، وكتاب التراجم ص7 ، و الديوان ص50 ، وسائل السائل ص44 ، ومواقع النجوم ص15 ، والفتوحات المكية 2/107 ، وانظر الفصل الرابع من القسم الأول مرحلة التصوف الأولى المركب والتصوف الحلولى .
**********************************
20- البلاء
**********************************
صدق الله العظيم البلاء : الاختبار ، وسمى التكليف بلاء من أوجه (1) :
1- أن التكاليف كلها مشاق على الأبدان ، فصارت من هذا الوجه بلاء .
2- أنها اختبارات ، ولهذا قال اللَّه تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [محمد/31] ، وقال : { وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [البقرة/124] .
3- أن اختبار اللَّه تعالى للعباد ، يكون تارة بالمسار ليشكروا ، وتارة بالمضار ليصبروا ، فصارت المحنة والمنحة جميعا بلاء ، فالمحنة مقتضية للصبر ، والمنحة مقتضية للشكر ، والقيام بحقوق الصبر ، أيسر من القيام بحقوق الشكر فصارت المنحة أعظم البلاءين ، قال تعالى : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء/35] وقوله تعالى : { وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيم ٌ } [البقرة/49] راجع إلى أمرين :(9/70)
أ- المحنة فى قوله تعالى : { يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } [البقرة/49] .
ب- المنحة التى أنجاهم : { وَآتَيْنَاهُمْ مِنْ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِين ٌ } [الدخان/33] .
ــــــــــــــــــــ
1. المفردات فى غريب القرآن ص61 ، 62 .
صدق الله العظيم البلاء فى الاصطلاح الصوفى :
البلاء فى الاصطلاح الصوفى ، يرد على معنى الاختبار والامتحان ، كما سبق فى الأصول القرآنية :
يقول المحاسبى (ت:243هـ) : ( إن الدنيا فتنة بلوى واختبار ، وإنها ليست بدليل على رضا اللَّه عز وجل عن العباد ، ألم تسمع قوله تبارك وتعالى : { فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي } [الفجر/16:15] ، قال اللَّه عز وجل : { كَلا } ، كذبهما جميعا ، فليس هذا بكرامتى ، ولا هذا بهوانى ، ولكن الكريم من أكرمته بطاعتى ، على أى حال كان ، فقيرا كان أو غنيا ، والمهان من أهنته بمعصيتى على أى حال كان ، فقيرا كان أو غنيا ، فاغتر الكافرون بظاهر نعم اللَّه عز وجل ، وظنوا أن ذلك من كراماتهم على اللَّه عز وجل ) (1) .
وروى عن سهل بن عبد اللَّه التسترى (ت:293هـ) ، أنه قال : ( البلوى من اللَّه على وجهين : بلوى رحمة ، وبلوى عقوبة ، فبلوى الرحمة يبعث صاحبه على إظهار فقره إلى اللَّه وترك التدبير ، وبلوى العقوبة يبعث صاحبه على اختياره وتدبيره ) (2) .
وعلى الوتيرة نفسها ، يبين السراج الطوسى (ت:387هـ) معنى البلاء من ــــــــــــــــــــ
الرعاية ص346 .
طبقات الصوفية ص210 ،211 .(9/71)
مفهوم قرآنى محض ، ويدلل عليه بشاهد نبوى ، فيقول : ( البلاء ظهور امتحان الحق لعبده فى حقيقة حاله بالابتلاء ، وهو ما ينزل به من التعذيب ، وروى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " نحن معشر الأنبياء أشد الناس بلاء " (1) .
وقال على بن عثمان الهجويرى (ت:465هـ) : ( البلاء امتحان أجساد الأحبة بأنواع المشقات والأمراض والآلام ، لأنه كلما كان البلاء أكثر قوة على العبد ، فإنه يكون أكثر قربا للحق ، لأن البلاء لباس الأولياء ، ومهد الأصفياء وغذاء الأنبياء صلوات اللَّه عليهم ، ألم تر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : " أشد البلاء للأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم الأمثل فالأمثل " وجملة القول ، فإن البلاء اسم للألم الذى يظهر على قلب المؤمن وجسده ، وتكون حقيقية لنعمه ، وبحكم أن سره يكون خافيا على العبد ، فإنه يثاب عليه باحتماله آلامه ) (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص429 والحديث أخرجه الترمذى فى الزهد (2398) عن مصعب بن سعد - رضي الله عنه - عن أبيه ، قال : " قلت يا رسول اللَّه أي الناس أشد بلاء ؟ قال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد ، حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة ) وقال الترمذى : هذا حديث حسن صحيح 4/601 ، ورواه الحاكم فى المستدرك وقال : صحيح على شرط الشيخين انظر حديث رقم (120 ) 1/99 .
2. كشف المحجوب ص633 ، والحديث الذى أورده الهجويرى وإن كان معناه صحيحا إلا أنه لا أصل له بهذه اللفاظ ، وتجدر الإشارة إلى أن الهجويرى ينقل ما وصل إلى سمعه مما صح أو لم يصح ، وما صح ، فإنه ينقله بالمعنى وبغير ألفاظه ، وذلك لتساهله الشديد فى النقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وانظر المزيد فى الفتح الربانى ص33 ، وقوت القلوب 2/10 وما بعدها .(9/72)
**********************************
21- التبتل
**********************************
صدق الله العظيم التبتل : هو الانقطاع عن الدنيا إلى اللَّه ، قال تعالى : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا } [المزمل/8] ، ومعناه انقطع فى العبادة وإخلاص النية ، انقطاعا يختص به (1) وليس هذا منافيا ، لما ثبت عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - رد على عثمان بن مظعون التبتل ، ولو أذن له لاختصينا (2) ، فإن التبتل فى الحديث هو الانقطاع عن النكاح والعزوف عنه ، ومنه قيل لمريم العذراء البتول أى المنقطعة عن الرجال (3).
صدق الله العظيم التبتل فى الاصطلاح الصوفى :
والتبتل ورد فى الاصطلاح عند أغلب الصوفية يرد على المعنى القرآنى ، يقول القشيرى فى معنى التبتل الوارد فى قوله تعالى : { وَاذْكُر ْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا } [المزمل/8] أى انقطع إليه انقطاعا تاما (4) ، وقال الكاشانى : التبتل هو ــــــــــــــــــــ
1. لسان العرب 11/42 ، والمفردات ص36،37 ، مختار الصحاح ص40 .
2. أخرجه البخارى فى النكاح (5074) 9/19 ومسلم فى النكاح (1402) 2/1020.
3. غريب الحديث لأبى عبيد القاسم بن سلام الهروي ، تحقيق محمد عبد المعيد خان ، نشر دار الكتاب العربي ، بيروت ، سنة 1396 ، 4/19 .
4. لطائف الإشارات 3/643 .
الانقطاع إلى اللَّه بالكلية ، والإشارة إليه بقوله : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا } ، فقوله وتبتل إليه دعوة إلى التجريد المحض (1) ولكنهم قسموا التبتل على ثلاثة أنواع :
تبتل العامة هو التجريد عن اللواحظ للناس .
تبتل المريد وهو التجريد عن اللواحظ ، إلى ما تدعوا إليه النفس (2) .
تبتل الواصل : وهو انقطاعه عما سوى الحق انقطاعا تاما ، وذلك من وجهين مخالفين للأصول القرآنية :(9/73)
أ- الانقطاع الذى لا يلحظ فيه شيئا من المخلوقات فى عبادته ، لا من أعراض الدنيا ، ولا من أعراض الآخرة يعبده فردا لفرد ، كما روى أبى يزيد البسطامى : ( الجنة لا خطر لها عند أهل المحبة ، وأهل المحبة محجوبون بمحبتهم (3) ، وقال : ( إن اللَّه قد أمر العباد ونهاهم ، فأطاعوه ، فخلع عليهم خلعه ، فاشتغلوا بالخلع عنه ، وإنى لا أريد من اللَّه إلا اللَّه ) (4) .
ب- أن ينقطع عما سواه بذكره لنفسه على أنه هو ، وهذا تبتل أهل الوحدة يقول الكاشانى : ( واذكر اسم ربك الذى هو أنت ، أى اعرف نفسك واذكرها ولا تنساها ، فينساك اللَّه ، واجتهد لتحصيل كمالها بعد معرفة
ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام 1/300 .
2. السابق 1/300 .
3. الرسالة 2/461 .
4. طبقات الصوفية ص70 ، ص72 .
حقيقتها ، وتبتل وانقطع إلى اللَّه بالإعراض عما سواه انقطاعا تاما معتدا بالذى ظهر عليك نوره ، فطلع من أفق وجودك بايجادك ) (1) .
**********************************
22 – التجلى
**********************************
صدق الله العظيم التجلى : الظهور ، يقال : أجليت الأمر بينته وأظهرته ، ومن حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - قال : " خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس معه .. ثم انصرف ، وقد تجلت الشمس " (2) ، أى ظهرت ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " تخرج الدابة ، معها خاتم سليمان وعصا موسى ، فتجلو وجه المؤمن ، وتختم أنف الكافر بالخاتم " (3) ، أى تظهره للناس ، وقد يكون التجلى بالذت أو الأمر (4) :
ــــــــــــــــــــ
1. تفسير القرآن الكريم منسوب لابن عربى وهو للكاشانى 2/720 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب النكاح (5197) 9/209 .(9/74)
3. أخرجه الترمذى فى كتاب تفسير القرآن (3187) وقال : حسن غريب ، وقال الشيخ الألبانى : ضعيف 5/340 ، وابن ماجة فى كتاب الفتن (4066) 2/1351 وأحمد فى المسند (7924) .
4. المفردات ص96 ، ومعجم مقاييس اللغة مادة : ( جلو ) .
1- فمن الأول : قوله تعالى : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } [الليل/2:1] وقوله : { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِين َ } [الأعراف/143] ، وعن أنس - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } ، قال حماد : هكذا ، وأمسك سليمان بطرف إبهامه على أنملة إصبعه اليمنى ، قال : فساخ الجبل ، { ? وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } (1) ، وفى رواية أخرى ، قال أنس - رضي الله عنه -: " قال هكذا ، يعني أنه أخرج طرف الخنصر " (2) ، وثالثة قال : " فأومأ بخنصره ، قال : فساخ " (3) .
وكرؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ، كما فى حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم - : " ثم يأتينا ربنا بعد ذلك ، فيقول : من تنظرون ؟ فيقولون : ننظر ربنا فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : حتى ننظر إليك ، فيتجلى لهم يضحك " (4) .
وعن صهيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، نودوا يا أهل الجنة ، إن لكم عند الله موعدا ، فقالوا : ألم يثقل موازيننا ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه الترمذى فى كتاب تفسير القرآن (3074) 5/265 وأحمد (12282) .(9/75)
2. أخرجه أحمد فى المسند (11851) ، وهذه الراواية والتى قبلها فيها ضعف .
3. أخرجه الترمذى فى كتاب تفسير القرآن (1392) وصححه الألبانى 4/14 ، وأحمد فى المسند (12766) واللفظ له .
4. أخرجه مسلم فى كتاب الإيمان (191) 1/177 وأحمد (15155) .
ويعطينا كتبنا بأيماننا ، ويدخلنا الجنة وينجينا من النار ؟ فيكشف الحجاب قال : فيتجلى الله عز وجل لهم ، قال : فما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم ، من النظر إليه " (1) .
2- ومن الثانى : ما روى عن قبيصة الهلالي - رضي الله عنه - : " أن الشمس انخسفت فصلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ركعتين حتى انجلت ، ثم قال : إن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ، ولكنهما خلقان من خلقه ، وإن الله عز وجل يحدث في خلقه ما شاء وإن الله عز وجل إذا تجلى لشيء من خلقه يخشع له ، فأيهما حدث فصلوا حتى ينجلي ، أو يحدث الله أمرا " (2) ، فظاهر من الحديث أن التجلى تجلى الأمر .
صدق الله العظيم التجلى فى الاصطلاح الصوفى :
التجلى فى الاصطلاح الصوفى ، يدور فى الأغلب عند المعتدلين من الصوفية حول ظهور نور الإيمان فى قلب المؤمن ، من خلال المراقبة ومشاهدة أفعال الربوبية ، وهذا المعنى لا يعارض الأصول القرآنية والنبوية ، ومن أقوالهم الدالة عليه :
ما روى عن سهل بن عبد اللَّه التسترى (ت:293هـ) ، أن التجلى على ثلاثة أحوال تجلى الذات : وهى المكاشفة أى كشوف القلب فى الدنيا ، كقول ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الإيمان (181) 1/163وأحمد (18457) واللفظ له .
2.ضعيف من رواية قبيصة الهلالي ، أخرجه ابن ماجة فى كتاب إقامة الصلاة (1262) وضعفه الألبانى 1/401 ، والنسائى فى كتاب الكسوف (1485) 3/141 .(9/76)
ابن عمر - رضي الله عنه - : " كنا نتراءى الله فى ذلك المكان " ، يعنى فى الطواف ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " اعبد الله كأنك تراه " (1) ، وتجلى صفات الذات : ومعناه ، أن تتجلى له قدرته عليه ، فلا يخاف غيره ، وكفايته له ، فلا يرجو سواه ، وتجلى حكم الذات : وهى الآخرة وما فيها ، وكشوف العيان فى الآخرة ، إذ يكون فريق فى الجنة وفريق فى السعير (2) ، وينسب لأبى الحسين النورى (ت:295هـ) كلام نفيس دقيق فى مصطلح التجلى حيث قال :
( تجلى لخلقه بخلقه ، واستتر عن خلقه بخلقه ، فبتجليه حسنت المحاسن وجملت ، وباستتاره قبحت وسمجت ) (3) ، وروى عن الجنيد (ت:297هـ) أنه قال : ( التجلى قد يكون بطريق الأفعال ، وقد يكون بطريق الصفات ، وقد يكون بطريق الذات ) (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. التعرف للكلاباذى ص121.
2. أخرجه البخارى فى كتاب الرقاق (6416) وأحمد فى المسند (6121) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - بلفظ قال : أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعض جسدي ، فقال : " اعبد الله كأنك تراه ، وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " .
3. اللمع ص439 وانظر فى المقارنه بكلام الجنيد ، المعارضة والرد لسهل بن عبد الله التسترى ص80 ، وللمقارنة من الناحية الكلامية ، الاقتصاد فى الاعتقاد لأبى حامد الغزالى ص158، ومن الناحية الفلسفية الرسالة العرشية لابن سينا ص10 وتهافت الفلاسفة لأبى حامد الغزالى 37 ، وسالة التعليقات للفاربى ص20 .
4. عوارف المعارف للسهروردى ص526 .
وقد نقل كتاب المصطلحات القدامى هذا المعنى عن الصوفية ، فقال أبو نصر السراج الطوسى (ت:387هـ) : ( التجلى إشراق أنوار إقبال الحق ، على قلوب المقبلين عليه ) (1) ، ويذكر الهجويرى (ت:465هـ) أن التجلى هو ما يسطع من الأنوار الربانية على قلوب المقبلين ، التى بها يتمكنون من رؤية الله تعالى بقلوبهم ) (2) .(9/77)
ويقسم الكاشانى التجلى إلى قسمين ، ولكن قسيمه بعيد عن الأصول القرآنية والنبوية حيث يعبر بهما عن فكر أصحاب وحدة الوجود (3) :
التجلى الأول : وهو ظهور الذات نفسها لنفسها ، فى عين التعين والقابلية الأولى الذى هو الوحدة ، وحقيقة التجلى الأول ، إنما هو عبارة عن شهود الذات نفسها ، وإدراكها من حيث وحدتها ، بجميع اعتباراتها وشؤونها ، فظهرت الذات نفسها لنفسها فى نفسها ، بهذا التجلى والظهور وبحسبه ، وحضرت معها بلا توهم تقدم أستار ، وغيبة وفقدان ، وأحيانا يسمى هذا النوع بتجلى الذات أو التجلى الأحدى الجمعى ، أو تجلى الغيب المغيب ، أو تجلى الغيب الأول أو ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص439 ، وانظر كتاب الرياضة وأدب النفس للحكيم الترمذى ص71 .
2. كشف المحجوب ص472 ، وانظر لطائف الإشارات 2/259 فى شرح أبى القاسم القشيرى لموقف موسى عند التجلى ، حيث أفاض فيه بتوسع .
3. لطائف الإعلام 1/300، 301 ، وانظر فى معانى التجلى عند ابن عربى ، الفتوحات المكية 1/166 ، وفصوص الحكم 1/133،ص170 ، إنشاء الدوائر ص35 ، ومواقع النجوم ص158 ، وعقلة المستوفز ص52 .
تجلى الهوية ، أو التجلى المعطى للاستعداد ، وجميعها اصطلاحات صوفية تدل على معنى واحد .
التجلى الثانى : هو ظهور الذات لنفسها فى ثانى رتبها ، المعبر عنها بالتعين الثانى ، الذى تظهر فيه الأسماء ، وتتميز ظهورا وتميزا علميا ، ولهذا سمى التعين الثانى بالحضرة العلمية ، وحضرة المعانى ، وعالم المعانى .
**********************************
23 – التسليم
**********************************(9/78)
صدق الله العظيم التسليم : السلم والسلامة ، التعرى من الآفات الظاهرة والباطنة (1) : فمن السلامة فى الباطن ، قوله تعالى : { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم ٍ } [الشعراء/89] أى متعر من الآفات ، ومن السلامة فى الظاهر ، قوله تعالى : { وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا } [البقرة/71] .
والتسليم يطلق على عدة معان :
(1- التسليم بمعنى الاستسلام والانقياد والقبول ، كقول الله تعالى : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء/65] .
(2- التسليم بمعنى التحية وإلقاء السلام ، كقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ ــــــــــــــــــــ
1. المفردات ص239 ،241 ، ولسان العرب 12/292 ، والمصباح المنير 1/287 .
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [الأحزاب/56] وعن أبي سعيد الخدري قال : " قلنا يا رسول اللَّه ، هذا التسليم ، فكيف نصلي عليك ؟ ، قال : قولوا اللَّهم صل على محمد ، عبدك ورسولك ، كما صليت على آل إبراهيم .." (1) .
(3- التسليم الذى ينهى الصلاة ، فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم " (2) ، وعنه أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، كان آخر ما يقول بين التشهد والتسليم ، اللَّهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت .. " (3) .
والتسليم من العبد لله على ضربين :(9/79)
1- تسليم للأمر الإلهى الكونى ، ومسلك العبد فيه الرضا بالقضاء والقدر ، فإنه واقع لا محالة ، لقوله سبحانه وتعالى : { إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُول ُ لَهُ كُنْ فَيَكُون } ُ[مريم/35] ، ولقوله : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [آل عمران/83] .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى التفسير (4798) 8/392.
2. حسن أخرجه الترمذى فى كتاب الطهارة (3) وقال الألبانى : حسن صحيح 1/8 وأبو داود (61) 1/16 ، والدارقطنى فى سننه (1) 1/359 ، وانظر بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث (169) 1/283 .
3. أخرجه مسلم فى كتاب صلاة المسافرين (771) 1/534 .
2- تسليم للأمر الشرعى والتدبير النبوى ، ومنه قوله تعالى : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء/65] ، وكلا الوجهين يدل عليهما قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا } [النساء/125] .
فالإسلام يحمل الأمرين جميعا ، وهو الاعتراف باللسان ، والاستسلام لله فى أمره الشرعى ، ثم اعتقاد بالقلب ، ووفاء بالفعل ، واستسلام لله فى جميع ما قضى وقدر ، فالمسلمون منقادون للحق مذعنون له راضون بقضائه وقدره (1) .
صدق الله العظيم التسليم فى الاصطلاح الصوفى :(9/80)
والتسليم فى الاصطلاح الصوفى ، ورد على معني الرضا بالقضاء والقدر ، كما نسب إلى الحارث بن أسد المحاسبى ، أنه قال (ت:243هـ) : ( التسليم هو الثبوت عند نزول البلاء ، من غير تغير منه فى الظاهر والباطن ) (2) ، ويذكر أيضا أن التسليم ، هو استقبال القضاء بالرضا ، والانقياد لأمر اللَّه ، وترك الاعتراض (3) ، وكلامة يوافق الأصول القرآنية والنبوية وتحتمله الأدلة ، وقد قسم أبو اسماعيل الأنصارى الهروى (ت:481هـ) التسليم ، الذى ورد فى قوله ــــــــــــــــــــ
1. المفردات ص241 .
2. طبقات الصوفية ص59 .
3. التعريفات للجرجانى ص59 .
تعالى : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء/65] ، إلى ثلاث درجات :
الدرجة الأولى : تسليم ما يزاحم العقول ، مما يشق على الأوهام من الغيب والإذعان لما يغالب القياس من سير الدول ، والقسم التى قسمها على خلقه ، والإجابة لما يفزع المريد من ركوب الأحوال .
الدرجة الثانية : تسليم العلم إلى الحال ، والقصد إلى الكشف ، والرسم إلى الحقيقة .
الدرجة الثالثة : تسليم ما دون الحق إلى الحق ، مع السلامة من رؤية التسليم بمعاينة تسليم الحق إياك إليه (1) .
ولكنه تقسيم غامض يفتقر إلى الدليل ، ولاتحتمله الآية التى استشهد بها فالشاهد من الآية فى التسليم ، هو تنفيذ أمر النبى - صلى الله عليه وسلم - عن محبة ورضا ، بلا اعتراض منهم ، وتصديق ما أخبرهم به تصديقا جازما ، ويشابه الكاشانى الهروى فى تقسيمه للتسليم ، إذ جعله على نوعين :
النوع الأول : تسليم المبتدئين وهو الانقياد للأمر الشرعى بلا طلب للعوض فيقول : ( التسليم صورته فى البدايات ، تسليم للأحكام الشرعية بلا اعتراض عليها ولا طلب لعقلها ) (2) ، وقوله : ولا طلب لعقلها ، يخالف السنة من جهة
ــــــــــــــــــــ(9/81)
1. منازل السائرين ص265. 2. معجم الكاشانى ص243 ولطائف الإعلام 1/319 .
أن طلب العوض هو نهج النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، وهم الكمل فى إسلامهم لله وتسليمهم له ، فهذ المعني له أصول قرآنية إلا فى الدعوة إلى ترك العوض .
النوع الثانى : تسليم النهايات ، ويدور فى إطار القول بوحدة الوجود كتفسيرهم لقوله تعالى : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء/65] فلا وربك لا يؤمنون الإيمان الحقيقى التوحيدى ، حتى يحكموك لكون حكمك حكم اللَّه ، وإنما حجبت الذات بالصفات ، والصفات بالأفعال ، فإذا تشاجروا وقفوا مع صفاتهم ، محجوبين عن أفعال الحق فلم يؤمنوا حقيقة ، فإذا حكموك انسلخوا عن أفعالهم ، وإذا لم يجدوا فى أنفسهم حرجا من قضائك ، انسلخوا عن إرادتهم فصاروا إلى مقام الرضا ، وعن علمهم وقدرتهم فصاروا إلى مقام التسليم ، فلم يبق لهم حجاب من صفاتهم واتصفوا بصفات الحق ، فانكشف لهم فى صورة الصفات ، فعلموا أنك هو ، قائم به لا بنفسك ، عادل بالحقيقة بعدله فتحقق إيمانهم باللَّه (1) .
ويقول عبد الرزاق الكاشانى فى معنى التسليم : ( التسليم الحق ، هو أن تجد نفسك مسلمة إلى الحق ، وأنه ما سلمها إلى الحق إلا الحق ، وقد تسلم من دعوى التسليم له ، فيما شرع من الحكم ، وقضى من الأحكام ، بمعاينتك تسليم الحق إياك إليه ) (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. تفسير القرآن الكريم منسوب لابن عربى 1/269، ص270 .
2. لطائف الإعلام 1/319 ، وانظر أيضا الفتوحات المكية 2/381 .
**********************************
24 - التفريد
**********************************(9/82)
صدق الله العظيم التفريد : الفرد الذى لا يختلط به غيره ، قال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [سبأ/46] .
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : " نهانا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، أن نخلط بسرا بتمر ، أو زبيبا بتمر ، أو زبيبا ببسر ، وقال : من شرب النبيذ منكم ، فليشربه زبيبا فردا ، أو تمرا فردا ، أو بسرا فردا " (1) ، ومن حديث عائشة رضي اللَّه عنها ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج (2) ، وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أفرد يوم أحد ، في سبعة من الأنصار ، ورجلين من قريش ، فلما رهقوه قال : من يردهم عنا وله الجنة (3) .
ويقال فى اللَّه فرد ، تنبيها أنه بخلاف الأشياء كلها فى الازدواج ، المنبه عليه بقوله تعالى : { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْن ِ } [الذاريات/49] ، ومستغن عما عداه ، كما نبه عليه بقوله : { فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِين َ } [آل عمران/97] ، وإذا ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الأشربة (1987) 3/157 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب الحج (1211) 2/875 .
3. أخرجه مسلم فى كتاب الجهاد والسير (1789) 3/1415 .
قيل : هو منفرد بوحدانيته ، فمعناه هو مستغن عن كل ما سواه ، لأنه مخالف للموجودات كلها (1) .(9/83)
والتفرد فى قوله تعالى : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا } [مريم/80] ، يعنى انقطاعه عن كل ما له ، فعن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال : " كنت رجلا قينا (2) ، وكان لي على العاص بن وائل دين ، فأتيته أتقاضاه ، فقال لي : لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، قال : قلت : لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث ، قال : وإني لمبعوث من بعد الموت ، فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد ، قال : فنزلت :
{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَانِ عَهْدًا كَلا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا } [مريم/80:77] (3) .
والتفريد ذكر فى السنة على معنى كثرة الذكر ، إلى حد لا يسبق فيه الذاكر فيكون منفردا بثواب ذكره ، فمن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " سبق المفردون قالوا : وما المفردون يا رسول اللَّه ؟ قال : الذاكرون اللَّه كثيرا والذاكرات " (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. المفردات ص375 .
2. أى يعمل حدادا ، قال ابن منظور : ( القين الحداد ، والقيون جمع قين وهو الحداد والصانع ) ، انظر لسان العرب 13/350 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب تفسير القرآن (4735) 7/284 .
4. أخرجه مسلم فى كتاب الذكر (2676) 4/2062 .
صدق الله العظيم التفريد فى الاصطلاح الصوفى :
والتفريد فى الاصطلاح الصوفى ، يعنى منزلة عليا فى توحيد الله ، يظهر أثرها على حركات الصوفى وسكناته ، كما روى فى ذلك عن عمرو بن عثمان المكى (ت:291هـ) (1) :
تفرد باللَّه الفريد فريد فظل وحيدا والمشوق وحيد
وذاك لأن المفرَدين رأيتهم على طبقات والدنو بعيد
فمن مفرد يسمو بهمة قلبه عن الملك جميعا فهو عنه يحيد
وأدمن سيرا فى السمو توحدا وكل وحيد بالبلاء فريد(9/84)
وآخر يسمو فى العلو تفردا عن النفس وجدا فهى منه تبيد
ويذكر الكلاباذى (ت:380هـ) أن التفريد ، أن يتفرد عن الأشكال وينفرد فى الأحوال ويتوحد فى الأفعال ، وهو أن تكون أفعاله لله وحده ، فلا يكون فيها رؤية نفس ، ولا مراعاة خلق ، ولا مطالبة عوض ، ويتفرد فى الأحوال عن الأحوال ، فلا يرى لنفسه حالا ، بل يغيب برؤية محولها عنها ، ويتفرد عن الأشكال ، فلا يأنس بها ، ولا يستوحش منها (2) .
وللسراج الطوسى (ت:387هـ) فى التفريد عبارة يغلب عليها الطابع الكلامى الذوقى قال : ( التفريد هو إفراد المفرد ، برفع الحدث وإفراد القدم ــــــــــــــــــــ
1. التعرف لمذهب أهل التصوف ص133 .
2. السابق ص133.
بوجود حقائق الفردانية ، الموحدون لله من المؤمنين كثير ، والمفردون من الموحدين قليل ) (1) .
ويذكر السهروردى (ت:632هـ) : أن التفريد أن لا يرى نفسه فيما يأتى به ، بل يرى منة اللَّه عليه ، فالتجريد ينفى الأغيار ، والتفريد ينفى نفسه واستغراقه عن رؤية نعمة اللَّه عليه وغيبته وكسبه (2) ، وجميع ما ذكر من المعانى السابقة له أصل قرآنى ، على اعتبار أن التفريد درجة عليا فى التوحيد ، لا يبلغها إلا من تعلق قلبه باللَّه فى جميع حركاته وسكناته ، وهو الموصوف بدوام الذكر كما سبق فى حديث : ( سبق المفردون ) ، أما ما سوى ذلك من المعانى المرافقة لمصطلح التفرد عند الصوفية ، والتى تشعر القارئ بفناء المتفرد عن شهود السوى ، وغيبوبته المطلقة ، وانقطاعه عن مطالبة العوض فى الطاعة ، وغير ذلك فلا أصل له ، وكذلك ما ذكره محى الدين بن عربى ، أن التفريد هو وقوفك بالحق معك (3) ، ويعنى شهود الحق ولا شئ معه ، فيشهده منفردا ، كحق بلا خلق ، على أن الكل تعيناته ، وليس ثم إلا هو (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. اللمع فى التصوف ص425.(9/85)
2. عوارف المعارف للسهروردى ص526 وقارن بين التفريد عند السهروردى صاحب العوارف ويحى السهروردى المقتول من خلال الرجوع إلى كتابه حكمة الإشراق نشرة هنرى كوربان سنة 1952م ص16 وما بعدها .
3. اصطلاحات الصوفية ابن عربى ص8 .
4. لطائف الإعلام 1/337،338، وانظر رشح الزلال ص97 ، ومعجم اصطلاحات الصوفية للكاشانى ص375 والمناظر الإلهية ص162 .
**********************************
25- التفكر
**********************************
صدق الله العظيم التفكر : الفكرة قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم ، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل ، وذلك للإنسان دون الحيوان ، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة فى القلب ، والتفكر أثر إعمال العقل فى وزن الأسباب ومعرفة العلل ، فيستدل من خلالها على عظمة ربه وافتقاره إليه ، وصدق ما جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم - (1) .
وقد دعا القرآن الكريم إلى التفكر فى كثير من الآيات ، كقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [سبأ/46] .
وقال : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [آل عمران/192:191] ، وقال تعالى : { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون َ } [الحشر/21] .
وفى السنة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال عن المنافق : " ثم يقال ــــــــــــــــــــ(9/86)
1. المفردات ص384 .
له : الآن نبعث شاهدنا عليك ، ويتفكر في نفسه ، من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه : انطقي ، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله ، وذلك ليعذر من نفسه ، وذلك المنافق ، وذلك الذي يسخط اللَّه عليه " (1) .
صدق الله العظيم التفكر فى الاصطلاح الصوفى :
التفكر فى الاصطلاح الصوفى ، ما يتوصل به إلى الحق ، إذا كان مصحوبا بنور التوفيق الإلهى ، والخطاب الشرعى ، لقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِين ٌ } [الأعراف/184] ، وقال : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون َ } [النحل/44] ، ولو انفرد الفكر العقلى عن مصاحبة الشرع زل وضل (2) .
والتفكر الصحيح عند الصوفية ، هو غاية علم اليقين ، كما أن رعاية الإيمان عين اليقين ، وحد التفكر تلمس البصيرة لإدراك البغية وهو ثلاثة أنواع (3) :
الأول : فكرة فى عين التوحيد وفى صفات الكمال ، ونعوت العظمة والجلال وذلك بحر لا ساحل له ، ولا ينجى من الغرق فى هذا البحر إلا الاعتصام بحبل اللَّه تعالى ، والتمسك بالعلم الظاهر .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الزهد (2968) 4/2269.
2. حياة القلوب على هامش قوت القلوب 2/105، ص106 .
3. السابق 2/106 ، وانظر التعريفات ص66 .
الثانى : الفكرة فى لطائف الصنعة ، وفى أسرار الحكمة ، وعجائب الإبداع .
الثالث : الفكرة فى معانى الأعمال والأحوال فخالص الفكر يوصل إلى استقامة القلوب ، واستقامة القلوب توصل إلى الصدق والإخلاص .
وقسم أبو على الروذبارى (ت:322هـ) التفكر إلى خمسة أقسام :
1- تفكر فى آيات اللَّه ، يتولد منه المعرفة .
2- تفكر فى آلاء اللَّه تعالى ونعمائه ، يتولد منه الشكر والرضا .
3- تفكر فى وعد اللَّه وثوابه ، يتولد منه الرجاء والرغبة .(9/87)
4- تفكر فى وعيده وعذابه ، يتولد منه الخوف والرهبة .
5- تفكر فى جفاة النفس مع إحسان اللَّه إليها يتولد منه الحياء من اللَّه تعالى (1) .
ويذكر القشيرى فى مدلول قوله تعالى : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أن التفكر نعمة كل طالب ، وثمرته الوصال بشرط العلم ، ثم يقسم التفكر أيضا إلى ثلاثة أنواع : تفكر الزاهدين فى فناء الدنيا ، وقلة وفائها لطلابها فيزدادون بالفكرة زاهدا فيها ، تفكر العابدين فى جميل الثواب فيزدادون نشاطا عليه ورغبة فيه ، تفكر العارفين فى الآلاء والنعم فيزدادون محبة للحق سبحانه (2).
ــــــــــــــــــــ
1. السابق 2/106 .
2. لطائف الإشارات 3/305 ، وانظر للمقارنة ، طبقات الصوفية ص135 ، و الفتح الربانى ص184 ، وكتاب التوهم للمحاسبى ص2وما بعدها ، والرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله ص19 وما بعدها .
ويبين الكاشانى ، أن التفكر فى اصطلاح الطائفة ، عبارة عن التماس العقل وتفتيشه عما يحصل به مطلوبه وما يبتغيه ، وهو القرب من اللَّه تعالى ، ثم قسم التفكر عند الصوفية إلى ثلاثة أقسام تعبر فى حقيقتها عن التغير الدلالى للمصطلح الصوفى عبر مراحله الزمنية :
1- تفكر العامة : لتحصيل ما به يسهل عليهم الخلاص من إتيان الشهوات التى زينت للناس حتى ملكت رقهم ، فإذا أمكن العبد التحرر من رقها ، بالتحرر من إتيانها ، حتى خرج من ظلمة الشهوات إلى أنوار المشاهدات ، صار من أهل القربات لا محالة .(9/88)
2- تفكر الخاصة : فى تحصيل ما يسهل عليهم سلوك طريق الحقيقة ، مثل أنهم لما رأوا أن مالهم من وجود ، وحياة وعلم وقدرة ، وغير ذلك من صفات الكمال ، إنما هى حادثة لهم ثم زائلة عنهم ، وأنها لهم فى بعض الأوقات أكمل وأشد ، وفى بعضها أنقص وأضعف ، علموا لا محالة أن لها مبدأ فياضا ، هو منبع تلك الكمالات ، التى لا تصح لغيره ، فيترقى صاحب هذا التفكر بمعرفته بنفسه ، من حيث احتياجها إلى مبدئ يفيض عليها وجودها وكمالاتها إلى معرفته بربه ، إنه هو ذلك المبدئ ، فعلموا أن الأمر كما ذكر اللَّه تعالى ، فى قوله : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ } [النحل/53] ، فلهذا كان هذا النوع من الفكر هو تفكر الخاصة (1) .
ــــــــــــــــــــ
1. معجم الكاشانى ص196 ولطائف الإعلام 1/336،337 .
3- تفكر خاصة الخاصة : وأما خاصة الخاصة ، فقد ارتفعوا عن حضيض التفكر ، الذى هو طلب أمر مفقود ، إلى أوج التذكر ، الذى هو مشاهدة الحق الموجود (1) .
وجميع المعانى السابقة لا غبار عليها ، إذ تشهد لها الأصول القرآنية والنبوية إما بنصها أو معناها ، ما عدا المعنى الأخير ، لأنه مبنى على فكر أصحاب وحدة الوجود الداعى إلى أنه لا تفكر ، إذ لا غير ولا موجود ليفكر ، فجميع عالم الأرواح والأجساد ، مظهر الحق وأسماؤه وأوصافه ، وعلى ذلك تنزه اللَّه أن يوجد غيره (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام 1/336،337 .(9/89)
2. تفسير القرآن الكريم منسوب لابن عربى 1/242 ، وتجدر الإشارة إلى أن أغلب الصوفية مولع بتقسيم الذوقيات والروحانيات إلى أفكار وعناصر محددة ، مع أن المفترض أن يكون هذا التقسيم فى المحسوس المنضبط ، فالأحاسيس الإيمانية يصعب حصر معالمها وحدودها ، كما يلاحظ ما عند الصوفية من افتعال تقسيمات عجيبة تحمل الآيات فى كثير من المواضع ما لا تحتمل ، حتى يظهروا للناس بالتحقيق والتدقيق الذى لا يفهمه إلا هم ، ولو عرضا هذا الكلام على شيخ من شيوخ الطرق ، ليفهمه ويعبر عنه للآخرين أو يشرحه للمريدن لربما عجز عن ذلك .
**********************************
26- التقديس
**********************************
صدق الله العظيم التقديس : يطلق على معنيين :
التطهير ، كقوله تعالى : { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [البقرة/30] ، أى نطهر الأشياء بالتوحيد ارتساما لك ، ومن حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنه لا قدست أمة ، لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع " (1) ، وعن عائشة رضى الله عنها ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه وسجوده : " سبوح قدوس رب الملائكة والروح " (2) ، وكتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي أن هلم إلى الأرض المقدسة ، فكتب إليه سلمان ، إن الأرض لا تقدس أحدا ، وإنما يقدس الإنسان عمله ، وقد بلغني أنك جُعلتَ طبيبا تداوي ، فإن كنت تبرئ فنعما لك وإن كنت متطببا ، فاحذر أن تقتل إنسانا ، فتدخل النار ) (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه ابن ماجة فى الأحكام (2426) وقال الشيخ الألبانى : صحيح 2/810 .
2. أخرجه مسلم فى الصلاة (487) 1/353 ، أحمد (24109) 6/34 .
3. أخرجه مالك فى الموطا ،كتاب الأقضية (1459) 2/769 ، وهو حديث منقطع لأن يحى بن سعيد لم يسمع من أبى الدرداء .(9/90)
التقديس بمعنى المباركة ، قال عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - فى قوله تعالى : { إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى } [طه/12] ، المقدس المبارك (1) ، وقوله تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ } [النحل/102] يعنى به جبريل من حيث ، إنه ينزل بالقدس من اللَّه ، أى بما يبارك النفوس ويطهرها ، من القرآن والحكمة ، والبيت المقدس هو المطهر من نجاسة الشرك (2) .
صدق الله العظيم التقديس فى الاصطلاح الصوفى :
التقديس عند الصوفية ، يرد على معنى التطهير والمباركة ، وتنزيه الحق عن كل ما لا يليق بجنابه ، وعن النقائص الكونية مطلقا ، كما ورد فى الأصول القرآنية السابقة ، وهو أخص من التسبيح (3) ، ومنهم من يفسره بالإخلاص فى النية وتطهيرها من الشوائب كما روى عن أبى عبد اللَّه السَّجَزِى (ت:بعد280هـ) أنه قال : ( من لم يقدس علمه ، لم يقدس فعله ، ومن لم يقدس فعله لم يقدس بدنه ، ومن لم يقدس بدنه لم يقدس قلبه، ومن لم يقدس قلبه لم يقدس نيته والأمور كلها مبنية على النية ) (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب التفسير ، تفسير سورة طه 8/285.
2. لسان العرب 6/168 ، والمفردات فى غريب القرآن ص396 ، وانظر معجم ما استعجم لأبى عبيد الله بن عبد العزيز البكري الأندلسي 1/270 ، والتوقيف على مهمات التعاريف ، لمحمد عبد الرؤوف المناوي 1/198 .
3. التعريفات للجرجانى ص67 .
4. طبقات الصوفية ص254 .(9/91)
وقال سهل بن عبد اللَّه التسترى (ت:293هـ) : ( القدوس هو الحق الذى طهر من الأولاد والشركاء والصاحبة ) (1) ، ويرى القشيرى (ت:465هـ) أن التقديس هو تنزيه الله عن كل آفة ونقص ، والقدوس هو المنزه عن الدرك والوصول إلى كنه ذاته ، فليس بيد الخلق إلا عرفان الحقائق ، بنعت التعالى والتأمل فى شهود أفعاله ، فأما الوقوف على حقيقة أنيته ، فقد جلت الصمدية عن إشراف عليه ، أو طمع إدراك فى حال رؤيته ، أو جواز إحاطة فى العلم به فليس إلا ما قالة بلسان مستنطق ، وحالة بشهود حق مستغرق (2) .
والتقديس يرد أيضا عند الصوفية ، على معنى مناف للأصول القرآنية والنبوية حيث جعلوا التقديس هو نفى علو الله على خلقه ، سواء كان العلو علو فوقية أو علو قهر أو علو شأن ، فمعنى التقديس عند أصحاب الوحدة تنزيه اللَّه عن علو المكان والمكانة ، يقول الكاشانى : ( أما تقديسه عن العلو المكانى فظاهر لاستحالة تحيزه تعالى ، وأما تقديسه عن علو المكانة ، فالسر فيه أن الحق تعالى فى كل متعين غير متعين به ، ومع كل شئ غير مشارك له فى مرتبته ، ولما كانت الإشارة الحسية منفية عنه ، فكذا الإشارة العقلية لاستحالة تقيده بمكانة مخصوصة ) (3) ، وهو يشير إلى قول ابن عربى : ( ومن أسمائه الحسنى العلى على من ؟ وما ثم إلا هو ، فهو العلى لذاته أو عن ماذا ؟ وما هو إلا هو ؟ فعلوه
ــــــــــــــــــــ
1. تفسير سهل بن عبد الله ص14 .
2. لطائف الإشارات 3/582:581 .
3. لطائف الإعلام 1/341 .
لنفسه ، وهو من حيث الوجود عين الموجودات فالمسمى محدثات هى العلية لذاتها وليست إلا هو ) (1) .
ــــــــــــــــــــ(9/92)
1. فصوص الحكم ص77 ، التقديس على هذا المعنى باطل لا أصل له فى الكتاب والسنة فالأدلة تواترت على إثبات علو الذات ، وأن اللَّه فوق العرش مستو عليه لا مستول عليه ، استواء بكيفية حقيقية يعلها اللَّه ويجهلها البشر ، وليس كمثله شئ فيها ، ولا يلزم من إثباتها التمثيل والتشبيه لأن النبى أشار إلى ربه إشارة حسية مثبتا بذلك علو الفوقية ، ولا شك أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أولى بالحق من غيره فى ذلك ، ولا حجة فى قول القائل إن إثبات العلو يدل على التحيز ، لأن المكان المحسوس أحكامه تختلف عن المكان الغيبى ، والمكان المثبت فى الأدله هو الذى لا يخضع للمقاييس المرئية بالحسابات المعروفة ، كما أن اللَّه له علو المكانة ، وهو علو الشأن ، فليس كمثله شئ فى ذاته أو صفاته أو أفعاله ، وله علو القهر ، لقوله : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه ِ } [الأنعام/61] وقال الإمام مالك لما سئل عن قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه/5] كيف استوى ؟! فقال : الكيف غير معقول ، والاستواء منه غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة فإنى أخاف أن تكون ضالا وأمر به فأخرج ، انظر العلو للذهبى ص 141 ، ص142 وحلية الأولياء لأبى نعيم 6 / 325 ، 326 ، وانظر الدارمى فى الرد على الجهمية ص 55 ، واللالكائى فى شرح أصول اعتقاد أهل السنة ص 664 وأبو عثمان الصابونى فى عقيدة السلف ص 24، 26 ، والبيهقى فى الأسماء والصفات ص 408 وسئل الإمام أبو حنيفة عمن قال : لا أعرف ربى فى السماء أم فى الأرض ؟ قال : قد كفر لأن الله تعالى يقول : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وعرشه فوق سبع سماوات ، قيل له : فإن قال : هو على العرش استوى ولكن لا أدرى العرش فى الأرض أم فى السماء ؟ قال : إذا أنكر أنه فى السماء ، فقد كفر =
**********************************
27- التقوى
**********************************(9/93)
صدق الله العظيم التقوى : جعل النفس فى وقاية مما يخاف ، ويقال اتقى فلان بكذا إذا جعله وقاية لنفسه ، وفى حديث عدى بن حاتم - رضي الله عنه - ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " اتقوا النار ولو بشقة ــــــــــــــــــــ
= انظر الفتوى الحموية ص 28 ، وقال الإمام الشافعىرحمه الله : ( القول فى السنة التى أنا عليها ورأيت عليها الذين رأيتهم مثل سفيان ومالك وغيرهما : إقرار بشهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه ، تعالى على عرشه فى سمائه يقرب من خلقه كيف شاء وينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء ) انظر مختصرالعلو للعلى الغفار ص 176 ، وقيل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : ( الله فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه وقدرته وعلمه بكل مكان ؟ قال : نعم وهو على عرشه لايخلو شئ من علمه ) انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبى القاسم الللالكائى 1/156 ، وقال الإمام على بن المدينى : قول أهل السنة والجماعة أن الله فوق السموات على العرش استوى ، وسئل عن قوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُم ْ } [المجادلة/7] فقال : اقرأ ما قبلها { أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ، انظر السابق 1/165 ، وانظر الفتوى الحموية ص29 ، قال أبو زرعة الرازى : " إن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه فى كتابه وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا كيف أحاط بكل شئ علما " انظر شرح أصول الاعتقاد وأهل السنة والجماعة 1/177 ، وقال أبو نعيم الأصبهانى : طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة فما اعتقدوه =
تمرة فمن لم يجد شقة تمرة فبكلمة طيبة " (1) .(9/94)
وصارت التقوى فى تعارف الشرع ، حفظ النفس عما يؤثم ، وذلك بترك المحظور ، والمتقى هو الذى يجعل طاعته لله ، وامتثاله لأوامره ، وقاية له من عذابه ، ويتم ذلك بترك بعض المباحات المشتبهات حتى لا يقع فى الحرام ، لما روى عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " الحلال بين والحرام بين ، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس ، فمن اتقى المشبهات ، استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات ، كراع يرعى حول الحمى ، يوشك أن يواقعه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا إن حمى اللَّه في أرضه محارمه " (2) ، وقال ابن عمر : " لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر " (3) .
ــــــــــــــــــــ
= أن الأحاديث التى ثبتت عن النبى صلى الله عليه وسلم فى العرش واستواء الله يقولون بها ويثبتونها من غيرتمثيل ولاتشبيه ولاتكييف وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه ولايحل فيهم ولايمتزج بهم ، وهو مستو على عرشه فى سمائه دون أرضه وخلقه ، وقال أيضا : وأجمعوا أن الله فوق سماواته عال على عرشه ، مستو عليه لا مستول عليه كما تقول الجهمية أنه بكل مكان خلافا لما نزل فى كتابه ، انظر الفتوى الحموية ص 35 .
1. المفردات ص530، 531 ، ولسان العرب 15/403 ، والحديث أخرجه البخارى فى كتاب المناقب (3595) 6/706 .
2. أخرجه البخارى فى الإيمان (52) 1/153 ، ومسلم فى الإيمان (1599) 3/1219.
3. أخرجه البخارى فى كتاب الإيمان ، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بني الإسلام على خمس ، وهو قول وفعل ويزيد وينقص 1/11 .(9/95)
وعن رفاعة بن رافع - رضي الله عنه - ، أنه خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى ، فرأى الناس يتبايعون ، فقال : يا معشر التجار ، فاستجابوا لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه ، فقال : إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا ، إلا من اتقى اللَّه وبر وصدق (1) .
والتقوى منازل ودرجات ، لقوله تعالى : { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرً ا } [الزمر/73] ، فهناك التقوى المنبعثة عن الإسلام ، والتقوى المنبعثة عن الإيمان ، والتقوى الناتجة عن الإحسان ، قال تعالى فى بيان هذا التنوع :
{ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين } [المائدة/93] ، وقال تعالى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ } [محمد/17] ، وعن تميم بن طرفة قال : " جاء سائل إلى عدي بن حاتم فسأله نفقة في ثمن خادم ، أو في بعض ثمن خادم ، فقال : ليس عندي ما أعطيك إلا درعي ومغفري ، فأكتب إلى أهلي أن يعطوكها ، قال : فلم يرض فغضب عدي ، فقال : أما واللَّه لا أعطيك شيئا ، ثم إن الرجل رضي ، فقال : أما واللَّه لولا أني سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من حلف على يمين ، ثُمَّ رَأَى أَتْقَى لِلَّهِ مِنْهَا ، فَلْيَأْتِ التَّقْوَى مَا حَنَّثْتُ يَمِينِي " (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه الترمذى فى كتاب البيوع (1210) وقال : هذا حديث حسن ، وقال الشيخ الألبانى : ضعيف 3/515 وسنن البيهقى الكبرى (10194) 5/266 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب الإيمان (1651) 3/1272 .
صدق الله العظيم التقوى فى الاصطلاح الصوفى :(9/96)
التقوى عند أوائل الصوفية ، من أعلى المقامات وأجلها ، لأنها توقى من المكروهات والمرهوبات ، الحائلة بين المرء وبين المحبوبات والمطلوبات ، فيتقى الكفر بالإيمان ، والشرك بالتوحيد ، والرياء بالإخلاص ، والكذب بالصدق والغش بالنصيحة ، والمعصية بالطاعة ، والابتداع بالاتباع ، والشبهة بالورع والدنيا بالزهد ، والغفلة بالذكر ، والشيطان بالاستعواذ ، والنار باجتناب الأعمال الرديئة إليها ، والشرور كلها بالخيرات المنقذة منها ، فالتقوى شاملة لجميع المقامات ، ومحتويه على سائر معاملات المقربين والأبرار ، والمتقى عند أوائل الصوفية له أربع علامات يعرف بها (1) :
كثرة الخوف من الذنوب الماضية التى ذهبت لذتها وبقيت عقوبتها .
أن يكون كثير الحذر والخوف لما يقع فيه من الذنوب فيما يستقبل من عمره .
أن يفزع ويخاف من سوء الخاتمة ، فإنها الطامة الكبرى ، والداهية العظمى وما جاهد الرجال أنفسهم إلا لأجلها .
كثرة المحاسبة لنفسه لا يفتر عن حسابها طرفة عين ، لما روى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا " (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. حياة القلوب على هامش قوت القلوب 2/250 .
2. أخرجه الترمذى فى صفة القيامة (2459) وقال الشيخ الألبانى : ضعيف 4/638 وهو أثر عن عمر بن الخطاب وليس حديثا ولفظه كما ورد عند الترمذى : " حاسبوا =
وتتنوع عبارات الصوفية المختلفة فى حد التقوى ، وتدور حول المعنى القرآنى والنبوى ، كما روى عن سهل التسترى (ت:293هـ) قال : ( التقوى مشاهدة الأحوال على قدم الانفراد ، قال تعالى : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } [الحج/37] ، أى التبرى ، وهو الإخلاص فالتقوى ، ترك ما دون اللَّه ) (1) .(9/97)
وعن أبى العباس الطوسى البغدادى (ت:299هـ) : ( التقوى ألا تمد عينيك إلى زهرة الدنيا ولا تتفكر بقلبك فيها ) (2) ، وينسب إلى أحمد بن عطاء الآدمى (ت:311هـ) : ( للتقوى ظاهر وباطن ، فظاهرها محافظة الحدود ، وباطنها النية والإخلاص ) (3) .
ــــــــــــــــــــ
= أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وتزينوا للعرض الأكبر ، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا " ، وروى أيضا عن ميمون بن مهران قال : ( لا يكون العبد تقيا ، حتى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه ، من أين مطعمه وملبسه ) ، وقد أورد الترمذى فى هذا المعنى حديثا عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على اللَّه " وقال هذا حديث حسن انظر حديث رقم (2459) 4/738 .
1. التعرف ص117 مكتبة الكتاب الأزهرية .
2. طبقات الصوفية ص241 ، وانظر أيضا فى هذا المعنى سيرة الشيخ الكبير عبد الله بن خفيف الشيرزى ص325 .
3. الرسالة القشيرية 1/308 ، وحلية الأولياء 1/0ص386 .
وروى أيضا عن أبى الحسن الوراق النيسابورى (ت:320هـ) أنه قال : ( أجل شئ يفتح اللَّه تعالى به على عبده التقوى ، فإن منها تتشعب جميع الخيرات ، وأسباب القرب والتقرب ، وأصل التقوى الإخلاص ، وحقيقتها التخلى عن كل شئ ، إلا ممن إليه تقواك ) (1) ، وكلامهم يعد من قببيل تفسير الشواهد القرآنية إما بالاستنباط كقول أبى القاسم النصرباذى (ت:367هـ) : ( من لزم التقوى اشتاق إلى مفارقة الدنيا ، لأن اللَّه سبحانه يقول :
{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُون َ } [الأنعام/32] ) (2) .(9/98)
أو توضيح المعنى ، كقول السراج الطوسى (ت:387هـ) : ( معنى قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران/102] ، راجع إلى قوله : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن/16] ) (3) ، ويقول أبو القاسم القشيرى (ت:465هـ) : ( أصل التقوى ، اتقاء الشرك ، ثم بعده اتقاء المعاصى والسيئات ، ثم بعده إتقاء الشبهات ، ثم يدع بعده الفضلات ) (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. طبقات الصوفية لأبى عبد الرحمن السلمى ص300 ، وانظر الفتح الربانى والفيض الرحمانى لعبد القادر الجيلانى ص134 .
2. الرسالة القشيرية 1/307 .
3. اللمع ص122 .
4. الرسالة القشيرية 1/306 .
وإذا كانت المعانى الصوفية السابقة للتقوى تتفق مع الأصول القرآنية والنبوية أو تعبر عنها ، فإن الكاشانى يذكر لها تفصيلات أخرى بعضها يتوافق مع ما سبق والبعض الآخر فيه نظر ، لكنها معبرة عن التغير الدلالى لمصطلح التقوى عبر مراحل التصوف المختلفة ، فيقول : التقوى المحافظة على الحدود ، وهى على أنواع (1) :
1- تقوى العوام : وهى طاعة العبد لربه فيما أمر ونهى .
2- تقوى الخواص : وهى موافقة العبد لربه فيما قدر وقضى .
3- تقوى خاصة الخاصة : أن تعرف ما لك وما له ، فلا تصف ما بك من نعمة إليه ، وإن وجدت غير ذلك فلا تلومن إلا نفسك .
4- التقوى من التقوى : هو أن تنخلع من إضافة التقوى إليك ، لمشاهدتك قيومية الحق تعالى للأشياء .
5- تقوى المنتهين : هو طهارة قلوبهم عن أن يلم بها شئ غير الحق ، وهذا القلب هو البيت المحرم .
6- تقوى المحققين : هو التقوى منه به ، أى تقواك من مقتضيات اسم المنتقم والضار ، بالالتجاء إلى اسمه النافع والغفار ، قال النبى - صلى الله عليه وسلم - : " اللَّهم إنى أعوذ بك منك " (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام 1/341:339 .
2. جزء من حديث أخرجه مسلم فى كتاب الصلاة (486) 1/352 عن عائشة =(9/99)
7- تقوى الحقيقة : هو أن يتقى اللَّه من أن يضيف إليه مالا ينبغى لقدسه من الحدث وتوابعه أو أن يضيف إلى خلقه مالا ينبغى إلا له ، مما استأثر به لنفسه وهذا إيثار المتقين (1) .
**********************************
28- التواضع
**********************************
صدق الله العظيم التواضع : التواضع التذلل ، ولم يرد لفظه فى القرآن ، وإن ورد بالمعنى فى قوله تعالى : { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِين َ } [الحجر/88] ، وقوله : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا } [الفرقان/63] ، أى بالتواضع ، وقال ابن منظور : تواضع الرجل ذل وتواضعت الأرض انخفضت عما يليها (2) .
وقد ورد التواضع بلفظه فى السنة فى غير حديث مع بقائه على معناه اللغوى ــــــــــــــــــــ
= رضى اللَّه عنها أنها قالت : فقدت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الفراش ، فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه ، وهو في المسجد وهما منصوبتان ، وهو يقول : اللَّهم أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك .
1. انظر مصطلح الإيثار ، إيثار المتقين .
2. لسان العرب 8/397، والمفردات ص530 ، ص531 .(9/100)
فمن ذلك ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - ، عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد اللَّه عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه اللَّه " (1) ، وعن عياض بن حمار - رضي الله عنه - ، قال : قام فينا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -ذات يوم خطيبا ، فقال : " .. وإن اللَّه أوحى إلي أن تواضعوا ، حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغ أحد على أحد " (2) ، وفى ترك الزينة والتباهى بها ، روى معاذ بن أنس الجهني - رضي الله عنه - ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه ، دعاه اللَّه يوم القيامة على رؤوس الخلائق ، حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها " (3) ، وجاء رجل إلى ابن عباس - رضي الله عنه - فقال : " إن مولاك إذا سجد وضع جبهته ، وذراعيه وصدره بالأرض فقال له ابن عباس : ما يحملك على ما تصنع ؟ قال : التواضع ، قال : هكذا ربضة الكلب ، رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد رئي بياض إبطيه " (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب البر والصلة (2588) 4/201.
2. أخرجه مسلم فى كتاب الجنة ونعيمها (2865) 4/2198.
3. أخرجه الترمذى فى كتاب صفة الجنة (2481) وقال : هذا حديث حسن ، وقال الشيخ الألبانى : حسن 4/650 ، ومعنى قوله : من ترك اللباس ، أى فاخر الثياب التى يتباهى بها بين الناس والتى تقلل من تواضعه لله ، ومعنى قوله : حلل الإيمان يعني ما يعطى أهل الإيمان من حلل الجنة .
4. أخرجه أبو داود فى كتاب الصلاة (899) وصححه الألبانى 1/237 ، وأخرجه أحمد فى المسند (2928) واللفظ له .
صدق الله العظيم التواضع فى الاصطلاح الصوفى :(9/101)
التواضع فى الاصطلاح الصوفى ، ورد على المعنى اللغوى السابق ، متوافقا مع الأصول القرآنية والنبوية ، وجل عباراتهم ، يدور حول الخضوع ، والانقياد ونفى الكبر ، وخشوع القلب ، وأثر ذلك فى الحياة ، روى عن الفضيل بن عياض (ت:187هـ) لما سأل عن التواضع : ( أن تخضع للحق وتنقاد له وتقبل الحق من كل من تسمعه منه ) (1) ، وقريب منه ما روى عن أحمد بن عاصم الأنطاكى (ت:بعد250هـ) : ( أنفع التواضع ما نفى عنك الكبر ، وأمات عنك الغضب ) (2) .
وينسب لرويم بن أحمد البغدادى (ت:303هـ) أنه قال : ( التواضع تذلل القلوب لعلام الغيوب ) (3) ، وربما جعل بعضهم التواضع أساس الخير كله فيروى عن يوسف بن حسين الرازى (ت:304هـ) قال : ( الخير كله فى بيت ومفتاحه التواضع ) (4) ، وتكلم عنه أبو طالب المكى (ت:386هـ) من جهة ظهور أثر التواضع على العبد ، فقال : ( اعلم أن التواضع يظهر بمعان خمسة بالقول والفعل والزى والأساس والمنزل ، يكون فى المؤمن بعضها ، فمن كملت فيه فهو متواضع ) (5) ، والقشيرى (ت:465هـ) يجعل كلامه عن التواضع ــــــــــــــــــــ
1. طبقات الصوفية ص12 .
2. السابق ص138 .
3. التعرف ص115 .
4. طبقات الصوفية ص189 .
5. قوت القلوب 2/138 .
شرحا لشاهد نبوى ، أو توضيح للقدوة من فعل النبى - صلى الله عليه وسلم - ، فالتواضع عنده هو الاستسلام للحق ، وترك الاعتراض على الحكم ، ويعلل ذلك بما روى عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يدخل الجنة من كان فى قلبه ، مثقال ذرة من كبر " (1) وحديث أنس - رضي الله عنه - ، قال : " كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، يعود المريض ويشيع الجنائز ، ويركب الحمار ، ويجيب دعوة العبد " (2) ، وربما قسم بعضهم التواضع على درجات متعدة عند الصوفية منها (3) :
الدرجة الأولى : التواضع للدين وهو ألا يعارض معقوله منقولا .(9/102)
الدرجة الثانية : أن ترضى نفسك بأخوة المؤمن ، الذى رضيه اللَّه تعالى لنفسه عبدا ، وأن لا ترد على عدل حقا ، وتقبل من المعتذر معاذيره .
ــــــــــــــــــــ
1. جزء من حديث عبد اللَّه بن مسعود ، أخرجه مسلم فى كتاب الإيمان (91) 1/93 ولفظه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قال : رجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة ، قال : إن اللَّه جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس " .
2. الرسالة 1/380،381 ، والحديث أخرجه الترمذى عن أنس بن مالك فى كتاب الجنائز (1017) ، وقال الألبان : ضعيف 3/337 ، ولفظه : ( كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يعود المريض ويشهد الجنازة ويركب الحمار ويجيب دعوة العبد ، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف من ليف ) وقال الترمذى : هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث مسلم الأعور عن أنس وهو ضعيف .
3. حياة القلوب على هامش قوت القلوب 2/227، ص228.
الدرجة الثالثة : أن تتواضع للحق ، فتنزل عن رأيك وعوائدك فى الخدمة .
وللكاشانى تقسيم آخر للتواضع ، يعبر به عن المفهوم الصوفى على اختلاف مسالكه ، وإن كان قريبا فى هذه المرة من الأصول القرآنية والنبوية :
1- التواضع للمريد : وهو ألا يعارض بمعقول منقولا ، أى لا تعارض بين المنقول من الكتاب والسنة بالمعقول لك ، بحيث تطلب صحة بالاستدلال على ذلك ببحثك ونظرك ، بل تكون مطيعا للأمر تقليدا ، والخبر إيمانا من غير طلب تعقل أمر وراء المفهوم مما أخبرت به ، أو وراء المعرفة لكيفية التعبد بما أمرت به وهذا المعنى نفيس يؤدى إلى نفى البدعة واتباع السنة .(9/103)
2- التواضع للإرادة : هو أن يترك العبد جميع المرادات والمطالب ، بحيث لا يريد من الحق إلا ما أراده ، فينزل عن مراد نفسه ، ويترك الحق يتصرف فيها على مراده تعالى ، وهذا المعنى يتوافق مع الأصول القرآنية إذا كان يقصد به الرضا بالقدر ، أما ما يأتى من المعانى ، فتتمشى مع المنهج العام للمتحققين فى الإيمان ، وإن كانت التقسيمات التى ذكرها للتواضع وتسمية كل نوع باسم مستقل يفتقر إلى الإقناع .
3- التواضع للحقيقة : هو أن تنزل عن رسمك الذى هو نفسك لتنفية الحقيقة وهذا النزول ، وإن كان غير مكتسب ، لأن الفناء إنما يكون وقت اضمحلال ظلمة الرسوم فى نور التجلى ، لكن مداومة العبد على رياضة نفسه ، بملازمة الذكر ، ومنع العادة وتحمله لمشاق المجاهدة ، هو الذى يعده لأن يصير من أهل المقامات .
4- التواضع مع الخلق : هو بأن ينتفى عنك الخضوع لأحد من الخلق عند حاجتك إليه ، كما ينتفى عنك الجفاء وقت الغنى عنه ، وذلك لأن الخضوع عند الحاجة ليس من باب التواضع ، إنما هو من باب الصنعة والمسكنة والخديعة ، فالمتواضع بالحقيقة من كان قصده فى قربه من الناس الرحمة بهم واللين لهم ، وفى بعده عنهم الزهد فيما فى أيديهم والنزهة عما لا يحل له منهم عند المخالطة لهم ، فمثل هذا لا يكون قربه ممن قرب منه مكرا وخديعة ، ولا بعده عمن تباعد عنه تكبرا وعظمة ، وهذا هو التحقق بالتواضع مع الخلق لأجل تعظيمه للحق ، وذلك أكمل أوصاف العبد عند ملابسته للخلق (1) .
**********************************
29- التوبة
**********************************
صدق الله العظيم التوبة : التوبة ترك الذنب على أجمل الوجوه ، وهو أبلغ وجوه الاعتذار فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه : إما أن يقول المعتذر : لم أفعل ، أو يقول : فعلت لأجل كذا ، أو يقول : فعلت وأسأت وقد أقلعت ، ولا رابع لذلك ، وهذا الأخير هو التوبة (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام 1/363 ، 364 .(9/104)
2. المفردات ص76 .
والتوبة فى الشرع : ترك الذنب لقبحه ، والندم على ما فرط منه ، والعزم على ترك المعاودة ، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة ، فمتى اجتمعت هذه الأربع ، فقد كمل شرائط التوبة ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا } [التحريم/8] ، وقال سبحانه : { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [التحريم/4] (1) .
والتائب يقال لباذل التوبة ولقابل التوبة ، فالعبد تائب إلى اللَّه ، واللَّه تائب على عبده ، والتواب العبد الكثير التوبة ، وذلك بتركه كل وقت بعض الذنوب على الترتيب حتى يصير تاركا لجميعه ، وقد يقال لله ذلك ، لكثرة قبوله توبة العباد حالا بعد حال ، قال الله تعالى : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم ُ } [البقرة/128] وقال : { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم ُ } [البقرة/37] ، وعن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " اللَّه أفرح بتوبة عبده ، من أحدكم سقط على بعيره ، وقد أضله في أرض فلاة " (2) .
وقوله : { وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا } [الفرقان/71] أى التوبة التامة ، وهو الجمع بين ترك القبيح ، وتحرى الجميل (3) ، وجميع الأيات القرآنية والأحاديث النبوية التى وردت فى التوبة على هذا المعنى .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص76 ، وكتاب العين لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي 8/138 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الدعوات (6309) 11/105 .
3. لسان العرب 1/233 ، وانظر السابق ص76 .
صدق الله العظيم التوبة فى الاصطلاح الصوفى :(9/105)
التوبة فى الاصطلاح الصوفى وردت فى أغلب ألفاظهم على المعنى القرآنى البسيط ، مؤيدة فى الغالب بالشواهد القرآنية والنبوية ، كما روى عن عمرو بن عثمان المكى (ت:291هـ) قال : ( التوبة فرض على جميع المذنبين والعاصين صغر الذنب أو كبر ، وليس لأحد عذر فى ترك التوبة بعد ارتكاب المعصية لأن المعاصى كلها ، قد توعد اللَّه عليها أهلها ، ولا يسقط عنهم الوعيد إلا بالتوبة وهذا مما يبين أن التوبة فرض ) (1) ، وربما كان لبعضهم فيها جتهاد لا يخلو من الإيجابية ، كاختلافهم فى نسيان الذنب مع التوبة ، او عدمه فيروى عن سهل بن عبد اللَّه التسترى (ت:293هـ) أنه قال : ( التوبة إلا تنسى ذنبك ) ، وعن الجنيد بن محمد (ت:297هـ) : ( التوبة نسيان الذنب ) (2) ، وبيان ذلك عندهم ، كما ذكر الطوسى ، أن التوبة التى ذكرها سهل ، توبة المبتدئين والتى ــــــــــــــــــــ
1. طبقات الصوفية ص202 وانظر فى التوبة عند الصوفية أيضا تنبيه الغافلين للسمرقندى ص35 ، والرعاية لحقوق الله للمحاسبى ص68 وما بعدها ، وللغزالى روضة الطالبين ص168 ، ومنهاج العابدين ص10 ، وإحياء علوم الدين 4/2 وما بعدها ، وعوارف المعارف للسهروردى ص487 ، وكتاب كشف الغايات لابن عربى ص484 نشر بمجلة الشروق بيروت سنة 1967 م ، وانظر المنهج الصوفى فى الأخلاق ، رسالة دكتوراه محمد يوسف ابن الحاج محمد مخطوط بمكتبة كلية دار العلوم رقم 375 سنة1974 م ص120 وما بعدها .
2. اللمع فى التصوف ص68 .
ذكرها الجنيد توبة المتحققين ، لأنه يخرج حلاوة ذلك الفعل من قلبه خروجا لا يبقى له فى سره أثر ، حتى يكون بمنزلة من لا يعرف ذلك قط (1) .(9/106)
والتوبة يجعلها أبو يعقوب السوسى (ت:304هـ) بداية طريق الصادقين إلى الله ، فيروى عنه أنه قال : ( التوبة أول مقام من مقامات المنقطعين إلى اللَّه ومعناها الرجوع من كل شئ ذمة العلم إلى ما مدحه العلم ) (2) ، ويذكر المكى (ت:386هـ) أن فرض التوبة الذى لا بد للتائب منه ، ولا يكون محقا صادقا إلا به ، الإقرار بالذنب ، والاعتراف بالظلم ، ومقت النفس على الهوى ، وحل الإصرار الذى كان عقده على أعمال السيئات ، وإطابة الغذاء بغاية ما يقدر عليه ، لأن الطعمة أساس الصالحين ، ثم الندم على ما فات من الجنايات ، يقول أبو طالب المكى (3) :
( وجملة ما على العبد من التوبة ، وما تعلق بها عشر خصال : فرض عليه ألا يعصى اللَّه تعالى ، وأن ابتلى بمعصية لا يصر عليها ، والتوبة إلى اللَّه تعالى منها والندم على ما فرط منه ، وعقد الاستقامة على الطاعة إلى الموت ، وخوف العقوبة ، ورجاء المغفرة ، والاعتراف بالذنب واعتقاد أن اللَّه تعالى قدر ذلك عليه ، وأنه عدل منه ، والمتابعة بالعمل الصالح ليعمل فى الكفارات لقول النبى ــــــــــــــــــــ
1. التعرف ص111 .
2. اللمع ص68 .
3. قوت القلوب 1/179 .
صلى الله عليه وسلم : " واتبع السيئة الحسنة تمحها " (1) ، ويعتبر كلام المكى من أنفس ما قيل فيها ، لا سيما عندما قسم التوبة إلى نوعين (2) :
1- توبة العموم ، ويستدل لها بقوله تعالى : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون َ } [النور/31] ، ويذكر فى معناها ، ارجعوا إليه من هوى نفوسكم ، ومن وقوفكم مع سهواتكم ، عسى أن تظفروا ببغيتكم فى المعاد ، وكى تبقوا ببقاء اللَّه فى نعيم لا زوال له ولا نفاد ، ولكى تفوزوا وتسعدوا بدخول الجنة ، وتنجوا من النار ، فهذا هو الفلاح .(9/107)
2- توبة الخصوص ، ويستدل لها بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } [التحريم/8] ، ويذكر فى معناها ، أن النصوح من النصح على وزن فعول ، للمبالغة فى النصح ، ومعناه خالصة لله تعالى مجردة لا تتعلق بشئ ، ولا يتعلق بها شئ ، وهو الاستقامة على الطاعة ، من غير روغان إلى معصية ، كما تروغ الثعالب ، وألا يحدث نفسه بذنب متى قدر عليه ، وأن يترك الذنب لأجل اللَّه تعالى خالصا لوجهه ، كما ارتكبه لأجل
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه الترمذى عن أبي ذر فى كتاب البر والصلة (1987) وقال الشيخ الألبانى : حسن 4/355 ، ولفظه قال أبو ذر - رضي الله عنه - : "قال لي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : اتق اللَّه حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن " وقال أبو عيسى الترمذى : هذا حديث حسن صحيح .
2. السابق 1/179 .
هواه مجمعا عليه بقلبه وشهوته ، فهذه هى التوبة النصوح ، وهذا العبد هو التواب المتطهر الحبيب .
ويذكر القشيرى (ت:465هـ) أن التوبة أول منزل من منازل السالكين وأول مقام من مقامات الطالبين ، وحقيقة التوبة الرجوع عما كان مذموما فى الشرع إلى ما هو محمود فيه ، واستدل لذلك بقوله تعالى : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون َ } [النور/31] ، كما استدل بأصول قرآنية ونبوية أخرى (1) .(9/108)
ويعلق الكاشانى التوبة على معنى الرجوع إلى اللَّه تعالى ، ويجعل ذلك على مراتب بعضها يوافق الأصول القرآنية ، وبعضها يخالف ، فمنها : الرجوع من المخالفة إلى الموافقة ، ومن الطبع إلى الشرع ، ومن الظاهر إلى الباطن ، ومن الخلق إلى الحق ، بحيث يتوب العبد عن كل ما سوى اللَّه ، بحيث لا يبقى فى قلبه ميل إلى غير ربه تعال ى، وهذا هو الذى يعبد اللَّه لله ، لا لرغبة فى مثوبة أو رهبة فى عقوبة ، ثم يتوب بعد ذلك من علة التوبة ، أى من رؤيته بأن التوبة مما سوى اللَّه ، إنما حصلت له من نفسه ، بل إنما هى فضل ربه ، ثم يتوب من رؤية توبته من تلك العلة ، بحيث لا يرى أنه رأى ذلك بنفسه إنما رآه بربه (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة القشيرية 1/275 .
2. لطائف الإعلام 1/352،353 ، وكلام الكاشانى فى نهايته يؤدى إلى الفناء عن شهود السوى ، مما يوقع فى فلسفة الحلول والاتحاد ، للتعرف على التوبة من الوجة الكلامية يمكن الرجوع إلى غاية المرام فى علم الكلام الآمدى ( تحديد معناها وجوبها عقلا =
**********************************
30- التوجه
**********************************(9/109)
صدق الله العظيم التوجه : وجهت الشئ أرسلته فى جهة واحدة فتوجه ، ويقال لتوجه القلب والبدن وإن كان توجه البدن تابع لتوجه القلب (1) ، فتوجه القلب بمعنى توجه أعمال القلوب كالنية والقصد والعزم والإخلاص ، قال تعالى : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } [البقرة/148] ، وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام : { قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ } ? [الأنعام/79:78] ، ومن توجه البدن ، التوجه إلى القبلة ، كما روى عن جابر بن عبد اللَّه - رضي الله عنه - ، قال : "كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته حيث توجهت فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة " (2) .
وعن البراء بن عازب رضي اللَّه عنهما ، قال : " كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صلى نحو بيت المقدس ، ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ، وكان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يحب أن ــــــــــــــــــــ
= عند المعتزلة وجوب قبولها على الله عندهم ، كتاب الفصل فى الملل والأهواء والنحل ابن حزم 4/62:61 ، مذاهب الإسلاميين عبد الرحمن بدوى ، دار العلم للملايين بيروت 2/379:376 ، الإرشاد الجوينى ص410:403 ، وتأويلات أهل السنة لأبى منصور الماتريدى تحقيق إبراهيم عوضين القاهرة1971م 1/130:128 .
1. المفردات ص514 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الصلاة (399) 1/598 .(9/110)
يوجه إلى الكعبة فأنزل اللَّه : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام ِ } [البقرة/144] ، فتوجه نحو الكعبة وقال السفهاء من الناس وهم اليهود : { مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ٍ } [البقرة/142] فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل ، ثم خرج بعد ما صلى ، فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس ، فقال : هو يشهد أنه صلى مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأنه توجه نحو الكعبة ، فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة " (1) .
وقال تعالى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ } [النحل/76] ، وعن عثمان بن حنيف - رضي الله عنه - ، أن رجلا ضرير البصر ، أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ادع اللَّه أن يعافيني ، قال : إن شئت دعوت ، وإن شئت صبرت فهو خير لك ، قال : فادعه ، قال : فأمره أن يتوضأ ، فيحسن وضوءه ، ويدعو بهذا الدعاء : اللَّهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي اللَّهم فشفعه في (2) .
3- وقد يطلق التوجه بمعنى الإلزام والأمر المفروض ، كقول عبد اللَّه بن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان ، يحت بعضهم بعضا على الإسلام ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الصلاة (400) 1/600.
2. أخرجه الترمذى فى كتاب الدعوات (3578) وقال الشيخ الألبانى : صحيح 5/569 وابن ماجة فى كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) 1/441.(9/111)
نفاقا لما قوى بعد غزوة بدر : " هذا أمر قد توجه ، فبايعوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام فأسلموا " (1) .
صدق الله العظيم التوجه فى الاصطلاح الصوفى :
والتوجه فى الاصطلاح الصوفى ، يعنى إخلاص النية ، وإرادة العبودية فى كل قول وعمل ، ومما ورد فى ذلك ، قول سهل بن عبد اللَّه فى حد التوجه : ( هو قصد العبد فى حركاته وسكونه إلى اللَّه ، (2) ، ويذكر القشيرى أن التوجه هو إفراد القصد وتطهير العقد وحفظ العهد وتخليص الوجد ، كما توجه إبراهيم - عليه السلام - فى قوله تعالى : { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِين } َ [الأنعام/79] ، يقول القشيرى فى قول إبراهيم وجهت وجهى : ( أفردت قصدى لله ، وطهرت عقدى عن غير الله ، وحفظت عهدى فى الله لله ، وخلصت وجدى بالله ، فإنى لله بالله ، بل محو فى الله بالله لله ) (3) .
ويذكر فى قوله تعالى : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } [البقرة/148] إن كل قوم اشتغلوا عنا بشئ حال بينهم وبيننا فكونوا أنتم أيها المؤمنون لنا وبنا :
إذا الأشغال ألهونى عنك بشغلهم : جعلتك أشغالى فأنسيتنى شغلى (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب تفسير القرآن (4566) 8/78 .
2. تفسير سهل بن عبد اللَّه التسترى ص36 .
3. لطائف الإشارات 1/135 .
4. السابق 1/485 .
ويقسم الكاشانى التوجه عند الصوفية إلى نوعين :
توجه الأصاغر : وهو المقصود بما سبق من المعانى عندهم ، ويراد به حضور القلب مع الحق ، ومراقبته له بتفريغه عن كل ما سواه ، من صور الأكوان والكائنات (1) .(9/112)
توجه الأكابر الكمل : ويعنى من منظور وحدة الوجود ، ألا يجعل العبد فى عبوديته لربه متعلقا غير الحق ، وأن يكون ذلك تعلقا جمليا كليا ، غير محصور فيما يعلمه العبد منه تعالى ، أو يسمعه عنه ، بل على نحو ما يعلم سبحانه نفسه فى أكمل مراتب علمه بنفسه وأعلاها ، فمن كان فى العبودية والعمل على هذا النحو من التوجه فإن توجهه أكمل التوجهات (2) .
**********************************
31- التوحيد
**********************************
صدق الله العظيم التوحيد : التفرد يقال : فلان واحد دهره ، أى لا نظير له (3) ، والتوحيد الإيمان باللَّه وحده لا شريك له ، وهو على ثلاثة أنواع :
(1- إفراد اللَّه بالربوبية ، كما جاء فى قوله تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام 1/365 وانظر فى التوجه عند ابن عربى الفتوحات المكية 1/265 .
2. السابق 1/365 .
3. المفردات ص515 وانظر لسان العرب 3/70 ، والقاموس المحيط 1/414 .
فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا } [النساء/171] ، وكقوله تعالى : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [يوسف/39] .
(2- إفراد اللَّه بأسمائه وأوصافه : كقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى/11] وقوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد ٌ } [الإخلاص/4] وقوله سبحانه : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [مريم/65] .(9/113)
(3- إفراد اللَّه بالعبادة : كقوله تعالى : { إِنْ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [يوسف/40] ، وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل - رضي الله عنه -إلى نحو أهل اليمن ، قال له :
" إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا اللَّه تعالى ، فإذا عرفوا ذلك ، فأخبرهم أن اللَّه قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم .." (1) ، وفى رواية : " فليكن أول ما تدعوهم إليه ، عبادة اللَّه عز وجل " (2) ، ومن حديث جابر بن عبد اللَّه - رضي الله عنه - ، يصف حجة الوداع : " ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا ، وعليه ينزل القرآن ، وهو يعرف تأويله ، وما عمل به من شيء عملنا به ، فأهل بالتوحيد ، لبيك اللَّهم لبيك ، لبيك لا ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب التوحيد (7372) 13/359 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب الإيمان (19) 1/51 .
شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك " (1) وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يضحي اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين ، أملحين موجوءين ، فذبح أحدهما عن أمته ، لمن شهد لله بالتوحيد وشهد له بالبلاغ وذبح الآخر عن محمد وعن آل محمد - صلى الله عليه وسلم - ) (2) .(9/114)
والتوحيد فى القرآن ، أغلبه يدور على النوع الثالث ، لكون المشركين نازعوا فيه دون الباقى ، قال تعالى عن إقرارهم بالتوحيد فى النوعين السابقين : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ } [الزخرف/9] وقال عن موقفهم من الثالث : { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُون } [الزمر/45] ، أى إذا انفرد اللَّه بالذكر للعبادة دون آلهتهم ، كقوله تعالى : { فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا } [الحج/34] تعجبوا وأنكروا وقالوا : { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب ٌ } [ص/5] ، وعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - ، أن والده العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة ثم مات ، ولم يفعل وأن ولده هشام بن العاصي نحر حصته ، خمسين بدنة ، وأن عمرا - رضي الله عنه - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عن أن يذبح الباقى فقال : " أما أبوك فلو كان أقر بالتوحيد ، فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك " (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الحج (1218) 2/886 .
2. أخرجه ابن ماجة فى الأضاحى (3122) ، وقال الشيخ الألبانى : صحيح 2/1034 .
3. أخرجه أحمد فى المسند (6665) .
وفى رواية أخرى ، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " إنه لو كان مسلما ، فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه ، أو حججتم عنه ، بلغه ذلك " (1) .
صدق الله العظيم التوحيد فى الاصطلاح الصوفى :(9/115)
والتوحيد عند أغلب الصوفية ورد بالمعنى الشرعى ، فمنهم من تناوله بصبغة كلامية معبرة عن طريقة السلف ، كما روى عن ذى النون (ت:248هـ) أنه سئل عن التوحيد ؟ فقال : ( هو أن تعلم أن قدرة اللَّه تعالى فى الأشياء بلا مزاج ، وصنعه للأشياء بلا علاج ، وعلة كل شئ صنعه ، ولا علة لصنعه وليس فى السماوات العلى ولا فى الأرضين السفلى مدبر غير اللَّه تعالى ، ومهما تصور وهمك فاللَّه تعالى بخلاف ذلك ) (2) ، ومثله أيضا ما ينسب إلى الجنيد بن محمد (ت:297هـ) أنه قال : ( التوحيد إفراد القديم عن الحدث ) (3) ، ويعنى إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته ، بكمال أحديته ، وأنه الواحد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، ينفى الأضداد والأنداد والأشباه بلا تشبيه ولا تكييف ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه أبو داود فى كتاب الوصايا (2883) ، وقال الشيخ الألبانى : حسن 3/118 وانظر سنن البيهقى الكبرى (12417) 6/279 .
2. اللمع ص49 .
3. كشف المحجوب للهجويرى ص334 ، كثيرا ما يستشهد ابن تيمة بكلام الصوفية فى التوحيد وإثبات الصفات ، معتبرا المعتدلين منهم من علماء السلف المحققين ، انظر أسس الاتفاق بين السلفية ومشايخ الصوفية فى تراث ابن تيمية ، الطبلاوى محمود حسين سعد رسالة دكتوراه بكلية دار العلوم ، (837) لسنة 1982م .(9/116)
ولا تصوير ولا تمثيل ، لقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير ُ } [الشورى/11] (1) ، ويذكر الهجويرى (ت:465هـ) التوحيد مدللا على معناه بالأصول القرآنية والنبوية ، فمن القرآن قوله تعالى : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ } ? [البقرة/163] وقوله : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص/1] وقوله : { لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِد ٌ } [النحل/51] ، ومن السنة ما روى عن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" أن رجلا لم يعمل من الخير شيئا قط ، إلا التوحيد فلما حضرته الوفاة ، قال لأهله : إذا أنا مت ، فخذوني واحرقوني حتى تدعوني حممة ، ثم اطحنوني ، ثم اذروني في البحر في يوم راح ، قال : ففعلوا به ذلك ، قال : فإذا هو في قبضة اللَّه ، قال : فقال اللَّه عز وجل له : ما حملك على ما صنعت؟ ، قال : مخافتك قال : فغفر اللَّه له " (2) .
ثم يبين أن حقيقة التوحيد مركبة من إثبات توحيد شئ ما ، وفى كمال معرفة توحيده ، وكما أن اللَّه سبحانه وتعالى واحد ، ليس له شريك فى ذاته ولا فى صفاته ، وليس له بديل ولا شريك فى أعماله ، وحيث أن الموحدين يعتقدون بأنه كذلك ، فمعرفتهم بالتوحيد تسمى توحيدا ، ثم قسم التوحيد على ثلاثة أنواع (3) :
ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة القشيرية 2/583 .
2. أخرجه أحمد (3776) والبخارى فى كتاب أحاديث الأنبياء (3481) 6/594 .
3. كشف المحجوب ص331،332 وانظر الرسالة القشيرية 2/582 .
1- توحيد اللَّه لنفسه : ويعنى علمه بتوحيده كقوله تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } [آل عمران/18] .
2- توحيد اللَّه فى خلقه : ويعنى أمره للإنسان بنطق التوحيد كقوله سبحانه وتعالى : { فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا } [الحج/34] .(9/117)
3- توحيد الناس لله : وذلك معرفتهم بتوحيده ، كقوله تعالى : { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون } [الأنعام/19] .
ويعتبر الكاشانى ما تقدم من أقوال الصوفية فى التوحيد ، توحيد البدديات وهو شهادة ألا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، على وجهها المطلوب ، وأحيانا يسميه توحيد العامة (1) ، ويجعل درجة التوحيد بعدها على نوعين :
أ- توحيد الخاصة ، وهو أرقى من توحيد العامة إلى حد ما ، وحده أن لا يرى مع الحق سواه .
ب- توحيد خاصة الخاصة ، وهو المعتبر عنده ، وحدُّه ألا ترى سوى ذات واحدة ، وعند ذلك يتعذر التوحيد ، ولا يمكن تحققه إذ سيكون شركا فى عرفهم ، ويستدل الكاشانى لهذا النوع الراقى من التوحيد ، بما قاله عمر بن الفارض فى التائية حيث يقول :
ــــــــــــــــــــ
1. معجم الكاشانى ص378 .
ولو أننى وحدت ألحدت وانسلخت : عن أى جمعى مشركا بى صنعتى
واستدل أيضا بقول أبى إسماعيل الأنصارى : وقد أجبت فى سالف الزمان سائلا سألنى عن توحيد الصوفية بهذه القوافى الثلاث :
ما وحد الوحد من واحد إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لأحد
يقول الكاشانى معقبا فقوله : لاحد ، هو معنى قول سيدى عمر ، ولو أننى وحدت ألحدت (1) .
**********************************
32- التوفيق
**********************************
صدق الله العظيم التوفيق : الوفق المطابقة بين الشيئين ، قال تعالى عن عذاب الكافرين :
ــــــــــــــــــــ(9/118)
1. لطائف الإعلام 1/367 ، 368 وانظر أيضا فى التوحيد عند فلاسفة الحلول ووحدة الوجود ، وأخبار الحلاج لأبى يوسف القزوينى ، نشرة ماسينيون ص24 والمنحنى الشخصى لحياة الحلاج لماسينيون ص66 ، وكتاب الطواسين للحلاج ص9 ، وحكمة الإشراق للسهروردى المقتول ص367 ، وله أيضا هياكل الأنوار ص302 ، والفتوحات المكية لابن عربى 2/288 ، وانظر فصوص الحكم 2/145 ولابن سبعين رسالة بدء العارف ص54 ، وخطاب الله بلسان نوره ص143 والرسالة الفقيرية ص229 .
{ جَزَاءً وِفَاقًا } [النبأ/26] وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : " وافقت ربي في ثلاث فقلت : يا رسول اللَّه ، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [البقرة/125] ، وآية الحجاب ، قلت : يا رسول اللَّه لو أمرت نساءك أن يحتجبن ، فإنه يكلمهن البر والفاجر ، فنزلت آية الحجاب واجتمع نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغيرة عليه ، فقلت لهن : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُن َّ } [التحريم/5] فنزلت هذه الآية " (1) .
والموافقة تطلق أيضا على المصادفة : يقال وافقت فلانا ، ووافقت الأمر صادفته ، ومن ذلك ما روى عن جابر بن عبد اللَّه - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
" إن في الليل لساعة لا يوافقها ، رجل مسلم يسأل اللَّه خيرا من أمر الدنيا والآخرة ، إلا أعطاه إياه ، وذلك كل ليلة " (2) ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا أمن الإمام فأمنوا ، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة ، غفر له ما تقدم من ذنبه " (3) .
والاتفاق مطابقة فعل الإنسان للقدر ، ويقال ذلك فى الخير والشر ، يقال : اتفق لفلان خير ، واتفق له شر ، وعن معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - قال : ــــــــــــــــــــ(9/119)
1. أخرجه البخارى فى كتاب الصلاة (402) 1/601 وانظر فى معانى اللفظ المفردات للراغب الأصفهانى ص528 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب صلاة المسافرين (757) 1/521 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب الأذان (780) .
" قلت : يا رسول اللَّه ومنا رجال يخطون ، قال : كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك ) (1) والخط أى الخط فى الرمل ، وهو نوع من الكهانة يدعى فيه الكاهن معرفة الغيب ، ولكنه فى الحديث وحى لكون الفاعل نبى .
والتوفيق مطابقة فعل الإنسان للقدر ، ولكنه يختص فى التعارف بالخير دون الشر ، كقوله تعالى : { وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ } ? [هود/88] ، وكقوله عز وجل : { ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } [النساء/62] ، وعن ابن عمر - رضي الله عنه - ، قال : " كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى الهلال ، قال : اللَّه أكبر اللَّهم أهله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، والتوفيق لما يحب ربنا ويرضى ربنا وربك اللَّه " (2) .
صدق الله العظيم التوفيق فى الاصطلاح الصوفى :
التوفيق فى الاصطلاح الصوفى ، يتوافق فى الدلالة مع الأصول القرآنية السابقة فقد ذكره الحكيم الترمذى (ت:320هـ) على معنى إعانة الله للعبد عند بلوغه حقيقة الصدق ، فيقول : ( أما معرفة النفس من قبل مخالفتها والالتجاء إلى الله ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب المساجد (537) .
2. صحيح بمعناه ، من رواية طلحة بن عبد الله عند الترمذى (3451) وصححه الألبانى 5/504 ، وابن حبان فى صحيحه (888) 3/171 ، وأخرجه الدارمى بلفظه عن ابن عمر فى كتاب الصوم (1687) 2/7 وهو منقطع ، انظر الجرح والتعديل لابن أبى حاتم رقم (1249) 5/264 ، والإكمال فى ذكر من له رواية فى مسند الإمام أحمد من الرجال لشمس الدين الحسينى رقم (522) ص 265 .(9/120)
للنجاة منها ، فهذه معرفة فطن كيس ، فإذا علم الله الصدق من عبده ، فى هذا كان منه على أحد منزلتين ، فمنزلة منه أن يهديه لطريق الجهد ، طريقا مستقيما لا يلتفت ، ولا يعرج على شئ ، ويوفقه ويعينه ، ويثيبه فيه حتى لا تختلف أحواله ) (1) ، ويعرفه أبو طالب المكى (ت:386هـ) من خلال استقصائه للمعانى القرآنية والنبوية ، فيقول : ( التوفيق هو الاتفاق ، وهو أن يجمع اللَّه بينك وبين الشئ الذى تريده ، ولا بد منه فى كل عمل وإن قل ، قال تعالى : { وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ } ? [هود/88] ولذا كان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - : " يامقلب القلوب ثبت قلبى على دينك " (2) .
ويذكر القشيرى أن حقيقة التوفيق ما ينفق به الشئ ، وفى الشريعة التوفيق ما تنفق به الطاعة ، وهو قدرة الطاعة ، ثم كل ما تقرب العبد به من الطاعة من توفير الدواعى وفنون المنهيات يعد من جملة التوفيق على التوسع ، والتوفيق باللَّه ــــــــــــــــــــ
1. العلل للحكيم الترمذى ص210 مخطوطة دار الكتب رقم 125 مجاميع .
2. قوت القلوب 1/124 والحديث أخرجه الترمذى فى كتاب القدر (2140) ) وصححه الألبانى4/448 ، عن أنس - رضي الله عنه - قال : " كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك " وأخرجه اسحاق بن راهويه فى مسنده حديث رقم (1369) 3/755 ، وأبو طالب المكى متميز فى أغلب أسلوبه باعتماده على الكتاب والسنة ، وكلامه فى مسائل الاعتقاد من أجود ما يحتج به لمذهب السلف ، وعلى الرغم من هذا له مخالفات يجب الحذر منها ، انظر المزيد فى رسالة ماجستير للدكتور عبد الحميد مدكور ، أبو طالب المكى ومنهجه الصوفى ، مخطوط بكلية دار العلوم ، جامعة القاهرة ، رقم 806 سنة1872م .(9/121)
ومن اللَّه ، وهو سبحانه بإعطائه متفضل ، ومدار الأمر فى التوفيق على الأغراض المقتضية حسن القصد بالإصلاح ، فيقرن اللَّه به حسن التيسير ، ومن انطوى على قصد بالسوء ، وكل الحق بشأنه التعويق ، قال تعالى : { إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّه ِ } [هود/88] (1) .
**********************************
33- التوكل
**********************************
صدق الله العظيم التوكل : التوكيل أن تعتمد على غيرك ، وتجعله نائبا عنك ، قال الله تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا } [الأحزاب/3] ، أى اكتف به أن يتولى أمرك ويتوكل لك ، وقال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [آل عمران/173] أى نعم الموكل عنا فى حفظنا منهم ، وقال تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِي } [يونس/71] (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإشارات 2/152،152 وقريب من كلام القشيرى ، قول الجرجانى فى حد التوفيق عند الصوفية : ( التوفيق جعل اللَّه فعل عباده ، موافقا لما يحبه ويرضاه ) التعريفات للجرجانى ص72 .
2. المفردات ص531 ، ص532 .
والتوكل يقال على وجهين :(9/122)
1- يقال : توكلت لفلان ، بمعنى توليت له وتعهدته ، وعن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من توكل لي ما بين رجليه ، وما بين لحييه ، توكلت له بالجنة " (1) ، وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " مثل المجاهد في سبيل اللَّه ، واللَّه أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم ، وتوكل اللَّه للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه ، أن يدخله الجنة ، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة " (2) .
2- ويقال : وكلته فتوكل لى وتوكلت عليه ، بمعنى اعتمدته قال الله تعالى : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق/3] ، وربما يفسر الوكيل بالكفيل ، والوكيل أعم ، لأن كل كفيل وكيل ، وليس كل وكيل كفيلا (3) ، وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " لو أنكم كنتم توكلون على اللَّه حق توكله ، لرزقتم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا " (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الحدود (6807) 12/115 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد والسير (2787) 6/8 .
3. المفردات ص532 .
4. أخرجه الترمذى فى كتاب الزهد (2344) وقال : حديث حسن صحيح وقال الألبانى : صحيح 4/573 وأحمد فى المسند (272) .
صدق الله العظيم التوكل فى الاصطلاح الصوفى :(9/123)
تناول الصوفية التوكل فى الاصطلاح القرآنى بالشرح والتحليل ، واستقصاء الأدلة من الكتاب والسنة ، بحيث يمكن القول ، إن ما سجل عن بعضهم فيه يعد من قبيل البحث الجزئى المتميز ، ومن ثم حاز مصطلح التوكل قدرا كبيرا من الأقوال والآراء التى أدلى بها الصوفية على اختلاف فكرهم وتجاربهم ، والحق يقال إن كثيرا منهم أبدع فى بيانه وكشفه ، وكل له اجتهاده ، قال الحارث بن أسد المحاسبى (ت:243هـ) : ( التوكل المفترض على الناس فى جملتهم ،هو التصديق لله عز وجل فيما أخبر من قسم ، حيث قال :
{ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُون َ } [الذاريات/23:22] ، وكفالته من سياقه الأرزاق إليهم ، وإيصال الأقوات التى قسمها فى الأوقات التى وقتها ، بتصديق تقوم الثقة به فى قلوبهم وينفى به الشكوك عنهم والشبه ، ويصفون به اليقين ، ويثبت به حقائق العمل أنه الخالق الرازق المحيى المميت المعطى المانع المنفرد بالأمر كله ، فإذا صح هذا العلم فى القلوب ، وكان ثابتا فى عقود الإيمان ، تنطق به الألسنة إقرارا منها بذلك لسيدها ، ويرجع إلى ذلك العلم عند تذكرها ، دفع الإسم عليها بالتوكل ) (1) ، وإذا كان كلام المحاسبى فى التوكل ، معبرا بصدق عن مجموع الأصول القرآنية والنبوية ، فإن أبا تراب النخشبى (ت:245هـ) روى عنه فى ــــــــــــــــــــ
1. الرزق الحلال وحقيقة التوكل على اللَّه .للحارس بن أسد المحاسبى (ت:243هـ) تحقيق محمد عثمان الخشت طبعة مكتبة القرآن سنة 1984م ص40 .(9/124)
التوكل كلام نفيس ، يدل على عمق النظر فى فهم الأصول القرآنية ، حيث سأل عن التوكل ؟ فأجاب : ( التوكل طرح البدن فى العبودية ، وتعلق القلب بالربوبية ، والطمأنينة إلى الكفاية ، فإن أعطى شكر ، وإن منع صبر راضيا موافقا للقدر ) (1) ، ومثله أيضا ما ينسب لسهل بن عبد اللَّه (ت:293هـ) أنه قال : ( من طعن فى الحركة ، فقد طعن فى السنة ، ومن طعن فى التوكل فقد طعن فى الإيمان ، والتوكل حال النبى - صلى الله عليه وسلم - ، والكسب سنته ، فمن بقى على حاله فلا يتركن سنته ) (2) .
وينفى الحكيم الترمذى (ت:320هـ) عن التوكل ، ما اشتهر عن الصوفية في الماضى والحاضر من التواكل والجبرية ، فقال فيمن ترك الطلب ، والسعى فى الأسباب ، وتواكل بحجة أن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله ، وقد ضمن اللَّه الرزق : ( إن كانوا قعدوا ينبغى لهم أن يقوموا وأن يطلبوا ، تحرزا من الطمع وفساد القلب ، فلا يضيع حق الزوجة والولد ، برغم أن أرزاقهم على اللَّه ، فهذا تارك للسبيل والسنة ، لقوله تعالى : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف ِ } [البقرة/233] ) (3) ، وربما عبر عبد اللَّه بن خفيف الشيرازى (ت:371هـ) عن ذلك بقوله : ( التوكل الاكتفاء بضمانه وإسقاط التهمة عن قضائه ) (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة 1/418 . 2. قوت القلوب 2/16 .
3. آداب المريدين وبيان الكسب للحكيم الترمذى ص168 ، 169 .
4. سيرة الشيخ الكبير عبد اللَّه بن خفيف ص326 وانظر طبقات الصوفية ص465 =
ويظهر أبو طالب المكى (ت:386هـ) من خلال استقصائه الشامل للشواهد القرآنية والنبوية التى وردت فى التوكل ، كيف يخطوا الراغبون فى التوكل على الله فى درجات التوكل ، ومراحله على وجه التحديد ، وينصح المريد أن يلتزم بثلاث درجات لا يقلل من شأنها ولا يأخذ بواحدة ويدع الأخرى :(9/125)
الدرجة الأولى : توجه القلب إلى اللَّه على الدوام ، لعلمه أن اللَّه على كل شئ قدير ، وهو المعطى المانع ، فالقدرة كلها له ، يحكم فى خلقه بأمره ما شاء كيف شاء ، أما الأسباب فهى مثل الآلة بيد الصانع يقول المكى : ( ألا ترى أنه لا يقال الشفرة حذت النعل ولا السوط ضرب العبد ، إنما يقال الحذاء حذ النعل ، وفلان ضرب عبده بالسوط ، وإن كانت هذه الأواسط مباشرة للأفعال إلا أنها آلة بيد صانعها ، وكذلك الخليقة يباشرون الأسباب فى ظاهر العيان واللَّه من ورائهم محيط ، القادر الفاعل بلطائف القدرة وخفايا المشيئة ) (1) .
الدرجة الثانية : توجه الجوارح إلى الأسباب ، فقد أثبت اللَّه الأسباب كأواسط لمعانى الحكمة فى التصريف والتقليب ، وإيقاع الأحكام على المحكوم وعودة الثواب والعقاب على المرسوم ، من حيث كان المتوكل قائما بأحكام الشريعة ، ملتزما لمتطلبات العلم ، إذ أمرنا بالسعى فيها ، فلا يضر التصرف ــــــــــــــــــــ
= وحلية الأولياء 1/0 ص386 وطبقات السبكى 2/154 ، وقارن بين كلام الصوفية السابق ورأى ابن عربى واتفاقه معهم على هذا المعنى القرآنى للتوكل من خلال الرجوع إلى الفتوحات المكية 2/199وما بعدها .
1. قوت القلوب 2/13 .(9/126)
والتكسب فى المعايش لمن صح توكله على اللَّه ، ولا يقدح فى مقامه ولا ينقص من حاله ، قال اللَّه تعالى : { وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا } [النبأ/11] ، وقال تعالى : { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ } [الأعراف/10] ، وروى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - : " أحل ما أكل العبد ، من كسب يده ، وكل بيع مبرور " (1) ، وقد كان الصانع بيده ، أحب إليهم من التاجر ، والتاجر أحب إليهم من البطال ولأن التوكل من شرط الإيمان ووصف الإسلام ، قال اللَّه تعالى : { إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِين َ } [يونس/84] ، فاشترط فى الإيمان به والإسلام له ، التوكل عليه ، فإن كان المتوكل حال التصرف فيها قد دخل في الأسباب ، وهو ناظر إلى المسبب فى تصريفه ، معتمد عليه ، واثق فيما يقلبه فيه مولاه ، عالم بأن اللَّه تعالى قد أودع الأشياء منافع خلقه ، وجعلها خزائن حكمته ، ومفاتح رزقه ، ويكون أيضا متبعا للسنة تاركا للترفه والتنعم ، فهو فى تكسبه وتصرفه أفضل ممن دخلت عليه العلل فى توكله فساكنها .
الدرجة الثالثة : التسليم والرضا التام بما قضاه اللَّه وقدره ، لأن الاستسلام لقضاء اللَّه وقدره لا يكون إلا لنتيجة الفعل ، ولا يأتى فى المقدمة ، أى فى مرحلة الأخذ بالأسباب ، فإن هذا القول يكون تعبيرا عن المرحلة الأخيرة ــــــــــــــــــــ
1. الحديث صحيح بمعناه ، أخرجه أحمد فى المسند (16814) عن رافع بن خديج ولفظه : قيل : يا رسول اللَّه أي الكسب أطيب ؟ قال : عمل الرجل بيده ، وكل بيع مبرور ، وأخرجه ابن ماجة فى سننه (2138) ، وصححه الألبانى 2/723 ، والحاكم فى المستدرك (2160) 2/13 .(9/127)
من التوكل بعد ظهور نتيجة الفعل ، وعلى ذلك يحمل قولهم : التوكل الاستسلام لجريان القضاء فى الأحكام (1) ، وحال العبد وقتها حسن اليقين وقوة المشاهدة وجميل الصبر وحقيقة الرضا ، فسكنت القلوب واطمأنت النفوس عند النوازل والبؤس ، وثبتوا فى الابتلاء ، لشهود المبلى يدبر الخلائق كيف شاء فحصل لهم مقام اليقين ، وحال من التوكل ، ونصيب من الرضا .
ويحاول السراج الطوسى (ت:387هـ) أن يستند إلى القرآن فى تصنيف بعض آياته على نحو يجعل التوكل درجات للملتزمين به ، توكل العامة مختلف عن الخاصة ، وخاصة الخاصة فقال : ( التوكل مقام شريف ، قد أمر اللَّه تعالى به وجعله مقرونا بالإيمان ، لقوله تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُون } َ [إبراهيم/12] وقال فى موضع آخر : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُون َ } [المائدة/11] فخص توكل المتوكلين ، من توكل المؤمنين ، ثم ذكر توكل خصوص الخصوص فقال : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } ، لم يردهم إلى شئ سواه ، كما قال لسيد المرسلين وإمام المتوكلين - صلى الله عليه وسلم - : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } [الفرقان/58] ) (2) .
وهذا التقسيم السابق مع شموليته واستفائه المعانى والأصول القرآنية ، إلا أنه يعد مفهوما متواضعا عند بعض الصوفية ، فهو عندهم توكل العامة ، إذ نظروا إلى التوكل نظرة غريبة ،يشع منها الحلول والاتحاد بالله أنعكست بسببه المفاهيم ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة 1/421،423 .
2. اللمع ص78 .(9/128)
فقالوا : ( التوكل ترك التوكل ، وهو أن يكون اللَّه لهم حيث كان لهم ، إذ لم يكونوا موجودين ) (1) ، حيث يكون العبد في هذه الدرجة مضمحلا لا وجود له ، ومن ثم يسقط التوكل ، يقول الكاشانى : ( التوكل أن ملكة الحق للأشياء ملكة عزة ، لا يشاركه فيها مشارك ليكل شركته إليه ) (2) .
**********************************
34- الثقة
**********************************
صدق الله العظيم الثقة : السكون بالشئ والاعتماد عليه والاطمئنان به ، كقول يعلى بن أمية رضى الله عنه : " غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - جيش العسرة ، فكان من أوثق أعمالي في نفسي " (3) .
والوثاق اسم لما يوثق به ، وأوثقته شددته ، قال تعالى : { حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } [محمد/4] ، وقال سبحانه : { فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَد ٌ } [الفجر/ 26:25] ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " غفر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس رَكِيِّ يلهث قال : كاد يقتله ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص79 ، وانظر التعرف ص121 وعوارف المعارف ص346
2. لطائف الإعلام 1/362 ، وانظر معجم الكاشانى ص238 ، وانظر للتوسع فى معرفة التوكل على الله من المفهوم الصوفى ، رسالة ماجستير بعنوان : مقام التوكل عند صوفية القرنين الثالث والرابع الهجريين ، مكتبة كلية الآداب جامعة القاهرة سنة 1988 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب الإجارة?برقم (2266) 4/519 .(9/129)
العطش ، فنزعت خفها ، فأوثقته بخمارها ، فنزعت له من الماء ، فغفر لها بذلك " (1) ، وعنه أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الشيطان عرض لي ، فشد علي ليقطع الصلاة علي ، فأمكنني اللَّه منه فذعته ، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا ، فتنظروا إليه " (2) .
والميثاق عقد مؤكد بيمين وعهد ، قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } [الأحزاب/7] ، والموثق العهد ، قال تعالى : { قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِي مَوْثِقًا مِنْ اللَّهِ لَتَأْتُونَنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ } [يوسف/66] .
وقالت عائشة رضي اللَّه عنها ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " ما بال أناس يشترطون شروطا ليس في كتاب اللَّه ، من اشترط شرطا ليس في كتاب اللَّه ، فهو باطل وإن اشترط مائة شرط ، شرط اللَّه أحق وأوثق " (3) ، والوثقى تأنيث الأوثق والعروة الوثقى فى قوله تعالى :
{ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا } [البقرة/256] ،حبل اللَّه المحكم الموثوق ، الذى لا ينفك عن عروته والمقصود بها عهد الإسلام ، الذى ينطق به الإنسان عند إعلانه كلمة التوحيد ــــــــــــــــــــ
1 . أخرجه البخارى فى كتاب بدء الخلق?(3321) 6/414 ، والرَكِيِّ البئر .
2 . أخرجه البخارى فى كتاب الجمعة?(1210) 3/97 .
3 . أخرجه البخارى فى كتاب البيوع?(2155) 4/432 .
بقوله لا إله إلا اللَّه (1) ، وقال كعب بن مالك - رضي الله عنه - : " لقد شهدت مع النبى - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة ، حين تواثقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها " (2) .(10/1)
صدق الله العظيم الثقة فى الاصطلاح الصوفى :
واصطلاح الثقة عند الصوفية يرد على المعنى القرآنى ، حيث تعنى ثقة العبد فى ربه وعهده ، وذلك بتصديق الخبر جزما ، والاعتماد على واهب التقوى والقدر والوثوق بقول النبى - صلى الله عليه وسلم - (3) .
روى عن شقيق البلخى (ت:قبل 237هـ) وقد سئل ؟ ، بأى شئ يعرف بأن العبد واثق بربه ؟ ، قال : يعرف بأنه إذا فاته شئ من الدنيا ، يحسبه غنيمة وإذا أبطأ عليه شئ من الدنيا ، يكون أحب إليه من أن يأتيه (4) ، ويذكر لحاتم ــــــــــــــــــــ
1 . فتح القدير 1/276 وانظر المفردات ص512 ، والقاموس المحيط 1/1197 .
2 . أخرجه البخارى فى كتاب المناقب?(3889) 7/459 .
3 . انظر جامع الأصول فى الأولياء ، لأحمد ضياء الدين مصطفى ، دار الكتب العربية الكبرى ، مصر ، سنة 1331هـ ص79 ، وقال أبو القاسم القشيرى : ( العروة الوثقى فى قوله تعالى : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا } [البقرة/256] هى الوقوف عند الأمر والنهى ، وهو سلوك طريق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، وطاغوت كل واحد ما يشغله عن ربه ، والإيمان حياة القلب باللَّه ، لطائف الإشارات 1/198 .
4 . طبقات الصوفية ص65 .
الأصم (ت:237هـ) فى تقة العبد فى رزق الله ، أنه قال : ( الواثق من رزقه من لا يفرح بالغنى ولا يهتم بالفقر ولا يبالى أصبح فى عسر أو يسر ) (1) .
والثقة يجعلها يحى بن معاذ الرازى (ت:258هـ) من صفات الأولياء ، فروى عنه أنه قال : ( الثقة باللَّه فى كل شئ ، من خصال الأولياء ) (2) .(10/2)
ويذكر الكاشانى أن الثقة عند الصوفية ، تعنى اعتماد العبد فى كل شئ على اللَّه وحده ، بحيث لا يعتمد فى شئ على شئ سواه ، والعبد المتحقق بالثقة باللَّه ، من حصل له إلامن من الخوف مما سوى اللَّه ، والإعراض عن الاعتراض عما قدره اللَّه وقضاه ، ويستدل بقوله تعالى لأم موسى - عليه السلام - : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ } [القصص/7] ، فلولا حسن الثقة باللَّه لما استطاعت الوالدة أن تلقى ولدها فى لجة الماء (3) .
**********************************
35- الجنة
**********************************
صدق الله العظيم الجنة : كل بستان ذى شجر يستر بأشجاره الأرض ، قال تعالى : { وَلَوْلا ــــــــــــــــــــ
1 . السابق ص94 .
2 . السابق ص110 .
3 . لطائف الإعلام 1/378 .
إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } [الكهف/39] (1) ، وقال عمر بن الخطاب ?- رضي الله عنه - يوما ، للصحابة رضى الله عنهم : " فيم ترون هذه الآية نزلت ؟ : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } [البقرة/266] ؟ قالوا اللَّه أعلم : فغضب عمر - رضي الله عنه - ، فقال : قولوا نعلم أو لا نعلم ، فقال ابن عباس - رضي الله عنه - : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين ، قال عمر - رضي الله عنه - يا ابن أخي ، قل ولا تحقر نفسك ، قال ابن عباس - رضي الله عنه - : ضربت مثلا لعمل قال عمر - رضي الله عنه - أي عمل ؟ قال ابن عباس - رضي الله عنه - : لعمل ، قال عمر - رضي الله عنه - : لرجل غني يعمل بطاعة اللَّه عز وجل ، ثم بعث اللَّه له الشيطان ، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله (2) .(10/3)
وسميت الجنة بذلك ، إما تشبيها بالجنة فى الأرض ، وإن كان بينهما فرق كبير وبون شاسع ، وإما لستره سبحانه نعمها عنا ، حيث قال : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [السجدة/17] ، وعن عبد اللَّه بن قيس - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم ، إلا رداء الكبر على ــــــــــــــــــــ
1 . المفردات ص98 ، لسان العرب 13/92 ، ومختار الصحاح 1 /48 ، والمغرب في ترتيب المعرب ، لأبى الفتح ناصر الدين بن عبد السيد بن علي بن المطرز ، تحقيق محمود فاخوري ، و عبدالحميد مختار ، نشر مكتبة أسامة بن زيد ، الطبعة الأولى حلب ، سنة 1979م 1/165 .
2 . أخرجه البخارى فى كتاب تفسير القرآن?(4538) 8/49 .
وجهه في جنة عدن " (1) ، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
" ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا ، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا ، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا ، وإن لكم أن تنعموا ، فلا تبأسوا أبدا ، فذلك قوله تعالى : { وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الأعراف/43] " (2) .
وربما يطلق على مجالس الذكر وتدارس العلم رياض الجنة كما روى عن عبد اللَّه بن زيد المازني - رضي الله عنه - ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما بين بيتي ومنبري ، روضة من رياض الجنة ) (3) .
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عنه ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا ، قالوا : وما رياض الجنة ؟ ، قال حلق الذكر " (4) .
صدق الله العظيم الجنة فى الاصطلاح الصوفى :(10/4)
الجنة عند الصوفية ، تنوعت مدلولاتها بين ما يوافق الأصول القرآنية أو يخالفها ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى الموضع السابق?(4878) 8/491 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب الجنة?(2837) 4/2182 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب الجمعة?(1195) 3/84 .
4. حسن ، أخرجه الترمذى فى كتاب الدعوات?(3510) وحسنه الشيخ الألبانى رحمه الله 5/532 ، وأخرجه الطبرانى فى معجمه الكبير (11158) 11/95 ، والحاكم فى المستدرك (1820) 1/671 .
على النحو الآتى :
(1- الجنة عند العوام والمبتدئين من الصوفية : وهى جنة الأعمال التى يجزى فيها العبد عن مجاهداته وعباداته ، وهى دار النعيم التى أعد اللَّه فيها من فضله العميم ، ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، مما لا يحصى من جوده المقيم (1) .
يقول ابن خفيف : ( الجنة دار الخلد ، ينعم فيها أولياء اللَّه ، وهم باقون فيها يتنعمون أبدا ، ومن دخلها من المؤمنين دخلها بفضل اللَّه ورحمته ، لا بعمله كما ثبت عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " لن يدخل أحدكم الجنة عمله ، قالوا ولا أنت يارسول اللَّه ، قال ولا أنا ، إلا أن يتغمدنى اللَّه برحمة منه " (2) .
وهذه الجنة يطلقون عليها فى الاصطلاح الصوفى : جنة الأعمال ، وربما قالوا الجنة الصورية (3) ، وهذا ما دلت عليه الأصول القرآنية .
(2- الجنة عند الخواص لا خطر لها فى قلوبهم ، وهم أبعد الناس عن طلبها ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام 1/395 ، وانظر تنبيه الغافلين للسمرقندى ، فى صفة الجنة وأهلها ص22 ، وتفسير القرآن لسهل بن عبد الله ص9 ، وسلوة العارفين وبستان الموحدين للحكيم الترمذى ص129 .(10/5)
2. سيرة الشيخ الكبيرعبد اللَّه بن خفيف ص356،357 والحديث أخرجه البخارى فى كتاب الرقاق (6464) عن عائشة رضى اللَّه عنها ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : "سددوا وقاربوا ، واعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنة ، وأن أحب الأعمال إلى اللَّه أدومها وإن قل " 11/300 .
3. لطائف الإعلام 1/395 .
ونسب لرابعة العدوية (ت:185هـ) من نساء الصوفية ، فى الكشف عن دافعها للعبودية :
( ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا فى جنتك ولكن حبا لذاتك ) (1) .
ولأبى يزيد البسطامى (ت:261هـ) قال فيما روى عنه : ( الجنة لا خطر لها عند أهل المحبة وأهل المحبة محجوبون بمحبتهم ) (2) ، وينسب لأبى القاسم النصرباذى (ت:367هـ) : ( إذا بدا لك شئ من بوادى الحق ، فلا تلتفت معه إلى جنة ولا إلى نار ، ولا تخطرهما ببالك ، وإذا رجعت عن ذلك الحال فعظم ما عظمه اللَّه تعالى ) (3) ، وهذا المعنى محدث لا أصل له ، وإن كان لبعضهم نية حسنة ، كقول النصرباذى : ( الجنة باقية بإبقائه ، وذكره ورحمته لك باق ببقائه ، فشتان بين ما هو باق ببقائه ، وبين ما هو باق بإبقائه ) (4) .
فهو يفضل رحمة اللَّه لعبده ، كصفة من صفات الذات ، على الجنة التى هى صفة من صفات الأفعال ، والذى ثبت أن الجنة محل الرحمة ، فمن أراد الرحمة فلا مناص من الجنة ، ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
" قال اللَّه تبارك وتعالى للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ــــــــــــــــــــ
1. صفة الصفوة 2/249 .
2. طبقات الصوفية ص70 .
3. السابق ص485 .
4. الرسالة 1/41 .
وقال للنار : إنما أنت عذابي ، أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منهما ملؤها " (1) .(10/6)
(3- الجنة عند خاصة الخاصة : ويسمونها جنة الامتنان ، وهى ما يناله أهل الإيمان من عين الجود موهبة من اللَّه تعالى ، وهذا مقام من تحقق بالانخلاع عن أحكام الغيرة والأغيار ، فاستتر بأعيان سبحات نور الأنوار ، وذلك هو التحقيق بحقائق الأسماء الإلهية ، وستر عين الذات بستور صور الصفات (2) .
فالنعيم فى جنة الامتنان هو عين الرحمة التى يظهر بها الحق فى الكل ، فمنه نعيم خالص مختص بأهل الجنان ، ومنه نعيم ممتزج بالعذاب ، مختص بأهل جهنم وهذا دائم أبدا لا ينقطع نعيم العذاب مطلقا عن الكفار ، بل إن أهل النار من لذتهم بالعذاب واستعذابهم له لو هب عليهم نسيم من الجنة استكرهوه وتعذبوا به ، فالجنة والنار كلاهما فى اصطلاح أصحاب الوحدة نعيم جنان الخلد ، يقول محى الدين بن عربى (3) :
وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد والأمر واحد وبينهما عند التجلى تباين
يسمى عذابا من عذوبة طعمه وذاك كالقشر والقشر صاين
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب تفسير القرآن?(4850) 8/460 .
2. لطائف الإعلام 1/395 .
3. فصوص الحكم ص122،123 ، وانظر فى معنى الجنة عند ابن عربى أيضا الفتوحات 3/442 ، وبلغة الخواص ص123 .
**********************************
36- الجوع
**********************************(10/7)
صدق الله العظيم الجوع : هو الألم الذى ينال الإنسان عند خلو المعدة من الطعام ، وقد ورد الفظ القرآنى فى قوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ } [البقرة/155] ، وقوله : { إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى } [طه/118] وآيات أخرى كثيرة ، وقال أبو هريرة - رضي الله عنه - : " لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلى حجرة عائشة مغشيا علي ، فيجيء الجائي ، فيضع رجله على عنقي ، ويرى أني مجنون ، وما بي من جنون ، ما بي إلا الجوع " (1) ، وعن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - قال : " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى من الناس إدبارا ، قال : اللَّهم سبع كسبع يوسف ، فأخذتهم سنة حصت كل شيء ، حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف ، وينظر أحدهم إلى السماء فيرى الدخان من الجوع " (2) .
والجوع أمر نسبى ، ويرتبط بالعلامات التى تظهر على البدن ، كما تقدم فى حديث أبى هريرة وابن مسعود ، وقد ورد على الوجه التقريبى فى حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يجوع أهل بيت عندهم التمر" .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الاعتصام?(7324) 13/316 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الجمعة?(1007) 2/572 .
وفى رواية أخرى قال : " يا عائشة بيت لا تمر فيه ، جياع أهله ، يا عائشة بيت لا تمر فيه جياع أهله ، أو جاع أهله قالها مرتين أو ثلاثا " (1) .(10/8)
والمجاعة زمان الجوع وتقال على وجهين ، عموم الجوع على الكل فى وقت ما ، ومنه سمى عام المجاعة فى عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (2) ، وزمان الرضاع لكثرة جوع الطفل وتكرار الرضاع ، ومنه ما روى عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : " دخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وعندي رجل ، قال : يا عائشة من هذا ؟ قلت : أخي من الرضاعة ، قال : يا عائشة انظرن من إخوانكن ، فإنما الرضاعة من المجاعة " (3) .
صدق الله العظيم الجوع فى الاصطلاح الصوفى :
والجوع فى اصطلاح الصوفية ورد على المعنى القرآنى كأدب من آدابهم يفضلونه على الشبع ، وربما أطلق بعضهم علي الجوع الموت الأبيض (4) فروى عن يحى بن معاذ الرازى (ت:258هـ) أنه قال : ( لو علمت أن الجوع يباع فى السوق ما كان ينبغى لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره ) (5) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى الأشربة?(2046) 3/618 وأبو داود فى سننه (3831) 3/362 .
2. المفردات ص 103 ، لسان العرب 8/61 ، المصباح المنير .
3. أخرجه البخارى فى كتاب الشهادات?(2647) 5/30 .
4. الجوع سماه بذلك حاتم الأصم ، انظر طبقات الصوفية ص93 والتعريفات ص255 .
5. اللمع ص269 وانظر السابق ص111 .
وقال : ( الجوع على أربعة أوجه : للمريدين رياضة ، وللتائبين تجربة ، وللزهاد سياسة ، وللصديقين تكرمة ) (1) .
ومن طرائف ما يروى عن سهل بن عبد اللَّه التسترى (ت:293هـ) أن سائلا سأله فى حد الجوع ، فقال له : الرجل يأكل فى اليوم أكلة ؟ فقال : أكل الصديقين ، قال : فأكلتين ؟ قال : أكل المؤمنين ، قال : فثلاثة ؟ قال : قل لأهلك يبنون لك معلفا (2) ، ولعل سهلا يقصد بذلك أن الطعام إنما يكون لقوام البدن ، لا لتسمينه فمن اشتغل بالتسمين ، سيشتغل بالبحث عن النوعية الجيدة من الطعام ، ومن ثم البحث عن أسباب الوصول إلي النفقات المطلوبة للحصول عليها ، وغير ذلك مما يشغله عن الله فيصير علافا لا عابدا .(10/9)
ويذكر المكى (ت:386هـ) أقوال الصوفية فى الجوع ، مستندا إلى تفصيل الأدلة فى الكتاب والسنة ، ويبين أنهم قد اختلفوا فى حد الجوع بين معتدل ومبالغ من ذلك :
(1- حد الجوع الأول من الوقت إلى مثله ،كالغد أربعة وعشرون ساعة وحده الآخر اثنان وسبعون ساعة ، فهذا حد الجوع من الأوقات .
(2- حد الجوع ألا تطلب نفسك الأدم فمتى طلبت نفسك الأدم مع الخبز ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة 1/372 ، وانظر فى مفهوم الجوع عند الصوفية ، آداب الطعام والعادات الغذائية عند متصوفة الإسلام ، إعداد محمد عبد المنعم صالح ، رسالة ماجستير كلية الآداب جامعة القاهرة سنة 1967م .
2. السابق 1/375 .
فلست جائعا .
(3- حد الجوع أن تطلب الخبز ، فلا تميز بينه وبين غيره ، فمتى تاقت النفس إلى الخبز بعينه ، فليست بجائعة لأن لها شهوة فى التخير .
(4- حد الجوع أن يبزق العبد فإذا لم يقع على بذاقه ذباب ، فقد خلت معدته من الطعام ، ومن ثم خلا بذاقه من الدسومة والدهنية ، وصار صافيا مثل الماء فلا يسقط عليه الذباب (1) .
وقد استدل القشيرى (ت:465هـ) على أن الجوع والشهوة ، ابتلاء من اللَّه ووجب على المرء أن يصبر فى مواجهته ، بقوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ } [البقرة/155] ، ثم قال فى آخر الآية : { وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ } فبشرهم بجميل الثواب على الصبر على مقاساة الجوع ، ويقول فى قوله تعالى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة ٌ } [الحشر/9] ، ( ولهذا كان الجوع من صفات القوم ، وهو أحد أركان المجاهدة ، فإن أرباب السلوك تدرجوا إلى اعتياد الجوع ، والإمساك عن الأكل ، ووجدوا ينابيع الحكمة فى الجوع ) (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. قوت القلوب 2/165 .(10/10)
2. الرسالة 1/372 ، انظر المزيد عن مصطلح الجوع ، أعذب المسالك المحمودية إلى منهج السادة الصوفية ، للشيخ محمود خطاب السبكى ، تحقيق سعيد عبد الفتاح سنة 1996م ص59 .
وينبغى أن نفرق فيما سبق بين الجوع والتجويع ، لأن الأصول القرآنية والنبوية أمرت بالصبر على الجوع ، كابتلاء لا حيلة للإنسان فيه ، ولم تأمر بتجويع النفس وتعذيب البدن ، طلبا للحكمة والمعرفة ، فالذى دل عليه القرآن والسنة ، أن المسلم لا يكثر من الأكل المفوت للخير الكثير ، فقد يكون الأكل واجبا بقدر ما تقوم به البنية ، ومندوبا بقدر الشبع الشرعى المقوى له على التنفل ، وجائز وهو ما فوقه بحيث لا يورث فتورا عن العبادة ، ومن ثم فإن مثل ما يروى عن أبى عثمان المغربى (ت:373هـ) أنه قال : ( الربانى لا يأكل فى أربعين يوما ، والصمدانى فى ثمانين يوما ) (1) ، فإنه باطل ، ولا يستند إلى الأصول القرآنية والنبوية .
**********************************
37- الحال
**********************************
صدق الله العظيم الحال : يقال لعدة أمور (2) :
1- الحال : من الحول وأصله تغير الشئ وانفصاله عن غيره ، وباعتبار الانفصال قيل : حال بينى وبينك كذا ، ومنه قوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } [الأنفال/24] ، إشارة إلى ما قيل فى وصفه تعالى إنه يقلب القلوب ــــــــــــــــــــ
1. السابق 1/ 375 .
2. المفردات ص137 ، 138 .
وهو أن يلقى فى قلب الإنسان ما يصده عن مراده لحكمة تقتضى ذلك ، وقيل على ذلك :
{ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ } [سبأ/54] .(10/11)
وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : " انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب " (1) .
2- الحال : ما يختص به الإنسان وغيره ، من أموره المتغيرة فى نفسه وجسمه فباعتبار التغير ، قيل : حال الشئ يحول حولا ، واستحال تهيأ لأن يحول ، وفى السنة عن عبد اللَّه بن عمر - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " رأيت الناس مجتمعين في صعيد ، فقام أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين ، وفي بعض نزعه ضعف ، واللَّه يغفر له ، ثم أخذها عمر فاستحالت بيده غربا ، فلم أر عبقريا في الناس ، يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن " (2) .
3- الحال : تستعمل فى بقاء الصفة التى عليها الموصوف ، فمن ذلك ما روى عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن رجلا من أعظم المسلمين غناء عن المسلمين في غزوة غزاها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " من أحب أن ينظر إلى رجل من ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الأذان?(773) 2/295 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب المناقب?(3633) 6/728 .
أهل النار فلينظر إلى هذا ، فاتبعه رجل من القوم ، وهو على تلك الحال من أشد الناس على المشركين حتى جرح ، فاستعجل الموت ، فجعل ذبابة سيفه بين ثدييه حتى خرج من بين كتفيه " (1) .(10/12)
وقال أبو بكر - رضي الله عنه - : " إن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذا المال ، وإني واللَّه لا أغير شيئا من صدقة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن حالها التي كان عليها في عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - " (2) ، وعن أنس - رضي الله عنه - حدثهم أن ناسا من عكل وعرينة ، كفروا بعد إسلامهم ، وقتلوا راعي النبي - صلى الله عليه وسلم - واستاقوا الذود ، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فبعث الطلب في آثارهم ، فأمر بهم فسمروا أعينهم ، وقطعوا أيديهم ، وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم " (3) .
صدق الله العظيم الحال فى الاصطلاح الصوفى :
والحال فى اصطلاح الصوفية باق على المعنى اللغوى السابق ، ويقصدون أن ينبعث من باطن العبد داعية للمراقبة أو المحاسبة أو الإنابة أو غير ذلك ، ثم تزول تلك الداعية لغلبة صفات النفس ثم تعود بعد زوالها ، ثم تعود بعد عودها فما دام العبد فى مراقبته أو فى محاسبته لذلك ، أو فى غير ذلك من الصفات بحيث لا تزال تلك الصفة ، تعود ثم تزول ثم تعود بلا استقرار وثبات ، قيل : بأن حاله ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب القدر?(6607) 11/507 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب المغازى?(4241) 8/564 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب المغازى?(4192) 8/524 .
كذا ويعنون تثبيت تلك الصفة عليه بعد أن كانت تحول وتزول عنه لظهور صفات النفس وغلبتها عليه (1) .
وقد تنوعت تعبيراتهم فى تعريف الحال ، فروى عن الجنيد (ت:297هـ) أنه قال : ( الحال نازلة تنزل بالعبد فى الحين ،فيحل بالقلب من وجود الرضا والتفويض وغير ذلك ، فيصفو له فى الوقت فى حاله ووقته ويزول ) (2) .(10/13)
ويروى عن أبى على الدقاق (ت:410هـ) فى معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن ليغان على قلبى حتى استغفر اللَّه تعالى فى اليوم سبعين مرة " (3) ، أنه كان - صلى الله عليه وسلم - أبدا فى الترقى من أحواله ، فإذا ارتقى من حالة إلى حالة أعلى مما كان فيها فربما حصل له ملاحظة إلى ما رتقى عنها ، فكان يعدها غنا بالإضافة إلى ما حصل فيها فأبدا كانت أحواله فى التزايد (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام لعبد الرزاق المكاشانى ص403 ، وانظر كشاف اصطلاحات الفنون 2/119 ، وانظر فى معنى الحال عند ابن عربى الذى يتوافق مع هذا المعنى ، الفتوحات المكية 2/132 ، 4/370 .
2. اللمع ص411 .
3. أخرجه الإمام الترمذى فى كتاب تفسير القرآن (3259) وقال الشيخ نصر الدين الألبانى رحمه الله : صحيح ، 5/ 383 ولفظه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إني لأستغفر اللَّه في اليوم مائة مرة " وانظر بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث حديث (1097) 2/973 .
4. الرسالة القشيرية 1/207 .
وقال القشيرى (ت:465هـ) : ( الحال عند القوم معنى يرد على القلب من غير تعمد منهم ولا اجتلاب ولا اكتساب لهم ، من طرب أوحزن أو بسط أو قبض أو شوق أو انزعاج أو هبة أو احتياج ) (1) .
ويذكر الكاشانى عند الصوفية مصطلح : الحال الدائم ، وهو الحال المضاف إلى الحضرة العندية ، وهو باطن الزمان المشار إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس عند ربكم صباح ولا مساء " (2) .
**********************************
38- الحجاب
**********************************
صدق الله العظيم الحجاب : الحجب والحجاب ، المنع من الوصول ، يقال : حجبه حجبا ــــــــــــــــــــ(10/14)
1. السابق 1/206 ، وانظر فى معنى الحال عند الصوفية كشف المحجوب ص447 والإملاء ص62 ، وعوارف المعارف للسهروردى ص530 ، وقد شرح السهروردى الحال والمقام والفرق بينهما ، كما أشار إلى المقامات والأحوال وأقوال المشايخ فيها على الترتيب ، وانظر التعرف لمذهب أهل التصوف ص89:86 ، وطبقات الأولياء لابن الملقن ص44 ، والأنوار القدسية فى معرفة قواعد الصوفية للشعرانى 1/88 المواقف والمخاطبات للنفرى ، نشر آربرى مادة حال ، وتاريخ التصوف فى الإسلام للدكتور قاسم غنى ، ترجمة صادق نشأت ص300 : ص495 ، والتصوف الإسلامى الخالص تأليف السيد محمود أبو الفيض المنوفى ص100:97 .
2. لطائف الإعلام 1/404 والحديث لم أعثر عليه فى كتب السنة .
وحجابا (1) ، قال تعالى : { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ } [الأعراف/46] ، أى فاصل بين أهل الجنة وأهل النار ، وقال :
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الشورى/51] ، أى من حيث لا يراه مكلمه ومبلغه ، وقوله : { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } [ص/32] يعنى الشمس إذا استقرت بالمغيب (2) ، وقال سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - : "كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -المغرب إذا توارت بالحجاب " (3) .
والحجاب يرد على معنيين :
1- الستر المعنوى : فى قوله تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } [الإسراء/45] وهو الختم والطبع يفسره قوله تعالى بعده : { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } [الإسراء/46] .(10/15)
2- الستر الحسى : كقول عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه : ( قلت : يا رسول اللَّه يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب
ــــــــــــــــــــ
1. المفردات ص 108 ، ولسان العرب 1/298 .
2. السابق ص 108 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب مواقيت الصلاة?(561) 2/49 ، وانظر النهاية فى غريب الحديث 1/340 .
فأنزل اللَّه آية الحجاب ) (1) ، فاستعمالات الكلمة فى القرآن والسنة تدور على معنى الستر والمنع ، سواء كان هذا الستر حسيا أو معنويا .
صدق الله العظيم الحجاب فى الاصطلاح الصوفى :
يتنوع مدلول الحجاب فى عرف الصوفية بين عدة معان ، منها ما هوقائم على الأصول القرآنية والنبوية ، ومنها مايخالفها ، فمن ذلك :
(1- الحجاب حجاب الأسباب ، إذ أنها حائل موضوع للابتلاء ، يقول أبو طالب المكى (ت:386هـ) : ( احتجب عن العموم بالأسباب فهم يرونها وحجب الأسباب بنفسه عن الخصوص فهم يرونه ، ولا يرونها ) (2) ، أى أن العامة لضعف توكلهم وإيمانهم ، يعاينون النتائج والأحداث بالأسباب فقط بينما لا يخدع الموحدون والمتوكلون بالأسباب ، لقوة إيمانهم باللَّه ومعرفتهم بصفاته ، فينظرون إلى من خلفها ، ويعتمدون عليه ويستعينون به .
ويوضح أبو طالب المكى احتجاب صفات الأفعال بقوله : ( وكذلك أيضا تدخل الشبهة على الغافلين ، من ضعف اليقين لشهود المانعين والمنفقين ، أوائل فى الفعل ، من قبل أن اللَّه تعالى أظهر العطاء والمنع بأيديهم ، فشهدوهم معطين مانعين لنقصان توحيدهم ، فأشركوا فى أسماء اللَّه ) (3) .
ويذكر لسهل بن عبد اللَّه التسترى ، أنه قال عن صفة الفعل : ( إنها الصفة ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب تفسير القرآن?(4483) 8/18 .
2. قوت القلوب 1/126 .
3. السابق 2/11 .(10/16)
التى بها احتجب وبها تسمى اللَّه ، فإذا أبصر الإنسان ، أشعره اللَّه بمباشرة صفاته وخفى ألطافه آثاراها فى خلقه ) (1) ، فالأسباب فى حقيقتها ميدان لإظهار فعل اللَّه عز وجل ، يحجب قدرته الفاعلة حتى يبتلى الناس بها ، فأصحاب الغفلة يقعون فى الشرك الخفى ، فيقول العبد أعطانى ومنعنى فلان على أنهم أوائل فى الفعل ، وهذا شرك خفى لأن الأسباب تظهر على أيديهم ، وتجرى بواسطتهم فحجبوا بها عن المسبب ، واستتر عنهم المعطى المانع ، وأهل البصائر يوحدون ولا يحجبون ، فكانت الأسباب حجابا وابتلاء ، ومن هنا تنوع موقف السرى السقطى (ت:251هـ) من الحجاب فى هذين الدعاءين المختلفين فنسب إليه أنه مرة يقول : ( اللَّهم مهما عذبتنى بشئ ، فلا تعذبنى بذل الحجاب ) (2) ومرة أخرى يقول : ( اللَّهم الطف بنا واسترنا بلطف الحجاب ) (3) .
أما الأول فيقصد أن ينعم بشهود الربوبية والفاعلية الإلهية ، وأما الآخر فيسأل اللَّه التخفيف ، حتى يستمر في حياته ليرعى شئون نفسه ، لأنه لو ظل مشاهدا له وراء كل شىء يسبح اللَّه حقيقة ، استحال عليه أن يفعل الضروريات أو يفكر فى صلاح معيشته ، ومن ثم فالصوفية الأوائل فهموا علاقة الأسباب بالفاعلية الإلهية ، باعتبارها حجابا لقدرة اللَّه عز وجل ، يسدله الخالق رحمة بالناس من ناحية ، وابتلااء واختبارآ لهم من ناحية أخرى ، وهذا المعنى يمكن أن ــــــــــــــــــــ
1. من التراث الصوفى ص215 .
2. طبقات الصوفية ص303 .
3. حلية الأولياء 10/120 ، وانظر ختم الأولياء ص149 .(10/17)
يستدل له بشاهد نبوى ، حيث قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - للصحابى أبى ربعى حنظلة بن الربيع - رضي الله عنه - كاتب الوحى : " والذى نفسى بيده لو تدومون على ما تكونون عندى وفى الذكر ، لصافحتكم الملائكة على فرشكم ، وفى طرقكم ، ولكن ياحنطلة ساعة وساعة ثلاث مرات " (1) ، إذ ظن حنظلة أن الانشغال بالأسباب في غير مجلس الذكر مدعاة للنفاق ، فقال : " نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأى العين ،فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا " (2) ، وهو ما يعتبره نفاقا ، وإرشاد النبى - صلى الله عليه وسلم - لحنظلة - رضي الله عنه - ، يوحى بأن أهل الحق فى دوام الأحوال ، يباشرون الأسباب فى ظاهر العيان ، ويعلمون أن اللَّه من ورائهم محيط ، قادر فاعل بلطائف القدرة وخفايا المشيئة .
(2- الحجاب حجاب المعاصى ، فحجاب النفس الشهوات واللذات والأهوية وحجاب القلب الملاحظة فى غير الحق ، وجملة الصفات الذميمة بصفة عامة حجاب بين العبد وربه ، ويذكر القشيرى فى قوله تعالى : { كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُون َ } [المطففين/15] ، أن المعاصى التى كانوا يكسبون ، حجبتهم عن ربهم وغطت على قلوبهم ، وكما أنهم اليوم محجوبون عن معرفته ، فهم غدا محجوبون عن رؤيته ، ودليل الخطاب يوجب أن يكون المؤمنون يرونه غدا كما يعرفونه اليوم (3) وهذا المعنى قرآنى أيضا .
(3- الحجاب احتجاب الوحدة بالكثرة ، يقول ابن عربى : ( الحجاب هو ــــــــــــــــــــ
1. أخرجة مسلم فى كتاب التوبة (2750) 4/2106 وأحمد (17646) 4/178 .
2. الحديث السابق . 3. لطائف الإشارات 3/701 كشاف التهانوى 2/9 .(10/18)
كل ما ستر مطلوبك عن عينك ، وهو عند أهل الحق انطباع الصور الكونية فى القلب ، المانعة لقبول تجلى الحق ) (1) ، ويظهر معنى ذلك على التفصيل من تفسير الكاشانى لقوله تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } [الإسراء/46:45] ، فيذكر أن اللَّه جعل بين نبيه - صلى الله عليه وسلم - وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة لقصور نظرهم عن إدراك الروحانيات وقصر هممهم على الجسمانيات حجابا ، مستورا من الجهل وعمى القلب ، فلا يرون حقيقة القارئ ولا آمنوا بالوحدة ، وإنما لا يبصرونك ، لأنهم لا يحسبونك إلا هذه الصورة البشرية لكونهم بدنيين منغمسين فى بحر الهيولى ، محجوبين بالغواشى الطبيعية ، وملابس الصفات النفسانية عن الحق وصفاته وأفعاله ، إذ لو عرفوا الحق لعرفوك ، ولو عرفوا صفاته لعرفوا كلامه ، ولم يكن على قلوبهم أكنة من الغشاوات الطبيعية والهيئات البدنية أن يفقهوه ، ولو عرفوا أفعاله لعلموا القراءة لمن ، ولم يكن فى آذانهم وقر لرسوخ أوساخ التعلقات ، ولوا على أدبارهم نفورا لتشتت أهوائهم وتفرق هممهم فى عبادة متعبداتهم من أصنام الجسمانيات والشهوات ، فلا يناسب بواطنهم معنى الوحدة ، لتألفها بالكثرة واحتجابها بها ) (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. معجم اصطلاحات الصوفية للكاشانى ص16 ، ص18 وانظر اصطلاحات الصوفية لابن عربى ص13 والتعريفات ص86 .
2. تفسير القرآن منسوب لابن عربى 1/721 وانظر أيضا للمقارنة بمعنى الحجاب عند ابن عربى فصوص الحكم 1/54 ، وشرح جواهر النصوص فى حل كل الفصوص لعبد الغنى النابلسى 1/4 .
**********************************
39- الحرص
**********************************(10/19)
صدق الله العظيم الحرص : ورد فى القرآن والسنة على معنى شدة الرغبة وفرط الشره والإرادة إلى المطلوب ، كما قال تعالى : { إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ } [النحل/37] أى إن تفرط إرادتك فى هدايتهم ، وقال تعالى : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف/103] (1) ، ومن السنة ما روى عن أبى بكرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار فقلت : يا رسول اللَّه ، هذا القاتل ، فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه " (2) ، وعنه أيضا - رضي الله عنه - : " أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع ، فركع قبل أن يصل إلى الصف ، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : زادك اللَّه حرصا ولا تعد " (3) ، والحرص على نوعين :
(1- محمود وهو فرط الإرادة لفعل الخير ، كقوله تعالى فى وصف النبى - صلى الله عليه وسلم - : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة/128] ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : " قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ــــــــــــــــــــ
1. لسان العرب 7/11 ، والمفردات ص113 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الإيمان?(31) 1/106 .
3. أخرجه البخارى فى الموضع السابق (783) 2/312 .(10/20)
يا رسول اللَّه ، أي الصدقة أفضل ؟ قال : أن تصدق وأنت صحيح حريص تأمل الغنى وتخشى الفقر ، ولا تمهل ، حتى إذا بلغت الحلقوم ، قلت : لفلان كذا ولفلان كذا ، وقد كان لفلان " (1) ، ومن حديث عائشة رضي اللَّه عنها قالت : " رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه ، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد ، حتى أكون أنا التي أسأم ، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللَّهو " (2) .
(2- حرص مذموم وهو ما ورد فى قوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ? } [البقرة/96] ، وروى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال : " إنكم ستحرصون على الإمارة ، وستكون ندامة يوم القيامة ، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة " (3) ، وعن أنس - رضي الله عنه - قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان الحرص على المال ، والحرص على العمر " (4) ، ومن حديث كعب بن مالك الأنصاري - رضي الله عنه - قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه " (5) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الوصايا?(2748) 5/439 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب النكاح?(5236) 9/248 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب الأحكام?(7148) 13/133 .
4. أخرجه مسلم فى كتاب الزكاة?(1047) 2/724 وأحمد فى المسند (13719) .
5. أخرجه الترمذى فى كتاب الزهد?(2376) وقال الألبانى : صحيح 4/588 .
صدق الله العظيم الحرص فى الاصطلاح الصوفى :(10/21)
الحرص فى ألفاظ الصوفية يدور على المعنى القرآنى السابق ، ويعنى عندهم طلب الشئ باجتهاد فى إصابته (1) ، ويرتبط اللفظ بالمذمة ، لاقترانه بطلب الدنيا ، وهى عندهم فى موضع العداء ، روى عن حاتم الأصم (ت:237هـ) أنه قال : ( المنافق ما أخذ من الدنيا ، يأخذ بالحرص ويمنع بالشك وينفق بالرياء والمؤمن يأخذ بالخوف ويمسك بالسنة وينفق لله خالصا فى الطاعة ) (2) .
ويرى الحارث المحاسبى (ت:243هـ) أن الغنى ، قد يكون زاهدا فى غناه والفقير قد يكون راغبا حال فقره ، فالغنى الصادق المطيع خازن من خزان الله ليس حبسه للأموال ضنا بها وحرصا عليها فهو زاهد وإن كثر عنده المتاع (3) .
ويذكر القشيرى (ت:465هـ) فى شرحه لقوله جل ذكره : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [البقرة/96] ، أن حب الحياة فى الدنيا نتيجة الغفلة عن اللَّه ، وأشد منه غفلة أحبهم للبقاء فى الدنيا ، وحال المؤمن من هذا على الضد وأما أهل الغفلة وأصحاب التهتك فإنما حرصهم على الحياة لعلمهم بما فقدوا فيها من طاعتهم ، فالعبد الآبق لا يريد رجوعا إلى سيده ، والانقلاب إلى من هو خيره مرجو خير للمؤمنين من البقاء ــــــــــــــــــــ
1. التعريفات للجرجانى ص90 .
2. طبقات الصوفية ص95 .
3. الرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله ص 101 : 109 .
مع من شره غير مأمون (1) ويذكر أبو حامد الغزالى (ت:505هـ) أن شدة الحرص على فضول الدنيا من الأوصاف الردية والأخلاق المذمومة التى توقع فى الغضب وتؤدى إلى الكذب وطلب الجاه والعجب (2) .
**********************************
40 - الحرمة
**********************************(10/22)
صدق الله العظيم الحرمة : الحرام الممنوع منه ، وهو على نوعين فى كتاب اللَّه (3) :
1- تحريم كونى : وهو منع أمر من قبل اللَّه ، لا يمكن للإنسان فعله ، كقوله تعالى : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْض ِ } [المائدة/26] وقوله : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْل ُ } [القصص/12] .
2- تحريم شرعى : وهو منع أمر يمكن للإنسان مخالفته ، كقوله تعالى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإشارات 1/107 .
2. إحياء علوم الدين 3/178 ، خلت معظم المعاجم الصوفية من مصطلح الحرص مع كونه كما هو واضح لفظ دائر بين مشايخ الصوفية ، ولم يذكر إلا الجرجانى فى تعريفاته كما تقدم .
3. المفردات ص114،115 .
صَاغِرُونَ } [التوبة/29] وقوله تعالى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } [البقرة/275] .
والحرمة تعظيم ما عظم تحريمه ، كقوله تعالى : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } [الحج/30] .
وعن عائشة رضي اللَّه عنها أنها قالت : " وما انتقم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لنفسه?إلا أن تنتهك حرمة اللَّه فينتقم لله بها " (1) ، ومن حديث أبى بكرة - رضي الله عنه -قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم " (2) ، ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر ، أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة " (3) .(10/23)
صدق الله العظيم الحرمة فى الاصطلاح الصوفى :
والحرمة عند الصوفية تعظيم حرمات اللَّه ، بتحريم ما حرم الله والامتناع عن معصيته ، قال الحكيم الترمذى (ت:320هـ) : ( فالتقوى حسن النية وسلامة الصدر من الآفات ، وذلك أن الله وضع فى الأرض بيتا استخلصه لنفسه وجعله مبوأ ذكره وسماه كعبة وحرما ، وجعله قياما للناس وسماه البيت المحرم وسماه بكة ووضع فى جوف الآدمى قلبا استخلصه لنفسه فلم يكله إلى أحد . . ثم جعل صدره له حرما ، وجعل للقلب عينين يبصران بذلك المصباح ، ما يجرى فى ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب المناقب?(3560) 6/654 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب العلم?(67) 1/190 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب الجمعة?(1088) 2/659 .
الصدر ، فمن اتقى على كعبة الله وحرمه ، أن يحدث فيه فسادا أو معصية فههنا أحق أن يتقى على قلبه وصدره ، أن يحدث فيه غلا أو غشا أو سوءا حتى يتأدى ذلك إلى جوارحه ، فيفتضح عند رب العالمين ) (1) .
ويذكر القشيرى فى تعليقه على قوله تعالى : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } [الحج/30] مدلولات متنوعة لتعظيم الحرمات كلها فى إطار الأصول القرآنية والنبوية منها : تعظيم الحرمات يكون بتعظيم أمره وتعظيم أمره بترك مخالفته ، تعظيم الحرمات بطلب الرضا من اللَّه ، فمن طلب الرضا بغير رضى اللَّه لم يبارك له فيما آثره من هواه على رضى مولاه ولا محالة سيلقى سريعا نحبه ، تعظيم حرماته بالغيرة على إيمانه وما فجر صاحب حرمة قط ، تعظيم الحرمات ألا يقع فى الفرقة ، فترك الخدمة يوجب العقوبة وترك الحرمة يوجب الفرقة ، وكل شئ من المخالفات فللعفو فيه مساغ وللأمل إليه طريق ، وتارك الحرمة على خطر ألا يغفر ، وذلك بأن يؤدى ثبوته بصاحبه إلى أن يختل دينه وتوحيده (2) .(10/24)
وربما كان ما سبق من معانى الحرمة مفهوما متواضعا لها ،عند الكاشانى فتعظيم الحرمات يجعله على مراتب تختلف فى درجاتها بحسب العموم والخصوص فهناك تعظيم الحرمات عند العامة : وذلك يكون بالوقوف عند مراسم اللَّه تعالى وحدوده رغبة فيما وعد اللَّه ورهبة مما توعد ، وأيضا تعظيم الحرمات عند ــــــــــــــــــــ
1. آداب المريدين وبيان الكسب ص 99 ، 100 .
2. لطائف الإشارات 2/541 .
المتوسطين : وذلك يكون بالحياء من اللَّه تعالى ، لا لطلبا للمثوبة ولا رهبا من العقوبة ، لئلا يصير العبد بذلك ، مسترقا لرغبته ورهبته لا لربه ، ثم تعظيم الحرمات عند الخاصة : وذلك بأن يحفظهم الحق فى أوقات المشاهدة عن الخروج عن حد الأدب ، فإذا أشهدهم اللَّه تعالى بأنه ظاهرا فى كل شئ ، أشهدهم مع ذلك نزاهته عن كل شئ (1) .
ــــــــــــــــــــ(10/25)
1. لطائف الإعلام 1/408 وتعظيم الحرمات الذى يتوافق مع الأصول القرآنية هو تعظيم الدرجة الأولى دون الثانية والثالثة ، فالتعظيم المبنى على مراعاة الثواب والعقاب فى العبادة هو تعظيم النبى - صلى الله عليه وسلم - وطريقته ، ومعلوم أن ما جاوز ذلك تحت أى دعوى لا يقبل ، كما أن تعظيم الحرمات عند الخاصة ، وهى الدرجة العظمى عند أصحاب الوحدة يشير به الكاشانى إلى ما ذكره بن عربى أن التنزيه عند أهل الحقائق فى الجانب الإلهى عين التحديد والتقييد ، وذلك أن للحق فى كل خلق ظهورا فهو الظاهر فى كل مفهوم ، وهو الباطن عن كل فهم إلا عن فهم ، من قال إن العالم صورته وهويته وكذلك من شبهه وما نزهه ، فقد قيده وحدده وما عرفه ، ومن جمع فى معرفته بين التنزيه والتشبيه ووصفه بالوصفين على الإجمال فقد عرفه وحفظ حرمته ، ولذلك فإنهم يحتجون بأن النبى - صلى الله عليه وسلم - ربط معرفة الحق بمعرفة النفس ، ففى الحديث الموضوع : (من عرف نفسه فقد عرف ربه ) موضوع ، انظر المقاصد الحسنة للسخاوى ص198 والموضوعات الكبرى للإمام على القارى ص83 ، بل يفسرون قوله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ } [فصلت/53] ، بأنه ما خرج عنك { وَفِي أَنْفُسِهِم ْ } ، وهو عينك { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ ُّ } ، أى للناظر { أَنَّهُ الْحَق } ، أى من حيث أنك صورته وهو روحك انظر لطائف الإعلام 1/235 ، وأبين من ذلك ما صرح به ابن عربى شعرا فى قوله : فإن قلت بالتنزيه كنت مقيدا وإن قلت بالتشبيه كنت محددا =
**********************************
41- الحرية
**********************************
صدق الله العظيم الحرية : الحر خلاف العبد ، والحرية ضربان (1) :(10/26)
الأول : من لم يجر عليه أحكام الرق ، نحو قوله تعالى : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ } [البقرة/178] ، والتحرير جعل الإنسان حرا ومنه قول الله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } [النساء/92] ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " قال اللَّه ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ، رجل أعطى بي ثم غدر ، ورجل باع حرا فأكل ثمنه ، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعط أجره " (2) .
الثانى : من لم تتملكه الصفات الذميمة ، من الحرص والشر من المقتنيات الدنيوية ، وإلى العبودية التى تضاد ذلك ما روى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ــــــــــــــــــــ
= وإن قلت بالأمرين كنت مسددا وكنت إماما فى المعارف سيدا
فمن قال بالإشفاع كان مشركا ومن قال بالإفراد كان موحدا
فإياك والتشبيه إن كنت ثانيا وإياك والتنزيه إن كنت مفردا
فما أنت هو بل أنت هو وتراه فى عين الأمور مسرحا مقيدا
انظر فصوص الحكم ص54 ، ص56، ص60 .
1. المفردات ص111 ، ولسان العرب 4/181 ، والمغرب 1/194 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد والسير?(2887) 6/95 .
قال : " تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة ، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش " (1) .
وقوله تعالى : { إِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [آل عمران/35] ، قيل : هو أنها جعل وليدها بحيث لا ينتفع به الانتفاع الدنيوى ، بل جعلته مخلصا للعبادة ، وقيل : معتقا من أمر الدنيا وكل ذلك إشارة إلى معنى واحد (2) .
صدق الله العظيم الحرية فى الاصطلاح الصوفى :(10/27)
والحرية ترد عند أوائل الصوفية ، على معنى تجيزه الأصول القرآنية والنبوية فيعنى عندهم إتمام العبودية لله والتحرر مما سواه ، كما روى عن بشر الحافى (ت:227هـ) أنه قال للسرى السقطى : ( إن اللَّه تعالى خلقك حرا ، فكن كما خلقك ، لا تراء أهلك فى الحضر ، ولا رفقتك فى السفر ، اعمل لله ودع عنك الناس ) (3) ، ويقول أيضا : ( من أراد أن يذوق طعم الحرية ويستريح من العبودية ، لغير اللَّه ، فليطهر السريرة بينه وبين اللَّه تعالى ) (4) .
وينسب لأحمد بن خضرويه (ت:240هـ) أنه قال : ( فى الحرية تمام العبودية ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب البيوع?(2227) 4/487 .
2. المفردات ص111 .
3. اللمع للسراج الطوسى ص450 .
4. الرسالة القشيرية 2/262 .
وفى تحقيق العبودية تمام الحرية ) (1) ، وربما جعل الجنيد بن محمد (ت:297هـ)
ــــــــــــــــــــ(10/28)
1. اللمع للسراج الطوسى ص448 ،طبقات الصوفية ص104 ، يعد الصوفية أو من تكلموا فى الحرية على هذا المعنى فلهم السبق فى إنشاء اصطلاح للحرية يغاير المفاهيم الفلسفية والكلامية ، ويحمل فى طياته تكامل المذهب فى إثبات الحرية بالعبودية لله والتحرر مما سواه ، سواءا كانت الحرية فى القلب أو اللسان أو الجوارح ، فمقدار الحرية فى الإنسان يتحدد بمقدار العبودية لله ، والخروج من عبودية ما سواه ، كما أن أوائل الصوفية رسموا طريقا للحرية من خلال المقامات ، والمجاهدات التى تزيد الإيمان شيئا فشيئا حتى يصل إلى الكمال فيه ، ويبدأ الطريق بمقام التوبة ثم الورع والزهد والصبر والتوكل والرضا وينتهى بالحرية ، فالحرية عندهم آخر مقام للعارف ، وأغلب ذلك ليس نحتا من الأذهان لخدمة قضايا الإيمان ، ولكن تعبيرا عن وجدانهم وتجربتهم التى خاضوها ، فأسفرت عن هذه المعانى والحقائق وعلى ذلك ، فإنهم وفقوا إلى التخلص من المتناقضات واللوازم فى العلاقة التى تربط بين الله وبين الإنسان من ناحية وبين الله والعالم من ناحية أخرى ، بحيث يمكن القول إن مذهب أوائل الصوفية يعبر بصدق عن حقيقة هذه العلاقة ، فهو لا يختلف إلى حد ما عن منهج الكتاب والسنة فى عرض الموضوع ، فالعلاقة بين الله وبين الإنسان هى علاقة عبودية يؤديها الإنسان لربه من خلال معنى الابتلاء فى الأرض والاستخلاف فيها ، والله سبحانه وتعالى كيفه بالصورة التى تمكنه من تحقيق هذه الغاية ، ووهبه كل مقومات الحرية السابقة ليعى دوره فى الحياة ، ويعقل الأشياء عن الله ويتحمل المسئولية عن أفعاله الخلقية ، فيتحقق معنى العدل والجزاء ، فالكمال الإنسانى يكمن فى ارتقاء الانسان إلى ما فوق سلطان الشيطان والشر والنفس ، ودخول الانسان فى عبودية الله بإرادته هو السبيل الوحيد عند أوائل الصوفية للمحافظة على حريته وتحقيق ذاته ، إذ أنه يضع نفسه فى موقعه =(10/29)
الحرية آخر ما يصل إليه العارف من المجاهدة ، فيروى عن أنه قال : الحرية آخر مقام للعارف ، وسئل عمن لم يبق عليه من الدنيا إلا مقدار مص نواة ، أيكون حرا ؟ فقال : المكاتب عبد ما بقى عليه درهم ، وقال متمنيا أن يرى حرا بحق :
أتمنى على الزمان محالا : أن ترى مقلتاى طلعة حر (1) .
وينسب لإبرهيم بن شيبان (ت:330هـ) أنه قال : ( من أراد أن يكون حرا من الكون ، فليخلص فى عبادة ربه ، فمن تحقق فى عبادة ربه ، صار حرا مما سواه ) (2) ، وربما ركز بعضهم على أن التحرر الحقيقى يكمن فى القلب على اعتبار ، أن صلاح القلب يؤدى باللزوم إلى صلاح البدن وسائر الجوارح فروى عن أبى بكر الشبلى (ت:334هـ) أنه قال : ( الحرية هى حرية القلب لا غير ) (3) ، وربما توهم البعض ولأول وهله ان الحرية تعنى التحلل من قيود العبودية لله ، وهذا ما يرده عبد الله بن خفيف الشيرازى (ت:371هـ) حيث ــــــــــــــــــــ
= الصحيح بين الكائنات ، فينضم إليها ويشاهدها عابدة بحقيقة الربوبية ، فينخرط معها بنفى تدبيره إلى تدبير الله ، وخضوعه وإخضاعه لما منحه الله من نعم وفضل ، مما يجعل الإنسان كائنا على قمة الكائنات ، انظر المزيد فى مفهوم الحرية عند الصوفية فى القرنين الهجريين الثالث والرابع رسالة ماجستير للمؤلف مخطوط كلية دار العلوم 618 سنة 1995م فصل عن الحرية ومنهج العبودية ص281 وما بعدها .
1. الرسالة 2/461 .
2. طبقات الصوفية ص 404 .
3. السابق ص343 .(10/30)
يقول : ( والحرية من العبودية باطلة ، أى إذا تصور امرؤ أن العبد يجوز له فى حياته ، أن يتحرر من قيد العبودية ، وأن تسقط عنه التكاليف الشرعية ، فهو على باطل (1) ، ولكن التحرر جائز من رق النفوسية ، أى يجوز للعبد أن يتحرر من قيد نفسه وغلها ، والرق والعبودية لا يسقطان من العبد بحال ، ولا يسقط عنه اسم العبودية (2) ، وقال السراج الطوسى (ت:387هـ) : ( الحرية إشارة إلى نهاية التحقق بالعبودية لله تعالى ، وهو أن لا يملكك شئ من المكونات وغيرها ، فتكون حرا إذا كنت لله عبدا ، فلا يكون العبد عبدا حقا ، ويكون لما سواه مسترقا ) (3) .
ولا شك أن هذا ما أشار إليه - صلى الله عليه وسلم - بقوله : "?تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة ، إن أعطى رضى ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه فى سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان فى الحراسة كان فى الحراسة ، وإن كان فى الساقة كان فى الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع له " (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. سيرة الشيخ الكبير عبد اللَّه بن خفيف ص361 . 2. السابق ص361 .
3. اللمع ص450 .
4. أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد (2886) ، وتعس دعاء عليه بالهلاك أى انكب وعثر والخميصة ثوب خز أو صوف معلم ، والخميلة ثياب لها خمل من أى شئ كان ، وإذا شيك فلا انتقش أى إذا أصابته شوكة فلا أخرجت منه .
ويروى عن أبى على الدقاق (ت:410هـ) أنه قال : ( أنت عبد من أنت فى رقه وأسره ، فإن كنت فى أسر نفسك ، فأنت عبد نفسك ، وإن كنت فى أسر دنياك فأنت عبد دنياك ) (1) .(10/31)
ويستند القشيرى (ت:465هـ) إلى الأصول القرآنية فى بيان معنى الحرية عند الصوفية ، فيبين أن المحرر هو الذى ليس فى رق شئ من المخلوقات ، حرره الحق سبحانه فى سابق حكمه عن رق الاشتغال بجميع الوجوه والأحوال ، قال تعالى: { إِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم ُ } [آل عمران/35] (2) .
واستدل على معنى الحرية بقوله تعالى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [الحشر/9] ، وذلك أنهم إنما آثروا على أنفسهم لتجردهم عما خرجوا منه وآثروا به ، فالحرية ألا يكون العبد تحت رق المخلوقات ، ولا يجرى عليه سلطان المكونات وعلامة صحة سقوط التميز بين الأشياء ، فيتساوى عنده أخطار الأعراض حتى يستوى حجرها وذهبها (3) .
وكما عودنا الكاشانى فى ذكر معانى المصطلح وتخصيصه على الوجه الدلالية لاعتبارات الصوفية ، جعل الحرية فى الاصطلاح الصوفى على ثلاثة أنواع :
ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة 2/430 .
2. لطائف الإشارات 1/237
3. الرسالة 2/460 .
1- حرية العامة : وهى التى تقدمت وتعنى الخروج عن رق اتباع الشهوات (1).
2- حرية الخاصة : وهى الخروج عن رق المرادات ، لاقتصارهم على ما يريده الحق بهم ، وهو ما عناه القشيرى ، بقوله : ( إن الذى أشار إليه القوم من الحرية ، هو ألا يكون العبد تحت رق شئ من المخلوقات ، لا من أعراض الدنيا ولا من أعراض الآخرة فيعبده فرد ا لفرد ) (2) .
3- حرية خاصة الخاصة : وهى خروجهم عن رق الرسوم والآثار ، لانمحاق ظلمة كونهم فى تجلى نور الأنوار ، ويعنى ما ذكره ابن عربى : ( الحرية من ظلمات أهل الغيب المكتنفين خلف الحجب الظلمانية ، لقوله تعالى : { وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا } [نوح/28] أى هلاكا فى الحق ، فلا يعرفون نفوسهم لشهودهم وجه الحق دونهم ) (3)(10/32)
**********************************
42- الحزن
**********************************
صدق الله العظيم الحزن : أصل الحزن خشونة فى الأرض ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال : " إن اللَّه تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام 1/409 ، ومعجم الكاشانى ص82 .
2. الرسالة 2/461 .
3. فصوص الحكم ص73:71 .
فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود ، وبين ذلك ، والسهل والحزن والخبيث والطيب " (1) ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " تعوذوا باللَّه من جب الحزن ، قالوا : يا رسول اللَّه وما جب الحزن ؟ قال : واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم مائة مرة ، قلنا : يا رسول اللَّه ، ومن يدخله قال القراء المراءون بأعمالهم " (2) .
والحزن خشونة فى النفس لما يحصل فيه من الغم ، ويضاده الفرح قال الله عز وجل : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون َ } [يونس/62] وقوله تعالى : { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ } [آل عمران/139] ، فليس ذلك بنهى عن تحصيل الحزن ، فالحزن ليس يحصل بالاختيار ، ولكن النهى فى الحقيقة إنما هو عن تعاطى ما يورث الحزن واكتسابه (3) .
وعن عائشة رضي اللَّه عنها أنها كانت تأمر بالتلبين للمريض ، وللمحزون على الهالك ، وكانت تقول إني سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن التلبينة تجم فؤاد المريض ، وتذهب ببعض الحزن " (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه الترمذى فى كتاب الزهد (2955) وصححه الألبانى 5/204 ، وأبو داود (4693) 4/222 وابن حبان فى صحيحه (6181) 14/60 .
2. أخرجه الترمذى فى كتاب الزهد (2383) وقال : هذا حديث حسن غريب ، وقال الشيخ الألبانى : ضعيف 4/593 ، وابن ماجة (256) 1/94 .(10/33)
3. المفردات ص115،116 .
4. أخرجه البخارى فى الطب?(5689)10/153والتلبينة حساء يجعل من دقيق أو نخالة .
وللحزن علامات يعرف بها ، منها ما ورد فى قول الله تعالى : { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ } [يوسف/84] ، وقوله عز وجل : { تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا } [التوبة/92] ، عن أنس - رضي الله عنه - قال : " قنت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - شهرا حين قتل القراء ، فما رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حزن حزنا قط أشد منه " (1) ، وعن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى على سعد بن عبادة عند موته ، فلما رأى القوم بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بكوا فقال : ألا تسمعون إن اللَّه لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ، ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم ، وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه " (2) .
وقد ثبت فى السنة أن ما يصيب المسلم من الحزن يكفر عنه الخطايا ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ، ولا أذى ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها ، إلا كفر اللَّه بها من خطاياه " (3) ، وقد كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يتعوز من الحزن ، لما روى عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال :
" كنت أسمع النبى - صلى الله عليه وسلم - كثيرا يقول : اللَّهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين وغلبة الرجال " (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الجنائز?(1300) 3/199 .
2. أخرجه البخارى فى الموضع السابق?(1304) 3/209 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب المرضى?(5642) 10/107 .
4. أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد والسير?(2893) 6/101 .
صدق الله العظيم الحزن فى الاصطلاح الصوفى :(10/34)
والحزن عند الصوفية ، توجع القلب لفائت ، أو تأسفه على ممتنع ، وهو عندهم تأسف على ما يفوت العبد من الكمالات وأسبابها وماهياتها ، وهو على نوعين (1) :
الأول : الحزن المحرم وهو ما كان من فوات حظة من الدنيا ومتاعها ، لقوله اللَّه تعالى : { لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُم ْ } [الحديد/23] ولا يصح مع الحزن على متاع الدنيا إيمان بالقدر .
الثانى : الحزن المندوب ، وهو الحزن على فوات الأعمال الصالحة ، وعلى زمان مضى لم يجتهد فيه .
وقال الحارث بن أسد المحاسبى (ت:243هـ) : ( إذا حزن العبد فى الدنيا للأخرة ، فهو المفروح غدا فى جوار الله ، وإذا حزن فى الدنيا للدنيا فهو القاصى عن قرب الله عز وجل ، ومخرج الحزن علمهم بعلم الله عز وجل فيهم أنه قد رآهم فى مواطن يكرهها ، فهم غير آمنين لا تقر لهم أعين ، ولا ينشطون لفرح لما غلب على قلوبهم من الأحزان ) (2) ، ويجعل المحاسبى الحزن على وجوه :
حزن على فقد أمر يحب وجوده ، وحزن مخافة أمر مستقبل ، وحزن لما أحب من الظفر بأمر فيتأخر عن مراده ، حزن يتذكر من نفسه مخالفات الحق فيحزن ــــــــــــــــــــ
1. القصد والرجوع إلى الله ص95 .
2. طبقات الصوفية ص59 .
له ، ثم يذكر المحاسبى أيضا فى استقصاء جيد علامات الحزن ويورد منها (1) :
1- التفكر فى الذنوب السالفة .
2- رهبة القدوم على اللَّه تعالى بغير زاد .
3- أخذ القلوب بحقوق اللَّه تعالى الواجبة والفرائض اللازمة .
4- الانقباض عند الانبساط ، والانقطاع عن فضول الكلام ، وقلة المبلاة بأمور الدنيا .(10/35)
وقسم الكاشانى الحزن عند الصوفية إلى ثلاثة أنواع تعبر فى الحقيقة عن وجهة نظره ، إذ يعتبر ما سبق من الحزن حزن العامة ، ويكون لأجل تفريطهم فى القيام بما يجب عليهم من وظائف الخدمة وهو ما تقدم ، ويسمى نوعا آخر بحزن المريد ، وهو حزن المتوسطين بين العوام والخواص وحزنهم من جهة ما قد يعرض لقلوبهم ، من التفرقة حرصا على حصول الجمعية على الحق ، أما حزن الخاصة فهو حزنهم على غيرهم (2) ، يقول : ( وإليه الإشارة بقوله تعالى عن يعقوب عليه السلام : { قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِه ِ } [يوسف/13] ، وإنما لم يكن للخاصة حزن على أنفسهم ، لأن الحزن تفرقة وفقدان وهم أهل الجمعية والوجدان ، ولهذا جاء فى الحديث أن كل من سوى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يقول يوم القيامة نفسى نفسى ، وهو - صلى الله عليه وسلم - يقول : أمتى أمتى " (3) ، وكلامة فيه تعسف شديد فى تفسير الأدلة .
ــــــــــــــــــــ
1. حياة القلوب 2/199 . 2. لطائف الأعلام 1/410 .
3. جزء من حديث متفق عليه ، أخرجه البخارى فى تفسير القرآن (4712) 8/247 =
**********************************
43 - الحسد
**********************************
صدق الله العظيم الحسد : الحسد على نوعين :
1- حسد محرم وهو تمنى زوال نعمة من مستحق لها وانتقالها إليه ، وربما كان مع ذلك سعى فى إزالتها (1) ،قال تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ } [البقرة/109] ، والحسد محرم لما روى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إياكم والظن ،فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تحسسوا ، ولا تجسسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تدابروا ولا تباغضوا ، وكونوا عباد اللَّه إخوانا ) (2) ، وعنه أيضا أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال :(10/36)
" .. ولا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد " (3) .
ــــــــــــــــــــ
= ومسلم فى كتاب الإيمان?(194) 1/184 وكلاهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، ولفظه : " ثم يقال : يا محمد ارفع رأسك ، سل تعطه واشفع تشفع ، فأرفع رأسي ، فأقول : أمتي يا رب أمتي يا رب أمتي يا رب " .
1. المفردات ص118 ، ولسان العرب 3/148 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الأدب?(6064) 10/ 496 .
3. أخرجه النسائى فى كتاب الجهاد?(3109) ، وقال الألبانى : حسن ، 6/12 ، وابن حبان فى صحيحه (4606) 10/466 .
والحسد دواؤه الاستعاذة بالرقية ، لقوله تعالى فى الحث على الاستعاذة : { وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَد َ } [الفلق/ 5] ، وعن عائشة رضى اللَّه عنها قالت : " كان إذا اشتكى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - رقاه جبريل قال : باسم اللَّه يبريك ، ومن كل داء يشفيك ، ومن شر حاسد إذا حسد ، وشر كل ذي عين " (1)
2- حسد مشروع ، وهو ما يطلق ويراد به الغبطة ، وتعنى تمنى المرء أن يكون له من الخير مثل ما عند الغير دون زوالها عنه ، ومن ذلك ما روى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تحاسد إلا في اثنتين ، رجل آتاه اللَّه القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار ، يقول : لو أوتيت مثل ما أوتي هذا ، لفعلت كما يفعل ، ورجل آتاه اللَّه مالا ينفقه?في حقه ، فيقول لو أوتيت مثل ما أوتي لفعلت كما يفعل " (2) ، وعن عائشة قالت : " ما حسدت أحدا ما حسدت خديجة ، وما تزوجني رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد ما ماتت ، وذلك أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بشرها ببيت في الجنة من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب " (3) .
صدق الله العظيم الحسد فى الاصطلاح الصوفى :(10/37)
والحسد عند الصوفية متوافق مع الأصول القرآنية السابقة ، فهو كراهة حصول النعمة للغير ومحبة زوالها عنه ، وأكثر ما يكون الحسد بين الأقران والأمثال ــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب السلام?(2185) 4/1718 وأحمد فى المسند (11574) .
2. أخرجه البخارى فى كتاب التمنى?(7232) 13/ 233 .
3. أخرجه الترمذى فى كتاب المناقب?(3876) وقال : حديث حسن ، وقال الألبانى : صحيح 5/702 ، والقصب قصب اللؤلؤ .
والأخوة وبنى العم والأقارب ، وإنما يكون غالبا بين أقوام تجمعهم روابط يجتمعون بسببها فى مجالس المخاطبات ، ويتواردون فى الأغراض ، فإذا خالف واحد صاحبه فى غرض من أغراضه ، نفر طبعه عنه وأبغضه ، وثبت الحقد فى قلبه ، فعند ذلك يريد أن يستحقره ويتكبر عليه ، ويكره تمكنه من النعمة التى توصله إلى أغراضه ، فلا تحاسد بين شخصين فى بلدين لا رابطة بينهما تجمعهما ولا تحاسد أيضا بين شخصين لا تحاد بينهما ، فلا يحسد العطار النجار ، ولا الفلاح البزار ، ولا العالم العابد ، ولا الأمير القاضى ، ولا عكسه وله أسباب منها ، أن يكون عدو له أو مبغوضا له ، وأن يكون قبول الناس عليه أكثر ومحبتهم له أقوى ، أن يكون موصوفا عند الناس بزيادة فى العلم والفضل فيحسده على ذلك ، ومنها كثرة المال والجاه (1) .
ويروى عن حاتم الأصم (ت:237هـ) أنه قال :
( أصل الطاعة ثلاثة أشياء : الخوف والرجاء والحب وأصل المعصية ثلاثة أشياء : الكبر والحرص والحسد ) (2) ، وقد بين الحارث المحاسبى (ت:243هـ) تفصيل الحسد ودقائقه وأفرد له أبوابا متعددة ، فيقول : ( إن الحسد فى الكتاب والسنة على وجهين وهما موجودان فى اللغة ) (3) ، ثم يقسمه إلى وجهين (4) : ــــــــــــــــــــ
1. حياة القلوب على هامش قوت القلوب 2/33 ، 34 .
2. طبقات الصوفية ص95 .
3. الرعاية لحقوق اللَّه ص387 .
4. السابق ص389 ، 390 .(10/38)
1- أحدهما حسد غير محرم ، وهو كراهة التقصير عن منزلة غيره ، ومحبة المساواة ، واللحوق به ، مع ترك التمنى أن يزول عمن نافسه ، حاله التى هو عليها ، فبعض هذا الحسد فرض ، وبعضه فضل ، وبعضه مباح ، وبعضه يخرج إلى النقص والحرام .
2- وأما الوجه الآخر فمحرم كله ، ولا يخرج إلا إلى ما لا يحل ، وقد ذمه اللَّه عز وجل فى كتابه والرسول - صلى الله عليه وسلم - فى سنته ، واجتمع علماء الأمة عليه ، قال تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقّ ُ } [البقرة/109] وقال سبحانه : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } [النساء/54] .
ثم يبين المحاسبى أن الحسد أنواع (1) :
(1- ما يكون من الحسد على الرياسة وحب المنزلة ، فالرياسة والمنزلة عند الناس بالعلم ، فإنه يورث رد الحق وتركه على علم ، كما تفرق أهل الكتاب حسدا بينهم أن يعلوا بعضهم بعضا فى العلم ، كل واحد منهم يحسد صاحبه الرياسة ، أن تكون له دونه ، وكذلك المنزلة عند الناس ، فرد الحق أن يقبله وابتدع ، فقال بغير الحق ليتبعه الناس على قول ، هو خلاف قول من يحسده وخطأه فيما يقول وإن كان حقا ، وأظهر أن الحق فى غيره ليصد الناس عنه ويطفئ نوره ، حسدا أن ترتفع منزلته أو يخضع له فيكون عليه رئيسا .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق من ص395 : ص398 ملخصا .(10/39)
(2- ما يكون من الحسد عن الحقد والعداوة والبغضاء ، وهو أشد الحسد وذلك ما وصفه اللَّه عز وجل عن الكفار وعداوتهم ، وبغضهم للمؤمنين فالمبغض لا يحب أن يرى بمن يبغض نعمة عليه من اللَّه ، ويحب أن يراه بأسوأ الحال فى الدين والدنيا ، ولهذا قال تعالى عن المنافقين : { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [آل عمران/119] .
(3- ما يكون من الحسد عن حب ظاهر الدنيا ، أن ينال ما يرى بغيره من حب أو بر من قرابة أو غيره ، كالأخوة يتحاسدون ، أو أخ يحاسد الأخ عند أبيهما أو أمهما أو قرابتهما وكذلك الصاحبان أو الشريكان ، فيحسده على ما يرى من حب أبيهما أو أمهما أو برهما ، أو من صحبهما أو شاركهما ، ويحب أن يؤثر بذلك دونه ، فيحسده فيقع فيه ويبغضه ليصرف وجه أبيه أو غيره إليه بالبر والحب ، وكذلك المرأتان والضرتان ، وذلك كما وصف عن أخوة يوسف عليه السلام ، حين حسدوه فى حب أبيه له دونهم ، وإيثاره إياه عليهم ، إذ قالوا : { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } [يوسف/8] إلى قوله : { اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِين َ } [يوسف/9] .
(4- ما يكون من الحسد عن العجب ، كما أخبرنا اللَّه عن الأمم الماضية فقالوا لرسلهم : { مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ } [يس/15] وقولهم : { وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُون َ } [المؤمنون/34] فجزعوا أن يفضل عليهم من هو مثلهم فى الخلقة والنسب ، فقالوا يتعجبون منهم :(10/40)
{ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا } [الإسراء/94] ، وقال اللَّه تعالى عن قول نوح وهود لقومهما : { أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ } [الأعراف/63] ، فحسدوه فردوه الحق وعاندوا الإيمان .
**********************************
44 - الحق
**********************************
صدق الله العظيم الحق : أصل الحق المطابقة والموافقة ، والحق يقال على أوجه منها (1) :
1- الحق : اسم من أسماء اللَّه عز وجل ، لقوله تعالى : { ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ } [الأنعام/62] ، وقوله : { فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ } [يونس/32] وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما : " كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فى التهجد : اللَّهم أنت الحق ، ووعدك الحق ، ولقاؤك حق وقولك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والنبيون حق ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حق والساعة حق لك " (2) .
2- الحق : يقال لفعل اللَّه تعالى ، لأن المفعولات توجد بحسب مقتضى الحكمة وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقّ ِ } [يونس/5] .
ــــــــــــــــــــ
1. لسان العرب 10/49 ، والمفردات ص125، ص124 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب?(1120) 3/5 .(10/41)
3- الحق : يقال للاعتقاد المطابق للحقيقة ، كقوله تعالى : { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [البقرة/213] ، وعن أم سلمة رضى الله عنها قالت : "جاءت أم سليم إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول اللَّه إن اللَّه لا يستحيي من الحق ، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت ؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا رأت الماء " (1) .
4- الحق : يطلق على التوحيد والشريعة ، فعن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - قال : " دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة ، وحول الكعبة ثلاث مائة وستون نصبا فجعل يطعنها بعود في يده وجعل يقول : { جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ } [الإسراء/81] " (2) وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [التوبة/33] ، ويطلق على الشريعة ، لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ } [النساء/170] ، وروى عن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "? لا حسد إلا في اثنتين ، رجل آتاه اللَّه مالا فسلط على هلكته في الحق ، ورجل آتاه اللَّه الحكمة ، فهو يقضي بها ويعلمها " (3) .
5- الحق يطلق على صفة النبى - صلى الله عليه وسلم - ، كقول الله تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ? } [البقرة/146] .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب العلم?(130) 1/276 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب المظالم والغصب?(2478) 5/100 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب العلم?(73) 1/199 .(10/42)
6- الحق يطلق على الدَّيْن كقوله تعالى : { وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } [البقرة/282] .
صدق الله العظيم الحق فى الاصطلاح الصوفى :
والحق فى عرف الصوفية ، يطلق غالبا فى إطار المعنى القرآنى السابق ، فربما أطلقها بعضهم ويعنى بها اتباع الشرع أو المعرفة أو الإيمان أو التوحيد أو الله تعالى ، كما روى عن أحمد بن خضروية (ت:240هـ) أنه قال : ( القلوب أوعية ، فإذا امتلأت من الحق ، أظهرت زيادة أنوارها على الجوارح ، وإذا امتلأت من الباطل ، أظهرت زيادة ظلمتها على الجوارح ) (1) ، وعن ذى النون المصرى (ت:248هـ) قال : ( كل مدع ، محجوب بدعواه عن شهود الحق لأن الحق شاهد لأهل الحق ، ولأن اللَّه هو الحق ، وقوله الحق ، ولا يحتاج أن يدعى ، إذا كان الحق شاهدا له ، فأما إذا كان غائبا فحينئذ يدعى ، وإنما تقع الدعوى للمحجوبين ) (2) ، ويذكر لأبى سعيد الخراز (ت:279هـ) فى بعض كلامه : ( عبد موقوف مع الحق بالحق للحق ) ، ويعنى بذلك أنه موقوف مع اللَّه باللَّه لله (3) ، ويروى أن يوسف بن حسين الرازى (ت:304هـ) سئل : دلنى على طريق المعرفة ؟ ، فقال : أر اللَّه الصدق منك فى جميع أحوالك ، بعد ــــــــــــــــــــ
1. طبقات الصوفية ص105 .
2. السابق ص22 .
3. اللمع ص413 .(10/43)
أن تكون موافقا للحق ، ولا ترق إلى حيث لم يرق بك ، فتزل قدمك ، فإنك إذا رقيت سقطت ، وإذا رقى بك لم تسقط ، وإياك أن تترك اليقين لما ترجوه ظنا (1) ، ويذكر السراج الطوسى (ت:387هـ) أن الحق فى عرف الصوفية هو اللَّه عز وجل ، لقوله : { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } [النور/25] والحقوق معناه الأحوال والمقامات ، والمعارف والإرادات ، والعقود والمعاملات والعبادات ) (2) ، وقال أبو الحسن على بن عثمان الهجويرى (ت:465هـ) : ( مرادهم من الحق اللَّه ، لأن هذا اسم من أسماء اللَّه ، لقوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } [الحج/62] (3) .
والحق فى عرف ابن عربى يطلق على عدة معان ، أولها له أصول نبوية ويعنى به ما وجب على العبد من جانب اللَّه ، وما أوجبه الحق على نفسه (4) ، وهذا المعنى يشهد له ما ثبت عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال : " كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار ، فقال : يا معاذ ، هل تدري حق اللَّه على عباده ، وما حق العباد على اللَّه ؟ قلت : اللَّه ورسوله أعلم قال : فإن حق اللَّه على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وحق العباد على اللَّه أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا " (5) أما بقية المعانى فإنها تدور على فلسفته فى وحدة الوجود كقوله :
ــــــــــــــــــــ
1. طبقات الصوفية ص188 .
2. اللمع ص413 .
3. كشف المحجوب الهجويرى ص627 .
4. اصطلاحات الصوفية لابن عربى ص15 .
5. أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد والسير?(2856) 6/69 .(10/44)
( الحق هو اللَّه الذى له التجلى فى صور الأشياء كلها ، مشهودا فى أعين الخلق فإن الأشياء ما ظهرت إلا به سبحانه وتعالى ، فالعارف يعلم أن كل شئ يراه ليس إلا الحق ) (1) ، وربما اعتبر الحق ، هو الوجود والخير فى مقابل الباطل الذى هو العدم والشر ، فيقول : ( فما أخرج اللَّه العالم من العدم ، الذى هو الشر إلا للخير الذى أراده به ، ليس إلا الوجود ، فإن الدار الدنيا لها وجه إلى الحق بما هى موجودة ، ولها وجه لغير الحق بما ينعدم فيها وينتقل عنها ) (2) ويقول أيضا : ( وليس فى الوجود باطل أصلا ، وإنما الوجود حق كله والباطل إشارة إلى العدم ) (3) ( الباطل عدم ولا عين له فى الوجود ، ولو كان له وجود لكان حقا ) (4) ، وكذلك الحق يعتبره ابن عربى أحد وجهى الحقيقة الوجودية فإنها واحدة بذاتها ثنوية بوجهيها ، فيقال : حق خلق ، على اعتبار أن الحقيقة الوجودية واحدة ، وكذلك رب عبد ، واحد كثير ، قديم حادث ، إلى غير ذلك من الثنائيات التى هى واحد عنده من الوجهين ، فالحق فى أحد الوجهين هو الجامع لكل صفات القدم فى مقابل الخلق الوجه الآخر للحق ، الجامع لكل صفات الحدوث ، فالخلق فى الواقع ليس إلا مظهرا ومجلى وتعينا للحق ، يقول ــــــــــــــــــــ
1. الفتوحات المكية 4/184 وانظر التعريفات للجرجانى ص94 وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوى 2/80 .
2. السابق 3/377 .
3. مواقع النجوم ص79 .
4. الفتوحات 4/402 .
محى الدين بن عربى : ( فالحق مصرف العالم ، والعالم مصرف الحق ، ألا تراه يقول : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي } [البقرة/186 ] ، أليست الإجابة تصريفا ) (1) ، ( فالكون كله جسم وروح بهما قامت نشأت الوجود ، فالعالم للحق كالجسم للروح ) (2) .(10/45)
ويقول أيضا : ( فإن للحق فى كل خلق ظهور ، فهو الظاهر فى كل مفهوم وهو الباطن عن كل فهم ، إلا عن فهم من قال : إن العالم صورته وهويته وهو الاسم الظاهر ، كما أنه بالمعنى روح كل ما ظهر ، فهو الباطن ) (3) ، وربما أراد بالحق : العدل والإنصاف ، وهو صفة الإنسان الكامل ، يقول ابن عربى : ( فأعطى الإنسان الكامل كل ذى حق حقه كما أن اللَّه : { أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ } [طه/50] ، فالذى انفرد به الحق ، إنما هو الخلق ، والذى انفرد به من العالم الكامل إنما هو الحق ، فيعلم ما يستحقه كل موجود ، فيعطيه حقه وهو المسمى بالإنصاف ) (4) .
**********************************
45 - الحقيقة
**********************************
صدق الله العظيم الحقيقة : تستعمل فى مقابل الوهم والشك والظن ، وقد ورد قوله تعالى :
ــــــــــــــــــــ
1. السابق 3/545 . 2. السابق 3/315 .
3. فصوص 1/168 . 4. الفتوحات 3/398 .(10/46)
{ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ } [الأعراف/105] على معنى الصدق فى البلاغ (1) ، وقال ابن عمر - رضي الله عنه - : " لا يبلغ العبد حقيقة التقوى ، حتى يدع ما حاك في الصدر " (2) ، وعن أبي حفصة - رضي الله عنه - قال : " قال عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - لابنه : يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان ، حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك " (3) ، وفى رواية أخرى ، قال : " ولن تبلغ حق حقيقة العلم باللَّه تبارك وتعالى ، حتى تؤمن بالقدر خيره وشره " (4) ، وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لكل شيء حقيقة ، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان ، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه " (5) ، وقال مسروق - رضي الله عنه - :" كفى بالمرء علما ، أن يخشى اللَّه وكفى بالمرء جهلا ، أن يعجب بعلمه ، وحقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها فيذكر ذنوبه ، فيستغفر اللَّه تعالى منها " (6) .
ــــــــــــــــــــ
1. تفسير ابن كثير 2/235 ، والمفردات ص126 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الإيمان 1/60 .
3. أخرجه أبو داود فى كتاب السنة?(4700) وقال الألبانى : صحيح 4/225 ، وأخرجه البيهقى فى سننه (20664) 10/204 .
4. صحيح بمعناه ، أحمد فى المسند?(22197) واللفظ له ، ومسلم بمعناه عن جابر بن عبد الله فى كتاب القدر (2648) 4/2040 .
5. صحيح بمعناه ، أحمد فى المسند?(26944) واللفظ له ، وأخرجه بمعناه أبو داود فى السنة (4699) وصححه الألبانى 4/225 ، وابن ماجة فى المقدمة (77) 1/29 .
6. أخرجه الدارمى فى المقدمة?(314) 1/104 .
صدق الله العظيم الحقيقة فى الاصطلاح الصوفى :
وقد ورد مصطلح الحقيقة فى ألفاظ الصوفية على عدة معان ، تدور أغلبها حول الصدق فى الإيمان ، وبلوغ درجة الإحسان ، وكمال المراقبة ، والمداومة على النظر فى أفعال اللَّه .(10/47)
فروى عن أبى الحسين النورى (ت:295هـ) أنه قال : ( أعز الأشياء فى زماننا شيئان : عالم يعمل بعلمه ، وعارف ينطق عن حقيقته ) (1) ، ويروى عن رويم بن أحمد البغدادى (ت:303هـ) : ( قعودك مع كل طبقة من الناس أسلم ، من قعودك مع الصوفية ، فإن كل الخلق قعدوا على الرسوم ، وقعدت هذه الطائفة على الحقائق ، وطالب الخلق كلهم أنفسهم بظواهر الشرع وطالبوا هم أنفسهم بحقيقة الورع ومداومة الصدق ، فمن قعد معهم وخالفهم فى شئ مما يتحققون فيه نزع اللَّه نور الإيمان من قلبه ) (2) .
وهذا الكلام فيه نظر لأن الله لاينزع نور الإيمان من القلب ، إلا إذا خالف العبد شرعه وعصى أمره ، أما مخالفة أذواق الصوفية فلا توجب ذلك ، ولذا أحسن أبو بكر بن طاهر الأبهرى (ت:330هـ) ، عندما سئل عن الحقيقة ؟ فقال : الحقيقة كلها علم وسئل عن العلم ؟ فقال : العلم كله حقيقة (3) ، فرد الحقيقة إلى اتباع العلم ، ومثله أيضا ما ذكره السراج الطوسى (ت:387هـ) ــــــــــــــــــــ
1. طبقات الصوفية ص169 .
2. السابق ص182 .
3. السابق ص 394 .
حيث قال : ( الحقيقة وقوف القلب بدوام الانتصاب بين يدى من آمن به ، فلو داخل القلوب شك أو مخيلة ، فيما آمنت به حتى لا تكون به واقفة وبين يديه منتصبة ، لبطل الإيمان ، وهو قول النبى - صلى الله عليه وسلم - لحارثة : " لكل شئ حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ؟ ، فقال : عزفت نفسى عن الدنيا ، فأسهرت ليلى ، وأظمأت نهارى ، وكأنى أنظر إلى عرش ربى بارزا " (1) .
وكأنه يعبر عن مشاهدة قلبه ، ودوام وقوفه وانتصابه بين يدى ربه ، لما آمن به حتى عبده كأنه رأى العين (2) ، ومن أجود ما قيل فى ذلك ، ما روى عن أبى على الدقاق (ت:410هـ) ، قال : ( قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } [الفاتحة/5] حفظ للشريعة ، وقوله : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين ُ } [الفاتحة/5] إقرار بالحقيقة ) (3) .
ــــــــــــــــــــ(10/48)
1. حديث ضعيف ، أخرجه الطبرانى فى الكبير عن حارثة أنه " مر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له : كيف أصبحت يا حارث ؟ قال : أصبحت مؤمنا حقا ، فقال : انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك ؟ فقال : قد عزفت نفسي عن الدنيا وأسهرت لذلك ليلي وأظمأن نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها ، فقال : يا حارث عرفت فالزم ثلاثا " انظر معجم الطبرانى الكبير لأبى القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبرانى ، مراجعة حمدى بن عبد المجيد ، نشر مكتبة العلوم والحكم ، الموصل سنة 1983م ، 1404هـ ، (3367) 3/ 266 وانظر المنتخب من مسند عبد بن حميد ، مراجعه صبحى البدرى السامرائى ومحمود محمد خليل الصعيدى ، نشر مكتبة السنة ، القاهرة سنة 1988م 1408هـ? (445) ص165 .
2. اللمع ص413 . 3. الرسالة القشيرية 1/261 .
وللهجويرى (ت:465هـ) كلام فى مصطلح الحقيقة يدل على وضع الصوفى حال انجذابه إلى ربه ، وفنائه عمن سواه ، لا بمعنى اضمحلال الإنسان فيقول : ( الحقيقة عندهم هى مقام الإنسان فى الجمع مع ربه ، ووقوف القلب فى مقام التنزيه ) (1) .
ويبين القشيرى (ت:465هـ) أن الحقيقة فى اصطلاح الصوفية ، ما يقابل الشريعة ، فالشريعة أمر بالتزام العبودية ، والحقيقة مشاهدة الربوبية ، وكل شريعة غير مؤبدة بالحقيقة فغير مقبول ، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة ، فغير مقبول فالشريعة جاءت بتكليف الخلق ، والحقيقة إنباء عن تصريف الحق فالشريعة أن تعبده ، والحقيقة أن تشهده ، والشريعة قيام بما أمر ، والحقيقة شهود لما قضى وقدر ، وأخفى وأظهر ، والشريعة حقيقة من حيث أنها وجبت بأمره ، والحقيقة أيضا شريعة ، من حيث إن المعارف به سبحانه أيضا وجبت بأمره (2) .(10/49)
وإذا عدنا إلى الحقيقة فى فلسفة محى الدين بن عربى (ت:638هـ) نجد أنها تأخذ معنى آخر عما تقدم ، إذ تعنى ظهور ذات الحق ، من غير حجاب التعينات ، ومحو الكثرات الموهومة فى نور الذات ، وذلك يكون بسلب آثار أوصافك عنك بأوصافه ، بأنه الفاعل بك فيك منك لا أنت ، كما قال تعالى : { مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } [هود/56] (3) ، وهناك بعض المصطلحات ــــــــــــــــــــ
1. كشف المحجوب للهجويرى ص466 .
2. الرسالة القشيرية 1/261 .
3. اصطلاحات الصوفية لابن عربى ص7 ، وكشاف اصطلاحات الفنون 2/86 .
المرتبطة بالحقيقة ومستعملة على فكر أصحاب الوحدة ، وهى بعيدة فى مدلولها عن الكتاب والسنة منها (1) :
(1- حقيقة الحقائق : ويعنون بها باطن الوحدة وهى عبارة عن الذات الأحدية الجامعة لجميع الحقائق ، فهى تجمع فى ذاتها جميع ماهيات الحق والخلق والحضرة الإلهية والكونية ، وتسمى حضرة الجمع وحضرة الوجود (2) .
(2- حقيقة الحق : عبارة عن صورة علمه بنفسه ، من حيث تعينه فى تعلقه نفسه ، باعتبار توحد العلم والعالم والمعلوم .
(3- حقيقة الخلق : عبارة عن صورة علم ربهم بهم ، أو نسبة تعينه فى علم ربه أزلا وأبدا ، فإنه لما كان تعالى عالما بجميع الأشياء على حقائقها حقيقة ، وكان علمه الصفة القائمة المستحيل على ما سواه أن تكون قائمة به ، استحال على ما سواه أن يكشف الأشياء بحقائقها .
(4- الحقائق : هى أسماء الشؤون الذاتية عندما تتصور ، وتتميز فى المرتبة الثانية ، فإن جميع الحقائق الإلهية والكونية ، إنما تكون شؤونا وأحوالا ذاتية ، من اعتبارات الواحدية مندرجة فيها .
(5- الحقيقة الإنسانية الكمالية : هى حضرة الألوهية ، المسماة بحضرة المعانى وبالتعين الثانى ، والمعنى بكونها الحقيقة الإنسانية الكمالية ، هى كون
ــــــــــــــــــــ
1.لطائف الإعلام 1/424 : ص427 .(10/50)
2. انظر أيضا الفتوحات 2/433 وانظر معجم اصطلاحات الصوفية للكاشانى ص37 .
صورة الإنسان الكامل صورة لمعنى ، وحقيقة ذلك المعنى ، وتلك الحقيقة هى حضرة الألوهية المسماة بالتعين الثانى ، فكان الإنسان الكامل ، هو مظهر التعين الثانى ، والإنسان الأكمل هو مظهر التعين الأول ، المسمى بحقيقة الحقائق .
(6- الحقيقة المحمدية : وهى أكمل مجلى خلقى ظهر فيه الحق ، بل هى الإنسان الكامل بأخص معانيه ، وإن كان كل موجود ، هو مجلى خاص لاسم إلهى ، فالحقيقة المحمدية ، هى مبدأ خلق العالم وأصله ، وهى الذات مع التعين الأول ، فله الأسماء الحسنى كلها وهو الإسم الأعظم (1) .
**********************************
46 - الحكمة
**********************************
صدق الله العظيم الحكمة : وضع الشئ فى موضعه ، وتطلق على إصابة الحق بالعلم والعقل وقد تنوع معناها ومدلولها على ما يأتى (2) :
ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام 1/426 وانظر للمقارنة معجم اصطلاحات الصوفية للكاشانى ص37والتعريفات للجرجانى ص95 ، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوى 2/87 وإنشاء الدوائر لابن عربى ص19 ، ومواقع النجوم ص20 ، والتدبيرا الإلهيه ص120 والإنسان الكامل للجيلى 1/25 .
2. المفردات ص127 ، والقاموس المحيط 1/415 .
1- الحكمة صفة اللَّه التى تضمنها اسمه الحكيم ، قال تعالى : { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [الحشر/1] ، والحكمة من اللَّه تعالى معرفة الأشياء ، وإيجادها على غاية الإحكام ، وهى صفة تليق به سبحانه ، وليس كمثله شئ فيها ، كما قال الله تعالى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِين َ } [التين/ 8] .(10/51)
2- الحكمة وصف الإنسان ، عند معرفته علل الأشياء ومعلولاتها ، والأسباب المؤدية إلى تحصيل الخيرات فى الدنيا والآخرة ، وهو ما وصف الله به لقمان فى قوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ } [لقمان/12] ، وقال سبحانه وتعالى : { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } [البقرة/269] .
3- الحكمة وصف القرآن الحكيم ، وذلك لتضمنه الدلالة على جميع الخيرات فى الدنيا والآخرة ، قال تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } [يونس/1] وقال أيضا : { وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ُ } [القمر/5] .
4- الحكمة وصف السنة ، لأنها توضح مراد اللَّه وتفسره كقوله : { وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [الجمعة/2] ، وقال تعالى : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } [الأحزاب/34] ، وقال قتادة : الحكمة السنة (1) .
5- الحكمة كل قول بليغ موزون بالنقل ، وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : " ضمني النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صدره وقال : اللَّهم علمه الحكمة " (2) ، وفى رواية قال : " اللَّهم علمه
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب تفسير القرآن 8/ 376 .
2. البخارى فى المناقب?(3756) 7/126 والترمذى فى المناقب (3824) 5/680 .
الحكمة وتأويل الكتاب " (1) .(10/52)
6- الحكمة : كل قول بليغ موزون بالعقل ، فعن أبي بن كعب - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن من الشعر حكمة " (2) وعن أبي خلاد - رضي الله عنه - ، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " إذا رأيتم الرجل قد أعطي زهدا في الدنيا وقلة منطق ، فاقتربوا منه ، فإنه يلقي الحكمة " (3) ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " الكلمة الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها ، فهو أحق بها " (4) .
7- الحكمة ، تعلم العلم وتعليمه والعمل به ، لما روى عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا حسد إلا في اثنتين ، رجل آتاه اللَّه مالا فسلط على هلكته في الحق ، ورجل آتاه اللَّه الحكمة ، فهو يقضي بها ويعلمها " (5) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه ابن ماجة فى المقدمة?(166) وقال الشيخ الألبانى : 1/ 58 ، وانظر فضائل الصحابة حديث (1923) 2/976 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الأدب?(6145) 10/553 .
3. ضعيف ، أخرجه ابن ماجة فى كتاب الزهد (4101) 2/1373 ، وانظر الآحاد والمثانى (2690) 5/152 وفي السند يزيد بن سنان ، وهو ضعيف ، انظر ضعفاء العقيلى (1995)4/382 ، والإصابة (9276) 6/661 ، والكامل فى ضعفاء اللرجال (2166) 7/269 ، والمجروحين من المحدثين والضعفاء (1187) 3/106 .
4.ضعيف جدا ، أخرجه ابن ماجة فى كتاب الزهد (4169) 2/1395 وفي السند إبراهيم بن الفضل وهو متروك ، انظر ضعفاء العقيلى (56) 1/60 ، والجرح والتعديل (376) 2/122 ، والكشف الحثيث ، لأبى الوفا العجمى (20) ص39 .
5. أخرجه البخارى فى كتاب العلم?(73) 1/199 .
صدق الله العظيم الحكمة فى الاصطلاح الصوفى :(10/53)
الحكمة فى عرف الصوفية ، هى الاطلاع على أسرار الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها ، ومعرفة ما ينبغى بالشروط التى تنبغى ، فمن عرف الحكمة ويسر للعمل بها ، فذلك الحكيم الذى أتاه اللَّه الحكمة ، فأحكم وضع الأشياء فى مواضعها ، كما قال تعالى :
{ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } [البقرة/269] (1) .
وقد تنوعت أقوالهم فيها ولكنها فى الأغلب تدور فى إطار هذا المعنى ، فجعلها بعضهم بمعنى السنة كما روى عن الفضيل بن عياض (ت:187هـ) أنه قال : ( من جلس مع صاحب بدعة ، لم يعط الحكمة ) (2) ، وبعضهم جعل الزهد وترك فضول الكلام وتصغير الشأن سسبا فى الحكمة ، فلأبى سليمان الدارانى (ت:215هـ) : ( إذا ترك الحكيم الدنيا ، فقد استنار بنور الحكمة ) (3) .
وينسب لأبى بكر الوراق (ت:بعد250هـ) أنه قال : ( الحكماء خلف الأنبياء ، وليس بعد النبوة إلا الحكمة ، وهى إحكام الأمور ، وأول علامات الحكمة ، طول الصمت ، والكلام على قدر الحاجة ) (4) ، وروى عن شاه الكرمانى (ت:قبل300هـ) : ( علامة الحكمة معرفة أقدار الناس ) (5) ويذكر ــــــــــــــــــــ
1. انظر معجم الكاشانى ص77 ، ولطائف الإعلام ص432 .
2. طبقات الصوفية ص10 .
3. السابق ص81 .
4. السابق ص226 . 5. السابق ص261 .
لأبى محمد الجريرى (ت:311هـ) أنه قال : ( لكل شئ عند اللَّه حق وإن أعظم الحقوق عند اللَّه حق الحكمة ، فمن جعل الحكمة فى غير أهلها ، طالبه اللَّه بحقها ومن طالبه بحقها خصم ) (1) .(10/54)
وربما عنى بعضهم بالحكمة سماع الحق أو النطق به ، مثل ما يروى عن الحكيم الترمذى (ت:320هـ) أنه قال : ( الناس فى استماع الحكمة رجلان : عاقل وعامل ، فالعاقل يتعجب وهو لما يسمعه يشتهى ، والعامل يتقلب كأن قلبه منه حية تلتوى ) (2) ، ولعلى بن الكاتب (ت:بعد340هـ) : ( إن الرجل إذا سمع الحكمة فلم يقبلها فهو مذنب ، وإذا سمعها ولم يعمل بها فهو منافق ) (3) ويذكر لأبى عثمان المغربى (ت:373هـ) : ( الحكمة هى النطق بالحق ) (4) .
وهناك بعض المصطلحات المرتبطة بالحكمة يتنوع مدلوها حسب اتجاه قائليها ومسلكهم فى التصوف (5) :
1- الحكمة الجامعة : ويقصد بها عندهم ، معرفة الحق ، والعمل به ، ومعرفة الباطل وتجنبه .
2- الحكمة المتصرف بها : وتعنى بها ما ينتفع به كل من سمعه ، وذلك كعلم الشريعة والطريقة .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص193 . 2. السابق ص218 .
3. السابق ص387 .
4. السابق ص483 .
5. لطائف الإعلام ص432 ، ص433 .
3- الحكمة المسكوت عنها : وتعنى بها ما يدق على أفهام العوام وأصحاب الفطانة البتراء فهمه ، من أسرار علوم الحقيقة ، التى بها هلك من سمعها لسوء فهمه لمعانى أسرارها .
3- الحكمة المجهولة : وهى ما خفى عن العباد وجه الحكمة فى إيجاده ، مثل إيلام بعض الحيوانات وخلود أهل النار فيها ، فإنه تعالى أن تصل فائدة شئ من الأشياء ، مع قدرته على إيصال المنافع إلى العبيد ، من غير إيلام لأحد منهم ، فلكونه تعالى لا يفعل إلا المحكم المتقن ، صار ما يعد من هذا القبيل من الحكمة المجهولة .
**********************************
47- الحياء
**********************************(10/55)
صدق الله العظيم الحياء : انقباض النفس عن القبائح ، وإبقاؤها على الفضيلة ، واستحيا فهو مستحى (1) ، قال الله تعالى : { فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء ٍ } [القصص/25] ، وقال : { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ } [الأحزاب/53] ، وأصل الاستحياء ، الاستبقاء على الحياة كقوله تعالى : { يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } [البقرة/49] ، والحياء شعبة من شعب الإيمان ، لما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ــــــــــــــــــــ
1. المفردات ص140 ، ولسان العرب 14 /211 ، وكتاب العين 3/317
" الإيمان بضع وستون شعبة ، والحياء شعبة من الإيمان " (1) ، وعن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مر على رجل من الأنصار ، وهو يعظ أخاه في الحياء ، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " دعه فإن الحياء من الإيمان " (2) .
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، قال : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد حياء من العذراء في خدرها " (3) .
وقد ورد الحث علي الحياء ، من رواية عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " استحيوا من اللَّه حق الحياء ، قلنا : يا رسول اللَّه إنا نستحيي والحمد لله ، قال : ليس ذاك ، ولكن الاستحياء من اللَّه?حق الحياء ، أن تحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى ، وتذكر الموت والبلى ، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا ، فمن فعل ذلك ، فقد استحيا من اللَّه حق الحياء " (4) .(10/56)
وقال أنس بن مالك - رضي الله عنه - : " جاءت امرأة إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، تعرض عليه نفسها ، قالت : يا رسول اللَّه ألك بي حاجة ، فقالت بنت أنس : ما أقل حياءها ، وا سوأتاه وا سوأتاه ، قال : هي خير منك ، رغبت في النبي - صلى الله عليه وسلم - فعرضت عليه نفسها " (5) ، وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الإيمان?(9) 1/67 .
2. أخرجه البخارى فى الموضع السابق?(24) 1/93 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب المناقب?(3562) 6/654 .
4. أخرجه الترمذى فى كتاب صفة القيامة?(2458) وقال الألبانى : حسن 4/637 وانظر مكارم الأخلاق (90) ص39 .
5. أخرجه البخارى فى كتاب النكاح?(5120) 9/80 .
" الحياء لا يأتي إلا بخير " (1) .
صدق الله العظيم الحياء فى الاصطلاح الصوفى :
والحياء فى العرف الصوفى ، من جملة الأخلاق التى تتولد من علم العبد بنظر الحق إليه ، فيجذبه إلى تحمل المجاهدة ، ويحمله على استقباح الخيانة ، ويكفيه عن الشكوى عند البلوى ، ويدعوه إلى المحبة (2) ، وروى عن الحارث المحاسبى (ت:243هـ) أنه قال : ( الحياء هو الامتناع عن كل ما لا يرضاه اللَّه تعالى وعلامته فى الظاهر انقباض جوارحه عن الانبساط ، وإن مشى طأطأ رأسه حياء من اللَّه تعالى ، وقيل له : ما لذى يشين الحياء ؟ فقال : إثارة النفوس إلى موضع الأطماع ) (3) ، وينسب للجنيد بن محمد (ت:297هـ) : ( الحياء من اللَّه عز وجل أزال عن قلوب أوليائه سرور المنة ، وسئل عما يولد الحياء فقال : رؤية العبد آلاء اللَّه عليه ، ورؤية تقصيره فى شكره ) (4) ، وللحسين بن منصور الحلاج (ت:309هـ) : ( حياء الرب أزال عن قلوب أوليائه ، شهود سرور الطاعة ) (5) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الأدب?(6117) 10/537 .
2. حياة القلوب ص207 .
3. السابق ص207 .(10/57)
4. طبقات الصوفية ص162 وانظر السابق ص207 .
5. السابق ص310 .
وروى عن بندار بن الحسين الشيرازى (ت:353هـ) أنه قال : ( إن المحبة رغبة وهى مزعجة ، والحياء خجلة ، والمحب طالب غائب ، والمستحى حاضر وبينهما فرقان ، لأن المحبة تصح مع الغيبة ، والحياء يصح مع المشاهدة ، فشتان بين غائب غريب ، وحاضر قريب ) (1) .
ولابن عربى (ت:638هـ) فى الحياء كلام نفيس ،يتحدث فيه مكتسيا بثوب أهل الظاهر متكلما بلسانهم ، حيث جعله على فرض وسنة ، أما الفرض فالحياء من اللَّه أن يراك حيث نهاك ، أو يفقدك حيث أمرك ، وأما السنة منه ، فالحياء من اللَّه أن تكشف عورتك فى خلوتك ، فاللَّه أولى أن تستحى منه (2) ، والحياء يعم الأعضاء ، فكما أنه من الحياء غض البصر عن محارم اللَّه ، كذلك يلزمه الحياء من اللَّه أن يسمع ما لا يحل له سماعه من غيبة (3) .
ويقسم عبد الرزاق الكاشانى الحياء عند الصوفية ، إلى درجتين قريبتين من الأصول القرآنية (4) :
1- حياء العامة : وهو ما يحدث لهم عند علمهم بنظر الحق إليهم ، فإن العبد إذا علم أن الحق ناظر إليه استحى منه ، وهذا هو الحياء الذى يجذب العبد إلى كمال تحمل المجاهدة ، واستقباح الجناية ، وصاحب هذا الحياء هو الذى لا يفقده الحق حيث أمره ولا يجده حيث نهاه .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص469 . 2. الفتوحات 5/ 203 .
3. السابق 5/ 206 . 4. لطائف الأعلام 1/436 .
2- حياء الخاصة : هو ما يحدث لهم عند مشاهدة كشف جمعية ، لا يمازجه حجاب تفرقة وغيرية ، وهذا الكشف يوجب لصاحبه الحياء من الحق أن يراه ملتجأ فى شئ إلى سواه ، لكونه حياء ناشئا عن شهود محقق بأن الأمر كله لله بخلاف الأول ، فإنه إنما نشأ عن خير موجب للإيمان ، ومعلوم أن الخبر ليس كالعيان فى بلوغه إلى مقام الإيقان .
**********************************
48 - الحياة
**********************************(10/58)
صدق الله العظيم الحياة : وردت فى القرآن فى مقابل الموت وهى على وجوه (1) :
1- الحياة وصف ذاتى لله عز وجل ، قال تعالى : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } [البقرة/255] فإنه إذا قيل فيه تعالى هو حى فمعناه لا يصح عليه الموت وليس ذلك إلا لله عز وجل .
2- الحياة بمعنى القوة النامية الموجودة فى النبات والحيوان ، ومنه قيل : نبات حى ، وقال تعالى : { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [الحديد/17] وقال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [الأنبياء/30] .
3- الحياة بمعنى القوة الحساسة ، وبه سمى الحيوان حيوانا ، قال تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ } [فاطر/22] ، وقوله : { إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي ــــــــــــــــــــ
1. لسان العرب 14/214 ، المفردات ص138،139 .
الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [فصلت/39] فقوله : إن الذى أحياها ، إشارة إلى القوة النامية ، وقوله لمحى الموتى ، إشارة إلى القوة الحساسة .
4- الحياة بمعنى القوة العاقلة العالمة ، كقوله تعالى :
{ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [الأنعام/122] .
5- الحياة الدنيا المنقضية ، وهى المدة التى يقضيها البشر على الأرض فى فترة الابتلاء ، قال اللَّه تعالى : { فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } [النازعات/38] وقال : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ } [الرعد/26] ، أى الأعراض الدنيوية ، وقوله : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } [البقرة/96] .(10/59)
6- الحياة الأخروية الأبدية ، وذلك يتوصل إليه بالحياة ، التى هى العقل والعلم كقوله : { يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [الفجر/ 24] وقوله : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [آل عمران/169] وقال : { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } [الأنفال/24] ، كل ذلك يعنى الحياة الأخروية الدائمة .
صدق الله العظيم الحياة فى الاصطلاح الصوفى :
الحياة فى الاصطلاح الصوفى ، ترد فى الأغلب على معنى حياة الإيمان ، ويذكر التهانوى أن الحياة عند أهل التصوف ، تجلى النفس وتنورها بالأنوار الإلهية وقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى } [البقرة/260] المراد من الموتى عندهم ، القلوب المحجوبة عن أنوار المكاشفات والتجلى
والإحياء عبارة عن حصول ذلك التجلى والأنوار الإلهية ، فمن كان بقاؤه ببقاء نفسه ، فإنه ميت فى وقت حياته ، ومن كانت حياته به ، كانت حقيقة حياته عند وفاته ، لأنه يصل بذلك إلى رتبة الحياة الأصلية قال تعالى : { لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ } [يس/70] (1) .(10/60)
ويشهد لهذا ما روى عن الجنيد أنه قال : ( الحى من كانت حياته بحياة خالقه لا من تكون حياته ببقاء هيكله ) (2) ، ويقول عبد الكريم الجيلى : وجود الشئ لنفسه حياته التامة ، ووجود الشئ لغيره حياة إضافية ، ولهذا التحق بها الفناء والموت (3) ، ولعل المعنى إلى هذا الموضع لا يخالف الأصول القرآنية ، ولكن يذكر الكاشانى للحياة فى الاصطلاح الصوفى معنى فلسفيا ، فيعنون بالحياة وصول السائر إلى المقام الذى فوق المعاينة ، التى هى فوق المشاهدة المرتفعة عن المكاشفة ، وذلك بأن تتجلى الحقائق بأعيانها وأوصافها ، وخصوصياتها على وجه لا يحجب الوصف عن العين ، فيسمى ذلك التجلى حياة ، لأن صاحبه يأمن من موت الاعتلال فى شئ من الأحوال ، ومن موت الانفصال عن العين بهذا الاتصال ، ومن موت الغيبة عن أزل الآزال ، وعند ذلك يتحقق بالوصول إلى نهاية الآمال فيحيا بحياة الكبير المتعال ، وإلى التحقق بهذه الحياة أشار عمرو بن الفارض بقوله :
ــــــــــــــــــــ
1. كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوى 2/100 .
2. السابق 2/100 .
3. الإنسان الكامل للجيلى 1/49 .
فلا حى إلا عن حياتى حياته وطوع مرادى كل نفس مريدة(10/61)
والحياة عند ابن عربى وصف كل شئ فى الأكوان ، سواء كان حيا أو جمادا فى العرف ، وعلته فى ذلك أن جميع المخلوقات مسبحة ، ومن ثم فهى حية لأن التسبيح لا يكون إلا من حى ، وهذه الحقيقة عنده لا يقر بها إلا المؤمن أو صاحب الكشف ، فالمؤمن يقر بها للسند القرآنى ، وصاحب الكشف يقر بها شهودا وعيانا ، فهو يشهد تسبيح كل الموجودات من الجماد وغيره ، وبالتالى يشهد حياتهم ، يقول : ( إن الموجودات كلها ، ما منها إلا من هو حى ناطق أو حيوان ناطق ح، تى المسمى جمادا أو نباتا أو ميتا ، لأنه ما من شئ ، من قائم بنفسه وغير قائم بنفسه ، إلا وهو مسبح ربه وبحمده ، وهذا نعت لا يكون إلا لمن هو موصوف بأنه حى ) (1) ، ويقول ابن عربى : ( وما ثم شئ إلا وهو حى ، فإنه ما من شئ إلا وهو يسبح بحمد اللَّه ، ولكن لا نفقه تسبيحه إلا بكشف إلهى ، ولا يسبح إلا حى ، فكل شئ حى ) (2) ويرى ابن عربى أن الحى الحقيقى ، هو الإنسان الكامل ، وهو الذى جعل حياته باللَّه فيقول (3) :
ــــــــــــــــــــ
1. ديوان ابن الفارض ص61 ، وانظر لطائف الإعلام 1/436 .
2. فصوص الحكم 1/170 .
3. الفتوحات المكية 3/ 490 وانظر النطق المفهوم من أهل الصمت المعلوم تأليف الشيخ الإمام أحمد بن طغربك طبع المطبعة الميمنية بمصر أحمد البابى الحلبى ، سنة1308هـ ص44 وما بعدها ، ويمكن القول إن كلام ابن عربى صحيح من وجه ومخالف للأصول القرآنية من وجه آخر ، فما ورد فى الأصول القرآنية والنبوية فى مسألة =
لله قوم وجود الحق عينهم هم الأحياء إن عاشوا وإن ماتوا
ــــــــــــــــــــ(10/62)
= إثبات الكلام للمخلوقات على الحقيقة أو على المجاز ، يدل على صدق ابن عربى من جهة أن كل شئ فى الأنام له لغة ونطق وكلام ، وأنه يتخاطب مع بنى جنسه فى انسجام تام ، فكل مخلوق له قول ولغة تخصه ، يتحدث بها مع بنى جنسه ، شأنهم فى ذلك شأن البشر ، واختلافهم فى اللغات والأجناس والصور ، فكما أن الإنسان لا يفهم إلا لغه أخيه الإنسان ، الذى يتكلم بنفس اللسان ، كذلك موقفه من اللغة التى يسمعها من هذه المخلوقات أو ما يراه بينها من إشارات ، فإن لها رموزا وشفرة وكلاما فيه عبرة ، ولهم قانون ونظام ، ومنهج وأحكام ، يتكاتفون فى إظهاره ويتعاملون بينهم من خلاله ، واللَّه يسمع قولهم وكلامهم ، ويعلم تسبيحهم ونظامهم كما قال : { أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُون َ } [النور/41] وقال عن السماوات والأرض ومن فيهن : { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًاً } [الإسراء/44] وقال سبحانه فى تسبيح الجبال بالغدو والآصال مع داود - عليه السلام - : { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ } [ص/18] فناداها ربها ، وهو عليم بحالها ، وكيفية كلامها ، فكلفها وأمرها ، وناداها فقال لها : { يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } [سبأ/10] فالجبال مسبحات ناطقات ذاكرات ، وقد قال تعالى : { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [فصلت/21] فكل شئ له كلام ونطق يتخاطب به ، فلو أدركنا كلامهم ورموزهم ولغتهم لأمكن أن نسمع(10/63)
تسبيحهم ، ونرى كيف يعبدون اللَّه ؟ والنملة تتكلم بنص القرآن ، ولو أدركنا منطقها كما أدركه سليمان - عليه السلام - ، لعلمنا أنها لا تقل عن الإنسان فى النطق والبيان =
لا يأخذ القوم نوم ولا سنة ولا يؤودهم حفظ ولو ماتوا
ــــــــــــــــــــ
= قال تعالى : { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُون حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا } [النمل/19:17] ، وقال سليمان - عليه السلام - : { وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } [النمل/16] .(10/64)
ومن ثم فاللَّه وحده هو الذى أنطقهم جميعا ، وهو وحده الذى يمكن أن يخاطبهم جميعا ، ويسمع تسبيحهم جميعا ، وربما يعترض معترض ، كيف يكون للحجارة والمعادن قول وكلام ونحن نراها لا تتكلم ؟ وقد قال اللَّه تعالى عن إبراهيم - عليه السلام - : { فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُون َ } [الأنبياء/65:63] ، وقال سبحانه وتعالى منكرا على بنى اسرائيل ، أنهم عبدوا العجل من دون اللَّه : { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ } [الأعراف/148] ، فكيف يكون للحجارة قول ولغة ومنطق ؟ وجواب ذلك أن اللَّه ركب المخلوقات على النسب والاعتبارات والعلل والمعلولات ، فكل نوع من المخلوقات متكلم ناطق باعتبار من يفهم قوله وكلامه ؟ أبكم وأصم باعتبار من لا يفهمه ؟ فالنمل باعتبار جنسه كلُُ يَفْهَمُ كَلامَ الآخر والعالم بقولهم ومفردات الخطاب بينهم ، يمكن أن يسمعهم وهم يتخاطبون أو يتحدثون ؟ وقد سمعهم سليمان وهم يقولون : { ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُون َ } [النمل/18] ، وهكذا القول فى كل نوع من المخلوقات ، فإنه متكلم ناطق ، سواء أدركنا قوله أولم ندركه ، أو اعتبره البعض متكلما أو لم يعتبره =
اللَّه كرمهم اللَّه شرفهم اللَّه يحييهم به إذا ماتوا
ــــــــــــــــــــ(10/65)
= فالحقيقة التى لا شك فيها أن رب العزة والجلال علم منطقهم جميعا ، ويسمع تسبيحهم جميعا ويرى صلاتهم جميعا ، فهو الذى أحاط بكل شئ علما ، وأحصى كل شئ عددا أحاط بكل مخلوق ونظامه ، فى قوله وكلامه وصدق اللَّه فى كتابه ، إذ يقول : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } [النور /41] ، { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء/44] ، فالحجاره لها قول باعتبار جنسها صماء باعتبار النظر إلى قول البشر ، والحيوانات لها قول اعتبار جنسها ، خرساء باعتبار النظر إلى قول البشر ، واللَّه تعالى قادر على أن يُنْطق هذه المخلوقات بقول البشر وما هو أفضل من قولهم ، وقد ثبت عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى صَلاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ : بَيْنَا رَجلٌ يَسوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا ، فالتفتت إليه البقرة ، وقالت لراكبها : إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ ، فَقَالَ النَّاسُ : سُبْحَانَ اللَّه أَبَقَرَةٌ تَتكَلَّمُ ؟! فقال : فإنى أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم ، وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ يرعى إذا جاء ذئب فأخذ منها شاة وكان الراعى قد غفل عنها ، فانتبه الراعى على صياحها فأدركها واسْتَنْقَذَهَا من الذئب ، فقال له الذئب بلغهٍ فصيحةٍ واضحةٍ بليغةٍ : يا هذا اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي من لها يوم السبع يوم لا راع لها غيرى ، فقال الناس لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : سبحان اللَّه عجيب يا رسول اللَّه أذئب يتكلم ؟! فقال : فإنى أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر ، وما هما ثم ) وهذا حديث صحيح أخرجه البخارى فى كتاب المناقب (3471) ، ومسلم فى كتاب فضائل الصحابة (2388) .(10/66)
كما أن أصحاب العلوم المادية ، يعلمون أن المادة تتكون من مجموعة من الذرات المتنوعة كل ذرة لها نظام معلوم فى تركيبها ، ولجميع الذرات قانون فى مداراتها ، ينظم التكافؤ لكل ذرة فى علاقتها بأختها ، سواء كانت الذرةُ سالبةً أو موجبةً ، ولولا معرفةُ الإنسان=
لقد رأيتهم كشفا وقد بعثوا من بعد ما قبروا من بعد ما ماتوا (1) .
**********************************
49- الحيرة
**********************************
صدق الله العظيم الحيرة : وردت فى القرآن والسنة على معنى التردد فى الأمر ، قال تعالى :
ــــــــــــــــــــ
= لتركيب الذرة منذ حين ، وبعد جهل به دام آلاف السنين ، ما استطعنا أن نعلم أن المادة فى عناصرها عبارة عن أخوات من الذرات ، تتماسك فى مجموعات يسمونها جزَيْئِيَّات ، ولولا أنها متكاتفات متماسكات ، متفاهمات متخاطبات ، وفق رموز وشفرات ، ما ظهرت لنا المواد فى صورتها التى نراها ، وعالم الفزياء والكمياء يرى أن جزئُ الماء ، لا بد أن يتحد فيه ذرتان من الهيدروجين ، مع ذرة واحدة من الأكسجين !! وعلى ذلك فالحجارة والمعادن يراها الجاهل بحقيقتها صماء ، ويراها عالم الفزياء والكمياء الِكْتُرُونَاتٍ متحركةً سالبةً ، وبُرُوتُونَاتٍ جاذبةً موجبةً ، ونِيُوتْرُونَاتٍ متعادلةً ساكنةً ، لهم دستور ونظام ، وقانون وأحكام ، والذرات لا تعتل ولا تختل ، ولا تنحل إلا إذا شاء اللَّه لها الفناء وتحولت إلى طاقة ذرية هائلة ، فالكل متكلم ناطق بكيفية تليق به ، ربما نجهلها لكن اللَّه يعلمها : { إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [آل عمران/6:5] .(10/67)
فكلام ابن عربى مقبول من هذا الوجه ، أما الوجه الآخر فإنه استدل بهذا على وحدة الوجود ، وجعل ذلك دليلا على حياة الله السارية فى الأكوان ، فجميع الأحياء هى له مجالى وتعينات ، وليست مخلوقات مستقلة خلقت للعبادة وتوحيد الله .
1. السابق 4/ 395 .
{ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ } [الأنعام/71] ، والحائر الموضع الذى يتحير به الماء (1) .
وقال مجاهد : { كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ } [الدخان/54] أنكحناهم حورا عينا يحار فيها الطرف (2) ، وفى الحديث القدسى عن ابن عمر - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إن اللَّه تعالى قال : " لقد خلقت خلقا ، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر ، فبي حلفت لأتيحنهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانا ، فبي يغترون أم علي يجترئون " (3) ، وروى عن الحسن بن على قال : ( إن الجد قد مضت سنته ، وإن أبا بكر جعل الجد أبا ، ولكن الناس تحيروا ) (4) .
صدق الله العظيم الحيرة فى الاصطلاح الصوفى :
والحيرة فى الاصطلاح الصوفى ، يعنون بها التردد بين أداء الطاعة ورؤيتهم صغارها وحقارتها إلى ما يجب من الشكر فى حق اللَّه ، وهذا يصح على معنى أن العبد ينال فضل اللَّه برحمته ، لا فيما يقابل طاعته ، إذ الطاعة سبب فى النعم ولكن لا تزنها ، كما ثبت فى حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - ، قال : سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لن يدخل أحدا عمله الجنة قالوا : ولا أنت يا رسول اللَّه قال لا ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه بفضل ورحمة " (5) .
ــــــــــــــــــــ
1. المفردات ص135 ، ولسان العرب 4/223 ، وكتاب العين 3/288 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب التفسير سورة الدخان 8/433 .
3. أخرجه الترمذى فى كتاب الزهد (2405) وقال الألبانى : ضعيف 4/604 .
4. أخرجه الدارمى فى كتاب الفرائض?(2912) 2/451 .(10/68)
5. أخرجه البخارى فى كتاب المرضى?(5673) 10/132 .
وروى عن أبى بكر الواسطى (ت:بعد320هـ) أنه قال : ( حيرة البديهة أجل من سكون التولى عن الحيرة ) (1) ، ويقسم الكلاباذى (ت:380هـ) الحيرة إلى نوعين (2) :
أ- الحيرة الأولى : وتكون فى أفعاله به ونعمه عنده ، فلا يرى شكره نعمة يجب عليه شكرها ، ولا يرى أفعاله أهلا أن يقابله بها استحقارا لها ، ويراها واجبة عليه ، لا يجوز له التخلف عنها ، ومثالها أن أبا بكر الشبلى ، قام يوما يصلى فبقى طويلا ثم صلى ، فلما انفتل عن صلاته ، قال : يا ويلاه إن صليت جحدت ، وإن لم أصل كفرت ، أى جحدت عظم النعمة ، وكمال الفضل حيث قابلت ذلك بفعلى شكرا له مع حقارته ، ثم أنشد : ...
الحمد لله على أننى كضفدع يسكن فى اليم
إن هى فاهت ملأت فمها أو سكتت ماتت من الغم
ب- الحيرة الأخيرة : أن يتحير فى متاهات التوحيد ، فيضل فهمه ويخنس عقله فى عظم قدرة اللَّه تعالى ، وهيبته وجلاله ، كما قيل : دون التوحيد متاهات تضل فيها الأفكار .
وقال أبو نصر السراج الطوسى (ت:387هـ) : ( الحيرة بديهة ترد على ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص421 . .
2. التعرف لمذهب أهل التصوف ص137 .
قلوب العارفين ، عند تأملهم وحضورهم وتفكرهم ، تحجبهم عن التأمل والفكرة ) (1) .(10/69)
والحيرة عند ابن عربى يعنى بها حيرة النظر فى وحدة الوجود ، والحائر هو الذى يرى عين الحق متجليا فى صورة الممكنات ، ويعلم أن اللَّه قابل لكل معتقد كان ، فمن باب الحيرة عنده ما ورد فى قوله تعالى : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات/96] وقوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } [الأنفال/17] وكذلك قوله سبحانه : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ } [الأنفال/17] والقتل ما شوهد إلا من المخلوق ، وهذا يعنى أن الصوفى حيرتة نبعت من اجتماع الأضداد فيرى الحق خلقا ويرى الخلق حقا ، ويظل حائرا فى وحدة الوجود ، لا يدرك حقا وحده أو خلقا وحدة ، بل حقا فى خلق ، وخلقا فى حق فيتحير ، فالوصول إلى الحيرة فى الحق هو عين الوصول إلى اللَّه ، والحيرة أعظم ما تكون لأهل التجلى لاختلاف الصور عليهم فى العين الواحدة (2) .
وبهذا يفسر قوله تعالى : { وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا } [نوح/24] أى أضل قوم نوح كثيرا من أهل العلم وحيروهم فى تعداد الواحد بالوجوه والنسب { وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ } [نوح/24] لأنفسهم { إِلا ضَلالا } [نوح/24] إلا حيرة المحمدى الذى قال : زدنى فيك تحيرا (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص421 .
2. انظر فى معنى الحيرة عند ابن عربى الفتوحات المكية 1/270 ، 3/490 .
3. ليس حديثا ، ولا وجود له فى كتب السنة ، وغنما هو من وضع ابن عربى .
فالحائر له الدور ، والحركة الدورية حول القطب ، فلا يبرح منه { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا } [نوح/25] فهى التى خطت بهم ، فغرقوا فى بحار العلم باللَّه وهو الحيرة (1) .
**********************************
50 - الخاصة
**********************************(10/70)
صدق الله العظيم الخاصة : خصه بالشيء يخصه إذا أفرده به دون غيره ، والخاصة ضد العامة (2) ، قال تعالى : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } [الأنفال/25] أى تعمكم ، ومن حديث جابر بن عبد اللَّه - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة " (3) ، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : " إن اللَّه جل وعز كان خص رسوله - صلى الله عليه وسلم - بخاصة ، لم يخصص بها أحدا غيره ، قال تعالى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } " (4) ، وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " كيف بكم وبزمان ، يغربل الناس فيه غربلة ، تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا ، فقالوا : وكيف بنا يا رسول اللَّه ؟ قال : ــــــــــــــــــــ
1. الفصوص 1/72 .
2. لسان العرب 7/24 .
3. أخرجه البخارى فى التيمم?(335) 1/519 .
4. أخرجه مسلم فى كتاب الحج?(1224) 2/867 .
تأخذون ما تعرفون ، وتذرون ما تنكرون ، وتقبلون على أمر خاصتكم وتذرون أمر عامتكم " (1) .(10/71)
وقد يعبر عن الفقر الذى لم يسد بالخصاصة ، كما روى عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فبعث إلى نسائه فقلن : " ما معنا إلا الماء ، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : من يضم أو يضيف هذا فقال رجل من الأنصار : أنا فانطلق به إلى امرأته ، فقال : أكرمي ضيف رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقالت : ما عندنا إلا قوت صبياني فقال : هيئي طعامك وأصبحي سراجك ، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونومت صبيانها ، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته ، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين ، فلما أصبح غدا إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، فقال :" ضحك اللَّه الليلة أو عجب من فعالكما ، فأنزل اللَّه : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } [الحشر/9] " (2) .
والخص بيت من قصب أو شجر وذلك لما يرى فيه من الخصاصة وروى عن عبد اللَّه بن عمرو - رضي الله عنه - قال : " مر علي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، ونحن نعالج خصا لنا وهى ، فقال : ما هذا ؟ فقلنا : خص لنا وهى ، فنحن نصلحه ، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك " (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه أبو داود فى الفتن والملاحم?(4342) وقال الألبانى : صحيح 4/123 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب المناقب?(3798) 7/149 .
3. أخرجه أبو داود فى الأدب (5235) وصححه الألبانى 4/360 .(10/72)
وقد خصه بكذا يخصه ميزه بالأمر دون غيره ، كقوله تعالى : { وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [البقرة/105] ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم " (1) .
وقال سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - : " ما استغفر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لإنسان يخصه إلا استشهد (2) ، وعن بريدة?بن الحصيب - رضي الله عنه - : " كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرا على جيش أو سرية ، أوصاه في خاصته بتقوى اللَّه ، ومن معه من المسلمين خيرا " (3) .
صدق الله العظيم الخاصة فى الاصطلاح الصوفى :
الخاصة فى الاصطلاح الصوفى ضد العامة ، وهم أعلى فى المقام والمنزله وربما تتنوع دلالة الخصوص من مفهوم لآخر على النحو الآتى :
1- الخاصة منزلة يتصف بها أصحاب الدرجة الإيمانية العليا ، المتحققون فى تقواهم وإخلاصهم لله ، بغض النظر عن كونهم من الصوفية أو غيرهم ، كما روى عن أبى بكر الوراق (ت:بعد250هـ) قال: ( الخاصة هم الذين فقهت قلوبهم ، وحسنت أخلاقهم ، وكانوا أئمة يدعون الناس إلى الخير والعمل به وسالموا السلطان على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والعلماء على صدق ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الصيام?(1144) 2/801 .
2. جزء من حديث طويل أخرجه مسلم فى كتاب الجهاد (1807) 3/1433 .
3. جزء من حديث أخرجه مسلم فى الموضع السابق (1731) 3/1357 .
الخبر ، والعامة على ظاهر الأمور ، فإذا خلو من ذلك فهم المفترون ، وإذا فسدت الخاصة غلبت الكذبة على الصادقين والكهنة على الموقنين والموسوسون على المخلصين ) (1) .(10/73)
2- الخاصة هم الصوفية دون غيرهم من العامة أو سائر الطوائف ، فيذكر السراج الطوسى أن الصوفية هم الخاصة ، لأنهم يختصون عن غيرهم بالارتقاء إلى الدرجات العالية ، والتعلق بالأحوال الشريفة ، والمنازل الرفيعة من أنواع العبادات ، وحقائق الطاعات والأخلاق الجميلة ، ولهم فى معانى ذلك تخصيص لغيرهم من العلماء والفقهاء ، وأصحاب الحديث ثم يبين على حد زعمه بعض الأنواع التى تفردوا بها ، فأول شئ من التخصيصات التى للصوفية وما تفردوا بها عن غيرهم ، ترك ما لا يعنيهم ، وقطع كل علاقة تحول بينهم وبين مطلوبهم ومقصودهم ، إذ ليس لهم مطلوب ولا مقصود غير اللَّه تبارك وتعالى ، ويذكر أيضا أن الصوفية لهم تخصيص من طبقات أهل العلم بفهم آيات من كتاب اللَّه تعالى متلوة ، وأخبار عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مروية ما نسختها آية وما رفع حكمها خبر ولا أثر ، يدعو ذلك إلى مكارم الأخلاق ، ويبحث عن معالى الأحوال وفضائل الأعمال ، وليس لغير الصوفية من أولى العلم القائمين بالقسط فى ذلك نصيب غير الإقرار به والإيمان بأنه حق ، ويشير السراج الطوسى إلى أنه من أعظم النعم التى اختصوا بها دوام المراقبة وهى التحقق بمقام الإحسان ، وللصوفية أيضا تخصيص فى معرفة الحرص والأمل ودقائقهما ، ومعرفة النفس وأماراتها ــــــــــــــــــــ
1. طبقات الصوفية ص226 .
وخواطرها ودقائق الرياء والشهوة الخفية والشرك الخفى ، وكيفية الخلاص من ذلك ، وكيفية وجه الإنابة إلى اللَّه عز وجل وصدق الالتجاء ، ودوام الافتقار والتسليم والتفويض والتبرى من الحول والقوة ، ولهم أيضا على حد زعمه مستنبطات فى علوم مشكلة على مفهوم الفقهاء والعلماء ، لأن ذلك لطائف مودعة فى إشارات لهم ، تخفى فى العبارة من دقتها ولطافتها ، فالصوفية عند السراج الطوسى مخصوصون من أولى العلم القائمين بالقسط بحل هذه العقد والوقوف على المشكل من ذلك (1) .(10/74)
من الممكن كما ذكر الطوسى أن يكون البعض ممن نسب إلى الصوفية متصفا بهذه الأوصاف أو أو كثير منها ، لكن الزعم بأنهم ينفردون بهذا دون غيرهم فالأمر منه بعيد ، وأولى ما يذكر فى تقسيم العامة والخاصة لدرجات المسلمين تقسيم القرآن ، إذ يقول اللَّه تعالى عن أصحاب اليمين : { عُرُبًا أَتْرَابًا لأَصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ } [الواقعة/40:37] وقال عن السابقين الأعلى فى المنزلة من أصحاب اليمين : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِين َ } [الواقعة/14:10] فما الدليل على أن الصوفية هم السابقون السابقون ، وبقية العلماء مفسرون ومحدثون وفقهاء ، يأتون متأخرين عن الصوفية ؟
ومعلوم أن أغلب الأولين فى الآية من السابقين والصحابة والتابعين لا يعرفون الصوفية وربما لم يسمعوا عنها ، وهذا يعنى أن الخاصة من عامة المسلمين هم ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص28 : ص33 .
الأعلى فى درجة التقوى ، كما قال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات/13]
فالقول بأن الصوفية دون غيرهم من عامة الناس أو سائر الطوائف هم الخاصة قول باطل جملة واحدة .
ويماثله ما ذكره السراج الطوسى من تفضيل الصوفية على غيرهم ، وتفضيل أصحاب الوحدة على بسطاء الصوفية ، ما ورد عن عبد الرزاق الكاشانى حيث قال : ( الخاصة هم علماء الطريقة وخاصة الخاصة هم علماء الحقيقة ) (1) .
**********************************
51 - الخاطر
**********************************
صدق الله العظيم الخاطر : لم يرد فى القرآن ، ولكنه ورد فى السنة على عدة معان (2) :(10/75)
1- القدر والمكانة : ومنه ما روى عن مالك بن ربيعة - رضي الله عنه - ، أنه سمع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : " اللَّهم اغفر للمحلقين ، اللَّهم اغفر للمحلقين ، فقال رجل من القوم : والمقصرين ؟ فقال رسول اللَّه في الثالثة أو في الرابعة : " والمقصرين ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام 1/441 .
2. لسان العرب لابن منظور 4/249 ، والمصباح المنير للمقرى 1/173 ، والقاموس المحيط للفيروز أبادى 1/494 ، ومعجم مقاييس اللغة مادة (خطر) .
ثم ، قال : وأنا يومئذ محلوق الرأس ، فما يسرني بحلق رأسي حمر النعم ، أو خاطرا عظيما " (1) .
2- الاضطراب والحركة : كقول ابن عباس - رضي الله عنه - : " قام نبي اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يوما يصلي فخطر خطرة ، فقال?المنافقون الذين يصلون معه : " ألا ترى أن له قلبين ، قلبا معكم ، وقلبا معهم فأنزل اللَّه عز وجل : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } [الأحزاب/4] " (2) .
3- ما يرد على القلب بسرعة لا لبث فيها ولا بطء ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا نودي بالصلاة ، أدبر الشيطان وله ضراط ، فإذا قضي أقبل فإذا ثوب بها أدبر ، فإذا قضي أقبل ، حتى يخطر بين الإنسان ، وقلبه فيقول : اذكر كذا وكذا ، حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا " (3) ، وعنه أيضا أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " اللَّه أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فاقرءوا إن شئتم : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [السجدة/17] " (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه أحمد فى المسند?(17145) واللفظ له ، والبخارى بمعناه (1640) 3/616 .(10/76)
2.ضعيف الإسناد ، أخرجه فى الترمذى كتاب تفسير القرآن (3199) وقال : حديث حسن ، وقال الألبانى : ضعيف الإسناد 5/348 ، وأحمد فى المسند (2410) .
3. أخرجه البخارى فى كتاب بدء الخلق?(3285) 6/388 .
4. أخرجه البخارى فى كتاب بدء الخلق?(3244) 6/ 366 ، ومسلم فى كتاب الجنة (2824) 4/2174 .
صدق الله العظيم الخاطر فى الاصطلاح الصوفى :
الخاطر فى الاصطلاح الصوفى ، خطاب يرد على الضمائر ، قد يكون بإلقاء ملك ، وقد يكون بإلقاء شيطان ، ويكون بأحاديث النفس ، أو يكون من قبل الحق سبحانه ، فإذا كان من الملك فهو الإلهام ، وإذا كان من قبل النفس ، قيل له الهواجس ، وإذا كان من قبل الشيطان ، فهو الوسواس ، وإذا كان من قبل اللَّه سبحانه وإلقائه فى القلب فهو خاطر حق ، وجملة ذلك من قبيل الكلام النفسى (1) .
يقول الحارث المحاسبى (ت:243هـ) فى المتيقظين لخواطر السوء : ( وكذلك من اشتغل باللَّه عز وجل ، رد الخاطر - يعنى خاطر الشيطان - باشتغال قلبه بربه ، فهذه الفرقة للقرآن والسنة والصالحين أتبع ، وعلى رد الخطرات أقوى وأبعد من الخدع والنقص ، فهم فى الاشتغال بربهم دائبون ، وبالحذر إذا عرض الخاطر متيقظون ، وبقوة الاشتغال باللَّه ، يسهل عليهم فحص الخواطر إذا عرضت بفتنة ، فسلموا أو غنموا ، واتبعوا واستقاموا ) (2) .
ويذكر لسهل بن عبد اللَّه التسترى (ت:293هـ) تفصيل دقيق فى التعرف على الخواطر ومصادرها ، وكيف أنها ابتلاء من الله ، فيرى أن الخواطر إذا كانت عن أواسط الهداية ، وهى الملك والروح ، قدحت فى قلب العبد نورا ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص263 .
2. الرعاية لحقوق اللَّه ص162 ، 163 .(10/77)
أدركه الحفظة ، وهم أملاك اليمين فأثبتوها حسنات ، وكانت تقوى وهدى ورشدا من خزائن الخير ومفتاح الرحمة ، وإن كانت الخواطر عن أواسط الغواة وهم العدو والنفس ، قدحت فى القلب ظلمة ونتنا ، أدرك ذلك الحفظة من أملاك الشمال ، فكتبوها سيآت ، وكانت فجورا وضلالا ، وهى من خزائن الشر ومعالق الأعراض ، وكل هذا إلقاء من خالق النفس ومسويها ، وجبار القلوب ومقلبها ، حكمة منه وعدلا لمن شاء ، ومنة وفضلا لمن أحب (1) .
ويروى عن أبى الحسن المزين (ت:328هـ) أنه قال : ( للقلوب خواطر يشوبها شئ من الهوى ، لكن العقول المقرونة بالتوفيق ، تزجر عنها وتنهى والتوحيد أن توحد اللَّه بالمعرفة ، وتوحده بالعبادة ، وتوحده بالرجوع إليه فى كل ما لك وما عليك ، وتعلم أن ما خطر بقلبك ، فاللَّه تعالى بخلاف ذلك وتعلم أن أوصافه مباينة لأوصاف خلقه ، باينهم لصفاته قدما ، كما باينوا بصفاتهم حدثا ) (2) .
وقد أجاد أبو طالب المكى (ت:386هـ) حين استقصى كل ما يتعلق بالخواطر فى النفوس ، وقسمها تقسيما دقيقا أحسب أنه لم يسبق إليه فى عصره فجعلها عدة أقسام (3) :
ــــــــــــــــــــ
1. من التراث الصوفى ص 172 ، وانظر قوت القلوب 1/ 123 .
2. السابق ص384 .
3. انظر قوت القلوب 1/ 114 ، 115 .
(1- خاطر النفس وخاطر العدو ، وهذان لا يعدمهما عموم المؤمنين ، وهما مذمومان محكوم لهما بالسوء ، ولا يردان إلا بالهوى وضد العلم .
(2- خاطر الروح وخاطر الملك ، وهذان لا يعدمهما خصوص المؤمنين ، وهما محمودان لا يردان إلا بحق ، وبما دل عليه العلم .
(3- خاطر العقل وهو متوسط بين هذه الأربعة ، وهو على نوعين :
أ - يصلح للمذمومين ، فيكون حجة على العبد لما كان من تمييز العقل وتقسيم المعقول ، لأن العبد يدخل فى هواه بشهوة جعلت له ، واختيار لا يعسر عليه من حيث لا يعقل ولا إجبار .(10/78)
ب - ويصلح أيضا للمحمودين ، فيكون شاهدا للملك ، ومؤيدا لخاطر الروح ، ويثات العبد على حسن النية وصدق المقصد ، ويبن المكى أن خاطر العقل ، إنما كان مع النفس تارة ، ومع الملك تارة أخرى حكمه من اللَّه تعالى وإتقانا لصنعه ، ليدخل العبد فى الخير والشر بوجود معقول وصحة شهود وتمييز ، فيكون عاقبة ذلك من الجزاء والعقاب عائدا له وعليه ، فاللَّه سبحانه وتعالى جعل الإنسان مكانا لجريان أحكامه ، ومحلا لنفاذ مشيئته فى مبانى حكمته .
(4- خاطر اليقين وهو روح الإيمان ، والعمل الذى يحرك الإرادة على الطاعة والاستجابة ، كمحصلة للخواطر الإيمانية المتقدمة (1) .
ــــــــــــــــــــ
1. انظر السابق 1/ 127 ، وهذا التقسيم تقسيم نفيس يتوافق مع الأصول القرآنية =
ويعرض المكى أيضا ، كيف يمكن للإنسان أن يفرق بين أنواع الخواطر ومصادرها ، والسلوك الأمثل حيالها ، فيحدد ذلك فيما يلى (1) :
[1 - ما كان من لائح يلوح فى القلب ، من معصية ثم يتقلب فلا يثبت فهذا نزغ من قبل العدو .
[2 - ما كان فى القلب من هوى ثابت ، أو حال مزعج دائم لابث ، فهو من قبل النفس الأمارة بطبعها ، أو مطالبة منها بسوء عادتها .
[3 - ما ورد على العبد من همه بخطيئة ، ووجد العبد فيها كراهيتها فالخاطر مركب :
أ - الورود من قبل العدو .
ب - والكراهية من قبل الروح والإيمان .
ــــــــــــــــــــ(10/79)
= والنبوية وما يؤخذ عليه هو تسمية نازع الشر والهوى بالنفس ، ونازع الخير بالروح فهم أرادوا بالنفس ما كان معلولا من أوصاف العباد ، أما النفس التى ورد ذكرها فى القرآن ، فهى على ثلاثة أنواع يشمل ، النفس المطمئنة ، والنفس اللوامة ، والنفس الأمارة بالسوء ، كما أن الله تعالى قال فى كتابه الكريم : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس/8:7] ، فجمع فى النفس بين جانبين نفسيين متقابلين ومتضادين ، أحدهما يدعو إلى الخير والآخر ويحض الإنسان عليه ، والثانى يدعو إلى الشر ويرغبه فيه ، والإنسان بينهما من حيث الاستجابة بالاختيار فى القبول أو الرد كما أن النفس تطلق فى القرآن ويراد بها معان أخرى . 1.انظر السابق 1/ 127 .
[4 - ما وجد من هوى أو معصية ، ثم ورد عليه المنع من ذلك ، فالخاطر مركب أيضا :
أ - الهوى من قبل النفس .
ب - المنع من قبل الملك .
[5- ما وجده عن خوف أو حياء ، أو ورع أو زهد ، وما شهده من تعظيم وهيبة وإجلال فهذا كله من إرادة اليقين ، وهو من مزيد الإيمان (1) .
ــــــــــــــــــــ(10/80)
1. تشهد الأصول القرآنية والنبوية لمعظم ما أورده أبو طالب المكى من أركان أساسية لتشكيلة الخواطر فى قلب الإنسان ، فدل قوله تعالى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس/8:7] على وجود نازعين نفسيين متقابلين ومتضادين ليس لأحدهما غلبة على الآخر ، أو جدهما الحق تبارك وتعالى فى القلب على سبيل الإبتلاء والامتحان ، تنبعث منهما الخواطر فى الجنان بين أصبعين من أصابع الرحمن الأول ويسمى نازع الخير وفطرة الإنسان ومبعث التقوى والإيمان ، والثانى يسمى نازع الشر والهوى ومبعث الفجور فى الإنسان ، وهذان النازعان يسهمان فى تشكيل الخواطر خيرها وشرها فى منطقة حديث النفس ، قال ابن القيم : ( هيأ الله الإنسان لقبول الكمال بما أعطاه من الأهلية والاستعداد ثم ذكر هذه الآية : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } ثم قال : أخبر الله عن قبول النفس للفجور والتقوى وأن ذلك نالها منه امتحانا واختبارا ، ثم خص بالفلاح من زكاها فنماها وعلاها ورفعها بآدابه التي أدب بها رسله وأنبياءه وأولياءه وهي التقوى ، ثم حكم بالشقاء على من دساها فأخفاها وحقرها وصغرها وقمعها بالفجور ) انظر مدارج =
ويقول الكاشانى : ( الخاطر عند الصوفية يطلق على ما يخطر بالبال ، ويطلق أيضا على القلب ، وهذا من باب إطلاق الحال على المحل ، والخاطر هو ما ــــــــــــــــــــ(10/81)
= السالكين 2/ 381 ، وقد دلت الأصول النبوية على وجود هاتفين ، يهتفان بلمتين أحدهما هو الشيطان ، والأخر هو الملك ، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن ، وقرينه من الملائكة ، قالوا : وإياك يا رسول الله ؟ قال : وإياي ، إلا أن الله أعانني عليه ، فلا يأمرني إلا بخير " أخرجه مسلم فى كتاب صفة القيامة والجنة والنار 4/2168 ، ومن حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أيضا ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان ، فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك ، فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك ، فليعلم أنه من الله ، فليحمد الله ومن وجد الأخرى ، فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم " أخرجه الترمذى فى كتاب تفسير القرآن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 5/219 ، وبهذا تظهر تشكيلة الخواطر التى تتردد على فى النفس من النازعين والهاتفين ، وعند التحقيق ، وعلى ما ذكره أبو طالب المكى فى نوعيات الخواطر التى تتردد على القلب إما مفردة وإما مركبة فإن نوعيات الخواطر بهذه القسمة تنحصر فى ستة عشر نوعية ، فإما خاطر ينبعث من نازع التقوى ، أو خاطر ينبعث من نازع الهوى ، أو خاطر ينبعث من الملك ، أو خاطر ينبعث من الشيطان ، أو خاطر مركب ينبعث من نازع التقوى ويعاونه الملك ، أو خاطر مركب ينبعث من الملك ويعاونه نازع التقوى ، أو خاطر مركب ينبعث من نازع الهوى ويعاونه الشيطان ، أو خاطر مركب ينبعث من الشيطان ويعاونه الهوى ، أو خاطر مركب ينبعث من نازع التقوى ويثبطه الهوى ، أو خاطر مركب ينبعث من الملك ويثبطه =
يرد على القلب من الخطاب ، ربانيا كان أو ملكيا ، أو نفسانيا أو شيطانيا من غير إقامة ، وقد يكون بوارد لا تعمل فيه للعبد ، ويفرق بينها تميزات الشرع ) (1).(10/82)
**********************************
52- الختم
**********************************
صدق الله العظيم الختم : الختم على وجهين :
(1- الختم فى المحسوسات ، وهو على أوجه :
أ- ختم الشئ للاستيثاق من ثبوته إلى صاحبه ، والمنع من تحريفه ، وأغلب ما يكون فى الكتب ، لما روى عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : " كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - ــــــــــــــــــــ
= الهوى ، أو خاطر مركب ينبعث من نازع التقوى ويثبطه الشيطان ، أو خاطر مركب ينبعث من الملك ويثبطه الشيطان أو من الهوى ويثبطه نازع التقوى أو ينبعث من الهوى ويثبطه إيحاء الملك أو أو ينبعث من الشيطان ويثبطه نازع التقوى أو ينبعث من الشيطان ويثبطه إيحاء الملك ، ولكل من هذه الخواطر امثلة لا يحصيها إلا الله .
1. لطائف الإعلام 1/ 439 ، 441 وانظر للتوسع والمقارنة فى الخواطر عند الصوفية اللمع ص418 وما بعدها ، وروضة الطالبين لأبى حامد الغزالى ص9 ، ورسالة المسترشدين للمحاسبى ص63 ، وانظر آراء ابن عربى فى الخواطر فى الفتوحات المكية 2/32 ، 2/565 وما بعدها ، 3/61 ، 3/97 ، 2/77 وما بعدها ، 4/152 وشرح التجليات ص156 وما بعدها .
كتابا ، أو أراد أن يكتب ، فقيل له : إنهم لا يقرءون كتابا إلا مختوما ، فاتخذ خاتما من فضة نقشه ، محمد رسول اللَّه كأني أنظر إلى بياضه في يده " (1) .
وقد يكون فى بدن النبى للدلالة على صدقه ، لما روى عن السائب بن يزيد - رضي الله عنه - يقول : " ذهبت بي خالتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول اللَّه ، إن ابن أختي وجع ، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة ثم توضأ ، فشربت من وضوئه ، ثم قمت خلف ظهره ، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة " (2) .(10/83)
ب - الختم للدلالة على المغلق الذى لا يفتح ، كما فى حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، فى الثلاثة الذين أواهم المبيت إلى غار ، فوقعت عليهم صخرة سدت عليهم الغار ، وتوسلوا إلى اللَّه بصالح أعمالهم ، قال النبي ?- صلى الله عليه وسلم -: " وقال الآخر : اللَّهم إن كنت تعلم أني كنت أحب امرأة من بنات عمي كأشد ما يحب الرجل النساء ، فقالت : لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار فسعيت فيها حتى جمعتها ، فلما قعدت بين رجليها ، قالت : اتق اللَّه ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقمت وتركتها ، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة " (3) .
ج- الختم للدلالة على بلوغ الآخر ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : "خرج إلينا ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب العلم?(65) 1/187 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الوضوء?(190) 1/354 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب البيوع?(2215) 4/477 .
رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : أقرأ عليكم ثلث القرآن ، فقرأ قل هو اللَّه أحد اللَّه الصمد حتى ختمها " (1) ، وفى حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن العبد ليعمل فيما يرى الناس عمل أهل الجنة ، وإنه لمن أهل النار ويعمل فيما يرى الناس عمل أهل النار ، وهو من أهل الجنة ، وإنما الأعمال بخواتيمها " (2) .(10/84)
(2- الختم فى المعنويات تشبيها بما سبق ، فقوله تعالى : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } [البقرة/7] ، وقوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ } [الأنعام/46] ، إشارة إلى ما أجرى اللَّه به العادة ، أن الإنسان إذا تناهى فى اعتقاد باطل ، أو ارتكاب محظور ، ولا يكون منه تلفت بوجه إلى الحق ، يورثه ذلك هيئة تمرنه على استحسان المعاصى ، وكأنما يختم بذلك على قلبه (3) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي ، كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله ، إلا موضع لبنة من زاوية ، فجعل الناس يطوفون به ، ويعجبون له ، ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة قال : فأنا ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب صلاة المسافرين?(812) 1/557 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الرقاق?(6493) 11/337 .
3. لسان العرب 12/163 ، والمفردات فى غريب القرآن ص142،143 ، ومختار الصحاح 1/71 ، وكتاب العين 4/241 .
اللبنة ، وأنا خاتم النبيين " (1) ، وعنه أيضا - رضي الله عنه - ، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات ، أو ليختمن اللَّه على قلوبهم ، ثم ليكونن من الغافلين " (2) .
صدق الله العظيم الختم فى الاصطلاح الصوفى :
والختم فى الاصطلاح الصوفى يرد على أنواع ، فتارة يعنى من ختم اللَّه تعالى به النبوة وهو نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، كما تقدم فى حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - ، وتارة يعنى بالختم الدلالة على المغلق الذى لا يفتح ، كقول القشيرى :(10/85)
( الختم على الشئ يمنع ما ليس فيه أن يدخله وما فيه أن يخرج منه ، وكذلك حكم الحق سبحانه ، بألا يفارق قلوب أعدائه ، ما فيها من الجهالة والضلالة ولا يدخلها شئ من البصيرة والهداية ، على أسماع قلوب غطاء الخذلان سدت تلك المسامع عن إدراك خطاب الحق من حيث الإيمان ، فوساوس الشيطان وهواجس النفوس ، شغلتها عن استماع خواطر الحق ، قال جل ذكره : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [البقرة/7] ) (3) .
وتارة يريدون به الشخص الذى يختم اللَّه به كل مقام ، وهو التحقق بنهاية ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب المناقب?(3535) 6/645 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب الجمعة?(865) 2/591 .
3. لطائف الإعلام 1/441 .
كمال تلك المرتبة ، كما سمى نبينا - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء لأجل ذلك ، وسمى خاتمهم لكونه آخرهم - صلى الله عليه وسلم - (1) .
وتارة يعنى بالختم من يختم اللَّه به الولاية ، كما ذكر الحكيم الترمذى فى شأن خاتم الأولياء وصفته : ( وما صفة ذلك الولى الذىله إمامة الولاية ورياستها وختم الولاية ؟ قال : ذلك من الأنبياء قريب ، يكاد يلحقهم ، قال : فأين مقامه ؟ قال : فى أعلى منازل الأولياء ، فى ملك الفردانية ، وقد انفرد فى وحدانيته ومناجاته ، كفاحا فى مجالس الملك وهدياه من خزائن السعى ، قال : وما خزائن السعى ؟ قال : إنما هى ثلاث خزائن : المنن للأولياء ، وخزائن السعى لهذا الإمام القائد ، وخزائن القرب للأنبياء عليهم السلام ، فهذا خاتم الأولياء ، مقامه من خزائن المنن ، ومتناوله من خزائن القرب ، فهو فى السعى أبدا ) (2) .
وختم الولاية عند ابن عربى يرد على نوعين :
ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإشارات 1/60 .(10/86)
2. ختم الأولياء ص367،368 وانظر الدراسة التى قدمها الدكتور عبد الفتاح عبد الله بركه عن الحكيم الترمذى ، بعنوان الحكيم الترمذى ونظريته فى الولاية ، طبعة مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف القاهرة سنة 1391هـ ،1971م ، وانظر أيضا السلوك عند الحكيم الترمذى ومصادره من السنة ، إعداد أحمد عبد الرحيم السايح رسالة دكتوراه ، مخطوط بمكتبة كلية أصول الدين ، جامعة الأزهر الشريف القاهرة سنة 1986م .
أ- ختم الولاية العامة ، وهى للذى لا يوجد بعده ولى ، وهو عندهم عيسى عليه السلام ، يقول ابن عربى : ( فيكون عيسى عليه السلام خاتم الأولياء وهو أفضل هذه الأمة المحمدية ، فإنه وإن كان وليا فى هذه الأمة والملة المحمدية ، فهو نبى ورسول فى نفس الأمر ) (1) .
ب- ختم الولاية الخاصة ، وهى لرجل من العرب ، جمع علم كل ولى محمدى ، هو خاتم النبوة المطلقة يختم الله به الولاية المحمدية ، فكما أن الله ختم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبوة الشرائع ، كذلك ختم الله بالختم المحمدى الولاية التى تحصل من الورث المحمدى (2) .
وختم هذه الولاية المحمدية يدعيه ابن عربى لنفسه فقال (3) :
أنا ختم الولاية دون شك لورث الهاشمى مع المسيح
ــــــــــــــــــــ
1. الفتوحات المكية 1/185 وانظر أيضا المزيد عن ختم الأولياء فى 3/507 ، 2/49 3/400 ، 1/7 وما بعدها ، وانظر أيضا التجليات ، طبعة حيدر أباد ص8 ، وعنقاء مغرب ص18 وما بعدها ، والدراسة التى قدمها الدكتور عبد الحميد مدكور ، الولاية عند محى الدين ابن عربى ، رسالة دكتوراه ، مخطوط بمكتبة كلية دار العلوم جامعة القاهرة سنة 1980م ، وانظر أيضا :(10/87)
- ? - - - رضي الله عنهم -- صلى الله عليه وسلم - - ? - ? تمهيد } - - - صلى الله عليه وسلم - - ? - ? - - صلى الله عليه وسلم -? - - - صلى الله عليه وسلم - } - - رضي الله عنه -? - - صلى الله عليه وسلم -? - - - سبحانه وتعالى - - - - مقدمة ? - ?- صلى الله عليه وسلم - - ? - ? - - صلى الله عليه وسلم -- عليه السلام - } - ?? بسم الله الرحمن الرحيم - - صلى الله عليه وسلم - } - ? - - - - ? { { ? - تمهيد - ? - ? - تمهيد - ? -
2. السابق 2/49 .
3. السابق 1/244 .
كما أنى أبو بكر عتيق أجاهد كل ذى جسم وروح
وما ادعاه الترمذى وابن عربى أو غيرهما من الصوفية من وجود خاتم الأولياء الذى يكون فى آخر الزمان ، أو ختم الولاية المحمدية ، وتفضيله وتقديمه على من تقدم من الأولياء ، وأنه يكون معهم كخاتم الأنبياء مع الأنبياء ، فإنه ادعاء باطل لا أصل له فى الكتاب والسنة ، فإن أفضل أولياء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلى ، وغيرهم من السابقين الأولين ، من المهاجرين والأنصار ، كما ثبت ذلك بالنصوص المشهورة ، وخير القرون قرنه - صلى الله عليه وسلم - ، كما روى عن عمران بن حصين رضي الله عنهما ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " خير أمتي قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثا " (1) .(10/88)
كما أن لفظ خاتم الأولياء ، لا يوجد فى كلام أحد من سلف الأمة ، ولا أئمتها ، ولا ذكر فى كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وموجب هذا اللفظ أنه آخر مؤمن تقي ، ومهما يكن فى الأمر ، فإن الله يقول : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [يونس/62] ، فكل من كان مؤمنا تقيا ، كان لله وليا ، وهم على درجتين : السابقون المقربون ، وأصحاب اليمين المقتصدون كما قسمهم الله تعالى فى القرأن ، وإذا كان خاتم الأولياء آخر مؤمن تقى فى الدنيا ، فليس ذلك الرجل أفضل الأولياء ، ولا أكملهم ، بل أفضلهم وأكملهم سابقوهم ، والأولياء وإن كان فيهم محدث ، كما روى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب المناقب?(3650) 7/5 .
النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم مُحَدَّثُونَ ، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم ، فإنه عمر بن الخطاب " (1) .
فهذا الحديث يدل على أن المحدثين من هذه الأمة عمر ، وأبو بكر أفضل منه إذ هو الصديق ، والمحدث وإن كان يلهم ويحدث من جهة الله تعالى ، فعليه أن يعرض ذلك على الكتاب والسنة ، فإنه ليس بمعصوم (2) .
**********************************
53- الخشوع
**********************************
صدق الله العظيم الخشوع : قريب من الخضوع ، إلا أن الخضوع في البدن ، والخشوع في البدن والصوت والبصر ، ويعنى الانخفاض والذل والسكون ، ومنه وصف الأرض بالخشوع وهو يبسها وانخفاضها ، وعدم ارتفاعها بالرى والنبات ، قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَت ْ } [فصلت/39] (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب أحاديث الأنبياء?(3469) 6/591 .(10/89)
2. انظر حقيقة مذهب الاتحاديين لابن تيمية ص115 بتصرف وانظر أيضا نقد اين تيمية كتاب ختم الأولياء نشر عثمان يحي ص506 ، ابن تيمية وفلاسفة التصوف للدكتور محمد سليمان داود ، الطبعة الثالثة سنة 1402هـ 1983م ص198 وما بعدها .
3. لسان العرب 2/27 ، مدارج السالكين لابن قيم الجوزية 1/558 .
ويطلق الخشوع على شدة الخضوع والتذلل المصحوب بالرجفة ، قال تعالى : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [الإسراء/109] ، وقال : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُون َ } [المؤمنون/2] ، وقال : { وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [الأنبياء/90] .
ومن حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن ناسا يزعمون أن الشمس والقمر ، لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء ، وليس كذلك إن الشمس والقمر ، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، ولكنهما آيتان من آيات الله عز وجل ، إن الله عز وجل إذا بدا لشيء من خلقه خشع له ، فإذا رأيتم ذلك ، فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة " (1) .
ويطلق الخشوع أيضا على التواضع بالمسكنة ، كما قال ابن عباس - رضي الله عنه - فى الاستسقاء : " خرج رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - متواضعا ، متبذلا متخشعا متضرعا?، فصلى ركعتين كما يصلي في العيدين ، ولم يخطب خطبتكم هذه " (2) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " هل ترون قبلتي ها هنا ؟ فواللَّه ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم إني لأراكم من وراء ظهري " (3)
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه النسائى فى كتاب الكسوف?(1485) 3/141 ، وابن ماجة فى كتاب إقامة الصلاة?(1262) 1/401 ، وأحمد فى المسند?(18377) ، ورواه ابن خزيمة فى صحيحه (1402) 2/329 وهو حديث صحيح .(10/90)
2. أخرجه النسائى فى كتاب الاستسقاء?(1521) وهو حديث حسن ، 3/163 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب الصلاة?(418) 1/612 .
ومن حديث عمرو بن سعيد - رضي الله عنه - ، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة ، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها ، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة ، وذلك الدهر كله " (1) .
ويستعمل الخشوع فى القلب والجوارح ، وإن كان خشوع الجوارح لازم لخشوع القلب لأنها تتبعه ، فقوله تعالى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ } [البقرة/45] يدل عليهما معا ، فمن خشوع القلب قوله تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } [الحديد/16] وعن زيد بن أ- رضي الله عنه - ، كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول :
" اللَّهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعوة لا يستجاب لها " (2) .
ومن خشوع الجوارح قوله تعالى فى خشوع الصوت : { وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا } [طه/108] ، وقوله فى خشوع البصر : { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } [القلم/43] ، وفى خشوع جميع الجوارح ، ما ورد عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ركع قال : " اللَّهم لك ركعت ، وبك آمنت ، ولك أسلمت ، خشع لك سمعي وبصري ، ومخي وعظمي وعصبي " (3) ، وفى رواية أخرى عن على - رضي الله عنه - :
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الطهارة?(228) 1/206 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب الذكر?(2722) 4/2088 .
3. أخرجه مسلم فى كتاب صلاة المسافرين?(771) 1/534 .(10/91)
" خشع سمعي وبصري ، ومخي وعظمي وعصبي ، وما استقلت به قدمي ، لله رب العالمين " (1) ، وثالثة عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - : " خشع سمعي وبصري ودمي ولحمي ، وعظمي وعصبي ، لله رب العالمين " (2) .
صدق الله العظيم الخشوع فى الاصطلاح الصوفى :
قيام القلب بين يدى الرب بالخضوع والذل والانقياد للحق ، واتفقوا على أن الخشوع محله القلب ، وقد استدلوا له بقوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُون } [المؤمنون/2] (3) ، وأقوالهم فيه تتوافق مع الأصول القرآنية ، روى عن الفضيل بن عياض (ت:187هـ) : ( كان يكره أن يرى على الرجل من الخشوع ، أكثر مما فى قلبه ) (4) ، وروى عن أبى سليمان الدارانى (ت:215هـ) قال : ( لكل شئ حلية ، وحلية الصدق الخشوع ) (5) وللجنيد بن محمد (ت:297هـ) لما سئل عن الخشوع ؟ قال : ( تذلل القلوب لعلام الغيوب ) (6) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه أحمد فى المسند?(963) والترمذى فى كتاب الدعوات (3421) وقال الشيخ الألبانى : صحيح 5/485 .
2. أخرجه النسائى فى كتاب التطبيق?(1051) وقال الشيخ الألبانى : صحيح 2/192 وأخرجه بن خزيمة فى صحيحه (607) 1/306 .
3. الرسالة القشيرية 1/380 .
4. السابق 1/383 .
5. طبقات الصوفية ص81 . 6. الرسالة القشيرية 1/382 .
وينسب للحكيم الترمذى (ت:320هـ) أنه قال : ( الخاشع من خمدت نيران شهوته ، وسكن دخان صدره ، وأشرق نور التعظيم فى قلبه ، فماتت شهوته ، وحى قلبه ، فخشعت جوارحه ) (1) ، وروى عن أبى على الدقاق (ت:410هـ) أنه قال فى قوله تعالى : { وَعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا } [الفرقان/63] معناه : متواضعين متخاشعين (2) .
ويقسم الهروى الخشوع إلى درجات ثلاث:
الأولى : التذلل للأمر ، والاستسلام للحكم ، والاتضاع لنظر الحق .
الثانية : ترقب آفات النفس والعمل ، ورؤية فضل كل ذى فضل عليك .(10/92)
الثالثة : حفظ الحرمة عند المكاشفة ، وتصفية الوقت من مزايا الخلق ، وتجريد رؤية الفضل (3) .
ويذكر الكاشانى أن الخشوع فى اصطلاح الطائفة ، عبارة عن خمود النفس وهمود الطباع ، لمتعاظم أو مفزع ، والمراد بخمود النفس موتها ، وبهمود الطباع سكونها ، والمراد بالطباع هنا قوى النفس ، والمتعاظم من له عظمة ومهابة فى القلوب ، والمفزع من له سطوة تخشى ، ونقمة تتقى ، ويقسم الخشوع إلى نوعين : خشوع العامة : بسبب الرهبة من الوعيد ، والخوف من التهديد وخشوع الخاصة : بسبب دواعى الحقيقة ، إلى حفظ الحرمة مع الحق ، وتجريد القصد له وحده من دون الخلق (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق 1/382 . 2. السابق 1/382 . 3. نازل السائرين ص12 وانظر أيضا مدارج السالكين 1/ 558 . 4. لطائف الإعلام 1/443 .
**********************************
54 - الخشية
**********************************
صدق الله العظيم الخشية : الخشية خوف يشوبه تعظيم ، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه ، ولذلك خص العلماء بها فى قوله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ُ } [فاطر/28] (1) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ،عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أسرف رجل على نفسه ، فلما حضره الموت أوصى بنيه ، فقال : إذا أنا مت فأحرقوني .. فإذا هو قائم ، فقال له ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : خشيتك يا رب ، أو قال : مخافتك فغفر له بذلك " (2) والخشية ترد على نوعين :
(1 - خشية المخلوق وهى باعتبار المدح والذم نوعان :(10/93)
أ- الخشية الممدوحة ومنها قوله تعالى : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ } [النساء/9] ، وقوله : { فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا } [الكهف/80] وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى " (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. لسان العرب 14/228 ، المفردات ص149 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب التوبة?(2756) 4/2109 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب الجمعة?(991) 2/554 .
وقال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - ، وقد أتي يوما بطعامه : " قتل مصعب بن عمير - رضي الله عنه - ، وكان خيرا مني ، فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة وقتل حمزة - رضي الله عنه - أو رجل آخر خير مني ، فلم يوجد له ما يكفن فيه ، إلا بردة لقد خشيت أن يكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا ، ثم جعل يبكي " (1) ، ومن حديث عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها : " فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال : زملوني زملوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة وأخبرها الخبر ، لقد خشيت على نفسي ، فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبدا ) (2) .(10/94)
ب- ومن الخشية المذمومة ، قول الله تعالى : { إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي } [البقرة/150] ، وقوله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُم ْ } [الإسراء/31] ، وقال تعالى : { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [النساء/77] ، وقالت عائشة رضى الله عنها : " صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا فرخص فيه ، فتنزه عنه قوم ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فخطب فحمد الله ، ثم قال : ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ، فوالله إني لأعلمهم بالله ، وأشدهم له خشية " (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الجنائز?(1274) 3/168 .
2. أخرجه البخارى فى الموضع السابق?(4) 1/47 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب الأدب?(6101) 10/529 .
ويناظره أيضا حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " أما واللَّه إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " (1) ، ومن حديث أبي سعيد الخدرى - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم - : " لا يحقر أحدكم نفسه ، قالوا : يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال : يرى أمرا لله عليه فيه مقال ، ثم لا يقول فيه ، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة : ما منعك أن تقول في كذا وكذا ، فيقول : خشية الناس ، فيقول : فإياي كنت أحق أن تخشى " (2) .(10/95)
(2 - خشية الخالق ، وغالبا ما تقترن بالدمع والبكاء ، قال تعالى : { وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى } [عبس/9] ، وقوله تعالى : { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } [ق/33] وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يلج النار ، رجل بكى من خشية الله ، حتى يعود اللبن في الضرع " (3) ، وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال - صلى الله عليه وسلم - : " عينان لا تمسهما النار ، عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله " (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب النكاح?(5063) 9/5 .
2. أخرجه ابن ماجة فى الفتن?(4008) وقال الشيخ الألبانى : ضعيف 2/132 .
3. الترمذى فى فضائل الجهاد?(1633) وقال الألبانى : صحيح 4/171 .
4. أخرجه الترمذى فى الموضع السابق (1639) وقال الألبانى : صحيح 4/175 وانظر رسالة ماجستير بعنوان الخوف والخشية والوجل فى القرآن الكريم إعداد حسن عبد اللطيف مصطفى كلية أصول الدين جامعة الأزهر الشريف سنة 1989م .
صدق الله العظيم الخشية فى الاصطلاح الصوفى :(10/96)
الخشية فى الاصطلاح الصوفى ، وردت على المعنى السابق غير أنها درجة أقل من درجة الخوف ، فالخشية عندهم ترتبط بالعلم ، والخوف يرتبط بالمشاهدة كما ذكر عن أبى بكر الوراق (ت:بعد250هـ) قال : ( من صحت معرفته باللَّه ظهرت عليه الهيبة والخشية ) (1) ، ويذكر للجنيد بن محمد (ت:297هـ) أن صاحب الخشية ، من كبحه لجام العلم ، وقام بحق الشرع ، والتجأ إلى الله عز وجل (2) ، ويقول الحكيم الترمذى (ت:320هـ) : ( من أراد الله هدايته واكتنفته رأفته ورحمته ، ومنحه طريق محبته ، فسبيله إذا فتح عليه هذا الطريق أن يرزقه خشيته ، وإنما برزت الخشية من العلم به ، فإذا علمه القلب خشيه وإنما ينال العلم من الفتح ، فإذا فتح الله له شاهد الأشياء ببصر قلبه ، فعلمه فخشيه ، وإذا التزم القلب الخشية ، حشاه الله بالمحبة ، فيكون بالخشية معتصما مما كره الله سبحانه مهما دق أو جل ، ويكون بالمحبة منبسطا فى أموره ذا شجاعة ) (3) ، ويبين أن الله لو ترك العبد مع الخشية ، لا نقبض وعجز عن كثير من أموره ، ولو تركه مع المحبة وحدها ، لا ستبدى وتعدى ، لأن النفس تهيج ببهجة المحبة ، ولكنه تبارك اسمه لطف به ، فجعل الخشية بطانته ، والمحبة ظهارته ، حتى يستقيم به قلبه ، فيرى التبسم والانطلاق والسعة فى وجه ــــــــــــــــــــ
1. طبقات الصوفية ص226 .
2. الرسالة القشيرية 1/344 .
3. ختم الأولياء ص405 .
العبد وأموره وذلك لظهور المحبة على قلبه ، ومع ذلك فى داخله أمثال الجبال خشية (1) .
ويقول فى موضع آخر : ( أصحاب الخشية ، هم أهل العلم بالله ، أما أصحاب الخوف فهم أرباب المشاهدة ، فمثل الأوائل كمثل رجل فى نهر ومثل الآخرين كمثل رجل فى بحر ، ومثل صاحب الخشية ، كمن رأى أثر مخالب الأسد على الطريق ، ومثل الخايف كمن شاهد الأسد ولقيه واقفا على الطريق ، وهو قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } [الفجر/ 14] ) (2) .(10/97)
ويذكر أبو نصر السراج الطوسى (ت:387هـ) ، أن الله عز وجل حث المؤمنين على المسارعة إلى الخيرات ، فقال : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [المؤمنون/56:55] ، فاستفاد أهل الفهم من هذه الآية ، أن أول المسارعة إلى الخيرات هو التقلل من الدنيا ، وترك الاهتمام بالرزق ، والتباعد والفرار من الجمع والمنع ، باختيار القلة على الكثرة والزهد فى الدنياعلى الرغبة فيها ، ثم ذكر الذين يسارع لهم فى الخيرات ووصفهم فقال : { وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ } [المعارج/27] فوصفهم بالإشفاق من الخشية ، والخشية والإشفاق اسمان باطنان ، وهما عملان من أعمال القلب ، فالخشية سر فى القلب خفى ، والإشفاق من الخشية أخفى من الخشية ، وهو الذى ذكر الله تعالى ، فقال : { يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } [طه/7] ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص405 .
2. السابق ص41 ، ص42 .
وقد قيل : إن الخشية انكسار القلب من دوام الانتصاب بين يدى الله تعالى ثم من بعد هذه المرتبة الشريفة ، والحال الرفيعة التى وصفهم الله تعالى بها من الخشية والإشفاق وغير ذلك ، قال : { وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَات ِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } [المؤمنون/58] وكانوا قبل الخشية والإشفاق مؤمنين بآيات الله ، فعلم أنه أراد بذلك زيادة الإيمان ) (1) .
ويروى عن أبى على الدقاق (ت:410هـ) أنه قال : ( الخشية من شرط العلم ، لقوله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر/28] ) (2) .(10/98)
ويذكر القشيرى (ت:465هـ) أن الحجارة منها ما تظهر عليه آثار خشية الله ، أما القلوب إذا منيت بإعراض الحق عنها ، وخصت بانتزاع الخيرات منها فهى كالحجارة أو أشد قسوة ، قال تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة/74] (3) وقال أبو حامد الغزالى (ت:505هـ) فى بيان العلاقة بين البكاء والخشية : البكاء ثمرة الخشية ، وكل ما ورد فى فضل البكاء من خشية الله ، فهو إظهار لفضيلة الخشية ، قال تعالى : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [الإسراء/109] (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص117:116 .
2. الرسالة القشيرية 1/343 .
3. لطائف الإشارات 1/99 ،100 . 4. إحياء علوم الدين 4/171 .
**********************************
55- الُخلُق
**********************************(10/99)
صدق الله العظيم الخُلق : الخلق يراد به القوى والسجايا المدركة بالبصيرة ، وقد يكون الخلق فطريا أو كسبيا (1) ، فمن الخلق على معنى السجية الفطرية ، ما روى عن المسور بن مخرمة - رضي الله عنه - ، قال : " خرج رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية ، فقالوا : خلأت القصواء ، خلأت القصواء ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل " (2) ، وعن حذيفة بن أسيد الغفاري - رضي الله عنه - ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ، ثم يتصور عليها الملك فيقول : يا رب ، أذكر أو أنثى ؟ ، فيجعله اللَّه ذكرا أو أنثى ، ثم يقول : يا رب أسوي أو غير سوي ؟ ، فيجعله اللَّه سويا أو غير سوي ، ثم يقول : يا رب ما رزقه ما أجله ما خلقه ؟ ، ثم يجعله اللَّه شقيا أو سعيدا " (3) .
ومن الخلق على معنى السلوك المكتسب ، قوله تعالى فى وصف خلق النبى صلى الله عليه وسلم : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم/4] ، وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لجعفر : " أشبهت خلقي وخلقي " (4) ، وقالت ــــــــــــــــــــ
1. لسان العرب 10/85 ، والمفردات ص 157 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الشروط?(2734) 5/416 .
3. أخرجه مسلم فى كتاب القدر?(2645) 4/2038 .
4. أخرجه البخارى فى كتاب الصلح?(2700) 5/358 .(10/100)
امرأة ثابت بن قيس : " يا رسول اللَّه ، إني لا أعتب على ثابت في دين ولا خلق ، ولكني لا أطيقه ، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : فتردين عليه حديقته ؟ قالت : نعم " (1) ، وعن مسروق - رضي الله عنه - ، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " إن من أخيركم أحسنكم خلقا " (2) ، ومن حديث النواس بن سمعان الأنصاري - رضي الله عنه - ، قال سألت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن البر والإثم ؟ ، فقال : " البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في صدرك ، وكرهت أن يطلع عليه الناس " (3) ، وقالت عائشة رضى الله عنها : " ما كان خلق أبغض إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من الكذب " (4) ، وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : " قال لي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، اتق اللَّه حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن " (5) .
والخلوق نوع من الطيب أصفر اللون ، وقيل له خلوق لتحلى الإنسان به قال عمار بن ياسر - رضي الله عنه - : " تخلقت خلوقا ، فجئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فانتهرني وقال : اذهب يا ابن أم عمار ، فاغسل عنك " (6) ، وفى رواية أخرى ، قال - رضي الله عنه - : " قدمت على أهلي ليلا ، وقد تشققت يداي فخلقوني بزعفران ، فغدوت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلمت عليه ، فلم يرد علي ولم يرحب بي ، وقال : اذهب ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الطلاق?(5275) 9/307 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الأدب?(6029) 10/466 .
3. أخرجه مسلم فى كتاب البر?(2553) 4/1980 .
4. أخرجه الترمذى فى كتاب البر والصلة?(1973) وقال الألبانى : حسن 4/348 .
5. أخرجه الترمذى فى كتاب البر والصلة?(1987) وقال الألبانى : حسن 4/355 .
6. أخرجه أبو داود فى السنن (4601) وحسنه الألبانى 4/199 .(10/101)
فاغسل هذا عنك ، فذهبت فغسلته ثم جئت ، وقد بقي علي منه ردع فسلمت فلم يرد علي ولم يرحب بي ، وقال : اذهب فاغسل هذا عنك ، فذهبت فغسلته ثم جئت فسلمت عليه ، فرد علي ورحب بي وقال : إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير ، ولا المتضمخ بالزعفران ولا الجنب " (1) .
صدق الله العظيم الخلق فى الاصطلاح الصوفى :
الخلق فى الاصطلاح الصوفى ، هو ما يرجع إليه المكلف من نعته ، فخلق كل مخلوق هو ما اشتملت عليه نعوته وصفاته ، فكأن المراد بالخلق ، صفات النفس فإن كانت محمودة ، فهو على خلق محمود ، وإن كانت مذمومة فهو على خلق مذموم (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه أبو داود فى كتاب الترجل?(4176) وقال الشيخ الألبانى : حسن 4/79 وأخرجه البيهقى فى السنن الكبرى (8754) 5/36 ، وانظر عن الأخلاق فى الكتاب والسنة ، رسالة دكتوراه بعنوان الفضائل الخلقية فى الإسلام ، إعداد أحمد عبد الرحمن إبراهيم ، مكتبة كلية دار العلوم سنة 1977م ، دستور الأخلاق فى القرآن الكريم للدكتور محمد عبد الله دراز ، ترجمة الدكتور عبد الصبور شاهين ،سنة1973م وتهذيب الأخلاق لأبى على أحمد مسكويه ، تحقيق قسطنطين زريق ، طبعة دار الحياة بيروت ، والاتجاه الأخلاقى فى الإسلام للدكتور مقداد بالجن ، مطبعة الخانجى ، طبعة أولى سنة 1973م ،وله أيضا : التربية الأخلاقية فى الإسلام ،سنة1977م ، وتاريخ الأخلاق فى الإسلام للدكتور محمد يوسف موسى سنة 1952م .
2. لطائف الإعلام 1/452 .
وعبارات الصوفية فى مصطلح الخلق ، تعبر فى أغلبها عن الأصول القرآنية والنبوية ، فروى عن أبى عثمان المغربى (ت:373هـ) أنه قال : ( حسن الخلق هو الرضا عن الله تعالى ) (1) .(10/102)
ويروى أيضا عن أبى سعيد الخراز (ت:279هـ) أنه قال : ( الخلق هو أن لا يكون لك هم غير الله تعالى ) (2) ، ويذكر أن سهلا بن عبد اللَّه التسترى (ت:293هـ) سئل عن حسن الخلق ؟ ، فقال : ( أدناه الاحتمال ، وترك المكافأة ، والرحمة للظالم ، والاستغفار له ، والشفقة عليه ، وأن لا يتهم الحق فى الرزق ويثق به ، ويسكن إلى الوفاء بما ضمن ، فيطيعه ولا يعصيه فى جميع الأمور فيما بينه وبينه ، وفيما بينه وبين الناس ) (3) ويروى عن شاه الكرمانى (ت:قبل300هـ) أنه قال : ( علامة حسن الخلق ، هو كف الأذى ، واحتمال المؤن ) (4) .
وربما يجعل بعضهم الخلق على معنى بعيد ، فيه نوع من المخالفة ، كما يروى عن أبى بكر الواسطى (ت:بعد320هـ) أنه قال : ( الخلق العظيم أن لا يخاصم ولا يخاصم من شدة معرفته بالله تعالى ، وحسن الخلق ، إرضاء الخلق فى السراء والضراء ، والخلق العظيم وصف به نبينا - صلى الله عليه وسلم - :
ــــــــــــــــــــ
1. إحياء علوم الدين 3/57 .
2. الرسالة القشيرية 2/495 .
3. إحياء علوم الدين 3/57 .
4. الرسالة القشيرية 2/496 .
{ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم/4] لأنه جاد بالكونين واكتفى بالله تعالى ) (1) .
وقوله جاد بالكونين فيه نظر ، لأنه يعنى الدنيا والآخرة ، والذى تدل عليه الأصول القرآنية والنبوية أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل الدنيا وسيلة إلى الآخرة (2) .
ويذكر القشيرى (ت:465هـ) أن الخلق الحسن أفضل مناقب العبد ، وبه يظهر جواهر الرجال ، والإنسان مستور بخَلقه ، مشهود بخُلقه ، ويستدل لحسن الخلق بقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم/4] ، ومن السنة ما روى عن أنس قيل : " يا رسول الله : أى المؤمنين أفضل إيمانا ؟ قال : أحسنهم خلقا ) (3) .(10/103)
ويقرر أبو حامد الغزالى فى الكشف عن حقيقة الخلق الحسن ، أن الخَلق والخُلق عبارتان مستعملتان معا ، يقال : فلان حسن الخلق والخلق أى حسن الباطن والظاهر ، فيراد بالخلق الصورة الظاهرة ، ويراد بالخلق الصورة الباطنة وذلك لأن الإنسان مركب من جسد مدرك بالبصر ، ومن روح ونفس مدرك ــــــــــــــــــــ
1. إحياء علوم الدين 3/57 وانظر السابق 2/494 .
2. انظر للتعرف على المزيد فى موقف أوائل الصوفية من الأخلاق ، الوجهة الأخلاقية للتصوف الإسلامى فى القرن الثالث الهجرى للدكتور أبى اليزيد العجمى ، مكتبة كلية دار العلوم جامعة القاهرة سنة 1976م .
3. الرسالة 2/494 والحديث حسن صحيح ، أخرجه الترمذى فى كتاب الرضاع عن أبي هريرة (1162) بلفظ : ( أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا ) ، وقال الشيخ الألبانى : حسن صحيح 3/466 .
بالبصيرة ، ولكل واحد منهما هيئة وصورة ، إما قبيحة وإما جميلة ، فالنفس المدركة بالبصيرة ، أعظم قدرا من الجسد المدرك بالبصر ، ولذلك عظم الله أمره بإضافته إليه ، إذ قال تعالى : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } [ص/72:71] ، فنبه على أن الجسد منسوب إلى الطين ، والروح إلى رب العالين ، فالخُلق عبارة عن هيئة فى النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر ورؤية ، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلا وشرعا ، سميت تلك الهيئة خلقا حسنا ، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة ، سميت الهيئة التى هى المصدر خلقا شيئا (1) .
ــــــــــــــــــــ(10/104)
1. إحياء علوم الدين 3/58 وانظر للتوسع والمقارنة المراجع الآتية : الأخلاق بين الفلاسفة وحكماء الإسلام للدكتور مصطفى حلمى ، مطبعة دار الثقافة العربية طبعة أولى ، الفلسفة الأخلاقية فى الفكر الإسلامى ، للدكتور أحمد محمود صبحى ، طبعة دار المعارف ، المشكلة الأخلاقية لأندريه كريسون ، ترجمة الدكتور عبد الحليم محمود سنة 1946م ، فلسفة الأخلاق نشأتها وتطورها ، للدكتور توفيق الطويل ، طبعة دار النهضة العربية ، طبعة ثالثة سنة1976م ، فى العقيدة والأخلاق للدكتور محمد بيصار طبعة سنة1973م ، فلسفة الأخلاق فى الإسلام ، للدكتور محمد يوسف موسى سنة1942م ، الأخلاق بين العقل والنقل للدكتور أبى اليزيد أبي زيد العجمى ، مكتبة دار الثقافة العربية سنة 1988 ، الأخلاق دراسة فلسفية دينية للدكتور عبد الفتاح أحمد الفاوى ، طبعة مطبعة الجبلاوى ، القاهرة سنة1990 ، الأخلاق بين الفلسفة والإسلام للدكتور عبد المقصود عبد الغنى ، طبعة مكتبة الزهراء ، القاهرة سنة1987م .
ويقسم الكاشانى الخُلق عند الصوفية إلى أنواع (1) :
أ- الخلق الحسن مع الحق : وهو علم العبد أن كل ما يأتى منه يوجب عذرا لأنه لنقصانه لا يبدو منه إلا النقص ، وأن كل ما يأتى من الحق يوجب شكرا ، لأن الجود الكامل لا يصدر عنه إلا الجود والتفضل .
ب- الخلق الحسن مع الخلْق : هو المستجمع أمورا ثلاثة وهى : بذل المعروف واحتمال الأذى وكفه ، وإنما كان كف الأذى من جملة مكارم الأخلاق لأنه لما كان العبد متمكنا من فعل الأذى وكفه ، ثم تركه من خشية الله تعالى ، كان جزاؤه أن يكتسب له حسنة .
حـ- الخلق الكامل : هو المستجمع أمور ثلاثة ، هى العلم والجود والصبر وهذه الأوصاف الثلاثة ، هى التى لا يصح لأحد تحسين خلقه مع الحق ولا مع الخلق إلا بالاتصاف بجميعها .(10/105)
د- الخلق العظيم : هو أكمل ما يمكن أن يتصف به إلإنسان من مكارم الأخلاق ، ولهذا جمعها الله فى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، قال تعالى : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم/4] .
ويجدر التنبيه على أن التصوف فى مرحلته الأولى ، عرف بأنه دعوة إلى الأخلاق الفاضلة ، كما نسب إلى أبى الحسين النورى (ت:295هـ) أنه قال : ( ليس التصوف رسوما ولا علوما ، ولكنه أخلاق ) (2) ، وينسب أيضا لمحمد ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام 1/454:452 .
2. كشف المحجوب ص52 ، طبقات الصوفية ص 167 .
المرتعش (ت:328هـ) : ( التصوف حسن الخلق ) (1) ، ويذكر لأبى بكر الكتانى (ت:322هـ) : ( التصوف خلق ، فمن زاد عليك فى الخلق ، فقد زاد عليك فى التصوف ) (2) ، إلا أن التصوف لم يعد معبرا عن الأخلاق ، ورأى كثير من الصوفية عدم كفاية الأخلاق ، لإشباع التصوف وامتلائه ، يقول الدكتور عبد الحليم محمود مصورا هذه الحقيقة : ( يتجه الكثير من الناس فى تعريف التصوف إلى الجانب الأخلاقى ، وهذا الاتجاه شائع عند الصوفية أنفسهم ، وعند غيرهم من الباحثين فى التصوف والمؤرخين له ، وهذا الاتجاه لا يعبر عن التصوف تعبيرا دقيقا ، فالذين ذكروا التعريف الأخلاقى للتصوف ذكروا هم أنفسهم تعاريف أخرى ، وذلك على الأقل يدل دلالة لا لبس فيها على أنهم ، لم يروا كفاية الجانب الأخلاقى فى تحديد التصوف وتعريفه ) (3) .
**********************************
56 - الخلة
**********************************
صدق الله العظيم الخلة : خالص المودة ، مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين ، يقول ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص52 .
2. الرسالة 2/495 ، وانظر السابق ص48 .
3. قضية التصوف المنقذ من الضلال ، للدكتور عبد الحليم محمود ، الطبعة الثانية دار المعارف ، سنة 1985م ص38، 39 .(10/106)
الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ } [البقرة/254] ، وقوله تعالى : { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا } [النساء/125] ، أى جعله صفوة له ، وخصه بكراماته ، قال ثعلب : إنما سمى الخليل خليلا ، لأن محبته تتخلل القلب ، فلا تدع فيه خليلا إلا ملأته (1) .
والخلة درجة أعلى من المحبة ، وهى ثابتة فى القرآن والسنة لنبيين اثنين ، هما إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، فعن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لو كنت متخذا خليلا ، لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكنه أخي وصاحبي ، وقد اتخذ اللَّه عز وجل صاحبكم خليلا " (2) ، وعن جندب - رضي الله عنه - قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس ، وهو يقول : " إني أبرأ إلى اللَّه أن يكون لي منكم خليل ، فإن اللَّه تعالى قد اتخذني خليلا ، كما اتخذ إبراهيم خليلا ، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا ، لاتخذت أبا بكر خليلا ، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك " (3) .
صدق الله العظيم الخلة فى الاصطلاح الصوفى :
ــــــــــــــــــــ
1. فتح القدير 1/370 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب فضائل الصحابة?(2383) 4/1855 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب الصلاة (466) 1/665 ، ومسلم فى كتاب المساجد ومواضع الصلاة (532) 1/377 واللفظ له .
والخلة ترد عند أغلب الصوفية حول المعنى القرآنى السابق ، فإما يقصدون بالخلة أن تمتلأ جميع الأعضاء بحب المحبوب ، أو يعنون تخلية القلب عما سوى المحبوب ، أو تخلل مودة فى القلب لا تدع فيه خلاء إلا ملأته (1) .(10/107)
ويذكر القشيرى أن الخلة لبسة يلبسها الحق لمن شاء ، لا صفة يكتسبها العبد وأن الخليل هو المحتاج بالكلية إلى الحق فى كل نفَس ، ليس له شئ منه ، بل هو باللَّه لله فى جميع أنفاسه وأحواله ، اشتقاقا من الخلة التى هى الخصاصة وهى الحاجة ، ويقال : إنه من الخلة التى هى المحبة ، والخلة أن تباشر المحبة جميع أجزائه ، وتتخلل سره حتى لا يكون فيه مساغ للغير ، قال تعالى : { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا } [النساء/125] ، فلما صفاه اللَّه سبحانه عنه وأخلاه منه ، نصبه للقيام بحقه ، بعد امتحائه عن كل شئ إلا اللَّه سبحانه (2) .
والخلة من منظور وحدة الوجود هى تحقق العبد بصفات الحق ، بحيث تخلله الحق فيكون العبد مرآة الحق (3) .
ومعنى قوله تعالى : { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا } [النساء/125] ، أى يخاله ويداخله فى خلال ذاته وصفاته وأفعاله ، بحيث لا يذر منها بقية ، أو يسد خلله ويقوم بدل ما يفنى منه ، عند تكميله وفقره إليه (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. كشاف التهانوى ص232 . 2. لطائف الإشارات 1/367 ، 368 .
3. معجم الكاشانى ص179 .
4. تفسير القرآن لابن عربى 1/289 ، وقارن مع أدب الدنيا والدين ،للماوردى طبعة مطبعة السعادة سنة 1921م ص 21 .
قال ابن عربى : ( إنما سمى الخليل خليلا ، لتخلله وحصره جميع ما اتصف به الذات الإلهية ، قال الشاعر :
قد تخللت مسلك الروح منى : وبذا سمى الخليل خليلا
كما يتخلل اللون المتلون ، فيكون العرض بحيث جوهره ، ما هو المكان المتمكن ، أو لتخلل الحق وجود صورة إبرهيم ) (1) .
وليست درجة الخلة أعلى من المحبة عندهم ، كما ورد فى الأصول القرآنية ولكنها أدون وأقل ، يقول الكاشانى : ( الخليل وإن كان أعلى مرتبة من الصفى ، لكنه أدون من الحبيب ، لأن الخليل محب يوشك أن يتوهم فيه بقية غيرية والحبيب محبوب لا يتصور فيه ذلك ) (2) .
**********************************
57 - الخلوة(10/108)
**********************************
صدق الله العظيم الخلوة : خلا فلان بفلان صار معه فى خلاء ، ويرد على عدة معان (3) :
1- خلا بمعنى انفرد وانتهى إلي خلوة كقوله تعالى : { اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ ــــــــــــــــــــ
1. فصوص الحكم ص87 ، 88 ، والفتوحات المكية 2/362 وما بعدها ، وانظر تعليق الدكتور أبى العلا عفيفى فى شرحه على الفصوص فى معنى الخليل 2/57 .
2. تفسير القرآن لابن عربى 1/289 .
3. لسان العرب 11/218 ، والمفردات ص158 ، وكتاب العين 4/306 .
أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } [يوسف/9] ، وقوله : { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [البقرة/14] ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : " يا عمر إنك رجل قوي ، لا تزاحم على الحجر ، فتؤذي الضعيف ، إن وجدت خلوة فاستلمه ، وإلا فاستقبله فهلل وكبر " (1) ، وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : " لا يخلون رجل بامرأة ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم " (2) ، وقال خبيب بن الأرت : " كنت مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في طريق مكة ، فأصبت خلوة من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، فدنوت منه فقال : قل أعوذ برب الفلق حتى ختمها ، ثم قال : قل أعوذ برب الناس حتى ختمها ، ثم قال : ما تعوذ الناس بأفضل منهما " (3) ، وقال سعد بن معاذ - رضي الله عنه - لأمية بن خلف : " انظر لي ساعة خلوة ، لعلي أن أطوف بالبيت ، فخرج به قريبا من نصف النهار " (4) .(10/109)
2- خلا بمعنى سبق ومضى ، ومنه قوله تعالى : { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } [الحاقة/24] - صلى الله عليه وسلم - ، وقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } [البقرة/214] ، وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنما أجلكم في أجل من خلا من
ــــــــــــــــــــ
1.ضعيف ، أخرجه أحمد فى المسند?(191) فى سنده رجل مبهم ، والبيهقى فى السنن الكبرى (9043) 5/80 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد?(3006) 6/166 .
3. صحيح الإسناد أخرجه النسائى فى كتاب الاستعاذة?(5429) 8/250 .
4. أخرجه البخارى فى كتاب المغازى?(3950) 7/329 .
الأمم ، ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس ) (1) .
3- خلا من الأمر برء منه ولم يصبه ، قال - رضي الله عنه - : " مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة ، وهي تبكي عند قبر ، فقال : اتقي اللَّه واصبري ، فقالت : إليك عني ، فإنك خلو من مصيبتي " (2) .
4- وخليت فلانا تركته ، يقال لكل ترك تخلية ، نحو قوله تعالى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } [التوبة/5] ، وعن المسور بن مخرمة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس فإن أصابوني كان الذي أرادوا وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام " (3) وقال ابن عمر رضي الله عنهما : " رأيت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كأن بيدي قطعة إستبرق فكأني لا أريد مكانا من الجنة إلا طارت إليه ورأيت كأن اثنين أتياني أرادا أن يذهبا بي إلى النار فتلقاهما ملك فقال لم ترع خليا عنه " (4) .(10/110)
5- والمرأة الخلية المخلاة عن الزوج ، وقال مالك رحمه الله في الرجل يقول لامرأته : أنت خلية ، أو برية ، أو بائنة : ( إنها ثلاث تطليقات للمرأة التي قد دخل بها ) (5) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب أحاديث الأنبياء?(3459) 6/571 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الأحكام?(7154) 13/142 .
3. أخرجه أحمد فى المسند?(18431) والبخارى فى كتاب الشروط ( 2734) .
4. أخرجه البخارى فى كتاب الجمعة?(1158) 3/48 .
5. انظر موطأ مالك كتاب الطلاق 2/584 .
صدق الله العظيم الخلوة فى الاصطلاح الصوفى :
والخلوة فى الاصطلاح الصوفى ، تأتى على معنى الانفراد والوحدة والتخلى لذكر الله ، فاللفظ باق عندهم على معناه اللغوى ، روى عن بشر بن الحافى (ت:227هـ) أنه قال فيمن يتفرد ويختار الخلوة : ( ليتق الله تعالى عند خلوته وليلزم بيته ، وليكن أنيسه الله عز وجل وكلامه ) (1) ، ويروى عن ذى النون المصرى (ت: 245هـ) أنه قال : ( لم أر شيئا أبعث لطلب الإخلاص من الوحدة ، لأنه إذا خلا لم ير غير اللَّه تعالى ، فإذا لم ير غيره لم يحركه إلا حكم اللَّه ، ومن أحب الخلوة ، فقد تعلق بعمود الإخلاص واستمسك بركن كبير من أركان الصدق ) (2) .
وينسب ليحى بن معاذ الرازى (ت:258هـ) أن المسلم فى خلوة دائمة لأن الخلوة ، إنما تكون فى الأنس بالله ، فقال : ( أنظر أنسك بالخلوة ، أو أنسك معه فى الخلوة ، فإن كان أنسك بالخلوة ، ذهب أنسك إذا خرجت منها ، وإن كان أنسك به فى الخلوة ، استوت لك الأماكن فى الصحارى والبرارى ) (3) ولأبى عثمان المغربى (ت:373هـ) : ( من اختار الخلوة على الصحبة ، ينبغى أن يكون خاليا من جميع الأذكار إلا ذكر ربه ، وخاليا من جميع الإرادات إلا رضا ربه ، وخاليا من مطالبة النفس من جميع الأسباب ، فإن لم يكن بهذه ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص277 .
2. طبقات الصوفية ص21 .
3. الرسالة القشيرية ص301 .(10/111)
الصفة فإن خلوته توقعه فى فتنة أو بلية ) (1) ، وروى عن سهل بن عبد اللَّه التسترى (ت:293هـ) : ( لا تصح الخلوة إلا بأكل الحلال ، ولا يصح أكل الحلال إلا بأداء حق اللَّه ) (2) .
ويذكر أن الجنيد بن محمد (ت:297هـ) سئل عن الخلوة ؟ فقال : ( إن السلامة مصاحبة لمن طلب السلامة ، فترك المخالفة وترك التطلع إلى ما أوجب العلم مفارقته ) (3) .
وقال الحكيم الترمذى (ت:320هـ) فى بداية تصوفه : ( ووقع على حب الخلوة فى المنزل والخروج إلى الصحراء ، فكنت أطوف فى تلك الخربات ، فلم يزل ذلك دأبى ، وطلبت أصحاب صدق ، يعينوننى على ذلك فعز على فاعتصمت بهذه الخرابات والخلوات ) (4) .
ويعبر الكاشانى عن هذه المعانى السابقة بقوله : ( الخلوة عند الصوفية ، محادثة السر مع الحق بحيث لا يرى غيره ، هذا حقيقة الخلوة ومعناها ، وأما صورتها فهى ما يتوصل به إلى هذا المعنى من التبتل إلى الله والانقطاع عن الغير ) (5) .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص300 .
2. السابق ص301 .
3. اللمع ص277 .
4. ختم الأولياء ص15 ، 16 .
5. معجم اصطلاحات الصوفية للكاشانى ص161 .
والخلوة أصبحت منذ وقت مبكر إلى عصرنا ، علما على مكان مخصوص للصوفية اتخذوه رباطا ، سواء كان المكان ملحقا بالمسجد أو منفردا عنه يجتمعون فيه للحضرة الصوفية وتلاوة الأوراد والذكر ، وسماع قصائد المنشدين فى مدح الأولياء والعارفين ، حتى أصبحت الخلوة مزارا للعامة والمريدين ، ومقرا للاحتفالات بالموالد والأعياد (1) .
**********************************
58- الخليفة
**********************************
صدق الله العظيم الخليفة : الخلافة النيابة عن الغير ، وهى على نوعين (2) :(10/112)
1- الخلافة لعجز المنوب عنه أو غيبتة أو موته ، كقوله تعالى : { ? وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي } [الأعراف/142] ، وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُه ُ } [فاطر/39] ، ومنها ما قاله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : " إني لا أعلم أحدا أحق بهذا الأمر ، من هؤلاء النفر الذين توفي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض ، فمن استخلفوا بعدي ، فهو الخليفة فاسمعوا له وأطيعوا " (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. انظر فى بيان وظيفة الرباط عند الصوفية وأماكنها ، المنتظم فى تاريخ الملوك والأمم 10/100 ، ومعجم الأدباء لياقوت الحموى 5/290 .
2. المفردات ص156 ، ولسان العرب 9/89 ، كتاب العين 4/267 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب الجنائز?(1392) 3/301 .
وعن ابن عمر - رضي الله عنه - ، كان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - فى السفر : " اللَّهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل " (1) ، ومن حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " إذا بويع لخليفتين ، فاقتلوا الآخر منهما " (2) ، وعن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - ، قال : ذكر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الدجال ذات غداة ، فخفض فيه ورفع ، فقال : " غير الدجال أخوفني عليكم ، إن يخرج وأنا فيكم ، فأنا حجيجه دونكم ، وإن يخرج ولست فيكم ، فامرؤ حجيج نفسه ، واللَّه خليفتي على كل مسلم " (3) .(10/113)
2- الخلافة لتشريف المستخلف أو ابتلائه ، وعلى هذا الوجه الأخير استخلف اللَّه آدم وذريته فى الأرض ، فقال سبحانه : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة/30] على وجه الابتلاء كما قال : { إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ } [الإنسان/2] ، وقال أيضا : { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } [ص/26] ، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم - : " ما استخلف خليفة إلا له بطانتان بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه ، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه والمعصوم من عصم اللَّه " (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الحج?(1342) 2/978 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب الإمارة?(1853) 3/1480 .
3. أخرجه مسلم فى كتاب الفتن?(2937) 4/2250 .
4. أخرجه البخارى فى كتاب القدر?(6611) 11/58 .
قال - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة : " ثم تكون دعاة الضلالة ، فإن رأيت يومئذ خليفة الله في الأرض فالزمه " (1) .
صدق الله العظيم الخليفة فى الاصطلاح الصوفى :(10/114)
والخليفة فى الاصطلاح الصوفى ، يتوافق فى الأغلب مع ما سبق ، فالأوائل يعنون بالخليفة آدم وذريته ، حيث استخلفهم الله فى الأرض ، وابتلاهم فيها واستأمنهم على ملكه ، كما ذكره أبو سعيد الخراز (ت:279هـ) فى شأن الأنبياء عليهم السلام ، والعلماء والصالحين من بعدهم رضى الله عنهم ، كيف ملكوا الدنيا ، وكانوا أزهد الناس فيها ؟ فبين أنهم كانوا أمناء الله تعالى فى أرضه على سره ، وعلى أمره ونهيه وعلمه ، وموضع وديعته والنصحاء له فى خلقه وبريته ، وهم الذين عقلوا عن الله تعالى أمره ونهيه ، وفهموا لماذا خلقهم وما أراد منهم ، وإلى ما ندبهم ، فسمعوا الله عز وجل يقول : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [الحديد/7] ثم قال : { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [يونس/14] ، فأيقن القوم أنهم وأنفسهم لله تعالى ، وكذلك ما خولهم وملكهم فإنما هو له ، غير أنهم فى دار اختبار وبلوى ، وخلقوا للاختبار والبلوى فى هذه الدار ، فمن ملك شيئا من الدنيا ، فهو معتقد أن الشئ لله تعالى لا له ، إلا من طريق حق ما خوله الله تعالى واستخلفه ، وهو مبلى به حتى يقوم بالحق فيه ، فكانوا خزانا لله جل ذكره ، خارجين من ملكهم فى ملكهم ، ناعمين بذكر الله وعبادته ، غير ــــــــــــــــــــ
1. أحمد فى المسند?(22916) وأبو داود (4244) وحسنه الشيخ الألبانى 4/95 .
ساكنين إلى ما ملكوا ، لا يستوحشون من فقده إن فقدوه ، ولا يفرحون به إن
وجدوه (1) .(10/115)
وقال الحكيم الترمذى (ت:320هـ) : ( وللخليفة شأن فى ملك المستخلف والآدمى هو الخلق الوحيد الذى خلق لذلك ، فقد خلق آدم بيديه ، وعلمه الأسماء كلها ، وقد خلقنا لمحبته ، وجعلنا موضعا لتوارد مختلف مشيئاته واقتضى منا الخدمة والوقوف بين يديه وتنفيذ هذه المشيئات ، فولاية المرء قائمة على تنفيذ أحكام الله ، فإنه إذا وفى لله بالصدق فى سعيه إليه ولاه ، حتى يرقيه إلى درجة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ثم ولاه خزانته وصيره من أمنائه على حكمه ، فمن ولى الله تدبيرهم وأدبهم وولاهم ولايته ، فهم أولو الأمر وخلفاء الله صرخوا إلى الله مضطرين ، فأجابهم وكشف السوء عنهم ، وجعلهم خلفاء الأرض بلا إله إلا الله ) (2) .
ويذكر القشيرى (ت:465هـ) أن ابتداء ظهور السر فى آدم وذريته حين قال : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } ، فلما ركب صورته لم يكونوا رأوا مثلها فى بديع الصنعة وعجيب الحكمة ، فعندها ترجمت الظنون وتقسمت القلوب وتجنت الأقاويل ، وإنما قال للملائكة ذلك تشريفا وتخصيصا لآدم بالخلافة (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. كتاب الصدق ص39:32 .
2. نوادر الأصول للحكيم الترمذى ص382 ، 383 .
3. لطائف الإشارات 1/74،75 .(10/116)
ولابن عربى (ت:638هـ) بلسان أهل الظاهر حيث يشرح المعنى السابق الذى يوافق الأصول القرآنية ، فيقول : ( إن الخلافة مدرجة فى جميع النوع الإنسانى ، كما نبه عليه سبحانه وتعالى فى قوله : { وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيه ِ } [الحديد/7] ، فهذا النوع الإنسانى مستخلف من قبل الحق بقدر وسعه ، فأدناهم المستخلف على نفسه ، وأكملهم المستخلف على العالم بأسره ) (1) ، ويقول أيضا : ( وكما أن الخليفة قد استخلف من استخلفه فى ماله ، وجميع أحواله لما اتخذه وكيلا ، فاستخلاف العبد ربه ، لما اتخذه وكيلا خلافة مطلقة ، واستخلاف الرب عبده خلافة مقيدة ، بحسب ما تعطيه ذاته ونشأته ) (2) .
وربما يعنى ابن عربى بالخليفة فى فلسفته أمرا آخر ينبعث من نظرته الباطنة المغلفة بفكره فى وحدة الوجود فمن ذلك :
(1- الخليفة هو الذى يتلقى الأمر من الله مباشرة بلا واسطة كما يتلقى الخلفاء الأمر من الرسل فى ظاهر الشرع ، فيقول : ( لله فى الأرض خلائف عن الله وهم الرسل ، وأما الخلافة اليوم ، يقصد الخلافة الظاهرة ، فعن الرسل لا عن الله فإنهم ما يحكمون إلا بما شرع لهم الرسول لا يخرجون عن ذلك ) (3) ويقول فى الخلافة الباطنة عند الصوفية : ( الخليفة الحق هو القطب القائم بورثة النبوة ــــــــــــــــــــ
1. بلغة الخواص ق 23 .
2. الفتوحات المكية 3/299 .
3. فصوص الحكم 1/162 .
فالرسول صلى الله عليه وسلم مات وما نص بخلافة عنه إلى أحد ولا عينه لعلمه أن فى أمته من يأخذ الخلافة عن ربه ، فيكون خليفة عن الله مع الموافقة فى الحكم المشروع ) (1) .(10/117)
وهذا الخليفة أو كما يسميه القطب أو الغوث ، تحت يده وزيران إمامان وهو موضع نظر الحق ، وله ما للخليفة من خصائص وحقوق وواجبات ، إذا ولاه الله سبحانه وتعالى نصب له فى حضرة المثال سريرا أقعده عليه ، فإذا نصب له ذلك السرير ، خلع عليه جميع الأسماء التى يطلبها العالم ، وتطلبه فيظهر بها حللا وزينة ، وأمر الله العالم ببيعته على السمع والطاعة ، فيدخل فى بيعته كل مأمور أعلى وأدنى إلا العالين من الملائكة والأفراد من البشر ، الذين لا يدخلون تحت دائرة القطب وما له فيهم تصرف ) (2) ، وعلى هذا أصبح لكل طريقة صوفية خليفة أعظم يرجعون إليه فى أمورهم (3) .
(2- الخليفة هو الله على اعتبار الوحدة ، فالعبد يستخلف ربه فى دعائه عند ابن عربى لا على معنى الاستعانة والتوكل ، والله يستخلف العبد لا على معنى الابتلاء والتكليف ، ولكن على اعتبار الظهور والتعينات ، يقول محى الدين ابن عربى : ( يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى دعائه ربه فى سفره : " أنت الصاحب فى ــــــــــــــــــــ
1. الفتوحات المكية 4/148 .
2. بلغة الخواص ق60 ، فصوص الحكم 1/163 .
3. البناء الاجتماعى للطريقة الشاذلية فى مصر للدكتور فاروق أحمد مصطفى ص319 .
السفر والخليفتة فى الأهل " (1) ، فما جعله خليفة فى أهله ، إلا عند فقدهم إياه فينوب الله عن كل شئ ، أى يقوم فيه مقام ذلك الشئ بهويته ) (2) .
ومن كلامه أيضا : ( وإنما كانت الخلافة لآدم عليه السلام دون غيره من أجناس العالم ، لكون الله تعالى خلقه على صورته ) (3) .
ويقول : ( إن الإنسان هو العين المقصودة لله من العالم ، وإنه الخليفة حقا وإنه محل ظهور الأسماء الإلهية وهو الجامع لحقائق العالم كله ) (4) .
**********************************
59 - الخوف
**********************************(10/118)
صدق الله العظيم الخوف : ضد الأمن ، وهو توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة كما أن الرجاء والطمع ، توقع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة ، قال الله تعالى : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ } [الأنعام/81] .
ويستعمل الخوف فى الأمور الدنيوية والأخروية (5) :
ــــــــــــــــــــ
1. جزء من حديث ابن عمر أخرجه مسلم فى كتاب الحج?(1342) .
2. الفتوحات المكية 3/136، 137 .
3. السابق 1/263 .
4. السابق 1/125 .
5. المفردات ص162 ، ولسان العرب 9/99 ، وكتاب العين 4/312 .
1- فمن الخوف المتعلق بالأمور الدنيوية قوله تعالى عن موسى - عليه السلام - : { فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ } [القصص/18] وقوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } [النساء/3] وقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } [النساء/35] ، وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - ، قال : " بعثنا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في سرية فأدركت رجلا ، فقال : لا إله إلا اللَّه ، فطعنته ، فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : أقال لا إله إلا اللَّه وقتلته ؟ قلت : يا رسول اللَّه ، إنما قالها خوفا من السلاح ، قال : أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟ " (1) ، وقد ورد فى السنة ما يدل على خوفه - صلى الله عليه وسلم - من أمور تقع فيها أمته منها :
أ- عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال ?- صلى الله عليه وسلم -: " أخوف ما أخاف عليكم ، ما يخرج اللَّه لكم من زهرة الدنيا ، قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول اللَّه ؟ ، قال : بركات الأرض " (2) .(10/119)
ب- وعن جابر - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم - : " إن أخوف ما أخاف على أمتي ، عمل قوم لوط " (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الإيمان?(96) 1/96 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب الزكاة?(1052) 2/728 .
3. حديث حسن ، أخرجه الترمذى فى كتاب الحدود (1457) 4/58 وابن ماجه فى سننه (2563) 2/856 .
ح- وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن أخوف ما أخاف على أمتي ، كل منافق عليم اللسان " (1) .
د- ومن حديث محمود بن لبيد - رضي الله عنه - ، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول اللَّه ؟ قال : الرياء" (2) .
هـ- وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه -قال : " عهد إلينا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن أخوف ما أخاف عليكم الأئمة المضلون " (3) .
2- ومن الخوف المتعلق بالأمور الأخروية ، قوله تعالى : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا } [السجدة/16] ، وقوله : { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } [الإسراء/57] ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، وذكر منهم .. ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال : إني أخاف الله " (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه أحمد فى المسند?(144) ، وابن حبان فى صحيحه برقم ( 80) وقال شعيب الأرناؤوط : إسناده صحيح على شرط البخارى 1/281 .
2. أخرجه أحمد فى المسند?(23119) والطبرانى فى الكبير ( 4301) وصححه الألبانى فى سلسلة الأحاديث الصحيحة (951) .
3. أخرجه أحمد فى المسند?(26939) والدارمى فى المقدمة (211) وصححه الألبانى فى سلسلة الأحاديث الصحيحة (1582) .
4. أخرجه البخارى فى كتاب الزكاة?(1423) 3/344 .(10/120)
والخوف يطلق كاصطلاح شرعى على صلاة المحارب ، فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : ( فرض اللَّه الصلاة على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ، في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة ) (1) .
صدق الله العظيم الخوف فى الاصطلاح الصوفى :
والخوف فى الاصطلاح الصوفى ، اسم جامع لحقيقة الإيمان ، وهو علم الوجود والإيقان ، وهو سبب اجتناب كل نهى ، ومفتاح كل أمر ، وليس شئ يحرق شهوات النفوس ، فيزيل آثار آفاتها إلا مقام الخوف (2) .
والخوف عندهم معنى يتعلق بالمستقبل ، وهو ما يحذر من المكروه فى المستأنف ، لأنه إنما يخاف أن يحل به مكروه ، أو يفوته محبوب ، ولا يكون هذا إلا لشئ يحصل فى المستقبل ، فأما ما يكون فى الحال موجودا ، فالخوف لا يتعلق به ، والخوف من الله تعالى ، هو أن يخاف أن يعاقبه الله ، إما فى الدنيا وإما فى الآخرة ، وقد فرض الله سبحانه على العباد أن يخافوه فقال تعالى :
{ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [آل عمران/175] ، وقال : { فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِي } [النحل/51] ومدح المؤمنين بالخوف ، فقال : { يَخَافُون َ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } [النحل/50] وينقسم الخوف إلى نوعين (3) :
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب صلاة المسافرين?(687) 1/479 .
2. قوت القلوب 2/225 .
3. الرسالة القشيرية 1/342 ، حياة القلوب على هامش قوت القلوب 2/183 .
أ - الخوف الواجب وهو ما يمنع من المحرمات ويحمل على القيام بالواجبات .
ب - الخوف المندوب وهو ما يمنع عن كل مكروه وعن تعاطى الشبهات .(10/121)
روى عن أبى سليمان الدارانى (ت:215هـ) : أنه قال ( إذا سكن الخوف القلب أحرق الشهوات ) (1) ، وينسب إلى شقيق البلخى (ت:قبل 237هـ) قوله : ( من لم يكن معه ثلاثة أشياء ، لا ينجو من النار ، الأمن والخوف والاضطراب ) (2) ، ولذى النون المصرى (ت:245هـ) : ( إذا صح اليقين فى القلب صح الخوف فيه ، فالخوف رقيب العمل والرجاء شفيع المحن ) (3) .
ويروى عن يحى بن معاذ الرازى (ت:258هـ) أنه قال : ( مسكين ابن آدم لو خاف من النار ، كما يخاف من الفقر لدخل الجنة ) (4) ، ويذكر أن الجنيد بن محمد (ت:297هـ) سئل عن الخوف ؟ فقال : ( هو توقع العقوبة مع مجارى الأنفاس ) (5) .
ويروى عن أبى على الدقاق (ت:410هـ) قال : ( الخوف من شرط الإيمان وقضيته لقوله تعالى : { وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [آل عمران/175] ) (6) .
ــــــــــــــــــــ
1. طبقات الصوفية ص81 .
2.السابق ص66 .
3. السابق ص21 ، ص24 .
4. الرسالة القشيرية 1/ 345 .
5. السابق 1/ 346 .
6. السابق 1/ 343 .
ولما كان الخوف مما يسكن القلب ، وهو من المعانى التى لا ترى ، كانت معرفته بظهور علاماته على الخائف ، وقد ذكروا بعضا منها (1) :
(1- الخائف يبصر ما هو فيه من الخير والشر .
(2- ليس الخائف الذى يبكى ويمسح عينيه ، إنما الخائف من يترك ما يخاف إن يعذب عليه .
(3- علامة الخوف الحزن الدائم .
(4- الخائف من أنزل نفسه منزلة السقيم ، الذى يحتمى من كل شئ مخافة طول السقام .
(5- علامة الخوف التحير والاضطراب .
(6- علامة الخوف قصر الأمل .
(7- علامة الخوف دوام المراقبة فى السر والعلانية .
(8- علامة الخوف الورع عن الآثام ظاهرا وباطنا .
(9- علامة الخوف النحول فى الجسم ، والإصفرار فى اللون ، وقد تتفتت منه المرارة ويفضى إلى الموت .
ويجتهد المكى فى تفصيل مقامات الخوف دون دليل ، فيقول : الخوف اسم ــــــــــــــــــــ(10/122)
1. انظر الرسالة القشيرية 1/348:342 ، واللمع فى التصوف ص 90:89 وقوت القلوب 2/229:225 ، ومنارات السائرين ومقامات الطائرين ص380 ، وإحياء علوم الدين 4/173:163 .
جامع لمقامات الخائفين ، ثم يشتمل على خمس طبقات فى كل طبقة ثلاث مقامات (1) :
?? - فالمقام الأول من الخوف : هو التقوى ، وفى هذا المقام المتقون والصالحون والعاملون .
- والمقام الثانى من الخوف : هو الحذر ، وفى هذا المقام الزاهدون والورعون والخاشعون .
- والمقام الثالث : هو الخشية وفى هذا طبقات العالمين والعابدين والمحسنين .
- والمقام الرابع : هو الوجل ، وهذا للذاكرين والمخبتين والعافين .
- والمقام الخامس :هو الإشفاق وهو للصديقين ، وهم الشهداء والمحبون وخصوص المقربين ، وخوف هؤلاء عن معرفة الصفات لأجل الموصوف لا عن مشاهدة الاكتساب لأجل العقوبات .
ويذكر الكاشانى أن الخائفين من اللَّه سبحانه ، منهم من يبلغ الخوف به إلى حد الانخلاع عن طمأنينة الأمن خوفا من العقوبة أو من المكر أو الهيبة ، ويقسم الخوف إلى أنواع (2) :
1. خوف العامة : من العقوبة تصديقا بالوعيد .
2. خوف أرباب المراقبة : من المكر فى جريان الأنفاس .
3. خوف الخاصة : إجلال وهيبة ، إذ ليس فى مقام الخصوص وحشة الخوف ــــــــــــــــــــ
1. قوت القلوب 2/241 .
3. لطائف الإعلام 1/458:456 .
فالهيبة والإجلال هو أقصى درجة يشار إليها فى غاية الخوف ، فإن الخوف من الإعراض ، إنما يكون على قدر الإقبال وحيثما كان الإقبال أتم كان الخوف من الإعراض أشد وحيث لا أتم من إقبال اللَّه على عبده ، فكذا لا خوف أشد من الإجلال والهيبة .
**********************************
60- الدعوى
**********************************(10/123)
صدق الله العظيم الدعوى : الدعاء إلى الشئ الحث على قصده ، قال تعالى عن يوسف عليه السلام : { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } [يوسف/33] { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ } [يونس/25] ، والدعوة ترد على معنى النداء والطلب كقوله تعالى : { قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّك َ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا } [البقرة/69] ، وقوله سبحانه : { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } [فصلت/31] أى ما تطلبون ، وعن أم عطية رضى الله عنها قالت : " أمرنا أن نخرج الحيض يوم العيدين وذوات الخدور ، فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم ، ويعتزل الحيض عن مصلاهن " (1) ، وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " حق المسلم على المسلم خمس ، رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس " (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الصلاة (351) 1/556 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الجنائز (1240) 13/135 .
والدعوى الادعاء ، كقوله تعالى : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا } [الأعراف/5] ، والادعاء أن يدعى شيئا أنه له ، كما روى عن ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ليس على رجل نذر فيما لا يملك ، ولعن المؤمن كقتله ، ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة ، ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها ، لم يزده اللَّه إلا قلة " (1) .
والدعوة مختصة أيضا بادعاء النسبة ، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن رجلا قال : فلان ابني ، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " لا دعاوة في الإسلام " (2) وأصل الدعوة للحالة التى عليها الإنسان نحو القعدة والجلسة ، قال تعالى :(10/124)
{ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [يونس/10] ، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ليس منا من لطم الخدود ، وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية " (3) ، وروى عن جابر بن عبد اللَّه - رضي الله عنه - ، قال : " كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فاجتمع قوم ذا وقوم ذا ، وقال هؤلاء يا للمهاجرين ، وقال هؤلاء يا للأنصار فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : دعوها فإنها منتنة ، ألا ما بال دعوى أهل الجاهلية
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الإيمان (110) 1/110 .
2. أخرجه أحمد فى المسند (6932) واللفظله ، وأبو داود فى كتاب الطلاق (2274) وقال الألبانى : حسن صحيح 2/ 283 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب الجنائز (1294) 3/195 .
ألا ما بال دعوى أهل الجاهلية " (1) .
صدق الله العظيم الدعوى فى الاصطلاح الصوفى :
الدعوى فى الاصطلاح الصوفى أن تضيف النفس إليها ما ليس لها ، بادعاء النسبة لحال شريف يتوق إليه (2) .
روى عن مالك بن دينار والحسن البصرى وشقيق البلخى ، أنهم ذهبوا لزيارة رابعة العدوية (ت:185هـ) فى مرضها ، فقال لها الحسن : ليس بصادق فى دعواه من لم يصبر على ضرب مولاه .
فقالت رابعة : هذا كلام يشم فيه رائحة الأنانية .
فقال شقيق : ليس بصادق فى دعواه من لم يشكر على ضرب مولاه .
فقالت رابعة : يجب أن يكون أحسن من هذا .
فقال مالك : ليس بصادق فى دعواه من لم يتلذذ بضرب مولاه .
فقالت رابعة : يجب أن يقال أحسن من هذا .
فقالوا لها : تكلمى أنت يا رابعة .
فقالت : ليس بصادق فى دعواه من لم ينس الضرب فى مشاهدة مولاه (3) .
ــــــــــــــــــــ(10/125)
1. أخرجه أحمد فى المسند (14221) واللفظ له ، وأخرجه البخارى فى كتاب المناقب (3518) ، وانظر كتاب العين للخليل بن أحمد 2/221 ، والمغرب في ترتيب المعرب 1/288 ، والمفردات ص170 .
2. اللمع ص428 .
3. تذكرة الأولياء 1/ 71 ، 72 .
ويروى عن سهل بن عبد الله التسترى (ت:293هـ) أنه قال : أغلظ حجاب بين العبد وبين الله ، الدعوى ، وقال منشدا :
ولما ادعيت الحب قالت كذبتنى : فما لى أرى الأعضاء منك كواسيا (1) .
وينسب إلى أبى عمرو الزجاجى أنه سأل الجنيد (ت:297هـ) عن المحبة ؟ فقال : ( تريد الإشارة ؟ قلت : لا ، قال : تريد الدعوى ؟ قلت : لا ، قال : فأيش تريد ؟ قلت : عين المحبة ، فقال : أن تحب ما يحب الله تعالى ، فى عباده وتكره ما يكره الله تعالى فى عباده ) (2) .
ويذكر لابن عطاء الأدمى (ت:311هـ) أنه قال : ( ثلاثة مقرونة بثلاثة الفتنة مقرونة بالمنية ، والمحبة مقرونة بالاختيار ، والبلوى مقرونة بالدعوى ) (3) .
ولأبى الخير الأقطع ( ت:340هـ) : ( الدعوى رعونة لا يحتمل القلب إمساكها ، فيلقيها إلى اللسان ، فتنطق بها ألسنة الحمقى ، ولا يعرف الأعمى ما يبصره البصير من محاسنه وقبائحه ) (4) .
وروى عن أبى عمرو الزجاجى (ت:348هـ) أنه كان يقول : ( من ليس له دعوى ، فليس فيه معنى ) (5) ، ويعنى بذلك أن تضيف النفس إليها من الطاعات التى ليست من أخلاقها وتكون معها بينة لما تدعى .
ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص429 .
2. طبقات الصوفية ص163 .
3. السابق ص269 .
4. السابق ص372 . 5. اللمع ص429 .(10/126)
وقال الحسين بن منصور الحلاج (ت:309هـ) معبرا عن مذهبه الحلولى : ( ما صحت الدعاوى لأحد ، إلا لإبليس وأحمد ، غير أن إبليس سقط عن العين ، وأحمد كشف له عن عين العين ، قيل لإبليس : اسجد ، ولأحمد : انظر هذا ما سجد، وأحمد ما نظر ، ما التفت يمينا ولا شمالا : { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } [النجم/17] ، أما إبليس فإنه دعا ، لكنه ما رجع عن حوله ، وأحمد ادعى ورجع عن حوله ، بقوله : بك أحول وبك أصول ، وبقوله : يا مقلب القلوب وقوله : لا أحصى ثناء عليك ) (1) .
وقال أيضا : ( فصاحبى وأستاذى إبليس وفرعون ، إبليس هدد بالنار وما رجع عن دعواه ، وفرعون أغرق فى اليم ، وما رجع عن دعواه ، ولم يقر بالواسطة أبدا ، وإن قتلت أو صلبت أو قطعت يداى ورجلاى ، ما رجعت عن دعواى ) (2) .
**********************************
61- الدنيا
**********************************
صدق الله العظيم الدنيا : الدنو القرب ويستعمل فى الزمان والمكان والمنزلة (3) :
ــــــــــــــــــــ
1. الطواسين للحلاج نشر ماسينيون ص51،52 .
2. السابق ص52 .
3. كتاب العين للخليل بن أحمد 7/75 ، المفردات ص172 .(10/127)
1- قرب الزمان : ومنه سميت الدنيا لقرب انتهائها ، كقوله تعالى عن إبراهيم - عليه السلام - : { وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ } [النحل/122] والدنيا معاش الإنسان ، ووسيلته إلى الآخرة ، فمهما طال زمان المرء فيها فهو منصرم ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، كان - صلى الله عليه وسلم - يقول : " اللَّهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري ، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي " (1) ، ومن حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ، أو إلى امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه " (2) ، وعن أبي بن كعب - رضي الله عنه - ، قال رجل : " يا رسول اللَّه ، أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك ؟ قال : إذن يكفيك اللَّه تبارك وتعالى ما أهمك من دنياك وآخرتك " (3) ، ومن حديث أنس - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بقوم يلقحون ، فقال : لو لم تفعلوا لصلح ، قال فخرج شيصا فمر بهم ، فقال : ما لنخلكم ، قالوا : قلت كذا وكذا ، قال : أنتم أعلم بأمر دنياكم " (4) .
2- قرب المكان : كقوله تعالى : { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } [الحاقة/23] ، وقوله : { وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ } [الأنعام/99] ، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، قال ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الذكر (2720) 4/2087 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب بدء الوحى (1) 1/13 .
3. أخرجه أحمد فى المسند (20736) واللفظ له ، وقال الألبانى : حسن ، والترمذى فى كتاب صفة القيامة والرقاق (2457) 4/636 وقال : حسن صحيح .
4. أخرجه مسلم فى كتاب الفضائل (2363) 4/1836 .(10/128)
أسيد بن حضير : فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وتدري ما ذاك ؟ تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم ) (1) .
3- قرب المنزلة والمكانه : وعبر به عن عدة أشياء ، عبر بالأدنى عن الأصغر فيقابل بالأكبر نحو : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ } [السجدة/21] { وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ } [المجادلة/7] ، وعبر بالأدنى عن الأرذل والأحقر ، فيقابل بالخير والأبقى نحو قوله : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [الأعلى/ 17:16] وقوله تعالى : { قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } [البقرة/61] ، وعبر بالأدنى عن الأول ، فيقابل بالآخر نحو قوله : { وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى } [الليل/13] ، وقوله سبحانه وتعالى : { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } [البقرة/220:219] ، وعبر بالأدنى عن الأقرب فيقابل بالأقصى والأبعد ، كما روى عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه ، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم ، فيقول : فعلت كذا وكذا ، فيقول : ما صنعت شيئا ، قال : ثم يجيء أحدهم ، فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته ، قال : فيدنيه منه ، ويقول : نعم أنت " (2) ، ونحو قوله تعالى : { إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ } [الأنفال/42] .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب فضائل القرآن (5018) 8/680 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب صفة القيامة (2813) 4/2167 .
صدق الله العظيم الدنيا فى الاصطلاح الصوفى :(10/129)
حظي اصطلاح الدنيا باهتمام بالغ لدى الصوفية ، وعند الأوائل منهم على وجه الخصوص ، فهم ما برحوا يمحصون حقيقتها وغايتها وموقعها فى قلوبهم وإن كانت أغلب أقوالهم تنصب على ذمها والحذر منها ، وتصويرها فى أبشع ما يكون للنفس ، وأفعالهم أيضا تدل على النفور منها مطلقا إلا ما لا بد لهم منه ، روى عن أبى سليمان الدرانى (ت:215هـ) ، أنه قال : ( لكل شئ مهر ومهر الجنة ، ترك الدنيا بما فيها ) (1) ، وينسب أيضا لأحمد بن أبى الحوارى (ت:230هـ) : أنه قال : ( الدنيا مزبلة ومجمع الكلاب ، وأقل من الكلاب من عكف عليها ، فإن الكلب يأخذ منها حاجته ، وينصرف والمحب لها ، لا يزايلها بحال ) (2) ، ويذكر لشقيق البلخى (ت:قبل 237هـ) : ( عملت فى القرآن عشرين سنة ، حتى ميزت الدنيا من الآخرة ، فأصبته فى حرفين ، وهو قوله تعالى : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [القصص/60] (3) ، ويروى أن أحمد بن خضرويه (ت:240هـ) استقرض من رجل مائة ألف درهم ، فقال له الرجل : أليس أنتم الزهاد فى الدنيا ؟ ما تصنع بهذه الدراهم ؟ قال : أشترى بها لقمة ، فأضعها فى فم مؤمن ولا أجترئ ، أن أسأل ثوابه من الله تعالى ، قال : لم ؟ ، قال : لأن الدنيا كلها ــــــــــــــــــــ
1. طبقات الصوفية ص81 .
2. السابق ص102 .
3. السابق ص64 .
لا تزن عند الله جناح بعوضة ، وما مائة ألف درهم فى الدنيا من جناح بعوضة ؟ لو أخذتها فطلبت بها شيئا ما الذى تعطى بها ؟ والدنيا كلها لها هذا القدر ؟ (1) ، ولأبى على الثقفى (ت:328هـ) : ( أف من أشغال الدنيا إذا أقبلت ، وأف من حسراتها إذا أدبرت ، والعاقل من لا يركن إلى شئ ، إذا أقبل كان شغلا ، وإذا أدبر كان حسرة ) (2) .
ومن أمثلة الاجتهاد المحمود للصوفية ، فى كشف حقيقة الدنيا ومعرفتها ، من خلال البحث فى الأصول القرآنية والنبوية :(10/130)
[1 - ما كتبه الحارث بن أسد المحاسبى (ت:243هـ) عن الغرور بالدنيا ، إذ يبين أن الغرة بالدنيا عن الآخرة ، إيثار الدنيا والاشتغال بها عن الآخرة ، وهو قوله عز وجل : { فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } [فاطر/5] وقول الله تعالى : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [آل عمران/185] ، فاغتر الكافرون بها ، لما رأوا من فعل الله عز وجل بهم ، من إكرامه لهم بالدنيا ورفعتها وسعتها ، فظنوا أن ذلك لم يكن من الله عز وجل ، إلا لمنزلتهم عنده وأنهم أحق بالخير من غيرهم ، ثم هم بعد ذلك على وجهين :
أ- فرقة منهم شكاك فى الآخرة ، يقولون فى أنفسهم وبألسنتهم ، إن يكن لله عز وجل معاد ، فنحن أحق به من غيرنا ، ولنا فيه النصيب الأوفر اغترارا بما ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص104 .
2. السابق ص364 .
ظهر لهم من خير الدنيا وكرامتها ، وقد حكى الله ذلك عن الرجلين اللذين تحاورا ، فقال الكافر منهما للمؤمن المحاور له : { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا } [الكهف/36] .(10/131)
ب- وفرقة منهم يغترون بنعم الله عز وجل فى الدنيا ، فلا يرون أن الله عز وجل أخذهم بعقوبة فى الدنيا ، وأنه إنما أعطاهم ما أعطاهم من الدنيا لما علم منهم من الخير ، وأنهم عنده بالمنزلة العظمى ، كقول الله عز وجل إخبارا عن مقال موسى لقارون ، يخوفه بأس الله عز وجل فقال : { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي } [القصص/78] ، فقال الله عز وجل : { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا } [القصص/78] ، أى لم يمنع الله عز وجل ما أعطاهم من نعيم الدنيا لما كفروا أن يعذبهم ، فلم يعلم قارون أن الله عز وجل قد فعل ذلك بغيره ، وذلك من الله عز وجل استدراج لمن أراد أن يهلكه ويعذبه ، ليغتر بنعم الله عز وجل : { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ } [القلم/44] (1) .
ثم يقول فى الكشف عن حقيقة الدنيا فى بيان قرآنى دقيق : ( أخبرنا الله أن الدنيا فتنة وبلوى واختبار ، وأنها ليست بدليل على رضا الله عن العباد ، ألم تسمع قوله تعالى : { فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي } [الفجر/ 16:15] قال الله عز وجل : { كَلا } فكذبهما جميعا ، فليس هذا بكرامتى ولا هذا بهوانى ــــــــــــــــــــ
1. الرعاية لحقوق الله ص343 ، ص345 .
ولكن الكريم من أكرمته بطاعتى على أى حال كان ، فقيرا كان أو غنيا ، فاغتر الكافرون بظاهر نعم الله عز وجل ، وظنوا أن ذلك من كرامتهم على الله عز وجل وكذلك وصفهم ، فقال : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [المؤمنون/56:55] ) (1) .(10/132)
[2 - ويحاول أبو طالب المكى (ت:386هـ) أن يستقصى حقيقة الدنيا معتمدا على مجموع الأصول القرآنية ، وما يسفر عنه البحث فيها ، فقال : ( لا يمكن لعبد أن يعرف الزهد ، حتى يعرف الدنيا أى شئ هى ، فقد قال الناس فى الزهد أشياء كثيرة ، ونحن غير محتاجين إلى ذكر أقوالهم ، بما بين الله تعالى وأغنى بكتابه الذى جعل فيه الشفاء والغنى ) (2) .
ويعتمد المكى فى معرفة الدنيا ، على مجموعة من الآيات التى وصفت حقيقة ويقارن بينها إلى أن يصل إلى وصف واحد يبين حقيقة الدنيا :
الآية الأولى : وتبين الدنيا من خلال حصر أنواع المشتهيات فيها ، وهى سبعة أصناف وردت فى قوله سبحانه وتعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَب ِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } [آل عمران/14] يقول أبو طالب المكى معقبا : ( فهذه سبعة أوصاف ، هى جملة متاع الدنيا ، وما تفرع من الشهوات رد إلى أصل من أصول هذه الجمل ، فمن أحب جميعها فقد ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص346 .
2. قوت القلوب 1/ 245? .
أحب جملة الدنيا ، ومن أحب أصلا منها أو فرعا من أصل ، فقد أحب بعض الدنيا ، وعلمنا بنص كلام الله أن الشهوة دنيا ، وفهمنا من دليله أن الحاجات ليست بدنيا لأنها تقع ضرورات ، فإذا لم تكن الحاجة دنيا ، دل أنها لا تسمى شهوة وإن كانت قد تشتهى ) (1) .
الآية الثانية : وتبين الدنيا من خلال علل الاشتهاء فيها وحصرها فى خمسة أنواع : { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ } [الحديد/20] ، يقول المكى معقبا : ( فرد الأوصاف السبعة إلى خمسة معان ، هى وصف من أحب تلك السبعة ) (2) .(10/133)
الآية الثالثة : وتبين اختصار العلل ، وتركيزها فى معنين جامعين من العلل الخمسة السابقة : { إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ } [محمد/36] .
الآية الرابعة : وتبين الدنيا من خلال وصف واحد جامع ، يرجع إليه ما سبق فقال تعالى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى } [النازعات/40] فصارت الدنيا طاعة النفس للهوى ، فمن نهى نفسه عن الهوى ، فهو لم يؤثر الدنيا ، وإذا لم يؤثر الدنيا ، فهذا هو الزاهد الذى لا يفرح بعاجل موجود من حظ النفس ، ولا يحزن على مفقود من ذلك ، يأخذ الحاجة من كل شئ عند الحاجة إلى الشئ ، ولا يتناول عند الحاجة إلا سد الفاقة ، ولا يطلب الشئ قبل الحاجة ، فأول الزهد دخول غم الآخرة فى القلب ، ثم وجود حلاوة المعاملة لله تعالى ، ولا يدخل هم الآخرة ، حتى يخرج هم الدنيا ، ولا تدخل حلاوة ــــــــــــــــــــ
1. السابق 1/ 245? 2. السابق 1/ 246 .
المعاملة ، حتى تخرج حلاوة الهوى ) (1) .
[3- وعلى الوتيرة نفسها يبين أبو حامد الغزالى (ت:505هـ) أن معرفة ذم الدنيا لا تكفي ما لم يعرف المرء حقيقة الدنيا المذمومة ما هى ؟ وما الذى ينبغى أن يجتنب منها ، وما الذى لا يجتنب ، فلا بد من بيان الدنيا المذمومة المأمور باجتنابها ، لكونها عدوة قاطعة لطريق الله ، ما هى ؟ يقول : ( دنياك وآخرتك عبارة عن حالتين من أحوال قلبك ، فالقريب الدانى منها يسمى دنيا ، وهو كل ما قبل الموت ، والمتراخى المتأخر يسمى آخرة ، وهو ما بعد الموت ، فكل ما لك فيه حظ ونصيب وغرض وشهوة ولذة عاجل الحال قبل الوفاة ، فهى الدنيا فى حقك ) (2) ، إلا أنه يبين أن جميع ما يميل إليه المرء ، وله فيه نصيب وحظ فليس بمذموم بل هو ثلاثة أقسام (3) :(10/134)
القسم الأول : ما يصحبك فى الآخرة وتبقى معك ثمرته بعد الموت ، وهو شيئان العلم والعمل فقط ، ويعنى بالعلم العلم بالله وصفاته وأفعاله ، وملائكته وكتبه ورسله ، وملكوت أرضه وسمائه ، والعلم بشريعة نبيه ، ويعنى بالعمل العبادة الخالصة لوجه الله تعالى ، وقد يأنس العالم بالعلم .
القسم الثانى : وهو المقابل له على الطرف الأقصى ، كل ما فيه حظ عاجل ولا ثمرة له فى الآخرة أصلا ، كالتلذذ بالمعاصى كلها ، والتنعم بالمباحات الزائدة ــــــــــــــــــــ
1. السابق 1/ 246 .
2. إحياء علوم الدين 3/214 .
3. السابق 3/215 .
على قدر الحاجات ، والضرورات الداخلة فى جملة الرفاهية والرعونات كالتنعم بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، والخيل المسومة والأنعام والحرث والغلمان والجوارى والخيول والمواشى والقصور والدور ، ورفيع الثياب ولذائذ الأطعمة ، فحظ العبد من هذا كله هى الدنيا المذمومة ، وفيما يعد فضولا أو فى محل حاجة نظر طويل .
القسم الثالث : وهو متوسط بين الطرفين ، كل حظ فى العاجل معين على أعمال الآخرة ، كقدر القوت من الطعام ، والقميص الواحد الخشن ، وكل ما لا بد منه ، ليتأتى للإنسان البقاء والصحة ، التى بها يتوصل إلى العلم والعمل وهذا ليس من الدنيا كالقسم الثانى ، لأنه معين على القسم الأول ووسيلة إليه فمهما تناوله العبد على قصد الاستعانة به على العلم والعمل ، لم يكن به متناولا للدنيا ولم يصر به من أبناء الدنيا ، وإن كان باعثه الحظ العاجل دون الاستعانة على التقوى ، التحق بالقسم الثانى وصار من جملة الدنيا .
**********************************
62- الذكر
**********************************
صدق الله العظيم الذكر : الحفظ للشيء وجريانه على اللسان ، والذكر نوعان (1) :
1- ذكر بالقلب ، ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من ــــــــــــــــــــ(10/135)
1. مختار الصحاح ص 93 ، ولسان العرب 4/308 ، والمفردات ص179 .
المعرفة ، وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتبارا بإحرازه ، والذكر يقال اعتبارا باستحضاره ، وحضور الشئ فى القلب ذكره وتذكره ، بإرادة أو بغير إرادة وضده نسيانه وتناسيه ، بإرادة أيضا أو بغير إرادة ، قال تعالى :
{ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِي إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَه ُ } [الكهف/63] ، وقال سبحانه : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } [البقرة/200] ، وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه قال : " إن أم الفضل سمعته وهو يقرأ ، والمرسلات عرفا فقالت : يا بني ، واللَّه لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة ، إنها لآخر ما سمعت من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، يقرأ بها في المغرب " (1) .
2- ذكر باللسان سواء باستحضار القلب أو غيره ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا } [الأحزاب/42:41] ، وعن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن دبر كل صلاة مكتوبة ، ثلاث وثلاثون تسبيحة ، وثلاث وثلاثون تحميدة ، وأربع وثلاثون تكبيرة " (2) وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " رغم أنف رجل ذكرت عنده ، فلم يصل علي " (3) ، ومن حديث ابن عباس
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الأذان (763) 2/287 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب المساجد (596) 1/418 .
3. أخرجه الترمذى فى كتاب الدعوات (3545) وقال الألبانى : حسن صحيح 5/550 وابن حبان فى صحيحه (908) 3/189 .(10/136)
- رضي الله عنه - ، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ويقول : " رب اجعلني لك ، شكارا لك ، ذكارا لك رهابا لك ، مطواعا لك ، مخبتا إليك ، أواها منيبا " (1) .
والذكر قد يطلق على بعض المعانى الاصطلاحية الواردة فى الأصول القرآنية والنبوية منها : القرآن سماه الله ذكرا لقوله تعالى : { وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا } [طه/100:99] وقوله : { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُون َ } [الأنبياء/50] ، وقوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر/9] ، ويطلق أيضا على اللوح المحفوظ : لما روى عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " كان اللَّه ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، وخلق السموات والأرض " (2) ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " لقي آدم موسى فقال : أنت آدم الذي خلقك اللَّه بيده ، وأسجد لك ملائكته ، وأسكنك الجنة ، ثم فعلت ؟ ، فقال : أنت موسى الذي كلمك اللَّه ، واصطفاك برسالته ، وأنزل عليك التوراة ، ثم أنا أقدم أم الذكر ؟ قال : لا بل الذكر ، فحج آدم موسى ، فحج آدم موسى عليهما السلام " (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه الترمذى فى كتاب الدعوات (3551) وقال الألبانى : صحيح 5/554 وأبو داود (1510) 2/83 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب بدء الخلق (3192) 6/331 .
3. أخرجه أحمد فى المسند (9664) واللفظ له ، وأخرجه البخارى فى كتاب أحاديث الأنبياء (3409) .(10/137)
ويطلق الذكر أيضا على خطبة الجمعة والصلاة : لما روى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا كان يوم الجمعة ، كان على كل باب من أبواب المسجد الملائكة ، يكتبون الأول فالأول ، فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر " (1) ، ولقوله تعالى عن المنافقين : { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا } [النساء/142] ولما روى عن حنظلة الأسيدي - رضي الله عنه - قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر ، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم " (2) ، ويطلق الذكر أيضا على مجالس العلم ، على اعتبار ما فيها من ذكر الله والتعلق بطاعته ، لما روى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فضلا ، يتتبعون مجالس الذكر ، فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم ، وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم ، حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء الدنيا ، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء " (3) وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا مررتم برياض الجنة ، فارتعوا قالوا : وما رياض الجنة ؟ قال : حلق الذكر " (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب بدء الخلق (3211) 6/351 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب التوبة (2750) 4/2106 .
3. أخرجه مسلم فى كتاب الذكر (2689) 4/2069 .
4. أخرجه الترمذى فى كتاب الدعوات (3510) ) وقال الألبانى : حسن 5/532 والطبرانى فى المعجم الكبير (11158) 11/95 .
صدق الله العظيم الذكر فى الاصطلاح الصوفى :(10/138)
والذكر عند المعتدلين من الصوفية ، ورد فى أغلب عباراتهم متوافقا مع المعنى القرآنى ، كما أنه يمثل ركنا قويا فى طريق الحق سبحانه وتعالى ، بل هو عمدة الأمر ، فلا يصل أحد إلى الله عندهم إلا بدوام الذكر ، لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا } [الأحزاب/41] ، ومن خصائصه أنه غير مؤقت ، بل ما من وقت من الأوقات إلا والعبد مأمور بذكر الله ، إما فرضا وإما ندبا ، والذكر بالقلب مستدام فى عموم الحالات ، لقوله تعالى : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّه َ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض ِ } [آل عمران/191] ، قياما بحق الذكر وقعودا عن الدعوى فيه ، والذكر عندهم على ضربين : ذكر اللسان وذكر القلب ، فذكر اللسان به يصل العبد إلى استدامة ذكر القلب والتأثير لذكر القلب ، فإذا كان العبد ذاكرا بلسانه وقلبه فهو الكامل فى وصفه فى حل سلوكه (1) ، ومما ورد فى معنى الذكر عندهم ، ما روى عن أحمد بن الحوارى (ت:230هـ) أنه قال : ( إنما كره الأنبياء الموت ، لانقطاع الذكر عنهم ، وعلامة حب الله حب ذكر الله ، فإذا أحب الله العبد أحبه ، ولا يستطيع العبد أن يحب الله حتى يكون الابتداء من الله بالحب له ، وذلك حين عرف منه الاجتهاد فى مرضاته ) (2) ، وينسب إلى ذى النون المصرى (ت:248هـ) ، أنه قال : ( من ذكر الله تعالى ذكرا على الحقيقة نسى فى جنب ذكره كل شئ ، وحفظ الله تعالى عليه كل شئ وكان له ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة القشيرية 2/468:464 . 2. طبقات الصوفية ص101 .
عوضا عن كل شئ ) (1) ، ويذكر لأبى عثمان النيسابورى (ت:298هـ) أنه قال : ( الذكر الكثير ، أن تذكره فى ذكرك له ، أنك لم تصل إلى ذكره إلا به وبفضله ) (2) ، وعن أبى محمد الجريرى (ت:311هـ) أنه قال :(10/139)
( ذكرك منوط بك إلى أن يتصل ذكرك بذكره ، إذ ذاك يرفع ويخلص من العلل ، فما قارن حدث قدما ، إلا تلاشى وبقى الأصل وذهبت الفروع ، كأن لم تكن ) (3) ، ويروى أن أبا بكر الواسطى (ت:بعد320هـ) سئل عن الذكر فقال : الخروج من ميدان الغفلة إلى قضاء المشاهد ، على غلبة الخوف وشدة الحب له ) (4) وعنه أيضا : ( الذاكرون فى ذكره أكثر غفلة من الناسين لذكره لأن ذكره سواه ) (5) .
وينسب لأبى العباس الدينورى (ت:بعد340هـ) : ( اعلم أن أدنى الذكر أن ينسى ما دونه ، ونهاية الذكر أن يغيب الذاكر فى الذكر عن الذكر ، ويستغرق بمذكوره عن الرجوع إلى مقام الذكر ، وهذا حال فناء الفناء ) (6) .
ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة 2/466 .
2.طبقات الصوفية ص174 .
3. السابق ص263 .
4. الرسالة 2/466 .
5. طبقات الصوفية ص305 .
6. السابق ص447 .
ويذكر الكلاباذى (ت:380هـ) أن حقيقة الذكر ، أن تنسى ما سوى المذكور فى الذكر ، لقوله تعالى : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيت َ } [الكهف/24] يعنى إذا نسيت ما دون الله ، فقد ذكرت الله (1) .
ويقسم الكاشانى (ت:735هـ) الذكر عند الصوفية على أنواع منها ، ما يتفق مع المعانى السابقة أو يفترق ، فيذكر منها (2) :
(1- ذكر العامة : وهو ما يتقرب به عامة أهل الإيمان ، من ذكر الله تعالى إما بكلمة الشهادة ، وهى كلمة لا إله إلا الله ، وإما غيرها من التسبيحات والأدعية والأذكار .(10/140)
(2- ذكر الخصوص : وهو الذكر الذى يكون من تلقين الشيخ المرشد لذكر معين ، إما كلمة لا إله إلا الله أو غيرها ، وذلك لإزالة قيد وحجاب معين مرشد إلى إزالته شيخ عارف بأدواء النفوس ، يكون تلقينه لذلك الذكر أقوى أثرا فى إزالة ظلمة الحجب ، عندما تكون الملازمة لذلك الذكر عن حضور يدفع كل خاطر ، حتى خاطر الحق أيضا ، ويمنع كل تفرقة تخطر بالبال ، ويجعل الهم هما واحدا بحيث لا يخطر بالبال غير المذكور ، متوجها إليه بتوجه ساذج عن العقائد المقيدة ، بل على اعتقاد ما يعلم الحق نفسه بنفسه فى نفسه ، ويعلم كل شئ وعلى ما تعلم رسله وتفهمه عنه ، بحيث لا يدخل خلوة الذكر إلا وهو خال عن كل معتقد ، سوى الإيمان بما جاء
ــــــــــــــــــــ
1. التعرف ص103 .
2. لطائف الإعلام ص468: 471
من عند الله ، على مراد الله ، وبما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، على مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(3- الذكر الظاهر : ويعنى به ذكر اللسان ، الذى بمداومته يحصل الخلاص من الغفلة والنسيان .
(4- الذكر الخفى : وهو الذكر بالجنان مع سكوت اللسان .
(5- ذكر السر : و هو ما يتجلى له من الواردات .
(6- الذكر الشامل : يعنى به استعمال الظاهر والباطن ، فيما يقرب من الله تعالى بحيث يكون اللسان مشغولا بالذكر ، والجوارح بالطاعات ، والقلب بالواردات .
(7- الذكر الأكبر : يعنى به ما وقعت الإشارة إليه ، بقوله تعالى : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَر ُ } [العنكبوت/45] والمراد به كمال المعرفة والطاعة ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " أنا أعرفكم بالله وأتقاكم له " (1) ، فمن كان فى معرفته ، وطاعته على هذا الحد فهو صاحب الذكر الأكبر .
ــــــــــــــــــــ(10/141)
1. لم يرد فى الحديث لفظ : ( أنا أعرفكم بالله ) ، ولكنه أخرجه مسلم فى كتاب الصيام (1108) 2/779 عن عمر بن أبي سلمة - رضي الله عنه - أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيقبل الصائم ؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سل هذه ، لأم سلمة ؟ فأخبرته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك فقال : يا رسول الله ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له .
(8- الذكر الأرفع : وهو الذكر الأكبر لأنه أرفع الأذكار ، ويسمى الذكر المرفوع أيضا ، وإليه الإشارة بقوله : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك َ } [الشرح/ 4] فإنه تعالى رفعه بذكره وطاعته له ، إلى مرتبة فى الذكر لا يعلوها غيره من الخلائق .
(9- الذكر المرفوع : وهو الأرفع ، وقد يعنى بالذكر المرفوع ذكر الحق لعبده جزاء له على ذكره لربه ، كما جاء فى الكلمات القدسية أنه تعالى يقول : ( من ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى ، ومن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم ) (1) .
(10- الذكر الحقيقى : يعنى به الذكر المنسوب إلى الذكر بالحقيقة ، فلما كانت الأفعال كلها إنما هى منسوبة إلى الحق حقيقة لا إلى العبد ، كذلك صار الذكر الحقيقى ، إنما هو الذكر المنسوب إلى الحق تعالى لا إلى العبد لأن الذكر المنسوب إلى العبد ، ليس له هذه النسبة الحقيقية ، فإن ذكر العبد ليس هو الذكر الحقيقى ، وأن الأمر فى هذا المعنى وغيره من جميع ما يضاف إلى الحق والخلق ، من باب التسمية الحقيقية والمجازية (2) .
ــــــــــــــــــــ(10/142)
1. أخرجه البخارى فى التوحيد (6856) 1/2ص187 عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " .
2. انظر فى مصطلح الذكر عند ابن عربى المعجم الصوفى د/ سعاد حكيم ص272 .
**********************************
63- ذو العقل
**********************************
صدق الله العظيم ذو العقل : أصل العقل الإمساك والاستمساك ، كعقل البعير بالعقال ، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : " بينما نحن جلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله ، ثم قال لهم : أيكم محمد ؟ " (1) وعن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال : " لما نزلت : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ } [البقرة/187] ، عمدت إلى عقال أسود ، وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي ، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي ، فغدوت على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له ذلك ، فقال : إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار (2) ، والعقل يقال لأمرين (3) :
1- القوة المتهيئة لقبول العلم ، وهى الغريزة التى وضعها اللَّه فى قلوب الممتحنين من عباده ، وهذا يعرف بفعاله ولا نعرف كيفيته ، وإليه الإشارة ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب العلم (63) 1/179 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الصوم (1916) 4/157 .
3. المفردات ص341 ، 342 بتصرف ، وانظر العقل ومكانته فى القرآن الكريم إعداد سيد محمد يوسف منصور اللبان ، رسالة ماجستير مخطوط كلية أصول الدين جامعة الأزهر القاهرة سنة 1985م ص33 .(10/143)
بقول النبى - صلى الله عليه وسلم - : ( رفع القلم عن ثلاثة وذكر منها المجنون حتى يعقل ) (1) وكل موضع فيه رفع التكليف عن العبد لعدم العقل فلأجل هذا المعنى .
2- العلم الذى يستفيده الإنسان بتلك الغريزة أو القوة يقال له عقل ، كقوله تعالى : { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُون َ } [العنكبوت/43] ، وقال جابر بن عبد اللَّه - رضي الله عنه - يقال : " جاء رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يعودني وأنا مريض لا أعقل ، فتوضأ وصب علي من وضوئه فعقلت " (2) .
وكل موضع ذم اللَّه فيه الكفار بعدم العقل ، فإشارة إلى هذا المعنى دون الأول نحو قوله تعالى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون َ } [البقرة/171] ، ونحو ذلك من الآيات ، والعقل يقال أيضا للعوض المالى المقدر فى الشرع مقابل القتل أو الجراح ، فعن أبي جحيفة قال : قلت لعلي بن أبي طالب : هل عندكم كتاب ؟ قال : لا ، إلا كتاب اللَّه ، أو فهم أعطيه رجل مسلم ، أو ما في هذه الصحيفة ، قلت : فما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل وفكاك الأسير ، ولا يقتل مسلم بكافر ) (3) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال : " قضى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في جنين امرأة من بني ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه الترمذى فى كتاب الحدود (1423) وقال الشيخ الألبانى رحمه الله : صحيح 4/32 ، وابن ماجه فى سننه (2041) 1/658 ، والدارمى (2296) 2/225 وأحمد فى مسنده (1183 ) .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الوضوء (194) 1/360 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب العلم (111) 1/246 .
لحيان سقط ميتا ، بغرة عبد أو أمة ، ثم إن المرأة التي قضى لها بالغرة توفيت فقضى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بأن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها " (1) .
صدق الله العظيم ذو العقل فى الاصطلاح الصوفى :(10/144)
والعقل عند أوائل الصوفية ، غريزة فى قلوب الممتحنين من عباده ، أقام به على البالغين الحجة ، يولد العبد بها ثم يزيد ، فالعقل الذى منحنا اللَّه قادر على التفكير ، وعلى معرفة ما أنزل اللَّه ، وكل إنسان بلغ سن الرشد ، فقد تحمل مسئولية ناتجة من أنه عاقل ، واللَّه لا يهلك قوما إلا ويذكرهم ، ويخاطب عقلهم بما يفهم من عبر ، وإذا كان اللَّه قد من علينا بالعقل ، فلكى يخاطبنا بواسطته (2) .
والعاقل عند أوائل الصوفية هو من أطاع اللَّه واهتدى بهديه ، يقول الحارث بن أسد المحاسبى : ( ألا فمن رغب منكم فى العقل ، وأراد السبيل إلى اكتسابه فإن أفضل ما تستفيد بالعقل أن تطيع اللَّه فيما افترض عليك ، وتتجنب ما حرم اللَّه عليك ، فمتى فعلت ذلك أخذت من العقل بنصيب ، فبذلك جاءت الأخبار أن العاقل ، من أطاع اللَّه ولا عقل لمن عصاه ) (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الفرائض (6740) 12/25 .
2. ماهية العقل ومعناه للحارث المحاسبى تحقيق ، د/ حسين القوتلى طبعة بيروت ، سنة 1972، ص105 ص164، وانظر المزيد عن العقل عند أوائل الصوفية فى رسالة ماجستير بعنوان : موقف الصوفية من العقل حتى نهاية القرن الرابع الهجرى ، للدكتور محمد عبد الله الشرقاوى ، مكتبة كلية دار العلوم جامعة القاهرة (268) 1981م .
3. الرزق الحلال وحقيقة التوكل على اللَّه للمحاسبى ص11 .(10/145)
ويبين المحاسبى أن اللَّه دعا العقول إلى النظر فى آياته ، والفكر فى عجائب صنعه ، لأن فى ذلك سبيلا لهم إلى معرفته ، وإلى العلم بأنه الخالق الرازق الإله الواحد سبحانه وأن من دونه خلق له ، وأن الخلق كلهم مألوهون مستعبدون لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ويستدل لذلك ، بقوله تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران/191:190] ، وبقوله : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّْ } [فصلت/53] (1) .
ويقول الحكيم الترمذى (ت:320هـ) : ( العقل اسم واحد ، وسلطانه ناقص وزائد ، يقوى بقوة أركانه ، ويزداد بزيادة سلطانه ، يعقل النفس عن متابعة الهوى ، كما يمنع العقال الدابة من مرتعها ومرعاها ، والعاقل هو الذى يعقل عن الله أمره ونهيه ومواعظه ، ووعده ووعيده ، ويفهم مراده فى الأشياء على قدر ما يوفقه ، ويكشف له من تعظيم أمره واجتناب مناهيه ، وهذه كلها لا توجد إلا بلطف الله ، وحسن نظره إليه ، فيفضله على غيره باللب الموصوف والنور المعروف ) (2) ، ثم يجعل للعقل مقامات متنوعة :
1- عقل الفطرة : وهو الذى يخرج به الصبى والرجل من صفة الجنون ، فيعقل ــــــــــــــــــــ
1. القصد والرجوع إلى اللَّه ص 58 .
2. بيان الفرق بين الصدر والقلب الفؤاد واللب ص 77 .
ما يقال له ، لأنه يؤمر وينهى ، ويميز بين الخير والشر ، ويعرف به الكرامة من الهوان ، والربح من الخسران ، والأباعد من الجيران ، والقرابة من الأجانب .(10/146)
2- عقل الحجة : وهو الذى به يستحق العبد من الله تعالى الخطاب ، فإذا بلغ الحلم يتأكد نور العقل ، الذى وصف بنور التأيد ، فيؤيد عقله ، فيصل إلى خطاب الله تعالى .
3- عقل التجربة : وهو أنفع الثلاثة وأفضلها ، لأنه يصير حكيما بالتجارب يعرف ما لم يكن بدليل ما قد كان ، وهو ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا حكيم إلا ذو تجربة ، ولا حليم إلا ذو عثرة " (1) .
4- العقل الموروث : وصفته أن يكون الرجل كبيرا عاقلا ، حكيما عليما حليما وقورا ، قد ابتلى بولد سفيه أو تلميذ سفيه ، لا ينتفع من صحبته فيورث الله تبارك وتعالى ببركته عقله ونوره ، وضياءه ونفعه ووقاره وسكينته وسمته لهذا السفيه ، فيتغير حاله فى الوقت فيصير وقورا عاقلا على سبيل سلفه ، وهذا إنما يورث يعاينه الإنسان بوفاة الكبير العاقل وتغير الحال فى السفيه الجاهل (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. ضعيف ، أخرجه الترمذى فى كتاب البر والصلة (1956) وقال الشيخ الألبانى : ضعيف 4/379 ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا حليم إلا ذو عثرة ولا حكيم إلا ذو تجربة " قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وأخرجه أحمد فى المسند (10634) وأخرجه البخارى فى كتاب الأدب موقوفا على معاوية بن أبى سفيان بلفظ ( وقال معاوية - رضي الله عنه - : " لا حكيم إلا ذو تجربة " 10/546 . 2. السابق ص 76 .(10/147)
أما العاقل عند أصحاب الوحدة فهو المعتنق لمبدأهم ، وهو الذى يرى الخلق فى الظاهر ، والحق فى الباطن ، ويكون الحق عنده مرآة للخلق وتختفى المرآة حتى تصير فى صورة يظهر هو نفسه فيها ، وهذا هو الاحتجاب المطلق ، فيرى الوجود الواحد بعينه حقا من وجه ، وخلقا من وجه ، فلا يحتجب بالكثرة عن شهود الوجه الواحد الأحد بذاته ، ولا يزاحم فى شهود كثرة الظاهر أحدية الذات التى يتجلى فيها ، ولا يحتجب بأحدية وجه الحق عن شهود الكثرة الخلقية ، ولا يزاحم فى شهوده أحدية الذات المتجلية فى المجالى كثرتها ، وإلى ذلك أشار بن عربى فى قوله (1) :
ففى الخلق عين الحق إن كنت ذا عين
وفى الحق عين الخلق إن كنت ذا عقل (2) .
**********************************
64- الذوق
**********************************
صدق الله العظيم الذوق : مصدر ذاق الشيء يذوقه ذوقا ، والمذاق طعم الشيء والذوق يقال فى المحسوسات والمعنويات (3) :
ــــــــــــــــــــ
1. معجم الكاشانى ص181 وكشاف التهانوى 2/335 والتعريفات ص113 .
2. السابق ص181 .
3. لسان العرب 10/111 ، وكتاب العين 5/201 والمفردات ص182 .
1- الذوق فى المحسوسات هو وجود الطعم بالفم ، وأصله فيما يقل تناوله دون ما يكثر ، فإن ما يكثر منه يقال له الأكل ، قال الله تعالى : { فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا } [الأعراف/22] ، وروى عن جابر - رضي الله عنه - قال : " مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهم يحفرون الخندق ثلاثا ، لم يذوقوا طعاما " (1) ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " الفأرة مسخ وآية ذلك أنه يوضع بين يديها لبن الغنم فتشربه ويوضع بين يديها لبن الإبل فلا تذوقه ، فقال له كعب - رضي الله عنه - : أسمعت هذا من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : أفأنزلت علي التوراة ؟ " (2) .
2- الذوق فى المعنويات من باب التشبيه ، ومنه عدة معانى :(10/148)
أ- الذوق : تعبيرا عن استشعار حلاوة الجماع ، لما روى عن عائشة رضي اللَّه عنها ، جاءت امرأة رفاعة القرظي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : " كنت عند رفاعة فطلقني ، فأبَتَّ طلاقي ، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير ، إنما معه مثل هدبة الثوب ، فقال : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ ، لا : حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " (3) .
ب- الذوق : تعبيرا عن استشعار سكرات الموت ، ومنه قوله تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت ِ } [آل عمران/185] وعن عائشة رضي اللَّه عنها : أن أبا
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه أحمد فى المسند (13799) 3/300 واللفظ له ، وأخرجه البخارى فى كتاب المغازى برقم (4100) .
2. أخرجه مسلم فى كتاب الزهد (2997) 4/2294 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب الشهادات (2639) 5/295 .
بكر - رضي الله عنه - جاء فكشف عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقبله ، قال : "بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا والذي نفسي بيده لا يذيقك اللَّه الموتتين أبدا " (1) ، ومن حديث عائشة رضى الله عنها ، قال عامر بن فهيرة :
إني وجدت الموت قبل ذوقه : إن الجبان حتفه من فوقه (2) .
ج- الذوق : تعبيرا عن الإحساس بالألم والعذاب ، ومنه قوله تعالى : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } [النساء/56] وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " جاء مشركوا قريش يخاصمون رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في القدر ، فنزلت : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَر إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر ٍ } [القمر/49:48] " (3) .(10/149)
د- الذوق : تعبيرا عن الإحساس بالرحمة والنعمة ، كقوله تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } [هود/9] ، وقوله : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ } [هود/10] .
و- الذوق : تعبيرا عن الابتلاء والاختبار كقوله تعالى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون َ } [النحل/112]
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب المناقب (3670) 7/24 .
2. أخرجه أحمد فى المسند (25898) 6/221 واللفظ له ، وأخرجه البخارى فى كتاب الحج (1889) 7/263 .
3. أخرجه مسلم فى كتاب القدر (2656) 4/2046 .
فاستعمال الذوق مع اللباس ، من أجل أنه أريد به التجربة والاختبار أى فجعلها بحيث تمارس الجوع والخوف ، وعن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم - : " إني سألت اللَّه أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها " (1) .
صدق الله العظيم الذوق فى الاصطلاح الصوفى :(10/150)
الذوق فى الاصطلاح الصوفى يراد به الذوق الإيمانى ، تشبيها له بالتذوق فى المحسوسات ، فالأذواق التى يشير القوم إليها ، هى علوم لا تنال إلا لمن كان خالى القلب عن جميع العلائق والعوائق كلها ، وتقرير ذلك عندهم أنه لما استحال على القوة الذائقة أن تدرك شيئا من الطعوم ، ما لم تكن خالية عن التكيف بجميعها ، لكون الرطوبة اللعابية المنبعثة من آلة اللعاب ، إذا لم تكن عديمة الطعم ، فإنه لا يمكن لها أن تؤدى المطعوم على وجهه ، كما يشاهد ذلك من حال المرضى ، إذا تكيفت قوتهم الذائقة بكيفية طعم الخلط الغالب ، فإن طعم الأشياء المأكولة والمشروبة ، لا تتأدى إلا مشوبة بطعم ذلك الخلط الغالب فكذا حال القوة المدركة للحقائق من الإنسان ، فإنها ما لم تكن خالية عن التكيف بشئ من العقائد والآراء المترسخة فيها ، فإنها لا محالة يستحيل عليها أن تؤدى إلى نفس كيفية تلك الحقائق على ما هى عليه فى أنفسها ، ليمكن النفس من الاطلاع على وجه الحق فيها (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه الترمذى فى كتاب الفتن (2175) وقال الشيخ الألبانى : صحيح 4/471 .
2. انظر لطائف الإعلام 1/473:471 ، والتعريفات للجرجانى ص112 ، وكشاف اصصطلاحات الفنون للتهانوى 2/321 بتصرف .
ومما ورد عنهم فى مصطلح الذوق ، ما روى عن ذى النون المصرى (ت:248هـ) أنه قال : ( لما أراد أن يسقيهم من كأس محبته ، ذوقهم من لذاذته وألعقهم من حلاوته ) (1) .
وينسب لأحمد بن عطاء الروذبارى (ت:369هـ) : ( الذوق لأهل المواجيد فأهل الغيبة إذا شربوا طاشوا وأهل الحضور إذا شربوا عاشوا ) (2) ، ويذكر السراج الطوسى (ت:387هـ) أن الذوق عندهم هو ابتداء الشرب ، وينقل عن بعضهم قوله :
يقولون ثكلى ومن لم يذق : فراق الأحبة لم يثكل (3) .(10/151)
أما الهجويرى (ت:465هـ) فعنده أن الذوق مثل الشرب ، ولكن الشرب لا يستعمل إلا فى الفرح ، أما الذوق فإنه ينطبق على الفرح والبلاء ، كأن يقول قائل : ذقت الخلاف وذقت البلاء ، وذقت الراحة فكل هذا يصح ، ويمكن أن يقال فى الشرب : شربت بكأس الوصال ، وبكأس الود ، قال تعالى : { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا } [الطور/19] وحينما ذكر الذوق ، قال جل شأنه : { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيم ُ } [الدخان/49] ، وفى موضع آخر ، قال : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَر َ } [القمر/48] (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص449 .
2. طبقات الصوفية ص498 .
3. اللمع ص449 .
4. كشف المحجوب ص475 .
وقال أبو القاسم القشيرى (ت:465هـ) : ( ومن جملة ما يجرى فى كلامهم ، الذوق والشرب ، ويعبرون بذلك عما يجدونه من ثمرات التجلى ونتائج الكشوفات وبوادة الواردات ، وأول ذلك الذوق ثم الشرب ثم الرى فصفاء معاملاتهم يوجب لهم ذوق المعانى ، ووفاء منازلتهم يوجب لهم الشرب ودوام مواصلاتهم يقتضى لهم الرى ، فصاحب الذوق متساكر ، وصاحب الشرب ، سكران وصاحب الرى صاح ) (1) .
والذوق عند الصوفية كما تقدم ذوق إيمانى ، لكن تتنوع دلالته عندهم على حسب الايمان بما يعتقده كل منهم ، فالأوائل ذوقهم تشهد له الأصول القرآنية والنبوية ، لأن أصول التوحيد السنى قائمة فى اعتقادهم ، لكن الحلولى منهم مشربه فى الذوق الفناء عن شهود السوى والاتحاد بالله ، ويرى صاحب الذوق السابق أدنى منه فى المنزلة ، كذلك الذوق فى مفهوم القائلين بوحدة الوجود ذوق إيمانى نبع من نفى الفرق لأن الكل تعينات لذاته ، يقول ابن الفارض :
وعنى بالتلويح يفهم ذائق : غنى عن التصريح للمتعنت
منحتك علما إن ترد كشفه فرد : سبيلى واشرع فى اتباع شريعتى
فمنبع صدى من شراب نقيعة : لدى فدعنى من سراب بقيعة (2) .(10/152)
فذوق ابن عربى وابن الفارض ومن شاكلهما يختلف عن ذوق الحلاج وأبى يزيد ، يختلف عن ذوق القشيرى والسراج الطوسى وغيرهما ، فكل قد علم مشربه الإيمانى وذوقه الروحانى .
ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة 1/239 . 2. ديوان ابن الفارض ص60 ، 75 .(10/153)
**********************************
65 - الران
**********************************
صدق الله العظيم الران : الرنة قلقلة فى الصوت متتابعة ، تحيط بالسمع فتؤثر عليه ، وقال مجاهد بن جبير : مرت بنا جنازة ، فقال ابن عمر - رضي الله عنه - : " لو قمت بنا معها فأخذ بيدي فقبض عليها قبضا شديدا ، فلما دنونا من المقابر ، سمع رنة منخلفه وهو قابض على يدي فاستدارني فاستقبلها ، فقال لها شرا ، وقال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تتبع جنازة معها رانة " (1) ، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : " أما بعد أيها الناس ، فإن الأسيفع أسيفع جهينة ، رضي من دينه وأمانته ، بأن يقال?: سبق الحاج ، ألا وإنه قد دان معرضا فأصبح قد رين به ، فمن كان له عليه دين فليأتنا بالغداة ، نقسم ماله بينهم ، وإياكم والدين ، فإن أوله هم ، وآخره حرب " (2) ومعنى قد رين به أى أحاط الدين بماله ، من كثرة تتابعه شيئا فشيئا .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه ابن ماجة فى كتاب الجنائز (1583) ، وقال الشيخ الألبانى رحمه الله : حسن 1/504 ، والبيهقى فى السنن الكبرى برقم (6915) 4/64 ، والطبرانى فى المعجم الكبير برقم (13484) 12/402 .
2. أخرجه مالك فى كتاب الأقضية (1460) 2/770 ، والبيهقى فى سننه (11046) 6/49 ، وفيه عمر بن عبد الرحمن بن دلاف المزنى ، وهو مستور ، انظر الإكمال ترجمة رقم (630) ص 306 ، وتعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة (772) 1/298 والتاريخ الكبير رقم (2071) 6/172 .(11/1)
والرين صدأ يعلو الشئ الجليل فيعكر صفاءه ، قال تعالى : { كَلا بَل رَانَ عَلى قُلوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [المطففين/14] ، أى صار ذلك كصدإ على جلاء قلوبهم ، فعمى عليهم معرفة الخير من الشر (1) ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه ، ذاك الرين الذي ذكر الله عز وجل في القرآن : { كَلا بَل رَانَ عَلى قُلوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُون َ } " (2) .
صدق الله العظيم الران فى الاصطلاح الصوفى :
الران فى عرف الصوفية ، حجاب حائل بين القلب ، وبين تجلى الحقائق فيه فصاحبه ممنوع من الرؤية بعين البصيرة ، وسببه كثرة الذنوب ، يقول الحارث المحاسبى : ( إن القلب إذا كان طاهرا لم تعتوره الشهوات ، ولم يغتذ اللذات من الحرام ، ولم تعتقبه الذنوب ، ولم يعل قلبه الرين ، كانت رعايته لحقوق الله والقيام ، بها أسهل وتوبته إلى الله أسرع ) (3) .
وقال أبو القاسم القشيرى فى قوله تعالى : { كَلا بَل رَانَ عَلى قُلوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [المطففين/14] : ( غطى على قلوبهم ، ما كانوا يكسبون من المعاصى ــــــــــــــــــــ
1. لسان العرب 13/187 ، 13/193 المفردات ص208 .
2. أخرجه الترمذى فى كتاب تفسير القرآن (3334) ، وقال الألبانى : حسن 5/434 أخرجه أحمد فى المسند (7939) ، وابن ماجه (4244) 2/1418 .
3. الرعاية لحقوق الله ص55 .
وكما أنهم اليوم ممنوعون عن معرفته ، فهم غدا ممنوعون عن رؤيته ) (1) .(11/2)
ويذكر الكاشانى أن الرين ينشأ من تراكم الذنب على الذنب ، فتصدأ القلوب بالرسوخ في الذنوب وتتغير جواهرها ، وعندها ينغلق باب المغفرة ، ولذلك قال الله تعالى : { كَلا بَل رَانَ عَلى قُلوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُون َ } [المطففين/14] ، أى ارتدعوا عن الرين (2) ، وحده عنده هو الحجاب الحائل بين القلب ، وبين عالم القدس باستيلاء الهيآت النفسانية عليه ، ورسوخ الظلمات الجسمانية فيه بحيث يحتجب عن أنوار الربوبية بالكلية (3) .
وقال أيضا فى الحجاب :
( يقال : الران ، والمراد بذلك انطباع الصور الكونية فى القلب ، على سبيل الاستيعاب له والرسوخ فيه ، بحيث لا يبقى مع ذلك مطمع لتجلى الحقائق فيه لعدم نوريته بتراكم ظلم الحجب المختلفة عليه ، فلهذا يسمى عموم حصول صور الأكوان فى القلب ورسوخها فيها ، حجابا ورينا عليه ) (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإشارات 3/701 .
2. تفسير القرآن الكريم للكاشانى ، منسوب لابن عربى ص779 .
3. معجم اصطلاحات الصوفية للكاشانى ص143 .
4. لطائف الإعلام 1/477 .
**********************************
66- الرجاء
**********************************
صدق الله العظيم الرجاء : الرجاء ظن يقتضى حصول ما فيه مسرة (1) ، وهو يضاد الخوف ويلازمه ، كقوله تعالى : { أُوْلئِكَ الذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمْ الوَسِيلةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } [الإسراء/57] ، وقوله : { وَتَرْجُونَ مِنْ اللهِ مَا لا يَرْجُونَ } [النساء/104] ، وعن أنس - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على شاب وهو في الموت ، فقال : كيف تجدك ؟ قال : أرجو الله يا رسول الله ، وأخاف ذنوبي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن ، إلا أعطاه الله ما يرجو ، وآمنه مما يخاف - (2) .(11/3)
والرجاء فى جميع الأدلة الواردة فى الكتاب والسنة ، يدور حول معنى الرغبة والتمنى والطلب ، وكثرة الإلحاح فى الدعاء ، فمن حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال عن أصحاب الغار : " فقال رجل منهم .. فلما رأت ذلك أسلمت إلي نفسها ، فلما تكشفتها وهممت بها ، ارتعدت من تحتي ، فقلت لها : ما شأنك ؟ ، قالت : أخاف الله رب العالمين ، قلت لها : خفتيه في الشدة ، ولم ــــــــــــــــــــ
1. المفردات ص 190 ، ولسان العرب 14/309 ، كتاب العين 6/176 .
2. أخرجه ابن ماجة فى كتاب الزهد (4261) وقال الشيخ الألبانى : حسن 2/1423 والترمذى برقم (983) 3/311 ، وأبو يعلى فى مسنده برقم (3303) 6/57 .
أخفه في الرجاء ، فتركتها وأعطيتها ما يحق علي بما تكشفتها " (1) .
وعن أم عطية قالت : " كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد ، حتى نخرج البكر من خدرها ، حتى نخرج الحيض ، فيكن خلف الناس فيكبرن بتكبيرهم ، ويدعون بدعائهم ، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته " (2) ، وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : " لما أنزلت هذه الآية : { لنْ تَنَالوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } [آل عمران/92] قام أبو طلحة - رضي الله عنه - ، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إن أحب أموالي إلي بيرحاء ، وإنها صدقة لله أرجو برها ، وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله " (3) ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال عند صلاة الفجر : " يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام ، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة ، قال : ما عملت عملا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورا في ساعة ليل أو نهار ، إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي " (4) .(11/4)
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ،قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أربعون خصلة ، أعلاهن منيحة العنز ، ما من عامل يعمل بخصلة منها ، رجاء ثوابها ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه أحمد فى المسند برقم (17950) واللفظ له ، وأخرجه البخارى فى كتاب البيوع برقم (2215) .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الجمعة برقم (971) 2/535.
3. أخرجه البخارى فى كتاب الزكاة برقم (1461) 3/381.
4. أخرجه البخارى فى كتاب الجمعة برقم (1149) 3/41 .
وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة " (1) .
ومن حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم - : " قَال مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيل الله دَعَاهُ خَزَنَةُ الجَنَّةِ كُل خَزَنَةِ بَابٍ أَيْ فُل هَلمَّ ، قال أبو بكر - رضي الله عنه - : يا رسول الله ذاك الذي لا تَوَى عَليْهِ فَقَال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنهُمْ " (2) .
وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - ، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول يوم خيبر : " لأعطين الراية رجلا يفتح الله على يديه ، فقاموا يرجون لذلك ، أيهم يعطى ؟ فغدوا وكلهم يرجو أن يعطى ، فقال : أين علي ؟ " (3) ، ومن حديث عائشة رضي الله عنها قال ملك الجبال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم ، من يعبد الله وحده ، لا يشرك به شيئا " (4) .
صدق الله العظيم الرجاء فى الاصطلاح الصوفى :
الرجاء فى الاصطلاح الصوفى من أعمال القلوب التى تتعلق بحصول محبوب فى المستقبل ، وسكون القلب بحسن الوعد ، والثقة بالجود من الكريم الودود فهو عندهم قوت الخائفين ، وفاكهة المحرومين ، ومن جملة مقامات الطالبين ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الهبة برقم (2631) 5/287 .(11/5)
2. أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد برقم (2841) 6/57 .
3. أخرجه البخارى فى الموضع السابق (2942) 6/129 .
4. أخرجه البخارى فى كتاب بدء الخلق برقم (3231) 6/360 .
وأحوالهم (1) ، وأغلب عبارات الصوفية ، تدور حول هذا المعنى ، روى عن الحارث المحاسبى (ت:243هـ) ، وقد سئل عن الرجاء ؟ ، فقال : ( الطمع فى فضل الله تعالى ورحمته ، وصدق حسن الظن عند نزول الموت ) (2) ، وحكى عن ذى النون المصرى (ت:248هـ) أنه كان يدعو ، ويقول : " اللهم إن سعة رحمتك أرجأ لنا من أعمالنا عندنا ، واعتمادنا على عفوك أرجأ عندنا من عقابك لنا " (3) .
وينسب لأبى محمد الجريرى (ت:311هـ) : ( الرجاء طريق الزهاد والخوف سلوك الأبطال ) (4) ، ولأبى على الروذبارى (ت:322هـ) : ( الخوف والرجاء هما كجناحى الطائر ، إذا استويا استوى الطير ، وتم طيرانه ، وإذا نقض أحدهما وقع فيه النقض ، وإذا ذهبا صار الطائر فى حد الموت ) (5) ، ويروى عن عبد الله بن خفيف الشيرازى (ت:371هـ) ، أنه قال : ( الرجاء استبشار بوجود فضله ) (6) .
ــــــــــــــــــــ
1. انظر التعريفات للشريف الجرجانى ص114 ، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوى 3/84 بتصرف .
2. طبقات الصوفية ص59 .
3. اللمع ص92 .
4. طبقات الصوفية ص264 .
5. الرسالة القشيرية 1/357 .
6. السابق 1/357 .
وقال أبو القاسم القشيرى (ت:465هـ) : ( الرجاء تعلق القلب بمحبوب سيحصل فى المستقبل ، وكما أن الخوف يقع فى مستقبل الزمان ، فكذلك الرجاء يحصل لما يؤمل فى الاستقبال ، وبالرجاء عيش القلوب واستقلالها والفرق بين الرجاء وبين التمنى ، أن التمنى يورث صاحبه الكسل ، ولا يسلك طريق الجهد والجد وبعكسه صاحب الرجاء فالرجاء محمود والتمن معلول ) (1) .
وقد قسم الكاشانى الرجاء عند الصوفية إلى عدة أنواع (2) :(11/6)
(1- رجاء المجازاة : يعنى به الرجاء الذى يبعث العامل على الاجتهاد وتلذذه عند الخدمة ويوجب له سماحة نفسه بترك الملاهى ، وهو ما يتوقعه من المجازاة على قيامه بالأمر الذى وعد بالثواب عليه ، وترك النهى الذى توعد بالعقاب على فعله ، ومثل هذا إنما ينشط فى عمل الطاعات ، وترك الخطيئات لأجل ما يرجوه فى الجنان ، عوضا عما بذل من مراد نفسه وحظوظها ، فهو يترك ما يترك من المناهى التى هى مثل شرب الخمر والزنا وأشباه ذلك من المحرمات الملذة عند مقترفيها ، لما يرجوه من الرحيق المختوم والحور العين وغير ذلك مما وعد الحق به فى دار الرضوان ، فهو لولا ذلك ، لما هان عليه ترك مصائد الشيطان ، فلهذا صار هذا الرجاء ضعيفا فى نظر هذه الطائفة ، إذ كان العامل عليه إنما ينشط فى عمل رجاء الجزاء ، كمثل الصبى الذى ينشط إلى حفظ تلقينه رغبة فيما وعد عليه من الحلوى .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق 1/357 . 2. لطائف الإعلام 1/484:482 .
(2- رجاء أرباب الرياضات : هو تصفية القلوب ليستعد بذلك للقاء المحبوب بما يحملون على أنفسهم ، من المجاهدات لها على ترك مألوفاتها وملذاتها ، وإنما كان هذا النوع من الرجاء ضعيفا أيضا ، لأن أهل الرياضة مشغولون بتطهير القلوب ، فهم بعد لم يبلغوا منازل القرب التى لا تحصل إلا بعد تطهير القلوب .
(3- رجاء أرباب القلوب : هو لقاء المحبوب الحق جل اسمه ، وإنما يعد هذا النوع من الرجاء ضعيفا أيضا ، لأن الرجاء للشئ ، إنما يكون فى وقت الغيبة وحيث أن الأمر عند هذه الطائفة ، إنما ينبنى على الحضور والمشاهدة ، صار الرجاء عندهم من المراتب الإلهية لا محالة بالجملة ، لما فى الرجاء من تعلق الهمة بما لعل الله أراد غيره ، فلهذا لا يعتد بالرجاء من أعرض عن الاعتراض ونفى عنه الأغراض (1) .(11/7)
والصوفية ليسوا جميعا على ما ذكره الكاشانى فى تقسيمه ، يعدون الرجاء حال الضعفاء من أهل السلوك ، بل ما ورد فى عباراتهم السابقة يدل على خلاف ذلك ، ومن ثم فإن الرجاء المذكور فى كلام الكاشانى ، محمول على من أسقط رؤية العوض فى العبادة ، وهؤلاء يعتبرون الرجاء من الرعونة التى هى الوقوف مع حظ النفس الذى يرجى حصوله ، وأول الطريق عند هذه الطائفة الخروج عن النفس ، فضلا عن شهواتها فى الدنيا أو الآخرة ، ولذلك استدل الكاشانى بقول الحلاج :
أريدك لا أريدك للثواب : ولكنى أريدك للعقاب
ــــــــــــــــــــ
1. السابق 1/482 .
فكل مآربى قد نلت منها : سوى ملذوذ قلبى بالعذاب (1) .
يقول الكاشانى : ( فجعل غاية مطلوبه أن يتلذذ بالعذاب ، وليس أن مقصوده من العذاب التلذذ به ، وإلا لكان ذلك رعونة من جهة طلب اللذة ، ومن جهة الاقتراح بتخصيصها ، ومن جهة طلب خرق العادة الذى هو حصول اللذة فى محل الإيلام ، بل إنما أراد بذلك أن يرى حسن رضاه بأحكام مولاه ، بما ليس للنفس فيه حظ بوجه ) (2) .
**********************************
67- الرضا
**********************************
صدق الله العظيم الرضا : الرضا يرد على معنى القناعة والاختيار والتسليم (3) ، كقول الله تعالى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالكُمْ فَإِنْ لمْ يَكُونَا رَجُليْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن ْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِل إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى } [البقرة/282] ، وقوله سبحانه : { قَدْ نَرَى تَقَلبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلنُوَليَنَّكَ قِبْلةً تَرْضَاهَا فَوَل وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَام ِ } [البقرة/144] وقوله : { إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } [النساء/29] .
ــــــــــــــــــــ
1. وانظر ديوان الحلاج طبعة مكتبة الكليات الأزهرية ص 70 .
2. السابق 1/482 .(11/8)
3. المفردات ص 197 ، ولسان العرب 14/323 ، وكتاب العين 7/57 .
وعن سعد بن أبى وقاص - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى تبوك واستخلف عليا ، فقال : " أتخلفني في الصبيان والنساء ، قال : ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه ليس نبي بعدي " (1) ، ومن حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : " فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت ، فقال : ما يبكيك ؟ فقلت يا رسول الله : إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله ، فقال : أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة " (2) .
والرضا يرد أيضا على معنى ينافى التسخط ، أو الحزن أو الغضب ، كما قال تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُون َ } [التوبة/58] ، وقال تعالى : { وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَوْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلهُنَّ } [الأحزاب/51] ، ومن حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه - ، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب " (3) .
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط?" (4) ، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال : " قلت يا ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب المغازى برقم (4416) 7/716 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب تفسير القرآن برقم (4913) 8/525 .
3. أخرجه النسائى فى السهو برقم (1305) ، وقال الألبانى : صحيح 3/54 .
4. أخرجه ابن ماجة فى الفتن (4031) ، وقال الألبانى : حسن 2/1338 .(11/9)
رسول الله أكتب ما أسمع منك ؟ قال : نعم قلت : في الرضا والسخط ؟ قال نعم ، فإنه لا ينبغي لي أن أقول في ذلك إلا حقا " (1) ، ومن حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا إن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم ، ألا ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه ، فإذا وجد أحدكم شيئا من ذلك ، فالأرض الأرض ، ألا إن خير الرجال من كان بطيء الغضب سريع الرضا ، وشر الرجال من كان سريع الغضب بطيء الرضا " (2) ، والرضا فى الكتاب والسنة على نوعين (3) :
أ - رضا العبد عن الله ولازمة ثلاثة أمور : الرضا بالله ربا ، وهو أن لا يكره ما يجرى به قضاؤه قبل السعى وبعده ، والرضا بالإسلام دينا ، وهو أن يخضع لأمره ونهيه ، والرضا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ورسولا ، ألا يحدث فى دين الله أمرا يخالف سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد دل على الثلاثة حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج حين زاغت الشمس ، فصلى الظهر ، فقام على المنبر فذكر الساعة فذكر أن فيها أمورا عظاما ثم قال : " من أحب أن يسأل عن شيء ، فليسأل ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه أحمد فى المسند (6891) واللفظ له ، وأبو داود فى كتاب العلم (3646) 3/318 ، والدارمى فى المقدمة برقم (484) 1/136 .
2. أخرجه أحمد فى المسند برقم (10759) واللفظ له ، وأخرجه الترمذى فى كتاب الفتن برقم (21911) وقال حسن صحيح 4/483 .
3. المفردات ص197 .
فلا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم ، ما دمت في مقامي هذا ، فأكثر الناس في البكاء وأكثر أن يقول سلوني ، فقام عبدالله بن حذافة السهمي فقال : من أبي ؟ قال : أبوك حذافة ، ثم أكثر أن يقول : سلوني فبرك عمر على ركبتيه ، فقال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ، فسكت ثم قال : عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط فلم أر كالخير والشر " (1) .(11/10)
ب- رضا الله عن العبد ، وهو أن يراه مؤتمرا لأمره ومنتهيا عن نهيه ، قال الله تعالى : { جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلكَ لمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } [البينة/ 8] وقال تعالى : { لقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنْ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } [الفتح/18] ، وقال تعالى : { اليَوْمَ أَكْمَلتُ لكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَليْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لكُمْ الإِسْلامَ دِينًا } [المائدة/3] ، وعن ابن عمر - رضي الله عنه - ، " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال : { سُبْحانَ الذِي سَخَّرَ لنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنَا لمُنقَلبُونَ } [الزخرف/ 14:13] ، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ، ومن العمل ما ترضى " (2) .
صدق الله العظيم الرضا فى الاصطلاح الصوفى :
والرضا عند أغلب الصوفية ، يرد على معنيين وردت بهما الأصول القرآنية :
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب مواقيت الصلاة برقم (540) 2/27 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب الحج برقم (1342) 2/978 .
الأول : الرضا بالأمر الكونى وهو الرضا بالقضاء والقدر ، مع مراعاة أن الواجب على العبد أن يرضى بالقضاء الذى أمر بالرضى به ، إذ ليس كل ما هو بقضائه يجوز للعبد ، أو يجب عليه الرضا به ، كالمعاصى وفنون محن المسلمين (1) روى عن أبى سليمان الدارانى (ت:215هـ) أنه قال : ( علموا النفوس الرضى بمجارى المقدور ، فنعم الوسيلة إلى درجات المعرفة ) (2) ، ويروى أن ذى النون المصرى (ت:248هـ) سئل عن الرضا ؟ فقال : سرور القلب بمر القضاء (3) .(11/11)
وعن أحمد بن عطاء الآدمى (ت:311هـ) قال : ( الرضا نظر القلب إلى قديم اختيار الله للعبد فإنه اختار له الأفضل ) (4) ويروى عن أبى على الدقاق (ت:410هـ) : ( ليس الرضا ألا تحس بالبلاء ، إنما الرضا ألا تعترض على الحكم والقضاء ) (5) .
الثانى : الرضا بالأمر الشرعى ، وهو استسلام العبد لله ، فيذم ما ذمه الله ويكره ما كرهه ، لموافته رضاه فى كل شئ شرعه ، على تفصيل العلم وترتيب الأحكام ، فما كان من خير وبر أمر الله به أو ندب إليه ، رضى به العبد وأحبه ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة القشيرية 2/422 بتصرف .
2. طبقات الصوفية ص81 .
3. اللمع ص80 .
4. التعرف للكلاباذى ص102 .
5. الرسالة القشيرية 2/422 .
شرعا وفعلا ووجب عليه الشكر ، وما كان من شر نهى عنه وتهدد عليه فعلى العبد أن يرضى به عدلا وقدرا ، ويسلمه لمولاه حكمة وحكما ، وعليه أن يصبر عنه ويقر به ذنبا ، ويعترف به لنفسه ظلما ، ويرضى بعود الأحكام عليه بالعقاب ، وأنه اجترحه بجوارحه اكتسابا ، ورضا بأن لله الحجة البالغة عليه وأن لاعذر له فيه ، فهم مع الله فيما أحب وكره (1) ، وروى عن أبى سليمان الدارانى : ( إذا سلا القلب من الشهوات فهو راض ) (2) ، وعن حاتم الأصم (ت:237هـ) : ( من أصبح وهو مستقيم فى أربعة أشياء ، فهو يتقلب فى رضا الله ، أولها الثقة بالله ، ثم التوكل ، ثم الإخلاص ، ثم المعرفة ، والأشياء كلها تتم بالمعرفة ) (3) ، ويذكر لأبى تراب النخشبى (ت:245هـ) ، أنه قال : ( ليس ينال الرضا من للدنيا فى قلبه مقدار ) (4) وروى عن الجنيد بن محمد (ت:297هـ) أنه سئل عن الرضا ؟ فقال : الرضا رفع الاختيار (5) ، ويروى عن أبى القاسم النصرباذى (ت:367هـ) : ( من أراد أن يبلغ محل الرضا فليزم ما جعل الله رضاه فيه ) (6) .
ــــــــــــــــــــ
1. قوت القلوب 2/45 بتصرف .
2. الرسالة القشيرية 2/423 .
3. طبقات الصوفية ص94 .
4. الرسالة القشيرية 2/426 .
5. اللمع ص80 .(11/12)
6. الرسالة القشيرية 2/422 .
ومن عباراتهم التى تجمع بين المعنيين السابقين ، ما روى عن الفضيل بن عياض (ت:187هـ) أنه قال : ( أحق الناس بالرضا عن الله ، أهل المعرفة بالله عز وجل ) (1) ، وعن أبى سليمان الدارانى قال : ( ليس أعمال الخلق بالذى يرضيه ولا بالذى يسخطه ، ولكنه رضى عن قوم فاستعملهم بعمل أهل الرضا وسخط على قوم فاستعملهم بعمل أهل السخط ) (2) ، ويروى عن ذى النون المصرى : ( ثلاثة من أعلام الرضا : ترك الاختيار قبل القضاء ، وفقدان المرارة بعد القضاء وهيجان الحب فى حشو البلاء ) (3) ، ويذكر أن سهل بن عبد الله التسترى (ت:293هـ) قال : ( إذا اتصل الرضا بالرضوان ، اتصلت الطمأنينة فطوبى لهم وحسن مآب ، لقوله تعالى : { رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } [البينة/8] فالرضا فى الدنيا تحت مجارى الأحكام ، يورث الرضوان فى الآخرة بما جرت به الأقلام ) (4) ، ولعبد الله بن خفيف الشيرازى (ت:371هـ) : ( الرضا على قسمين : رضا به ورضا عنه ، فالرضا به أن يرضاه مدبرا ، والرضا عنه فيما يقضى ) (5) .
ــــــــــــــــــــ
1. طبقات الصوفية ص10 .
2. اللمع ص80 .
3. الرسالة القشيرية 2/425 .
4. التعرف لمذهب أهل التصوف ص102 .
5. الرسالة القشيرية 2/424 .
وربما وردت بعض العبارات فى الرضا ، تدل على المبالغة فيه تخالف ظواهر النصوص القرآنية ، كما نسب إلى الدرانى : ( الرضا أن لا تسأل الله تعالى الجنة ولا تستعيذ به من النار ) (1) ، وقوله أيضا : ( أرجو أن أكون عرفت طرفا من الرضا ، لو أنه أدخلنى النار لكنت بذلك راضيا ) (2) ، ولأبى بكر الشبلى أيضا لما قال بين يدى الجنيد : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فقال له الجنيد : قولك ذا ضيق صدر ، وضيق الصدر لترك الرضا بالقضاء ، فسكت الشبلى ) (3) .(11/13)
وقد نبه أبو طالب المكى على مخالفة ذلك للصواب فقال : ( ولا ينقص الراضى من مقام الرضا ، مسئلة مولاة ومزيد الآخرة وصلاح الدنيا تعبدا بذلك وافتقارا إليه فى كل شئ ، لأن فى ذلك رضاه ، ومقتضى تمدحه بمسئلة الخلائق له ، فإن صرف مسائله إلى طلب النصيب من المولى ، وابتغاء القرب منه حبا له ، وآثره على ما سواه ، كان فاضلا فى ذلك ، لأنه قد رد قلبه إليه وجمع همه بذلك ، وهذا على قدر مشاهدة الراضى عن معرفته وهو مقام المقربين ، وهذا أصل فاعرفه فهو طريق الصوفيين وعليه عمل العارفين من السلف فلم يكن يضرهم عندهم خلاف من خالف ) (1) .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق 2/425 .
2. السابق 2/426 .
3. السابق 2/425 .
4. قوت القلوب 2/44 .
وقد قسم الكاشانى الرضا عند الصوفية إلى خمسة أنواع (1) :
1- رضا العامة : هو أن يرضى هو بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ، بحيث يكون الله ورسوله أحب الأشياء إليه ، وأولاها عنده بالتعظيم وأحقها بالطاعة .
2- رضا الخاصة : هو أنهم كما رضوا بالله ربا ، فإذا قد رضوا به مالكا ومتصرفا فى جميع أحوالهم بما قضى وقدر ، بحيث لا يجد العبد فى نفسه حرجا من قطع يده ، وموت ولده ، وهذا هو الوقوف الصادق ، مع مراد الحق تعالى وقوفا بالحقيقة ، من غير تردد فى ذلك .(11/14)
3- رضا المحب : وهو قريب من رضى الخاصة ، بحث لا يجد العبد فى نفسه حرجا من قطع يده ، وموت ولده إلا أن هذا المحب ، هو الذى يكون رضاه بذلك ، لكونه لا يجد لنفسه رضا ولا سخطا لسقوط مراداته ، فإن الرضا فرع عن الإ رادة ، وقد سقطت فى حق هذا العبد بمشاهدته ، بأن هذا الواقع ليس إلا على وفق إرادة الحكيم فى صنعه الرحيم بفعله ، ومن كان هذا بالنسبة إليه أرجح وأميز من غيره ، فقد زال أيضا عن التحكم وسقوط الإختيار وفقد التمييز ، ولو أدخل النار لأنه لا يرى ، أن ذلك عن إرادة الحق الصادرة عن الحكيمية والرحيمية ، وعند ذلك يتحقق بالرضا عن الله فى كل ما يريده ، وفى ذلك تصحيح مقام الرضا المختص بأهل المحبة الصادقين فيها .
ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام 1/492:490 .
4- رضا الحق على العبد : وهو ثمرة رضا الخاصة ، وهو أن لا يفقد تعالى عبده حيث أمره ، ولا يجده حيث نهاه ، وذلك بأن يكون العبد مطيعا لربه فى كل ما أمره به ونهاه عنه ، وهذا هو العبد الذى قد أرضى ربه .
5- رضا العبد عن الرب : هو رضا المحب كما مر ، وهو أن لا يبقى للعبد تعلق بغير ، ما أراده الحق تعالى له ، وذلك بأن لا يجد فى نفسه حرجا مما قدره الحق وقضاه ، ولو فى قطع يده وموت ولده ، فإن المحبة الحقيقية لا تصح إلا مع محبة ما هو مراد المحبوب (1) .
**********************************
68- الرعاية
**********************************
صدق الله العظيم الرعاية : الرعى فى الأصل حفظ الحيوان ، إما بغذائه الحافظ لحياته ، وإما بذب العدو عنه ، يقال رعيته أى حفظته وأرعيته جعلت له ما يرعى ، والمرعى موضع الرعى (2) قال تعالى : { وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا } [النازعات/31:30] ، وقال : { كُلوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } [طه/54] .
ــــــــــــــــــــ(11/15)
1. انظر المزيد عن مصطلح الرضا عند الصوفية فى رسالة ماجستير بعنوان مقام الرضا عند صوفية القرنين الثالث والرابع الهجريين ، إعداد محمد مختار محمد مصلح ، مخطوط كلية الآداب جامعة القاهرة سنة 1988م .
2. كتاب العين للخليل بن أحمد 2/240 ، والمفردات ص198 ، والمغرب 1/334 .
وعن عقبة بن عامر رضى الله عنه ، قال : " كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، خدام أنفسنا نتناوب الرعاية ، رعاية إبلنا ، فكانت علي رعاية الإبل ، فروحتها بالعشي ، فأدركت رسول الله يخطب الناس ، فسمعته يقول : ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يقوم فيركع ركعتين ، يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا قد أوجب ، فقلت : بخ بخ ما أجود هذه " (1) ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " بينما رجل راكب على بقرة التفتت إليه فقالت : لم أخلق لهذا خلقت للحراثة ، قال : آمنت به أنا وأبو بكر وعمر ، وأخذ الذئب شاة فتبعها الراعي ، فقال : له الذئب من لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري قال : آمنت به أنا وأبو بكر وعمر " (2) . ...
واستعير الرعى للحفظ والسياسة ، كقوله تعالى : { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } [الحديد/27] أى ما حفظوا عليها حق المحافظة ، وهو مستخدم فى كل سائس لنفسه أو لغيره ، فمن الأول حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات ، لا يعلمها كثير من الناس ، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا إن حمى الله في أرضه ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه أبو داود فى كتاب الطهارة برقم (169) وقال الشيخ الألبانى : صحيح 1/43 وابن خزيمة فى صحيحه برقم (222) 1/110.
2. أخرجه البخارى فى كتاب المزارعة برقم (2324) 5/11 .(11/16)
محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " (1) .
ومن الثانى حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، الإمام راع ومسئول عن رعيته والرجل راع في أهله ، وهو مسئول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته " (2) .
ومن حديث أبي السوار - رضي الله عنه - ، عن خاله قال : " أتى علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضربني ضربة?، إما بعسيب أو قضيب أو سواك ، أو شيء كان معه ، فوالله ما أوجعني ، فبت بليلة ، قلت : ما ضربني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إلا لشيء علمه الله في ، وحدثتني نفسي أن آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصبحت ، فنزل جبريل عليه السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنك راع ، لا تكسرن قرون رعيتك ، فلما صلينا الغداة ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم إن أناسا يتبعوني ، وإني لا يعجبني أن يتبعوني ، اللهم فمن ضربت أو سببت ، فاجعلها له كفارة وأجرا ، أو قال مغفرة ورحمة " (3) .
صدق الله العظيم الرعاية فى الاصطلاح الصوفى :
الرعاية فى الاصطلاح الصوفى ، يقصد بها الرعاية لحقوق الله عز وجل والقيام ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الإيمان برقم (62) 1/178 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الجمعة برقم (893) .2/441
3. أخرجه أحمد فى المسند برقم (22563) 5/294.
بها وهى عندهم أمر عظيم ، تولى الله تعالي عليه أنبياءه وأحباءه ، لأنهم رعوا عهده وحفظوا وصيته ، وكل ما أمر الله عز وجل بالقيام به ، قد أمر برعايته ورعاية حقوقه ، من واجب مضيق أو موسع ، أو معين أو مخير ، أو مقدم أو مؤخر ، لقول النبى - صلى الله عليه وسلم - : " كلكم راع ، وكلكم مسئول عن رعيته " (1)(11/17)
ويقسم الحارث بن أسد المحاسبى (ت:243هـ) أهل الرعاية لحقوق الله إلى سبع منازل (2) :
فأول منازل الرعاية : الرعاية لحقوق الله عز وجل عند الخطرات على العلل والأسباب والأوقات والإدارات ، فلا تخطر بقلبه خطرة من أعمال القلوب إلا جعل الكتاب والسنة دليلين عليها ، فلم يقبلها باعتقاد الضمير ، وبتركها يسكن قلبه فى مجال الفكر من التمنى وغيره ، إلا أن يشهد له العلم أن الله عز وجل قد أمر بها وندب إليها ، أو أذن فيها بأسبابها وعللها ووقتها وإرادتها فيها ، فإنه قد يقبل الخطرة يرى أنها داعية إلى سنة وهى بدعة ، وقد يرى أنها داعية إلى طاعة وهى معصية ، وقد يرى أنها داعية إلى خير وهى شر ، كالخطرة تدعو إلى الإخلاص بترك العمل ، وإلى التنزه عن الخلق بالفكر ، وإلى الرجاء على العمل بالعجب والعزة ، وإلى المنافسة بالحسد ، وإلى الغضب لله عز وجل بتمنى البلاء فى الدنيا والدين للمسلمين ، واعتقاد استحلال ما حرم الله عز وجل منهم ونحو ذلك من الخطرات .
ــــــــــــــــــــ
1. انظر الرعاية ص37 ، وحياة القلوب على هامش قوت القلوب 2/100 .
2. السابق ص87 ، ص106.
ثم أهل المنزلة الثانية : وهم الذين أغفلوا الرعاية عند الخطرات فى أعمال القلوب ، مما ليس للبدن فيه عمل ، حتى جالت قلوبهم بالفكرة فيما كره الله عز وجل ، ثم تيقظوا قبل أن يعتقدوها بقلوبهم ففزعوا وصرفوا قلوبهم عن ذلك .
وأهل المنزلة الثالثة : الذين أغفلوا الرعاية والمراقبة عند الخطرات وعند الفكر فى أعمال قلوبهم ، حتى اعتقدوا ما كره الله عز وجل من أعمال قلوبهم ، مما لا عمل للبدن فيه مثل العجب والكبر ، والحسد والشماتة ، وسوء الظن وما أشبه ذلك والبدعة ، ثم تيقظوا وفزعوا وذكروا الله عز وجل ، فندموا وخلوا ما عقدوا عليه من ذلك بالتوبة إلى الله عز وجل .(11/18)
وأهل المنزلة الرابعة : الذين أغفلوا المراقبة لله عز وجل ، والرعاية لحقه حتى هموا وعزموا أن يأتوا ما كره الله عز وجل بجوارحهم ، ثم تيقظوا ورهبوا فندموا على ما أضمروا وخلوا ما عليه عقدوا بضمائر قلوبهم .
وأهل المنزلة الخامسة : الذين أغفلوا مراقبة الله عز وجل وتقواه ، حتى ابتدءوا بالعمل بجوارحهم بما كره الله عز وجل ، من لحظة بعين أو إصغاء بأذن أو مد بيد أو خطوة برجل ، ثم تيقظوا وفزعوا وخافوا الله عز وجل ، قبل أن يتموا ما كره الله عز وجل من العمل كالعين يلحظ بها ، ثم يذكر اطلاع الله عز وجل عليه ، وأن الله يسائله عنها أو يخاف أن يغضب عليه ، فيصرف بصره قبل أن يستتم من النظر ما أراد وأحب .
وأهل المنزلة السادسة : الذين أغفلوا مراقبة الله عز وجل وتقواه ، حتى استتموا ما كره الله عز وجل من العمل وفرغوا منه ، ثم فزعوا وندموا فتابوا إلى الله عز وجل وأقلعوا ، ولم يصروا على شئ مما كره الله ، بعد ما تيقظوا فعلموا أنهم أسخطوا الله عز وجل بما قدموا وفعلوا وتعرضوا .
وأهل المنزلة السابعة : الذين أغفلوا رعاية حقوق الله عزوجل ، حتى فرغوا من الأعمال التى يكرهها الله عز وجل ، ثم فزعوا عند بعضها فأقلعوا عن بعضها وأقاموا على بعضها ، ولم ترسخ أنفسهم بالتوبة من بعضه ، كالرجل يأتى العمل من أعمال السلطان من الجباية والكتابة وغير ذلك ، فيظلم فيه ثم يفزع وينوى ألا يظلم أحدا .
وروى عن عمرو بن عثمان المكى (ت:291هـ) أنه قال : ( اعلم أن الرعاية مصحوبة لك فى كل الأحوال ، من العبادة إلى أن تلقى ربك ، كذلك التقوى واعلم أن العلم قائد ، والخوف سائق ، والنفس حَرون بين ذلك ، جموح خداعة رواغة ، فاحذرها وراعها بسياسة العلم ، وسقها بتهديد الخوف يتم لك ما تريد ) (1) .
ويذكر الكاشانى أن الرعاية هى صون بالعناية ، لأنه فى الدعاء يقال : رعاك الله ، أى اعتنى بصونك عما فيه شينك ، وقسمها إلى عدة أنواع (2) :(11/19)
أ- رعاية الأعمال : وهى سلامتها من النقص ، وذلك يكون بتحقيرها إذ كان فيه توفيرها ، فإنك إن لم تستحضر عملك بالنسبة إلى ما يجب عليك وألا ــــــــــــــــــــ
1. طبقات الصوفية ص 203 .
2. لطائف الإعلام 1/493:492 .
يداخلك من التيه ما تفسد به نيتك ، ومن العجب ما يحبط مزيدك ، ولهذا لا ينبغى لك عند القيام بوظائف العبادات ، أن تنظر إليها بإعجاب أو تتزين بها بين الناس ، بل ينبغى أن يكون نظرك إليها مقصورا على النظر فى أدائها وعلى تصحيحه بمقتضى العلم الشرعى الموجب للإخلاص .
ب- رعاية الأحوال : وهى سلامتها عن الاستحسان لها ، وذلك بأن تقدر أن الغالب عليك منها دعوى كاذبة ، لتطهر نفسك بذلك من الرعونة ويخلص القلب من نصيب الشيطان .
ج- رعاية الأوقات : بأن تقف مع كل خطرة بتصحيحها بالشروط المعتبرة فى تصحيح خطرات الحق والخطوات إليه ، وذلك بأن تغيب عن حظك من كدر رسمك الذى هو نفسك ، وإنما تصفو من ذلك ، إذا لم تر تقدمك بنفسك بل بربك ، ثم تغيب عن شهودك لصفوك .
**********************************
69- الرغبة
**********************************
صدق الله العظيم الرغبة : الحرص على الجمع مع منع الحق (1) ، وأصل الرغبة السعة فى الشئ واستعيرت لسعة الإرادة وطول التمنى فيها ، قال تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ ــــــــــــــــــــ
1. انظر لسان العرب 1/422 ، والقاموس المحيط ص115 ، وكتاب العين للخليل بن أحمد 4/413 ، والمغرب فى ترتيب المعرب للمطرزى 1/335 .
فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } [الأنبياء/90] ، وعلى هذا الاعتبار كانت الرغبة على نوعين (1) :(11/20)
أ- طلب حصول الشئ والحرص عليه ، فإذا قيل : رغب فيه وإليه ، اقتضى ذلك تمنى وقوعه كقوله تعالى : { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنّ َ } [النساء/127] وقوله : { إِنَّا إِلى اللهِ رَاغِبُون َ } [التوبة/59] ، ومن السنة فى هذا المعنى ، ما روى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : - إذا دعا أحدكم ، فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت ، ولكن ليعزم المسألة وليعظم الرغبة ، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه?" (2) ، وقالت أم سلمة رضى الله عنها: " فوضعت له - صلى الله عليه وسلم - وسادة أدم حشوها ليف ، فقعد عليها فخطبني إلى نفسي ، فلما فرغ من مقالته ، قلت : يا رسول الله ، ما بي أن لا تكون بك الرغبة في ، ولكني امرأة في غيرة شديدة فأخاف أن ترى مني شيئا يعذبني الله به ، وأنا امرأة دخلت في السن ، وأنا ذات عيال " (3) ، وعن ميمونة رضى الله عنها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم : " كيف أنتم إذا مرج الدين ، وظهرت الرغبة ، واختلفت الإخوان ، وحرق البيت العتيق " (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. المفردات ص198
2. أخرجه مسلم فى كتاب الذكر برقم (2679) 4/2063.
3. صحيح الإسناد ، أخرجه أحمد رقم (15909) واللفظ له ، والترمذى فى كتاب الدعوات برقم 3511) 5/533 ، وأبو داود فى كتاب الجنائز برقم (3115) 3/191 .
4. صحيح الإسناد ، أخرجه أحمد فى المسند برقم (26289) ورواته ثقات .
ومن حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - ، قال صلى الله عليه وسلم : " إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم اضطجع على شقك الأيمن ، ثم قل : اللهم أسلمت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك " (1) .(11/21)
ب- طلب البعد عن الشئ والحرص علي امتناع وقوعه ، فإذا قيل : رغب عنه اقتضى ذلك صرف الرغبة عنه والزهد فيه ، نحو قوله تعالى : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلةِ إِبْرَاهِيمَ } [البقرة/130] وقوله سبحانه : { قَال أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلهَتِي يَا إِبْراهِيم ُ } [مريم/46] ، ومن السنة فى هذا المعنى ، ما روى عن سعيد بن المسيب - رضي الله عنه - عن أبيه ، أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة ، جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فوجد عنده أبا جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب : " يا عم قل لا إله إلا الله ، كلمة أشهد لك بها عند الله ، فقال أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه ، ويعودان بتلك المقالة ، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم ، هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول لا إله إلا الله " (2) .
ومن حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الوضوء برقم (247) 1/426 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الجنائز برقم (1360) 3/263 .
عن سنتي فليس من " (1) ، وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ، قالت : " قدمت علي أمي وهي مشركة ، في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت وهي راغبة : أفأصل أمي ؟ ، قال : نعم صلي أمك? " (2) ، تعنى وهى راغبة عن الإسلام .
صدق الله العظيم الرغبة فى الاصطلاح الصوفى :
الرغبة فى اصطلاح الصوفية فوق الرجاء ، لأن الرجاء طمع ، فيحتاج إلى تحقيق ، وأما الرغبة فهى سلوك على تحقيق المرغوب ، والرغبة عندهم على ثلاث درجات (3) :(11/22)
1- رغبة لأهل الخير تتولد من العلم بعظم شأن المرغوب إليه ، وعظم إحسانه وجزيل إنعامه ، فتبعث على الاجتهاد والطاعة الموجبين للقرب ، وتصون السالك عن العثور .
2- رغبة أرباب الحال ، وهى رغبة لا تبقى من المرغوب شيئا .
3- رغبة أهل الشهود ببذل كل ما فى مجهودهم لطلب الشهود .
قال الحارث المحاسبى (ت:243هـ) : ( الذى يشين الورع ويوهنه الرغبة فى الدنيا وكثرة الطمع فيها ودوام الحرص عليها بجمع ما لا يضر فقده ) (4) . ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب النكاح برقم (5063) 9/5 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الهبة برقم (2620) 5/275 .
3. حياة القلوب على هامش قوت القوب 2/204 .
4. القصد والرجوع إلى الله ص 47 .
وقال أبو حامد الغزالى (ت:505هـ) ، ويشاركه ابن عربى (ت:638هـ) الرأى : ( الرغبة ثلاثة : رغبة النفس فى الثواب ، ورغبة القلب فى الحقيقة ورغبة السر فى الحق ) (1) .
ويشرح الكاشانى المقصود بهذه الأنواع فى الاصطلاح الصوفى ويجعلها عندهم على ثلاث درجات (2) :
1- رغبة النفس : تحققها بالسلوك بسبب ما وعدت به من الثواب على أعمال البر ، وذلك هو الذى يبعثها على الاجتهاد ويصونها من وهن الفترة ، ويمنعها من الرجوع إلى غثاثة الرخص .
2- رغبة القلب : هى التحقق بالحقيقة ، فيصونه ذلك عن الالتفات إلى غير ما هو المقصود من وجوده ، سواء كان ذلك الشئ من حظوظ الدنيا ، أو من حظوظ لآخرة ، لعلمه بأن المطلوب إنما هو الفناء عما سوى الحق ليحصل البقاء به ، فلهذا لا يبقى فيه التفات إلى عالم الخلق لكمال توجهه إلى عالم الحق .
3- رغبة السر : فى التحقق بالحق وبذلك صونه عن الأغيار ، لأنه فى الحضرة التى تأبى التنويه ، فمن شهدها لم يكن متحققا بحضرة الأحدية .
ــــــــــــــــــــ
1. الإملاء ص69 ، واصطلاح الصوفية لابن عربى ص10.
2. لطائف الإعلام 1/494 .
**********************************
70- الرهبة
**********************************(11/23)
صدق الله العظيم الرهبة : الرهبة من مقدمات الخوف ، وهى توقع المخافة مع التحرز والاضطراب ، وغالبا ما ترتبط بالصدر ، كما أن الخوف يرتبط بالقلب ، قال تعالى عن الرهبة : { لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنْ الله ِ } [الحشر/13] ، وفى الخوف ، قال أسامة بن زيد - رضي الله عنه - : " يا رسول الله ، إنما قالها ، يعنى لا إله إلا الله ، خوفا من السلاح ، قال : أفلا شققت عن قلبه ؟ " (1) .
فالرهبة حالة تعترى المرء قبل حلول الخوف فى القلب ، قال تعالى : { وَأَعِدُّوا لهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله ِ } [الأنفال/60] وقال : { سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ } [الأعراف/116] ، أى حملوهم على أن يرهبوا وقوله : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِي } [البقرة/40] وذلك يشمل الحذر من التفكير فى نقض العهد ، أو الإقدام عليه لوجود الرهبة والحذر من فعله ، والوقوع فيه لوجود الخوف (2) .
ومما ورد فى السنة عن معنى الرهبة ، ما روى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : " قيل لعمر ألا تستخلف ؟ قال : إن أستخلف فقد استخلف من ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الإيمان برقم (96) 1/96 .
2. لسان العرب 1/426 ، المغرب للمطرزى 1/354 ، المفردات ص204.
هو خير مني أبو بكر ، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني ، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأثنوا عليه ، فقال : راغب راهب ، وددت أني نجوت منها كفافا ، لا لي ولا علي ، لا أتحملها حيا ولا ميتا " (1) .(11/24)
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - : " أن الناس سألوا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، حتى أحفوه بالمسألة فخرج ذات يوم ، فصعد المنبر ، فقال : سلوني لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ، فلما سمع ذلك القوم ، أَرَمُّوا وَرَهِبُوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر ، قال أنس - رضي الله عنه - : فجعلت ألتفت يمينا وشمالا ، فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي " (2) .
وعن فاطمة بنت قيس لما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، صلاته جلس على المنبر وهو يضحك ، فقال : " ليلزم كل إنسان مصلاه ، ثم قال : أتدرون لم جمعتكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ، ولكن جمعتكم لأن تميما الداري ، كان رجلا نصرانيا ، فجاء فبايع وأسلم ، وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال " (3) .
وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي : "يا حصين كم تعبد اليوم إلها ؟ قال أبي : سبعة ، ستة في الأرض ، وواحدا في السماء ، قال : فأيهم ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الأحكام برقم (7218) 13/218 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب الفضائل برقم (2359) 4/1834 .
3. أخرجه مسلم فى كتاب الفتن برقم (2942) 4/2261 .
تعد لرغبتك ورهبتك ؟ قال : الذي في السماء " (1) ، وعن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - أنه كَانَ يَكْرَهُ البُسْرَ وَحْدَهُ ويقول : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد عبد القيس عَنِ المُزَّاءِ ، فَأَرْهَبُ أَنْ تَكُونَ البُسْرَ " (2) .
صدق الله العظيم الرهبة فى الاصطلاح الصوفى :(11/25)
الرهبة فى اصطلاح الصوفية ضد الرغبة ، وهى الخشية لله والرغبة فى فضله والرهبة من عدله ، وهى عندهم على ثلاث درجات يدل عليها إجمال الأمر فى قوله تعالى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِي } [البقرة/40] رهبة الظاهر ، وهى توقع المخافة بسبب ، ما ذكر الله من الوعيد بالنار ، ورهبة الباطن ، وهى توقع المخافة بسبب صولة الحق ، والعلم بأوصافه وأفعاله ، رهبة السر ، وهى رهبة الغيب لتحقيق أمر السبق من إظهار السعادة أو الشقاوة (3). وحكى عن أبى القاسم الجنيد (ت:298هـ) أن الرهبة وجه من وجهى الخوف فالخوف ضربان ، رهبة وخشية ، فصاحب الرهبة يلتجئ إلى الهرب إذا خاف وصاحب الخشية يلتجئ إلى الرب (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه الترمذى فى الدعوات برقم (3483) وقال الشيخ الألبانى : ضعيف 5/519.
2. صحيح الإسناد ، أخرجه أحمد فى المسند برقم (2826) واللفظ له وأبو داود فى كتاب الأشربة برقم (3709) .
3. الإملاء ص69 ، اصطلاحات الصوفية لابن عربى ص11 ، لطائف الإعلام 1/496 .
4. الرسالة القشيرية 1/344 .
وقال القشيرى : رهب وهرب يصح أن يقال أنهما واحد معنى مثل جذب وجبذ ، فإذا هرب انجذب فى مقتضى هواه ، كالرهبان الذين اتبعوا أهواءهم فإذا كبحهم لجام العلم وقاموا بحق الشرع فهو الخشية ، ويبين القشيرى أن الرهبانية فى قوله تعالى : { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا } [الحديد/27] هى الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف ، وكانوا يفرون إلى الجبال والصحراء ليخلصوا من الفتنة فى دينهم ويقطعون أنفسهم عن الزواج والنسل ، وأن الله لم يأمرهم بها بل هم الذين ابتدعوها (1) .
**********************************
71 - الروح
**********************************(11/26)
صدق الله العظيم الروح : الريح الهواء المتحرك ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تسبوا الريح ، فإنها من روح الله ، تأتي بالرحمة والعذاب ، ولكن سلوا الله من خيرها ، وتعوذوا بالله من شرها?" (2) ، وراح فلان إلى أهله ، أى أتاهم بسرعة ، والرواح السير آخر النهار ، وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من راح روحة في سبيل الله ، كان له بمثل ما أصابه من الغبار ، مسكا ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإشارات 3/545 .
2. أخرجه ابن ماجة فى الأدب (3727) وقال الشيخ الألبانى : صحيح 2/1228 وأبو داود برقم (5097) 4/326 ، وابن حبان فى صحيحه برقم (1007) 3/287 .
يوم القيامة " (1) ، وعنه أيضا - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لغدوة في سبيل الله أو روحة ، خير من الدنيا وما فيها " (2) ، والروح تطلق على بعض الاصطلاحات الشرعية الآتية (3) :(11/27)
1- روح الإنسان وهى ما يحصل به الحياة والتحرك ، واستجلاب المنافع واستدفاع المضار ، والروح جسم غيبيى يسرى فى البدن ، سريان الورد فى الماء والنار فى الفحم ، يصعد ويهبط إلى البدن بأمر الله ، وهى المذكورة فى قوله تعالى : { وَيَسْأَلونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُل الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء/85] ، وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ، قال : " بينا أنا أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في خرب المدينة وهو يتوكأ على عسيب معه ، فمر بنفر من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ؟ وقال : بعضهم لا تسألوه ، لا يجيء فيه بشيء تكرهونه ؟ فقال : بعضهم لنسألنه ؟ ، فقام رجل منهم فقال : يا أبا القاسم ، ما الروح ؟ فسكت ، فقلت : إنه يوحى إليه ، فقمت فلما انجلى عنه قال : { وَيَسْأَلونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُل الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّيوَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ العِلمِ إِلا قَليلا } [الإسراء/85] (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه ابن ماجة فى كتاب الجهاد (2775) وقال الشيخ الألبانى : حسن 2/927 والطبرانى فى المعجم الأوسط برقم (1381) 2/212.
2. أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد برقم (2792) 6/17.
3. لسان العرب 2/461 ، وكتاب العين 3/291 ، المفردات ص205 .
4. أخرجه البخارى فى كتاب العلم برقم (125) 1/270 .
وعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم ، قالوا أعملت من الخير شيئا ؟ ، قال : كنت آمر فتياني أن ينظروا ويتجاوزوا عن المعسر ، قال : فتجاوزوا?عنه " (1) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال - صلى الله عليه وسلم - : " من صور صورة ، فإن الله معذبه ، حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبدا ، فربا الرجل ربوة شديدة واصفر وجهه ، فقال : ويحك إن أبيت إلا أن تصنع ، فعليك بهذا الشجر كل شيء ليس فيه روح " (2) .(11/28)
2- الروح جبريل ، كما فى قوله تعالى : { نَزَل بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلى قَلبِكَ لتَكُونَ مِنْ المُنذِرِينَ } [الشعراء/193] ، ويسمى أيضا بروح القدس ، كما فى قوله : { قُل نَزَّلهُ رُوحُ القُدُسِ } [النحل/102] .
3- الروح أشراف الملائكة ، نحو قوله تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلائِكَةُ صَفًّا } [النبأ/38] ، وقوله : { تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِليْهِ } [المعارج/4] ، وكذلك قوله : { ليْلةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلفِ شَهْرٍ تَنَزَّل المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُل أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلعِ } [القدر/ 5:3] .
4- الروح عيسى عليه السلام ، كما فى قوله تعالى : { يَا أَهْل الكِتَابِ لا تَغْلوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولوا عَلى اللهِ إِلا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُول اللهِ وَكَلمَتُهُ أَلقَاهَا إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } [النساء/171] ، وذلك لما كان له من إحياء الأموات .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب البيوع برقم (2077) 4/360 .
2. أخرجه البخارى فى الموضع السابق (2225) 4/485 .
5- الروح القرآن ، يذكر عن ابن عباس فى قوله تعالى : { وَكَذَلكَ أَوْحَيْنَا إِليْكَ رُوحًا مِن ْ أَمْرِنَا } [الشورى/52] ، وذلك لكون القرآن سببا للحياة الأخروية الموصوفة فى قوله سبحانه : { وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لهِيَ الحَيَوَانُ لوْ كَانُوا يَعْلمُونَ } [العنكبوت/64] (1) .
صدق الله العظيم الروح فى الاصطلاح الصوفى :(11/29)
الروح فى الاصطلاح الصوفى ، جسم مخلوق ، وهى أمر من أمر الله تعالى ليس بينها وبين الله تعالى سبب ولا نسبة ، غير أنها من ملكه وطوعه وفى قبضته غير متناسخة ، ولا تخرج من جسم فتدخل فى غيره ، وتذوق الموت كما يذوق البدن ، وتتنعم بتنعم البدن ، وتعذب بعذاب البدن ، وتحشر فى البدن الذى تخرج منه ، وخلق الله تعالى روح آدم عليه السلام من الملكوت ، وجسمه من التراب (2) .
روى عن أبى تراب النخشبى (ت:245هـ) أنه قال : ( أيها الناس أنتم تحبون ثلاثة ، وليست هى لكم تحبون النفس وهى لله ، وتحبون الروح والروح لله وتحبون المال والمال للورثة ، وتطلبون اثنين ولا تجدونهما ، الفرج والراحة وهما فى الجنة ) (3) ، وعن يحى بن معاذ الرازى (ت:258هـ) قال : ( روح ولى ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب تفسير القرآن 8/ 425 .
2. اللمع ص555 .
3. الطبقات ص148 .
الله من القدس تشغله بمولاه ، والحكمة جند من جنود الله يرسلها إلى قلوب العارفين ، حتى تروح عنها وهج الدنيا ) (1) .
وروى عن الجنيد (ت:298هـ) : ( الروح شئ استأثر الله بعلمه ، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه ، ولا يجوز العبارة عنه بأكثر من موجود لقوله : { قُل الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّيوَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ العِلمِ إِلا قَليلا } [الإسراء/85] (2) ، ولأبى عبد الله النباجى (ت:بعد300هـ) : ( الروح جسم يلطف عن الحس ، ويكبر عن اللمس ولا يعبر عنه بأكثر من موجود ) (3) .
ويذكر لابن عطاء الأدمى (ت:311هـ) : ( خلق الله الأرواح قبل الأجساد ، لقوله تعالى : { وَلقَدْ خَلقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } [الأعراف/11] فقوله : { وَلقَدْ خَلقْنَاكُمْ } ، يعنى الأرواح ، { ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } يعنى الأجساد ) (4) .(11/30)
ويذكر أبو القاسم القشيرى (ت:465هـ) أن الأرواح مختلف فيها عند أهل التحقيق من أهل السنة فمنهم من يقول : إنها الحياة ، ومنهم من يقول : إنها أعيان مودعة فى هذه القوالب ، أجرى الله العادة بخلق الحياة فى القالب ، ما دامت الأرواح فى الأبدان ، فالإنسان حى بالحياة ، ولكن الأرواح مودعة فى ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص427 .
2. التعرف ص67 .
3. السابق ص67 .
4. السابق ص67 .
القوالب ، ولها ترق فى حال النوم ومفارقة للبدن ثم رجوع إليه ، وأن الإنسان هو الروح والجسد ، لأن الله سبحانه وتعالى سخر هذه الجملة بعضها لبعض والحشر يكون للجملة ، والمثاب والمعاقب الجملة ، والأرواح مخلوقة ، ومن قال بقدمها فهو مخطئ خطأ عظيما (1) ، والروح تذكر فى عرف بعض الصوفية على معنى يغاير ما سبق ويتعارض مع القرآن والسنة ، فمن ذلك (2) :
أ- روح الإلقاء : أى ما يلقى فى القلب من إلهام ، فإن أهل الطريق لا يثبتون ما يثبتونه من قواعدهم ، التى يبنون عليها تجرد النفس ، وغيره عن خبر واستدلال بالكتاب أو السنة ، بل على ما يقتضيه الكشف والعيان من روح الإلقاء ، وهم يجيزون ذلك اعتبارا بالإشارة الواردة فى قول الله تعالى : { يُلقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } [غافر/15] ، فالآية ليست خاصة عندهم بالأنبياء والرسل ، ولكنها عامة فى اصطلاحهم بإزاء الروح الملقى إلى القلب من علم الغيب على وجه مخصوص .
ب- الروح الأعظم : يعنى به العقل الأول ، ويقال له القلم الأعلى ، ويسمى أيضا الروح الأول ، والروح الأقدم ، لأنه منشأ لجميع الأرواح .
ح- الروح المضاف : ويعنون به النفس الكلية المسماه باللوح المحفوظ وبكل شئ وبالكتاب المبين ، وذلك لأن هذا الروح لما قبل ما نقشه القلم الأعلى فيه ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة القشيرية 1/272 .
2. لطائف الإشارات 1/502:497 ، واصطلاحات الصوفية لابن عربى ص8 .(11/31)
صار متضمنا ، صنفى الكلم الفعلية والقولية مفصلة ، بحيث لا يفوته شئ مما يدخل فى الوجود إلى انتهاء يوم القيامة ، سمى بهذا الاعتبار بكل شئ المعنى بقوله تعالى : { وَكَتَبْنَا لهُ فِي الأَلوَاحِ مِنْ كُل شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لكُل شَيْءٍ } [الأعراف/145] ، ثم أنه باعتبار توجهه إلى موجده ، وأخذه المدد عنه بلا واسطة يسمى روحا مضافا إلى الحضرة الإلهية .
د- الروح المحمدية : عبارة عن جهة وحدة القلم الأعلى المختصة بالمظهرية الروحانية المنسوبة إلى التجلى الأول ، لغلبة حكم الإجمال والوحدة عليها ، وإنما كان الروح المحمدى هو مظهر هذا الروح ، لأجل كمال طهارة مرآة قابلية قلبه التقى النقى - صلى الله عليه وسلم - ، ومضاهاته فى التبعية لحضرة الحق تعالى ، ويسمى أيضا روح الأرواح ، لانتشاء جميع الأرواح عنه ، لأن جهة وحدانية القلم الأعلى هى أصل الأرواح .
هـ- روح العالم : ويعنى به المعنى الذى هو للعالم بمنزلة الروح الجسدى كما قيل : والكون فص أنت معنى نقشه ووجوده ، فذلك المعنى هو الإنسان الكامل لأنه لولاه لما وجد العالم ، كما أن الروح لولاها لما وجد الجسد ويسمى قلب العالم .
**********************************
72- الرياء
**********************************
صدق الله العظيم الرياء : ورد فى الكتاب والسنة على معنى قول الخير أو فعله ، مع تخلف الإخلاص فيه فمن القرآن قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلوا صَدَقَاتِكُمْ
بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالذِي يُنفِقُ مَالهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ } [البقرة/264] وقوله : { الذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ } [الماعون/7:6] .(11/32)
ومما ورد فى السنة عن الرياء ، ما روى عن أبي سعيد الخدرى - رضي الله عنه - ، قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " يكشف ربنا عن ساقه ، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة فيبقى كل من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة ، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا " (1) .
وعن أسماء بنت يزيد رضى الله عنها ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من ارتبط فرسا في سبيل الله ، وأنفق عليه احتسابا ، كان شبعه وجوعه وريه وظمؤه وبوله وروثه ، في ميزانه يوم القيامة ، ومن ارتبط فرسا رياء وسمعة ، كان ذلك خسرانا في ميزانه يوم القيامة " (2) .
ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال رجل : " يا رسول الله ، الرجل يعمل العمل فيسره ، فإذا اطلع عليه أعجبه ذلك ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : له أجران أجر السر وأجر العلانية " ، وقال أبو?عيسى الترمذى فى شرح هذا الحديث : ( وقد فسر بعض أهل العلم هذا الحديث ، فقال : إذا اطلع عليه فأعجبه فإنما معناه أن يعجبه ثناء الناس عليه بالخير ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنتم شهداء الله في الأرض " ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب تفسير القرآن برقم (4919) 8/531 .
2. صحيح بمعناه ، أخرجه أحمد فى المسند برقم (27046) وفى معناه ما أخرج البخارى فى كتاب المساقاه برقم (2371) .
فيعجبه ثناء الناس عليه لهذا ، لما يرجو بثناء الناس عليه ، فأما إذا أعجبه ليعلم الناس منه الخير ليكرم على ذلك ويعظم عليه فهذا رياء ، و قال بعض أهل العلم : إذا اطلع عليه فأعجبه رجاء أن يعمل بعمله ، فيكون له مثل أجورهم فهذا له مذهب أيضا ) (1) ، ومن حديث جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ الله بِهِ ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي الله بِهِ " (2) .(11/33)
والرياء شرك أصغر ، كما ورد فى حديث محمود بن لبيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ، قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء ، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا ، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ؟ " (3) ، وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه خرج يوما إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فوجد معاذ بن جبل - رضي الله عنه - ، قاعدا عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يبكي ، فقال : ما يبكيك ؟ ، قال : يبكيني شيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ــــــــــــــــــــ
1. ضعيف أخرجه الترمذى فى كتاب الزهد برقم (2384) وقال الشيخ الألبانى : ضعيف 4/594 ، وصححه بن حبان فى صحيحه برقم 375) 2/99 ، وأبو داود الطيالسى فى مسنده برقم (2430) ص318 لأبى داود سليمان بن داود ، دار المعرفة ، بيروت
2. أخرجه البخارى فى كتاب الرقاق برقم (6499) 11/343 .
3. أخرجه أحمد فى المسند برقم (23119) وصححه الألبانى فى الصحيحه (9511) والطبرانى فى الكبير برقم (4301) وفى صحيح الجامع برقم (1551) .
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن يسير الرياء شرك " (1) . وعن شداد بن أوس - رضي الله عنه - ، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية ، قال : قلت يا رسول الله : أتشرك أمتك من بعدك ؟ قال : نعم ، أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ، ولا وثنا ولكن يراءون بأعمالهم ، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائما ، فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه " (2) .
صدق الله العظيم الرياء فى الاصطلاح الصوفى :(11/34)
الرياء فى الاصطلاح الصوفى يرد على معنى طلب المنزلة فى قلوب الناس بإظهار الخصال المحمودة ، نقل عن الفضيل بن عياض (ت:187هـ) أنه قال : ( خير العمل أخفاه ، وأمنعه من الشيطان أبعده من الرياء ) (3) ، وروى عن بشر بن الحارث الحافى (ت:227هـ) أنه قال للسرى السقطى : ( إن الله تعالى خلقك حرا فكن كما خلقك لا ترائى أهلك فى الحضر ولا رفقتك فى السفر اعمل لله ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه ابن ماجة فى كتاب الفتن برقم (3989) وقال الألبانى : ضعيف 2/1320 وقال الحاكم فى المستدرك على الصحيحين : صحيح (4) 1/44 .
2. أخرجه أحمد فى المسند برقم (16671) وفى سنده زيد بن الحباب ، وهو صدوق انظر فى ترجمته تذكرة الحفاظ (338) 1/350 ، ولسان الميزان (2022) 2/503 وتهذيب الكمال رقم (2095) 10/40 .
3. طبقات الصوفية ص13 .
ودع عنك الناس ) (1) ، ويذكر لحاتم الأصم (ت:237هـ) : ( المنافق ما أخذ من الدنيا يأخذ بالحرص ، ويمنع بالشك وينفق بالرياء ، والمؤمن يأخذ بالخوف ويمسك بالسنة ، وينفق لله خالصا فى الطاعة ) (2) .(11/35)
قال أبو القاسم القشيرى (ت:465هـ) : ( المختال الذى ينظر إلى نفسه والمرائى الذى ينظر إلى أبناء جنسه ، وكلاهما موسومان بالشرك الخفى ، والله لا يحب المشركين ، والفخور من الإبل كالمصراة من الغنم ، وهو الذى سدت أخلافه ليجتمع فيها الدر ، فيتوهم المشترى أن جميع ذلك معتاد لها ، وليس كذلك ، فكذلك الذى يرى من نفسه حالا ورتبة وهو فى ذلك مدع ، هو الفخور والله لا يحبه ، وكذلك المرائى الذى ينفق ماله رئاء الناس ، قال تعالى : { وَالذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِاليَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا } [النساء /38] ، أدخل هؤلاء تحت قوله : { إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا } [النساء /36] ، فعقوبتهم فى العاجل أنهم ليسوا من جملة محبيه ، وكفى بذلك محنة ) (3) .
وقال عبد القادر الجيلانى (ت:561هـ) : ( المرائى ثوبه نظيف وقلبه نجس يزهد فى المباحات ، ويكسل عن الاكتساب ، ويأكل بدينه ولا يتورع جملة ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص 450 .
2. الطبقات ص95 .
3. لطائف الإشارات 1/333 .
ويأكل الحرام الصريح ، ويخفى أمره على العوام ، ولا يخفى على الخواص ، كل زهده وطاعته على ظاهره ، ظاهره عامر وباطنه خراب ) (1) .
وقد فصل الحارث بن أسد المحاسبى الرياء تفصيلا دقيقا ، معتمدا فى شرحه على الأصول القرآنية والنبوية ، وبين أنه على وجهين (2) :
أ- أحدهما أعظم وأشد ، وهو إرادة العبد العباد بطاعة الله عز وجل ، لا يريد الله بذلك .
ب- والثانى أدنى وأيسر وهو إرادة العباد بطاعة الله عز وجل ، وإرادة ثواب الله عز وجل يجتمعان فى القلب (3) .
ويحصى المحاسبى دواعى الرياء وأسباب هيجانه فى ثلاثة أمور :(11/36)
(1- حب المحمدة : وهو ما يجده العبد من نفسه ، أنه يحب أن يعلم العباد لطاعته لربه عز وجل ، فيوصل ويعطى ويثنى عليه ويعظم ، واستدل لذلك بما رواه أبو موسى الأشعرى - رضي الله عنه - ، أن أعرابيا سأل النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال : يارسول الله : " الرجل يقاتل حمية " ، ومعنى ذلك أنه يحمى فيأنف أن يقهر ، أو يذم لأنه غلب أو غلب قومه ، فيقاتل لذلك ، وقال : " الرجل يقاتل ليرى مكانه " ــــــــــــــــــــ
1. الفتح الربانى والفيض الرحمانى لعبد القادر الجيلانى ص31 .
2. الرعاية ص134 .
3. السابق ص136 ، وفى إدخاله إرادة العبد ثواب الله عز وجل فى الرياء نظر ، لأن إرادة الثواب مما أمر الله بإرادته وليس له فى قوله تعالى : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا } [الإنسان/9]دليل ، حيث قال : ( فنوا عن قلوبهم أن =
وهذا طلب الحمد بالقلب ومعرفة القدر " ورجل يقاتل للذكر " (1) ، وهذا طلب الحمد بالألسن .
(2- خوف المذمة والضعة فى الدنيا ، كمن تخلف عن الصف الأول فى القتال فلم يمكنه طلب الحمد على الشجاعة ، وأراد الانصراف لقلة رغبته فى الأجر أو جبن يمنعه من الانصراف أن يذم بالحبن ويسمى به ، فصار حبسه نفسه فى ذلك الموقف خوفا أن يذم ، ولولا ذلك لانصرف ، لأنه إذا خاف الهزيمة أو رأى كثرة القتل أحب أن يتنحى عن الصف ، أو يفر من العسكر والسرية فإذا خاف أن يقال : جبن حبس نفسه على المقام .
(3- الطمع لما فى أيدى الناس ، كمن يبره الناس بما يظهر من طاعة ربه ، أنه يوصل بالأموال ويهدى إليه الهديا وتقضى به الحوائج ، ويسارع إلى إقراضه المال ويوسع عليه فى طلب الدين ، وما أشبه ذلك (2) .
ــــــــــــــــــــ
= يريدوا مع الله خلقه ) فهم الذين قالوا بعد ذلك يطمعون فى ثواب الله والنجاة من عذابه { إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا } [الإنسان/10] .(11/37)
1. أخرجه البخارى (7020) 6/2714 عن أبي موسى الأشعرى - رضي الله عنه - بلفظ : " جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : الرجل يقاتل حمية ويقاتل شجاعة ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله قال : من قاتل لتكون كلمة الله هي الله العليا فهو في سبيل الله " ومسلم برقم (1904) 3/1512 .
2. السابق ص137 .
**********************************
73 - الزهد
**********************************
صدق الله العظيم الزهد : الزهيد الشئ القليل ، والزاهد فى الشئ الراغب عنه ، والراضى منه بالزهيد أى القليل ، وقد ورد الزهد فى قوله تعالى عن يوسف : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ } [يوسف/20] ، أى ارتضوا فى بيعه بالقليل (1) .
وورد الزهد أيضا فى السنة فى عدة روايات ، منها ما روى عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ، ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك ، أوثق مما في يدي الله ، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها ، أرغب فيها لو أنها أبقيت لك " (2) ، وعن علي - رضي الله عنه - ، قال : " قيل : يا رسول الله من يؤمر بعدك ؟ ، قال : إن تؤمروا أبا بكر - رضي الله عنه - تجدوه أمينا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة ، وإن تؤمروا عمر - رضي الله عنه - تجدوه قويا أمينا ، لا يخاف في الله لومة لائم ، وإن تؤمروا عليا - رضي الله عنه - ، ولا أراكم فاعلين تجدوه هاديا مهديا ، يأخذ بكم الطريق المستقيم " (3) ، وعن أبي خلاد ــــــــــــــــــــ
1. المفردات ص215 ، ولسان العرب 3/196 ، المغرب للمطرزى 1/375 .
2. أخرجه الترمذى فى كتاب الزهد برقم (2340) وقال الألبانى : ضعيف جدا 4/571 وابن ماجة فى كتاب الزهد برقم (4100) 2/1373 .(11/38)
3. أخرجه أحمد فى المسند برقم (861) وفيه عبد الحميد بن أبي جعفر وهو مجهول .
رضى الله عنه ، وكانت له صحبة ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا رأيتم الرجل قد أعطي زهدا في الدنيا وقلة منطق ، فاقتربوا منه فإنه يلقي الحكمة " (1) .
صدق الله العظيم الزهد فى الاصطلاح الصوفى :
الزهد فى الاصطلاح الصوفى مقام شريف ، وهو عندهم أساس الأحوال الرضية والمراتب السنية ، وهو أول قدم القاصدين إلى الله عز وجل ، والمنقطعين إلى الله ، والراضين عن الله ، والمتوكلين على الله تعالى ، فمن لم يحكم أساسه فى الزهد ، لم يصح له شئ مما بعده لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة ، والزهد فى الدنيا رأس كل خير وطاعة (2) .
روى عن الفضيل بن عياض (ت187هـ) : ( كان يقال : جعل الشر كله فى بيت ، وجعل مفتاحه الرغبة فى الدنيا ، وجعل الخير كله فى بيت ، وجعل مفتاحه الزهد فى الدنيا ) (3) ، ونقل عن أحمد بن أبى الحوارى (ت:230هـ) أنه قال : ( من نظر إلى الدنيا نظر إرادة وحب لها ، أخرج الله نور اليقين والزهد من قلبه ، فمن عرف الدنيا ، زهد فيها ، ومن عرف الآخرة رغب فيها ومن عرف الله آثر رضاه ، و إذا رأيت من قلبك قسوة ، فجالس الذاكرين ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه ابن ماجة فى كتاب الزهد برقم (4101) وقال الشيخ الألبانى رحمه الله : ضعيف 2/1373 .
2. اللمع ص72 .
3. طبقات الصوفية ص13 .
واصحب الزاهدين ، وأقلل مطعمك ، واجتنب مرادك ، وروض نفسك عن المكاره ) (1) ، وروى عن يحى بن معاذ الرازى (ت:258هـ) أنه قال : ( الدنيا كا لعروس ، ومن يطلبها ماشطها، والزاهد فيها يسخم وجهها وينتف شعرها ويخرق ثوبها ، والعارف مشتغل بالله لا يلتفت إليها ) (2) .(11/39)
ويذكر للجنيد بن محمد (ت:298هـ) أنه سئل عن الزهد ؟ فقال : ( تخلى الأيدى من الأملاك ، وتخلى القلوب من الطمع ) (3) وينسب لمحمد بن الفضل البلخى (ت:319هـ) أنه قال : ( الدنيا بطنك ، فبقدر زهدك فى بطنك زهدك فى الدنيا ) (4) ، وروى عن جعفر بن محمد الخلدى (ت:348هـ) أنه قال : ( من أراد أن يزهد ، فليزهد أولا فى الرياسة ، ثم ليزهد فى قدر نصيب نفسه ومراداتها ) (5) .
وينسب لعبد الله بن خفيف (ت:371هـ) أنه قال : ( علامة الزهد وجود الراحة فى الخروج عن الملك ، والزهد سلو القلب عن الأسباب ، ونفض الأيدى من الأملاك ) (6) ، ويقسم الكاشانى الزهد عند الصوفية إلى أنواع (7) :
ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص100 ، ص102 .
2. اللمع ص72 .
3. الرسالة القشيرية1/328 .
4. طبقات الصوفية ص214 .
5. السابق ص438 .
6. الرسالة القشيرية1/327 . 7. لطائف الإعلام 1/511:509 .
(1- زهد العامة : التنزه عن الشبهات بعد ترك الحرام ، حذرا عن المعتبة وأنفة عن الغصة كراهة مساواة الفساق .
(2- زهد أهل الإرادة : النزاهة عن الفضول ، بترك ما زاد عما يحصل به المسكة ، وبقاء الرمق بقدر البلاغ من القوت اغتناما للفراغ ، إلى عمارة الوقت والتحلى بحلية الأنبياء والصديقين .
(3- زهد خاصة الخاصة : هو إعراضهم عن كل ما سوى الله تعالى ، من الأغراض والأعراض الظاهرة أولا ، والباطنة ثانيا ، وعن كل ما هو غير ثالثا .
(4- الزهد فى الزهد : معناه استحقارك لما زهدت فيه ، ولهذا كان الزهد فى الدنيا سيئة فى نظر الخواص ، فإن ما سوى الحق تعالى ، أى شئ هو حتى يرغب فيه أو عنه ، ومن تحقق بهذا النظر ، استوت عنده الحادثات لتحققه شمول إرادة الحق لجميع المرادات ، ولقد أحسن القائل :
إذا زهدتنى فى الهوى خشية الردى : جلت لى عن وجه يزهد فى الزهد(11/40)
أى إذا زهدتنى فيما تهواه نفسى لخيفتى مما توعدنى ، فإنما ذلك حالى ما دمت غير ذاهب عن شهود الاكتساب بالشخوص إلى وادى الحقائق ، أما إذا جلت لى عن وجهها ، فرأيت شمول إرادتها لكل المرادات ، وجمعها لفرق الشتات ، زهدنى رؤية ذلك الوجه المتجلى ، عن الزهد فيما زهدت فيه ، وعن رؤية زهدى ، أو رؤيتى زاهدا لاضمحلال الكل فى أحدية الجمع عندما يتحقق الوصول بفناء الرسوم وتلاشى الغير فى العين (1) .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق 1/511 .
وهذه المعنى لا أصل له ولا يقول به إلا الحلولية وأصحاب الوحدة ولا يمثل رأى أوائل الصوفية ، وإنما الزهد الوارد فى القرآن والسنة ، زهد القلب فى الدنيا واعتبارها وسيلة إلى الآخرة ، وهذه الحقيقة القرآنية يعبر عنها أبو سعيد الخراز (ت:279هـ) بقوله?:
( لايكون العبد زاهدا مستكمل الزهد ، حتى يستوى عنده الحجارة والذهب عندها تخرج قيمة الأشياء من قلبه ، فمن ملك من أهل العمل والصدق شيئا من الدنيا ، فهو معتقد أن الشئ لله عز وجل ، لا له ، وأن الله خوله فيه ، وهو مبلى به ، حتى يقوم بالحق فيه ، فالنعمة بلاء ، حتى يقوم العبد بالشكر فيها ويستعين بها على طاعة الله ، وكذلك البلوى والضراء، ?اختبار وابتلاء حتى يصبر ، ويقوم بحق الله فيه ، فالأنبياء صلوات الله عليهم والصالحون من بعدهم الذين أشعرهم الله بأن أبلاهم فى الدنيا بالسعة وخولهم ، كانوا إلى الله عز وجل ساكنين لا إلى الشئ ، وكانوا خزانا لله جل ذكره ، فى الشئ الذى ملكهم ينفذونه فى حقوق الله تعالى غير مقصرين ، ولا مفرطين ، ولا متأولين على الله وكانوا غير متلذذين بما ملكوا ، ولا مشغولى القلوب بما ملكوا ، ولا مستأثرين به دون عباد الله ) (1)
ــــــــــــــــــــ(11/41)
1. انظر كتاب الصدق لأبى سعيد الخراز ص 43 ، ويشهد لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : "ما يسرنى أن لى مثل أحد ذهبا أنفقه فى سبيل الله تعالى ، تأتى على ثالثة يكون منه عندى شئ إلا دينار أرصده لدين على " حديث أخرجه البخارى فى كتاب الرقاق (6445) ومسلم فى كتاب الزكاة برقم (991) .
**********************************
74- السالك
**********************************
صدق الله العظيم السالك : السلوك النفاذ فى الطريق والذهاب فيه ، ويقال فى المحسوسات الدنيوية وغيرها (1) :
أ- فمن الأول قوله تعالى : { وَاللهُ جَعَل لكُمْ الأَرْضَ بِسَاطًا لتَسْلكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا } [نوح/20:19] ، وقوله : { الذِي جَعَل لكُمْ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلكَ لكُمْ فِيهَا سُبُلا } [طه/53] ، وعن أنس - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان في غزاة ، فقال : " إن أقواما بالمدينة خلفنا ، ما سلكنا شعبا ولا واديا ، إلا وهم معنا فيه ، حبسهم العذر " (2) ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر - رضي الله عنه - : " والذي نفسي يده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا ، إلا سلك فجا غير فجك " (3) ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس واديا ، وسلكت الأنصار واديا أو شعبا ، لسلكت وادي الأنصار ، أو شعب الأنصار " (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. المفردات 239 ، وانظر لسان العرب 10/442 ، وكتاب العين 5/311 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد برقم (2839) 6/101.
3. أخرجه البخارى فى كتاب بدء الخلق برقم (3294) 6/390 .
4. أخرجه البخارى فى كتاب التمنى برقم (7244) 13/238 .(11/42)
ب- ومن الثانى قوله تعالى : { كُل نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ اليَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلونَ عَنْ المُجْرِمِينَ مَا سَلكَكُمْ فِي سَقَر َ } [المدثر/42:38] وقوله سبحانه وتعالى عن الشرك : { كَذَلكَ نَسْلكُهُ فِي قُلوبِ المُجْرِمِين َ } [الحجر/12] وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لتتبعن سنن من قبلكم ، شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ، قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى؟ ، قال : فمن ؟ " (1) وقال - صلى الله عليه وسلم - ، لأبى هريرة - رضي الله عنه - : " اقعد فاشرب ، فقعدت فشربت ، فقال : اشرب ، فشربت ، فما زال يقول : اشرب حتى قلت : لا والذي بعثك بالحق ، ما أجد له مسلكا " (2) ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من سلك طريقا يلتمس فيه علما ، سهل الله له طريقا إلى الجنة " (3) .
صدق الله العظيم السالك فى الاصطلاح الصوفى :
السالك عند الصوفية ، هو السائر إلى الله المتنقل شيئا فشيئا فى مدارج الإيمان ومقامات اليقين ، وهو المتوسط بين المريد والمنتهى ، مادام فى السير (4) ، من باب تشبيه المعنويات بالمحسوسات ، وقد ورد مصطلح السالك فى ألفاظهم فى مواضع عديدة منها ، قول الكلاباذى (ت:380هـ) فى سبب تأليفه لكتابه ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب أحاديث الأنبياء برقم (3456) 6/571 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الرقاق برقم (6452) 11/287 .
3. أخرجه الترمذى فى كتاب العلم برقم (2646) وقال الألبانى : صحيح 5/28 .
4. معجم اصطلاحات الصوفية للكاشانى ص119 .(11/43)
التعرف : ( فدعانى ذلك إلى أن رسمت فى كتابى هذا وصف طريقتهم ، وبيان نحلتهم وسيرتهم ، من القول فى التوحيد والصفات ، وسائر ما يتصل به ، مما وقعت فيه الشبهة عند من لم يعرف مذاهبهم .. ويكون بيانا لمن أراد سلوك طريقه ، مفتقرا إلى الله تعالى فى بلوغ تحقيقه ) (1) .
وقال أبو القاسم القشيرى (ت:465هـ) : ( وعلي الشيخ أن يتلمذ لمن سلك طريق الله تعالى .. والتلمذة لمن سلك طريق الله سبحانه وتعالى ، تجعل السلوك فى طريق الله أقوى وأسرع ، أما من تتلمذ لمن لا يوثق فى علمه بهذا الطريق فقد تحجب .. وبعد ذلك يورد وردا آخر ، وخير وصف له أن من ذاقه من سالكى هذه الطريقة على سبيل الوهلة ، فإنه يموت ، وذلك من هيبة الحق سبحانه وعند هذا الورود يفنى العبد ولا يبقى منه شئ ) (2) .
ويذكر ضياء الدين السهروردى (ت:563هـ) أنه لا يصح لأحد أن يسلك طريق الصوفية ، حتى يعلم عقائدهم وآدابهم فى ظاهرهم وباطنهم واصطلاحاتهم فى كلماتهم ، ويفهم إطلاقاتهم فى محاوراتهم ، حتى يصح له أن يحذو حذوهم ويقفو أثرهم فى أفعالهم وأقوالهم ، فإنه من كثرة المدعين ، جهل حال المحققين وفساد المفسدين الفاسدين إليهم يعود ، ولا يقدح فى صلاح الصالحين (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. التعرف لمذهب أهل التصوف ص28 .
2. طريق الله تعالى لعبد الكريم القشيرى ص25 ، ص28 .
3. آداب المريدين ص15 .
وقال محى الدين بن عربى (ت:638هـ) : ( السالك هو الذى مشى على المقامات بحاله لا بعلمه ، فكان العلم له عينا ) (1) .
وسئل ابن عباد النفرى شيخ الصوفية فى عصره ( ت:792هـ) : هل على السالك إلى الله تعالى أن يتخذ لزاما ، شيخ طريقة وتربية يسلك على يديه ؟ أم يسوغ له أن يكون سلوكه إلى الله تعالى من طريق التعلم والتلقى من أهل العلم دون أن يكون له شيخ طريقة ؟ ، فقال :(11/44)
المرجوع إليه فى السلوك ينقسم إلى قسمين : شيخ تعليم وتربية وشيخ تعليم بلا تربية ، فشيخ التربية ليس بضرورى لكل سالك ، وإنما يحتاج إليه من فيه بلادة ذهن واستعصاء نفس ، وأما من كان وافر العقل منقاد النفس ، فليس بلازم فى حقه ، وأما شيخ التعليم فهو لازم لكل سالك (2) .
وقد قسم ابن عربى السالكين أربعة أقسام بحسب رتبتهم فى العلم بالله (3) :
(1- السالك بنفسه : السالك بنفسه ، وهو المتقرب إلى ربه ابتداء بالفرائض ونوافل الخيرات الموجبين لمحبة الحق ، من أتى بهما لتحصيل المحبتين ، فهو يجهد فيما كلفه الحق ، ويبذل استطاعته وقوته فيما أمره به ربه .
(2- السالك بربه : فأما السالك الذى يسلك بربه ، فهو الذى يكون الحق ــــــــــــــــــــ
1. اصطلاحات الصوفية لابن عربى ص2 .
2. الرسائل الصغرى لابن عباد النفرى المطبعة الكاثوليكية ، بيروت 1957م ص106 .
3. الفتوحات 2/381 ، 382 .
سمعه وبصره وجميع قواه ، فإن عينه ثابتة فى العدم والحق سمعه وبصره .
(3- السالك بالمجموع : وأما السالك بالمجموع ، فهو السالك بعد أن ذاق كون الحق سمعه وبصره وعلم سلوكه أولا بنفسه على الجملة من غير شهود نفسه على التعيين ، فلما علم أن الحق سمعه وعلم أن السامع بالسمع ما هو عين السمع ، فكان بالعلم سالكا بالمجموع .
(4- سالك لا سالك : وأما القسم الرابع وهو سالك لا سالك ، فهو أنه رأى نفسه لم تستقل بالسلوك ما لم يكن الحق صفة لها ، ولا تستقل الصفة بالسلوك مالم تكن نفس المكلف موجودة ، ويكون كا لمحل لها فيبدو أنه سالك بالمجموع ، فإذا تبين له أنه بالمجموع ظهر السلوك بان له أن المظهر لا وجود له عينا ، وإن الظاهر تقيد بحكم استعداد المظهر ورأى الحق يقول : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمَى } [الأنفال/18] ، فمن وقف على هذا العلم من نفسه علم أنه سالك لا سالك .(11/45)
ويذكر الكاشانى أن السالك هو الذى يسير فى طريق الله حتى يبلغ المقصود ويجعل السالكين على أربع حالات (1) :
1- المجذوب : فإذا وهب الحق سبحانه وتعالى عبدا جذبة ، فاتجه بقلبه إلى الله وتجرد عن جميع العلائق دفعة واحدة ، ووصل إلى مرتبة العشق ، فإنه يسمى مجذوبا إذا بقى فى هذه المرتبة ، وهذا لا يصلح أن يكون شيخا وإماما .
ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام 2/8:7 .
2- المجذوب السالك : وذلك إذا رجع ثانية ، واطلع على حقيقة نفسه وسلك طريق الله يسمونه المجذوب السالك ، وهذا يصلح أن يكون شيخا وإماما .
3- السالك المجذوب : ويكون إذا سلك الطريق الأول وأتمه ، ثم وصلته جذبة الحق يسمونه السالك المجذوب ، وهذا أيضا يصلح أن يكون شيخا وإماما .
4- السالك : وذلك إذا سلك الطريق ، ولم تصله جذبة الحق يسمونه السالك وهذا لا يصلح أن يكون شيخا وإماما (1) .
**********************************
75 - الستر
**********************************
صدق الله العظيم الستر : تغطية الشئ وإخفاؤه ، والستر والسترة ما يستتر به ، ويستخدم الستر فى المحسوسات وغيرها (2) :
أ- فمن النوع الأول ، قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا بَلغَ مَطْلعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلعُ عَلى قَوْمٍ لمْ نَجْعَل لهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا } [الكهف/90] ، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، قال : " اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، في المسجد فسمعهم يجهروا بالقراءة ــــــــــــــــــــ
1. انظر للمقارنة والتوسع فى مصطلح السلوك ، رسالة دكتوراه بعنوان السلوك عن الحكيم الترمذى ومصادره من السنة النبوية ، إعداد أحمد عبد الرحيم السايح ، مخطوط بمكتبة كلية أصول الدين جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة سنة 1986م .
2. لسان العرب 4/343 ، والمفردات ص223 ، وكتاب العين 7/236.(11/46)
وهو في قبة له ، فكشف الستور ، وقال : ألا كلكم مناج ربه ، فلا يؤذين بعضكم بعضا ، ولا يرفعن بعضكم على بعض في القراءة ، " (1) ، وقال عطاء بن أبى رباح : لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام نقضوه حتى بلغوا به الأرض ، فجعل ابن الزبير أعمدة فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه " (2) .
وعن سعيد بن المسيب " أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، قضى في المرأة إذا تزوجها الرجل ، أنه إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق " (3) ، وعن عائشة رضى الله عنها قالت : " قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر ، وَقَدْ سَتَّرْتُ عَلى بَابِي دُرْنُوكًا فِيهِ الخَيْل ذَوَاتُ الأَجْنِحَةِ ، فَأَمرَنِي فَنَزَعْتُهُ " (4) ، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : " إذا أراد أن يمر بينك وبين سترتك أحد فاردده ، فإن أبى فادفعه ، فإن أبى فقاتله ، فإنما هو شيطان?" (5) .
ب- ومن الثانى ، قوله تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذِينَ لا ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه أحمد (11486) واللفظ له ، وأبو داود فى الصلاة برقم (1332) 2/38 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب الحج برقم (1333) 2/970.
3. صحيح الإسناد إلى سعيد بن المسيب أخرجه مالك فى الموطأ النكاح (1121) .
4. أخرجه مسلم فى كتاب اللباس والزينة برقم (2107) 3/1666 ، والدُرْنُوكً ستر رقيق فيه تصاوير .
5. أخرجه أحمد فى المسند برقم (11146) واللفظ له ، وأخرجه البخارى فى كتاب الصلاة برقم (509) .(11/47)
يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } [الإسراء/45] ، وقوله : { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَليْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلودُكُمْ } [فصلت/22] ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : " إن الله يدني المؤمن ، فيضع عليه كنفه ويستره ، فيقول : أتعرف ذنب كذا ؟ ، أتعرف ذنب كذا ؟ فيقول : نعم أي رب ، حتى إذا قرره بذنوبه ، ورأى في نفسه أنه هلك قال : سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم ، فيعطى كتاب حسناته وأما الكافر والمنافقون ، فيقول الأشهاد : { هَؤُلاءِ الذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لعْنَةُ اللهِ عَلى الظَّالمِينَ } [هود/18] " (1) وعنه أيضا - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال : " المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يسلمه ، ومن كان في حاجة أخيه ، كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة " (2) ، ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الخيل لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر .. ورجل ربطها تغنيا وتعففا ، ثم لم ينس حق الله في رقابها ، ولا ظهورها فهي لذلك ستر .." (3) ، وعنه أيضا - رضي الله عنه - ، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : " كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب المظالم والغصب برقم (2441) 6/550 .
2. أخرجه البخارى فى الموضع السابق (2442) 6/550 .
3.أخرجه البخارى فى كتاب المساقاة برقم (2371) 6/470 .(11/48)
ثم يصبح وقد ستره الله عليه ، فيقول : يا فلان عملت البارحة كذا وكذا ، وقد بات يستره ربه ، ويصبح يكشف ستر الله عنه " (1) ، وعن أبي المليح الهذلي أن نسوة من أهل حمص استأذن على عائشة ، فقالت : " لعلكن من اللواتي يدخلن الحمامات ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : أيما امرأة وضعت ثيابها ، في غير بيت زوجها ، فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله " (2) .
صدق الله العظيم الستر فى الاصطلاح الصوفى :
الستر فى الاصطلاح الصوفى يساوى الحجاب فى المعنى (3) ، والستر فى عرفهم يضاد التجلى ، فالعوام فى غطاء الستر ، والخواص فى دوام التجلى ، وصاحب الستر بوصف شهوده ، وصاحب التجلى أبدا بنعت خشوعه ، والستر للعوام عقوبة ، وللخواص رحمة ، إذ لولا أنه يستر عليهم ما يكاشفهم به ، لتلاشوا عند سلطان الحقيقة ، ولكنه كما يظهر لهم يستر عليهم (4) .
ونرى للسرى السقطى (ت:251هـ) موقفا متقابلا ، من استتار الفاعلية الإلهية بحجاب الأسباب ، فمرة يقول فى دعائه : ( اللهم الطف بنا واسترنا ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الأدب برقم (6069) 10/501 .
2. أخرجه ابن ماجة فى كتاب الأدب برقم (3750) وقال الشيخ الألبانى : صحيح وأحمد فى المسند برقم (24186) والطبرانى فى المعجم الكبير برقم (179) 25/73 .
3. انظر مصطلح الحجاب .
4. الرسالة القشيرية 1/244 .
بلطف الحجاب ) (1) ، ومرة أخرى يقول : ( اللهم مهما عذبتنى بشئ ، فلا تعذبنى بذل الحجاب ) (2) ، وليس هذا من قبيل التناقض ، ولكنه يقصد بالأمرين أن ينعم مرة بشهود الربوبية ، ومرة يسأل الله التخفيف بستر الأسباب حتى يستمر في حياته ليرعى شئون نفسه ، لأنه لو ظل مشاهدا له وراء كل شىء يسبح الله حقيقة ، استحال عليه أن يفعل الضروريات ، أو يفكر فى صلاح معيشته .(11/49)
وقال الكلاباذى (ت:380هـ) : ( الاستتار أن تكون البشرية حائلة بينك وبين شهود الغيب ، والاستتار الذى يعقب التجلى ، هو أن تستتر الأشياء عنك فلا تشاهدها ، كقول عبد الله بن عمر الذى سلم عليه وهو فى الطواف ، فلم يرد عليه فشكاه ، فقال : إنا كنا نتراءى الله فى ذلك المكان ، أخبر عن تجلى الحق له بقوله : كنا نتراءى الله واخبر عن الاستتار بغيبته عن التسليم عليه (3) .
وللقشيرى (ت:465هـ) معنى يقرب من رأى أبى بكر الكلاباذى فيقول : ( إنما قال الحق تعالى لموسى - عليه السلام - : { وَمَا تِلكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى } [طه/17] ليستر عليه ما يعلل به بعض ما أثر فيه من المكاشفة بفجأة السماع ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إنه ليغان على قلبى ، حتى أستغفر الله فى اليوم سبعين مرة ) (4) ، والاستغفار طلب ــــــــــــــــــــ
1. حلية الأولياء 10/120، وانظر ختم الأولياء ص149.
2. طبقات الصوفية ص303 .
3. التعرف ص147 .
4. أخرجه مسلم فى كتاب الذكر والدعاء برقم (3702) .
الستر لأن الغفر هو الستر ، ومنه غفر الثوب والمغفرة وغيره ، فكأنه أخبر أنه يطلب الستر على قلبه عند سطوات الحقيقة ، إذ الخلق لا بقاء لهم مع وجود الحق (1) .(11/50)
ويذكر عبد الرزاق الكاشانى (ت:736هـ) معبرا عن فلسفته فى وحدة الوجود ، أن المشركين مستترون بحجاب الجهل وعمى القلب ، فلا يرون حقيقة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ويحسبونه هذه الصورة البشرية ، لكونهم بدنيين منغمسين فى بحر الهيولى ، محجوبين بالغواشى الطبيعية وملابس الصفات النفسانية عن الحق وصفاته وأفعاله ، إذ لو عرفوا الحق لعرفوا أنه هو - صلى الله عليه وسلم - ، ولو عرفوا صفات الله لعرفوا كلام محمد ، ولم يكن على قلوبهم أكنة من الغشاوات الطبيعية والهيئات البدنية ، وهذا هو المشار إليه فى قوله تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } [الإسراء/45] ) (2) .
وقال عبد الكريم الجيلى (ت:829هـ) : ( الستر منظر يتجلى الحق تعالى على العبد بتجل تستتر عنه سائر العوالم الكونية ، فلا يعلم للأكوان علما ، فهو كأحد عوام الناس فى الاطلاع على الأشياء لا يعلم ما تحت جنبيه ، وفى هذا قال سيد أهل الله تعالى : { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَل بِي وَلا بِكُمْ } [الأحزاب/9] (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة القشيرية 1/ ص244 .
2. تفسير القرآن الكريم منسوب لابن عربى 1/721:720 .
4. المناظر الإلهية ص204 .
ويذكر الكاشانى أن الستر كل ما سترك عما يفنيك ، ويطلق ويراد به غطاء الكون ، وقد يراد به الوقوف مع العادات ، وقد يراد به نتائج الأعمال ، وهناك اصطلاحان آخران حول معنى الستر ، الأول الستائر : وهى صور سرائر الآثار وسميت بالستائر ، لأن معانى الأسماء الذاتية تفهم من خلفها ، والثانى الستور : وهى الهياكل البدنية ، سميت بذلك لكونها مرخاة بين العوالم الغيبية الحقية والشهادية الخلقية (1) .
**********************************
76- السكر
**********************************(11/51)
صدق الله العظيم السكر : السكر حالة تذهب عقل الإنسان ، فلا يستطيع التمييز فيها بين الأشياء ، وأكثر ما يستعمل السكر فى الشراب (2) ، ومنه ما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : " لما نزلت { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } [النساء/43] فكان منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أقام الصلاة نادى أن لا يقربن الصلاة سكران " (3) ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام 2/12 .
2. المفردات ص226 ، ولسان العرب 4/372 .
3. أخرجه أحمد فى المسند برقم (380) واللفظ له ، وأخرجه الترمذى فى كتاب تفسير القرآن برقم (3049) ، والنسائى فى كتاب الأشربة برقم (5540) 8/286 ، وأبو داود فى كتاب الأشربة برقم (3670) 3/325 .
" إذا سكر فاجلدوه ، ثم إن سكر فاجلدوه ، ثم إن سكر فاجلدوه ، ثم قال في الرابعة : فاضربوا عنقه?" (1) ، ومن حديث أبى موسى الأشعرى - رضي الله عنه - ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كل ما أسكر عن الصلاة ، فهو حرام " (2) ، وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " (3) .(11/52)
وقد يكون السكر لذهاب العقل ، من غضب أو ألم أو فرط محبة ، كقوله تعالى : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } [ق/19] وكما روى عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يقول الله تعالى : يا آدم فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك ، فيقول : أخرج بعث النار ؟ قال : وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعين ، فعنده يشيب الصغير ، { وَتَضَعُ كُل ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ } [الحج/2] " (4) .
وعن عائشة رضى الله عنها قالت : " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يموت ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه النسائى فى كتاب الأشربة برقم (5662) وقال الألبانى : صحيح 8/313 وابن ماجه برقم (5272) 2/859 ، والدارمى برقم (2105) 2/156 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب الأشربة برقم (1733) 3/1586 .
3. أخرجه الترمذى فى كتاب الأشربة (1865) وقال الألبانى : حسن صحيح 4/292 وأبو داود برقم (3681) 3/327 .
4. أخرجه البخارى فى كتاب أحاديث الأنبياء برقم (3348) 6/440 .
وعنده قدح فيه ماء ، فيدخل يده في القدح ، ثم يمسح وجهه بالماء ، ثم يقول : اللهم أعني على سكرات الموت " (1) .
والسَّكَر اسم لما يكون منه السُّكر قال تعالى : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيل وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } [النحل/67] .
صدق الله العظيم السكر فى الاصطلاح الصوفى :(11/53)
السكر فى الاصطلاح الصوفى غيبة بوارد قوى ، والسكر زيادة عن الغيبة من وجه ، وذلك أن صاحب السكر ، قد يكون مبسوطا إذا لم يكن مستوفى فى حال سكره ، وقد يسقط إخطار الأشياء عن قلبه فى حال سكره ، وتلك حال المتساكر الذى لم يستوفه الوارد ، فيكون للإحساس فيه مساغ ، وقد يقوى سكره حتى يزيد على الغيبة ، فربما يكون صاحب السكر أشد غيبة من صاحب الغيبة إذ قوى سكره ، وربما يكون صاحب الغيبة أتم فى الغيبة من صاحب السكر إذا كان متساكرا غير مستوف ، والغيبة قد تكون للعباد بما يغلب على قلوبهم من موجب الرغبة والرهبة ، ومقتضيات الخوف والرجاء ، والسكر عندهم لا يكون إلا لأصحاب المواجيد (2) .
روى عن أبى بكر الواسطى (ت:بعد320هـ) أنه قال : ( مقامات الوجد أربعة ، الذهول ثم الحيرة ثم السكر ثم الصحو ، كمن سمع بالبحر ثم دنا منه ثم دخل فيه ثم أخذته الأمواج ) (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه ابن ماجة فى كتاب الجنائز برقم (1623) وقال الألبانى : ضعيف 1/519 .
2. الرسالة القشيرية 1/23 . 3. عوارف المعارف للسهروردى ص527 .
وقال عبد الله بن خفيف الشيرازى (ت:371هـ) : ( السكر غليان القلب عند معارضات ذكر المحبوب ) (1) ، وقال أيضا : ( السكر للمريدين حق وللعارفين باطل ، وغلبات الحق على سائر الخلق جائزة ، والأحوال للمتوسطين والمقامات للعارفين ، والشدة للمريدين ، والصحو أفضل من السكر ) (2) .
ويفرق السراج الطوسى (ت:378هـ) بين السكر والغشية ، فيقول : ( الفرق بين السكر والغشية ، أن السكر ليس نشأته من الطبع ، لا يتغير عند وروده الطبع والحواس ، والغشية نشأتها ممزوجة بالطبع تتغير عند ورودها الطبع والحواس ، وتنتقض منها الطهارة ، والغشية لا تدوم والسكر يدوم ) (3) .(11/54)
ويذكر الكلاباذى (ت:380هـ) أن السكر هو أن يغيب عنه تميز الأشياء ولا يغيب عن الأشياء ، وهو أن لا يميز بين مرافقه وملاذه ، وبين أضدادها فى مرافقة الحق ، فإن غايات وجود الحق تسقطه عن التميز بين ما يؤلمه ويلذه والصاحى الذى نعته قبل نعت السكر ، ربما يختار الآلام على الملاذ ، لرؤية ثواب أو مطالعة عوض ، وهو متألم فى الآلام ، ومتلذذ فى الملاذ ، فهو نعت الصحو والسكر ) (4) .
ــــــــــــــــــــ
1. سيرة الشيخ الكبير أبى عبد الله بن خفيف الشيرازى ص 320 ، وانظر طبقات الصوفية ص464 ، وحلية الأولياء 10/386 .
2. السابق ص362 .
3. اللمع ص417 .
4. التعرف ص116 .
وقال أبو القاسم القشيرى (ت:465هـ) : ( اعلم أن الصحوة على حسب السكر ، فمن كان سكره بحق كان صحوه بحق ، ومن كان سكره بحظ مشوبا كان صحوه بحظ مصحوبا ، ومن كان محقا فى حاله كان محفوظا فى سكره قال تعالى : { فَلمَّا تَجَلى رَبُّهُ للجَبَل جَعَلهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } [الأعراف/143] هذا مع رسالته وجلالة قدره خر صعقا ، وهذا مع صلابته وقوته ، صار دكا متكسرا ) (1) .
ويذكر ابن عربى أن من أسكره الشهود فلا صحو له البتة ، وكل حال لا يورث طربا وبسطا ، وإدلالا وإفشاء أسرار إلهية ، فليس بسكر ، وإنما هو غيبة أو فناء أو محق ، كما أنه يجعل السكر على مراتب (2) :
(1- سكر طبيعى : وهو سكر المؤمنين ، وهو ما تجده النفوس من الطرب والالتذاذ والسرور والابتهاج بوارد الأمانى ،فإن له أثرا قويا فى القوة المتخيلة ، فالواقفون من أهل الله مع الخيال لهم هذا السكر الطبيعى .(11/55)
(2- السكر العقلى : وهو سكر العارفين ، وهو شبيه بالسكر الطبيعى فى رد الأمور إلى ما تقتضيه حقيقته ، لا إلى ما يقتضيه الأمر بنفسه ، ويأتى الخبر الإلهى عن الله لصاحب هذا المقام بنعوت المحدثات ، إنها نعت لله فيأبى قبولها على هذا الوجه ، لأنه فى سكرة دليله وبرهانه ، فيرد ذلك الخبر لما ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة 1/237 ، 238 .
2. فصوص الحكم 2/ 544 .
يقتضيه نظره مع جهله بذات الحق ، فإذا صحا هذا العاقل عن سكره بالإيمان لم يرد الخبر الصدق ، فهذا سكر عقلى .
(3- سكر الكمل : وهو سكر المنتهين من الرجال ، وهو السكر الإلهى الذى قال فيه رسول الله : ( اللهم زدنى فيك تحيرا ) (1) ، والسكران حيران فالسكر الإلهى إبتهاج وسرور بالكمال (2) .
ــــــــــــــــــــ
1. ليس بحديث ولكنه من اختلاق ابن عربى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا شأن كثير من الصوفية ، وخصوصا من كان منهم معتقدا لفكر ابن عربى أو مصححا له ، لا يتورعون فى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعون أن هذه الأحاديث صحت عندهم من باب الكشف ، فهم لا يعتبرون طريقة المحدثين فى إثبات ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .(11/56)
2. يجب التنبه على أن جميع ما ورد فى مصطلح السكر من أقوال ومعان صوفية لا أصل لها فى الكتاب والسنة ، إلا ما ذكر من أنه غيبة بوارد قوى ، من سماع آية مؤثرة أو حديث يذكر الإنسان بربه أو بجنته وناره ، قد تذهب عقل الإنسان ويشبه وقتها السكران ، وربما يفيق منها أو يموت بسببها ، كما حدث لعبد الله بن وهب حيث خر مغشيا عليه عندما قرئ عليه من آيات وأحاديث الأهوال ، فحملوه وأدخلوه الدار فلم يزل مريضا حتى توفي ، رواه الحاكم فى المستدرك برقم (8711) 4/617 ، وانظر تهذيب التهذيب 6/66 ، من أجل هذا أورت مصطلح السكر فى هذا الباب ، أما ما ذكره ابن عربى من السكر الطبيعى والعقلى وسكر الكمل ، وتقسيم غيره للسكر والغيبة والغشية ، وجعل هذا للمريدين وهذا للعارفين وأمثال ذلك من التقسيمات الهمجية ، فلا تشهد لها أصول قرآنية أو نبوية .
**********************************
77 - السكينة
**********************************
صدق الله العظيم السكينة : السكينة ضد الحركة والسكينة والسكن واحد ، قال الله تعالى : { أَوَلمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْل مَا لكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الذِينَ ظَلمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لكُمْ كَيْفَ فَعَلنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لكُمْ الأَمْثَال } [إبراهيم/45] والسكينة تطلق ويراد بها عدة أمور (1) :
1- السكينة الاطمئنان والوقار والهدوء ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا أقيمت الصلاة ، فلا تأتوها تسعون ، وأتوها تمشون عليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا " (2) ، وعن الفضل بن عباس - رضي الله عنه - ، وكان رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا : " عليكم السكينة ، وهو كاف ناقته " (3) .(11/57)
2- السكينة ما يزول به الخلاف ويجمع عليه القلوب ، كقوله تعالى : { إِنَّ آيَةَ مُلكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } [البقرة/248] ، وقوله سبحانه : ــــــــــــــــــــ
1. لسان العرب 13/211 ، والمغرب للمطرزى 1/405 ، والمفردات ص237 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الجمعة برقم (908) 2/453 .
3. أخرجه النسائى فى كتاب مناسك الحج (3020) واللفظ له وقال الشيخ الألبانى : صحيح 5/258 ، ومسلم برقم (1282) 2/931 ، والدارمى برقم (1891) 2/84 .
{ خُذْ مِنْ أَمْوَالهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَل عَليْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لهُمْ } [التوبة/103] .
3- السكينة ما يزول به الفزع والرعب ، كقوله تعالى : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَليْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَليْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَل اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولهِ وَعَلى المُؤْمِنِين َ } [التوبة/26:25] وقوله : { هُوَ الذِي أَنْزَل السَّكِينَةَ فِي قُلوبِ المُؤْمِنِينَ } [الفتح/4] .
4- السكينة الرحمة التى تنزل بها الملائكة ، فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - ، قرأ رجل الكهف ، وفي الدار الدابة ، فجعلت تنفر ، فسلم ، فإذا ضبابة أو سحابة غشيته فذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " اقرأ فلان فإنها السكينة نزلت للقرآن " (1) ، وعن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما ، أنهما شهدا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل ، إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده " (2) .
صدق الله العظيم السكينة فى الاصطلاح الصوفى :(11/58)
السكينة فى الاصطلاح الصوفى ، تطلق على ما يطمئن القلب ، ويؤدى إلى سكون النفس مما يرد على المؤمن من أنوار الحق ومراتب اليقين ، قال الحكيم الترمذى (ت:320هـ) : ( السكينة سكون القلب ، وطمأنينته إلى الواردات ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب المناقب برقم (3614) 6/719 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب الذكر برقم (2700) 4/2074 .
التى من الله إلى أوليائه ، وهى عندهم دليل الولاية ، كما أن المعجزات دليل النبوة كما قال تعالى : { إِنَّ آيَةَ مُلكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } [البقرة/248] ، وفعلها السلطان والغلبة على من اعترض عليه ، وضدها الحيرة والاضطراب ) (1) .
وقال أبو القاسم القشيرى (ت:465هـ) فى تعريفها : ( السكينة ما يسكن إليه القلب من البصائر والحجج ، فيرتقى القلب بوجودها عن حد الفكرة إلى روح اليقين وثلج الفؤاد ، فتصير العلوم ضرورية ، وهذا للخواص فأما عوام المسلمين ، فالمراد منها السكون والطمأنينة واليقين ، قال تعالى : { هُوَ الذِي أَنْزَل السَّكِينَةَ فِي قُلوبِ المُؤْمِنِينَ ليَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } [الفتح/4] ) (2) .
ويقول ابن عربى (ت:638هـ) : ( السكينة نور فى القلب يسكن به إلى شاهده ويطمئن ، وهو من مبادئ عين اليقين بعد علم اليقين ، كأنه وجدان يقينى معه لذة وسرور ) (3) .
ويذكر عبد الرزاق الكاشانى (ت:736هـ) أن السكينه فعيلة من السكون الذى هو وقار ، لا الذى هو فقد الحركة ، وهى فى هذه الطريق عبارة عما تجده النفس من الطمأنينة عند تنزل الغيب ، وربما عرفوها بحدود أخرى مثل :
ــــــــــــــــــــ
1. انظر ختم الأولياء ص181 ، وانظر أيضا ص335 ، 347 ، 390 ، 262 : 263 .
2. لطائف الإشارات 3/419 .
3. تفسير القرآن الكريم لابن عربى 2/507 .
1- السكينة : خلسة لذيذة تثبت زمانا ، أو خلسات مثالية لا تنقطع حينا من الزمان .(11/59)
2- السكينة : سكون النفس تحت ورود الهواجم .
3- السكينة : كمال الطمأنينة بوعد الحق .
4- السكينة : الحق سبحانه فإنه هو الصدق الذى يجب على النفس الاتصاف بالسكون إليه على وجه المبالغة المعبر عنها بالسكينة (1) .
**********************************
78- السماع
**********************************
صدق الله العظيم السماع : ما سمعت به فشاع ، السمع يراد به عدة أمور (2) :
1- وصف للإنسان ويعنى قوة فى الأذن به يدرك الأصوات على كيفية معلومة نحو قوله تعالى : { أَمْ لهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } [الأعراف/195] ، ونحو : { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } [الأنعام/25] ، وقوله : { خَتَمَ اللهُ عَلى قُلوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } [البقرة/7] .
2- السمع فعل آلة السمع وإدراكها نحو : { إِنَّ فِي ذَلكَ لذِكْرَى لمَنْ كَانَ لهُ قَلبٌ أَوْ أَلقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } [ق/37] ، وقوله : { لوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام 2/25 .
2. كتاب العين 1/348 ، المفردات ص242 ، لسان العرب 8/162.
المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا } [النور/12] ، وعن سعد بن أبى وقاص - رضي الله عنه - قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من ادعى إلى غير أبيه ، وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ، فذكرته لأبي بكرة ، فقال : وأنا سمعته أذناي ، ووعاه قلبي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) ، وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ، قال رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيف لي أن أعلم إذا أحسنت وإذا أسأت ؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا سمعت جيرانك يقولون : أن قد أحسنت فقد أحسنت ، وإذا سمعتهم يقولون :?قد أسأت ، فقد أسأت " (2) .(11/60)
3- السمع بمعنى المسموع ،نحو قول الله تعالى : { إِنَّهُمْ عَنْ السَّمْعِ لمَعْزُولونَ } [الشعراء/212] ، وعن عائشة رضي الله عنها ، أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الملائكة تنزل في العنان ، وهو السحاب ، فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع ، فتسمعه فتوحيه إلى الكهان ، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم " (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الفرائض برقم (6767) 12/ 55 ، ومسلم فى كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم (634) .
2. أخرجه ابن ماجة فى كتاب الزهد برقم (4223) وقال الشيخ الألبانى : صحيح وأخرجه ابن حبان فى صحيحه برقم (526) 2/285 ، والبيهقى فى السنن الكبرى برقم (20184) 10/125 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب بدء الخلق برقم (3210) 6/350 .
4- السمع بمعنى الاستجابة والطاعة ، كما روى عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن ، وحنى جبهته وأصغى السمع متى يؤمر ، قال : فسمع ذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فشق عليهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل " (1) ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بالمعصية ، فإذا أمر بمعصية ، فلا سمع ولا طاعة " (2) ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "عليك السمع والطاعة ، في عسرك ويسرك ، ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك ) (3) .(11/61)
5- السمع وصف لله عز وجل بكيفية يعلمها الله ، وليس كمثله شئ فيها نحو قوله تعالى : { ليْسَ كَمِثْلهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى/11] ، وقوله سبحانه : { قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْل التِي تُجَادِلكَ فِي زَوْجِهَا } [المجادلة/1] ، وقوله تعالى : { لقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْل الذِينَ قَالوا } [آل عمران/181] ، وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : " اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي ، أو قرشيان وثقفي كثيرة شحم بطونهم ، قليلة فقه قلوبهم ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه أحمد فى المسند (18858) واللفظ له ، والترمذى فى كتاب تفسير القرآن برقم (3243) 5/372 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد برقم (2955) 6/135.
3. أخرجه مسلم فى كتاب الإمارة برقم (1836) 3/1467.
نقول ؟ ، قال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا ، وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا ، فإنه يسمع إذا أخفينا ، فنزلت : { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَليْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلودُكُمْ } [فصلت/22] (1) .
صدق الله العظيم السماع فى الاصطلاح الصوفى :
السماع فى الاصطلاح الصوفى سماع القرآن أو قصائد الشعر بنغمة طيبة موافقة للطبائع ، تؤثر فى المستمعين إلى درجة الصعق والبكاء والغشية ، وما شابه ذلك من ألوان التأثر ، ويستدلون لذلك بقوله تعالى : { الذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْل فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [الزمر/17] ، وغير ذلك من الآيات ، ولهم فى ذلك شروط متعددة منها (2) :
ألا يطلبه الإنسان إلا إذا جاء من نفسه .
ألا يكون عادة وأن يستعمل قليلا حتى لا يمل منه الإنسان .
أن يكون بحضور أحد المرشدين .
أن يكون المكان خاليا من العامة .
أن يكون القوال رجلا محترما .
أن يكون الحضور غير مائلين إلى الترف .(11/62)
أن يطرح جانبا كل تكلف وأن لا يزيد فى حركاته حتى تقهره قوة السمع ، فإذا تسلطت عليه لا يلزمه مقاومتها بل يلزمه متابعتها .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب التوحيدبرقم (7521) 13/405 .
2. كشف المحجوب ص505 ، واللمع ص338 .
إذا اشتدت قوة السماع يلزمه أن يضطرب ، وإذا سكنت يلزمه أن يسكن .
أن يكون عنده قوة إدراك ، يقبل بها وارد الحق فيقدره حق قدره فإذا سطعت قوته على القلب لا يلزم مقاومته ، فإذا انقطع الوارد يلزم أن لا يجتهد فى إرجاعه .
ألا ينتظر مساعدة من الغير أو يرفضها .
ألا يشغل أخاه المشتغل بالسماع لسؤاله عن معنى هذا أو ذاك لأن مثل هذا العمل مضر بالسماع .
أن يفرغ القلب من الاشتغال بالدنيا .
والسماع الذى له أصل فى الكتاب والسنة ، سماع القرآن بإصغاء ، أو سماع القول الحسن من المواعظ ، أو إلقاء العلم ، أو النصح للآخرين ، لقوله تعالى : { فَبَشِّرْ عِبَادِي الذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْل فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلئِكَ الذِينَ هَدَاهُمْ اللهُ وَأُوْلئِكَ هُمْ أُوْلوا الأَلبَابِ ? } [الزمر/18:17] ، ولما ثبت من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ، قال : " قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، اقرأ علي القرآن ، قال : فقلت يا رسول الله : أقرأ عليك ، وعليك أنزل ، قال : إني أشتهي أن أسمعه من غيري فقرأت النساء حتى إذا بلغت : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُل أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } [النساء/41] ، رفعت رأسي ، أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي ، فرأيت دموعه تسيل " (1) .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى برقم (4306) 4/1673 ، ومسلم برقم (800) 1/551 .(11/63)
أما هذه الشروط ، فقد أسفرت بعفوية عما نراه من بدع السماع المنتشر فى الموالد وعند القبور ، مما أخرج السماع عن حده القرآنى والنبوى ، وقد روي عن ذو النون المصرى (ت:248هـ) وقد سئل عن السماع ؟ فقال : ( وارد حق يزعج القلوب إلى الحق ، فمن أصغى إليه بحق تحقق ، ومن أصغى إليه بنفس تذندق ) (1) .
ويذكر أن الجنيد (ت:289هـ) سئل : ما بال الإنسان يكون هادئا ، فإذا سمع السماع اضطرب ؟ فقال : إن الله تعالى لما خاطب الذر فى الميثاق الأول بقوله تعالى : { أَلسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف/172] استفزعت عذوبة سماع الكلام الأرواح ، فلما سمعوا السماع حركهم ذكر ذلك ) (2) وهذا الكلام باطل لأنه لا دليل عليه ، ونقل عن أبى بكر الكتانى (ت:322هـ) أنه قال : ( سماع العوام على متابعة الطبع ، وسماع المريدين رغبة ورهبة وسماع الأولياء رؤية الآلام والنعم ، وسماع العارفين على المشاهدة ، وسماع أهل الحقيقة على الكشف والعيان ولكل واحد من هؤلاء مصدر ومقام ) (3) .
وأجود من هذا ما يروى أن أبا بكر الشبلى (ت:334هـ) لما سئل عن السماع ؟ ، قال : ظاهره فتنة وباطنه عبرة ، فمن عرف الإشارة حل له استماع ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة القشيرية 2/645 .
2. طبقات الصوفية ص375 .
3. الرسالة القشيرية 2/645 .
العبرة ، وإلا فقد استدعى الفتنة وتعرض للبلية ) (1) ، وعن أبى على الدقاق (ت:410هـ) قال : ( السماع حرام على العوام لبقاء نفوسهم ، مباح للزهاد لحصول مجاهداتهم ، مستحب لأصحابنا لحياة قلوبهم ) (2) .
ويذكر الكاشانى أن السماع هو حقيقة الانتباه للكل بحسب نصيبه ، فهو حاد يحدو بكل أحد إلى وطنه ، أى يتنبه كل أحد منه إلى المقصود الخاص به كما يقسم السماع بلا دليل إلى أنواع عديدة ، أغلبها باطل لا أصل له فى القرآن أو السنة :
1- سماع العامة : وهو تنبيههم على امتثال الأمر .(11/64)
2- سماع الخاصة : شهودهم الحق تعالى فى كل مسموع ومبصور لأنهم لا يسمعون إلا بالحق وفى الحق وللحق ومن الحق .
3- السماع بالحق : هو سماع من لم تبق فيهم بقية من عالم النفس ، فهم يسمعون بقيومية الله تعالى مع طهارتهم من أرجاس النفوس .
4- السماع فى الحق : هو سماع من يشاهد ، جمعيته تعالى لكل كمال ، فهو لا يسمع شيئا من الكمالات منسوبة إلى غيره تعالى ، بل إليه سبحانه لتفرده بالكمال لذاته تعالى .
5- السماع للحق : هو سماع من يشهد بأن جميع ما يسمعه من الترغيب فى بذل النفس والعرض والمال وغير ذلك ، إنما هو مبذول للحق لا لشئ سواه .
ــــــــــــــــــــ
1. السابق 2/644 .
2. السابق 2/644 .
6- السماع من الحق : هو سماع من يأخذ الخطاب من الله تعالى ، أخذ الإبقاء بالمشروع ، وعلى الحد الجائز قبوله ، ومن الوجه الذى يسمع منه أهل الحقيقة ، وإليه أشار إليه سهل بن عبد الله بقوله : ( منذ ثلاثين سنة أسمع من الله ، والناس يظنون أنى أسمع منهم ) ، ولأجل أن سماعهم إنما هو من محبوبهم الحق تعالى أنشد قائلهم :
من كل معنى لطيف أستقى قدحا : وكل ناطقة فى الكون تطربنى
وذلك لأن سماعهم لما كان من المحبوب الحق ، صار الطرب حاصلا من كل ناطق ، وليس السماع مختصا بإنشاد الشعر بالألحان وبالسماع بها بل إنما هو اعتبارات يفهمها أهل السماع من السالكين ، ومعان يتمعنها أهل القلوب المشرقة بنور القرب من جناب القدس ، ولهذا تشغلهم تلك اللذات الروحانية الواصلة إلى أرواحهم عن لذات المحسوسات والموهومات والمعقولات .
7- سمع الحق : ويسمى عبد السميع ، ويعنى به من تحقق بمظهرية الاسم السميع ، ولهذا يسمع كلام الله من كل كائن ، إذ كانت الكائنات كلها إنما هى آثار ظاهرة عن القول الإلهى ، بموجب قوله : { كن } ولأنه لا ينقطع ذلك القول أبدا بحكم الإمداد مع الأنات .(11/65)
8- سمع العالم : وهو سمع الحق فإنه إنما كان سمع الحق لتحققه بمظهرية الإسم السميع ، فلهذا هو سمع العالم إذ لا سمع إلا بإسمه السميع تعالى (1) .
ــــــــــــــــــــ
1. لطائف الإعلام 2/28:26 .
**********************************
79 - الشاهد
**********************************
صدق الله العظيم الشاهد : ورد فى الكتاب والسنة على عدة معان :
1- الشاهد المراقب للحدث بحضوره فيه ، قال تعالى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالكُمْ فَإِنْ لمْ يَكُونَا رَجُليْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِل إِحْدَاهُمَا أَنْ تَضِل إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى } [البقرة/282] ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا ادعت المرأة طلاق زوجها ، فجاءت على ذلك بشاهد عدل ، استحلف زوجها ، فإن حلف بطلت شهادة الشاهد ، وإن نكل فنكوله بمنزلة شاهد آخر وجاز طلاقه ) (1) .
وعن أبي بكرة - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قعد على بعيره ، وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه ، قال : أي يوم هذا ؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه ، قال : أليس يوم النحر ؟ قلنا : بلى ، قال : فأي شهر?هذا ؟ ، فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، فقال : أليس بذي الحجة ؟ ، قلنا : بلى ، قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا في بلدكم هذا ، ليبلغ الشاهد الغائب ، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه ابن ماجة فى الطلاق برقم (2038) وقال الشيخ الألبانى : ضعيف.1/657 والدارقطنى فى سننه برقم (155) 4/64.
أوعى له منه?) (1) .(11/66)
2- الشهادة بمعنى الحكم والإعلام الإخبار ، نحو : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلهَا } [يوسف/26] وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } [الأحزاب/45] ونحو : { وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلمْنَا } [يوسف/81] أى ما أخبرنا .
3- الشهادة الإقرار ، نحو : { وَلمْ يَكُنْ لهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ } [النور/6] ، وقال تعالى : { مَا كَانَ للمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلى أَنفُسِهِمْ بِالكُفْرِ } [التوبة/17] أى مقرين ، وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : " كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك ، فقال : هل تدرون مم أضحك ؟ قال : قلنا الله ورسوله أعلم ، قال : من مخاطبة العبد ربه ، يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ قال يقول : بلى ، قال فيقول : فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني ، قال فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا ، قال : فيختم على فيه ، فيقال : لأركانه انطقي ، قال : فتنطق بأعماله ، قال : ثم يخلى بينه وبين الكلام ، قال : فيقول : بعدا لكن وسحقا ، فعنكن كنت أناضل " (2) .
3- والشهادة قد تتناول جميع ما تقدم ، كقوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم } [آل عمران/18] .
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب العلم برقم (67) 1/190 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب الزهد برقم (2969) 4/2280 .(11/67)
4- الشاهد بمعنى الكوكب ، فعن أبي بصرة الغفاري قال صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في واد من أوديتهم ، يقال له المخمص ، صلاة العصر ، فقال : إن هذه الصلاة صلاة العصر ، عرضت على الذين من قبلكم فضيعوها، ألا ومن صلاها ضعف له أجره مرتين ، ألا ولا صلاة بعدها حتى تروا الشاهد ، قلت لابن لهيعة ما الشاهد ؟ قال : الكوكب الأعراب ، يسمون الكوكب شاهد الليل ) (1) .
5- الشاهد يوم عرفة ، فعن أبي هريرة رضى الله عنه ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال في هذه الآية : { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } [البروج/3] ، يعني الشاهد يوم عرفة ، والمشهود يوم القيامة (2) ، والشهيد من قتل حاضرا فى المعركة مجاهدا فى سبيل الله ، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من عبد يموت ، له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا ، وأن له الدنيا وما فيها ، إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة ، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا ، فيقتل مرة أخرى " (3) .
صدق الله العظيم الشاهد فى الاصطلاح الصوفى :
الشاهد فى الاصطلاح الصوفى هو ما تعطيه المشاهدة من الأثر فى قلب المشاهد وهو على حقيقة ما يضبطه القلب من صورة المشهود (4) ، يروى عن الجنيد بن ــــــــــــــــــــ
1. صحيح بمعناه أحمد فى المسند برقم (26685) واللفظ له ، ومسلم فى كتاب صلاة المسافرين وقصرها برقم (830) .
2. أخرجه أحمد فى المسند برقم (7912) وهو حسن من طريق يونس بن عبيد وفيه أبو عمر عمار بن أبى عمار وهو صدوق .
3. أخرجه البخارى فى الجهاد برقم (2795) 6/18 . 4. لطائف الإعلام 2/35 .(11/68)
محمد (ت:298هـ) ، أنه سئل عن الشاهد ؟ ، فقال : ( الشاهد الحق فى ضميرك وأسرارك مطلع عليها ، والمشهود ما يشهده الشاهد ) (1) ، وعن أبى بكر الواسطى (ت:بعد320هـ) قال : ( الشاهد الحق ) (2) ، وروى عن أبى بكر الشبلى (ت:334هـ) أنه سئل عن المشاهدة ؟ فقال : ( من أين لنا مشاهدة الحق ؟ الحق لنا شاهد ) (3) .
وقال السراج الطوسى (ت:380هـ) : ( الشاهد ما يشهدك ، بما غاب عنك ، فيحضر قلبك لوجوده ) (4) ، وقال أبو القاسم القشيرى (ت:465هـ) فى تعريف الشاهد : ( الشاهد ما يكون حاضر قلب الإنسان ، وهو ما كان الغالب عليه ذكره ، حتى كأنه يراه ويبصره ، وإن كان غائبا عنه فكل ما يستولى على قلب صاحبه ذكره فهو يشاهده ) (5) .
**********************************
80 - الشريعة
**********************************
صدق الله العظيم الشريعة : شرع فى الأمر بدأ فيه ، وعن عائشة رضى الله عنها أنها أخبرت ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص415 .
2. السابق ص415 .
3. الرسالة القشيرية 1/268 .
4. اللمع ص415 .
5. الرسالة 1/268 .
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنها ، أنهما شرعا جميعا وهما جنب في إناء واحد?" (1) .(11/69)
وقد يراد بالشرع أيضا حرية الفاعل فيما يخصه ويمتلكة ، فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - ، أن رجلا من الأنصار أعطى أمه حديقة من نخل حياتها ، فماتت فجاء إخوته فقالوا : نحن فيه شرع سواء ، فأبى فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقسمها بينهم ميراثا " (2) ، والشرع نهج الطريق الواضح ، واستعير ذلك للطريقة الإلهية قال تعالى : { شَرَعَ لكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالذِي أَوْحَيْنَا إِليْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [الشورى/13] والمعنى شرع الأصول التى تتساوى فيها جميع الملل وهى أصول التوحيد ، وقوله تعالى : { لكُلٍّ جَعَلنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [المائدة/48] يدل على أمرين (3) :
أحدهما : ما فطر الله تعالى عليه كل إنسان ، مما قدره الله من وضع يسر له وطريق يتحراه مما يعود إلى مصالح العباد وعمارة البلاد وذلك المشار إليه بقوله : { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ليَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } [الزخرف/32] .
الثانى : ما فرض الله له من الدين وأمره به ، ليتحراه اختيارا مما تختلف فيه الشرائع
ويعترضه النسخ ، ودل عليه قوله : { ثُمَّ جَعَلنَاكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا } ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه أحمد فى المسند (24825) واللفظ له والبخارى فى الغسل برقم (250) .
2. ضعيف الإسناد ، أخرجه أحمد فى المسند برقم (13785) وأبو داود فى كتاب البيوع برقم (3557) 3/295.
3. المفردات ص258 ، ولسان العرب 8/175.(11/70)
[الجاثية/18] ، وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : الشرعة ما ورد به القرآن والمنهاج ما ورد به السنة (1) ، وعن معاذ بن أنس - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تزال الأمة على الشريعة ما لم يظهر فيها ثلاث ، ما لم يقبض العلم منهم ، ويكثر فيهم ولد الحنث ، ويظهر فيهم الصقارون ، قال : وما الصقارون أو الصقلاوون يا رسول الله ؟ قال : بشر يكون?في آخر الزمان تحيتهم بينهم التلاعن " (2) ، وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ، قال : " من سره أن يلقى الله غدا مسلما ، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن ، فإن الله شرع لنبيكم - صلى الله عليه وسلم - سنن الهدى ، وإنهن من سنن الهدى ، ولو أنكم صليتم في بيوتكم ، كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم " (3) .
صدق الله العظيم الشريعة فى الاصطلاح الصوفى :
الشريعة فى الاصطلاح الصوفى تقابل الحقيقة ، وقد أدلى كل منهم بما يكشف معناها فى مقابل معنى الحقيقة عندهم ، فمن ذلك الشريعة بمعنى جميع الأحكام التكليفية المتعلقة بأعمال الإنسان الظاهرة والباطنة كما دل على ذلك ، قول السراج الطوسى : ( أنكرت طائفة من أهل الظاهر ، وقالوا لا نعرف إلا علم الشريعة الظاهرة التى جاءبها الكتاب والسنة وقالوا : لا معنى لقولكم علم الباطن ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى الإيمان ، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بني الإسلام على خمس 1/60 .
2. صحيح بمعناه ، أخرجه أحمد برقم (15201) وفيه زبان بن فائد وأحاديثه مناكير والحديث صحيح بمعناه ، انظر صحيح البخارىكتاب العلم برقم (85) .
3. أخرجه مسلم فى كتاب المساجد برقم (654) .(11/71)
وعلم التصوف فنقول وبالله التوفيق : إن علم الشريعة علم واحد ، وهو اسم واحد يجمع معنيين ، الرواية والدراية ، فإذا جمعتهما فهو علم الشريعة الداعية إلى الأعمال الظاهرة والباطنة ، ولا يجوز أن يجرد القول فى العلم أنه ظاهر أو باطن ، لأن العلم متى ما كان فى القلب ، فهو باطن فيه إلى أن يجرى ويظهر على اللسان فإذا جرى على اللسان فهو ظاهر ) (1) ، ثم انتهى إلى أن الحقيقة فى علم التصوف وهو العلم والفقه المستنبط من جميع أعمال الظاهر والباطن ويدل على صحة كل عمل منها ، أى ما يستنبط من علوم الشريعة (2) .
ويروى عن أبى على الدقاق (ت:410هـ) ، ( قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } [الفاتحة/5] حفظ للشريعة ، { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة/5] إقرار بالحقيقة ) (3) .
وقال على بن عثمان الهجويرى (ت:465هـ) : ( الشريعة عمل كسبى للإنسان ، والحقيقة حفظ الله تعالى وعصمته له ، الشريعة لا تثبت بدون الحقيقة والحقيقة لا تثبت بدون ملاحظة الشريعة ، والاتصال بينهما كالصلة بين الجسد والروح ، وكذلك الشريعة بدون الحقيقة رياء ، والحقيقة بدون الشريعة نفاق وقد قال تعالى : { وَالذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلنَا } [العنكبوت/69] فالمجاهدة شريعة والهداية هى الحقيقة ، فالأولى تشمل مراقبة الإنسان لظاهر الأحكام ، أما الأخرى فتشمل معونة الله تعالى وإكرامه بحفظ الباطن للعبد ، وعلى ذلك ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص44:43 .
2. السابق ص44 .
3. الرسالة القشيرية 1/261 .
فالشريعة من المكاسب ، أما الحقيقة فهى من المواهب ، وحين نسلم بذلك فبون شاسع بينهما ) (1) .(11/72)
وقريب من ذلك قول القشيرى (ت:465هـ) : ( الشريعة أمر بالتزام العبودية ، والحقيقة مشاهدة الربوبية ، فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبول ، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير مقبول ، فالشريعة جاءت بتكليف الخلق ، والحقيقة إنباء عن تصريف الحق ، فالشريعة أن تعبده والحقيقة أن تشهده ، والشريعة قيام بما أمر ، والحقيقة شهود لما قضى وقدر وأخفى وأظهر ) (2) .
ويذكر عبد الرزاق الكاشانى (ت:736هـ) تعريفا غريا للشريعة ينبعث من فلسفتة فى وحدة الوجود ولا يستند إلى دليل ، فيبين أن الشريعة ميزان كل عادل يأتى به الخليفة الكامل من جانب حقيقته ، ليحفظ به حكم الوحدة والعدالة على طرق خليفته ، الذى يتعلق به فى نفسه أولا وفيمن يأخذ المدد الوجودى بواسطته ثانيا ، وذلك لئلا تعتوره الأحكام الإمكانية ، والآثار المتكثرة النفسانية والشيطانية ، فهذا الميزان الكلى هو المسمى شريعة (3) .
ــــــــــــــــــــ
1. كشف المحجوب ص465 .
2. الرسالة القشيرية 2/261 .
3. لطائف الإعلام 2/ 37 .
**********************************
81 - الشكر
**********************************
صدق الله العظيم الشكر : الشكر تصور النعمة وإظهارها وعرفان الإحسان ونشره ، ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها ، ودابة شكور مظهرة بسمنها إسداء صاحبها إليها ، وقيل أصله من عين شكرى ، أى ممتلئة ، فالشكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه (1) ، والشكر يوصف به الرب والعبد :(11/73)
أ- فالشكر فى حق الله ، يدور حول معنى إظهار المجازاه والمعاوضة لعمل الخير فإذا وصف الله بالشكر فى قوله تعالى : { وَاللهُ شَكُورٌ حَليمٌ } [التغابن/17] ، فإنما يعنى إنعامه على عباده وجزاءه بما أقاموه من العبادة ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أن رجلا رأى كلبا يأكل الثرى من العطش ، فأخذ الرجل خفه فجعل يغرف له به حتى أرواه ، فشكر الله له ، فأدخله الجنة " (2) ، وعنه أيضا - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " بينما رجل يمشي بطريق ، وجد غصن شوك على الطريق ، فأخره فشكر الله له فغفر له " (3) .
ب- والشكر فى حق العبد ، يتضمن الإقرار بالنعمة إلى المنعم ، والخضوع له ــــــــــــــــــــ
1. لسان العرب 4/424 ، المفردات ص265،266 ، وكتاب العين 5/292 .
2. أخرجه البخارى فى كتاب الوضوء برقم (174) 1/334 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب الأذان برقم (654) 2/163.
عن رضا ومحبة ، والامتناع عن عصيانه ، وعن أبي هريرة رضى الله عنه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا يدخل أحد الجنة ، إلا أري مقعده من النار لو أساء ، ليزداد شكرا ، ولا يدخل النار أحد ، إلا أري مقعده من الجنة ، لو أحسن ليكون عليه حسرة " (1) .
وعنه أيضا - رضي الله عنه - قال : " بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيلا قبل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة ، يقال له : ثمامة بن أثال ، سيد أهل اليمامة ، فربطوه بسارية من سواري المسجد ، فخرج إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ماذا عندك يا ثمامة ؟ فقال : عندي يا محمد خير ، إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت ، فتركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (2) .(11/74)
ومن حديثه - رضي الله عنه - ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من لا يشكر الناس لا يشكر الله " (3) وعنه أيضا - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يقول الله عز وجل يوم القيامة : يا ابن آدم ، حملتك على الخيل والإبل ، وزوجتك النساء ، وجعلتك تربع وترأس فأين شكر ذلك ؟ " (4) .
والشكر فى حق العبد ثلاثة أضرب (5) :
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الرقاق برقم (6569) 11/426.
2. أخرجه مسلم فى كتاب الجهاد برقم (1764) 3/1386 .
3. أخرجه الترمذى فى البر والصلة برقم (1954) ، وقال الألبانى : صحيح 4/339 .
4. صحيح الإسناد ، أخرجه أحمد فى المسند برقم (10005) .
5. المفردات ص266 .
1- شكر القلب وهو تصور النعمة ، والاعتراف بها إلى المنعم ، والعزم على طاعته ، وعن صهيب الرومى - رضي الله عنه - ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له " (1) .
2- وشكر اللسان هو الثناء على المنعم بفضله ، وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : " مطر الناس على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر ، قالوا : هذه رحمة الله ، وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا " (2) .(11/75)
3- وشكر سائر الجوارح ، وهو مكافأة النعمة بفعل الجوارح ، من خلال خضوعها واستجابتها لأمره ونهيه ، قال تعالى : { اعْمَلوا آل دَاوُودَ شُكْرًا وَقَليلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ } [سبأ/13] لينبه على التزام الأنواع الثلاثة من الشكر بالقلب واللسان وسائر الجوارح ، ومثله قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُلوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [البقرة/172] ، فشكر النعمة آداء العبادة بالقلب واللسان والجوارح ، وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له فيقول : أفلا أكون عبداشكورا?) (3) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الزهد برقم (2999) 4/2295 .
2. أخرجه مسلم فى كتاب الإيمان برقم (73) 1/84 .
3. أخرجه البخارى فى كتاب الجمعة برقم (1130) 3/19 .
المدينة وجدهم يصومون يوما يعني عاشوراء ، فقالوا : هذا يوم عظيم ، وهو يوم نجى الله فيه موسى ، وأغرق آل فرعون ، فصام موسى شكرا لله ، فقال : أنا أولى بموسى منهم ، فصامه وأمر بصيامه " (1) ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الطاعم الشاكر ، بمنزلة الصائم الصابر " (2) .
صدق الله العظيم الشكر فى الاصطلاح الصوفى :(11/76)
الشكر فى الاصطلاح الصوفى مبنى على تفصيل واستقصاء الأصول القرآنية والنبوية ، وكل يدلى فيه بدلوه ومن ذلك ما ذكره قول الحارث بن أسد المحاسبى (ت:243هـ) : ( علامة الشكر لله عز وجل ، الزيادة لأن الله يقول : { لئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [ابراهيم/7] ، والشكر فى نفسه ومعناه ، أن تعلم أن النعمة من الله سبحانه وتعالى ، وأنه لا نعمة على الخلق من أهل السموات والأرض إلا وبدايتها من الله عز وجل ، فتكون الشاكر لله عز وجل عن نفسك وعن غيرك بمعرفة نعم الله على الخلق جميعا ، فهذا غاية الشكر ) (3) .
ويروى عن أبى سعيد الخراز (ت:279هـ) : ( الشكر الاعتراف للمنعم والإقرار بالربوبية ) (4) ، وقال سهل التسترى (ت:293هـ) : ( الشكر لله هو ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب أحاديث الأنبياء برقم (3397) 6/494 .
2. أخرجه الترمذى فى صفة القيامة برقم (2486) وقال الألبانى : صحيح 4/653 .
3. القصد والرجوع إلى الله ص70 .
4. التعرف للكلاباذى ص100 .
الطاعة لله ، والطاعة لله هى الولاية من الله تعالى ، كما قال : { إِنَّمَا وَليُّكُمْ اللهُ وَرَسُولهُ وَالذِينَ آمَنُوا } [المائدة/55] ، ولا تتم الولاية من الله تعالى إلا بالتبرى ممن سواه ) (1) ، وحكى عن رويم بن أحمد البغدادى (ت:303هـ) أنه قال : ( الشكر استفراغ الطاقة ) (2) ، وقال أبو طالب المكى (ت:386هـ) : قطع الله بالمزيد مع الشكر ، ولم يستثن فيه واستثنى فى خمسة أشياء :
فى الإغناء ، قال : { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللهُ مِنْ فَضْلهِ إِنْ شَاءَ } [التوبة/28] .
فى الإجابة ، قال : { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِليْهِ إِنْ شَاءَ } [الأنعام/41] .
فى الرزق ، قال : { يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ } [آل عمران/37] .
فى المغفرة ، قال : { وَيَغْفِرُ لمَنْ يَشَاءُ } [المائدة/40] .
فى التوبة ، قال : { ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلكَ عَلى مَنْ يَشَاءُ } [التوبة/27] .(11/77)
وختم الله بالمزيد عند الشكر من غير استثناء ، فقال تعالى : { لئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [إبراهيم/7] ، فالشاكر على مزيد ، والشكور فى نهاية المزيد ، وهو الذى يكثر شكره على القليل من العطاء ، ويتكرر منه الشكر والثناء على الشئ الواحد من النعم ) (3) .
وقال أبو القاسم القشيرى (ت:465هـ) : ( حقيقة الشكر الثناء على المحسن ــــــــــــــــــــ
1. تفسير سهل بن عبد الله ص 7 .
2. الرسالة 1/438 .
3. قوت القلوب 1/204 .
بذكر إحسانه ، فشكر العبد لله تعالى ، ثناؤه عليه بذكر إحسانه إليه ، وشكر الحق سبحانه للعبد ، ثناؤه عليه بذكر إحسانه له ، ثم إن إحسان العبد طاعته لله تعالى ، وإحسان الحق إنعامه على العبد بالتوفيق للشكر له ، وشكر العبد على الحقيقة ، إنما هو نطق اللسان وإقرار القلب بإنعام الرب ، قال تعالى : { لئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [إبراهيم/7] والشكر ينقسم إلى أقسام :
(1- شكر بالقلب وهو اعتكاف على بساط الشهود بإدامة حفظ الحرمة .
(2- شكر باللسان وهو اعترافه بالنعم بنعت الاستكانة .
(3- وشكر بالبدن والأركان وهو اتصاف بالوفاء والخدمة ) (1) .
**********************************
82 - الصبر
**********************************
صدق الله العظيم الصبر : الصبر الإمساك فى ضيق ، وهو حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع (2) ، والصبر من أوصاف المؤمنين وخصالهم وقد رد الحث عليه فى الكتاب والسنة :
أ- فمن الكتاب قال تعال : { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } [آل عمران/200] ، أى احبسوا أنفسكم على العبادة وجاهدوا أهواءكم ، وقال : ــــــــــــــــــــ
1. الرسالة 1/438:437 .
2. لسان العرب 4/437 ، كتاب العين 7/115 .(11/78)