المسيح عليه السلام
دراسة سلفية
للشيخ: رفاعي سرور
دار هادف للطباعة والنشر
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
لا إله إلا الله محمد رسول الله، الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين.
{ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } [ الأنعام: 1].
و{ الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل } [الإسراء: 111].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم.. الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد..
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا.. أرسله بالحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.
ثم أما بعد:
ولذا كان الالتزام بالفهم السلفي في كل قضايا الإسلام ضرورة جوهرية.. فإن الالتزام به في ((قضية المسيح)) يتضمن للضرورة معنى خاصًّا.
واختصاص معنى الضرورة في قضية المسيح يرجع إلى أن هذه القضية بطبيعتها ((فتنة))؛ ولذا أصبحت ((السلفية)) بأقصى ضرورتها ومناسبة مضمونها هي الصيغة الإسلامية الوحيدة لمعالجة هذه الفتنة، باعتبار أن الالتزام بالشرع نصوصًا وأحكامًا وفهمًا هو المواجهة الصحيحة للفتن، ومن هنا كان تصنيف الإمام البخاري لـ((كتاب الأحكام)) بعد ((كتاب الفتن)) لإثبات أثر الالتزام بالأحكام في مواجهة الفتن.
كما أن قضية المسيح قضية ((غيبية))، مما يُحَتِّم التمسك بالنصوص الشرعية الواردة فيها والفهم السلفي لها، حتى لا يخرج التفكير والاجتهاد عن هذه النصوص وعن هذا الفهم.
هذا هو الأساس الأول في سلفية دراسة قضية ((المسيح))..
أما الأساس الثاني فهو أن علاقة المسيح بأمة الرسول صلى الله عليه وسلم علاقة جوهرية، بدأت قبل نشأة الأمة الإسلامية..(1/1)
ابتداءً بالبشارة التي كانت من عيسى برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث: { ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } [الصف: 6]..
ومرورًا بنزوله في آخر الزمان، وكسره للصليب، وقتله للخنزير، ووضعه للجزية، حتى يصير الدين ملة واحدة وهي الإسلام..
وانتهاءً بدفنه بعد موته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم(1)..
لتكون قضية عيسى عليه السلام داخلة ضمن الواقع التاريخي للأمة، المرتبط بالطائفة القائمة بأمر هذا الدين، والتي ستقاتل الدجال مع عيسى ابن مريم؛ مما يدل على أن التوافق بين قضية عيسى والمفهوم الكامل للسلفية قائمٌ وظاهرٌ، منهجيًّا وواقعيًّا من البداية حتى النهاية.
كما أن الدراسة السلفية لقضية المسيح ستكون أساسًا لتفسير النصوص الشرعية التي لا يمكن تفسيرها إلا من خلال هذه الدراسة..
مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عصابتان من أمتي أحرزهما الله من النار؛ عصابة تغزو الهند، وعصابة تكون مع عيسى ابن مريم عليه السلام))(2).
حيث سيتبين من الدراسة العلاقة المنهجية بين العصابتين التي تغزو الهند والتي تقاتل مع المسيح في آخر الزمان.
__________
(1) روى الترمذي بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: (مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ صِفَةُ مُحَمَّدٍ وَصِفَةُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يُدْفَنُ مَعَهُ)، فَقَالَ أَبُو مَوْدُودٍ: وَقَدْ بَقِيَ فِي الْبَيْتِ مَوْضِعُ قَبْرٍ. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
(2) رواه أحمد (22449)، والنسائي (3175)، كلاهما عن ثوبان مولى رسول الله |.(1/2)
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((يُحْشَرُ المُتَكَبّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذّرِّ فِي صُوَرِ الرجالِ، يَغْشَاهُمُ الذّلّ مِنْ كُلّ مَكَانِ، فيُسَاقُونَ إِلَى سَجْنٍ فِي جَهَنّمَ يُسَمّى بُولَس، تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ))(1).
كما أنه سيتبين من خلال الدراسة العلاقة بين اسم السجن الذي في جهنم، وبين ((بولس)) المحرِّف الأساسي لدين المسيح..
كما ترجع ضرورة مواجهة هذه القضية بالتصور السلفي إلى أن الصراع بين الإسلام والجاهلية سيتمحور على المدى البعيد وإلى قيام الساعة بين الإسلام والنصرانية المحرفة..
والتصور الإسلامي لعلامات الساعة يؤكد هذه الحقيقة، ومن هنا جاء قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عمران بيت القدس.. خراب يثرب، وخراب يثرب.. خروج الملحمة، وخروج الملحمة.. فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية.. خروج الدجال))(2).
فَذَكَر الحديث سياقَ الصراع بين الأمم الثلاث إلى آخر الزمان من خلال رموزها التاريخية، لتكون الغلبة في النهاية للمسلمين، ويتم لهم فيها ((فتح القسطنطينية))، الذي يعقبه خروج الدجال كما في الحديث.
وبذلك تُثبِتُ الأحاديث أن الصراع بين اليهود والنصارى والمسلمين سيكون باقيًا؛ لتحقيق التقابل الممتد إلى قيام الساعة، بين الحضارة الإسلامية القائمة في نشأتها والمرتبطة في بقائها بالدين الصحيح.. وحضارة الأمم اليهودية والنصرانية القائمة على تحريف هذا الدين الصحيح..
حيث لا يكون لبقائهم بعد تبديل دينهم إلا عِلَّة الحرب على الإسلام..!
__________
(1) رواه أحمد (6677) والترمذي (2492) كلاهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(2) رواه أحمد (22076) بسنده عن معاذ بن جبل.(1/3)
وهكذا، يبقي الصراع حتى نهايته بين المسلمين والنصارى من خلال كل عناصره، وأخطرها: العنصر العِرقي الذي يمثله الروم كعرق للنصارى، بدليل قول رسول صلى الله عليه وسلم: ((أَشَدُّ النَّاسِ عَلَيْكُم الرُّوم.. ومَهْلِكُهُم مَعَ السَّاعَة))(1).
قال الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِيُّ عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ)) فقال له عمر: أَبْصِرْ ما تقول..! قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم..!(2)
وعرق الروم يمثله الآن الغرب بدفتيه: أوربا ((التاريخية))، وأمريكا المجتمعة من الأوباش الأوربية.
ومن الفهم السلفي للصراع القائم على الأساس الديني، والباقي إلى آخر الزمان -والذي تتحدد ملامحه بقوة في الواقع القائم الآن- تنشأ ضرورة التمسك بالتصور السلفي كمضمون منهجي للأمة المسلمة، التي تمثل الطرف الأساسي المقابل لكل أطراف هذا الصراع، وخصوصًا عندما يحرص النصارى على تحويل المسلمين عن سلفيتهم -التي تمثل أصل دينهم- مما يستوجب أن تكون المواجهة الإسلامية من خلال هذا الأصل المستهدف.. حفاظًا عليه، واحتماءً به..
وهذا الحرص النصراني هو امتداد لموقف الانحراف الأصلي الذي ابتعدوا به عن الوحي وأصل الدين: { هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } [القصص: 63].
مما يجعل التمسك بالمنهج السلفي مواجهة مباشرة لهذا المنهج التحريفي..
__________
(1) رواه أحمد (17335) بسنده عن عمرو بن العاص.
(2) رواه مسلم (2898).(1/4)
والمنهج السلفي كمضمون للمواجهة.. له معالم، لعل أهمها حسم قضية المسيح من خلال الثوابت الإسلامية، وهذا المنهج هو منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعندما دخل عدي ابن حاتم وهو نصراني على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عَلَّق في صدره صليبًا قال له: ((يا عدي، اطرح عنك هذا الوثن))(1) فتضمنت العبارة ثابتة من ثوابت الإسلام، واجه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم موقف عدي، فكان لهذه المواجهة أثر نفسيٌّ قويٌّ، فاستجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم.
وبذلك تكون الدراسة السلفية للمسيح ضرورة عقدية، بحيث يمكن القول معها: إننا لا نستطيع حسم هذه القضية إلا بهذا التصور.
ولأن المنهج السلفي منهج شرعي؛ فإن هذا المنهج سيكون أساسًا في تحديد القضايا التي يجب مناقشتها كضرورة شرعية، وتحديد القضايا التي يجوز فيها الخلاف والتي لا يجوز فيها أي خلاف.
وفي هذا الإطار يجب التنبيه على أن أصحاب عقيدة التوحيد الخالص هم أقدر الناس على المواجهة الصحيحة للنصرانية المحرَّفة، وهم الذين يملكون التصور الكامل لتلك المواجهة، حتى أن من يقرأ الكتابات السلفية في هذا المجال يتبين له هذا الأمر بصورة واضحة، والمثال على ذلك كتاب ((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) لشيخ الإسلام ابن تيمية.
وللالتزام بالمنهج السلفي نتائجه الإيجابية، حيث أنه يمثل ضرورة قلبية وجدانية؛ لأن التعامل مع القرآن والحديث وأقوال الصحابة والتابعين سيملأ كيان الإنسان المسلم يقينًا واطمئنانًا إلى عقيدته الصحيحة، ليكون قادرًا -بإذن الله- على مواجهة كل أساليب الإغراء والحيل المعادية للإسلام والتوحيد.
وهذه الدراسة تعالج خطر الاقتصار والبحث في كتب النصارى ومصادرهم في مهمة مواجهتهم، حيث تجاوز هذا النوع من الدراسة حدود الضرورة، فكان ذلك على حساب واجب الدراسة السلفية.
__________
(1) رواه الترمذي (3095).(1/5)
ومع ذلك فهي لا تمنع التعامل مع نصوص الكتابات النصرانية ومسائلها، ولكنها تمنع الوقوف عند حد دراسة هذه الكتابات دون التأسيس السلفي لهذه المواحهة.
وليس أدل على ذلك من مناقشة ابن تيمية لمسائل الترجمة، والفلسفة اليونانية، وعقائد الفرق النصرانية المختلفة من خلال نصوصهم ومصادرهم، كما سيتبين في الكتاب إن شاء الله تعالى.
وكما كان للالتزام بالمنهج السلفي نتائجه الإيجابية.. كان للابتعاد عن هذا المنهج نتائجه السلبية، ومن أخطرها: الاستهانة بخطر بدعة ادعاء الولد!!
وكانت أهم أسباب الاستهانة بخطر هذه البدعة هو سخافتها وعدم معقوليتها؛ الأمر الذي أوجد اطمئنانًا إلى عدم إمكانية انتشارها، ولكن أصحاب هذه البدعة لم يرتكزوا على العقل في محاولتهم نشر بدعتهم، بل ارتكزوا على أساليب الإغراء والحيل والاستناد على القوى السياسية العالمية المعادية للإسلام والتوحيد، مما جعلها تأخذ حجمًا في الواقع لا يتناسب مع الغموض والتناقضات التي انطبعت بها.
والتصور السلفي هو الذي يعطي الأمة الإحساس الواجب والصحيح تجاه هذه البدعة، وفى ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ففي الجملة ما قال قوم من أهل الملل قولا في الله إلا وقول النصارى أقبح منه).
ولما كانت القاعدة السلفية في الدعوة هي مواجهة قضايا الشرك بحسب ظهورها وحجمها في الواقع؛ فإن الأمر يقتضي التناسب بين الحجم الذي أخذته بدعة ((ادعاء الولد لله)) وبين الدعوة إلى التوحيد من خلال نفي هذه البدعة، ومهمة القضاء عليها؛ لتصبح محاربة هذه البدعة أهم وأخطر مهام الدعوة.. خصوصًا إذا كانت هذه البدعة تمثل المضمون العقدي لكل القوى السياسية العالمية المعادية للإسلام..!
ويجب أن تجتمع في الدراسة السلفية لقضية المسيح عليه السلام كلُّ علوم الدين وأصوله؛ لتكون حاكمة في كل الاختلافات والاجتهادات المتعلقة بهذه القضية..(1/6)
وأوضح مثال على ذلك: ((علم الحديث)) وقواعده، التي تحسم مشكلة التشبيه، من خلال قواعد النقل وتعريف التواتر على أنه ليس بكثرة الطرق.. ولكن بالثقة في أطراف النقل، بحيث يتساوى أطراف التواتر في الثقة بهم، وبصدقهم في الأخبار.
وبهذه القاعدة تسقط شهادة اليهود والرومان -لكفرهم- على أنَّ المصلوب هو المسيح..
وفي إطار ((علم الحديث)) أيضًا تتحد علاقة القضية بمنهج التصنيف عند علماء الحديث، حيث أورد البخاري قضية ((زعم الولد)) في عدة كتب من الجامع الصحيح: كتاب التفسير، وكتاب التوحيد، وكتاب الأدب، وكتاب بدء الخلق.. وذلك لتعلق القضية بالتصور الإسلامي من كل جوانبه.
وللاستفادة من إيجابيات دراسة قضية المسيح بالتصور السلفي ينبغي الالتزام بعدة قواعد، أهمها:
- الوقوف عند حد النصوص الشرعية.. فلا ننشغل بمسألة لم يرد فيها نص شرعي -مثل مسألة شخص المشبه به- وبذلك تثبت الحدود العقدية للقضية فلا نُدخِل فيها ما ليس منها. وتقرير هذه القاعدة لا يمنع مناقشة أي اجتهاد إسلامي يمكن الاستئناس به، لكنه يمنع من التفرق والاختلاف حول مسألة ليست داخلة ضمن التصور السلفي لقضية المسيح.
- الاستناد إلى أصح الآثار السلفية الواردة في بحث قضايا الدراسة، وبالبحث فيما رواه أئمة الحديث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.. نجد أن ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنه قد حسم التفاصيل الدقيقة التي تعتبر مفترق طرق في سيرة المسيح عليه السلام.. فهو الذي روى تفاصيل حادثة الرفع والتشبيه..
وهو الذي روى التفاصيل التاريخية المتعلقة بنشأة قضية الرهبنة..(1/7)
وفى إطار هذه القاعدة.. تظهر مشكلة ((الإسرائيليات)) وهي الروايات والأخبار التي رواها بعض المفسرين والمؤرخين عن أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين أسلموا.. لذا وجب التنبه لها، والحذر من عواقبها.. وذلك بتحكيم قواعد علم الرواية والإسناد عند التعامل مع نصوص التراث المتعلقة بسيرة المسيح التاريخية..
وكمثال للخلل الناشئ عن عدم الالتزام بهذا التصور.. نجد تضارب واختلاف الروايات المتناثرة في التفسير بشأن حادثة الرفع والصلب والتشبيه، والتي أورد المفسرون فيها روايات متعددة ومختلفة..
وباعتبار أن قضية المسيح عليه السلام قضية عقدية.. فلا يجوز أن نعالج التطور التاريخي المتعلق بأتباعه ودعوته بغير النصوص السلفية الشرعية، حتى لا يخرج هذا التاريخ عن المضمون العقدي للقضية، وليس من الصواب الظن بأن النصوص السلفية لا تفي بهذه المهمة..
والدراسة السلفية لقضية المسيح ليست مجرد الاستدلال بالنصوص الشرعية على مسائلها..
فمثلا: عندما تناقش الدراسة الحكمة من خلق عيسى من غير أب، والحكمة من التشبيه، والحكمة من رفع عيسى، والحكمة من نزوله، والحكمة من اختصاصه بالمساءلة يوم القيامة..
فإن هذه المناقشة تفسر العلاقة بين هذه المسائل بعضها مع بعض، كما تكشف الحكمة الجامعة لكل هذه المسائل، وتربط هذه الحكمة بالتصور الإسلامي العام، وذلك بإحكام منهجي يمثل بذاته منبعا لليقين، يحقق القناعة العقلية الكاملة والاطمئنان القلبي التام في تلك القضية.
فالدراسة السلفية لقضية المسيح ستعطيها حياة دائمة مع تواصل أجيال الأمة المسلمة، حيث ستتوارث هذه الأجيال عقيدة واضحة ثابتة تجعلها قادرة على مواجهة أي حملة صليبية تبشيرية تشهيرية ضد الإسلام.
ومن هنا كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم آية العز أبناءَ الأمة؛ لتصبح قضية نفي الولد عن الله هي قضية الأمة التي تعيشها الأجيال ويُرَبَّى عليها الغلمان..(1/8)
آية العز الإلهي.. الذي تستمد منه الأمة عزها: { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا } [الإسراء: 111].
يقول الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: (روى مطرف عن عبد الله بن كعب قال: افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام وختمت هذه السورة، وفي الخبر: ((أنها آية العز))(1) رواه معاذ بن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه { وقل الحمد لله الذي } الآية)(2).
والله يقول الحق .. وهو يهدي السبيل ..
الباب الأول
التعريف السلفي بالله
الفصل الأول
الأسماء
التعريف الإسلامي بالله .. أول ضمانات الصواب في العقيدة ..
والإطار الجامع للتعريف بالله .. هو موضوع أسماء الله الحسنى ..
لذلك كان هذا الموضوع هو أساس الدراسة السلفية لقضية عيسى ابن مريم ..
لأن التعريف بالله أساسه نفي الولد عن الله .. بدليل خواتيم سورة الإسراء، التي جاء فيها الارتباط بين قضية الأسماء الحسنى ونفي ادِّعاء الولد لله سبحانه وتعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا*وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} [الإسراء: 110-111].
لما أثبت الله لنفسه الكريمة الأسماء الحسنى .. نزه نَفْسَه -سبحانه- عن النقائص واتخاذ الولد، والشريك في الملك، وكذلك عن أن يكون له ولي أو وزير أو مشير: {ولم يكن له ولي من الذل} أي: ليس بذليل، فيحتاج إلى ذلك.
__________
(1) رواه أحمد (15672).
(2) انظر: الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي (10/299).(1/9)
وبدليل قول الله عز وجل: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا*الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا} [الفرقان: 1-2].
ومن هنا كان الخلل في قضية «التعريف بالله» هو بداية الانحراف في النصرانية.
وكان الخلل في قضية «الأسماء والصفات» هو بداية الانحراف في قضية «التعريف بالله».
وبذلك أصبح ادِّعاء الولد لله هو النقيض الأساسي للتصور الصحيح للأسماء والصفات.
وأصبحت عناصر الخلل في تصور الأسماء والصفات هي نفسها عناصر الانحراف في النصرانية.
وأخطر مثال لعناصر هذا الخلل: فقدان العلاقة بين اسم الله «الرحمن» واسم الله «القدير» ..فعندما أحدث النصارى بدعة «الكفَّارة» ارتكزوا على معنى الرحمة دون معنى القدرة ..فقالوا: إن خطيئة آدم تستوجب الموت: (أجرة الخطية هي موت) (رومية 23: 6) .. وكان لا بد من كفارة تُرفع بها الخطيئة، فأنزل الله ابنه الوحيد ليصلب (!!) ولتكون الكفارة - تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا-.
ولو أن معنى القدرة على المغفرة كان قائمًا مع معنى الرحمة .. لكان رفع الخطيئة أمرًا يسيرًا ..
وخصوصًا أن الكفارة جاءت بصورة مأساوية .. يظهر فيها معنى الاضطرار الإلهي واضحا! ويغيب فيها معنى القدرة على مغفرة الذنب دون نزول ابن الله «الوحيد» ..!!
ومن عناصر هذا الخلل أيضًا: حَصْر أسماء الله -سبحانه- في ثلاثة فقط .. فذكروا أن الله: إله واحد حيٌّ ناطق، فالذات عندهم هي: الآب الذي هو ابتداء الاثنين، والنطق: هو الابن المولود منه كولادة النطق من العقل، والحياة هي الروح القدس، واستدلوا على ذلك بما ينسبونه للمسيح من أنه قال: (عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس) (متى 28: 19).
ومعلوم عندهم وعند سائر أهل الملل أن أسماء الله تبارك وتعالى متعددة كثيرة ..(1/10)
قال الله في سورة الحشر: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} [الحشر: 22-24].
وقال عز وجل: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} [الأعراف: 180]. قال سبحانه: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110].
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن لله تسعة وتسعين اسمًا، من أحصاها دخل الجنة))(1)، وهذا معناه في أشهر قولي العلماء وأصحهما: أن من أسمائه تعالى تسعة وتسعين اسمًا، من أحصاها دخل الجنة، وإلا فأسماؤه -تبارك وتعالى- أكثر من ذلك، كما في الحديث الآخر عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما أصاب عبدًا قط همٌّ ولا حزن وقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك -سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك- أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي؛ إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدل مكانه فرحًا)).
قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلمهن؟ قال: ((بلى، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن))(2).
فكمال ذات الله عز وجل وكمال صفاته مُوجِبٌ لتعدد أسمائه، وإذا كانت أسماء الله كثيرة -كالعزيز والقدير وغيرها- فالاقتصار على ثلاثة أسماء دون غيرها باطلٌ.
__________
(1) أخرجه البخاري (6957)، ومسلم (2677).
(2) أخرجه أحمد في المسند (3712، 4318)، والحاكم في المستدرك (1877)، وابن حبان في صحيحه (972).(1/11)
وكما ثبت الارتباط بين أسماء الله ونفي اتخاذه للولد بصفة عامة فقد ثبت الارتباط بين قضية عيسى ابن مريم وكل ما ورد من أسماء الله الحسنى على وجه التفصيل، من خلال السياقات القرآنية التي تناولت هذه القضية.
وسنتناول الأسماء التي كان الارتباط فيها مباشرًا مع تلك القضية.
«الرحمن» قال الله سبحانه وتعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا*لقد جئتم شيئا إدا*تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا*أن دعوا للرحمن ولدا*وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا*إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} [مريم: 88-93].
من خواتيم سورة مريم تبدأ علاقة الأسماء الحسنى بنفي ادِّعاء الولد لله من خلال اسم الله «الرحمن»؛ لأن ادِّعاء الولد لله يفسد تصور الخلق لمقام الألوهية ذاته بصورة كلية مؤثرة في معاني كل أسماء الله الحسنى؛ لأن اسم «الرحمن» علَمٌ على ذات الله مثل اسم «الله» بدليل قول الله في سوره الإسراء: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110].
كما أن اسم «الرحمن» يثبت حقيقة أساسية في قضية الأسماء، وهي أن اسم «الرحمن» لا يكون لأحد إلا لله، حيث قال سبحانه: {رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا} [مريم: 65]، قال ابن عباس: (هل تعلم للرب مثلًا أو شبيهًا)(1)، وقال أيضًا: (ليس أحد يُسمَّى الرحمن غيره، تبارك وتعالى وتقدس اسمه).
وبذلك كان اسم «الرحمن» فرقانًا بين مقام الله ومقام العباد، وهذا الفرقان هو أساس نفي الولد عن الله؛ لأن الخلط بين مقام الخالق والمخلوق كان السبب الأساسي لهذه البدعة.
__________
(1) تفسير الطبري (16/106).(1/12)
كما كانت مناقشة ادِّعاء الولد باسم الله «الرحمن»؛ لأن أصحاب هذا الادعاء قالوا: إن الله أنزل ابنه الوحيد لخلاص البشر ورحمتهم، فأثبتت الآيات أنه لا رحمة في ادِّعاء الولد لله؛ لأن الرحمن الذي هو مصدر الرحمة ليس له ولد .. {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} ..
بل إن هذا الادعاء هو أخطر الأسباب لهلاك البشر ..
{تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا*أن دعوا للرحمن ولدا}.
ومن هنا يتناول القرآن قضية عيسى ابن مريم من خلال إثبات اسم الله «الرحمن» وصفة الرحمة؛ ابتداءً من بُشرى ولادته، عندما فاجأ جبريل مريم، فاستعاذت منه باسم الله «الرحمن»: {فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا*قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا*قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا*قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا*قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا} [مريم: 17-21]، فذكرت الآية أن عيسى آية ورحمة من الله.
وبذلك تَثبُت المنهجية القرآنية في معالجة بدعة ادِّعاء الولد باسم الله «الرحمن».
ومن أجل تعميق الإحساس بهذه المنهجية نضرب مثلًا آخر بقضية أخرى تماثل هذه القضية: فعندما كذَّب الكافرون بالنبي صلى الله عليه وسلم، ادَّعوا أن مقام الله أكبر من أن ينزل وحيًا على بشر، فجاء القرآن ليثبت نزول الوحي مع إثبات هذا المقام فقال سبحانه: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} [الأنعام: 91].
فلما كانت علة ادِّعاء الكافرين هي: أن مقام الله أكبر من أن يرسل رسولًا إلى البشر- رد الله عليهم القول: بأن مقام الله إنما يقتضي هذا الوحي وهذه الرسالة.(1/13)
فجعل قولهم بنفي الوحي والنبوة هو عين التنقص من مقام الله؛ لأنه يستلزم إهمال البشر وتركهم بعيدًا عن نور الله وهدايته.
وبذلك يكون القرآن قد رد على الكافرين ادِّعائهم، وعِلَّة هذا الادعاء، والمدخل الذي دخلوا منه إلى هذا الادعاء ..
وكذلك كان الأمر بالنسبة للرد على بدعة ادِّعاء الولد من خلال اسم الله «الرحمن».
«العزيز الحكيم» وارتباط قضية عيسى باسم الله «العزيز الحكيم» جاء من معنى الاسمين، ومن مضمون حقيقة خلق عيسى ..
فاسم الله «العزيز» معناه: تمام قدرة الله .. وخلق عيسى من غير أب هو تمام قدرة الله؛ لأن كمال التنوع في الخلق دليل على تمام القدرة الإلهية، حيث خلق سبحانه النوع الإنساني أربعة أقسام:
أحدها: لا من ذكر ولا من أنثى، وهو خلق أبيهم وأصلهم آدم.
والثاني: من ذكر بلا أنثى، كخلق أمهم حواء من ضلع من أضلاع آدم من غير أن تحمل بها أنثى، ويشتمل عليها بطن.
والثالث: خلقه من أنثى بلا ذكر، كخلق عيسى ابن مريم عليه السلام.
والرابع: خلق سائر النوع الإنساني من ذكر وأنثى.
وقد تأكد هذا المعنى من خلال هذا السياق: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون*الحق من ربك فلا تكن من الممترين*فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين*إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم} [آل عمران: 69-70].
كما أن الارتباط بين اسم الله «العزيز» و«قضية عيسى» يأتي من ناحية أخرى، وهي أن إثبات العزة لله يقتضي نفي الولد عنه، ولهذا ورد في مسند الإمام أحمد عن سهل بن معاذ الجهني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ثَمَّ آية العز {الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا} [الإسراء: 110] الآية كلها))(1).
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (15399).(1/14)
فتنزيه الله عن الولد تنزيه عن النقائص، وهو ما يثبت العزة لله.
وهذه المعاني هي مضمون قول الله: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون*وسلام على المرسلين*والحمد لله رب العالمين} [الصافات: 180-182].
حيث جاء تنزيه الله عما يصفون بقوله سبحانه: {رب العزة}.
من أجل ذلك نصت الآيات بصورة مباشرة على ارتباط قضية عيسى باسم الله «العزيز الحكيم»، وذلك في قوله سبحانه: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب*ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد*إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} [المائدة: 116-118].
أي: فإن مغفرتك لهم صادرةٌ عن العزة التي هي كمال القدرة، وعن الحكمة التي هي تمام العلم، لا عن عجز وجهل.(1/15)
وهذا بخلاف قول الخليل عليه السلام: {واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} [إبراهيم: 36]، ولم يقل: (فإنك عزيز حكيم) لأن المقام مقام استعطاف وتعريض بالدعاء، أي: أن تغفر لهم وترحمهم بأن توفِّقهم للرجوع من الشرك إلي التوحيد، ومن المعصية إلي الطاعة كما في الحديث: ((اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون))(1).
ويبين ابن القيم أن كمال اقتران الأسماء الحسنى ببعضها هو مصدر الخلق والأمر، فيقول في تفسير اقتران اسم «العزيز» باسم «الحكيم» في تفسير {إنك أنت العزيز الحكيم} أي: مصدر ذلك وسببه وغايته صادر عن كمال قدرتك وكمال علمك، فإن العزة كمال القدرة، والحكمة كمال العلم، وبهاتين الصفتين يقضي سبحانه وتعالى بما شاء، ويأمر وينهى، ويثيب ويعاقب، فهاتان الصفتان مصدر الخلق والأمر.
وارتباط قضية عيسى باسم الله «العزيز» كما حددته الآيات بكمال القدرة على المغفرة يفسر جانبًا خطيرًا من القضية، وهو المتعلق بمعصية آدم وفكرة الكفارة المختلقة.
إذ إن التناقض في هذه القضية هو أن «الكفَّارة بصلب المسيح» التي حاولوا بها إثبات حقيقة العدل، أضاعوا بها حقيقة القدرة الإلهية على مغفرة الذنب، وهي «العزة» التي تثبتها الآية.
__________
(1) أخرجه البخاري (3290، 6530)، ومسلم (1792) كلاهما من حديث الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: ((رب اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون))، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (973) من حديث سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون)).(1/16)
ومما يتمم ارتباط اسم الله «العزيز» بنفي الصلب وبدعة الكفارة .. ارتباطه بالقدرة على إنجاء عيسى ورفعه إلى السماء، وذلك في قول الله: {وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما*وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا*بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما} [النساء: 156-158].
ولما كان إثبات العزة لله نافيًا عنه اتخاذ الولد كان إثبات العزة إثباتًا لقَدْر الله حق قدره كما قال سبحانه: {ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز} [الحج: 74]، فلا يكون تقدير الله حق قدره .. إلا بنفي الولد عنه سبحانه وتعالى.
«الملك» وفي اسم الله «الملك» جاء قول الله عز وجل: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا*الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا} [الفرقان: 1، 2].
وقوله سبحانه: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير} [المائدة: 17].
فالأرض وما عليها خلق مقهور في ملك الله، وكذلك عيسى وأمه، لا يملكون من أمرهم شيئًا، لذلك ذكرت الآيات القدرة على إهلاك من يشاء وخلق ما يشاء، والقدرة على كل شيء، والمغفرة لمن يشاء وتعذيب من يشاء، وأن إليه مصير كل شيء .. فكانت هذه هي نفس العناصر المفسِّرة لقضية عيسى عليه السلام.
«الوكيل» ومن تعلُّق قضية عيسى ابن مريم باسم الله «العزيز» جاء تعلقها باسم الله «الوكيل»، وذلك باعتبار العلاقة بين الاسمين، حيث جاء إثباتها في قول الله عز وجل: {ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم} [الأنفال: 49]، وقوله: {وتوكل على العزيز الرحيم} [الشعراء: 217].(1/17)
وذلك لأن ثبوت اسم الله الوكيل كان بمقتضى كمال الخلق الدال على كمال القدرة، كما في قوله سبحانه: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون} [الزمر: 38].
لذلك ختم الله دحضه لفرية ادِّعاء الولد باسمه «الوكيل»: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} [النساء: 171].
ومن اسم الله «الوكيل» تثبت حقيقة هامة في قضية عيسى، وهي «المقاليد» كما في قوله سبحانه: {الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل*له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون} [الزمر: 62-63].
وقوله تعالى: {أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير*ما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب*فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير*له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم} [الشورى: 9-12].
قال ابن كثير في تفسير كلمة «المقاليد»: (المقاليد هي مفاتيح وخزائن السماوات والأرض، والمعنى على كلا القولين أن أَزِمَّة الأمور بيده تبارك وتعالى، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأنه خالق الأشياء كلها، وربها ومليكها والمتصرف فيها، وكلٌّ تحت تدبيره)(1).
ومن أبرز خصائص من له مقاليد السماوات والأرض: «الدينونة» .. وهي الحساب والجزاء.
__________
(1) تفسير ابن كثير (4/62).(1/18)
وهو الأمر الذي اختص الله به نفسه فقال سبحانه: {مالك يوم الدين} [الفاتحة: 4]، ولكن انحراف النصارى في مقام الألوهية جعلهم يقولون: إن الله -سبحانه!- ليس بيده شيء .. (الآب يحب الابن، وقد دفع كل شيء في يده) (يوحنا 3: 35).
وقالوا: إن الآب لا يدين أحدًا .. (بل قد أعطى كل الدينونة للابن) (يوحنا: 5).
وإعطاء «الدينونة» للابن معناه: أن مقاليد الأمور ليست بيد الله!
وهذا مثال آخر للخلل في تصور الأسماء والصفات ..!!
«الغني الحميد» قال الله عز وجل: {قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض *إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون} [يونس: 68].
إن إثبات اسم الله «الغني» يتناقض كليةً مع أن يتخذ الله ولدا ..؛ لأن الرغبة في الولد افتقار وحاجة، يتنزه الله عنها سبحانه وتعالى، كما قال الله في زكريا: {ذكر رحمت ربك عبده زكريا*إذ نادى ربه نداء خفيا*قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا*وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا*يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا} [مريم: 2-6].
فتمثلت في زكريا وكلماته كل عناصر الافتقار إلى الولد:
النداء الخفي .. الدال على اللهفة وشدة الاضطرار ..
وَهَنُ العظم .. الدال على تمام الضعف والعجز ..
اشتعال الرأس شيبًا .. الدال على دنو الأجل وبلوغ النهاية ..
خفت الموالي من ورائي .. الدال على الخوف من المستقبل وتقلباته ..
هب لي من لدنك وليًا .. الدالة على الاحتياج للمُعِين والنصير ..
يرثني ويرث من آل يعقوب .. الدالة على الرغبة في الامتداد والتواصل ..
كانت هذه الكلمات هي افتتاح سياق السورة «سورة مريم» التي جاءت بالنفي القاطع بالصيغة المنطقية لادعاء الولد لله: {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} [مريم: 92].(1/19)
وكما كان اقتران اسم الله «العزيز» باسم الله «الحكيم» له مدلول إضافي على كل منهما بمفرده- كان اقتران اسم الله «الغني» باسم الله «الحميد» .. قال تعالى: {واعلموا أن الله غني حميد} [البقرة: 267].
فالغنى صفة كمال، والحمد صفة كمال، واقتران غناه بحمده كمال أيضًا.
والحمد هو مقتضى اسم الله «الحميد»، ويعني: مدح الله بصفات كماله ونعوت جلاله مع الحب والتعظيم ..
ونفي الولد عن الله من أهم مقتضيات الحمد؛ لذلك تجده يأتي في القرآن مرتبطا بنفي ادِّعاء الولد:
قال الله تعالى: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا*قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا*قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه*وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا} [الكهف: 1-4].
وقال سبحانه: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا} [الإسراء: 111].
وقول: {الحمد لله} في سياق نفي ادِّعاء الولد .. حقيقةٌ لا يُفهَم مقامُ الألوهية إلا بها ..
لأن الألوهية هي المقام الذي يتجه إليه العبد بكليته .. يتجه إليه وحده .. فلا شيء في العبد خارج هذا التوجه .. ولا وجهة أخرى له إلا هذا الاتجاه ..
فكيف يكون إحساس بالله .. وإحساس بابن الله ..؟!
من منهما صاحب مقام الألوهية الذي سأتجه إليه بكياني كله .. وأتجه إليه وحده..؟!
«السلام» {والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} [مريم: 33].
«السلام» اسمٌ من أسمائه الحسنى، ومعناه: المُنزَّه عن الخطأ في أفعاله.
واقتران الفعل الإلهي باسم الله «السلام» يكون تأكيدًا لنفي الخطأ عن فعله سبحانه.
وعندما يتم الفعل الإلهي في الواقع يكون هذا الفعل مرتبطًا بكل مراحله وأطرافه وحكمته النهائية باسم الله «السلام» ..(1/20)
وإثبات هذا الاسم في مراحل وجود عيسى يعني إثبات الحكمة من خلقه بلا أب من جهة، وإثبات حكمة حفظه من الشيطان من جهة أخرى(1)، وإثبات الحكمة من نزوله في آخر الزمان من جهة ثالثة.
واسم «السلام» فيه تقابل مع الشيطان، باعتبار أن العداوة والحرب هي المعنى الأساسي لأعماله بدليل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} [البقرة: 208].
ولذلك كان السلام على عيسى في كل مراحل وجوده: السلام عليه يوم وُلِد، ويوم يموت، ويوم يبعث حيًّا ..
فيوم ولد: أحرزه الله من الشيطان، فلم ينخس أمه –مريم- في بطنها عند الولادة، كما يفعل بكل النساء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخًا من مس الشيطان، غير مريم وابنها))(2).
وفي حياته: كف الله عنه بني إسرائيل: {وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين} [المائدة: 110].
ثم رَفَعَه مطهرًا له: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا} [آل عمران: 55].
__________
(1) جاء في تفسير الآية: (السَّلاَمُ عَلَيَّ) أي: لا يلحقني الشيطان.
(2) أخرجه البخاري (3248، 4274)، ومسلم (2366)، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(1/21)
وعند موته: يكون السلام والأمن قد عم الأرض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه؛ رجلًا مربوعًا إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان ممصران، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، فيُهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويُهلك الله في زمانه المسيح الدجال، وتقع الآمنة على الأرض، حتى ترتع الأُسُود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، وتلعب الغلمان بالحيات لا تضرهم، فيمكث أربعين سنة، ثم يتوفى، فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه))(1).
ويوم يبعث حيًّا: فقد أَمَّنه الله من الفزع الأكبر يوم البعث، حين ينفخ في الصور ..
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (9259، 9630) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(1/22)
وقال محمد بن إسحاق في السيرة: (جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يومًا مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المسجد غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، وتلا عليه وعليهم: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون*لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون*لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون} [الأنبياء: 98، 100]، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي حتى جلس معهم، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعري: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفًا ولا قعد، وقد زعم محمد أنَّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله بن الزبعري: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمدًا كل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرًا، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم، فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعري، ورأوا أنه قد احتج وخاصم، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته)) وأنزل الله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون*لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون*لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون} [الأنبياء: 101-103]))(1).
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير هذه الآيات: (قال: هم الملائكة وعيسى، ونحو ذلك مما يُعبد من دون الله عز وجل)(2).
__________
(1) تفسير الطبري (17/97)، وابن كثير (3/200، 4/132)، والسيرة النبوية لابن هشام (2/205).
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك (3449).(1/23)
والاقتران بين «عيسى» واسم الله «السلام» له ضرورته في نهاية الزمان، حين يجيء ليقضي على الدجال الذي تتبعه الشياطين(1) ..
«القيوم» اسم «القيوم» معناه: القيام بالنفس، فالله سبحانه وتعالى لا يفتقر في قيامه إلى غيره، ولذلك كان الحَمْل من خصائص الخلق، فأصبح كلُّ من يجري عليه الحمل مفتقرًا إلى غيره في قيامه، وليس قائمًا بنفسه، ومن هنا تظهر الحكمة من جعل الملائكة يحملون العرش؛ إثباتًا لحقيقة أنه مخلوق ..
وهذا المعنى يمثل أساسًا في إثبات عبودية عيسى عليه الصلاة والسلام .. ابتداء من خلقه في بطن أمه؛ لأن القرآن قال في ذلك: {فحملته فانتبذت به مكانا قصيا} [مريم: 22]؛ لأن لفظ {فحملته} يغلب عليه جانب عيسى بدلًا من لفظ (حملت به) الذي يغلب عليه جانب مريم، ويأتي في سياق هذا المعنى قول الله عز وجل: {فأتت به قومها تحمله} [مريم: 27].
كما ثبت هذا المعنى في رفع عيسى، وعند نزوله في آخر الزمان ..
قال صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر الدجالَ وفتنته: ((فبينما هم كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مهرودتين، واضعا كفَّيه على أجنحة ملكين))(2).
مع أن رفع عيسى ونزوله كان ممكنًا بغير الملائكة ..!
__________
(1) سيتم شرح هذه المسألة بشيء من التفصيل في الفصل الثاني من هذا الباب.
(2) أخرجه مسلم (2937) من حديث النواس بن سمعان.(1/24)
وحتى عندما وصف النبي صلى الله عليه وسلم عيسى عليه السلام وهو يطوف بالبيت في آخر الزمان قال: ((أراني الليلة عند الكعبة، فرأيتُ رجلا آدم، كأحسن ما أنت راءٍ من أُدْم(1) الرجال، له لَمَّةٌ(2) كأحسن ما أنت راءٍ من اللمم، قد رَجَلَها(3)، فهي تَقطُر ماءً، متكئًا على رَجلين، أو على عواتق رجلين(4)، يطوف بالبيت، فسألت: من هذا؟ فقيل: المسيح ابن مريم))(5).
بل حتى في كتاب «متى» ورد نفس المعنى: (لأنهُ مكتوب: إنهُ يوصي ملائكتهُ بكَ، فعلى أياديهم يحملونك؛ لكي لا تصدم بحجر رجلك) (متى: 4-4).
والحقيقة أن المعنى المقصود يظهر واضحًا في هذا النص؛ لأنه لو كان مجرد وصف حالة من أحوال المسيح ما اقتضى الأمر أن يقول: (مكتوب) فكتابة هذه الكلمة تدل على القصد من معنى الحمل ..!
«البديع» واسم الله «البديع» مرتبط بخلق عيسى من جهتين:
الأولى: إثبات قدرة الله المطلقة على الخلق بكل وجوهه وأشكاله، كما سيأتي في الكلام على الحكمة من خلق عيسى بلا أب.
والثانية: نفي ما ادعاه المشركون من نسبة الولد لله، وذلك أن من أبدع الخلق من العدم إلى الوجود غنيٌّ عن كل ما سواه، غير محتاج إلى مُعِينٍ.
وجميع المواضع التي ذُكر فيها اسم الله «البديع» جاءت مرتبطة بتنزيهه سبحانه عن الولد ..
ففي سورة البقرة: {وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون*بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [البقرة: 116، 117].
وفي سورة الأنعام: {بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} [الأنعام: 101].
__________
(1) الأدمة: السمرة.
(2) اللِّمَّة: شعر الرأس المجاوز شحمة الأذن، وهي دُون الجُمَّة، سُمِّيت بذلك لأنها ألَمَّت بالمَنْكِبَين.
(3) الترجيل: تسريح الشعر وتنظيفه وتحسينه.
(4) العاتق: ما بين المنكب والعنق.
(5) أخرجه البخاري (5902، 6999)، ومسلم (443) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.(1/25)
«العلي الكبير» إن اسم الله «العليّ الكبير» ينفي بمعناه بدعة ادِّعاء الولد لله، ولذلك جاء الأمر بإكبار الله -في سورة الإسراء بعد حمده- على أنه سبحانه لم يتخذ ولدًا: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} [الإسراء: 111].
فالعبادة والطاعة والتذلل لله تحقق الإحساس بأنه الأعلى في نفوس العباد، كما هو الأعلى بذاته، وتصير كلمته هي العُليا في نفوسهم كما هي العُليا في ذاتها نفسها، وكذلك التكبير يراد به أن يكون عند العبد أكبر من كل شيء، وهذا يبطل قول من جعل أكبر بمعنى كبير. وبهذا المعنى تثبت لله صفة العلو الذاتي .. كما يَثْبُتُ الشعور البشري الواجب تجاه الصفة.
ومن هنا كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعَدِيِّ بن حاتم يدعوه للإسلام وهو لم يزل بعد نصرانيًّا: ((يا عديّ ما يُفِرُّك؟! .. أيُفِرُّك أن يقال: لا إله إلا اللّه؟! فهل تعلم مِنْ إله إلا الله؟!
يا عديّ، ما يُفِرُّك؟! أيُفِرُّك أن يقال: الله أكبر؟! فهل من شيء أكبر من اللّه؟!))(1).
إن تخصيصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عديّ بن حاتم -وهو نصراني- بهذا الكلام من ناحية، وارتباط اسم الله «الكبير» باسمه «العلي» من ناحية أخرى- يعني: أن اسم الله «العلي الكبير» يعالج خللًا عقديًّا خطيرًا عند النصارى، وهذا الخلل ناشئ من اعتبارهم أن «العلي الكبير» بعيدٌ عن العباد، متكبرٌ عليهم، وأن الإيمان بنزول الله وتجسده يحقق القرب من الناس ..!
ومن هنا عالجت النصوص الشرعية هذا الخلل، فأثبتت الآيات العلو الإلهي مقترنًا بصفة الرحمة واسم الرحمن: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5].
والعرش أوسع المخلوقات ..
والرحمة أوسع الصفات ..
فيكون الاستواء على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات ..
__________
(1) أخرجه الترمذي (2953)، وأحمد (4/257)، كلاهما من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.(1/26)
ومن هنا كان قول الله سبحانه: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم} [غافر: 7].
ومن مجموع الآيات التي ورد فيها اسم الله «العلي الكبير» يتبين المعنى الأساسي الذي ينتفي به ادِّعاء الولد، وهذا المعنى هو الإيمان بالفرقان بين الخالق والمخلوق، حيث أثبتت كل مواضع القرآن التي ورد بها الاسمين تفسير معنى الفرقان من خلال عدة حقائق ..
الأولى: افتقار الخلق لنعمه وآياته وقوله ووحيه سبحانه .. كما في سورة الحج ولقمان وسبأ وغافر ..
ففي سورة الحج: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير*ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير*له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد*ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم} [الحج: 62-65].
وفي سورة لقمان: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير*ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور*وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور} [لقمان: 30-32].
وفي تفسير هذه الآيات يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه: ((خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليَّ صاعد))(1).
__________
(1) أخرجه البيهقي في الشعب (4589)، والمناوي في فيض القدير (4/494)، وأبو نعيم في الحلية (2/377، 4/27) وهو ليس من كلام النبي، بل هو من أقوال وهب بن منبه أو مالك بن دينار من قراءتهما في بعض الكتب الإلهية، وكذا صرح هو.(1/27)
وفي سورة سبأ: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير*ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير*قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 22-24].
يقول الإمام ابن كثير عند تفسير هذه الآيات: (بيَّن تبارك وتعالى أنه الإله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لا نظير له ولا شريك، بل هو المستقل بالأمر وحده من غير مشارك ولا منازع ولا معارض، فقال: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله} أي: من الآلهة التي عبدت من دونه، {لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض)، كما قال تعالى: {والذين يدعون من دونه ما يملكون من قطمير}، وقوله تعالى: {وما لهم فيهما من شرك} أي: لا يملكون شيئًا استقلالًا ولا على سبيل الشركة {وما له منهم من ظهير} أي: وليس للّه من هذه الأنداد من مُعينٍ يستظهر به في الأمور، بل الخلق كلهم فقراء إليه عبيد لديه، قال قتادة في قوله عزَّ وجلَّ: {وما له منهم من ظهير} من عون يعينه بشيء، ثم قال تعالى: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} أي: لعظمته وجلاله وكبريائه، لا يجترئ أحدٌ أن يشفع عنده تعالى في شيء، إلا بعد إذنه له في الشفاعة، كما قال عزَّ وجلَّ: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقال جلَّ وعلا: {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى}، وقال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون}؛ ولهذا ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم -وهو سيد ولد آدم، وأكبر شفيع عند اللّه تعالى- أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلهم، قال: ((فأسجد للّه تعالى .. فَيَدَعَني ما شاء اللّه أن يدعَني، ويفتح عليَّ بمحامد لا أحصيها الآن،(1/28)
ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل تُسمَع، وسل تُعطَه، واشفع تشفع))(1). وقوله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق}، وهذا أيضًا مقام رفيع في العظمة، وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي فسمع أهل السموات كلامه أرعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغَشِيّ، قال ابن مسعود: {حتى إذا فزع عن قلوبهم} أي زال الفزع عنها، وقال ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة في قوله عزَّ وجلَّ: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق} يقول: جُلِّي عن قلوبهم، فإذا كان كذلك سأل بعضهم بعضًا: {ماذا قال ربكم} فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم، ثم الذين يلونهم لمن تحتهم، حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا، ولهذا قال تعالى: {قالوا الحق} أي: أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان {وهو العلي الكبير}).
وفي هذه الآيات تَثبُت حقيقة الارتباط بين الفرقان العقدي والمنهجي بصفة العلو، واسم الله العلي الكبير حيث جاء في الآية: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}.
فالإيمان بأن الله هو «العلي الكبير» كما أنه الأساس العقدي للفرقان بين الخالق والمخلوق، فإنه الأساس المنهجي للفرقان بين الهدى والضلال.
سُئل الجنيد عن التوحيد فقال: (هو إفراد الحدوث عن القدم)، فَبَيَّن أنه لا بد للموحد من التمييز بين القديم الخالق والمحدث المخلوق، فلا يختلط أحدهما بالآخر.
__________
(1) أخرجه البخاري (3340، 4712)، ومسلم (501) كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري (4476، 6565، 7510)، ومسلم (495، 500) كلاهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.(1/29)
أما في سورة غافر: {ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير*هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب*فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون*رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق} [غافر: 12-15].
وتفسيرًا لهذه الآيات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، أخذت السموات منه رجفة - أو قال رعدة - شديدة خوف أمر الله، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبرائيل على الملائكة كلما مر بسماء ملائكتها. ماذا قال ربنا يا جبرائيل؟ فيقول جبرائيل: قال الحق وهو العلي الكبير، قال: فيقولون كلهم مثل ما قال جبرائيل، فينتهي جبرائيل بالوحي حيث أمره الله))(1).
وعن قتادة: (فتَفْرَقُ الملائكة -أو تفزع- مخافة أن يكون شيء من أمر الساعة).
في هذا الحديث نرى أثر سماع كلام الله على السموات وأهلها وجبريل والملائكة، وهو ما يتناسب مع عظمة الله وجلاله، خلافًا لادعاء نزول الله وتجسده -سبحانه- في مخلوق ..!
واختصاص جبرائيل بالذكر فيمن يصاب بالفزع ويخر ويسجد، ثم كونه أول من يرفع رأسه ليكلمه الله من وحيه بما أراد- إثباتٌ لأنه مخلوق لله، ذو قَدْرٍ عنده، ونفيٌ لفرية الأقنوم الثالث المزعوم عند النصارى.
وعندما ذكر الله رفع عيسى كانت صيغة الإسناد في فعل الرفع إلى الله -سبحانه- إثباتًا لصفة «العلو» ..
قال عز وجل: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 55] ..
وفي موضعٍ آخر: {بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما} [النساء: 158] ..
__________
(1) أخرجه البخاري (4424، 4522، 7043) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم (2229) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(1/30)
وعلى ضوء تفسير اسم الله «الكبير» وعلاقته بعقيدة النصارى نناقش مسألة في غاية الخطورة؛ وهي مسألة «تواضع الإله» ..!
فعندما اعترض الناس على النصارى في قولهم بأن الابن كأقنوم من الأقانيم الثلاثة، قد تجسد وصُلب وعُذب ومات .. وهو ما لا يتفق مع مقام الألوهية في النفس الإنسانية- حاولوا معالجة المسألة بنفي الألوهية عن المسيح في هذا الحال، وقالوا: إن هذه الأشياء وقعت على الناسوت فقط دون اللاهوت ..!
واستدلوا بقول بولس في رسالة فيلبي: (وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وَضَعَ نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب) (في 2: 8) وهذا القول منهم يثبت الانفصال بين اللاهوت والناسوت ..!
فردَّ عليهم مؤلف اللاهوت النظامي نافيًا هذا الفهم بقوله: (وقد أخطأ البعض في تفسير قول بولس: (وضع نفسه) وقالوا: إن المسيح أخلى نفسه من اللاهوت وصار إنسانًا فقط مدة بقائه في حال الاتضاع. والصحيح أن فيلبي (2: 8) تقول: إن ابن الله صار في حال الاتضاع مدة حياته على الأرض؛ أي: أن تجسده كان من باب الاتضاع) ..
فأراد أن ينفي دلالة التعذيب والخضوع والصلب على عدم الألوهية .. بزعم أنها كانت من باب التواضع ..!!
وهو الأسوأ من سابقه .. فإن التواضع من الإنسان فقط؛ لأنه أهلٌ لذلك وجديرٌ به ..
أما الإله، فإن تواضعه ينفي اتصافه بالألوهية؛ لأنها مقتضى العلو والملك والهيمنة، كما أنها مقتضى الربوبية والنعمة والرحمة ..
وإذا قيل: إن ولادة المسيح من امرأة ووضعه تحت الناموس وصلبه وآلامه وموته .. اتضاع ..
فما الذي يقال في نزوله إلى الأرض السُّفلى ..؟!
وما الذي يقال في غضب الله الذي وقع عليه واحتمله ..؟! وكيف يُحسَب ذلك من الاتضاع ..؟!
(وأما أنه صعد، فما هو إلا أنه نزل أيضًا «أولًا» إلى أقسام الأرض السفلى) (أف 4: 9).(1/31)
وحسب قانون إيمانهم: (أُوْمِن بالله الآب الضابط الكل، خالق السماء والأرض، وبيسوع المسيح ابنه الوحيد ربنا، .. وصُلب ومات ودُفن ونزل إلى الجحيم ..) ..!
ولشدة إحساسهم بالحرج .. حاولوا تخفيف الكلمة .. فقال مؤلف اللاهوت النظامي: (الأصح من قولنا: «نزل إلى الجحيم» أن نقول: نزل إلى الهاوية، أو نزل إلى عالم الأرواح) ..!
ثم يقول: (والعبارة «نزل إلى الجحيم» لا توجد أصلًا في هذا القانون، ولكنها زيدت عليه في نحو القرن الخامس).
فهو متخبطٌ بين محاولة تخفيفها وبين محاولة القول بتحريفها .. ولا يُفلح الساحر حيث أتى ..!
فقول النصارى بتواضع الله أو الاتضاع باطلٌ من حيث الصفة ومن حيث الموضوع ..
واسم الله «الكبير» ينفي عن الله صفة التواضع، ويثبت الفرقان بين الله والعباد، حتى وهم في أعلى مقامات الخلق ..
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جَنَّتان .. من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان .. من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم تبارك وتعالى .. إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن))(1).
وقد أثبت الله لذاته اسم «الكبير» واسم «المتكبر» ..
فهو سبحانه «الكبير» «المتكبر» بذاته وبصفاته وأفعاله ..
وانطلاقا من اسم الله «العلي الكبير» .. ننتقل إلى مناقشة قضية الصفات باعتبار أن هذين الاسمين كانا أساس إثبات الصفات في إطار قضية المسيح عيسى ابن مريم.
الفصل الثاني
الصفات
وكما كان نفي الولد عن الله أساسًا في معنى أسماء الله الحسنى .. كان نفي الولد عن الله أيضًا أساسًا في معنى صفاته العلى سبحانه ..
ولذلك يقول ابن تيمية: (والله -سبحانه وتعالى- قد نفى عن نفسه مماثلة المخلوقين، فقال تعالى: {قل هو الله أحد* الله الصمد* لم يلد ولم يولد* ولم يكن له كفوا أحد}، فبين أنه لم يكن أحد كفوا له.
__________
(1) أخرجه البخاري (4878، 7444)، ومسلم (466) كلاهما من حديث عبد الله بن قيس رضي الله عنهما.(1/32)
عَن أُبيِّ بنِ كَعبٍ قال: (نزلت سورة الإخلاص لما قال المشركونَ لرَسولِ اللَّهِ: انسُب لنا ربَّكَ ..! فأنزلَ اللَّهُ تعَالى: {قل هو الله* أحد الله الصمد}(1) .. والصَّمدُ هو الَّذِي لم يلدْ ولم يولد .. لأنَّهُ ليس شيءٌ يُولدُ إلَّا سيموتُ، وليس شيءٌ يموتُ إلَّا سيورثُ، وإنَّ اللَّهَ لا يموتُ ولا يُورَثُ .. {ولم يكن له كفوا أحد} قَالَ: لمْ يكنْ لهُ شبيهٌ ولا عَدلٌ وليسَ كمثلهِ شيءٌ).
وقول رسول الله: ((قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن))(2) يجب أن يكون منطلقا أساسيًّا في فهم القرآن، حيث ندرك به حقائق هامة وجوهرية في مواجهة ادِّعاء الولد، وذلك من خلال اسم الله «الصمد»، وفيه للسلف أقوال متعددة، قد يُظَنُّ أنها مختلفة .. وليست كذلك؛ لأن معانيها تتضمن كل حقائق المواجهة لكل مسائل تحريف النصارى.
فـ «الصمد» .. الذي لا يدخله شيء .. ولا يتخلله شيء .. ولا يخرج منه شيء.
وفيه مواجهة لبدعة التجسد، ونفي للتجزيء والتأليف عن ذاته، ومواجهة ادِّعاء الأقانيم التي يتجزء أو يتألف منها الله .. سبحانه وتعالى عن ذلك ..
وهذه الحقائق في صفات الله تمثل في قضية عيسى ابن مريم أهمية بالغة؛ ذلك لأن كل ما له جوف يمكن أن يدخله أو يخرج منه شيء، وأول ذلك الروح ..
لأن الذي أنشأ مشكلة «روح القدس» عند النصارى هو الظنُّ بأنه «الروح» التي تُنفخ في البشر قبل ولادته، وتخرج منه عند موته .. وهذا باطل؛ لأن «روح القدس» هو جبريل.
و«الصمد» .. الذي لا جوف له هو الذي لا حشو له؛ أي: ليست له أحشاء ..
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (5/133) والترمذي في سننه (3364، 3365)، والحاكم في المستدرك (2/589).
(2) أخرجه البخاري (5013، 5015، 6643، 7374) من حديث أبي سعيد الخدري، ومسلم (1922، 1925) عن أبي الدرداء، و(1924) عن أبي هريرة.(1/33)
وهو الذي لا يَطْعَم؛ أي: لا يأكل ولا يشرب، وفيه مواجهة الادعاء بأن الله يأكل ويشرب، ويتفق هذا المعنى مع القرآن في إثبات بشرية المسيح؛ لأكله الطعام .. لأن البشر الذين يأكلون ويشربون لهم جوف يدخل فيه الطعام ويخرج منه.
يقول عز وجل في عيسى وأمه: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل* وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام} [المائدة: 75] وقد ختمت الآية بقوله تعالى: {انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} لما في الافتقار إلى الطعام من الدلالة القاطعة على بشرية عيسى وأمه.
وكذلك الولادة .. فالذي له جوف مثل رحم المرأة التي تلد .. وأن الولد يكون في جوفها ..
ومن معاني «الصمد» .. الذي لا تعتريه الآفات ..
وفيه مواجهة للادعاء بأنه صُلِبَ وضُرِبَ وطُعِنَ بالحربة في جنبه ..!
ومن معاني «الصمد» .. الأزلي بلا ابتداء ..
وفيه مواجهة الادعاء بأن الابن كان مع الأب منذ الأزل ..!
ومن معاني «الصمد» .. الأول بلا عدد ..
وفيه مواجهة لقولهم ثالث ثلاثة ..!
ومن معاني «الصمد» .. الباقي بعد خلقه .. فهو الدائم الحي القيوم، الذي لا زوال له، وهو الذي لا يبلى ولا يفنى ..
وفيه مواجهة للادعاء بموت الإله ..!
ومن معاني «الصمد» .. الذي ليس فوقه أحد ..
وفيه مواجهة الادعاء بنزول الله في الأرض ..!
ومن معاني «الصمد» .. الذي لا يكافئه من خلقه أحد ..
فهو المقصود إليه في الرغائب، والمستغاث به عند المصائب، وهو المستغني عن كلِّ أحد، المحتاج إليه كلُّ أحد، الذي لا يُوصف بصفته أحد ..
ومن معاني «الصمد» .. الذي لا تدركه الأبصار ولا تحويه الأفكار ولا تبلغه الأقطار وكل شيء عنده بمقدار ..
وهو الذي جَلَّ عن شُبَه المصورين ..
فاسم الله «الصمد»: إثبات الكمال لله .. فهو السيِّد الذي كَمُل في سُؤُدِّده .. الكامل في جميع صفاته وأفعاله ..
أمَّا اسم الله «الأحد» ففيه نفي المِثْل والشبيه ..(1/34)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: شتمني ابن آدم .. وما ينبغي له أن يشتمني ..
وكذبني .. وما ينبغي له أن يكذبني ..
أما شتمه إياي .. فقوله: إن لي ولدًا .. وأنا الله الأحد الصمد .. لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوًا أحد ..
وأما تكذيبه إياي .. فقوله: ليس يعيدني كما بدأني .. وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته))(1).
ويفسر الإمام ابن تيمية كيف يواجه معنى{ الله أحد*الله الصمد} التحريف النصراني مواجهة كاملة فيقول: (الولادة والتولد وكل ما يكون من هذه الألفاظ لا يكون إلا من أصلين، وما كان من المتولد عينًا قائمة بنفسها فلا بد لها من مادة تخرج منها، وما كان عَرَضًا قائمًا بغيره فلا بد له من محل يقوم به ..
فالأول: نفاه بقوله: {الله أحد}، فإن الأحد هو الذي لا كفؤ له ولا نظير، فيمتنع أن تكون له صاحبة، والتوالد إنما يكون بين شيئين، قال تعالى: {بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} [الأنعام: 101].
فنفى سبحانه الولد بامتناع لازِمِه عليه، فإن انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم، وبأنه خالق كل شيء وكل ما سواه مخلوق له، ليس فيه شيء مولود له.
والثاني: نفاه بكونه سبحانه {الله الصمد} وهذا المتولد من أصلين يكون بجزئين ينفصلان من الأصلين، كتولد الحيوان -من أبيه وأمه- بالمَنِيِّ الذي ينفصل من أبيه وأمه، فهذا التولد يفتقر إلى أصل آخر، وإلى أن يخرج منهما شيء، وكل ذلك ممتنع في حق الله تعالى، فإنه {أحد} فليس له كفؤ يكون له صاحبة ونظيرًا، وهو {صمد} لا يخرج منه شيء، فلأن الله أحد صمد .. يمتنع أن يكون والدا، ويمتنع أن يكون مولودًا بطريق الأولى والأحرى).
__________
(1) أخرجه البخاري (4212) عن ابن عباس، (4690) عن أبي هريرة، وأحمد (2/317، 350) عن أبي هريرة.(1/35)
وكما كان ادِّعاء الولد نتيجة للخلل في تصور أسماء الله الحسنى .. كان هذا الادعاء نتيجة للخلل في تصور صفات الله سبحانه.
فمثلًا: فإذا كان هناك خلل في فهم العلاقة بين اسم الله «الرحمن» واسمه «القدير» .. فإن هذا الخلل يكون حادثًا في نفس الوقت في العلاقة بين صفة الرحمة وصفة القدرة ..
فعندما زعم النصارى أن الصلب كان فداءً للبشر وكفَّارة لخطيئة آدم .. كان الخلل من ناحية الإيمان بقدرة الله على تكفير هذه الخطيئة دون الاضطرار إلى بذل ابنه الوحيد بزعمهم ..!
لأن البذل هو التضحية بالمحبوب، أو بالأمر المحبب، وفعل هذه التضحية يكون اضطرارا(1) ..
فكيف تكون خطيئة آدم سببًا لنزول الله -سبحانه- إلى الأرض وصلبِه والبصقِ في وجهه .. والله يقول في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضُرِّي فتضرُّوني .. ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني .. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم- ما نقص ذلك من ملكي شيئا ..))(2).
وهكذا تصبح كل آثار ادِّعاء الولد خللًا في التصور الصحيح لصفات الله عز وجل، ليكون هذا الادعاء هو التناقض النهائي مع التصور الصحيح للصفات.
ومن أهم الصفات التي يتناقض معها ادِّعاء الولد .. صفة العلو واسم الله «العليّ» ..
وذلك لقولهم بنزول الله -سبحانه- إلى الأرض ..!
وكذلك صفة «الكِبَر» .. واسم الله «الكبير» ..
وذلك لقولهم بوجوده في محل النطفة، في ظلمات الرحم والمشيمة في بطن امرأة من البشر، الذين لا يشغلون جميعًا شيئًا من الأرض ..!
والتي لا تساوي شيئًا في السماء ..
كما لا تساوي السموات والأرض شيئا بالنسبة للكرسي ..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة بأرض فلاة(3) ..
__________
(1) لمزيد من التفصيل في هذه القضية .. راجع فصل الخطيئة والكفارة.
(2) أخرجه مسلم (6737) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(3) الفلاة: الصحراء.(1/36)
وفضل العرش على الكرسي .. كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة))(1).
وبذلك تكون صفة «العلو» واسم الله «العلي»، وصفة «الكِبر» واسم الله «الكبير» هما أساس التقابل مع بدعة ادِّعاء الولد.
ولذلك يقول ابن تيمية: (والرسل صلوات الله عليهم أخبروا بأن الله فوق العالم بعبارات متنوعة ..
تارة يقولون: هو العلي وهو الأعلى .. وتارة يقولون: هو في السماء كقوله: {أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا} [الملك: 17].
وليس مرادهم بذلك أن الله في جوف السموات أو أن الله يحصره شيء من المخلوقات، بل كلام الرسل كله يصدق بعضه بعضا كما قال تعالى: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين*والحمد لله رب العالمين} [الصافات: 180-182]، وقد قال تعالى: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} [الحديد: 3].
وثبت في الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد أن ينام، اضطجع على شقه الأيمن، ثم يقول: ((اللهم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقضِ عنا الدين وأغننا من الفقر))(2).
فأخبر أنه لا يكون شيء فوقه، ولهذا قال غير واحد من أئمة السلف: إنه ينزل إلى السماء الدنيا ولا يخلو العرش منه، فلا يصير تحت المخلوقات وفي جوفها قط، بل العلو عليها صفة لازمة له، حيث وجد مخلوق فلا يكون الرب إلا عاليًا عليه.
__________
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه (361) عن أبي ذر رضي الله عنه وصححه، وله شاهد عن مجاهد، أخرجه سعيد بن منصور في التفسير بسند صحيح.
(2) أخرجه مسلم (7064) من حديث أبي هريرة.(1/37)
وقول الرسل: «في السماء» أي: في العلو ليس مرادهم أنه في جوف الأفلاك، بل السماء: العلو، وهو إذا كان فوق العرش فهو العلي الأعلى، وليس هناك مخلوق حتى يكون الرب محصورًا في شيء من المخلوقات، ولا هو في جهة محدودة، بل ليس موجودًا إلا الخالق والمخلوق، والخالق بائن عن مخلوقاته عالٍ عليها، فليس هو في مخلوق أصلًا، سواء سُمِّيَ ذلك المخلوق جهةً أو لم يُسَمَّ جهة، ومن قال: إنه في جهة تعلو عليه أو تحيط به أو يحتاج إليها بوجه من الوجوه فهو مخطئ، بل طريق الاعتصام أنَّ ما أثبته الرسل لله أُثبِتَ له، وما نفته الرسل عن الله نُفِيَ عنه، والألفاظ التي لم تنطق الرسل فيها بنفي ولا إثبات .. كلفظ الجهة والحَيِّز ونحو ذلك .. لا يُطلَق نفيًا ولا إثباتًا إلا بعد بيان المراد .. فمن أراد بما أثبت معنىً صحيحًا فقد أصاب في المعنى).
فالإيمان بأسماء الله وصفاته هو في الابتداء معالجة لشعور الإنسان في جميع أحواله بالله عز وجل ..
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا)(1).
فعند الصعود .. يصيب الشعور بالعُلُوّ نفْسَ الإنسان، فيأتي التكبير مذكرًا بأن الله أكبر ..
وفي الهبوط .. يأتي التسبيح .. تنزيهًا لله عن النقائص والعيوب .. ومنها هذا الحال ..
وفي صحيح مسلم أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن جارية له؟ قال: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((إيتني بها)) فأتاه بها، فقال لها: ((أين الله؟)) قالت: في السماء، قال: ((من أنا؟)) قالت: أنت رسول الله، قال: ((اعتقها؛ فإنها مؤمنة))(2).
فاعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان بصفة العلو إيمانًا مطلقًا بالله ..
__________
(1) أخرجه البخاري (2993، 2994) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2) أخرجه مسلم (1227) من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه، وهو الرجل نفسه الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث.(1/38)
ومن هنا يكون الخلل في الإيمان بهذه الصفة .. هو نقيض الإيمان.
ولذلك فإن اسم الله «العلي» وصفة «العلو»، واسم الله «الكبير» وصفة «الكبر» .. هما محور التقابل بين التصور الإسلامي للصفات، والتحريف النصراني لها بادعاء الولد ..
ولما كانت حقيقة العرش هي الجامعة لهاتين الصفتين .. كان تفسير حقيقة العرش هو المواجهة الكاملة مع بدعة ادِّعاء الولد ..
وعلى هذا الأساس نفهم السياقات القرآنية التي تناولت نفي بدعة ادِّعاء الولد من خلال إثبات حقيقة العرش ..
ففي سورة الأنبياء قال تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون*لا يسأل عما يفعل وهم يسألون*أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون*وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون*وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون} [الأنبياء: 22-26].
وفي سورة المؤمنون يقول عز وجل: {قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم*سيقولون لله قل أفلا تتقون*قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون*سيقولون لله قل فأنى تسحرون*بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون*ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون} [المؤمنون: 84-91].
وفي سورة الزخرف قال سبحانه: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين*سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون} [الزخرف: 81-82].
جاء في تفسير الجلالين: {سبحان رب السماوات والأرض رب العرش} الكرسي {عما يصفون} يقولون من الكذب بنسبة الولد إليه.
ومن هنا كان الجمع بين آية الكرسي التي تثبت لله العلوَّ والكِبَر .. وسورة الإخلاص التي تنفي عن الله الولد ..
وذلك من خلال ورود اسم الله الأعظم فيهما ..(1/39)
ففي آية الكرسي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اسم الله الأعظم لفي ثلاث سور من القرآن: في سورة البقرة، وآل عمران، وطه))(1).
وقد رجح العلماء أن موضعه بالبقرة في آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} ..
وفي سورة الإخلاص سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب))(2).
الفصل الثالث
الأفعال
تمهيد: عيسى ابن مريم .. وحكمة الفعل الإلهي
ومناقشة موضوع المسيح من خلال قضية الأسماء والصفات والأفعال يقتضي تفسير حكمة الفعل الإلهي في قضية عيسى ابن مريم؛ لأن جميع أفعال الله دائرة على الحكمة.
وفي إثباتها يقول ابن القيم: (مجردُ الفعلِ من غير قصدٍ ولا حكمةٍ ولا مصلحةٍ يقصدها الفاعل -أصلًا- لا يكون متعلقًا للحمد؛ فلا يحمد عليه حتى لو حصلت به مصلحة من غير قصد الفاعل لحصولها؛ بل الذي يَقصِد الفعل لمصلحة وحكمة وغاية محمودة وهو عاجز عن تنفيذ مراده أحق بالحمد من قادر لا يفعل لحكمة ولا لمصلحة، ولا قصد الإحسان .. هذا هو المستقر في فطر الخلق).
فكل فعل من أفعال الله .. ناشئ عن الذات بمقتضى الصفات .. له حكمة.
يقول ابن القيم: (الحكمة في أفعال الله: هي تفسير العلاقة بين هذه الأفعال، بحيث تجتمع في كل فعل من أفعال الله حكمة الله التي صدر عنها هذا الفعل، بمقتضى أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، فلا يخرج أي فعل من أفعال الله عن الحق والخير والرحمة والعدل والإحسان، وهي الأصول التي تصدر عنها جميع الأفعال من خلال الحكمة).
والله منزه عن الخطأ في ذاته .. وهو معنى اسم الله «القدوس».
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (1861، 1866) عن أبي أمامة.
(2) أخرجه أبو داود (985) عن محجن الأدرعي، وأحمد (5/360) عن عبد الله بن بريدة عن أبيه.(1/40)
والله منزه عن الخطأ في أفعاله .. وهو معنى اسم الله «السلام».
ومن هنا كانت ليلة القدر -وهي ليلة تقدير أفعال الله كل عام «التقدير الحولي»- ليلة سلام، كما قال سبحانه: {إنا أنزلناه في ليلة القدر*وما أدراك ما ليلة القدر*ليلة القدر خير من ألف شهر*تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر*سلام هي حتى مطلع الفجر} [سورة القدر].
ومن هنا كان ارتباط حقيقة اسم الله «السلام»: بـ
- قضية عيسى ابن مريم ويحيى .. باعتبارهما خارقتان كونيتان متوافقتان ..
- وقضية عيسى ابن مريم والدجال .. باعتبارهما خارقتان كونيتان متقابلتان ..
أما من ناحية العلاقة بين عيسى ابن مريم ويحيى فقد أثبتتها سورة آل عمران بصور كبيرة واضحة من خلال سياق آيات السورة التي أكدت:
- أن رزق مريم الثمار في غير أوانها كان مقدمة لرزق زكريا الولد في غير أوانه ..
- أن ولادة يحيى بهذه الصورة الخارقة كان مقدمة لخلق عيسى بنفس الصورة ..
قال الله عز وجل: {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب*هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء*فنادته الملآئكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين}.
إلى أن يصل السياق إلى عيسى ابن مريم: {إذ قالت الملآئكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين*ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين}.
ولذلك كان عيسى ويحيى يجتمعان في حكمة واحدة وهي: إثبات قدرة الله المطلقة على الخلق، وكان «السلام» بينهما باعتبارهما طرفان في حكمة واحدة ..
لأن «السلام» بين أطراف الحكمة الواحدة .. معناه نفي الخطأ في العلاقة بين هذه الأطراف وتحقيق الحكمة ..(1/41)
فـ«يحيى» المولود بخارقة كونية من شيخ كبير وأم عاقر .. والذي اعترف اليهود بولادته ونبوته .. هو الدليل الأول لإثبات الخارقة الكونية في ولادة عيسى من غير أب، وتبرئة مريم البتول ..
وهو ما سماه القرآن .. بالتصديق: {ومصدقا بكلمة من الله}.
روى قتادة أن الحسن قال: (إن يحيى وعيسى عليهما السلام التقيا فقال له عيسى: استغفر لي؛ أنت خير مني .. فقال له الآخر: أنت خير مني .. فقال له عيسى: أنت خير مني .. سلَّمتُ على نفسي .. وسلَّمَ الله عليك .. فعرف والله فضلهما) وقول عيسى: (سلَّمتُ على نفسي) يتأول قول الله عز وجل: {والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا}، وقوله: (سلَّمَ الله عليك) يتأول به قول الله عز وجل: {وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا}.
هذا من ناحية العلاقة بين خلق عيسى ويحيى ..
أما من ناحية خلق عيسى ابن مريم والدجال باعتبارهما خارقتان كونيتان متقابلتان، فقد جاء الدليل على هذا التقابل من الاسم وهو كلمة «المسيح» الذي يعني «المقابل» ..
فالمسيح عيسى هو المقابل للدجال ..
والمسيح الدجال هو المقابل لعيسى ..
ومعنى التقابل هو التضاد مع وجود قاسم مشترك بين طرفي التضاد ..
ومعنى التضاد بين عيسى والدجال هو الخير والشر ..
والقاسم المشترك بين عيسى والدجال هو الفتنة ..
وبذلك يكون معنى كلمة «المسيح» بالنسبة لعيسى هو فتنة الخير المقابلة لفتنة الشر ..
ويكون معنى كلمة «المسيح» بالنسبة للدجال هو فتنة الشر المقابلة لفتنة الخير ..
وتفسير معنى الخير بالنسبة لعيسى ابن مريم ومعنى الشر بالنسبة للدجال يمثل أساسًا جوهريًّا في فهم القضية، وكذلك تفسير معنى الفتنة المشترك بينهما ..(1/42)
وبعد أن أثبتنا العلاقة بين خلق عيسى وبين ليلة القدر من خلال اسم الله «السلام» ومعناه: المنزه عن الخطأ في أفعاله .. نثبت في المقابل العلاقة بين الدجال وليلة القدر، فقد جمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث واحد، حيث قال: ((خرجت إليكم وقد بينت لي ليلة القدر ومسيح الضلالة، فكان تلاحى بين رجلين بسدة المسجد فأتيتهما لأحجز بينهما فأنسيتها، وسأشدوا لكم شدوا، أما ليلة القدر فالتمسوها في العشر الأواخر وترًا، وأما مسيح الضلالة فإنه أعور العين أجلى الجبهة عريض النحر فيه دَفَا(1) كأنه قطن بن عبد العزى))، قال: يا رسول الله، هل يضرني شبهه؟ قال: ((لا، أنت امرؤ مسلم، وهو امرؤ كافر))(2).
وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن مردويه وأبو نعيم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم جاء من ليلته فحدثهم بمسيره، وبعلامة بيت المقدس وبِعِيرهم، ... ورأى الدجال في صورته -رؤيا عين ليس برؤيا منام- وعيسى وموسى وإبراهيم عليهم السلام، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال؟ فقال: ((رأيته فيلمانيا(3) أقمر هجان(4)، إحدى عينيه قائمة كأنها كوكب دري، كأن شعره أغصان شجرة .. ورأيت عيسى عليه السلام شابًّا أبيض جعد الرأس حديد البصر مبطن الخلق ...))(5) ولعلنا نلاحظ سبق ذكر عيسى لموسى وإبراهيم ليكون ذكر عيسى بعد الدجال مباشرة.
__________
(1) الدال والفاء أصلان: أحدهما يدُلُّ على عِرَضٍ في الشَّيء، والآخَر على سُرعة، والمعنى: أنه عريض الرقبة.
(2) أخرجه أحمد في المسند (2/291) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) فَيْلَمَانيًّا: أي ضخمًا، والفَيْلَم من الرجال: العظيم، وقيل: هو العظيم الرأس.
(4) أي: بين الحمرة والبياض.
(5) أخرجه أحمد (1/374)، وأبو يعلى (5/108)، والطبراني في الكبير (11/313) جميعهم عن ابن عباس رضي الله عنهما.(1/43)
فالمسيح الدجال -الذي يظهر في آخر الزمان مدعيًا للإلهية- ينزل له المسيح عيسى ابن مريم الذي ادعيت له الإلهية بالباطل، بإذن الله تبارك وتعالى، فيقتل مسيحُ الهدى مسيحَ الضلالة ..
ولهذا لما حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من المسيح الدجال قال: ((ما من نبي إلا وقد أنذر أمته المسيح الدجال، حتى نوح أنذر قومه به)) وذكر النبي له ثلاثة دلائل ظاهرة تظهر لكل مسلم تبين كذبه:
أحدها: قوله ((مكتوب بين عينيه كافر «ك ف ر»)) يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ(1).
الثاني: قوله: ((واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت))(2) فبيَّن أن الله لا يراه أحدٌ في الدنيا بعينيه، وكل بشر فإنه يرى في الدنيا بالعين .. فَعُلِمَ أن الله لا يتحد ببشر.
الثالث: قوله: ((إنه أعور، وأن ربكم ليس بأعور ..))(3).
يقول الإمام ابن تيمية: (ودلائل نفي الربوبية عنه كثيرة، لكن لما كان ادِّعاء حلول اللاهوت في البشر واتخاذه مذهبًا ضل به طوائف كثيرون من بني آدم «النصارى وغيرهم» وكان المسيح الدجال يأتي بخوارق عظيمة، والنصارى احتجوا على إلهية المسيح بمثل ذلك- ذكر النبي من علامات كذبه أمورًا ظاهرة، لا يحتاج فيها إلى بيان موارد النزاع التي ضل فيها خلق كثير من الآدميين، فإن كثيرًا من الناس بل أكثرهم تدهشهم الخوارق حتى يصدقوا صاحبها قبل النظر في إمكان دعواه، وإذا صدقوه صدقوا النصارى في دعوى إلهية المسيح).
__________
(1) أخرجه مسلم (2933) عن أنس.
(2) أخرجه النسائي (4/419)، والهيثمي في المجمع (7/348) كلاهما من حديث عبادة بن الصامت.
(3) أخرجه البخاري (7131، 7408)، ومسلم (7548) كلاهما من حديث أنس رضي الله عنه.(1/44)
ولأجل المعنى القدري في العلاقة بين عيسى والدجال .. كان الجمع بينهما في الرؤيا التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: ((أراني الليلة عند الكعبة، فرأيت رجلًا آدم، كأحسن ما أنت راءٍ من أدم الرجال، له لمة كأحسن ما أنت راءٍ من اللمم، قد رجَّلها، فهي تقطر ماءً، متكئًا على رجلين، يطوف بالبيت، فسألت من هذا؟! فقيل لي: المسيح ابن مريم، ثم إذا أنا برجل جعد قطط أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية، فسألت من هذا؟! فقيل لي: المسيح الدجال))(1).
ولكن العلاقة بين الحكمة في أفعال الله وقضية عيسى ابن مريم تقتضي تفسير هذه التساؤلات الهامة ..
أولًا: ما هي الحكمة من خلق عيسى من غير أب؟
ثانيًا: ما هي الحكمة من التشبيه؟
ثالثًا: ما هي الحكمة من رفع عيسى؟
رابعًا: ما هي الحكمة من نزول عيسى؟
خامسًا: ما هي الحكمة من اختصاص عيسى بالمساءلة يوم القيامة؟
وهناك أساسٌ عامٌّ يُذكر قبل تفسير الحكمة في هذه الأفعال الإلهية بصورة تفصيلية ..
وهو أن الحكمة في جميع هذه الأفعال مرتبطة ببعضها ارتباطًا يجعلها حكمة واحدة ..!
فعندما نفسر الحكمة من التشبيه .. نجدها من أجل الرفع ..
وعندما نفسر الحكمة من الرفع .. نجدها من أجل النزول ..
وعندما نفسر الحكمة من النزول .. نجدها من أجل علامات الساعة ..
أولا: الحكمة من خلق عيسى من غير أب
والحكمة من خلق عيسى من غير أب لها بُعدان أساسيان:
- المشيئة
- القدرة
فالمشيئة الإلهية المطلقة هي الحكمة الثابتة في الآيات التي بشَّر الله فيها مريم بولادة عيسى:
{قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء} [آل عمران: 47].
ومع المشيئة تكون القدرة:
{إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [آل عمران: 47].
__________
(1) أخرجه مسلم (2937) من حديث النواس بن سمعان، وقد سبق شرح مفردات هذا الحديث.(1/45)
والمعالجة الحقيقية لولادة عيسى عليه السلام لا تتم إلا بإدراك الدلائل الكاملة لقضية القدرة الإلهية على الخلق ..
الجانب الأول: التنوع «القسمة الرباعية»
فمن أهم دلائل القدرة الإلهية .. التنوع في الخلق، وفيه يقول ابن القيم: (فتأمل كيف دل اختلاف الموجودات وثباتها، واجتماعها فيما اجتمعت فيه، وافتراقها فيما افترقت- على إله واحد .. ودلت على صفات كماله ونعوت جلاله سبحانه وتعالى).
وللتنوع قاعدة عامة تعرف باسم «القسمة الرباعية» وهي التي أشار إليها ابن القيم في تنوع الخلق وتنوع عملهم، فيقول عن تنوع الخلق: (ولهذا خلق سبحانه النوع الإنساني أربعة أقسام:
أحدها: لا من ذكر ولا أنثى، وهو خلق أبيهم وأصلهم آدم.
والثاني: من ذكر بلا أنثى، كخلق أمهم حواء من ضلع من أضلاع آدم، من غير أن تحمل بها أنثى، ويشتمل عليها بطن.
والثالث: خلقه من أنثى بلا ذكر، كخلق المسيح عيسى ابن مريم.
والرابع: خلق سائر النوع الإنساني من ذكر وأنثى.
وكل هذا ليدل على كمال قدرته، ونفوذ مشيئته، وكمال حكمته، وأن الأمر ليس كما يظنه أعداؤه الجاحدون له والكافرون به؛ من أن ذلك أمر طبيعي لم يزل هكذا ولا يزال، وأنه ليس للنوع أب ولا أم، وأنه ليس إلا أرحام تدفع وأرض تبلع، وطبيعة تفعل ما يُرى ويُشاهد، ولم يعلم هؤلاء الجهال الضلال أن الطبيعة قوة وصفة فقيرة إلى محلها، محتاجة إلى فاعل لها، وأنها من أدل الدلائل على وجود أمره بطبعها وخلقها، وأودعها الأجسام وجعل فيها هذه الأسرار العجيبة، فالطبيعة مخلوق من مخلوقاته، ومملوك من مماليكه وعبيده، مسخرة لأمره تعالى، منقادة لمشيئته، ودلائل الصنعة وأمارات الخلق والحدوث وشواهد الفقر والحاجة شاهدة عليها بأنها مخلوقة مصنوعة، لا تخلق ولا تفعل ولا تتصرف في ذاتها ونفسها، فضلًا عن إسناد الكائنات إليها).(1/46)
وقد أوضحت سورة النساء معنى القسمة الرباعية وعلاقتة بخلق عيسى ابن مريم، فكان الموضوع الأساسي لها هو تحديد المقتضيات الشرعية لخلق الناس رجالًا كثيرًا ونساءً ..
حيث أوضحت أول آية فيها ثلاثة أنواع من الخلق البشري ..
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} .. آدم .. الذي خُلق من غير أب وأم ..
{وخلق منها زوجها} .. حواء .. التي خُلقت لأب من غير أم ..
{وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء: 1] .. جميع البشر .. المخلوقين من أب وأم ..
ليبقى عيسى المخلوق من أم من غير أب ..!!
فتمتد السورة كلها بعد ذلك لتحديد المقتضيات الشرعية لخلق الناس رجال كثيرًا ونساءً، فتعالج قضايا الزواج واليتامى والمواريث والطلاق والمحرمات في الزواج، وبصورة أساسية أحكام المواريث التي تدور السورة كلها حولها.
والدليل المباشر على هذا التفسير هو تأخير حكم من أحكام المواريث «الكلالة»، وهو حالة أن يموت رجل ليس له ولد، ثم ارتباط ذكر الحكم بذكر عيسى ابن مريم، ومن هنا جاءت النهاية -كما جاءت البداية- دليلًا على ارتباط موضوع السورة بقضية عيسى ابن مريم: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} [النساء: 172].
إلى قوله تعالى: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم} [النساء: 176].(1/47)
وحقيقة التنوع -كدليل على القدرة الإلهية- يمثل بُعدًا من أبعاد القدرة؛ لأن القسمة الرباعية قائمة على التنوع البشري من ذكر وأنثى، وأن هذا التنوع هو أساس السلوك البشري من ناحية الخير والشر بدليل قول الله عز وجل: {والليل إذا يغشى*والنهار إذا تجلى*وما خلق الذكر والأنثى*إن سعيكم لشتى*فأما من أعطى واتقى*وصدق بالحسنى*فسنيسره لليسرى*وأما من بخل واستغنى*وكذب بالحسنى*فسنيسره للعسرى} [الليل: 1-10].
فهي قاعدة كونية عامة في النوع الإنساني وفي السلوك الإنساني ..
- فمن ناحية النوع الإنساني يقول الله عز وجل: {لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور*أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير} [الشورى: 49-50].
- ومن ناحية السلوك الإنساني تظهر هذه القسمة في عدة جوانب ..
ففي جانب «الإخلاص، والمتابعة» يقول ابن القيم في مدارج السالكين: (والناس منقسمون بحسب هذين الأصلين أربعة أقسام:
أحدهما: أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة للأنبياء.
والثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة.
والثالث: من هو مخلص في عمله، لكنه على غير متابعة.
والرابع: من أعماله على متابعة الأمر، بغير إخلاص لله).
وفي جانب «العلم، والعمل» يأتي قول الله عز وجل: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} [ص: 45] فقسمت الآية الناس إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: الأيدي: القوة في تنفيذ الحق، والأبصار: البصائر في الدين، والأنبياء هم أشرف الأقسام في الخَلق.
والقسم الثاني: عكس هؤلاء؛ من لا بصيرة له في الدين، ولا قدرة على تنفيذ الحق، وهم أكثر الخَلق.
والقسم الثالث: من له بصيرة بالحق ومعرفة به؛ لكنه ضعيف، لا قوة له على تنفيذه والدعوة إليه، وهذا حال المؤمن الضعيف.
والقسم الرابع: من أعماله على متابعة الأمر بغير إخلاص لله.(1/48)
وفي جانب «العبادة، والاستعانة» يقول الإمام ابن القيم: (وسر الخلق والأمر، والكتب والشرائع، والثواب والعقاب- انتهى إلى هاتين الكلمتين: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]).
إلى أن يقول رحمه الله: (فالناس في هذين الأصلين «العبادة والاستعانة» أربعة أقسام:
- أجلُّها وأفضلها: أهل العبادة والاستعانة بالله عليها.
- ومقابل هؤلاء القسم الثاني: وهم المعرِضون عن عبادته والاستعانة به، فلا عبادة ولا استعانة.
- وأما القسم الثالث: فهو من له نوع عبادة بلا استعانة ..
- وأما القسم الرابع: فهو من توكل على الله، واستعان به على حظوظه وشهواته وأغراضه وطلبها منه وأنزلها به؛ فقضيت له، سواء كانت أموالًا أو رياسة أو جاهًا عند الخلق أو أحوالًا؛ من كشفٍ وتأثيرٍ وقوة وتمكين، ولكن لا عاقبة له، فإنها من جنس الملك الظاهر).
وهناك جوانب أخرى لا يتسع المقام لذكرها.
الجانب الثاني: المقدمات «يحيى وعيسى»
ومن دلائل القدرة الإلهية .. المقدمات التي تدل عليها ..
فقد جعل الله -بمقتضى رحمته- خلق يحيى مقدمة لخلق عيسى، ومعينًا للناس على فهم حقيقة الإعجاز في خلق عيسى من غير أب، فكانت آية خلق يحيى من جنس آية خلق عيسى، وهي إظهار قدرة الله على خلق ما يشاء.
وكان التجانس في خلق يحيى وعيسى هو أساس معنى بُشْرى يحيى بعيسى ..(1/49)
والتجانس بين البُشْرى والمبشَّر بها قاعدة قدرية ثابتة، جاء فيها قول الله سبحانه: {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته} [الأعراف: 57]، فلما كانت الرياح بُشْرى بين يدي المطر دل ذلك على أن البُشْرى من جنس المبشَّر به، الأمر الذي انطبق على بُشْرى يحيى بعيسى، باعتبار أن عيسى كان بكلمة الله التي ولد بها من غير أب .. وأن ولادة يحيى تقارب ولادة عيسى ومن جنسها، من حيث عدم وجود صلاحية السبب في الولادة بالنسبة ليحيى، كما قال زكريا: {قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر} [آل عمران: 37]، وعدم وجود السبب أصلًا بالنسبة لعيسى ..!
والدليل على هذا الفهم .. هو الصيغة القرآنية للبُشْرى بعيسى: {أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين} [آل عمران: 39]، فجاءت البُشْرى بولادة يحيى، بصفته مصدقًا بـ(كلمة من الله) عيسى، وكان هذا التصديق هو أول صفات يحيى في خبر البُشْرى التي بشر الله بها زكريا بولادته.
ومعنى بُشْرى يحيى بعيسى هو نفسه معنى بُشْرى عيسى برسول الله صلى الله عليه وسلم: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [الصف: 6].
وكما كان لخلق عيسى مقدمات تدل عليه .. كان خلق عيسى نفسه مقدمة لقدر إلهي أكبر، وهو الساعة.
الجانب الثالث: عيسى والساعة
والحقيقة أن بين عيسى والساعة ارتباطًا قرآنيًّا من خلال معنى الإرادة والمشيئة والقدرة الإلهية المطلقة، حيث لم يُذكر في القرآن تعبير {كن فيكون} إلا في ثمانية مواضع، أربعة متعلقة بعيسى ابن مريم، وأربعة متعلقة بقيام الساعة(1).
__________
(1) تراجع هذه السياقات بالتفصيل في «نزول عيسى ضرورة قدرية».(1/50)
ولذلك كان خلق عيسى دليلًا على قدرة الله في الخلق، ودليلًا على الساعة، ودليلًا على الصراط (هامش إحالة إلى موقع عيسى والصراط) حيث اجتمعت كل هذه الدلائل في قول الله في سورة الزخرف: {وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم*ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين*ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون*إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [الزخرف: 60-64].
ثانيًا: الحكمة من التشبيه
ودليل حدوث التشبيه هو قول الله عز وجل: {وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا} [النساء: 157].
أما الحكمة من التشبيه فهي متعلقة بأفعال الله التي يكون بها الإهلاك .. ومنها سُنَّة الاستدراج، ودليلها قوله سبحانه: {والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} [الأعراف: 182].
وسُنَّة الاستدراج: هي الفعل الذي يقع من العبد؛ ليقع به العذاب المستحق، وهي داخلة ضمن السنن الأصلية للإهلاك: سُنَّة الإنذار .. سُنَّة الإمهال .. سُنَّة الاستدراج .. سُنَّة الاستحقاق .. سُنَّة الكشف .. سُنَّة الميعاد .. سُنَّة الإهلاك الفعلي.
ويفصِّل ابن القيم طريقة استحقاق الهلاك فيقول: (وتَحِقُّ كلمة الهلاك بإنزال الأمر والنهي، ثم إظهار قدر اتباعهم هوى أنفسهم، ثم قيام الحجة عليهم بالعدل، ثم يكون العقاب بمثلهم)(1).
__________
(1) مدارج السالكين (1/167).(1/51)
(فَعادةُ الرب تعالى -المعلومة في خلقه- أنه حينما يتحتم هلاك قومٍ بمعاصيهم فإنه يُحدثُ سببًا آخر يتحتم معه الهلاك، ألا ترى: أنَّ ثمود لم يهلكهم بكفرهم السابق حتى أراهم الآيات المتتابعات، واستحكم بغيهم وعنادهم، فحينئذ أُهلكوا، وكذلك قوم لوط لما أراد إهلاكهم أرسل الملائكة إلى لوط في صورة الأضياف، فقصدوهم بالفاحشة.
وكذلك سائر الأمم، إن أراد الله هلاكها أحدث لهم بغيًا وعدوانًا، بحيث يأخذهم على أثره، وهذه عادته مع عباده عمومًا وخصوصًا، فيعصيه العبد وهو يحلُم، ولا يعاجله، حتى إذا أراد أخذه .. قيض له عملًا يأخذه بعقوبته، مضافًا إلى أعماله الأولى، فيظن الظان أن أخذه كان بذلك العمل وحده، وليس كذلك، بل حق عليه القول بذلك، وكان قبل ذلك لم يَحِق القول بأعماله الأولى، حيث عمل ما يقتضي ثبوت الحق عليه، ولكن لم يحكم به أحكم الحاكمين، ولم يمضِ الحكم، فإذا عمل بعد ذلك ما يقرر غضب الرب أمضى حكمه وأنفذه، قال تعالى: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} [الزخرف: 55] وقد كانوا قبل ذلك أغضبوه بمعصية رسوله، ولكن لم يكن غضبه سبحانه قد استقر واستحكم عليهم، إذ كان بصدد أن يزول بإيمانهم، فلما أيس من إيمانهم تقرر الغضب واستحكم .. فحلت العقوبة، فهذا الموضوع من أسرار القرآن، ومن أسرار التقدير الإلهي).(1/52)
ومن هنا كان حدث التشبيه هو السبب الذي قدره الله لوقوع الغضب على اليهود، فكان ادعاؤهم قتل المسيح له نفس دلالة المحاولة الفعلية التي وقعت على المشبه به، والتي استحق اليهود بها الغضب، ولذلك جاء هذا الادعاء ضمن أكبر الذنوب المحسوبة عليهم أمام الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا القول -بعد المحاولة الفعلية التي وقعت على المشبه- دليل على القصد التام من المحاولة، والإصرار على هذا القصد، ودليل ذلك من كلام ابن القيم قوله: (فإذا أراد إهلاكهم ولا بد .. أحدث سببًا آخر يتحتم معه الهلاك)، وكان دليلها العام في القرآن هو قول الله: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} [الإسراء: 16].
قال الإمام البغوي في تفسير قوله تعالى: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين*إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 54-55]: (المكر من المخلوقين: الخبث والخديعة والحيلة، والمكر من الله: استدراج العبد، وأخذه بغتة من حيث لا يعلم، كما قال سبحانه: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} [الأعراف: 182]، وقال الزجاج: مكر الله عز وجل: مجازاتهم على مكرهم، فسُمِّي الجزاء باسم الابتداء لأنه في مقابلته، كقوله تعالى: {الله يستهزئ بهم} [البقرة: 15]، وقوله: {وهو خادعهم} [النساء: 142]، ومكر الله تعالى خاصة بهم في هذه الآية، وهو إلقاؤه الشَبه على صاحبهم (هامش نحيل فيه إلى الهامش الخاص بتحقيق روايات الشبيه).(1/53)
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: (ليس عند النصارى واليهود علم بأن المسيح صُلب كما قال تعالى: {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا} [النساء: 157]، وأضاف الخبر عن قتله إلى اليهود بقوله: {وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله} [النساء: 157]، فإنهم بهذا الكلام يستحقون العقوبة؛ إذ كانوا يعتقدون جواز قتل المسيح، ومن جَوَّز قتله فهو كمن قتله، فَهُم في هذا القول كاذبون وهم آثمون.
وإذا قالوه فخرًا .. لم يحصل لهم الفخر؛ لأنهم لم يقتلوه ..!، وحصل الوزر لاستحلالهم ذلك وسعيهم فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما .. فالقاتل والمقتول في النار)) قالوا: يا رسول اللّه، هذا القاتل، فما بال المقتول ..؟! قال: ((إنه كان حريصًا على قتل صاحبه))(1) فجعل الحرص على القتل كالقتل نفسه.
وظنُّ من ظنَّ منهم أنه صُلِب .. لا يقدح في إيمانه إذا كان لم يحرف ما جاء به المسيح(2)، بل هو مقر بأنه عبد اللّه ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فاعتقاده بعد هذا أنه صُلِب لا يقدح في إيمانه؛ فإن هذا اعتقاد موته على وجه معين، وغاية الصلب أن يكون قتلًا له، وقَتْلُ النبي لا يقدح في نبوته، وقد قتل بنو إسرائيل كثيرًا من الأنبياء، قال تعالى: {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير} [آل عمران: 146]، وقال تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} [آل عمران: 144]).
هذه هي قضية التشبيه .. سببٌ أحدثه الله لليهود؛ ليستحقوا به الغضب والعقوبة ..
__________
(1) أخرجه البخاري (31، 6481، 6672)، ومسلم (2888) كلاهما من حديث الأحنف بن قيس.
(2) كلام الإمام هاهنا على من عاصر قضية الصلب واشتبهت عليه، أما بعد نزول القرآن ونفيه لعملية الصلب فلا يجوز هذا الاعتقاد.(1/54)
وكما ترك الله ثمود يذبحون الناقة .. ترك اليهود يرتكبون محاولة قتل عيسى ..
لكنَّه سبحانه وتعالى قدَّر ألا يترك المسيح لليهود ..
فكان لا بد من التشبيه ..
كان لا بد من أن يأتي إنسان آخر في صورة المسيح، ويقتله اليهود فعلًا؛ فيستحقون الغضب والعقوبة.
فأصبح محكومًا عليهم عند الله أنهم قتلوه في حكم الله الشرعي؛ لقولهم: {إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم} [النساء: 157].
والحكمة من التشبيه جاءت جامعة للحكمة من عقوبة اليهود ونجاة عيسى، وهما أمران متقابلان؛ لأن عقوبة اليهود لا تكون إلا بقتل عيسى، ونجاة عيسى لا تكون إلا بقتل الشبيه، فجمع الله بحكمته وقدرته بين الأمرين بالتشبيه.
وفي مسألة التشبيه .. يبقى قول الله عز وجل هو الحجة البالغة ..
أما مناقشتها سلفيًّا فتتم من خلال عدة جوانب:
الجانب الأول: إسقاط شهادة اليهود
والمقرر بين المسلمين أن المشبه بالمسيح هو الذي صُلب، وأن عيسى عليه السلام رُفع، وأن جميع اليهود رأوا المشبه به وهو يُصلب، وأن تلاميذ المسيح هم وحدهم الذين رأوه يُرفع.
فكيف نغلِّب رؤية التلاميذ لعملية الرفع على رؤية جميع الخلائق على عملية الصلب ..؟!
مع مراعاة أن المشبه به كان لا يختلف عنه، وأن كل من رأى المشبه به على الصليب معذورٌ في اعتقاده أن المسيح قد صُلب.
والحقيقة: أن علم الحديث -وهو من أَجَلِّ العلوم السلفية- هو الذي يحسِم المشكلة، وذلك بتعريفه للتواتر على أنه ليس بكثرة الطرق .. ولكن بالثقة في أطراف النقل، بحيث يتساوى أطراف التواتر في الثقة بهم، وبصدقهم في الأخبار.
وباعتبار كفر جميع اليهود والرومان ينتفي معنى التواتر وفقًا لقواعد الرواية وعلم الحديث، في الوقت الذي يثبت فيه معنى التواتر في رواية التلاميذ في الرفع؛ وذلك لأن شرط التواتر متوافرٌ في إيمان التلاميذ، وهو الأمر المفقود عند اليهود والرومان .. رغم كثرة عددهم وقلة عدد التلاميذ ..!(1/55)
ولهذا جاء إثبات التشبيه بعد إثبات فسق اليهود تأكيدًا لرد شهادتهم، حيث يقول ربنا عز وجل:
{فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا} [النساء: 155].
{وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما} [النساء: 156].
وكان كفرهم هو: {وقولهم على مريم بهتانا عظيما} والبهتان هنا له اعتبار ضخم ..
ذلك لأن الكفر يُسقط عَدالتهم .. وكذلك البهتان .. مما يسقط شهادتهم في قضية عيسى؛ فلا يؤخذ بشهادتهم إذا قالوا: إن المصلوب هو عيسى.
فالآيات تصف الواقع الذي كان عليه اليهود .. والذي انتهى بهم إلى التعامل مع المسيح بهذا الأسلوب ..
قال ابن كثير: (هذا من الذنوب التي ارتكبوها؛ مما أوجب لعنتهم وطردهم وإبعادهم عن الهدى).
فقد كانوا يعيشون أحكامًا بالتحريم؛ عقوبة لهم على ظلمهم ..
{فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ..
وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا ..
وأخذهم الربا وقد نهوا عنه ..
وأكلهم أموال الناس بالباطل ..
وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما} [النساء: 161].
والمثير حقًّا أن يأتي تقرير الضوابط الأساسية لقبول أو رد الشهادة في سورة المائدة مباشرة قبل مناقشة قضية المسيح عليه السلام ..!(1/56)
قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين*فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين*ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين} [المائدة: 106-108].
وهذه هي ضوابط الشهادة .. ثم يأتي بعقبها: {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب*إذ قال الله يا عيسى ابن مريم ..} [المائدة: 109-110].
وهكذا يكون الإحكام القرآني .. أساسًا في التعامل مع قضية الشهادة والتشبيه.
الجانب الثاني: حكم شهادة الحواريين
وفي قوله تعالى: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} يقول الإمام ابن تيمية: (أضاف هذا القولَ إلى اليهود وذمهم عليه ولم يذكر النصارى؛ لأن الذين تولوا صلب المصلوب المشبه به هم اليهود، ولم يكن أحد من النصارى شاهدًا هذا معهم، بل كان الحواريون خائفين غائبين، فلم يشهد أحد منهم الصلب وإنما شهده اليهود، وهم الذين أخبروا الناس أنهم صلبوا المسيح، والذين نقلوا أن المسيح صُلب من النصارى وغيرهم إنما نقلوه عن أولئك اليهود، وهم شُرَطٌ من أعوان الظلمة، لم يكونوا خلقًا كثيرًا يمتنع تواطؤهم على الكذب).
الجانب الثالث: حكم شهادة النصارى
والكتب الموجودة بين يدي النصارى هي الوثيقة التي تتضمن شهادتهم على الأحداث، ولكن هذه الشهادة لم تخرج عن الإطار المحكَم الذي قرره القرآن ..!
فقد وصف الله حالهم: {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه}.(1/57)
وبالفعل لم تتطابق شهادتهم على الأحداث ..
وحتى روايتهم لوقائع المحاكمة تُسجِل ملاحظة خطيرة: وهي أن الشخص الذي كان يحَاكم لم يستفضْ في الكلام ..! على الرغم من أنها كانت الفرصة الوحيدة الباقية لإبلاغ دعوته وشرح قضيته لو كان هو المسيح ابن مريم ..!
فبحسب ما ذَكرَت كتاباتهم كانت المحاكمة كلمات مقتضبة ..
(إن كنت أنت المسيح فقل لنا ..!؟!
فقال لهم: إن قلتُ لكم لن تصدقوني، وإن سألتُ لا تجيبوني، ولا تطلقوني ..) (لوقا: 22) ..
(فسأله بيلاطس: أنت ملك اليهود؟!
فأجاب وقال له: أنت تقول ..!!
وكان رؤساء الكهنة يشتكون عليه كثيرًا .. فسأله بيلاطس أيضًا قائلًا:
أما تجيبُ بشيء ..؟ انظرْ كم يشهدون عليك ..؟!!
.. فلم يجب يسوع أيضًا بشيء .. حتى تعجب بيلاطس ..!!!) (مرقس: 16/3-7).
وهذه الملاحظة المسجلة في غاية الخطورة؛ لأن حياة المسيح منذ البعثة حتى الرفع كانت دعوة، وإقامة حجة، واستفاضة بلاغ .. وقد تميَّز المسيح بخوفه الشديد من الإبطاء في دعوته ..!
قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات؛ أن يعمل بهن ويأمر بهن بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فكاد أن يبطئ، فقال له عيسى: إنك قد أُمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بهن بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، فقال: لا تفعل يا أخي، فإني أخشى إن سبقتني إليهم أن أُعذب أو يُخسف بي))(1).
وروايات الكتب التي بين يدي النصارى تتفق مع تصوير الأحاديث للمسيح كداعية ..
فلا تخرج حياه المسيح عن المواعظ والمعجزات .. إلى درجة أنه ظل يعِظُهم طوال النهار حتى جاع الناس واشتكوا إليه .. فكانت معجزة السمك والخبز ..!
كيف للمسيح الذي لم يتوقف عن الدعوة سنوات طويلة .. ليلًا ونهارًا وفي كل مكان .. ومع جميع من يستطيع الوصول إليه ..
__________
(1) أخرجه أحمد (4/130، 202)، والترمذي (2863)، والحاكم (863) جميعهم من حديث الحارث الأشعري.(1/58)
دعوة زواج .. رحلة صيد ..
حتى أنه كان يدخل على الناس في بيوتهم لدعوتهم ..
كيف تكون حياته كذلك، ثم تأتي فرصته الأخيرة في الدعوة- فلا يتكلم .. إلا بألفاظ غير مفهومة ..؟!
.. أنت تقول .. أنا أقول .. وفقط ..!!
لقد كان الأمر الطبيعي والمنطقي أن يعتبر المسيح محاكمته فرصة لن تتكرر .. حيث اجتمع له رؤساء اليهود وجموعهم ليسمعوا الحقيقة كاملة.
الجانب الرابع: المشبه به
والمنهج السلفي في فهم قضية المسيح يقتضي الوقوف عند حدِّ النصوص الشرعية .. فلا ننشغل بمسألة لم يرد فيها نصٌّ شرعي، مثل مسألة شخص المشبه به، وبذلك تثبت الحدود العقدية للقضية؛ فلا نُدخل فيها ما ليس منها.
وتقرير هذه القاعدة لا يمنع مناقشة أي اجتهاد إسلامي يمكن الاستئناس به، لكنه يمنع من التفرق والاختلاف حول مسألة ليست داخلة ضمن التصور السلفي لقضية المسيح.
ومن المهم أيضًا التأكيد على أن زاوية الاهتمام بالمشبه به ليست شخصَه، ولكن تفسير موقفه في ضوء حكمة الفعل الإلهي.
والرواية السلفية الثابتة في هذا الموضوع وردت عن حبر الأمة عبد الله بن عباس .. قال: (لما أراد الله أن يرفع عيسى عليه السلام إلى السماء خرج على أصحابه وهم في بيت؛ اثنا عشر رجلا، ورأسه يقطر ماءً، فقال: أيُّكم يُلقى شبهي عليه فيُقتل مكاني فيكون معي في درجتي ..؟ فقام شابٌّ من أحدثهم سنًّا، فقال: أنا ..! فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: أنا ..! فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم الثالثة، فقال الشاب: أنا ..! فقال عيسى عليه السلام: نعم أنت ..! فَأُلقِيَ عليه شبه عيسى عليه السلام، ثم رُفِعَ عيسى من روزَنة كانت في البيت إلى السماء، وجاء الطلب من اليهود، فأخذوا الشاب للشبه فقتلوه، ثم صلبوه)(1) (تحليل علمي للروايات الواردة في المسألة بالهامش).
__________
(1) أخرجه النسائي (6/489)، وابن أبي شيبة في مصنفه (6/339).(1/59)
قال ابن كثير: (وهذا إسنادٌ صحيح إلى ابن عباس، ورواه النسائي عن أبي كريب، عن أبي معاوية بنحوه، وكذا ذكره غير واحد من السلف).
وبذلك ينطبق مصطلح «حواري» أول ما ينطبق على هذا الشاب، وتذكِّرنا هذه الرواية بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليله الخندق: ((من يأتيني بخبر القوم ..)) فقام الزبير وقال: «أنا» ثلاث مرات فقال رسول الله: ((لكل نبيٍّ حواريٌّ .. وحواريِّي الزبير ..))(1).
ولعل ظروف غزوة الخندق التي قال الله فيها: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا} [الأحزاب: 10] تشبه ظروف محاولة القبض على المسيح عليه السلام قبل وقوع التشبيه، فانتداب الرسول للزبير كان كانتداب المسيح للشَّاب.
واسم «حواريين» وإن كان لكل نبيٍّ إلا أن اختصاص الحواريين بعيسى ثابتٌ ومعروف ومشهور من النصوص.
الآثار المترتبة على التشبيه
تبين مما سبق أن التشبيه كان لوقوع الاستحقاق على اليهود بالغضب، ولم يكن لتحقيق النجاة للمسيح .. لأن النجاة قد تمت بالرفع قبل محاولة القبض على المسيح أصلًا ..
وهذا الاستحقاق كان أول آثار التشبيه على اليهود ..
لأن اليهود كانوا على يقين بأنه المسيح، وهذا اليقين كان أساسَ استحقاقهم لذنب المحاولة وكأنها قتل فعلي.
أما أثر التشبيه على النصارى، ففيه قول الله سبحانه وتعالى: {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه *ما لهم به من علم إلا اتباع الظن.*وما قتلوه يقينا} [النساء: 157] ..
فمن أين أتى الشك إلى النصارى ..؟!
لا بد أن تكون هناك شواهد صنعها الله ليحتج بها من يريد القول بأنه ليس المسيح؛ لأنه لولا هذه الشواهد ما وسع النصارى إلا القول بأن المصلوب هو المسيح دون اختلاف أو شك.
__________
(1) أخرجه مسلم (2415)، والبخاري (6833) كلاهما من حديث جابر بن عبد الله.(1/60)
وعرض الحالة الفكرية للنصارى على المدى التاريخي بخصوص قضية الصلب هو الذي يفسر معنى الآية: {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم} [التوبة: 115]، يعني: أن الله لا يضل قومًا إلا بعد أن يُبين لهم الأسباب والأشياء التي يحفظون بها أنفسهم من الضلال.
ليكون صلب المشبه به حدثًا واحدًا، له آثار متعددة ..
التشبيه كان استدراجًا لأمة الغضب ..
وكان فتنةً لأمة الضلال ..
وهداية للحواريين الذين حفظهم الله من الغضب والضلال.
وهذه الشواهد لا بد أنها كانت كافية عند المهتدين، الذين قالوا: إن المصلوب ليس المسيح، أما الذين قالوا: إنه المسيح {ما لهم به من علم} ما لهم بهذا القول من علم {إلا اتباع الظن} لأن الشواهد الدالة على القول بأنه ليس هو المصلوب كانت هي الشواهد الصحيحة؛ مما جعل الذين يخالفونهم متبعين للظن، الذي لا يفيد العلم.
والقول الفصل في القضية على مستوى اليهود والنصارى والمسلمين هو قول الله: {وما قتلوه يقينا} [النساء: 157].
وكان يكفي أن يقول: {وما قتلوه} .. ولكن لأجل الفصل كان قول الله تعالى: {وما قتلوه يقينا}.
(مراجعة تفسير الظن)
ثالثًا: الحكمة من الرفع
وبعد أن نفى الله حدوث الصلب، وأكد وقوع التشبيه قال عز وجل: {بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما} [النساء: 158].
فجاء ذكر الرفع مجملًا إثباتًا لتمام قدرة الله «العزيز» على إنجاء عيسى، وحكمته «الحكيم» من رفعه إلى السماء، بينما ذُكر الرفع مفصَّلًا في قول الله تعالى: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون} [آل عمران: 55].
حيث جاء على ثلاث مراحل:
الأولى: {متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا}
والثانية: {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة}(1/61)
والثالثة: {إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون}
والعلاقة المنهجية بين هذه المراحل هي ترتيب كل مرحلة على التي قبلها ..
فتمام المرحلة الثانية؛ أي: وصول الذين اتبعوا المسيح «على الحق» إلى قمة علوِّهم فوق الذين كفروا بنزوله، وتأييده لهم- لا يكون إلا بتمام المرحلة الأولى؛ أي: برفعه وتطهيره من الذين كفروا ..
وكذلك المرحلة الثالثة -وهي قيام القيامة ووقوف الخلق أمام الله للحساب- لن تكون إلا بتمام نزول المسيح وقتله الدجال .. لأنه من أشراط الساعة ..
والآن نناقش حكمة الرفع من خلال:
«المرحلة الأولى»: {إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا}
مُتَوَفِّيك: التوفية .. انقضاء الأجل في الدنيا.
وأصل كلمة الوفاة هو: التمام والكمال، قال تعالى: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} [البقرة: 40]، {يوفون بالنذر} [الإنسان: 7]، {وإبراهيم الذي وفى} [النجم: 37].
جاء في معجم مقاييس اللغة لابن فارس: (وَفَى: الواو والفاء والحرف المعتل: كلمة تدل على إكمال وإتمام. منه الوفاء: إتمام العهد وإكمال الشرط. ووفى أوفى فهو وفيٌّ، ويقولون: أوفيته الشيء إذا قضيته إياه وافيًا. وتوفيت الشيء واستوفيته، ومنه يقال للميت توفَّاه الله).
ومن معانيها: أوفى على المائة إذا زاد عليها، ووافيت العام: حججت، وتوفي فلان: توفاه الله تعالى وأدركته الوفاة.
فالمعنى: استكمال الموعد المحدد للمرء في الدنيا، وهذا قد يعني الموت بإخراج الروح، وقد يعني استيفاء المدة المؤقتة، وقبض الجسد بعد مدة معينة بغير إخراج الروح.
وهذا المعنى هو المقصود في هذه الآية، ويؤيده اقتران كلمة الوفاة بكلمة رافعك؛ أي: يستوفي جسده بعد إتمام المدة الأولى المقدرة قرينة على عدم قبض الروح.
كما تؤيده النصوص الصحيحة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان.
وقد جاءت الوفاة في القرآن على معانٍ منها:(1/62)
1- النوم: قال الله تعالى: {وهو الذي يتوفاكم بالليل} [الأنعام: 60] أي: يُنيمُكم.
2- الموت: قال الله تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت} [السجدة: 11].
وقد جمع الله المعنيين في قوله سبحانه: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر: 42] فاستعمل الوفاة في الحالين: النوم والموت؛ لأن النوم أخو الموت؛ كما قال صلى الله عليه وسلم لما سُئل: أفي الجنة نوم؟ قال: ((لا .. النوم أخو الموت))(1)، والجنة لا موت فيها.
وقد جادل أقوامٌ بأن الوفاة المذكورة في حق عيسى هي الموت؛ لأنها لم تقترن بقرينة الليل أو النوم؛ وهذا باطل لأن أصل الكلمة لا يعني الموت كما تقدم، والأمر يتطلب القرينة إذا كان المعني الأصلي للفظ هو الموت.
كما أن تفسير الوفاة هنا بأحد معانيها -وهو الموت- يتصادم مع النصوص الثابتة المؤكدة لنزول عيسى عليه السلام.
فالوفاء ومشتقاته تعني -كما تقدم- الكمال والتمام، وهذا ينطبق على استيفاء المسيح عليه السلام كله بجسده وروحه من الأرض إلى السماء.
والخلاصة: أن المعنى هو استكمال مدة محددة هي الأولى له في الدنيا، أو الرفع حالة النوم؛ أي: الوفاة بالمعنى الثاني، أو التوفي بمعنى القبض من الأرض والأخذ الوافي أي: أخذه كله بجسده وروحُه فيه إلى السماء سليمًا مُعافى من أي ضرر، أو الثلاثة معًا.
وقد رُوي عن الحسن أنه قال في قوله تعالى: {إني متوفيك} يعني وفاة المنام، رفعه الله في منامه.
وقال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: ((إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة))(2).
قال ابن جرير: (توفيه هو رفعه)، وقال به جمهور المفسرين.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام من النوم: ((الحمد الله الذي أحيانا بعد ما أماتنا))(3).
__________
(1) أخرجه الطبراني (919).
(2) أخرجه الطبراني (5747).
(3) أخرجه البخاري (6959، 6960) عن حذيفة رضي الله عنه، ومسلم (2711) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.(1/63)
قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: ((إِنَّ عِيسَى لَمْ يَمُتْ، وَإِنّهُ رَاجِعٌ إِلَيْكُمْ قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ولَنْ يُخْزِي الله أُمَّةً أَنَا أَوَّلُهَا وَالمَسيحُ آخِرُهَا؟!))(1).
والحقيقة الإعجازية في هذه الآية هو أن معنى الرفع لغة هو النجاة ..!
نقول:
«أرض نَجِيٌّ» .. أي: مرتفعة لا يبلغها الماء.
«رُطَبٌ نَجِيٌّ» .. أي: رُطَبٌ يؤكل من فوق النخلة بارتفاعها.
«جَبَلٌ نَجِيٌّ» .. جبل مرتفع.
«سحاب نَجِيٌّ» .. أي: أعلى السحاب وأرفعه.
فكانت النجاة بالرفع .. حدوثًا ولغةً .. وهذا من الإعجاز البلاغيِّ لكتاب الله في قضية عيسى ..!
وكذلك جاء الرفع قرينًا للطُّهر .. كما في قول الله سبحانه: {مرفوعة مطهرة} [عبس: 14].
فكان رفع عيسى نجاةً له وطهرًا من بني إسرائيل.
وإدراك الحكمة من رفع عيسى يبدأ بتفسير حقيقة عيسى نفسه، فهو «جانب الخير» المقابل للدجال «جانب الشر»، وتحقيق «جانب الخير» في عيسى جاء باعتبار أن الشيطان لم يمسه، وباعتبار أنه لم يذنب قط(2).
وبذلك اقتضى الأمر أن يُرفع عيسى ابن مريم ليكون له وجود ممتد في السماء يتقابل مع الوجود الممتد للدجال على الأرض، حتى لا ينقطع وجود عيسى .. باعتباره «جانب الخير» المقابل للدجال .. باعتباره «جانب الشر».
وبذلك يفهم أن وجود عيسى بلا انقطاع أمام الدجال .. حكمٌ قدريٌّ ..
وأن قتل عيسى للدجال .. حكمٌ قدريٌّ ..
وأن رفع عيسى حيًّا هو فعل الله المحقق لهذه الأحكام القدرية.
ولعلنا نلاحظ في الآية أن الرفع جاء قبل النجاة من الذين كفروا؛ لنفهم أن العلة الأساسية من الرفع هي بقاء عيسى حيًّا حتى ينزل في آخر الزمان، وليس مجرد أسلوب نجاة بالنسبة لعيسى، ومفردات الآية تؤكد المعنى الأساسي للرفع.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (19344).
(2) يراجع: فصل (حكمة النزول-الأداة القدرية).(1/64)
إن قدر الله بنجاة أنبيائه من أعدائهم ليس مجرد إنقاذ لحياتهم، ولكنه قدر يُظهر الله به حقائق يريد من الناس أن يفهموها ويؤمنوا بها.
والكيفية التي يحقق الله بها نجاة أنبيائه هي التي تتضمن هذه الحقائق ..
مثال ذلك: يونس عليه السلام، حيث كان مضمون تجربة دعوته هو القدر والأسباب ..
فقد أرسل الله يونس إلى قومه؛ ليكون سبب هداية لهم .. فلم يؤمنوا، فذهب مغاضبًا يائسًا من إيمانهم.
وركب الفلك؛ لينجو من بينهم .. فاضطرب الفلك، وأصبح سبب هلاك ..
واقترع ركاب الفلك ليلقوا العبد الذي عساه أن يكون سبب هلاكهم ..
واقترع يونس معهم .. فكان من المدحضين ..
ويُلقى في البحر ليكون سبب هلاكه ونجاتهم ..
فيلتقمه الحوت .. فيصبح سبب نجاته؛ إذ يسبح الله ويتوب إليه .. فيحتفظ به في بطنه ثلاثة أيام ..
ثم يلفظه إلى البَر .. ويعود إلى قومه فيؤمنوا أجمعون، ويكون سببُ نجاتهم ..
فكان لنجاة يونس وعودته إلى قومه مضمونٌ واحدٌ .. هو المشيئة الإلهية المطلقة، وفوقية القدر على الأسباب .. فتجانست النجاة مع الدعوة في المضمون.
وهذه هي حكمة النجاة .. أن يكون لها نفس مضمون الدعوة.
ومثال ذلك أيضًا: نجاة الرسول صلى الله عليه وسلم من محاولات قتله ..
فقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم مرتبطة بتمام الرسالة: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين} [المائدة: 67].
لذا كانت نجاة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل محاولات قتله قدرًا تامًّا، ومحقِقةً في كل محاولة جانبًا من جوانب المضمون الأساسي لرسالته(1) ..
ففي الغار تبينت معيةُ الله للنبيِّ: ((ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما))(2).
__________
(1) يراجع: شبهة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مسمومًا.
(2) أخرجه البخاري (3653، 3922، 4663)، ومسلم (6319) كلاهما عن أبي بكر رضي الله عنه.(1/65)
وفي أُحد وكذلك في حُنين .. حينما حاول المشركون قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وتكاثروا على ذلك .. صاحَ رسول الله: ((أنا النبي لا كذب .. أنا ابن عبد المطلب))(1).
وكذلك كانت نجاة عيسى ..
فقد رُفع لينزل مرة أخرى، ويُتِم مضمون دعوته، باعتبار أن النزول قد تضمن الدلالات الأساسية لهذا المضمون(2).
«المرحلة الثانية»: {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة}
والذين اتبعوه هم الذين آمنوا به وعملوا بوصاياه، وأهمها الإيمان بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ويفسر ذلك قول الرسول: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة)) قال: ((فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، فيقول أميرهم: تعالَ صلِّ لنا. فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء؛ تَكرِمة الله هذه الأمة))(3).
__________
(1) أخرجه البخاري (2864، 2874، 2930، 3042، 4315، 4316)، ومسلم (4715، 4716، 4717) كلاهما عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
(2) يراجع: فصل (عيسى والصراط) بالباب الخامس (الهيمنة السلفية).
(3) أخرجه مسلم (412) عن جابر بن عبد الله.(1/66)
ولذلك يقول ابن كثير في تفسير الآية: (فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق، كانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض، إذ قد صدقوا الرسول النبي الأمي العربي، خاتم الرسل وسيد ولد آدم على الإطلاق، الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق، فكانوا أولى بكل نبيٍّ من أمته، الذين يزعمون أنهم على ملته وطريقته مع ما قد حرفوا وبدلوا، ثم لو لم يكن شيء من ذلك لكان قد نسخ الله شريعة جميع الرسل بما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم من الدين الحق، الذي لا يُغير ولا يُبدل إلى قيام الساعة، ولا يزال قائمًا منصورًا ظاهرًا على كل دين؛ فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها، واجتازوا جميع الممالك، ودانت لهم جميع الدول، وكسروا كسرى، وقصروا قيصر وسلبوهما كنوزهما، وأنفقت في سبيل الله كما أخبرهم بذلك نبيهم عن ربهم عز وجل في قوله: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} [النور: 55]؛ فلهذا لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح -حقًّا- سلبوا النصارى بلاد الشام وألجئوهم إلى الروم فلجئوا إلى مدينتهم القسطنطينية، ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة).
وبعد وقت ليس ببعيد من عهد ابن كثير .. فتح العثمانيون القسطنطينية ودقوا أبواب فيينا ووصلوا إلى قلب أوروبا ..
«المرحلة الثالثة»: {ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون}(1/67)
وهي المرحلة الأخيرة، ولها أهمية بالغة في قضية المسيح عيسى ابن مريم، ذلك أن النصارى يدعون أن عيسى صعد إلى السماء لتكون له الدينونة أو الحكم بين الناس؛ ولذلك تُثبت الآية بعد رفع عيسى أن الحكم لله .. لا لأحد غيره، كما أن قضية عيسى ابن مريم أخطر القضايا التي اختلف حولها البشر، مما يقتضي حسمها بحكم الله فيها.
وبذلك تقوم الحجة الإلهية على الخلق في كل مراحل هذه القضية ..
ابتداءً بإقرار عيسى بعبوديته عند ولادته ..{قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا} [مريم: 30].
ومرورًا بجعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، كما قال الله سبحانه: {فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} [الصف: 14] ..
وانتهاءً بمساءلته يوم القيامة: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب*ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 116، 117].
رابعا: الحكمة من النزول
إن نزول عيسى ابن مريم ضرورة تتعلق بقضيته؛ لأن بدعة ادِّعاء الولد لله تتطلب مواجهة كونية، تقتضي أن يكون عيسى نفسه هو أداة النفي لهذا الادعاء ..
وكما تكلم عيسى في المهد ليقول بنفسه: {إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا} [مريم: 30] ..
كان لا بد من نزوله لينفي بنفسه أيضًا آثار هذا الادعاء ..
كان لا بد أن ينزل ويكسِر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ..
وهذا الأسلوب المُحدد في نفي ادِّعاء الولد لله يرجع إلى طبيعة المرحلة التي سينزل فيها عيسى ابن مريم في آخر الزمان، فهي مرحلة تصحيح واقعي وليست مرحلة دعوة كلامية ..(1/68)
ابتداءًا من كسر الصليب .. وانتهاءً بمُساءلته يوم القيامة على رءوس الأشهاد.
وكسر الصليب راجع إلى الطبيعة الكونية لآثار بدعة الادعاء ..
حيث قال الله سبحانه وتعالى: {تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا} [مريم: 90](1).
ولذلك كان لا بد من إنهاء بدعة ادِّعاء الولد على رءوس الأشهاد وأمام جميع الخلائق.
وتتميز المرحلة الثانية من حياة المسيح بامتلائها بالدلالات المثبتة للحكمة من خلق عيسى أصلًا، ثم نزوله بعد رفعه.
وأحاديث النزول هي النصوص الجامعة لهذه الدلالات ..
وأساس هذه الدلالات هو إثبات عبودية عيسى عليه السلام، وأهم هذه الدلائل هي وصف النبي صلى الله عليه وسلم لعيسى حال النزول عند استفحال فتنة الدجال: ((فبينما هم كذلك إذ بعث الله عيسى ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء -شرقي دمشق- بين مهرودتين، واضعًا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه ينحدر منه جمان كاللؤلؤ))(2).
مكان النزول
وكما كانت الدقة في إثبات الحكمة من النزول والتعبير عن النزول كانت كذلك في كيفية النزول ..
وقد تجلت هذه الدقة في تحديد مكان النزول: ((عند المنارة البيضاء شرقي دمشق))، وهذا المكان موضعه اليوم في المسجد الأموي بدمشق.
__________
(1) تعلمنا من القرآن والسنة طبيعة القضايا التي لا تعالج إلا بالفعل، مثل عادة التبني التي أبطلها القرآن بتزويج النبي فعلًا من زينب، حيث لم يكفِ نفي التبني بالكلام؛ لأنها قضية واقعية فلابد أن تتم معالجتها عمليًًّا، ولذلك ربط الله سبحانه وتعالى بين النهي عن التبني بالطبيعة الإنسانية، فقال سبحانه: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4]، فالطبيعة الإنسانية: أن لكل إنسان قلب واحد، فلا بد كذلك ألا ينتسب الابن لغير أبيه: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ}.
(2) سبق تخريجه.(1/69)
يقول الإمام ابن تيمية: (كان جامع دمشق وجامع حران وغيرهما موضع بعض هياكلهم -أي الصابئة- هذا هيكل المشترى، وهذا هيكل الزهرة)(1).
وهذا يثبت رمزية المكان، التي تتفق في معناها مع معنى النزول، حيث لا يبقى للصابئة ولا لليهود ولا للنصارى - الذين تناوبوا على هذا المكان - أي أثر، بعد أن ينزل عيسى ابن مريم، ويكون الدين ملة واحدة.
وقت النزول
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل عيسى ابن مريم عند صلاة الفجر)) وبذلك يثبت التحديد الزماني للنزول بأنه وقت صلاة الفجر، هذا الوقت الذي تجتمع فيه ملائكة النهار والليل على الأرض، ولذلك قال الله في قرآن الفجر: {إن قرآن الفجر كان مشهودا} [الإسراء: 78].
فكان نزول عيسى مشهودًا .. تشهده ملائكة الليل والنهار، وليصبح أول أعماله بعد النزول صلاة الصبح خلف المهدي(2).
__________
(1) ذكر الإمام ابن عساكر في تاريخ دمشق أن هذا المكان كان معبدًا لوثن الصابئة الأكبر: جوبيتر، ثم ملكه اليهود، ثم أقام فيه النصارى كنيسة، ثم فتحه خالد بن الوليد رضي الله عنه، وبنى عليه الوليد بن عبد الملك المسجد الأموي.
ويقول عبد المسيح بن إسحاق الكندي: (ومن آثارهم -أي الصابئة- القبة التي فوق محراب، عند المقصورة من جامع دمشق، وكان مصلاهم، كان اليونانيون والروم على دينهم، ثم صارت في أيدي اليهود فعملوها كنيستهم، ثم تغلب عليها النصارى فصيروها بيعة، إلى أن جاء الإسلام وأهله فاتخذوها مسجدًا).
(2) لمراجعة المزيد من دلائل عبودية عيسى عليه السلام يراجع: (الباب الخامس-فصل اختصاصات عيسى عليه السلام).(1/70)
وصلاة الصبح هي أقوى موانع الفتن؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث نزول الفتن: عن أم سلمة قالت: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: ((سبحان الله! ماذا أُنزل الليلة من الفتن؟ وماذا فُتح من الخزائن؟ أيقظوا صواحبات الحجر، فربَّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة))(1).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إني لأرى الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر))(2)؛ وذلك لأن صلاة الليل حرز من الفتن، وصلاة الصبح تعدل قيام الليل، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((من صلى العشاء في جماعة كأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة كأنما قام الليل كله))(3) هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى .. فإن صلاة الصبح تجعل صاحبها في ذمة الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من صلى الصبح في جماعة كان في ذمة الله حتى يمسي ..))(4).
ومن ناحية ثالثة .. فإن هناك تقابلًا بين صلاة الصبح والدجال، حيث أن صلاة الصبح خير من الدنيا وما فيها، وفتنة الدجال هي شر الدنيا وما فيها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يتبعه اليهود والمال والنساء والشياطين))(5).
هيئة النزول
من أهم حقائق الحكمة في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام .. إثبات بشريته وعبوديته؛ لذلك كان لنزوله صورة محددة تضمنتها الأحاديث التي ورد فيه ذكر النزول، حيث ظهرت في هذه الصورة عدة عناصر:
__________
(1) أخرجه البخاري (115، 1126، 3599، 5844، 6218، 7069) عن أم سلمة رضي الله عنها.
(2) أخرجه البخاري (1878، 2467)، ومسلم (7427) كلاهما من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
(3) أخرجه مسلم (1523) عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
(4) أخرجه مسلم (1525) عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه.
(5) أخرجه أحمد (4/216) والطبراني في (الكبير) (9/51/ح8392) وذكره الهيثمي في (المجمع) (7/342) بلفظ: ((فأكثر تبعه من اليهود والنساء)) قال: فيه علي بن زيد وفيه ضعف، وقد وثق، بقية رجاله رجال الصحيح.(1/71)
((بين مهرودتين- أو مُمَصَّرتين)): أي مرتديًا ثوبين مصبوغين - أوْ حلتين تضربان إلى الصفرة، مما يشير إلى الدقة الكبيرة في وصف الثوب الذي سينزل فيه عيسى (مرتديًا ثوبين)، ووصف لونهما بنفس الدقة ((تضربان إلى الصفرة))(1).
وهناك ملاحظة عامة في أحاديث آخر الزمان، وهي الوصف التفصيلي الدقيق، الذي يحقق اليقين في النفس، ومن أبرز الأمثلة عليه:
* قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الملحمة: ((فبينما هم كذلك إذ سمعوا ببأسٍ هو أكبر من ذلك، فجاءهم الصريخ، فقال: إن الدجال قد خرج في ذراريهم فيرفضون ما بأيديهم ويقبلون فيبعثون عشرة فوارس طليعة .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف أسماءهم وأسماء آباءهم وألوان خيولهم؛ هم خير فوارس على ظهر الأرض أو خير فوارس يومئذ))(2).
* وفي حديث النفخ في الصور يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم حال أول من سيسمع: ((ثم ينفخ في الصور؛ فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتًا ورفع ليتًا، قال: فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيُصعق ويُصعق الناس))(3).
* وفي حديث هدم الكعبة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((كأني به أسود(4) أفجح، يقلعها حجرًا حجرًا))(5).
__________
(1) وقد عقب الراوي على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنا أول مرة نسمع مهرودتين) مما يشير إلى الفصاحة التي تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية عيسى ابن مريم؛ ليجتمع إلى حق الوحي .. فصاحة البيان، وبهذا تكون القضية في حرز من التحريف، والحقيقة: أن استعمال الألفاظ الفصيحة غير المتواترة على ألسنة الناس تكاد تكون ظاهرة عامة في أحاديث آخر الزمان؛ لتعْلَق الألفاظ في الذهن، وتُحقق اليقين، وتمنع إمكانية إبدال لفظ مكان لفظ، حفاظًا على الأبعاد الكاملة لمعنى اللفظ.
(2) أخرجه مسلم (7463) عن ابن مسعود.
(3) أخرجه مسلم (7567) عن عبد الله بن عمرو.
(4) يقصد: ذي السويقتين من الحبشة.
(5) أخرجه البخاري (1595) عن ابن عباس.(1/72)
* وفي آخر الحشر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((تتركون المدينة على خير ما كانت، لا تغشاها إلا العواف -يريد عوافي السباع والطير- وآخر من يُحشر راعيان من مُزينة؛ يريدان المدينة، ينعقان بغنمهما، فيجدانها وحشًا، حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرَّا على وجوههما))(1).
* كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم ينزل عند المنارة البيضاء ((واضعًا كفيه على أجنحة ملكين)) وقد كان نزول عيسى ممكنًا بغير ملائكة، ولكن حمل الملائكة لعيسى إثبات لافتقار عيسى إلى الحمل، ولذلك كان الحمل من خصائص الخلق، فأصبح كل من يجري عليه الحمل مفتقرًا إلى غيره في قيامه وليس قائما بنفسه، وهو أيضًا الحكمة من جعل الملائكة حملة للعرش، إثباتًا لحقيقة أن العرش مخلوق.
وقد ثبت هذا المعنى في حق عيسى عليه السلام منذ خلقه في بطن أمه، حيث قال الله في ذلك: {فحملته فانتبذت به مكانا قصيا} [مريم: 22]، ولفظ {حملته} يغلِّب عليه جانب عيسى بدلًا من لفظ (حَمَلَتْ بِهِ) الذي يغلِّب عليه جانب مريم، ويأتي في سياق هذا المعنى قول الله عز وجل: {فأتت به قومها تحمله} [مريم: 27] وكان يكفي أن يقول الله: (فأتت به قومها) ليعبر عن المعنى المقصود ..!
* ويأتي في سياق هذا المعنى أيضًا .. وصفُ النبي صلى الله عليه وسلم لعيسى وهو يطوف بالبيت في آخر الزمان بقوله: ((رأيت عيسى وهو يطوف بالبيت متكئا على عاتق رجل))(2) وفي نفس النص يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المسيح الدجال وهو يطوف بالبيت متكئًا بين رجلين، وفي ذلك إثباتٌ لافتقار عيسى والدجال، نفيًا للألوهية التي ادَّعاها النصارى لعيسى، ونفيًا للألوهية التي ادعاها الدجال لنفسه.
ودلالة أن يكونا: ((ملكين)) .. هي التعبير عن الإحاطة الإلهية بالخلق .. ولها شواهد كثيرة ..
__________
(1) أخرجه البخاري (1874) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه البخاري (5902، 6999) ومسلم (443، 1672) كلاهما عن ابن عمر.(1/73)
- ففي الدنيا: الرقيب والعتيد، كما في قول الله عز وجل: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 18].
- وعند الموت: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: (إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها)(1).
- وفي القبر: ((فيأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟))(2).
- ويوم القيامة قبل الحساب: {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} [ق: 21].
- ويوم القيامة بعد الحساب: {ألقيا في جهنم كل كفار عنيد} [ق: 24].$$
((يقطر ماءً - إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ)): ودلالة الماء على عبودية المسيح له معناه، حيث كان العرش حدَّ الخلق في الابتداء؛ لأنه أول ما خلق الله، وكان الماء تحت العرش، كما قال الله سبحانه: {وكان عرشه على الماء}[هود: 7](3) ..
وعندما أبطل الله بدعة ادِّعاء الولد -في سياق سورة الأنبياء- قال سبحانه: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون*لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون*يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون*ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين*أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون} [الأنبياء: 26-30]؛ دلالةً على خضوع كل المخلوقات لقاعدة السببية، والتي تنشأ بمقتضاها من الماء، ولذلك ختم الله السياق بقوله: {وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون}.
فأصبح الماء سببًا للخلق عمومًا، وللبشر خصوصًا، حيث اختصهم الله بالذكر: {وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا} [الفرقان: 54].
__________
(1) أخرجه مسلم (7400) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه مسلم (7398) عن البراء بن عازب.
(3) على خلافٍ فيمن كان قبل الآخر .. «القلم» أم «العرش» والخلاف غير مؤثر في الاستدلال على المعنى المقصود.(1/74)
وذِكر هذه الآية في سورة الفرقان يؤكد المعنى المطلوب فهمه؛ لأن اسم السورة «الفرقان» يتضمن -أول ما يتضمن- الفرقان بين الخالق والمخلوق، أو بين الله والعباد.
وبذلك أصبح للماء دلالة كونية عامة على العبودية لله .. باعتباره حدًّا مكانيًا للخلق، وباعتباره سببًا كونيًّا للخلق.
ومن هنا كان الوضوء مادة تعبدية .. حيث أثبت الله للماء أصل الطهر الذي يكون به التعبد، بعدما أثبت الزمان «الليل والنهار» الذي تتقلب فيه أحوال العباد، فقال الله في سورة الفرقان: {وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا*وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا*لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا} [الفرقان: 47-49].
نزول عيسى ضرورة قدرية
لا نستطيع أن نفهم الحكمة من نزول عيسى عليه السلام إلا من خلال قوله تعالى: {وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم} [الزخرف: 61].
يقول ابن فارس في مقاييس اللغة: (علم: العين واللام والميم أصلٌ صحيح واحد، يدلُّ على أثَرٍ بالشيء يتميَّزُ به عن غيره، من ذلك العَلامة، وهي معروفة، يقال: عَلَّمت على الشيء علامة).
وتفسير هذه الآية جاءت فيه أقوال متعددة، لكنها جميعًا تتجه نحو تصور منهجي محدد لعيسى ابن مريم، كأمارة على وقوع الساعة، وكعلامة من علاماتها(1).
أما القول بأنه أمارة ودليل على وقوع الساعة فلأن معجزته كانت تحقيقًا ظاهرًا لكل الأبعاد القدرية التي تقوم بها الساعة، وهذه الأبعاد هي الإرادة والمشيئة والقدرة الإلهية المطلقة.
والحقيقة: إن للعلاقة بين عيسى والساعة من خلال هذه الأبعاد أصلًا قرآنيًّا، حيث لم يُذكر في القرآن تعبير: {كن فيكون} إلا في ثمانية مواضع .. أربعة متعلقة بعيسى ابن مريم، وأربعة متعلقة بقيام الساعة ..!
__________
(1) هناك قراءة متواترة بتحريك العين واللام (لَعَلَم)، وهي تؤكد نفس المعنى.(1/75)
ففي عيسى ابن مريم جاء قوله سبحانه:
{وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون*بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [البقرة: 116، 117].
{قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [آل عمران: 47].
{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59].
{ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [مريم: 35].
وفي الساعة -البعث بعد الموت- جاء قوله سبحانه:
{وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير} [الأنعام: 73].
{وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون*ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين*إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40].
{أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم*إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82]
{هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [غافر: 68].
هذا من حيث الأبعاد القدرية ..
أما من حيث العلامات ذاتها؛ فإن عيسى ابن مريم لن يكن مجرد علامة من العلامات، بل سيكون علامة العلامات ..
فكونه يصلي خلف المهدي فهذه علامة على المهدي ..
وكونه يقتل الدجال فهذه علامة على الدجال ..
وكونه يأوي بعباد الله -من يأجوج ومأجوج- إلى جبل الطور فهو علامة على يأجوج ومأجوج ..
وباجتماع علامات الساعة في عيسى تحقق معنى «علم الساعة»، حيث يقول ابن فارس: (كلُّ جنسٍ من الخَلْق فهو في نفسه مَعْلَم وعَلَم. وقال قوم: العالَم سمِّي لاجتماعه).(1/76)
وباجتماع علامات الساعة في عيسى غدا علمًا ومعلمًا للساعة، ينتفي به أي شك فيها، ولذلك قال عز وجل: {فلا تمترن بها}.
ومن خلال الأبعاد القدرية لعلامات الساعة والعلامات ذاتها يثبت التجانس التام بين عيسى والساعة.
ليكون عيسى عليه السلام هو أنسب أداة لتحقيق علامات الساعة باعتبار هذا التجانس.
وإثبات التناسب بين عيسى وعلامات الساعة يجب أن يبدأ بتفسير معنى التناسب القدري.
التناسب بين القدر والأداة المحقِّقة
والشرط الأساسي للأداة القدرية هو التناسب مع الغاية المحددة لتلك الأداة(1)، وأن تكون أداة التحقيق من جنس القدر المحقق، ويدخل في هذا المعنى كل الأفعال التي ستكون من عيسى في آخر الزمان، وأهمها: قتل الدجال، والإيواء بعباد الله إلى جبل الطور من يأجوج ومأجوج.
ومناسبة عيسى لقتل الدجال تأتي من علاقة التقابل بين عيسى والدجال، فالشر المجتمع في الدجال .. لا يناسبه ليمحوه إلا الخير المجتمع في عيسى ابن مريم.
__________
(1) ولتفسير معنى التناسب نذكر مثل التقابل بين الماء والشيطان، فإذا كانت النصوص تثبت الحرز في الماء باعتبار التقابل الذي بينه وبين النار- فإن هناك نصًّا يثبت هذا التقابل، باعتبار أن إبليس قد خُلق من نوع معين من النار؛ ليتحقق التقابل كاملًا ودقيقًا، فقد ثبت بالقرآن أن إبليس قد خلق {من نار السموم} [الحجر: 27] ومن {مارج من نار} [ الرحمن: 15] ونار السموم والمارج من النار هما أعلى جزء من النار إذا التهبت، فكان نص الحرز هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد))، حيث إن البرد هو الثلج الخفيف الذي يسقط من أعلى، فيقابل البَرَد هنا اللهب المرتفع في النار التي خُلق منها إبليس.
وبذلك يتحقق التقابل التام مع الشيطان: برودة الثلج المقابلة لحرارة الماء والنار، والبرد وهو المرتفع من الثلج المقابل للمارج وهو المرتفع في النار.(1/77)
وتحقيق «جانب الخير» في عيسى جاء باعتبار أن الشيطان لم يمسه، وباعتبار أنه لم يذنب قط.
وباجتماع هذه الخصائص في عيسى يكون الله قد حقق فيه غلبة الخير في الواقع البشري بصفة عامة، إذ أصبح قسم من أقسام النوع الإنساني الأربعة؛ لم يمسه الشيطان ولم يذكر له ذنب.
وبذلك ينطبق على علاقة المسيح عيسى ابن مريم والمسيح الدجال كل قواعد العلاقة بين الخير والشر، وأهمها حقيقة علاقة الصفة القدرية بمقتضاها في الواقع ..
يفسر ابن القيم هذه الحقيقة فيقول في تفسير قوله عز وجل: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين*إنهم لهم المنصورون*وإن جندنا لهم الغالبون} [الصافات: 171-173].
(فكما غلبت الرحمة غلب جنودها) ..
ولهذا أورد البخاري في باب: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين} قول النبي: ((لما قضى الله الخلق كتب عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي))(1).
ولما كان عيسى هو «جانب الخير» المقابل للدجال «جانب الشر» فإن القاعدة تنطبق على العلاقة بين عيسى والدجال وفقًا للعلاقة بين الخير والشر.
ويقول ابن القيم في تفسير قول النبي: ((لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك))(2): (الشرُّ كله عدم، وسببه الجهل وهو عدم العلم، أو الظلم وهو عدم العدل، وما يترتب على ذلك من الآلام، فهو من عدم استعداد المحل وقبوله لأسباب الخيرات واللذات)(3).
فلما كان الشر عدمًا أمام الخير فإن الدجال ينعدم أمام عيسى، ولذلك تصف الأحاديث قتل عيسى للدجال بأنه: ((يذُوب كما يذُوب الرصاص)) أو ((يذوب كما يذوب الملح)) أي ينعدم الدجال «الشر» أمام عيسى «الخير».
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا رآه عدوُّ الله ذابَ كما يذُوب الملحُ في الماء))(4).
__________
(1) أخرجه البخاري (7422، 7453، 7554) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه مسلم (1848) عن علي رضي الله عنه.
(3) شفاء العليل.
(4) أخرجه مسلم (7460) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/78)
وأصل التجانس بين الدجال والملح هو افتقاد الشر لوجودٍ أصلي، ومن هنا كان الذوبان مثالًا للشر وعقوبة عليه، باعتبار أن الجزاء من جنس العمل، ولذلك كان الذوبان والشر المطلق جنسًا واحدًا وهو «العدم».
وهناك ملاحظة خطيرة خاصة بذوبان الدجال كالملح، وهي أن الذوبان عقوبة من أراد بالمدينة سوءًا أو كيدًا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يكيد أهلَ المدينة أحدٌ إلا انماع كما ينماع الملح في الماء))(1) وقال صلى الله عليه وسلم: ((من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء))(2).
وواضح من الأحاديث أن صورة الإذابة ((كما يذوب الملح في الماء)) هي أشد صور الجزاء؛ ولذلك ضُربت مثلًا لمن أراد سوءًا أو كيدًا بالمدينة، وهي الصورة التي سيُقتل بها الدجال، وبذلك يضاف إلى طبيعة الدجال المتجانسة مع الملح سببًا آخر للذوبان .. وهو عداؤه للمدينة ..!
وقد عبَّر القرآن عن هذا المآل في مثل المشرك في قول الله سبحانه وتعالى: {حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} [الحج: 31].
وباعتبار أن العلاقة بين الخير والشر في الأصل هي العلاقة بين الحق والباطل ..
والعلاقة بين الحق والباطل هي غلبة الحق وزهوق الباطل ..
__________
(1) أخرجه البخاري (1877) عن سعد بن أبي وقاص.
(2) أخرجه مسلم (3385، 3427) عن سعد بن أبي وقاص، و(3424، 3425) عن أبي هريرة، و(3429) عنهما معًا.(1/79)
كما قال سبحانه: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} [الأنبياء: 18]؛ لذا سينزل عيسى ابن مريم طرفًا للحق الذي يقذف الله به الباطل، فيثبت معنى الغلبة بلا صراع عندما يفر الدجال منه حين يراه، وكذلك الكافرون من أهل الشر لا يقفون لعيسى ولا يستطيعون، بل يكون الأمر كما قال رسول الله: ((لا يحل لكافر أن يجد ريح نَفَسِه -أي نَفَسَ عيسى- إلا مات، ونَفَسُه ينتهي حيث ينتهي طرفه))(1).
وباعتبار أن الدجال فتنة الشر -الذي اجتمعت فيه كل أسبابه- فإن هذه الأسباب تُهزم معه؛ ولذلك ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قتل الدجال وهزيمة اليهود .. ((فيدركه –أي: يدرك عيسى الدجال- عند باب اللُّدّ الشرقي فيقتله، فيهزم الله اليهود، فلا يبقى شيء مما خلق الله عز وجل يتواقى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء؛ لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة .. إلا الغرقدة فإنها من شجرهم- لا تنطق إلا قال: يا عبد الله المسلم! .. هذا يهودي؛ فتعالَ اقتله))(2).
وكما كان التناسب بين عيسي وقتل الدجال .. كان كذلك في النجاة بعباد الله من يأجوج ومأجوج.
فقد رُفع عيسى عليه السلام ليكون له وجود متصل في السماء، يتقابل مع الوجود المتصل للدجال على الأرض، والوجود المتصل ليأجوج ومأجوج تحت الأرض ..
فلا ينقطع وجود «جانب الخير» المتمثل في عيسى في مقابل «جانب الشر» المتمثل في الدجال ويأجوج ومأجوج.
شبهة وردها
قال السفهاء من الناس: إن نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان يتعارض مع حقيقة ختم النبوة بالرسول عليه الصلاة والسلام ..
لذا لزم تحديد الأسس التي تفسر الصفة التي سينزل بها عيسى ابن مريم في أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) أخرجه مسلم (7559) عن النواس بن سمعان.
(2) أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني في صحيح الجامع (7875).(1/80)
أولًا: النبوة وحيٌ .. والوحي أحكام .. وعيسى لن ينزل بأحكام؛ لأن كل أفعاله ستكون أحكامًا ثابتة مسبقًا في شريعة الإسلام، فإذا كانت أهم أفعاله بعد النزول كسر الصليب، وقتل الخنزير، ووضع الجزية- فإن أحكام هذه الأفعال قد أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأمَّا كسر الصليب فقد روت أُمُّنا عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه)(1).
وعندما دخل عدي بن حاتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم -قبل أن يسلم- وفي عُنقه صليب من ذهب قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عدي .. اطرح عنك هذا الوثن))(2).
وأما قتل الخنزير فدليل على الحرمة؛ لأن ما أمر الشرع بقتله لا يؤكل، وإن كان مما يؤكل أصلًا فإن قتله دون ذبح يمنع أكله، ومن هنا كان قتل الخنزير دلالة على حرمته.
وكذلك كانت ضرورة وضع الجزية؛ لأن الجزية إقرارٌ باختلاف الأمم وتعددها، ووضعها إنهاءً لتعدد الأمم والملل، فيصبح الناس ملةً واحدةً كما كانوا في بدء الخلق؛ ولذلك جاء «كتاب بدء الخلق» في تصنيف البخاري بعد «كتاب الجزية» لأجل هذا المعنى المشار إليه، فقد بدأ الخلق أمة واحدة كما قال الله سبحانه: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة: 213] فمعنى أن يكون الناس أمة واحدة .. هو ألا تكون هناك جزية ..!
وكذلك قيام الساعة هو عودة الخلق كما بدأ؛ لقوله تعالى: {كما بدأكم تعودون} [الأعراف: 29].
__________
(1) أخرجه البخاري (5952) عن عائشة.
(2) أخرجه الترمذي (3095).(1/81)
كما أن حكم الجزية مرتبط بالجهاد، وبمجرد قتل الدجال لن يكون جهاد، ودليل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال))(1).
نقل الإمام ابن حجر عن الإمام النووي قوله: (الصواب أن عيسى لا يقبل إلا الإسلام، قلت «أي ابن حجر»: ويؤيده عند أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة: ((وتكون الدعوة واحدة)) ومعنى وضع عيسى الجزية مع أنها مشروعة في هذه الشريعة- أن مشروعيتها مقيدة بنزول عيسى لما دل عليه هذا الخبر، وليس عيسى بناسخ لحكم الجزية، بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ، المثبت له في شريعة الإسلام ابتداءً).
ثم يقول: (إن مشروعية قبول الجزية من اليهود والنصارى لما في أيديهم من شبهة الكتاب وتعلقهم بشرعٍ قديمٍ بزعمهم، فإذا نزل عيسى عليه السلام زالت الشبهة بحصول معاينته، فيصيرون كعبدة الأوثان في انقطاع حجتهم وانكشاف أمرهم، فناسب أن يُعاملوا معاملتهم في عدم قبول الجزية منهم).
ثانيا: الحكمة الأساسية للمعجزات بالنسبة للأنبياء هي إثبات للنبوة أو تعريف بالنبي، ولكن المعجزات التي ستكون على يد عيسى ابن مريم لن تكون كذلك؛ لأن الناس جميعهم سيعرفون عيسى بمجرد نزوله الأرض بين المنارتين في مسجد دمشق، بدليل أن المهدي سيقدِّمه للصلاة، فيرد عليه قائلا: ((إمامُكم منكم؛ تَكرِمة الله هذه الأمة))(2).
كما أن صلاة عيسى وراء المهدي دليلٌ على خضوعه لأحكام الشريعة الإسلامية المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: أن صلاته ستكون نفس صلاتِنا، وأن إمامة المهدي له تُثبت سُلطان المهدي على الأمة، وأن حكم عيسى سيكون حكم الضيف الذي يُصلي وراء صاحب البيت.
__________
(1) أخرجه أبو داود (2532).
(2) سبق تخريجه.(1/82)
ثالثًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بيَّن الصفة التي سينزل بها عيسى فقال: ((يُوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلًا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية))(1) فهو سينزل في الأمة بصفته حكمًا عدلًا وليس باعتبارٍ آخر.
رابعا: أن كل ما سيكون من أمر عيسى ابن مريم سيكون معجزةً للرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي أخبر به قبل أن يكون.
خامسًا: أن أثر نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان لن يكون محدودًا برسالته الأولى؛ لأن رسالته الأولى كانت في بني إسرائيل، أما بعد نزوله فسيكون أثره خارجَ هذه الحدود.
خامسا: الحكمة من المساءلة يوم القيامة
والحكمة من هذا الموقف ترجع إلى قاعدة عامة، وهي الإظهار الكامل للحق يوم القيامة؛ لأنه يوم كمال الإظهار لأسماء الله وصفاته ..
ولذلك يقول ابن القيم: (جعل الله سبحانه وتعالى الدُّور ثلاثة: دارٌ أخلصها للنعيم واللذة والبهجة والسرور، ودارٌ أخلصها للألم والنَّصب وأنواع البلاء والشرور، ودارٌ خُلط خيرها بشرها، ومُزج نعيمها بشقائها، ومزج لذتها بألمِها، يلتقيان ويطالبان، وجعل عمارة تينك الدارين من هذه الدار، وأجرى أحكامه على خلقه في الدور الثلاثة بمقتضى ربوبيته وإلهيته، وعزته وحكمته، وعدله ورحمته، فلو أسكنهم كلهم دار البقاء -من حين أوجدهم- لتعطلت أحكام هذه الصفات ولم يترتب عليها آثارُها).
__________
(1) أخرجه البخاري (2222، 2476، 3448) ومسلم (406) كلاهما من حديث أبي هريرة.(1/83)
ويقول في موضع ثانٍ: (إن يوم الميعاد الأكبر يوم مظهر الأسماء والصفات وأحكامها، ولهذا يقول سبحانه: {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} [غافر: 16]، وقال: {الملك يومئذ الحق للرحمن} [الفرقان: 26]، وقال: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله} [الانفطار: 19]، حتى أن الله سبحانه ليتعرف إلى عباده في ذلك اليوم بأسماء وصفات لم يعرفوها في هذه الدار، فهو يوم ظهور المملكة العظمى والأسماء الحسنى والصفات العلى، فتأمل ما أخبر به الله ورسوله من شأن ذلك اليوم وأحكامه، وظهور عزته وعدله، وفضله ورحمته، وآثار صفاته المقدسة، التي لو خُلقوا في دار البقاء لتعطلت، وكمال سبحانه ينفي ذلك، وهذا دليلٌ مستقلٌ -لمن عرف الله تعالى وأسماءه وصفاته- على وقوع المعاد وصدق الرسل فيما أخبروا به عن الله، فيتطابق دليل العقل ودليل السمع على وقوعه).
ويقول في موضوع ثالث: (إن الله سبحانه يحب أن يُعبد بأنواع التعبدات كلها، ولا يليق ذلك إلا بعظمته وجلاله، ولا يحسن ولا ينبغي إلا له وحده، ومن المعلوم أن من أنواع التعبد الحاصلة في دار البلاء والامتحان ما لا يكون في دار المجازاة، وإن كان في هذه الدار بعض المجازاة، وكمالها وتمامها إنما في تلك الدار، وليست دار عمل وإنما هي جزاء ثواب وعقاب، أوجب كماله المقدس أن يجزي فيه: {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} [النجم: 21].
فلم يكن بد من دار تقع فيها الإساءة والإحسان، ويجري على أهلها أحكام الأسماء والصفات، ثم يعقبها دار يجازى فيها المحسن والمسيء، ويجري على أهلها أحكام الأسماء والصفات، فتعطيل أسمائه وصفاته ممتنع ومستحيل، وهو تعطيلٌ لربوبيته وإلهيته وملكه وعزته وحكمته.(1/84)
فمن فُتح له بابٌ من الفقه في أحكام الأسماء والصفات وعلم اختصاصها لآثارها ومتعلقاتها، واستحالة تعطيلها .. علِمَ أن الأمر كما أخبرت به الرسل، وأنه لا يجوز عليه سبحانه، ولا ينبغي لغيره، وأنه ينزه عن خلاف ذلك كما ينزه عن سائر العيوب والنقائص، وهذا باب عزيز من أبواب الإيمان فيفتحه الله على من يشاء من عباده ويحرمه من يشاء.
ومن هنا كان قول الله -في الحديث القدسي-: ((أنا الملك .. أين ملوك الأرض؟))(1).
فيوم القيامة هو يوم ظهور أسماء الله وصفاته، ونفي كل ادِّعاء يناقض مقتضى أسماء الله وصفاته، وكمال إظهار الحق لا يكون إلا بإقرار أهل الباطل بما كانوا عليه، وفي هذا الإقرار جاء قول الله: {وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص*وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم} [إبراهيم: 21-22].
ومع إقرار أهل الباطل تكون مُساءلة أهل الحق، ومنها مُساءلة كل من عُبد من دون الله: {ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل*قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا*فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا} [الفرقان: 17-19].
وفي إطار إظهار الحق يوم القيامة كانت مُساءلة المرسلين ..
{يوم يجمع الله الرسل فيقول: ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب} [المائدة: 109].
__________
(1) أخرجه البخاري (6519، 7382) ومسلم (7227) كلاهما من حديث أبي هريرة.(1/85)
لتأتي بعد مُساءلة المرسلين .. مُساءلة عيسى عليه السلام ..
{وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم *أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله}؟!
{قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116].
فأكمل درجات الإقرار أن يكون بالأطراف التي يتعلق بها موضوع الإقرار، ومن هنا كان إقرار عيسى بالعبودية في يوم القيامة: {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم *وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم *فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم *وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 117].
وكان إقرار عيسى قبل يوم القيامة بالحق، وتحقيق كل مقتضياته بالفعل في الواقع .. كما كان الباطل فعلًا وواقعًا.
***
وعند هذا الحد يكون الكتاب قد طرح تصورًا سلفيًّا عامًّا لقضية المسيح؛ لتبدأ بعد ذلك مواجهة الانحراف النصراني في تلك القضية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الثاني
التحريف النصراني
الفصل الأول:
ادعاء الولد
تحليل الادِّعاء
اتفقنا في الباب الأول أن الخلل في قضية الأسماء والصفات.. هو بداية الانحراف في قضية التعريف بالله..
وأن الخلل في قضية التعريف بالله هو بداية الانحراف في النصرانية..
وأثبتنا أن عناصر الخلل في تصور الأسماء والصفات.. هي نفسها عناصر الانحراف في النصرانية.
ومن هنا توزعت محاولات النصارى لإثبات قولهم بادِّعاء الولد لله سبحانه وتعالى على مدخلين:
المدخل الأول: محاولات متعلقة بالتعريف بالله وصفاته.
المدخل الثاني: محاولات متعلقة بتفسير عيسى عليه السلام، واختصاصاته.
ففي المدخل الأول جاء ادِّعاء الولد من تحريف النصارى لقضية التعريف بالله، وأخطر عناصر هذا التحريف هي:
زعمهم: أن ادِّعاء الولد لله ينفي عن الله صفة التغير.(1/86)
فقالوا: إن الله يحب الخلق.. وإنه لا بد أن يكون هناك من يحبه الله قبل أن يخلق الخلق، حتى إذا خلق الخلق فأحبهم لا يكون قد تغير..! فقد أحب الله الابن قبل أن يخلق، فلا يكون قد تغير؛ لأنه أحب قبل الخلق وبعد الخلق..!
فجعلوا القول بالابن لازم لنفي صفة التغير عن الله..!
والرد على هذا القول هو:
أن الله لا يتغير ولكن أفعاله هي التي تتغير، وهو يقول في ذلك سبحانه: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29].
عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في تفسير هذه الآية: ((مِنْ شأنه أن يغفر ذنبًا، ويفرج كربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين))(1).
قال مجاهد: (كل يوم هو يجيب داعيًا، ويكشف كربًا، ويجيب مضطرًا، ويغفر ذنبًا).
وقال قتادة: (لا يستغني عنه أهل السموات والأرض؛ يُحيي حيًّا، ويميت ميتًا، ويربي صغيرًا، ويفك أسيرًا، وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم، ومنتهى شكواهم).
وثبوت الصفات الإلهية ليس مرهونًا بالخلق، فالله خالقٌ قبل أن يخلق، ورازقٌ قبل أن يرزق..
فهو سبحانه خالقٌ بمقتضى قدرته على الخلق.. وهو سبحانه رازقٌ بمقتضى قدرته على الرزق.. والله سبحانه لا يفتقر إلى غيره في ثبوت صفاته..
ولم يكن الخلق «لإثبات» الأسماء والصفات.. بل «لإظهار» آثار الأسماء والصفات.. وبذلك يكون ثبوت الأسماء والصفات لله.. أمرًا ذاتيًّا..
فلا فرق في ثبوت صفة «الحب» لله قبل خلق الخلق أوْ بعده؛ لأنها ثابتة لله قبل خلق الخلق، بحبه لذاته ولصفاته، كما قال ابن القيم: (والرب تعالى يحب ذاته وصفاته وأسماءه، فهو عفوٌّ يحب العفو، ويحب المغفرة، ويحب التوبة، ويفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يخطر بالبال.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (1/73)، وابن حبان (2/464) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.(1/87)
وكان تقدير ما يغفره ويعفو عن فاعله ويحلم عنه ويتوب عليه ويسامحه- من موجب أسمائه وصفاته، وحصول ما يحبه ويرضاه من ذلك، وما يحمد به نفسه وما يحمده به أهل سمواته وأهل أرضه- ما هو من موجبات كماله ومقتضيات حمده، وهو سبحانه الحميد المجيد، وحمده ومجده يقتضيان آثارهما.
ومن آثارهما مغفرة الذلات، وإقالة العثرات، والعفو عن السيئات، والمسامحة على الجنايات، مع كمال القدرة على استيفاء الحق، والعلم منه سبحانه وتعالى بالجناية ومقدار عقوباتها.
فحلمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن كمال عزته وحكمته، كما قال المسيح عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] أي: فمغفرتك عن كمال قدرتك وحكمتك، ولست كمن يغفر عجزًا، ويسامح جهلا بقدر الحق، بل عليمٌ قادرٌ على استيفائه، حكيمٌ في الأخذ به).
فصفة الحب ثابتةٌ لله ثبوتًا ذاتيًّا، ليست متعلقة -كما يدعي النصارى- بادِّعاء الولد، الذي يحبه الله قبل الخلق!!
حتى أن حب الله للخلق يكون بموجب حبه سبحانه لأسمائه وصفاته، فيقول ابن القيم: (وهو سبحانه يحب موجب أسمائه وصفاته.. فهو «عليم» يحب كل عالم، «جواد» يحب كل جواد، «وتر» يحب الوتر، «جميل» يحب الجمال، «عفوٌّ» يحب العفو وأهله، «حييٌّ» يحب الحياء وأهله، «برٌّ» يحب الأبرار، «شكور» يحب الشاكرين، «صبور» يحب الصابرين، «حليم» يحب أهل الحلم.
فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة والعفو والصفح.. خلَق من يغفر له ويتوب عليه ويعفو عنه، وقَدَّر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض؛ ليترتب عليه المحبوب له، المرضي له، فتوسطه كتوسط الأسباب المكروهة المفضية إلى المحبوب).(1/88)
بل إن الحقيقة أن ادِّعاء الولد هو الذي يُوجب القول بتغير ذات الله، ولذلك يقول ابن تيمية: (إذا كان الابن مولودًا -كالنطق من العقل- لزم أن يكون الأب ناطقًا بعد أن لم يكن ناطقًا، وهذا باطلٌ في حق الله).
زعمهم: أن ادِّعاء الولد لله يحقق كمال الله
وهو القول بأن الله أوجد الابن، وأن الابن علة تحقق الكمال للأب.
فيرد ابن تيمية هذا القول في «الجواب الصحيح» فيقول:
(أما قولهم: الأب: الذي هو ابتداء الاثنين، والابن: النطق الذي هو مولود منه كولادة النطق من العقل- فكلام باطل.. بل هو من أعظم الكفر وأشده استحالة، فإن صفات الكمال لازمة لذات الرب عز وجل أولًا وآخرًا.. لم يزل ولا يزال حيًّا عالمًا قادرًا، لم يصرْ حيًّا بعد أن لم يكن حيًّا، ولا عالمًا بعد أن لم يكن عالمًا..!!).
(فإذا قالوا: إن الأب الذي هو الذات هو ابتداء الحياة والنطق..اقتضى ذلك أن يكون الأب قبل الحياة والنطق، وأن يكون فاعلًا للحياة والنطق، فإن ما كان ابتداءً لغيره يكون متقدمًا عليه.. أو فاعلًا له، وهذا في حق الله باطلٌ..!!
وكذلك قولهم: إن النطق مولود منه كولادة النطق من العقل.. فإن المولود من غيره متولد منه، فيحدث بعد أن لم يكن كما يحدث النطق شيئًا فشيئًا، سواء أريد بالنطق العلم أو البيان، فكلاهما لم يكن لازمًا للنفس الناطقة، بل حدث فيها واتصفت به بعد أن لم يكن، وإن كانت قابلة له ناطقة بالقوة، فإذا مثلوا تولد النطق من الرب كتولده عن العقل لزم أن يكون الرب كان ناطقًا بالقوة ثم صار ناطقًا بالفعل، فيلزم أنه صار عالمًا بعد أن لم يكن عالمًا، وهذا من أعظم الكفر وأشده استحالة، فإنه لا شيء غيره يجعله متصفًا بصفات الكمال بعد أن لم يكن متصفًا بها، إذ كل ما سواه فهو مخلوق له، وكماله منه، فيمتنع أن يكون هو جاعل الرب سبحانه وتعالى كاملًا!!).
زعمهم: أن ادِّعاء الولد لله يحقق المعرفة البشرية لله(1/89)
فيقولون: إن الإنسان لم يكن له إمكانية معرفة الله إلا من خلال الابن الذي هو الله -كما يزعمون- والذي جاء في صورة إنسان.. فنشأت بذلك علاقة المعرفة بين الإنسان والله..
والحق: إن معرفة الله على وجه الحقيقة الكاملة ليست ممكنة لغير لله سبحانه وتعالى ذاته.. وقد بين النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن لله أسماءً لا يعلمها أحدٌ من خلقه سبحانه: (أو استأثرت به في علم الغيب عندك)..
وقد بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن لله أسماءً لا يعلمها أحدٌ من خلقه سبحانه(1)، ومعرفة الله تكون من خلال أسمائه وصفاته وأفعاله، وبذلك يصبح تحقق المعرفة الإنسانية الحقيقية الكاملة لله والإحاطة بذاته وصفاته أمرًا مستحيلًا..!
ومعرفة الإنسان لله إنما تكون بقدر استطاعته.. وشأن المعرفة في ذلك شأن التقوى؛ لأن التقوى لا تكون إلا بقدر العلم، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: ((أنا والله أعلمكم بالله، وأتقاكم له))(2).
ولذلك أنزل الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، ثم أنزل بعدها: {اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم} [التغابن: 16].
__________
(1) قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أصاب مسلما قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك.. أن تجعل القرآن ربيع قلبي وجلاء حزني و ذهاب همي.. إلا أذهب الله همه، و أبدله مكان حزنه فرحا)) أخرجه أحمد في مسنده (1/391، 452)، وابن حبان في صحيحه (3/353)، والحاكم في المستدرك (1/690) جميعهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري (19) والحاكم في المستدرك (1696).(1/90)
وشأن الإنسان في ذلك شأن الخلائق؛ ولذلك عرَّف هدهدُ سليمان الله بقوله: { أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ*اللَّه لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 25-26].
يقول ابن القيم: (وهذا الهدهد من أهدى الحيوان وأبصره بمواضع الماء تحت الأرض، لا يراه غيره)؛ لذلك لما عَرَّف الله.. عرَّفه بمقتضى طبيعته وواقعه وخبرته.
زعمهم أن ظهور الله في صورة إنسانية يحقق القرب بين الله والإنسان
وهو قولٌ ناشئ عن عدم إدراك التصور الإسلامي لحقيقة العلاقة بين العباد وربهم.. والقائم على العلاقة بين «الله» بذاته وصفاته.. وبين العباد، وليست على مجرد «صورة إنسانية» مزعومة لله..!
ولذلك جاءت التعبيرات التي تصف الفعل الإلهي تجاه الإنسان بأسلوب يتناسب مع الطبيعة الإنسانية..
فالله يحب عباده ويتودد إليهم.. قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96].
وفي تفسير هذه الآية يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله إذا أحب عبدًا دعا جبريل، فقال: يا جبريل، إني أحب فلانًا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، قال: ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، ثم يُوضع له القبول في الأرض، وإن الله إذا أبغض عبدًا دعا جبريل، فقال: يا جبريل، إني أبغض فلانًا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه، قال: فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له البغضاء في الأرض))(1).
__________
(1) أخرجه البخاري (7047)، ومسلم (2637) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(1/91)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ))(1).
ورأى النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من السَّبي قد فُرِّقَ بينها وبين ولدها، فجعلت كلما وجدت صبيًّا من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها، فلما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها..
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ألا تطرحه..؟!)) قالوا: لا يا رسول الله!
قال: ((فوالله، لله أرحم بعباده من هذه بولدها..))(2).
ويقول صلى الله عليه وسلم: ((لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها؛ فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال -من شدة الفرح-: اللهم أنت عبدي وأنا ربك..! أخطأ من شدة الفرح))(3).
وعن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن)).. فقلت: أسَمَّاني لك..؟! قال: ((نعم..!)) فبكى..
__________
(1) أخرجه البخاري (6173)، ومسلم (2685) كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري (5653)، ومسلم (2754) كلاهما من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(3) أخرجه مسلم (2747) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.(1/92)
قيل لأُبَيّ رضي الله عنه: أفرحت بذلك؟ قال: وما يمنعني والله تعالى يقول: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58](1).
وعن أبي هريرة قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا رسول الله.. هذه خديجة قد أتت.. معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، ومِنِّي، وبَشِّرها ببيت في الجنة من قصب.. لا صخب فيه ولا نصب))(2).
وهذه النصوص.. هي التي تغرس في القلب محبة الله، وترسِّخ عقيدة أنه -سبحانه- أقرب للإنسان من أي شيء آخر..
وهذا هو التصور الذي يحقق علاقة صحيحة بين الله والعباد، على أساس مقام الألوهية الصحيح والطبيعة البشرية المستقيمة، أما زعم «التجسد الإلهي» في صورة إنسانية بزعم إمكانية المعرفة الإنسانية بالله.. فهو باطل؛ لأنه يحرف حقيقة المقام الإلهي، وفي نفس الوقت.. يفسد الطبيعة البشرية، كما سيتبين ذلك تفصيلًا في المدخل الشيطاني إلى القول بالتجسد.
التولد
ومن مناقشة ادعاء الولد كانت مناقشة التولد، فيذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله تبريرهم لادعاء الولد: (وهم يقولون: نحن سمَّينا عِلْمَهُ مولودا عنه؛ لكونه تولد عنه تولد الكلمة عن العقل، وهذا الولد اتحد بالناسوت، فسمَّينا المجموع ولدًا، وبهذا يفرقون بين كون المسيح ابنًا، وغيره من الأنبياء يسمى ابنًا..
فإنهم يقولون: هؤلاء أبناء بالوضع، والمسيح ابن بالطبع، أي: أولئك سُمُّوا أبناءً بمشيئة الرب وقدرته؛ لأنه اصطفاهم..
والكلمة التي جعلوها متحدة بالمسيح هي عندهم متولدة عن الله تولدا قديمًا أزليًّا لا يتعلق بمشيئته وقدرته، ولهذا قالوا: مولود غير مصنوع).
__________
(1) أخرجه البخاري ( 4676 ) ، ومسلم ( 799 ) كلاهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري (3609)، ومسلم (2432) كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(1/93)
وقد لجئوا إلى وصف التولُّد بأنَّه «قديم أزليٌّ» تحرزًا من المعنى الأصلي للتولد الذي يفيد الحدوث، وينفي القدم، ولهذا يردُّ ابن تيمية على هذا الكلام بقوله: (وسائر الطوائف الذين أثبتوا لله ولدًا جعلوه حادثًا منفصلا عنه، فأما جعل صفته القائمة به ولدًا له ومولودًا، فهذا لا يُعرَف عن غير النصارى، فإذا أثبتوا له ولدًا وابنًا غير مخلوق -والصفة القائمة به اللازمة له لم تتولد عنه ولا تسمى ابنًا ولا ولدًا عند أحد من الأنبياء وغيرهم- تعين أن يكون الولد إما جزءًا منفصلًا عنه، وإما معلولًا له، صادرًا عنه بغير قدرته ومشيئته.
وأي القولين قالوه فهم فيه كفار مضاهئون لقول الذين كفروا من قبل، وبعض علمائهم وإن أنكر ذلك لكنهم يقولون ما يستلزم ذلك، ويشبهونه بالشعاع من الشمس، ويقولون عن الروح: هو منبثق من الله خارج منه، وهذا كله يناسب الولادة التي هي خروج شيء منه أو حدوث شيء عنه بغير اختياره ومشيئته، ولا بد له مع ذلك من محل يقوم به، فإن الشعاع لا يقوم إلا بالأرض، والأمر المنبثق الخارج من غيره إما أن يكون جوهرًا قائما بنفسه أو صفة قائمة بغيرها، فإن كان جوهرًا فقد انفصل من الرب جزء، وإن كان عرضًا فلا بد له من محل فيكون متولدًا عن أصلين.
وتشبيههم بتولد الكلام عن العقل تشبيه باطل، فإن ذلك يحصل بقدرة الإنسان ومشيئته، وهو حادث بعد أن لم يكن.
هذا إذا عُرف أن ما يقوم بقلب الإنسان من علم وحكمة يقال: إنه يتولد عنه، ويقال: إنه ابنه، مع أن هذا أمرٌ غير معروف في اللغات، ولو كان معروفًا في لغة بعض الأمم لم يجز أن يفسر به كلام الأنبياء، إن لم يكن معروفًا في لغتهم.
وأما ما يدعونه؛ فإنهم يقولون: إن الكلمة لازمة لذات الله أزلًا وأبدًا، وهي مولودة منه، مع أنها غير مصنوعة، فهذا كلام متناقض باطل من وجوه..(1/94)
فإن المتولد عن الشيء لا يتولد إلا عنه وعن غيره، وأما الشيء الواحد فلا يتولد عنه وحده شيء، وأيضًا فإن ما تولد عن غيره لم يكن حادثًا، وأما الصفة القديمة اللازمة لذات الرب فليست مولودة له ولا متولدة عنه، بل هي قائمة به لازمة لذاته.
وأيضًا، فإن المولود اسم مفعول، يقال: ولده يلده فهو مولود، وهذا لا يقال إلا في الحادث المتجدد، فإنه مفعول فعل الوالد، والقديم الأزلي لا يكون مفعولًا مولودًا.
وأيضًا فتسمية الصفة القديمة الأزلية مولودًا وابنًا لا يوجد في كلام أحد من الأنبياء عليهم السلام.
فهب أن هذا مما يسوغ لنا في اللغة أن نقوله، لكن لا يجوز أن نحدث لغة غير لغة الأنبياء ونحمل كلام الأنبياء عليها، فإن هذا كذب عليهم، وهكذا تفعل النصارى وأمثالهم من أهل التحريف بكلام الأنبياء، يحدثون لهم لغة مخالفة للغة الأنبياء ويحملون كلام الأنبياء عليه.
مثال ذلك: أن الأنبياء أخبروا بأن الله إلهٌ واحدٌ وكفَّروا من أثبت إلهين اثنين، وأمروا بالتوحيد ودعوا إليه، وحرموا الشرك وكفَّروا أهله، وأخبروا أن الله واحد أحد، وكان مرادهم بذلك توحيدَه، وأنه لا يجوز أن يعبد إلا الله، وأنه لا يستحق العبادة إلا هو، ليس مقصودهم بذلك نفي صفاته، فلم يقصدوا بلفظ الأحد والواحد أنه ليس له علم ولا قدرة ولا شيء من الصفات..
فجاء طائفة من أهل البدع ففسروا لفظ اسم الواحد والأحد بما جعلوه اصطلاحا لهم، فقالوا: الواحد الذي ليس فيه تركيب ولا ينقسم، ولو كان له صفات لكان مركبًا، ولو قامت به الصفات لكان جسمًا، والجسم مركب من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة، فلا يكون أحدًا ولا واحدًا، فيقال: هذا الذي قالوه لو قدر أنه صحيح في العقل واللغة فليس هو لغة الأنبياء التي خاطبوا بها الخلق، فكيف إذا لم يكن هذا الواحد من لغة أحد من الأمم..!؟!(1/95)
بل جميع الأمم تسمي ما قام به الصفات واحدًا، بل يسمونه وحيدًا، وقد يسمونه في غير الإثبات أحدًا، كقوله: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6]، وقوله {ذرني ومن خلقت وحيدا} [المزمل: 11] وأمثال ذلك.
ويقول أيضًا: (الولادة والتولد وكل ما يكون من هذه الألفاظ لا يكون إلا من أصلين، وما كان من المتولد عينا قائمة بنفسها فلا بد لها من مادة تخرج منها، وما كان عرضا قائما بغيره فلا بد له من محل يقوم به فالأول نفاه بقوله: «أحد»، فان الأحد هو الذي لا كفؤ له ولا نظير، فيمتنع أن تكون له صاحبة، والتوالد إنما يكون بين شيئين قال تعالى: { وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ. بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [الأنعام: 100 – 103].
فنفى سبحانه الولد بامتناع لازمه عليه فان انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم، وبأنه خالق كل شيء وكل ما سواه مخلوق له، ليس فيه شيء مولود له.
والثاني: نفاه بكونه سبحانه الصمد وهذا المتولد من أصلين يكون بجزئين ينفصلان من الأصلين كتولد الحيوان من أبيه وأمه بالمنى الذي ينفصل من أبيه وأمه فهذا التولد يفتقر إلى أصل آخر، والى أن يخرج منهما شيء وكل ذلك ممتنع في حق الله تعالى فإنه «أحد» فليس له كفؤ يكون له صاحبة ونظيرا وهو «صمد» لا يخرج منه شيء فكل واحد من كونه أحدا ومن كونه صمدا يمنع أن يكون والدا ويمنع أن يكون مولودا بطريق الأولى والأحرى.(1/96)
وهذا كما تقدم من أن الولادة لا تكون ألا من أصلين سواء في ذلك تولد الأعيان التي تسمى الجواهر، وتولد الأعراض والصفات، بل ولا يكون تولد الأعيان إلا بانفصال جزء من الوالد، فإذا امتنع أن يكون له صاحبة امتنع أن يكون له ولد، وقد علموا كلهم أن لا صاحبة له لا من الملائكة، ولا من الجن، ولا من الإنس، فلم يقل أحد منهم أن له صاحبة، فلهذا احتج بذلك عليهم وما حكي عن بعض كفار العرب أنه صاهر الجن، فهذا فيه نظر، وذلك أن كان قد قيل: فهو مما يعلم انتفاؤه من وجوه كثيرة، وكذلك ما قالته النصارى: من أن المسيح ابن الله، وما قاله طائفة من اليهود أن عزير ابن الله، فإنه قد نفاه- سبحانه- بهذا وبهذا.
من المعلوم عند الخاصة والعامة أن المعنى الذي خص به المسيح إنما هو أن خلق من غير أب فلما لم يكن له أب من البشر جعل النصارى الرب أباه، وبهذا ناظر نصارى نجران النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أن لم يكن هو ابن الله فقل لنا من أبوه؟ فعلم أن النصارى إنما ادعوا فيه البنوة الحقيقية، وان ما ذكر من كلام علمائهم هو تأويل منهم للمذهب، ليزيلوا به الشناعة التي لا يبلغها عاقل وإلا فليس في جعله ابن الله وجه يختص به معقول، فعلم أن النصارى جعلوه ابن الله، وأن الله أحبل مريم، والله هو أبوه، وذلك لا يكون إلا بإنزال جزء منه فيها، وهو سبحانه الصمد، ويلزمهم أن تكون مريم صاحبة وزوجة له، ولهذا يتألهونها كما أخبر الله عنهم، وأي معنى ذكروه في بنوة عيسى غير هذا لم يكن فيه فرق بين عيسى وبين غيرهم، ولا صار فيه معنى البنوة، بل قالوا كما قال: بعض مشركي العرب أنه صاهر الجن فولدت له الملائكة، وإذا قالوا: اتخذه ابنا على سبيل الاصطفاء، فهذا هو المعنى الفعلي، وسيأتي إن شاء الله تعالى إبطاله).
زعم الصاحبة.. وهو لازم ادعاء الولد(1/97)
عندما ادعى النصارى الولد لله.. أدخلوا مقام الألوهية في حيز الخلق؛ لذلك وجب إلزامهم بمقتضيات هذا الادعاء، وتطبيق أحكام الولد في الخلق، وبدايته: الزوجة.. التي يكون منها الولد، ومن هنا كان قول الله عز وجل: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَة}..
وفيه قياس التزاوج على ادِّعاء الولد باعتبار أن الزواج لا بد أن يسبق الولادة.
وهذا القياس يتفق مع زعمهم في ادِّعاء الولد لأنهم يقولون بزعمهم أن اتصال الآب بمريم سبق الولادة ويفسرون هذا الاتصال بالاتحاد مما يجعل زعمهم متفقا مع مقتضي التزاوج.
يقول الإمام ابن تيمية: (فإذا قالوا إن الرب أو بعض صفاته اتحد بما خلق من مريم فلا بد أن يحصل له اتصال بمريم قبل اتصاله بما خلق منها وذلك هو معنى الزواج.
ويؤمن جمهور النصارى بأن مريم ولدت اللاهوت كما ولدت الناسوت، وهي أم اللاهوت، ويقولون في دعائهم: (يا والدة الإله..!).
واللاهوت الذي ولدته مريم هو عندهم رب العالمين، واللاهوت اتحد بالناسوت عندهم من حين خلق الناسوت في بطن مريم لم يحدث بعد الولادة..!
فإذا جاز أن يكون لرب العالمين عندهم «أم» ولدته بوجه من الوجوه، فإمكان أن يكون له صاحبة وزوجة أولى وأحرى، وإذا كان في ذلك ما يحيله العقل والشرع، فكونها «أُمًّا» لِلَّاهوت أشد إحالة..!
وإن جاز أن يكون للاهوت أم -والأم أصل- فلئن يكون له صاحبة هي زوجة ونظير أقرب وأولى..!
فإن من المعلوم أن ولد ذلك الشيء -وهو المتفرع المتولد عنه- أنقص بالنسبة إليه من نظيره..
فإذا قالوا: إن لرب العالمين ولدا اتحد بالناسوت هو نظيره المساوي له في الجوهر، وقالوا: إن الناسوت «مريم» ولد اللاهوت، كما ولد الناسوت «المسيح» ولم يكن هذا عيبًا ينزه الرب عنه، فلأن يجعلوا أم هذا الولد -الذي حبلت به، واتحد به اللاهوت، وهو منها، وولدت اللاهوت- صاحبة وزوجة للأب.. أولى وأحرى..(1/98)
وإلا فكيف تلد ابنه -الذي هو اللاهوت- ولا تكون صاحبته وامرأته..!؟!
فإذا كانت الكلمة اتحدت بالمسيح المخلوق من مريم والتحمت به فإذا قيل مع ذلك أن القديم مس المحدث أو لاصقه أو باشره كان أيسر من هذا كله، والمسيح ولد ولادة حادثة عندهم غير الولادة القديمة التي للكلمة فيلزم أن تكون مريم قد صارت زوجة بصفة محدثة تناسب تلك الولادة المحدثة كما قال تعالى { أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم } [الأنعام: 101].
فالحلول أسهل من الاتحاد..
ومن قال: إنه حل في جسد المسيح وماسه وباشره كما يحل الماء في اللبن كان أهون ممن يقول: إنه اتحد به والتحم به..
فإذا قيل: إن مريم امرأة القديم وصاحبته وزوجته.. كان في هذا إثبات لمباشرته لها ومماسته لها واتصاله بها..
ومهما قُدِّر من اتصال الزوج بزوجته.. فهو أهون مما قالوه من اتحاد القديم بالمحدث، ومصيره إياه إما جوهرًا واحدًا.. وإما شخصًا واحدًا.. وإما مشيئة واحدة..!!!
ولهذا كان كل عاقل يعلم أن النكاح الحسي أسهل من الولادة الحسية..).
ومن مناقشة زعم الصاحبة في إطار طبيعة التحريف النصراني تتبين عدة حقائق..
أن ادِّعاء الزوجة أهون على العقل من ادِّعاء الولد لأن ادِّعاء الولد إتحاد بين قديم ومحدث.
لأن الزواج مس وهم قد قالوا بالاتحاد.
ومن هنا جاء قياس المس على الاتحاد.
وفيه تجب معرفة الفرق بين المس من ناحية والحلول والاتحاد من ناحية أخري .
فالحلول أهون من الاتحاد.
لأن الحلول: (امتزاج شيء بشيء بحيث يبقي لأحد الشيئين وجوده الأصلي).
والاتحاد: (امتزاج شيء بشيء بحيث لا يبقي لأي من الشيئين وجود فينشأ عنهما شيء آخر مغاير لهما).
وإمكانية حدوث الشيء الأهون قياسًا على الشيء الأصعب قانونًا عقليًّا يجب الأخذ به.(1/99)
أنه يجب إلزام النصارى بهذا الزعم.. إما بلازم قولهم.. أو بالتصريح بذلك منهم، إذ إن المسيح عندهم إنسان تام وإله تام، ناسوت ولاهوت، فناسوته من مريم ولاهوته الكلمة القديمة الأزلية، وهي الخالق عندهم، فالمسيح بين أصلين.. ناسوت ولاهوت، فإذا كان الأب هو الله عندهم، والكلمة المولودة عن الأب ابن الله، فمعلوم أن اللاهوت لما التحم بالناسوت ليصير منهما المسيح.. ازدوج به وقارنه.. وهذا هو معنى الزوجية..!
وقد حاول النصارى الهروب من لازم قولهم بادِّعاء الولد وهو القول بالصاحبة فقالوا إن الولادة عقلية لا حسية فتكون ملاحقتهم بالقول بأن الازدواج والزواج أيضا يكون زواجا عقليا لا حسيا.
يقول ابن تيمية: (وجعل الرب والد المولود أنكر في العقول من إثبات صاحبة له سواء فسرت الولادة بالولادة المعروفة أو بالولادة العقلية التي يقولها علماء النصارى فإن من أثبت صاحبة له يمكنه تأويل ذلك كما تأولوا هم الولد..(1/100)
ويقولون: إن الأب ولدت منه الكلمة ومريم ولد منها الناسوت واتحد الناسوت باللاهوت فكما أن الأب أب باللاهوت لا بالناسوت ومريم أم للناسوت لا للاهوت فكذلك هي صاحبة للأب بالناسوت واللاهوت زوج مريم بلاهوته كما أنه أب للمسيح بلاهوته وإذا اتحد اللاهوت بناسوت المسيح مدة طويلة فلماذا يمتنع أن يجتمع اللاهوت بناسوت مريم مدة قصيرة وإذا جعل الناسوت الذي ولدته ابنا للاهوت فلأي شيء لا تجعل هي صاحبة وزوجة للاهوت فإن المسيح عندهم اسم لمجموع اللاهوت والناسوت وهو عندهم إله تام وإنسان تام فلاهوته من الله وناسوته من مريم فهو من أصلين لاهوت وناسوت فإذا كان أحد الأصلين أباه والآخر أمه فلماذا لا تكون أمه زوجة أبيه بهذا الاعتبار مع أن المصاحبة قبل البنوة فكيف يثبت الفرع الملزوم بدون ثبوت الأصل اللازم وليس في ذلك من المحال على أصلهم إلا ما هو من جنس إثبات بنوة المسيح وأقل امتناعا وإن كان المسيح عليه السلام قال هذا الكلام فقد علمنا أن المسيح عليه السلام وغيره من الأنبياء معصومون لا يقولون إلا الحق وإذا قالوا قولا فلا بد له من معنى صحيح ويمتنع أن يريدوا بقولهم ما يمتنع بطلانه بسمع أو عقل فإذا كانت العقول ونصوص الكتب المتقدمة مع نصوص القرآن تناقض ما ابتدعته النصارى في المسيح علم أن المسيح لم يرد معنى باطلا يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول.
ويواصل الإمام ابن تيمية ملاحقة كل الآثار الناشئة عن ادعاء الولد فيقول: (ثم يقال: ثم يقال أنتم قلتم إن الكلمة الخالقة هبطت فالتحمت من مريم واحتجبت بإنسان مخلوق خلقته لنفسها وقلتم إن مريم حملت بالإله الخالق وولدته الذي هو الابن فإذا جوزتم أن تكون مريم هي أما للخالق الذي هو الابن حملته وولدته فلم لا يجوز أن تكون زوجة للخالق الذي هو الأب مع أن الخالق التحم من مريم.(1/101)
وقد قلتم لم يكن الله بلا كلمته ولا روحه قط ولا كانت الكلمة برية منه قط ولا من روحه الخالقة ولا من جوهره فجعلتم الروح خالقة والله الذي هو الأب خالقا والمسيح قد تجسد من الروح الخالقة ومن مريم فكما أن مريم أمه فالروح الخالقة بمنزلة أبيه.
وأيضا فمريم لها اتصال بالأب وبروح القدس وكلاهما أب للمسيح على ما ذكرتموه فإذا كانت مريم متصلة بكل واحد ممن جعلتموه أبا للمسيح وقلتم إن الخالق التحم من مريم فهذا أبلغ ما يكون من جعل الخالق زوج مريم ومهما فسرتم به اتحاد اللاهوت بناسوت المسيح المخلوق منها كان تفسير التحام اللاهوت بناسوت مريم حتى يصير زوجا لمريم أولى وأحرى.
وليس في ذلك نقص ولا عيب إلا وفي كون اللاهوت ابن مريم ما هو أبلغ منه في النقص والعيب.
ومعلوم أن أم الإنسان أعلى قدرا عنده من زوجته وأن تسلطه على زوجته أعظم منه على أمه فإن الرجل مالك للزوجة قوام عليها والمرأة أسيرة عند زوجها بخلاف أمه فإذا جعلتم اللاهوت الخالق القديم الأزلي ابنا لناسوت مريم بحكم الاتحاد مع كونه خالقا لها بلاهوته وابنا لها بناسوته ولم يكن هذا ممتنعا عندكم ولا قبيحا فأن تكون مريم صاحبة له وزوجة وامرأة بحكم الالتحام بالناسوت أولى وأحرى وإن كان هذا ممتنعا وقبيحا فذاك أشد امتناعا وقبحا.
ولهذا ذهب طوائف من النصارى إلى أن مريم امرأة الله وزوجته وقالوا أبلغ من ذلك حتى ذكروا شهوته للنكاح!(1/102)
ولقد قال بعض أكابر عقلاء الملوك ممن كان نصرانيا إنهم كانوا إذا نبهوا على قولهم إن عيسى بن الله لم يفهم من ذلك إلا أن الله أحبل أمه وولدت له المسيح ابنه كما يحبل الرجل المرأة وتلد له الولد فيكون قد انفصل من الله جزء في مريم بعد أن نكحها وذلك الجزء الذي من الله ومن مريم ولدته مريم كما تلد المرأة الولد الذي منها ومن زوجها وقد قالت الجن المؤمنون{ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا } [الجن: 4] فنزهوه عن هذا وهذا وهؤلاء الجن المؤمنون أكمل عقلا ودينا من هؤلاء النصارى وقال تعالى { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الأنعام: 101].
فقوله أنى يكون له ولد تقديره من أين يكون له ولد و«أنى» في اللغة بمعنى من أين ذلك وهذا استفهام إنكار فبين سبحانه أنه يمتنع أن يكون له ولد ولم تكن له صاحبة مع أنه خالق كل شيء وأن هذا الولد يمتنع أن يكون.. وأن هذا الامتناع مستقر في صريح المعقول.
وقد يزعم النصارى أنهم لا يقولون بها الادعاء.. لذلك يرد القرآن عليهم من خلال التفسير الصحيح لزعمهم الصريح في مريم، حيث جاء ذكر ادِّعاء ألوهية مريم في قول الله عز وجل{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116].(1/103)
وهذه المناقشة القرآنية لزعمهم بألوهية مريم تماثل مناقشتهم في تأليه الأحبار والرهبان: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31].
حيث قال عدي ابن حاتم -وكان نصرانيًا- لما سمع الآية: إنا لسنا نعبدهم..! فيرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟!))، فيقول عدي: بلى. فيرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم: ((فتلك عبادتكم إياهم))(1).
وفي قياس الزواج على الولادة يأتي مقتضي التجانس بين طرفي التزاوج وهو الأمر الذي يتفق مع بدعة ادِّعاء الولد عندهم إذ أنهم يقولون بألوهية مريم وقد سبق تفصيل هذا القول..
وقد أثبت القرآن حتمية التجانس في التزاوج ليس فقط على مستوي الأنواع بل على مستوي فصائل النوع الواحد فقال سبحانه في سورة الأنعام: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 143].
فبين أن الأنعام ثمانية فصائل وأن كل فصيلة زوجين.
وللتأكيد على ها المعنى قالت الآية: { قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
ومن هنا كانت صفة التزاوج في الخلق هي أساس إثبات أن الله ليس كمثله شيء.
__________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (17/92)، والبيهقي في السنن (10/116) كلاهما عن عدي بن حاتم.(1/104)
{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
ومن هنا أيضا كان ثبوت صفة التزاوج في كل مجالات الخلق.
{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49].
وحتى في النفس الإنسانية: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ: 8].
وفي النبات {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3].
وبثبوت صفة التزاوج في جميع الخلائق ينتفي ادِّعاء الولد الذي يستلزم التزاوج الذي يستلزم الذي يستلزم بدوره التجانس بين الخلق والخالق: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 101-102].
وفي سورة الزمر تبين الآيات العلاقة بين نفي ادِّعاء الولد لله وإثبات صفة التزاوج في خلق الإنسان والأنعام، فيقول عز وجل: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء.. سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 4].
فتفترض الآية فرضا مستحيلا وهو أنه إذا أراد الله أن يتخذ ولدا فلن يكون ذلك إلا اصطفاءً..ولن يكون هذا الاصطفاء إلا من الخلق { لاصطفي مما يخلق ما يشاء }.(1/105)
وتفسير ذلك أن بدعة ادِّعاء الولد لله تتناقض مع حقيقة الألوهية من حيث الذات الإلهية، ومن حيث الفعل الإلهي، ولذلك جاء الفعل (أَنْ يَتَّخِذَ) ويقصد به أنه سبحانه يتعامل مع أحد تعامله مع الولد..
كما قال عزيز مصر لامرأته عن يوسف -ولم يكن لهما ولد-: {عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21].
وكما قالت امرأة فرعون عن موسى -ولم يكن لهما ولد كذلك-: (عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص: 9].
ثم تذكر الآيات صفة التزاوج في الخلق: { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ. خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } [الزمر: 5، 6].
وفي سورة الجن يجتمع ادِّعاء الولد والصاحبة في آية واحدة {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} [الجن: 3] وذلك في تعقيب الجن الذي آمن على ما كان يعتقده قبل إيمانه.
وذكر الصاحبة قبل الولد يلفت النظر إلي معنى الادِّعاء باعتبار أن الصاحبة قبل الولد فعلا وواقعا..!
ونسبة هذا القول لإبليس باعتباره المصدر الأصلي للبدعة يدل على أن فكرة الصاحبة ليست طارئة أو عارضة بل إنها ادِّعاء أساسي صريح.(1/106)
وإذا نظرنا إلى الكاثوليك.. وجدناهم يعتبرون مريم عليها السلام إلهًا مستحقاَ للعبادة، وإن لم يعتبروها أحد أطراف الثالوث الأقدس، ويعتمدون في تقديسها على ما جاء في النص الكاثوليكي لإنجيل لوقا، وفيه: (فلما دخل إليها الملاك قال: السلام عليك يا ممتلئة نعمة، الرب معك، مباركة أنت في النساء) [لوقا 1/28].
وقد تمثلت عبادة الكاثوليك لمريم في عدد من الصلوات التي تؤدى لها، ومنها «صلاة مريم» وفيها يقولون: (يا خطيبة مختارة من الله، يا أيتها المستحقة الاحترام من الجميع … يا باب السماء … يا ملكة السماء التي جميع الملائكة يسجدون لها، وكل شيء يسبحها ويكرمها … فاستمعينا يا أم الله، يا ابنة، يا خطيبة الله، يا سيدتنا ارحمينا وأعطينا السلام الدائم … لك نسجد ولك نرتل).
ويقول القس توما اللاهوتي: (أما العذراء الطاهرة المجيدة، وهي الممتلئة من الاستحقاقات فلها أن تخلص جميع البشر).
ويقول القديس لويس ماريدي: (التكريم أن نهب ذواتنا بكليتها إليها، كأسرى لمريم وليسوع بواسطتها على أن تقوم جميع أعمالنا مع مريم، وبواسطة مريم، وفي مريم، ولأجل مريم).
وفي مجمع أفسس 431م سميت مريم «والدة الإله»، وزيد في أمانة نيقية فقرة تخصها، فيها (نعظمك يا أم النور الحقيقي، ونمجدك أيتها العذراء القديسة، والدة الإله…).
وفي هذا القرن أيضًا ظهرت جماعة وثنية - تعبد الزهرة - اعتنقت النصرانية، واعتقدوا أن مريم ملكة السماء أو آلهة السماء بدلًا عن الزهرة، وأصبح تثليثهم «الله، مريم، المسيح»، وقد حاربت الكنيسة هذه البدعة، فاندثرت في القرن السابع الميلادي.
الفصل الثاني
التجسد
معنى التجسد
الجسد: هو كل جسم.. تراه العين.. لا روح فيه.. وهو الجسم والجثمان والبدن، مجرَّدًا من الروح.
ويتضمن الغلظ والكثافة، ولا يطلق على اللطائف مثل الهواء والأرواح.
وقد ورد ذكر الجسد في القرآن في عدة مواضع منها:(1/107)
- قول الله سبحانه: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} [الأعراف: 148].
- وقال عز وجل: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [طه: 88] قال البيضاوي: (أي بَدَنًا ذا لَحْمٍ وَدَمٍ، أو جسدًا من الذهب خاليًا من الرُّوح).
- {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء: 8]، أي: إنهم كانوا يأكلون الطعام، وذلك ردًّا على المشركين الذين قالوا: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7]، فرد الله عليهم بهذه الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20].
كما ينطبق معنى التجسد بصورة أساسية على أي خلق يأخذ صورة خلق آخر، مثلما جاء في قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34].
قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم: (يعني شيطانًا)، أي: شيطان متجسد في صورة إنس.
ومن هنا كان لفظ «الجسم» في حق الله بدعة، يقول ابن تيمية:
(والمقصود: التنبيه على أن السلف كانوا يراعون لفظ القرآن والحديث فيما يثبتونه وينفونه عن الله من صفاته وأفعاله، فلا يأتون بلفظ محدَث مبتدع في النفي والإثبات، بل كل معنى صحيح فإنه داخل فيما أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام، والألفاظ المبتدعة ليس لها ضابط، بل كل قوم يريدون بها معنى غير المعنى الذي أراده أولئك، كلفظ الجسم والجهة والتحيز والجبر ونحو ذلك.(1/108)
وأما الشرع فمعلوم أنه لم ينقل أحد من الأنبياء ولا الصحابة ولا التابعين ولا سلف الأمة: أن الله جسم، أو أن الله ليس بجسم، فالنفي والإثبات بدعة في الشرع؛ ولهذا لما كان الرد على من وصف الله تعالى بالنقائص بهذه الطريق طريقًا فاسدًا- لم يسلكه أحد من السلف والأئمة، فلم ينطق أحد منهم في حق الله بالجسم؛ لا نفيًا ولا إثباتًا، ولا بالجوهر والتحيز ونحو ذلك؛ لأنها عبارات مجملة، لا تحق حقًّا، ولا تبطل باطلًا .
ولهذا لم يذكر الله في كتابه -فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار- ما هو من هذا النوع، بل هذا هو من الكلام المبتدع، الذي أنكره السلف والأئمة ).
دلالة التجسُّد على الخلق(1/109)
والتجسد –أصلًا- هو الإظهار الحسي والمادي، ولذلك لا يطلق الجسد عادة إلا باعتبار الصورة المادية للروح، وقد بلغت دلالة التجسد على الخلق أن شملت كل مجالات الخلق الحسية والمعنوية.. حتى الأعراض، مثل أن يصبح الموت كبشًا ويذبح بين الجنة والنار(1)، ومثل تعاطف التسبيح والتحميد والتهليل حول العرش ليصبح له دويٌّ كدوي النحل(2)، ومثل: تمثيل العمل لصاحبه رجلًا في قبره(3)، ومثل: أن تصعد الصلاة المقبولة وتقول لصاحبها: حفظك الله كما حفظتني، وكذلك الصلاة غير المقبولة تقول: ضيعك الله كما ضيعتني(4)، ومثل: أن تجيء سورة البقرة وآل عمران في صورة غمامتين(5).
يقول ابن القيم: (والله ينشئ من الأعراض أجسامًا تكون الأعراض مادة لها، وينشئ من الأجسام أعراضًا، كما ينشئ سبحانه من الأعراض أعراضًا ومن الأجسام أجسامًا، والأقسام الأربعة ممكنة ومقدورة للرب تعالى)(6).
وكذلك تطابقت عناصر تحليل معنى الكلمة مع كل صفات الخلق..
فمن أهم مقوِّمات الجسد: الطعام والشراب.. ومن المحددات التي يُدرك بها الجسد: الرؤية العينية، الزمان والمكان، والموت.
__________
(1) أخرجه البخاري (4453)، ومسلم (2849) كلاهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2) أخرجه أحمد في المسند (4/268، 271)، وابن ماجه (2/1252) كلاهما من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(3) أخرجه أحمد (4/287، 295)، والحاكم في المستدرك (1/93) كلاهما من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
(4) أخرجه الطبراني في الأوسط (3/263) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده (1/80)، والبيهقي في الشعب (3/143) كلاهما من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
(5) أخرجه مسلم (804) عن أبي أمامة، (805) عن النواس بن سمعان.
(6) كتاب حادي الأرواح (1 /246، 251) والتفسير القيم (354).(1/110)
«الطعام والشراب» يقول الإمام الطبري في تأويل قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاّ يَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ} [الأنبياء: 8]:
(يقول تعالى ذكره: وما جعلنا الرسل الذين أرسلناهم من قبلك -يا محمد- إلى الأمم الماضية قبل أمتك {جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطّعامَ} يقول: لم نجعلهم ملائكة لا يأكلون الطعام، ولكن جعلناهم أجسادًا مثلك؛ يأكلون الطعام. كما حدثنا بِشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قَتادة، قوله: {وَما جَعَلْناهُمْ جَسَدا لا يَأْكُلُونَ الطّعام} يقول: ما جعلناهم جسدا إلا ليأكلوا الطعام).
وعندما أثبت الله أنه هو الخالق وليس أحدًا سواه قال: {قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَين} [الأنعام: 14].
فوضع فرقانًا بين مقام الألوهية ومقام الخلق بقوله سبحانه: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَم}؛ لأن الإطعام دليلٌ على كمال افتقار الخلق إلى رحمة الله ورزقه، والطعام ذاته لا يكون إلا بالماء الذي ينزل من السماء، والأرض التي تنبت النبات، والسعي الذي يحصله، والجسم الذي يهضمه ويتغذي به، ويخرج ما لا حاجة له منه.
الرؤية العينية
وباعتبار أن الجسد هو ما يُرى لما له من غِلَظ وكثافة ولون، خلافًا لما لا تراه العين.
يقول ابن فارس: (جسد: الجيم والسين والدال يدلُّ على تجمُّع الشيء واشتدادِه، من ذلك جَسَدُ الإنسان) ويقال للزعفران: جِسَاد، وثوب مُجسَّد: مصبوغ بالجساد [العين 6/48].
ومن المعلوم أن الألوان خاصية مميزة للعين البشرية وقدرتها على الإدراك، من خلال الأطوال الموجية التي تلتقطها، وترسلها إلى المخ فيتخيلها.(1/111)
ولهذا لما أنذرنا النبيُّ المسيحَ الدجال، وقال: ((ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الدجال))(1) ذكر له ثلاثة أدلة ظاهرة، تظهر لكل مسلم، تبيِّن كذبه، وكان أحد هذه الأدلة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت))(2) فبين أن الله لا يراه أحدٌ في الدنيا بعينيه، وكلُّ بشر فإنه يُرى في الدنيا بالعين، فعُلم أن الله لا يتحد ببشر.
واستحالة رؤية الله هي أكبر فرقان بين الله والعباد، ولذلك لن تكون الرؤية إلا بعد الموت في الآخرة، فتصبح رؤية الله ممكنة بعد الموت، لأنَّ «الموت» سيكون هو الفرقان بدلا من فرقان «استحالة الرؤية»، لأن الموت إثبات للبشرية، وفرقان بين الله الحي الذي لا يموت، والبشر الذين يموتون، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ))(3).
__________
(1) أخرجه البخاري (4316)، صحيح ابن حبان (6780) واللفظ له.
(2) عن عبد الله بن عمر قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال فقال: ((إني لأنذركموه، وما من نبي إلا وقد أنذر قومه، ولقد أنذره نوح قومه، ولكني سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه: تعلمون أنه أعور وإن الله ليس بأعور)).
قال الزهري وأخبرني عمر بن ثابت الأنصاري أنه أخبره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومئذ للناس وهو يحذرهم فتنته: ((تعلمون أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت، وإنه مكتوب بين عينيه (ك ف ر) يقرأه من كره عمله)) رواه الترمذي (2235) وصححه الألباني.
(3) رواه مسلم في الذكر والدعاء والاستغفار (4894).(1/112)
ولعل الحكمة من تمكن تميم الداري من رؤية الدجال(1) هي إدخال الدجال في مجال الرؤية البشرية؛ إثباتا لكونه مخلوقًا وليس إلهًا كما سيدعي.
«الموت» جاء في لسان العرب: (قال أَبو إِسحاق في تفسير الآية: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاّ يَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ}: الجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز، إِنما معنى الجسد معنى الجثة فقط، وقال: جسد واحد يُثَنَّى على جماعة، ومعناه: وما جعلناهم ذوي أَجساد إِلاَّ ليأْكلوا الطعام، وذلك أَنهم قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} [الفرقان: 7] فأُعلموا أَن الرسل أَجمعين يأكلون الطعام وأَنهم يموتون).
وفي قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [طه: 88] يقول صاحب اللسان: (جسدًا بدل من عجل؛ لأَن العجل هنا هو الجسد، والجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز) إِنما معنى الجسد معنى «الجثة والموت».
فالتجسد فكرة لا تخرج عن مجال المخلوقات.. بل إنه أول أدلة الخلقة، ومن هنا قال السلف في الكرسي: إنه جسم؛ للدلالة على أنه مخلوق، حتى أن القرآن أثبت أن العجل الذي عبَدَه بنو إسرائيل -بوصفه «جسد»- لم يكن إلهًا؛ بل مخلوقًا.
«الدخول في الزمان والمكان» وببداية الخلق نشأ الزمان والمكان؛ليكونا وِحدة واحدةً تدل على الخلق، بدليل قول الله عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام} [الأعراف: 54].
وبذلك تثبت الآية خلق المكان {السموات والأرض} مع الزمان {في ستة أيام} في وحدة واحدة..
ومن هنا كان الربط بين إثبات الزمان والمكان باعتبارهما حدًّا للخلق، وبين نفي التجسد وادِّعاء الولد لله..
__________
(1) أخرجه مسلم (2942)، وأحمد (6/373، 374، 412، 416)، وابن ماجه (2/1354) جميعهم عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.(1/113)
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ*قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ*قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ*مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [يونس: 67-70].
وكما قال سبحانه: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ. خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: 4-6].
فاجتمع في هذا السياق القرآني عدة عناصر أساسية تدل على الخلق: خلقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْض، وخلق اللَّيْل والنَّهَار، والخلق من نفس واحدة، ثم الخلق في بطون الأمهات في ظلمات ثلاث «التصوير والولادة».
والتناقض الذي تقوم عليه عقيدة التجسد عند النصارى يبلغ مداه بقولهم: (أن الله كان في بطن مريم).(1/114)
وقد جمع الله كل حقائق تنزيهه -سبحانه- عن التجسد في هذا السياق: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَين} [الأنعام: 13-14].
فكان الحدُّ الزماني والمكاني للخلق «الليل والنهار، والسموات والأرض» نافيًا لبدعة الولد الموجود مع الأب منذ الأزل؛ لأن في هذه البدعة إدخال لمقام الألوهية في حد الخلق، بل إدخال في ظلمات رحم مريم شأنه شأن أي بشر.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء.. ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء))(1)..
وفي رواية أخرى: ((كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء))(2)..
وفي رواية ثالثة: ((كان الله ولم يكن شيء معه، وكان عرشه على الماء، ثم كتب في الذكر كل شيء))(3)..
وباعتبار أن الزمان -وهو الليل والنهار- كان حدًّا للخلق وتحقيقًا للفرقان بين الخلق والخالق..
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن ربكم ليس عنده ليلٌ ولا نهارٌ)(4).
فالليل والنهار هما الحدُّ الزماني للخلق، كما قال الله في سورة الإسراء: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12].
__________
(1) أخرجه البخاري (3019).
(2) أخرجه البخاري (6982).
(3) سبق تخريجه.
(4) ذكره ابن تيمية: مجموع الفتاوى (391/6).(1/115)
وكما كان الدخول في الزمن دليلًا على العبودية كان إثبات دخول الدجال في الزمن نفيًا لألوهيته المزعومة، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يبقى في الأرض أربعين))(1) ولم يقلْ أربعين يوم أو سنة؛ لأن المقصود ليس معرفة الوقت الذي سيبقي فيه الدجال، ولكن المقصود هو إثبات دخوله في حد الزمن، وهذه هي الحكمة من عدم تمييز الأربعين تحديدًا.
وكذلك أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم خضوع الدجال لحكم المكان، فذكر أنه: ((موثق بالسلاسل))(2) في مكان ثابت لا يتحرك.
ولكي يعالج بولس – صانع أسطورة التجسُّد - مأزق تفسير «دخول الإله في الزمن» ومأزق «إلغاء الالتزام بشريعة التوراة» قال: (ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس؛ ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبني).
__________
(1) أخرجه مسلم (2937) عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال: ((ما شأنكم؟)) قلنا: يا رسول الله ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال: ((غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم؛ إنه شاب قطط، عينه طافئة كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا، يا عباد الله فاثبتوا)) قلنا: يا رسول الله، وما لبثه في الأرض؟ قال: ((أربعون يوما؛ يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم)) قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: ((لا، اقدروا له قدره)).
(2) سبق تخريجه، وهو حديث تميم الداري.(1/116)
فاخترعوا مصطلحًا فارغًا من أي معنى سموه «ملء الزمان» لكي يقنعوا أتباعهم بأن هذه الفترة الزمنية استثنائية ليست من زمان البشر..
يقول حاذقهم(1): (ولما جاء «ملء الزمان» أخذ لنفسه(2) طبيعة الإنسان مع خواصها الجوهرية وصفاتها العامة، ولكن بلا خطية، فحُبل به بقوة الروح القدس في العذراء مريم، ومن جسدها).
وقد عرفوا فترة «ملء الزمان» بأنها ما بين ولادة المسيح عليه السلام حتى حادثة الصلب المزعومة.
ومن المعلوم أن كل من يدخل في الزمن تكون له بداية ونهاية.. والله أولٌ ليس قبله شيء.. وآخرٌ ليس بعده شيء.. فلا يدخل -سبحانه- تحت أي زمن..
تحليل ادعاء التجسد
اختلف النصارى في تحديد العلة من التجسد.. فقال بعضهم: إن التجسد لازم، ولا بد منه باعتبار طبيعة الله، فما دام الله قد أراد التجسد، سواء استدعت ذلك أحوال البشر أم لا، لم يكتفِ اللاهوت بالوجود المجرد بغير تجسد؛ لأن البشر لا يعرفونه ولا يدركون كمال صفاته بدون تجسد..
وحسب هذا القول، فالعلة من التجسد تعريف البشر بالله..
ولكن بعضهم رد هذا القول بقوله: لا نفهم التجسد مجردًا عن سقوط الإنسان وقصد الفداء، بل نفهم أن التجسد مقترن بذلك. ولم ينظر الرسول بولس فيها إلى التجسد إلا من حيث أنه وسيلة إتمام الفداء. وكل ما قيل في الكتاب يعلمنا أن التجسد كان بسبب الخطية ولأجل الخلاص منها..
__________
(1) مؤلف علم اللاهوت النظامي.
(2) يقصد الله سبحانه وتعالى عما يقول المشركون الكذابون.(1/117)
وينتهي صاحب اللاهوت النظامي إلى أن: (القول الأصح في هذا الموضوع هو أن التجسد كان ضروريًّا بعد سقوط الإنسان؛ لأن الصفات الإلهية تستلزم التجسد لإنقاذه من عبودية الخطية ولعنة الشريعة والهلاك الأبدي بسبب خطيته، كما أن احتياجات الإنسان، وما يقتضيه حكم الله الأخلاقي تستوجب إعلان الله نفسه للبشر وخلاص الإنسان من خطيته واتحاد المخلوق بالخالق. فلزوم التجسد مبني على أحوال البشر لا على أنه ضروري لِلَّاهوت، فإذا أراد الله أن يفدي البشر.. دَبَّر التجسد، ونتعلم من الكتاب أن الفداء ممكن بالتجسد فقط).
وقد ذهبوا في ضلالهم إلى القول بأن التجسد باقٍ إلى الأبد، وفي ذلك يقول مؤلف اللاهوت النظامي: (غير أن ذلك الشخص العظيم -يقصد عيسى- لا يزال في حال التجسد بعد صعوده من هذا العالم، فهو إله متجسد الآن وإلى الأبد، وفي حال المجد والارتفاع كما كان في حال الذل والاتضاع).
وعندئذ يكون التساؤل الهام عن العلة في بقاء المسيح في حال التجسد بعد أداء مهمة الفداء التي تجسد من أجلها؟!
وسوف نناقش الاتجاه الأول لتعليل القول بالتجسد في هذا الباب، بينما نناقش الاتجاه الثاني في الباب اللاحق ضمن قضية الفداء والخطيئة والكفارة.
ولكن قبل ذلك نكشف المدخل الشيطاني الذي دخل منه الشيطان إلى النصارى بهذه الخرافة.
المدخل الشيطاني إلى القول بالتجسد
يرغب الإنسان بطبيعته في رؤية الله.. هذه الحقيقة ثابتة في التصور الإسلامي عن الله..
وهي الحقيقة نفسها التي انحرف إبليس بالنصارى من خلالها في تصورهم عن الله؛ ليختلط الشعور الفطري في الإنسان عن الله.. بالتحريف الشيطاني في دين الله.
لتكون النصرانية أخطر نماذج هذا الخلط الذي غرز فيه الشيطان إحساسًا شاذًّا بالارتياح لفكرة أن ينزل الله من السماء ليكون بيننا نحن البشر.. بل ويُضرَب ويُصلَب..!(1/118)
وقد تسللت هذه الفكرة إلى النصرانية من العقائد الوثنية، وتسللت معها فكرة أخرى -لا تقل خطورة عنها- وهي التحيز النفسي عند الإنسان لذاته، مما جعل للأوثان صورة إنسانية ثابتة.. نادرًا ما تخرج عنها صورة هذه الأوثان..!
وهذه الفكرة هي إسقاط صورة الذات الإنسانية على المعبود؛ ليصبح الإنسان هو العابد وهو المعبود كذلك..!
وارتكازا على الرغبة الفطرية عند الإنسان في رؤية الله.. وبالتحيز النفسي عند الإنسان لذاته.. أحدث الشيطان فكرة التجسُّد الإلهي في صورة إنسان، هذه الفكرة التي تسللت إلى المسيحية ثم امتدت وتعمقت؛ لتكون بدعة التجسد.
وارتكاز الشيطان على الطبيعة البشرية في الانحراف بالإنسان كان أول الأساليب التي مارسها إبليس لإضلال الإنسان، فارتكز مع آدم على حقيقة الرغبة في الخلود، عندما وسوس له ليأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه: 120].
ولكن الخلط الشيطاني الذي بلغ بالإنسان هذا الحد.. كان قد سبقه فعلٌ آخر، هو تغييب التصور الشرعي الصحيح عن الله، المحقق للشعور الإنساني الصحيح بالله عز وجل.
لذا تعددت المداخل الشيطانية لتبرير بدعة التجسد عند النصارى، لكن أخطرها كان الادِّعاء بأن ظهور الله في صورة إنسان هو الذي سيحقق المعرفة الإنسانية الكاملة بالله، وكان هذا الادِّعاء أهم أسباب فتنة النصارى بادِّعاء التجسد (1).
__________
(1) يقول صاحب اللاهوت النظامي: (من فوائد التجسد للبشر أن يكون لنا في ابن الله المتجسد مثال فريد لحياة البشرية الكاملة، وظهور اللاهوت بكمال صفاته على هيئة منظورة محسوسة اقتربت منا اقترابًا عجيبًا! جعلت مخاطبتنا لله وجهًا لوجه في الصلاة والاتحاد الروحي أمرًا ممكنًا).(1/119)
وقد نشأ هذا الادِّعاء من ضياع التصور الصحيح للعلاقة بين الله والإنسان؛ لذا كان من أهم أسباب تصحيح الشعور الإنساني بالله.. هو استرداد هذا التصور الغائب بكل عناصره.
وأول هذه العناصر هو أن التعريف بالله في التصور الإسلامي قائم باعتبار الطبيعة الإنسانية «الصحيحة» التي تتلقى نصوص هذا التعريف تلقيًا «صحيحًا».. ابتداءً من إقرار هذه الحقائق النفسية.
فيعالج الشوق الإنساني لرؤية الله بتقرير هذا الشوق..
كما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين))(1).
فبدأ الحديث بالتعريف بالله وصفاته «العلم والقدرة»..
ثم طلب الوصول إلى الطبيعة الإنسانية الصحيحة: خشية الله في الغيب والشهادة، وقول الحق في الغضب والرضى، والاقتصاد في الفقر والغنى..
النعيم الذي لا ينفد وهو العافية في البدن، وقرة العين التي لا تنقطع وهي اطمئنان القلب وقراره..
وبوصول الإنسان إلى هذه الطبيعة الصحيحة.. يبلغ مقام المعرفة الصحيحة.. فيسأل الله لذة النظر إلى وجهه الكريم.. سبحانه وتعالى.
والتعرف على الله من خلال قضية الأسماء والصفات -قدر الطاقة- هو الذي يضمن أقصى درجات المعرفة الصحيحة بالله.
__________
(1) أخرجه أحمد (4/464)، والنسائي (3/54، 55)، والحاكم في المستدرك (1/705) جميعهم عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما.(1/120)
وفقدان الطبيعة الإنسانية الصحيحة هو الذي يعطل المعرفة الصحيحة بالله عز وجل وأسمائه وصفاته، كما جاء في قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ*وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ*وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 179-181](1).
ولأنه لا يمكن للإنسان أن يرى الله في الدنيا.. {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]..
فقد جاءت العبادة الصحيحة الخاشعة لتغذي هذا الشعور وهذه اللهفة وهذا الشوق عند الإنسان لرؤية الله..
__________
(1) فالأمة التي خلقها الله تهدي للحق هي المقابل لمن ذرأهم الله لجهنم، وفي تحديد هذه الأمة، يقول ابن كثير: (قال رسول الله ?: ((إن من أمتي قومًا على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم متى ما نزل))، وفي الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله ?: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة))، وفي رواية: ((حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك))، وفي رواية: ((وهم بالشام)) ).
والارتباط بين الأمة التي تهدي للحق وعيسى ابن مريم يدل على دلالة قضيته في تحديد التصور الصحيح عن الله سبحانه.(1/121)
فيبلغ العبد أقصى درجات إحساسه بالله من خلال مقام الإحسان، حتى يبلغ درجة ((كأنه يراه)) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن تعبد الله كأنك تراه.. فإن لم تكن تراه فإنه يراك))(1).
ولذلك يقول الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 26].
روى الإمام مُسْلِمٌ عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار. قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل))(2)، ثم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}.
فرؤية الله هي جزاء الإحسان..
وبذلك يقوم التصور الإسلامي في تعامله مع البشر من خلال الرغبة الفطرية في رؤية الله عز وجل بصورة صحيحة، فيحدد لهم سبيل الوصول إلى رؤية الله، والرغبة النفسية في الخلود، ليكون السبيل هو التزام الصراط المستقيم المؤدي إلى الجنة، حيث الخلود ورؤية الله سبحانه وتعالى..
ومما يتمم معالجة الإحساس الفطري بالله عند الإنسان شعورُه بقرب الله منه.. وقد جاء إثبات القرب في القرآن بطريقين: علم الله بالعبد.. وعونه له..
ففي العلم قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16].
__________
(1) أخرجه البخاري (4499)، ومسلم (9، 10) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم (8) عن عمر رضي الله عنه.
(2) أخرجه مسلم (181) عن صهيب رضي الله عنه.(1/122)
ويقول عز وجل: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7].
وفي العون يقول سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186].
وكذلك الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: ((من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)) وفي رواية: ((فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه))(1).
حيث تبين من الحديث أن قرب العبد إلى الله -بالفرائض والنوافل- هو الذي يحقق حب الله للعبد؛ ليتحقق بحب الله للعبد أن يسمع بالله ويبصر بالله..
ومعنى الحديث: أنه إذا اجتمعت إرادة الإنسان بسمعه وبصره ويده ورجله على تحقيق مراد الله يكون جزاؤه أن يكون مراد الإنسان بسمعه وبصره ويده ورجله تحقيقًا لإرادة الله.
وفي هذا الحديث يقول الإمام ابن تيمية: (وهذا الحديث قد يحتج به القائلون بالحلول العام، أو الاتحاد العام، أو وحدة الوجود، وقد يحتج به من يقول بالخاص من ذلك كأشباه النصارى، والحديث حجة على الفريقين فإنه قال: ((من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب)).
فأثبت ثلاثةً: «وليًّا له»، و«عدوًّا يعادي وليَّه»، وميز بين «نفسه» وبين «وليه» و«عدو وليه» فقال: ((من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب)).
__________
(1) أخرجه البخاري (6137) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/123)
فدل ذلك على أن وليَّه: هو الذي والاه فصار يحب ما يحب، ويبغض ما يبغض، ويوالي من يوالي، ويعادي من يعادي، فيكون الرب مؤذنًا بالحرب لمن عاداه بأنه معادٍ لله.
ثم قال تعالى: ((وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضتُ عليه)) ففرقٌ بين العبد المتقرِّب والرب المتقرَّب إليه.
ثم قال: ((ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه)) فبيَّن أنه يحبه بعد تقربه بالنوافل والفرائض، ثم قال: ((فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها))، وعند أهل الحلول والاتحاد العام أو الوحدة هو صدره وبطنه وظهره ورأسه وشَعره، وهو كل شيء، أو في كل شيء، قبل التقرب وبعده، وعند الخاص وأهل الحلول صار هو وهو كالنار والحديد، والماء واللبن(1)، لا يختص بذلك آلة الإدراك والفعل!!
ثم قال تعالى: ((فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي))، وعلى قول هؤلاء: الرب هو الذي يسمع ويبصر ويبطش ويمشي، والرسول إنما قال: «فبي»، ثم قال: ((ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) فجعل العبدَ سائلًا مستعيذًا، والرب مسئولًا مُستعاذًا به، وهذا يناقض الاتحاد.
وقوله: ((فبي يسمع)) مثل قوله: ((أنا مع عبدي ما ذكرني.. وتحركت بي شفتاه)) يريد به «المثال العلمي»(2)، فيكون الله في قلبه؛ أي: معرفته ومحبته وهداه وموالاته، وهو «المثل العلمي»، فبذاك الذي في قلبه يسمع ويبصر، ويبطش ويمشي.
__________
(1) ولعلنا نلاحظ أن المثل الذي استخدمه ابن تيمية للتعبير عن تصور أهل الحلول والاتحاد بقوله: (كالنار والحديد، والماء واللبن) هو نفس المثل الذي يستخدمه النصارى في بدعة التجسد.
(2) لعلنا نلاحظ تكرار كلمة «المثال العلمي» في كلام ابن تيمية لذا كان من المهم فهمها، ومعناه أقصى درجة إدراك وإحساس بالحقيقة الخارجية في قلب الإنسان وعقله.(1/124)
والمخلوقُ إذا أحب المخلوقَ أعظمه أو أطاعه، يعبر عنه بمثل هذا فيقول: أنت في قلبي وفي فؤادي، وما زلت بين عيني، ومنه قول القائل:
مثالك في عيني وذكرك في فمي... ومثواك في قلبي فأين تغيب
وقول الآخر:
ومن عجبي أني أحن إليهم
وأسأل عنهم من لقيت وهم معي...
وتطلبهم عيني وهم في سوادها
ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
والعقلاء إنما تتوجه قلوبهم إلى المقصود المراد دون الوسائل، ويعبرون بعبارات تدل على ذلك؛ لظهور مرادهم بها، كما يقال: عكرمة هو ابن عباس، وأبو يوسف هو أبو حنيفة.
ومن هذا الباب ما يُذكر عن المسيح عليه السلام أنه قال: (أنا وأبي واحدٌ.. من رآني فقد رأى أبي).
وقوله تعالى فيما حكاه عنه رسولُه: ((عبدي، مرضت فلم تعدني.. عبدي، جعت فلم تطعمني))(1)، ويشبهه قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10].
فينبغي أن يُعرف هذا النوع من الكلام، فإنه تنحل به إشكالات كثيرة، فإن هذا موجود في كلام الله ورسله، وكلام المخلوقين في عامة الطوائف، مع ظهور المعنى، ومعرفة المتكلم والمخاطب أنه ليس المراد أن ذات أحدهما اتحدت بذات الآخر.
فلفظ الحلول يُراد به حلول ذات الشيء تارة وحلول معرفته ومحبته و«مثاله العلمي» تارة.
وقد يعبَّر عن ذلك بحلول «المثال العلمي»، كما قال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3]، وقال: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27] فهو سبحانه له المثل الأعلى في قلوب أهل السموات وأهل الأرض.
__________
(1) أخرجه مسلم (2569) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/125)
ومن هذا الباب ما يرويه النبي عن ربه قال: ((يقول الله.. أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه))(1)، فأخبر أن شفتيه تتحرك به؛ أي: باسمه.
وكذلك قوله في الحديث الصحيح: ((عبدي، مرضت فلم تعدني، فيقول العبد: ربِّ، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا مرِض؟! فلو عدته لوجدتني عنده))، فقال: ((لوجدتني عنده)) ولم يقل: ((لوجدتني إياه))، وهو عنده.. أي في قلبه، والذي في قلبه «المثال العلمي».
وهذا هو المعنى المفهوم من كلمة «المثال العلمي»، وهو ما قد يفهم من بعض العبارات الواردة على لسان الناس مثل:
قد تخللت مسلك الروح مني
وبذا سُمِّيَ الخليل خليلا
والمتخلل مسلك الروح منه هو محبته له وشعوره به ونحو ذلك، لا نفس ذاته.
وكذلك قول الآخر:
ساكن في القلب يعمره
لست أنساه فأذكره
وكذلك قول الآخر: والساكن في القلب هو «مثاله العلمي»، ومحبته ومعرفته، فتسكن في القلب معرفته ومحبته، لا عين ذاته. ومما يزيد ذلك إيضاحا: ما يراه النائم من بعض الأشخاص في منامه، فيخاطبه، ويأمره وينهاه، ويخبره بأمور كثيرة، وهو يقول: رأيت فلانًا في منامي، فقال لي كذا وقلت له كذا، وفعل كذا وفعلت كذا، ويذكر أنواعًا من الأقوال والأفعال، وقد يكون فيها علوم وحِكم وآداب ينتفع بها غاية المنفعة، وقد يكون ذلك الشخص الذي رأى في المنام حيًّا، وهو لا يشعر بأن ذاك رآه في منامه، فضلًا عن أن يكون شاعرًا بأنه قال أو فعل، وقد يقص الرائي عليه رؤياه، ويقول له الرائي: يا سيدي رأيتك في المنام فقلت لي كذا وأمرتني بكذا ونهيتني عن كذا، والمرئي لا يعرف ذلك ولا يشعر به؛ لأن المرئي الذي حل في قلب الرائي هو «المثال العلمي» المطابق للعيني).
وبهذا التصور السلفي تُعالج هذه القضايا؛ ليكون الأساس في هذا التصور هو الفرقان بين الخالق والمخلوق.
__________
(1) أخرجه البخاري تعليقا (6/2735) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/126)
وإذا كان التصور الإسلامي يثبت النظام الكوني الذي يحدد العلاقة الكونية بين الخلائق، فإن الفرقان بين جميع الخلائق وذات الله «الخالق» سبحانه وتعالى يجب أن تكون الحقيقة الأولى التي تعلو قواعد وأحكام هذا النظام، ولذلك كان فهم الفرقان بين عناصر الخلق وبعضها البعض بضوابطه وأحكامه يساعدنا على تصور الفرقان الواجب بين الخلق والخالق سبحانه وتعالى.
وأهم هذه العناصر: الملائكة والإنس والجن..
وتداخل أي عنصر من هذه العناصر في مجالٍ غير مجاله له قواعده كذلك.
وأهم هذه القواعد هي أن التداخل بين المجالات لا يغير جوهر العنصر، كما يخضعه لأحكام المجال المغاير الذي دخل فيه.
ولعل تداخل الملائكة مثال على ذلك..
لقد جاءت حادثة ضيف إبراهيم في عدة سور: هود، والحِجر، والذاريات، وكان العنصر المشترك في آيات السور المتعددة هو مسألة إطعام ضيف إبراهيم..
ولذلك جاء في سورة الذاريات: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات: 24]، فجاءت مسألة الإطعام مستفيضة: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ*فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} [الذاريات: 27].
أما في الحِجر فلم يقل المكرمين، ولذلك لم يذكر الطعام: { وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ*إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُون} [الحجر: 51، 52].
أما في سورة هود فقد جاء وصف الملائكة بالرسل: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69]، فلم يذكر ضيف ولكنه جاء بذكر الطعام عارضا، مما يعنى أهمية مسألة الطعام في حادثة ضيف إبراهيم..
وبينما يؤكد القرآن على أن «الضيف لم يأكلوا».. تأتي روايات التوراة المحرَّفة التي بين يدي الناس لتذكر أن الضيوف قد أكلوا..(1/127)
(فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال: أسرعي بثلاث كيلات دقيقًا سميذًا، اعجني واصنعي خبز ملة، ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلًا رخصًا وجيدًا وأعطاه للغلام فأسرع ليعمله، ثم أخذ زبدًا ولبنًا والعجل الذي عمله ووضعها قدامهم، وإذ كان هو واقفًا لديهم تحت الشجرة أكلوا..!) [تكوين: 18].
وهذا الخلاف يدل على تحريف التوراة؛ لأن أكل الضيوف أمر طبيعي، لا يتطلب الأمر ذكره لو أنهم أكلوا كما تزعم الروايات المحرفة، ولكنه ذُكر في القرآن لأن الضيوف لم يأكلوا، مما أحدث في نفس إبراهيم الوجل والخوف..!
ولو أن الأشخاص الذين جاءوا إلى إبراهيم قد أكلوا لكان أمرًا عاديًّا لا يقتضي الذكر والوقوف عليه، لا في التوراة ولا في القرآن.
وهنا نكتشف أن من حرَّف التوراة كان حريصًا على إثبات أن الملائكة قد أكلت، وأن إثبات ذلك عنده فيه إثبات لجانب كبير من جوانب التحريف عند اليهود والنصارى.. لأن اليهود قالوا: العزير ابن الله، والنصارى قالوا المسيح ابن الله..
وأن هذا القول عندهما قائم على بدعة التجسد الإلهي.. وأن بدعة التجسد عندهما تقتضي أن يمارس الإله المتجسد السلوك المرتبط بالصورة البشرية التي تجسَّد فيها..
وأن الدليل على ذلك هو أكل الملائكة التي تجسدت في صورة بشرية رغم أن الملائكة بطبيعتها الملائكية لا تأكل..
ومن هنا كان القرآن حريصًا على إثبات أن الملائكة لم تأكل؛ ليهدم هذا الجانب التحريفي عند هؤلاء الناس.(1/128)
أما الدليل على أن مسألة أكل الملائكة كانت مقصودًا واضحًا في الآيات فهو السياق القرآني، حيث كان التركيز في سورة الحِجر على البُشرى بإسحاق: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ*إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ*قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ. قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ*قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} [الحجر: 51، 55].
أما في سورة الذاريات، فإن مسألة الأكل جاءت في مساحة أكبر من مسألة البُشرى، مع أن البُشري هي موضوع اللقاء: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ*إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ*فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ*فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ*فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ*فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات: 24-29].. فجاء ذكر البُشرى في آية واحدة، مما يدل على أن السياق في سورة الذاريات يتضمن حقيقة مقصودة ويراد فهمها، ألا وهي أن الملائكة في حال تجسدها أو تمثلها في صورة بشر فإنها لا تخرج عن طبيعتها الملائكية، حيث قدم لها إبراهيم الطعام فلم تأكل.
وهذه هي الحقيقة المرادة.. أن الملائكة عند التجسُّد لا تخرج عن طبيعتها..
وعندما يقول النصارى بالتجسد فإنهم يدخلون الخالق في مجال الخلق..
ثم يضيفون إلى هذه الفكرة الكافرة.. فكرة كافرة معها: وهي أن الإله المتجسِّد يخرج عن طبيعته.. فيأكل ويشرب.. وما يترتب على الأكل والشرب..!(1/129)
فكيف لا نقبل عدم خروج الملائكة المتجسِّدة عن طبيعتها الملائكية، ثم نقبل تجسُّد الإله بل والخروج عن طبيعته.. بالأكل والشرب..!
العلاقة بين زعم التجسُّد وصفة الكلام
يربط النصارى بين بدعة التجسد وكلمة الله، وفي تفسير هذا الارتباط يجب التفريق بين ثلاثة أشياء:
صفة الكلام الذاتية لله.. ومضمون كلام الله سبحانه.. وظهور هذا الكلام في اللوح المحفوظ وحركة ألسنتنا به، وأيدينا بكتابته.
والمعنى الذي يدَّعونه من ظهور كلمة الله في المسيح لا يخرج عن عدة احتمالات:
الأول: أن يكون المقصود بـ«الكلمة» كلام الله الذي هو صفته.
الثاني: أو ذات الله المتكلمة.
الثالث: أو مجموعهما.
فإن كان الاحتمال الأول هو المقصود.. فهذا يراد به شيئًان:
- إن أريد به أن الله أنزل كلامه على المسيح كما أنزله على غيره من الرسل فهذا حق اتفق عليه أهل الإيمان ونطق به القرآن.
- وإن أريد به أن كلام الله فارقَ ذاته وحلَّ في المسيح أو غيره فهو باطل؛ لأن المسيح عندهم هو الإله الذي خلق السموات والأرض، وهو عندهم ابن آدم وخالق آدم، وابن مريم وخالق مريم..؟!
وإن كان الاحتمال الثاني هو المقصود.. فهذا أيضًا قد يراد به ظهور نوره في قلوب المؤمنين كما قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35].(1/130)
وكما جاء في التوراة التي بين أيديهم: (أقبَلَ الرَّبُّ مِنْ سيناءَ، وأشرَقَ لهُم مِنْ جبَلِ سَعيرَ، وتَجلَّى مِنْ جبَلِ فارانَ، وأتى مِنْ رُبى القُدسِ وعَنْ يمينِهِ نارٌ مُشتَعِلةٌ) [تثنية: 33-2 الترجمة العربية المشتركة].
فهذا لا يختص بالمسيح بل هو له ولغيره.
وقد يراد به ظهور ذات الله سبحانه وتعالى، وهو المقصود بالتجسد.. وهو أيضًا كلام مجمل، فإن أرادوا به أن ظهور ذات الله في المسيح كظهور روح الإنسان في جسده، أو كالجنِّي الذي يتكلم على لسان المصروع، ونحو ذلك- فضرب هذا المثل لا يكون صحيحًا؛ إذ ليس هذا محل النزاع لأن الروح والجسد مخلوقان، والجنِّي والمصروع مخلوقان..
وإن أرادوا به أن الله نفسه – تعالى عن ذلك - يحل في البشر.. فهذا محل النزاع وهو الأمر المستحيل..!
فإذا شبهوا اتحاد اللاهوت بالناسوت باتحاد الروح بالبدن، وظهوره فيه بظهور الروح في البدن، يكون من المعلوم أن ما يصيب البدن من الآلام تتألم به الروح، وما تتألم به الروح يتألم به البدن، فيلزمهم أن يكون الناسوت لما صُلب وتألم وتوجع الوجع الشديد كان اللاهوت أيضًا متألمًا متوجعًا. وهو الأمر المستحيل في حق الله تعالى..!
أما الإحكام القرآني لتفسير العلاقة بين الله سبحانه وتعالى والبشر.. فيقررها قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ على حَكِيمٌ} [الشورى: 51].
فليس هناك احتمال يخرج عن هذه الاحتمالات الثلاثة:
- الكلام عن طريق الوحي المباشر..«تفسير الوحي».
- والكلام من وراء حجاب..
- والكلام من خلال الرسول – الملك..
وختام الآية بهذين الوصفين: «عليٌّ حَكِيمٌ» له معناه؛ فعلو الله فوق خلقه يقتضي حجابه عنهم..
وحكمته سبحانه تقتضي إرسال الرسل لهدايتهم وصلاح حالهم..(1/131)
ولا يكون هذا بذاك إلا بأن يوحي الله إلى الملائكة.. فتتلقى كلام الله من الله.. وتنزل به على الأنبياء عليهم السلام.. فيكون وصول كلام الله إلى الملائكة قبل وصوله إلى البشر.. وهم الوسائط في نزول الوحي بين الله «العلي» والبشر.
وإذا كان الله لا يكلم بشرًا إلا وحيًا، أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولًا فيوحي بإذنه ما يشاء- فتكليمه للبشر عن طريق الوحي وعن طريق مَلَك رسول.. كوحيه سبحانه لجميع الأنبياء، وإرساله الملائكة لهم..
وتكليمه للبشر من وراء حجاب كتكليمه لموسى فوق الطور، وتكليمه لمحمد صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى..
وتكليمه للبشر عن طريق رسول -كما أرسل الملائكة- إما أن يكون كافيًا في حصول مراد الرب من الرسالة إلى عباده أو ليس كافيًا، فإن كان ذلك كافيًا أمكن أن يكون المسيح مثل غيره؛ فيوحي الله إليه، أو يرسل إليه ملكًا فيوحي بإذن الله ما يشاء، أو يكلمه من وراء حجاب كما كلم موسى؛ وحينئذ فلا حاجة به إلى اتحاده ببشر مخلوق، وإن كان التكلم ليس كافيًا وجب أن يتحد بسائر الأنبياء كما اتحد بالمسيح، فيتحد بنوح وإبراهيم وموسى وداود وغيرهم.
ولو جاز أن يتحد الرب سبحانه بحيٍّ من الأحياء ويحل فيه لكان حلوله في ملك من الملائكة واتحاده به باعتباره من « اللطائف» أولى من حلوله واتحاده بواحد من البشر باعتباره من« الكثائف».
ولكن الاتحاد مستحيل على الله..
ومن حقيقة الوحي إلى البشر يأتي تفسير هذه الاستحالة.. فالله تعالى أيد رسله من البشر بالوحي حتى أطاقوا التلقي عن الملائكة وكانت الملائكة تأتيهم أحيانا في غير الصورة البشرية وأحيانا في الصورة البشرية.
ولذلك هيَّأ الله الرسل من البشر لتلقي الوحي عن الملائكة، حتى أُوتي الرسول قوة الأربعين رجل لتحمل الوحي، وحتى أن جبينه يتفصد عرقًا في الليلة الشديدة البرد، وحتى أن الناقة كانت تبرُك به إذا نزل عليه الوحي وهو فوقها.(1/132)
ويحدث كل ذلك بمجرد نزول الوحي عليه بواسطة جبريل..
كما أن قول الله لموسى عند طلبه رؤية الله دليل آخر على استحالة الاتحاد {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [لأعراف: 143].
ونفي الأنبياء لإمكانية رؤية المرء لله في الدنيا هو نفي لمماسته ببشر بطريق الأولى والأحرى، والناسوت المسيحي هو بشر، فإذا لم يمكنه أن يرى الله.. فكيف يمكنه أن يتحد به ويماسه ويصير هو وإياه كاللبن والماء، والنار والحديد، أو كالروح والبدن..!!
ومن المعلوم أن الرؤية أيسر من الاتحاد به والحلول فيه، وأولى بالإمكان، فإذا كانت الرؤية في الدنيا قد نفاها الله ومنعها على ألسن رسله موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه- فكيف يجوز اتصاله بالبشر واتحاده به..؟!
وقد كان هذا هو السبب في أن يكون أول من يُذهَب بهم إلى النار: هم عباد الصليب..(1) اتفاقا مع تجانس الجزاء مع العمل يوم القيامة..
فوثنية الصليب جاءت من زاوية ادِّعاء الرؤية الحسية لله في الدنيا.. من خلال الأبعاد المتعددة للوجود الحسي من خلال عناصر التجسد السابق ذكرها، فنسبوا لله «الطعام والشراب» و«الرؤية العينية»و«الموت» و«الدخول في الزمان والمكان».
وإذا ثبت امتناع التجسد على الله ووجوب الحجاب بين الله والبشر.. كان لا بد أن يكون الحاجب للبشر ليس من البشر، وهذا يبطل قول النصارى؛ فإنهم يقولون: إن الرب احتجب بحجاب بشري، وهو الجسد الذي ولدته مريم، فاتخذه حجابًا، وكلم الناس من ورائه.
__________
(1) سبق تخريجه.(1/133)
والجسد الذي ولدته مريم هو من جنس أجسام بني آدم، فإن جاز أن يتحد به ويحل فيه ويطيق الجسد البشري ذلك في الدنيا بما يجعله الله فيه من القوة.. جاز أن يتحد بغيره من الأجسام، بما يجعله فيها من القوة، وإذا جاز أن يتحد بها جاز أن يكلمها بغير حجاب بينه وبينها بطريق الأولى والأحرى، وهذا خلاف ما ذكروه وخلاف القرآن.
الفرق بين صفة الرب وفعل العبد
يؤمن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ من المسلمين أن القُرْآن الذي نقرؤه نحن، سواء كَانَ مقروءًا بألسنتنا أو مكتوبا بأيدينا-غير مخلوق، ولا يعنون نفس الكتاب والمداد ونفس الحروف التي نخرجها من أفواهنا، وإنما يقصدون بذلك المضمون الذي هو القُرْآن نفسه.. كلام الله عَزَّ وَجَلَّ.
فمن قال: (لفظي بالقرآن مخلوق) ويقصد بذلك أن قراءته وحروفه أو أصواته مخلوقة، فهذا صحيح.
وكذلك الذي يقول: (إنه غير مخلوق) إن كَانَ يريد بقوله: القرآن كلام لله، فهذا صحيح.
وإن كَانَ يريد به كلامه وأصواته وقراءته هو له، فهذا مردود؛ لأن القُرْآن يطلق ويراد به القراءة البشرية، ويطلق ويراد به ما في المصحف الذي هو كلام الله «المقروء».
وكلمة قرآن في اللغة العربية: مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرأ قرآنًا، وقد جَاءَ ذلك في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ حيث يقول سبحانه: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] أي: قراءة الفجر، فليس المقصود هنا القُرْآن الذي هو كلام الله، بل قرآن الفجر: قراءته، وأيضًا منه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((زينوا القُرْآن بأصواتكم))(1) أي: زينوا قراءتكم بالتجويد والترتيل.
__________
(1) أخرجه أحمد ( 4 / 283 ) ، وأبو داود ( 1 / 464 ) ، والنسائي ( 2 / 179 ) ، وابن ماجه ( 1 / 426 ) جميعًا عن البراء بن عازب رضي الله عنه.(1/134)
كما يأتي القُرْآن بمعنى كلام الله، كما قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] أي كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، فالذي يقصد القراءة.. فالقراءة مخلوقة بلا شك، والذي يقصد القُرْآن الذي هو كلام الله.. فكلام الله غير مخلوق بلا شك.
ولكن بكتابة كلام الله في اللوح المحفوظ، أو في مصحف بيد الناس، أو بقراءته بألسنتهم، يكون ذلك هو خلق من خلق الله سبحانه وتعالى.
وهو كلام الله الشرعي مثل التوراة التي كتبها الله لموسى في الألواح التي خلقها الله بيده ليكون كلام الله الذي هو صفته في ألواح مخلوقة مثل المصحف الذي يكتب في ورق مخلوق وبمداد مخلوق، فإذا قرأه إنسان أو عمل به تكون تلك القراءة أو هذا العمل مخلوق، وهذه القراءة وهذا العمل هو الذي يتجسد، وإنما يطلق على هذه القراءة وهذا العمل لفظ القرآن باعتباره المصدر الذي كانت القراءة والعمل بمقتضاه، وهي المصاحَبَة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أصحاب سورة البقرة))(1).
ومثل الصلاة التي أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم تجسدها ونطقها: ((إذا أحسن الرجل الصلاة، فأتم ركوعها وسجودها قالت الصلاة: حفظك الله كما حفظتني، فترفع، وإذا أساء الصلاة، فلم يتم ركوعها وسجودها قالت الصلاة: ضيعك الله كما ضيعتني، فتلف كما يلف الثوب الخلق، فيضرب بها وجهه))(2).
وما بين الكلام كصفة ذاتية لله، وقراءته والعمل به.. مرحلة تقتضي التفسير، وهي مرحلة ما قبل نزول القرآن لقراءته والعمل به.
__________
(1) أخرجه أحمد (1/207) عن ابن عباس .
(2) سبق تخريجه .(1/135)
مثل استخراج آية الكرسي من كنز من تحت العرش، وهذه حالة تماثل الكتابة في المصحف؛ لأن وجودها تحت العرش ينفي عنها ذاتية الصفة التي تكون لكلام الله، باعتبار أن العرش هو الفرقان بين الله بذاته وبين الخلق وأن وجود الآية تحت العرش تلك الصفة، وباعتبار نفي الصفة الذاتية.. كان اللسان والشفتين الذين أثبتهما النبي صلى الله عليه وسلم للآية:
عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: ((أيُّ آية في كتاب الله أعظم؟)) قال: آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، قال: ((ليهنك العلم أبا المنذر، والذي نفسي بيده إن لها لسانًا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش))(1).
والملاحظة الهامة في الحديث.. هي إثبات أن تقديس الآية لله باللسان والشفتين كان عند ساق العرش، ويؤكد هذا المعنى حديث تعاطف الذكر:
عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذين يذكرون من جلال الله من تسبيحه وتحميده وتكبيره وتهليله، يتعاطفن حول العرش، لهن دوي كدوي النحل، يذكرن بصاحبهن، أَوَلا يحب أحدكم ألا يزال عند الرحمن شيء يذكر به))(2).
الفصل الثالث
الأقانيم
معنى الأقانيم
الأقانيم جمع أقنوم، وقد اختلف النصارى حول تعريفها:
فقال قوم: هي جواهر.. وقال قوم: هي خواص.. وقال قوم: هي صفات.. وقال قوم: هي أشخاص.. وقال قوم هي تعينات..
ثم جعلوا الأقنوم اسمًا للذات والصفة معا..
فالأب عندهم: الجوهر الجامع للأقانيم.. والابن هو الكلمة التي اتحدت عند مبدأ المسيح..وروح القدس هي صفة الحياة..
__________
(1) أخرجه أحمد واللفظ له، ومسلم وأبو داود وابن الضريس والحاكم والهروي في فضائله.
(2) أخرج أحمد واللفظ له ومسلم وأبو داود وابن الضريس والحاكم والهروي في فضائله.(1/136)
وخلاصة قولهم في الأقانيم هي: (أن الله واحدٌ، أي: جوهر واحد، وأن في اللاهوت ثلاثة أقانيم، هم الآب والابن والروح القدس، غير أن الجوهر ليس مقسومًا، فليس لكل أقنومٍ جزءٌ خاص من الجوهر، بل لكل أقنوم كمال الجوهر، الواحد نظير الآخر).
ثم حصروا العلاقة بين الأقانيم الثلاثة بثلاث خصائص، هي: «التميُّز، والشركة، والمساواة».
والحسم السلفي لبدعة الأقانيم يقوم على أساسين:
الأول: مناقشة البدعة بالتصور السلفي لقضية الأسماء والصفات والأفعال، باعتبار أن الخلل الذي نشأت عنه هذه البدعة حدث في إطار هذه القضية، ضمن الخلل الذي أصاب كل قضايا النصارى.
الثاني: التأكيد على عبودية عيسى ابن مريم وروح القدس؛ لأن الادِّعاء بألوهيتهما هو موضوع هذه البدعة.
ومن التصور السلفي قد علمنا:
أن الذات واحدة.. وأن الذات لها صفات.. وأن الصفة إما صفة ذات أوصفة فعل.. وأن الصفة إما لازمة أو متعدية..
ويلزم من القول ببدعة الأقانيم أن يكون المسيح صفة للذات الإلهية.. مما يعني أن اتحاد الصفة «الكلمة» بالذات «الآب عندهم» نشأ عنه تغير الذات، حيث تولد أقنوم الابن «الكلمة» من أقنوم الآب «الذات»، وظهرت خصائص وصفات جديدة للآب «الذات» بتولد الابن.
وهو باطل لأن تعلق أي صفة بالذات لا يغير الذات، ولكن يغير الأفعال الناشئة عن تعلق هذه الصفة بها، فالذات لا تتغير.. ولكن الأفعال هي التي تتغير..
فالله رحيم، وتعلق صفة الرحمة بذات الله.. لا يغير ذاته سبحانه، ولكن تتغير أفعال الله بمقتضى رحمته، فتنشأ أفعال الرحمة بصورها المتنوعة.
وبذلك يكون الخطأ عند النصارى هو القول بأن الذات مع الصفة يكون لهما حكم خاص، تتغير فيه الذات والصفة، فيصبح الآب هو الابن، والابن هو الآب، ولا يكون الفارق بينهما إلا في المسمَّى والاختصاص.
وقد وقع النصارى في خطأٍ آخر، حين قالوا بالمساواة بين الأقانيم، وأن حكم الصفة مؤثر في الذات، فسوّوا بين الصفة والموصوف.(1/137)
وحسب قولهم.. إذا كان لكل أقنوم صفة فلا بد أن تكون صفته مثله..
وإذا كانت هذه الأقانيم آلهة، وكل صفة هي إله ومن جوهر هذا الأقنوم- فيجب أن تكون كل صفة لكل واحد من الثلاثة الأقانيم إلهًا مثله؛ إذ هي من جوهره.. فيتسع الأمر في ذلك إلى ما لا نهاية من الآلهة..!
وإذا قالت النصارى: إن المسيح هو الكلمة التي هي صفة الذات الملازمة لها منذ الأزل- انتفى معنى التولد باعتباره تولُّد شيء من شيء، إذ لا بد أن يسبق الوالد ما تولد منه، مما اضطرهم إلى الزعم بأن الابن يُراد به الابن بالوضع وهو المخلوق، والابن بالطبع وهو القديم الأزلي المولود غير المخلوق، وهذا التفريق هم أحدثوه وابتدعوه، ولا يوجد قط في كلام المسيح ولا غيره أنه سمَّى القديم الأزلي ابنًا، ولا جعل له ابنًا قديمًا مولودًا غير مخلوق، ولا سمَّى شيئًا من صفات الله قط ابنًا.
ومع ذلك فلم يخرجهم ذلك من التناقض؛ لأنهم سمَّوا الابن القديم الأزلي مولودًا أيضًا، وبذلك ينفي التولد صفة ملازمة الابن للأب، سواءً كان معنى التولد أزليًّا أو محدثًا.
وسواءً كانت الولادة بمعناها المجازي أو الصريح فلا يخرج معناها عن أصل يتفرع منه فرع، وإلا لم يعد لها أي معنى أصلًا..!
وإذا قال النصارى أن المسيحَ صفة فعلٍ لله فهذا يقتضي أن يكون المسيح هو جميع كلام الله، وليس كلمةً واحدةً فقط..!
وإذا قال النصارى: إن الابن وروح القدس صفتان لازمتان «العلم» أو «الحكمة» فإن اختيار العلم والحياة للأقنومية لأجل الملازمة دليل على التناقض؛ لأن الصفة اللازمة هي التي لا تتعدى إلى الفعل والخلق.
فإذا كان الابن صفة لازمة «الحكمة» أو «العلم» كان روح القدس هو الآخر ابنًا؛ لأنه صفة لازمة «الحياة»..!
فالمسيح جوهر قائم بنفسه، والكلام صفة قائمة بالمتكلم، وليس هو نفس الرب المتكلم، فإن الرب المتكلم هو الذي يسمونه الآب، والمسيح ليس هو الآب عندهم -بل الابن- فَضَلُّوا في قولهم من عدة جهات..(1/138)
- من جهة جعل الأقانيم ثلاثة.. وصفات الله لا تنحصر في ثلاثة..!
ومن جهة جعل الصفة خالقة.. والصفة لا تخلق..!
اختلافات الأقانيم
اتفقت طوائف النصارى(1) على وصف الله بأنه جوهر واحد مثلث الأقانيم، وأن كل واحد من الأقانيم جوهر خاص يجمعها الجوهر العام – تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
والأب عندهم الجوهر الجامع للأقانيم، والابن هو الكلمة التي اتحدت عند مبدأ المسيح، والروح هي الحياة، واجتمعوا على أن الاتحاد صفة فعل وليس بصفة ذات.
وقد أوضحنا اختلافهم في تحديد معنى الأقنوم، وأنه دائر بين معنى الجوهر والخاصية والصفة والشخص..
والآن نوضح اختلافهم في تحديد العلاقة بين الأقانيم:
- فقال بعضهم: إن الأقانيم مختلفة في الأقنومية متفقة في الجوهرية.
- وقال آخرون: ليست مختلفة في الأقنومية بل متغايرة.
- وقال فريق منهم: إن كل واحد منها لا هو الآخر ولا هو غيره، وليست متغايرة ولا مختلفة، ثم زعموا أن الجوهر ليس هو غيرها..!
وكذلك قالت طائفة من الملكانية: إن الجوهر غير الأقانيم، وزعموا أن الجوهر هو الأب، والأقانيم الحياة وهي روح القدس والقدرة والعلم، وأن الله اتحد بأحد الأقانيم الذي هو الابن بعيسى ابن مريم، وكان مسيحا عند الاتحاد لاهوتا وناسوتا حمل وولد ونشأ وقتل وصلب ودفن.
واختلفوا أيضا في تحديد طبيعة المسيح:
- فقالت النسطورية: إن المسيح جوهران أقنومان؛ قديم ومحدث، وأن اتحاده إنما هو بالمشيئة، وأن مشيئتهما واحدة وإن كانا جوهرين.
- وقالت اليعقوبية: لما اتحدا صار الجوهران «الجوهر القديم والجوهر المحدث» جوهرًا واحدًا.
__________
(1) ينقسم النصارى إلى عدة طوائف تتجاوز السبعين، لكن أكبر هذه الطوائف عددا ثلاثة: الملكانية ويسمون حديثًا الكاثوليك، واليعقوبية ويسمون الأرثوذكس، والنسطورية ويسمون البروتستانت.(1/139)
- واختلفوا هاهنا، فقال بعضهم: الجوهر المحدث صار قديمًا وزعم آخرون أنهما لما اتحدا صارا جوهرًا واحدًا قديمًا من وجه محدثًا من وجه آخر.
- وقالت الملكانية: إن المسيح جوهران؛ أقنوم واحد، وحكي عن بعضهم أنه أقنومان جوهر واحد.
- وقالت الأريوسية: إن الله ليس بجسم ولا أقانيم له، وأن المسيح لم يُصلب ولم يُقتل، وأنه نبيٌّ، وحُكي عن بعضهم أنه قال: المسيح ليس بابن الله.
وحُكي عن بعضهم: أنه ابن الله على التسمية والتقريب.
وكذلك اختلفوا في الكلمة الملقاة إلى مريم:
- فقالت طائفة منهم: إن الكلمة حلت في مريم حلول الممازجة، كما يحل الماء في اللبن؛ فيمازجه ويخالطه.
- وقالت طائفة منهم: إنها حلت في مريم من غير ممازجة، كما أن شخص الإنسان يحل في المرآة وفي الأجسام الصقيلة من غير ممازجة.
- وزعمت طائفة من النصارى: أن الناسوت مع اللاهوت كمثل الخاتم مع الشمع، يؤثر فيه بالنقش، ثم لا يبقى منه شيء إلا أثره.
واختلف قولهم في الاتحاد اختلافا متباينا:
- فزعم قومٌ منهم أن الاتحاد هو أن الكلمة التي هي الابن، حلت جسد المسيح، وقيل: هذا قول الأكثرين منهم.
- وزعم قومٌ منهم أن الاتحاد هو الاختلاط والامتزاج.
- وقال قوم من اليعقوبية: هو أن كلمة الله قد انقلبت لحمًا ودمًا بالاختلاط.
- وقال كثير من اليعقوبية والنسطورية الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط الماء بالخمر وامتزاجهما وكذلك الخمر باللبن.
ويمكن إجمال الاختلافات في تفسير المقصود من كلمات الأب والابن والروح القدس والكلمة، وغيرها من الأوصاف التي وردت في الأناجيل, فنقول:
لقد اتفقوا جميعًا على الوحدانية النهائية ولكنهم اختلفوا في أقانيم الثالوث:
هل الابن مساوٍ للأب؟
وهل هو ذو طبيعة واحدة أو ذو طبيعتين: إلهية وإنسانية؟
وهل هو إله أو إنسان مفضَّل على سائر البشر؟
وهل يصدر الروح القدس من الأب وحده أو من الأب والابن مترادفان؟(1/140)
أو أن الكلمة هي الأب والإله؟
ولم تَفْصِل المجامع (1) في موضوع هذه التفسيرات، ولكنهم اتفقوا جميعًا على الوحدانية الجامعة للأقانيم، ولم يتفقوا على «أقانيم الثالوث» التي تجمعها تلك الوحدانية المزعومة، فأصبحت مجرد عبارة ليس لها معنى.
وفيما يلي سنناقش هذه الافتراءات، لكشف زيفها وتناقضها.
مسائل الأقانيم
تدور بدعة الأقانيم حول عدة مسائل:
- الأزل والقدم
- الاتحاد والانفصال
- المساواة في الجوهر والطبيعة والمشيئة
الأزل والقدم
يقول صاحب مقاييس اللغة: (الأزَل: الذي هو القِدَم فالأصل ليس بقياس، ولكنّه كلامٌ مُوجَزٌ مُبدَل، إنّما كان «لم يَزَلْ» فأرادوا النّسبة إليه فلم يستقم، فنسَبُوا إلى يَزَل، ثم قلبوا الياء همزة فقالوا أَزَلِيٌّ).
أما القدم، فقد قال الخليل بن أحمد: (القِدَمُ: مصدر القديم من كل شيء، وتقول: قَدُمَ يَقدُمُ. وقَدَمَ فلان قومه؛ أي: يكون أمامهم).
وهذا يعني أن مسألة الأزل والقدم متعلقة ببداية الخلق، وهي من أخطر قضايا النصارى؛ لأن ابتداء وجود الابن متعلق بتفسير الأزل، والنصارى يقولون بأن الولادة ليست بترتيب زمني، ويفسرون ذلك بأن الابن كان مع الآب منذ الأزل، وأن الآب لم يسبق الابن..!
ويؤكد النصارى هذا القول تأكيدًا جازمًا فيقولون: (وأما الذين يقولون: إنه كان زمان لم يوجد فيه.. وإنه لم يكن له وجود قبل أن يولد.. وإنه خُلق من العدم..أو إنه مادة أو جوهر واحد.. أو إن ابن الله مخلوق.. أو أنه قابل للتغيير أو متغير..
فهم ملعونون من الكنيسة الجامعة الرسولية..).
وقد جمعت هذه العبارات بين عناصر البدعة ونقيضها في نفس الوقت..!
__________
(1) هي مؤتمرات كنسية تعتبر المؤسس الحقيقي للمسيحية على أنقاض ما تبقى من النصرانية الصحيحة، ومن أشهرها مجمع نيقية ومجمع أفسس ومجمع خلقدونية.(1/141)
كأن يدَّعوا أن النطق كان منذ الأزل.. وهذا ينفي أن يكون معنى النطق هو الولادة؛ لأن الولادة خروج شيء من شيء، فلا بد أن يسبق الوالد المولود الذي خرج منه..!
وأما الأزلي الذي لم يزل ولا يزال فيمتنع عندهم وعند سائر العقلاء أن يكون ممكنًا يقبل الوجود والعدم، بل كل ما قبل الوجود والعدم لم يكن إلا محدثًا، وهذا مما يستدل به على أن كل ما سوى الله فهو محدث مسبوق بالعدم كائن بعد أن لم يكن.
{أَوَلا يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شيئًا} [مريم: 67].
وقد عالج التصور السلفي قضية بداية الخلق باعتبارها نفيٌ لاتخاذه سبحانه ولدًا، وإثبات لاسم الله «البديع»، وفي ذلك يقول الله عز وجل: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ. بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 116-117].
{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101].
واسم الله «البديع» يثبت الأولية لله سبحانه.. وكما تثبت الأولية تكون الآخرية..
يقول الله عز وجل: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3].
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء.. وأنت الآخر فليس بعدك شيء.. وأنت الظاهر فليس فوقك شيء.. وأنت الباطن فليس دونك شيء))(1).
وبذلك ارتبطت بداية الخلق مع نهايته كما في قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104].
__________
(1) أخرجه مسلم (2713) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/142)
ولذلك كان أخطر ما يفسد الاعتقاد في قضية بدء الخلق: هو الادِّعاء الباطل بأن لله ولد؛ لأن مضمون بداية الخلق هو مضمون النهاية.. كما قال سبحانه: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104].
وأهم عناصر المضمون في بدء الخلق ونهايته: هو أن الله (هو الأول والآخر.. والظاهر والباطن) وادِّعاء أن الابن مع الآب منذ الأزل، وأنه سيبقى مع الآب- يعني أن الله ليس الأول وليس الآخر..!
وقد بدأ الانحراف عند النصارى من هذه البداية بفكرة أن الابن هو «بكر الخلائق» أي: أولها، والحد الزمني للخلق هو الذي ينفي فكرة الولد الموجود مع الأب منذ الأزل؛ لأنهم بذلك أخرجوا عيسى من حد الزمن.
وفي هذا الإطار جمع الحديث القدسي بين ذكر ادِّعاء الولد لله، والتكذيب بإعادة الخلق بعد بدايته، مما يدل على أن القضيتين ترتبطان معًا بعلاقة جوهرية..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله عز وجل: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، فأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوا أحد))(1).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ليس أحد -أو ليس شيء- أصبر على أذى سمعه من الله.. إنهم ليدَّعون له ولدا.. وإنه ليعافيهم ويرزقهم))(2).
ولذلك أورد الإمام البخاري في كتاب بدء الخلق حديث: ((كان الله ولم يكن شيءٌ غيره))(3).. وفي رواية: ((ولم يكن شيء معه)) (4)، ثم الحديث القدسي: ((شتمني ابن آدم)).
فذكر الحديث في كتاب «بدء الخلق».. يدل على أن قضية بدء الخلق تمثل أساسًا ثابتًا لفهم حقيقة أن الله ليس له ولد..
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) أخرجه البخاري (5748، 6943)، ومسلم (2804) كلاهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(3) سبق تخريجه.
(4) سبق تخريجه.(1/143)
ولذلك قال الإمام ابن حجر: ( ((يشتمني ابن آدم))، الشتم هو الوصف بما يقتضي النقص، ولا شك أن دعوى الولد لله تستلزم الإمكان المستدعي للحدوث، وذلك غاية النقص في حق الباري سبحانه وتعالى).
من أجل ذلك تحددت قضية خلق عيسى ابن مريم لتكون داخلة بإحداثيتها فيما بين بداية الخلق ونهايته، فذكر القرطبي في تفسير قول الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [لأعراف: 172]: (روح عيسى ابن مريم من تلك الأرواح التي أخذ الله عليها الميثاق في زمن آدم).
وكما حسم القرآن بدعة ادِّعاء الولد لله من خلال إثبات أولية الله عز وجل.. حسمها أيضا من خلال إثبات العدم للخلق قبل الإيجاد.. وإثبات العدم للبشر قبل الخلق، حيث جاء هذا الإثبات من خلال قضية عيسى في سورة مريم: {أَوَلا يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شيئًا} [مريم: 67].
وبذلك يتبين أن حسم قضية ادِّعاء الولد لا يكون إلا بمنهج الأنبياء، ولا يكون كذلك إلا بكلامهم وألفاظهم.
فلفظ «القديم» في اللغة المشهورة التي خاطبنا بها الأنبياء يراد به ما كان متقدمًا على غيره تقدمًا زمانيا، سواء سبقه عدم أو لم يسبقه، كما قال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39]، وقال تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95]، وقال الخليل: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ*أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ*فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75-77].
فلهذا كان القديم الأزلي الذي لم يزل موجودًا ولم يسبقه عدم أحقُّ باسم القديم من غيره.(1/144)
وليس لأحد أن يجعل القديم والمتقدم اسمًا لما قارن غيره في الزمان لزعمه أنه متقدم عليه بالعلة، ويقول: إنه متقدم على غيره وسابق له بهذا الاعتبار، وإن ذلك المعلول متأخر عنه بهذا الاعتبار، ثم يحمل ما جاء من كلام الأنبياء وأتباع الأنبياء وعموم الخلق على هذا الاصطلاح لو كان حقًّا، فكيف إذا كان باطلا..؟!
وما ذكروه من التقدم والسبق والتأخر بغير الزمان أمرٌ غير موجود ولا معقول، ولا يعرف في الوجود من فعل شيئًا وكان عِلَّةً فاعلةً له إلا وهو متقدم عليه، سابق له، ليس مقارنًا له في الزمان ألبتة، بل متقدم عليه تقدمًا زمانيًّا.
وكل من يعرف أنه سبب أو علة فاعلة فإنه متقدم على مُسَبَّبِه ومعلوله، لكن قد يكون متصلًا به ليس بينهما زمان آخر، فيقال: ليس هذا متأخرا عن هذا؛ أي: هو متصل به ليس بينهما فصل، ويقال: ليس ذلك متقدمًا على هذا؛ أي: ليس بينهما زمان، بل هو متصل به، إذ قد يراد بلفظ التقدم هذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الجنازة متبوعة، وليست بتابعة، ليس منها من تقدمها))(1) أي من كان قد تقدمها حتى لم يكن قريبًا منها لم يكن تابعًا لها، كما جاء في الحديث الآخر: ((الراكب خلف الجنازة، والماشي أمامها، ووراءها، وعن يمينها ويسارها، قريبًا منها))(2) رواه أبو داود وغيره وهو أبين حديث روي في هذا الباب في هذا الحكم، ومنه قوله تعالى: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40] أي: لا يتقدم عليه بحيث يكون بينهما انفصال، بل كل منهما متصل بالآخر.
__________
(1) أخرجه أحمد (1/394، 415، 419، 432)، وأبو داود (2/223)، والترمذي (3/332)، وابن ماجه (1/476) جميعهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2) أخرجه أحمد (4/247، 248، 252)، والترمذي (3/349)، والنسائي (4/55، 56، 58)، وابن ماجه (1/475) جميعهم من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.(1/145)
والمقصود هنا: أن معرفة اللغة التي خاطبنا بها الأنبياء وحُمِل كلامهم عليها أمرٌ واجبٌ متعينٌ، ومن سلك غير هذا المسلك فقد حرَّف كلامهم عن مواضعه، وكذب عليهم وافترى.
فأهل الكتاب نقلوا عن الأنبياء أنهم تكلموا بلفظ الآب والابن، ومرادهم عندهم بالأب الرب وبالابن المصطفى المختار المحبوب، ولم ينقل أحد منهم عن الأنبياء أنهم سمُّوا شيئًا من صفات الله ابنًا ولا قالوا عن شيء من صفاته أنه تولد عنه، ولا أنه مولود له.
فإذا وجد في كلام المسيح عليه السلام أنه قال: عمدوا الناس باسم الآب والابن وروح القدس، ثم فسروا الابن بصفة الله القديمة الأزلية- كان هذا كذبًا بينًا على المسيح، حيث لم يكن في لغته أن لفظ الابن يراد به صفة الله القديمة الأزلية.
وكذلك إذا لم يكن في كلام الأنبياء أن حياة الله تُسمَّى روح القدس، وإنما يريدون بروح القدس ما ينزله الله تبارك وتعالى على الأنبياء والصالحين ويؤيدهم- كان تفسير قول المسيح: روح القدس أنه أراد حياة الله كذبًا على المسيح.
ونلخص ما سبق فنقول: أن الولادة والبنوة تقتضي وجود سبق زمني بين الأقنومين، وأن محاولة تفسير العلاقة بينهما بأي وصف آخر كالعلة والسببية للهروب من إثبات هذا الفرق الزمني- لا يُخرج صاحبه من المأزق؛ لأن العلة تسبق المعلول زمنيًّا وإن اتصلا في الوجود، وأحدهما سابق للآخر، حتى ولو لم يكن بينهما فرق زمني محسوب، وبهذا لا يستحق أقنوم «الابن» -حسب ادعائهم- وصف القدم والأزل بأي وجه من الوجوه.
الاتحاد والانفصال
قالوا: واختلف قولهم في الاتحاد اختلافًا متباينًا..
يقول الإمام ابن تيمية: (زعم قوم منهم أن الاتحاد: هو أن الكلمة التي هي الابن حلت جسد المسيح، وهو قول الأكثرين منهم.
وزعم قوم منهم: أن الاتحاد هو الاختلاط والامتزاج.
وقال قوم من اليعقوبية «الأرثوذكس»: هو أن كلمة الله قد انقلبت لحمًا ودمًا بالاختلاط.(1/146)
وقال كثير من اليعقوبية والنسطورية (البروتستانت): هو أن الكلمة والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط الماء بالخمر وامتزاجهما، وكذلك الخمر باللبن.
ثم قلتم في أمانتكم (1): إنه تجسم من روح القدس أو منه ومن مريم، وهو إنما تجسم عندكم من الكلمة التي سميتموها الابن دون روح القدس..
وإن كان تجسم من روح القدس فيكون هو روح القدس، لا يكون هو الكلمة التي هي الابن.
ثم تقولون: هو كلمة الله وروحه، فيكون حينئذ أقنومين: أقنوم الكلمة وأقنوم الروح، وإنما هو عندكم أقنومًا واحدًا..!)
(وهم يجعلون الأقنوم اسمًا للذات مع الصفة، والذات واحدة، والتعدد في الصفات لا في الذات، ولا يمكن أن تتحد صفة دون الأخرى، ولا دون الذات.
فيمتنع اتحاد أقنوم أو حلوله بشيء من المخلوقات دون الأقنوم الآخر، ولا إثبات ثلاثة أقانيم ولا إثبات ثلاث صفات دون ما سواها، ولا إثبات إله حق من إله حق، ولا تسمية صفات الله مثل كلامه وحياته.. لا ابنًا ولا إلهًا ولا ربًّا، ولا إثبات اتحاد الرب خالق السموات والأرض بشيء من الآدميين، ولا حلول ذات وصفة دون ذات مع الصفات الأخرى، بل ولا حلول نفس الصفة القائمة به في غيره.. لا علمه ولا كلامه ولا حياته ولا غير ذلك).
ثم يفند الإمام رحمه الله عقيدتهم هذه من عدة وجوه، نقتصر منها على وجهين:
الوجه الأول: أن يقال لهم -حسب اعتقادهم-: إن المتحد بالمسيح إما أن يكون هو الذات المتصفة بالكلام أو الكلام فقط..
أو بعبارة أخرى: إما الكلام مع الذات.. وإما الكلام بدون الذات..
فإن كان المتحد به الكلام مع الذات كان المسيح هو الأب وهو الابن وهو روح القدس وكان المسيح هو الأقانيم الثلاثة، وهذا باطلٌ باتفاق النصارى وسائر أهل الملل وباتفاق الكتب الإلهية، وباطلٌ بصريح العقل.
__________
(1) يقصد بها ما يُسَمَّى بـ «قانون الإيمان» عند النصارى، وهو ما كانوا يطلقون عليه قديما: الأمانة.(1/147)
وإن كان المتحد به هو الكلمة فقط فالكلمة صفة والصفة لا تقوم بغير موصوفها، والصفة ليست إلهًا خالقًا والمسيح عندهم إلهٌ خالقٌ، والصفة لا تخلق ولا ترزق وليست الإله، والصفة لا تقعد عن يمين الموصوف، والمسيح عندهم صعد إلى السماء و(جلس عن يمين أبيه)..
الوجه الثاني: أن الذات المتحدة بناسوت المسيح.. إن كانتا بعد الاتحاد ذاتين وهما جوهران كما كانا قبل الاتحاد.. فليس ذلك باتحاد..!
وإن قيل: صارا جوهرًا واحدًا -كما يقول من يقول منهم: إنهما صارا كالنار مع الحديدة أو اللبن مع الماء- فهذا يستلزم استحالة كل منهما وانقلاب صفة كل منهما؛ بل حقيقته، كما استحال الماء واللبن إذا اختلطا، والنار مع الحديد، وحينئذ فيلزم أن يكون اللاهوت استحال وتبدلت صفته وحقيقته، والاستحالة لا تكون إلا بعدم شيء ووجود آخر، فيلزم عدم شيء من القديم الواجب الوجود بنفسه..
وما وجب قدمه استحال عدمه، وما وجب وجوده امتنع عدمه، فإن القديم لا يكون قديمًا إلا لوجوبه بنفسه، أو لكونه لازمًا للواجب بنفسه..
وبهذين الوجهين تنتفي فكرة الاتحاد التي زعمها النصارى.. ويبقى أن نثبت الانفصال الذي حاولوا جاهدين نفيه للإبقاء علي زعمهم.
يقول مؤلف علم اللاهوت النظامي: (كلمة «أقنوم» كلمة سريانية تدل على من يتميَّز عن سواه، بغير انفصال عنه).
فَعَرَّف كلمة «الأقنوم» بالشيء ونقيضه..
لأن مجرد التميز بالصفات أو الخصائص -حتى مع زعم وحدة الطبيعة والجوهر- لا يعني سوى الانفصال الذي حاول أن ينفيه.
وفضلا عن عشرات النصوص المبثوثة في الأناجيل، التي تدل دلالة قاطعة على الانفصال، نركز هنا على دليلين اثنين:
الأول: أن انبثاق روح القدس من الآب يختلف عن تولد الابن منه
فالابن مولود من الآب، بينما روح القدس منبثق، والانبثاق معناه التولد من الجمع، مثل انبثاق الماء، وهذا يثبت الفارق بين الابن «المتولد»، وروح القدس «المنبثق».(1/148)
والثاني: ما زعموه من صعود الابن والجلوس عن يمين أبيه
يقول مرقس: (إن الرب بعدما كلمهم ارتفع إلى السماء، وجلس عن يمين الله) [16/19].
فيقول النصارى: إن الله سبحانه وتعالى اتحد بالمسيح، وأنه صعد إلى السماء وجلس عن يمين الأب.
يقول ابن تيمية: (وعندهم أن اللاهوت منذ اتحد بالناسوت لم يفارقه، بل لما صعد إلى السماء وجلس عن يمين الأب كان الصاعد عندهم هو المسيح الذي هو ناسوت ولاهوت إله تام وإنسان تام، فهم لا يقولون: إن الجالس عن يمين الأب هو الناسوت فقط بل اللاهوت المتحد بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت، فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا، وليس هذا من كلام الأنبياء حتى يقال: إن له معنى لا نفهمه، بل هو من كلام أكابرهم الذي وضعوه وجعلوه عقيدة إيمانهم، فإن كانوا تكلموا بما لا يعقلونه فهم جهال لا يجوز أن يتبعوا، وإن كانوا يعقلون ما قالوه فلا يعقل أحد من كون اللاهوت المتحد بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت المجرد عن الاتحاد، إلا أن هذا اللاهوت المجرد منفصل مباين للاهوت المتحد وليس هو متصلًا به، بل غايته أن يكون مماسًا له، بل يجب أن يكون الذي يماس اللاهوت المجرد هو الناسوت مع اللاهوت المتحد به، فهذا حقيقة التبعيض والتجزئة مع انفصال أحد البعضين عن الآخر).
والنسبة المكانية الصارخة في كلمة: «عن يمين» تدل على الانفصال.
وكنتيجة لاستحالة استيعاب قول النصارى بتناقضاته وغموضه.. فقد ارتكزت محاولاتهم في طرح زعمهم على ضرب مثل اشتهر عندهم، حتى بلغ في شهرته حد موضوع الزعم ذاته، وهو تشبيه العلاقة بين الأقانيم الثلاثة بالعلاقة بين الشمس وحرارتها وشعاعها، مما تطلب إثبات بطلان هذا التمثيل..
فيقول الإمام ابن تيمية: (وهم تارة يشبهون الأقنومين: العلم والحياة -التي يسمونها الكلمة- وروح القدس، بالضياء والحرارة التي للشمس مع الشمس، ويشبهون ذلك بالحياة والنطق الذي للنفس مع النفس..(1/149)
وهذا تشبيه فاسد؛ فإنهم إن أرادوا بالضياء والحرارة ما يقوم بذات الشمس.. فذلك صفة للشمس قائمة بها لم تحل بغيرها، ولم تتحد بغيرها، كما أن صفة النفس كذلك -هذا إن قيل إن الشمس تقوم بها حرارة- والمقصود هنا بيان فساد كلامهم وقياسهم.
وإن أرادوا ما هو بائن عن الشمس قائم بغيرها -كالشعاع القائم بالهواء والأرض، والحرارة القائمة بذلك- كان هذا دليلًا على فساد قولهم من وجوه:
منها: أن هذه أعراض منفصلة بائنة عن الشمس قائمة بغيرها.. لا بها، ونظير هذا ما يقوم بقلوب الأنبياء من العلم والحكمة والوحي الذي أنذروا به، وعلى هذا التقدير فليس في الناسوت شيئًا من اللاهوت، وإنما فيه آثار حكمته وقدرته.
ومنها: أن الحرارة والضوء القائم بالهواء والجدران.. أعراض قائمة بغير الشمس، والكلمة وروح القدس عندهم هما جوهران.
ومنها: أن هذا ليس هو الشمس ولا صفة من صفات الشمس، وإنما هو أثرٌ حاصل في غير الشمس بسبب الشمس؛ فإن الشعاع القائم بالهواء والأرض والجبال والشجر والحيطان ليس هو قائم بذات الشمس، والقائم بذات الشمس ليس قائما بالهواء والأرض.
فإن قالوا: بل ما يقوم به من العلم يفيض منه على قلوب الأنبياء علوم كما يفيض الشعاع من الشمس..
قيل لهم: لا اختصاص للمسيح بهذا، بل هذا قدر مشترك بينه وبين غيره من الأنبياء، وليس في هذا حلول ذات الرب ولا صفته القائمة به بشيء من مخلوقاته، ولا أن العبد بما حل فيه من العلم والإيمان يصير إلهًا معبودًا..!
ومثل هذا لا يُنكَر قيامه بالأنبياء والصالحين، ولكن ليس للمسيح عليه السلام بذلك اختصاص، فما حَلَّ بالمسيح حل بغيره من المرسلين، وما لم يحل بغيره لم يحل به، فلا اختصاص له بأمر يوجب أن يكون إلهًا دون غيره من الرسل، ولا هنا اتحاد بين اللاهوت والناسوت، كما لم تتحد الشمس ولا صفاتها القائمة بها بالهواء والأرض التي حصل بها الشعاع والحرارة)(1).
المساواة في الجوهر
__________
(1) الجواب الصحيح (1/219).(1/150)
يضطرب النصارى اضطرابا بالغًا عند الحديث عن العلاقة بين أقانيمهم المزعومة، من حيث المساواة.. وخصوصًا عندما يحاولون تأويل النصوص القاطعة بوجود فرق بين الآب والابن..
ومن هذه النصوص (1):
- ما جاء في كتاب «مرقس» عن ميعاد يوم القيامة: (وأما ذلك اليوم وتلك الساعة.. فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن.. إلا الآب) [13/33].
- ما جاء في كتاب «يوحنا» عن جزاء من يؤمن برسالة المسيح يوم القيامة: (وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني: أن كل ما أعطاني لا أتلف منه شيئا، بل أقيمه في اليوم الأخير؛ لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير) [6/40-41].
- ما جاء في كتاب «يوحنا»: (الحق الحق أقول لكم: إنه ليس عبد أعظم من سيده، ولا رسول أعظم من مرسله) [13/17].
- ما جاء في كتاب «يوحنا» على لسان المسيح مخاطبًا اليهود: (لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم، ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله، هذا لم يعمله إبراهيم، أنتم لا تعملون أعمال أبيكم..
فقالوا له: إننا لم نولد من زنا.. لنا أب واحد وهو الله..
__________
(1) لا يعني استشهادنا بهذه النصوص أننا نسلم بأنها من كلام المسيح عليه السلام، وإنما أوردناها من باب إفحام الخصم. وينبغي التنبه إلى أنها مترجمة عن نسخ يونانية، تم ترجمتها أصلًا عن الآرامية لغة المسيح وقومه.
ويلاحظ القاريء لهذه النصوص أن استخدام المجاز يغلب عليها، وأنها قد ترجمت ترجمة مشوهة غير أمينة، فمثلًا: كلمة "الآب" في الأصل الآرامي أقرب إلى معنى «الرب».(1/151)
فقال لهم يسوع: لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني.. لأني خرجت من قِبَلِ الله، وأتيت لأني لم آت من نفسي، بل ذاك أرسلني، لماذا لا تفهمون كلامي.. لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي، أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا، ذاك كان قَتَّالا للناس من البدء ولم يثبت في الحق؛ لأنه ليس فيه حق، متى تكلم بالكذب.. فإنما يتكلم مما له؛ لأنه كذاب وأبو الكذاب، وأما أنا.. فلأني أقول الحق، لستم تؤمنون بي. من منكم يبكتني على خطيئة؟! فإن كنت أقول الحق.. فلماذا لستم تؤمنون بي؟ الذي مِنَ الله.. يسمع كلام الله، لذلك أنتم لستم تسمعون.. لأنكم لستم من الله) [8/40].
وردًّا على الدلالة الصارخة لهذه النصوص الجازمة بعدم المساواة بين الأقانيم المزعومة، يقول مؤلف اللاهوت النظامي: (نجيب: كل هذه الآيات لا تنفي علاقة المسيح بالآب في الثالوث الأقدس، بل تشير إلى أن الابن من حيث كونه إنسانًا مُرسلًا من الله لإتمام الفداء هو دون الآب في العلاقة التي بينهما؛ لأنه مُرسَل من قِبل الآب ليتمم مشيئته بالتجسُّد، وتقديم نفسه كفارةً عن البشر. ثم نال منه جزاء عمله، وتقلَّد سلطانًا خاصًّا، وهو أنه جلس عن يمينه كملك الكون إلى أن يتمم كل ما يتعلق بالفداء، ثم يسلّم الملك إلى الآب. غير أن ذلك لا يناقض أنه إله، بل يشير إلى علاقته بالأقنوم الأول من اللاهوت في إتمامه عمل الفداء، وهي علاقة المرسَل بمرسِله. فهو دون الآب في العمل لا في الجوهر الإلهي، والآب أعظم منه ليس في جوهره ولا في طبيعته الإلهية، بل في الأعمال المتعلقة بالفداء، لأنه أُرسل منه. وعلى ذلك قيل: إنه لا يتكلم من نفسه، وإنه من نفسه لا يقدر أن يعمل شيئًا).
ومحاولة التفريق بين «الطبيعة» و«الأعمال» لا تُثبِت المساواة؛ لأن المساواة لا تكون إلا بالاثنين معًا..!(1/152)
وفي نفس الوقت فإن هذا التفريق يؤدي إلى إثبات جوهرين منفصلين متمايزين، مما ينسف زعم التجسد والاتحاد الذي يمثل بؤرة عقيدتهم..!
ثم يقول: (لقد كان مجد المسيح مساويًا لمجد الآب، ولكنه تنازل عنه طوعًا لفترة محدودة ليكمل عمل الفداء بالموت عنا مصلوبًا. ولما أُكمل عمل الفداء عاد إلى مجده الأول(1). وقد قال المسيح: أنا مجَّدتُك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملتُه. والآن مجِّدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم [يو 17: 4، 5] فإن كنا نتكلم عن أن المسيح أقل من الآب، فذلك في فترة تنازله، ولأداء عمل الفداء. تنازل في اختصاصاته، وليس في شخصه.
قال الرسول -يقصد بولس- إنه كان معادلًا لله، فجُعل في شِبه الناس، ووُجد في الهيئة كإنسان [في 2: 7، 8] وكان تحت الناموس [غل 4: 4]).
ولا يعنينا إن كانت المساواة قد اختلت لفترة ما، أو أنها مختلةٌ دومًا..! فالثابت أنها وجودًا وعدما لا تنفي حقيقة التثليث المناقضة لزعم التوحيد..
وكنيسة القسطنطينية الأرثوذكسية تقول بصراحةٍ نادرة: أن الابن -الإله المتجسد- أقل رتبة من الإله من غير تجسد، يقول الأسقف أبولينراس: (الأقانيم الثلاثة الموجودة في الله متفاوتة القدر، فالروح عظيم، والابن أعظم منه، والأب هو الأعظم.. ذلك أن الأب ليس محدود القدرة والجوهر، وأما الابن فهو محدود القدرة لا الجوهر، والروح القدس محدود القوة والجوهر).
يقول الإمام ابن تيمية تعليقا على هذا الادعاء: (وهم في هذه الأمانة -أي في قانون إيمانهم- قد جعلوا الله والدًا وهو الأب، ومولودًا وهو الابن، وجعلوه مساويًا له في الجوهر، فقالوا: مولود غير مخلوق، مساوٍ الأب في الجوهر. فصرحوا بأنَّه مساوٍ له في الجوهر، والمساوِي ليس هو المساوَى..
ولا يساوي الأب في الجوهر.. إلا جوهر..
__________
(1) لاحظ تناقض هذه العبارة: (عاد لمجده الأول) مع اعتقادهم ببقاء التجسد حتى الآن..!(1/153)
فوجب أن يكون الابن جوهرا ثانيًا، وروح القدس جوهرًا ثالثا.. كما سيأتي..
وهذا تصريح بإثبات ثلاثة جواهر وثلاثة آلهة، ويقولون مع ذلك: إنما نثبت جوهرا واحدًا، وإلهًا واحدًا. وهذا جمع بين النقيضين..!
فحقيقة قولهم: أنهم يجمعون بين جعل الآلهة واحدًا وإثبات ثلاثة آلهة، وبين إثبات جوهر واحد وإثبات ثلاثة جواهر..
وقد نَزَّه الله نفسه عن ذلك بقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4].
فَنَزَّه نفسه أن يلد.. كما يقولون: هو الأب..
وأن يولد.. كما يقولون: هو الابن..
وأن يكون له كُفُوًا أحد.. كما يقولون: إن له من يساويه في الجوهر..
وإذا قلتم نحن نقول: (أَحَدِيّ الذات.. ثُُلَاثِيّ الصفات) قيل لكم: قد صرحتم بإثبات إله حق من إله حق، وبأنه مساوٍ للأب في الجوهر، وهذا تصريح بإثبات جوهر ثانٍ لا بصفة، فجمعتم بين القولين بين إثبات ثلاثة جواهر وبين دعوى إثبات جوهر واحد..!
ولا ينجيكم من هذا اعتذار من اعتذر منكم كيحيى بن عدي ونحوه، حيث قالوا: هذا بمنزلة قولك: زيد الطبيب، الحاسب، الكاتب، ثم تقول: زيد الطبيب، وزيد الحاسب، وزيد الكاتب.
فهو مع كل صفة له حكم خلاف حكمه مع الصفة الأخرى، وقد يفسرون الأقنوم بهذا، فيقولون: الأقنوم هو الذات مع الصفة، فالذات مع كل صفة أقنوم، فصارت الأقانيم ثلاثة..(1/154)
وهذا المثال لا يطابق قولكم؛ لأن زيدا هنا هو جوهر واحد له ثلاث صفات، الطب والحساب والكتابة، وليس هنا ثلاثة جواهر، كما أن حكم كل صفة يختلف عن الأخرى، ولا يقول عاقل: إن الصفة مساوية للموصوف في الجوهر، ولا أن الذات مع هذه الصفة تساوي الذات مع الصفة الأخرى في الجوهر؛ لأن الذات واحدة والمساوِي ليس هو المساوَى، ولأن الذات مع الصفة هي الأب، فإن كان هذا هو الذي اتحد بالمسيح.. فالمتحد به هو الأب، ولأنكم قلتم عن هذا الذي قلتم إنه: (إله حق من إله حق من جوهر أبيه الذي هو مساوي الأب في الجوهر، وأنه نزل وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء، وتأنس وصلب وتألم)، فاقتضى ذلك أن يكون الإله الحق المساوي للأب في الجوهر صُلِبَ وتألَّم فيكون اللاهوت مصلوبًا متألمًا، وهذا تقر به طوائف منكم وطوائف تنكره، لكن مقتضى أمانتكم هو الأول..!
وأيضًا فإذا كان تجسد من روح القدس ومريم فإن كان روح القدس هو حياة الله -كما زعمتم- فيكون المسيح كلمة الله وحياته.. فيكون لاهوته أقنومين من الأقانيم الثلاثة.
وعندهم إنما هو أقنوم الكلمة فقط، وإن كان روح القدس ليس هو حياة الله بطل تفسيركم لروح القدس بأنه حياة الله، وقيل لكم: لا يجب أن يكون روح القدس صفة لله ولا أقنوما).
إن حقيقة الألوهية تقتضي العلو.. والإله الواحد هو الأعلى، لذلك حسم التصور الإسلامي لخصائص الألوهية هذه البدعة بمقتضى حقيقة العلو، فيقول سبحانه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91].
فالمساواة بين إلهين شيء مستحيل.. ولا بد أن يكون الإله الحق هو الأعلى..
وحتى عندما حاولوا مساواة الأقانيم.. فقد افتقدوا المساواة المطلقة التي تنتفي بمجرد أن أقول: أب وابن وروح قدس؛ لأن الترتيب ترتيب زمني مرتبط بتاريخ ظهور الفكرة.(1/155)
وعندهم لا يجوز أن تقول: باسم روح القدس والابن والآب، فأين المساواة إذن..!
المساواة في المشيئة
ومن أخطر مشاكل الأقانيم مشكلة المشيئة بين الأقانيم..
ومن هنا تعددت فرق النصارى في هذه المشكلة؛ فمنهم من قال بوحدة المشيئة بين الأقانيم رغم تعددها.
ومنهم من قال بتعدد المشيئة تبعًا لتعدد الأقانيم.
والانحراف في مسألة المشيئة عند النصارى جاء في البداية من العلاقة بين مشيئة الله والعباد، التي تقوم على حقيقة أن المشيئة لله.
والمشيئة الواحدة إما أن تكون بمعنى تحقيق العبد لمراد الله وأن يكون هوى العبد تبعًا لما أمر الله.
وفي هذه الحالة يكون الجزاء: أن يحقق الله بإرادته مراد العبد، ولذلك يقولون: أن المسيح تخلى عن مشيئته، وأخضع مشيئته لمشيئة الرب، ودليل صحة هذا التفسير هو قولهم:
وصار هذا أيضًا طريق كل مَن يتبع المسيح: أن يطرح عنه مشيئته الخاصة ويتخلَّى عنها ليُخضع نفسه لمشيئة المسيح التي هي نفس مشيئة الله الآب. وهكذا يصير لأولاد الله مشيئة أبيهم السماوي: (لتكن مشيئتك).
وإثبات المشيئة المطلقة لله سبحانه وتعالى يعتبر أساسًا هامًّا في فهم قضية عيسى ابن مريم، وذلك في إطار التعريف الصحيح بالله.
من حيث طلاقة المشيئة.. ومن حيث وحدة المشيئة..
فكان الخلل في إيمان النصارى بطلاقة المشيئة هو السبب المباشر في الانحراف؛ لأنهم لم يتمكنوا من استيعاب قضية عيسى ابن مريم، التي يعبِّر عنها القرآن بقوله سبحانه: { كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 47](1).
الابن والكلمة
بدأ الخلل في اعتقاد النصارى عندما قالوا: أن الله ذات، وأن الذات لها صفة الكلمة، وأن الكلمة قائمة بالذات، وأن الكلمة تفيد حضور الله الشخصي، وتعبر عن شخصه ومهابته.
__________
(1) يراجع مبحث المشيئة، فصل طبيعة التحريف، بالباب الثالث.(1/156)
ومثال ذلك عندهم: التوراة.. فهي كلمة الله. لها وجود شخصيٌّ ذاتيٌّ؛ ولذلك سميت «بنت الله» يدللها الله ويجلسها على ركبتيه، ونسبوا إليها القدرة والعمل والفاعلية الذاتية. ويستدلون على هذا الكلام بما هو مكتوب عندهم (هكذا تكون كلمتي التي تخرج من فمي، لا ترجع إلي فارغة، بل تعمل ما سرت به، وتنجح فيما أرسلتها له). ويقصدون بذلك أنه بمجرد أن تصدر الكلمة عن الله يصبح لها وجودًا ذاتيًّا فعَّالًا وقدرة على النمو والغفران والتقديس، وعلى التغيير والتجديد والولادة والشفاء من تلقاء ذاتها، بمجرد قبولها وتصديقها.
ثم قالوا: المسيح كلمة الله.. والكلام صفة لازمة للذات.. إذن المسيح صفة لازمة قائمة بالذات.. إذن المسيح قائم بذات الله أو هو الله.
وتصحيح هذا الخلل..
هو أن الله ذات.. له أسماء وصفات وأفعال.
والصفات لازمة للأفعال.. ناشئة عن الذات.. بمقتضى الصفات.
فهي متعلقة بالذات.. مستلزمة للأفعال.
والكلام من صفات الله له معنيان: معنى الصفة اللازمة للذات، ومعنى الفعل الناشئ عن الصفة اللازمة.
فالمسيح كلمة الله..
بمعنى الفعل الناشئ عن الصفة اللازمة..
وليس بمعنى الصفة اللازمة ذاتها..
والفرق بين المعنيين هو أخطر زاويا الانحراف عند النصارى.
ولذلك قال قتادة: ليس الكلمة: صار عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى، وكذلك قال الإمام أحمد بن حنبل في مصنفه، وذكره عنه الخلال والقاضي أبو يعلى: الكلمة التي ألقاها الله إلى مريم حين قال له: كن.. فكان عيسى بـ«كن» وليس عيسى هو «كن»، ولكن بـ «كن» كان، فـ «كن» من الله قوله، وليست مخلوقًا، فكذبت النصارى على الله في أمر عيسى.
وهذا مجمل القول السلفي في مسألة «الكلمة».
فتسمية عيسى بالكلمة جاء من باب تسمية الشيء بسببه.(1/157)
والدليل القرآني على هذا المعنى هو قول الله عز وجل: { إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } [آل عمران: 45].
فإن قوله: {بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ} فيه الضمير عائد في «اسمه» إلى عيسى، وهو اسم مذكر مع أن الكلمة اسم مؤنث، فلو كانت الكلمة ذاتها هي عيسى ذاته لكانت الآية اسمها المسيح.
ولكنهم قالوا: إذا كانت كل أفعال الله ناشئة عن الذات بمقتضى الصفات فما وجه اختصاص المسيح باسم «الكلمة»؟
والرد: يجوز تسميه الفعل بالصفة التي نشأ عنها، والدليل... قول رسول الله: ((قالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا الفقراء.. وقالت النار: ما لي لا يدخلني إلا المتكبرين.. فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء.. وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء)(1).
فالجنة فعل من أفعال الله، نشأت عن الذات بمقتضى صفة الرحمة.
فجاز تسمية الجنة بالرحمة باعتبارها فعل من أفعال الله، ناشئ بمقتضى صفة الرحمة.
إذن عيسى كلمة الله بالمعنى الثاني.. وهو تسمية الفعل بالصفة الناشئة عنها...
فمثلما كانت الجنة هي رحمة الله... كان عيسى كلمة الله.
وفي هذا الإطار يمكن أن يقول الرجل لغيره: غفر الله لك علمه فيك، وهو يقصد معلومه؛ أي: علمه فيه، فجاءت الصفة بمعني الفعل.
والقاعدة التي تضمن الصواب.. هو أنه ليس هناك في الخلق ما يخرج عن حدود الفعل الإلهي.
وجميع الخلائق كانت بكلمة كن.
ولكن اختصاص عيسى بالكلمة جاء من كونه كان بالكلمة دون سبب.. أي: وُلد من مريم بغير أب.
وهذا الاختصاص تابع لقاعدة عامة في القدر.. وهى أن كل أفعال الله قدر.
__________
(1) أخرجه البخاري (4569، 7011)، ومسلم (2846) كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/158)
ولكن الأفعال التي تحدث بغير الأسباب الطبيعية أو بغير إرادة من الإنسان الفاعل يطلق على هذا الفعل «قدر» علمًا بأن كل أفعال الله قدر.
فأنت عندما تشرب ماءً في إناء يكون ذلك قدر.. ولكن عندما يقع هذا الإناء من يدك يكون ذلك قدر أيضًا.
ولكنك لا تطلق لفظ القدر إلا في حالة كسر الإناء فقط؛ لأنه حدث بلا سبب، ولا إرادة.
ومع أن مثل عيسى عند الله كمثل آدم، فخلقه بـ «كن» ونفح فيه من «روحه» إلا أن آدم لم يطلق عليه: «روح الله وكلمته» بينما أُطلق على عيسى واختص به..
فما معنى هذا الاختصاص..؟!
والإجابة على هذا السؤال: هو أن خلق آدم كان البداية، ويتبع البداية حواء، باعتبار أن الامتداد بآدم وحواء، أو بالذكر والأنثى، الذي يكون بهما التناسل والامتداد البشري، حيث استمر هذا الامتداد من خلال الأسباب الطبيعية للتناسل، فلم يكن هناك وجه للاختصاص في البداية والامتداد، حتى كان خلق عيسى ابن مريم الذي يمثل استثناءً من طبيعة الامتداد، فجاء الاختصاص من هذا الاستثناء.
وادِّعاء النصارى بأن المسيح كلمة الله الذاتية ينشأ عنه عدة تساؤلات...
هل يعنون بالكلمة.. الذات المتكلمة؟.. أم المعنى القائم بالذات الأزلية؟.. أم كلام الله كله؟.. أم بعض كلام الله؟
فإن قالوا: الذات المتكلمة، فلا يكون الكلام مولودًا، ولا تكون الكلمة قد أرسلت..!
وإن قالوا: المعنى القديم الأزلي؛ لزمهم أن يكون المسيح كلام الله كله.
وإن قالوا: كلام الله كله؛ يكون المسيح هو التوراة والإنجيل وسائر كلام الله.
وإن قالوا: بعض كلام الله؛ فيكون الكلام الآخر مثل الكلام الذي هو المسيح.
فيكون هناك آلهة أخرى وبما أن كلام الله لا نهاية له.. فيكون هناك عددٌ لا نهائي من الآلهة..!(1/159)
ولا بد لهم من إثبات أقنوم الكلمة الذي يقولون تارة هي العلم وتارة هي الحكمة، ويسمونها تارة النطق كما سموها في كتابهم هذا؛ لأن الذي اتَّحد بالمسيح عندهم هو أقنوم الكلمة، فصاروا تارة يضمون إليها الحياة، وتارة يضمون إليها القدرة.
والأب تارة يقولون: هو الوجود، وتارة يقولون: القائم بنفسه، وتارة يقولون: الذات، وتسمى القائم بنفسه بالسريانية الكيان
وكل هذا من الحيرة والضلال؛ لأنهم لا يجدون ثلاثة معانٍ هي المستحقة لأن تكون جوهرية دون غيرها من الصفات، سواء فسرت الجوهرية بأنها جواهر أو بأنها ذاتية مقومة أو بغير ذلك.
ومنها قولهم: تُجرى مجرى أسماء، فإن أرادوا بذلك أسماء أعلام أو جامدة، وسائرها صفات- فاسم الحي والعالم اسمٌ مشتق يدل على معنى العلم والحياة كما يدل القدير على القدرة.
وإن أرادوا أنه يسمى بها فـ«لله» تعالى أسماء كثيرة، فإنه سبحانه له الأسماء الحسنى.
ومن أسمائه «القدير» والقدرة تستلزم من قدرته على المخلوقات ما لا يدل عليه العلم، وخلقه للمخلوقات يدل على قدرته أبلغ من دلالته على علمه، واختصاصه بالقدرة أظهر من اختصاصه بالعلم، حتى إن طائفة من النظار كأبي الحسن الأشعري وغيره يقول: أخص وصفه القدرة على الاختراع، فلا يوصف بذلك غيره
والمقصود هنا: أن كلام الأنبياء لا يجوز أن يُحمل إلا على لغتهم، التي من عادتهم أن يخاطبوا بها الناس، لا يجوز أن يحدث لغة غير لغتهم ويحمل كلامهم عليها.
بل إذا كان لبعض الناس عادة ولغة يخاطب بها أصحابه، وقدر أن ذلك يجوز له فليس له أن يحمل ذلك لغة النبي ويحمل كلام النبي على ذلك.
ومن هذا إخبار الأنبياء: بأن الله يقول ويتكلم وينادي ويناجي وأنه قال كذا وتكلم بكذا ونادى موسى ونحو ذلك.(1/160)
والمعروف في لغتهم ولغة سائر الأمم: أن المتكلم من قام به الكلام، وإن كان متكلمًا بقدرته ومشيئته، لا يعرف في لغتهم أن المتكلم من أحدث كلامًا منفصلًا عنه، ولا أن المتكلم من قام به الكلام بدون قدرته ومشيئته (حتى لا يكون تولد الكلمة بإرادة الأب دون الابن)
فليس لأحد إذا جعل اسم المتكلم لمن يحدث كلامًا بائنًا عنه أو من قام به بدون قدرته ومشيئته- أن يحمل كلام الأنبياء على هذا.
بل المتكلم عند الإطلاق من تكلم بقدرته ومشيئته مع قيام الكلام به.
قال سعيد بن البطريق: (ومثلما أن كلمة الإنسان المولودة من عقله تكتب في قرطاس، فهي في القرطاس كلها حقًّا، من غير أن تفارق العقل الذي منه ولدت ولا يفارقها العقل الذي ولدها؛ لأن العقل بالكلمة يعرف لأنها فيه، والكلمة كلها في العقل الذي ولدها، وكلها في نفسها، وكلها في القرطاس الذي التحمت به، فكذلك كلمة الله كلها في الأب الذي ولدت منه، وكلها في نفسها وفي الروح، وكلها في الناسوت التي حلت فيها والتحمت بها).
فيقال: هذا التمثيل حجة عليكم وعلى فساد قولكم.. لا حجة لكم، وذلك يظهر بوجوه:
أحدها: أن يقال: إن كان حلول كلمة الله التي هي المسيح في الناسوت مثل كتابة الكلام في القرطاس- فحينئذ يكون المسيح من جنس سائر كلام الله، كالتوراة وزبور داود والإنجيل والقرآن وغير ذلك، فإن هذا كله كلام الله وهو مكتوب في القراطيس باتفاق أهل الملل؛ بل الخلق كلهم متفقون على أن كلام كل متكلم يكتب في القراطيس، وقد قال تعالى في القرآن: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21-22].
وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77-79].
وقال سبحانه: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 2، 3].(1/161)
وقال: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 11-16].
وقال تعالى: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 1-3].
وإذا كانت الكلمة التي هي المسيح عندكم هكذا.. فمعلوم أن كلام الله المكتوب في القراطيس ليس هو إلهًا خالقًا، وهو كلام كثير لا ينحصر في كلمة ولا كلمتين..!
ولو قال قائل: يا كلام الله اغفر لي وارحمني، أو يا توراة أو يا إنجيل أو يا قرآن اغفر لي وارحمني.. كان قد تكلم بباطل عند جميع أهل الملل والعقلاء، وأنتم تقولون المسيح إله خالق وهو يُدعى ويُعبد، فكيف تشبهونه بكلام الله المكتوب في القراطيس؟!
الثاني: أن الكلام المكتوب صفة للمتكلم، يقوم به ويكتب في القراطيس عند سلف أهل الملل وجماهيرهم، وعند بعضهم هو عرض مخلوق يخلقه في غيره، فالجميع متفقون على أن الكلام صفة تقوم بغيرها، ليس جوهرًا قائمًا بنفسه، والمسيح عندكم: لاهوته جوهرٌ قائم بنفسه، وهو إله حق من إله حق، وهو عندكم: إله تام وإنسان تام، فكيف تجعلون الإله الذي هو عينٌ قائمة بنفسها كالصفة التي لا تقوم إلا بغيرها..؟!
الثالث: قولكم: إن كلمة الإنسان مولودة من عقله لو كان صحيحًا فالتولد لا يكون إلا حادثًا..
وأنتم تقولون: إن كلمة الله القديمة الأزلية متولدة منه قبل الدهور، وتقولون مع هذا: هي إله..
وهذا كما أن بطلانه معلوم بصريح العقل فهي بدعة وضلالة في الشرع؛ فإنه لم يسمِّ أحد من الأنبياء شيئًا من صفات الله ابنا له، ولا قال: إن صفته متولدة منه، ولفظ الابن لا يوجد عندكم عن الأنبياء إلا اسمًا لناسوت مخلوق، لا لصفة الله القديمة، فقد بدلتم كلام الأنبياء بهذا الافتراء.(1/162)
الرابع: قولكم مولودة من عقله؛ إن أردتم بعقله العين القائمة بنفسها التي يسميها قلبًا وروحًا ونفسًا أو نفسًا ناطقة- فتلك إنما تقوم بها المعاني، وأما الألفاظ فإنما تقوم بفمه ولسانه.
وإن أردتم بعقله مصدر عقل يعقل عقلًا فالمصدر عرضٌ قائمٌ بالعقل، وهو عرَض من جنس العلم والكلمة والعمل الصالح.
وإن أردتم بالعقل الغريزة التي في الإنسان فهو أيضًا عرض.
الخامس: أن تسميتكم تكلم الإنسان بالمعنى أو اللفظ تولدًا أمرٌ اخترعتموه، لا يُعرف عن نبيٍّ من الأنبياء ولا أمة من الأمم ولا في لغة من اللغات.
وإنما ابتدعتم هذا لتقولوا: إذا كان كلام الإنسان متولدًا منه فكلام الله متولد منه.
ولم ينطق أحدٌ من الأنبياء بأن كلام الله تولد منه، ولا أنه ابنه، ولا أن علمه تولد منه، ولا أنه ابنه.
السادس: قولكم إن كلمة الإنسان المولودة من عقله تكتب في القرطاس، فهي في القرطاس كلها حقًّا من غير أن تفارق العقل الذي منه ولدت... إلى قولكم: الكلمة كلها في العقل الذي ولدها، وكلها في القرطاس الذي التحمت به- مكابرةٌ ظاهرة معلومة الفساد بصريح العقل، فإن وجود الكلام في القلب واللسان ليس هو عين وجوده مكتوبًا في القرطاس، بل القائم بقلب المتكلم معاني طلب وخبر وعلم وإرادة، والقائم بنفسه حروف مؤلَّفة هي أصوات مقطعة أو هي حدود أصوات مقطعة وليس في قلب الإنسان ولا فمه مداد كالمداد الذي في القرطاس.
والكلام مكتوب في القرطاس باتفاق العقلاء، مع علمهم بأنه ليس في القرطاس علم وطلب وخبر قائم به كما تقوم بقلوب المتكلم، ولا قام به أصوات مقطعة مؤلفة ولا حروف كالأصوات القائمة بفم المتكلم بل لفظ الحرف يقال على الحرف المكتوب: إما المداد المصوَّر وإما صورة المداد وشكله، ويقال على الحرف المنطوق إما الصوت المقطَّع وإما حد الصوت ومقطعه وصورته.(1/163)
وكل عاقلٍ يميز بحسه وعقله بين الصوت المسموع من المتكلِّم وبين المداد المرئي بالبصر، ولا يقول عاقل: إن هذا هو هذا، ولا يقال: إن هذا وهذا هو نفس المعنى القائم بقلب المتكلم، فكيف تقولون: إن الكلمة في القرطاس كلها، وكلها في العقل الذي ولدها وكلها في نفسها.
السابع: أن حرف «في» التي يسميها النحاة ظرفًا يُستعمل في كل موضع بالمعنى المناسب لذلك الموضع، فإذا قيل: إن الطعم واللون والريح حال في الفاكهة أو العلم والقدرة، والكلام حال في المتكلم فهذا معنى معقول.
وإذا قيل: إن هذا حال في داره أو إن الماء حال في الظرف فهذا معنى آخر.
فإن ذاك حلول صفة في موصوفها وهذا حلول عين قائمة تسمى جسمًا وجوهرًا في محلها، ومنه يقال لمكان القوم: المحلة، ويقال فلان حلَّ بالمكان الفلاني.
وإذا قيل: الشمس والقمر في الماء أو في المرآة، أو وجه فلان في المرآة، أو كلام فلان في هذا القرطاس- فهذا له معنى يفهمه الناس يعلمون أنه قد ظهرت الشمس والقمر والوجه في المرآة، ورُئيت فيها، وأنه لم يحل بها ذات ذلك، وإنما حلَّ فيها مثالٌ شعاعي عند من يقول ذلك.
وكذلك الكلام إذا كُتب في القرطاس فالناس يعلمون أنه مكتوب فيه ومقروء فيه ومنظور فيه، ويقولون: نظرت في كلام فلان وقرأته وتدبرته وفهمته ورأيته ونحو ذلك، كما يقولون: رأيت وجهه في المرآة وتأملته ونحو ذلك.
وهم في ذلك كله صادقون، يعلمون ما يقولون، ويعلمون أن نفس جرم الشمس والقمر والوجه لم يحل في المرآة، وأن نفس ما قام به من المعاني والأصوات لم تقم بالقرطاس، بل كانت المرآة واسطة في رؤية الوجه، فهو المقصود بالرؤية، وكان القرطاس واسطة في معرفة الكلام، فهو المقصود بالرؤية، ويعلمون أن حاسة البصر باشرت ما في المرآة من الشعاع المنعكس، ولكن المقصود بالرؤية هو الشمس، وحاسة البصر باشرت ما في القرطاس من المداد المكتوب، ولكن المقصود بالرؤية هو الكلام المكتوب.(1/164)
ويعلمون أن نفس المثال الذي في المرآة ليس هو الوجه، وأن نفس المداد المكتوب به ليس هو الكلام المكتوب، بل يفرقون بينهما، كما قال تعالى: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا}.
ففرَّق سبحانه بين الكلمات وبين المداد الذي يكتب به الكلمات.
فكيف يقال: إن هذا هو هذا، وأن الكلمة في القرطاس كلها وهي في المتكلم كلها!!
الثامن: أن الكلام له معنى في المتكلم، يعبر عنه بلفظه، واللفظ يكتب في القرطاس، فالمكتوب في القرطاس هو اللفظ المطابق للمعنى، لا يكتب المعنى بدون كتابة اللفظ الذي كتب بالخط، ليعرف ما كتب، فدعوى هؤلاء: أن نفس المعنى الذي في القلب كله هو في القرطاس كله- جعلٌ لنفس المعنى هو الخط؛ وهذا باطل.
التاسع: أنه لا ريب أن كلام المتكلم يقال إنه قائم به، ويقال مع ذلك: إنه مكتوب في القرطاس، ويقال: هذا هو كلام فلان بعينه، وهذا هو ذاك، ونحو ذلك من العبارات التي تبين أن هذا المكتوب في القرطاس هو هذا الكلام الذي تكلم به المتكلم بعينه، لم يزد فيه ولم ينقص، لم يكتب كلام غيره.
ولا يريدون بذلك: أن نفس الخط نفس الصوت أو نفس المعنى؛ فإن هذا لا يقوله عاقل.
(ولذلك كان سلف الأمة وأئمتها إذا قيل لهم: علم الله وكلام الله هل هو غير الله أم لا.. لم يطلقوا النفي ولا الإثبات، فإنه إذا قال: غيره.. أوهَم أنه مباين له، وإذا قال: ليس غيره.. أوهم أنه هو..
بل يستفصل السائل، فإن أراد بقوله غيره أنه مباين له منفصل عنه، فصفات الموصوف لا تكون مباينة له منفصلة عنه وإن كان مخلوقا، فكيف بصفات الخالق..؟!
وإن أراد بالغير: أنها ليست هي هو، فليست الصفة هي الموصوف فهي غيره بهذا الاعتبار..
واسم الرب تعالى إذا أُطلِقَ.. يتناول الذات المقدسة بما يستحقه من صفات الكمال، فيمتنع وجود الذات عَرِيَّةً عن صفات الكمال.(1/165)
فاسم الله يتناول الذات الموصوفة بصفات الكمال، وهذه الصفات ليست زائدة على هذا المسمى.. بل هي داخلة في المسمَّى، ولكنها زائدة على الذات المجردة التي يثبتها نفاة الصفات.
فأولئك لما زعموا أنه ذات مجردة قال هؤلاء: بل الصفات زائدة على ما أثبتموه من الذات، وأما في نفس الأمر فليس هناك ذات مجردة تكون الصفات زائدة عليها، بل الرب تعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال، وصفاته داخلة في مسمى أسمائه سبحانه وتعالى).
وخلاصة القول: أن المسيح ليس نفس كلمة الله وأن كلمة الله ليست هي الإله الخالق للسموات والأرض، ولا هي تغفر الذنوب وتجزي الناس بأعمالهم، فإن علم الله وقدرته وحياته لم تخلق العالم، ولا يقول أحد: يا علم الله اغفر لي ويا قدرة الله توبي عليَّ ويا كلام الله ارحمني، ولا يقول: يا توراة الله أو يا إنجيله أو يا قرآنه اغفر لي وارحمني، وإنما يدعو الله سبحانه وهو سبحانه متصف بصفات الكمال، فكيف والمسيح ليس هو نفس الكلام، فإن المسيح جوهرٌ قائم بنفسه، والكلام صفة قائمة بالمتكلم، وليس هو نفس الرب المتكلم، فإن الرب المتكلم هو الذي يسمونه الأب، والمسيح ليس هو الأب عندهم بل الابن، فضلوا في قولهم من جهات:
منها: جعل الأقانيم ثلاثة، وصفات الله لا تختص بثلاثة
ومنها: وصف الصفة بالابن، ولو كان لفظ الابن يستعمل في صفة الله لسميت حياته ابنًا وقدرته ابنًا، فتخصيص العلم بلفظ الابن دون الحياة خطأ آخر.
ومنها: جعل الصفة خالقة، والصفة لا تخلق.
ومنها: جعلهم المسيح نفس الكلمة، والمسيح خلق بالكلمة، فقيل له كن فكان.
روح القدس والحياة
يقول الإمام ابن تيمية مناقشًا حقيقة الأقنوم الثالث: (ثم ذكرتم في عقيدة أمانتكم أنكم: تؤمنون بروح القدس الرب المحيي. فأثبتُّم ربًّا ثالثًا..
قلتم: المنبثق من الآب.(1/166)
والانبثاق: الانفجار، كالاندفاق والانصباب ونحو ذلك، يقال: بَثَقَ السيل موضع كذا يبثقه بثقًا.. أي: خرقه وشقَّه، فانبثق: أي انفجر، فاقتضى ذلك أن يكون هذا الرب المحيي انفجر من الأب واندفق منه.
ثم قلتم: هو مع الأب مسجود له وممجد ناطق في الأنبياء.
فجعلتموه مع الأب مسجودًا له، فأثبتُّم إلهًا ثالثًا يُسجَد له، ومعلوم أن حياة الله التي هي صفته ليست منبثقة منه، بل هي قائمة به، لا تخرج عنه ألبتة، وهي صفة لازمة له لا تتعلق بغيره، فإن العلم يتعلق بالمعلومات، والقدرة بالمقدورات، والتكليم بالمخاطبين، بخلاف التكلم فإنه صفة لازمة؛ يقال: علم الله كذا، وقدر الله على كل شيء، وكلم الله موسى.
وأما الحياة فاللفظ الدال عليها لازمٌ لا يتعلق بغير الحي، يقال: حيا يحيا حياة، ولا يقال: حيا كذا ولا بكذا، وإنما يقال: أحيا كذا، والإحياء فعلٌ غير كونه حيا.
ثم جعلتم روح القدس هذا ناطقًا في الأنبياء عليهم السلام، وحياة الله صفة قائمة به لا تحل في غيره، وروح القدس الذي تكون في الأنبياء والصالحين ليس هو حياة الله القائمة به، ولو كان روح القدس الذي في الأنبياء هو أحد الأقانيم الثلاثة لكان كل من الأنبياء إلها معبودًا قد اتحد ناسوته باللاهوت كالمسيح عندكم..!
فإن المسيح لما اتحد به أحد الأقانيم صار ناسوتًا ولاهوتًا، فإذا كان روح القدس الذي هو أحد الأقانيم الثلاثة ناطقًا في الأنبياء.. كان كل منهم فيه لاهوت وناسوت كالمسيح، وأنتم لا تقرون بالحلول والاتحاد إلا للمسيح وحده.. مع إثباتكم لغيره ما ثبت له..!!
فقولهم: نؤمن بروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب الذي هو مع الأب مسجود له وممجد، ناطق في الأنبياء..(1/167)
يمتنع أن يقال هذا في حياة الرب القائمة به، فإنها ليست منبثقة منه كسائر الصفات، إذ لو كان القائم بنفسه منبثقا.. لكان علمه وقدرته وسائر صفاته منبثقة منه، بل الانبثاق في الكلام أظهر منه في الحياة، فإن الكلام يخرج من المتكلم، وأما الحياة فلا تخرج من الحي..
فلو كان في الصفات ما هو منبثق.. لكان الصفة التي يسمونها الابن -ويقولون: هي العلم والكلام، أو النطق والحكمة- أولى بأن تكون منبثقة من الحياة التي هي أبعد عن ذلك من الكلام.
وقد قالوا أيضا: إنه مع الأب مسجود له وممجد..
والصفة القائمة بالرب ليست معه مسجود لها..
وقالوا: هو ناطق في الأنبياء.
وصفة الرب القائمة به لا تنطق في الأنبياء، بل هذا كله صفة «روح القدس» الذي يجعله الله في قلوب الأنبياء، أو صفة ملك من الملائكة كجبريل، فإذا كان هذا منبثقا من الأب، والانبثاق: الخروج.. فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا..؟!
وإذا شبهوه بانبثاق الشعاع من الشمس كان هذا باطلا من وجوه:
منها: أن الشعاع عرض قائم بالهواء والأرض، وليس جوهرًا قائمًا بنفسه، وهذا عندهم حي مسجود له، وهو جوهر.
ومنها: أن ذلك الشعاع القائم بالهواء والأرض ليس صفة للشمس ولا قائمًا بها، وحياة الرب صفة قائمة به.
ومنها: أن الانبثاق خصوا به روح القدس، ولم يقولوا في الكلمة إنها منبثقة، والانبثاق لو كان حقًّا.. لكان بالكلمة أشبه منه بالحياة..!
وكلما تدبر العاقل كلامهم في الأمانة وغيرها وجد فيه من التناقض والفساد ما لا يخفى إلا على أجهل العباد.. ووجد فيه من مناقضته التوراة والإنجيل وسائر كتب الله ما لا يخفى من تدبر هذا وهذا.. ووجد فيه من مناقضة صريح المعقول ما لا يخفى إلا على معاند أو جهول..
فقولهم متناقض في نفسه، مخالف لصريح المعقول، وصحيح المنقول عن جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين).(1/168)
وقد احتج بعض النصارى بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] على أقنومية الروح القدس، فيقال لهم: أن «منه» هاهنا تعني من خلقه وإيجاده، كقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية: 13]، وليست «من» لبيان الجنس.
وقوله تعالى : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ليس نصًّا في أن الروح بعض الأمر ومن جنسه.. بل قد تكون لابتداء الغاية إذ كونت بالأمر، وصدرت عنه.. وهذا معنى جواب الإمام أحمد في قوله : {وَرُوحٌ مِّنْهُ } حيث قال : { وَرُوحٌ مِّنْهُ} يقول : مِنْ أَمْرِه كان الروح منه، كقوله : {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} [ الجاثية : 13 ] ، ونظير هذا أيضًا قوله : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [ النحل : 53 ] .
فإذا كانت المسخرات والنعم من اللّه، ولم تكن بعض ذاته بل منه صدرت- لم يجب أن يكون معنى قوله في المسيح : { وَرُوحٌ مِّنْهُ } ؛ أنها بعض ذات اللّه.
ولأجل حسم هذه القضية وَرَدَ التأكيد على عبودية روح القدس، حيث يقول الله عز وجل: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23].(1/169)
وتفسيرًا لهذه الآيات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، أخذت السموات منه رجفة -أو قال رعدة- شديدة خوف أمر الله، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبرائيل على الملائكة فكلما مر بسماء قالت ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبرائيل؟ فيقول جبرائيل: قال الحق وهو العلي الكبير، قال: فيقولون كلهم مثل ما قال جبرائيل، فينتهي جبرائيل بالوحي حيث أمره الله))(1).
وعن قتادة: فتَفْرَقُ الملائكة -أو تفزع- مخافة أن يكون شيء من أمر الساعة.
في هذا الحديث نرى أثر سماع كلام الله على السموات وأهلها وجبريل والملائكة، وهو ما يتناسب مع عظمة الله وجلاله، خلافًا لادعاء نزول الله وتجسده سبحانه في مخلوق..!
واختصاص جبرائيل بالذكر فيمن يصاب بالفزع ويخر ويسجد، ثم كونه أول من يرفع رأسه ليكلمه الله من وحيه بما شاء- إثبات لأنه مخلوق لله، ذو قَدْرٍ عنده، ونفي لفرية الأقنوم الثالث..!
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرائيل: ((ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ قال: فنزلت {وَمَا نَتَنَزّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبّكَ نَسِيًّا * رّبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا} [مريم: 66-67]))(2).
__________
(1) أخرجه البخاري ( 4424، 4522، 7043 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم ( 2229 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) انفرد بإخراجه البخاري.(1/170)
وقوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} قيل: المراد ما بين أيدينا أمر الدنيا، وما خلفنا أمر الآخرة، {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} ما بين النفختين، وقيل: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} ما يستقبل من أمر الآخرة {وَمَا خَلْفَنَا} أي: ما مضى من الدنيا {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} أي: ما بين الدنيا والآخرة.
تناقضات الأقانيم
لعل التناقض الواضح في بدعة الأقانيم هو أبرز ما يمكن ملاحظته فيما سبق، والحقيقة: إن النصارى يقرون بالتناقضات، ولكنهم يحاولون معالجتها بأسلوب من ثلاثة:
- إما بوضع هذه التناقضات في خانة الأسرار التي لا يستطيع أحد الوصول إلى معناها، مثل قول اللاهوت النظامي: (لما كانت تسمية أقانيم الثالوث الأقدس من الأسرار الإلهية، فيجب أن يكون كلامنا فيها مبنيًّا على الكتاب المقدس).
- أو بادِّعاء أن هذا الكلام على غير ظاهره.
- أو يزعمون أن الوحدانية لها ثلاثة أشكال: مجردة ومطلقة وجامعة، ثم ينتهي بهم باطلهم إلى الزعم بأن التثليث هو الوحدانية الجامعة..!
ومن هنا كانت محاولتهم علاج التناقضات بخداع الفطرة الداعية إلى التوحيد في النفس البشرية، فيدَّعُون أن التثليث هو نفسه التوحيد: (باسم الأب والابن وروح القدس.. إله واحد) وبعد هذا الخداع يتجهون إلى مفهوم البنوة، فيَدَّعون أنها ليست البنوة التي في البشر بين الأب وابنه.
والجزء الأول من العبارة (باسم الآب والابن وروح القدس) هو الذي يتضمن كل مشكلات العقيدة المحرفة، والجزء الثاني (إله واحد) هو الذي يتضمن الالتفاف حول التحريف بزعم التوحيد.
ولكن الانتباه إلى العبارة من بدايتها هو الذي يفسر لنا المقصود من كلمة (إله واحد) التي تعني أن يكون الإله الواحد هو الآب والابن وروح القدس.
وبذلك يشارك النصارى بهذه المحاولة كل أصحاب العقائد الوثنية في ادِّعاء التوحيد.(1/171)
ولكن محاولة النصارى إلباس الباطل صورة الحق جعلهم ينفون عن عقيدتهم حقيقة الشرك، حتى قالوا بوثنية من يشبِّه الله بالإنسان، فيقول كتاب اللاهوت النظامي: (الاعتقاد بوحدانية الله هو الاعتقاد الأصلي للبشر. ولما حادوا عن ذلك مالوا لعبادة الخليقة، وكان احترامهم لعناصر الطبيعة -بسبب ما اختبروه من قوتها وفوائدها- يزيد بسبب نقص معرفتهم بالله الخالق، فتطرفوا وعبدوا الشمس والقمر والنجوم، بل النار والهواء والماء. ثم شخَّصوا تلك القوى الطبيعية وألَّهوها، وهكذا انتشر بينهم الاعتقاد بآلهة كثيرة. غير أنه بقي من العلماء من يعتقد بوحدانية الله، على أنهم تصوَّروه على أنواع مختلفة. وكانت صفات آلهة كل قوم تشابه صفاتهم، فاليونانيون ألَّهوا كل ما هو جميل المنظر وموافق للشهوات الجسدية، والرومان ألَّهوا ما هو أشد بأسًا واقتدارًا، والقبائل البربرية ألَّهت أبسط الأشياء وأدناها. ومثَّل جميع هؤلاء آلهتهم بأصنام مادية صنعوها بأيديهم، وملئوا العالم بتماثيل من الذهب والفضة والخشب والخزف وأشكالها، فجعلوا الله يشبه صورة الإنسان، بل يشبه ما هو أدنى المخلوقات) [رو 1: 23].
وعبَّر الكتاب المقدس عن آلهة الوثنيين بالعَدم والباطل، وأنها وهمية لا تنفع ولا تضرُّ [إش 41: 29، 42: 17، ومز 106: 28]. وسمَّاها الرسول بولس شياطين [1كو 10: 20] غير أن هذا الاسم لا يدل على وجودها، كما أن تسميتها لا تدل على ذلك. ويدل امتداد الديانة الوثنية وقوتها على شدة ميل الطبيعة البشرية إليها. أما خطؤها فيتضح من بيان التعليم الصحيح عن الله.اهـ.
هذا الكلام هو محاولة ماكرة يعالج بها النصارى فطرية التوحيد في النفس البشرية، ويتسللون به إليها، لذلك كان من الضروري كشف هذا التسلل، وهذه المهمة لا بد أن تتضمن جانبين:
الأول: الإبانة عن واقع شركهم، وتفنيد ادعاءاتهم وإلزامهم بلوازم أقوالهم.
الثاني: تحديد التوحيد وتجريده من خزعبلاتهم وشبهاتهم.(1/172)
ففي الجانب الأول: تأتي المداخلة القوية التي قام بها الإمام ابن تيمية، حيث قال رحمه الله ردًّا على قولهم: (ونحنُ النصارى العلة في قولنا: إن الله ثلاثة أقانيم: أب، وابن، وروح قدس- أن الإنجيل نطق به، والمراد بالأقانيم غير الأشخاص المركبة والأجزاء والأبعاض وغير ذلك مما يقتضي الشرك والتكثير، وبالأب والابن غير أبوة وبنوة نكاح أو تناسل أو جماع أو مباضعة.
وكل من يعتقد أن الثلاثة أقانيم ثلاثة آلهة مختلفة أو ثلاثة آلهة متفقة أو ثلاثة أجسام مؤلفة أو ثلاثة أجزاء متفرقة أو ثلاثة أشخاص مركبة أو أعراض أو قوى أو غير ذلك مما يقتضي الاشتراك والتكثير والتبعيض والتشبيه أو بنوة نكاح أو تناسل أو مباضعة أو جماع أو ولادة زوجة أو من بعض الأجسام أو من بعض الملائكة أو من بعض المخلوقين فنحن نلعنه ونكفِّره ونجرمه، وإذا لعنا أو كفرنا من يعتقد ذلك فليس لمخالفينا أن يلزمونا بعد أن لا نعتقده).
فيرد ابن تيمية المحاولة بمناقشة ألفاظهم وحسابهم عليها، فيقول: (قولكم: وكذلك نحن النصارى العلة في قولنا إن الله ثلاثة أقانيم: أب وابن وروح قدس أن الإنجيل نطق به..
فيقال لكم: هذا باطل، فإنه لم ينطق لا الإنجيل ولا شيء من النبوات.. بأن الله ثلاثة أقانيم، ولا خص أحد من الأنبياء الرب بثلاث صفات دون غيرها، ولا قال المسيح ولا غيره: إن الله هو الأب والابن وروح القدس، ولا إن له أقنومًا هو الابن وأقنومًا هو روح القدس، ولا قال: إن الابن كلمته أو علمه أو حكمته أو نطقه، وإن روح القدس حياته، ولا سمَّى شيئًا من صفاته ابنًا ولا ولدًا، ولا قال عن شيء من صفات الرب: إنه مولود، ولا جعل القديم الأزلي مولودًا، ولا قال لا عن قديم ولا مخلوق: إنَّه إله حق من إله حق، ولا قال عن صفات الله: إنها آلهة وإن الكلمة إله والروح إله، ولا قال: إن الله اتحد لا بذاته ولا بصفاته بشيء من البشر.(1/173)
بل هذا كله مما ابتدعتموه وخرجتم به عن الشرع والعقل، فخالفتم الكتب المنزلة والعقول الصريحة وكنتم ممن قيل فيهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].
فإنكم أنتم الذين سمَّيتُم «نطق الله» ابنا، وقلتم: سمَّيناه ابنا لأنه تولد منه كما يتولد الكلام من العقل.
فكان ينبغي أيضا أن تسمُّوا حياته ابنًا.. لأنها منبثقة منه ومتولدة عنه أيضًا، إذ لا فرق بين علم الرب وحياته، فعلمه لازم له وحياته لازمة له، فلماذا جعلتم هذا ابنًا دون هذا؟!
وقلتم: إنه مولود من الله، وإنه قديم أزلي.
وأنتم تعترفون بأن أحدًا من الأنبياء لم يُسَمِّ علم الله ولا كلامه ولا حكمته مولودًا منه، والذي يعقله الخلق في المولود الذي يولد من غيره -كما يتولد العلم والكلام من نفس الإنسان- أنه حادث فيه.. أو منفصل عنه، لا يعقل أنه قائم به وأنه متولد منه قديم أزلي.
ثم قلتم في أمانتكم: إنه تَجَسَّم من روح القدس أو منه ومن مريم.
وهو إنما تجسم عندكم من الكلمة التي سميتموها الابن دون روح القدس..
وإن كان تجسم من روح القدس فيكون هو روح القدس.. لا يكون هو الكلمة التي هي الابن!
ثم تقولون: هو كلمة الله وروحه.
فيكون حينئذ أقنومين: أقنوم الكلمة، وأقنوم الروح، وإنما هو عندكم أقنوم واحد..!
فهذا تناقض وحيرة..
تجعلونه الابن الذي هو الكلمة وهو أقنوم الكلمة فقط، وتقولون: تجَّسم من روح القدس ولا تقولون: إنه تجسم من الكلمة..!
وتقولون: هو كلمة الله وروحه.
والكلمة والروح أقنومان، ولا تقولون: إنه أقنومان بل أقنوم واحد..!
وتقولون: إنه خالق العالم.
والخالق هو الأب.
وتقولون: ليس هو الأب..! وتقولون: إله حق من إله حق..! وتقولون: إله واحد ساوى الأب في الجوهر..! وتقولون: ليس له مثل..!
وليس شيء من هذا في كلام أحد من الأنبياء، فكيف تشبهون أنفسكم بمن اتبع نصوص الأنبياء ولم يحرفها..؟!(1/174)
وغاية ما عندكم.. ما وُجِد في إنجيل «متى» دون سائر الأناجيل، من أن المسيح عليه السلام قال: (عَمِّدُوا الناس باسم الآب والابن والروح القدس).
وأنتم قد عرفتم في كلام المسيح وغيره من الأنبياء أنهم لا يريدون بالابن صفة الله.. لا كلامه ولا علمه ولا حكمته..
ولا يريدون بالابن إلهًا حقًّا من إله حق ولا مولودًا قديمًا أزليًّا، بل يريدون به وَلِيَّهُ، وهو ناسوت لا لاهوت، كيعقوب والحواريين..
ولا يريدون بروح القدس نفس حياة الله، ولا يريدون به أنه ربٌّ حيٌّ، وإنما يريدون بها المَلَك، أو ما ينزله الله على قلوب أنبيائه وأصفيائه من الهدى والتأييد ونحو ذلك.
فروح القدس يكون عندكم وعند المسلمين في الأنبياء وغيرهم، كما كانت في داود وغيره، وكانت في الحواريين.
فلو قُدِّر أن لفظ الابن وُجد في كلام المسيح مستعملًا تارة في كلمة الله وتارة في وليه الناسوت، وروح القدس مستعملًا تارة في حياته وتارة فيما ينزله على قلوب أنبيائه.. كان جزمكم بأنه أراد بذلك هنا صفات الله جزمًا باطلًا..@@@@@
فما وُصِفَ به المسيح من أنه ابن الله، ومن أن روح القدس فيه قد وُصِفَ به غيره من الأنبياء والصالحين..
فإن كان الابن وروح القدس صفتين لله.. وَجَب أن يكون غير المسيح لاهوتًا وناسوتًا كالمسيح، إذ الذي حَلَّ في المسيح حَلَّ في غيره..
ثم جزمكم بأن هذه الصفات أقانيم، وأنه ليس لله صفات ذاتية أو جوهرية أو نحو ذلك إلا هذه الثلاثة.. ثم تفرقتم في الثلاثة: هل المراد بالأقانيم الوجود والعلم والحياة..؟!
أو الحكمة والكلام أو النطق بدل لفظ العلم..؟!
أو المراد الوجود والعلم والقدرة بدل الحياة..؟!
أو المراد الوجود والحياة والقدرة..؟!
أو المراد الوجود مع الحياة والعلم والقدرة..؟!
إلى أقوال أخرى يطول أمرها..
فيا ليت شعري.. ما الذي أراد المسيح بلفظ الأب والابن وروح القدس من هذه الأمور التي اختلفتم فيها لو كان مراده ما ادعيتموه من الأقانيم..؟!(1/175)
والأقانيم لفظا ومعنى لا يوجد في كلام أحد من الأنبياء، بل قيل فيها إنها لفظة رومية.. يفسرونها تارة بالأصل، وتارة بالشخص، وتارة بالذات مع الصفة، ويفسرونها تارة بالخاصة، وتارة بالصفة..
فهلا تركتم كلام المسيح على حاله ولم تحرفوه هذه التحريفات..؟!).
ومن الضروري كذلك استحضار النصوص التي يتوارى فيها صوت الفطرة، وتبرز الوثنية، ومنها قول صاحب اللاهوت النظامي عن التثليث: (إنه يرفع شأن اللاهوت ويوضح كمالاته، فالتوحيد دون التثليث يحصر اللاهوت ويجعله في غاية الانفراد، خاليًا من كل موضوع للمحبة أو من إمكان المعاشرة أو من خواص السعادة التامة).
ثم يتكلم عن الله بقياس مطلق على واقع الإنسان فيقول: (فالواحد الفرد من كل وجهٍ لا يقدر أن يحب غير نفسه، وليس في محبة النفس سعادة تامة. فنرى في تشاور الأقانيم الثلاثة واتحادها ومحبة أحدها للآخر ما يجعل في اللاهوت كل مقتضيات السعادة الأزلية. ولو لم يكن الله واحدًا في ثلاثة أقانيم لما كان له سوى مخلوقاته لتكون موضوع محبته! فقد التزم منكرو التثليث أن يجعلوا الخلق لازمًا لكمال سعادة اللاهوت، أو أن يفرضوا أن الله لم يكن وحده منذ الأزل، أو أن العالم أزلي على رأي مؤلّهي الكون.
أما الكتاب المقدس فيعلن وجود الله الواحد بأقانيمه الثلاثة منذ الأزل، ويجعله كاملًا في نفسه شاملًا كل لوازم السعادة التامة).
وهنا مكمن الشرك.. تشبيه الله بالإنسان، وزعم احتياجه للولد ليشاوره ويحاوره ويسعد به..!
وهو نفس العلة التي جعلت نفي الولد أساسٌ للتصور الإسلامي عن الله الصمد.. الغني الذي يحتاج إليه كل أحد، ولا يحتاج هو إلى أي أحد: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يونس: 68].(1/176)
وفي الجانب الثاني من مهمة حماية الفطرة من التسلل النصراني: ينبغي التأكيد على أن الله:
- واحد في ذاته لا يقبل الانقسام والتجزؤ..
- واحد في صفاته فلا شبيه له ولا مثيل..
- واحد في أفعاله فلا شريك له ولا معين..
ومن هنا جاءت سورة الإخلاص متضمنة لهذه الحقائق الثلاثة:
فـ{اللَّهُ أَحَدٌ} تعني أن الله واحد في صفاته، لا شبيه له ولا مثيل..
و{اللَّهُ الصَّمَدُ} تنفي التجزؤ والتأليف عن ذاته..
و{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}: تنفي الولادة والتولد..
و{لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} تنفي الشريك والمعين والمثيل.
وكذلك قول الله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 171]: تصحيح للانحراف الذي أحدثته بدعة الأقانيم..
فالمسيح: {رَسُولُ اللَّهِ}.. وليس هو الله..
و{كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ}.. أي خلق بكلمة «كن» التي ألقاها إلى مريم، ولم تتجسد فيه..
و{رُوحٌ مِنْهُ}.. أي من الأرواح التي خلقها.. وليس هو روح القدس..
فالحمد لله على النجاة من التشتت بين الأقانيم الثلاثة.. والحمد لله على نعمة التوحيد والإسلام.
الفصل الرابع
التحريف في كلام الأنبياء
والملاحظة العامة في مسائل هذا الباب هو استناد النصارى في تحريفهم على مجموعة من النصوص الكتابية، زعموا أنها تثبت عقائدهم في التولد والتجسد والأقانيم..(1/177)
وقد تعقب الإمام ابن تيمية هذه النصوص، فكتب كلامًا جامعًا يفند فيه كل عناصر التحريف، ويردُّ الألفاظ إلى معانيها الأصيلة، في إطار موضوعي واحد، فيقول رحمه الله: (قالوا: وهذه الأسماء لم نسمه نحن معشر النصارى بها من ذات أنفسنا، بل الله سَمَّى لاهوته بها، وذلك أنه قال على لسان موسى النبي في التوراة مخاطبًا بني إسرائيل قائلًا: أليس هذا الأب الذي صنعك وبراك واقتناك.
وعلى لسانه أيضا قائلًا: وكان روح الله ترف على الماء. وقوله على لسان داود النبي: روحُك القُدُسُ لا تُنزَع مِنِّي.
وأيضًا على لسانه: بكلمة الله تشدَّدَت السموات والأرض.. وبروح فاه جميع قواتهن.
وقوله على لسان أشعيا: ييبس القتاد، ويجفُّ العُشبُ، وكلمة الله باقية إلى الأبد.
وعلى لسان أيوب الصديق: روح الله خلقني.. وهو يُعَلِّمُنِي.
وقال السيد المسيح في الإنجيل المقدس للتلاميذ الأطهار: اذهبوا إلى جميع العالم، وعَمِّدُوهم باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به.
وقد قال في هذا الكتاب: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 171]، وقال أيضًا: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [المائدة: 110]، وقال أيضًا: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وقال في سورة التحريم: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12].
وسائر المسلمين يقولون: إن الكتاب كلام الله، ولا يكون كلامٌ إلا لحي ناطق، وهذه صفات جوهرية تجري مجرى الأسماء، وكل صفة منها غير الأخرى، والإله واحد لا يتبعض ولا يتجزأ..
والجواب من وجوه:(1/178)
أحدها: أن تقول إن كلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يكون إلا حقًّا وصدقًا، ولا يكون فيه شيء يعلم بطلانه بصريح العقل -وإن كان فيه ما يعجز العقل عن معرفته بدون إخبار الأنبياء- ولا يكون كلام النبي الذي يخبر به مناقضًا لكلامه في موضع آخر، ولا لكلام سائر الأنبياء؛ بل كل ما أخبرت به الأنبياء فهو حق وصدق يصدق بعضه بعضًا.
وقد أوجب الله علينا أن نؤمن بكل ما أخبروا به، وحكم بكفر من آمن ببعض ذلك وكفر ببعضه، فما عُلِمَ بصريح العقل لا يناقض ما علم بالنقل الصحيح عن الأنبياء، وما علم بالنقل الصحيح عن بعضهم لا يناقض ما علم بالنقل الصحيح عن غيره، ولكن قد يختلف بعض الشرع والمناهج في الأمر والنهي.
فأمَّا ما يخبرون به عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وغير ذلك.. فلا يجوز أن يناقض بعضه بعضًا.
وإذا كان كذلك، فما ينقلونه عن الأنبياء إنما تتم الحجة به إذا علم إسناده ومتنه، فَيُعلَمُ أنَّه منقول عنهم نقلا صحيحًا، ونعلم أن ترجمته من العبرية إلى اللسان الآخر كالرومية والعربية والسريانية ترجمة صحيحة، ويعلم بعد ذلك أنهم أرادوا به ذلك المعنى.
وليس مع النصارى حجة عن الأنبياء تثبت فيها هذه المقدمات الثلاث، ونحن في هذا المقام يكفينا المنع والمطالبة لهم بتصحيح هذه المقدمات، فإنَّهم ادعوا أن التثليث أخذوه عن الأنبياء.. فنحن نطالبهم بتصحيح هذه المقدمات.
والجواب الثاني: أنَّا نُبَيِّن تفسير ما ذكروه من الكلمات..
أما قوله على لسان موسى عليه السلام مخاطبا بني إسرائيل قائلا: أليس الأب الذي صنعك وبراك واقتناك..
فهذا فيه أنه سَمَّاه أبًا لغير المسيح عليه السلام، وهذا نظير قوله لإسرائيل: أنت ابني.. بكري، وداود ابني حبيبي. وقول المسيح: أبي وأبيكم. وهم يُسَلِّمون أن المراد بهذا في حق غير المسيح بمعنى الرب.. لا معنى التولد الذي يخصون به المسيح.(1/179)
الثالث: أن هذا حجة عليهم، فإذا كان في الكتب المتقدمة تسميته أبًا لغير المسيح، وليس المراد بذلك إلا معنى الرب.. عُلِمَ أن هذا اللفظ في لغة الكتب يراد به الرب، فيجب حمله في حق المسيح على هذا المعنى؛ لأنَّ الأصل عدم الاشتراك في الكلام.
الرابع: أن استعماله في المعنى الذي خصوا به المسيح.. إنما يَثبُت إذا عُلِمَ أنه أريد المعنى الذي ادعوه في المسيح، فلو أثبت ذلك المعنى بمجرد إطلاق لفظ الأب.. لزم الدور، فإنه لا يُعلَم أنه أريد به ذلك المعنى من حيث يُثبِتُ أنه كان يراد به في حق الله هذا المعنى، ولا يثبت ذلك حتى يعلم أنه أريد به ذلك المعنى في حق المسيح، فإذا توقف العلم بكل منهما على الآخر، لم يعلم واحد منهما.. فتبين أنه لا علم عندهم بأنه أريد في حق المسيح بلفظ الأب ما خصوه به في محل النزاع.
الوجه الخامس: أنه لا يوجد في كتب الأنبياء وكلامهم إطلاق اسم الأب والمراد به أَبُ اللاهوت، ولا إطلاق اسم الابن والمراد به شيء من اللاهوت، لا كلمته، ولا حياته، بل لا يوجد لفظ الابن إلا والمراد به المخلوق.. فلا يكون لفظ الابن إلا لابنٍ مخلوق.
وحينئذ فيلزم من ذلك أن يكون مُسَمَّى الابن في حق المسيح هو الناسوت، وهذا يبطل قولهم عن الابن وروح القدس: أنهما صفتان لله، وأن المسيح اسم للاهوت والناسوت، فتبين أن نصوص كتب الأنبياء تبطل مذهب النصارى وتناقض أمانتهم..
فهم بين أمرين:
بين الإيمان بكلام الأنبياء وبطلان دينهم..
وبين تصحيح دينهم وتكذيب الأنبياء، وهذا هو المطلوب.
قالوا: وعلى لسانه أيضًا قائلًا: وكان روح الله ترف على الماء.
فيقال: هذا في السفر الأول -سفر الخليقة- في أوله، لما ذكر أنه في البدء خلق السموات والأرض، وأنه كانت الأرض مغمورة بالماء، وكانت روح الله تَرِفُّ على الماء، أخبر أنه كان الماء فوق التراب، والهواء فوق الماء، وروح الله هي الريح التي كانت فوق الماء..(1/180)
هذا تفسير جميع الأمم من المسلمين واليهود وعقلاء النصارى، ولفظ الكلمة بالعبرية «رُوَّح» بضم الراء وتشديد الواو وهي الروح، والريح تُسَمَّى رُوحا وجمعها أرواح، ولم يرد بذلك أن حياة الله كانت ترف على الماء..!
فإن هذا لا يقوله عاقل، فإن حياة الله صفة قائمة به لا تفارقه، ولا تقوم بغيره، فيمتنع أن تقوم بماء أو غيره.. فضلا عن أن ترف على الماء! والذي يرف على الماء جسم قائم بنفسه، وهذا إخبار عن الريح التي كانت تتحرك فوق الماء.
ومثل هذا قول النبي: ((لا تسبوا الريح .. فإنها من رُوحِ الله، تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فلا تسبوها .. ولكن تعوذوا بالله من شرها، وسلوا الله خيرها))(1).
وقوله: ((إني لأجد نَفَس الرحمن من قبل اليمن))(2).
قالوا: وقوله على لسان داود: روحك القُدُسُ لا تُنزَعُ مِنِّي.
فيقال: هذا دليل على أن روح القدس كانت في داود، فَعُلِمَ بذلك أن روح القدس التي كانت في المسيح من هذا الجنس، فَعُلِمَ بذلك أن روح القدس لا تختص بالمسيح، وهم يسلمون ذلك، فإن ما في الكتب التي بأيديهم في غير موضع أن روح القدس حلت في غير المسيح.. في داود، وفي الحواريين، وفي غيرهم.
وحينئذ فإن كان روح القدس هو حياة الله، ومن حلت فيه يكون لاهوتًا.. لزم أن يكون إلهًا، ولزم أن يكون كل هؤلاء فيهم لاهوت وناسوت كالمسيح، وهذا خلاف إجماع المسلمين والنصارى واليهود.
__________
(1) رواه أحمد (9627) بلفظ: ((لا تسبوا الريح فإنها تجيء بالرحمة والعذاب ولكن سلوا الله من خيرها وتعوذوا من شرها)).
(2) مسند أحمد (10991).(1/181)
ويلزم من ذلك أيضًا أن يكون المسيح فيه لاهوتان: الكلمة وروح القدس، فيكون المسيح مع الناسوت أقنومين: أقنوم الكلمة، وأقنوم روح القدس، وأيضًا فإن هذه ليست صفة لله قائمة به، فإنَّ صفة الله القائمة به -بل وصفة كل موصوف- لا تفارقه وتقوم بغيره، وليس في هذا أن الله اسمه روح القدس، ولا أن حياته اسمها روح القدس، ولا أن روح القدس الذي تجسد المسيح منه ومن مريم هو حياة الله سبحانه وتعالى.
وأنتم قلتم: إنا معاشر النصارى لم نسمه بهذه الأسماء من ذات أنفسنا ولكن الله سمى لاهوته بها.
وليس فيما ذكرتموه عن الأنبياء أن الله سمَّى نفسه ولا شيئًا من صفاته بروح القدس، ولا سمَّى نفسه ولا شيئا من صفاته ابنًا، فبطل تسميتكم لصفته التي هي الحياة بروح القدس، ولصفته التي هي العلم بالابن.
وأيضا فأنتم تزعمون أن المسيح مختص بالكلمة والروح، فإذا كانت روح القدس في داود عليه السلام والحواريين وغيرهم.. بَطَلَ ما خصصتم به المسيح، وقد عُلِمَ بالاتفاق أن داود عبد لله عز وجل.. وإن كانت روح القدس فيه.
وكذلك المسيح عبد لله.. وإن كانت روح القدس فيه، فما ذكرتموه عن الأنبياء حجة عليكم لأهل الإسلام.. لا حجة لكم.
قالوا: وأيضًا على لسان داود النبي عليه السلام: بكلمة الله تشددت السموات والأرض، وبروح فاه جميع قواتهن.
فيقال: أما قوله: بكلمة الله تشددت السموات والأرض. فهو أيضا حجة عليكم لوجوه:
أحدها: أن الله خلق الأشياء بكلمته التي هي «كن» كما قال في التوراة: (ليكن كذا.. ليكن كذا.. ليكن كذا..).
وكذلك في الزبور: (لأنه قال.. فكانوا، وهو أمر.. فخلقوا)، فجعل كونهم عن قوله.
ومثل قوله في الزبور: (الكلَّ بحكمة صَنَعْتَ).
وفي القرآن: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، وليس المسيح هو هذه الكلمات.(1/182)
الثاني: أن «كلمة الله» اسم جنس، فإن كلمات الله لا نهاية لها، قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109].
والتوراة تدل على تعدد الكلمات، وإذا كان كذلك.. فالمسيح ليس هو مجموع الكلمات، بل خلق بكلمة منها.
الثالث: أن المسيح عندكم هو الخالق، وأنتم مع قولكم: إنه الابن والكلمة تقولون: إنه الإله الخالق، وتقولون: إنه إله حق من إله حق، وتقولون: إله واحد..
فتجمعون بين النقيضين، وإذا كان هو الخالق.. فهو الذي يشدد السموات والأرض، لا يقال: به تشددت السموات والأرض، وإنما يقال: به فيما كان صفة للموصوف، فيقال: خلق الله الأشياء بـ «كن» وخلق الأشياء بقدرته.
وقوله: بكلمته تشددت السماوات والأرض. يقتضي أن الكلمة صِفَةٌ فُعِلَ بها؛ لأنها هي الخالقة، والمسيح عندكم هو الخالق.. ليس هو صفة خلق..!
والرابع: أن كلمة الله يراد بها جنس كلماته، كما قال تعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} [التوبة: 40]، وكقول النبي: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.. فهو في سبيل الله))(1)، وحينئذ فالمراد أن الله أقام السموات والأرض بكلمته بقوله «كن» وليس في هذا تعرض للمسيح عليه السلام.
وأما نقلكم أنه قال: وبروح فاه جميع قواتهن..
فهذه الكلمة سواء كانت حقًّا أو باطلا.. لا حجة لكم فيها؛ لأنه إن أريد بهذه الكلمة «حياة الله».. فإثبات حياة الله حق، وهو لم يُسَمِّ حياة الله روح القدس كما زعمتم، وإن أراد شيئا غير حياة الله.. لم تنفعكم، فأنتم ادعيتم أن حياة الله روح القدس..
حتى قلتم: مراده في الإنجيل بقوله: عمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس. هو حياة الله.
__________
(1) أخرجه البخاري (123).(1/183)
وادعيتم أن الأنبياء سموه بذلك، ولم تذكروا نقلا عن الأنبياء أنهم سموا حياته روح القدس، بل ذكرتم عنهم ما يوافق ما في القرآن.. أن روح القدس ليس المراد بها حياة الله.
ولو قُدِّر أن هذا اللفظ استعمل في هذا وهذا.. لم يتعين أن المسيح أراد بقوله روح القدس حياة الله، فكيف إذا لم يستعمل في كلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين في حياة الله قط..؟!
قالوا: وقوله على لسان أيوب الصديق: روح الله خلقني وهو يعلمني.
فيقال: هذا لا حجة فيه؛ لأنكم ادعيتم أن الأنبياء سَمَّت حياة الله روح القدس، وهذا لم يقل روح القدس.. بل قال: «روح الله»، وروح الله يراد بها الملك الذي هو روحٌ اصطفاه الله، فأحبها، كما قال في القرآن: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم: 17-19].
فقد أخبر أنه أرسل إليها روحه فتمثل لها بشرًا سويًّا، وتبين أنه رسوله..
فَعُلِمَ أن المراد بالروح: ملك هو روح اصطفاها، فأضافها إليه كما يضاف إليه الأعيان التي خصها بخصائص يحبها. كقوله: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13]، وقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، وقوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6].
والمضاف إلى الله إن كان صفة لم تقم بمخلوق: كالعلم والقدرة والكلام والحياة، كان صفة له..
وإن كان عينًا قائمة بنفسها أو صفة لغيره: كالبيت والناقة والعبد والروح.. كان مخلوقًا مملوكا مضافا إلى خالقه ومالكه.(1/184)
ولكن الإضافة تقتضي اختصاص المضاف بصفات تميز بها عن غيره حتى استحق الإضافة، كما اختُصَّت الكعبة والناقة والعباد الصالحون بأن يقال فيهم: بيت الله، وناقة الله، وعباد الله، كذلك اختصت الروح المصطفاة بأن يقال لها: روح الله.
بخلاف الأرواح الخبيثة -كأرواح الشياطين والكفار- فإنها مخلوقة لله، ولا تضاف إليه إضافة الأرواح المقدسة، كما لا تضاف إليه الجمادات كما تضاف الكعبة، ولا نُوقُ الناس كما تضاف ناقة صالح التي كانت آية من آياته، كما قال تعالى: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف: 73].
وإذا كان كذلك، فهذا اللفظ إن كان ثابتًا عن النبي وتُرجِمَ ترجمةً صحيحة.. فقد يكون معناه: أن المَلَك صَوَّرَنِي في بطن أُمِّي وهو يُعَلِّمُني.
فإن النبي قال: ((إذا مَرَّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة.. بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب، أذكرٌ أو أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك ثم يقول: يا رب، أَجَلُه؟ فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب، رزقُه؟ فيقول ربك ما يشاء ويكتب الملك، ثم يخرج المَلَك بالصحيفة في يده، فلا يزاد على أمر ولا ينقص))(1).
وقد يقال من هذا قوله في الزبور في مزمور الخليقة: ترسل روحك فيخلقون.
وفي المزمور أيضًا: هو قال فكانوا.. وأمر فخلقوا.
فقد يضاف الخلق إلى المَلَك.
__________
(1) أخرجه مسلم (2645).(1/185)
ومن هذا الباب قوله تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49]، فأخبره أنه يخلق من الطين كهيئة الطير طيرًا بإذن الله، وكذلك الملَك يخلق النطفة في الرحم بإذن الله، ولا يجوز أن يريد به أن «حياة الله» خلقتني وتعلمني؛ فإن الصفة لا تخلق ولا تعلم، إنما يخلق ويُعَلِّم.. الرب الموصوف: الذي خلق الإنسان من علق، الذي عَلَّمَ بالقلم، عَلَّمَ الإنسان ما لم يعلم، وهو سبحانه يخلق بواسطة الملائكة، فإن الملائكة رسل الله في الخلق، فجاز أن يضاف الفعل إلى الوسائط تارة.. وإلى الرب أخرى، وهذا موجود في الكتب الإلهية في غير موضع كما في القرآن: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]..
وفي موضع آخر: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61]..
وفي موضع ثالث: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11]..
والجميع حقٌّ.. فإذا وُجِدَ لفظٌ له معنى في كلام بعض الأنبياء ولم يوجد له معنى يخالف ذلك من كلامهم.. كان حمله على ذلك المعنى أولى من حمله على معنى يخالف كلامهم، ولا يوجد في كلامهم أن حياة الله تسمى روحا، ولا أن صفات الله تخلق المخلوقات..!
قالوا: وقوله على لسان أشعيا النبي: ييبس القتاد ويجف العشب، وكلمته باقية إلى الأبد.
فيقال: إمَّا أن يريد بكلمة الله: علمَه، أو كلمةً معينة، أو تكون «كلمة الله» اسم جنس، وعلى التقديرات الثلاثة لا حجة لكم في ذلك، فإنه إن كان «كلمة الله» اسم جنس لكل ما تكلم الله به كما قال: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40].(1/186)
وقال النبي: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله))(1) ولهذا جمعها في قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115]..
وفي قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]..
فالمراد بذلك أن ما قاله الله فهو حق ثابت لا يبطل..
كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137]، يعني: بتمامها نفاذ ما وعدهم به من النصر على فرعون وإهلاكه وإخراجهم إلى الشام.
وقال تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف: 27]..
وقوله: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح: 15].
ومن هذا الباب قول المسيح: السماء والأرض يزولان.. وكلامي لا يزول.
فإن أراد عِلْمَ الله.. فعلم الله باقٍ، سواء أراد به علمه القائم بذاته أو معلومه الذي أخبر ببقائه، فلا حجة لكم فيه، وكذلك إن أراد كلمة معينة فإن المسيح عندكم ليس كلمة معينة من كلامه؛ بل هو عندكم هو الكلمة وهو الله الخالق، وليس في هذا اللفظ ما يدل على أنه أراد بالكلمة المسيح، والمسيح عندكم أزلي أبدي لا يوصف بالبقاء دون القدم، ولو قُدِّر أنه أراد بالكلمة المسيح.. فنحن لا ننكر أنه يُسَمَّى بالكلمة؛ لأنه قال له «كن.. فكان»، ويريد بذلك: إمَّا بقاؤه إلى أن ينزل إلى الأرض، وإمَّا أن يريد بقاء ذكره والثناء عليه ولسان صدق له إلى آخر الزمان..
__________
(1) سبق تخريجه.(1/187)
ومما يوضح هذا، وأنه ليس المراد به ما يدَّعونه.. أنه قال: وكلمة الله باقية إلى الأبد.
فوصفها بالبقاء دون القدم.
وعندهم أن الكلمة المولودة من الأب قديمة أزلية، لم تزل، ولا تزال، ومثل هذا لا يحتاج أن يوصف بالدوام والبقاء بخلاف ما وعد به من النعيم والرحمة والثواب، فإنه يوصف بالبقاء والدوام.. كما في القرآن: {أُكُلُهَا دَائِمٌ}، وقوله: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54].
وفي الزبور: اعترفوا للرب.. فإنه صالح، وإنه إلى الأبد رحمته.
قالوا: وقال السيد المسيح في الإنجيل المقدس لتلاميذه الأطهار: اذهبوا إلى جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن وروح القدس.. الإله الواحد، وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيكم به.
فيقال لهم: هذا عمدتكم على ما تدعونه من الأقانيم الثلاثة، وليس فيه شيء يدل على ذلك.. لا نصًّا ولا ظاهرًا..(1/188)
فإن لفظ «الابن» لم يستعمل قط في الكتب الإلهية في معنى صفة من صفات الله، ولم يُسَمِّ أحدٌ من الأنبياء «علم الله» ابنه، ولا سَمُّوا كلامه ابنه، ولكن عندكم أنهم سَمُّوا «عبده» أو «عباده» ابنه أو بنيه، وإذا كان كذلك فدعواكم أن المسيح أراد بالعلم «ابن الله وكلامه».. دعوى في غاية الكذب على المسيح، وهو حَمْلٌ للفظه على ما لم يستعمله هو ولا غيره فيه، لا حقيقة ولا مجازا، فأيُّ كذبٍ وتحريفٍ لكلام الأنبياء أعظم من هذا..!(1)
ولو كان لفظ «الابن» يستعمل في صفة الله لَسُمِّيَت حياته ابنًا، وقدرته ابنًا، فتخصيص العلم بلفظ الابن دون الحياة خطأ ثانٍ.. لو كان لفظ الابن يستعمل في صفة الله، فكيف إذا لم يكن كذلك..؟!
وكذلك روح القدس، لم يستعملوها في حياة الله، ولا أرادوا بهذا اللفظ حياة الله التي هي صفته، وإنما أرادوا بذلك ما ينزله على الصديقين والأنبياء، ويؤيدهم به كما في قول داود: روحك القدس لا تنزع مني.
__________
(1) مصداقًا لكلام الإمام يرحمه الله نذكر ما جاء في كتاب يوحنا (8/40) أن اليهود قالوا للمسيح: (لنا أب واحد وهو الله، فقال لهم يسوع: لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني.. لأني خرجت من قِبَلِ الله، وأتيت لأني لم آت من نفسي، بل ذاك أرسلني، لماذا لا تفهمون كلامي.. لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي، أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا) وكذلك قال: (ولكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم: إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم) يوحنا (20/17)، ولا ننس أن الصلاة التي يصليها النصارى تبدأ بقولهم: (أبانا الذي في السماوات..)، وبالرجوع إلى مادة «أب» في قاموس الكتاب المقدس نجدهم يقولون: إنها وردت بعدة معانٍ، ثم يقولون: (وأبوة الله تسير في اتجاهين، الاتجاه الأول: أبوته للبشر بالخلق، والثاني: أبوته للمؤمنين بالنعمة).(1/189)
وعندهم أن روح القدس حلت في الحواريين، وقد قَدَّمنا أن روح القدس يراد به المَلَك، ويراد به ما يجعله في القلوب من الهدى والقوة، ومنه قوله في بعض النبوات: وفي تلك الأيام أسكب من روحي على كل قديس.
وفي زبور داود: روحك الصالح يهديني في أرض مستقيمة..
يوضح هذا أنهم قالوا في أمانتهم: الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء.
وذكروا أن ذلك في الكتب المقدسة، والذي في الكتب المقدسة لا يكون إلا حقا، ولا ريب أن فيها مثل ما في القرآن، وفي القرآن أن الله أرسل روحه إلى مريم.. فنفخ فيها فحملت بالمسيح عليه السلام، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا..} [مريم: 17]، إلى آخر القصة وقال تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91].
وقال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12]، وهذا الروح هو الرسول كما قال: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم: 19]، ونفخ فيها من هذا الروح، فكان المسيح مخلوقا من هذا الروح ومن أمه مريم، كما قالوا في الأمانة: أنه تجسد من مريم ومن روح القدس.
لكن اعتقدوا أن روح القدس التي خُلِقَ المسيح منها ومن مريم هي حياة الله، وهذا ليس في الكتب ما يدل عليه، بل الكتب كلها صريحة في نقيض هذا، وهو أيضا مناقض لقولهم: إن المتحد بالمسيح هو أقنوم الكلمة -وهو العلم-.(1/190)
فإن كان قد تجسد من مريم وأقنوم الكلمة.. لم يكن متجسدا من روح القدس، وإن كان من روح القدس.. لم يكن من الكلمة، وإن كان منهما جميعا.. كان المسيح أقنومين: أقنوم الكلمة، وأقنوم الروح..!
والنصارى بفرقهم الثلاثة كلهم يقولون: إنما المتحد به أقنوم الكلمة لا أقنوم الحياة.
فتبين تناقضهم في أمانتهم، وتبين خطؤهم فيما فسروا به كلام الأنبياء، وتبين أن ما ثبت عن الأنبياء فهو حق موافق لما أخبر به محمد خاتم النبيين، لا يناقض شيئا من كلام الأنبياء، كما أنه لا يناقض شيئا من كلامهم –أي كلام الأنبياء- صريح المعقول، وتبين أنهم حملوا كلام الأنبياء في لفظ «الابن» و«روح القدس» وغيره.. على ما لم يوجد استعمال هذا اللفظ فيه، وتركوا حمله على المعنى الموجود في كلامهم، وهذا من أبلغ ما يكون من تحريف كلامهم عن مواضعه، وتبديل معاني كلام الله..
فكيف يجوز أن يحمل لفظ روح القدس على معنى لم يستعمله فيه الأنبياء ولا أرادوه به، ويترك حمله على المعنى المعروف الذي يستعملونه فيه دائما..؟
وهل هذا إلا من فعل من يحرف كلام الأنبياء ويفتري الكذب عليهم..؟!
بل ظاهر هذا الكلام أن يعمدوهم باسم «الآب» الذي يريدون به في لغتهم: «الرب»، و«الابن» الذي يريدون به في لغتهم: المُرَبَّى.. وهو هنا المسيح، و«روح القدس» وهو روح القدس الذي أيَّد الله به المسيح من الملك والوحي وغير ذلك، وبهذا فَسَّرَ هذا الكلام من فسره من أكابر علمائهم).
ثم يقول الإمام رحمه الله: (والكلمة في لغة العرب هي الجملة المفيدة، سواء كانت جملة اسمية أو فعلية، وهي القول التام، وكذلك الكلام عندهم هو الجملة التامة.
قال سيبويه: واعلم أنهم يحكون بالقول ما كان كلاما ولا يحكون به ما كان قولا، ولكن النحاة اصطلحوا على أن يسموا ما تسميه العرب «حرفا» يسمُّونه كلمة.. مثل زيد وعمرو، ومثل قعد وذهب، وكل حرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، مثل إن وثم وهل ولعل.(1/191)
قال تعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا . مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 4-5] فسمَّى هذه الجملة كلمة..
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24] وهو قول لا إله إلا الله..
وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]..
وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]).
ثم يبدأ رحمه الله في تفنيد ادعاءاتهم المتعلقة بنصوص القرآن، فيقول:
(قالوا: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [المائدة: 110].
فيقال: هذا مما لا ريب فيه.. ولا حجة لكم فيه، بل هو حجة عليكم؛ فإن الله أيد المسيح عليه السلام بروح القدس كما ذكر ذلك في هذه الآية وقال تعالى في سورة البقرة: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 87]، وقال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 253].
وهذا ليس مختصا بالمسيح، بل قد أيد غيره بذلك، وقد ذكروا هم أنه قال لداود: روحك القدس لا تنزع مني.(1/192)
وقد قال نبينا لحسان بن ثابت: ((اللهم أيده بروح القدس))(1)، وفي لفظ: ((روح القدس معك..))(2)، وكلا اللفظين في الصحيح.
وعند النصارى أن الحواريين حَلَّت فيهم روح القدس، وكذلك عندهم روح القدس حَلَّت في جميع الأنبياء، وقد قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102].
وقد قال تعالى في موضع آخر: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 193-194].
وقال: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 97]، فقد تبين أن روح القدس هنا جبريل، وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52].
وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2]، وقال: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر: 15].
فهذه الروح التي أوحاها والتي تنزل بها الملائكة على من يشاء من عباده.. غير الروح الأمين التي تنزل بالكتاب، وكلاهما يسمى روحا، وهما متلازمان..
__________
(1) أخرجه البخاري (442).
(2) مسند أحمد (18665).(1/193)
فالروح التي ينزل بها الملك مع الروح الأمين التي ينزل بها روح القدس يراد بها هذا وهذا، وبكلا القولين فسر المفسرون قوله في المسيح: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 87]، ولم يقل أحد أن المراد بذلك حياة الله ولا اللفظ يدل على ذلك ولا استعمل فيه..
وهم إمَّا أن يُسَلِّموا أن روح القدس في حق غيره ليس المراد بها حياة الله، فإذا ثبت أن لها معنى غير الحياة.. فلو استعمل في حياة الله أيضا لم يتعين أن يراد بها ذلك في حق المسيح، فكيف ولم يستعمل في حياة الله في حق المسيح..؟!
وإما أن يدَّعوا أن المراد بها حياة الله في حقِّ الأنبياء والحواريين، فإن قالوا ذلك.. لزمهم أن يكون اللاهوت حالًّا في جميع الأنبياء والحواريين، وحينئذ فلا فرق بين هؤلاء وبين المسيح.
ويلزمهم أيضًا أن يكون في المسيح لاهوتان: لاهوت الكلمة ولاهوت الروح، فيكون قد اتحد به أقنومان..
ثم في قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 87] يمتنع أن يراد بها حياة الله، فإن حياة الله صفة قائمة بذاته.. لا تقوم بغيره، ولا تختص ببعض الموجودات غيره، وأما عندهم.. فالمسيح هو الله الخالق، فكيف يُؤَيَّدُ بغيره..؟!
وأيضا فالمتحد بالمسيح هو الكلمة دون الحياة، فلا يصح تأييده بها..!
فتبين أنهم يريدون أن يحرفوا القرآن كما حرفوا غيره من الكتب المتقدمة، وأن كلامهم في تفسير المتشابه من الكتب الإلهية من جنس واحد..!
قالوا: وقال أيضًا: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]..
فيقال لهم: وأيُّ حجة لكم في هذا؟! وإنما هو حجة عليكم، فإنَّه قد ثبت أن الله كلم موسى تكليما، وكلام الله الذي سمعه منه موسى عليه السلام ليس هو المسيح، فَعُلِمَ أن المسيح ليس هو كلام الله، وعندهم هو كلمة الله، وهو علم الله، وهو الله..!(1/194)
ومعلوم أن كلام الله كثير.. كالتوراة والإنجيل والقرآن، وغير ذلك من كلامه، وليس المسيح شيئا من ذلك، والمسيح عندهم خالق، ولو كان المسيح نفس كلام الله.. لم يكن خالقا، ولا معبودا؛ فإن كلام الله لم يخلق السموات والأرض، ولا كلام الله هو الإله المعبود، بل كلامه كسائر صفاته.. مثل حياته وقدرته، ولا يقول أحدٌ يا علم الله اغفر لي، ولا يا كلام الله اغفر لي، وإنما يُعبَد ويُدعَى الإله الموصوف بالعلم والقدرة والكلام الذي كَلَّم به موسى تكليما.
قالوا: وقال أيضا في سورة التحريم: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12].
فيقال: أما قوله تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا}، وقوله في سورة الأنبياء: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91].. فهذا قد فسره قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم: 17-19]، وفي القراءة الأخرى: (لِيَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا)، فأخبر أنه رسوله وروحه، وأنه تمثل لها بشرا، وأنه ذكر أنه رسول الله إليها، فَعُلِمَ أن روحه مخلوق مملوك له، ليس المراد حياته التي هي صفته سبحانه وتعالى..
وكذلك قوله: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا}، وهو مثل قوله في آدم عليه السلام: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]..(1/195)
وقد شَبَّه المسيح بآدم في قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]..
والشبهة في هذا نشأت عند بعض الجهال من أن الإنسان إذا قال: روحي.. فروحه في هذا الباب هي الروح التي في البدن، وهي عينٌ قائمة بنفسها، وإن كان من الناس من يعني بها الحياة، والإنسان مؤلف من بدن وروح، وهي عين قائمة بنفسها عند سلف المسلمين وأئمتهم وجماهير الأمم.
والرب تعالى منزه عن هذا، وأنه ليس مركبا من بدن وروح، ولا يجوز أن يراد بروحه ما يريد الإنسان بقوله: روحي، بل تضاف إليه ملائكته، وما ينزله على أنبيائه من الوحي والهدى والتأييد ونحو ذلك..
قالوا: وسائر المسلمين يقولون: إن الكتاب كلام الله، ولا يكون كلام إلا لحي ناطق، وهذه صفات جوهرية تجري مجرى الأسماء، وكل صفة منها غير الأخرى، فالإله واحد خالق واحد، ورب واحد لا يتجزأ..
فيقال لهم: أما قول المسلمين أن الكتاب -أي القرآن- كلام الله.. فهذا حق، والكلام لا يكون إلا لمتكلم، والمسلمون يقولون: إن الله حي متكلم، وإنه تكلم بالتوراة والإنجيل والقرآن، وغير ذلك من كلامه، والقرآن قد أخبر بكلام الله في مواضع كثيرة..
وهل يُسَمَّى ناطقا وكلامه نطقا.. فيه نزاع، فبعض المسلمين يجيزه، وبعضهم يمنع منه.. لكونه لم يرد به الشرع.
وليس في التوراة والإنجيل والزبور تسمية الله ناطقا، بخلاف لفظ القول والكلام، وقد تنازع المسلمون بعد ظهور البدع فيهم.. كما تنازع أهل الكتاب في كلام الله، هل هو قائم به أو مخلوق منفصل عنه؟!
والذي عليه سلف الأمة وأئمتها وجمهورها: أن كلام الله قائم به، وكذلك سائر ما يوصف به من الحياة والقدرة وغير ذلك..
وأحدث قوم منهم بعد انقراض الصحابة وأكابر التابعين بعد أكثر من مائة سنة من موت النبي أنه مخلوق، خلقه في غيره..(1/196)
وشاركهم في هذه البدعة كثير من اليهود والنصارى، وظهرت هذه المقالة بعد المائة الثانية، وانتصر لها قوم من الولاة وغيرهم، ثم أطفأها الله بمن أقامه الله من أئمة الإسلام والسُّنَّة الذين بينوا فسادها، وبينوا ما اتفق عليه السلف.. من أن كلام الله مُنَزَّلٌ منه غير مخلوق، بل منه بدأ.. لم يَبتَدئ من شيء من المخلوقات، ومع هذا فلم يقل أحد من المسلمين: إن كلام الله يكون إلهًا ولا ربًّا..!
وكذلك حياته، لم يقل أحد منهم إن حياته تكون إلها ولا ربا، ولا أنه مساوٍ للرب تعالى في الجوهر..!).
وأخيرًا:
لقد كان نفي الولد عن الله أساسًا في التعريف بالله؛ لأنه ادعاءٌ في ذات الله، وهو الأمر الذي يختلف عن كل معاني الشرك به سبحانه.
إذ إن الشرك بالله بكل معانيه: هو جعل الند لله، وهذا معناه رفع مقام المخلوق إلى مقام الخالق، أما ادعاء الولد لله فهو النزول بمقام الخالق إلى مقام المخلوق..!
ومن هنا جاء نفي الولد عن الله قبل نفي الشريك، فقال سبحانه: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].
وقال عز وجل: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا * وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [الفرقان: 2-3].
ولذلك أيضًا جاء الصليب قبل مجيء الأوثان التي سيتبعها أصحابها إلى النار..(1/197)
عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: ((هل تضارُّون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحوًا؟)) قلنا: لا، قال: ((فإنكم لا تضارُّون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارُّون في رؤيتهما)) ثم قال: ((ينادي مناد: ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم..))(1).
ولكي ندرك الأبعاد الكاملة لقضية «نفي الولد عن الله» في التصور الإسلامي يجب علينا أن نعود إلى منهج التصنيف (2) عند الإمام البخاري، حيث نجده قد تناولها في عدة كتب من الجامع الصحيح:
كتاب التفسير، وكتاب التوحيد، وكتاب الأدب، وكتاب بدء الخلق..
وورود القضية في «باب التفسير» أمر متوقع بالنظر لكونها قضية قرآنية..
وكذلك في «باب التوحيد»، كونها قضية «عقيدة» تعالج صلب معنى التوحيد ونفي الشرك..
أما ورودها في «كتاب الأدب» وفي «كتاب بدء الخلق» فهو الذي يمثل إضافة منهجية في مناقشتها، ففي «كتاب بدء الخلق» أورد البخاري هذا الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، ويكذبني وما ينبغي له، أما شتمه فقوله: إن لي ولد، وأما تكذيبه فقوله: ليس يعيدني كما بدأني))(3).
إن جمع الحديث القدسي بين «ادعاء الولد لله» وبين التكذيب بإعادة الخلق بعد بدايته يدل على أن الأمرين يرتبطان معا بعلاقة جوهرية، أثبتها الإمام البخاري بذكر الحديث في «كتاب بدء الخلق».. لأن الخلق هو العلاقة..
وأخطر ما يفسد الاعتقاد بأن «الله هو الخالق».. هو الادعاء الباطل بأن لله ولد، أو أن الله لا يعيد الخلق كما بدأه.
__________
(1) أخرجه البخاري (7001).
(2) إن تصنيف البخاري يعطي للقضايا الإسلامية أبعادها الكاملة، حتى أصبح منهجه في التصنيف أساسًا عامًّا لمنهج الفكر الإسلامي بكل قضاياه، راجع كتاب: «علم الحديث.. منظور إعجازي».
(3) أخرجه البخاري (3021)(1/198)
وعندما يزعم النصارى أن الولادة ليست بترتيب زمني، ويفسرون ذلك بأن الابن كان مع الأب منذ الأزل، وأن الأب لم يسبق الابن؛ تأتي أحاديث «بدء الخلق» لتنسف هذه الافتراءات.. ومنها حديث: ((كان الله ولم يكن شيء غيره)) وفي رواية: ((ولم يكن شيء معه)).
وفي نفس الوقت فإن قضية «بدء الخلق» تمثل أساسًا ثابتًا لفهم حقيقة نفي الولد عن الله، ولذلك قال الإمام ابن حجر: (الشتم هو الوصف بما يقتضي النقص، ولا شك أن دعوى الولد لله تستلزم الإمكان المستدعي للحدوث، وذلك غاية النقص في حق الباري سبحانه وتعالى).
وكذلك جاء ذكر نفس الحديث القدسي السابق في «كتاب الأدب» ليفسر خطورة الادعاء على حقيقة أن يكون الإنسان مؤدبًا مع الله، ومعنى هذا الأدب: هو أن يكون كلام الإنسان عن ربه بأسلوب يليق بمقامه سبحانه وتعالى.
ويظهر ذلك الأدب في التعبير بأرقى أسلوب عن أفعال الله التي نثبتها له سبحانه، وتكون مكروهة لنا من جانب، ومرضية من جوانب أخرى.. مثل قول الله على لسان إبراهيم: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]..
فكون المرض والشفاء من عند الله.. هذا اعتقاد، ولكن لا يليق أن نقول: (إذا أمرضني الله) فهذا أسلوب لا يليق..
وكذلك قول الخضر عن السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا}، وقوله: {فَأَرَادَ رَبُّكَ} في الجدار.
فالأمرين إرادة الله.. ولكن لا يليق أن يقول: {أراد ربك أن يعيبها}، فالأدب مع الله.. هو المقتضى الشرعي للعقيدة الصحيحة..
وأقل قدر من الإحساس بالأدب نحو الله سبحانه وتعالى.. جدير بأن يمنع الإنسان من أن يَدَّعي لله الولد..
ولو كان هذا الإحساس نحو الله موجودًا لامتنع أصحاب عقيدة الصليب عن كثير من افتراءاتهم عن الله، مثل تخيلهم أن عيسى.. وهو عندهم الله، وهو عندهم الابن، وهما عندهم لا ينفصلان لحظة، ومع ذلك كان يأكل ويشرب.. ويفعل ما يلزم الأكل والشرب مثل التبرز والتبول..!(1/199)
هذا الإحساس كان من الممكن أن يمنع هذا الاعتقاد الفاسد..
لكن الأسلوب الذي يطرح النصارى عقيدتهم عن الله به.. ليس فيه ذرة من هذا الأدب، فتجد زعيمهم بولس يقول: (إن جهالة الله أحكم من الناس.. وضعف الله أقوى من الناس) ونعوذ بالله من سوء الأدب..
وحينما يُواجَه النصارى بهذا الكلام القبيح فإنهم يعتذرون بأنه يقصد بـ «جهالة الله» ما يظنه البشر كذلك، وليس تعبيرًا حقيقيًّا عن اعتقاده في الله، ويبقى التساؤل -حتى ولو كان الكلام مجازيًا– لماذا نقول «جهالة الله» و«ضعف الله»..؟!
بينما نجد النص القرآني المحكم في مواجهة الظن البشري القاصر: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ.. غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ.. بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} [المائدة: 64]، فمهما كان المقصود.. لا يجوز أن ينساق الوحي وراء ألفاظ البشر.
الباب الثالث
تحليل التحريف
تمهيد
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: (مما ينبغي أن يُعلم أن سبب ضلال النصارى وأمثالهم من الغالية -كغالية العُبَّاد وغيرهم- ثلاثة أشياء:
أحدها: ألفاظ متشابهة مجملة مشكلة، منقولة عن الأنبياء، وعدلوا عن الألفاظ الصريحة المحكمة، وتمسكوا بها، وهم كلما سمعوا لفظًا لهم فيه شبهة تمسكوا به وحملوه على مذهبهم وإن لم يكن دليلا على ذلك، والألفاظ الصريحة المخالفة لذلك إما أن يفوضوها وإما أن يتأولوها، كما يصنع أهل الضلال؛ يتبعون المتشابه من الأدلة العقلية والسمعية، ويعدلون عن المحكَم الصريح من القسمين.
والثاني: خوارق ظنوها آيات، وهي من أحوال الشياطين، وهذا مما ضلَّ به كثير من الضُّلال المشركين وغيرهم، مثل دخول الشياطين في الأصنام وتكليمها للناس، ومثل إخبار الشياطين للكهان بأمور غائبة، ولا بد لهم مع ذلك من كذب.(1/200)
والثالث: أخبار منقولة إليهم ظنوها صدقًا، وهي كذب، وإلا فليس مع النصارى ولا غيرهم من أهل الضلال على باطلهم لا معقول صريح، ولا منقول صحيح، ولا آية من آيات الأنبياء..
بل إن تكلموا بمعقول.. تكلموا بألفاظ متشابهة مجملة، فإذا استفسروا عن معاني تلك الكلمات وفرق بين حقها وباطلها.. تبين ما فيها من التلبيس والاشتباه..
وإن تكلموا بمنقول.. فإما أن يكون صحيحًا، لكن لا يدل على باطلهم.. وإما أن يكون غير صحيح ثابت؛ بل مكذوب..
وكذلك ما يذكرونه من خوارق العادات: إما أن يكون صحيحًا، قد ظهر على يد نبي؛ كمعجزات المسيح ومن قبله كإلياس واليسع وغيرهما من الأنبياء، وكمعجزات موسى فهذه حق.. وإما أن تكون قد ظهرت على يد بعض الصالحين كالحواريين، وذلك لا يستلزم أن يكونوا معصومين كالأنبياء.
فإن الأنبياء معصومون فيما يبلغونه، لا يتصور أن يقولوا على الله إلا الحق، ولا يستقر في كلامهم باطل، لا عمدًا ولا خطأً.. وأما الصالحون فقد يغلط أحدهم ويخطئ مع ظهور الخوارق على يديه، وذلك لا يخرجه عن كونه رجلًا صالحًا، ولا يوجب أن يكون معصومًا إذا كان هو لم يدَّعِ العصمة، ولم يأتِ بالآيات دالة على ذلك، ولو ادَّعى العصمة وليس بنبي؛ لكان كاذبًا، لا بد أن يظهر كذبه وتقترن به الشياطين فتضله، ويدخل في قوله تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين* تنزل على كل أفاك أثيم} [الشعراء: 221-222]).
بهذا التحليل المحكم نبدأ هذا الفصل، في محاولة منهجية لتحليل مظاهر وظواهر هذه الديانة المحرفة.
الفصل الأول
تفسير التحريف يبدأ من إبليس
تحريف الدين له في كل زمان تفسير واحد.. يبدأ من إبليس..!
فهو الذي يرسم بخطوط الباطل وزوايا التحريف مسارًا معوجًّا إلى جهنم..
والنصرانية المحرفة هي النموذج والشاهد والمثال..!(1/201)
فعندما عصى إبليس ربه سبحانه وتعالى كان ذلك بسبب الاستكبار، والاستكبار ليس له حدود.. لذلك حاول إبليس باستكباره أن يبلُغ عند الناس مقام الألوهية ذاته.
ولكن إبليس يعلم أنه لا يستطيع فعل شيء أمام المقام الإلهي حقيقةً(1)؛ لذلك حاول النزول بهذا المقام في عقيدة البشر..
فكانت بدعة ادعاء الولد وعقيدة التثليث التي صنعها؛ لتكون مضمونا أساسيًّا لكل الوثنيات، ولتكون أمة النصارى أخطر مثال على ذلك.
كما قال ابن القيم: (ومن المعلوم أن هذه الأمة ارتكبت محذورين عظيمين لا يرضى بهما ذو عقل ولا معرفة..
أحدهما: الغلو في المخلوق، حتى جعلوه شريكًا للخالق، وجزءًا منه وإلهًا آخر معه، وأَنِفوا أن يكون عبدًا له.
والثاني: تَنَقُّصُ الخالق وسبه ورميه بالعظائم، حيث زعموا أنه -تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا- نزل من عليائه ليدخل في فرج امرأة، وليتخبط بين البول والدم وقد علته أطباق المشيمة والرحم والبطن، ثم خرج من حيث دخل رضيعًا صغيرًا يمص الثدي، ولُفَّ في القمط، وأودع السرير، يبكي ويجوع ويعطش، ويبول ويتغوط، وحُمِلَ على الأيدي والعواتق..!!!
ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه، وربطوا يديه، وبصقوا في وجهه وصفعوا قفاه، وصلبوه جهرًا بين لصين، وألبسوه إكليلًا من الشوك، وسمروا يديه ورجليه، وجرعوه أعظم الآلام..!!!
وهذا وهو الإله الحق الذي بيده أتقنت العوالم، وهو المعبود المسجود له..!
ولعمر الله، إن هذه مسبَّة لله ما سبه بها أحد من البشر، لا قبلهم ولا بعدهم، كما قال تعالى: {تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا} [مريم: 90]).
__________
(1) حتى أنه وهو يعصي ويستكبر، يقسم على معاداة الله.. بعزة الله ذاته سبحانه وتعالى..!(1/202)
وكانت البداية هي خلق آدم.. التي بدأ الكِبْر معها حتى قبل الأمر بالسجود له، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما صور اللهُ آدم فِي الجنةِ.. تركهُ ما شاء اللهُ أن يترُكهُ، فجعل إبليس يُطِيفُ بِهِ، ينظُرُ ما هُو، فلما رآهُ أجوف عرف أنهُ خُلِق خلقًا لا يتمالكُ))(1).
وبدأ العداء..
وجاء عيسى آيةً من آيات الله في الخلق مثل آدم: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} [آل عمران: 59] فتولد العداء عند إبليس لعيسى.. كما كان لآدم.
وجاء تركيز إبليس على عيسى باعتباره آية من آيات الله، تبعًا لقاعدة عامة في أفعال إبليس، وهي التركيز على كل آيات الله باعتبارها أساسًا في تحقيق هداية العباد، ليجعلها سبب ضلال.
وأوضح الأدلة على ذلك: هو التركيز على آيات الشمس والقمر والنجوم كآيات تتحقق بها الهداية، لتكون سببًا تحدث به الضلالة، حتى عبدت هذه الآيات كلها من دون الله..
ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد..
لأن عيسى مع كونه آية من آيات الخلق.. فإنه أيضًا إتمامٌ لتنوع الخلق، كما كان آدم بدايته.. حسب قاعدة القسمة الرباعية(2).
ووفقًا لطبيعة الفعل الشيطاني.. كان التركيز على عيسى من جهة إبليس، إذ إن أهم صفات التركيز في أفعال الشيطان صفة الاهتمام بالبداية والنهاية، وذلك لأنه في بداية أي أمر.. تحديد لاتجاهه وطبيعته، وإفساد الشيطان للأمور من بدايتها يفسد استمرارها وغايتها، قال أحد السلف: (من صحت بدايته.. صحت نهايته، ومن فسدت بدايته.. فربما هلك).
ومما يؤكد هذه الحقيقة.. محاولة الشيطان إفساد حياة الإنسان من خلال أي نقطة بداية، فكان الاهتمام ببداية كل يوم بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان-أو الشيطان))(3).
__________
(1) مسلم (2611).
(2) يراجع الباب الأول: التصور السلفي.
(3) البخاري (3099).(1/203)
ولأجل أن التأثير الشيطاني بالبداية يمتد إلى النهاية فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوصانا إذا نسينا التسمية في أول الطعام أن نقول: ((باسم الله في أوله وآخره))(1).
وبذلك كانت علاقة إبليس بالبداية والنهاية.. حقيقة ثابتة.. في كل الأمور، وبكل المستويات.
وكان دليل علاقة إبليس بالبداية والنهاية في مجال الواقع البشري هو تركيز إبليس على مستوى عمر الإنسان..
مثل التركيز على الإنسان في بدايته.. بنخس الإنسان عند الولادة..
والتركيز على حضور الإنسان عند موته.. ليموت يهوديًّا أو نصرانيًّا..
ومن هنا كان التركيز على نوع الإنسان.. مثل تركيز إبليس على آدم وعيسى ابن مريم باعتبارهما بداية التنوع البشري ونهايته.
وقد تحقق في عيسى نهاية النوع ونهاية الزمان؛ لأنه جاء دليلا على الساعة: {وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم* ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين} [الزخرف: 61، 62] ولعلنا نلاحظ الارتباط بين الإخبار بأن عيسي علم للساعة وبين التحذير من الشيطان وعداوته.
وذِكْرُ الصراط -باعتباره طريق وصول الخلق إلى الله من بدايته إلى نهايته- دليل على المعنى المقصود، ومن هنا كان تركيز إبليس على البداية والنهاية له مستوى آخر، وهو التركيز على نقض هذا الصراط المستقيم: {قال فأنظرني إلى يوم يبعثون* قال إنك من المنظرين* قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم* ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} [الأعراف: 14-17].
ولذلك كانت الإحاطة ببقاء إبليس إلى «يوم يبعثون» أمرًا ضروريًّا، وكان صراط الله الممتد من الدنيا إلى الآخرة إلى الجنة هو أساس هذه الإحاطة.
__________
(1) سنن الترمذي (1858).(1/204)
ومن هنا اقترن إنظار الله لإبليس إلى يوم البعث بذكر صراط الله المستقيم: {قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون* قال فإنك من المنظرين* إلى يوم الوقت المعلوم* قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين* إلا عبادك منهم المخلصين* قال هذا صراط علي مستقيم* إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين* وإن جهنم لموعدهم أجمعين* لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} [36-44].
أما سورة «ص» فإنها تبين الإحاطة بإبليس من خلال عدة حقائق:
- أن الإنظار إلى الوقت المعلوم أمر مقدر من عند الله..
- وأن قسم إبليس نفسه كان بعزة الله..
- وأن إبليس هو الذي استثنى بنفسه عباد الله المخلصين من احتمال الغواية..
{قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون* قال فإنك من المنظرين* إلى يوم الوقت المعلوم* قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين* إلا عبادك منهم المخلصين} [ص: 79-88].
النصرانية وإبليس
ولقد كان تركيز إبليس على قضية عيسى ابن مريم أخطر فعل شيطاني في الواقع البشري على الإطلاق، وكانت شواهد هذا الفعل الشيطاني هي:
- أن النصرانية هي بدعة إبليس المباشرة.
- وأنها أكبر تحقيق لمعنى الأبلسة.
- وأنها أقصى بُعد زمني لإضلال إبليس للبشر.
بدعة إبليس المباشرة
وفي النصوص الشرعية تكون نسبة أي فعل الي ابليس مباشرة لها دلالة الخطر الشديد مثل قول رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((النظرة سهم من سهام إبليس، يصيب بها قلب المؤمن)).
ولعلنا نلاحظ أن هذه السهام تصيب، وأن إصابتها قاتلة؛ لأنها تصيب القلوب وأنها بتوجيه القائد نفسه، إذ إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أضاف السهام إلى إبليس نفسه فقال: ((من سهام إبليس)).
وفي قول الله عز وجل: {وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا} [الجن: 4] يقول مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي: (سفيه الجن: هو إبليس).(1/205)
ومعنى الآية: أن بدعة ادعاء الولد منسوبة إلى إبليس مباشرة، ولأجل تأثير إبليس في واقع الجن كان هو السبب المباشر في انتشارها بين الجن؛ ولهذا نسب الجن المؤمن «بدعة الولد» له مباشرة.
وبنفس الأثر الذي كان من إبليس في الجن كان أثره في الإنس.. بصورة دقيقة جعلت تناسبًا بين الجن والإنس في التأثر بهذه البدعة، حتى إن المفسرين ينسبون هذا القول إلى جن «نصيبين»، وهي المدينة التي بدأ من بين أهلها من البشر انتشار هذه البدعة الكافرة..!(1)
تحقيق معنى الأبلسة
«الأبلسة» هي اليأس من الخير، وهو تفسير معنى كلمة «مبلسون» في القرآن الكريم، حيث جاء عن ابن عباس ومجاهد وقتادة في مجموع قولهم: أن الإبلاس هو إياس من الخير.
ومن متابعة الكلمة في مواضعها القرآنية يتبين ارتباط معناها ببدعة ادعاء الولد..
__________
(1) من المثير أن نعرف أن بولس عندما كان يجهز لبدعة بنوة المسيح لله ونقض تعاليم التوراة مكث في منطقة نصيبين ست سنوات كاملة يدرس ويخطط، يراجع كتاب العميد جمال الشرقاوي «بولس صانع الأسطورة..!».(1/206)
ففي سورة المؤمنون يبين الله حال إبلاس أهل النار في العذاب، ولكن أهل النار المعذبون الآيسون من رحمة الله كانوا هم المعرضين عن آيات الله الدالة على وحدانيته، بمعنى نفي الولد عن الله: {حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون* وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون* وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون* وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون* بل قالوا مثل ما قال الأولون* قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون* لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين* قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون* سيقولون لله قل أفلا تذكرون* قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم* سيقولون لله قل أفلا تتقون* قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون* سيقولون لله قل فأنى تسحرون* بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون* ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون } [المؤمنون: 77-91].
ومن السياق القرآني يتبين أن الآيات الدالة على وحدانية الله ونفي الولد والشريك عنه سبحانه وتعالى جامعة للوجود كله وبكل ما فيه، وأن إعراض الكافرين عن هذه الآيات هو أكبر إعراض عن الحق؛ لأن حجم الإعراض يقاس على حجم الآيات المعروضة لإثباته، ومن هنا كان قول الله: {بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون}، فكانت عقوبتهم الإبلاس واليأس من رحمة الله.. تجانسًا مع عمل إبليس فيهم..(1/207)
أما في سورة الزخرف فإن الآيات المعروضة -والتي كان الإبلاس عقوبة على الإعراض عنها- تمثلت في عيسى نفسه: {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون* وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون* إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل* ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون* وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم* ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين* ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون* إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم* فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم* هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون* الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين* يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون* الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين* ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون* يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون* وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون* لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون* إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون* لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون} [الزخرف: 57-75].
إن الإيمان بعبودية عيسى هو المعنى الأساسي للإسلام؛ لأن قضية عيسى تقتضي التسليم لله رب العالمين، ومن هنا كان وصف المؤمنين بما أخبر الله فيها بأنهم «مسلمين».
ولعلنا نلاحظ من السياق القرآني تفصيل النعيم الذي أعده الله للمؤمنين جزاءً على صبرهم على شهوات الدنيا، والتي كانت سببًا في بدعة الولد.
ومن هنا أيضًا كان وصف الكافرين بما أخبر الله في عيسى ابن مريم بأنهم «مجرمين»؛ لأنهم كفروا رغم كل الآيات الدالة على عبودية عيسى ابن مريم.
أقصى بعد زمني لإضلال إبليس للبشر(1/208)
فمنذ موقف المعصية الأولى: {قال فأنظرني إلى يوم يبعثون* قال إنك من المنظرين} ومعنى الآية: بقاء أثر إبليس إلى قيام الساعة، ومع إنظار إبليس.. كان بقاء النصرانية المحرفة إلى يوم ينظرون..
فالنصرانية المحرَّفة هي عمل إبليس الباقي إلى قيام الساعة، حيث سيكون أهل الصليب مناوئين للإسلام حتى قيام الساعة؛ لتكون الملحمة التي سيهزم فيها الروم -آخر وجود للنصارى- يتبعه كسر عيسى للصليب الذي ستكون بعده الأمنة وقيام الساعة.
وقد كانت خطة إبليس هي: {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم* ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين}.
قال ابن عباس: {ثم لآتينهم من بين أيديهم}: أشككهم في آخرتهم.. (حيث لا يؤمن النصارى بالبعث) {ومن خلفهم}: أرغبهم في دنياهم.. (حيث كانت الدنيا العامل الأساسي في ضلالهم كما سيتبين في عوامل التحريف)(1) {وعن أيمانهم}: أشَبِّه عليهم أمر دينهم.. (وهو الأمر الذي ينطبق أول ما ينطبق على ضلال النصارى في دينهم) {وعن شمائلهم}: أُشهِّي لهم المعاصي..{ولا تجد أكثرهم شاكرين}: مُوَحِّدين.
وقول إبليس هذا إنما كان عن ظنٍّ منه وتوهُّم؛ لكنه نجح في تحقيقه في الواقع، كما قال تعالى: {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين* وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ} [سبأ: 20، 21]
ولهذا ورد في الحديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: ((اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بك اللهم أن أغتال من تحتي))(2).
إبليس والصليب
__________
(1) في فصل لاحق ضمن هذا الباب.
(2) مسند أحمد (4785).(1/209)
تفسير العلاقة بين إبليس والصليب.. لا يكون إلا بفهم معنى الصليب..
الصليب وثن.. هذا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم..
عن عَدِيّ بن حاتم، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: ((يا عدي.. اطرح هذا الوثن من عنقك!)) قال: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} [التوبة: 31] قال: قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم! فقال: ((أليس يُحرِّمُون ما أحل الله؛ فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله؛ فتحلونه؟!)) قال: قلت: بلى. قال: ((فتلك عبادتهم))(1).
ومعنى الصليب –كشكل- يفسره قول الله عز وجل: {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم} [الأعراف: 16] وهذا المعنى يكمن في العلاقة بين الصليب والصراط..
ونبدأ بهذا الحديث..
عن عبد الله، قال: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا خطًّا، فقال: ((هذا سبيل الله)) ثم خط عن يمين ذلك الخط وعن شماله خطوطًا، فقال: ((هذه سُبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها)) ثم قرأ هذه الآية: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}(2) [الأنعام: 153].
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رسم خطًّا ليعبر عن معنى صراط الله المستقيم في تفسير هذه الآية.. فإن التعبير عن قول الله عز وجل: {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم} [الأعراف: 16] سيكون رسم خطٍ مستقيمٍ يمثل صراط الله المستقيم، وخط يقطعه ليمثل كلمة {لأقعدن} أي: لأقطعن.. ليكون الشكل النهائي: خطًّا يقطع خط وهو الصليب..! الذي يمثل الصورة الرمزية لقعود إبليس للناس على صراط الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) سنن الترمذي (3095).
(2) مسند أحمد (4142).(1/210)
ولكن قطع إبليس لصراط الله المستقيم ليس له أثر على حقيقته عند الله، ولكن القطع أمرٌ متعلق بالبشر الذين أضلهم إبليس؛ ولذلك أثبت القرآن حقيقة الصراط بعد قَسَم إبليس بإضلال البشر؛ لتكون حقيقة الصراط بعد قسم إبليس هي عجزه عن إضلال عباد الله المخلصين، وإدخال الضالين من البشر إلى الجحيم: {وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون* فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين* فسجد الملائكة كلهم أجمعون* إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين* قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين* قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون* قال فاخرج منها فإنك رجيم* وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين* قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون* قال فإنك من المنظرين* إلى يوم الوقت المعلوم* قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين* إلا عبادك منهم المخلصين* قال هذا صراط علي مستقيم* إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين* وإن جهنم لموعدهم أجمعين* لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} [الحجر: 28-44].
فيصبح الصليب رمزًا جوهريًّا لمن اتبع إبليس من الغاوين في جميع الوثنيات، ابتداءً بالفرعونية التي كان يُعبَّر فيها عن الصليب بمفتاح الحياة.. وانتهاءً بالنصرانية المحرَّفة التي تَعتبر هذا الرمز الفرعوني إرهاصة تاريخية للصليب الذي يعبدونه، حتى أطلقوا على صليبهم نفس اسم الصليب الفرعوني.. «مفتاح الحياة».
ومن الغريب حقًّا أن يعتبر النصارى أن هذا الشكل الفرعوني دليلًا على الجذور التاريخية للصليب (!!) دون أي حساسية من الوثنية الفرعونية الواضحة التي يكون الإله فيها هو (الجعران يلعب بروثه!) ويلبس الناس فيها على وجوههم أقنعة القطط والكلاب..!!(1/211)
ولكن إبليس لم يتوقف بالصليب عند هذا الحد الرمزي، بل زاده وضوحًا، وذلك عندما قذف في عقول النصارى أن المكان الذي صُلب عليه المسيح -حسب بدعتهم- هو المكان الذي دُفن فيه آدم، ويسمونه (الجلجثة) وهي كلمة آرامية معناها: الجمجمة «أي: جمجمة آدم» وبذلك يؤكد إبليس على معنى الخط المقطوع، وهو الصراط الذي ترسمه حياة جميع الأنبياء، ابتداءً من آدم عليه السلام..
ومن هنا قال الإمام السيوطي: {صراط الذين أنعمت عليهم}: أي طريق الأنبياء، {غير المغضوب عليهم} قال: اليهود، {ولا الضالين} قال: النصارى.
ووسوسة إبليس إلى النصارى بفكرة «الجلجثة» تؤكد الدلالة المطلوبة من البدعة، وهي أن الصليب رمز لقطع صراط الله المستقيم؛ أي: طريق الأنبياء ابتداءً من آدم عليه السلام، ومن هنا أصبح الصليب عند إبليس هو الشكل المقابل لصراط الله بكل صفاته..
فكما ارتبطت عبادة الله بطلب الهداية إلى الصراط المستقيم كما في الفاتحة التي تقرأ في كل صلاة.. ارتبطت عبادة النصارى بالصليب دون التفكير في هذه العبادة التي لم ترد قطعًا عن المسيح في حياته؛ لأنه لم يكن -بحسب زعمهم- قد صُلب بعد..!
وبتفسير معنى الصليب يأتي الإحساس الشرعي الواجب تجاه هذا الشكل، حيث تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يترك في بيته شيئًا فيه تصليب إلا قضبه).
وكان بعض أئمة الإسلام إذا رأى صليبًا أغمض عينيه عنه، وقال: لا أستطيع أن أملأ عيني ممن سب إلهه ومعبوده بأقبح السب..!
عيسى والصليب
ولكن إثبات أن الصليب هو الشكل التعبيري عن قطع الصراط يمثل جانبًا من القضية.. أما الجانب الرئيسي فيها فهو إثبات العلاقة التناقضية بين شكل الصليب بمعناه وعيسى ابن مريم، الأمر الذي يتطلب تفسير العلاقة بين عيسى ابن مريم وحقيقة الصراط.(1/212)
فالصراط هو الطريق المؤدي إلى الله.. وله معالم يهتدي بها السائرون فيه، وأهم هذه المعالم: رسل الله: {يس* والقرآن الحكيم* إنك لمن المرسلين* على صراط مستقيم} [يس: 1-4].
ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم: {فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم} [الزخرف: 43].
ومنهم عيسى ابن مريم.. الذي كان له ارتباط خاص بحقيقة الصراط أثبته القرآن في عدة مواضع، منها قوله عز وجل: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون* ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون* وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [مريم: 34-36].
فجمعت الآيات قضية عيسى ابن مريم، وفي نهايتها جاء القول الفصل: {هذا صراط مستقيم}.. دليلًا على أن قضية عيسى عليه الصلاة والسلام هي من مضمون الصراط المستقيم.
وكذلك قال الله عز وجل على لسان عيسي: {إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [آل عمران: 51]، {إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [الزخرف: 64].
وكذلك كان الارتباط بين عيسى ابن مريم والصراط من خلال حقيقة الآخرة: {وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم} [الزخرف: 61].
وفي هذه الآية جمع الله بين محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام والصراط في آية واحدة: {وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم} [الزخرف: 61].
فكلمة: {واتبعون} تعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم.. إثباتًا للارتباط بين محمد وعيسى عليهما السلام، ومعنى الصراط، باعتبار أن الآخرة هي منتهى الصراط.. وأن عيسى عَلَم على الساعة.. ودليل على قرب وقوعها.(1/213)
واعتبار أن الصراط هو صراط الذين أنعم الله عليهم كما قال الله: {صراط الذين أنعمت عليهم} [الفاتحة: 7]، وأن الذين أنعم الله عليهم هم كما قال الله: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} [النساء: 69].
وبهذين الاعتبارين جاء تفسير الصراط: عن أبي العالية: (الصراط المستقيم.. رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده) قال عاصم: فقلت للحسن: إن أبا العالية يقول: (الصراط المستقيم.. رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه) قال: صدق ونصح، وكذلك روى الحاكم عن ابن عباس مثله.
إبليس والكفارة
لتفسير معنى معصية آدم، ومناقشة قضية الخطيئة والكفارة، يلزمنا أولًا تحرير هذه المصطلحات:
«المعصية» هي مخالفة الأمر.
و«الخطيئة» هي مخالفة الصواب.
و«السيئة» هي مخالفة العقل للحكم الشرعي.
و«الإثم» هو مخالفة الفطرة والإحساس السليم: ((الإثم ما حاك في الصدر))(1).
- و«الذنب» هو الأثر الناشئ عن المعصية.
- أما «الكفارة» فهي من الكَفْر -بفتح الكاف- يقول ابن فارس: (الكاف والفاء والراء أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على معنىً واحد، وهو السَّتْر والتَّغطية).
وقد سُميت الكفَّارات بذلك لأنها تُكَفِّر الذنوب؛ أي: تسترها وتغطي أثرها، مثل كفَّارة الأَيْمان، وكفَّارة الظِّهار، وكفَّارة القتل الخطأ.
ومعنى الذنب هو المعنى الذي يرتكز عليه موضوع المعصية، باعتبار أن الموضوع تحديدًا هو أثر المعصية، فلكل معصية لأمر الله في الواقع البشري أثران:
أثر شرعي: وهو العقوبة. وأثر قدري: وهو امتداد آثار الذنب ومقتضاه الطبيعي.
وفي موضوع معصية آدم ينبغي التفريق بين أمرين:
الأول: خلق آدم أصلًا بالاستعداد للخير والشر.
الثاني: الخطأ بمعنى الذنب الذي لا تزر فيه وازرة وزر أخرى.
وبالتالي ينبغي التفريق بين قضيتين:
__________
(1) المعجم الكبير (197).(1/214)
الأولى: الخطيئة الأولى، وهي التي لا تورث بذاتها وإن امتد أثرها.
الثانية: الطبيعة الخاطئة، وهي الموروثة كطبع خُلق عليه الإنسان.
الأمر الأول: خلق آدم أصلًا بالاستعداد للخير والشر
يقول الله عز وجل: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا* إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} [الإنسان: 2-3].
فباعتبار الخلق: كانت ازدواجية الطبيعة الإنسانية، وبها يحدث الابتلاء بالخير والشر.
وباعتبار الهداية: كان الاستعداد للشكر بالفطرة، وللكفر بالضعف..
الثاني: الخطأ بمعنى الذنب الذي لا تزر فيه وازرة وزر أخرى
القاعدة الأساسية للقضية: أنه لا يرث إنسان ذنب إنسان آخر، وهي المسئولية الفردية، ولكن الذنب يمكن أن يتعدى فاعلَه بمعنيين:
الأول: التعدي بمعنى العقوبة
حيث يتعدى أثر الذنب الفاعل المباشر إلى غيره بمعنى «العقوبة»، وهذا التعدي له عدة أحكام أهمها:
من حيث الموقف من الذنب: أن يكون سببًا في الذنب بصورة مباشرة –وهي فعل الذنب- أو غير مباشرة -وهي الرضا عن الذنب- وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولكن من رضي وتابع))(1) دليل على أن أثر الذنب قد يبلغ الراضين عن الذنب مع فاعله، وكذلك ترك الإنكار على فاعل الذنب مع استطاعة الإنكار، ابتداء من مرحلة المنع الفعلي إلى مرحلة الإنكار القلبي.
من حيث العلاقة بالمذنب: وهو أن يمتد ذنب الفاعل إذا كانت له ولاية، إذ يعاقب الوالي في ولايته، والراعي في رعيته، باعتبار أن العقوبة تكون عليه في ولايته ورعيته.
وتعالج آيات سورة الإسراء كل العناصر السابقة:
__________
(1) رواه مسلم وتمامه: ((ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن نكر سلم، ولكن من رضي وتابع)) (1854).(1/215)
فمن حيث المسئولية الفردية: {وكل إنسان ألزمناه طآئره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا* اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا* من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء: 13-15].
ومن حيث المسئولية الجماعية: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا* وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا} [الإسراء: 16-17].
من حيث طبيعة العقوبة: وكما كان هناك أحكام لتعدي أثر الذنب بمعنى «العقوبة»، كان هناك أحكام لتعدي أثر الذنب بمعنى «البلاء»، وتدور حول طبيعة العقوبة المترتبة على الذنب من حيث خصائصها..
مثل خصيصة العموم: فإذا كانت العقوبة هي الهلاك العام وقع الهلاك على الجميع، وكلٌّ يبعث على نيته، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روته أمُّ المؤمنين عائشة: ((يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم)) قلت: يا رسول الله، وكيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: ((يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم))(1).
وبذلك يجتمع في الذنب معنى العقوبة ومعنى البلاء.
«العقوبة» لمن فعل الذنب ولمن رضي عنه، و«البلاء» لمن أنكر ولم يرضَ.
ومثل خصيصة البقاء.. سواء كان بقاءً طبيعيًّا أو بقاءً قدريًّا..
فإذا كانت العقوبة أثرًا باقيًا للذنب أصابت من يأتي بعد الفاعل الأصلي للذنب، مثل الصورة الوراثية للأمراض بعد ظهورها بسبب الذنوب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا))(2) إذ إن الأمراض التي تنزل.. تبقى لتصيب من يأتي بعدُ فاعل الذنب.
__________
(1) البخاري (2012).
(2) سنن ابن ماجه (4019).(1/216)
وأما البقاء القدري: فمثل المرور على مواقع المعذبين(1).
ومن صور البقاء القدري: الولاء الكوني الذي يمتد به أثر الذنب، باعتبار العلاقة الكونية بين الفاعل الأصلي للذنب وامتداده، مثل الأمر بقتل الحيات امتدادًا لعقوبتها على دورها في إغواء آدم(2).
الثاني: التعدي بمعنى البلاء
وهو أن يتعدى أثرُ الذنب الفاعلَ المباشرَ إلى غيره بمعنى «البلاء»، فيكون الفعلُ ذنبًا، وأثرُه على فاعلِهِ عقوبةً، وعلى غيره بلاء. فتنقطع صلة العقوبة بين الفعل الأصلي «الذنب» وأثرها الممتد «البلاء».
ومن أمثلته: معاقبة الأب بذنبه في ذريته، فتكون للأب «عقوبة»، وتكون للذرية «بلاء».
وبهذا التصور ننتقل إلى خطيئة آدم؛ لنفرق بين قضيتين:
الأولى: خطيئة آدم
وهي التي لا تورث بذاتها وإن امتد أثرها.. فعقوبة معصية آدم هي خروجه من الجنة، ثم انقطعت الصلة بين عقوبة خطيئته وبين أبنائه، فكان خروجه -له وحده- بمعنى العقوبة، ولأبنائه بمعنى البلاء.. باعتبار تناسله على الأرض.
وتكون صفة العقوبة قد توقفت بنزول آدم إلى الأرض، وانتهت بهذا النزول كل آثار المعصية، فلا يبقى معنى لوجوب الكفارة عن خطيئة آدم بالفداء، بعد وقوع العقوبة عليه بخروجه من الجنة.
بل إن أمر الخطيئة قد انتهى بتوبة آدم أصلًا.. قبل وقوع الكفارة بالخروج.
ولقد كان الترتيب الطبيعي للأحداث هو: خطيئة آدم، ثم استحقاقه للعقوبة، ثم تطبيق العقوبة..
لكن الله قد رحم الإنسان بأن تاب عليه بعد استحقاقه للعقوبة، ليبدأ حياته على الأرض بتوبة، بدلا من أن يبدأها بعقوبة، فلا تكون البداية لحساب الشيطان(3).
والله سبحانه تواب رحيم.. لا يعاقب على خطيئة قد تاب على صاحبها..
__________
(1) حديث قوم صالح.
(2) حديث قتل الحيات.
(3) راجع: «عندما ترعى الذئاب الغنم».(1/217)
وكما رحم الله الإنسان لما أخرج آدم يوم الجمعة.. وهو خير يوم، وعلى ضوء هذه الحقيقة نفهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج منها))(1).
فرغم أن الخروج من الجنة كان هو الأمر المحذور، لكن الله برحمته قضى بخيرية يوم الخروج؛ رحمة ببني آدم، باعتبار أن النزول إلى الأرض كان بدايةً بكل الاعتبارات، زمانًا ومكانًا وحدثًا.
ولا يبقى بعد ذلك من معنى النزول إلى الأرض لآدم وذريته إلا حقيقة البلاء، وهو المعنى الأساسي الذي يقوم عليه الموقف إلى قيام الساعة، أما ما يؤكد معنى البلاء في نزول بني آدم إلى الأرض فهو رجوعهم إلى الجنة بعد النجاة من هذا البلاء: {قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 38].
وقد كان لمعصية آدم أثرٌ آخر قبل الخروج، وهو ظهور السوءة؛ لأن ظهور السوءة دلالة على المعصية، والستر دلالة على التقوى، بدليل قول الله عز وجل: { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون} [الأعراف: 26].
والتقوى هي كمال الدين؛ ولذلك كان تفسير رؤية الثياب الطويلة في النوم هو الدين، بدليل تأويل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينا أنا نائم رأيت الناس يُعرضون عليَّ وعليهم قُمُص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ أسفل من ذلك، وعُرض عليَّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين))(2).
فالمعصية نقصٌ في الدين، وكشفٌ لستر الإنسان..
وأهم دلائل هذه الحقيقة هي الحياء من ظهور السوءة مع الحياء من المعصية..
ودليل الحياء من ظهور السوءة هو قول الله عز وجل: {وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} [الأعراف: 22]..
__________
(1) سنن أبي داود (1046).
(2) البخاري (23).(1/218)
أما دليل الحياء من المعصية فهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإثم ما حاك في الصدر، وخشيت أن يطلع عليه الناس))(1) هذا من حيث أثر الذنب الذي كان من آدم في خروج بنيه من الجنة.
إن خروج آدم بمعصية من الجنة راجع إلى استحالة المعصية في الجنة.. لأن الجنة كنعيم مقيم، وكرزق ما له من نفاذ.. لا يتفق مع المعصية؛ ولذلك قال الله في الجنة: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما* إلا قيلا سلاما سلاما} [الواقعة: 25-26].
ولأجل الارتباط بين الرزق وانتفاء المعصية.. كانت الساهرة التي سينتقل إليها الناس للحساب: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} [إبراهيم: 48].. أرضًا يأكل الناس فيها من تحت أرجلهم.. وكان تعليل ذلك: أنها أرض لم يُعصَ الله عليها.
الثانية: الطبيعة الخاطئة
وهي الموروثة كطبع اكتَسَبَه الإنسان، فمع أن الله ركب في بني آدم الاستعداد للخير والشر: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} [الإنسان: 3].. إلا أن ظهور هذا الخير والشر في الواقع والسلوك يخضع لعوامل أخرى غير الاستعداد الطبيعي، ومن أهمها: المورثات السلوكية التي يكتسبها الأبناء من الآباء.
وهذا ما ورثه بنو آدم عن أبيهم على وجه التحديد..
__________
(1) المعجم الكبير (197).(1/219)
وذلك هو أثر الذنب في الطبيعة البشرية.. وراثة الخُلُق والسلوك الخطأ، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: ((لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، ثم جعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصًا من نور، ثم عرضهم على آدم فقال: أي رب، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك..! فرأى رجلا منهم أعجبه نور ما بين عينيه، فقال: أي رب، من هذا؟! قال: رجلٌ من ذريتك في آخر الأمم يقال: له داود..! قال: أي رب، كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: فزده من عمري أربعين سنة، قال: إذن يكتب ويختم ولا يبدل.. فلما انقضى عُمْر آدم جاء ملك الموت فقال: أَوَلم يبقَ من عمري أربعون سنة؟! قال: أَوَلم تعطها ابنك داود؟.. فجحد فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته))(1).
وقد تحقق معنى الطبيعة الموروثة من خطيئة آدم باعتبار دور حواء فيها كذلك، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام، ولم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها))(2).
و«الخيانة» هنا هي التحريض على المعصية، كما قال الله عز وجل في حق امرأة نوح وامرأة لوط -مع الفارق- {ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئًا وقيل ادخلا النار مع الداخلين} [التحريم: 10].
وخلاصة القول: أن لخطيئة آدم.. ثلاثة اعتبارات:
«آدم الإنسان» بأصل خلقته من حيث الاستعداد للخير والشر.
«آدم الأب» وقد ترتب عليه طبيعة الوراثة السلوكية للخطأ والصواب.
«آدم الخليفة» وقد ترتب عليه النزول المقدر منذ الأزل إلى الأرض واستعمارها.
مناقشة التحريف في قضية الكفارة
هناك حقيقة هامة في قضية الكفارة.. وهي أن الذين زعموا قتل المسيح هم اليهود، الذين جعل الله عليهم الإصر بسبب عنادهم، فكانت كفارة ذنوبهم هي أشد صيغ الكفارة..
__________
(1) سنن الترمذي (3076).
(2) مسلم (1470).(1/220)
فعندما عبدوا العجل كانت الكفارة أن يقتل بعضهم بعضًا بحد السيف..
وعندما رفضوا الدخول في الأرض المقدسة كتب الله عليهم التيه أربعين سنة..
وعندما حُرِّم عليهم الصيد يوم السبت واصطادوا مسخهم الله قردة وخنازير..
إن قياس هذه الأفعال وعقوبتها على زعمهم قتل ابن الله الوحيد، يجعل البشر يعجزون عن مجرد تخيل مدى العقوبة الواجبة على هذه الجريمة..!
وعندما عصى آدم ربه في الجنة ترتب على تلك المعصية أن ظهرت سوءة آدم؛ لأنه بمجرد المعصية صار وجوده غير موافق لطبيعة الجنة، وكان ظهور السوءة علامة هذا الأمر؛ ليكون آدم وهو في الجنة ليس من أهلها، حتى يتم خروجه منها.
وقد برروا قولهم ببدعة الكفارة بأن الخطيئة خطأ في حق الله «المطلق»، فلابد أن تكون للكفارة طبيعة «مطلقة» ولها نفس صفة الإطلاق التي للحق الإلهي..!
لذا لزم أن تكون الكفارة هي ابن الله.. تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا..!
وكون المعصية خطأ في حق الله.. فهذه حقيقة..
ولكن الإسلام يعالج الفارق بين الحق المطلق لله في طاعة البشر، وبين مقتضى الطبيعة البشرية التي خلقها الله بهذا الضعف وتَحْدُثُ بها المعصية..
فجاء في حق الله المطلق قوله سبحانه: {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} [آل عمران: 102]..
وجاء في بلوغ حد الاستطاعة البشرية في طاعة الله قوله سبحانه: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16].
روى البخاري عن مرة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (({حَقَّ تُقَاتِهِ}: أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر))(1) وقال ابن عباس: هو ألا يُعصى طرفة عين.
قال القرطبي: (ذكر المفسرون أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله، من يقوى على هذا؟ وشق عليهم، فأنزل الله عز وجل: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]).
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (7/106).(1/221)
فلابد من اعتبار مقتضى الطبيعة البشرية في المعصية، مع اعتبار حق الله المطلق في الطاعة.
وليس في اعتبار الطبيعة البشرية أي تأثير في الإيمان بحق الله المطلق، بل إن الإسلام يؤكد ويرسخ الإيمان بهذا الحق ابتداءً..
فعندما يبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الملائكة يظلون ساجدين لله منذ خلقهم، ثم يقولون يوم القيامة: ((سبحانك.. ما عبدناك حق عبادتك))(1) فإن هذا يؤكد حق الله المطلق في العبادة، ويؤكد اعتبار حد الاستطاعة في القيام بحق الله المطلق.
وعندما يبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن حملة العرش أربعة، لا قول لهم منذ خلقهم الله إلا الذِّكر: (اثنان يقولان: سبحانك على حلمك بعد علمك.. واثنان يقولان: سبحانك على عفوك بعد قدرتك) فإن هذا يؤكد حق الله المطلق في الذِّكر.
ولذلك جاء بعد تقرير وحدانية الله.. الأمر بالاستغفار: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك} [محمد: 19]..
كما جاء في دعاء سيد الاستغفار: ((اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت))(2).
ومن هنا كان الاستغفار والتوبة هما اللذان يؤكدان حق الله على الناس، رغم ضعفهم وعجزهم عن استيفاء حق الله المطلق عليهم.
__________
(1) المستدرك (4502).
(2) البخاري (5947).(1/222)
وفي حكم الظهار.. يجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حق الله واعتبار الاستطاعة البشرية بصورة معجزة: حَدَّثنا أبو سلمةَ ومُحَمَّدُ بنُ عبدِ الرَّحمَنِ؛ أنَّ سلمانَ بنَ صخرٍ الأنصاري، أحدَ بني بياضَةَ، جعلَ امرأتهُ عليهِ كظهرِ أمِّهِ حتىَّ يمضيَ رمضانُ. فلمَّا مضى نصفٌ من رمضانَ وقعَ عَليها ليلًا، فَأتى رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فذكرَ ذلكَ له، فقال لهُ رَسولُ اللَّهِ: ((أعتقْ رقبةً)) قال: لا أجدُها، قال: ((فصمْ شهرينِ متتابعينِ)) قال: لا أستطيعُ، قال: ((أطعمْ ستينَ مسكينًا)) قال: لا أجدُ، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لفروَةَ بنِ عمرٍو: ((أعطهِ ذلكَ العرقَ، وهو مكتلٌ يأخذُ خمسةَ عشرَ صاعًا أو ستَّةَ عشرَ صاعًا، إطعامَ سِّتين مسكينًا))، وفي رواية: ((خُذْهُ وتَصَدَّق بِهِ عَلَى نَفْسِك)).
والتصور الإسلامي لقضية الكفارة هو الذي يبطل مفهومها عند النصارى، وذلك من خلال الأحكام الثابتة فيها:
الأول: حكم التناسب بين الخطأ والكفارة
مثلما ورد في كفارة قتل الصيد في الحرم: {ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام} [المائدة: 95].
والذي يدل على التناسب هو قول الله: {مثل ما قتل من النعم}، وقول الله: {يحكم به ذوا عدل}، وحتى عندما تكون الكفارة صيامًا قال الله: {أو عدل ذلك صياما}.
وبحكم التناسب بين الخطأ والكفارة يثبت بطلان الكفارة عن معصية آدم.. بصلب ابن الله الوحيد..!(1/223)
والقرآن يُثبت أن التناسب بين الخطأ والكفارة حكمٌ واردٌ في التوراة المنزَّلة من عند الله سبحانه وتعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون* وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} [المائدة: 44-45].
فالقصاص هو الكفارة.. لدرجة أن التناسب يبلغ درجة التطابق التام: {النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص}.
ولكن النصارى يحاولون معالجة الخلل الناشئ عن فقد التناسب بين حجم الخطأ وحجم الكفارة بقولهم: إن خطيئة آدم ليست كأي خطيئة؛ لأنها كانت أول خطيئة في حق الله، وهذا قول باطل.. لأن خطيئة إبليس سبقت خطيئة آدم، وكانت في حق الله أيضا..!
والخطأ في حق الله لا فرق فيه بين آدم وإبليس، فكلاهما متعلق بالله صاحب الحق، وليس متعلقًا بمن أخطأ..!
والعجيب أن قتل ابن الله الوحيد!! كخطيئة تحتاج بذاتها إلى كفارة أكثر من أي خطيئة أخرى.. ولكن حسب التصور النصراني.. فإنها ظلت.. بلا كفارة..!!!
وكما لم يكن هناك تناسب بين الذنب والكفارة المزعومة.. لم يكن هناك تناسب بين الكفارة المزعومة وأثرها المزعوم هو الآخر..
فما الذي حدث لليهود عندما قتلوا ابن الله الوحيد..؟!
إن النصارى يفسرون حادثة الصلب بأنها: (من الرومان جهالة، ومن اليهود عقوبة وغضبًا)..(1/224)
وعندما يحاول النصارى أن يصوروا أن شيئًا ما حدث فإنهم لا يستطيعون ادعاء أن هذا الشيء الذي حدث يناسب تلك الجريمة، حتى لو قالوا: إن الهيكل قد انشق وأن السماء قد اسودَّت..!! فهذا ما لا يتناسب بأي شكل مع الجريمة..!
فما هو الذي يعنيه قتل ابن الله الوحيد إذا كان ما ترتب عليه مجرد أن ينشق الهيكل أو أن تسود السماء..؟!
وقارِن هذا الثمن الرخيص لقيمة «ابن الله» -حسب زعمهم- بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لزوالُ الدنيا أهونُ على الله مِنْ قَتلِ مؤمنٍ بغير حق)).. أيَّ مؤمن..!!
الثاني: اختصاص وجوب الكفارة على مُرتكب الخطأ
يقول عز وجل: {ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام} [المائدة: 95].
فقد شرع مبدأ الكفارة ليذوق المخطئ عاقبة خطئه؛ فيكون العدل في الجزاء، والردع في التقويم.
أما أن يخطئ آدم فيصلب المسيح فليس ذلك من العدل والحكمة في شيء..!
وللهروب من هذا المأزق قالوا: (إن المسيح جاء في صورة إنسانية ليكون نائبًا عن البشر في كفارة خطيئة آدم).. وهو ما ينشئ تناقضًا جديدًا..!
إذ إن الكفارة بالصلب الواقع على الصورة الإنسانية المخطئة «المسيح» تمت من خلال أداة إنسانية أيضًا وهم «اليهود»..!!
وبذلك تبددت فكرة الرمزية في الكفارة، بل تضاعف معنى الخطيئة الإنسانية، باعتبار أن الكفارة جعلت الإنسان نفسه هو القاتل لابن الله الوحيد!! وخصوصًا إذا قِيس «الذنب» وهو خطيئة الأكل من الشجرة إلى «الكفارة» وهي قتل ابن الله الوحيد..!
وبهذا المنطق المتناقض كان الفداء «الإنسان الصورة» وهو المسيح -حسب زعمهم- وكان السبب والأداة «الإنسان الحقيقة» وهم اليهود.(1/225)
وإذا كانت المسألة من أساسها هي أن يكون الفداء في صورة إنسان لتحقيق الرمزية في الكفارة فإنه من الضروري أن لا يتجاوز الحدث حد الرمزية، فيأتي إنسان من غير ولادة، أو تحْمَل مريم وتضع مولودًا في أقل وقت ممكن مثلما يحدث لأهل الجنة..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسِنُّه في ساعة كما يشتهي))(1).
أما أن يبقى «الله» أو «ابن الله» في المشيمة.. في بطن مريم.. تسعة أشهر.. ثم يأتي المخاض والولادة.. ليولد بعد أن كان نطفة ثم علقة ثم مضغة.. فهذا أمر خارج عن كل حدود الرمزية بل حدود العقل ومقتضى الإيمان..!
وخصوصًا أن الرمزية تتحقق بمجرد الصورة.. لا بالحقيقة ذاتها..
الثالث: المناسبة الزمنية بين وقت الخطأ ووقت الكفارة
مثلما ورد في حكم الظهار: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير* الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور* والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير* فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم } [المجادلة: 1-4].
والذي يدل على التناسب الزمني بين الخطأ والكفارة هو قول الله: {من قبل أن يتماسا}.
والنصوص التي تقرر أن عقوبة المخطئ فورية: (فموتا يموت) مما يدل على استحقاق الموت فور وقوع الخطيئة.. فلماذا إذن لم يقع الموت أو تُنَفَّذ الكفارة فور وقوع الخطيئة..؟!
لقد كان من المفروض حسب هذا التصور أن يقع الموت فورًا أو الكفارة فورًا..
__________
(1) رواه الترمذي بسند حسن(1/226)
ورغم أن الخطيئة حدثت في أول الزمان فإن الكفارة لم تتم إلا عندما اقترب الزمان من نهايته..!
والتصور الإسلامي الصحيح للكفارة يتضمن حقيقة الفورية، أي: إن توقيت الكفارة لابد أن يكون مرتبطًا بزمن المعصية.
فما هي المناسبة الزمنية بين خطيئة آدم في الجنة وبين زمن الكفارة بصلب المسيح؟!
إن انقطاع المناسبة الزمنية بين الخطأ والكفارة يترتب عليه آثار خطيرة للغاية، ويثير قضية لا مفر من مواجهتها، وهي حكم من مات من البشر قبل المسيح، ولم يبلغه أمر الصلب..!
والحقيقة: إن النصارى لا يملكون أي تصور يعالج هذه القضية، بل إنهم يقولون فيه قولًا أشد خطرًا من القضية ذاتها، حيث يقولون: إن البشر الذين ماتوا قبل المسيح سيدخلون الجحيم.. بما في ذلك الأنبياء!! بل إنهم يدَّعون أن أمر الصلب قد جاء في التوراة..!!
وبذلك تتضاعف خطورة القضية؛ إذ كيف يدخل البشر -بما فيهم الأنبياء- الجحيم بغير ذنب فعلوه..؟!!
ثم تأتي محاولة تخفيف خطر مقولتهم بقولهم: (على رجاء القيامة) أي: إنهم سيخرجون من الجحيم بواسطة المسيح، وبهذا القول يثبت أن النصارى لا يعلمون حقيقة الجحيم الذي سيبقى فيه البشر، حتى ولو أخرجهم المسيح بعد ذلك بحسب زعمهم..!
ويبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا معنى أن يدخل إنسان النار فيقول: ((يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من الكفار، فيقال: اغمسوه في النار غمسة.. فيغمس فيها، ثم يقال له: أي فلان! هل أصابك نعيم قط؟ فيقول: لا ما أصابني نعيم قط..!)).
بل إن النصارى يعتقدون أن كل الكتب المنزلة قد ذكرت قضية الصلب، وبذلك لزم الإيمان بالصلب حتى قبل حدوثه..!
وعندما تسأل عن هذه النصوص، فإنهم يقولون أن أمر الصلب قد جاء بأسلوب الإشارات..!
وهنا يكون الخطأ الخطير.. أن يكون التعبير عن القضية التي يذهب بها البشر إلى الجحيم.. مجرد إشارات..!!(1/227)
وهنا يأتي العنصر الرابع للتصور الإسلامي عن قضية الكفارة، وهو التناسب بين الكفارة ومستوى البلاغ عنها.. لتكون عناصر الخلل في مسألة الكفارة هي فقد عناصر التصور الصحيح:
- فقد التناسب في المقارنة بين الخطيئة والكفارة.
- فقد التناسب بين شخص المخطئ ومستوجب الكفارة.
- فقد التناسب الزمني بين وقت الخطيئة ووقت الكفارة.
- فقد التناسب بين الكفارة ومستوى البلاغ عنها.
لكن التصور الإسلامي لا يكتفي بهذه العناصر في تحديد العلاقة بين خطيئة آدم وقضية الكفارة، بل إنه يثبت حقيقة الكفارة قبل حدوث المعصية، حتى لا يكون مفهوم الكفارة مرهونًا بالخطيئة، وسياق آيات سورة «ص» يدل على ذلك، يقول الله عز وجل: {رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار* قل هو نبأ عظيم* أنتم عنه معرضون* ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون* إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين* إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين* فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين* فسجد الملائكة كلهم أجمعون* إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين} [ص: 66-74].(1/228)
فالآيات تثبت من البداية اسم الله: «العزيز الغفار» وقد اتفقنا أن العزة هي تمام القدرة، التي لا تنافيها -بل تثبتها- صفة المغفرة، ثم يذكر قضية الكفَّارات قبل سياق قصة آدم، {ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون}، وفي تفسير هذه الآية يروي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رب العزة تبارك وتعالى قد ناداه في الرؤيا فقال: ((يا محمد، قلت: لبيك رب! قال: فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟! قلت: في الكفارات، قال: ما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في المكروهات، قال: ثم فيم..؟! قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة بالليل والناس نيام، قال: سل.. قل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقرب إلى حبك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها حق فادرسوها.. ثم تعلموها))(1).
وهنا تذكر الآيات قصة خلق آدم، وموقف استكبار إبليس عن السجود، وبذلك يثبت ترتيب الآيات، أن قضية الكفارة سابقة لقضية خلق آدم أصلا؛ لتعلقها بعدل الله وحكمته، وعزته ومغفرته، وليست ناشئة عن معصية آدم.
تناقضات فكرة الكفارة في النصرانية المحرفة
تناقض الكفارة مع معنى العزة الإلهية
قال الله عز وجل على لسان عيسى عليه السلام: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } [المائدة: 118].
عَقَّب بـ «العزيز الحكيم» على المغفرة حتى يُفْهَم أن المغفرة بعزة -وهي تمام القدرة- وحكمة وهي تمام العلم.
وهذا المعنى هو الذي يكشف الخطأ في الكفارة بالصلب؛ لأن الصلب يتنافى مع قدرة الله على المغفرة.
والكفارة عند النصارى لا تتعارض فقط مع معنى العزة؛ بل تناقضها..!
__________
(1) صحيح سنن الترمذي (2582).(1/229)
فإنزال الابن الوحيد! للصلب.. أمرٌ في الأساس لا يُرضي الله؛ لذلك يكون إنزال هذا الابن قد فعله الله دون رضاه، وهذا هو معنى الاضطرار، وهو ما يناقض معنى العزة الإلهية، فالعزة تمام القدرة.. والله قادر على أن يغفر خطيئة آدم دون أن يترك اليهود وهم أعداؤه ليصلبوا ابنه الوحيد..!!
كما يحكم المنطق بأن الفداء فعلٌ يلجأ إليه العاجز عن تغيير الواقع بقوته، لتغييره بإتلاف نفسه..!
ومع أن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فقد قال المسيح: {إن تعذبهم} {وإن تغفر لهم} تفويضًا للأمر إلى الله عز وجل بصورة مطلقة من أي اعتبار، حتى لو كان اعتبارًا صحيحًا مثل اعتبار أن الله لا يغفر الشرك..
تناقض الكفارة مع معنى الرحمة
فعندما أراد الله أن يبتلي إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل توقف البلاء عند حد تحقيق معنى التصديق، وهذا هو الذي يفسر اعتبار الرحمة في قدر الله ومشيئته، بحيث لم يغلب مقتضى الابتلاء على مقتضى الرحمة: (ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه، فناداه ملاك الرب من السماء وقال: إبراهيم، إبراهيم، فقال: هأنذا؟ فقال: لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئًا؛ لأني الآن علمت أنك تخاف الله، فلم تمْسِك ابنك وحيدك عني، فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممسَكا في الغابة بقرنيه، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضًا عن ابنه) [تكوين22/10-13].
أما البيان المحكم والحق المبين فيقول: {فلما أسلما وتله للجبين* وناديناه أن يا إبراهيم* قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين} [الصافات: 105].
فلم يتجاوز البلاء حد التصديق إلى الذبح؛ لأن الله أرحم من أن يجعل إبراهيم يذبح ابنه، فكيف جعل الله اليهود يعذبون ويصلبون ابنه «هو»..!!
وإذا كانت الكفارة بصلب المسيح رحمةً البشر.. فأين الرحمة بالمسيح؟!
لكن الكتب المحرفة تذكر أن الله لم يشفق على ابنه!!..(1/230)
(لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) [يوحنا: 3-16].
فهل أحبَّ الله العالم أكثر من ابنه..؟!
ومن عبارة (بذل ابنه الوحيد) نلاحظ معاني الشفقة والتضحية.. وهو ما يثبت معنى الاضطرار..
لأن الشفقة هي من أمرٍ واجب.. ومعناها اضطرار..
والبذل هو التضحية بالمحبوب.. وفعله اضطرار..
أمَّا المحبة الحقيقية من الله للبشر.. فقد كانت مغفرة الله خطيئة آدم وتوبته عليه، قبل أن ينزل إلى الأرض، بغير اضطرار..!!
تناقض الكفارة مع معنى الحب
إن طرح العلاقة بين الله سبحانه وتعالى وبين الإنسان عند النصارى فيه إهدار كبير لحق الله عز وجل.. إذ ابتدعوا للحب الإلهي صورًا باطلة..
فمن أجل الإنسان.. ينزل الابن الوحيد، ويُصلب، ويوضع الشوك على رأسه، وتدق يديه ورجليه بالمسامير، ويشرب الخل، ويضرب بالحربة في جنبه..!!
هذه الصورة الدرامية المؤثرة لا تمثل الموقف الإلهي؛ لسبب بسيط، وهي أنها صورة متكررة في مجال الصراع بين الحق والباطل، وأقرب مثال لها ما كان مع أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام فيما رواه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إلقائهم في النار وهم أحياء، ونشرهم بالمنشار من مفرق رءوسهم إلى أسفل أقدامهم.
لكن التصور الإسلامي يحدد العلاقة بين الله والإنسان بكمال وتمام الحب والمودة، فيقول الله سبحانه: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} [المائدة: 119].
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((يا أبا بكر، إن الله راضٍ عنك، فهل أنت راضٍ عنه؟)).
ويقول الله سبحانه: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا } [مريم: 96].
تناقض الكفارة مع معنى العدل(1/231)
وإذا كانت الكفارة بصلب المسيح لأجل معصية آدم، فإن جميع البشر لابد أن يستفيدوا من هذه الكفارة بصفتهم أبناء آدم الذي نزل المسيح ليصلب ويكفر عنهم خطيئة أبيهم، دون شرط اعتقاد عقيدة الصلب؛ لأن الاستفادة من الكفارة ليس باعتقادها ولكن بمجرد حدوثها، وبصفات البنوة لآدم تكون الاستفادة من الكفارة، وبذلك يسقط شرط اعتقاد عقيدة الصلب لتحقيق الكفارة.
وهذه المسألة من أخطر مسائل الخلاف عند النصارى، إذ يعتقد بعضهم أن الصلب كفارة عن الجميع بصفتهم أبناء آدم، ويستند على قول بولس: (فإذًا كما بخطية واحد صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة، هكذا بِبِرٍّ واحدٍ صارت الهبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة) [رو 5: 18] فقالوا: إن معنى هذا هو كما أن جميع الناس يُدانون بمعصية آدم كذلك جميع الناس يتبررون ببر المسيح. وهكذا فسروا قوله: (كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيُحيا الجميع) [1كو 15: 22].
وللرد يقول البعض الآخر منهم: (لابد من تقييد معنى «جميع» في هذين النصين، فإن جميع الذين يموتون هم الذين في آدم، وجميع الذين يحيون هم الذين في المسيح) [اللاهوت النظامي].
ولم يقل لنا: لماذا هذا التفريق بين الذين يموتون والذين يحيون، ولا على أي أساس قام..؟!
والمسألة بمنتهى البساطة -بحسب قولهم- أننا ورثنا خطيئة آدم -وبحسب قولهم أيضًا- أن المسيح نزل وكفَّر هذه الخطيئة؛ وبذلك يكون كل إنسان وارث للخطيئة ووارث لكفارة الخطيئة، فلايلزم اعتقاد الصلب للاستفادة من كفارة الخطيئة.(1/232)
ثم يقولون: (إن البشر اشتركوا في خطية آدم؛ لأنهم كانوا فيه حقيقةً، وأرادوا! وفعلوا كل ما أراد هو وفعل، وسُمِّي هذا المذهب بمذهب «الجوهر العام» لأنه يعتقد أن كل البشر جوهر واحد، وأن كل فرد منهم هو جزء من ذلك الجوهر البشري العام، يشترك مع جميع الأفراد في حياة واحدة. وبموجب هذا الرأي تكون خطيئة آدم خطيئتنا نحن أيضًا؛ لأننا ارتكبناها بالفعل! وقد حُسِبت علينا باعتبارها خطيئتنا، لا باعتبارها خطية آدم فقط!!
ولكنهم لم يسألوا أنفسهم: كيف أخطأنا ونحن على هيئة الذر في صورة آدم، وهل الذر مكلف..؟!
وهم أيضًا لم يطبقوا هذه النظرية على كل البشر، بحيث يتوارثون جميعًا أخطاء آبائهم بانتظام، كما حدث في حالة آدم..! إنها سلسلة لا نهائية من الخطايا..!
وهكذا اختلت عقولهم، فأدخلوا البشر جميعًا تحت مظلة المعصية، دون أي منطق أو عدل، ثم أخرجوا كل من لم يؤمن ببدعة الصلب والفداء من تحت مظلة الاستفادة من الكفارة، دون أَيِّ اعتبار لمعنى العدل لا في الدخول ولا في الخروج..!
إبليس والنصرانية-تصور نهائي
النصرانية صنعة إبليس، وخصائصها من أعماله، وطقوسها من وحيه..
والربط الدقيق بين هذه الخصائص وتلك الأعمال هو الذي يحدد التفسير الإسلامي لأدق المظاهر النصرانية، حيث يتأكد بالتقييم الأساسي للواقع الصليبي أنه واقع شيطاني خطير.
ويمكن إثبات هذه الحقيقة ببساطة متناهية بحيث لا يتطلب الأمر إلا تفكيرًا قليلًا في مظاهر هذه الديانة؛ لنجد أن هذه المظاهر في مجموعها تمثل أهم الأسباب التي تحضر بها الشياطين وتمتنع بها الملائكة..(1/233)
ويجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أدوات النصرانية كلها في سياق واحد فيقول: ((إن الله تعالى بعثني رحمةً للعالمين وهدى للعالمين، وأمرني ربي عز وجل بمحق المعازف والمزامير والأوثان والصُّلَب وأمر الجاهلية، وحَلَفَ ربِّي عز وجل: بعزتي لا يشرب عبد من عبيدي جرعة خمر إلا سقيته من الصديد مثلها.. ولا يتركها من مخافتي إلا سقيته من حياض القدس)(1).
«الصليب» بعد أن فهمنا المعنى الأساسي للصليب عند إبليس -باعتباره نقض لأمر الله وهداه- نستطيع أن نفهم هذا الإصرار الغريب على نشر هذا الشكل البغيض، كأساس فني لأشكال المباني ونقوش الأقمشة والمفروشات والملابس، ليملأ حياة الناس بهذا الشكل شيطنة وتسلطًا.
وبنفس المنطق الذي فُرِض به عجل السامري.. تفرض الصليبية شكل الصليب..
فكما صنع السامري العجل لليهود من الذهب فانعكس التعظيم النفسي للمعدن على العجل، كذلك يُصنع الصليب من الذهب لتكون له قيمة مادية، فتقبله النفوس وتعظمه..
وكما ربط إبليس بين الصليب والعبادة تقابلا مع ارتباط الصراط بالعبادة.. كان الربط بين الصليب والنصر تقابلا مع الارتباط بين الصراط والنصر، فيذكر صاحب قصة الحضارة: (أن قسطنطين حارب أعداءه وانتصر عليهم بعد أن زحف على روما بسرعة ونظام عسكري، وفي إحدى المعارك شاهد صليبًا ملتهبًا في السماء، وعليه عبارة معناها: «بهذه العلامة أنتصر»، وفي صباح اليوم التالي رأى قسطنطين فيما يرى النائم أن صوتًا يأمره بأن يرسم الجنود علامة الصليب على دروعهم، ففعل ذلك، وخاض معركة خلف لواء عرف باسم «اللبارم» رسم عليه الحرفين الأولين من لفظ «المسيح» يربطهما صليب).
وهكذا كان الصليب الذي جعلوه شعارًا مقدسًا لهم، على الرغم من أن الشعار المقدس الأول للنصارى كان هو السمكة، حيث وجد محفورًا على شواهد قبور المسيحيين الأوائل.
__________
(1) ضعفه ابن عدي (الكامل في الضعفاء: 7/315) والألباني (مشكاة المصابيح: 3580).(1/234)
ومنذ أن بدأ قسطنطين القتال تحت لواء الصليب ظل النصارى على هذا الأمر حتى آخر الزمان، حيث سيكون سبب الملحمة التي ستكون بين المسلمين والنصارى في آخر الزمان أن أحدهم سيرفع الصليب ويقول: (بهذا غلبنا) كما جاء في الحديث.
«الخنزير» والخنزير هو قرين الصليب في عداء المسيح إلى آخر الزمان كما قال صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية))(1) لتنتهي بيد المسيح أفظع بدعة في التاريخ.
والخنزير هو المخلوق المقترن بعبدة الطاغوت في المسخ، بدليل قول الله سبحانه: {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل} [المائدة: 60].
والخنزير هو الطعام المفضل لدى النصارى عامة والروم خاصة، حتى أصبح دليلًا عليهم.
«التماثيل والصور» وهي السمة البارزة في هذه الديانة، ارتكازا على إدراك النفس البشرية في أعمال الشيطان، فيتم اختيار المناظر التي يشيعونها بين الناس، بحيث تكون مشحونة بمؤثرات نفسية طبيعية: الصورة التي يدعون أنها المسيح مصلوبًا، الأم مريم تحتضن المولود عيسى.. مناظر لا يملك الإنسان العادي حين يراها إلا أن يتأثر باعتبار نفسي بحت.. ولكن الصور تمنع الملائكة..!
عن مسلم بن صبيح قال: كنت مع مسروق في بيت فيه تماثيل، فقال مسروق هذا تماثيل كسرى.. عبد الله بن مسعود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون.. إن المكان الذي فيه صورة لا تدخله الملائكة))(2).
__________
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (121/5) ومسلم (155) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) مسلم (2109).(1/235)
«التقويم الميلادي ويوم الأحد» ترجع بداية التقويم الميلادي إلى عام 4242 قبل الميلاد، حيث كان كهنة معبد هيليوبوليس الذين كانوا يعبدون الشمس هم الذين ابتدعوه، أما يوم الأحد فإنه لما انتشرت بدعة المانوية في بقاع الدولة الرومانية بعد ظهور المسيحية ونافستها أشد منافسة في آسيا الصغرى وبلاد الروم من آسيا وأوربا، وامتلأت معاهد البدعتين بالكلام عن الشيطان، استصوب أناس من آباء الكنيسة أن ينتزعوا شعائر عباد النور، فجعلوا يوم الأحد (1) يوم الأسبوع المختار؛ لأنه كان مخصصًا لعبادة الشمس، وجعلوا اليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر يوم الميلاد؛ لأنه كان يومًا ينصرف فيه الصليبيون إلى سهرات الوثنيين، لاعتقاد هؤلاء أنه اليوم الذي ينقص فيه الليل ويطول النهار.. وهو ما يعني بالنسبة لهم انتصار النور على الظلام.
وقد كان يوم الجمعة هو اليوم الذي اختاره الله لليهود والنصارى، إلا أنهم ضلوا عنه واختاروا غيره، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على الجمعة التي هدانا الله لها، وضلوا عنها))(2).
«الجرس» وهو الصوت الذي تحضر به الشياطين، فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن مع كل جرس شيطانًا))(3) وروى الإمام أحمد عن أُمِّنا عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن الجرس: ((إن له تابعًا من الجن))(4).
__________
(1) يسمى بالإنجليزية: Sunday أي يوم الشمس.
(2) رواه أحمد (6/134، 135)، قال الأرناءوط: سنده حسن، وله شواهد في الصحيح وغيره.
(3) سنن أبي داود (4230).
(4) ضعيف، أخرجه أحمد في مسنده (152/6) من طريق مجاهد عن مولى لعائشة عنها رضي الله عنها، وسنده ضعيف لجهالة مولى عائشة..(1/236)
وهو أيضًا: الصوت الذي تنفر منه الملائكة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصحب الملائكة رفقة كلب ولا جرس))(1).
«الكهانة» وهي الرئاسة في الكفر، وهي متحققة من خلال العلاقة التقليدية بين الفرد الصليبي والقساوسة، الذين تتنزل عليهم الشياطين، كما قال مجاهد في تفسير قول الله عز وجل: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا} [النساء: 60] قال: كهان ينزل عليهم الشيطان.
وقد بلغت درجة سيطرة القساوسة على النصارى أن جعلوا لكل فرد قسيسًا، يعترف له بخطاياه، ويستودعه أسراره.
«السحر» وهو أسلوب صليبي قديم.. يقول ابن كثير في السيرة النبوية: (إن أبرهة بنى كنيسة، كل من أخذ حجرًا منها أصابته.. لأنه بناه باسم صنمين).
ويقول ابن خلدون في المقدمة: (وإن أعظم الناس في السحر هم أهل بابل وأقباط مصر).
وارتباط الصليبية بالسحر فكرة حركية خطيرة؛ لأن الصليبية قضية لا يمكن استيعابها عقلًا، فكان لا بد من أن تدخل إلى الكيان الإنساني بمؤثرات غير عقلية، ومن أهمها السحر.. باعتباره تأثيرًا غير عقلي.
كيد الشيطان بالأساليب الصليبية..
يقول الإمام ابن تيمية: (والخوارق التي تُضِلُّ بها الشياطين بني آدم -مثل تَصَوُّر الشيطان بصورة شخص غائب أو ميت ونحو ذلك- ضل بها خلق كثير من الناس من المنتسبين إلى المسلمين أو إلى أهل الكتاب وغيرهم، وهم بَنَوْا ذلك على مقدمتين:
إحداهما: أن من ظهرت هذه على يديه فهو وليٌّ لله، وبلغة النصارى هو قديس عظيم.
__________
(1) أخرجه مسلم (2113) عن أبي هريرة بلفظ: ((لا تصحب الملائكة رفقة كلب ولا جرس)).(1/237)
الثانية: أن من يكون كذلك فهو معصوم، فكل ما يخبر به فهو حق، وكل ما يأمر به فهو عدل. وقد لا يكون ظهرت على يديه خوارق لا رحمانية ولا شيطانية، ولكن صَنَعَ حيلة من حيل أهل الكذب والفجور -وحيل أهل الكذب والفجور كثيرة جدًّا- فيظن أن ذلك من العجائب الخارقة للعادة.. ولا يكون كذلك، مثل الحيل المذكورة عن الرهبان، بُهتَانِيٌّ ليس فيه شيء من كرامات الصالحين.
فالملحدون المبدلون لدين الرسل -دين المسيح أو دين محمد صلى الله عليه وسلم- هم كأمثالهم من أهل الإلحاد والضلال الكفار المرتدين والمشركين ونحوهم.. كمسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، والحارث الدمشقي، وبابا الرومي، وغيرهم ممن لهم خوارق شيطانية.
والصالحون لهم كرامات مثل كرامات صالحي هذه الأمة، ومثل كرامات الحواريين، وغيرهم ممن كان على دين المسيح، لكن وجود الكرامات على أيدي الصالحين لا توجب أن يكونوا معصومين كالأنبياء، لكن يكون الرجل صالحًا وليًّا لله وله كرامات، ومع هذا فقد يغلط ويخطئ فيما يظنه، أو فيما يسمعه ويرويه، أو فيما يراه، أو فيما يفهمه من الكتب.(1/238)
ولهذا كان كل من سوى الأنبياء يُؤخذ من قولهم ويُترك بخلاف الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، فإنه يجب تصديقهم في كل ما أخبروا به من الغيب، وطاعتهم في كل ما أمروا به؛ ولهذا أوجب الله الإيمان بما أوتوه ولم يوجب الإيمان بجميع ما يأتي به غيرهم، قال تعالى: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [البقرة: 136]، وقال تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} [البقرة: 177]؛ ولهذا اتفق المسلمون على أن من كذب نبيًّا معلومَ النبوة فهو كافرٌ مرتد، ومن سَبَّ نبيًّا وجب قتله، بل يجب الإيمان بجميع ما أوتيه النبيون كلهم، وألا نفرق بين أحد منهم.. فنؤمن ببعض ونكفر ببعض، قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا* أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا} [النساء: 150-151]، وليس هذا لأحد غير الأنبياء، ولو كان من رسل الأنبياء وكانوا من أعظم الصديقين المُقَدَّمين.
فَضَلال الضُّلال من هؤلاء مبنيٌّ على مقدمتين:
إحداهما: أن هذا له كرامة فيكون وليًّا لله..
والثانية: أن ولي الله لا يجوز أن يخطئ، بل يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليس لأحد من البشر أن يصدق في كل ما أخبر به ويطاع في كل أمر إلا أن يكون نبيًّا.
والمقدمتان المذكورتان قد تكون إحداهما باطلة، وقد يكون كلاهما باطلا..
فالرجل المُعَيَّن قد لا يكون من أولياء الله.. وتكون خوارقه من الشياطين..
وقد يكون من أولياء الله ولكن ليس بمعصوم، بل يجوز عليه الخطأ..
وقد لا يكون من أولياء الله ولا يكون له خوارق، ولكن له محالات وأكاذيب..!).(1/239)
ويقول الإمام ابن تيمية أيضًا: (وقد صنف بعض الناس مصنفًا في حيل الكهان، مثل الحيلة المحكية عن أحدهم في جعل الماء زيتًا، بأن يكون الزيت في جوفه المنارة، فإذا نقص صب فيها ماء؛ فيطفو الزيت على الماء، ويظن الحاضرون أن نفس الماء انقلب زيتًا.
ومثل الحيلة المحكية عنهم في ارتفاع النخلة، وهو أن بعضهم مرَّ بدير راهب أسفل منه نخلة، فأراه النخلة صعدت شيئًا حتى حازت الدير، فأخذ من رطبها ثم نزلت حتى عادت كما كانت، فكشف الرجل الحيلة فوجد النخلة في سفينة في مكان منخفض، إذا أرسل عليه الماء امتلأ حتى تصعد السفينة، وإذا صرف الماء إلى موضع آخر هبطت السفينة.
ومثل الحيلة المحكية عنهم في التكحل بدموع السيدة مريم، وهو أنهم يضعون كحلا في ماء متحرك حركة لطيفة، فيسيل حتى ينزل من تلك الصورة فيخرج من عينها فيُظن أنه دموع.
ومثل الحيلة التي صنعوها بالصورة التي يسمونها «القونة» بصيدنايا(1)، وهي أعظم مزاراتهم بعد القيامة وبيت اللحم، حيث ولد المسيح وحيث قبر -في زعمهم- فإن هذه هي صورة السيدة مريم، وأصلها خشبة نخلة سقيت بالأدهان حتى سمنت وصار الدهن يخرج منها مصنوعًا، يظن أنه من بركة الصورة.
ومن حيلهم الكثيرة التي يظن عوامهم أنها تنزل من السماء في عيدهم في قمامة، وهي حيلة قد شهدها غير واحد من المسلمين والنصارى ورأوها بعيونهم، أنها نار مصنوعة يضلون بها عوامهم؛ يظنون أنها نزلت من السماء ويتبركون بها، وإنما هي صنعة صاحب مِحال وتلبيس).
و(مثل ذلك كثير من حيل النصارى، فجميع ما عند النصارى المبدلين لدين المسيح من الخوارق إما حيل شيطانية، وإما حيل بهتانية، ليس فيها شيء من كرامات الصالحين)(2).
__________
(1) هكذا وردت بالأصل: «القونة»، والصواب: أيقونة، وصيدنايا قرية سورية بها دير أثري ينسب للإمبراطور البيزنطي يوستنيانوس الأول.
(2) كتاب «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» فصل حيل الرهبان.(1/240)
وقد أورد ابن كثير(1) حكاية عن بعض الرهبان، وهو (أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ضعيف الحركة، فإذا سمعته الطيور ترق له فتذهب فتلقي في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به، فعمد هذا الراهب إلى صنعة طائر على شكله، وتوصل إلى أن جعله أجوف، فإذا دخلت الريح يسمع له صوت كصوت ذلك الطائر، وانقطع في صومعة ابتناها وزعم أنه على قبر بعض صالحيهم، وعلق ذلك الطائر في مكان منها، فإذا كان زمان الزيتون فتح بابًا من ناحيته، فتدخل الريح إلى داخل هذه الصورة فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضا، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئًا كثيرا، فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة، ولا يدرون ما سببه، ففتنهم بذلك وأوهمهم أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر. عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة).
ولا تزال حيلهم مستمرة حتى الآن، وإن تطورت تبعًا لتطور علوم التقنية، ومن أشهرها في العصر الحديث: الظهورات المزعومة للعذراء فوق الكنائس، وخرافة نقل جبل المقطم.
وإذا كانت هذه هي أساليب صليبية منذ عدة قرون..
وإذا كانت الجاهلية تجربة واحدة بدأها إبليس منذ معصيته، وسيظل قائما عليها إلى يوم الوقت المعلوم.. فماذا يعني التطور الطبيعي بهذه الأساليب وذلك الكيد..؟!
غير أن أخطر حيل الشيطان عند النصارى كانت.. ظهور المسيح أو قيامته المزعومة.
__________
(1) ابن كثير (211/1) تفسير يعلمون الناس السحر.(1/241)
يقول الإمام ابن تيمية عن اعتقاد النصارى بأن المسيح قد صُلب ومات، ثم قام بعد موته وظهر لبعض تلاميذه مرة أخرى: (والنصارى عندهم منقول في الأناجيل أن الذي صُلب ودُفن في القبر رآه بعض الحواريين وغيرهم بعد أن دُفن قام من قبره، رأوه مرتين أو ثلاثا، وأراهم موضع المسامير، وقال: لا تظنوا إني شيطان، وهذا إذا كان صحيحًا فذاك شيطانٌ ادعى أنه المسيح والتبس على أولئك، ومثل هذا قد جرى لخلق عظيم في زماننا وقبل زماننا، كنَاسٍ كانوا بـ «تدمر» فرأوا شخصًا عظيمًا طائرًا في الهواء، وظهر لهم مرات بأنواع من اللباس، وقال لهم: أنا المسيح ابن مريم، وأمرهم بأمور يمتنع أن يأمر بها المسيح عليه السلام، وحضروا إلى عند الناس وبينوا لهم أن ذلك هو شيطان أراد أن يضلهم..
وآخرون يأتي أحدهم إلى قبر من يعظمه ويحسن به الظن من الصالحين وغيرهم، فتارة يرى القبر قد انشق وخرج منه إنسان على صورة ذلك الرجل، وتارة يرى ذلك الإنسان قد دخل في القبر، وتارة يراه إما راكبًا وإما ماشيًا داخلا إلى مكان ذلك الميت، كالقبة المبنية على القبر، وتارة يراه خارجًا من ذلك المكان ويظن أن ذلك هو ذلك الرجل الصالح، وقد يظن أن قومًا استغاثوا به فذهب إليهم، ويكون ذلك شيطانًا تصور بصورته، وهذا جرى لغير واحد ممن أعرفهم..
وتارة يستغيث أقوام بشخص يحسنون به الظن؛ إما ميت وإما غائب، فيرونه بعيونهم قد جاء وقد يكلمهم، وقد يقضي بعض حاجاتهم، فيظنونه ذلك الشخص الميت، وإنما هو شيطان زعم أنه هو وليس هو إياه، وكثيرًا ما يأتي الشخص بعد الموت في صورة الميت فيحدثهم ويقضي ديونًا ويرد ودائع ويخبرهم عن الموتى، ويظنون أنه هو الميت نفسه قد جاء إليهم، وإنما هو شيطان تصور بصورته، وهذا كثير جدًّا لاسيما في بلاد الشرك كبلاد الهند ونحوها..(1/242)
وتارة يرى أحدهم شخصًا إما طائرًا في الهواء، وإما عظيم الخلقة، وإما أن يخبره بأشياء غائبة، ونحو ذلك، ويقول له: أنا الخضر..! ويكون ذلك شيطانًا كذب على ذلك الشخص..
وقد يكون الرائي من أهل الدين والزهد والعبادة، وقد جرى هذا لغير واحد..
وقد يرى أشخاصًا في اليقظة، إما ركبانًا وإما غير ركبان، ويقولون: هذا فلان النبي..! إما إبراهيم وإما المسيح وإما محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا فلان الصديق..! إما أبو بكر وإما عمر وإما بعض الحواريين، وهذا فلان لبعض من يعتقد فيه الصلاح، إما جرجس أو غيره ممن تعظمه النصارى، وإما بعض شيوخ المسلمين، ويكون ذلك شيطانًا ادعى أنه ذلك النبي أو ذلك الشيخ أو الصديق أو القديس..!
ومثل هذا يجري كثيرًا لكثير من المشركين والنصارى..
وكذلك ما رآه قسطنطين من الصليب الذي رآه من نجوم، والصليب الذي رآه مرة أخرى هو مما مَثَّلَه الشياطين، وأراهم ذلك ليضلهم به، كما فعلت الشياطين ما هو أعظم من ذلك بعُبَّاد الأوثان..
وكذلك من ذكر أن المسيح جاءه في اليقظة وخاطبه بأمور، كما يذكر عن بولس..
فإنه إذا كان صادقًا.. كان ذلك الذي رآه في اليقظة، وقال إنه: المسيح.. شيطانا من الشياطين كما جرى مثل ذلك لغير واحد..
والشيطان إنما يضل الناس ويغويهم بما يظن أنهم يطيعونه فيه، فيخاطب النصارى بما يوافق دينهم، ويخاطب من يخاطب من ضُلَّال المسلمين بما يوافق اعتقاده، وينقله إلى ما يستجيب لهم فيه بحسب اعتقادهم؛ ولهذا يتمثل لمن يستغيث من النصارى بجرجس في صورة جرجس، أو بصورة من يستغيث به النصارى من أكابر دينهم؛ إما بعض البطاركة، وإما بعض المطارنة، وإما بعض الرهبان، ويتمثل لمن يستغيث به من ضُلال المسلمين بشيخ من الشيوخ في صورة ذلك الشيخ.
والحِسِّيَّات إن لم يكن معها عقليات تكشف حقائقها، وإلا وقع فيها غلط كبير..!(1/243)
فالملائكة تظهر في صورة البشر كما ظهرت لإبراهيم ولوط ومريم في صورة البشر، وكما كان جبريل يظهر للنبي صلى الله عليه وسلم تارة في صورة دحية الكلبي، وتارة في صورة أعرابي، ويراه كثير من الناس عيانًا، وكذلك كما ظهر إبليس للمشركين في صورة الشيخ النجدي، وظهر لهم يوم بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فلما رأى الملائكة هرب، قال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48].
وروي عن ابن عباس وغيره قال: (تبدَّى إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من «مدلج»، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم، وأقبل جبريل عليه السلام على إبليس، فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده وولى مدبرا هو وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة..! أتزعم أنك لنا جار..؟! فقال: إني أرى ما لا ترون.. إني أخاف الله.. والله شديد العقاب).
قال ابن عباس: (وذلك لما رأى الملائكة) قال الضحاك: (سار الشيطان معهم برايته وجنوده وألقى في قلوب المشركين أن أحدًا لن يغلبكم وأنتم تقاتلون على دينكم ودين آبائكم).
وعند المشركين والنصارى من ذلك شيء كثير يظنونه من جنس الآيات التي للأنبياء، إنما هي من جنس ما للسحرة والكهان ومن لم يفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ويفرق بين معجزات الأنبياء وكرامات الصالحين، وبين خوارق السحرة والكهان ومن تقترن بهم الشياطين- وإلا التبس عليه الحق بالباطل، فإما أن يكذب بالحق الذي جاء به الأنبياء الصادقون، وإما أن يصدق بالباطل الذي يقوله الكاذبون والغالطون).
الفصل الثاني(1/244)
عوامل التحريف
تمهيد(1):
لما كانت معصية إبليس منطلقًا له في إضلال البشر كانت كذلك منطلقًا لكل عوامل هذا الإضلال والتحريف..
وقد اتفقنا أن إبليس هو مصدر التحريف، وبناء على ذلك نثبت أن انطلاق كل عوامل التحريف ناشئة عنه، وهذا هو التفسير..
كان الكبر هو البداية الحقيقية لمعصية إبليس، وكان الشعور بإمكانية الاستغناء عن الله هو البداية الحقيقية التي وسوس بها إبليس إلى آدم وحواء: {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} [طه: 120]..
ومن الشعور بالاستغناء عن الله يكون ادعاء الإنسان الفعل الإلهي لنفسه..
حتى أصبح الشعور بهذا الاستغناء هو بداية الطغيان البشري: {كلا إن الإنسان ليطغى* أن رآه استغنى} [العلق: 7].
وعندما يرى الإنسان نفسه مستغنيًا عن الله.. فإنه يدعي أفعاله، والكفر بالنعمة مثلا لا يكون فقط بإنكار مصدرها الإلهي.. بل بنسبتها إلى مصدر إنساني: {قال إنما أوتيته على علم عندي} [القصص: 78].
وعلى ذلك: فكل تحريف للحق يرتبط في شكله وصيغته بالحق نفسه؛ لأنه ليس تحريفًا في موضوع الحق، بل في وجهته، فالنعمة هي النعمة؛ لكن وجهتها تتغير من الله إلى الإنسان.
ولذلك أثبت القرآن مصدرية الخلق إلى الله، عن طريق إثبات عدم مصدرية الإنسان له؛ لأن الإنسان مفطور على أن أحدهما يستبدل الآخر: {أفرأيتم ما تمنون* أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} [الواقعة: 58-59].
{أفرأيتم ما تحرثون* أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} [الواقعة: 63-64].
{أفرأيتم الماء الذي تشربون* أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون} [الواقعة: 68-69].
{أفرأيتم النار التي تورون* أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون} [الواقعة: 71-72].
__________
(1) يراجع بالتفصيل كتاب نظرية في الغيبيات، للأستاذ/ يحيى رفاعي.(1/245)
ولذلك عندما انحرف اليهود.. لم يذكروا نعمة الله عليهم كمفضَّلين على العالمين, بل أصبح هدفهم الأول هو الانتقال بمصدر التفضيل من الله إلى اليهود أنفسهم, فكان «الاستكبار» هو جوهر اليهودية, وعلى الرغم من كثافة ظهور الأفعال الإلهية في واقع اليهود، إلا أنه غاب كليًّا في وجدانهم..!
ولما كان الحق في بعثة المسيح هو تبشير الله للإنسان بالرحمة الشاملة التي تمثلت في محمد صلى الله عليه وسلم كانت صيغة تحريف ذلك الحق هي اعتقاد الإنسان أنه هو الذي يبشر نفسه بالرحمة، وليس الله..
ومن هنا نشأت كل الأفكار المثيرة والمتطلبة للرحمة؛ فكانت فكرة الخطيئة، وقولهم: (أجرة الخطيئة موت) لتتطلب الرحمة..
كما نشأت كل البدع الزاعمة لتحقيق الرحمة بعد موجباتها، فجاء زعم الصلب والفداء لتحقق هذه الرحمة..!
وليستمر نفس المضمون الزاعم لرحمة الإنسان لنفسه في صورة آباء الكنيسة.. فكانت أسرار الكنيسة؛ ومنها سر الاعتراف وصكوك الغفران..!
وبذلك استغنى الإنسان النصراني عن رحمة الله برحمته لنفسه، ولم تعد الرحمة خارجية المصدر, وكذلك لم تعد الخطيئة عملًا عارضًا، بل اتحدت بالإنسان تمامًا، فأصبحت عندهم صفة جوهرية له.
وعلى الرغم من أن الخطيئة صارت مبدأ الاعتقاد المسيحي من الناحية المنطقية, إلا أنها من الناحية النفسية صارت نتيجة وليست مبدأ.. نتيجة أن الإنسان أصبح موكولًا بمهمة أن يرحم نفسه..!(1/246)
ليأتي بعد ذلك الانتقال بمبرر الرحمة إلى الإنسان المسيحي نفسه، ليجعل من جَلْدِ ذاته وإنكارها محورًا لمسيحيته, إنه يجعل نفسه مرحومًا لنفسه، أي: للكنيسة التي ورثت الشكل الإنساني للمسيح، فأصبحت هي عروس المسيح، الذي ورث بدوره الشكل الإنساني للإنسان المسيحي..!(1)
وكان أكبر أثر للتداخل بين الكنيسة والمسيح من جهة، والكنيسة والإنسان النصراني من جهة أخرى- أنه عندما انهارت الكنيسة في عصر النهضة الأوروبية -إثر قيام الثورة الفرنسية- انهارت الشخصية «المسيحية» وانتشر الإلحاد.
والفلسفة التحريفية النصرانية -من الناحية الواقعية- تبدأ من المسيح نفسه؛ لأن النصرانية المحرفة هي في الأساس تحريف لحقيقة المسيح.. المتمثلة في كونه «بُشرى»: {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد}؛ لذلك: يجب أن ننظر إلى وصف المسيح كمبشر بصورة أكثر عمقًا, فليست البشرى مجرد فعلٍ فَعَلَهُ المسيح, بل إن البشرى مستغرقة لوجوده كله كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى))(2).
والنبي محمد صلى الله عليه وسلم رحمة, وصفة الرحمة مستغرقة لوجوده كله أيضًا, بمعنى أنَّه صلى الله عليه وسلم ليس أشياء كثيرة منها الرحمة, بل إنه «ليس إلا رحمة»: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}, فالرحمة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم هي خاصية جوهرية, بحيث أن كل ما يتعلق بالنبي متعلق أساسًا بالرحمة ذاتها.
__________
(1) يقول المطران بولس يازجي: (إنّنا نضع على إنساننا الجسداني لباس المسيح، أي: نبني من كياننا البشريِّ كيانا إنسانيًّا مسيحيًّا قد تصوّر المسيح فيه، هذا هو عمل الكنيسة وهذه هي حقيقة حياتنا فيها، أن يتصوّر المسيح فينا، أي أن «نتمسحن». يسوع هو «الإله-الإنسان»، أي: الإله الذي أخذ صورتنا)..!
(2) حديث صحيح رواه أحمد والحاكم والبيهقي عن العرباض بن سارية، مشكاة المصابيح.(1/247)
وقد جعل الله لكل رحمة بشرى, بدليل: أن الله يرسل الرياح بوصفها «مبشرات» للمطر, والمطر حقيقةً هو رحمة الله: {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته} [الأعراف: 57]..
{ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته} [الروم: 46].
وكما تكون البشرى بالرحمة من بعد القنوط: {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد} [الشورى: 28] كانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بعد فترة من الرسل: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير} [المائدة: 19]..
فظهر كمال رحمة الله برسالة محمد صلى الله عليه وسلم مقابل كمال المقت الذي كان قبل الرسالة: ((إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم -عربهم وعجمهم- إلا بقايا من أهل الكتاب)) إثباتًا للتقابل بين الخير والشر، وللتناسب بين قدريهما.(1/248)
ومن هنا كان التوافق بين المسيح كبشرى للنبوة مع كل مبشرات النبوة الأخرى، وكان أهم هذه المبشرات.. الرؤية الصالحة، بدليل قول ابن عباس: (كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: ((أيها الناس، إنه لم يبقَ من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة.. يراها المسلم أو ترى له)) ثم قال: ((ألا إني نهيت أن أقرأ راكعًا أو ساجدًا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء.. فقمِن أن يستجاب لكم)) والملاحظة المنهجية في الحديث: ارتباط البشرى بالركوع والسجود، ولذلك جاءت البشرى لزكريا وهو: {قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى} [آل عمران: 39]، وكذلك جاءت البشرى لمريم بعد أمرها بالركوع والسجود: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين* ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه} [آل عمران: 43-45]
كما جاء تبشير «المؤمنين» بهذه الصفة: {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين} [التوبة: 112].
ومن دلائل التوافق بين البشرى وموضوعها يأتي التوافق بين المسيح كبشرى للنبوة، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم كرحمة، وأهمُّها:
1- التجانس: فالبشرى من جنس موضوعها، وكذلك كان التجانس بين المسيح ورسالة محمد عليهما الصلاة والسلام من حيث العالمية، فقد كانت مريم وابنها آية للعالمين، وكان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين.
وكذلك من حيث الكمال، حيث كان خلق عيسى من غير أب كمالا للتنوع الإنساني، وكانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كمالا للرسالات.(1/249)
2- الدلالة على كمال القدرة: فالبشرى مقدمة لتحقيق موضوعها دلالة على كمال القدرة الإلهية؛ ولذلك بشَّر الله يوسف بالنجاة وهو في ظلمات الجب: {فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} [يوسف: 15]..
ثم بشَّره بالتمكين، وهو عبد يُباع ويُشتَرَى: {وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث} [يوسف: 21]، إثباتًا لأن الله: {غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [يوسف: 21]..
وكذلك بشَّر أمَّ موسى وهي تلقيه في التابوت بأنه سيكون من المرسلين: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} [القصص: 7]..
وكذلك كانت بشرى عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم في وقت عم الكفر جميع أقطار الأرض؛ ليكون هو الماحي له: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين* ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين* يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون* هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} [الصف: 6-9].
ومن هنا تحقق التوافق والتجانس بين حقيقة المسيح وحقيقة الرؤيا، حتى أصبح كلاهما من أهم علامات الساعة، وأصبح قيام الساعة مرهونًا بهما: ((لا تقوم الساعة حتى يرى الرجل الرؤيا فتتحقق مثل فلق الصبح..)).. ((لا تقوم الساعة حتى ينزل المسيح..)).
ومن هنا كانت العلاقة بين البشرى وموضوعها حاكمة للعلاقة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.(1/250)
وأول حقائق تلك العلاقة هي أن تحريف البشرى تحريف لموضوعها، بدليل أن التحريف في تأويل الرؤيا يحرفها في الواقع.
ومن هنا كان القصد الشيطاني من تحريف حقيقة المسيح كبشرى برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم.. هو تحريف الرسالة كرحمة للعالمين..
وما بين معصية إبليس الأولى والصيغة التحريفية النهائية للنصرانية.. كانت عوامل التحريف:
اليهود
لقد كانت تجربة بني إسرائيل مع فرعون مصر حاكمة لكل تصرفاتهم بعد الخلاص منها، وكان أخطر آثار هذه التجربة هو الإحساس والتصور اليهودي عن الله..
فقد عاش اليهود بين فراعنة يعبدون آلهة محسوسة أمامهم، مما جعلهم يطلبون من موسى عليه السلام في حياته -بعد انشقاق البحر والنجاة من مطاردة فرعون مباشرة- أن يجعل لهم إلهًا صنمًا، وذلك بعد مرورهم {على قوم يعكفون على أصنام لهم}..
ولم يمكثوا طويلا بعد موته حتى حرفوا التوراة نفسها.. حتى وصل بهم التحريف أن اختلقوا واقعة الصراع بين يعقوب وربِّه.. والتي غلب فيها يعقوب ربَّه..! تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
لقد تشربت العقلية اليهودية بالوثنية الفرعونية، لدرجة أن التثليث الذي ابتدعه النصارى كان تطويرًا لثالوث قدماء المصريين «أوزيريس» وهو الإله الآب و«إيزيس» وهي الإله الأم و«حورس» وهو الإله الابن، وقد عبد هذا الثالوث في لاهوت عين شمس..
وكذلك ظهر تأثر العقلية اليهودية بالوثنية الفرعونية في الأسئلة التي طرحوها على النبي صلى الله عليه وسلم..
قال الضحاك وقتادة ومقاتل: (جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، صف لنا ربك؛ لعلنا نؤمن بك، فإن الله أنزل نعته في التوراة، فأخبرنا به من أي شيء هو؟ ومن أي جنس هو؟.. أمِنْ ذهب؟.. أم منْ نحاس هو؟ وهل يأكل ويشرب؟ ومِمَّن ورث الدنيا؟ ولمن يورثها؟ فأنزل الله هذه السورة: {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1]).(1/251)
كما روى الضحاك عن ابن عباس: (أن وفد نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم بسبعة أساقفة من بني الحارث بن كعب، منهم السيد والعاقب، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: صف لنا ربك من أي شيء هو؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن ربي ليس من شيء.. وهو بائن من الأشياء))، فأنزل الله: {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1].
فكانت {قل هو الله أحد} مواجهة لوثنية اليهود والنصارى معًا..!
وعندما أثبت القرآن تأثر الطائفتين بالوثنية التاريخية التي سبقتهما واجههما بتحليل واحد لحقيقة ما هم عليه، فقال سبحانه: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهؤون قول الذين كفروا من قبل}..
فدلت الآية على المنبع الوثني الواحد لتحريف اليهود والنصارى، ومنه كانت بداية التحريف..
ثم يقول سبحانه: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 30-31]، فاليهود اتخذوا أحبارهم، والنصارى اتخذوا رهبانهم، وهم الذين ضمنوا استمرار التحريف إلى نهايته..
ولهذا قال المسيح عليه السلام لأحبار اليهود حسبما جاء في كتاب متى: (الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون، فإنكم تغلقون ملكوت السموات في وجوه الناس، فلا أنتم تدخلون، ولا تدَعون الداخلين يدخلون) [23/13].
وجاء هذا النص بصورة أخرى في إنجيل لوقا هكذا: (الويل لكم يا علماء الشريعة، فإنكم خطفتم مفتاح المعرفة، فلا أنتم دخلتم، ولا تركتم الداخلين يدخلون) [1/52](1/252)
ويحكي الإمام ابن تيمية عن إجرامهم في حق خالقهم فيقول: (ومن غُلاة المجسمة اليهود من يُحكى عنه أنه قال: إن الله بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة! وأنه ندم حتى عض يده وجرى منه الدم! وهذا كفر واضح صريح، ولكن يقولون: قولنا خير من قول النصارى، فإن النصارى يقولون: إنه أُخذ وضرب بالسياط، وبُصق في وجهه، ووُضع الشوك على رأسه كالتاج، وصُلب بين لصين، وفُعل به من أقبح ما يُفعل باللصوص قُطاع الطرق، وقد صرح كثير منهم بأن هذا فعل باللاهوت والناسوت جميعا!!).
وهكذا ترك اليهود أثرهم على عقيدة النصارى، من حيث عدم توقير الله عز وجل، وعدم تقديره حق قدره..
ثم تطور أثرهم حتى أخذ التحريف النصراني صورة رد الفعل لعقيدة اليهود وشريعتهم، بحيث كان موقف العداء بين اليهود والنصارى حاضرًا في كل توجهاتهم العقدية والعملية..
فقد قالوا: إن المسيح ابن الله، كرد فعل لقول اليهود فيه: إنه ابن زنى..!!
وأحلوا الخنزير الذي تحرمه اليهود..
وتركوا الختان الذي تلتزم به اليهود..
وصَلُّوا إلى غير قبلة اليهود..
وأجازوا معاشرة الزوجة الحائض مخالفة لليهود..
حتى انتهى بهم الحال إلى إسقاط الشريعة بالكلية.. لأنها شريعة اليهود..!
التوراة المحرفة
تقوم المناقشة الأساسية لمن يريد الدفاع عن التوراة والإنجيل على فكرة أن التوراة والإنجيل كُتب منزلة من عند الله، فَلِمَ تُحرَّف بينما القرآن لا يُحرف؟!
والحقيقة: إن الحفظ الإلهي لأي كتاب مُنزل يكون باعتبار أن هذا الكتاب هو حجة الله على العباد في زمان محدد، فالله يحفظ حجته القائمة في زمانها..(1/253)
وعندما كانت التوراة هي الحجة حفظها الله، وكذلك عندما كان الإنجيل هو الحجة حفظه الله، فالحجة مرتبطة بزمانها، ولكل أمة زمن، وكتاب الله المنزل على الأمة يكون حجة في زمانها، ولكل أمة من الأمم الثلاث زمن، وهذه الحقيقة يقررها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالًا، فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط..؟
فعملت اليهود إلى نصف النهار، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط..؟ فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط، ثم قال: من يعمل من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين..؟ ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس، ألا لكم الأجر مرتين، فغضبت اليهود والنصارى، فقالوا: نحن أكثر عملًا وأقل عطاء..؟! فقال الله تعالى: فهل ظلمتكم من حقكم شيئًا..؟ قالوا: لا، قال الله تعالى: فإنه فضلي.. أُعطيه من شئت)).
وباعتبار أن هذا الزمن هو زمن الأمة الخاتمة، يبقى كتابها باعتباره حجة الله محفوظًا دون غيره من كُتب الأمم التي انتهى زمانها وانتهت حجية كتابها.(1/254)
وحقيقة الحفظ الإلهي لمن يعمل لله سبحانه لها أمثلة توضحها: ففي غزوة الخندق قال حذيفة رضي الله عنه: (لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، وأخذتنا ريح شديدة وقَرٌّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا رجل يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟)) فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: ((ألا برجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟)) فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: ((ألا برجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟)) فسكتنا فلم يجبه منا أحد، فقال: ((قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم)) فلم أجد بدًّا، إذ دعاني باسمي، أن أقوم، قال: ((اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم عليَّ)) فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام، حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يُصْلِي ظهره بالنار، فوضعت سهمًا في كبد القوس، فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله: ((ولا تذعرهم عليَّ)) ولو رميته لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحَمَّام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت.. قَرَرْتُ (1)، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلى فيها، فلم أزل نائما حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: قم يا نومان) (2).
هذا المثال يوضح الدقة الزمنية للحفظ، وارتباطه بالعمل لله؛ لأن الصحابي كان يشعر أنه في «حَمَّام» طوال وقت المهمة، وبمجرد انتهائها عاد إلى الشعور بالبرد..
__________
(1) القَرُّ: البرد، و«قَرَرْتُ» أي أصابتني رعشة من شدة البرد.
(2) رواه مسلم.(1/255)
ومن المهم أن نلاحظ أن إرسال رسول جديد كان مرتبطًا إلى حد كبير بافتقاد أثر الرسالة السابقة، فموسى عليه السلام جاء إلى بني إسرائيل قبل أن تدرس فيهم معالم دين إبراهيم، تحت وطئة القهر الفرعوني.. كما جاء عيسى عليه السلام مظهرًا لحقائق التوراة التي حرفها بنو إسرائيل، ومجددًا لمعالم الدين، وعندما طمست تعاليم عيسى، وحُرِّف التوراة والإنجيل، اقترب ظهور محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته الخاتمة..(1).
ولأن هذا الدين هو آخر رسالات الله لأهل الأرض، وأجل هذه الأمة ممتد إلى قيام الساعة.. فقد جعل الله له من الخصائص التي تمنع تحريفه وزواله بالكلية..
ومن أهمها: حفظ الكتاب والسنة بقدر الله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] وهو ما يكفل حفظ المرجع الأساسي لبقاء الأمة.
وإرسال المجددين على رأس كل مائة عام؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)).
وخاصية حفظ الأمة من الاجتماع على ضلالة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أجار أمتي ن تجتمع على ضلالة)).
منهج تحريف التوراة
أن تكون التوراة محرفة.. هذه حقيقة لا تناقَش.. لأن الإنسان لا يقبل بأي حال ما كُتب في التوراة عن أسماء الله وصفاته ورسله..
وإذن؛ لا يبقى إلا مناقشة المنهج الذي تم به تحريف التوراة والإنجيل، فلم يكن التحريف مجرد تغيير كلام أو معانٍ، بل كان عملا ذو هدف.. ومهمة ذات محور أساسي..
هذا الهدف وذاك المحور.. هو التناقض التام مع الحق..!
وقد ظهر ذلك من خلال عدة أمور:
__________
(1) تراجع قصة إسلام سلمان الفارسي، في الباب اللاحق فصل البقايا، وكيف ارتبط تبشير آخر راهب على الدين الحق ببعثة الرسول بانقراض من هم على شاكلته من أتباع دين عيسى.(1/256)
تشبيه الخالق بالمخلوق والإلحاد في أسمائه وصفاته: فمنذ بدايتها وفي سفر التكوين الذي يفترض أن يؤسس لعقيدة الإنسان عن الخالق العظيم، الذي أبدع السموات والأرض بكل ما فيها من عظمة وقوة وعلم وحكمة وجمال- نجد التوراة المحرفة تنسب الجهل والتعب والندم إلى الله..!!
وبدلا من الشعور بالحب والامتنان تجاه الله الذي كرَّم آدم وأسجد له ملائكته نجد التوراة المحرفة تصوره سبحانه خصمًا لبني آدم، يخشى من معرفتهم الخير والشر..!!
(وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفًا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل ويحيا إلى الأبد..!!) [تكوين: 3/22].
إن طبيعة التحريف في التوراة تتكشف من المواضع التي يظهر فيها الأثر الشيطاني بصورة قاطعة..
فعندما تذكر التوراة أن الله نزل وتجسَّد.. نقول يقينا: هذا تحريف..
وعندما تقول التوراة أن الله صارع يعقوب.. نقول يقينا: هذا تحريف..
ولكن عندما تكون نتيجة المصارعة أن يعقوب هو الذي يغلب الرب!! فإن هذه النتيجة لا تكون مجرد دليل على التحريف، بل يكون لها معنى زائد عليه، وهو الكره الشديد لأن يكون لله في نفس البشر أي تعظيم..!!
وإذا نسبت التوراة الأنبياء إلى الزنا والفجور.. نقول يقينًا: هذا تحريف..
وإذا نسبت ذلك إلى سليمان تحديدًا.. نقول: يقينا هذا تحريف..
لكن أن تذكر التوراة المحرفة أن سليمان كان ساحرًا وعبد آلهة الوثنيين فلا يكون مجرد دليل على التحريف؛ بل يكون له معنى زائد عليه، وهو أن ذلك من جنس الدعايات الكاذبة التي روجتها الشياطين ضد سليمان انتقامًا منه..
{واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} [البقرة: 102].
تشويه سيرة الرسل: فعندما كانت التوراة تحرِّف سيرة أي نبي نجد أن التحريف جاء بما يناقض سيرة هذا النبي وفضله الذي عُرف به بين الأنبياء..(1/257)
«داود» الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحب الصيام إلى الله صيام داود، فإنه كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويصلي ثلثه وينام سدسه)..
تقول الكتب المحرفة عنه أنه زنى بجارته، وأرسل زوجها أوريا القائد العسكري في وجه الحرب الشديدة، ثم أمر رجاله أن يتركوه ليُقتل ويموت.. ثم تزعم أن الله عاقبه فقال: (هكذا قال الرب: هأنذا أقيم عليك الشر من بيتك، وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن لقريبك، فيضجع مع نسائك في عين هذه الشمس؛ لأنك أنت فعلت بالسر وأنا أفعل هذا الأمر قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس) [صموئيل الثاني 12/12: 11].
و«سليمان» الذي عُرف بحبه لدعوة التوحيد وعدائه للوثنية، كما جاء بذلك القرآن في سورة سبأ، حيث لم يصبر على استماع خبر الهدهد بأن هناك من يسجد للشمس من دون الله، حتى أرسل إليهم: {ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين} [النمل: 31]..
تصوره الكتب المحرفة جالبًا للعاهرات الوثنيات حوله، صانعًا لكل عاهرة وثنها الذي تعبده..
ونبي الله «لوط» الذي عاش يحارب الرذيلة ويدعو إلى العفاف، حتى قال قومه: {أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون} [الأعراف: 82]..
ذكروا أنه زنى بابنتيه بعد أن سقتاه خمرا [تكوين: 38]..
ولا تجد صلة مشتركة بين سيرة الأنبياء في التوراة المحرفة إلا مواقف الخزي والسقوط، وهي محاولة خبيثة لتأصيل الانحراف، وتسهيل ممارسة الرذيلة من خلال تلفيق التهم لرسل الله الكرام، بحيث لا يبقى هناك معنى لأوامر الشريعة، ولا أثر لأي قدوة حسنة.
بولس
قال رسول صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، فيُساقون إلى سجن في جهنم يُسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يُسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال))(1).
__________
(1) رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (8040).(1/258)
قال القاضي: (وإضافة النار إليها للمبالغة، كأن هذه النار لفرط إحراقها وشدة حرها تفعل بسائر النيران ما تفعل النار بغيرها) انتهى. قال القاري: (أو لأنها أصل نيران العالم).
إن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يُثبت وجود سجن جهنم المسمَّى «بولس» لا يُفهَم إلا بتفسير عذاب جهنم، فالأحاديث تربط بين:
طبيعة العمل الذي استحق به أهل جهنم العذاب.. وبين وصف العذاب..
وبين طبيعة العمل.. ومكان العذاب..
وكذلك بين درجة العمل.. ودرجة العذاب..
وهناك علاقة تربط بين هذه الثلاثة: طبيعة العمل، ووصف العذاب، ودرجته ومكانه، وهي الربط بين أصحاب العمل إذا بلغوا مقامًا يكونون فيه بذواتهم دليلًا على العمل، مثل فرعون الذي أصبح دليلًا على الكفر والاستكبار، إذ يقاس العذاب إليهم ويوصف بهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن لم يحافظ على الصلوات الخمس: ((كان يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف)).
حيث أصبح هؤلاء جميعًا دليلًا على أقصى درجات العذاب، كما أصبحوا تفسيرًا لكل جوانب العقوبة المرتبطة بجوانب المعصية، حتى اجتهد المفسرون فقالوا: من انشغل عن الصلاة بسبب السلطان كان مع فرعون وهامان، ومن انشغل عن الصلاة بسبب المال كان مع قارون، ومن انشغل عن الصلاة بسبب التجارة كان مع أبي بن خلف.
وكذلك حديث «بولس» مثال على الربط بين طبيعة العمل وصفة العذاب ودرجته ومكانه، فقد جمع بين:
- طبيعة العمل، وهو الكبر..
- وطبيعة العذاب وهو: (أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرجالِ، يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانِ)..
- وصفة العذاب ودرجته وهو: (تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ)..
- ومكانه وهو: ((سَجْن فِي جَهَنّمَ يُسَمَّى بُولَس))..
فدلَّ وصف مكان العذاب بالصفة اللازمة لمثل هؤلاء الناس على مقام عذابهم.
ولكن ما معنى «بولس» الوارد في الحديث الصحيح؟!(1/259)
تعني كلمة «بولس» في أصلها الروماني: الأحقر والأصغر، دليلٌ واسع على الحقارة والصَّغار الذي يستحقه المتكبرون في جهنم، باعتبار أن جزاء الكِبر في جهنم هو التحقير والتصغير، فيحشرون ((أَمْثَالَ الذَّرِّ)).. «الذر» الصغير الحقير، ((فِي صُوَرِ الرجالِ)).. ورغم أنهم في هذه الصورة الصغيرة جدًّا جدًّا فإن معالمهم معروفة وملامحهم محددة ((يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانِ)..
ولما كان هذا الاسم أعجميًّا فقد دلَّ على أن المقصود هو «بولس»، الذي بدَّل دين المسيح وأفسده بكِبره وإعجابه بنفسه.
ويمكن أن تلاحظ ذلك الكِبر والإعجاب من كثرة (أنا) في حديث بولس ومن كلامه عن نفسه، بحيث تشعر بهذه الصفة بصورة واضحة..
مثل قوله: (أنا لا أبني على أساس وضعه غيري)..
وقوله: (وأما الباقون فأقول لهم أنا لا الرب)..! [كورنتوس 7/12].
وقوله: (الذي أتكلم به لست أتكلم به بحسب الرب)..! [كورنتوس 15/21].
وقوله: (وأما العذاب فليس عندي أمر من الرب ولكني أعطي إياه)..! [كورنتوس 25/26].
ومع أن هذا الاسم ليس عربيًّا إلا أن حروفه تقترب كثيرًا من حروف اسم إبليس، المشتق من الإبلاس، وهو اليأس من رحمة الله.
ونواصل تفسير المدخل السلفي لمعرفة بولس بتفسير اسمه العبراني وهو: شأول.. وتأتي بمعنى الهاوية أو جهنم..
كما أنها مشتقة من الفعل العبري شأل.. أو بالعربية سأل..
فهو محاسب ومسئول أمام الله عما افتراه من الباطل.. وعمَّن أضله من الخلق..
ولا يكفي القول بأن بولس هو الذي حرَّف النصرانية دون أن نفصل هذا القول، وتفصيل القول لا يكون إلا إذا تحددت الخطة الكاملة التي تحرك بها بولس لتدمير هذا الدين من خلال عدة عناصر أساسية:
«الاختراق» فبعد أن حارب بولس أتباع المسيح واضطهدهم وتتبعهم في كل مكان- رأى أن أمرهم لا يزيد إلا قوة، فلجأ إلى وسيلة جاهلية خبيثة، وهي الاختراق من الداخل، من خلال نفس القضية، ثم تحريف مضمون الحق وتضييعه.(1/260)
والاختراق من الداخل أخطر ما يواجه الدين، والمثال التاريخي لذلك هو السامري الذي صنع لبني إسرائيل عجلًا بزعم أنه إلههم وإله موسى.. فأطاعوه.
والملاحظ في المثالين أنهما لم يبثا سمومهما إلا في غيبة الأنبياء..
وهو تطبيق مباشر على مبدأ إبليس: (من كان لها يوم الافتراس.. يوم لم يكن لها راعٍ غيري)..
«المداهنة» قال بولس في أحد رسائله: (فإني إذ كنت حرًّا من الجميع استعبدت نفسي للجميع؛ لأربح الأكثرين، فصرت لليهود كيهودي لأربح اليهود، وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس، وللذين بلا ناموس كأني بلا ناموس -مع أني لست بلا ناموس لله بل تحت ناموس للمسيح- لأربح الذين بلا ناموس، صرت للضعفاء كضعيف لأربح الضعفاء، صرت للكل كل شيء لأخلص على كل حال قوما) [كور1: 9/20].
وقد استحسن ترك الختان للوثنيين الذين يتنصرون تأليفًا لقلوبهم؛ لأن الختان ينفِّرهم، فقد كان الرومانيون وغيرهم من الوثنيين يكرهون الختان ويسخرون من أهله.
«الخلط» يورد الإنجيلي «لوقا» في كتاب أعمال الرسل أن بولس وصل يومًا إلى أثينا في غضون أسفاره الرسولية، وكانت مدينة الفلاسفة ملأى بتماثيل عدد من مختلف الأصنام، واسترعى انتباهه أحد الهياكل فانتهز الفرصة حالًا ليحدِّد منطلقًا مشتركًا لدعوته، فقال لهم: (يا أهل أثينا، أراكم مغالين في التديُّن من كل وجه، فإني وأنا سائر أنظر إلى أنصابكم وجدت هيكلًا كتب عليه: إلى الإله المجهول، فما تعبدونه وأنتم تجهلونه، فذاك ما أنا مبشركم به) [أعمال الرسل17/22، 23].
«ترك العمل بالشريعة» فقد أعلن بولس أن «الناموس لعنة»، وأنه بالإيمان ببدعة الصلب يدخل الناس في «النعمة»، حيث لا تكاليف، ولا شريعة.. بل فقط الاعتقاد..!
الفلسفة اليونانية
الأصل الهندي
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عصابتان من أمتي أحرزهما الله من النار: عصابة تغزو الهند.. وعصابة تقاتل مع المسيح في آخر الزمان)).(1/261)
ووفقًا لمنهجية الحديث النبوي يجب القول بالعلاقة بين العصابتين؛ لورودهما في حديث واحد.. وسياق واحد.
ولتوضيح معنى المنهجية نذكر مثلًا آخر، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن شر الناس الذين تقوم عليهم الساعة، والذين يتخذون القبور مساجد)).
والعلاقة المنهجية بين الصنفين المذكورين في الحديث هي أن الذين تقوم عليهم الساعة هم آخر الشر ومنتهاه، وأن الصنف الثاني هم أول الشر ومبتداه.
وبالرجوع إلى الحديث -موضوع البحث- نجد أن العصابة التي تغزو الهند ذُكرت باعتبار أن الهند قد شهدت البداية التاريخية للفلسفة الوثنية والتثليث، والتي نقلها عنهم أرسطو وأفلاطون، والتي نقلها عن أرسطو وأفلاطون فلاسفة النصارى، حتى انتهى أمر النصارى إلى الانحراف التام، والذي سينزل عيسى عليه الصلاة والسلام ليصححه ((فيكسر الصليب ويقتل الخنزير)) كما قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ولذلك تشترك في الجزاء.. العصابة التي تغزو الهند –البداية التاريخية للتثليث– مع العصابة التي تحقق النهاية التاريخية للتثليث، بالقتال مع عيسى ابن مريم في آخر الزمان.
ومن هنا قال ابن تيمية: (إن المتفلسفة يُعرِّفون الفلسفة على أنها التشبيه بالإله على قدر الطاقة).
كما يُبَيِّن أن «فلسفة الهند» كانت بلاء لم تسلم منه الأمة الإسلامية نفسها فيقول: (وأخذ جهم أسانيد بدعته من «السَّمنية»، وهم بعض فلاسفة الهند التي ضل بها اليهود والصابئون والنصارى والمشركون).
وقد أثبت القرآن المضاهاة بين اليهود والنصارى للذين كفروا من قبل بدليل قول الله: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن قولهم بأفواههم يضاهؤون قول الذين كفروا من قبل} فكلمة: «يُضَاهِؤُونَ» تعني يتبعون أو يشابهون.(1/262)
أما الدليل على الأصل الهندي للتثليث فهو التاريخ ذاته، والذي يثبت أن عقيدة التثليث والصلب والفداء لم تكن اختراعًا نصرانيًّا، بل نُقلت برمتها من عقيدة الهنود الوثنيين القدماء في الشمس، يقول المؤرخ العلامة دوان: (إذا أرجعنا البصر نحو «الهند» نرى أن أعظم وأشهر عباداتهم اللاهوتية هو التثليث، أي: القول بأن الإله ذو ثلاثة أقانيم، ويدعون هذا التثليث بلغتهم: «تِرِي مُورتِي»، «تِرِي» ومعناها: ثلاثة، و«مُورْتِي» ومعناها: «هيئات» أو أقانيم!..
وهي «برهما وفشنو وسيفا»، ثلاثة أقانيم غير منفكة عن الوحدة، وهي الرب، والمخلِّص، وسيفا، ومجموع هذه الأقانيم الثلاثة: إله واحد. ويرمزون لهذه الأقانيم الثلاثة بثلاثة أحرف هي: الألف والواو والميم، ويلفظونها «أوم»، ولا ينطقون بها إلا في صلاتهم، ويحترمون رمزها في معابدهم احترامًا عظيمًا(1).
ويقول «مافير» في كتابه المطبوع عام 1895م والذي ترجمه إلى العربية «نخلة شفوات» عام 1913م: (لقد ذُكر في الكتب الهندية القديمة التي ترجمت إلى الإنكليزية شارحة عقيدة الهنود القدماء ما نصه: نؤمن بسافستري -أي الشمس- إله واحدا ضابط الكل، خالق السموات والأرض، وبابنه الوحيد آتي -أي النار- نور من نور، مولود غير مخلوق، تجسد من فايو -أي الروح- في بطن مايا -أي العذراء- ونؤمن بفايو الروح الحي، المنبثق من الأب، والابن الذي هو مع الأب، والابن يسجد له ويمجد).
وبالرجوع إلى قانون الإيمان المسيحي نجد التطابق الكامل، والنقل الحرفي عن عقيدة الهنود..
__________
(1) في كتابه: «خرافات التوراة والإنجيل وما يماثلها من الديانات الأخرى» ص184، نقلًا عن الكتاب القيم: «العقائد الوثنية في الديانة النصرانية» لمحمد البيروتي، وقد أثبت تفصيليًّا الأصل الوثني للعقائد النصرانية.(1/263)
حيث يقول مؤلف اللاهوت النظامي: (القانون المسمَّى «قانون الرسل» أو «القانون الرسولي» قد نشأ بالتدريج من جمع العبارات التي تقرَّر استعمالها وقت ممارسة المعمودية في الكنائس القديمة. ولدى البحث عن قضاياه بالتفصيل يتضح أن كثيرًا منه مأخوذٌ من وقت القانون النيقوي أو من قبله. ويقول: أومن بالله الآب الضابط الكل، خالق السماء والأرض، وبيسوع المسيح ابنه الوحيد ربنا، الذي حُبل به من الروح القدس، ووُلد من مريم العذراء، وتألم على عهد بيلاطس النبطي، وصُلب ومات ودُفن ونزل إلى الجحيم وقام أيضًا في اليوم الثالث من بين الأموات، وصعد إلى السماء، وهو جالسٌ عن يمين الله الآب الضابط الكل، وسيأتي من هناك ليدين الأحياء والأموات. وأومن بالروح القدس، وبالكنيسة المقدسة الجامعة، وبشركة القديسين، وبمغفرة الخطايا، وبقيامة الجسد، وبالحياة الأبدية. آمين).
وهكذا نجد أن الثالوث المسيحي تقليد كامل للثالوث الهندي القديم:
«سافستري» أو الشمس عند الهنود يقابله «الأب السماوي» عند النصارى..
«آتي» أو النار المنبثقة من الشمس عند الهنود يقابله «الابن» عند النصارى..
«فايو» أو نفخة الهواء عند الهنود يقابله «الروح» عند النصارى..(1)
ويقول المؤرخ دوان: (إن تصور الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فداء عن الخطيئة قديم العهد جدًّا عند الهنود والوثنيين).
ثم ذكر الشواهد على ذلك، ومنها قوله: (يعتقد الهنود بأن كرشنا المولود البكر الذي هو نفس الإله فشنو، والذي لا ابتداء ولا انتهاء له -وفق رأيهم- تحرك رحمة كي يخلص الأرض من ثقل حملها، فأتاها وخلص الإنسان بتقديم نفسه ذبيحة عنه).
__________
(1) ولا يتوقف الأمر عند عقائد الهنود.. فهناك ثالوث بوذي انتشر في الهند والصين واليابان ويسمى مجموعهم الإله «فو».. بالإضافة إلى الثالوث الفرعوني الذي سبق ذكره.(1/264)
ويصف الهنود أشكالًا متعددة لموت كرشنا؛ أهمها أنه مات معلقًا بشجرة سُمِّر بها بحربة، وتصوره كتبهم مصلوبًا، وعلى رأسه إكليل من الذهب..!
ولا يتوقف النقل النصراني عن الأصل الهندي الوثني عند التثليث، بل يتعداه إلى فكرة الكفَّارة والفداء ونزول المخلص إلى الجحيم لتخليص المذنبين..!
فينقل المؤرخ م. وليم من تضرعات الهنود الوثنيين: (إني مذنب، ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني أمي بالإثم، فخلصني يا ذا العين الحندقوقية، يا مخلص الخاطئين، يا مزيل الآثام والذنوب(1).
«ومن الأصل الهندي إلى الفلسفة اليونانية..» فمن المعلوم أن التثليث لم تبدأ مناقشته إلا في مجمع نيقية المنعقد عام 325م، حيث استخدم الإمبراطور الروماني الوثني قسطنطين نفوذه لترجيح كفة «أثناسيوس السكندري» الأب الروحي لعقيدة التثليث، والمنظِّر لها، والمدافع عنها، على كفة آريوس وأتباعه الموحدين.
وأثناسيوس هذا هو نتاج مدرسة الإسكندرية الفلسفية، بكل ما تحويه من ترهات الفلاسفة وأباطيلهم، حيث شكلت المصدر الهام الذي استمد منه فكره التثليثي، وفلسفته الوثنية..
وكان شيخ مدرسة الإسكندرية -الفيلسوف أمينوس- قد توفي عام 242م قبل انعقاد مؤتمر نيقية، وكان قد اعتنق المسيحية في صدر حياته ثم ارتد عنها إلى وثنية اليونان الأقدمين..
ثم جاء بعده تلميذه أفلوطين المتوفى سنة 270م، وهو الفيلسوف الذي جاب بلاد فارس والهند، حيث تلقى الفلسفة الصوفية الهندية وعرف آراء بوذا وبراهما و كرشنه.. ثم عاد إلى الإسكندرية، وفي جعبته خليط من ألوان الثقافات، راح يدرِّسها على تلاميذه..
وقد انتهى أفلوطين من خلال دراسته لما وراء الطبيعة ومنشأ الكون إلى أن العالم يرجع تكوينه وتدبيره إلى ثلاثة عناصر أو إلى ثالوث مقدس:
- المنشئ الأول «الآب»..
__________
(1) ص36، ولمزيد من التفصيل يراجع الكتاب القيم: «العقائد الوثنية في الديانة النصرانية» لمحمد البيروتي-نشر دار المعارف.(1/265)
- العقل المنبثق عنه «الابن»..
- الروح الذي يتصل بكل حي ومنه الحياة «الروح القدس»..
ويشرح أفلوطين نظريته الثلاثية، فيقول: (عن المنشئ الأول صَدَرَ العقل، وليس صدوره كالولادة، ولكنه انبثاق.. ومن العقل انبثقت الروح التي هي وحدة وأساس الأرواح كلها.. وهذه الثلاثة: المنشئ الأول، والعقل، والروح أساس لتوالد العالم وتواجده وتكوينه).
وهو ذاته الثالوث الذي طرحه «أثناسيوس السكندري» في مجمع نيقية، وفرضه قسطنطين بقوة سلطته..
وإذن، فالتثليث في المسيحية صدى لأبحاث فلسفية تولدت من البيئة الرومانية الوثنية التي دخلت بخليطها الشعبي والثقافي في المسيحية..
والذي يجب أن يتنبه إليه الباحث دائما هو: علاقة الفهم والتنظيم في المسيحية بكل من:
1 – الفلسفة الأفلاطونية الإغريقية
2 – الفلسفة الأفلوطينية الشرقية
3 – العقائد الوثنية التثليثية المنتشرة في دولة الرومان
والسابق أستاذ اللاحق، وصاحب السلطان أقوى في التأثير على الأضعف المنقاد، وقد عاشت المسيحية مضطهدة مرءوسة مغلوبة، وعاشت فوقها الوثنية الرومانية متسلطة غالبة قاهرة، فمن هو المتأثر.. ومن هو المؤثر؟!
وبصورة مباشرة فقد كانت عناصر التطابق بين الأصل الهندي والفلسفة اليونانية والتحريف هي:
- فكرة «الصورة الإنسانية للإله».. وهي التي ظهرت في بدعة «التجسد»..!
- فكرة أن «الإنسان غاية في ذاته».. وهي نظرية «كانط» و«هيجل»..!
- فكرة أن «الإنسان مقياس الأشياء».. وهي نظرية «أفلاطون»..!
- فكرة «الإله المجهول».. وقد كانت منتشرة في المعابد الرومانية..!
- نظرية «الفيض» التي صاغها «أفلوطين».. صدور الكثرة عن الواحد.. والتي ظهرت في بدعة الأقانيم..!
- فكرة «المعرفة بالكشف» التي ابتدعها «كيركجور».. وتعني أن المرء لا يفهم إلا بمقدار ما يصبح متحدًا مع الشيء الذي يحبه..!(1/266)
ومع أن الملاحظة المذهلة حول تطابق الأفكار والمصطلحات بين كل من الوثنية الهندية، والفلسفة اليونانية، والتحريف النصراني.. تدل على وحدة المصدر، إلا أن تفسير هذا الصدور سيكون عاملًا أساسيًّا في حسم القضية..
وأخطر الحقائق المفسرة للعلاقة بين جميع الفلسفات الوثنية من ناحية، والنصرانية المحرفة من ناحية أخرى.. هو المعنى الجامع للعناصر التي تقوم عليها النصرانية والفلسفات الوثنية، وهو محاولة إبليس النزول بمقام الله سبحانه وتعالى في تصور البشر.
ولم تكن فكرة التجسد والنزول بالمقام الإلهي إلى مقام البشر هو الحد النهائي لهدف إبليس -لعنه الله- بل تجاوزه إلى النزول بمقام الله في قلوب الخلق إلى درجات أقل من المقام البشري ذاته..!
يقول إدوارد كاربنتر: (كان الناس في الأزمان الغابرة يعتقدون أن كل هؤلاء الآلهة تقريبًا أو معظمهم:
1- ولدوا في يوم عيد الميلاد المسيحي أو يوم قريب منه جدًّا.
2- ولدوا من عذراء.
3- ولدوا في كهف أو غرفة تحت الأرض.
4- عاشوا في شقاء من أجل البشر.
5- سُمُّوا بهذه الأسماء: جالب النور, الشافي, الوسيط, أو الشفيع, المخلص, المنجي.
6- قهرتهم قوات الظلام.
7- نزلوا إلى جهنم، أو إلى الأرض السفلى وزاروها.
8- قاموا ثانيًا من الموت، وأصبحوا مُوَصِلين للبشر إلى الجنة.
9- أنشئوا جمعية من المُقَدَّسين والكنائس، يدخلها التلاميذ بطريق المعمودية.
10- تقام لهم أعيادٌ لحفظ ذكراهم، تؤكل فيها القرابين المقدسة).
ومن هنا جاءت فكرة أن يولد الإله في إصطبل..
وكذلك جاءت فكرة الأب والابن وروح القدس، إذ كان من الممكن أن يتمثل التثليث في الأب والابن والأم، ولكن الشيطان يريد أن يؤمن الناس بأن الله سيبقى بينهم، إذ أن الابن -الذي هو الله عندهم- صعد إلى السماء؛ فيكون روح القدس -الذي هو الله عندهم أيضا- هو الباقي معهم على الأرض.(1/267)
«ومن الفلسفة اليونانية القديمة المعروفة باسم: «الفكر المدرسي».. إلى فلاسفة عصر النهضة..» وهو العصر الذي يُؤرَّخ له بالفترة ما بين عام 1600 إلى عام 1900 على وجه التقريب, وتميز بسقوط منطق أرسطو وطبيعياته وإلهياته -والذي كان يمثل الأساس العقلي للكنيسة- بعد مواجهة حامية ومتواصلة مع الفكر الإسلامي، انتهت بانكسار وانحسار الحملات الصليبية، لدرجة أن وجود الكنيسة ذاته أصبح موضع اختبار..! فارتفعت حدة الهجوم عليها من جهة, وزادت الاستماتة في الدفاع عنها من جهة أخرى..
مَثَّل الاتجاه الأول: فولتير في فرنسا وهيوم في إنجلترا.. أما الاتجاه الثاني المدافع عن المسيحية فاتجه في شِقٍّ منه إلى إصلاح الكنيسة ذاتها من الداخل، ومثل هذا الاتجاه لوثر وكالفن وزفنجل, واتجه الشق الآخر إلى البحث عن مرتكز فلسفي للكنيسة بديلا عن أرسطو.
والمحاولات الفلسفية المدافعة عن الكنيسة لم تكن بمبادرة من الفلاسفة فقط، بل كانت هروعًا من الكنيسة إليهم, وحثهم على الدفاع عنها, في مقابل أن تقول الكنيسة بعد ذلك: أنها هي دين العقل؛ لأنها تشجع الفلاسفة..!(1/268)
والدليل التاريخي على ذلك ما كتبه ديكارت في مقدمة كتابه «التأملات» والذي أهداه ديكارت إلى عمداء كلية أصول الدين المقدسة بباريس, حيث كتب يقول: (يدفعني إلى تقديم هذا الكتاب إليكم سبب وجيه جدًّا, ويقيني أنكم ستجدون حين تقفون على القصد منه سببًا وجيهًا كذلك لتشملوه برعايتكم, ولهذا رأيت أني لا أستطيع أن أجد ما يُشفع له عندكم خيرًا من أن أُبين لكم قصدي فيه بيانًا موجزًا؛ لقد كان دائمًا رأيي أن مسألتي «الله» و«النفس» أهم المسائل التي من شأنها أن تبرهن بأدلة الفلسفة خيرًا مما تبرهن بأدلة اللاهوت؛ ذلك أنه وإن كان يكفينا نحن معشر المؤمنين أن نعتقد بطريق الإيمان بأن لنا إلهًا، وبأن النفس الإنسانية لا تفنى بفناء الجسد, فيقيني أنه لا يبدو في الإمكان أن نقدر على إقناع الكافرين بحقيقة دين من الأديان, بل ربما بفضيلة من الفضائل الأخلاقية، إن لم نثبت لهم أولًا هذين الأمرين بالعقل الطبيعي).
ثم يقرر ديكارت الدافع المباشر لكتابه فيقول: (غير أن مجمع «لتران» المنعقد برياسة البابا ليون العاشر, وما قرره من إدانة هؤلاء -يعني أعداء الكنيسة- ودعوته الفلاسفة المسيحيين دعوة صريحة إلى الرد على أقوالهم, واستعمال أقصى ما تملك عقولهم من قوة لإظهار الحق- كل هذا جرأني على محاولة ذلك في هذا الكتاب).
تؤكد هاتان الفقرتان أن المسيحية عندما حثت الفلاسفة على الإبداع لم تكن تفعل ذلك حبًّا في العقل, بل لأنها كانت مهددة من العقل, وما اللجوء المستمر من الكنيسة إلى الفلاسفة إلا شعورًا منها بخطر هذا التهديد, فما كان هذا اللجوء إلا في حال الخطر, ولو كانت المسيحية هي دين العقل لما انقلبت المسيحية على العقل قبل أن يظهر الخطر.
ولقد كان أبرز المدافعين عن الكنيسة أربعة: «ديكارت» و«كانط» و«هيجل» و«كيركجور»، حيث ساهم كل منهم في فلسفة الصياغة الحديثة للتحريف النصراني..(1/269)
وكان لكل واحد من هؤلاء الأربعة فكرته التي دافع بها عن الكنيسة..
فـ«ديكارت» ضحَّى باللامعقول في المسيحية حفاظًا عليها، فأنكر المعجزات، مقابل استخدام البراهين العقلية لإثبات الإيمان بـ«الله» وخلود «النفس»، وكان أسلوبه يقوم على التماس «اليقين الديني» من «اليقين الرياضي»..
وأما أسلوب «كانط» فقد تمثل في الإبقاء على المسيحية كما هي، مع وضع حدود للعقل بحيث لا تصلح المسيحية كموضوع له، فزعم أن العقل موضوعه المحسوسات, وفعل العقل في المحسوسات هو وضعها في سياق الزمان والمكان, ولما كان الزمان والمكان مفاهيم «نسبية» خاصة بالإنسان فإن «الله» فوق الزمان والمكان، وبالتالي فهو ليس موضوعًا للعقل..!
وهكذا انتقل من نسبية المعرفة الإنسانية إلى رفض الاستيعاب العقلي لقضايا الإيمان.. ومن هنا جاء احتجاج النصارى بعدم إمكانية فهم التثليث وكافة المفارقات النصرانية..!
وقد فَاته أنه إذا كنا لا نستطيع إدراك «كُنه» الذات الإلهية؛ لأنها فوق الزمان والمكان.. فإننا نستطيع إدراك «أفعال» الله التي تجري من خلال الزمان والمكان..
وإذا كان الزمان والمكان مفاهيم نسبية خاصة بالإنسان.. فالإيمان أيضًا يلحق بالإنسان ويناسب طبيعته؛ لأن الإنسان هو الفاعل لفعل الإيمان..
أما «هيجل» فقد حاول إقحام التثليث في طبيعة الوجود، فادعى أن الفكرة تتحول إلى نقيضها, ثم تعود إلى نفسها مرة أخرى غنية بهذا النقيض؛ لتنتج شيئًا ثالثًا، وبهذه الأضلاع الثلاثة لا بد أن ينتمي أي شيء في العالم إلى أحدها..!
وهكذا كانت المسيحية بنظر هيجل هي تمثيل حسي للحركة الشاملة للعالم, ففي البداية كانت الفكرة محضة, وهي الأب, لكن الفكرة تنتقل إلى الطبيعة بوصفها نقيضها, حيث يخرج الابن من الأب, لكن الطبيعة تعود إلى الفكرة مرة أخرى في شكل الإنسان, الذي يجمع بين كونه روحًا وبين كونه جزءً من الطبيعة, وهذه العودة يمثلها روح القدس.(1/270)
ولكي يهرب من مشكلة «تعدد الأشياء المستقلة» زعم أنها تمثلات ثلاثة لشيء واحد, هو الفكرة التي تكمن في كل صورة لها, وانتقال الفكرة عبر كل تمثل من تمثلاتها يتطلب انتقال الروح الكلية إلى الطبيعة, وبالعودة إلى الشكل الحسي لحركة الروح الكلية في العالم -والتي هي المسيحية- سنجد أن انتقال الروح الكلية إلى الطبيعة يعني الخضوع الجزئي للروح الكلية للطبيعة, لكن الطبيعة هي موت.. فلا بد إذًا أن يموت الإله ليشارك الطبيعة تناهيها..!
والحقيقة أن هيجل هذا لم يزد عن إعطاء النصرانية المحرفة صورة فلسفية، في الوقت الذي لم يناقش النصرانية بفلسفة مسبقة؛ ولذلك لا نجد لفكرته ومصطلحاته أي معنى قائم بها، وإلا فما هي الفكرة المحضة التي يشير إليها كأساس لكلامه..؟! وما تفسيره لعودة الطبيعة إلى الفكرة..؟!
وأما «كيركجور» فقد رفض تصور هيجل عن الإنسان باعتبار أن الإنسان لا يليق به كإنسان إلا أن يكون هو محور وجوده وليس تمثلًا لشيء غيره, فالإنسان عنده هو الإنسان، وليس شكلًا من أشكال الروح الكلية.
وبعد هذه البداية لجأ إلى الهجوم على العقل بدلا من الهروب منه، فلم يكتفِ بنفي قدرة الإنسان على إدراك الحقيقة بمفرده عن طريق العقل, بل تجاوز ذلك إلى اعتبار أن العقل معوِّق للشخصية ذاتها, فالإنسان هو حرية, والعقل حتمية, وإذًا فالعلاقة سلبية بين الإنسان والعقل..!!
ومن هنا كانت فكرة «المعرفة بالكشف» التي ابتدعها «كير كجور».. وتعني: أن الطريق الأساسي للفهم هو أن تصير كالمحبوب؛ لأن المرء لا يفهم إلا بمقدار ما يصبح متحدًا مع الشيء الذي يحبه..!
مما يعني أن الإنسان لا يستطيع معرفة الله إلا إذا اتحد به..!(1/271)
ثم استنتج كيركجور «حتمية» الخطيئة من «طبيعة» الحرية الملازمة للإنسان، فإذا كانت الخطيئة جوهرية بالنسبة للإنسان -طبقًا لفلسفته- فالإنسان عاجز عن اكتشاف الحقيقة بنفسه, وعلى ذلك: فالحقيقة ليست مستنتجة بالعقل الإنساني أو متذكرة كفطرة, بل هي خارجة تمامًا عن الإنسان المخطئ, ولا بد للحقيقة من المثول بنفسها أمام الإنسان, وهكذا استنتج فكرة التجسد..!
والرد الحاسم على كل هذه الفلسفات الباطلة التي تحاول تفسير العلاقة بين الإيمان بالله والعقل، يكون من خلال ما قاله الإمام ابن تيمية رحمه الله: (إن فطرة الله التي فطر الناس عليها وما جعله الله في قلوب الناس من المعارف العقلية -التي قد يسمونها ناموسًا عقليًّا طبيعيًّا- يدفع ذلك وينفيه وينفر عنه –أي فلسفات التثليث- ولكنهم يزعمون أن الكتب الإلهية جاءت بذلك، وأنه أمر يفوق العقل، وأن هذا الكلام طور وراء طور العقل، فينقلونه لظنهم أن الكتب الإلهية أخبرت به، لا لأن العقول دلت عليه، مع أنه ليس في الكتب الإلهية ما يدل على ذلك، بل فيها ما يدل على نقيضه.
ولا يُميِّزون بين ما يحيله العقل ويبطله ويعلم أنه ممتنع، وبين ما يعجز عنه العقل، فلا يعرفه ولا يحكم فيه بنفي ولا إثبات.. فالرسل قد أخبرت بالنوع الثاني، ولا يجوز أن تخبر بالنوع الأول، فلم يفرقوا بين محالات العقول ومحارات العقول، وقد ضاهوا في ذلك من قِبلهم من المشركين الذين جعلوا لله ولدًا شريكًا. قال تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهؤون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30]).(1/272)
وقد كانت أهم قضايا التطابق بين الفلسفة اليونانية والتحريف النصراني: قضية الصفات ولزومها للموصوف، والتي يثبت فيها ابن تيمية الأصل اليوناني الفلسفي للتثليث -بعد تفنيده للفلسفة التي قامت عليها بدعة الأقانيم- فيقول: (والمقصود هنا التنبيه على أن تفريق هؤلاء اليونانيين في الصفات اللازمة للموصوف بين الصفات الذاتية والعرضية اللازمة، وجعلهم اللازمة منها ما هو لازم للماهية، ومنها ما هو لازم لوجودها- هو مبنيٌّ على أصلين فاسدين لهم، خالفهم فيها جمهور عقلاء الأمم من نظار أهل الملل وغيرهم..
أحد الأصلين: هو ما تقدم من جعلهم الصفات اللازمة للموصوف، هي في الخارج منقسمة إلى ذاتي جزء من الماهية داخل فيها، وإلى عرضي خارج عنها لازم لها.
والثاني: زعمهم أن كل موجود ممكن، وله في الخارج ماهية هي ذاته وحقيقته، غير الموجود المعلوم المعين الثابت في الخارج، وهذا أيضًا مما اشتبه عليهم فيه ما في الذهن بما في الخارج.
ويجعلون الصفة عين الموصوف، ويجعلون كل صفة هي الأخرى..
فيجعلون نفس العقل الذي هو العلم نفس العاقل العالم، ونفس العشق الذي هو الحب نفس العاشق المحب، ونفس اللذة هي نفس العلم ونفس الحب، ويجعلون القدرة والإرادة هي نفس العلم، فيجعلون العلم هو القدرة وهو الإرادة وهو المحبة وهو اللذة، ويجعلون العالم المريد المحب الملتذ هو نفس العلم الذي هو نفس الإرادة وهو نفس المحبة وهو نفس اللذة، فيجعلون الحقائق المتنوعة شيئًا واحدًا..
ويجعلون نفس الصفات المتنوعة هي نفس الذات الموصوفة، ثم يتناقضون فيثبتون له علمًا ليس هو نفس ذاته).
البيئة(1/273)
لعلنا لاحظنا مما سبق أن ظهور المصطلحات والمسميات النصرانية كان مرتبطًا بالبيئة التي عاش فيها المنتسبون للنصرانية، فقد مثلت البيئة التي زعم مؤرخو النصرانية أن تلاميذ المسيح توجهوا إليها أخطر عوامل الانحراف عن دين المسيح عليه السلام؛ لأنها جعلت منه قالبًا وضعت فيه كل أساطيرها وعقائدها الوثنية، وصاغته صياغة بشرية تختلف كل الاختلاف عن المنهج الرباني الحكيم.
وقد جاء في كتب النصارى ما يؤكد ذلك، فيذكر مؤلف سفر أعمال الرسل: أن الجموع لما رأوا ما فعل برنابا وبولس (رفعوا أصواتهم بلغة ليكاونية(1) قائلين: إن الآلهة تشبهوا بالناس، ونزلوا إلينا، فكانوا يدعون برنابا: زفس، وبولس: هرمس) [أعمال 14/11-12]، وزفس وهرمس كما أوضح محررو قاموس الكتاب المقدس: اسمان لإلهين من آلهة الرومان، أولهما: زفس أو جوبيتر.. كبير الآلهة، والثاني: هرمس أو ميرسيري.. إله الفصاحة.
وهكذا رأى هؤلاء البسطاء الوثنيون في بولس وبرنابا إلهين بمجرد أن فعلا بعض الأعاجيب، بل ويحكي سفر الأعمال أيضًا أن الكهنة قربوا إليهما الذبائح، وهموا بذبحها، لولا إنكار بولس وبرنابا عليهم. انظر [أعمال 14/13-18].
ويلقي المؤرخ شارل جنيبر أستاذ المسيحية ورئيس قسم تاريخ الأديان بجامعة باريس الضوء على البيئة والظروف التاريخية التي نشأت فيها أفكار بولس المؤسسة للمسيحية فيقول: (الدراسة المفصلة لرسائل بولس الكبرى تكشف لنا النقاب عن مزيج من الأفكار يبدو لأول وهلة غريبا حقًّا:
- مزيج من دعوى التلاميذ الاثني عشر الأساسية..
- ومن الأفكار اليهودية التي يرجع بعضها المباشر إلى النصوص المقدسة القديمة، بينما يرجع البعض الآخر إلى اعتبارات دينية حديثة نسبيًّا..
- ثم من المفاهيم المنتشرة في الأوساط الوثنية اليونانية، ومن الذكريات الإنجيلية والأساطير الدينية الشرقية).
__________
(1) اسم المكان الذي حدث فيه هذا الحدث.(1/274)
ثم يقول: (النظرة الأولى إلى الحياة الدينية في الشرق الآسيوي -من بحر إيجا إلى ما بين النهرين- تبين أن عددًا معينًا من الآلهة كان يحتل مكان الصدارة فيها خلال العهد الأول لقيام المسيحية، وكانت بين هذه الآلهة أوجه شبه لا تحصى، إلى درجة أنها امتزجت وتوحدت في بعض الأحيان. وكان أهمها: أتيس في بلاد الفريجيين، وأدونيس في الشام، وملكارت في فينيقيا، ثم تموز ومردوك في ربوع ما بين النهرين، وأوزيريس بمصر. وعلينا أيضًا إذا أردنا الإنصاف أن نذكر الإله الفارسي ميثرا الذي بدأت شهرته في تلك العصور بين رحاب الأمبراطورية الرومانية. وكان القوم الذين يرتحلون من إقليم إلى آخر ينقلون معهم عباداتهم وعقائدهم الدينية، بل وينشرونها في كثير من الأحيان خارج موطنهم).
ويقول المؤرخ دوان: (كان اليونانيون الوثنيون القدماء يقولون: إن الإله مثلث الأقانيم، وإذا شرع قسيسوهم بتقديم الذبائح يرشون المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات –إشارة إلى الثالوث- ويرشون المجتمعين حول المذبح بالماء ثلاث مرات، ويأخذون البخور من المبخرة بثلاثة أصابع).
وقد لاحظ الشَّماس «فرار» –وملاحظته حقة– فى كتابه «حياة المسيح»: (أن ليس هناك أي برهان مقنع لجعل ميلاد عيسى في 25 ديسمبر).
ويقول «يوزنير»: (إن عيد الميلاد كان فى الأصل يقام فى 6 يناير -عيد الغطاس- لكن البابا ليبريوس غيَّره سنة 353-354م إلى 25 ديسمبر، ومع ذلك فليست هناك بينة على أنه كان هناك عيد ميلاد قطعًا قبل القرن الرابع الميلادي، وقانون المحاكم لم يعتبر عيد الميلاد يوم عطلة إلا بعد سنة 534 ميلادية)..!
هناك تواريخ أخرى أيضًا في النتيجة الكاثوليكية تعزز القول بأن كتب الكواكب –لا الكتب المقدسة– هي التي كانت تستقصى، ويبحث فيها للوصول إلى أصل هذه التواريخ، مثل تاريخ صعود العذراء، ميلاد العذراء، عيد البشارة، الطهارة، ميلاد يوحنا المعمدان، عيد دخول المسيح إلى الهيكل، وعيد الصوم الكبير.. إلخ.(1/275)
فعيد صعود العذراء(1) –وهو احتفال الشرف الذي يقام لمعجزة صعود مريم إلى السماء– يقع فى 15 أغسطس، وهو يوم اختفاء برج السُّنبلة -أو العذراء- في أشعة الشمس كأنه صعد إلى السماء واختفى عن العين البشرية.
ويقع عيد ميلاد العذراء في 7 سبتمبر، وهو ذات اليوم الذي يعود فيه برج السنبلة أو العذراء إلى الظهور في الأفق في منطقة برج الجوزاء..
وربما كان واضعو طقوس الديانات الوثنية العديدون قد أنشئوا دينًا فى المكسيك وبيرو، وآخر فى الفُرْس وإيرلندا دون اتصال بينهم؛ لأنه كانت تفصلهم وتعوقهم عوائق لا يمكن اجتيازها، إلا أن نبرات قلوبهم كانت تنبض نبضًا واحدًا؛ لذلك تراهم يشعرون ويفكرون بشكل واحد، وتأثرهم آتٍ من قوانين واحدة..!
فهل كان عيسى أحد الآلهة الشمسية كما صوره لسوء الحظ والأسف الشديد بعض متبعيه المتحمسون.. هؤلاء الذين أسسوا الكنيسة وبنوا الدين المسيحي فى الزمن القديم؟!
وقد ورد فى بعض الأناجيل: إن عيسى ولد فى «إصطبل» بينما تقول الأناجيل الأخرى: إن الإصطبل كان فى كهف..
وقد كان الفلكيون الوثنيون القدماء يتخيلون وضع الأرض تحت القبة السماوية في أيام عيد الميلاد، عندما يكون برج الجدي تحت الأرض تمامًا في زمن الانقلاب الشتوي، وكأنها إصطبل داخل كهف، يطلقون عليه: إصطبل «أوجياس»..
ولذلك استعاروا هذا التعبير «الزمني» ونسبوه للمكان الذي ولد فيه المسيح، فأصبحوا يقولون: إنه ولد في إصطبل «أوجياس»..!
ومن العجيب أن الوثنيين كانوا يحتفلون بذكرى ولادة معظم آلهتهم في توقيتات فلكية مماثلة..!
__________
(1) عيد يعتقد المسيحيون أن روح السيدة مريم وجسمها قد حفظا فيه من التلف والفساد، حيث أخذهما المسيح وملائكته وصعدوا بهما إلى السماء..!(1/276)
وقد اعترف بهذه الحقيقة جاستين مارتير عندما قال: (إن ولادة عيسى عليه السلام فى إصطبل دلت عليها قبل حدوثها ولادة «مترا» في كهف «زورروستر»، إلا أن هناك أقوامًا آخرين يرون خلاف رأيه لو درسوا الحادثتين بنور علم التاريخ.
فإن النقط الموجودة فى الطقوس المسيحية المشابهة لطقوس كتب الأفق المقدسة واضحة جدًّا، لا تسمح بقبول التعليلات التي أرضى بها الآباء المتقدمون الكفر والإلحاد كولادة كل الآلهة الشمسية تقريبًا –مثل أبولو وباكشوس وهرقل ومترا وأدونيس وأتيس وأوزوريس وحورس وبال وكتزالكوتل– من أم عذراء فى تاريخ واحد أو قبل أو بعد تاريخ واحد بيوم أو يومين.
بعض أعياد الكنيسة تقوي الفكرة والاستنتاج الذي يحصل عليه من الاتفاقات الماضية، فعيد دخول المسيح إلى الهيكل، وعيد تطهير العذراء، وعيد الصوم الكبير، وعيد ولادة العذراء، وعيد صعود العذراء، وعيد البشارة، وكل هذه الأعياد الكاثوليكية تحيا وتقام في نفس اليوم، وبنفس الطريقة التي كانت تقام بها فى الأيام الغابرة، والسنين الخالية.
لننظر الآن في يوم الكنيسة المخصص للراحة، كان هذا اليوم عند عيسى كما كان عند اليهود، إذا كان عيسى سيدًا لليهودية ومعلمًا بين اليهود، كما اعترف بذلك الشماس «إنج» فى قراره الذي قرئ في مؤتمر كنيسة كامبردج سنة 1917، وكان عيسى عليه السلام يكره أي خروج على الدين، أو أي ابتداع فيه، وهو يود أن تزول السماء والأرض ولا يغير حرف واحد أو نقطة واحدة من الدين أو تعاليمه..(1/277)
كان يوم السبت هو يوم الراحة الديني لا يوم الأحد، الذي كان يوم الراحة فى ديانة «أبوللو» الإله الشمسي، فكيفية أو سبب تغيير وتحويل اليوم الديني الحقيقي المقدس عند بني إسرائيل-المعروف بأنه أحد الوصايا العشر- إلى يوم الراحة عند الإله الوثني (طبعًا كان ذلك بتدخل ووساطة بولس الرسول، أو قسطنطين) سر، ولكنه مكشوف جدًّا، يسهل تفسيره فى نور تلك الحقائق الغزيرة التي شرحنا كثيرًا منها فيما مضى.
وقد احتفظ قسطنطين بصورة «أبوللو» على خاتمه حتى بعد أن جعل المسيحية ديانة الدولة الرسمية، وكانت تلك الصورة تنوب عن الشمس، وحفرت هذه العبارة معها على الخاتم: (إلى الإله الشمسي.. نصيري الذي لا يقهر)..!
ألا يثير العجب والدهشة إذن أن يكون اليوم الذي يلي الانقلاب الشتوي، واليوم الذي يلي الاعتدال الربيعي مباشرة- هما يوم عيد الميلاد ويوم عيد القيامة المسيحيين، وهما أعظم عيدين مسيحيين..؟!
ألا يثير العجب والدهشة أن يكون هذان اليومان نفسهما هما يوم عيد ميلاد الشمس ويوم عيد قيامة نجم الشعرى وانتصاره على أمير الظلام..؟! وقد كانا عيدين عظيمين في العالم الوثني وقت انتشار المسيحية.
لقد كان تشابه العقائد الوثنية مع تباعد البيئة الجغرافية، ومع اليقين باستحالة التقاء أصحاب هذه البيئات المختلفة والمتباعدة- دليلًا قاطعًا على وحدة المصدر الشيطاني لهذه العقائد بما فيها النصرانية المحرَّفة.
ومن أجل أثر البيئة على العقيدة كان الإسلام حريصًا على التحرز من هذا الأثر ابتداءً من المسميات قبل الاعتقادات، ومن هنا كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم.. فإنما هي العشاء، وإنما يقولون العتمة لإعتامهم بالإبل)).
اللغة
وهي أداة التعريف بالدين، والشرط في ذلك هو تحقق الإحكام المنهجي بين اللغة، والدين، وأصحابه، وبيئته، وزمانه.
هذا الإحكام قاعدة قرآنية..(1/278)
وعندما فقدت اللغة هذا الإحكام عند النصارى أصبحت أخطرَ أسباب التحريف لهذا الدين؛ لأن ترجمة أي لفظ تتيح مجالًا للتدخل البشري بالزيادة أو النقصان أو خطأ الفهم..
(لقد كانت اللغة السائدة في فلسطين إبَّان فترة بعثة المسيح عليه السلام هي اللغة الآرامية، وبها تكلم وعلم تلاميذه، وكان قدماء العرب يشيرون إليها في كتاباتهم تحت مسمى اللسان العبراني -وليس العبري- نسبة إلى العبرانيين الذين كانت أسفارهم المقدسة مكتوبة بذلك الخط الآرامي القديم.
وعقب انتهاء بعثة المسيح عليه السلام مباشرة انشق الأتباع إلى عدة طوائف:
- فمنهم المتمسكون بما جاء به المسيح من توراة وإنجيل، المحافظون على لغتهم الآرامية لغة الوحي والإنجيل، وقد عُرفوا باسم أصحاب كنيسة الختان.
- ومنهم الذين ابتعدوا عن تعاليم المسيح عليه السلام، وأخذوا يصفونه بصفات الألوهية.. وخلطوا حقائق الوحي بخرافات الفلسفة والوثنية، وكانت اللغة اليونانية مَعينهم، وزادهم، وعلى رأس هذا الفريق بولس.
أما الفريق الأول، فقد تبرأ منهم اليهود الذين رفضوا رسالة المسيح عليه السلام ولم يؤمنوا بدعوته، واعتبروهم منشقين عليهم رغم أنهم كانوا يُصلون معًا في مكان واحد، وتجمعهم قبلة واحدة نحو بيت المقدس.
كما حاربهم المسيحيون اليونان الذين انشقوا عنهم في أنطاكية [أعمال 11: 27] واعتبروهم فرقة من فرق الهراطقة، فاشترك اليهود والمسيحيون اليونان في محو آثار هؤلاء النصارى. فتعقبهم اليهود داخل فلسطين يمحون آثارهم ويقاومون دعوتهم، وتعقبهم المسيحيون اليونان واللاتين خارج فلسطين، حيث اعتبروهم فرقة من الهراطقة وأحرقوا كتاباتهم.(1/279)
وهرب النصارى إلى تخوم العراق وإلى مناطق جنوب شبه الجزيرة العربية كاليمن ونجران، وإلى المناطق الشمالية الغربية مِن شبه الجزيرة العربية مثل دومة الجندل ومدينة الرقيم قريبًا مِن خليج العقبة، ونزل القرآن الكريم وكانت هناك بقية منهم يسجدون للهِ في صلاتهم، ويؤمنون بكتاب معهم يُسَمَّى الإنجيل فيه نبأ وأخبار المسيح عيسي ابن مريم. وإلههم الأسمى الذي يعبدونه يُسَمَّى الله.
هؤلاء النصارى العرب كان كتابهم آرامي اللغة عربي اللسان وإن قال عنه القدماء: عبراني اللغة نسبة إلى العبرانيين. وقد دخل معظمهم في دين الإسلام، ومَن بقي منهم على دينه لم يحفل التاريخ بذكرهم وتعقب شأنهم فبادوا مع البادين. وضاعت معهم كتاباتهم الآرامية إلا من قطع متناثرة هنا وهناك، عثر عليها المنقبون في الآثار العربية القديمة.
وهناك قصة طريفة في التلمود تبين بجلاء تام موقف اليهود تجاه لغة اليونان؛ إنها قصة ابن داماح مع عَمِّه الرِّبِّي إسماعيل التي حدثت في أوائل القرن الثاني الميلادي، عندما طلب ابن داماح من عَمِّه الإذن والسماح له بتعلم اللغة اليونانية فكانت إجابة العمِّ لابن أخيه هي نصّ سفر يشوع: (واظِب على ترديد كلمات هذه التوراة، وتأمل فيها ليلَ نهار) ثم قال له: (اذهب وابحث لك عن وقت ليس بالليل أو بالنهار لتتعلم اليونانية وفلسفتها) [1: 8]..!(1/280)
ويظهر هذا التوجُّه تجاه اللغة اليونانية إذا قرأنا شيئًا عن موقف اليهود من الترجمة اليونانية لأسفار العهد القديم، فيذكر التلمود أنه في اليوم الذي تُرجمت فيه التوراة إلى اللغة اليونانية -النسخة السبعينية- أصاب أرضَ فلسطين زلزال شديد، لم يترك شبرًا واحدًا في الأرض دون دمار، وقالوا بأنَّ ذلك علامة على غضب الله على اليهود، حيث ذُكِرَ اسمه المقدَّس بالحرف اليوناني، وتلك معصية تشابه معصية اتخاذهم العجل معبودًا لهم لحين عودة موسى إليهم من ملاقاة ربه..!!)(1).
وعندما تُرجم ما تبقى من الإنجيل وكلام المسيح عليه السلام إلى اليونانية -التي كانت لغة الفلسفة والوثنية- استشرى فَقْدُ الإحكام، وبلغ التحريف أصل الدين وفروعه.
والتحريف من خلال اللغة كان له عدة صور:
الأولى: تحريف ناشئ عن ترجمة اللغة إلى لغة أخرى
فلم يحدث أن وجدت مترادفات متقابلة بين أي لغتين بصورة كاملة، وعند عدم وجود لفظة مقابلة للفظة ما فإن دور المترجم يكون حاسمًا، لكون أمانته وعقيدته وثقافته هي العوامل الأساسية في مدى ابتعاد اللفظة المترجمة عن اللفظة الأصلية، ومن ثَمَّ السياق بأكمله.
الثانية: تحريف ناشئ عن تغيير المعنى في إطار اللغة الواحدة
وقد حدث هذا لكونهم لا يفصلون بين المتن المنقول والشرح الذي فهمه الناسخ أو الناقل، مما أدى إلى اختلاط الاثنين ببعضهما، وضاع النص الأصلي في غيابات أمانة النساخ وفهم الشُّراح.
__________
(1) ما بين العلامتين بتصرف من كتاب «معالم أساسية ضاعت من المسيحية» للعميد/جمال.(1/281)
تقول مقدمة الترجمة الكاثوليكية للكتاب «المقدس»: (أسفار الكتاب المقدس هي عمل مؤلفين ومحررين عرفوا بأنهم لسان حال الله في وسط شعبهم، ظل عدد كبير منهم مجهولًا، لكنهم على كل حال لم يكونوا منفردين لأن الشعب كان يساندهم، ذلك الشعب الذي كانوا يقاسمونه الحياة والهموم والآمال، حتى في الأيام التي كانوا يقاومونه فيها. معظم عملهم مستوحى من تقاليد الجماعة، وقبل أن تتخذ كتبهم صيغتها النهائية انتشرت زمنًا طويلًا بين الشعب، وهي تحمل آثار ردود فعل القراء في شكل تنقيحات وتعليقات، وحتى في شكل إعادة صيغة بعض النصوص إلى حدٍّ هامٍّ أو قليل الأهمية، لا بل أحدث الأسفار ما هي أحيانًا إلا تفسير وتحديث لكتب قديمة(1).
وبين حقيقة المؤلفين المجهولين، وطبيعة الشعب الذي ينقح ويتعقب.. ضاعت حقيقة الوحي ومضمون النبوة.
ومن أمثلة هذا الوجه قول بولس: (عظيمٌ هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد) [تيموثاوس1: 3/16] فالفقرة محرَّفة، إذ ليس في الأصل كلمة «الله»، بل ضمير الغائب «هو»، والعبارة الأصلية: (عظيم هو سر التقوى، هو ظهر في الجسد)، والمقصود منه ظهور خُلُق التقوى في شخص المسيح، فأحالته الترجمات الحديثة إلى دليل على التجسد الإلهي بالمسيح، فقالوا: (الله ظهر في الجسد)، وفي النسخة الكاثوليكية تم تصحيح النص وإزالة التحريف فترجموها هكذا: (عظيم سر التقوى الذي تجلى في الجسد)، وتغير المعنى، واختفت الدلالة على ألوهية المسيح من النص. وسبب هذا التحريف أن التعريف بالله كان في التوراة بلفظ: «هو» فكانوا ينادون «يا هو»، فأصبحت «الله» باعتبارهما عندهم بمعنى واحد، هذا من الناحية اللفظية، أما من ناحية المعنى: فما هي العلاقة بين ظهور الله في الجسد ومعنى التقوى تحديدًا..؟!
__________
(1) مقدمة الترجمة الكاثوليكية برعاية بولس بسيم ص30.(1/282)
وكذلك عندما قال المسيح للرجل المُقعَد: (قم، غفرت لك).. أخذوا ذلك دليلًا على أن المسيح يغفر الذنوب، وكان هذا أحد مستنداتهم في ادعاء ألوهيته عليه السلام.. بينما تعني كلمة (غفرت لك): دعوت لك بالمغفرة؛ لأن المغفرة تأتي بمعنى الاستغفار، والدليل اللغوي على أن المغفرة تأتي بمعنى الاستغفار حديث عمرو بن دينار الذي ذكره ابن منظور في لسان العرب: (قلت لعروة: كم لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة؟ قال عشرًا، قلت: فابن عباس يقول بضع عشرة؟ قال: فغفره (أي قال: غفر الله له)، ويثبت ابن منظور نفس القاعدة بمثال آخر في مادة: «شفي».. فيقول: (أشفيتك: أعطيتك ما تُشفَى به، وشفاه وأشفاه: طلب له الشفاء)، فأطلق لفظ الشفاء على طلب الشفاء، تمامًا مثل إطلاق المغفرة على طلب المغفرة.
ولذلك جاء في التوراة التي معهم قول الله لموسى: (اخرج أنت وشعبك الذي أخرجت من مصر، وأنا أجعل معكم ملكًا يغفر ذنوبكم)، وتفسيره: (أجعل معكم ملكًا يدعو لكم بمغفرة ذنوبكم) وبذلك يكون تفسير (غفرت لك ذنوبك) هو: دعوت الله أن يغفر لك ذنوبك، ويكون تفسير (ملكًا يغفر ذنوبكم): هو ملكًا يدعو لكم بمغفرة ذنوبكم..
ومن ذلك: أن الإنجيل الذي بين يدي الناس يذكر أن التلاميذ سيتكلمون باثنين وسبعين لسانًا، ويفسرون ذلك بأن التلاميذ سيتكلمون باثنين وسبعين لغة، وهذا ما لم يحدث، وما لا يستطيعون إثباته، والتفسير الصحيح لهذه العبارة: هو أنهم سيختلفون اختلافًا كبيرًا، فيكون معنى اللسان هو القول المخالف، ودليل ذلك هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((واختلفت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة... )).
الثالثة: تحريف ناشئ عن الخلط بين أساليب اللغة(1/283)
ومن أخطر عوامل التحريف الخلط بين أساليب اللغة.. فاعتبار اللفظة حقيقية أو مجازية ليس له أي ضابط عندهم، وإذا وُوْجِهوا بنصٍّ صريح يقول فيه المسيح أنه رسول من الله وألا معبود إلا الله، وأن الله أعظم من كل أحد- قالوا: إنها عبارات مجازية، وإذا أطلق المسيح عبارات مجازية كأن يقول: الآب فيَّ وأنا في الآب، وأنتم فيَّ وأنا فيكم.. قالوا إنها حقيقية في جزئها الأول مجازية في جزئها الثاني، هكذا بدون أي ضابط ولا رابط موضوعي، وإنما محض الهوى للتوافق مع قوانينهم وأقوال أحبارهم ورهبانهم.
ومن أبرز صور هذا النوع:
الخلط بين الحقيقة والمجاز: كما كان الأمر في معنى الابن، حيث كان معنى اللفظ في بدايته هو البنوة المجازية، التي تعني القرب والاختصاص، ثم تحولت إلى معنى البنوة المادية الحقيقية المعروفة بين البشر.
والخلط بين الحقيقة والرمز: كما كان الأمر في معنى الفداء الذي بدأ بزعم الصلب، ثم تطور المعنى إلى تسمية المسيح بـ«الخروف» كرمز للفداء، ثم تطور الرمز إلى المعنى الحقيقي للخروف، فرسم الصليب وعليه الخروف، ثم تطور الأمر ليكون أكل الخروف أكلًا للمسيح، حتى بلغ الأمر أن يكون لكل عضو من أعضاء الخروف أثرًا خاصًّا به عند الأكل، فمن أكل كذا حدث له كذا..!!
وكذلك معنى «لقمة القربان» وقد كان في بدايته -حسب زعمهم- رمزًا للتوحد في المسيح، فإذا به يتحول إلى أكل حقيقي؛ ليكون أكل الفطيرة «جسد المسيح»، وشرب الخمر «دم المسيح»، حتى إن طقوس هذا الأكل تقتضي أن يتوقف من يريد أكل القربان عن الطعام فترة زمنية؛ لتخلو معدته من الطعام حتى لا يختلط جسد المسيح بأيَّ طعام آخر..! كما يكون من طقوس أكل القربان «جسد المسيح» قول القسيس: (أُوْمِن حقًّا حقًّا حقًّا.. أنك جسد المسيح)..!! ولكنهم يرفضون مناقشة مصير جسد المسيح في معدة من يأكله..!(1/284)
لقد أدَّى عدم الإحكام بين الحقيقة والمجاز، والحقيقة والرمز إلى ضياع المفاهيم، وتشويه القضايا، وهو ما سماه القرآن «لبس الحق بالباطل»..
وفي مقابل ذلك، يأتي الإحكام الإسلامي بين الرمز والحقيقة.. حيث يحتفظ الرمز بمدلوليته ولا يختلط بالحقيقة، ومثاله: رجم إبليس في مناسك الحج..
يقول الإمام ابن كثير: (لما أراد إبراهيمُ ذبحَ إسماعيل تنفيذًا لأمر الله ظهر له إبليس ثلاث مرات عند موضع الجمرات الثلاث اليوم، وذلك ليُوسوس له بالمعصية، فرماه سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام عند هذه المواضع بالحصى إهانة له، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أُمروا بهذا الرمي إحياءً لسنة نبي الله إبراهيم عليه السلام، وفي ذلك رمزٌ لمشروعية مخالفة الشيطان وإهانته، وليس معنى الرجم أن الشيطان يسكن هناك).
وهكذا يكون الإحكام المنهجي في الإسلام، بأن يحتفظ الرمز بدلالته، دون أن يختلط بالحقيقة.
ولم تكن اللغة -كسبب للتحريف- مجرد تغيير ألفاظ، ولكن كانت صياغة كاملة لتحريف الدين كله، في الأسماء والمصطلحات والتعريفات..
ومثال ذلك: عندما ترجموا اسم الشيطان في العهد الجديد إلى اللغة اللاتينية استخدموا اسم «لوسيفر»، والتي تعني في ذات اللغة: كوكب الزهرى أو كوكب الصباح(1).
وعند البابليين نجد أن «لوسيفر» يعني الشيطان(2).
فاستحالت عملية الترجمة إلى تغيير للمعنى والحقيقة والمفهوم، بحيث تلاشت معالم المقصود بـ«الشيطان»، وتغيرت حقيقته بهذه الترجمة الكاذبة الخاطئة.
الترجمة أخطر عوامل التحريف
لقد كانت الترجمة من أخطر عوامل التحريف في اللغة.. باعتبارها أداة نقل المعاني من لغة لأخرى، وفي هذا الأمر يبين ابن تيمية أن الترجمة الصحيحة شرط أساسي في قبول النص فيقول: (وإذا كان كذلك فما ينقلونه عن الأنبياء إنما تتم الحجة به:
__________
(1) التاريخ العربي القديم، ص257.
(2) «أسماء الشيطان في الديانات الكبرى» العقاد، ص17.(1/285)
- إذ علم إسناده ومتنه، فيعلم أنه منقول عنهم نقلا صحيحًا..
- ونعلم أن ترجمته من العبرية إلى اللسان الآخر كالرومية والعربية والسريانية ترجمة صحيحة..
- ويعلم بعد ذلك أنهم أرادوا به ذلك المعنى..
وليس مع النصارى حجة عن الأنبياء تثبت فيها هذه المقدمات الثلاث، ونحن في هذا المقام يكفينا المنع والمطالبة لهم بتصحيح هذه المقدمات، فإنهم ادعوا أن التثليث أخذوه عن الأنبياء، فنحن نطالبهم بتصحيح هذه المقدمات.. ).
ويبين ابن تيمية أن الترجمة الخاطئة هي البلاء الذي أصاب الدين فيقول: (ثم لما عربت الكتب الرومية واليونانية في حدود المائة الثانية.. زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضُلَّال).
ثم يتابع الإمام ابن تيمية توضيح كيفية محاجة أهل الضلال في ظل هذا اللبس فيقول: (ولما كانت المحاجة لا تنفع إلا مع العدل قال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} [العنكبوت: 46]، فالظالم ليس علينا أن نجادله بالتي هي أحسن، وإذا حصل من مسلمة أهل الكتاب، الذين علموا ما عندهم بلغتهم، وترجموا لنا بالعربية- انتفع بذلك في مناظرتهم ومخاطبتهم، كما كان عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وكعب الأحبار، وغيرهم يحدثون بما عندهم من العلم، وحينئذ يستشهد بما عندهم على موافقة ما جاء به الرسول، ويكون حجة عليهم من وجه، وعلى غيرهم من وجه آخر، كما بيناه في موضعه.
والألفاظ العبرية تقارب العربية بعض المقاربة، كما تتقارب الأسماء في الاشتقاق الأكبر. وقد سمعت ألفاظ التوراة بالعبرية من مسلمة أهل الكتاب، فوجدت اللغتين متقاربتين غاية التقارب، حتى صرتُ أفهم كثيرًا من كلامهم العبري بمجرد المعرفة بالعربية.(1/286)
والمعاني الصحيحة إما مقاربة لمعاني القرآن، أو مثلها، أو بعينها، وإن كان في القرآن من الألفاظ والمعاني خصائص عظيمة. فإذا أراد المجادل منهم أن يذكر ما يطعن في القرآن بنقل أو عقل، مثل أن ينقل عما في كتبهم عن الأنبياء ما يخالف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، أو خلاف ما ذكره الله في كتبهم، كزعمهم للنبي أن الله أمرهم بتحميم الزاني دون رجمه؛ أي: جعل وجهه أسود. يقال: حَمَمْتُ وجهه تحميمًا: إذا سودته بالفحم، أمكن للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يطلبوا التوراة ومن يقرؤها بالعربية ويترجمها من ثقات التراجمة، كعبد الله ابن سلام ونحوه، لما قال لحبرهم: (ارفع يدك عن آية الرجم)، فإذا هي تلوح، ورجم النبي صلى الله عليه وسلم الزانيين منهما، بعد أن أقام عليهم الحجة من كتابهم، وذلك أنه موافق لما أنزل الله عليه من الرجم، وقال: ((اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه)).
ولهذا قال ابن عباس في قوله: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا} [المائدة: 44]: (محمد صلى الله عليه وسلم، من النبيين الذين أسلموا، وهو لم يحكم إلا بما أنزل الله عليه، كما قال: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49] وكذلك يمكن أن يقرأ من نسخة مترجمة بالعربية، قد ترجمها الثقات بالخط واللفظ العربيين يعلم بهما ما عندهم بواسطة المترجمين الثقات من المسلمين، أو ممن يعلم خَطَّهم منا، كزيد بن ثابت، ونحوه، لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم ذلك، والحديث معروفٌ في السنن، وقد احتج به البخاري في باب «ترجمة الحاكم» و«هل يجوز ترجمان؟»، قال: (وقال خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد بن ثابت: أن النبي أمره أن يتعلم كتاب اليهود، حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم كتبه، وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه).(1/287)
والمكاتبة بخطِّهم والمخاطبة بلغتهم من جنس واحد، وإن كانا قد يجتمعان وقد ينفرد أحدهما عن الآخر، مثل كتابة اللفظ العربي بالخط العبري وغيره من خطوط الأعاجم، وكتابة اللفظ العجمي بالخط العربي، وقيل: يكتفي بذلك؛ ولهذا قال سبحانه: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران: 93]، فأمرنا أن نطلب منهم إحضار التوراة وتلاوتها، إن كانوا صادقين في نقل ما يخالف ذلك، فإنهم كانوا: {يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب} [آل عمران: 78]، و{فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله} [البقرة: 79]، ويكذبون في كلامهم وكتابهم؛ فلهذا لا تقبل الترجمة إلا من ثقة).
ثم يتابع رحمه الله توضيح الفرق بين الترجمة والتفسير فيقول:
(الترجمة والتفسير ثلاث طبقات:
أحدها: ترجمة مجرد اللفظ، مثل نقل اللفظ بلفظ مرادف، ففي هذه الترجمة تريد أن تعرف أن الذي يعني بهذا اللفظ عند هؤلاء هو بعينه الذي يعنى باللفظ عند هؤلاء، فهذا علمٌ نافع؛ إذ كثيرٌ من الناس يقيد المعنى باللفظ، فلا يجرده عن اللفظين جميعًا.
والثاني: ترجمة المعنى وبيانه، بأن يصور المعنى للمخاطب، فتصوير المعنى له وتفهيمه إياه قدرٌ زائد على ترجمة اللفظ، كما يشرح للعربي كتابًا عربيًّا قد سمع ألفاظه العربية، لكنه لم يتصور معانيه ولا فهمها، وتصوير المعنى يكون بذكر عينه أو نظيره؛ إذ هو تركيب صفات من مفردات يفهمها المخاطب يكون ذلك المركب صور ذلك المعنى، إما تحديدًا وإما تقريبًا.(1/288)
الدرجة الثالثة: بيان صحة ذلك وتحقيقه، بذكر الدليل والقياس الذي يحقق ذلك المعنى، إما بدليل مجرد وإما بدليل يبين علة وجوده. وهنا قد يحتاج إلى ضرب أمثلة ومقاييس تفيده التصديق بذلك المعنى، كما يحتاج في «الدرجة الثانية» إلى أمثلة تصور له ذلك المعنى. وقد يكون نفس تصوره مفيدًا للعلم بصدقه، وإذا كفى تصور معناه في التصديق به لم يحتج إلى قياس، ومثل، ودليل آخر.
فإذا عرف القرآن هذه المعرفة فالكلام الذي يوافقه أو يخالفه -من كلام أهل الكتاب والصابئين والمشركين- لا بد فيه من الترجمة للفظ والمعنى أيضًا، وحينئذ فالقرآن فيه تفصيل كل شيء كما قال تعالى: {ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء} [يوسف: 111]، وقال: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} [النحل: 89].
ومعلوم أن الأُمة مأمورة بتبليغ القرآن؛ لفظه ومعناه، كما أمر بذلك الرسول، ولا يكون تبليغ رسالة الله إلا كذلك، وأن تبليغه إلى العَجَم قد يحتاج إلى ترجمة لهم، فيترجم لهم بحسب الإمكان، والترجمة قد تحتاج إلى ضرب أمثال لتصوير المعاني، فيكون ذلك من تمام الترجمة.
وإذا كان من المعلوم أن أكثر المسلمين -بل أكثر المنتسبين منهم إلى العلم- لا يقومون بترجمة القرآن وتفسيره وبيانه، فلأن يعجز غيرهم عن ترجمة ما عنده وبيانه أولى بذلك؛ لأن عقل المسلمين أكمل، وكتابهم أقوم قيلًا، وأحسن حديثًا، ولغتهم أوسع، لا سيما إذا كانت تلك المعاني غير محققة، بل فيها باطلٌ كثير؛ فإن ترجمة المعاني الباطلة وتصويرها صعبٌ؛ لأنه ليس لها نظير من الحق من كل وجه).
والحقيقة: أن كلام ابن تيمية في هذا الأمر في غاية الأهمية لأن الترجمة الخاطئة للنصوص عند النصارى كانت هي السبب الأساسي لما بلغوه من التحريف، ويكشف ذلك كل الاتجاهات المتخصصة في الوصول إلى أصل اللغة التي كتبت بها كتاباتهم قبل التحريف..
الإحكام المنهجي للغة في الإسلام(1/289)
ولما كان السبب الأساسي في التحريف من ناحية اللغة هو الفصل بين أصحاب العقيدة ولغتهم التي اعتنقوا بها هذه العقيدة- فإن القرآن جاء مؤكدًا للارتباط بين العقيدة ولغة أصحابها، وجاءت الآيات الدالة على ذلك، ومنها هذان المثالان:
المثال الأول: يقول الله عز وجل: {أفمن هذا الحديث تعجبون* وتضحكون ولا تبكون* وأنتم سامدون} [النجم: 61] وفي معنى سامدون يقول ابن عباس: (هو الغناء بالحِمْيَرِيَّة، اسمُدي لنا؛ أي: غَنِّي لنا).
ولكن لماذا بلغة قبيلة «حمير»؟! فتكون الإجابة العجيبة هي أن تلك القبيلة هي التي عبدت الشعرى من قبائل العرب، فتناسب اللفظ من حيث مدلول الكلمة أو أصل معناها مع سياق السورة الذي قال الله فيه: {وأنه هو رب الشعرى} [النجم: 49].
كما أن الكلمة لغة مرتبطة بمحور السورة -الذي هو إبليس- حيث جاء في لسان العرب: (سامدون: يبرطمون برطمة السحرة)، وسامدون من السُّمُود، وهو ما في المرء من الإعجاب بالنفس، يقال سمد البعير: إذا رفع رأسه في سيره، مُثِّل به حال المتكبر المعرض عن النصح، المعجب بما هو فيه بحال البعير في نشاطه).
وبذلك تكتمل كل علاقات اللفظ بمعاني السورة:
- حيث تضمن اللفظ علاقة الغناء وهو صوت الشيطان..
- وبحمير: وهم عبدة الشعرى..
- وبالسحر: حيث معنى اللفظ برطمة السحرة..
- وبالإعجاب بالنفس والكبر والإعراض عن النصح..
المثال الثاني: يقول الله عز وجل: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن قولهم بأفواههم يضاهؤون قول الذين كفروا من قبل}، وهذا النص القرآني دليلٌ على المصدر التاريخي لبدعة ادعاء الولد وهو: {الذين كفروا من قبل}، ودليلٌ على التوافق التام بين أصحاب هذا المصدر وبين اليهود والنصارى.(1/290)
فكلمة {يضاهؤون} دليل على الدقة المتناهية في متابعة الواقع التاريخي للبدعة؛ لأن الكلمة جاءت بلهجة ثقيف، وهي المنطقة الجغرافية التي كانت تعتنق هذه البدعة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كانت قبيلة ثقيف تسكن الطائف، وكانت الطائف تابعة لنجران، وكان في نجران نوعٌ من اليهود ومن بعدهم نوع من النصارى..
أما اليهود الذين كانوا يسمون الصدوقيون، وهم القائلون بأن العزير ابن الله، وكانت النصارى هم الذين يقولون المسيح ابن الله..
ولذلك جاءت الآية بلغة الطائف التي اجتمع فيها أصحاب هذين القولين.
وبذلك أصبح هذا الإحكام اللغوي في الإسلام هو المقابل للتحريف النصراني، الذي حدث بسبب ضياع هذا الإحكام، فانفصل الدين عن لغة أصحابه وحدث التحريف.
الدنيا
وأساس مناقشة العلاقة بين الدنيا وادعاء الولد هو العلاقة بين الشبهات والشهوات الواردة في قول الله عز وجل: {كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون} [التوبة: 69].
يقول الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيرها: (فعلتم بدينكم ودنياكم، كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلكم، الذين أهلكتهم بخِلافهم أمري).
فالخلاق هو الدِّين، والاستمتاع بالخلاق: هو الانجرار وراء الشهوات، عن طريق الحيل وتحريف مضمون الدين..
والخوض هو الجدال بالباطل، وهو متعلِّق بالشبهات، والافتتان بها..(1/291)
يقول الراغب الأصفهاني في مفرداته: (الخوض: هو الشروع في الماء والمرور فيه، ويستعار في الأمور، وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يُذَمُّ الشروع فيه، نحو قوله تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب} [التوبة: 65]، وقوله: {وخضتم كالذي خاضوا} [التوبة: 69]، {ذرهم في خوضهم يلعبون} [الأنعام: 91]، {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره} [الأنعام: 68]، وتقول: أخضت دابتي في الماء، وتخاوضوا في الحديث: تفاوضوا).
وموضوع ادعاء الولد لم يكن صراعًا فكريًّا فقط، بل كان موضوعًا للصراع على الدنيا والمال والسلطان، وهذا ما أثبته القرآن في سورة البقرة وآل عمران وسورة التوبة وسورة يونس:
في سورة البقرة كان كتمان ما أنزل الله من الكتاب بسبب المال: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم* أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار} [البقرة: 174-175].
وفي سورة آل عمران يأتي نفس المضمون: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} [آل عمران: 77].
ولكن تحليل العقوبة في السورتين يفسر حقيقة كتمان الحق: يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ النَّارَ، لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، وَلا يَنْظُرُ إليهم، لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.(1/292)
كما جاء في سورة آل عمران إثبات العلاقة بين التحريف ومتاع الدنيا بالتفصيل: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب* ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب* ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد* إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا وأولئك هم وقود النار} [آل عمران: 7-10] فالآيات تكشف المسافة الكاملة بين الحق المحكم وبين الزيغ بسبب الدنيا، وثبات الراسخين في العلم، ودعائهم بالثبات إلى يوم القيامة الذي يظهر فيه الحق على رءوس الأشهاد، حيث لا ينفع الزائغين عن الحق.. الأموال والأولاد التي كانت سبب زيغهم.
ثم يأتي تفصيل متاع الحياة الدنيا في سياق مواجهة الشهوات، تمهيدًا لمناقشة قضية عيسى ابن مريم: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب* قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد} [آل عمران: 14، 15].
فالنظر إلى متع الدنيا وشهواتها بهذه الاعتبارات الثلاثة يبطل مفعولها، حتى وإن تلبَّث العبد بها:
النظر إليها باعتبار حقيقتها، وعدم الاغترار بمظهرها الذي هو «زينة»..
النظر إليها باعتبار مآلها، وأنها من «الحياة الدنيا» التي تتلاشى وتزول..
النظر إلى ما عند الله من حسن المآب، وهو الذي يُعين النفس على الصبر عنها.(1/293)
وكذلك آيات سورة التوبة التي تفسر العلاقة بين بدعة ادعاء الابن لله وفتنة المال بصورة أساسية، فتبدأ بالادعاء: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم}، ثم تكشف المصدر الذي أخذ عنه أصحاب هذا الادعاء: {يضاهؤون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30]، ثم تكشف حقيقة أن اتخاذ الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله هو العلة الأساسية في ظهور البدعة: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم} [التوبة: 31]، ثم تثبت الآيات المسافة التي ذهب إليها أصحاب البدعة في البعد عن دين الله، وذلك بإثبات أصل الدين الذي أمرهم الله به: {وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31]، وبعد قياس البدعة على أصل الدين، تفسر الآيات طبيعة البدعة كانحراف بشري أمام وحدانية الله وإرادة الله وقدرة الله) {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} [التوبة: 32]، ثم تحدد الآيات الصيغة الواقعية لتحقيق الإرادة الإلهية: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} [التوبة: 33].(1/294)
وبعد تفسير البدعة بنسبتها إلى أصحابها، وكشف مصدرها الذي أخذت عنه، وتوضيح العلة الأساسية في ظهورها، وإثبات البُعد في الضلال فيها عن الحق وأصل الدين، وتحليل البدعة كفعل بشري منحرف أمام وحدانية الله وإرادته سبحانه، وتحديد الصيغة الواقعية لتحقيق الوحدانية والإرادة الإلهية، بعد ذكر الآيات لكل ما سبق.. يكون قد اكتمل التفسير العام للبدعة بالصورة الكافية لإنهائها، ولكن الآيات تعود إلى الأحبار والرهبان وأكلهم أموال الناس بالباطل: {ياأيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله} لنفهم أن هذا الفعل هو السبب المادي الأساسي في بقاء هذه البدعة بكل أسبابها وجوانبها، ولذلك جاء أكل أموال الأحبار والرهبان لأموال الناس بالباطل بصيغة الفعل المضارع لإثبات استمراريته {ليأكلون}، ومن هنا كان تركيز الآيات على عقوبة هؤلاء الناس وكل الذين يكنزون الذهب والفضة، ومناقشة الآثار المترتبة على كنز المال، باعتباره العلة الأساسية للصد عن سبيل الله: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم}.
ولأجل خطورة الأمر.. جاءت الآية التي بعدها لتناقش فتنة المال بصورة تفصيلية ونفسية دقيقة للغاية: {يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} [التوبة: 35]، فذكرت الآية: {جباههم وجنوبهم وظهورهم}..
لأن دلالة «الجِبَاه»: الاستعلاء..
ودلالة «الجُنُوب»: الاطمئنان..
ودلالة «الظهور»: الاعتماد..
والذين يكنزون المال يستعلون به، ويطمئنون إليه، ويعتمدون عليه، ولذلك كان جزاؤهم هو الكي في هذه المواضع.(1/295)
- وفي سورة يونس تناقش الآيات العلاقة بين ادعاء الولد ومتاع الدنيا بأسلوب يماثل ما جاء في سورة التوبة: {قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون* قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون* متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون} [يونس: 68-70].
فالآيات تذكر الادعاء.. ولا تناقشه بصورة مباشرة، بل تتجه إلى العلة التي نشأ عنها الادعاء.. لتكون متاع في الدنيا.
وتاريخ بدعة التثليث يفسر هذه الآية..
لقد نشأ فى ظل الدولة الرومانية الوثنية التي لم تنتقل إلى المسيحية، بل هي التي اختطفت النصرانية، وحولتها إلى المسيحية الأقرب إلى وثنيتها.
وكذلك ارتبطت البدعة بالسلطة الرومانية التي كانت تملك كل الدنيا، فأصبحت الدنيا والبدعة حقيقة واحدة، وأصبح كل من ينتمي إلى البدعة الجديدة ترتمي الدنيا بين يديه.
وعلى ضوء هذه الحقيقة تكون مراجعة تاريخ ظهور البدعة والصراع حولها والخلاف فيها والتنافس بين القساوسة على إدماج الوثنية الرومانية فيما تبقى من دين عيسى.
ولم يتوقف الأمر عند النشأة التاريخية، بل امتد إلى كل المراحل التاريخية لأصحاب هذا البدعة..
فعندما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم لهرقل يدعوه إلى الإسلام، لم يمنعه من الإيمان إلا ثورة أركان حكمه عليه، وخوفه على سلطته وجاهه..
ولم يجمع باباوات روما رعاع أوربا تحت لواء الحملات الصليبية التي انهالت على العالم الإسلامي واحدة تلو الأخرى إلا بشعار واحد: إن أرض الشرق تفيض لبنًا وعسلًا..
وتاريخ حكم الكنيسة في أوروبا معروف بالتحالف بينها وبين الإقطاعيين رموز الثروة والسلطة، ولذلك كانت شعارات الثورة الفرنسية: اشنقوا آخر إقطاعي.. بأمعاء آخر قسيس..(1/296)
وحتى الإرساليات التنصيرية التي لا تنفك تجوب أرجاء العالم للفتنة لا توجه لذراري المسلمين إلا نداءً واحدًا: اخلع عنك رداء الإسلام.. نخلع عنك رداء الجوع والفقر والمرض..
الفصل الثالث
شواهد التحريف
أولًا: الابتداع
يقول الإمام ابن تيمية عما ابتدعه النصارى: (وأما الشرائع التي هم عليها.. فعلماؤهم يعلمون أن أكثرها ليس عن المسيح عليه السلام، فالمسيح لم يشرع لهم الصلاة إلى المشرق، ولا صيام الخمسين، ولا جعله في زمن الربيع، ولا عيد الميلاد والغطاس وعيد الصليب، وغير ذلك من أعيادهم، بل أكثر ذلك مما ابتدعوه بعد الحواريين؛ مثل عيد الصليب فإنه مما ابتدعته هيلانة الحرانية أم قسطنطين، وفي زمن قسطنطين غَيَّروا كثيرًا من دين المسيح والعقائد والشرائع، فابتدعوا الأمانة التي هي عقيدة إيمانهم، وهي عقيدة لم ينطق بها شيء من كتب الأنبياء التي هي عندهم، ولا هي منقولة عن أحد الأنبياء، ولا عن أحدٍ من الحواريين الذين صحبوا المسيح، بل ابتدعها لهم طائفة من أكابرهم، قالوا: كانوا ثلاثمائة وثمانية عشر، واستندوا في ذلك إلى ألفاظ متشابهة في الكتب وفي الكتب ألفاظ محكمة تناقض ما ذكروه كما قد بسط في موضع آخر، وكذلك عامة شرائعهم التي وضعوها في كتاب القانون بعضها منقول عن الأنبياء، وبعضها منقول عن الحواريين، وكثير منها مما ابتدعوه ليست منقولة عن أحد من الأنبياء ولا عن الحواريين، وهم يجوزون لأكابر أهل العلم والدين أن يغيروا ما رأوه من الشرائع، ويضعوا شرعًا جديدًا؛ فلهذا كان أكثر شرعهم مبتدعًا لم ينزل به كتابٌ ولا شرعه نبيٌّ).
ثانيًا: التدرج
ومن القواعد السلفية الكاشفة لزوايا الانحراف الصليبي قاعدة: (أن التوحيد لا يقبل التدرج أو النسخ أو الاستثناء)، فلا يجوز التعريف بالله بصورة مرحلية، وهذا هو معنى التدرج.
والمرحلية فى الانحراف الصليبي لها صورتان:
- صورة متعلقة بتكوين العقيدة المحرفة.(1/297)
- وصورة متعلقة بطرح العقيدة المحرفة.
أما من حيث الطرح فتلك هي الطامة الكبرى.. إذ إن وقت الطرح الصليبي خالف الوقت الطبيعي للطرح بصورة كاملة؛ لأن الوقت الطبيعي للطرح كان زمن وقوع خطيئة آدم، حيث تزعم العقيدة الصليبية أن الصلب قد تم فداءً للإنسان الذي ورث خطيئة أبيه دون أن يراه، فجاء المسيح ليكفِّر عن ابن آدم الخطأ؛ فاستلزم ذلك أن يكون الطرح بعد الخطيئة مباشرة، لا بعدها بعشرات القرون..!
وأما من حيث التكوين فهم لا يخجلون من أن يعلنوا أن عقيدتهم مفتوحة، وكل يوم يضاف إليها الجديد..!
فيتساءل صاحب كتاب اللاهوت النظامي قائلا: (كيف تقدَّمت الكنيسة في استجلاء الحق الإلهي؟ وأية كنائس حدَّدت بالتفصيل التعاليم الأساسية في التثليث، وشخص المسيح، والخطية والنعمة، والفداء وتخصيصه.. ومتى كان ذلك؟)..
ثم يجيب قائلا: (أدَّى ما نشأ في الكنيسة من الجدل إلى تقدمها في إدراك الحقائق الإلهية، والتدقيق في تحديدها. وقد دبرت العناية الإلهية أن تستوفي الكنيسة البحث عن أصول النظام المُعلَن في أسفار الوحي، وأن يتحدد هذا جيدًا في عصورٍ مختلفة وبين أمم وطوائف كثيرة. وقد اتَّضحت قضايا ذات شأن في الله والمسيح نتيجة البحث الوافي من أشخاص أكثرهم من الأصل اليوناني، وحُكم بها قانونيًّا في المجامع التي التأمت في القرن الرابع وما يتلوه.
- فتحدد لاهوت المسيح ومساواته للآب في الجوهر في مجمع نيقية سنة 325م.
- وأقنومية الروح القدس ولاهوته في المجمع القسطنطيني الأول سنة 381م.
- (وأما لفظة «والابن» فأضافها اللاتينيون في مجمع توليدو سنة 589م).
- ودرس مجمع أفسس (451م) الكريستولوجيا؛ أي: التعليم في المسيح، وأقرَّ عقيدة اتحاد اللاهوت والناسوت في شخصه المجيد.
- وأقرَّ مجمع خلقدونية (451م) أن الطبيعتين بقيتا متميَّزتين.
- وأقرَّ المجمع القسطنطيني السادس (860م) أن للمسيح مشيئة بشرية ومشيئة إلهية.(1/298)
- وقبلت الكنائس -من يونانية وباباوية ولوثرية ومُصلحة- تلك الأحكام.
- أما مسائل الخطية والنعمة المتضمنة في قسم الأنثروبولوجيا «عِلم الإنسان» فقد بحثها -في بادئ الأمر على الغالب- اللاتينيون، وحكم بها أولًا حكمًا باتًّا في جدال أغسطينوس مع بيلاجيوس في النصف الأول من القرن الخامس.
- ولم يُستوفَ البحث في مسائل الفداء وكيفية تخصيصه «السوتيريولوجيا» أي: الفكر اللاهوتي في الخلاص- إلا منذ وقت الإصلاح وما بعده، فقد بحثه كبار اللاهوتيين الألمان والسويسريين، مثل لوثر وزوينجلي وكلفن وميلانكثون. ولا تزال الكنيسة إلى يومنا تدرس مسائل كثيرة من «الإكليسيولوجيا» الفكر اللاهوتي عن الكنيسة).
ويقول صاحب اللاهوت النظامي أيضًا: (يتضح من كل ما قيل في الروح القدس في العهد القديم أنه أقنوم، غير أنه لم يتضح لكنيسة العهد القديم أنه الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس، كما انجلى لكنيسة العهد الجديد. نعم، إن الله ثلاثة أقانيم في جوهر واحد منذ الأزل، غير أن معرفة ذلك أُعلنت للبشر بالتدريج)..!!!
وبدون أي تعليق منا على هذا الكلام.. تتضح صورة التدرج التي تم بها تكوين عقيدة التثليث.. وهو ما يدفعنا إلى التساؤل.. عن حكم كنيسة العهد القديم التي لم يثبت لديها الأقنوم الثالث..؟!!
هل عرفت الإله..؟ أم ضلت عنه..؟
وما هو حكم موسى والأنبياء بعده وقبله.. الذين علموا الناس أن الله إله واحد.. بلا أقانيم..؟!
لقد ثبت تاريخيًّا أن الجدل الذي أثير حول عيسى ابن مريم بدأ بفكرة «الابن» وظل الأمر على ذلك زمنًا طويلًا قبل أن تُثار فكرة «الروح القدس» وهل هو داخل فى الأقانيم أم لا- لمدة ثلاثين عامًا..!
ثم مر زمنٌ طويلٌ لتظهر فكرة «الأم» حيث بدأ الخلاف فيها ودخولها فى مقام الألوهية.
وقد تم ذلك من خلال المجامع المعروفة:(1/299)
- فانعقد المجمع الأول في نيقية سنة 325 م بدعوة من الإمبراطور الروماني قسطنطين ليقرر تأليه المسيح، ويخترع مشكلة «الابن»، ويقضي على بقايا دعوة التوحيد المتمثلة في آريوس وأتباعه..
- ثم انعقد المجمع الثاني في القسطنطينية بعد ستة وخمسين عامًا (381م) ليقرر تأليه روح القدس، وعقيدة التثليث، ويقضي على مكدونيوس الذي يقول بأن روح القدس مخلوق مثل جميع الملائكة..
- ثم انعقد المجمع الثالث بعد حوالي خمسين عاما (431م) ليناقش مشكلة دخول مريم في الألوهية، وهل هي والدة الإله أم مجرد أم للجسد الذي امتلأ فيما بعد بالألوهية..!
وحتى الصليب الذي قرر النصارى عبادته واتخاذه شعارًا لم يكن معروفًا إلا بعد أكثر من 320 سنة بعد ميلاد المسيح.
ثالثًا: التناقض
يقول الإمام ابن تيمية -مناقشًا قانون الإيمان المسيحي الذي هو عمدة عقيدتهم-: «وقولهم»الإله واحد.. خالق واحد.. «رب واحد» هو حق في نفسه.. لكن قد نقضوه بقولهم في عقيدة إيمانهم: نؤمن برب واحد، يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، إله حق، من إله حق، من جوهر أبيه، مساو الأب في الجوهر. فأثبتوا هنا إلهين.. ثم أثبتوا روح القدس إلهًا ثالثًا.. وقالوا: إنه مسجود له، فصاروا يثبتون ثلاثة آلهة، ويقولون: إنما نثبت إلهًا واحدًا، وهو تناقضٌ ظاهرٌ وجمعٌ بين النقيضين، بين الإثبات والنفي.
ولهذا قال طائفة من العقلاء: إن عامة مقالات الناس يمكن تصورها إلا مقالة النصارى، وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا، بل تكلموا بجهل، وجمعوا في كلامهم بين النقيضين؛ ولهذا قال بعضهم: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا عن أحد عشر قولًا..!
وقال آخر: لو سألت بعض النصارى وامرأته وابنه عن توحيدهم، لقال الرجل قولًا، وامرأته قولًا آخر، وابنه قولًا ثالثًا..!)(1/300)
والدليل الواضح على أن الأمر لم يكن خالصًا لعقيدة التثليث هو نص قانون الإيمان المسيحي، على بطلان الأقوال المخالفة وذكرها نصًّا، إذ لو أن الأقوال المخالفة لم يكن لها أثر أو وزن أو اعتبار لما اضطر إلى ذكرها في القانون الذي سيعيش مع الكنائس وتعيش الكنائس به حتى النهاية..
فيقول النص (وأمَّا الذين يقولون أنه كان زمان لم يوجد فيه..
وأنه لم يكن له وجود قبل أن يولد..
وأنه خلق من العدم..
أو أنه مادة أو جوهر واحد..
أو أن ابن الله إله مخلوق أو إنه قابل للتغيير أو متغير..
فهم ملعونون من الكنيسة الجامعة الرسولية.. )
ولم يترك التناقض جزءًا من أجزاء دين النصارى إلا وأصابه، حتى أصل عقيدتهم..
فقد قالوا: إن علة القول بالتجسد هي نفي التغير عن صفات الله؛ لكي لا يكون هناك تغير في صفة المحبة لله قبل الخلق وبعد الخلق.. بينما يمثل ادعاء التجسد تغييرًا في ذات الله وصفاته معًا..!
فكان التناقض في موضع التسلسل الفكري للعقيدة وفي صلبها، حيث نفوا التغير في الصفة.. وأثبتوه في الذات..!
رابعًا: الصناعة البشرية
إن المقارنة بين الصيغ الكاثوليكية والأرثوذكسية.. فرصة معقولة لإثبات شواهد الصناعة البشرية للعقيدة الصليبية..
والأساس في هذه المقارنة هو أن الكاثوليك هم الغرب، والغرب هم الرومان الوثنيون.
ولذلك تفوق الصيغ الكاثوليكية مثيلتها الأرثوذكسية في جرأتها على مفهوم «الإله»..
فتذكر أن المسيح -الإله عندهم-: (صُلب، ومات، ودُفن)..
بينما تكتفي الأرثوذكسية بأنه: (تأَّلم وقام في اليوم الثالث)..
وكذلك كان الاختلاف بين الكاثوليك والأرثوذكس في تحديد طبيعة ومشيئة الإله، فقال الكاثوليك بطبيعتين ومشيئتين، وقال الأرثوذكس بطبيعة واحدة، ومشيئة واحدة..
وقول الكاثوليك بطبيعتين إنما كان لأجل نفي الموت عن الإله؛ لأن الكاثوليك هم الذين قرروا موت المسيح على الصليب صراحة..(1/301)
فعندما يقولون: إن المسيح مات؛ يستطيعون القول بأن الطبيعة الإنسانية هي التي ماتت، أما إذا كان الله له طبيعة واحدة فإن هذا معناه عندهم أن الله بذاته هو الذي مات، وهو ما يفرون منه.
أما الأرثوذكس فإنهم لم يصرحوا بالموت لفظًا، بل قالوا قُبِرَ وقام منه من الأموات، ولذلك لم يضطروا إلى القول بطبيعتين، إذ كيف يكون المسيح نازلًا إلى الأرض لأجل الكفارة وإلى الأرض.. ثم يبكي ويتوسل إلى الله أن ينجيه حتى قال: كما شئت أنت لا كما أرى أنا..!
خامسًا: الاختزال والتضييع
لما فقد النصارى الإحكام المنهجي بين قضايا الدين.. بدأت مرحلة اختزال القضايا ذاتها، وكانت الصورة المختلقة للمسيح عندهم هي البؤرة التي جمعوا فيها كل قضايا الدين ليختزلوه، فأصبح المسيح عندهم هو القيامة، وهو الطريق، وهو الإنجيل..!
واستشهدوا على ذلك بقول نسبوه للمسيح، ورد في سياق قصة ملخصها أن واحدًا من أتباع المسيح عليه السلام اسمه «ألعازر» كان قد مرض ثم مات، وذهب اليهود ليعزوا أهله، فزارهم المسيح بعد أربعة أيام من الوفاة، وقابلته أخته فقالت له: (يا سيد لو كنت ههنا لم يمت أخي. لكني الآن أيضًا أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله إياه).
ومقصود هذه المرأة هو أن المسيح لو كان موجودًا قبل أن تحدث الوفاة، ودعا الله لأخيها.. لشفاه الله وما مات.. لأنه مستجاب الدعوة..
فقال لها المسيح عليه السلام: (سيقوم أخوك)..
وهنا ظنت المرأة أن المسيح يقصد القيامة الكبرى، فقالت له: (أنا أعلم أنه سيقوم في القيامة في اليوم الأخير)..
فقال لها: (أنا هو القيامة والحياة.. من آمن بي ولو مات فسيحيا).
وهنا التقط النصارى الخيط، فانتزعوا العبارة من سياقها، ليختزلوا دينهم كله في قضية واحدة هي الإيمان بفرية البنوة والصلب والفداء..
وهذا افتراءٌ واختزال مخل..
فالدِّين.. هو المنهج والطريق الذي ارتضاه الله للبشر، وأنزله إليهم عن طريق رسله..(1/302)
والدِّين.. هو جزاء المؤمنين المحسنين، والكافرين المجرمين.. كلٌّ بحسب ما قدم..
واختزال كل هذه الأبعاد في «شخصية المسيح» إهدار لقيمة الدين.. وهدفه في الحياة.
فالإيمان بالمسيح هو إيمان برسالته واتباع دعوته.. وهو الحياة الحقيقية، كما قال الله عن الإيمان برسوله الخاتم صلى الله عليه وسلم وأتباعه: {ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون} [لأنفال: 24].
وكما قال سبحانه: {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} [الأنعام: 122].
فالإيمان بدين الرسل واتباع منهجهم هو حياة القلوب والأبدان، وليس مجرد التعلق بالأشخاص، والإيمان بالأوهام والبدع..!
سادسًا: زخرف القول
مع هذه التناقضات كان لابد للنصارى أن يتعاملوا مع الناس بأساليب تحقق تأثيرًا في نفوسهم دون قناعة عقلية، وكان أخطر هذه الأساليب الصيغ التعبيرية المؤثرة رغم فراغها من المعنى المقنع الصحيح.
يقول الله عز وجل: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الأنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} [الأنعام: 112].(1/303)
يقول الطاهر بن عاشور: (الزخرف: الزينة، وسُمِّي الذهب زخرفًا لأنه يتزين به حليًّا، وإضافة الزخرف إلى القول من إضافة الصفة إلى الموصوف، فالقول الزخرف: أي المزخرف، وهو من الوصف بالجامد الذي في معنى المشتق إذ كان بمعنى الزين. وأَفْهَمَ وصف القول بالزخرف أنه محتاج إلى التحسين والزخرفة، وإنما يحتاج القول إلى ذلك إذا كان غير مشتمل على ما يكسبه القبول في حد ذاته، وذلك أنه كان يفضي إلى ضُرٍّ يحتاج قائله إلى تزيينه وتحسينه لإخفاء ما فيه من الضر، خشية أن ينفر عنه من يُسَوِّلْه لهم، فذلك التزيين ترويج يستهوون به النفوس، كما تموه للصبيان اللعب بالألوان والتذهيب.
والغرور: الخداع والإطماع بالنفع؛ لقصد الإضرار).
وقد مرت بنا أمثلة كثيرة على «زخرف القول» الذي يستعمله النصارى.. ومنه قولهم: (هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ؛ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) [يوحنا: 3-16](1).
سابعًا: العقلية التحريفية
المتأمل لعقلية أهل الكتاب يجد أن لها طبيعة تحريفية، تجعلهم كمن يقف بدينه المحرَّف فوق رمال متحركة من الضلال، كلما حاول التحرك بعقله فوق هذه الرمال.. غاص وضل بصورة أشد..!
وتظهر هذه الطبيعة بصورة أكثر وضوحًا في تعاملهم مع النصوص، سواء على مستوى العبارات أو على مستوى القضايا.
فعلى مستوى العبارات لا يقبل عاقل أن تكون البرهنة على ادعاء التثليث من خلال نص توراتي يقول: (وكلم الله موسى من العليق قائلا: أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب.. )؛ لأنه لم يقل أنا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب!!
وبهذا الضلال تعاملوا مع النصوص القرآنية، لإثبات ما هم عليه من خلال نصوص القرآن ذاتها، فقالوا مثلًا أن: (بسم الله الرحمن الرحيم) دليل على التثليث، لأن الله، الرحمن، الرحيم ثلاثة أسماء..!!
__________
(1) راجع: فصل تناقضات الكفارة، مبحث تناقض الكفارة مع معنى الرحمة.(1/304)
وجهلوا -أو تجاهلوا- أن التعدد إمَّا أن يكون لتغاير الذوات، أو لتغاير الصفات، أو تغاير الأفعال، كقوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى* الذي خلق فسوى* والذي قدر فهدى* والذي أخرج المرعى* فجعله غثاء أحوى} [الأعلى: 1-5].
وكذلك قوله سبحانه: {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون} [البقرة: 133].
روى ابن جرير عن ابن عباس ومكحول أن رجلًا من المشركين سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول في سجوده: (يا رحمن يا رحيم) فقال: إنه يزعم أنه يدعو واحدًا وهو يدعو اثنين..! فأنزل الله هذه الآية: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110].
وبنفس العقلية حاولوا إثبات أصالة شكل الصليب من خلال تشابهه مع مفتاح الحياة الفرعوني..
أو بالزعم بأنه شكل العمود الذي وضع إبراهيم الخليل الكبش الذي نزل عليه فداء لإسماعيل..
وليس هذا أسلوبًا صحيحًا لإثبات العقيدة أو الدين.
ويكفي لإظهار هذه الطبيعة التحريفية.. أن تناقش قضية من قضايا التحريف -مثل قضية موت المسيح- مناقشة عقلية، ذلك أن النصارى عندما تصوروا أن المسيح صُلب ومات على الصليب تصوروا أن موته وقيامته المزعومة من الأموات.. انتصار على الموت..!
إن سلسلة التحريف التي اقتضت عند النصارى أن يصلب المسيح.. اقتضت أن يموت، ثم جاء زخرف القول -وهو أن القيامة المزعومة انتصار على الموت- ليغطي على الفاجعة العقلية الرهيبة الناشئة عن موت الإله !!..
وبمجرد التخلص من هذه الأوهام ومناقشة القضية بصورة مجردة يحكم العقل بأن الانتصار على الموت ليس له إلا معنى واحد: هو ألا يقع عليه الموت أصلا..!
ولو كانت القيامة المزعومة من الموت تعني الانتصار عليه حقًّا لكان إثباتها على الملأ أوجب من إثبات حادثة الصلب الممثلة لمعنى الفداء المزعوم..
الفصل الرابع(1/305)
طبيعة التحريف
لقد كان التحريف خطة منهجية لهدم الدين من أساسه؛ لذلك أصاب العقيدة في جذورها، وأصاب الشريعة في أركانها..
ففي «العقيدة» ضيع التصور عن ذات الله، ومشيئته، وتفرده بالمغفرة، وتفرده بملك مقاليد السموات والأرض..
وفي «الشريعة» ضيع المضامين الأساسية للحلال والحرام..
أولا: العقيدة
«المشيئة» لقد كان ادعاء الولد نقضًا لأخص خصائص الألوهية وهي مشيئة الله الواحدة، ولذلك ركَّز القرآن على إثبات مشيئة واحدة فاعلة في الوجود، مما يدل على الذات المتفردة بالمشيئة..
وليس أدل على هذا المعنى من رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرجل الذي قال له: ((ما شاء الله وشئت)) بقوله: ((أجعلتني لله ندًّا.. قل: ما شاء الله وحده))(1).
وكذلك كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهودي: عن قتيلة بن صيفي الجهيمية قالت: أتى حبر من الأحبار لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون قال: ((سبحان الله..! وما ذاك؟!)) قال: تقولون إذا حلفتم: والكعبة! قالت: فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا ثم قال: إنه قد قال: ((فمن حلف فليحلف برب الكعبة)) قال: يا محمد، نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله ندًّا قال: ((سبحان الله..! وما ذاك؟!)) قال: تقولون ما شاء الله وشئت، قال فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا ثم قال: إنه قد قال ((فمن قال ما شاء الله فليفصل بينهما ثم شئت)).
ومن هنا كان التناقض الهائل فى قضية التثليث هي ادعاء أن كل أقنوم من الأقانيم له مشيئته، ويعتبرون تعدد المشيئة هي الشاهد الأساسي على تعدد الأقانيم؛ لأن الأقنوم يعني الذات المستقلة، والمشيئة هي دليل الاستقلال.
__________
(1) أخرجه النسائي في الكبرى بإسناد حسن وابن ماجه.(1/306)
ومن هنا كان الربط بين قضية عيسى ابن مريم والمشيئة الإلهية الواحدة، من خلال إثباتها لله الواحد، فجاءت سورة آل عمران لإثبات دلالة المشيئة الواحدة لله على وحدانية ذاته عز وجل، من خلال معنى «ما كان»، و «ما يكون»، و «ما سيكون»، و «ما لم يكن إذا كان كيف يكون»، بينما كان المعنى الأساسي لسورة مريم هو «ما سيكون».
ومن هنا كان الخلل في الإيمان بالقدر عند النصارى خطيرًا وفادحًا قال أبو ذر رضي الله عنه: قدم وفد نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فقالوا: الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا..
فنزلت هذه الآيات إلى قوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 49]..
فقالوا: يا محمد يَكتُب علينا الذنب ويعذبنا؟!
فقال صلى الله عليه وسلم: ((أنتم خصماء الله يوم القيامة)).
والذي عليه المسلمون أن الله سبحانه قدر الأشياء؛ أي: عَلِمَ مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا يحدث حدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة، وأن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله تعالى وبقدرته وتوفيقه وإلهامه، سبحانه لا إله إلا هو، ولا خالق غيره؛ كما نص عليه القران والسنة.
ولذلك جاء تفسير قول الله عز وجل: {ومن يؤمن بالله يهدي قلبه} يؤمن بقدر الله.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا)، فكان الإيمان بالله ربًّا هو الإيمان بقدر الله عز وجل.(1/307)
ومن هنا كان تحريف عقيدة الإيمان بالقدر عند النصارى هدمٌ للإيمان من أساسه، وكان شرط دخول النصارى في الإسلام الإيمان بالقدر، بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم -الذي كان نصرانيًّا-: (يا عديّ بن حاتم.. أسلم تسلم؛ تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وتؤمن بالأقدار كلها؛ خيرها وشرها، حلوها ومرها).
«المغفرة» هي أهم خصائص الألوهية، بدليل قول الله عز وجل: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك} [محمد: 19] وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت.. )).
ولذلك حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن رجلًا قال لرجل: والله لا يغفر الله لك، فقال الله سبحانه وتعالى: من الذي يتأله عليَّ، لأغفرن له ولأدخلنك أنت النار)).
وعندما يجعل النصارى هذه الخصيصة لعيسى ابن مريم يكونوا قد أعطوه أخص خصائص الألوهية، وقد تبين كيف كان مدخل الشيطان إليهم في هذا الادعاء، من خلال قول المسيح للمقعد: (قم غفرت لك)، فأخذوا من ذلك دليلا على الادِّعاء بأن المسيح يغفر الذنوب، مما نشأ عنه ادعاء ألوهية المسيح عندهم(1).
«المقاليد وتصريف الأمور» وكما كانت المغفرة دليلًا على الألوهية كان تدبير الأمر دليلًا كذلك؛ لقول الله سبحانه: {فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير* له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم} [فاطر: 9-12].
ولعلنا نلاحظ في سياق الآيات ذكر ما يثبت تفرد الله عن المثيل بقوله سبحانه: {ليس كمثله شيء}(2).
__________
(1) راجع مبحث «عامل اللغة» في فصل «عوامل التحريف» بهذا الباب.
(2) راجع مبحث «اسم الله الوكيل» في فصل «الأسماء» بالباب الأول.(1/308)
ومن هنا كان الربط القرآني بين مقاليد الأمور التي لا تكون إلا لله وبين الحساب، فقال سبحانه: {الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل* له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون* قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون* ولقد أوحي إلى ك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين* بل الله فاعبد وكن من الشاكرين* وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون* ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون* وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون* ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون} [الزمر: 62-69].
ثانيًا: الشريعة
«استحلال الخنزير» عندما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى في آخر الزمان: ((ويقتل الخنزير)) فإن لهذا الكلام معنى يجب فهمه، حيث يأتي قتل الخنزير ضمن أربعة أعمال، تمثل المهمة الأساسية التي سينزل عيسى ابن مريم في آخر الزمان من أجلها، حيث قال بعد ذكر هذه العناصر: ((ويصير الدين ملة واحدة))، وهو ما يعني أن عناصر هذه المهمة هي عناصر إقامة الدين في آخر الزمان..
ومن هنا كان الربط بين الخنزير والشرك في قول الله سبحانه وتعالى: {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت} [المائدة: 60].
وكذلك في قول الله سبحانه: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به} [المائدة: 3].
وكان الربط بين تحريم بيع الخنزير والأصنام: ((إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)) (1).
ومن هنا أيضًا كان تحديد رسول الله صلى الله عليه وسلم لموانع الإسلام..
__________
(1) صحيح مسلم (3/1207) رقم (1581).(1/309)
فقد روى قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسقف نجران: ((يا أبا الحارث.. أسلم)) قال: إني مسلم، قال: ((يا أبا الحارث.. أسلم)) قال: قد أسلمت قبلك، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((كذبت..! منعك من الإسلام ثلاثة: ادعاؤك لله ولدا، وأكلك الخنزير، وشربك الخمر)).
وقد يفهم هذا المعنى بصورة واضحة من كسر الصليب باعتباره رمز التحريف ومضمونه، وإذا كان الصليب كمضمون للتحريف يمثل الجانب الاعتقادي فيه، فإن قتل الخنزير يمثل الجانب الشرعي في هذا التحريف، وباجتماع الصليب والخنزير ضاع الدين بجانبيه العقدي والشرعي..
وهذا هو الجانب الأول في ذكر قتل الخنزير بجانب كسر الصليب..
أما الجانب الثاني فهو أن استحلال الخنزير يمثل أقوى دلالات التحريف في النصرانية، وذلك لعدة أسباب:
أولا: أن حكم تحريم الخنزير من الأحكام التي لا تقبل النسخ، بسبب أن علة تحريمه راجعة إلى طبيعته التي لا تتغير..!
وهناك دلالة ثابتة للتعبير القرآني: «لحم الخنزير» وهي أن لحم الخنزير ينفرد من بين جميع اللحوم المذكورة في آيات التحريم بأنه حرام لذاته؛ أي لعِلة مستقرة فيه، أو وصف لاصق به، أما اللحوم الأخرى فهي محرمة لعِلة عارضة عليها، فإذا ذكيت فلحمها حلال طيب ولا تحرم إلا إذا كانت ميتة أو ذبحت لغير الله.
وتفسير معنى اسم «الخنزير» ومشتقاته التي تدور جميعًا حول معنى «النتن» تؤكد هذه الدلالة..(1/310)
فجذر الاسم: خنز يخنز إذا أنتن، ومنه الخنزوان وهو الخنزير، والخنازير: قروح صلبة تكون في الرقبة، والعرب تضرب بالخنزير مثل القبح والخبث، فيقولون: القبح ضد الحسن يكون في الصورة كقبوح الخنازير، ويقولون: السحت هو ما خبث من المكاسب كثمن الخنزير والجمع أسحات، كما يقول العرب الخزنزر: سيِّئ الخلق، وأخزر: المرأة البغي، ويقولون: يعفر.. الخنزير الذكر، وهو أيضًا الرجل الخبيث، وهذا المعنى هو الوارد في تفسير قول الله عز وجل: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به} [المائدة: 3].
عن أبي الطفيل قال: نزل آدم بتحريم أربع: «الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به» وأن هذه الأربعة أشياء لم تحل قط، فلما كانت بنو إسرائيل.. حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم بذنوبهم، فلما بعث الله عيسى ابن مريم عليه السلام نزل بالأمر الأول الذي جاء به آدم، وأحل لهم ما سوى ذلك.. فكذبوه وعصوه(1).
ثانيا: أن حكم تحريم الخنزير حكمٌ قياسي لكل أحكام التحريم، بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لعب بالنردشير فكأنما وضع يده فى لحم خنزير ودمه))(2).
وكذلك قياس حكم شرب الخمر بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استحل بيع الخمر.. فليستحل بيع الخنزير))(3)، وفي رواية: ((فليكن للخنازير قَصَّابا)) أي: جزارًا.
وعندما أراد بولس أن يبرهن على حِلِّ الخنزير قال: (ليس ما يدخل فم الإنسان ينجسه، ولكن ما يخرج منه)، وصيغة هذه القاعدة مطلقة.. غير مقيدة بزمان أو مكان، مما يعني: أن الخنزير لم يكن حرامًا في أي وقت مضى! وبالتالي لم يكن هناك ضرورة للتحليل أصلا..!
«الختان» لكي نفهم بطلان تحريم بولس للختان يجب أن نفهم أولا: ما هو الختان؟.
__________
(1) تفسير ابن كثير (2/8)
(2) النردشير: هي ألعاب الميسر التي يستخدم فيها حجر النرد، والحديث رواه مسلم (4/1770) رقم (2260).
(3) رواه أبو داود في سننه.(1/311)
ونبدأ ذلك بالنص الوارد في التوراة التي بين يدي الناس: (قال الله لإبراهيم: وأما أنت فتحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم * هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك. يُختَن منكم كل ذكر * فَتُختَنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم * ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر في أجيالكم وليد البيت والمبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك* يختن ختانا وليد بيتك والمبتاع بفضتك فيكون عهدي في لحمكم عهدًا أبديًّا * وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها.. إنه قد نكث عهدي) [تكوين: 17]..
ونفهم من هذا النص أن الختان علامة كونية على استحقاق الولاية على البشر، وهو ما يتوافق مع المفهوم القرآني تمامًا، فتناقش سورة البقرة قضية الإمامة على الناس في قول الله سبحانه: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124].
ومضمون هذا النص أيضًا هو أن الختان علامة على استحقاق ذرية إبراهيم للولاية على البشر، حيث أوضحت الآيات أن الإمامة على الناس كانت لإبراهيم في الابتداء، بعد أن أتم إبراهيم الكلمات التي ابتلاه الله بها، وكان أهم هذه الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم.. هو الختان.
قال ابن عباس: (ابتلاه الله بالطهارة خمسٌ في الرأس، وخمسٌ في الجسد، في الرأس: قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، وفي الجسد: تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الفطرة خمس: الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط)).(1/312)
فمفهوم الابتلاء ينطبق أول ما ينطبق بالنسبة لإبراهيم على الختان؛ لأنه أُمِر به وهو في سن الثمانين من عمره، وختن نفسه في هذا السن بقدوم من حديد، فانطبق مفهوم البلاء على الختان بصفة خاصة؛ لأن بقية الكلمات ليست لها صفة الختان والبلاء به. مثل قص الأظافر والإبط والعانة..
ومن هنا قال الفراء في تفسير قول الله تعالى: {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون} [البقرة: 138] «الصبغة: الختان».
ولكن الصفة الجامعة للكلمات نستطيع أن نقول فيها: إنها الصفات المتعلقة بصورة مباشرة بالعلاقة الزوجية، والمساعدة على إتمام معاشرة زوجية صحيحة، ليكون الختان هو ضبط الشهوة حتى لا تتجاوز حد الضرورة.. فتتحول إلى غاية في ذاتها؛ ولذلك كان ختان المرأة مكرمة لها وتعامل إبراهيم الخليل مع نفسه في الختان يؤكد حدود الضرورة كسياج، فيختتن وهو في سن الثمانين وبقدوم من حديد! فتشعر بالضرورة في كل عناصر الحديث الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: «السن» «المكان وحساسيته» «الأسلوب» «الأداة».
ولما كانت ذرية إبراهيم من إسماعيل وإسحاق كانت ذريتهما هي التي تختتن، والعرب من إسماعيل، واليهود من إسحاق، ولم يتوقف ذرية إبراهيم من العرب واليهود عن الختان، إلا ما حدث من النصارى بعد تحريف بولس.
وقد أثار بولس عدة شبهات حول الختان، حتى انتهى إلى تحريمه، فابتدأ كلامه بقوله: (لأننا نقول إنه حسب لإبراهيم الإيمان برا. فكيف حسب..؟ أهو في الختان أم في الغرلة.. ليكون أبًا لجميع الذين يؤمنون وهم في الغرلة كي يحسب لهم أيضًا البر. وأبًا للختان للذين ليسوا من الختان فقط بل أيضًا يسلكون في خطوات إيمان أبينا إبراهيم الذي كان وهو في الغرلة. فإنه ليس بالناموس كان الوعد لإبراهيم أو لنسله أن يكون وارثًا للعالم بل ببر الإيمان)..(1/313)
ثم يقول في تناقض متبجح: (ليس الختان شيئًا وليست الغرلة شيئًا.. بل حفظ وصايا الله).. أليس الختان هو وصية الله وعهده إلى إبراهيم؟.. أم إنها الأهواء التي تتلاعب بأصحابها..؟!
ثم تدرج الأمر ليكون المدخل الذي دخل منه بولس إلى النصارى هو أن الختان من غير إيمان لا ينفع، وهي فكرة مقنعة إن كان هذا هو المراد، ولكن بولس يكشف المراد من العبارة وهو: (إذا كان الختان لا ينفع بغير إيمان؛ فلا تختتنوا بل آمنوا).
ثم يرفع بولس درجة الهجوم على الختان فيقول: (هَأَنا بولس أقول لكم: إنه إن اختتنتم لا ينفعكم المسيح. لكن أشهد أيضًا لكل إنسان مختتن أنه ملتزم أن يعمل بكل الناموس. قد تبطلتم عن المسيح أيها الذين تتبررون بالناموس سقطتم من النعمة. فإننا بالروح من الإيمان نتوقع رجاء بر؛ لأنه في المسيح يسوع، لا الختان ينفع شيئًا ولا الغرلة بل الإيمان العامل بالمحبة).
وهكذا اصطنع بولس بدعة «النعمة» التي اخترعها لأتباعه ممثلة في الصلب والفداء، بديلًا للعمل بالشريعة التي أنزلها الله على الأنبياء ممثلة في شعيرة الختان.
ثم يواصل بولس رفع درجة الهجوم فيقول: (فإنه يوجد كثيرون متمردون يتكلمون بالباطل ويخدعون العقول ولا سيما الذين من الختان).
ثم يبلغ بولس الدرجة النهائية.. فبعد المساواة بين الختان وعدمه.. والتركيز على أهمية الإيمان دون الختان يبدأ في صب اللعن على الختان، فيقول قاصدًا اليهود: (انظروا الكلاب.. انظروا فعلة الشر.. انظروا القطع).. فيسميهم القطع بدلا من المختونين.
ثم ينشئ مفهومًا جديدًا للختان.. ختان الروح، فعجبًا! يقول: (لأننا نحن الختان الذين نعبد الله بالروح ونفتخر بالمسيح يسوع ولا نتكل على الجسد أيضًا -يقصد نفسه).
ولتبرئة نفسه من الغرض يقول: (مع أن لي أن أتكل على الجسد أيضًا إن ظن واحد آخر أن يتكل على الجسد فأنا بالأولى) لأنه كان مختونا.
من جهة الختان: مختون في اليوم الثامن.(1/314)
من جهة إسرائيل: من سبط بنيامين عبراني من العبرانيين.
من جهة الناموس: فريسي.
من جهة الغيرة: مضطهد الكنيسة.
والحقيقة: أن محاربة بولس للختان كانت رد فعل لتمسك اليهود الشديد بالطقوس والشعائر، دون الالتزام بروح الشريعة والناموس.. فجاء بكِبره وغروره ليقضي على الاثنين معًا..!
الفصل الخامس
تقييم عام «الضالين»
عندما يكون الضلال هو أول وصف يتم تناول النصارى به في كتاب الله، كما قال عز وجل: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: 7] فإن هذا يعني أن تفسير الضلال يعطينا تحليلًا كاملًا للنصرانية المحرَّفة.
تفسير الضلال
يقول العلامة ابن فارس: (ضل: الضاد واللام أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على معنىً واحد، وهو ضَياع الشيء وذهابُهُ في غيرِ حَقِّه.. وكلُّ جائرٍ عن القصد ضالٌّ.. ورجلٌ مُضَلَّل أي: لا يوفَّق لخير، صاحبُ غَواياتٍ وبَطالا).
ومن هذا التعريف اللغوي ندرك أن الضلال أمرٌ عدمي، لا يتم تعريفه إلا بالتقابل مع الهدى.
وقد جمع الله عناصر الهدى في حق المؤمنين في هذه الآية: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [آل عمران: 164].
فـ «آيات الله» هي جانب النص، و«التزكية» هي الجانب الإنساني في الهداية، و«تعليم الكتاب» هو جانب الفهم، و«الحكمة» هي اجتماع النص والإنسان والفهم في الحق..
عناصر الضلال.. مقابل عناصر الهدى
«النص» {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} [الحج: 8]، العلم: هو الوصول إلى النص، والهدى: فهم النص، والكتاب: هو النص نفسه.
وبذلك كان الضلال من هذا الجانب هو تحريف النص، أو تحريف معناه، أو الجهل بالعلوم اللازمة لفهم معناه.(1/315)
«الإنسان» حيث نلاحظ ارتباط الهدى بطبيعة الإنسان، كما في قوله سبحانه: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} [البقرة: 2]، وقوله: {هدى ورحمة للمحسنين} [لقمان: 3]، وقوله: {هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} [الأعراف: 154]، {هدى وبشرى للمؤمنين} [النمل: 2]؛ ولذلك ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قبض العلم، وموت العلماء: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد؛ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالمًا.. اتخذ الناس رءوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)).
«الفهم» يقول الله عز وجل: {ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب* هدى وذكرى لأولي الألباب} [غافر: 54] اللبُّ: هو المعنى الوظيفي الجامع بين العقل والقلب؛ ولذلك كان اللب هو القلب العاقل، وعندما يقع الضلال ويغيب الهدى تتعطل الحواس: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والأنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} [الأعراف: 179].. ويكثر الجدل العقيم:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ضل قومٌ بعد هدى كانوا عليه.. إلا أوتوا الجدل)) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون} [الزخرف: 58].
وقد اجتمعت في النصارى كل عناصر الضلال، وبحدوث الضلال فيهم ظهرت أخطر علاماته:(1/316)
«توهم الحق» رُوِيَ عن الحسن قال: لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام أتاه راهبٌ شيخ كبير متقهل(1) عليه سواد فلما رآه عمر بكى، فقيل له: أمير المؤمنين.. ما يبكيك؟ قال: هذا المسكين طلب أمرًا فلم يصبه، ورجا رجاء فأخطأه، وقرأ قول الله عز وجل: {وجوه يومئذ خاشعة* عاملة ناصبة} [الغاشية: 2، 3] وفي تفسير هاتين الآيتين يقول البخاري: (قال ابن عباس: {عاملة ناصبة}: النصارى).
يقول الله تعالى: {فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون} [الأعراف: 30].
ويقول سبحانه: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا* الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} [الكهف: 105].
«الكفر والصدِّ» وارتباط الضلال بالصد عن سبيل الله هو أن الصد سبب أساسي في زيادة الضلال، يقول الله سبحانه: {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا} [النساء: 167].
وكلمة {ضلالا بعيدا} معناها أن الضال يزداد ضلالًا بصده عن سبيل الله..
وتحليل محاولات إضلال النصارى لغيرهم هو الذي يضع الأساس العام في مواجهة هذه المحاولات، وأهم عناصر هذا التحليل أن محاولة النصارى إضلال غيرهم يكون تثبيتًا لهم هم أنفسهم على الضلال، كما قال تعالى: {ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون* يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون* يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون* وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون* ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم} [آل عمران: 69-72].
__________
(1) التقهل: رثاثة الهيئة، ورجل متقهل: يابس الجلد سيئ الحال.(1/317)
وهذه الرغبة النصرانية في إضلال المسلمين تفسر ظواهر خطيرة في واقع المواجهة النصرانية مع الإسلام؛ فالحرمان من الثبات العقدي والاطمئنان الوجداني والوضوح الفكري الذي يتمتع به المسلمون- يجعل النصارى لا يطيقون ذلك، فيحاولون إضلال المسلمين عن دينهم دون النظر إلى مآل هذه المحاولات..!
وهذه الظاهرة تكشف حقيقة الدافع الشيطاني المحرك لهؤلاء الناس..!
كما تكشف آية آل عمران حقيقة هامة، وهي أن محاولة إضلال المسلمين تجعل النصارى يزدادون تشبثًا بضلالهم، حتى يمكن القول بأن ضلال النصارى راجع في استمراره إلى تلك المحاولات؛ لأنها تتطلب جهدًا في إثبات صحة ما هم عليه من ضلال، وهو في حد ذاته زيادة في الضلال..!
كما أنها تتطلب جهدًا في إثبات بطلان ما عليه المسلمون من الحق، وهو نوع آخر من الزيادة في الضلال؛ لذلك نستطيع القول بأن النصرانية لا تبقى إلا بمحاربة الإسلام..!
وبعد أن أثبت سياق آل عمران رغبة أهل الكتاب في إضلال المسلمين عاد ليحدد الأسلوب العملي الذي يسعون من خلاله لتنفيذ هذه الرغبة: {يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون* وقالت طآئفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون}
وهنا تنشأ ضرورة حماية الإسلام.. بالتلويح بحد الردة..
{ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحآجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم* يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم} [آل عمران: 73-74].
وهذه الآية تحدد التفسير القدري لكل الحقائق المتعلقة بأمة الإسلام وطوائف المشركين من أهل الكتاب، فأمة الإسلام: موضع اختصاص برحمة الله.. وجزاؤهم: هبة من فضل عطائه..(1/318)
وبالإضافة إلى ما سبق: إن محاولة إضلال أهل الحق ستكون بنفس طريق الضلال الذي ضلوا به: {قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون} [القصص: 63].
«الكثرة» والحكم القرآني على النصارى بكونهم ضالين له في الواقع شواهد ونتائج دالة عليه، وأهم ذلك الكثرة العددية، فرغم وثنية العقيدة النصرانية ونفور العقل البشري منها تجد كثرة بشرية تنتمي إليها، وتحليل ظاهرة الكثرة هو الذي يكشف أسباب هذا الضلال..
وفي إطار تفسير الكثرة النصرانية تأتي كل عوامل التحريف السابق ذكرها كأسباب مباشرة لهذه الكثرة، وأخطر هذه العوامل: «الأصل الوثني»..
فقد امتدت النصرانية بامتداد الوثنيات التي كانت قائمة قبلها..
ومع أن الوثنية تُصادم العقل الإنساني والفطرة التي فُطِرَ الناس عليها فقد استطاعت النصرانية التحايل على هذا التصادم بوضع التثليث في قالب الوحدانية.. بما اشتهر عندهم «باسم الآب، والابن، والروح القدس.. إلهًا واحدًا..» وهو ما أطلقوا عليه: «الوحدانية الجامعة»..!!
فكانت معالجة النفور العقلي من الوثنية من أهم أسباب كثافة هذا الانتماء الشاذ..
ويدخل في إطار معالجة النفور العقلي من العقيدة النصرانية المحرفة عوامل التأثير النفسية لإحداث القناعة الوهمية ومن أخطر هذه المؤثرات: «التصاوير» و«الموسيقي» التي تكاد تكون الأسلوب الأساسي في التأثير، وأشهر هذه الصور الصورة المزعومة لمريم وهي تحمل عيسي بما في الصورة من استثارة عاطفية نحو العذراء الأم وهي تحمل «الإله» المولود..!
وكذلك «الموسيقي» التي تختلف طبيعتها بحسب البيئة، لتكون الموسيقى في الكنائس الغربية مختلفة عنها في الكنائس الشرقية، مما يدل على هدف التأثير النفسي دون النظر إلى الموضوع أو الفكر أو العقيدة.
«والسحر» بما يمثله من فرض للهيمنة والسيطرة على القلوب من خلال الخوف من المجهول..(1/319)
وكذلك معالجة الرغبة الطبيعية في التحرر من القيود والتكليف والمسئولية، وهذا ما تعاملت النصرانية باعتباره مع الإنسان فألغت الشريعة الناموس والتكليف والحلال والحرام..
ومن أخطر عناصر هذه المعالجة بدعة «الاعتراف» وإلغاء المسئولية، وهي من أسرار الكنيسة السبعة.
لكن أكثر أسباب انسياق الناس بغير عقل وراء النصرانية المحرفة هي تحريم التفكير في العقيدة على عوام النصارى، وقد كشف ابن تيمية في كتاب «درء تعارض العقل مع النقل» وابن حزم في «الملل والنحل» عن هذه الحقيقة بقول واحد: (أن كل من لا يفهم شيئًا.. يقول في نفسه: أنه هو المخطئ، وأن هناك شيء لم يفهمه هو، ولم يبلغه عقله)..!
«نموذج سلفي للتقييم» والمحصلة النهائية لتقييم واقع النصارى هو أن يستقر في عقل المسلم تصور سلفي كامل لهذا الواقع، وقد أعطى الإمام ابن تيمية نموذجًا لهذا التصور حين قال: (فإن ما ذم الله به اليهود والنصارى في كتابه مثل تكذيب الحق المخالف للهوى..
والاستكبار عن قبوله وحسد أهله والبغي عليهم..
واتباع سبيل الغي والبخل والجبن وقسوة القلوب..
ووصف الله سبحانه وتعالى بمثل عيوب المخلوقين ونقائصهم..
وجحد ما وصف به نفسه من صفات الكمال المختصة به التي لا يماثله فيها مخلوق..
وبمثل الغلو في الأنبياء والصالحين، والإشراك في العبادة لرب العالمين..
والقول بالحلول والاتحاد الذي يجعل العبد المخلوق هو رب العباد..
والخروج في أعمال الدين عن شرائع الأنبياء والمرسلين..
والعمل بمجرد هوى القلب وذوقه ووجده في الدين، من غير اتباع العلم الذي أنزله الله في كتابه المبين..(1/320)
واتخاذ أكابر العلماء والعباد أربابًا يتبعون فيما يبتدعونه من الدين المخالف للأنبياء عليهم السلام، كما قال تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهؤون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون* اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون* يريدون أن يطفؤوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون* هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} [التوبة: 30- 33].
ومخالفة صريح المعقول وصحيح المنقول بما يظن أنه من التنزُّلات الإلهية والفتوحات القدسية مع كونه من وساوس اللعين، حتى يكون صاحبها ممن قال الله فيه: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: 10]، {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والأنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} [الأعراف: 179].
إلى غير ذلك من أنواع البدع والضلالات التي ذم الله بها أهل الكتابين، فإنها مما حذر الله منه هذه الأمة الأخيار، وجعل ما حل بها عبرة لأولي الأبصار).
«جزاء الضلال» وفقًا لقاعدة التجانس بين العمل والجزاء يوم القيامة يكون ضلال الجزاء بعد ضلال السعي: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد} [إبراهيم: 18].(1/321)
مما يمكننا تحديد تصور عام للنصرانية المحرفة؛ ذلك أن يوم القيامة سيكون صورة جزائية لأعمال جميع البشر والأمم خيرًا أو شرًّا، وأن هذه الصورة ستبلغ درجة متناهية من الدقة، تظهر بها حقيقة هذه الأعمال، مثل: جزاء المنافقين، حيث سيكونون في الآخرة مع المؤمنين عند مرور الناس من فوق الصراط، مثلما كانوا معهم في الدنيا، ثم يضرب بينهم السور، وهذا دليل الدقة المتناهية في صور الجزاء يوم القيامة {فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} [الحديد: 16].
ومثلما يكون المتكبرون مثل الذر، يطؤهم الناس..
وعلى أساس هذه القاعدة يمكن تقييم موقف النصارى بهذه الدقة من خلال جزائهم في هذا اليوم، والعنصر الأساسي في تقييم النصرانية المحرَّفة هو الابتداع؛ ولذلك كان جزاؤهم هو العطش، وكان هذا الجزاء دليلًا على هذا العمل؛ لأن العطش يوم القيامة هو جزاء الابتداع، باعتبار أن الماء هو المثل الكوني للهدى، ومن هنا جاءت أحاديث الحوض الدالة على هذه الحقيقة..
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أني قد رأيت إخواننا)) فقالوا: يا رسول الله، ألسنا بإخوانك؟ قال: ((بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم(1) على الحوض)) فقالوا: يا رسول الله، كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: ((أرأيت لو كان لرجل خيلٌ غرٌّ محجلةٌ في خيلٍ دهمٍ بُهْمٍ.. ألا يعرف خيله؟)) قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ((فإنهم يأتون يوم القيامة غرًّا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، فلا يُذادَنَّ رجالٌ عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم.. ألا هلم، ألا هلم، ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك!! فأقول: فسحقًا.. فسحقًا.. فسحقًا).
__________
(1) فَرَطُهُم: سابقهم.(1/322)
ومن هنا كان عطش اليهود والنصارى يوم القيامة: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن أناسا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم، هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة ضوء ليس فيها سحاب؟)) قالوا: لا. قال: ((وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ضوء ليس فيها سحاب؟)) قالوا: لا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما تضارون في رؤية الله عز وجل يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما، إذا كان يوم القيامة أَذَّنَ مُؤذِّن: تتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى من كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبقَ إلا من كان يعبد الله بر أو فاجر وغبرات أهل الكتاب، فيدعى اليهود فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيرا ابن الله.. فيقال لهم: كذبتم.. ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تبغون؟ فقالوا: عطشنا ربنا فاسقنا، فَيُشار.. ألا تَرِدُون؟ فَيُحشرون إلى النار.. كأنها سرابٌ يحطم بعضها بعضًا، فيتساقطون في النار.. ثم يُدعَى النصارى فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم.. ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فيقال لهم ما تبغون؟ فكذلك مثل الأول..)) الحديث.
فكما كان العطش جزاءً على التحريف كان الأسلوب الذي يكون به العطش دليلًا آخر في تفسير العقوبة: ((فَيُشار.. ألا تَرِدُون؟.. كأنها سراب)).
وكما كان الضلال توهم للحق، وتوغل في الباطل.. كان جزاؤهم توهم للماء، وتوغل في النار..
الباب الرابع
تصحيح التحريف
تمهيد:
بعد تحليل التحريف النصراني وكشف بطلان النصرانية المحرفة..
وبعد إثبات صدورها عن إبليس، وبطلان الكفارة بتناقضاتها، والصليب وأصله الوثني، وتحريف التوراة والإنجيل، وكشف دور بولس، وأثر اليهود والفلسفة في التحريف..(1/323)
وبعد كشف زوايا التحريف وشواهده، وتقييمه، وكشف التناقض بين النصرانية المحرفة وأصل الدين الصحيح..
.. ننتقل في هذا القسم إلى تصحيح التحريف، من خلال رد القضية إلى الدين الصحيح بخصائصه الربانية..
- في التلقي والمعرفة.
- وفي المضمون والوحي.
- وفي الواقع والأمة.
مع طرح نموذج إنساني لعملية التصحيح.
ففي «التلقي والمعرفة» تكون العلاقة بين الله والإنسان من خلال العقل والقلب الفطرة..
وفي «المضمون والوحي» يكون التصور الصحيح لدين المسيح من خلال العقيدة والأحكام والنصوص..
وفي «الواقع والأمة» يكون تقييم واقع الأمة النصرانية «واقع الانحراف» والأمة الإسلامية «واقع التصحيح» باعتبارهما طرفي الصراع والمواجهة، ثم تقييم التاريخ باعتباره المسار الزمني المستمر للصراع.
الفصل الأول
الخصائص الربانية للدين في التلقي والمعرفة
الله والإنسان
قضية التعريف بالله عند الخلائق قضية نسبية، ينال منها كل نوع من الخلائق قدر إمكاناته، وينال منها كل فرد من أنواع الخلائق قدر طاقته..
وهذا هدهد سليمان يعرِّف الله فيقول: { ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض}، فلما كان الهدهد من أهدى الحيوان وأبصره بمواقع الماء تحت الأرض، لا يراه غيرُه- جاء تعريفه بالله وفقًا لطبيعته، فكما يستخرج هو خبء الطعام من الأرض قال في تعريفه بالله: {الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض}.
أما من حيث النوع الإنساني فإن التعريف بالله يكون من خلال قضية الأسماء والصفات والأفعال، وبالطبيعة الإنسانية الصحيحة التي تتلقى نصوص هذا التعريف.(1/324)
والقرآن يثبت إمكانية وصول الإنسان لمعرفة الله بهذه الطبيعة، وذلك في آيات سورة الأنعام: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين* فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين* فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين* فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون* إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} [الأنعام: 75-79].
حيث ارتكز في كلامه معهم على عدة حقائق فطرية هي:
- أنه مركوز في الفطرة أن الله فوق الخلق.. فنظر في السماء..
- ومركوز في الفطرة أن الله لا يغيب.. فرفض الكوكب بعد أن أفل..
- ومركوز في الفطرة أن الله أكبر.. فاتجه إلى القمر؛ لأنه أكبر من الكوكب..
- ومركوز في الفطرة أن العبادة غاية الحب.. فكان يرفض هذه الظواهر بقوله: {لا أحب الآفلين}.
وكلمة: {لا أحب الآفلين} تمثل في معنى الإيمان، وفي مواجهة التحريف النصراني حقيقة هامة جدًّا؛ ذلك أن النصارى يقولون: إن الطريق الأساسي للفهم هو أن تصير كالمحبوب؛ لأن المرء لا يفهم إلا بمقدار ما يصبح متحدًا مع الشيء الذي يحبه(1).
ويعنون بذلك شرط الحب دون الاقتناع العقلي في تحقيق الإيمان، وهو ما يتطابق مع نظرية الكشف، ومضمونها إمكانية الوصول إلى الإيمان بمجرد الحب، دون الاقتناع، ولكن النص القرآني يثبت شرط القناعة العقلية ليستقر الحق في القلب بالحب، فيتحقق الاطمئنان باجتماع العقل مع الوجدان الذي يكون به الاطمئنان.. وهو معنى الإيمان.
منهج معرفة الله
__________
(1) تراجع: فلسفة «كير كجور» في باب: تحليل التحريف، فصل: الفلسفة اليونانية.(1/325)
وفي قول الله: {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم } [النور: 35]، يقول الإمام ابن القيم: (هذا مثَلٌ لنوره في قلب عبده المؤمن..
وهذا النور يضاف إلى الله تعالى إذ هو معطيه لعبده وواهبه إياه..
ويضاف إلى العبد إذ هو محله وقابله..
فيضاف إلى الفاعل والقابل..
ولهذا النور فاعل وقابل ومحل وحالٌّ ومادة..
وقد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل..
فالفاعل: هو الله تعالى مفيض الأنوار.. الهادي لنوره من يشاء..
والقابل: العبد المؤمن..
والمحل: قلبه..
والحال: همته وعزيمته وإرادته..
والمادة: قوله وعمله..
وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن بما أناله من نوره ما تَقَرُّ به عيون أهله وتبتهج به قلوبهم..
فتأمل صفة المشكاة، وهي كُوَّةٌ تنفذ لتكون أجمع للضوء، قد وضع فيها المصباح، وذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في صفائها وحُسنها، ومادته من أصفى الأدهان وأتمها وقودًا، من زيت شجرة في وسط القَرَاح(1)، لا شرقية ولا غربية، بحيث تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار.. بل هي في وسط القَرَاح محمية بأطرافه، تصيبها الشمس أعدل إصابة، والآفات إلى الأطراف دونها، فمن شدة إضاءة زيتها وصفائها وحسنها يكاد يضيء من غير أن تمسه نار..
فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصه به..
فـ«المشكاة» صدر المؤمن، و«الزجاجة» قلبه، شبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها؛ وذلك قلب المؤمن، فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة..
__________
(1) القَرَاح: أرض منبسطة مخصصة للزرع ليس عليها بناء، والقراح الخالص من كل شيء.(1/326)
فهو بـ«رِقته».. يَرحَم ويُحسِن ويَتَحنَّن ويُشفِقُ على الخلق..
وبـ«صفائه».. تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه، ويباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء..
وبـ«صلابته».. يتشدد في أمر الله، ويتصلب في ذات الله تعالى، ويغلظ على أعداء الله تعالى، ويقوم بالحق.
وقد جعل الله تعالى القلوب كالآنية، كما قال بعض السلف: (القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إليه: أرقها وأصلبها وأصفاها)..
و«المصباح» هو نور الإيمان في قلبه.. و«الشجرة المباركة» هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى ودين الحق وهي مادة المصباح التي يتقد منها..
و«النور على النور» نور الفطرة الصحيحة والإدراك الصحيح، ونور الوحي والكتاب..
فينضاف أحد النورين إلى الآخر فيزداد العبد نورًا على نور..
ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة قبل أن يسمع ما فيه بالأثر، ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به؛ فيتفق عنده شاهد العقل والشرع والفطرة والوحي، فيريه عقله وفطرته وذوقه الذي جاء به الرسول هو الحق، لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة، بل يتصادقان ويتوافقان.. فهذا علامة النور على النور، عكس من تلاطمت في قلبه أمواج الشُّبه الباطلة والخيالات الفاسدة من الظنون والجهالات كما قال تعالى عنهم: {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} [النور: 40].
فانظر كيف تضمنت هذه الآيات طرائق بني آدم أتمَّ انتظام، واشتملت عليه أكمل اشتمال.
وبعد أن ذكر الإمام ابن القيم نموذج الطبيعة الإنسانية الصحيحة في معرفة الله والإيمان به يذكر أقسام الناس تجاه هذا النموذج..
أقسام الناس تجاه منهج المعرفة
(والناس بالنسبة لنور الله قسمان:(1/327)
القسم الأول: «أهل الهدى والبصائر» الذين عرفوا أن الحق فيما جاء به الرسول عن الله سبحانه وتعالى، وأن كل ما عارضه فشبهات يشتبه على من قلَّ نصيبه من العقل والسمع أمرها، فيظنها شيئًا له حاصل ينتفع به وهي: {كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} [النور: 39].
وهؤلاء هم أهل الهدى ودين الحق، أصحاب العلم النافع والعمل الصالح..
الذين صدقوا الرسول في أخباره ولم يعارضوها بالشبهات..
وأطاعوه في أوامره ولم يضيعوها بالشهوات..
فلا هم في علمهم من أهل الخوض الخرَّاصين الذين هم في غمرة ساهون، ولا هم في عملهم من المستمتعين بخَلاقهم، الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك هم الخاسرون..
أضاء لهم نور الوحي المبين فرأوا في نوره أهل الظلمات في ظلمات آرائهم يعمهون، وفي ضلالتهم يتهوكون، وفي ريبهم يترددون، مغترين بظاهر السراب، ممحلين مجدبين مما بعث الله تعالى به رسوله من الحكمة وفصل الخطاب، إن عندهم إلا نُخالة الأفكار وزبالة الأذهان، التي قد رضوا بها واطمأنوا إليها وقدموها على السنة والقرآن، إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه، أوجبه لهم اتباع الهوى ونخوة الشيطان، وهم لأجله يجادلون في آيات الله بغير سلطان..
والقسم الثاني: «هم أهل الجهل والظلم والظلمات» وهم نوعان أيضًا:(1/328)
النوع الأول: «أهل الجهل والظلم» الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به، والظلم باتباع أهوائهم، الذين قال الله تعالى فيهم: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم: 23].. الذين يحسبون أنهم على علم وهدى وهم أهل الجهل والضلال، فهؤلاء هم أهل الجهل المركب الذين يجهلون الحق، ويعادونه ويعادون أهله، وينصرون الباطل ويوالون أهله، وهم يحسبون أنهم على شيء، ألا أنهم هم الكاذبون، فهم لاعتقادهم الشيء على خلاف ما هو عليه بمنزلة رائي السراب، الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، وهكذا هؤلاء.. أعمالهم وعلومهم بمنزلة السراب الذي يخون صاحبه أحوج ما هو إليه، ولم يقتصر على مجرد الخيبة والحرمان كما هو حال من أمَّ السراب فلم يجده ماء، بل انضاف إلى ذلك أنه وجد عنده أحكم الحاكمين وأعدل العادلين سبحانه وتعالى، فحسَبَ له ما عنده من العلم والعمل، فوفَّاه إياه بمثاقيل الذر، وقدِم إلى ما عمل من عمل يرجو نفعه فجعله هباءً منثورًا، إذ لم يكن خالصًا لوجهه ولا على سنة رسول الله، وصارت تلك الشبهات الباطلة التي كان يظنها علومًا نافعة كذلك هباءً منثورًا، فصارت أعماله وعلومه حسرات عليه.
و«السراب» ما يرى في الفلاة المنبسطة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب على وجه الأرض، كأنه ماء يجري، و«القيعة» القاع: هو المنبسط من الأرض الذي لا جبل فيه، ولا فيه واد.
فشبه علوم من لم يأخذ علومه وأعماله من الوحي بسراب يراه المسافر في شدة الحر فيؤُمَّه فيخيب ظنه ويجده نارًا تلظى، فهكذا علوم أهل الباطل وأعمالهم، إذا حُشر الناس واشتد بهم العطش بدت لهم كالسراب، فيحسبونه ماء، فإذا أتوه وجدوا الله عنده، فأخذتهم زبانية العذاب فعتلوهم إلى نار الجحيم، فسُقوا ماء حميمًا فقطع أمعاءهم.(1/329)
وذلك الماء الذي سقوه هو تلك العلوم التي لا تنفع، والأعمال التي كانت لغير الله تعالى صيرها الله تعالى حميمًا سقاهم إياه، كما أن طعامهم من ضريع، لا يُسمن ولا يُغني من جوع، وهو تلك العلوم والأعمال الباطلة التي كانت في الدنيا، كذلك لا يُسمن ولا يُغني من جوع، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} وهم الذين عنى بقوله: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} وهم الذين عنى بقوله تعالى: {كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار}.
والنوع الثاني: «هم أصحاب الظلمات» المنغمسون في الجهل، بحيث قد أحاط بهم من كل وجه، فهم بمنزلة الأنعام بل هم أضل سبيلا، فهؤلاء أعمالهم التي عملوها على غير بصيرة، بل بمجرد التقليد واتباع الآباء، من غير نور من الله تعالى..
{أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} [النور: 40].
{كظلمات} جمع ظلمة، وهي ظلمة الجهل، وظلمة الكفر، وظلمة الظلم، واتباع الهوى، وظلمة الشك والريب، وظلمة الإعراض عن الحق، الذي بعث الله تعالى به رسله صلوات الله وسلامه عليهم، والنور الذي أنزله معهم ليُخرجوا به الناس من الظلمات إلى النور، فإن المعرض عما بعث الله تعالى به محمدًا من الهدى ودين الحق يتقلب في خمس ظلمات.. فقوله ظُلمَة، وعمله ظُلمَة، ومدخله ظُلمَة، ومخرجه ظُلمَة، ومصيره إلى الظُلمَة، وقلبه مُظلم، ووجهه مُظلم، وكلامه مُظلم، وحاله مُظلم.
وإذا قابلت بصيرته الخفاشية ما بعث الله به محمدًا من النور.. جَدَّ في الهرب منه، وكاد نور الوحي يخطف بصره، فهرب إلى ظلمات الآراء التي هي به أنسب وأولى، كما قيل:
خفافيش أعشاها النهار بضوئه
ووافقها قطع من الليل مظلم(1/330)
فإذا جاء إلى زبالة الأفكار ونخالة الأذهان.. جال ومال، وأبدى وأعاد، وقعقع وفرقع
فإذا طلع نور الوحي وشمس الرسالة.. انحجر في حجرة الحشرات..!
وأما قوله تعالى: {في بحر لجي} «اللُّجِّيُّ» العميق، منسوب إلى لجة البحر وهو معظمه..
وقوله تعالى: {يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب} تصوير لحال هذا المُعرض عن وحيه، فشبَّه تلاطم أمواج الشبه والباطل في صدره بتلاطم أمواج ذلك البحر، وأنها أمواج بعضها فوق بعض..
والضمير الأول في قوله {يغشاه} راجعٌ إلى البحر، والضمير الثاني في قوله {من فوقه} عائدٌ إلى الموج، ثم إن تلك الأمواج مغشاة بسحاب..
فهاهنا ظلمات: ظلمة البحر اللجي، وظلمة الموج الذي فوقه، وظلمة السحاب الذي فوق ذلك كله.. إذا أخرج من في هذا البحر يده لم يكد يراها.
والمقصود من قوله: {لم يكد يراها} إما أنه يدل على أنه لا يقارب رؤيتها لشدة الظلمة وهو الأظهر، فإذا كان لا يُقارب رؤيتها فكيف يراها..؟
فَشَبَّه سبحانه أعمالهم «أولًا» في فوات نفعها وحصول ضررها عليهم بسراب خداع، يخدع رائيه من بعيد، فإذا جاءه وجد عنده عكس ما أمله ورجاه..
وشبهها «ثانيًا» في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة خالية عن نور الإيمان بظلمات متراكمة في لجج البحر المتلاطم الأمواج، الذي قد غشيه السحاب من فوقه..
فيا له تشبيهًا ما أبدعه، وأشد مطابقته بحال أهل البدع والضلال، وحال من عبد الله سبحانه وتعالى على خلاف ما بعث به رسوله وأنزل به كتابه، وهذا التشبيه هو تشبيه لأعمالهم الباطلة بالمطابقة والتصريح، ولعلومهم وعقائدهم الفاسدة باللزوم، وكل واحد من السراب والظلمات مثل لمجموع علومهم وأعمالهم، فهي سراب لا حاصل لها، وظلمات لا نور فيها، وهذا عكس مثل أعمال المؤمن وعلومه التي تلقاها من مشكاة النبوة، فإنها مثل الغيث الذي به حياة البلاد والعباد، ومثل النور الذي به انتفاع أهل الدنيا والآخرة(1).
__________
(1) بتصرف: من «اجتماع الجيوش الإسلامية».(1/331)
العلاقة بين الطبيعة الإنسانية ومعرفة الله
وبذلك يكون الإيمان بتوافق وفاعلية المعرفة الصحيحة مع الطبيعة الإنسانية الصحيحة.
والتوافق بين المعرفة الإلهية والطبيعة الإنسانية الصحيحة يتم من حيث القضايا العقدية ذاتها.. ومن حيث أسلوب طرح هذه القضايا..
ولنضرب لذلك مثلًا..
ففي جانب إثبات القدرة الإلهية على البعث كان الإثبات من خلال حقيقة عقلية تقول: إن إعادة الشيء أهون من بدايته: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} [الروم: 27].
وأن هذه الحقيقة تمثل قانونًا عقليًّا يُحتج به؛ ولذلك كان التعقيب على هذه الحقيقة هو قول الله: {وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} لنفهم أن مراعاة الطبيعة البشرية في التعريف بالله هي فقط حقيقة منهجية لتعريف الإنسان بالله وفق طبيعته العقلية، وأن هذه المراعاة لا تعني قيام الله ذاته بتلك القوانين: {وله المثل الأعلى في السماوات والأرض}.
ولأن الله بقدرته ليس عنده صعبٌ وسهلٌ في البدء أو الإعادة: {وهو العزيز الحكيم} فالعزة تمام القدرة، والحكمة تمام العلم: {إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82]، {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40].
ويفسر ابن القيم هذه الفاعلية بقوله: (القرآن كلام الله، وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته، فتارة يتجلى بـ«صفات الهيبة والعظمة والجلال».. فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكِبْرُ، كما يذوب الملح في الماء..
وتارة يتجلى بـ«صفات الجمال والكمال» وهو كمال الأسماء، وجمال الصفات، وجمال الأفعال الدال على كمال الذات.. فيستنفد حبه من قلب العبد قوة الحب كلها، بحسب ما عرفه من صفات جماله، ونعوت كماله، فيصبح فؤاد عبده فارغًا إلا من محبته، فإذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كل الإباء..(1/332)
فتبقى المحبة له طبعًا لا تكلفًا..
وإذا تجلى بصفات «الرحمة والبر واللطف والإحسان».. انبعثت قوة الرجاء من العبد، وانبسط أمله، وقوي طمعه، وسار إلى ربه وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره، وكلما قوي الرجاء جَدَّ في العمل..
وإذا تجلى بصفات «العدل والانتقام والغضب والسخط والعقوبة».. انقمعت النفس الأمَّارة، وبطلت أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص على المحرمات، وانقبضت أعِنَّة رعوناتها، فأحضرت المطية حظها من الخوف والخشية والحذر.
وإذا تجلى بصفات «الأمر والنهي والعهد والوصية وإرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع».. انبعثت منها قوة الامتثال، والتنفيذ لأوامره، والتبليغ لها، والتواصي بها، وذِكرها وتذكرها، والتصديق بالخبر، والامتثال للطلب، والاجتناب للنهي.
وإذا تجلى بصفات «السمع والبصر والعلم».. انبعثت من العبد قوة الحياء، فيستحي من ربه أن يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يُخفي في سريرته ما يمقته عليه، فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع، غير مهملة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى..
وإذا تجلى بصفات «الكفاية والحسب، والقيام بمصالح العباد، وسوق أرزاقهم إليهم، ودفع المصائب عنهم، ونصره لأوليائه، وحمايته لهم، ومعيته الخاصة بهم».. انبعثت من العبد قوة التوكل عليه، والتفويض إليه، والرضا به في كل ما يُجريه على عبده، ويقيمه فيه مما يرضى به هو سبحانه.. والتوكل معنى يلتئم من علم العبد بكفاية الله، وحسن اختياره لعبده، وثقته به، ورضاه بما يفعله ويختاره له.
وإذا تجلى بصفات «العز والكبرياء».. أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت إليه من الذل لعظمته، والانكسار لعزته، والخضوع لكبريائه، وخشوع القلب والجوارح له، فتعلوه السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه وسمته، ويذهب طيشه وقوته وحِدَّته.(1/333)
وجماع ذلك: أنه سبحانه يتعرف إلى العبد بصفات «إلهيته» تارة، وبصفات «ربوبيته» تارة، فيوجب له شهود «صفات الإلهية» المحبة الخاصة، والشوق إلى لقائه، والأنس والفرح به، والسرور بخدمته، والمنافسة في قربه، والتودد إليه بطاعته، واللهج بذكره، والفرار من الخلق إليه، ويصير هو وحده همُّه دون ما سواه.
ويوجب له شهود «صفات الربوبية» التوكل عليه، والافتقار إليه، والاستعانة به، والذل والخضوع والانكسار له.
وكمال ذلك أن يشهد ربوبيته في إلهيته، وإلهيته في ربوبيته، وحمده في ملكه، وعزه في عفوه، وحكمته في قضائه وقدره، ونعمته في بلائه، وعطاءه في منعه، وبره ولطفه وإحسانه ورحمته في قيوميِّته، وعدله في انتقامه، وجوده وكرمه في مغفرته وستره وتجاوزه، ويشهد حكمته ونعمته في أمره ونهيه، وعزه في رضاه وغضبه، وحلمه في إمهاله، وكرمه في إقباله، وغناه في إعراضه.
ومن هنا كان الربط بين الأسماء الحسنى وهذه الطبيعة كما قال ابن القيم: (وأكمل الناس عبودية: المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر، فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر، فلا يحجبه التعبد باسمه «القدير» عن التعبد باسمه «الحليم الرحيم» أو يحجبه اسمه «المعطي» عن عبودية اسمه «المانع» أو عبودية اسمه «الرحيم والعفو والغفور» عن التعبد باسمه «العليم والبر» وأسماء اللطف والإحسان عن أسماء «العدل والجبروت والعظمة والكبرياء» ونحو ذلك.
وهذه طريقة الكُمَّل من السائرين إلى الله، وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن، قال الله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} والدعاء بها يتناول دعاء المسألة ودعاء الثناء ودعاء التعبد، وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها).
وهذا هو كمال العبودية المحقق لكمال الإنسانية، هذا الكمال الذي يوجب الحمد لله..(1/334)
وفي المقابل كان الخلل في قضية التعريف بالله لا يعني إلا الخلل في الطبيعة الإنسانية، إلى الحد الذي يصل إلى المسخ، ومن هنا جاء في سورة الأعراف: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والأنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون* ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} [الأعراف: 179-180].
فذكرت الآيات الطبيعة المعوجة العاطلة الممسوخة في مقابل منهج تحقيق الطبيعة المستقيمة بالفهم الصحيح لأسماء الله الحسنى، حتى تبلغ هذه الطبيعة الغاية في الاستقامة والكمال في العبودية.
العقل، والقلب، والفطرة
إذن، فالإيمان يقوم على مرتكزات العقل والقلب والفطرة..
وتفسير العلاقة بين هذه المرتكزات هو الذي يفسر أثرها جميعًا في تحقيق الإيمان..
ونبدأ بعلاقة العقل بالقلب؛ لأنها أساس هذا التفسير..
فعندما يصدق العقل بالحقيقة.. يرسلها إلى القلب لتستقر، مرورًا بالصدر الذي ينشرح لها فلا تَحيك فيه، فإذا استقرت الحقيقة في القلب يكون الاطمئنان والإيمان.. لأن الإيمان هو الاطمئنان.
وليكون أول مقتضيات ذلك.. التسليم العقلي بكل موجبات الإيمان.
ثم يكون عمل الجوارح بمقتضى سلطان القلب عليها.. وبذلك تكون علاقة العقل بالإيمان هي القناعة ابتداءً.. والتسليم انتهاءً.. فلا يكون تسليم بغير قناعة في الابتداء.. ولا تشترط القناعة بعد التسليم في الانتهاء..
وهناك حدٌّ فاصل بين قناعة الابتداء وتسليم الانتهاء، والخلط بين الأمرين خطر عظيم.. لأن هذا الحد هو حد التعريف بالله، وهو ما يقتضي القناعة وما تستلزمه من تفكر وتدبر.. ثم التسليم وما يصحبه من اطمئنان ويقين؛ ومن ثم تتحقق العبودية.
وهذا التصور تدخل فيه عدة اعتبارات:(1/335)
«الاعتبار الأول» أن مرحلة التسليم في الانتهاء لا يجب أن يكون فيها ما يُناقض العقل، فيكون التسليم مختصًّا بما لا يبلغه العقل، مثل الغيبيات والأحكام التي لم تبلغ العقول إدراك الحكمة منها.
«الاعتبار الثاني» أن يكون التسليم أمام نصوص شرعية صريحة، ولا يكون أمام أقوال أو اجتهادات بشرية؛ لأن العقل من حقه رد الاجتهاد العقلي للآخرين.
وبهذين الاعتبارين تكلم ابن تيمية في العلاقة بين العقل والاعتقاد عند النصارى فقال: (معلوم عندهم -يقصد النصارى- وعند سائر أهل الملل أن الله موجود حي عليم قدير متكلم، لا تختص صفاته بثلاثة، ولا يعبر عن ثلاثة منها بعبارة لا تدل على ذلك، وهو لفظ الآب والابن وروح القدس، فإن هذه الألفاظ لا تدل على ما فسروها به في لغة أحد من الأمم، ولا يوجد في كلام الأنبياء أنه عبر بهذه الألفاظ عما ذكروه من المعاني، بل إثبات ما ادعوه من التثليث، والتعبير عنه بهذه الألفاظ هو مما ابتدعوه، لم يدل عليه لا شرع ولا عقل، وهم يدعون أن التثليث والحلول والاتحاد إنما صاروا إليه من جهة الشرع -وهو نصوص الأنبياء والكتب المنزلة- لا من جهة العقل، وزعموا أن الكتب الإلهية نطقت بذلك، ثم تكلفوا لما ظنوه مدلول الكتاب طريقا عقليًّا فسروه بها تفسيرًا ظنوه جائزًا في العقل؛ ولهذا نجد النصارى لا يلجئون في التثليث والاتحاد إلا إلى الكتب، وهم يجدون نفرة عقولهم وقلوبهم عن التثليث والاتحاد والحلول.
فإن فطرة الله التي فطر الناس عليها وما جعله الله في قلوب الناس من المعارف العقلية -التي قد يسمونها ناموسًا عقليًّا طبيعيًّا- يدفع ذلك وينفيه وينفر عنه، ولكنهم يزعمون أن الكتب الإلهية جاءت بذلك، وأن ذلك أمرٌ يفوق العقل، وأن هذا الكلام طور وراء طور العقل، فينقلونه لظنهم أن الكتب الإلهية أخبرت به، لا لأن العقول دلت عليه، مع أنه ليس في الكتب الإلهية ما يدل على ذلك، بل فيها ما يدل على نقيضه.(1/336)
ولا يُميِّزون بين ما يحيله العقل ويبطله ويعلم أنه ممتنع، وبين ما يعجز عنه العقل فلا يعرفه ولا يحكم فيه بنفي ولا إثبات.. فالرسل قد أخبرت بالنوع الثاني، ولا يجوز أن تخبر بالنوع الأول، فلم يفرقوا بين محالات العقول ومحارات العقول، وقد ضاهوا في ذلك من قبلهم من المشركين الذين جعلوا لله ولدا شريكا، قال تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهؤون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30].
ولما كان مستند النصارى هو ما ينقلونه إما عن الأنبياء وإما عن غيرهم ممن يوجبون اتباعه، كانوا إذا أوردوا على علمائهم ما يقتضي امتناع ذلك قالوا: (هكذا في الكتاب).. و(بهذا نطق الكتاب).. و(هذه الكتب جاءت بها الرسل).. يعنون المؤيَّدين بالمعجزات، ويعنون بالرسل الحواريين، فاعتصامهم بها إنما هو لما ظنوه مذكورًا في الكتب الإلهية وإن رأوه مخالفًا لصريح المعقول؛ ولهذا ينهون جمهورهم عن البحث والمناظرة في ذلك، لعلمهم بأن العقل الصريح متى تصور دينهم علم أنه باطل، فدعوى المدعين أنَّا إنما قلنا: أب وابن وروح قدس؛ لتصحيح القول بأن الله حيٌّ ناطق- كذبٌ ظاهر.. وهم يعلمون أنه كذب.
وتصحيح القول بأن الله حيٌّ متكلم لا يقف على هذه العبارة، بل يمكنه تصحيح ذلك بالأدلة الشرعية والسمعية والعقلية، والتعبير عنه بالعبارات البينة كما يقوله المسلمون وغيرهم.. بدون قولنا: أب وابن وروح قدس..!
وإذا جاز عدم بحث الإلهيات بالعقل لقال كل مبطل من الباطل، وما هو فوق العقل، فإذا سألتَ النصارى: هل تفقهون وتعقلون وتتصورون ما تقولون؟
فإن قالوا: لا..! قلنا لهم: أنتم تقولون على الله ما لا تعلمون، وما ليس لكم به علم..
وإن قالوا: نفقه ونعقل ونتصور..! قلنا لهم: بينوه لغيركم حتى يفقهه ويعقله ويتصوره..!(1/337)
وألفاظ الأنبياء وحدها هي التي تُقال وتُنقل، حتى ولو لم تُفهم، أما ألفاظ النصارى فهي من عند أنفسهم.. المجامع وقوانين الإيمان..
أما إذا قلتم: إنها في التوراة والإنجيل؛ قلنا: فلم كانت المجامع..؟! وعندكم قانون الإيمان هو الأساس في محاولة إثبات العقيدة المسيحية.
وباعتبار أن النصوص الواردة عنهم ليست نصوص إنجيلية فيلزم أن تكون قابلة للفهم؛ لأنها من قول الناس، إذ إن النصوص الكتابية هي التي يمكن الاحتجاج بها دون الوصول إلى معناها)..
وفي العلاقة بين العقل والإيمان يدعي النصارى أن الله حقيقة مطلقة لا تفهم إلا بصورة مطلقة، ليس العقل شرطًا لها..!
ونحن نتفق على استحالة استيعاب حقيقة الذات الإلهية بالعقل، ولكن الذي يجب استيعابه عقليًّا هو القدر الذي نبلغ به حد الإيمان المحقق للتوحيد، وهو معنى لا إله إلا الله، والعقل أساس في الوصول إلى هذا الحد.
وقد ساهمت الفلسفة في إنشاء موقف التناقض مع العقل، فتم تبرير المسيحية «ذات الأصل الوثني» فلسفيًّا في العصر الحديث على يد كل من:
«هيجل» الذي قال بتأسيس العالم على فكرة التثليث عن طريق استنباط الأشياء بعضها من بعض على أساس: الفكرة، ونقيضها، والمركب منهما العائد على الفكرة والتي هي عودة الابن إلى الأب..!
و«كانط» الذي برر عدم اعتماد المسيحية على العقل بدعوى أن العقل نفسه من حيث هو عقل قاصر..!
و«كيركجور»: الذي قرر أن الحقيقة ليست هي انطباق العقل مع الواقع، بل هي انفتاح الذات على الأشياء، وهي –أي: الحقيقة- متجاوزة للعقل بطبيعتها..!
وكما كان التناقض بين النصرانية وبين العقل والقلب كذلك كان التناقض بين النصرانية والفطرة، فكان للتناقضات ومحالات العقول عند النصارى أثرٌ في فساد الفطرة وضياع الاطمئنان القلبي في العقيدة.
فالألوهية هي المقام الذي يتجه إليه العبد بكليته.. يتجه إليه وحده، فلا شيء في العبد خارج هذا التوجه، ولا جهة أخرى إلا هذا الاتجاه..(1/338)
فكيف يكون إحساسٌ بالله وإحساسٌ بابن الله..؟!
من منهما صاحب مقام الألوهية الذي سأتجه إليه بكياني كله.. وأتجه إليه وحده..؟!
ولأجل أن إحساس التوجه إلى الله الواحد.. إحساسٌ فردي نفسي قال الله: {قل} بصيغة مفردة.. {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} [الإسراء: 111].
وقول الله: {الحمد لله} لا يُفهَم مقام الألوهية إلا به؛ لأن نفي الولد هو الذي يحقق وحده.. التوجه الوجداني لله الواحد.. وهي نعمة نفسية عظيمة تقتضي الحمد..
{ولم يكن له شريك في الملك} فادِّعاء الولد شرك في الذات.. يماثله الشرك في الملك..
فلا يكون لله شريك في ذاته.. ولا في مُلكه..
{ولم يكن له ولي من الذل} فيكون المنطلق الوجداني نحو الله.. باسمه الواحد والملك والعزيز.. ليكون الإكبار.. {وكبره تكبيرا}.
وبذلك تكون النجاة من التشتت بين الأقانيم الثلاثة كما عند النصارى..
فنجدهم بالاعتبار النفسي والقلبي.. يعيشون فكرة «الابن» أكثر من فكرة «الأب»..
ولا يذكرون فكرة «روح القدس» إلا في مجال المناظرة؛ لأنهم يعيشونها كموضوع جدل باعتبار أن مشكلة «الابن» هي الأكثر مجالًا في المناقشة؛ ولذلك تجد غيابًا عقليًّا وقلبيًّا ونفسيًّا عجيبًا «للروح القدس»..!
حتى لو قالوا: إن الثلاثة إلهٌ واحد.. إذ كيف يكون التوجه والانشغال القلبي والوجداني بالأب والابن في لحظة واحدة..؟!
وهذه المشكلة النفسية لم تظهر من خلال الصراع الجدلي فقط، بل بدأت مع بداية الابتداع..
وقد ثبت تاريخيًّا أن الجدل الذي بدأ يُثار حول عيسى ابن مريم بدأ بفكرة «الابن» وظل الأمر على ذلك زمنًا طويلًا قبل أن تثار فكرة «الروح القدس» وهل هو داخل في الأقانيم أم لا..
حيث ظلت العقيدة المبتدعة بغير ذكر لـ«الروح القدس» فترة زمنية طويلة..
ثم مر زمن طويل لتظهر فكرة «الأم» حيث بدأ الخلاف فيها ودخولها في مقام الألوهية..!(1/339)
وقد تم ذلك من خلال المجامع المعروفة، فكان المجمع الأول سنة 325 وناقش مشكلة «الابن»..!
ثم كان المجمع الثاني بعد ثمانية وخمسين عامًا وناقش مشكلة «روح القدس»..!
ثم كان المجمع الثالث بعد واحد وخمسين عامًا وناقش مشكلة دخول مريم في مشكلة الألوهية..!
وحتى الصليب الذي قرر النصارى عبادته لم يظهر إلا بعد ثلاثمائة وعشرون سنة بعد ميلاد المسيح..!!
ولما كان أصحاب بدعة الولد يعانون معاناة شديدة من فقدان الاطمئنان العقدي فقد كانت لهم محاولات تاريخية في معالجة فقد هذا الاطمئنان من خلال المجامع وقوانين الإيمان المذكورة، وكان أهمها إثبات أن الأقانيم إله واحد..
ولكنهم فشلوا.. فلم يُجدي قولهم بأن الآب هو الابن.. لأن مجرد ظهور لفظ «الابن» في مصطلحات العقيدة سيقتضي توجهًا وجدانيًّا تلقائيًّا نحو هذا اللفظ، وعندئذ يكون التشتت الوجداني بين الأقانيم..!
إن ادعاء الولد هو أكبر أزمة إنسانية نفسية، والواقع النفسي للنصارى دليل على هذه الأزمة؛ لأن كل فرد من أفراد الأمة النصرانية.. له إحساسٌ خاص بالإله..!!
إحساسٌ ناشئٌ عن التعامل الشخصي مع عقيدته..
فمنهم من يختلف إحساسه بـ«الأب».. عن الإحساس بـ«الابن».. عن الإحساس بـ«روح القدس» عن الإحساس بـ«مريم»..!!
كما يختلف إحساسه بالشكل النهائي للعلاقة بين هذه العناصر.. إذا استطاع أن يصل إلى هذا الشكل.. !!
لذلك يركزون كثيرًا على ما يسمونه بالاختبارات الشخصية، وهي مجموع الخبرات الشخصية لكل فرد في كيفية إحساسه بالله..!
فالعقيدة الصليبية نشأت مرتبطة بالعقيدة الوثنية الرومانية، فكانت الحالة النفسية الرومانية تجاه الآلهة.. هي نفسها الحالة التي تشكلت بها النفسية النصرانية.
وظاهرة الهزيمة النفسية أمام الرومان والامتزاج النفسي معهم دليل على هذه النتيجة، والدراسة النفسية للنصارى تثبت هذه الحقيقة..
وليست أسطورة «البطل الروماني» إلا شاهدًا على ذلك..(1/340)
وكذلك الأسماء النصرانية الدالة على فقدان الشخصية، حيث نراها مشتتة بين الأسماء الرومانية:
والفرعونية: «مينا» و«رمسيس»..
والغربية: «مارك» و«مايكل»..
ولذلك كله كان واجبُ الحمد لله على نعمة الإسلام وكلمة الإخلاص كما في الآية: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا}.
وكان واجب الحمد علي الوضوح والبساطة.. والكمال والتوازن.. واليقين والاطمئنان بالإسلام.
وها هُم أصحاب التصور الإسلامي في قضية التعريف بالله.. يؤمنون ويعلنون أنه:
- ما عُلم بالعقل الصريح لا يخالفه قط خبرٌ صحيح ولا حِسٌّ صحيح..
- وما عُلم بالخبر الصحيح لا يخالفه قط عقلٌ صحيحٌ ولا حِسٌّ صحيح..
- وما عُلم بالحس الصحيح لا يخالفه قط عقلٌ صحيحٌ ولا خبر صحيح..
- فالعقل والخبر والحس لا يتناقضون إذا صحوا..
ولذلك يقوم التصور الإسلامي في قضية التعريف بالله على أساس عقلي مستقيم، واطمئنان قلبي كامل، ومن هنا كان طلب المسلمين من النصارى الملاعنة والمباهلة على العقيدة، كما قال الله سبحانه: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} [آل عمران: 61].
ومن هنا كان تراجع أصحاب النصرانية المحرفة..
ووفد نجران كانوا من الذين لم يسلموا؛ ولكن موقفهم أعطى دلالة على موقف النصارى في مرحلة بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقد ثبت في الصحاح حديث وفد نجران؛ ففي البخاري ومسلم عن حذيفة وأخرجه مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: لما نزلت هذه الآية [سورة آل عمران الآية 61] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا وفاطمة وحسنًا وحسينًا فقال: ((اللهم هؤلاء أهلي)).(1/341)
وفي البخاري عن حذيفة بن اليمان قال: جاء السيد والعاقب صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبيًّا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنما نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلًا أمينًا ولا تبعث معنا إلا أمينًا، قال: ((لأبعثن معكم رجلًا أمينًا حق أمين)).
فالابتهال هو الذي يجرد الموقف النصراني من عوامل التحريف والتزييف والتضليل؛ لأن الابتهال سيضع حب الأبناء والنساء والأنفس أمام ما في قلوبهم وعقولهم من التحريف.
«الأذكار»: والتوافق بين التعريف بالله من خلال قضية الأسماء والصفات والطبيعة الإنسانية السوية التي تتلقى هذا التعريف له امتدادٌ واقعيٌّ هام.. وهو أن الإنسان الذي يتلقى التعريف بالله بطبيعته السوية يجب أن يعيش قضية الأسماء والصفات بعد تلقيها.. بكل حياته.. بلحظاتها ومواقفها وأحوالها: {واصطنعتك لنفسي* اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري} [طه: 41-42].
فالذكر هو المحقق للعلاقة بين صنع الله للعبد.. لنفسه سبحانه.
والأذكار هي الأسلوب العملي المحقق للارتباط بين البرنامج الحياتي اليومي للإنسان المسلم وحقائق الأسماء والصفات..
وعندما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هبط واديًا: سبحان الله..
وباعتبار أن نفي الولد عن الله كان القاعدة الأساسية لحقائق الأسماء والصفات كانت هذه الحقيقة هي أساس الأذكار.
فيتلو المسلم {قل هو الله أحد} في الصباح والمساء وعند النوم وعقب صلاتي المغرب والفجر..
وهذا معناه: أن تنزيه الله قضية حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة.. والمؤمنين عامة.
ومن السلوك اليومي.. إلى رُقية العلاج من السقم والضر..(1/342)
أخرج أبو يعلى وابن السني، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ويدي في يده، فأتى على رجل رث الهيئة فقال: ((أي فلان، ما بلغ بك ما أرى؟)) قال: السقم والضر. قال: ((ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر... قل: توكلت على الحي الذي لا يموت، و{الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا})) فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حسنت حالته، فقال: ((مهيم؟)) فقال: لم أزل أقول الكلمات التي علمتني.
وفي النهاية.. تصبح قضية نفي الولد عن الله هي قضية الأمة التي تعيشها الأجيال، ويُربى عليها الغلمان..
آية العز الإلهي الذي تستمد منه الأمة عزها: {ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم* ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون* هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون* قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون* قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون* متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون}.
وهي آية العز التي تشهد لله بالتنزه عن الولد..
وأخرج ابن أبي شيبة عن عمرو بن شعيب رضي الله عنه قال: كان الغلام إذا أفصح من بني عبد المطلب علمه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية سبع مرات: {الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا} الآية.(1/343)
وأخرج ابن السني عن عثمان ابن عفان رضي الله عنه قال: مرضت فكان رسول الله صلي الله عليه وسلم يعودني فعوذني يومًا، فقال (بسم الله الرحمن الرحيم، أعيذك بالله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد من شر ما تجد، فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا قال: يا عثمان، تعوذ بهما فما تعوذتم بمثلها).
الفصل الثاني
الخصائص الربانية للدين في المضمون والوحي
دين المسيح
ومن هنا كان من المتفق عليه أن الدين عند الله هو الإسلام، وأنه دين الرسل، وأن عيسى عليه الصلاة والسلام رسول الله..
وقد فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام } [آل عمران: 19] بقوله: ((إن الدين عند الله الحنيفية.. لا اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية))(1)..
ولكننا نعني بـ«دين المسيح» مفهوم الإسلام في رسالة عيسى عليه الصلاة والسلام..
وهو الوارد في قول الله سبحانه: {فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون* ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} [آل عمران: 51-52].
وقد أثبت القرآن المعالم الأساسية لدين الإسلام بالنسبة لبني إسرائيل من خلال هذه الآيات: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون} [البقرة: 83].
وكذلك بالنسبة للمسيح عليه السلام: {قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا* وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا* وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا} [مريم: 31].
__________
(1) أورده القرطبي في التفسير عن شعبة عن عاصم عن زرٍّ عن أُبَيّ.(1/344)
ويأتي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.. الجامع في الدلالة على أصول دين المسيح عليه السلام، والذي يقول فيه: ((إِنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ؛ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا، وَيَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، وَأنَّهُ كَادَ أَنْ يُبْطِئَ بِهَا، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ لِتَعْمَلَ بِهَا وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، فَإِمَّا أَنْ تَأْمُرَهُمْ وَإِمَّا أَنْ آمُرَهُمْ، فَقَالَ يَحْيَى: أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي بِهَا أَنْ يُخْسَفَ بِي وَأُعَذَّبَ.
فَجَمَعَ يَحْيَى النَّاسَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَامْتَلَأَ الْمَسْجِدُ وَقعَدُوا عَلَى الشُّرَفِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ؛ أَنْ أَعْمَلَهُنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ:
أَوَّلُهُنَّ: أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، فَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ، فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ دَارِي وَهَذَا عَمَلِي، فَاعْمَلْ وَأَدِّ إِلَيَّ؛ فَكَانَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ؟!!
وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ.
وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ فِي عِصَابَةٍ، مَعَهُ صُرَّةٌ فِيهَا مِسْكٌ، فَكُلُّهُمْ يَعْجَبُ أَوْ يُعْجِبُهُ رِيحُهُ، وَإِنَّ رِيحَ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ.(1/345)
وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَأَوْثَقُوا يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَقَالَ: أَنَا أَفْتَدِي مِنْكُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَفَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ.
وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا، حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ، اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ:
السَّمْعُ، وَالطَّاعَةُ، وَالْجِهَادُ، وَالْهِجْرَةُ، وَالْجَمَاعَةُ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يُرَاجعَ، وَمَنْ ادَّعَى دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا(1) جَهَنَّمَ)).
فقال رجل: يا رسول الله، وإن صلى وصام؟ قال: ((وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ، فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ، الَّذِي سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ))..
الأحكام التفصيلية
ولا يتوقف إثبات مضمون الإسلام في دين المسيح عند مستوى العقيدة والمفاهيم الأساسية عن الله والكون والحياة والإنسان، بل يستمر في ذات الأركان الخمسة التي يقوم عليها الإسلام كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
ففي «الوضوء» جاء ما يثبت حكمه على وجه العموم عند النصارى في سياق قصة جريج الراهب ((فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام، فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي.. )).
__________
(1) جثا: جمع جُثوة: الشيء المجموع، وقيل: الجثوة هي الحجارة المجموعة، وقيل معنى (من جثاء جهنم) من جماعتها (فيض القدير-بتصرف).(1/346)
والشاهد: أن جريج كان من أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام بدليل لقب «الراهب»..
وعلى وجه التفصيل روى أنس بن مالك قال: (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوَضوء، فغسل وجهه مرة، ويديه مرة، ورجليه مرة، وقال: ((هذا وضوءٌ لا يقبل الله عز وجل الصلاة إلا به)) ثم دعا بوضوء فتوضأ مرتين مرتين، وقال: ((هذا وضوء من يضاعف الله له الأجر مرتين)) ثم دعا بوضوء فتوضأ ثلاثًا، وقال: ((هكذا وضوء نبيكم صلى الله عليه وسلم والنبيين قبله))(1).
ويقول الحافظ ابن حجر في شرحه لحديث: ((إنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ): (استدل الحليمي بهذا الحديث على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة، وفيه نظر؛ لأنه ثبت عند المصنف في قصة سارة رضي الله عنها مع الملك الذي أعطاها هاجرَ أن سارة لما همَّ الملك بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلي، وفي قصة جريج الراهب أيضًا أنه قام فتوضأ وصلى، ثم كلَّم الغلام، فالظاهر: أن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل، لا أصل الوضوء، وقد صرح بذلك في رواية لمسلم عن أبي هريرة أيضًا مرفوعا قال: ((.. سيما ليست لأحد غيركم)).
وفي «كيفية الصلاة ومواقيتها» جاء تذكير جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذه الصلاة بمواقيتها وحركاتها.. كانت هي هي صلاة الأنبياء..
__________
(1) صححه الألباني، السلسلة الصحيحة، رقم (261).(1/347)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل حين زاغت الشمس، فقال: قُم فصلِّ، فصلَّى بي الظهر، ثم جاء حين كان ظل كل شيء مثله، فقال: قُم فصلِّ، فصلَّى بي العصر، ثم جاء حين غابت الشمس ودخل الليل فقال: قُم فصلِّ، فصلَّى بي المغرب، ثم جاء حين غاب الشفق فقال: قُم فصلِّ، فصلَّى بي العشاء، ثم جاء حين أضاء الفجر فقال: قُم فصلِّ، فصلَّى بي الفجر، ثم جاء الغد حين كان ظل كل شيء مثله، فقال: قم فصلِّ، فصلَّى بي الظهر، ثم جاء حين كان ظل كل شيء مثليه، فقال: قُم فصلِّ، فصلَّى بي العصر، ثم جاء حين غابت الشمس ودخل الليل فقال: قم فصلِّ، فصلَّى بي المغرب، ثم جاء حين ذهب ثلث الليل، فقال: قُم فصلِّ، فصلَّى بي العشاء، ثم جاء حين أسفر فقال: قُم فصلِّ، فصلَّى بي الفجر، ثم قال: هذه صلاة النبيين قبلك فالزم)).
وحتى «عدد ركعات الصلاة وهيئاتها».. فقد جاء في رواية الطبراني لحديث جريج الراهب: ((فصلَّى ركعتين، ثم انتهى حتى مشى إلى الشجرة فأخذ منها غصنًا، ثم أتى الغلام وهو في مهده فضربه بذلك الغصن، وقال: يا بن الطاغية! من أبوك؟ قال: أبي فلان الراعي)).
وفيه دليل على أن الصلاة كانت ركعات كما هي في الإسلام..
كما جاءت الأدلة على التوافق في «الكيفيات التفصيلية» ومنها قوله صلى عليه وسلم: ((إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة))(1).
ولا زالت هناك آثار باقية تدل على صلاة الأنبياء في واقع النصارى ونصوصهم..
فمن جهة النصوص يذكر إنجيل متى أن المسيح عليه السلام في الساعات الأخيرة: (اَبتَعَدَ عنهُم قَليلًا واَرتَمى على وجهِهِ وصلَّى، فَقالَ: إنْ أمكَنَ يا أبي، فلْتَعبُرْ عنِّي هذِهِ الكأسُ. ولكن لا كما أنا أُريدُ، بل كما أنتَ تُريدُ).. وهي تمامًا هيئة صلاة المسلمين..
__________
(1) أحمد وأبو داود بسند صحيح - حديث رقم (2286) في صحيح الجامع(1/348)
ومن بين شعائر الاحتفال بعيد القيامة عند النصارى ما يُسمَّى بـ«ضَرب المِيطَانِيَّات».. وهي بهذه الكيفية: (ويؤدِّي الشعب ميطانيات طيلة اليوم: قبل وبعد كل ساعة صلاة، وقبل أداء الميطانية إما يرفع المصلِّي يديه على كتفيه، أو يُصلِّب ذراعيه على صدره، أو يقرع على صدره، ثم يلقي بكل جسده على الأرض بركبتيه وجبهته، ثم يُعلن الشماس بدء كل ساعة صلاة بأن يمر حول الكنيسة وهو يقرع جرسًا صغيرًا)(1).
وهو ما يدل على ما بلغه التحريف من طمس لهيئة العبادة، بعد نسيان المعبود..
بل حتى «القِبلة ويوم الجمعة» أصبحا من أدلة الانحراف عن أصل العبادة، وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنهم –أي: اليهود والنصارى- لم يحسدونا على شيء كما حسدونا على الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين)).
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد).
وبالنسبة للركن الثالث وهو «الصوم»، فقد قال الله عز وجل: {ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: 183].
كما جاءت الأدلة على التوافق في الكيفيات التفصيلية، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نعجِّل إفطارنا ونؤخِّر سحورنا))..
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فَضلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أَكْلَةُ السحر)) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة.
__________
(1) وهذا بحسب ما ورد في كتابThe Ethiopian Orthodox, Tewahedo Church, Tradition, by Christine Chaillot, Paris, 2002(1/349)
ويقول الإمام ابن تيمية عن حماية فريضة الصوم من التحريف الذي وقع فيه اليهود والنصارى: (روى غير واحد من أهل العلم أن أهل الكتابين قبلنا إنما أمروا بالرؤية أيضًا في صومهم وعبادتهم، وتأولوا على ذلك قوله تعالى: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} [البقرة: 183] ولكن أهل الكتابين بدلوا.. ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تقدم رمضان باليوم واليومين، وعلَّل الفقهاء ذلك بما يُخاف من أن يزاد في الصوم المفروض ما ليس منه كما زاده أهل الكتاب من النصارى، فإنهم زادوا في صومهم، وجعلوه فيما بين الشتاء والصيف، وجعلوا له طريقة من الحساب يتعرفونه بها).
أما الركن الخامس «الحج».. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤكد أن معظم الأنبياء والمرسلين قد أدَّوه بكيفية تماثل الكيفية التي تؤديه بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة، فمررنا بوادٍ فقال: ((أي واد هذا؟)) فقالوا: هذا وادي الأزرق(1)، قال: ((كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطًا من الثنية وله جؤار(2) إلى الله بالتلبية)) ثم أتى ثنية هرشى، فقال: ((أي ثَنِيَّةٍ هذه؟!)) قالوا: ثنية هرشى(3). قال: ((كأني أنظر إلى يونس بن متَّى عليه السلام على ناقة حمراء جعدة مكتنزة اللحم عليه جبة من صوف، خطام ناقته خلبة وزمام ناقته من ليف وهو يلبي)).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلى في مسجد الخيف سبعون نبيًّا منهم موسى صلى الله عليه وسلم، كأني أنظر إليه وعليه عباءتان قطوانيتان وهو محرِم على بعيرٍ من إبل شنوءة، مخطوم بخطام ليف له ضفيرتان).
__________
(1) وادي الأزرق بالحجاز. ماء في طريق حجاج الشام.
(2) صوت عال.
(3) الثنية: ما ارتفع من الأرض. وهرشى بسكون الراء والقصر آخرها، وهي ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة، يُرى منها البحر.(1/350)
وحتى عيسى ابن مريم الذي لم يستطع أن يحج في الفترة الأولى من حياته على الأرض، سيحج عندما ينزل في آخر الزمان..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أراني الليلة عند الكعبة، فرأيت رجلًا آدم، كأحسن ما أنت راءٍ من أُدم الرجال، له لمة كأحسن ما أنت راء من اللمم، قد رجلها، فهي تقطر ماء، متكئا على رجلين، أو على عواتق رجلين، يطوف بالبيت، فسألت: من هذا؟ فقيل: المسيح ابن مريم).
بل إنه أقسم على ذلك صلى الله عليه وسلم فقال: ((والذي نفسي بيده.. لَيُهِلَّن ابن مريم بفَجِّ الرَّوْحاء حاجًّا أو معتمرًا أو ليثنينهما)).
«التقويم القمري» ومن أهم القواعد المثبتة للأصل الصحيح للنصرانية قبل التحريف.. التقويم القمري، ذلك أن هذا التقويم هو حساب الزمن عند الله سبحانه وتعالى منذ خلق الله السموات والأرض: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم} [التوبة: 36].
ومن الإشارات التي وردت في كتاب الله للتقويم المتبع عند الأنبياء في العقود والمعاملات قول الرجل الصالح لموسى عليه السلام: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين} [القصص: 27].
دليلًا على أن التقويم المتبع كان وفق أشهر الحج القمرية..
ومما يدلُّ على أن التقويم القمري كان متبعًا من قبل الأنبياء وأتباعهم كذلك أن يوم عاشوراء.. العاشر من المحرم –وهو توقيت قمري– كانت اليهود تصومه، فسئلوا عن ذلك فقالوا: (هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون ونحن نصومه تعظيمًا له) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن أولى بموسى منكم)) وأمر بصيامه.(1/351)
والتوراة التي بين يدي الناس تُثبت التقويم القمري بصورة تفصيلية، ففي سفر العدد (هتاف بوق للكفارة باكورة الشهر السابع للكفارة) «شهر رجب»، فتحسب ابتداء من رجب فيكون الشهر السابع من رجب هو شهر المحرم -وتحديدا اليوم العاشر من شهر المحرم- ليكون هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى من فرعون، وكانت اليهود تصومه حتى وقت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فسألهم... الحديث.
جاء في سفر (وكلم الربُّ موسى وهارون في أرض مصر قائلًا: هذا الشَّهر يكون لكم رأس الشُّهور وأوَّل شهور السَّنة، أخبر جميع بني إسرائيل أن يأخذ كلُّ واحد منهم في العاشر من هذا الشهر خروفًا واحدًا عن أهل بيته).
الفصل الثالث
الخصائص الربانية للدين في الواقع والأمة
تمهيد
وكما كانت الخصائص الربانية للدين في التلقي والمعرفة من خلال العقل والقلب والفطرة..
وكانت الخصائص الربانية للدين في المضمون والوحي من خلال العقيدة والأحكام..
تأتي الخصائص الربانية للدين في واقع الأمة من خلال معنى الحكمة.. وهي أخص خصائص الربانية في واقع الدين؛ لذا كان لا بد من تحديد المقصود بـ«الواقع» في هذا السياق.. وهو دلالته على الحق كدلالة النصوص التي تقوم بها الحجة في إثبات هذا الحق، وذلك من خلال شواهد الصواب في الواقع.
وقد كانت هذه الشواهد معروفة عند النصارى، حتى إن هرقل ملك الروم قد عرف بها صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، عندما سأل أبا سفيان عن شواهد واقعية محددة، ثم شهد بعدها بنبوته صلى الله عليه وسلم.
وكانت هذه الشواهد كافية عنده دون أن يناقش نصًّا قرآنيًّا واحدًا، وهو ما يثبت قيمة الواقع في إثبات صواب المنهج.(1/352)
فقد روى عبد الله بن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبره: أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارًا بالشام، في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادَّ(1) فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء))(2)، فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه..
فقال: أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟
فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبًا..
فقال: أدنوه مني، وقَرِّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره..
ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائلٌ عن هذا الرجل، فإن كَذَبَني فكذِّبوه.
فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذبًا لكذبت عنه.. ثم كان أول ما سألني عنه.. أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب..
قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا..!
قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا..
قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم..
قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون..
قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا..
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا..
قال: فهل يغدر؟ قلت: لا.. ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها.
قال -أي أبو سفيان-: ولم تمكني كلمة أُدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة..!
قال: فهل قاتلتموه؟
قلت: نعم..!
قال: فكيف كان قتالكم إياه؟
قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه.
قال: ماذا يأمركم؟
قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه، فذكرت: أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.
__________
(1) مادَّ: أي أعطاه مدة للهدنة وعدم القتال، وهي فترة صلح الحديبية.
(2) إيلياء: اسم مدينة القدس قبل الفتح الإسلامي.(1/353)
وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت: أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتسي بقول قيل قبله.
وسألتك: هل كان من آبائه من ملك، فذكرت: أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب مُلك أبيه.
وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت: أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت: أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل.
وسألتك: أيزيدون أم ينقصون، فذكرت: أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.
وسألتك: أيرتد أحدٌ سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت: أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وسألتك: هل يغدر، فذكرت: أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك: بما يأمركم؟ فذكرت: أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف..
فإن كان ما تقول حقًّا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم حتى أُخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، فقرأه، فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم: سلامٌ على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و{قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64].(1/354)
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أَمِرَ(1) أمر ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملِكُ بني الأصفر.
فما زلت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام(2).
وبعد تفسير المقصود بحجية الواقع في إثبات الحق نعرض لهذا المفهوم في كلا الأمتين؛ لتأتي بعد ذلك المقارنة المنهجية بين واقع الأمتين: النصرانية والإسلامية.. وليتبين بتلك المقارنة الفارق الجوهري بين الأمتين، من حيث خصائص الربانية الدالة على صحة الدين.
حجية واقع الأمة الإسلامية
والمقارنة بين الرهبانية والجهاد هي الدليل على حجية واقع الأمة الإسلامية، ذلك أن توجه النصارى إلى الرهبانية مقابل توجه أصحاب الحق في الأمة الإسلامية إلى الجهاد.. هو أساس المقارنة؛ لأن الحجة تقوم بالجهاد.. لا بالرهبنة، ومن هنا كانت المقابلة بين الرهبنة والجهاد في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد الخدري: ((أوصيك بتقوى الله تعالى.. فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد.. فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن.. فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض)..
__________
(1) أَمِرَ: بفتح الهمزة وكسر الميم أي: عظم، وابن أبى كبشة أراد به النبى صلى الله عليه وسلم.
(2) البخاري في الإيمان (31/1) وقد استدل البخاري بتعليقات هرقل على إجابات أبي سفيان في أبواب كثيرة، مثال ذلك: باب قوله الله تعالي: {هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين} والحرب سجال، وباب من استعان بالضعفة الصالحين في الحرب وغيره.(1/355)
وفي إطار استمرارية حجية الواقع الإسلامي ينبغي التأكيد على أنه قد يصيب الأمة الإسلامية ما أصاب الأمم السابقة من الاختلاف والتفرُّق.. كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتموه)) قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟! قال: ((فمن؟!)).
وفي الصحيحين أيضًا عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لتأخذ أمتي مأخذ الأمم قبلها، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع)) قالوا: يا رسول الله، فارس والروم؟! قال: ((فمن الناس إلا أولئك؟!).
ولعلنا نلاحظ في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم)) أن متابعة الأمة لمن كان قبلها ستكون متابعة كاملة.. في حركة الأمة ومسافة هذه الحركة ومجال هذه الحركة.. ((شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع))..
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ)) يدل على المتابعة في مواضع الحركة والتوافق في موضوعها.
ورغم هذه المتابعة وهذا التشبه.. إلا أن حجية الواقع وعياريته تبقى ثابتة، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن الله أجاركم من ثلاث خِلال:
أنْ لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعًا..
وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق..
وأن لا تجتمعوا على ضلالة)).
والملاحظة الأساسية في الخلال الثلاث: أنها التسلسل الطبيعي وفق سنن الله لإهلاك الأمم.. ابتداءً بدعوة النبيِّ على قومه.. وانتهاءً باستحقاقهم للهلاك باجتماعهم على الضلالة..
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال)).(1/356)
وفي رواية: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم: تعالَ صلِّ لنا.. فيقول: لا.. إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة)).
والملاحظة الأساسية في هذا النص أن امتداد الطائفة سيبقى حتى قتال الدجال مع عيسى ابن مريم.. ليتحدد بذلك المعيار التاريخي للحق من خلال الصراع بين عيسى ابن مريم والدجال، وليتأكد بذلك قيام الأمة بحجة الله على البشر بالجهاد.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده.. لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة.. فواحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار)).
والملاحظة الأساسية في هذا النص هي معيارية الجنة والنار ودلالتهما على الحق والباطل، وضياع هذا المعيار عند اليهود والنصارى بجحودهم للتصور الصحيح عن الجنة والنار.
ومع أن هذه النصوص تثبت بقاء الحجية في الطائفة القائمة علي الحق.. إلا أنها في الوقت ذاته تؤكد على أن الحجية تبقى كاملة غير منقوصة بقدر الله سبحانه وتعالى..
حجية الواقع في الأمة النصرانية
أما قيام الحجة في واقع الأمة النصرانية ففيه تفصيل..
فقد قامت حجة الله بهذه الأمة حتى كان التبديل والتحريف، حيث افتقدت الأمة النصرانية -في انحرافها- المعايير التي يُرجع إليها في عملية التصحيح، وذلك بسبب اتجاه الطائفة المتمسكة بالحق إلى الرهبانية منعزلة عن واقع الناس..(1/357)
يقول ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {ورهبانية ابتدعوها} [الحديد: 27]: (كانت ملوكٌ بعد عيسى بدلوا التوراة والإنجيل، وكان فيهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل ويدعون إلى دين الله تعالى، فقال أناس لملكهم: لو قتلت هذه الطائفة!. فقال المؤمنون: نحن نكفيكم أنفسنا، فطائفة قالت: ابنوا لنا أسطوانة ارفعونا فيها، وأعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم. وقالت طائفة: دعونا نهيم في الأرض ونسيح، ونشرب كما تشرب الوحوش في البرية، فإذا قدرتم علينا فاقتلونا. وطائفة قالت: ابنوا لنا دورًا في الفيافي، ونحفر الآبار ونحرث البقول فلا تروننا. وليس أحد من هؤلاء إلا وله حميم منهم، ففعلوا، فمضى أولئك على منهاج عيسى، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غَيَّر الكتاب فقالوا: نسيح ونتعبد كما تعبد أولئك، وهم على شركهم، لا علم لهم بإيمان من تقدم من الذين اقتدوا بهم، فذلك قوله تعالى: {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله} يقول: ابتدعها هؤلاء الصالحون {فما رعوها} المتأخرون {حق رعايتها} {فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم} يعني الذين ابتدعوها أولًا ورعوها { وكثير منهم فاسقون} يعني المتأخرين، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ولم يبقَ منهم إلا قليل، جاءوا من الكهوف والصوامع والغيران(1) فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم).
وهكذا كان الواقع في الأرض قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم..
ويخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلك المرحلة فيقول صلى الله عليه وسلم:
((أَلاَ إِنّ رَبّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمّا عَلّمَنِي، يَوْمِي هَذَا..
كُلّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا، حَلاَلٌ..
وَإِنّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلّهُمْ..
وَإِنّهُمْ أَتَتْهُمُ الشّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ..
__________
(1) الغيران هي المغارات، كهوف تكون في الجبال.(1/358)
وَحَرّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا..
وَإِنّ اللّهَ نَظَرَ إِلَىَ أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إلاّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)).
هذا الحديث يعطينا نظرة شاملة لمرحلة ما قبل البعثة وبداية الأمر فيها، وإثبات الأصل الذي كان عليه الواقع البشري، ومعايير الحق التي يُردُّ إليها هذا الواقع..
((كل مال نحلته عبدًا حلال)).. ((وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم)).. ((إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم))..
هذه مقدمة ضرورية للحديث؛ لأن الحديث يثبت أهمية النبي صلى الله عليه وسلم بصورة خطيرة..
صورة افتقار البشر جميعًا إلى الرسالة..
مما تقتضي إثبات افتقاره هو صلى الله عليه وسلم في رسالته إلى ربه..
والرسالة من الله.. أمرٌ وعلم..
والأمر من الله: ((إن الله أمرني))..
والعلم من الله: ((أن أعلمكم ما جهلتم)).
والعلم يوم بيوم: ((ما علمني يومي هذا)).
ليس لي علم إلا ما علمنيه ربي، وليس لي علم مسبق، إنما أتعلم يومًا بيوم..
وهذه هي المقدمة:
((كل مال نحلته عبدًا حلال)).. والمال رمز لكل شيء آتاه الله إنسانًا، فالأصل في عطاء الله الحِل..
((وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم)).. فكل مولود يولد على الفطرة، والأشياء على حِلها ما لم تحرم..
ثم جاءت الشياطين: ((فاجتالتهم عن دينهم))..
واجتالت الشياطين الدين.. وملأت الأرض بالحرام..
فكانت النصرانية المحرفة هي أبرز مثال لأثر الشياطين في تضييع معنى الدين الحق، وإبعاد الناس عنه..
ونشأ الحرام: ((وحرمت عليهم ما أحللت لهم)).. وكان تحريم الحلال وتحليل الحرام من قِبَل الأحبار والرهبان.. هو أبرز صور التحريف لأحكام الدين..
((وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا))..
((وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم)).
والمقت أشد الغضب..(1/359)
((إلا بقايا من أهل الكتاب)) المتمسكون بدينهم الحق من غير تحريف ولا تبديل.
ومنذ هذه المرحلة ظلت البقايا المتمسكة بدين المسيح هي الدليل الوحيد على الحق في هذا الدين، كما بقيت الأحاديث المتعلقة ببقايا أتباع المسيح عليه السلام الذين أدركوا الإسلام وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم شاهدًا على تلك الحقبة التاريخية، حتى كانت أهم وأقوى الآثار السلفية الواردة في هذا الأمر.
والعظيم في الأمر.. أن كل موقف من مواقف هذه البقايا يأتي مواكبًا لمرحلة بارزة في تاريخ الدعوة الإسلامية وتكوين أمة الحق.
البقايا
«ورقة ابن نوفل.. مرحلة الوحي» نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه: {اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم* الذي علم بالقلم} [العلق: 1-4]، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: ((زملوني زملوني)) فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: ((لقد خشيت على نفسي)) فقالت خديجة: كلا..! والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتُكسب المعدوم، وتُقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى -ابن عم خديجة- وكان امرأً قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني(1)، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي.
فقالت له خديجة: يا ابن عم..! اسمع من ابن أخيك.
__________
(1) يراجع ما قيل عن العبرانية: اللغة الأصلية للإنجيل في فصل: عوامل التحريف، باب: تحليل التحريف.(1/360)
فقال له ورقة: يا بن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني أكون فيها جذعًا، يا ليتني أكون فيها حيًّا إذ يخرجك قومك(1).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أو مخرجي هم؟)) قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي.
«النجاشي.. مرحلة الاستضعاف» روى ابن إسحاق عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعة من قومه، وعمه لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه)) فخرجنا إليها أرسالًا حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمنًا على ديننا، ولم نخشَ منه ظلمًا.
فلما رأت قريش أن قد أصبنا دارًا وأمنًا أجمعوا على أن يبعثوا إليه فينا ليخرجنا من بلاده وليردنا عليهم، فبعثوا عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يدعوا منهم رجلًا إلا هيَّأوا له هدية على ذي حدة، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا فيهم، ثم ادفعوا إليه هداياه، وإن استطعتم أن يردهم عليكما قبل أن يكلمهم فافعلا.
__________
(1) تراجع البشارات الواردة في سفر أشعياء في كتاب «نبي أرض الجنوب» للعميد/ جمال.(1/361)
فقدما عليه، فلم يبقَ بطريق من بطارقته إلا قدموا له هديته وكلموه وقالوا له: إنا قدمنا على هذا الملك في سفهاء من سفهائنا، فارقوا أقوامهم في دينهم ولم يدخلوا في دينكم، فبعثنا قومهم فيهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل، فقالوا: نفعل، ثم قدما إلى النجاشي هداياه، وكان أحب ما يهدى إليه من مكة الأدم.
فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا له: أيها الملك إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجئوا إلى بلادك، فبعثَنا إليك فيهم عشائرهم: آباؤهم، وأعمامهم، وقومهم لتردهم عليهم، فهم أعلى بهم عينًا.
فقالت بطارقته: صدقوا أيها الملك لو رددتهم عليهم كانوا هم أعلى بهم عينًا، فإنهم لم يدخلوا في دينك فتمنعهم بذلك.
فغضب ثم قال: لا لعمر الله لا أردهم عليهم حتى أدعوهم وأكلمهم وأنظر ما أمرهم، قوم لجئوا إلى بلادي واختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما يقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم ولم أُخل بينهم وبينهم، ولم أنعمهم عينًا.
فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم ولم يكن شيء أبغض إلى عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم، فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقالوا: ماذا تقولون..؟ فقالوا: وماذا نقول..؟! نقول والله ما نعرف، وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاء به نبينا كائن في ذلك ما كان.
فلما دخلوا عليه كان الذي يكلمه منهم جعفر بن أبي طالب، فقال له النجاشي: ما هذا الدين الذي أنتم عليه، فارقتم دين قومكم، ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانية، فما هذا الدين..؟(1/362)
فقال جعفر: أيها الملك..! كنا قومًا على الشرك: نعبد الأوثان، ونأكل الميتة، ونسيء الجوار، ونستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئًا ولا نحرمه، فبعث الله إلينا نبيًّا من أنفسنا، نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الرحم، ونحسن الجوار، ونصلي ونصوم، ولا نعبد غيره، فقال: هل معك شيء مما جاء به -وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله..
فقال جعفر: نعم، قال: هلم فاتلُ عليَّ ما جاء به، فقرأ عليه صدرًا من كهيعص فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة الذي جاء بها موسى، انطلقوا راشدين، لا والله لا أردهم عليكم ولا أنعمكم عينًا.
فخرجا من عنده، وكان أتقى الرجلين فينا عبد الله بن أبي ربيعة، فقال له عمرو بن العاص: والله لآتينه غدًا بما أستأصل به خضراءهم، لأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الذي يعبد -عيسى ابن مريم- عبدٌ، فقال له عبد الله بن ربيعة: لا تفعل..! فإنهم وإن كانوا خالفونا فإن لهم رحمًا ولهم حقًّا، فقال: والله لأفعلن. فلما كان الغد دخل عليه فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم فسلهم عنه، فبعث إليهم، ولم ينزل بنا مثلها، فقال بعضنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو سألكم عنه..؟!
فقالوا: نقول والله الذي قاله فيه، والذي أمرنا نبينا أن نقوله فيه، فدخلوا عليه، وعنده بطارقته، فقال: ما تقولون في عيسى ابن مريم..؟ فقال له جعفر: نقول: هو عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فدلَّى النجاشي يده إلى الأرض فأخذ عويدًا بين أصبعيه.(1/363)
فقال: ما عدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته، فقال: وإن تناخرتم والله، اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي، والشيوم: الآمنون، ومن سبَّكم غُرم، ومن سبَّكم غرم، ومن سبَّكم غرم، ثلاثًا، ما أحب أن لي دبيرًا، وأني آذيت رجلًا منكم، والدبير بلسانهم الذهب، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي، فآخذ الرشوة فيه، ولا أطاع الناس فيَّ فأطيع الناس فيه، ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، واخرجا من بلادي، فخرجا مقبوحين مردود عليهما ما جاءا به.
فأقمنا مع خير جار في خير دار، فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فوالله ما علمنا حزنًا قط كان أشد منه، فَرَقًا أن يظهر ذلك الملك عليه، فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرف، فجعلنا ندعو الله ونستنصره للنجاشي، فخرج إليه سائرًا، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم لبعض: مَن رجل يخرج فيحضر الوقعة حتى ينظر على من تكون..؟ فقال الزبير -وكان من أحدثهم سنًّا-: أنا..! فنفخوا له قربة، فجعلها في صدره، ثم خرج يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس، فحضر الوقعة، فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي عليه، فجاءنا الزبير فجعل يليح إلينا بردائه ويقول: ألا أبشروا فقد أظهر الله النجاشي، فوالله ما علمنا فرحنا بشيء قط فرحنا بظهور النجاشي، ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا راجعًا إلى مكة، وأقام من أقام.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما مات النجاشي كنا نُتحدَّث أنه لا يزال يُرى على قبره نورٌ.
«سلمان الفارسي.. مرحلة الجهاد والتمكين» عن سلمان الفارسي قال: كنت رجلًا فارسيًّا من أهل أصبهان، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم فقلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام.(1/364)
قال: وبعثت إلى النصارى وقلت لهم: إذا قدم عليهم من الشام تجار من النصارى فأخبروني بهم، ثم خرجت معهم حتى الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة. قال: فجئته فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك في كنيستك أخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك، قال: ادخل، فدخلت معه. قال: فكان رجل سوء، يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا فيها شيئًا اكتنزه لنفسه ولم يعطِ المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق. قال: وأبغضته بغضًا شديدًا لما رأيته يصنع، ثم مات فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جمعتم له منها أشياء جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعطِ المساكين منها شيئًا، قالوا: وما علمك بذلك؟ قلت: أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدلنا عليه، قال: فأريتهم موضعه، فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبًا وورقًا، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدًا، قال: فصلبوه ثم رجموه بالحجارة، ثم جاءوا برجل آخر فجعلوه بمكانه.
قال: يقول سلمان: قلما رأيت رجلًا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه، ولا أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلًا ونهارًا منه.
قال: فأحببته حبًّا لم أحبه من قبله، فأقمت معه زمانًا، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان، إني كنت معك وأحببتك حبًّا لم أحبه أحدًا قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أيْ بُنَي..! والله ما أعلم أحدًا اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجل بالموصل، وهو فلان، فهو على ما كنت عليه فالحقْ به.
قال: فلما مات وغيِّب لحقت بصاحب الموصل فقلت له: يا فلان، إن فلانًا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على مثل أمره.(1/365)
قال: فقال: أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته خير رجل، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان، إن فلانًا أوصاني إليك وقد أمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أيْ بُنَي..! والله ما أعلم رجلًا على مثل ما كنا عليه إلا رجلًا بنصيبين. فجئته فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي، قال: أقم عندي، فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر قلت: يا فلان إن فلانًا كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أيْ بُنَي..! والله ما أعلم أحدًا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلًا بعمورية؛ فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فائته فإنه على مثل أمرنا.
قال: فلما مات وغُيب لحقت بصاحب عمورية، فأخبرته خبري فقال: أقم عندي، فأقمت مع رجل على أمر أصحابه وهديهم، واكتسبت حتى صارت لي بقيرات وغنيمة.
قال: ثم نزل به أمر الله عز وجل.
قال: فلما حضر قلت له: يا فلان، إني كنت مع فلان وإنه أوصى بي إلى فلان وأوصى إلى فلان وأوصى إلى فلان، وأوصاني فلان إلى فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: يا بني، والله ما أعلم أحدًا على ما كنا عليه من الناس آمرك أن تأتيه، ولكن قد أظلك زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرضٍ بين حرتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل.(1/366)
قال: ثم مات وغيب، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كلب تجار، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه؟ فقالوا: نعم، فأعطيتهموها فحملوني حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل من يهود، وكنت عنده، ورأيت النخل، ورجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يَحِق في نفسي، فبينا أنا عنده قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة، فابتاعني منه فحملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها، وبعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل، وسيدي جالس إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال: فلان قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن مجتمعون عند رجل قدم من مكة اليوم يزعم أنه نبي.
قال: فلما سمعتها أخذتني العُروَاء -برد الحمى- حتى ظننت سأسقط على سيدي.
قال: ونزلت عن النخلة وجعلت أقول لابن عمه: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟ فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا؟ أقبل على عملك.
قال: قلت: لا شيء، إنما أردت أن أستثبته عما قال. وكان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فدخلت عليه فقلت له: إنه بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم، فقربته إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «كلوا». وأمسك يده فلم يأكل.
قال: فقلت في نفسي: هذه واحدة. ثم انصرفت عنه فجمعت شيئًا، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم جئته فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها.
قال: فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأمر أصحابه فأكلوا معه.
قال: فقلت في نفسي: هذه اثنتان.(1/367)
قال: ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد وقد تبع جنازة من أصحابه، عليه شملتان له، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره: هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي؟ فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني أستثبت في شيء قد وُصف لي.
قال: فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم وعرفته، فانكببت عليه أقَبِّله وأبكي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحوَّل..!)) فتحولت، فقصصت عليه حديثي -كما حدثتك يا بن عباس- فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه.
وشغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأُحد.
قال: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كاتِبْ يا سلمان..!)) فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالعفير، وبأربعين أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أعينوا أخاكم)) فأعانوني بالنخل، الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين ودية، والرجل بخمس عشرة ودية، والرجل بعشر، يعين الرجل بقدر ما عنده، حتى إذا اجتمعت إلي ثلاثمائة ودية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا فرغت فائتني فأكون أنا أضعها بيدي)).
قال: فعفرت لها وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت منها جئته فأخبرته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الودي ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فوالذي نفس سلمان بيده ما مات منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقي على المال، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة دجاجة من ذهب من بعض المعادن فقال: ((ما فعل الفارسي المكاتب؟)).
قال: فدعيت له فقال: ((خذ هذه فأدِّ بها ما عليك يا سلمان)).
قال: قلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي؟ قال: ((خذها، فإن الله سيؤدي بها عنك)).(1/368)
قال: فأخذتها فوزنت لهم منها، والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم وعتقت، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق، ثم لم يفتني معه مشهد.
ولعلنا نلاحظ في قصة إسلام سلمان عدة أمور:
الأول: قلة عدد البقايا التي كانت على الحق.
الثاني: وجود الصالحين من الرهبان أصحاب الصوامع.
الثالث: وجود المفسدين من الرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويكنزون الذهب والفضة.
الرابع: علم الرهبان التفصيلي بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام: لا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وفي ظهره خاتم النبوة، ووصف دار هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الخامس: الصلوات الخمس.
مقارنة منهجية بين الأمة النصرانية والإسلامية
وفي إطار المقارنة المنهجية بين الأمة النصرانية والإسلامية يقول الإمام ابن تيمية:
(فإن ما ذم الله به اليهود والنصارى في كتابه مثل:
تكذيب الحق المخالف للهوى، والاستكبار عن قبوله، وحسد أهله، والبغي عليهم.
واتباع سبيل الغي، والبخل والجبن وقسوة القلوب..
ووصف الله سبحانه وتعالى بمثل عيوب المخلوقين ونقائصهم، وجحد ما وصف به نفسه من صفات الكمال المختصة به التي لا يماثله فيها مخلوق..
وبمثل الغلو في الأنبياء والصالحين، والإشراك في العبادة لرب العالمين، والقول بالحلول والاتحاد الذي يجعل العبد المخلوق هو رب العباد..
والخروج في أعمال الدين عن شرائع الأنبياء والمرسلين، والعمل بمجرد هوى القلب وذوقه ووجده في الدين من غير اتباع العلم الذي أنزله الله في كتابه المبين، واتخاذ أكابر العلماء والعباد أربابا يُتَّبَعون فيما يبتدعونه من الدين المخالف للأنبياء عليهم السلام، كما قال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31]..(1/369)
ومخالفة صريح المعقول وصحيح المنقول بما يظن أنه من التنزلات الإلهية والفتوحات القدسية مع كونه من وساوس اللعين، حتى يكون صاحبها ممن قال الله فيه: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: 10]، وقال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والأنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} [لأعراف: 179]..
إلى غير ذلك من أنواع البدع والضلالات التي ذم الله بها أهل الكتابين، فإنها مما حذر الله منه هذه الأمة الأخيار، وجعل ما حل بها عبرة لأولي الأبصار، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا بد من وقوعها في بعض هذه الأمة، وإن كان قد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا يزال في أمته أمة قائمة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة، وأن أمته لا تجتمع على ضلالة، ولا يغلبها من سواها من الأمم، بل لا تزال منصورة متبعة لنبيها المهدي المنصور، لكن لا بد أن يكون فيها من يتتبع سنن اليهود والنصارى والروم والمجوس).
أما في واقع الأمة الإسلامية فيقول رحمه الله: (ومن نظر بعقله في هذا الوقت إلى ما عند المسلمين من العلم النافع والعمل الصالح، وما عند اليهود والنصارى- علم أن بينهما من الفرق أعظم مما بين العرم والعِرق.
فإن الذي عند المسلمين.. من توحيد الله ومعرفة أسمائه وصفاته، وملائكته وأنبيائه ورسله ومعرفة اليوم الآخر، وصفة الجنة والنار، والثواب والعقاب، والوعد والوعيد- أعظم وأجل بكثير مما عند اليهود والنصارى، وهذا بيِّنٌ لكل من يبحث عن ذلك..
وما عند المسلمين من العبادات الظاهرة والباطنة مثل الصلوات الخمس، وغيرها من الصلوات، والأذكار والدعوات- أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب، وما عندهم من الشريعة في المعاملات، والمناكحات والأحكام والحدود والعقوبات- أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب.(1/370)
فالمسلمون فوقهم في كل علم نافع، وعمل صالح، وهذا يظهر لكل أحد بأدنى نظر، لا يحتاج إلى كثير سعي.
فنبوة محمد ورسالته وهدي أمته أَبْيَن وأَوْضَح؛ تُعْلَم بكل طريق تُعْلَم بها نبوة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وزيادة، فلا يمكن القول بأنهما نبيان دونه لأجل ذلك، وإن شاء الرجل استدل على ذلك بنفس الدعوة وما جاء به، وإن شاء بالكتاب الذي بُعث به، وإن شاء بما عليه أمته، وإن شاء بما بُعث به من المعجزات، فكل طريق من هذه الطرق إذا تبين بها نبوة موسى وعيسى كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بها أبين وأكمل.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن رسالته عامة إلى أهل الأرض من المشركين وأهل الكتاب، وأنه لم يكن مرسلًا إلى بعض الناس دون بعض، وهذا أمر معلوم بالضرورة والنقل المتواتر والدلائل القطعية. وأما اليهود والنصارى فأصل دينهم حق كما قال تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 62].(1/371)
لكن كلًا من الدينين مبدَّل منسوخ، فإن اليهود بدلوا وحرفوا ثم نسخ بقية شريعتهم بالمسيح، ونفس الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى مثل نبوة الأنبياء -وهي أكثر من عشرين نبوة وغيرها- تبين أنهم بدلوا وأن شريعتهم تنسخ وتبين صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فإن فيها من الأعلام والدلائل على نبوة خاتم المرسلين ما قد صنف فيه العلماء مصنفات، وفيها أيضًا من التناقض واختلاف ما يبين أيضًا وقوع التبديل، وفيها من الأخبار من نحو بعدها ما بيَّن أنها منسوخة، فعندهم ما يدل على هذه المطالب وقد ناظرنا غير واحد من أهل الكتاب وبينَّا لهم ذلك، وأسلم من علمائهم وخيارهم طوائف، وصاروا يناظرون أهل دينهم ويبينون ما عندهم من الدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولكن هذه الفتيا لا تحتمل غير ذلك، وهذا من الحكمة في إبقاء أهل الكتاب بالجزية، إذ عندهم من الشواهد والدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعندهم من الشواهد على ما أخبر به من الإيمان بالله واليوم الآخر ما يمثل ما أخبرت به الأنبياء قبله.. قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10].
وقوله: {ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} [الرعد: 43].
قال تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك} [يونس: 94].
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يشك ولم يسأل، ولكن هذا حكم معلق بشرط، والمعلق بالشرط يعدم عند عدمه، وفي ذلك سعة لمن شك أو أراد أن يحتجَّ أو يزداد يقينًا).(1/372)
ويقول: (وقد خص الله تبارك وتعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم بخصائص، ميَّزه بها على جميع الأنبياء والمرسلين، وجعل له شرعة ومنهاجًا أفضل شرعة وأكمل منهاج، كما جعل أمته خير أمة أُخرجت للناس، فهم يوفون سبعين أمة، هم خيرها وأكرمها على الله من جميع الأجناس، هداهم الله بكتابه ورسوله لما اختلفوا فيه من الحق قبلهم، وجعلهم وسطًا عدلًا خيارًا، فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته، وفي الإيمان برسله وكتبه وشرائع دينه، من الأمر والنهي والحلال والحرام، فأَمَرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، وأحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، لم يحرم عليهم شيئًا من الطيبات كما حرَّم على اليهود، ولم يُحِل لهم شيئًا من الخبائث كما استحلتها النصارى، ولم يضيِّق عليهم باب الطهارة والنجاسة كما ضيَّق على اليهود.
ولم يَرفَع عنهم طهارة الحدث والخبث كما رفعته النصارى، فلا يوجبون الطهارة من الجنابة ولا الوضوء للصلاة ولا اجتناب النجاسة في الصلاة، بل يَعُدُّ كثيرٌ من عُبَّادِهم مباشرةَ النجاسات من أنواع القرب والطاعات! حتى يقال في فضائل الراهب: له أربعين سنة.. ما مس الماء! ولهذا تركوا الختان مع أنه شرع إبراهيم الخليل عليه السلام وأتباعه..
واليهود إذا حاضت عندهم المرأة لا يؤاكلونها ولا يشاربونها، ولا يقعدون معها في بيت واحد، والنصارى لا يحرمون وطء الحائض، وكان اليهود لا يرون إزالة النجاسة، بل إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه بالمقراض، والنصارى ليس عندهم شيء نجس يحرُم أكله أو تحرم الصلاة معه..!
ولذلك.. فالمسلمون «وسطٌ في الشريعة»، فلم يجحدوا شرعه الناسخ لأجل شرعه المنسوخ كما فعلت اليهود، ولا غيَّروا شيئًا من شرعه المحكم، ولا ابتدعوا شرعًا لم يأذن به الله كما فعلت النصارى..
ولا غَلَوا «في الأنبياء والصالحين» كغلو النصارى، ولا بخسوهم حقوقهم كفعل اليهود..(1/373)
ولا جعلوا «الخالق سبحانه» متصفًا بخصائص المخلوق ونقائضه ومعايبه من الفقر والبخل والعجز كفعل اليهود، ولا المخلوق متصفًا بخصائص الخالق سبحانه التي ليس كمثله فيها شيء كفعل النصارى..
ولم يستكبروا عن «عبادته» كفعل اليهود، ولا أشركوا بعبادته أحدًا كفعل النصارى..
وأهل السنة والجماعة في الإسلام.. كأهل الإسلام في أهل الملل، فَهُم وسطٌ في «باب صفات الله عز وجل» بين أهل الجحد والتعطيل وبين أهل التشبيه والتمثيل، يَصِفُون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسله، من غير تعطيل ولا تمثيل، إثباتًا لصفات الكمال، وتنزيهًا له عن أن يكون له فيها أنداد وأمثال، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، كما قال تعالى:
{ليس كمثله شيء}.. ردٌّ على المُمَثِّلَة..
{وهو السميع البصير}.. ردٌّ على المُعَطِّلَة..
وقال تعالى: {قل هو الله أحد* الله الصمد* لم يلد ولم يولد* ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 1-4]..
فالصمد: السيد المستوجب لصفات الكمال..
والأحد: الذي ليس له كفو ولا مثال..
وهم وسطٌ في «باب أفعال الله عز وجل»، بين المعتزلة المكذبين للقدر، والجبرية النافين لحكمة الله ورحمته وعدله، والمعارضين بالقدر أمر الله ونهيه وثوابه وعقابه..
وفي «باب الوعد والوعيد» بين الوعيدية الذين يقولون بتخليد عصاة المسلمين في النار، وبين المرجئة الذين يجحدون بعض الوعيد وما فضل الله به الأبرار على الفجار..
وهم وسطٌ في «أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم» بين الغالي في بعضهم.. الذي يقول بإلهيةٍ أو نبوةٍ أو عصمةٍ، والجافي فيهم.. الذي يُكفِّر بعضَهم أو يفسقه.. وهم خيار هذه الأمة..
والله سبحانه أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم للناس رحمة، وأنْعِم به نعمة.. يا لها من نعمة..!
قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107] وقال تعالى: {الذين بدلوا نعمة الله كفرا} [إبراهيم: 28].. وهم الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم..(1/374)
فإرساله أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده، يجمع الله لأمته بخاتم المرسلين وإمام المتقين وسيد ولد آدم أجمعين ما فَرَّقه في غيرهم من الفضائل، وزادهم من فضله أنواع الفواضل، بل آتاهم كفلين من رحمته، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم* لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} [الحديد: 28-29].
وبعد المقارنة العامة بين الأمتين.. يأتي النموذج الإنساني للانتقال من الباطل النصراني إلى الحق الإسلامي، ليكون هذا الانتقال دليلًا إنسانيًّا على التصحيح.
نموذج إنساني لعملية التصحيح
وكما كانت البقية التي تمسكت بدين المسيح المنزل من عند الله هي أكبر مصادر المعرفة الصحيحة بأصل هذا، الدين الذي تقاس عليه مهمة تصحيح التحريف..
وقد كان هناك مصدر يوازيه ولا يقل عنه في أهميته، وهو التجارب الشخصية لعلماء اليهود والنصارى الذين هداهم الله للإسلام؛ لأن هذه التجارب تتضمن كشف أصول الدين قبل تحريفه كما يعرفها هؤلاء العلماء، وزاوية الانحراف الذي أصاب هذه الأصول، حتى بلغت هذه المرحلة التحريفية التي تبدل فيها الدين الصحيح..
كما تتضمن معرفة أهم عناصر النفور من التحريف النصراني، وأهم دوافع الاتجاه إلى الإسلام..
وقد كانت خبرة هؤلاء العلماء نابعة من مواجهتهم للأساليب الماكرة في التحريف والجدل والتضليل، وليست مجرد حصيلة معرفية بالنصوص.(1/375)
ولعل إسلام عبد الله بن سلام مثالٌ على هذا المعنى المقصود، حيث جاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلًا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تجدون في التوراة في شأن الزنا؟)) فقالوا: نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم.. فأتوا بالتوراة فنشروها، فجعل أحدهم يده على آية الرجم ثم جعل يقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك.. فرفعها فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد! فيها آية الرجم! فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، قال عبد الله بن عمر: فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة.
ومن هنا أصبحت تجارب هؤلاء العلماء داخلة في إطار المنهج الفكري لتصحيح التحريف.
وهذا ما فعله الإمام ابن تيمية فقال: (ومن أخبرِ الناس بمقالاتهم مَن كان من علمائهم وأسلم على بصيرة بعد الخبرة بكتبهم ومقالاتهم، كالحسن بن أيوب الذي كتب رسالة إلى أخيه علي بن أيوب يذكر فيها سبب إسلامه، ويذكر الأدلة على بطلان دين النصارى وصحة دين الإسلام.
ومن هنا أصبحت هذه القصص وثائق منهجية.. يجب دراستها بصورة تحليلية..
وتجربة إسلام الحسن بن أيوب التي أوردها ابن تيمية في كتاب «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» ورسالته إلى أخوه التي شرح له فيها تجربة إسلامه من أهم وثائق المعرفة..(1/376)
بداية التجربة: يقول الحسن بن أيوب في رسالة وجهها إلى أخيه لما كتب إليه يسأله عن سبب إسلامه: (أُعلِمُك -أرشدك الله- أن ابتداء أمري في الشك الذي دخلني فيما كنت عليه، والاستبشاع بالقول به من أكثر من عشرين سنة، لما كنت أقف عليه في المقالة من «فساد التوحيد لله عز وجل بما أدخل فيه من القول بالثلاثة الأقانيم وغيرها» مما تضمنته شريعة النصارى، ووضع الاحتجاجات التي لا تزكو ولا تثبت في تقرير ذلك، وكنت إذا تبحرته وأَجَلْتُ الفكر فيه بَانَ لي عُوارُه، ونفرت نفسي من قبوله، وإذا فكرت في دين الإسلام الذي مَنَّ الله عليَّ به وجدت «أصوله ثابتة وفروعه مستقيمة وشرائعه جميلة» وأصل ذلك ما لا يختلف فيه أحد ممن عرف الله عز وجل منكم ومن غيركم).
ثم يتناول الإيمان بالله من خلال الأسماء والصفات والأفعال:
(وهو الإيمان بالله الحي القيوم السميع البصير الواحد الفرد الملك القدوس الجواد العدل، إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وإله موسى وعيسى وسائر النبيين والخلق أجمعين، الذي لا ابتداء له ولا انتهاء، ولا ضد ولا ند، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، الذي خلق الأشياء كلها لا من شيء، ولا على مثال، بل كيف شاء، وبأن قال لها كوني فكانت على ما قدر وأراد، وهو العليم القدير الرءوف الرحيم الذي لا يشبهه شيء، وهو الغالب فلا يغلب، والجواد فلا يبخل، لا يفوته مطلوب، ولا تخفى عليه خافية، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وكل مذكور أو موهوم هو منه، وكل ذلك به، وكلٌّ له قانتون).
ثم الإيمان بالرسول:
(ثم نؤمن بأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ونؤمن بموسى وعيسى وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لا نفرق بين أحد منهم، ونؤمن بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن وسائر الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه.(1/377)
وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وإن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم، يصلَونها يوم الدين، ذلك بما كسبت أيديهم، وأن الله ليس بظلام للعبيد).
هذه هي القضية في عقل الرجل.. ولكن الواقع له ثقله..!
(وكان يحملني إِلْفُ ديني، وطول المدة والعهد عليه، والاجتماع مع الآباء والأمهات، والإخوة والأخوات، والأقارب والإخوان، والجيران وأهل المودات.. على التسويف بالعزم، والتلبث على إبرام الأمر).
البحث عن الحق:
(ويعرض مع ذلك الفكر في إمعان النظر، والازدياد في البصيرة، فلم أدع كتابا من كتب أنبياء التوراة والإنجيل والزبور وكتب الأنبياء والقرآن إلا نظرت فيه وتصفحته، ولا شيئًا من مقالات النصرانية إلا تأملته).
القرار:
(فلما لم أجد للحق مدفعًا، ولا للشك فيه موضعًا، ولا للأناة والتلبث وجهًا.. خرجت مهاجرًا إلى الله عز وجل بنفسي، هاربًا بديني، عن نعمة وأهل مستقر ومحل وعز ومتصرف في عمل، فأظهرت ما أظهرته عن نية صحيحة، وسريرة صادقة، ويقين ثابت، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق، وإياه تعالى نسأل ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة.. إنه هو الوهاب).
ثم يبدأ التحليل الفكري للنصرانية: (ولما نظرت في مقالات النصارى وجدت صِنفًا منهم يُعرفون بالأريوسية، يجردون توحيد الله، ويعترفون بعبودية المسيح عليه السلام، ولا يقولون فيه شيئًا مما يقوله النصارى، من ربوبية ولا بنوة خاصة ولا غيرهما، وهم متمسكون بإنجيل المسيح، مقرون بما جاء به تلاميذه والحاملون عنه، فكانت هذه الطبقة قريبة من الحق مخالفة لبعضه، في جحود نبوة محمد ودفع ما جاء به من الكتاب والسنة).
والملاحظة الأولى في التحليل:
هي بدايته بالطائفة التي تؤمن بأن عيسى عبدٌ مخلوق..(1/378)
وهذه البداية تعني أن وجود هذه الطائفة يجعل الإنسان الذي يفكر من النصارى يدرك أن النصرانية ليست هي التثليث وادعاء البنوة لله، وأن هناك النصارى الذين يؤمنون بعبودية عيسى عليه السلام، وتطبيقا لهذه القاعدة يجب التركيز على وجود هؤلاء الناس، وإظهار هذا الوجود وإشاعته، وذكر ما يجب أن يُعرَف عنهم.
ثم يذكر صاحب الوثيقة طائفة أخرى تمثل مرحلة خطيرة في الانحراف، وهي عكس الأولى تمامًا؛ لإبراز درجة التناقض والاختلاف، وهم اليعقوبية الذين يؤمنون أن للمسيح طبيعة واحدة..
(ثم وجدت منهم صنفا يعرفون باليعقوبية «الأرثوذكس» يقولون: إن المسيح طبيعة واحدة من طبيعتين، إحداهما: طبيعة الناسوت، والأخرى: طبيعة اللاهوت، وأن هاتين الطبيعتين تركبتا كما تركبت النفس مع البدن فصارتا إنسانًا واحدًا وجوهرًا واحدًا وشخصًا واحدًا، وأن هذه الطبيعة الواحدة والشخص الواحد هو المسيح، وهو إله كله وإنسان كله، وهو شخص واحد وطبيعة واحدة من طبيعتين).
الأمر الذي انتهى إلى الصورة النهائية للانحراف..
(وقالوا: إن مريم ولدت الله -تعالى الله عما يقولون- وأن الله مات وتألم وصُلب متجسدًا ودُفن وقام من بين الأموات وصعد إلى السماء، فجاءوا من القول بما لو عُرض على السماء لانفطرت، أو على الأرض لانشقت، أو على الجبال لانهدت، فلم يكن لمحاجة هؤلاء وجه، إذ كان كفرهم بما صرحوا به أوضح من أن يقع فيه الشك، وكان غيرهم من النصارى كالملكانية والنسطورية يشهدون بذلك عليهم).(1/379)
(ثم نظرت في قول الملكانية «الكاثوليك» وهم الروم وهم أكثر النصارى، فوجدتهم قالوا: إن الابن الأزلي الذي هو الله الكلمة.. تجسد من مريم تجسدًا كاملًا كسائر أجساد الناس، وركب في ذلك الجسد نفسًا كاملة بالعقل والمعرفة والعلم كسائر أنفس الناس، وأنه صار إنسانًا بالنفس والجسد اللذين هما من جوهر الناس، وإلهًا بجوهر اللاهوت كمثل أبيه لم يزل، وهو إنسان بجوهر الناسوت مثل إبراهيم وداود وهو شخص واحد لم يزد عدده، وثبت له جوهر اللاهوت، كما لم يزل يصح له جوهر الناسوت الذي لبسه من مريم، وهو شخص واحد لم يزد عدده.
وطبيعتان.. ولكل واحدة من الطبيعتين مشيئة كاملة، فله بـ«لاهوته» مشيئة مثل الأب والروح، وله بـ«ناسوته» مشيئة مثل مشيئة إبراهيم وداود..
وقالوا: إن مريم ولدت إلها، وأن المسيح -وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت- مات..
وقالوا: إن الله لم يمت، والذي ولدت مريم قد مات بجوهر ناسوته، فهو إله تام بجوهر لاهوته، وإنسان تام بجوهر ناسوته، وله مشيئة اللاهوت ومشيئة الناسوت، وهو شخص واحد لا نقول شخصان، لئلا يلزمنا القول بأربعة أقانيم)..!
إظهار التناقضات:
وبعد عرض العقيدة النصرانية لمختلف الطوائف بصورة تحليلية، يتجه الحسن بن أيوب إلى كشف التناقضات بين عقائد هذه الطوائف؛ لأن الخطوة التلقائية لمن يفكر من النصارى في باطلهم هو الاتجاه إلى أحد المذاهب النصرانية الأخرى، كحل وسط لأزمته..
قال: (فهؤلاء أتوا من ذلك بمثل ما أتت به اليعقوبية في ولادة مريم الله -تعالى الله عما يقول الظالمون- وقالوا: إن المسيح وهو اسم لا تشك جماعة النصارى أنه واقع على اللاهوت والناسوت مات، وأن الله لم يمت، فكيف يكون ميتًا لم يمت؟! وقائمًا قاعدًا في حال واحدة؟! وهل بين المقالتين فرقٌ إلا ما اختلفوا فيه من الطبائع)..؟!(1/380)
(ثم نظرت في قول النسطورية فوجدتهم قالوا: إن المسيح شخصان وطبيعتان لهما مشيئة واحدة، وأن طبيعة اللاهوت التي للمسيح غير طبيعة ناسوته، وأن طبيعة اللاهوت لما توحدت بالناسوت بشخصها الكلمة التي صارت الطبيعتان بجهة واحدة وإرادة واحدة، واللاهوت لا يقبل زيادة ولا نقصان ولا يمتزج بشيء، والناسوت يقبل الزيادة والنقصان، فكان المسيح بتلك إلهًا وإنسانًا، فهو إله بجوهر اللاهوت الذي لا يزيد ولا ينقص، وهو إنسان بجوهر الناسوت القابل للزيادة والنقصان.
وقالوا: إن مريم ولدت المسيح بناسوته، وإن اللاهوت لم يفارقه قط منذ توحدت بناسوته)..
وقال: (فوجدنا اليعقوبية قد صرحوا بأن مريم ولدت الله -تعالى عما يصفه المبطلون- ويقوله العادلون، وأنه تألم وصُلب ومات وقام بعد ثلاثة أيام من بين الموتى، وهذا الكفر الذي تشهد به عليهم سائر ملل النصارى وغيرهم، ووجدنا الملكانية قد حادوا عن هذا التصريح إلى ما هو دونه في الظاهر، فقالوا: إن المسيح شخص واحد وطبيعتان، فلكل واحدة من الطبيعتين مشيئة، فله بلاهوته مشيئة مثل الأب والروح، وله بناسوته مشيئة كمشيئة إبراهيم وداود.
وأوهموا الواقف على قولهم أنهم بما اخترعوه من هذا الاختيار قد فرقوا بين اللاهوت والناسوت، ثم عادوا إلى قول اليعقوبية فقالوا: إن مريم ولدت إلها، وأن المسيح وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت عند جماعتهم، لا يشكون في ذلك- مات بالجسد، وأن الله لم يمت، والذي قد ولدته مريم قد مات بجوهر ناسوته.
فكيف يكون ميت لم يمت، وهل بين المقالتين إلا ما اختلفوا فيه من الطبائع فرق..؟!
وإذا كانوا قد اعترفوا بأن مريم ولدت الله، وأن الذي ولدته مريم وهو المسيح الاسم الجامع للجوهرين.. للاهوت والناسوت- قد مات، فهل وقعت الولادة والموت وسائر الأفعال التي تحكي النصارى أنها فُعِلَت بالمسيح إلا عليهما..؟!
فكيف يصح لذي عقل عبادة مولود من امرأة بشرية قد مات ونالته العلل والآفات).(1/381)
تعقيبٌ لابن تيمية:
ومما يوضح تناقضهم أنهم يقولون: إن المسيح وهو اللاهوت والناسوت شخصٌ واحد وأقنوم واحد.. مع قولهم: أنهما جوهران بطبيعتين ومشيئتين..
فيثبتون للجوهرين أقنومًا واحدًا ويقولون: هو شخص واحد، ثم يقولون: إن رب العالمين إله واحد وأقنوم واحد وجوهر واحد، وهو ثلاثة أقانيم، فيثبتون للجوهر الواحد ثلاثة أقانيم وللجوهرين المتحدين أقنومًا واحدًا، مع أن مشيئة الأقانيم الثلاثة عندهم واحدة، والناسوت واللاهوت يثبتون لهما مشيئتين وطبيعتين، ومع هذا هما عندهم شخص واحد، أقنوم واحد، وهذا يقتضي غاية التناقض، سواء فسروا الأقنوم بالصفة أو الشخص أو الذات مع الصفة أو أي شيء قالوه..
وهو يبين أن الذين تكلموا بهذا الكلام ما تصوروا ما قالوه، بل كانوا ضُلَّالًا جُهَّالًا، بخلاف ما يقوله الأنبياء.. فإنه حق؛ فلهذا لا يوجد عن المسيح ولا غيره من الأنبياء ما يوافق قولهم في التثليث والأقانيم والاتحاد ونحو ذلك مما ابتدعوه بغير سمع وعقل، بل ألقوا أقوالًا مخالفة للشرع والعقل).
ثم قال الحسن بن أيوب: (ثم وجدنا النصارى المعروفين بالنسطورية قد خالفوا اليعقوبية والملكانية في قولهم بشخصين لهما مشيئة واحدة، وأن الطبيعتين اتحدتا فصارتا بجهة واحدة، ثم عادوا إلى شبيه قولهم في أن مريم ولدت المسيح، فإذا كانت ولدت المسيح فقد لزمهم ووجب عليه الإقرار بأنها ولدت هذا اللاهوت والناسوت المتحدين، وقد رجع المعنى إلى قول اليعقوبية إلا أنهم اختاروا لذلك ألفاظا زَوَّقُوها وقدروا بها التمويه على السامع، ولم يصرحوا بالقول كتصريح اليعقوبية؛ لأن المتحد بالشيء هو الممازج له والمجتمع معه حتى صار مازجُه وهُو شيئًا واحدًا، ثم أكدوا القول بإقرارهم أن الناسوت منذ اتحد باللاهوت لم يفارقه، فما لم يفارق الشيء هل هو إلا يجري مجراه في سائر متفرقاته من ضر ونفع، وخير وشر، وحاجة وغنى)..؟!
قال: (وأما قولهم: إن مريم ولدت المسيح بناسوته..(1/382)
فهذه أغلوطة، وإلا فكيف يولد ولد متحد بشيء آخر مجامع له دون ذلك الشيء، وكيف يكون ذاك وهم يقولون إنه لم يفارقه قط؟! وهل يصح هذا عند أهل النظر؟! أَوَلَيْس الحكم عند كل ناظر ومن كل ذي عقل يوجب أن تكون الولادة واقعة على اللاهوت والناسوت معًا؛ بمعنى الاتحاد وبمعنى الاسم الجامع للاهوت والناسوت -وهو المسيح- وكذلك الحمل بهما جميعًا، وأن يكون البطن قد حواهما..؟!).
قال: (فإن لَجُّوا في الباطل ودافعوا عن قبيح هذه المقالة ومالوا إلى تحسينها بالتمويهات المشككة لمن قصرت معرفته- فنحن نقيم عليهم شاهدا من أنفسهم لا يمكنهم دفعه، وذلك أن شريعة إيمانهم التي ألفها لهم رؤساؤهم من البطاركة والمطارنة والأساقفة والأحبار في دينهم وذوي العلم منهم بحضرة الملك عند اجتماعهم من آفاق الأرض بمدينة قسطنطينية، وكانوا ثلاثمائة وثمانية عشر رجلًا يصفون أنهم نطقوا بها بروح القدس، وهي التي لم تختلف جماعتهم عند اختلافهم في المقالات فيها، ولا يتم لهم قربان إلا بها على هذا النسق الذي نبينه:
نؤمن بالله الآب مالك كل شيء، صانع ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلها وليس بمصنوع، إله حق من إله حق من جوهر أبيه، الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء، الذي من أجلنا معشر البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانًا وحبل به وولد من مريم البتول، وتألم وصُلب أيام قيطوس بن بيلاطوس، ودفن وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه روح ومجيئه، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قديسية سليخية جاثليقية، وبقيامة أبداننا، وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين.. )
مناقشة العقيدة الفاسدة وإبطالها:(1/383)
قال: (فهذه الشريعة يجتمع على الإيمان بها وبذل المهج فيها وإخراج الأنفس دونها جماهيرهم من الملكانية واليعقوبية والنسطورية..
وقد اعترفوا فيها جميعًا بأن الرب المسيح الذي هذه صفته على ما اقتصصناه منها.. الإله الحق من الإله الحق.. نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانًا.. وحُبل به ووُلد من مريم البتول وتألم وصلب..!)
(فهل في هذا الإقرار شبهة أو عَلَقَة يتعلق بها العَنِتُ المدافع عن الحجة؟! فتدبروا هذا القول يا معشر النصارى، فإنه لا يمكن أحد منكم أن يخرج عنه ولا أن يدفع ما صرح به..
فإنكم إن قلتم: إن المقتول المصلوب هو الله.. فمريم على قولكم ولدت الله -سبحانه وتعالى عما يقولون..
وإن قلتم: إنه إنسان.. فمريم ولدت إنسانًا..
وفي ذلك أجمع.. بطلان شريعة إيمانكم.. فاختاروا أي القولين شئتم؛ فإن فيه نقض الدين)..!
قال: (وقد يجب على ذوي العقول أن تزجرهم عقولهم عن عبادة إله ولدته مريم وهي امرأة آدمية، ثم مكث على الأرض ثلاثين سنة تجري عليه أحكام الآدميين من غذاء وتربية وصحة وسقم وخوف وأمن وتعلم وتعليم، لا يتهيأ لكم أن تدَّعوا أنه كان منه في تلك المدة من أسباب اللاهوتية شيء، ولا له من أحوال الآدميين كلها من حاجتهم وضروراتهم وهمومهم ومحنهم وتصرفاتهم مخرج، ثم أحدث بعد هذه المدة الطويلة ما أحدثه من إظهار أمر الله تعالى والنبوات والآيات الباهرة المعجزة بقوة الله تعالى، وقد كان من غيره من الأنبياء مثلها وما هو أعلى منها، فكانت مدته في ذلك أقل من ثلاث سنين، ثم انقضى أمره بما يصفون أنه انقضى به وينسبونه إليه؛ من حبس وضرب وقذف وصلب وقتل، فهل تقبل العقول ما يقولون من أن إلهًا نال عبادُه منه مثل ما تذكرون أنه نيل منه..؟!(1/384)
فإن تأولتم أن ذلك حل بالجسم -وليس بالقياس يحتمل ذلك لما شرحناه من معنى اتحاد اللاهوت به- أفليس قد وقع بجسم توحدت اللاهوتية به وحلت الروح فيه، وقد أنجبه الله على ما تزعمون وتصفون لخلاص الخلق! وفوض إليه القضاء بين العباد في اليوم الذي يجتمع فيه الأولون والآخرون للحساب؟!
وقد وجدناكم تؤثرون أخبارًا في قوم عرضوا التوابيت فيها شهداء لكم بأن الأيدي التي بسطت إليها جفت، أَوَهل نال أحدًا من الجزع والهلع والغم والقلق والتضرع إلى الله في إزالة ما حل به مثل ما يحكى في الإنجيل أنه ناله؟! ووجدنا الكتب تنبئ بأنه نيل من جورجيس أحد من كان على دين المسيح من العذاب الشديد بالقتل والحرق والنشر بالمناشير ما لم يسمع بمثله في أحد من الخلق، ونال خلقا كثيرا من تلامذته أيضًا عذاب شديد..
وقيل: لما كان الملوك المحاربون لهم يسومونهم إياه من الرجوع عن أديانهم إلى الكفر الذي كان أولئك الملوك عليه، فصبروا على ذلك واحتسبوا أنفسهم فلم يهربوا من الموت، وقد كان يمكنهم الهرب من بلد إلى بلد، والاستتار وإخفاء أشخاصهم، وما أظهروا في حال من تلك الأحوال جزعًا ولا هلعًا، وهم بعض الآدميين التابعين له؛ لأنه خفف عنهم ما كانوا ينالون به بتأييد الله عز وجل إياهم..!)
قال: (ثم نقول قولا آخر، قد نستدل على صحة هذه الشريعة من سقمها بأربعة أوجه لا يقع في شيء منها شك ولا طعن، ولا زيادة ولا نقصان، وهي أصل أمر المسيح عندكم..
فأولها: البشرى التي أتى بها جبريل عليه السلام..
والثانية: قول يحيى بن زكريا الذي شهد له المسيح بأنه لم تقم النساء عن مثله..
والثالثة: النداء المسموع من السماء..
والرابعة: قول المسيح عن نفسه حين سأله يحيى عن شأنه..(1/385)
والذي قال جبريل على ما ثبت في إنجيلكم لمريم حين بشرها: السلام عليك أيتها الممتلئة نعمًا.. ربنا معك أيتها المباركة في النساء.. فلما رأته مريم ذعرت منه فقال: لا ترهبي يا مريم؛ فقد فزت بنعمة من ربك.. فها أنت تحبلين وتلدين ابنًا وتسميه يسوع.. ويكون كبيرًا ويسمى ابن الله العلي.. ويعطيه الله الرب كرسي أبيه داود.. ويكون ملكًا على آل يعقوب إلى الأبد.. فقالت مريم: أنى يكون لي ذلك ولم يمسسني رجل.. قال لها المَلك: إن روح القدس يأتيك -أو قال: يحل فيك- وقوة العلي تُحبلك.. من أجل ذلك يكون الذي يولد منك قديسًا.. ويسمى ابن الله العلي)..
قال: (فلم نرَ المَلك قال لها إن الذي تلدين هو خالقك وهو الرب كما سميتموه، بل أزال الشك في ذلك بأن قال: إن الله الرب يعطيه كرسي أبيه داود.. ويصطفيه ويكرمه.. وأن داود النبي أبوه.. وأنه يُسمَّى ابن الله..
وما قال أيضًا: أنه يكون ملكًا على الأرض.. وإنما جعل له الملك على بني إسرائيل فقط.. وقد علمتم أن من يسمى بابن الله كثيرٌ لا يحصون.. فمن ذلك إقراركم بأنكم جميعًا أبناء الله بالمحبة.. وقول المسيح: أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم في غير موضع من الإنجيل..
ثم تسمية الله يعقوب وغيره بنيه خصوصًا.. فالسبيل في المسيح إذا لم تلحقوه في هذا الاسم بالجمهور.. أن يجري في هذه التسمية مجرى الجماعة الذين اختصوا بها من الأنبياء والأبرار، ونسبة الملك إياه إلى أبيه داود تحقق أن أباه داود وأن التسمية الأولى على جهة الاصطفاء والمحبة، وأن حلول الروح عليه على الجهة التي قالها متَّى التلميذ للشعب عن المسيح في الإنجيل: لستم أنتم متكلمين، بل روح الله تأتيكم تتكلم فيكم..
فأخبر أن الروح تحل في القوم أجمعين وتتكلم فيهم، وقال الملك في بشارته لمريم بالمسيح عليه السلام: إنه يكون ملكًا على آل يعقوب..(1/386)
فخص آل يعقوب بتملكه عليهم دون غيرهم من الناس، ولم يقل: إنه يكون إلها للخلائق، ومعنى قول جبريل عليه السلام لمريم: ربنا معكِ.. مثل معنى قول الله عز وجل لموسى وغيره من الأنبياء: إني معكم؛ فقد قال ليوشع بن نون: إني أكون معك كما كنت مع موسى عبدي.
فقول النصارى كلهم في مجاري لغتهم ومعاني ألفاظهم: أن الله عز وجل وروح القدس مع كل خطيب وراهب وفاضل في دينه على هذه السبيل).
قال: (وأما النداء الذي سمعه يحيى بن زكريا من السماء في المسيح وشهادة يحيى له فإن متى قال في إنجيله: إن المسيح عليه السلام لما خرج من الأردن تفتحت له السماء فنظر يحيى إلى روح القدس قد نزلت على المسيح كهيئة حمامة، وسمع نداءً من السماء: إن هذا ابني الحبيب الذي اصطفيته..
فقد علمنا وعلمتم أن المصطفى مفعول، والمفعول مخلوق، وليس يستنكف المسيح عليه السلام من الاعتراف بذلك في كل كلامه، وما زال يقول: إلهي وإلهكم وأبي وأبيكم، وكل ما يصحح به أنه عبد مرسل مربوب مبعوث مأمور يؤدي ما سمع ويفعل ما حد له).
ثم قال: (وقد وجدنا المسيح عليه السلام احتاج إلى تكميل أمره بمعمودية يحيى له، فصار إليه لذلك، وسأله إياه، فليس مرتبة المقصود بدون مرتبة القاصد الراغب.
وقال لوقا التلميذ في إنجيله: إن يحيى المعمداني أرسل إلى المسيح بعد أن عمده وسأله: أنت ذلك الذي تجيء أو نتوقع غيرك؟ فكان جواب المسيح لرسله: أن ارجعوا فأخبروه بما ترون؛ من عُميانٍ يبصرون، وزُمنٍ ينهضون، وصُم يسمعون، فطوبى لمن لم يغتر بي أو يَزِل في أمري..)(1/387)
قال: (فوجدنا يحيى مع محله وجلال قدره عند الله عز وجل، ثم ما شهد به للمسيح له من أنه ما قامت النساء عن مثله، قد شك فيه فاحتاج إلى أن يسأله عن شأنه، ثم لم يكن من جواب المسيح له بشيء مما تصفون من الربوبية، ولا قال: إني خالقك وخالق كل شيء كما في شريعة إيمانكم، بل حذر الغلط في أمره والاغترار، ولا كان من قوله أكثر مما ذكر أنه أظهر بنبوته من هذه الآيات التي سبق إلى مثلها أكثر الأنبياء).
قال: (ولا رأينا يحيى زاد في وضعه إياه لما قرظه وأعلا ذكره مع تشككه في أمره وحاجته إلى مساءلته عن حاله على أن قال: هو أقوى مني وأني لا أستحق أن أحل معقد خفه، ولم يقل: إنه خالقي، وقد يقول الرجل الخير فيمن هو دونه مثل الذي قال يحيى فيه تواضعًا لله وخشوعًا، كما قال المسيح في يحيى: إنه ما قامت النساء عن مثله).
قال: (فتركتم ما أتت به الرسل والنبوات في المسيح، وهو أصلكم الذي وقع عليه بناؤكم، وجعلتم لأنفسكم شريعة غيرها، ومَثَلُ الذين عقدوا هذه الشريعة لكم مَثَلُ من آمن بنبوة رجل ينتفي من النبوة؛ لأن المسيح عليه السلام يقول: إنه مربوب مبعوث، ويقول جبريل: إنه مكرم مصطفى، وأن أباه داود، وأن الله جعله ملكًا على آل يعقوب، وينادي منادٍ من السماء بمثل ذلك، ويشهد يحيى بن زكريا على مثله..
وتقولون: بل هو خالق أزلي إلا أنه يستر نفسه، ويقول المسيح -وغيره ممن سمينا- أنه مُعطى، وأن الله معطيه، وتقولون: بل رازق النعم وواهبها ..(1/388)
ويقول: إن الله أرسله وتقولون: بل هو الذي نزل لخلاصنا، وتعتقدون سبب نزوله من السماء أنه أراد أن يخلصكم ويحتمل الخطيئة، ويربط الشيطان، فقد وجدنا الخلاص لم يقع، والخطيئة قائمة لم تزل، والشيطان أعتى ما كان يربط، بل سلطه الله عليه على ما تقولون، فحصره في الجبل أربعين يومًا يمتحنه، وقال له في بعض أحواله معه: إن كنت ابن الله فقل لهذه الصخور تصير خبزًا، فقال له المسيح مجيبًا له: إنه مكتوب أن حياة الإنسان لا تكون بالخبز.. بل بكل كلمة تخرج من الله، ثم ساقه الشيطان إلى مدينة بيت المقدس وأقامه على قرنة الهيكل، وقال له: إن كنت ابن الله فارمِ بنفسك من هاهنا، فإنه مكتوبٌ: إن الملائكة تُوَكَّل بك لئلا تعثر رجلك بالحجر، قال يسوع: ومكتوب أيضًا لا تُجَرِّب الرب إلهك، ثم ساقه إلى جبل عالٍ وأراه جميع مملكات الدنيا وزخارفها وقال له: إن خررت على وجهك ساجدًا لي جعلت هذا الذي ترى كله لك، قال له المسيح: اغرب أيها الشيطان، فإنه مكتوب اسجد للرب إلهك ولا تعبد شيئًا سواه، ثم بعث الله عز وجل ملكًا اقتلع العدو من مكانه ورمى به في البحر وأطلق السبيل للمسيح).
قال: (أفلا يعلم من كان في عقله أدنى مسكة أن هذا الفعل لا يكون من شيطان إلى إله، ولو كان إلهًا لأزاله عن نفسه قبل أن يأتيه المَلَك من عند ربه، ولما قال: أُمِرنا أن لا نجرب الله، وأن نسجد للرب ولا نعبد شيئًا سواه، وكيف لم يربط الشيطان عن نفسه قبل أن يربط عن أمته..
فهذه أمور إذا تأملها المتأمل قبُحت جدًّا وكثر اختلافها واشتد تناقضها واضطرابها)..(1/389)
قال: (ومما يعجب منه أنكم تعتقدون أن الابن الأزلي اتحد بالمسيح فصارا بجهة واحدة، ولم يفارقه قط منذ اتحد به، ومكث على ذلك في بطن أمه تسعة أشهر، ثم أقام مولودًا وتغذى باللبن، ومربوبًا صبيًّا مغذى بالأغذية، إلى أن بلغ ثلاثين سنة لا يظهر منه شيء من آلة الربوبية، ولا أمر يوجب هذا المحل، ولا كان بينه وبين نظرائه من الآدميين فرق، ولا سطع منه نور، ولا ظهرت له سكينة، ولا حفته الملائكة بالتهليل، ولا ألمَّ به الشعث بعد ذلك فوق ما كان من الأنبياء قبله، فقد كلم الله موسى من العوسجة كيف شاء فأشرق ما حولها نورًا، وكلمه من طور سيناء فاضطربت في الجبل النيران، والتبس وجهه النور الساطع حتى كان يتبرقع إذا جلس مع بني إسرائيل بعد ذلك؛ لأنهم كانوا لا يستطيعون النظر إليه، ثم سأل موسى ربه عز وجل لما قرب منه فقال: {رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا} [الأعراف: 143]، فلما أفاق من صعقته استغفر ربه فتاب عليه، وتجلى مجد الله لجماعة من الأنبياء فرأوا حول مجده ربوات الملائكة، وقال داود: يا رب، إنك حيث عبرت ببلاد سنين.. تزلزلت الأرض منك وانفطرت من هيبتك، وقال أيضًا كالمخاطب للبحر والجبال والمتعجب منها: ما لك أيها البحر هاربًا، وأنت يا نهر الأردن لِمَ ولَّيت راجعًا، وما لكِ أيتها الجبال تنفرين كالأبابيل، وما لكن أيتها الشوامخ والهضبات تنزو نزو الشياء..
ثم قال كالمجيب عنهم: من قدام الرب تزلزلت البقاع.. )(1/390)
قال: (فإن كان المسيح هو الأزلي الخالق أو كان متحدا به فكيف لم ترجف بين يديه الجبال، ولم تتصرف عن مشيئته الأنهار والبحار، أو كيف لم تظهر منه آيات باهرات أجل من آيات الأنبياء قبله، مثل المشي على متون الهواء، والاضطجاع على أكتاف الرياح، والاستغناء عن المآكل والمشارب، وإحراق من قرُب منه من الشياطين والجن، كما أحرق إيليا من قرب منه من جند أحاب الملك، ويمنع الآدميين من نفسه وما فعلوا على زعمكم بجسمه ليعلم الناس أنه خالقهم، أو أنه هيكل الخالق)..
قال: (ووجدناكم تقولون: إن الابن إنما يسمى ابن الله وكلامه؛ لأنه تولد من الآب وظهر منه..
فلم نقف على معنى ذلك؛ لأن شريعة إيمانكم تقول: إن الروح أيضًا تخرج من الآب، فإن كان الأمر كما تقولون فالروح أيضًا ابن؛ لأنها تخرج عن الله تعالى، وإلا فما الفرق بينهما)..؟!
قال: (ولم نفهم أيضًا قولكم: إن الابن تجسد من روح القدس، وأن روح القدس ساقه إلى البر ليمتحنه الشيطان..
فما كانت حاجة الابن إلى أن تكون الروح -وهي في قولكم مثله- تدبره وتغيره من حال إلى حال، أَوَما قلتم: أن الغير السابق المدبر فاعل، والمسبوق المدبر مفعول به؟!
فالابن إذن دون الروح وليس مثله؛ لأن الأزلي لا ينفك من الأزلي وهو مثله..!!)
قال: (وإن كان المسيح من روح القدس كما قال جبريل الملك لأمه مريم، فلم سميتموه كلمة الله وابنه ولم تُسمُّوه روحه، فإنما قال لها الملك: إن الذي تلدين من روح القدس، والروح غير الابن، ولو كان المعنى واحدا لما قالت الشريعة: إنه تجسد من روح القدس، وإن روح القدس ساقه إلى البَرِّ، وإن روح القدس نزل عليه، ولم تثلثون به في إيمانكم فتقولون: نؤمن بالآب والابن والروح القدس)..؟!
مناقشة النسطورية:(1/391)
قال: (ووجدناكم تقولون أيتها النسطورية: إن لله علمًا وحكمة، هما الابن، وحياة هي الروح، قديمين، ولعلمه وحياته ذاتٌ كذات الله، وذلك أن علم الله له علم وحياة، ولحياته التي هي روحه علم وحياة، وأن الله الآب لما رأى استيلاء العدو على خلقه ونكول الأنبياء عن مناوأته- أرسل إليه ابنه الفرد وحبيبه وجعله فداء ووفاء للناس أجمعين، وأن ابنه نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانًا، ثم وُلد ونشأ وعاش ثلاثين سنة يتقلب بين بني إسرائيل كواحد منهم، يصلي في كنائسهم، ويستن بسننهم، لا يدَّعي دينا غير دينهم، ولا ينتحل رسالة ولا نبوة ولا بنوة، حتى إذا انقضت تلك السنون أظهر الدعوة، وجاء بالآيات الباهرة، والبراهين المشهورة، فأنكرته اليهود وقتلته وصلبته، ثم صعد إلى السماء، وصدقتم بشريعة الإيمان وكَفَّرتم من خالفها، ثم لم تلبثوا أن خلعتموها وانسلختم منها، وقلتم: إن المسيح جوهران وأقنومان، جوهر قديم وجوهر حديث، ولكل جوهر أقنوم على حياله، وإن الله جوهر قديم يقوم بمعنيين، فهو واحد يقوم بثلاثة معانٍ، وثلاثة لها معنى واحد، كالشمس التي هي شيء واحد، ولها ثلاثة معان: القرص والحر والنور، فالمسيح هو الله، وهو مبعوث غير أنه ليس يعبد ..(1/392)
فكان معنى قولكم هذا أن المسيح مولود، لكنه ليس مفعولا به، وهو مبعوث مرسل، لكنكم تستحيون أن تسموه رسولا، إذ كنتم لا تفرقون بين الله وبينه في شيء من الأشياء، وأقبلتم على الملكانية واليعقوبية بالتكفير واللعن لقولهم: إن الله والمسيح شيء واحد، ثم لم تلبثوا أن قدمتم المسيح على الله تبارك وتعالى، وبدأتم به في التمجيد، ورفعتم إليه تهاليلكم ورغائبكم في أوقات القرابين خاصة وهي أجل صلواتكم وأفضل محافلكم عندكم، فإنه يقوم الإمام منكم على المذبح من مذابحكم وأهله مرعوبون، فتتوقعون نزول روح القدس بزعمكم من السماء بدعائه، فيفتح دعاءه ويقول: ليتمَّ علينا وعليكم نعمة يسوع المسيح ومحبة الله الآب، ومشاركة روح القدس إلى دهر الداهرين، ثم يختم صلاته بمثل ذلك..
فهذا تصريح بالشرك وتصغير لعظمة الله وعزته، أن جعلتم النعم والمواهب لمن هو دونه، وهو معطَى ومخوَّل من عند الله على قولكم، وجعلتم لله بعد المسيح محبة، ولروحه مشاركة).
قال: (ووجدناكم قد عبتم على اليعقوبية قولهم: إن مريم ولدت الله -عز الله وجل عن ذلك- وفي شريعة الإيمان التي بيناها المجتمَع عليها: أن المسيح إله حق، وأنه وُلد من مريم، فما معنى المنافرة؟ وما الفرق؟
وما تنكرون من قولهم إن المقتول المصلوب هو الله -عز الله وجل عن ذلك- وشريعة إيمانكم تقول: نؤمن بالرب المسيح الذي من خبره وحاله، الذي ولد من مريم وتألم وصلب على عهد الملك بيلاطس النبطي، ودُفن وقام في اليوم الثالث ..!
أليس هذا إقرارا بمثل قولهم.. فتدبروا هذا القول يا أولي الألباب! فإنكم إن قلتم: إن المقتول المصلوب هو الله فإن مريم عندكم ولدت الله، وإن قلتم: إنه إنسان فإن مريم ولدت إنسانًا، وبطلت الشريعة..!(1/393)
فأي القولين اخترتموه ففيه نقض دينكم، ثم عبتم على الملكانية قولهم: إنه ليس للمسيح إلا أقنومًا واحدًا؛ لأنه صار مع الأزلي الخالق شيئًا واحدًا لا فرق بينهما، وقلتم بأن له أقنومين لكل جوهر أقنوم على حياله، ثم لم تلبثوا أن رجعتم إلى مثل قولهم، فقلتم: إن المسيح وإن كان مخلوقًا من مريم مبعوثًا فإنه هيكل لابن الله الأزلي، ونحن لا نفرق بينهما..
فإذا كان الأمر عندكم على هذا فما تنقمون على الملكانية؟! وما معنى الافتراق، وقد رجعتم في الاتحاد إلى مثل قولهم؟! إن هذا الأمر تحار فيه الأفهام..!
فإن كانت الشريعة بمعنى الأمانة عندكم حقًّا فالقول ما قال يعقوب، وذلك أنَّا إذا ابتدأنا من الشريعة في ذكر المسيح، ثم نسقنا المعاني نسقًا واحدًا وانحدرنا فيها إلى آخرها وجدنا القوم الذين ألقوها لكم قد صححوا أن يسوع المسيح هو ابن الله، وهو بِكر الخلائق كلها، وهو الذي وُلد من مريم ليس بمصنوع، وهو إله حق من إله حق من جوهر أبيه، وهو الذي أتقن العوالم وخلق كل شيء على يده، وهو الذي نزل لخلاصكم، فتجسد وحملته مريم وولدته وقُتل وصلب..
فمن أنكر قول اليعقوبية لزمه أن ينكر هذه الشريعة التي تشهد بصحة قولهم، ويلعن من ألَّفها)..!
قال: (وإنما أخذت تلك الطائفة -يعني الذين وضعوا الأمانة- بكلمات، وذكروا أنهم وجدوها في الإنجيل مشكلات، تأولت فيها ما وقع بهواها، وتركت ما في الإنجيل من الكلام البين الواضح، الذي يشهد بعبودية المسيح، وشهادته بذلك على نفسه، وشهادة تلاميذه به عليه، فأخذت بالمشكل اليسير وجعلت له ما أحبَّت من التأويل، وألغت الواضح الكثير الذي لا يحتاج إلى تأويل).
دحض بدعة الأقانيم:(1/394)
قال: (فأما احتجاجكم بالشمس وأنها شيء واحد له ثلاثة معان، وتشبيهكم ما يقولونه في الثلاثة الأقانيم بها فإن ذلك تمويه لا يصح؛ لأن نور الشمس لا يحد بحد الشمس، وكذلك حرها لا يحد بحد الشمس، إذ كان حد الشمس جسمًا مستديرًا مضيئًا مسخنًا دائرًا في وسط الأفلاك دورانًا دائمًا، ولا يتهيأ أن يحدَّ نورها وحرها بمثل هذه الصفة، ولا يقال: إن نورها أو حرها جسمٌ مستدير مضيء مسخن دائم الدوران، ولو كان نورها وحرها شمسًا حقا من شمس حق من جوهر الشمس كما قالت الشريعة في المسيح: إنه إله حق من إله حق من جوهر أبيه- لكان ما قلتم له مثلا تامًّا، والأمر مخالف لذلك، فلا يشبهه ولا يقع القياس عليه، والحجة منكم فيه باطلة).
دحض بدعة الخلاص والفداء
قال: (ووجدناكم تذكرون أن المسيح نزل من السماء، فأبطل بنزوله الموت والآثام، فإن العجب ليطول من هذا القول، وأعجب منه.. من قَبِلَهُ ولم يتفكر فيه، وممن لم يستقبح أن يعتقد ديانة لله تبارك وتعالى على مثل هذا القول المحال البائن عما تشهد به العقول وتنبئ به المشاهدة ويدعو الناس إليها، فما هو ببعيد من عقد ما هو أمحل وأبطل منها؛ لأنه إن كانت الخطيئة بطلت بمجيئه فالذين قتلوه إذن ليسوا خاطئين ولا مأثومين؛ لأن لا خاطئ بعد مجيئه ولا خطيئة، وكذلك أيضًا الذين قتلوا حواريِّيه وأحرقوا أسفاره غير خاطئين، وكذلك من نراه من جماعتكم منذ ذلك الدهر إلى هذا الوقت يقتل ويسرق ويزني ويلوط ويسكر ويكذب ويركب كل ما نُهي عنه من الكبائر وغيرها غير خاطئين ولا مأثومين..
فمن جحد ذلك فليرجع إلى التسبيحة التي تقرأ بعقب كل قربان، وهو: أن يا ربنا الذي غلب بوجعه الموت الطاغي..
وفي الأخرى التي تقال في يوم الجمعة الثانية من الفصح: إن فخرنا بالصليب الذي بطل به سلطان الموت، وصرنا إلى الأمن والنجاة بسببه..
وفي بعض التسابيح: بصلوات ربنا يسوع المسيح بطل الموت، وانطفأت فتن الشيطان ودرست آثارها..(1/395)
فأي خطيئة بطلت..؟!
وأي فتنة للشيطان انطفأت..؟!
أو أي أمر كان الناس عليه قبل مجيئه من المحارم والآثام تغير عن حاله)..؟!
قال: (فإذا كان التمويه يقع فيما يلحقه كل أحد بالمعرفة والبيان فهو فيما أشكل من الأمور وفعل بالتأويلات التي تأولها أولئك المتأولون أوقع، وإذا كنتم قد قبلتم هذا المحال الظاهر الذي لا خفاء به عن الصبيان فأنتم لما هو أعظم منه من المحال أقبل، وهذا إنجيلكم يكذب هذا القول حيث يقول المسيح فيه: ما أكثر من يقول لي يوم القيامة يا سيدنا! أليس باسمك أخرجنا الشيطان؟ فأقول: اغربوا عني أيها الفجرة الغاوون، فما عرفتكم قط..
فهذا خلاف قول علمائكم ما قالوا، ووضعهم لكم ما وضعوا، ومثله قوله: إني جامع الناس يوم القيامة عن ميمنتي وميسرتي، وقائلٌ لأهل الميسرة: إني جعت فلم تطعموني، وعطشت فلم تسقوني، وكنت غريبًا فلم تأووني، ومحبوسًا فلم تزوروني، ومريضًا فلم تعودوني، فاذهبوا إلى النار المعدة لكم من قبل تأسيس الدنيا، وأقول لأهل الميمنة: فعلتم بي هذه الأشياء.. فاذهبوا إلى النعيم المعد لكم من قبل تأسيس الدنيا..
فهل أدخل أولئك النار إلا خطاياهم التي ركبوها، وهل صار هؤلاء إلى النعيم إلا بأعمالهم الجميلة التي قدموها بتوفيق الله إياهم، فمن قال إن الخطيئة قد بطلت فقد بهت، وقد خالف قول المسيح، وكان هو من الكاذبين).
دحض بدعة تأليه المسيح
وقال: (ويأيها القوم الذين هم أولو الألباب والمعرفة.. حيث ينسبونه إلى الربوبية، وينحلونه اللاهوتية، ويجعلونه خالق الخلق أجمعين وإلههم، بماذا ساغ ذلك لكم وما الحجة فيه عندكم..؟!
هل قالت كتب النبوات فيه ذلك؟!.. أو هل قاله عن نفسه؟! أو قاله أحدٌ عن تلامذته والناقلين عنه، الذين هم عماد دينكم وأساسه، ومن أخذتم الشرائع والسنن عنه؟!..(1/396)
ومن كتب الإنجيل وبيَّنه قد أفصح في كل الإنجيل من كلامه ومخاطبته ووصاياه بما لا يحصى كثرة بأنه عبدٌ مثلكم ومربوب معكم، ومرسل من عند ربه وربكم، ومبدي ما أمر به فيكم، وحكى مثل ذلك من أمره حواريوه وتلامذته، ووصفوه لمن سأل عنه.
وفي كلامهم بأنه رجل جاء من عند الله عز وجل، ونبي له قوة وفضل، فتأولتم في ذلك أنه أخرج كلامه على معنى الناسوت، ولو كان كما تقولون لأفصح عن نفسه بأنه إله، كما أفصح بأنه عبد، ولكنه ما ذكره ولا ادعاه ولا دعا إليه ولا ادعته له كتب الأنبياء قبله، ولا كتب تلامذته ولا حكي عنهم ولا أوجبه كلام جبريل الذي أداه إلى مريم ولا قول يحيى بن زكريا).
قال: (فإن قلتم إنكم استدللتم على ربوبيته بأنه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ومشى على الماء وصعد إلى السماء وصير الماء خمرًا وكثَّر القليل؛ فيجب الآن أن ينظر إلى كل من فعل من هذه الأمور فعلًا فنجعله ربًّا وإلهًا.. وإلا فما الفرق..؟!
فمن ذلك: أن كتاب سفر الملوك يخبر أن إلياس أحيا ابن الأرملة، وأن اليسع أحيا ابن الإسرائيلية، وأن حزقيال أحيا بشرًا كثيرًا، ولم يكن أحدٌ ممن ذكرنا بإحيائه الموتى إلهًا..
وأما إبراء الأكمه فهذه التوراة تخبر أن يوسف أبرأ عين أبيه يعقوب بعد أن ذهبت..
وهذا موسى طرح العصا فصارت حية لها عينان تبصر بهما، وضرب بها الرمل فصار قملا لكل واحدة منها عينان تبصر بهما، ولم يكن واحد منهم بذلك إلهًا..!(1/397)
وأما إبراء الأبرص فإن كتاب سفر الملوك يخبر بأن رجلًا من عظماء الروم برص فرحل من بلده قاصدًا اليسع عليه السلام ليبرئه من برصه، فأخبر الكتاب بأن الرجل وقف بباب اليسع أيامًا لا يؤذن له، فقيل لليسع: إن ببابك رجلًا يقال له نعمان وهو أجل عظماء الروم به برص وقد قصدك لتبرئه من مرضه، فإن أذنت له دخل إليك، فلم يأذن له، وقال لرجل من أصحابه: اخرج إلى هذا الرجل فقل له: ينغمس في الأردن سبع مرات، فأبلغ الرسول لنعمان ما أمره به اليسع ففعل ذلك، فذهب عنه البرص، ورجع قافلًا إلى بلده فأتبعه خادم اليسع فأوهمه أن اليسع وجَّه به إليه، يطلب منه مالًا فسُر الرجل بذلك ودفع إلى الخادم مالًا وجوهرًا، ورجع فأخفى ذلك وستره، ثم دخل إلى اليسع، فلما مثل بين يديه قال له: تبعت نعمان وأوهمته عني كذا وكذا، وأخذت منه كذا، وأخفيته في موضع كذا، إذ فعلت الذي فعلت به فليصر برصه عليك، وعلى نسلك فبرص ذلك الخادم على المكان).
قال: (فهذا اليسع قد أبرأ أبرصًا وأبرص صحيحًا، وهو أعظم مما فعل المسيح عليه السلام، فلم يكن في فعله ذلك إلهًا).
قال: (وأما قولكم: أنه مشى على الماء فإن كتاب سفر الملوك يخبر بأن إلياس عليه السلام صار إلى الأردن ومعه اليسع تلميذه، فأخذ عمامته فضرب بها الأردن فاستيبس له الماء حتى مشى عليه هو واليسع، ثم صعد إلى السماء على فرس من نور، واليسع يراه، ودفع عمامته إلى اليسع، فلما رجع اليسع إلى الأردن ضرب بها الماء فاستيبس له حتى مشى عليه راجعًا، ولم يكن واحد منهما بمشيه على الماء إلهًا، ولا كان إلياس بصعوده إلى السماء إلهًا)!(1/398)
قال: (وأما قولكم: أنه صيَّر الماء خمرًا فهذا كتاب سفر الملوك يخبر بأن اليسع نزل بامرأة إسرائيلية فأضافته وأحسنت إليه، فلما أراد الانصراف قال لها: هل لك من حاجة؟ فقالت المرأة: يا نبي الله، إن على زوجي دينًا قد فدحه، فإن رأيت أن تدعو الله لنا بقضاء ديننا فافعل، فقال لها اليسع: اجمعي كل ما عندك من الآنية، واستعيري من جيرانك جميع ما قدرت عليه من آنيتهم، ففعلت، ثم أمرها فملأت الآنية كلها ماء، فقال: اتركيه ليلتك هذه، ومضى من عندها، فأصبحت المرأة وقد صار ذلك الماء كله زيتًا، فباعوه فقضوا دينهم..
وتحويل الماء زيتًا أبدع من تحويله خمرًا، ولم يكن اليسع بذلك إلهًا..!
وأما قولكم: المسيح عليه السلام كثَّر القليل حتى أكل خلقٌ كثير من أرغفة يسيرة، فإن كتاب سفر الملوك يخبر بأن إلياس نزل بامرأة أرملة، وكان القحط قد عم الناس وأجدبت البلاد ومات الخلق ضرًّا وهزلًا، وكان الناس في ضيق، فقال للأرملة: هل عندك طعام؟ فقالت: والله ما عندي إلا كفٍّ من دقيق في قلة، أردت أن أخبزه لطفلٍ لي، وقد أيقنا بالهلاك لما الناس فيه من القحط، فقال لها: أحضريه، فلا عليك، فأتته به، فبارك عليه، فمكث عندها ثلاث سنين وستة أشهر، تأكل هي وأهلها وجيرانها منه، حتى فرَّج الله عن الناس، فقد فعل إلياس في ذلك أكثر مما فعل المسيح؛ لأن إلياس كثَّر القليل وأدامه، والمسيح كثَّر القليل في وقت واحد، ولم يكن إلياس بفعله هذا إلهًا).
قال: (فإن قلتم: إن هؤلاء الأنبياء ليس لهم صنعٌ في هذه الأفعال، وإن الصنع فيها والقدرة لله عز وجل، إذ كان هو الذي أجراها على أيديهم، فقد صدقتم، ونقول لكم أيضًا كذلك: المسيح ليس له صُنعٌ فيما ظهر على يديه من هذه الأعاجيب، إذ كان الله هو الذي أظهرها على يديه، فما الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء، وما الحجة في ذلك؟!).(1/399)
قال: (وإن قلتم: إن الأنبياء كانت إذا أرادت أن يظهر الله على أيديهم آية تضرعت إلى الله ودعته وأقرَّت له بالربوبية، وشهدت على أنفسها بالعبودية، قيل لكم: وكذلك سبيل المسيح سبيل سائر الأنبياء؛ قد كان يدعو ويتضرع ويعترف بربوبية الله، ويقر له بالعبودية..
فمن ذلك: أن الإنجيل يخبر بأن المسيح أراد أن يُحيِي رجلا يقال له ألعازر، فقال: يا أبي، أدعوك كما كنت أدعوك من قبل فتجيبني وتستجيب لي، وأنا أدعوك من أجل هؤلاء القيام ليعلموا، وقال -بزعمكم- وهو على الخشبة: إلهي إلهي، لم تركتني؟!
وقال: يا أبي اغفر لليهود ما يعملون؛ فإنهم لا يدرون ما يصنعون..
وقال في إنجيل متى: يا أبي أحمدك..
وقال: يا أبي إن كان بد أن يتعداني هذا الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا فلتكن مشيئتك..
وقال أيضا: أنا أذهب إلى إلهي الذي هو أعظم مني..
وقال: لا أستطيع أن أصنع شيئًا ولا أتفكر فيه إلا باسم إلهي..
وقال -يعني نفسَه-: لا ينبغي للعبد أن يكون أعظم من سيده، ولا للرسول أن يكون أعظم ممن أرسله..
وقال: إن الله لم يلد ولم يولد، ولم يأكل ولم يشرب، ولم ينم، ولم يره أحد من خلقه، ولا يراه أحد إلا مات..
والمسيح قد أكل وشرب وولد ورآه الناس فما ماتوا من رؤيته، ولا مات أحدٌ منهم، وقد لبث فيهم ثلاثًا وثلاثين سنة).
تعقيب لابن تيمية
(وعامة ما ذكره هذا عن الكتب تعترف به النصارى، ولكن بعضهم ينازعه في يسير من الألفاظ، فنازعه هنا في قوله: لا ينبغي للعبد أن يكون أعظم من سيده..
وقال: هذا إنما قاله المسيح للحواريين، وذكر أنه لا يعرف عنه لفظ لم يولد ولم يأكل ولم يشرب).
إثبات عبودية المسيح وبشريته
قال: (وقال في إنجيل يوحنا: إنكم متى رفعتم ابن البشر فحينئذ تعلمون أني أنا هو، وشيء من قِبل نفسي لا أفعل، ولكن كل شيء كالذي علمني أبي..
وقال في موضع آخر: من عند الله أُرسِلتُ معلمًا..
وقال لأصحابه: اخرجوا بنا من هذه المدينة، فإن النبي لا يُجَلُّ في مدينته.(1/400)
وأخبر الإنجيل أن امرأة رأت المسيح فقالت: إنك لَذلك النبي الذي كنا ننتظر مجيئه، فقال لها المسيح: صدقت طوبى لك..
وقال لتلامذته: كما بعثني أبي كذلك أبعث بكم).
قال: (فاعترف بأنه نبي وأنه مألوه ومربوب ومبعوث، وقال لتلامذته: إن من قَبِلَكُم وآواكم فقد قبلني، ومن قبلني فإنما يقبل من أرسلني، ومن قبل نبيًّا باسم نبي فإنما يفوز بأجرٍ من قََبِل النبي.
فبين هاهنا في غير موضع: أنه نبي مرسل، وأن سبيله مع الله سبيلهم معه، وقال متى التلميذ في إنجيله يستشهد على المسيح بنبوة أشعيا، عن الله عز وجل: هذا عبدي الذي اصطفيته وحبيبي الذي ارتاحت إليه نفسي، أنا واضع روحي عليه، ويدعو الأمم إلى الحق.
فلن يحتاج إلى حجة أوضح من هذا القول الذي جعلتموه حجة لكم، فقد أوضح الله أمره وسمَّاه عبدًا، وأعلم أنه يضع عليه روحه، ويؤيده بها كما أيد سائر الأنبياء بالروح، فأظهروا الآيات المذكورة عنهم، وهذا القول يوافق ما بَشر به جبريل الملك مريم حين ظهر لها وقال القول الذي سقناه في صدر كتابنا، وقال يوحنا التلميذ في الإنجيل عن المسيح عليه السلام: إن كلامي الذي تسمعون هو كلام من أرسلني.
وقال في موضع آخر: إن أبي أَجَلُّ وأعظمُ مني.
وقال أيضا: كما أمرني أبي كذلك أفعل أنا، أنا الكرم وأبي هو الفلاح.
وقال يوحنا: كما للأب حياة في جوهره، فكذلك أَعطَى الابن أن تكون له حياة في قينومه، قال: فالمُعطِي خلاف المُعطَى لا محالة، والفاعل خلاف المفعول).
قال: (وقال المسيح في إنجيل يوحنا: إني لو كنت أنا الشاهد لنفسي على صحة دعواي لكانت شهادتي باطلة، لكن غيري يشهد لي، فأنا أشهد لنفسي، ويشهد لي أبي الذي أرسلني.
وقال المسيح لبني إسرائيل: تريدون قتلي وأنا رجل قلت لكم الحق الذي سمعت الله يقوله).(1/401)
قال: (وقال في الرجل الذي أقامه من الموتى: يا أبي أشكرك على استجابتك دعائي، وأعترف لك بذلك، وأعلم أنك كل وقت تجيب دعوتي، لكن أسألك من أجل هذه الجماعة؛ ليؤمنوا بأنك أنت أرسلتني.. فأي تضرع وإقرار بالرسالة والمسألة والطلب للإجابة من الله عز وجل أشد من هذا، أو أكثر..؟!
وقال في بعض مخاطبته لليهود وقد نسبوه إلى الجنون: أنا لست بمجنون ولكن أكرم أبي، ولا أحب مدح نفسي بل مدح أبي، لأني أعرفه، ولو قلت: إني لا أعرفه لكنت كذابا مثلكم، بل أعرفه وأتمسك بأمره).
قال: (وقال داود في مزموره المائة وعشرة: قال الرب: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لرجليك، عصا العظمة تبعث الرب من صهيون ويبسط على أعدائك شعبك، يا مسيح يوم الرعب في بهاء القدس، من اليوم الذي ولدتك يا صبي عهد الرب، ولا يكذب أنك أنت الكاهن المؤيد يشبه ملكيز داق.
فهذه مخاطبة ينسبونها إلى اللاهوت، وقد أبان داود في مخاطبته أن لربه الذي ذكره ربًّا هو أعظم منه وأعلى، أعطاه ما حكيناه ومنحه ذلك وشهد عليه، إن عصا العظمة تبعث ربه هذا من صهيون وسماه صبيًّا، محققا لقوله الأول: اليوم ولدتك، ونسقًا على أول كلامه وهو ربه، ووصف أنه الكاهن المؤيد الذي يشبه ملكيز داق).
تعقيب لابن تيمية
(قلت: قالوا: وهذا الكاهن هو الذي ذكر في التوراة: أن الخليل أعطاه القربان، وإذا كان المسيح مشبها به مع تسميته كاهنًا كان ذلك من أعظم الأدلة على أنه مخلوق).
قال: (فأما قوله: من البدء ولدتك، فهو يشبه قول داود على نفسه: من البدء ذكرتك وهديت كل أعمالك، وبعضهم يقول لفظ النص: إن الرب يبعث عصاه من صهيون، وقال «شمعون الصفا» رئيس الحواريين في الفصل الثاني من قصصهم: يا رجال بني إسرائيل، اسمعوا مقالتي: إن يسوع الناصري رجل ظهير لكم من عند الله بالقوة والأيدي والعجائب التي أجراها على يديه، وأنكم أسلمتموه وقتلتموه، فأقام الله يسوع هذا من بين الأموات..(1/402)
فأيُّ شهادة أبين وأوضح من هذا القول وهو أوثق التلاميذ عندكم، يخبر -كما ترون- أن المسيح رجل، وأنه من عند الله، وأن الآيات التي ظهرت منه بأمر الله أجراها على يديه، وأن الذي بعثه من بين الموتى هو الله عز وجل..
وقال في هذا الموضع: اعلموا أن الله جعل يسوع الذي قتلتموه ربًّا ومسيحًا..
فهذا القول يزيل تأويل مَن لَعَلَّه يتأول في الفصل الأول أنه أراد بقوله الناسوت؛ لأنه يقول أن الله جعله ربًّا ومسيحًا، والمجعول مخلوق مفعول، قال أبو نصر: وإنما سُمِّي «ناصري» لأن أمه كانت من قرية يقال لها: ناصرة في الأردن وبها سميت النصرانية..
وقد سمَّى الله جل ثناؤه.. يوسف ربًّا، قال داود في مزمور مائة وخمسة: (وللعبودية بِيع يوسف وشدوا بالكبول رجليه، وبالحديد دخلت نفسه حتى صدقت كلمته قول الرب، جربه بعث الملك فخلاه وصيره مسلطًا على شعبه وربًّا على بنيه ومسلطًا على فتيانه..
وقال لوقا في آخر إنجيله: إن المسيح عرض له وللوقا تلميذه جبريل في الطريق وهما محزونان، فقال لهما وهما لا يعرفانه: ما بالكما محزونين؟ فقالا: كأنك أنت وحدك غريب ببيت المقدس؛ إذ كنت لا تعلم ما حدث فيها في هذه الأيام من أمر يسوع الناصري..؟! فإنه رجلٌّ نبيٌّ قويٌّ في قوله وفعله عند الله وعند الأمة.. أخذوه وقتلوه على قولهم فيه..
فهذا قوله وأقوال تلاميذه قد تركتموها، وعقدتم على بدع ابتدعها لكم أولوكم، تؤدي إلى الضلالة والشرك بالله جل ثناؤه، وقال داود في المزمور الثاني في زبوره مخاطبًا لله ومثنيًا على المسيح: من الرجل الذي ذكرته.. والإنسان الذي أمَّرتَه وجعلته دون الملائكة قليلًا.. وألبسته المجد والكرامات..(1/403)
وقال في المزمور الثاني: قال لي الرب: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك.. سلني فأعطيك.. فقوله: (ولدتك دليل على أنه حديثٌ غير قديم، وكل حادث فهو مخلوق، ثم أكد ذلك بقوله «اليوم» فَحَدَّ باليوم حدًّا لولادته أزال به الشك في أنه ما كان قبل اليوم، ودل بقوله: سلني فأعطيك على أنه محتاج إلى المسألة غير مستغنٍ عن العطية..
فهذا ما حضرنا من الآيات في تصحيح خلق المسيح وعبوديته، وبطلان ما يدعونه من ربوبيته، ومثله كثير في الإنجيل لا يُحصى، فإذا كانت الشهادات منه على نفسه، ومن الأنبياء عليه، ومن تلاميذه بمثل ما قد بيَّناه في هذا الكتاب، وإنما اقتصرنا على الاحتجاج عليكم من كتبكم، فما الحجة فيما تدعونه له؟! ومن أي جهة أخذتم ذلك؟! واخترتم الكلام الشنيع الذي يخرج عن المعقول وتنكره النفوس وتنفر منه القلوب.. الذي لا يصح بحجة ولا قياس ولا تأويل.. على القول الجميل الذي تشهد به العقول وتسكن إليه النفوس ويشاكل عظمة الله وجلاله..؟!
وإذا تأملتم كل ما بيناه تأمُّل إنصاف من أنفسكم وإشفاق عليها.. علمتم أنه قول لا يحتمل أن يتأول فيه للناسوت شيئًا دون اللاهوت..
فإن قلتم: إنه يثبت للمسيح البنوة بقوله: أبي وأبيكم.. ويا أبي.. وبعثني أبي.. قلنا: فإن كان الإنجيل أُنزل على هذه الألفاظ لم تبدل ولم تغير، فإن اللغة قد أجازت أن يسمى الولي ابنًا، وقد سماكم الله جميعًا بنيه وأنتم لستم في مثل حاله..!!
ومن ذلك: أن الله عز وجل قال لإسرائيل في التوراة: أنت ابني بكري..
وقال لداود في الزبور: أنت ابني وحبيبي..
وقال المسيح في الإنجيل للحواريين: أريد أن أذهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم..
فسمى الحواريين أبناء الله، وأقر بأن له إلهًا هو الله..
ومن كان له إله فليس بإله كما تقولون.. فإن زعمتم أن المسيح إنما استحق الإلهية بأن الله سماه ابنًا فنلتزم ذلك ونشهد بالإلهية لكل من سماه ابنًا وإلا فما الفرق..؟!(1/404)
فإن قلتم: إن إسرائيل وداود ونظراءهم إنما سُمُّوا أبناء الله على جهة الرحمة من الله لهم، والمسيح ابن الله على الحقيقة -تعالى الله عن ذلك- قلنا: يجوز لمعارض أن يعارضكم، فيقول لكم: ما تنكرون أن يكون إسرائيل وداود ابني الله على الحقيقة والمسيح ابن رحمة وما الفرق..؟!).
عودة لدحض بدعة تأليه المسيح
(فإن قلتم: إن الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء من قبل: أن المسيح جاء إلى مقعد فقال: قم قم، فقد غفرت لك، فقام الرجل ولم يدع الله في ذلك الوقت، قلنا لكم: هذا إلياس أمر السماء أن تمطر فأمطرت، ولم يدع الله في ذلك الوقت، وكذلك اليسع أمر نعمان الرومي أن ينغمس في الأردن من غير دعاء ولا تضرع، على أنا قد وجدناه في الإنجيل قد تضرع وسأل مسائل قد تقدم ذكرها، وقال في بعض الإنجيل: يا أبي أشكرك على استجابتك دعائي، وأعلم أنك في كل وقت تجيب دعوتي، لكن أسألك من أجل هذه الجماعة ليؤمنوا بأنك أنت أرسلتني.
فإن قلتم: إن الغفران من الله عز وجل، وأن المسيح قال لبعض بني إسرائيل: قم فقد غفرت لك والله هو الذي يغفر الذنوب، قلنا: فقد قال الله في السفر الخامس من التوراة لموسى: اخرج أنت وشعبك الذي أخرجت من مصر، وأنا أجعل معكم ملكًا يغفر ذنوبكم، فإن زعمتم أن المسيح إله لأنه غفر ذنوب المقعد، فالملك إذًا إله لأنه يغفر ذنوب بني إسرائيل، وإلا فما الفرق..؟!
فإن قلتم: إن الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء من قبل: أن الله سماه ربًّا فقال: ابن البشر رب السبت، قلنا: فهذه التوراة تخبر بأن لوطًا عليه السلام لما رأى الملكين قد أقبلا من البرية لهلاك قومه قال لهما: يا ربي ميلا إلى منزل عبدكما، وقد تقدم لنا احتجاج في هذا الكتاب بذكر من سمى في الكتب ربًّا من يوسف وغيره فإن كان المسيح إلهًّا لأنه سُمِّي ربًّا.. فهؤلاء إذا آلهة لأنهم سموا بمثل ذلك..!(1/405)
فإن قلتم: إن الأنبياء قد تنبأت بإلهية المسيح فقال أشعيا: العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعى اسمه عمانويل وتفسيره: معنا إلهنا(1) قلنا: إن هذا اسم يعاره السيد الشريف من الناس، وإن كان الله عز وجل المنفرد بمعنى الإلهية جل ثناؤه فقد قال الله في التوراة لموسى عليه السلام: قد جعلتك لهارون إلهًا وجعلته لك نبيًّا، وقال في موضع آخر: قد جعلتك يا موسى إلهًا لفرعون، وقال داود في الزبور لمن كانت عنده حكمة: كلكم آلهة.. ومن العلية تدعون.
فإن قلتم: إن الله عز وجل جعل موسى إلهًا لهارون على معنى الرياسة عليه، قلنا: وكذلك قال أشعيا في المسيح: أنه إله لأمته على هذا المعنى؟.. وإلا فما الفرق؟!
فإن قلتم: إن المسيح قد قال في الإنجيل: من رآني فقد رأى أبي وأنا وأبي واحد، قلنا: إن قوله: أنا وأبي واحد إنما يريد به أن قبولكم لأمري هو قبولكم لأمر الله، كما يقول رسول الرجل: أنا ومن أرسلني واحد، ويقول الوكيل: أنا ومن وكلني واحد؛ لأنه يقوم فيما يؤديه مقامه، ويؤدِّي عنه ما أرسله به، ويتكلم بحجته ويطالب له بحقوقه، وكذلك قوله: من رآني فقد رأى أبي، يريد بذلك: أن من رأى هذه الأفعال التي أظهرها فقد رأى أفعال أبي..
فإن قلتم: إن المسيح قد قال في الإنجيل: أنا قبل إبراهيم.. فكيف يكون قبل إبراهيم، وإنما هو من ولده، ولكن لما قال: قبل إبراهيم علمنا ما أراد أنه قبل إبراهيم من جهة الإلهية..
قلنا: هذا سليمان بن داود يقول في حكمته: أنا قبل الدنيا، وكنت مع الله حيث بدأ الأرض، فما الفرق بينه وبين من قال: إن سليمان ابن الله، وأنه إنما قال: أنا قبل الدنيا بالإلهية، وقد قال داود أيضًا في الزبور: ذكرتك يا رب من البدء وهُدِيتُ بكل أعمالك..
__________
(1) أثبت محققو النسخة الكاثوليكية الحديثة للكتاب المقدس أن هذه النبوءة تخص عصر أشعياء،(1/406)
فإن قلتم: إن كلام سليمان بن داود مُتأوَّل؛ لأنهما من ولد إسرائيل، وليس يجوز أن يكونا قبل الدنيا، قلنا: وكذلك قول المسيح: أنا قبل الدنيا، مُتَأوَّل؛ لأنه من ولد إبراهيم، ولا يجوز أن يكون قبل إبراهيم..
فإن تأولتم تأولنا، وإن تعلقتم بظاهر الخبر في المسيح تعلقنا بظاهر الخبر في سليمان وداود، وإلا فما الفرق..؟! وقد قدمنا هذا الاحتجاج على تأويلكم لتعلموا بطلان ما ذهبتم إليه على أنه تأويل غير واقع بحقه، وإنما حقه أن يكون هذا الاسم يعني «عمانويل» لما وقع على المسيح كان معناه: أنه أخبر عن نفسه بأن إلهنا معنا، يعني أن الله معه ومع شعبه معينًا وناصرًا، ومما يصحح ذلك أنكم تتسمون به، ولو كان المعنى ما ذهبتم إليه لما جاز لأحد أن يتسمى به، كما لم يجز أن يتسمى بالمسيح؛ لأنه مخصوص بمعناه.
فإن قلتم: إن تلاميذ المسيح كانوا يعلمون الآيات باسم المسيح، قلنا لكم: فقد قال الله جل ثناؤه ليحيى بن زكريا: قد أيدتك بروح القدس، وبقوة إلياس، وهي قوة تفعل الآيات، فأضاف القوة إلى إلياس، فإن زعمتم: أن المسيح إله لأنه فعلت الآيات باسمه فما الفرق بينكم وبين من قال: إن إلياس إله..؟ فإنه فُعِلَت بقوته الآيات.
فإن قلتم: إن الخشبة التي صُلب عليها المسيح على زعمكم ألصقت بميت فعاش، فإن هذا دليل على أنه إله قلنا لكم: فما الفرق بينكم وبين من قال: إن اليسع إله واحتج في ذلك بأن كتاب سفر الملوك يخبر بأن رجلا مات فحمله أهله إلى المقبرة فلما كانوا بين القبور رأوا عدوًّا لهم يريد أنفسهم، فطرحوا الميت عن رقابهم وبادروا إلى المدينة، وكان الموضع الذي ألقوا عليه الميت قبر اليسع، فلما أصاب ذلك الميت تراب قبر اليسع عاش، وأقبل يمشي إلى المدينة.
فإن زعمتم: أن المسيح إله لأن الخشبة التي ذكروا أنه صُلب عليها ألصقت بميت فعاش، فاليسع إله لأن تراب قبره لصق بميت فعاش..!(1/407)
فإن قلتم: إن المسيح كان من غير فحل، قلنا لكم: قد كان ذلك وليس أعجوبة الولادة توجب الإلهية ولا الربوبية؛ لأن القدرة في ذلك للخالق تبارك وتعالى لا للمخلوق، وعلى أنه يوجدكم؛ لأن حواء خُلقت من فحل بلا أنثى، وخلق أنثى من ذكر بلا أنثى.. أعجب من ذكر من أنثى بغير ذكر، وأعجب من ذلك أن آدم خلقه الله من تراب، وخَلْقُ بشر من تراب أعجب وأبدع من خلق ذكر من أنثى بلا فحل، فما الفرق..؟!
وهذه الأسباب التي ذكرناها كلها هي الأسباب التي تتعلقون بها في انتحالكم الربوبية للمسيح، وإضافتكم الإلهية إليه، وقد وصفناها على حقائقها عندكم، وقبلنا فيها قولكم، وإن كنا لا نشك في أن أهل الكتاب قد حرفوا بعض ما فيها من الكلام عن مواضعه، وأوجدناكم بطول ما تنتحلونه وفساد ما تتأولونه من الكتب التي في أيديكم: التوراة والزبور والأنبياء والإنجيل..
فما الذي يثبت الحجة بعد ذلك لكم..؟!
وقد قال السيد المسيح في الإنجيل لتلاميذه لما سألوه عن الساعة والقيامة: إن ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعرفه أحد.. ولا الملائكة الذين في السماء.. ولا الابن أيضًا..! ولكن الآب وحده يعرفه، فهذا إقرار منه بأنه منقوص العلم، وأن الله تبارك وتعالى أعز وأعلم منه، وأنه خلافه وأعلى منه، وقد بَيَّن بقوله: «أحد» عمومه بذلك الخلق جميعًا ثم قال: ولا الملائكة.. وعندهم من علم الله ما ليس عند أهل الأرض، ثم قال: ولا الابن.. وله من القوة ما ليس لغيره.. وقوله: هذا شهادة واضحة عليه بأنه لا يعلم كل ما يعلمه الله، بل ما علَّمه الله إياه وأطلعه على معرفته وجعله له، وأنه لقصور معرفته بكل الأشياء ليس بحيث يصفونه من الربوبية وأنه هو الله ومن جوهر أبيه تعالى الله الخالق لكل شيء علوًّا كبيرًا..(1/408)
ولو كان إلها -كما يقولون- لعلم ما يعلمه الله من سائر الأشياء وسرائر الأمور وعلانيتها، إذا كان هذا المعنى ليس من الكلام الذي إذا سئلتم عنه تعلقتم بأنه قيل للناسوت دون اللاهوت.. )
قلت -أي ابن تيمية-: (مقصوده بذلك أنه صرح بأنه لا يعلمه أحد، ثم خص الملائكة بالذكر لئلا يظن أن أحدًا منهم يعلمه، فقال: ولا الملائكة الذين في السماء).
ثم قال: (ولا الابن يعرفه، وأن الأب وحده يعرفه، فنفى معرفة الابن وأثبت أن الأب وحده يعرفه، ومراده بالابن المسيح، فعرف أن المسيح لا يعرفه، وأثبت أن الرب يعرفه دون الابن، ودل ذلك على أن لفظ الابن عند المسيح إنما يراد بها الناسوت وحده، إذ كان لا يجوز نفي العلم عن اللاهوت، فإن اللاهوت يعلم كل شيء، وقد دل ذلك على أن قوله: عمدوا الناس باسم الآب والابن.. المراد به الناسوت وحده كما أريد بلفظ الابن في سائر كلامه وكلام غيره لم يرد قط أحد منهم بلفظ الابن اللاهوت، بل إطلاق الابن على اللاهوت مما ابتدعته النصارى، وحملوا عليها كلام المسيح، فابتدعوا لصفات الله أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وحملوا عليها كلام المسيح، وإنما يحمل كلام الأنبياء عليهم السلام وغيرهم على معنى لغتهم التي جرت عادتهم بالتكليم بها، لا على لغة يحدثها من بعدهم ويحمل كلامهم عليها.. ).
تعقيب ختامي لابن تيمية
(فإن هذا الذي فعلته النصارى وأشباههم يفتح باب الإلحاد في كتب الله المنزَّلة، وقد قال تعالى: {إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير} [فصلت: 40].(1/409)
وذلك أن كل من اعتقد معانٍ برأيه يمكنه أن يعبر عنها بألفاظ تناسبها بنوع مناسبة، وتلك الألفاظ موجودة في كلام الأنبياء عليهم السلام لها معانٍ أُخر، ويجعل تلك الألفاظ دالة على معانيه التي رآها، ثم يجعل الألفاظ التي تكلمت بها الأنبياء وجاءت بها الكتب الإلهية أرادوا بها معانيه هو، وهكذا فعل سائر أهل الإلحاد في سائر الكتب الإلهية كما فعلته النصارى، مثل ما عمدت الملاحدة المتبعون لفلاسفة اليونان القائلون بأن هذه الأفلاك قديمة أزلية لم تزل ولا تزال وأن الله لم يتكلم بالتوراة ولا غيرها من الكتب الإلهية، ولا هو عالم بالجزئيات، لا بموسى بن عمران ولا بغيره، ولا هو قادر أن يفعل بمشيئة، ولا يقيم الناس من قبورهم، فقالوا: خلق وأحدث وفعل وصنع ونحو ذلك.. يقال على الإحداث الذاتي.. والإحداث الزماني..
فالأول: هو إيجاب العِلَّة لمعلولها المقارن لها في الزمان..
والثاني: إيجاد الشيء بعد أن لم يكن، ثم قالوا: ونحن نقول: إن الله خلق السموات والأرض وما بينهما وأحدث ذلك وأبدعه وصنعه كما أخبرت بذلك الأنبياء عليهم السلام، لكن مرادهم بذلك الإحداث الذاتي وهو أن ذلك معلول له لم يزل معه..
فيقال لهم: لم يستعمل أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل ولا أحد من سائر الأمم لفظ الخلق والإحداث إلا فيما كان بعد عدمه، وهو ما كان مسبوقًا بعدمه ووجود غيره، ومعنى هذا اللفظ معلوم بالاضطرار في جميع لغات الأمم، وأيضًا: فاللفظ المستعمل في لغة العامة والخاصة لا يجوز أن يكون معناه ما لا يعرفه إلا بعض الناس، وهذا المعنى الذي يدَّعونه لو كان حقًّا لم يتصوره إلا بعض الناس، فلا يجوز أن يكون اللفظ العام الذي تداوله العامة والخاصة موضوعًا له إذا كان هذا يبطل مقصود اللغات ويبطل تعريف الأنبياء للناس، فكيف وهو باطل في صريح المعقول كما هو باطل في صحيح المنقول..؟!(1/410)
فإنه لم يعرف أن أحدًا قط.. عبَّر عن القديم الأزلي الذي لم يزل موجودًا ولا يزال بأنه محدث أو مخلوق أو مصنوع أو مفعول.. فهذا الذي ذكرتموه كذبٌ صريح على الأنبياء عليهم السلام، لتوهموا الناس أنكم موافقون لهم، والكتب الإلهية كالتوراة والقرآن مصرِّحة بأن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، والقديم الأزلي لا يكون مخلوقًا في ستة أيام، وكذلك الكتب الإلهية كالتوراة والقرآن قد أخبرت بتكليم الله لموسى، وبندائه إياه من الطور من الشجرة، وفي التوراة أنها شجرة العليق، وأخبَرَت بأن موسى عليه السلام كان يلقي عصاه فتصير حية تسعى، ويخبر بأن الله فلق البحر..
فقالت الملاحدة: إن الشيء الثابت يُسمَّى طُورا، فإنه ثابت كالجبل، والقلوب تسمى أودية، وإظهار العلوم بتفجير ينابيع العلم، والحجة المُبتلِعَة كلام أهل الباطل، هي عصا معنوية، فمراد الكتب بالطُّور.. العقل الفعال الذي فاض منه العلم على قلب موسى عليه السلام.. والوادي.. قلب موسى، والكلام الذي سمعه موسى سمعه من سماء عقله، وتلك الأصوات كانت في نفسه لا في الخارج، والملائكة التي رآها كانت أشخاصًا نورانية تمثلت في نفسه لا في الخارج، والبحر الذي فلقه هو بحر العلم، والعصا كانت حجته غلب على السحرة بحجته العلمية، فابتلعت حجته شبههم التي جعلوها حبالًا يتوسلون بها إلى نيل أغراضهم، وعِصِيًّا يقهرون بها من يجادلونه..
أفليس من قال مثل هذا الكلام يعلم بالاضطرار أنه يكذب على الكتب الإلهية التي أخبرت بقصة موسى كالتوراة والقرآن، وأنه ليس مراد الرسل بما أخبروا به من قصة موسى هذا، بل صرحوا بأن موسى سمع نداء الله له، وأنه كلمه من الطور.. طور سينا الذي هو الجبل، وقلب عصاه التي كان يهش بها على غنمه ثعبانًا عظيمًا، وفلق له البحر، وأغرق فيه آل فرعون، فغرقوا وماتوا فيه وهلكوا.. وأمثال هذا من تحريفات الملاحدة كثير..!!(1/411)
فهكذا النصارى حرفوا كتب الله، وسموا صفة الله القديمة الأزلية التي هي علمه أو حكمته ابنًا، وسموها أيضًا كلمة، وسمُّوا صفته القديمة الأزلية التي هي حياته روح القدس، وتسمية هذه الصفات بهذه الأسماء لا توجد في شيء من كلام الأنبياء ولا غيرهم، ولا يعرف أن أحدًا قط لا من الأنبياء ولا غيرهم سَمَّى علم الله القائم به ابنه، بل ولا سَمَّى علم أحد من العالمين القائم به ابنه، ولكن لفظ الابن يعبر به عمن ولد الولادة المعروفة، ويُعبَّر به عمن كان هو سببا في وجوده، كما يقال: ابن السبيل لمن ولدته الطريق؛ فإنه لما جاء من جهة الطريق جعل كأنه ولده، ويقال لبعض الطير: ابن الماء؛ لأنه يجيء من جهة الماء، ويقال كونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن الابن ينتسب إلى أبيه ويحبه ويضاف إليه؛ أي: كونوا ممن ينتسب إلى الآخرة ويحبها ويضاف إليها، وهذا اللفظ موجود في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب في حق الصالحين الذين يحبهم الله ويربيهم، كما ذكروا أن المسيح قال: أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم..
وفي التوراة: أن الله قال ليعقوب: أنت ابني بكري..
ونحو ذلك مما يُراد به إذا كان صحيحًا له معنى صحيح، وهو المحبة له والاصطفاء له والرحمة له، وكان المعنى مفهومًا عند الأنبياء عليهم السلام ومن يخاطبونه، وهو من الألفاظ المتشابهة فصار كثير من أتباعهم يريدون به المعنى الباطل، وزعم كثيرٌ من الكفار أن لله سبحانه وتعالى بنين وبنات، وأن الملائكة بناته، وبعض من يقول بقدم العالم من المتفلسفة يقولون: العقول العشرة هي بنوه والنفوس الفلكية هي بناته، وهي متولدة عنه لازمة لذاته، فجاء القرآن الذي هو أفضل الكتب وأكملها بإبطال هذه المعاني، ومنع استعمال هذا اللفظ في حق الله تعالى، فنزه الله عن أن يتخذ ولدًا كما نزهه عن أن يكون له ولد..(1/412)
والأول من باب تنزيهه عن الأفعال المذمومة، وهذا على قول جماهير المسلمين وغيرهم الذين ينزهون الله ويقدسونه عن الأفعال القبيحة التي لا تليق به، بل تنافي ما وجب له من الكمال في أفعاله، كما وجب له الكمال في ذاته وصفاته، وأما من كان من المسلمين وغيرهم لا ينزه الله عن فعل من الأفعال إلا ما كان ممتنعًا لذاته، فأما الممكن المقدور فيقول: لا يعلم انتفاؤه إلا بالخبر أو بالعادة المطردة التي يمكن انتقاضها، فهذا لا يبقى معه ما ينفي به عن الله الأفعال المذمومة القبيحة، والكتب الإلهية قد نزهت الرب عز وجل عن الأفعال المذمومة كما نزهته عن صفات النقص..).
وبهذا التعقيب المحكم للإمام ابن تيمية.. تختتم هذه الوثيقة الهامة.. التي اكتسبت قيمتها من واقعيتها، وكونها تنقل خبرة عملية وعلمية نادرة.
وكتطبيق مباشر على أحد الدروس المستفادة من هذه الوثيقة، نقوم بعرض موجز لطوائف الموحدين من النصارى قديمًا وحديثًا، باعتبارهم العنصر الأصيل للنصرانية قبل التحريف، وباعتبار أن وجود هذه الطائفة يجعل قضية عيسى وادعاء ألوهيته تدخل في حيز التفكير والتدبر، ومن هنا يكون من المهم تتبع تاريخ هذه الطائفة.
الفصل الرابع
حماية الدين من التحريف
إن من أهم حقائق التصور الإسلامي.. الإحكام المنهجي للدين، والخلل في هذا الإحكام أو فقدانه هو أخطر أسباب ضياع الدين..
والإحكام الفكري في الإسلام: إحكام في الاعتقاد والفكر، وإحكام في الواقع والتطبيق.
وهو ما يقابل عند النصارى: الابتداع، والتناقض، والتحريف، وفقدان التوازن، والتشتت، والعجز عن الاستيعاب الذهني..
والإحكام مُشتقٌّ من الحكمة..
وتعريف الحكمة هو الذي يفسر قيمة الإحكام، حيث يعرِّف الإمام ابن القيم الدرجة الأولى من الحكمة فيقول: (أن تعطي كل شيء حقه، ولا تعديه حدَّه، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخره عنه).
ثم يقول: (وهذا الحكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعًا وقدرًا..(1/413)
فإضاعتها تعطيل للحكمة، بمنزلة إضاعة البذر وسقي الأرض..
وتعدي الحد كسقيها فوق حاجتها بحيث يغرق البذر والزرع ويفسد..
وتعجيلها عن وقتها كحصاده قبل أوانه وكماله(1).
ومن هنا يأتي إحكام الفكر في الإسلام لتنظيم العلاقات بين حقائق الفكر، إذ إن لكل حقيقة في الإسلام حدًّا لا ينبغي تجاوزه..!
والمساواة بين الحقائق في كونها «فكرة» من أهم أسباب الاضطراب العقدي والفكري، ومن هنا جاءت تعبيرات النبي صلى الله عليه وسلم بما يفيد العلاقات المنظمة بين الحقائق.
فمثلًا نجد التعبير بأم الكتاب في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب))(2).
والتعبير بسيد الاستغفار الذي جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبرك بسيد الاستغفار؟))(3).
والتعبير برأس الأمر الذي جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه..؟)) قلت: بلى يا رسول الله! قال: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد))(4).
فتعبيرات (أم) و(سيد) و(رأس) تفيد طبيعة العلاقة.
__________
(1) مدارج السالكين (2/469).
(2) متفق عليه: البخاري في الأذان (237/2) و مسلم في الصلاة (394) من حديث عبادة بن الصامت.
(3) البخاري في الدعوات (97/11) من حديث شداد بن أوس.
(4) صحيح: الترمذي في الإيمان (362/7) وقال: حسن صحيح، والحاكم في التفسير (412/2) وصححه على شرطهما ووافقه الذهبي، والمسند (531/5).(1/414)
وكذلك نجد في تعبير النبي صلى الله عليه وسلم حرصًا على ألا يطغى مفهوم على مفهوم تحقيقًا للإحكام بين المفاهيم، مثال قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله(1) ثم قرأ: {فذكر إنما أنت مذكر* لست عليهم بمصيطر} [الغاشية: 21-22] وذلك حتى لا تطغى مهمة القتال على مهمة التذكير في فهم الناس.
وكذلك عندما بَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الوضوء وصلاة ركعتين وراءه يغفر ما تقدم من الذنوب، ثم حذر من الاغترار.. فإنه يحقق الإحكام بين الرجاء والغرور، فقد دعا عثمان رضي الله عنه بوضوء فتوضأ ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ في مقعدي هذا ثم قال: ((من توضأ مثل وضوئي هذا، ثم قام فركع ركعتين غفر له ما تقدم من ذنبه))(2) وقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تغتروا)).
وكذلك عندما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مؤمن يموت له ثلاث أولاد إلا كانوا له حجابًا من النار))(3) فإنه صلى الله عليه وسلم يستثني استثناء هامًّا فيقول: ((إلاَّ تَحِلَّة القَسَم)) وهو قول الله: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا} [مريم: 71].
وبذلك تتقرر حقيقة الحجاب من النار بموت الثلاثة أولاد، مع حقيقة الورود عليها تحلةً للقسم دون تناقض.
وأساس الإحكام الفكري في الإسلام هو أن تكون كل الحقائق متجهة نحو غاية نهائية واحدة.. ولتحقيق ذلك يجب قياس كل حقيقة إلي غايتها.. فمثلًا:
__________
(1) متفق عليه: البخاري في الإيمان (75/1)، ومسلم في الإيمان أيضًا رقم (22) عن ابن عمر.
(2) متفق عليه: البخاري في الوضوء (259/1)، ومسلم في الطهارة (226) عن عثمان بن عفان.
(3) متفق عليه: البخاري في الجنائز(18/3)، ومسلم في البر رقم (3632) عن أبي هريرة، وتفسير تحلة القسم من كلام البخاري وليس بمرفوع.(1/415)
حقيقة الإيمان تقاس بقول (لا إله إلا الله) بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق.. والحياء شعبة من الإيمان))(1).
وحقيقة العمل تقاس بالصلاة بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سئل: أي العمل أفضل؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) قيل: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين)) قيل: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) هو قوله صلى الله عليه وسلم: ((أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله))(2).
وحقيقة المقام والمكانة تقاس إلى مقام النبوة بدليل قول الله عز وجل: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} [النساء: 69] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا))(3) وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى، وقوله: ((التاجر الأمين الصدوق مع النبيين والصدقين والشهداء والصالحين))(4).. وهكذا..
وقيمة الإحكام الفكري في الإسلام ترجع أساسًا إلى أنه المقدمة الطبيعية للإحكام التطبيقي، الذي يضمن قيام الواقع الإسلامي بصبغته الخالصة كما أرادها الله سبحانه.
وعلى ضوء حقيقة الإحكام المنهجي في الإسلام لا ندري:
كيف يعجز النصارى عن تحديد تصور كامل ومقنع عن الله والاتفاق عليه..؟!
__________
(1) مسلم رقم (35) في الإيمان من حديث أبي هريرة وعند البخاري نحوه في الإيمان أيضًا.
(2) أخرجه الترمذي رقم (413) من حديث أبي هريرة و حسنه والنسائي (232/1)، وأحمد (377/5) ونحوه (290/2)، والحاكم (263/1) وصححه ووافقه الذهبي- وهو كما قالا.
(3) البخاري (236/10) عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
(4) الترمذي رقم (1209)، والحاكم (6/2) من طريق الحسن عن أبي سعيد.(1/416)
وكيف يتبدل الدين بمعدل زمني رهيب وفقًا للأهواء المتجددة، فتتفاقم الخلافات وتتزايد الطوائف، وتنشأ مشكلة جديدة مع كل محاولة لعلاج مشكلة قديمة..!
ومن الإحكام المنهجي في الإسلام تكون هذه الحقائق:
حماية الوحي من لبس الشيطان..
وحماية الدين من الزيادة والنقصان..
وحماية النصوص من اللبس والتحريف..
وحماية مقام النبوة من الغلو والإطراء..
وحماية صفة أهل الحق بالمفاصلة مع أهل الباطل..
حماية الوحي من لبس الشيطان
لقد كانت هناك أسباب تاريخية متكررة لضياع الدين..
من أبرز هذه الأسباب.. التدخل الشيطاني الذي يهدف لتكريس الغواية عبر تضييع مصدر الهدى وهو الدين..
فعندما تغيب النبوة.. تتحرك الشياطين..!
هكذا كان الأمر عندما ذهب موسى للقاء ربه.. فظهر السامري..
وهكذا كان الأمر عندما رُفع عيسى.. فظهر بولس..
وهكذا كان الأمر عندما تُوِفِّيَ الرسول صلى الله عليه وسلم.. فظهر مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وسجاح والمختار الثقفي..
ظاهرة شيطانية واحدة.. لها دافع واحد: الالتفاف حول الوحي.. والانقضاض على الدين واختطافه.. لتزويره وتضييع مضمونه وفاعليته..
ولكن هذه المحاولات الشيطانية عولجت بأساليب متعددة..
منها عودة النبوة إلى الواقع.. وتمثل ذلك في رجوع موسى وتحريقه لعجل السامري ونسفه..
وعندما ظهر بولس بعد رفع عيسى لم يتم معالجة هذه المحاولة كما تم ذلك في حالة موسى والسامري..
إذ تمكن بولس من زرع بذرة الوثنية التي أثمرت وفرخت في عصر قسطنطين..
ولما كان الجهاد هو أساس حجية واقع الأمة الإسلامية كان أداة الحماية من التحريف التي حسمت هذه الظاهرة الشيطانية في تاريخ الأمة الإسلامية عبر حروب المرتدين..
ومن المثير أن يكون معظم الجيش الذي قاتل المرتدين ومدعي النبوة من القُراء الذين هم حفظة الوحي..
مما يدل على أن المهمة كانت مهمة حماية.. وليست مجرد مهمة قتالية..(1/417)
لدرجة أن فكرة جمع القرآن -المنقول إلينا شفاهة بالأصالة- في مصحف واحد نشأت كنتيجة لكثرة من قُتل من القُراء..
لتبقى مهمة الحماية..
ومن حماية الدين من لبس الشيطان.. تأتي قاعدة أهل السنة والجماعة في التعامل مع الخوارق والأحلام، والتي يقررها الإمام ابن تيمية فيقول: (كل من خالف شيئًا مما جاء به الرسول مقلدًا في ذلك لمن يظن أنه ولي الله، وأن وليَّ الله لا يخالِف –الله ورسوله- في شيء، ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله كأكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان- لم يُقبل منه ما خالف الكتاب والسنة؛ فكيف إذا لم يكن كذلك..؟!
وتجد كثيرًا من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه وليًّا لله أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور، أو بعض التصرفات الخارقة للعادة مثل أن يشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، أو يمشي على الماء أحيانًا، أو يملأ إبريقًا من الهواء، أو ينفق بعض الأوقات من الغيب أو أن يختفي أحيانا عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سرق لهم، أو بحال غائب لهم أو مريض أو نحو ذلك من الأمور.. وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي لله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يُغتر به حتى يُنظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه.(1/418)
وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة وإن كان قد يكون صاحبها وليًّا لله فقد يكون عدوًّا لله، فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين وتكون لأهل البدع وتكون من الشياطين، فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي لله، بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن، وبحقائق الإيمان الباطنة وشرائع الإسلام الظاهرة).
وبهذه القاعدة السلفية حسمت مادة الأحلام والأوهام والخوارق كمدخل لتحريف دين الله..
ومن حماية الدين من لبس الشيطان.. الإيمان بانقطاع الوحي بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم..
فقد روى الإمام البخاري في أول كتاب «الشهادات» من طريق عبد الله بن عتبة قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ((إن ناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم))..
وورود هذا الأمر على لسان أمير المؤمنين عمر، الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كان بعدي نبيٌّ لكان عمر بن الخطاب))، والذي قال فيه أيضًا: ((لقد كان فيما قبلكم من الأمم مُحدَّثون.. فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر))..
فيه أقوى دلالة على انقطاع الوحي وحمايته من التحريف.
حماية الدين من الزيادة «الابتداع»
وعلى أساس الارتباط بين الحكمة والإحكام كان التقابل بين الحكمة والبدعة؛ ذلك أن البدعة هي في تطبيقها فكرة دخيلة علي إطار الفكر الإسلامي المُحكم، وقد أورد الإمام ابن تيمية في التقابل بين الحكمة والبدعة قول الإمام أبو عثمان النيسابوري: (من جلس إلي صاحب بدعة حُرِمَ الحكمة)، كما قال: (من أمَّر السنة علي نفسه قولًا وعملًا نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوى على نفسه قولًا وعملًا نطق البدعة).(1/419)
وحماية الدين من البدعة تكون بالحساسية المرهفة في التعامل مع قضايا الدين، وهؤلاء هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكون رجلًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يقرأ في كل صلاة بسورة {قل هو الله أحد} رغم أن الفعل جائز شرعًا إلا أنهم رأوا في هذا العمل مظهرًا جديدًا في التطبيق.
وقد ورد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يتضمن حقيقة حماية هذا الدين بقدر الله..
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته)).
ذلك أن منع التوبة عن المبتدع معناه: منع إقرار هذا المبتدع على بدعته.
وفي المقابل نرى تاريخ النصرانية مليئًا بالبدع والمبتدعين الذين يسمونهم هراطقة.. لدرجة أنك لا تكاد تميز بين المبتدع وغيره.. لكثرة هذا الأمر فيهم..!
وفي الوقت الذي يفزع الصحابة من مجرد مواظبة رجل لقراء سورة الإخلاص في الصلاة.. نجد النصارى ينشئون دينًا كاملًا بكل طقوسه وتقاليده بدون أي سند من الكتاب، حتى صار أغلبهم يُدعى: التقليديون (الكاثوليك والأرثوذكس) وهم الذين يتبعون ما يسمَّى بالتقليد الكنسي.
يقول عنهم مؤلف اللاهوت النظامي: (التقليديون هم الذين يؤمنون بسلطان الكتاب المقدس بالإضافة إلى تقاليد الآباء. والتقليد «عندهم» هو ما تسلَّموه وتداولوه خلَفًا عن سلف، من العقائد والشعائر الدينية، مشافهةً، مما لم يُكتب في الأسفار المنزلة).
ونحن بالطبع نتحفظ على لفظ «الأسفار المنزلة» الذي لم تعرفه النصرانية في تاريخها.. ولم يقل به كاتبو تلك الأسفار أنفسهم..!
ومن أبرز الأمثلة على البدع النصرانية زيادة الصوم من شهر إلى 55 يومًا..!
ناهيك عن تحريف كيفية الصوم من امتناعٍ كاملٍ عن الطعام والشراب والشهوة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.. إلى مجرد الامتناع عن الشهوة وأكل ذوات الأرواح..!(1/420)
جاء في كتاب «أصوامنا بين الماضى والحاضر»: (جاء فى كتاب قطمارس.. الصوم الكبير حسب طقس الكنيسة القبطية ما يلي: (والأصوام الزائدة المستقرة فى البيعة القبطية منها ما يجرى مجرى الصوم الكبير فى التأكيد.. وهي جمعة هرقل التي صارت مقدمة للصوم الكبير.. وذلك أنه لما رجع هرقل ملك الروم على بيت المقدس فوجده خرابًا وقد هدم اليهود الكنائس والقبر المقدس وغيرها وأحرقوا النصارى بالنار، فطلب منه أهل القدس قتل اليهود.. فاعتذر لأنه أعطاهم الأمان واليمين؛ أي: أقسم لهم، فقالوا له: أمَّا الأمان فقد علمه كل أحد منهم.. احتالوا عليك فيه، وأما اليمين فنحن وجميع النصارى بكل الأقاليم نصوم عنك أسبوعًا فى كل سنة على ممر الأيام وإلى انقضاء الدهر..!! وكتب البطاركة والأساقفة إلى جميع البلاد بصوم هذا الأسبوع الأول من الصوم الكبير.. ) وهذه القصة مذكورة أيضًا بالتفصيل كما يؤكد لنا المرجع السابق فى كتاب «نظم الجوهر» لابن بطريق(1).
وهكذا يسري الابتداع في الدين من جيل إلى جيل.. بكل سهولة..!
حماية الدين من النقص
الكمال هو أول صفات الدين الصحيح، ولذلك كانت هذه الصفة هي أول الصفات التي رضي الله بها لنا هذا الدين: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} [المائدة: 3].
__________
(1) تأليف القس كيرلس كيرلس راعي كنيسة مارجرجس بخمارويه، طبعة أولى (1982) ص136.(1/421)
ومما يوضح معنى حماية الدين من النقص أن رجلا جاء لرسول الله مبايعًا، وقد وصف حاله قائلًا: (أتيت رسول الله لأبايعه، فاشترط عليَّ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن أقيم الصلاة، وأن أؤدي الزكاة، وأن أحج حجة الإسلام -أي الأولى- وأن أصوم رمضان، وأن أجاهد في سبيل الله، فقلت يا رسول الله: أما اثنتان فوالله ما أطيقهما: الجهاد والصدقة، فإنهم زعموا أن من ولى الدبر -هرب من المعركة- فقد باء بغضب من الله، فأخاف إن حضرت تلك جشعت نفسي وكرهت الموت. والصدقة، فوالله مالي إلا غُنيمة وعشر ذود -أي: غنم قليلة وعشر من الإبل- هن رسل أهلي وحمولتهم، فقبض رسول الله يده، ثم حرك يده، ثم قال: ((لا جهاد ولا صدقة!! فبمَ تدخل الجنة؟!)) قال: قلت: يا رسول الله أنا أبايعك، قال: فبايعت عليهن كلهن)(1).
فلم يقبل رسول الله صلي الله عليه وسلم البيعة من الرجل إلا على الإسلام كاملًا..
ولذلك أيضًا كانت كلمة أبي بكر الصديق عندما امتنع المرتدون عن دفع الزكاة: (والله لا ينقص الدين وأنا حي)..!
حماية النصوص من التبديل
يؤمن جميع المسلمين بحفظ القرآن، وقول الله عز وجل: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9].
وكذلك يؤمنون بحفظ السنة في جميع مراحلها..
__________
(1) المسند (22002).(1/422)
سواء كانت في مرحلة نقل القول من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصحابي، مثلما كان في حديث دعاء النوم: عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((ألا أعلمك كلمات تقولها إذا أويت إلى فراشك..؟ فإن مت من ليلتك مت على الفطرة، وإن أصبحت أصبحت وقد أصبت خيرا..؟! تقول: اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، رغبة ورهبة إليك، وألجأت ظهري إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت)) قال البراء: فقلت وبرسولك الذي أرسلت.. قال: فطعن بيده في صدري ثم قال: ((وبنبيك الذي أرسلت))(1)..
أو مرحلة نقل الصحابي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غيره من المسلمين بأمانة تامة، حتى ولو كان الشك في حرف واحد صحيح، مثلما كان في حديث الخروج من النار إلى الجنة: عن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تبارك وتعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيَخرُجون منها قد اسودُّوا، فيُلقَون في نهر الحياء أو الحياة -شك مالك - فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية)).
شك الراوي هل هي همزة أو تاء فقال: الحياء أو الحياة..!
وقياسًا على هذا المستوى في حفظ النصوص الشرعية يمكن إدراك حجم مشكلة النصارى في تحريف النصوص، حيث يكون الحكم ببطلان سبعة عشر سفرًا من العهد القديم واعتبارها ليست عند بعض الطوائف من الكتاب المقدس أمرًا عاديًّا..!
حماية فهم النصوص من اللبس
وفهم النصوص في الدين الصحيح يكون بالبساطة التي تتناسب مع عقل الإنسان، وهو ما كان معروفًا في الإسلام بمصطلح الأمية.
فالأمية في منهج الدعوة ليست مستوى معرفيًّا ولكنها أسلوب دعويٌّ..
__________
(1) البخاري (244)، مسلم (2710).(1/423)
فنحن قوم أُميُّون باعتبار أسلوب الدعوة الذي نراعي فيه كل المستويات البشرية الثقافية والعلمية.. ابتداء من التفهيم بالإشارة..
عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فضرب بيديه، فقال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا، ثم عقد إبهامه في الثالثة.. فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين)) (1).
وهذا الحد يمثل الحد الأدنى للعقول التي نتعامل معها في دعوتنا.
وهو نقل الرسالة كما هي باعتبارها فطرة..
وفي الوقت الذي يفسر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسلوب البسيط السهل حتى أيام الشهر بإشارة أصابعه.. لا يستطيع فيه النصارى فهم عقيدتهم ولا شرحها لغيرهم، وهي النتيجة المباشرة لتحريف الدين..!
لأن صحة الدين هي التي تحقق صحة التلقي، وصحة التلقي هي التي تحقق صحة الاعتناق، وصحة الاعتناق هي التي تحقق صحة الدعوة إليه.
حماية مقام النبوة من الغلو والإطراء
لقد حذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارًا وتكرارًا من إطرائه والغلو فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم.. فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله))(2).
إن هذا الحديث يتضمن الخاصية التي تحفظ الإسلام من الضلال الذي وقع فيه اليهود والنصارى، وهي الدقة التامة في التعامل مع النصوص الشرعية.
((إنما أنا عبد.. فقولوا: عبد الله ورسوله)).
كما نزلت الآيات مخاطبة المؤمنين على لسانه صلى الله عليه وسلم: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [الكهف: 110].
وقوله تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين} [فصلت: 6].
__________
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري في (الصوم /ح 1906)، ومسلم في (الصيام /ح1080).
(2) البخاري (3261).(1/424)
وحتى آخر لحظة في حياته.. كان التحذير من آثار الغلو والإطراء..
فعندما مرض النبي صلى الله عليه وسلم، تذاكر بعض نسائه –أم حبيبة وأم سلمة- كنيسة بأرض الحبشة يقال لها «مارية» -وكانتا قد أتتا أرض الحبشة- فذكرن من حسنها وتصاويرها..
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا ثم صوروا فيه تلك الصور.. أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة))(1).
والقاعدة في إثبات مقام النبوة هو: إثبات بشرية النبي والتأكيد على حد العبودية، وإثبات خصيصة الوحي وحفظ مقام النبوة، ويجمع ذلك قوله سبحانه: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد} [الكهف: 110].
فتقرر الآيات {إنما أنا بشر}، ولكن هذا التقرير قد يوهم أنه يختلف في بشريته عن غيره، فيأتي لفظ: {مثلكم} لنفي هذا الوهم..
ولكن هذا اللفظ قد يسلب مقام النبوة خصوصيته..
فتأتي عبارة: {يوحى إلي}.. لتؤكد على خصوصية مقام النبوة..
ثم يأتي الحد الفاصل بين مقام الألوهية ومقام البشرية والنبوة: {أنما إلهكم إله واحد}
ولإخراج مقام النبوة من العلاقة بين الله وخلقه.. تأتي العبارة الأخيرة..
{فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}.
ويفسرها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة رضي الله عنها: ((يا فاطمة بنت محمد..! أنقذي نفسك من النار.. فإني لا أملك لك ضرًّا ولا نفعًا))(2).
وفي نفس الإطار يأتي قوله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس إنه قد كان لي فيكم إخوة وأصدقاء، وإني أبرأ إلى الله أن يكون لي فيكم خليل، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، وإن ربي اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك))(3).
__________
(1) البخاري (1276).
(2) مسلم (204).
(3) مسلم (532).(1/425)
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم))(1)..
فجمع بين التحذير من اتخاذ قبره عيدًا، والأمر بالصلاة عليه.
وعلى نفس النهج مضى أصحابه وآل بيته، فعن أبي الهياج الأسدي أنه قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ألا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته))(2).
وعن سهيل بن أبي سهيل أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فالتزمه ومسح قال: فحصبني حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني))(3).
وحتى مجرد الألفاظ الموهمة.. نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد سمع يومًا بعض الصحابة يقول له: ما شاء الله وشئت، فقال: ((أجعلتني لله ندا؟!)(4).
الشهادة.. والبيعة.. والانتماء
ومن أهم أحكام حماية الدين: المفاصلة بين أتباعه ومن سواهم..
وقد كانت هذه المسألة ثغرة تاريخية تسللت منها الوثنية إلى دين المسيح..
وذلك بسبب غياب الأحكام الضابطة لمسألة الانتماء لهذا الدين..
حتى تبوأ بولس مكانة الداعية لدين لم يؤمن هو به بعد..!
وحتى غدا قسطنطين راعيًا وحاكمًا للأمة النصرانية، بينما كان وثنيًّا لم يتم تعميده إلا في فراش الموت..!
ومن هنا يبرز دور الأحكام الإسلامية التي تحمي الدين من اختراقه، والتباس أتباعه بأعدائه..!
وأول هذه الأحكام: الشهادة التي يصبح بموجبها الإنسان مسلمًا..
والتي تقتضي الإعلان الصريح عن الانتماء إلى عقيدة الإسلام، والالتزام التام بالشريعة جملة وعلى الغيب، والتبرؤ كلية من كل ما يخالفها..
__________
(1) سنن أبي داود (2042).
(2) مسلم (696).
(3) سنن أبي داود (2042).
(4) صحيح ابن خزيمة (2461).(1/426)
عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم حين أتيته فقلت: والله ما أتيك حتى حلفت أكثر من عدد أولئك -يعني الأصابع- ألا آتيك ولا آتي دينك -فجمع بهْزٌ بين كفيه- وقد جئتك امرؤ لا أعقل شيئًا إلا ما علمني الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم..
وإني أسألك بوجه الله بما بعثك ربك إلينا؟
قال: ((بالإسلام)).
قلت: وما آيات الإسلام؟
قال: تقول: ((أسلمت وجهي لله، وتَخَلَّيْت، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة..
وكل مسلم على مسلم مُحَرَّم، أخوان نصيران..
لا يقبل الله من مسلم أشرك بعدما يسلم عملًا..
وتفارق المشركين إلى المسلمين.. ما لي أمسك بحجزكم عن النار..؟!
ألا وإن ربي تبارك وتعالى داعي وإنه سائلي: هل بلغت عبادي..؟!
وإني قائل: رب قد بلغتهم، فليبلغ الشاهد الغائب..
ثم إنكم مدعوون.. مُفدَمَةٌ أفواهُكم بالفِدَام..
ثم إن أول ما يبين عن أحدكم لَفَخِذه وكَفِّه..))
قال: قلت: يا رسول الله هذا ديننا؟ قال: ((هذا دينكم))(1).
ونلاحظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أسلمتُ وجهي لله، وتَخَلَّيْت)) والذي يمنع دخول أحد في هذا الدين بأي شيء يخالفه..
والدليل القاطع على وجوب حماية الإسلام من تجربة الخلط النصرانية هو صيغ الشهادة التي يدخل بها النصارى إذا أرادوا الدخول في الإسلام..
عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله من أبواب الجنة الثمانية، من أيها شاء.. على ما كان من العمل))(2).
__________
(1) مسند أحمد (20055).
(2) مسند أحمد (22727).(1/427)
يقول العلامة ابن حجر العسقلاني: (ويستفاد منه ما يُلَقَّنه النصراني إذا أسلم، قال النووي : هذا حديث عظيم الموقع، وهو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد؛ فإنه جُمِعَ فيه ما يخرج عنه جميع ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدهم . وقال غيره : في ذكر عيسى تعريض بالنصارى، وإيذان بأن إيمانهم مع قولهم بالتثليث شرك محض، وكذا قوله : «عبده» وفي ذكر «رسوله» تعريض باليهود في إنكارهم رسالته وقذفه بما هو منزه عنه وكذا أمه).
وثاني هذه الأحكام: البيعة على الدين الصحيح.. وهي الأساس العقدي والشرعي لدخول الإنسان في عقد الإسلام.
وقد مر آنفا كيف لم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعة رجل على بعض شرائع الإسلام دون بعض.
ولذلك اختلفت صيغة البيعة باختلاف المبايِع، باعتبار أن معنى البيعة هو الالتزام، وأن الالتزام مرتبط بمن يبايع(1)..
وبعد البيعة على الإسلام والإقرار بالشهادتين ينطبق على صاحب البيعة والشهادة اسم «المسلم» الذي لا يجوز إطلاقه على غير المسلمين، حماية لمعنى الانتماء..
وهو من أهم أسباب حماية الدين، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن..
الجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله..
فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع..
ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثاء جهنم، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم..
فادعوا بدعوى الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله)).
__________
(1) لذلك اختلفت صيغ مبايعة النساء عن صيغ الرجال.(1/428)
ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم ادعاء أسقف نجران بأنه مسلم، حين قال له: ((يا أبا الحارث، أسلم..)) قال: إني مسلم، قال: ((يا أبا الحارث، أسلم..)) قال: قد أسلمت قبلك، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((كذبت..! منعك من الإسلام ثلاثة: ادعاؤك لله ولدًا، وأكلك الخنزير، وشربك الخمر))(1).
وعلى أساس الانتماء الصحيح للإسلام يكون الولاء الذي يمنع التشبه بغير المسلمين، حتى لا يختلط الدين في أفهام الناس، وتكون المفاصلة التي تمنع المداهنة والمساومة في الدين.
وفي الوقت الذي ينهى فيه الرسول عليه الصلاة والسلام عن التشبه بغير المسلمين، في العبادة والتصرف والصورة.. نرى النصارى في تحريفهم للدين قد تشبهوا بالوثنيين في عقائدهم وعباداتهم..!
وبينما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز، فإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب، ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها.. فإنها تطلع بين قرني الشيطان))(2).
وذلك أن تقديس الشمس واستقبالها عاملٌ مشترك بين جميع الديانات الوثنية..
نجد النصارى لم يدعوا أمرًا من أمور الوثنيين إلا وأدخلوه في دينهم..
ابتداءً من يوم الأحد Sunday، الذي كان يقدسه الوثنيون، ويعني يوم الشمس..
وتحويل القبلة باتجاه شروق الشمس..
وانتهاءً بالصلاة وقت الشروق والغروب..
ومن هنا تأتي سورتا الإخلاص والكافرون في سنة الفجر والمغرب، قبل شروق الشمس وبعد غروبها، لتكون الأولى إثباتًا لصحة الاعتقاد، والثانية ثباتًا على الاعتقاد الصحيح والمفاصلة عليه..
وبهما تكون الحماية الكاملة للدين من الانحراف.
الباب الخامس
الهيمنة السلفية
الفصل الأول
الهيمنة القرآنية
تمهيد: القرآن هو أساس الهيمنة..
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (7/427).
(2) البخاري (3099).(1/429)
{وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} [المائدة: 48].
فهيمنته على ما بين يديه من الكتاب يعم الكتب كلها.. شاهدًا وحاكمًا ومؤتمنًا..
شاهدًا على ما بقي فيها من الأخبار الصادقة..
وحاكمًا على ما طرأ عليها من التحريف والتبديل..
ومؤتمنًا على أصول الدين الواحد الصحيح.. الذي أنزله الله على أنبيائه ورسله..
فقرر ما في الكتاب الأول من أصول الدين وشرائعه الجامعة التي اتفقت عليها الرسل، كالوصايا العشرة المذكورة في آخر الأنعام: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون*ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون*وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} [الأنعام: 151-153].
وكذلك آيات الحقوق العشرة: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما}..
إلى قوله: {ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا} [الإسراء: 23-39].
فدين الأنبياء والمرسلين دين واحد، وإن كان لكل من التوراة والإنجيل والقرآن شرعة ومنهاجًا..(1/430)
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه خليفتي على أمتي))(1).
فدين المرسلين يخالف دين المشركين المبتدعين الذين فَرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا، قال تعالى: {منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين*من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون} [الروم: 31، 32].
والهيمنة القرآنية في قضية عيسى أساسها حجية القرآن: {انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} [المائدة: 75].
فلن نكتشف مدى إعراض وإفك النصارى.. إلا من خلال فهم الحجة القرآنية الكاملة..
وقد جاء هذا النص ختامًا لهذه الآية: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل*وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام} [المائدة: 75].
فَدَحْضُ ادعاء الألوهية لعيسى بذكر افتقاره للطعام حُجَّة لا يمكن تجاوزها..
وبهذه الحجية تؤكِّد آيات القرآن أن إثبات مقام الله الصحيح مرجعه إليه سبحانه، وإلى ما أنزله في كتابه؛ ولذلك قامت محاجة المؤمنين على أساس هذه الحجية: {وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا*قل كونوا حجارة أو حديدا*أو خلقا مما يكبر في صدوركم*فسيقولون من يعيدنا*قل الذي فطركم أول مرة*فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو*قل عسى أن يكون قريبا} [الإسراء: 49-51].
وفي سورة طه: {قال فما بال القرون الأولى*قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} [51-52].
وفي سورة الرعد: {ويقول الذين كفروا لست مرسلا*قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} [43].
فالمؤمن يتكلم بكلام الله.. كعبد من عباد الله.. وكلام الله يتضمن الحجة الكاملة على عباده..
فلا تلزمه حجة أكثر من ذلك..!
الهيمنة الزمنية
__________
(1) أخرجه أحمد (2/406، 437) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/431)
مع أن كلام الله كله حسن.. إلا أن القرآن هو أحسن ما أنزله الله..!
{الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء} [الزمر: 23].
{واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون} [الزمر: 55].
وتفسير الحُسن هو باعتبار أن القرآن آخر ما أنزل إلى الأرض، إذ إن لكل كتاب زمانه..
والقرآن كتاب الزمان حتى قيام الساعة..!
وعلاقة هذا المعنى بقضية عيسى ابن مريم هي المواجهة الإعجازية والاستيعاب القرآني المحكم لكل جوانب القضية، وكل مراحل التحريف النصراني الزمنية، وكل تفاصيل التحريف وتطوراته الفكرية.
ففي سورة النساء جمعت آية واحدة الرد على جميع عناصر الادعاء النصراني:
{ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق*إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه*فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد*له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} [171].
فجمعت الآية بين دوافع الادعاء وهي: الغلو في الدين.. والقول على الله بغير الحق..
وفَنَّدَت عناصر الادعاء التي هي عناصر التثليث:
- الآب «الذي يقصدون به ذات الله تعالى».. فتثبت الآية أنه «رَسُولُ اللّهِ» وليس الله..
- والابن «الذي يقصدون به الكلمة أو عقل الله».. فتثبت الآية أنه كان بكلمة من الله التي أُلْقِيَت إلى مريم وليس هو الكلمة ذاتها..
- والروح القدس «الذي يدعونه: حياة الله».. فتثبت الآية أنَّه روحٌ من الأرواح التي خلقها الله بنفخة من جبريل..
ثم أمرتهم بالحقيقة التي لا مراء فيها: الاعتقاد بالفرقان بين الله ورسله، مع الإيمان به سبحانه وبمن أرسلهم..
ونهتهم عن القول بالتثليث.. الذي يمثل النموذج العقلي الفلسفي لإقناع الناس بضلالهم..(1/432)
وحذرتهم من مغبة قولهم وخطورة شأنه..
وعادت لتقرر الحقيقة العظمى في هذا الكون.. {إنما الله إله واحد}..
ومنها نفت ادعاء الولد.. الذي يمثل النموذج العاطفي النفسي لإقناع الناس بشركهم..
ثم أثبتت حقيقة أن {لله ما في السماوات وما في الأرض}..
وأنه سبحانه الوكيل لكل ما فيهن..
وفي سورة المائدة.. تمت ملاحقة الادعاء بتطوراته التاريخية..
{لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} [المائدة: 71].
{لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم} [المائدة: 73].
فيوافق ترتيب الآيات الترتيب الزمني لتطور الادعاء النصراني في عيسى عليه السلام..
حيث بدأ انحرافهم تاريخيًّا بادعاء أن الله حل بذاته في المسيح –تعالى الله عن ذلك- وكان ذلك على يد بولس في القرن الأول الميلادي، وهو ما ناقشته الآية الأولى..
ثم تطور الادعاء ليتم إدخال روح القدس في موضوع الألوهية بعد ذلك في مجمع نيقية في القرن الثالث الميلادي، وهو ما ناقشته الآية التي تليها..
والملحوظة البارزة: أن الآيتين بدأتا بنفس الجملة: {لقد كفر الذين قالوا}.
ومن شواهد الهيمنة القرآنية الزمنية أن يكون النص القرآني هو المُفَسِّر لأحداث وسيرة المسيح التي يعجز النصارى أنفسهم عن تفسيرها دون هذا النص، مثلما فسَّر القرآن السبب الذي جعل بني إسرائيل يعجزون عن التخلص من المسيح حتى ظل بينهم فترة زمنية لا تقل عن أربعين عامًا دون أن يقتلوه، فلماذا لم يتمكن اليهود من قتل عيسى ابن مريم وهو يدعو بينهم علانية بدعوته التي يرفضونها..؟!
يجيب القرآن عن ذلك: {وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين} [المائدة: 110].(1/433)
فيفسر القرآن الموقف بأن الله سبحانه هو الذي كَفَّ بني إسرائيل عن عيسى، بينما لا يملك النصارى الإجابة على السؤال المطروح، ولا يمكن تفسير هذا الموقف إلا بهذا النص.
وهذا الموقف يماثل موقف موسى مع فرعون حيث كان يدعو بدعوته بين آل فرعون فيقول الله سبحانه: {قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون} [القصص: 35].
الهيمنة التفصيلية
إن التفاصيل الواردة في القرآن والمتعلقة بما هو مثبت عند أهل الكتاب تعني هيمنة القرآن على الأخبار، مقررًا لما هو صحيح، ومنكرًا لما هو باطل، ومثبتًا لما هو غير مثبت، وحاكمًا على ما اختُلِفَ فيه..
{إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون} [النمل: 76].
ولا تتوقف الهيمنة القرآنية على الإطار الزمني والتاريخي..
بل تتعداه إلى التفاصيل الدقيقة.. التي لا توجد عند أهل الكتاب..
{وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين*ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين*وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون} [القصص: 44-46].
أو تلك التي كانت موجودة عندهم وضيَّعَها أخلافهم.. كَعِدَّة خزنة جهنم وطبيعة تربة الجنة..(1/434)
ففي تفسير قول الله سبحانه: {عليها تسعة عشر*وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا} [المدثر: 30-31] روى جابر بن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد غُلِبَ أصحابك اليوم..! فقال صلى الله عليه وسلم: ((بأي شيء؟)) قال: سأَلَتْهُم يهود: هل أعلَمَكُم نبيُّكم عِدَّة خزنة أهل النار؟ قالوا: لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفَغُلِبَ قومٌ يُسْأَلُون عما لا يعلمون فقالوا: لا نعلم حتى نسأل نبينا..؟! عَلَيَّ بأعداء الله.. لكنَّهم قد سألوا نبيهم أن يريهم الله جهرة..!)) فأرسل إليهم فدعاهم قالوا: يا أبا القاسم كم عدة خزنة أهل النار؟ قال: ((هكذا..)) وطَبَّق كفَّيه ثم طَبَّق كفَّيه مرتين، وعقد واحدة، وقال لأصحابه: ((إن سُئلتم عن تربة الجنة فهي الدَّرْمَك))(1) فلما سألوه فأخبرهم بعدة خزنة أهل النار قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تربة الجنة؟)) فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: خبزة يا أبا القاسم. فقال: ((الخبز من الدرمك))(2).
ومن أمثلة ما أثبته القرآن، ولم يُثبتُه النصارى: قصة هود وصالح وشعيب..
وبعض التفاصيل في قصة إبراهيم وموسى..
ومنها كذلك: كلام المسيح في المهد وقصة المائدة التي تُنسَب إليها سورة بكاملها.. وهي مما امتنَّ الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها، وكانت آية باهرة وحجة قاطعة..
وهو ما لا يعرفه أهل الكتاب ولا يوجد عندهم.
ولكنَّ أساس الهيمنة القرآنية في قضية عيسى ابن مريم هو الإحكام المنهجي الذي تمثَّل في التناسب الدقيق والموضوعية التامة بين عناصر القضية وأبعادها في السياقات القرآنية.
وأبرز مثال على ذلك سورة الإخلاص.. التي جمعت كلَّ عناصر الهيمنة..
__________
(1) الدَّرْمَك: الدقيق.
(2) أخرجه أحمد (3/361)، والترمذي (5/429) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.(1/435)
«فمن حيث التناسب اللفظي» جاء اسم الله «الصمد» ليعالج جميع نواحي الخلل في التصور النصراني عن حقيقة ذات الله تعالى وصفاته، كما جاء النفي الجازم للفعل «ولد» في حال المضارع بصيغتيه: المبني للمعلوم والمبني للمجهول «لم يلد» و«لم يولد» ليشمل نفي جميع أنواع التولد والانبثاق والتفرع، ثم جاء نفي فعل الكينونة المضارع «لم يكن» ليفيد النفي المطلق في الماضي والحاضر والمستقبل.
«وأما من حيث التناسب الموضوعي» فقد جاءت أسماء الله «الأحد» و«الصمد» لإثبات التصور الإسلامي عن حقيقة ذات الله وصفاته ابتداءً(1)، وإجمال معاني السورة في هذه الأسماء الثلاثة أكده الحديث الذي أخرجه البخاري، ويقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((الله الواحد الصمد.. ثلث القرآن))(2).
ثم جاء نفي الولادة والتولد والمثل والنظير عن الله بكافة الأشكال والصور انتهاءً؛ ليكتمل التصور نفيًا وإثباتًا.
ومع أنَّ الترتيب العقلي يقتضي أن «يولد» الشيء قبل أن «يلد»، مما يقتضي تقديم جملة: {لم يولد} على جملة: {لم يلد} إلا أن الآيات جاءت بهذا الترتيب: {لم يلد ولم يولد} لتوافق ترتيب النفي مع ترتيب الادعاء حيث قال المشركون بوجود «الأب» و«الابن».. فـ{لم يلد} نفي لكونه «أب»، و{لم يولد} نفي لكونه «ابن»..
«ومن حيث التفاعل الواقعي» يأتي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن)) والذي يعني أن قضية التوحيد بنفي الولد عن الله تحديدًا هي التي تعدل ثلث القرآن.
وعن أبي أمامة قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يقرأ: {قل هو الله أحد} فقال: ((أوجب لهذا الجنة))(3). ومعنى الحديث: أن سورة الإخلاص تتضمن كل المعاني الموصلة للجنة..
وباعتبار أن الجنة هي الغاية النهائية للإسلام وأن سورة الإخلاص جامعة لمضمون هذه الغاية..
__________
(1) يراجع هذا الأمر بالتفصيل في فصل الصفات بالباب الأول.
(2) سبق تخريجه.
(3) أخرجه أحمد (5/266) عن أبي أمامة.(1/436)
أصبحت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن كما روى جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألهم: ((أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن..؟!)) ثم قال: ((من قرأ الله الواحد الصمد فقد قرأ ثلث القرآن))(1).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ {قل هو الله أحد} عشر مرات.. بنى الله له بيتًا في الجنة))(2). فباعتبار أن الجزاء من جنس العمل، وأن بيت الإنسان هو حياته وسكنه كان بناء بيت في الجنة لمن يقرأ {قل هو الله أحد} عشر مرات- معناه أن هذه السورة هي بيت المسلم في الآخرة، مثلما كانت حياته في الدنيا..
فقد كان يبدأ بها نهاره هي و{قل ياأيها الكافرون} في صلاة سنة الفجر كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم(3)..
وكذلك في سنة المغرب آخر صلاة بالنهار..
وكذلك في الوتر الذي هو آخر صلاة في اليوم والليلة..
حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُوتِر بـ {سبح اسم ربك الأعلى} و{قل ياأيها الكافرون} و{قل هو الله أحد} فإذا أراد أن ينصرف قال: ((سبحان الملك القدوس)) ثلاثا يرفع بها صوته(4)، ولعلَّنا نذكر الارتباط بين نفي الولد عن الله، واسمي «الملك» و«القدوس».
واختصاص {قل هو الله أحد} بتوحيد الاعتقاد و{قل ياأيها الكافرون} بتوحيد العبادة، تعني الثبات على التوحيد في أول النهار وآخره.
وبمقدار جمع سورة الإخلاص لكل حقائق الخير تكون مانعة من كل أسباب الشر..
فقد كان صلى الله عليه وسلم يقولها في أذكار الصباح وأذكار المساء وحين يأوي إلى فراشه..
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) أخرجه الدارمي في سننه (2/551) عن سعيد بن المسيب، والطبراني في الكبير (20/183) عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه، وفي الأوسط (1/93) عن أبي هريرة.
(3) أخرجه أحمد (2/35) عن ابن عمر رضي الله عنهما، و(6/184) عن عائشة رضي الله عنها.
(4) أخرجه الدارقطني في سننه (2/31) عن أبي بن كعب.(1/437)
قال عبد الله بن خبيب: خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة نطلب النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي بنا فأدركناه فقال: ((قُلْ..)) فلم أقل شيئا ثم قال: ((قُلْ..)) فلم أقل شيئا قال: ((قُلْ..)) قلت: يا رسول الله.. ما أقول..؟! قال: ((قل هو الله أحد، والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح -ثلاث مرات- يكفيك من كل شيء))(1).
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ: {قل هو الله أحد} و{قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس} ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات(2).
وكذلك عندما حجَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ شعائر الحج بصلاة ركعتين بعد طواف القدوم، قرأ فيهما {قل ياأيها الكافرون} و{قل هو الله أحد}..
ومن جملة هذه الأحاديث يتبين لنا كيف ملأت سورة الإخلاص حياة المسلم.. فصارت تُتلَى صباحًا ومساءً..
ومن هنا نشأت العلاقة الوجدانية بين المسلم والسورة..
أخرج البخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في الأسماء والصفات عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رجلا على سَرِيَّة، فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم: بـ {قل هو الله أحد} فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟)) فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن.. فأنا أحب أن أقرأها. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبروه فقال: ((أخبروه أن الله تعالى يحبه))(3).
وبعد هذا المثال الجامع.. نبدأ في التناول التفصيلي لمفهوم الإحكام المنهجي من خلال ظاهرتي التناسب والموضوعية.
تناسب الألفاظ:
__________
(1) أخرجه أبو داود (2/743).
(2) أخرجه البخاري (4729).
(3) سبق تخريجه.(1/438)
يجب الانتباه إلى أن كل لفظ يرد في السياقات التي تعالج قضية المسيح، يعالِجُ خللًا ما في تصور النصارى وعقيدتهم.. وقد يكون اللفظ مفردًا.. لكنه يتضمن قضية ضخمة وبُعدًا كبيرًا..
ومثال ذلك: كلمة {ليمسن} في سورة المائدة، حيث تُعبِّر الآية عن العذاب في قول الله سبحانه وتعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم} [المائدة: 73].
وكذلك عند ذكر عذاب أهل الكتاب جاء وصف العذاب بصورة حسية تفصيلية تعالج كفر أهل الكتاب بعذاب الله سبحانه وتعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا*أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا*أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا*أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما*فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا*إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما} [النساء: 51-56].
وهذا اللفظ في سورة المائدة وذاك الوصف في سورة النساء.. يؤكدان الطبيعة المادية الحسِّية للعذاب؛ وذلك لأن اليهود والنصارى يزعمون أن عذاب النار إمَّا أيامًا معدودة كما جاء في سورة البقرة: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون} [80].
وسورة آل عمران: {ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون} [24].(1/439)
وإما لزعمهم أنَّ العذاب أمرٌ مجازي، فيقول كتاب اللاهوت النظامي: (وَصَفَ الكتاب حالة الأشرار الأخيرة ومكان نزولهم بعبارات مجازية مخيفة جدًّا، منها الذهاب إلى النار الا بدية [مت 25: 41] وبئر الهاوية [رؤ 9: 2] والظلمة الخارجية [مت 8: 12] والعذاب بنار وكبريت [رؤ 14: 10-12] وعذاب أبدي [مت 25: 46] وغضب الله [رو 2: 5] والموت الثاني [رؤ 21: 8] وهلاك أبدي من وجه الرب [2تس 1: 9] ودينونة أبدية [مر 3: 29].
ونتعلم من الكتاب أن شقاء الهالكين يقوم بما يأتي: خسارة كل الخيرات الأرضية.. الابتعاد عن حضرة الله ورضاه.. الرفض الكلي.. أو ترك الروح القدس إياهم تركًا ربما ينتج عن ذلك من تسلط الخطية والميول الشريرة عليهم.. توبيخات الضمير.. قطع الرجاء.. المعاشرات الردية).
ثم يقول: (أما القول أن النار المذكورة في الكتاب هي مادية فليس له سند كافٍ، كما أنه لا محل للزعم أن الدود الذي لا يموت هو دود حقيقي. فإن إبليس وملائكته(1) الذين يُعَذَّبون بنيران أبدية ويشاركهم في عذابهم الذين يموتون في خطاياهم- ليس لهم أجساد مادية لتؤثر فيها النار المادية، فلا بد أن تلك النار مجازية)(2).
ولم يكتف النصارى بإلغاء الطبيعة المادية للعذاب.. بل إنهم قالوا بوجود فئة من الناس لن تدخل الجنة ولن تدخل النار..
__________
(1) وكما نعلم فإن إبليس لا تتبعه الملائكة، بل الشياطين، ولكنها تخريف الضالين.
(2) فنَّد علماؤنا بما فيه الكفاية هذه الشبهة، فليس معنى أن الشيطان خُلق من النار أنها لا تؤلمه، كما لا يعني أن الإنسان خُلق من الطين أنه إذا ألقي عليه حجرٌ لا يؤلمه..!(1/440)
ولذلك عندما أورد القرآن خطاب عيسى لبني إسرائيل عن عقوبة الشرك قال: {وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} [المائدة: 72] فقد كان يكفي أن يقول: {فقد حرم الله عليه الجنة} ولكنه أورد بعقبها: {ومأواه النار} ليكون البلاغ كاملًا، وهو النص الوحيد في القرآن الذي جمع بين تحريم الجنة والحكم بالنار، ليقطع الطريق على وجود احتمال آخر أمام المشركين غير الجنة أو النار.
ومن أمثلة التناسب اللفظي كذلك اسم «أحمد» الذي ورد في سورة الصف: {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف: 6] ولم يقُل «محمد»..
والفرق بين اللفظين يعني شيئًا كبيرًا؛ فاسم «محمد» مشتق من صيغة المبالغة «حمَّاد»..
واسم «أحمد» على وزن «أفْعَلُ لك» ومعناه «أحمد لك» أي أزكِّي لك وأختار لك، وهو تفسير العلاقة بين عيسى ابن مريم ومحمد عليهما الصلاة السلام.. حيث بشَّر عيسى ابن مريم بمحمد عليهما الصلاة والسلام.
ولذلك قال ابن منظور في معجم «لسان العرب»(1): (أحمدُ الرجلَ) إذْ إن عيسى اختار للناس وزكَّى للناس دين محمد، وإن لم يشهده بمعناه.
ومن هنا ((يَجِيءُ الدَّجَّالُ فَيَصْعَدُ أُحُدًا فَيَنْظُرُ الْمَدِينَةَ فَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ أَتَرَوْنَ هَذَا الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ هَذَا مَسْجِدُ أَحْمَدَ))(2)، ولن يقول: «محمد».
وفي قول الدجال: ((هَذَا الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ)) دليل على لهجة الغنى المُنسي التي يتكلم بها؛ لأن مسجد الرسول ليس قصرًا.
تناسب الأسماء: {سميتها مريم}.. {اسمه المسيح}:
__________
(1) اللسان (2/157) مادة حمد.
(2) أخرجه أحمد في مسنده (3/338) عن محجن بن الأدرع.(1/441)
من المتفق عليه أن الاسم عَلَم على المسمَّى ودليل على بدايته، وأنَّ من سمَّاه لا بد أن يكون سابقًا عليه، وبذلك تصبح مجرد التسمية التي سماها الله للمسيح نافية للادعاء بأنه موجود منذ الأزل، وهذا هو المعنى الأساسي في مناقشة اسم المسيح.
وباعتبار أن التسمية من الله عز وجل، فلا بد أن تكون بمعنى وحكمة..
وأساس ذلك: المناسبة بين الاسم والمسمَّى، طبقًا للقاعدة العامة التي قرَّرها الإمام ابن القيم، وقال فيها: (لِكُلِّ مُسَمَّى نَصيبٌ من اسمه.. إمَّا بمثله أو بعكسه)، وهو ما يتفق مع المعنى الذي اشتق منه لفظ «الاسم» وهو السِّمة أو العلامة.
فقد سمَّى الله «آدم» بهذا الاسم؛ لأنه خُلِقَ من أديم الأرض، فكانت التسمية باعتبار مادة الخلق.
«ابن مريم»:
لقد ذُكر اسم الصِّدِّيقة «مريم» في ثلاثين موضعًا من كتاب الله..
والنص القرآني يُشير إلى أن تسمية «مريم» كانت بإلهام من الله لأمِّ مريم، حيث حكى الله كلامها بصيغة الغائب: {فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى} [آل عمران: 36]..
ثم اعترضه بتعقيب منه سبحانه: {والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى} [آل عمران: 36]، وهذا التعقيب -بعد تقرير تبين نوع المولود كونه أنثى- يلفت الانتباه إلى ما ادخره الله في علمه لمريم وابنها، ولا تتصوره امرأة عمران..!
ثم التفت النص وحكى كلامها بصيغة المتكلم: {وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} [آل عمران: 36]..
ثمَّ صدَّق على كلامها بقبول الله للكلام كله: {فتقبلها ربها بقبول حسن} [آل عمران: 37]..
مما يدل على أن الاسم كان بإلهام من الله، وتوفيق منه سبحانه..
وارتباط عيسى في اسمه بأمِّه يرجع إلى ارتباطه بها في خلقه، بحيث يجتمع في اسم «عيسى ابن مريم» كل الدلالات الجوهرية في خلقه(1).
__________
(1) سيأتي تفصيل ذلك في الكلام عن البشرية والنبوة في سورة الأنبياء في هذا الباب.(1/442)
وقد ذهب كثيرون إلى أنَّ «مريم» اسمٌ أعجمي، حيث قالوا: إنه يتكون من جزأين: «ماري» ومعناه الطاهرة، و«يم» أو «أم» ومعناه الأم، وبذلك يكون معناه هو «الأم الطاهرة»، إلا أن البحث في الجذور المحتملة لهذا الاسم بعد أن نردَّه إلى لغته الأصلية وهي اللغة الآرامية، نجد أنه عربيٌّ أصيل..
فإذا نظرنا إليه على أنه على وزن «مفعل» نجد أنَّ هناك جذرين وثيقي الصلة بهذا الاسم، هما: «رَيَمَ» وبينه وبين «مري» اشتقاق.. و«رَأَمَ» وبينه وبين «مرأ» اشتقاق.
يدور الجِذر «رَيَمَ» حول هذه المعاني:
«اللون الأبيض البرَّاق» يقول صاحب لسان العرب: (الرِّيم: الظبي الأبيض الخالص البياض) ويقول الإمام الأزهري في «تهذيب اللغة»: (امرأة مارية: براقة اللون) ويقول صاحب «تاج العروس»: (امرأة مارية: أي بيضاء براقة كأن اليد تمور عليها، أي تذهب وتجيء).. ومن المعلوم أن لون بشرة المسيح عليه السلام يميل إلى الشقرة بين الأبيض والأحمر، إثباتًا لارتباطه في خلقه بأمِّه.
«البقاء والمكوث» جاء في القاموس المحيط: (الريم: البَرَاح، ورَيَّم بالمكان ترييما.. أقام به، ونَهَارٌ رَيْم: طويل) وهو ما يشير إلى معنى القنوت الوارد في قوله سبحانه: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} [آل عمران: 43] حيث أن معنى القنوت هو الدوام والمكوث على فعل واحد.
الجذر «مري» بينه وبين الجذر السابق اشتقاق:
«الامْتِراءُ في الشيءِ» الشَّكُّ فيه، وكذلك التَّماري. والمِراءُ: المُماراةُ والجدَل، والمِراءُ أيضًا: من الامْتِراءِ والشكِّ. وفي التنزيل العزيز: {فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا} [الكهف: 22]، والمَرْيُ: مَسْح ضَرْع الناقة لتَدِرَّ، قال ابن الأَنباري: في قولهم مارَى فلان فلانًا معناه: قد استخرج ما عنده من الكلام والحُجَّة، مأْخوذ من قولهم مَرَيْتُ الناقةَ إذا مسحتُ ضَرْعَها لِتَدِرَّ.(1/443)
وهذا المعنى متعلق بتشكك اليهود والنصارى في أمر مريم وابنها، فقد قال الله في شأنها: {فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا*يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} [مريم: 27 – 28]، وقال عن عيسى: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون} [مريم: 34].
«والمُمْري» التي جَمَعَت ماءَ الفحل في رحمها، وهو ما يتعلق بمعنى العيس، الذي هو ماء الفحل، وهو ما يتفق مع قاعدة تسمية الشيء بعكس معناه، إذ لم يمس مريم بشرٌ، ولم يشتمل رحِمُها على ماء ذكر.
أما الجِذر «رأم» فيدور حول هذه المعاني:
«الولد» قال ابن الأعرابي: (الرَّأْم: الولد) وفيه معنى بشارتها بولادة عيسى.
«الإكراه على الولد» قال ابن السكيت: (أرأمته على الأمر، وأظأرته أي: أكرهته) وفيه معنى قوله تعالى حكاية عنها: {قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا} [مريم: 23].
«الأمومة والحنان» جاء في لسان العرب: (رَئِمتِ الناقةُ ولدها تَرْأَمُهُ رَأْمًا ورَأَمانًا: عطفتْ عليه ولزمته، وأَحَبَّتْهُ؛ والناقة رءوم ورائِمَةٌ: عاطفة على ولدها) وقد كانت الرحمة والحنان الصفة المسيطرة على سياق سورة مريم، ابتداء بقوله سبحانه: {ذكر رحمة ربك عبده زكريا} [مريم: 2].. ومرورًا بقوله سبحانه عن يحيى: {وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا*وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا} [مريم: 13-14].. وعن عيسى: {وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا} [مريم: 32].. وصيغة مناداة إبراهيم لأبيه بكلمة {ياأبت} وما تحمله من حنان وإشفاق.. وقوله سبحانه عن موسى: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا} [مريم: 53].
الجذر «مرأ» بينه وبين الجذر السابق اشتقاق:(1/444)
جاء في لسان العرب: (مَرُؤَ الرجلُ كَكَرُمَ يَمْرَؤُ مُرُوءةً بضم الميم فهو مَرِيءٌ على فَعيلٍ كما في الصحاح أَي ذو مُرُوءةٍ وإنْسانِيَّةٍ.. قيل للأحنف: ما المُرُوءة؟ فقال: العِفَّةُ والحِرْفَةُ.. وسُئِل آخر عنها فقال: هي ألا تفعل في السِّرِّ أَمرًا وأَنت تَسْتَحْيي أَن تفعَلَهُ جَهْرًا.. وقيل: صيانَةُ النَّفْسِ عن الأَدْناس، وما يَشينُ عند النَّاس، أو السَّمْتُ الحَسَنُ وحِفْظُ اللسانِ، وتَجَنُّبُ المَجونِ).
وفي المصباح: (المُرُوءة: نَفْسانيَّةٌ، تحمل مُراعاتها الإنسانَ على الوُقوفِ عند مَحاسِن الأَخلاق وجميل العَادات).
ومن هذا الجذر يشتق لفظ: «المرأة»، وللعرب في المَرْأَةِ ثلاث لغاتٍ، يقال: هي امْرَأَتُه، وهي مَرْأَتُه، وهي مَرَتُه.. والمرِئ: الرجل المستقيم في خَلْقه وخُلقه، والأمْرُ المُمْري: المُسْتَقِيْمُ.
وفي هذا المعنى إلى حسن خلق مريم واستقامتها، وهو ما يتفق مع قوله تعالى: {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين} [آل عمران: 42].
«المسيح»:
لم يختص بهذا الاسم إلا اثنين: المسيح عيسى ابن مريم.. والمسيح الدجال.
وتفسير معنى الاسم يؤخذ من هذا الاختصاص؛ لأن عيسى والدجال مخلوقان متقابلان، ولفظ «المسيح» يعني «التقابل».
فعيسى عليه السلام هو «فتنة الخير» التي تقابل فتنة الشر..
والدجال هو «فتنة الشر» التي تقابل فتنة الخير..
ولأجل أن قضية عيسى هي فتنة الخير، وأن الاعتصام بالله هو النجاة من الفتن جاء ذكر الاعتصام بالله بعد ذكر عيسى ابن مريم في سورة النساء.
ولذلك أيضًا جاء «كتاب الاعتصام» في صحيح البخاري بعد «كتاب الفتن».
ومن الدلائل على أن اللغة العربية لغة رسالية.. أن المعاني التي تدور حولها كلمة «المسيح» ومشتقاتها لا تخرج عن هذا الإطار الشرعي، كما في اسم «مريم».(1/445)
فالمَسْح: إِمرار اليد على الشيء، وإِزالة الأَثَر عنه.. ومسح الأَرضَ: أي ذرعها فقاسها بالذِّرَاع، والمسح في الشرع: إِمرار الماءِ على العضو، قال تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6].
ولفظ «المسيح» من الأضداد؛ أي: من الألفاظ التي تحتمل معنيين متناقضين، ولهذا أُطلق على عيسى ابن مريم عليه السلام، وعلى الدجال لعنه الله.
وهو لفظ عربي فصيح، يجوز أن يكون صيغة مبالغة من الفاعل وفعلها «مسح» ويجوز أن يكون مفعولًا بمعنى «ممسوح».
وقد قيل في معناه وجوهًا كثيرة، نذكر أهمها:
«مَسَحَه الله» أَيْ: خلقه خلقًا حسنًا مباركًا، ومسحهُ أَي: خلقه قبيحًا ملعونًا، فمِنَ الأَول يمكن اشتقاق المَسِيح عليه السلام، ومن الثاني اشتقاق المسيح الدجال عدوِّ الله.
«المسيح: بمعنى الماسح» لأَنه عليه السلام كان لا يمسح ذا عاهة إِلاَّ برئ.
«المسيح: بمعنى الذي يسيح في أَقطاع الأَرض كافَّة» وهو ما ينطبق على المسيحيين، فعيسى عليه السلام لم يكن يستقر في مكان(1)، والدجال سيجوب معظم الأرض.
وقيل المسيح لغة: «الذي مُسِحت عينه» فلا عين له ولا حاجب، والدجَّال أعور العين فهو كذلك.
«المسيح: الدِّرْهَم الأَطلس بلا نقش» قاله ابن فارس، وهو مناسب للأَعور الدجَّال، إِذْ أَحد شِقَّىْ وجهه ممسوح، وهو أَشوهُ الخَلْق.
«المسيح لغة: الصِّدِّيق، وكذلك الكذَّاب» فالمسيح عليه السلام صِدِّيق وأمُّه صديقة، والدجَّال أَكذب الخَلْق؛ لأَنه بَلَغ في الكذب مبلغًا لم يبلغهُ غيره، فقال: أَنا الله.
يقال «مسح فلان عُنُق فلان؛ أي: ضرب عنقه» قال تعالى: {فطفق مسحا بالسوق والأعناق} [ص: 33]، وهو ما ينطبق على المسيحيين، فالدجال سيضرب عنق من لا ينقاد له ويكفر به، وعيسى عليه السلام: ((لا يجد كافر ريح نفسه إلا مات))(2).
__________
(1) قال العلامة ابن حجر في فتح الباري: (المسيح مشتق من مَسَح الأرض؛ لأنه لم يكن يستقر في مكان).
(2) رواه البخاري في كتاب الأنبياء.(1/446)
«المسيح بمعنى الماسح» وهو القتَّال، يقال: مسح القوَم إِذا قتلَهم. وهو قريب من المعنى السابق.
«المسيح: الذوائب» وواحدها مَسِيحة، وهي ما نزل على الظهر من أطراف الشعر وآخره؛ كأَنهما سمّيا به لأَنهما يأْتيان في آخر الزمان.
«المَسْح: المَشْط والتزيين» والماسحة: الماشطة؛ كأَن الدجال سُمِّي به لأَنه يزين ظاهره ويموِّهه بالأَكاذيب والزخارف.
«الأَمسح: الذئب الأَزَلّ المسرع» كأَنَّ الدجال سُمِّي به تشبيها له بالذئب في خبثه وأَذاه وسرعة سيره في الأَرض، وعندما سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مدى سرعته في الأرض قال: ((كالغيث استدبرته الريح))(1)، ومن هذا المعنى أيضًا تثبت العلاقة بين الدجال والشيطان، باعتبار أن الشيطان ذئب الإنسان(2).
«المَسْحاء: الأَرض التي لا نبات فيها» وقال ابن شُميل: الأَرض الجرداءُ الكثيرة الحصى التي لا شجر بها ولا تُنبت، وكذلك المكان الأَمسح؛ كأَنه سُمِّي به لعدم خيره وعظم شره، وكثرة أَذاهُ وإِضراره، تشبيهًا بالمكان الخشن في قلَّة نباته وكثرة أَوعاره.
«المسيح والأَمسح: من به عيب في باطن فخذيه» وهو اصطكاك إِحداهما بالأخرى، سمِّي به الدجال لأَنه أفحج.
ويمكن أَن يكون «من المِسْح وهو الطريق المستقيم» لأَنه سالكها، قال الصغانىُّ: المُسُوح: الطرق الجادّة، الواحدة مِسْح.
«عيسى» يقول ابن فارس عن اسم عيسى: (عيس: العين والياء والسين كلمتان: إحداهما لونٌ أبيض مُشْرَبٌ، والأخرى عَسْب الفحل. قال الخليل: العَيَس والعِيسَة: لونٌ أبيضٌ مشربٌ صفاءً في ظلمةٍ خفيَّة. والعرب قد خصَّت بالعَيَس الإِبل العِرَاب البيضَ خاصَّة. والكلمة الأخرى العيْس: ماء الفحل. يقال: لا تأخُذْ على عَيْس جملِك أجرًا).
__________
(1) أخرجه مسلم (2937) عن النواس بن سمعان.
(2) يراجع معنى هذه المادة في كتاب «عندما ترعى الذئاب الغنم».(1/447)
وهذا التعريف يتفق لغة مع الاسم.. كما يتفق وصفًا مع عيسى، حيث كان عيسى -حسب وصف الرسول صلى الله عليه وسلم- أبيض بياضًا مختلطًا بحمرة.
وبالرجوع إلى مادة الاسم «العيس» نجد أن معناه: ماء الفحل، كما أن «البردن» ماء الفرس.. ولمَّا كان عيسى قد خُلِقَ من غير ماء فحل، فإنَّه قد سُمِّي اتفاقا مع فقه اللغة في التسمية..
فالعرب تُسَمِّي الشيء بعكس معناه، مثل قولهم: «صَامَت الأرض»: إذا رُوِيَت.. و«المفازة»: ويعنون بها الصحراء.. كما يقولون لِلَّديغ الذي لدغه العقرب: «سليم».. ويسمون الأفحج -مُعْوَجّ القدم: أحنف، وتعني مستقيم..
واسم عيسى مرتبط بهذه القاعدة، حيث سمي عيسى باسم الماء الذي يكون به الخلق؛ لأنه خلق بغير الماء الذي يكون به الخلق.
جاء في كتاب «معالم أساسية»: (إن كلمة عيسى فيها إشعار باللون الأبيض الذي تخالطه شقرة، وفيها أيضًا معنى الإنذار بقرب نهاية الزرع إذا خلا من الرطوبة وأصْفرَّ لونه ويَبُسَ. والمسيح عليه السلام فيه هاتين الصفتين:
فقد كان لونه أشقر «أبيض مشرب بصفرة».. كما أنه عليه السلام كان آخر أنبياء بني إسرائيل.
فكان لاسمه «عيسى» عليه السلام مَعْنًى مباشر وإنذار إلى يهود بني إسرائيل بانتهاء زرعهم، وانتقاله إلى زُرَّاع آخرين في أرض أخرى أكبر وأعم من منطقة فلسطين المحدودة، وبمجيء عيسى عليه السلام أعيست أنبياء بنو إسرائيل فكان عليه السلام آخرهم، حيث أعلم قومه بانتقال الملكوت والرسالة منهم إلى أمَّة أخرى، هي الأمَّة العربية وذلك من خلال ضربه لمثل الكرم والكرامين وصاحبه والمستأجرين)(1).
تناسب الصيغ:
لا يوجد ما هو أبلغ في الدلالة على دقة التناسب التعبيري بخصوص قضية عيسى عليه السلام في كتاب الله.. من تتبع سياقات ورود اسم: «المسيح عيسى ابن مريم» بصِيَغِه المختلفة..
__________
(1) بتصرف من كتاب: «معالم أساسية.. ضاعت من المسيحية» للعميد/جمال الشرقاوي.(1/448)
فقد أثبت القرآن الارتباط بين اسم المسيح عيسى ابن مريم وقضيته من خلال صيغة الاسم المذكور، والموضوع الذي يعالجه السياق الذي وردت فيه هذه الصيغة.
فعندما يكون السياق متعلقا باعتقاد اليهود -بني إسرائيل- في المسيح تأتي الصيغة المتعلقة بهذا الاعتقاد، وهي «عيسى ابن مريم»، حيث إنهم لا يؤمنون أنه المسيح أصلًا.
وعندما يكون السياق متعلقًا بالنصارى الذين غلوا فيه وادَّعوا له الألوهية تأتي الصيغة المتعلقة باعتقادهم فيه وهي «المسيح ابن مريم»، حيث إنهم لا يؤمنون لا بالاسم «عيسى» ولا ببشرية ونبوة صاحبه..
وعندما يكون السياق متعلقًا بالتصور الإسلامي عن المسيح -كنبيٍّ ورسولٍ من أولي العزم نَجَّاه الله من اليهود ورفعه إليه، وسيعود في آخر الزمان- تأتي صيغة الاسم الشخصي كاسم أي نبي «عيسى».
وعندما يتناول السياق «عيسى عليه السلام» كـ «إنسان» وُلد بصورة إعجازية من أنثى بلا ذكر، وسينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة كعلامة على قرب قيام الساعة.. تأتي الصيغة «ابن مريم»..
بقيت صيغتان أتت كل واحدة منهما ثلاث مرات.. لتخاطب في كل مرة أمَّةً من الأمم الثلاث..
وهما الصيغة الكاملة «المسيح عيسى ابن مريم».. وصيغة اللقب «المسيح»..
وهناك دلالات أخرى تفسِّر هذه القاعدة..
فعندما يشير القرآن إلى بشريته أو يذكره ضمن سياق الأنبياء والمرسلين.. يذكر صيغة الاسم الشخصي «عيسى».. وعندما يشير إلى ولادته الإعجازية ودلالتها يذكره بنسبه «ابن مريم»..
بينما ترتبط هذه الصيغة المركبة «عيسى ابن مريم» غالبًا بفحوى رسالته إلى اليهود، وبالبينات المثبتة للنبوة التي أقامت الحجَّة عليهم.(1/449)
وعندما يناقش القرآنُ قضيةَ نفي الألوهية عنه يشير إليه بلقبه ونسبه فقط «المسيح ابن مريم»، وذلك لتعلقه بالآيات التي أجراها الله على يديه، ومنها ولادته من غير أب، ومسحه للمرضى والعُمي والموتى.. وهي ذاتها الأمور التي كانت فتنة لمن غلوا فيه وادعوا له الألوهية.. وفي نفس الوقت يحذف اسمه الشخصي «عيسى» لعدم إيمانهم بالاسم..
وعندما يعرِّفه القرآن تعريفًا تامًّا.. يأتي باسمه ولقبه ونسبه «المسيح عيسى ابن مريم»..
ليس هذا فحسب؛ بل إن ترتيب ورود الصيغ ذاتها خلال كتاب الله.. له معنى منهجي في طرح القضية بصورة متكاملة محكمة..
ولا يتوقف الأمر عند ذلك.. بل إن هذه الصيغ ذاتها داخل إطار السورة الواحدة تشير إلى تعلقها بالسياق الذي تتناول السورة القضية من خلاله..
ومن الأمور اللافتة للنظر.. تساوي عدد مرات ورود اسم «آدم» واسم «عيسى» خمسةً وعشرين مرة مصداقًا لقوله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59].
وسوف نتناول فيما يلي كل صيغة ودلالتها من خلال الآيات التي وردت فيها:
«الصيغة التامة.. التعريف الكامل: المسيح عيسى ابن مريم» 3 مرات
{إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين} [آل عمران: 45].
هذا هو الموضع الأول على الإطلاق لورود هذه الصيغة، ومناسبته هنا: هو التعريف الكامل به عليه السلام، قبل خلقه عند بشارة مريم، ولا يؤمن بهذه الحقيقة إلا المسلمون..!
فهم وحدهم الذين يؤمنون:
بأنه «المسيح» صاحب الآيات والمعجزات.. الذي سيقتل الله به الدجال في آخر الزمان..
وهو «عيسى» عبدُ الله ورسولُه، وآخر أنبياء بني إسرائيل، جاءهم بالإنجيل والبينات..
وهو «ابن مريم» العابدة الطاهرة.. ذو الولادة الإعجازية..
ثم يأتي الموضع الثاني ليناقش اليهود.. الذين كفروا به ورمَوْا أمَّه الطَّاهرة بالزنا..(1/450)
{وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا} [النساء: 157].
ومعنى الصيغة هنا: هو التأكيد على الصفة الكاملة للمسيح، التي كفر بها اليهود..
فهو «المسيح».. الذي كانوا ينتظرونه، والذي أخبرهم عنه أنبياؤهم الذين سبقوه..
وهو «عيسى» الرسول الذي جاءهم بالبينات..
وهو «ابن مريم» الطاهرة البتول.. وليس ابن بغي كما زعموا -قاتلهم الله-..
وبإثبات هذه الصيغة للصفة الكاملة للمسيح والتي كفروا بها- استحقوا أن يستدرجهم الله بقضية التشبيه، واستحقوا الإثم الكامل على «محاولة» قتله.
ثم يأتي الموضع الثالث، ليعالج الطرف الآخر للقضية: النصارى الذين غلوا فيه وادَّعوا له الألوهية: {ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} [النساء: 171].
ومعنى الصيغة هنا: الحصر الكامل لصفته عليه السلام، وناسب ذلك كلمة: «إنما» التي تفيد الحصر والقصر..
فهو «المسيح».. الذي أجرى الله على يديه الآيات والمعجزات..
وهو «عيسى».. الإنسان الذي يأكل ويشرب..
وهو «ابن مريم».. الطاهرة البتول.. ذو الولادة الإعجازية..
وهو «رسول الله».. كغيره من الرسل.. وليس إلهًا.. ولا شبه إله..
وهو «كلمة الله.. ألقاها إلى مريم».. حيث قال سبحانه: «كن» فكان.. فكان عيسى بـ«كن».. وليس هو «كن» ذاتها..
وهو «روحٌ منه».. أي من الأرواح التي خلقها الله..
وهذا هو الوصف الكامل لعيسى.. والحد التام لقضيته.
«صيغة اللقب.. إثبات العبودية: المسيح» 3 مرات(1/451)
{لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} [النساء: 172].
هذا هو الموضع الأول لورود هذه الصيغة، ومناسبته هنا: نفي الاستكبار عن عيسى عليه السلام، وإثبات عبوديته عليه السلام.. وهو ما لا يؤمن به إلا المسلمون..!
{وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربى وربكم*إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} [المائدة: 72].
هذا هو الموضع الثاني، ومناسبته ذكر اللقب الذي يعبِّر عن الصفة التي قامت بها الحجة على اليهود، حيث كانوا ينتظرونه بصفته من جهة، وحيث أجرى الله على يديه الآيات والمعجزات: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30].
هذا هو الموضع الثالث والأخير لهذه الصيغة، ومناسبته: إثبات الصفة التي كانت منشأ غلو النَّصارى في عيسى وادعاء بُنُوَّتِه لله.. سبحانه وتعالى عمَّا يقول الظالمون..
وقد جاء في السنة ما يؤكد ذلك، فعن أبي سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في سياق وصفه لمشاهد القيامة: ((.. ثُمَّ يُدعى النصارى فيقال لهم: ما كنتم تعبدون..؟!
قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله.. فيقال لهم: كذبتم.. ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد..))(1)
«صيغة نفي الادعاء: الْمَسِيحُ ابن مَرْيَمَ» 5 مرات
اللافت للنظر في هذه الصيغة أنها ارتبطت بالفعل «قالوا» لحكاية قول النصارى.. وفي ذلك إثبات للصفة التي يؤمنون بها، وهي «المسيح».. صاحب المعجزات والآيات، و«ابن مريم» المولود بطريقة معجزة فريدة..
ولم تتضمن هذه الصيغة الاسم الشخصي في صورته الأصلية الآرامية «عيسى» والتي أثبتها القرآن ذو اللسان العربي المبين، تأكيدًا على أنهم لا يؤمنون أنه بشر.. وإشارةً إلى أنهم فقدوا هذا الاسم أيضًا..!
__________
(1) سبق تخريجه.(1/452)
{لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير} [المائدة: 17].
ويتناسب مع الصيغة في هذا الموضع التهديد الشديد الدالُّ على غضب الله على قائل هذا الكلام ومعتقده، كما يأتي حذف الاسم الشخصي لعيسى عليه السلام إثباتًا لبراءته من أي دور في هذا الادعاء وذاك المعتقد.. بينما ناداه الله باسمه الشخصي عندما سأله وأثبت براءته يوم القيامة..
ونلاحظ في هذا الموضع والذي يليه أن الحكم بالكفر قد تصدَّر الآية تنبيهًا على فداحة الادعاء: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} [المائدة: 72].
وبعد تكرار الحكم بكفر مُدَّعي ألوهية المسيح يأتي إثبات ما قاله المسيح فعلًا لبني إسرائيل، استكمالًا للتهديد الذي أصدره الله في الموضع السابق: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} [المائدة: 75].
وفي هذا الموضع يأتي نفي الادعاء بصورة منطقية، من خلال إثبات بشرية المسيح عليه السلام وأمه بذكر افتقارهما للطعام الذي يحفظ عليهما حياتهما، وفي نفس الوقت يحفظ لهما قدرهما عند الله -هو كرسول من رسله.. وهي كصدِّيقة- بما يتضمنه معنى الصدِّيقية الذي لا يصل إلى مقام النبوة والرسالة: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31].(1/453)
وفي هذا الموضع الأخير لهذه الصيغة يأتي تناول القضية بصورة تأصيلية، حيث أن شرك النصارى ليس سببه فتنتهم بالمسيح على وجه الخصوص، وإنما قابليتهم واستعدادهم الذاتي للغواية والضلال، بدليل عبادتهم للأحبار والرهبان.. ولذلك جاء ذكر المسيح بعد ذكر الأحبار والرهبان.. إنه الشرك المتغلغل في القلوب، والمهانة المتأصلة في النفوس..
ولا ننسى أن هؤلاء الأحبار والرهبان بكذبهم وتحريفهم.. هم السبب الأساسي لفتنة النصارى..
«صيغة البينات: عيسى ابن مَرْيَمَ» 13 مرة
وهذه الصيغة هي أكثر الصيغ ورودًا لتعلقها بتفسير الجانبين الأساسيين في قضية المسيح عليه السلام وهما: العبودية والرسالة.. ولكن من خلال قضية بني إسرائيل باعتباره آخر أنبيائهم.
ويلاحظ أن هذه الصيغة لا تحتوي على لقب «المسيح» الذي يدلُّ على معجزاته عليه السلام وعنوان رسالته.. وذلك لأنها مُتَعلِّقة بالمواضع التي ذُكر فيها بنو إسرائيل الذين لم يؤمنوا أنه المسيح أصلًا.
ولما كانت سورة البقرة هي أكثر السور تناولًا لبني إسرائيل باعتبارهم نموذجًا يقاس عليه في موقف الأمم من الرسل- جاء ذكر عيسى فيها في موضعين كمتمم لرسالة موسى وكآخر أنبياء بني إسرائيل.
ونلاحظ أن الله أجمل ذِكْرَ الأنبياء بين موسى وعيسى لكونهم جاءوا مجددين لشريعة موسى، بينما جاء عيسى عليه السلام بنسخ بعضها: {ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة: 87].
{تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} [البقرة: 253].(1/454)
وفي المواضع التالية بسورة المائدة يأتي تقرير نعم الله على عيسى وعلى أمِّه، ومنها أنَّه كفَّ عنه بني إسرائيل فلم يصل إليه أذاهم: {إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والأنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين} [المائدة: 110].
ثم يأتي ذكر المائدة التي كانت علامة مميزة لأتباع عيسى، ومعها ذكر الحواريين.. الفئة التي آمنت من بني إسرائيل كما سيأتي في سورة الصف: {إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} [المائدة: 112].
{قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين} [المائدة: 114].
وفي آخر موضع بسورة المائدة تأتي مساءلة الله لعيسى على رءوس الأشهاد، فيناديه سبحانه بالاسم الذي عرفه به قومه «بنو إسرائيل»: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب} [المائدة: 116].
وفي سورة مريم -التي كانت من الفئة المؤمنة من بني إسرائيل- يأتي هذا الموضع ضمن سياق موجَّه لهم: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون} [مريم: 34].
وقد ختم الله السياق بقول المسيح: {وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [مريم: 36].(1/455)
وإذا انتقلنا إلى سورة الأحزاب وجدنا سياقًا مثيرًا للتفكير: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا} [الأحزاب: 7].
والمراد بـ«الميثاق الأول» العهد الذي أُخذ منهم حين أُخرجوا في صورة الذر من صُلب آدم عليه الصلاة والسلام..
والمراد بـ«الميثاق الثاني» الوفاء بما التزموا من تبليغ الرسالة، وأن يصدق بعضهم بعضًا، وخصوصًا محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} [آل عمران: 81].
وهنا يبرز سؤال.. ما هو علاقة هذا السياق باليهود لتأتي الصيغة الخاصة بهم: «عِيسَى ابن مَرْيَمَ»..؟!
الحقيقة: أن هذه الآية أساسًا موجهة إلى اليهود الذين كانوا المحرِّض الأساسي وراء غزوة الأحزاب، التي جاءت السورة لتعالجها..(1/456)
يقول الإمام القرطبي عن غزوة الأحزاب: (كان سببُها: أن نفرًا من اليهود منهم كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وسلام بن أبي الحقيق وسلام بن مشكم وحُيَّي بن أخطب النضريون وهوذة بن قيس وأبو عمار من بني وائل، وهم كلهم يهود، هم الذين حزبوا الأحزاب وألبوا وجمعوا.. خرجوا في نفرٍ من بني النضير ونفرٍ من بني وائل فأتوا مكة، فدعوا إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وواعدوهم من أنفسهم بعونٍ من انتدب إلى ذلك؛ فأجابهم أهل مكة إلى ذلك، ثم خرج اليهود المذكورون إلى غطفان فدعوهم إلى مثل ذلك فأجابوهم؛ فخرجت قريش يقودهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري على فزارة، والحارث بن عوف المري على بني مرة، ومسعود بن رخيلة على أشجع. فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماعهم وخروجهم شاور أصحابه، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق فرضي رأيه)(1).
وبهذا الكلام يُفهم أن الآية تُذكِّر اليهود بالميثاق الذي أخذه الله على أنبيائهم: أن يؤمنوا بالرسول وينصروه.. {لتؤمنن به ولتنصرنه} فبدَّل هؤلاء كلام الله عز وجل، وحَرَّضوا المشركين على قتاله صلى الله عليه وسلم.
وبهذا نفهم لماذا جاءت الصيغة هنا خلاف المعهود في القرآن، عندما يأتي ذكر المسيح عليه السلام في سياق الأنبياء عمومًا(2) أو أولي العزم خصوصًا(3) حيث تأتي صيغة الاسم الشخصي فقط.. «عيسى».. ما عدا هذا الموضع..!
فدلَّ ذلك على عدم ضرورة أن يُذكر اليهود صراحةً ليكون النص مُتوَجِّها إليهم.
__________
(1) تفسير القرطبي (14/116).
(2) كما سيأتي في سياقات صيغة الاسم الشخصي «عيسى».
(3) كآية سورة الشورى (13).(1/457)
وممَّا يعضد هذا الاتجاه.. قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أخذ الله عز وجل مِنِّي الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم، وبَشَّر بي عيسى ابن مريم، ورأت أمي في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام))(1).
ثم ننتقل إلى سورة الحديد: {ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون} [الحديد: 27].
يقول الإمام ابن كثير: (يخبر تعالى أنه منذ بعث نوحًا عليه السلام لم يرسل بعده رسولًا ولا نبيًّا إلا من ذريته، وكذلك إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن، ولم يُنزل من السماء كتابًا ولا أرسل رسولًا ولا أوحى إلى بشر من بعده إلا وهو من سلالته، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب} حتى كان آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى ابن مريم الذي بشر من بعده بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما، ولهذا قال تعالى: {ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل} وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه)..
والعلاقة بين الرهبانية وأمَّة بني إسرائيل تم تناولها في باب «تصحيح التحريف»..
ومن هذا التفسير وتلك العلاقة تتضح علاقة السياق ببني إسرائيل.
وفي آخر موضعين في كتاب الله يأتي ذكر الارتباط بين رسالة عيسى ورسالة محمد عليهما الصلاة والسلام، والقاسم المشترك بينهما: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [الصف: 6].
__________
(1) رواه الطبراني وأبو نعيم في الدلائل وابن مردويه.(1/458)
{ياأيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} [الصف: 14].
فكما جاء عيسى بني إسرائيل بالإنجيل مصدقًا لما بين يديه من التوراة.. جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن مصدقًا لما بين يديه من التوراة والإنجيل..
وكما بشَّر عيسى اليهود برسالة خاتم المرسلين.. أنذرهم محمد صلى الله عليه وسلم بعودة عيسى إليهم(1)..
وكما كفر اليهود بعيسى وقالوا عنه: ساحر مبين.. كفروا بمحمد وقالوا عنه: ساحر مبين..
وكما حارب اليهود عيسى وحاولوا قتله.. حاربوا محمدًا صلى الله عليه وسلم وحاولوا قتله..
وكما آمنت طائفة صغيرة من بني إسرائيل بعيسى وكانوا حوارييه أي: أنصاره.. آمنت طائفة صغيرة من قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم وكانوا أنصاره.. ومنهم الزبير..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لكل نبيٍّ حواريًّا، وإن حواريِّ الزبير بن العوام))(2).
«صيغة النبوة: عيسى» 9 مرات
ينطلق التصور الإسلامي عن المسيح عليه السلام من كونه نبي من أنبياء الله، ورسول من أولي العزم؛ لذلك حينما يذكره القرآن في سياق التصور الإسلامي يأتي باسمه الشخصي «عيسى».. فتبدأ النصوص بالأمر: «قُولُوا» و«قُلْ» الذي يعني الإقرار بالتصور الحق عنه: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [البقرة: 136].
__________
(1) عن الحسن مرسلًا قال: قال رسول الله لليهود: ((إن عيسى لم يمت.. وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة)) أخرجه ابن كثير في تفسير آل عمران.
(2) أخرجه البخاري (1047، 3514، 3887) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.(1/459)
{قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [آل عمران: 84].
يقول الإمام ابن كثير: (أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مُفَصَّلا وما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملًا، ونص على أعيان من الرسل، وأجمل ذكر بقية الأنبياء، وألا يفرقوا بين أحد منهم، بل يؤمنوا بهم كلهم، ولا يكونوا كمن قال الله فيهم: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا*أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا} [النساء: 150-151]).
وهناك صيغة أخرى لهذا الإقرار، وهي إثبات وحي الله لهؤلاء الأنبياء: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا} [النساء: 163].
{وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم*ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين*وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين} [الأنعام: 83-85].
{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبى إليه من يشاء ويهدى إليه من ينيب} [الشورى: 13].
فجميع النصوص التي ورد فيها ذكر «عيسى» تحدِّد التصور الإسلامي عنه من خلال حقيقة الوحي والإقرار به، مثبتةً لبشريته ونبوته.
لكن سورة آل عمران انفردت بثلاثة مواضع لم يأت ذكر «عيسى» فيها بين الأنبياء:(1/460)
{فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون} [آل عمران: 52].
{إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون} [آل عمران: 55].
{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59].
وهذه الآيات تتضمن الاعتقاد الذي ينفرد به المسلمون في المسيح عليه السلام.. فهم وحدهم الذين يعتقدون أن الحواريين آمنوا به نبيًّا ورسولًا.. وهم وحدهم الذين يعتقدون أن الله نجاه من مكر اليهود ورفعه إليه.. وهم وحدهم الذين يعتقدون أن الذين اتبعوه ممن جاء بعده -وهم المسلمون- سيظلون ظاهرين على أعدائهم بالحجة والبيان، والسيف والسنان.. وأخيرًا! هم وحدهم الذين يعتقدون أن خلق عيسى مشابه لخلق آدم، من حيث تَوَجُّه الأمر الإلهي «كن» إليه..
بينما يعتقد اليهود المغضوب عليهم أنه ابن زنا.. ويعتقد النصارى الضالون أنه ابن الله..!! تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا..
{ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون} [الزخرف: 63].
تأتي هذه الآية في سياق الجدل بين كفار قريش وبين الرسول صلى الله عليه وسلم بخصوص عيسى ابن مريم.
«صيغة النسب الإنساني: ابن مريم» مرتين
وهذه الصيغة تركِّز على عيسى الإنسان.. المولود ولادة إعجازيَّة.. بصفته البشرية، دون صفة النبوة، وقد وردت في سياقين:
أحدهما: يتناول العلاقة الإنسانية بينه وبين أمه مريم..
والثاني: يناقش مشركي قريش..
{وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} [المؤمنون: 50].(1/461)
لما كان موضوع سورة المؤمنون هو«الحقيقة الإنسانية للإيمان» جاء ذكر الآية بالمعنى الإنساني، حيث ذكرت العلاقة بين عيسى ومريم بالصفة الإنسانية {ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ}.
كما ذكرت الصفة الإنسانية في رعاية الله لهما: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين}.. {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون} [الزخرف: 57].
وهذا هو الموضع الثاني لهذه الصيغة.. وقد ورد في تفسير الطبري: قال مجاهد: (إن قريشًا قالت: إن محمدًا يريد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى؛ فأنزل الله هذه الآية).
فناسب هاهنا ذكر عيسى بالصفة الإنسانية، حيث لا يؤمن مشركي قريش بنبوته، وليس عندهم خبرٌ عن آياته ومعجزاته.. ولذلك جاء بعقبها: {وقالوا أألهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون*إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل}
{أم هو}.. أي محمد صلى الله عليه وسلم..
ومما يؤكِّد هذا المعنى أمران:
الأول: أن الله قال بعقبها: {وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم} وهي الآية الوحيدة التي جاء فيها خبر نزول المسيح آخر الزمان، كعلامة من علامات الساعة، ومن المعلوم أنه عليه السلام سينزل بصفته الإنسانية، لا كنبيٍّ، لتحقيق معنى أن رسول الله هو خاتم النبيين.
الثاني: أننا إذا انتقلنا إلى السُّنة.. وجدنا أن الأحاديث التي ذكرت نزول عيسى في آخر الزمان في هذه الأمة ذكرته بهذه الصيغة.. مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((والله لينزلن ابن مريم حكما عادلًا، فَلَيَكْسِرَنَّ الصليب، ولَيَقْتُلَنَّ الخنزير، ولَيَضَعَنَّ الجزية، ولَتُتْرَكَنَّ القِلاص فلا يُسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، ولَيَدْعُونَّ إلى المال فلا يقبله أحد))(1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجًّا أو معتمرًا أو ليثنينهما))(2).
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.(1/462)
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم))(1).
الموضوعية
الدقة الموضوعية:
بعد طرح التصور السلفي للهيمنة القرآنية من خلال حقيقة الحجية القرآنية الزمنية والتفصيلية، والموضوعية القرآنية بتناسبها اللفظي والتعبيري، نأتي إلى الموضوعية القرآنية التي تعالج قضية عيسى ابن مريم من خلال جوانبها الأساسية..
حيث كان عيسى عليه السلام محورًا لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم..
باعتباره آية في خلقه.. وباعتباره مثلًا لبني إسرائيل.. وباعتباره مبشرًا برسول الله صلى الله عليه وسلم.. وباعتباره علامة على الساعة.
كما كان عيسى عليه السلام مضمونًا للقضايا القرآنية باعتبار موقف اليهود الكافر به، وموقف النصارى المحرِّف له.
وجوهر قضية عيسى ابن مريم هو الفرقان بين الخالق والمخلوق، ونفي الزعم بألوهية البشر..
العبودية:
قال الله في عيسى: {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل} [الزخرف: 59].
وقد جاءت الآية بأسلوب الحصر والقصر، الذي يفيد قمة اليقين.
وقال سبحانه: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} [النساء: 172].
وقد أثبت التصور الإسلامي عبودية عيسى ابن مريم بمنهجية كاملة.. فمنذ بداية خلقه وولادته جاء الإقرار باللسان: {قال إني عبد الله*آتاني الكتاب وجعلني نبيا} فالمقام لا يتجاوز النبوة المستمدة من الله..
{وجعلني مباركا أين ما كنت}.. أي أن الله هو الذي جعلني ولم يكن ذلك من عند نفسي.
وفيه قول المفسرين الذي أورده الطبري: (آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر).
{وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا} والوصية بالصلاة والزكاة تعني تمام العبودية؛ لأن الجمع بين الصلاة والزكاة يحقق الجمع بين بذل النفس وبذل المال، كما قال عز وجل: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} [البقرة: 3].
__________
(1) سبق تخريجه.(1/463)
ومن العبودية في البداية إلى العبودية في النهاية.. حيث ((ينزل عيسى ابن مريم عند صلاة الفجر)) وتكون أول أعماله صلاة الفجر خلف المهدي..
ثم يحج بيت الله الحرام.. قال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده.. لَيُهِلَّن ابن مريم بفَجِّ الرَّوْحاء حاجًّا أو معتمرا أو ليثنينهما))(1).
ليكتمل التصور بمشهد الإقرار الكامل بالعبودية يوم القيامة على رءوس الأشهاد(2)..
وإثبات عبودية مريم يؤكد عبودية ابنها وخضوعه لله.. وبِرُّهُ بأُمِّه يؤكد عبوديته كذلك؛ لأن برَّ الآباء يمنع من التكبُّر والجبروت..
ومن هنا كان قول الله عز وجل عن يحيى: {وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا} وقوله سبحانه عن عيسى: {وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا*والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} [مريم: 32-33].
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) يراجع الهامش بالباب الأول، وكذلك مبحث: المساءلة يوم القيامة.(1/464)
ولقد وضحت هذه القضية في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَا أَصَابَ أحدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَال: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ..)) إثبات عبودية الذات.. ((وَابْنُ عَبْدِكَ)).. تعميق للعبودية في أصل الذات.. الأب ((وَابْنُ أَمَتِكَ)).. تعميق أكبر للعبودية في أصل العلاقة بالأم ((نَاصِيَتِي بِيَدِكَ)).. تعميق أكبر للعبودية من خلال معنى الخضوع لأمر الله.. ((مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ)) تعميق أكبر للعبودية من خلال معنى الرضا بقدر الله.. ((عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ)) تعميق أكبر للعبودية من خلال معنى التسليم لله قدرًا وشرعًا.. ((أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسم هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أحدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ- أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجِلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي..إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا))..
قَالَ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَعَلَّمُهَا؟
فَقَالَ: ((بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا))(1).
والعبودية في حق الأنبياء تعني اجتماع عنصرين أساسيين فيهم: البشرية، والنبوة..
«البشرية»:
لقد كان إثبات بشرية عيسى أحد الأسس القرآنية الأصيلة في إطار قضية نفي الولد عن الله، وكانت هذه القضية هي أساس التوحيد الذي تجتمع له كل الدلائل المثبتة لوحدانية الله تبارك وتعالى، وسياق سورة المؤمنون يبين هذا المعنى؛ لأنها تعالج الطبيعة الإنسانية للإيمان..
فتُبْطِلُ قضية ادعاء الولد من خلال مناقشة طبيعة البشر ذاتها..
__________
(1) سبق تخريجه.(1/465)
ولذلك يأتي ذكر عيسى بصفته الإنسانية هو وأمه باحتياجهما الإنساني وافتقارهما إلى الله: {وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين*ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} [المؤمنون: 50-51].
ولذلك جاءت بعدها آيات التعريف بالله، لبيان الفرقان بين مقام الله ومقام البشر: {وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون*وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون*وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون} [المؤمنون: 78-80].
ولكنهم يقولون قول من قبلهم من الكافرين دون تفكر: {بل قالوا مثل ما قال الأولون*قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون*لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين} [المؤمنون: 81-83].
ولذلك تضع الآيات الدلائل الكونية على وحدانية الله أمام عقولهم؛ لتقر العقول بتلك الدلائل..
{قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون*سيقولون لله قل أفلا تذكرون*قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم*سيقولون لله قل أفلا تتقون*قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون*سيقولون لله قل فأنى تسحرون} [المؤمنون: 84-89].
ومع إقرارهم بكل ما سبق.. إلا أنهم ينكرون مقتضاه.. ويكذبون على الله: {بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون} [المؤمنون: 90].
ثم تتقرر الحقيقة التي تجتمع الآيات على إثباتها؛ لتكون هذه الحقيقة هي نفي الولد والشريك عن الله: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون*عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون} [المؤمنون: 91-92].(1/466)
ثم تأتي الآيات التي تفسر مقام الرسول صلى الله عليه وسلم أمام ربه، حيث أن هذا المقام هو جوهر معالجة قضية عيسى ابن مريم: {قل رب إما تريني ما يوعدون*رب فلا تجعلني في القوم الظالمين*وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون*ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون*وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين*وأعوذ بك رب أن يحضرون} [المؤمنون: 93-98].
«النبوة»:
لقد كان مقام النبوة دائمًا موضع الخلط بين مقام الألوهية والعبودية، وذلك أن معجزات الأنبياء وآيات صدقهم كانت خرقًا للنواميس الكونية..
ومع فَتْرَة الرسل، ووسوسة الشياطين، وميل النفوس الآسنة إلى الوثنية وتجسيد الغيب ورؤية المحجوب.. خلع بعض الناس الألوهية على بعض المرسلين، مساوين بين من وَضَعَ الناموس، ومن خُرِقَ له الناموس..
ولذلك جاءت الآيات والسور التي تناقش بدعة ادعاء الولد بالإثبات المطلق لعبودية الأنبياء، مستدلة بما تراه العيون وما استقر في القلوب من حقائق الناموس..
فنجد سورة الكهف مثلًا قد بدأت بإنذار أصحاب ادعاء الولد لله: {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا} [4].
وانتهت بإثبات بشرية الرسول والفصل بين مقام النبوة والألوهية: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [110].
ولما كانت فواتح الكهف وخواتيمها حرزٌ من الدجال.. كانت فتنة الدجال تفسيرًا للخلط بين مقام النبوة والألوهية، حيث بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الدجال سيدعي النبوة ثمَّ الألوهية، فقال: ((إني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه قبلي نبي..
إنه يبدأ فيقول: أنا نبي.. ولا نبي بعدي، ثم يثني فيقول: أنا ربكم.. ولا ترون ربكم حتى تموتوا، وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور..))(1).
__________
(1) رواه الطبراني والدارقطني وصحح الألباني نحوه في صحيح الجامع (7875).(1/467)
ومن هنا تأتي آيات سورة مريم لتقرر عبودية الأنبياء: {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} [مريم: 58].
ولما كان عيسى ابن مريم هو النبي الذي ادَّعى له النصارى الألوهية، كان إثبات النبوة لعيسى مقابلا مناسبًا لهذا الادعاء: {ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} [النساء: 171].
يقول الإمام ابن كثير: ( ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى، فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيز النبوة.. إلى أن اتخذوه إلهًا من دون الله يعبدونه كما يعبدونه. بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه، فادعوا فيهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقًّا أو باطلًا، أو ضلالًا أو رشادًا، أو صحيحًا أو كذبًا؛ ولهذا قال الله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} الآية. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم قال: زعم الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم؛ فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله))(1).
ومن أهمِّ الدلائل على نبوة عيسى عليه السلام أنه منذ أن حملت به أمه حتى سن الأربعين لم تظهر له أي معجزة إلا معجزة الكلام في المهد التي أعلن فيها عبوديته ونبوته..
وهذا دليل على ارتباط معجزات عيسى بحقيقة النبوة التي بدأ معها ظهور هذه المعجزات..
__________
(1) سبق تخريجه.(1/468)
وقد ثبتت لعيسى خصائص النبوة كما ثبتت لغيره من الأنبياء:
ومنها: «خاتم النبوة» عن جابر بن سَمُرَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ خَاتَمًا فِي ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَأَنَّهُ بَيْضَةُ حَمَامٍ(1).
وقد ثبت من حديث إسلام سلمان الفارسي أن الخاتم ثابتٌ عند النصارى لكل الأنبياء، وذلك في قول الراهب له: به علامات لا تخفى: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة.
وفي الكتاب الذي بين يدي النصارى ما يثبت هذه الحقيقة..
فقد جاء في كتاب يوحنا: (الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: أَنتُم تَطلُبونَني، لا لِأَنَّكم رَأَيتُمُ الآيات: بلِ لِأَنَّكم أَكَلتُمُ الخُبزَ وشَبِعتُم. لا تَعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَفْنى.. بلِ اعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَبْقى فَيَصيرُ حَياةً أَبَدِيَّة ذاكَ الَّذي يُعطيكموهُ ابن الإِنسان.. فهوَ الَّذي ثبَّتَه الآبُ اللهُ نَفْسُه، بِخَتْمِه) [يو: 26].
وقد حار علماء النصارى وداروا دون أن يفسروا الجملة الأخيرة، والتي ليس لها إلا معنى واحد، وهو أن معجزة الطعام، وكذلك خاتم النبوة على ظهر عيسى قد أثبتا نبوته وتعاليم رسالته التي هي الطعام والزاد للحياة الأبدية..
وهذا نظير قوله سبحانه في القرآن: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} [البقرة: 197].
وقوله سبحانه: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون} [الأعراف: 26].
ومنها «الزهد في الدنيا» وقد اشتهر المسيح عليه السلام بزهده في الدنيا.. فقد جاء عن أنس بن مالك: كَانَ طَعَامُ عِيسَى الْبَاقِلَّاءَ حَتَّى رُفِعَ، وَلَمْ يَأْكُلْ عِيسَى شَيْئًا غَيَّرَتْهُ النَّارُ حَتَّى رُفِعَ(2)..
__________
(1) أخرجه مسلم (2344).
(2) رواه ابن الأعرابي في معجمه برقم (1017).(1/469)
وكذلك روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبيت الليالي المتتابعة طاويًا وأهله لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير(1)..
ومنها «أنَّهم يبعثون لسن الأربعين» عن عبد الله بن عباس: بُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم -أو أُنزل عليه القرآن- وهو ابن أربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين. قال: فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاثٍ وستين(2).
يقول الإمام ابن القيم في رائعته «زاد المعاد»: (فصلٌ في مبعثه صلى الله عليه وسلم وأول ما نزل عليه: بعثه الله على رأس أربعين وهي سن الكمال، قيل: ولها تبعث الرسل، وأما ما يذكر عن المسيح أنه رُفع إلى السماء وله ثلاث وثلاثون سنة فهذا لا يعرف له أثرٌ متصلٌ يجب المصير إليه).
ويقول العلامة ابن حجر: (وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع في شهر مولده وهو ربيع الأول، بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحي اليقظة في رمضان)(3).
إذن فالأصل الإسلامي يقرر أن الأنبياء –ومنهم عيسى– يبعثون لِسِنِّ الأربعين..
وإذا حققنا فيما عند النصارى وجدنا أن الرأي الأقرب إلى الصواب يوافق هذا الأصل..
يحكي «ول ديورانت» عن التخبط الشنيع الذي أصاب علماء المسيحية عند محاولة تحديد التاريخ الصحيح لولادة المسيح عليه السلام فيقول: (يحدد متَّى ولوقا ميلاد المسيح في الأيام التي كان فيها هيرودس ملكًا على بلاد اليهود-أي قبل العام الثالث ق.م.
على أن لوقا يقول عن يسوع إنه كان «حوالي الثلاثين من العمر» حين عمَّده يوحنا في السنة الخامسة عشرة من حكم تيبيريوس، أي في عام 28-29م..
وهذا يجعل ميلاد المسيح في عام 2-1 ق.م.
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/342).
(2) رواه الإمام البخاري في الجامع الصحيح (3851) والإمام أحمد (3/356) واللفظ له، بتحقيق الشيخ أحمد شاكر.
(3) فتح الباري (1/27).(1/470)
ويضيف لوقا إلى هذا قوله: وفي تلك الأيام صدر مرسوم قيصر أغسطس يقضي بأن تفرض ضريبة على العالم كله... حين كان كويرنيوس Quirinius واليًا على سوريا.
والمعروف أن كويرنيوس كان حاكمًا لسوريا بين عامي 6-12م؛ ويذكر يوسيفوس أنه أجرى إحصاء في بلاد اليهود، ولكنه يقول: إن هذا الإحصاء كان في عام 6-7م، ولسنا نجد ذكرًا لهذا الإحصاء إلا هذه الإشارة. ويذكر ترتليان إحصاء لبلاد اليهود قام به سترنينس حاكم سوريا في عام 8-7 ق.م.
فإذا كان هذا هو الإحصاء الذي يشير إليه لوقا فإن ميلاد المسيح يجب أن يؤرخ قبل عام 6 ق.م. ولسنا نعرف اليوم الذي وُلِدَ فيه بالتحديد).
وهذا الرأي الأخير هو الأقرب للصواب، وبحساب الفرق بين السنة في التقويم الشمسي والتقويم القمري الذي كان المسيح وقومه يعملون به –وكذلك كل الأنبياء(1)- تكتمل السنة الباقية، ليكون عمر المسيح عند بعثته 40 عامًا.
ولسنا معنيين بتحقيق التاريخ الصحيح وسط هذه التخرصات والأهواء المتضاربة، والتي لن نجد بينها رواية واحدة لها سندٌ معروف، طبقًا للمنهج العملي الذي علمنا الإسلام إياه..
ومنها «أنَّ لهم أصحابًا وحواريين» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويتقيدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل))(2).
وقال عز وجل: {ياأيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} [الصف: 14].
__________
(1) راجع فقرة التقويم القمري: الباب الرابع-تصحيح التحريف.
(2) أخرجه ابن حبان (14/72) عن ابن مسعود.(1/471)
ومنها: «أنَّهم يُبتَلَوْن ثم ينصرهم الله» ولقد كانت سيرة المسيح كما أثبتتها المصادر السلفية والمسيحية على السواء.. سيرة نبيٍّ يبلِّغ دعوته، ويفر بدينه، وتجتمع فيها كل سنن الأنبياء..
رُوِي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ((أحب شيء إلى الله تعالى الغرباء الفرارون بدينهم.. يبعثهم الله يوم القيامة مع عيسى ابن مريم))(1).
كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء..؟ قال: النُّزَّاع من القبائل))(2) والنُّزَّاعُ من القبائل هم الفارون بدينهم المطاردون من قبائلهم..
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((طوبى للغرباء.. أناس صالحون في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم))(3).
والذي يقرأ ما ورد عن المسيح في كتب النصارى يجد تكرارًا عجيبًا لكلمة «طوبى» في كلامه..
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/25) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(2) أخرجه أحمد (1/389)، وابن ماجه (2/1320)، والدارمي (2/402) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(3) أخرجه أحمد (1/389) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.(1/472)
وعلى سبيل المثال ما جاء في كتاب متى على لسان المسيح عليه السلام: (طوبى لِفُقراءِ الرُّوح فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات، طوبى لِلوُدَعاء فإِنَّهم يرِثونَ الأَرض، طوبى لِلْمَحزُونين فإِنَّهم يُعَزَّون، طوبى لِلْجياعِ والعِطاشِ إِلى البرّ فإِنَّهم يُشبَعون، طوبى لِلرُّحَماء فإِنَّهم يُرْحَمون، طوبى لأَطهارِ القُلوب فإِنَّهم يُشاهِدونَ الله، طوبى لِلسَّاعينَ إِلى السَّلام فإِنَّهم أَبناءَ اللهِ يُدعَون، طوبى لِلمُضطَهَدينَ على البِرّ فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات، طوبى لكم إِذا شَتَموكم واضْطَهدوكم وافْتَرَوْا علَيكم كُلَّ كَذِبٍ مِن أَجلي، اِفَرحوا وابْتَهِجوا: إِنَّ أَجرَكم في السَّمَواتِ عظيم، فهكذا اضْطَهدوا الأَنبِياءَ مِن قَبْلِكم)..
وقد أكَّد النبيِّ صلى الله عليه وسلم على نفس المعنى بقوله: ((طوبى لعيش بعد المسيح، يُؤذَن للسماء في القطر، ويُؤذَن للأرض في النبات، حتى لو بذرت حبك على الصفا لنبت، وحتى يمر الرجل على الأسد فلا يضره، ويطأ على الحية فلا تضره، ولا تشاحن، ولا تحاسد، ولا تباغض)).
وطوبى هي ((شجرة في الجنة))(1)، والإيواء إليها من الغرباء في الجنة يشبه إيواء الغريب إلى ظل شجرة في الدنيا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما لي وللدنيا..! ما أنا في الدنيا إلا كراكب.. استظل تحت شجرة ثم راح وتركها))(2).
ومن هذا المعنى.. تثبت العلاقة بين سيرة المسيح، والفرار بالدين.. وطوبى..!
«التفسير الجامع للبشرية والنبوة»:
__________
(1) قال ?: ((طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها)) رواه الإمام أحمد وابن حبان وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3918).
(2) أخرجه أبو يعلى في مسنده (9/148)، والبزار في مسنده (4/337).(1/473)
لمَّا كان الموضوع الأساسي في سورة الأنبياء هو معالجة مقام النبوة، وكيف أنه مقام بشري يفتقر فيه صاحبه إلى الله سبحانه وتعالى؛ جاء ذكر المواقف التي ثبت فيها هذا الافتقار: إبراهيم ونجاته من النار، وموسى مع فرعون، ونوح مع قومه، ويونس في بطن الحوت، وأيوب مع المرض، وزكريا مع العقم.. إلى آخر الأنبياء.. ثم يأتي ذكر عيسى..
فتبدأ الآيات بتقرير الحقيقة الكونية العامة: وهي عبودية جميع الكائنات لله سبحانه: {وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون*يسبحون الليل والنهار لا يفترون*أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون} [الأنبياء: 19-21].
والمقصود بـ {من عنده} هم الملائكة، وهم المقياس المطلق لمقام العبودية الذي يقاس عليه أي مقام..
ولذلك كان إثبات عبودية عيسى مقترنا بعبودية الملائكة في قول الله: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} [النساء: 172].
وهذا النظام الكوني.. لا تنشئه إلا إرادة واحدة وقدرة واحدة وإله واحد: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون} [الأنبياء: 22].
وإذا كان الكون كله بترتيبه ونظامه مثبتًا للإرادة الإلهية الواحدة، فإن الله لم ينشئ هذا النظام ليخضع له سبحانه.. بل إن إرادة الله التي كان بها النظام.. هي فوق النظام..!
ومن هنا تأتي الأفعال الإلهية التي تخرج عن هذا النظام، لتدل كذلك على طلاقة المشيئة الإلهية، {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} [الأنبياء: 23]، ومن هذه الأفعال الإلهية: خلق عيسى من غير أب..(1/474)
فالتفكير في أفعال الله غير العادية يجب أن يكون في إطار الإيمان بوحدانية الله، وأن لا يكون سببًا في ابتداع أي اعتقادات وثنية من غير برهان، ولذلك جاءت الآية التي بعدها: {أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون} [الأنبياء: 24].
أمَّا اتخاذ آلهة من دون الله.. فهو الخروج السافر على ناموس الوحي المنزَّل على جميع الأنبياء، ولهذا جاءت الآيات التي بعدها: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25].
ولما كانت الآيات تعالج مشكلة اتخاذ آلهة من دون الله بسبب أفعال الله غير العادية كانت بدعة اتخاذ الولد هي البدعة التي اجتمعت فيها أطراف المفهوم الذي تعالجه الآيات: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون} [الأنبياء: 26].
والعباد المكرمون هنا هم الملائكة، ولذلك أثبتت الآيات عبوديتهم: {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون*يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} [الأنبياء: 27-28] فالله يُثبت عبودية جميع الأنبياء ومنهم عيسى.
وبعد أن يذكر الله آياته في الكون تبدأ الآيات في ذكر مريم باعتبارها أم عيسى.. الآية الكونية، فتثبت العبودية من خلال هذا الارتباط، حتى أن هذه العلاقة تبلغ حدًّا يصبح فيه «ابن مريم» تعبيرًا كاملًا عن عيسى ذاته، ليثبُت بذلك أن وجود عيسى بذاته وحقيقته لا يخرج عن أمه، فتذكر الأنبياء بأسمائهم: إبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذا الكفل وذا النون وزكريا ويحيي..(1/475)
ثم تذكر عيسى ضمن الأنبياء بذكر أمه، وذلك في قول الله عز وجل: {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين*ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين*ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين*ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم*وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين*وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين*وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين*وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين*وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين} [الأنبياء: 84-90].
حتى إذا جاء ذكر عيسى قال الله سبحانه: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين} [الأنبياء: 91]، وفي إطار هذا المعنى كانت مريم هي الآية، ومعها ابنها يشاركها معنى الآية.
وبعد الإثبات الموضوعي لعبودية عيسي وبشريته ونبوته تأتي الموضوعية المثبتة لاستحالة ألوهيته.
عيسى وفرعون:
ومن أهم الأمثلة الدالة على الفرقان بين الخالق والمخلوق، ونفي الزعم بألوهية البشر: الارتباط الموضوعي في القرآن بين قضية عيسى وقصة فرعون.
فقد تكرر ذكر فرعون مع بدعة ادعاء الولد في عدة مواضع من القرآن، منها ما جاء في سورة آل عمران، وسورة يونس، وسورة الإسراء، وسورة المؤمنون، وسورة الزخرف..
وكانت المناسبة في ذلك.. أن كِلا الموضوعين مثالٌ للخلط بين مقام الألوهية ومقام الخلق..
وسوف نتناول هنا على وجه التفصيل سورتي الزخرف والإسراء..(1/476)
ففي سورة الزخرف قال الله عز وجل: {ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون*أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين*فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين*فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين*فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين*فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين} [الزخرف: 51-56].
ولما كان الزخرف من الواقع.. كان خطاب فرعون هروبًا من الحق في متاهات الواقع، فيقوم الخطاب على المسلمات الواقعية لتحل محل مسلمات الحق، فيكون أول ما قاله: هو نداؤه في قومه، والكثرة لها رونق عند النداء، وأثر في العقول، وتلك طبيعة العقل الجماعي الباطل الذي يعتبر الجمع في ذاته معيارًا للحق..! {أليس لي ملك مصر}.
وهكذا يستمد الشرعية لحكمه من استقرار وضعه.. {وهذه الأنهار تجري من تحتي}.
وحركة الأنهار من تحته تساهم مساهمة ضخمة في تأكيد معنى السيادة والاستقرار.. {أفلا تبصرون}.
تضليل.. واستفزاز لقبول الضلال.. {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين}.
ولا بد أن المقارنة ستكون لصالحه عندهم؛ لأنه ملكهم ورمز حياتهم ومثال قوتهم.. وهذا ما فعله فيهم وبهم.
وبعد أن ذكرت الآيات زخرف القول الذي قاله فرعون لِيُصَدِّقَ الناس ادعاءه الألوهية، ذكرت زخرف القول الذي قاله كفار قريش بخصوص عيسى: {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون*وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون} [الزخرف: 57-58].
إن المناسبة بين نداء فرعون في قومه وموضوع عيسى تكمن في أنَّ زخرف القول الذي حاول به فرعون إقناع الناس بادعائه للألوهية، هو نفس الزخرف الذي يحاول به أحبار النصارى ورهبانهم إقناع الناس بادِّعائهم ألوهية عيسى.(1/477)
وكما حسمت الآيات قضية فرعون بإغراقه أمام أعين الناس، حسمت قضية عيسى بقول الله سبحانه: {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل*ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون*وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم} [الزخرف: 59-61].
فكان كلٌّ من عيسى وفرعون مثلا لبني إسرائيل في الابتداء.. ثم للبشر جميعًا في الانتهاء.
وفي سورة الإسراء كان الفرقان بين الخالق والمخلوق من زاوية مختلفة عن سورة الزخرف.. يقول الله عز وجل: {قل لو أنتم تملكون خزآئن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا} [الإسراء: 100].
هذه الآية تناقش الآثار الناشئة عن الخلط بين مقام الألوهية ومقام العبودية، فلو أن الإنسان يملك خزائن رحمة الله التي لا تنفد.. لأدركه الشح وأمسك الرحمة خشية الإنفاق..!
فالإنسان بطبيعته وتكوينه.. شحيحٌ يخاف الفقر، فلا يمكن أن يكون إلهًا..!
ومن هذا النموذح النفسي إلى ذاك النموذج الشخصي المتمثل في فرعون، الذي ادَّعى لنفسه مقام الألوهية رغم الآيات التي جاءه بها موسى، ومن أجل مواجهة هذا الخلط.. كانت هذه الآيات: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا*قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصآئر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا} [الإسراء: 101-102].
ويتقرر الفرقان بين مقام الله ومقام الخلق بإغراق من يدعي لنفسه الألوهية.. {فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا*وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا} [الإسراء: 103-104].
ويتقرر الفرقان بين مقام الله ومقام الخلق بالحق والنبي المبشر المنذر.. {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا*وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا} [الإسراء: 105-106].(1/478)
ويتقرر الفرقان بتقرير إيمان الذين أوتو العلم من قبله وإقرارهم العملي بالسجود لله: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا} [الإسراء: 107].
وإقرارهم القولي بالتسبيح والتنزيه لله.. {ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا} [الإسراء: 108].
ويتحقق كمال الإقرار بزيادة الخشوع.. {ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} [الإسراء: 109].
ثم يكون التعريف بالله بأسمائه الحسنى، لتكون العبادة الصحيحة بعد العقيدة الصحيحة.. {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا} [الإسراء: 110].
ثم تقرير أن أخطر نواقض العقيدة الصحيحة والعبادة الصحيحة هو بدعة ادعاء الولد لله.. {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} [الإسراء: 111].
ترتيب السور
وكما برزت الموضوعية القرآنية من خلال الجوانب الأساسية لقضية عيسى ابن مريم برزت أيضًا من خلال ترتيب السور القرآنية..
والمتابعة الدقيقة لقضية عيسى ابن مريم قرآنيًّا تكشف أن القضية لم تكن فقط محورًا أساسيًّا في ترتيب آيات السورة الواحدة، بل كانت أحد محاور ترتيب السور ذاتها..
فعلى مستوى ترتيب النزول تأتي المقارنة المنهجية بين السور المكية والمدنية التي عالجت قضية المسيح بصورة جوهرية..
حيث نزل في مكة: الإسراء والكهف ومريم والزخرف.. بينما نزل في المدينة: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والتوبة..
والملاحظ على السور المكية: عرضها للقضية من الزاوية العقدية، وتفنيد الافتراءات التي طالت القضية من مختلف الأطراف، بلغة تأليفية رقيقة، دون محاباة في العقيدة، أو مجاملة على حساب الحق(1).
__________
(1) يذكر في هذا السياق موقف المواجهة بين جعفر والنجاشي عندما قرأ عليه سورة مريم.(1/479)
بينما عرضت السور المدنية القضية من الزاوية الواقعية، فركزت على بيان حكم أهل الكتاب ممن لم يتبع الرسول، وكشفت حقيقة موقفهم العقدي، ودوافعهم النفسية، مع التحليل المنهجي لواقعهم والأسلوب الأمثل في التعامل معه.
وفي ذلك حكمة بالغة..
فقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء أمره أن يُسمعهم دعوة الله راجيًا إيمانهم.. وكانت قريش تلجأ لليهود لتسألهم باعتبارهم أهل كتاب، مما تطلب أن يكون موقفهم موضوعيًّا..
ذكر ابن إسحاق (أن قريشا بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود، وقالوا لهما: سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ليس عندنا من علم أنبياء؛ فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبيٌّ مرسل، وإلم يفعل فالرجل متقوِّل، فروا فيه رأيكم:
- سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول: ما كان أمرهم؛ فإنه قد كان لهم حديث عجب.
- سلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها: ما كان نبؤه.
- وسلوه عن الروح: ما هي؛ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم).
وقد أسلم نتيجة هذا الأسلوب حبر اليهود وعالمهم: عبد الله بن سلام وغيره..
وفيهم نزلت تلك الآيات: {قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [الأحقاف: 10].
وبإسلام عبد الله بن سلام وشهادته بنبوته صلى الله عليه وسلم اختفى هذا الموقف الموضوعي، ليتطور إلى حالة العداء المستبطن حينًا والسافر أحيانًا.. حسب حال المسلمين من حيث القوة والضعف.(1/480)
وبهذا تمثلت الموضوعية على مستوى ترتيب النزول في المواجهة المنهجية للواقع والأحداث.
أمَّا على مستوى ترتيب المصحف.. فقد تمثلت الموضوعية في تحقيق المعنى المطلق لمنهج معالجة القضية من حيث الهيمنة على ما سبق من الكتب، والامتداد الزمني إلى قيام الساعة.
وفي هذا الإطار يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت مكان التوراة: السبع الطوال.. وأعطيت مكان الزبور: المئين.. وأعطيت مكان الإنجيل: المثاني.. وفضِّلت بالمفصل))(1).
ولما كانت «السبع الطوال» مكان «التوراة» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أخذ السبع من القرآن فهو حبر))(2).
وحسب كلام المحققين من العلماء.. فإن السبع الطوال هي السور من البقرة حتى سورة الأنفال-التوبة(3).
والمئون هي السور من يونس وحتى القصص.. والمثاني هي السور من العنكبوت وحتى الحجرات.. أمَّا المفصل فهو السور من ق حتى الناس.
ولما كانت الفاتحة هي أم الكتاب، فقد جمعت جميع عناصر القضية وهي:
«الصراط المستقيم» وهو المنهج الذي ارتضاه الله لعباده..
«الذين أنعمت عليهم» وهم الذين ساروا على الصراط المستقيم..
«المغضوب عليهم» وهم الذين تنكبوا الصراط عن علم وعناد..
«الضالين» وهم الذين تنكبوا الصراط عن جهل وغواية...(4)
لتأتي مجموعة من السور في كل قسم من أقسام القرآن وفق هذا الترتيب..
ففي السبع الطوال -على سبيل المثال- جاءت «سورة البقرة» لتتناول الصراط المستقيم من زاوية قضية التقوى، في ضوء التعامل التاريخي بين بني إسرائيل والكتاب، الذي جاء {هدى للمتقين}.
__________
(1) أخرجه البيهقي في الشعب (2/465، 487) عن واثلة بن الأسقع.
(2) أخرجه أحمد (6/72، 82) والحاكم في المستدرك (1/752) عن عائشة رضي الله عنها.
(3) وهذا على قول من اعتبرهما سورة واحدة.
(4) يراجع هذا المعنى بمزيد من التفصيل في سياق سورة الفاتحة.(1/481)
بينما تناولت «سورة آل عمران» القضية من زاوية الذين أنعم الله عليهم: «آل عمران».. أما النساء والمائدة فقد تناولتها من زاوية المغضوب عليهم والضالين.
مقدمات السور
من الخصائص الثابتة للقرآن الكريم أن لكل سورة مقدمة لها دلالة أساسية على موضوع السورة كلها، وتأتي العلاقة بين مقدمات السور وقضية نفي الولد عن الله لتثبت الهيمنة القرآنية في قضية عيسى ابن مريم، حيث ورد تناولها في عدة سور.
وذكر قضية المسيح وادعاء الولد في مقدمة السورة معناه أن القضية تُمثِّل المضمون العام للسورة، ومن أمثلة هذه السور: الكهف، الجن.
مقدمة سورة الكهف:
{الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا*قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا*ماكثين فيه أبدا*وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا} [الكهف: 1-4].
القرآن هو الصراط المستقيم، ولذلك جاء نزول القرآن بهذه الصفة: {لم يجعل له عوجا} فنفى سبحانه العِوَجَ عنه دلالة على الاستقامة، وفي قوله {قيما} دلالة أخرى على الاستقامة..
وقد حدَّدت مقدمة سورة الكهف أهدافًا ثلاثة لتنزيل الكتاب..
- الإنذار العام الشديد من عذاب الله سبحانه..
- وبشارة المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالأجر الحسن والنعيم المقيم..
- والإنذار الخاص.. لأصحاب بدعة ادعاء الولد..
فجاء الارتباط بين القرآن وقضية نفي الولد؛ ليثبت أن ادعاء الولد أقصى عِوَج ينتفي به معنى الاستقامة في الصراط.
مقدمة سورة الجن:
{قل أوحي إلى أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا*يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا*وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا*وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا*وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا} [الجن: 1-5].(1/482)
تتناول هذه السورة الجنَّ كأحد أقسام الخلق، من حيث عبوديتهم لله، وخضوعهم لربوبيته، وشمول دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم.
والنفر من الجن الذين تتكلم السورة على لسانهم هم جِنُّ «نصيبين» المدينة التي بدأ بولس منها الدعوة إلى هذه البدعة الكفرية، ولذلك ناقشت مقدمتها القضية من زاوية علاقة الشرك وبدعة ادعاء الولد بالجن من خلال إبليس..
حيث جاء في قول الله عز وجل: {وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا} [الجن: 4] قول مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي: (سفيه الجن: هو إبليس) وبذلك كان هو السبب في انتشارها بين الجن.
ثم ينفون البدعة باعتبارين:
الأول: أن مقام الله أعلى من مقام البشر، فلا تجوز نسبتهم إليه سبحانه: {وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا}..
الثاني: أن هذه البدعة من افتراء فريق من الجن والإنس، فلم ينزل بها وحي، ولم يدعُ إليها رسول من عند الله: {وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا}..
الفصل الثاني
السياقات القرآنية
السياق هو مجموعة من الآيات التي تعالج موضوعًا واحدًا في إطار السورة، بحيث لا تخرج عن الموضوع العام للسورة، ومن هنا يكون شرط السياق أن يكون مجموعة من الآيات وليس آية أو آيتين، بحيث نستطيع الخروج بدلالة محددة منه، وسنكتفي هاهنا بعرض سياقات سور ثلاث.. كنموذج لبقية السياقات القرآنية التي عالجت قضية المسيح.
سورة الفاتحة
سمَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتحة: «أم الكتاب» وكلمة «أم» تعني: أصل وإمام.. وهذا يعني أنها جامعة للقضايا التي جاء تفصيلها في القرآن.. ومنها قضية عيسى ابن مريم.
وقد تبين لنا -فيما سبق- الموضوعية القرآنية في معالجة هذه القضية من خلال جوانبها الأساسية، وسورة الفاتحة أوضح مثال لتلك المعالجة، وذلك باعتبار موضوعي هام للغاية، وهو أن الصراط المستقيم الذي يمثل مضمونًا أساسيًّا للسورة جاء بصفته صراط هؤلاء:(1/483)
- الذين أنعم الله عليهم، وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون..
- غير المغضوب عليهم، وهم اليهود..
- ولا الضالين، وهم النصارى..
ومن هنا جاءت كل آيات السورة محددة لصفات الصراط المستقيم بالتقابل مع صفات اليهود والنصارى.
لتصبح حقائق السورة هي الحقائق الأساسية في فهم قضية عيسى ابن مريم، ولذلك كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفاتحة: ((لم ينزل مثلها في التوراة ولا في الإنجيل)) لأنها حاكمة لما في التوراة والإنجيل.
أما حقائق السورة فهي:
{الحمد لله رب العالمين}.. وعلاقة «الحمد» بقضية عيسى ابن مريم أن وحدانية الله بنفي الولد عنه هي أول موجبات الحمد، وقد جاء ذلك في قول الله: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} [الإسراء: 111].
{الرحمن الرحيم}.. وقد جاء في الباب الأول إثبات علاقة اسم الله «الرحمن» بالقضية، من خلال ثلاثة محاور:
الأول: أن اسم «الرحمن» لا يكون لأحد إلا الله حيث قال سبحانه: {رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا} [مريم: 65] قال ابن عباس: (ليس أحد يُسمَّى الرحمن غيره تبارك وتعالى وتقدس اسمه) وبذلك كان اسم الرحمن فرقانًا بين مقام الله ومقام العباد.
الثاني: أن أصحاب ادعاء الولد لله قالوا: أن الله أنزل ابنه الوحيد لخلاص البشر ورحمتهم، فأثبت الله رحمته، ونفى أن تتكون في حاجة إلى الولد، حيث قال سبحانه: {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} [مريم: 92]
الثالث: أن قضية عيسى ابن مريم -كما في التصور الإسلامي بكل تفاصيلها- هي الصيغة الكاملة لإظهار رحمة الله ومقتضياتها..
ابتداءً من قطع أعذار اليهود بهذا الحشد الهائل من المعجزات والآيات التي أجراها الله على يد المسيح.. وانتهاءً بنزوله في آخر الزمان وقتله للدجال وإنهائه فتنته الكبرى..(1/484)
ولذلك كان المحور الأساسي لسورة مريم هو «رحمة الله» كما سيأتي تفصيله.
{مالك يوم الدين}.. وهذه الآية لها علاقة بالقضية من خلال محورين:
المحور الأول: إثبات أنه هناك يوم يجمع الله الخلائق فيه للحساب، وأنَّه لن يُستَثنى أحد من هذا اليوم.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق.. أدخله الله الجنة على ما كان من العمل))(1) وفي هذا الحديث جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الإيمان ببشرية عيسى ونبوته، والإيمان بالجنة والنار..
قال الإمام النووي: (هذا حديث عظيم الموقع، وهو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد، فإنه جمع فيه ما يخرج عنه جميع ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدهم).
ومن قول النووي يتبين أن الكفر بالقيامة من القواسم المشتركة بين ملل الكفر.
وكذلك جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه بين ادعاء الولد لله، والتكذيب بيوم القيامة: ((قال الله: كَذَّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك.. وشَتَمَني ولم يكن له ذلك، فأما تكذبيه إياي: فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأمَّا شتمه إياي فقوله: لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا))(2).
والعلاقة بين بدعة ادعاء الولد والكفر بالقيامة هي أن ادعاء الولد لله معناه نسبة النقص إليه في ذاته، وأن ادعاء العجز عن إعادة الخلق معناه نسبة العجز إليه في صفاته وأفعاله.
المحور الثاني: إثبات أن الله وليس أحد سواه.. هو مالك يوم الدين، وذلك أن النصارى زعموا أنَّ المسيح هو الذي سيحاسب الناس نيابة عن الله يوم القيامة، ومن هنا كان فهم الارتباط بين مقاليد الأمور التي لا تكون إلا لله، وبين الحساب(3).
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) يراجع اسم الله «الوكيل» فصل الأسماء-في الباب الأول.(1/485)
{إياك نعبد وإياك نستعين} وقد كانت الدعوة إلى العبودية لله وحده هي محور دعوة عيسى عليه السلام، لدرجة أنها وردت على لسانه خمس مرات، بصيغة واحدة تتناسب مع إثبات عبوديته هو، ونفي ما زُعِمَ له من ألوهية، وذلك من خلال كلمة {ربي وربكم}..
{إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [آل عمران: 51].
{وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم} [المائدة: 72].
{ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم} [المائدة: 117].
{وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [مريم: 36].
{إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [الزخرف: 64].
وإذا نظرنا إلى جليس الملك في قصة غلام أصحاب الأخدود الذي كان من أتباع عيسى وأيده الله بآيات من جنس آيات نبيه نجد أنه قد تكلم بنفس الصيغة، وذلك عندما سأله الملك: ((ولك رب غيري؟! قال: ربي وربك الله)).
وكذلك قالت ماشطة فرعون عندما سألها: ((وإن لك ربا غيري؟ قالت: نعم.. ربي وربك الله)).
وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل عندما يرى الهلال الذي عبده بعض العرب: ((اللهم أهله علينا باليُمن والإيمان والسلامة والإسلام، ربي وربك الله))..
وفي هذه الآية ارتباط بين العبودية والافتقار لله {وإياك نستعين} حيث يثبت هذا الارتباط اسم الله «الغني».. كما قال تعالى: {ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} [فاطر: 15].
فالعبودية هي الافتقار إلى الله ابتداءً.. كما أن الاستعانة هي الافتقار إلى الله انتهاءً(1).
{اهدنا الصراط المستقيم} وفي نهاية هذا الباب هناك تفصيل لعلاقة عيسى بالصراط {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: 7]، وهنا يُعرِّف الله الصراط المستقيم بدلالة ثلاث فئات:
__________
(1) يراجع اسم الله «الغني» في الباب الأول.(1/486)
الأولى: {الذين أنعمت عليهم}، وقد قال الله عن عيسى عليه السلام: {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل} [الزخرف: 59].
وكذلك حدَّد الله الذين أنعم عليهم بأنهم: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} [النساء: 69].
الثانية: {غير المغضوب عليهم} وهم اليهود الذين عرفوا الحق ولم يتبعوه «فساد القصد».
الثالثة: {ولا الضالين} وهم النصارى الذي ضلوا الطريق وغلوا في عيسى «فساد المعرفة».
سورة آل عمران
من أهم دلائل الذات الإلهية.. المشيئة؛ لذلك أثبت القرآن مشيئةً واحدةً فاعلةً في هذا الوجود، مما يدل على الذات المتفردة بالمشيئة..
واسم الله «الحي القيوم» هو اسم الله الأعظم.. الذي يدل على مشيئة الله الواحدة في هذا الكون..
يقول الإمام ابن القيم: (هذان الاسمان عليهما مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما مرجع معانيها جميعها، فإن «الحياة» مستلزمة لجميع صفات الكمال، ولا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها استلزم إثباتها إثباتَ كل كمال يضاد نفي كمال الحياة، وبهذا الطريق العقلي أثبت متكلمو أهل الإثبات له تعالى صفة السمع والبصر والعلم والإرادة والقدرة والكلام وسائر صفات الكمال..
وأما «القيوم» فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، لا يحتاج إلى من يقيمه بوجه من الوجوه، وهذا من كمال غناه بنفسه عما سواه، وهو المقيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته، وهذا من كمال قدرته وعزته.. فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال والغنى التام والقدرة التامة).(1/487)
ولذلك ذكر الله الاسمين في ثلاثة مواضع من القرآن، جمع فيها أصول الدين الثلاثة التي بعث بها جميع المرسلين، وهي: التوحيد والرسل والآخرة، وأخبر أن المشركين يكفرون بها في مثل قوله: {ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا*والذين لا يؤمنون بالآخرة*وهم بربهم يعدلون}..
فقال في آية الكرسي أعظم الآيات: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}(1) فقرنها هاهنا بالتوحيد: {الله لا إله إلا هو}..
وزاد في آل عمران: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم*نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل*من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان} وهذا إيمان بالكتب والرسل..
وقال في طه: {يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا*يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما*وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما} [طه: 109-111] وهو الإيمان بالآخرة..
وذكر اسم الله «الحي القيوم» في صدر سورة آل عمران يعني أن الإيمان بطلاقة المشيئة الإلهية هو المهيمن على كل القضايا التي عالجتها السورة، وأولها قضية عيسى ابن مريم..
وذلك من خلال إثبات مشيئة الله الواحدة، مقابل التناقض الهائل في قضية التثليث، بادعاء أن كل أقنوم من الأقانيم الثلاثة له مشيئته، حيث اعتبروا أن تعدد المشيئة هو الشاهد الأساسي على تعدد الأقانيم؛ لأن الأقنوم يعني عندهم الذات المستقلة، والمشيئة دليل على هذا الاستقلال.
ومن هنا جاءت سورة آل عمران لإثبات دلالة المشيئة الواحدة لله على وحدانية ذاته عز وجل.
والمشيئة الواحدة تعني العلم بأصل كل شيء ومآله، والإحاطة بكل الأشياء وجودًا وعدمًا.
__________
(1) ثبت في الصحيح أن النبي ? قال لُأبي بن كعب: ((يا أبا المنذر.. أتدري أي آية في كتاب الله معك أعظم؟! فقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فقال: ليهنك العلم أبا المنذر)).(1/488)
ولذلك عالجت السورة قضية المشيئة من خلال معنى: ما كان، وما يكون، وما سيكون، وما لم يكن إذا كان كيف يكون..
روى محمد بن إسحاق، قال: (قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفدُ نجران ستون راكبًا، فيهم أربعة عشر رجلًا من أشرافهم، في الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم:
العاقب.. أمير القوم وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح.
والسيد.. ثمالهم، وصاحب رحلهم ومجتمعهم، واسمه الأيهم.
وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مِدْرَاسهم. وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه وموّلوه وأخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينه).
قال ابن إسحاق: قال محمد بن جعفر بن الزبير: (قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلوا عليه في مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحِبَرات جُبب وأردية في بلحرث بن كعب.
قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: ما رأينا بعدهم وفدًا مثلهم.
وقد حانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دَعُوهُمْ))! فَصَلَّوا إلى المَشْرِقِ.
قال: وكانت تسمية الأربع عشر منهم الذين يؤول إليهم أمرهم: العاقب وهو عبد المسيح، والسيد وهو الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، وأوس، والحارث، وزيد، وقيس، ويزيد، ونبيه، وخويلد بن عمرو، وخالد، وعبد الله، ويُحَنّس في ستين راكبا.
فكلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبد المسيح، والأيهم السيد، وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف من أمرهم يقولون: هو الله، ويقولون: هوَ ولدُ الله، ويقولون: هو ثالث ثلاثة، وكذلك قول النصرانية.(1/489)
فهم يحتجون في قولهم: هو الله، بأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرًا، وذلك كله بإذن الله، ليجعله آية للناس.
ويحتجون في قولهم: إنه ولد الله، أنهم يقولون: لم يكن له أب يُعلم، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحدٌ من ولد آدم من قبله.
ويحتجون في قولهم: إنه ثالث ثلاثة، بقول الله عز وجل: «فعلنا» و«أمرنا» و«خلقنا» و«قضينا»، فيقولون: لو كان واحدًا ما قال إلا «فعلتُ» و«أمرتُ» و«قضيتُ» و«خلقتُ»، ولكنه هو وعيسى ومريم. ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن، وذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فيه قولهم.
فلما كلمه الحبران، قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أسْلِما)) قالا: قد أسلمنا. قال: ((إنّكُمَا لَمْ تُسْلِما، فأسْلِما!)) قالا: بلى قد أسلمنا قبلك. قال: ((كَذَبْتُمَا، يَمْنَعُكُما مِنَ الإسْلامِ دُعاؤُكُما لِلّهِ عَزّ وَجَلّ وَلَدا، وَعِبادَتُكُما الصَّلِيبَ، وأكْلُكُما الخِنْزِيرَ)) قالا: فمن أبوه يا محمد..؟! فَصَمَت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما، فلم يجبهما.
فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله- صَدْرَ سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها، فقال: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} فافتتح السورة بتبرئة نفسه تبارك وتعالى مما قالوا، وتوحيده إياه بالخلق والأمر، لا شريك له فيه؛ ردًّا عليهم ما ابتدعوا من الكفر، وجعلوا معه من الأنداد، واحتجاجًا عليهم بقولهم في صاحبهم؛ ليعرِّفهم بذلك ضلالتهم، فقال: {الله لا إله إلا هو} أي ليس معه شريك في أمره)(1).
والآن نبدأ مع السياق..
__________
(1) راجع الرواية الواردة في مناظرته ? لهم في: شروط الجدل-فصل الجدل بالمواجهة.(1/490)
{الم*الله لا إله إلا هو الحي القيوم*نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل*من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان} إنَّ نزول التوراة والإنجيل والفرقان باسم الله «الحي القيوم» يدل على أن هذين الاسمين يمثلان مضمونًا جوهريًّا لهذه الكتب، وأن هذين الاسمين يفسران الفرقان بين الله الخالق ذي الحياة الكاملة والقيومية المطلقة، وبين العباد المخلوقين الذين يموتون ولغيرهم يحتاجون، وبذلك كان هذان الاسمان أساسًا في إبطال الزعم اليهودي والنصراني في قولهم: العزير ابن الله، والمسيح ابن الله.
ولما كان القرآن مواجهة كاملة لهذا الزعم كان القرآن فرقانا {وأنزل الفرقان} لأنه بَيَّن الحق الذي تضمنته التوراة والإنجيل، ودحض الانحرافات والشبهات التي لحقت بهما.
{إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام} وهكذا كل السياقات التي تناقش أهل الكتاب.. إما تفتتح بالتحذير من العذاب الشديد، وإما تختتم بوصف هذا العذاب، تنبيهًا على فداحة ما اقترفوه، وتفنيدًا لما لفَّقوه..
{إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء} والله الذي أنزل الكتب الثلاث.. هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء..
ومما لا يخفى على الله.. ما يتعلق بخلق عيسى ونجاته ورفعه وحادثة التشبيه..!
ومن هنا قال سبحانه: {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم} فتصوير الخلق يكون بمشيئة الله.. وتصوير الخلق يكون بقدرة الله التامة.. وهو معنى«العزيز»، وعلمه التام.. وهو معنى «الحكيم».
ومن ذلك تصوير عيسى في رحم أمه، وتصوير المشبه به في صورة عيسى..!
فالله سبحانه هو المصور كيف يشاء..!
عن سعيد بن جبير قال: (هذا حِجَاجٌ على من زعم أن عيسى كان ربًّا، كأنه نَبَّه بكونه مُصَوَّرا في الرحم على أنه عبدٌ كغيره، وكان يخفى عليه ما لا يخفى على الله).(1/491)
ثم ينتقل السياق من المحكم والمتشابه في الخلق والتصوير.. إلى المحكم والمتشابه في الفهم والتأويل: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب}.
يقول الزمخشري: (محكمات: أي أُحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه، متشابهات: مشتبهات محتملات، هن أم الكتاب: أي أصل الكتاب، تُحمَل المتشابهات عليها وتُرَدُّ إليها، ومثال ذلك: {لا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103]، و{إلى ربها ناظرة} [القيامة: 23]، و{لا يأمر بالفحشاء} [الأعرف: 27]، و{أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} [الإسراء: 16]..
فإن قلت: فَهَلَّا كان القرآن كله مُحُكَمًا؟!
قلت: لو كان كله محكمًا لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال، ولو فعلوا ذلك لعطَّلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به، ولِمَا في المتشابه من الابتلاء، والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه..
ولِمَا في تقادح العلماء وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه وردِّه إلى المحكم من الفوائد الجلية والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله..
ولأن المؤمن -المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله ولا اختلاف- إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره وأهَمَّه؛ طلب ما يوفِّق بينه ويجريه على سَنَنٍ واحد، ففكر وراجع نفسه وغيره، ففتح الله عليه، وتبين مطابقة المتشابه المحكم.. ازداد طمأنينةً إلى معتقده، وقوة في إيقانه).
وهذا الذي ذكره الزمخشري هو مقتضى مشيئة الله المطلقة..!
فمحكم القرآن هو الفصل.. في المتشابهات الكونية، والمتشابهات العلمية..(1/492)
وأول القواعد التي تحفظ الدين من التحريف هو رد المتشابه إلى المحكم، وفي ذلك يقول ابن تيمية: (ومع ذلك فإن الزيغ في القلوب يمنع رد المتشابه إلى المحكم كما فعل وفد نجران، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت تقول عن المسيح أنه كلمة الله وروح منه، أمَّا الراسخون في العلم فهم يسلمون بالحق، ويعلنون إيمانهم بثقة ويقين {آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب})..
وهذا من الجانب العلمي، ولكن الهداية لها جانب آخر.. هو الجانب القدري الذي يُقَدِّر الله به الهداية وأساسه الدعاء {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب*ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد}، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: ((يا مقلب القلوب.. ثَبِّت قلبي على دينك)).
ومن الشبهات في الجانب العلمي، إلى الشبهات في الجانب العملي، وهي الناشئة عن انتفاش الباطل في الأرض واستعلائه على المؤمنين، وهو ما قد يمثل شبهة عند من لا بصر له ولا بصيرة {إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار}.. هذه هي حقيقة أموالهم وأولادهم {لن تغني عنهم من الله شيئا}..
والمثال التاريخي على هذه الحقيقة هم آل فرعون {كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب}..
ثم يأتي الإحكام الواقعي بنصرة القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة، كما حدث يوم بدر {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد*قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}.(1/493)
وبعد حسم الشبهات العلمية والعملية بالآيات المحكمات.. تأتي مواجهة الشهوات {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب*قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد}(1).
{الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار}.
وهذا هو المنهج العملي في مواجهة التزيين الشهواني، الذي تمارسه الجاهلية بكل ما أوتيت من قوة {الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار} وهؤلاء الذين نجوا من تأثير الشهوات والشبهات هم الذين يشهدون بقلوبهم وفي واقعهم أعظم حقيقة انطوى عليها الكون بأسره {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قآئما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}.
إن أعلى درجات الحق والإحكام هي شهادة الله سبحانه وتعالى لنفسه بالوحدانية، وشهادة الملائكة، وشهادة أولي العلم، وأعلى درجات التحقيق لهذه الشهادة هو الإسلام.. {إن الدين عند الله الإسلام}..
وعدما تكون شهادة الله لنفسه بالوحدانية، ويكون الإسلام هو الصيغة الواقعية لهذه الشهادة الإلهية.. لا يكون الاختلاف إلا بغيًا وكفرًا..!
فليس لغموض الشبهات ولا إغراء الشهوات دورٌ في ذلك، بل هي مجرد أعراض، تختفي وراءها أمراض البغي والظلم {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب}.
__________
(1) يراجع: فصل الدنيا-الباب الثالث: تحليل التحريف.(1/494)
وعندئذ يكون الواجب هو إثبات الموقف الصحيح بالإقرار بهذه الشهادة، ثم مطالبة جميع الخلق بهذا الإقرار {فإن حآجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد}.
وبدلًا من إقرارهم بالتوحيد.. كفروا بآيات الله، وقتلوا النبيين بغير حق، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس {إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم}.
والدافع إلى قتل الأنبياء والذين يأمرون بالقسط هو إنهاء الحجة الإلهية التي يمثلها هؤلاء في الواقع البشري، وإحباط محاولات التوبة والرجوع إلى الله؛ فكان جزاؤهم إحباط محاولاتهم في الدنيا، وأعمالهم في الآخرة {أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين*ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون}.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له النعمان بن عمرو، والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ قال: ((على ملة إبراهيم ودينه)) قالا: فإن إبراهيم كان يهوديًّا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فهلما إلى التوراة فهي بيننا وبينكم)) فَأَبَيَا عليه، فأنزل الله: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم} إلى قوله: {غرهم في دينهم ما كانوا يفترون}.
وأخرج ابن جرير عن ابن جريج في الآية قال: كان أهل الكتاب يُدْعَوْن إلى كتاب الله ليحكم بينهم بالحق وفي الحدود، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام فيتولون عن ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله {نصيبا} قال: حظا {من الكتاب} قال: التوراة.(1/495)
{ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون}
قال مجاهد: {غرهم في دينهم ما كانوا يفترون} قال: غرهم قولهم {لن تمسنا النار إلا أياما معدودات}.
وقال قتادة: {غرهم في دينهم ما كانوا يفترون} حين قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه.
وقد رأينا كيف حرَّفوا معنى العذاب في الآخرة، واختزلوه في صورة العذاب المعنويِّ، الذي يشبه التأنيب والتوبيخ..!(1)
{فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}.
قال سعيد بن جبير في قوله: {ووفيت} يعني تُوَفَّى كل نفس بر وفاجر {ما كسبت} ما عملت من خير أو شر {وهم لا يظلمون} يعني من أعمالهم.
{قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير*تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب}.
وهذه الآية حاكمة في قضية عيسى ابن مريم وممهدة لسياقها..
__________
(1) راجع كلام: مؤلف اللاهوت النظامي في مبحث التناسب اللفظي بهذا الباب.(1/496)
يؤكد هذا المعنى الإمام ابن كثير فيقول: ({قل} يا محمد معظمًا لربك وشاكرًا له ومفوضًا إليه ومتوكلًا عليه: {اللهم مالك الملك} أي: لك الملك كله {تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء} أي: أنت المعطي وأنت المانع وأنت الذي ما شئت كان، وما لم تشأ لم يكن، وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة؛ لأن الله تعالى حَوَّلَ النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي الأمي المكي، خاتم الأنبياء على الإطلاق، ورسول الله إلى جميع الثقلين: الإنس والجن، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله، وخصه بخصائص لم يعطها نبيًّا من الأنبياء، ولا رسولًا من الرسل، في العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية، وكشْفه له عن حقائق الآخرة، ونشر أمته في الآفاق في مشارق الأرض ومغاربها، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان والشرائع، فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.. ما تعاقب الليل والنهار).
ومن مقتضيات الإيمان بإحاطة مشيئة الله لكل شيء في هذا الكون.. ألا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء.. {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير} [آل عمران: 28].
(هكذا.. ليس من الله في شيء.. لا في صلة، ولا نسبة، ولا دين، ولا عقيدة، ولا رابطة، ولا ولاية.. فهو بعيد عن الله، منقطع الصلة تمامًا في كل شيء تكون فيه الصلات.
ثم يتابع السياق التحذير ولمس القلوب، وإشعارها أن عين الله عليها، وأن علم الله يتابعها {قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله*ويعلم ما في السموات وما في الأرض*والله على كل شيء قدير}..
وهو إمعانٌ في التحذير والتهديد، واستجاشة الخشية واتقاء التعرض للنقمة التي يساندها العلم والقدرة، فلا ملجأ منها ولا نصرة!(1/497)
ثم يتابع السياق التحذير ولمس القلوب خطوة أخرى كذلك باستحضار اليوم المرهوب؛ الذي لا يند فيه عمل ولا نية؛ والذي تواجه فيه كل نفس برصيدها كله {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا}..
وهي مواجهة تأخذ المسالك على القلب البشري، وتحاصره برصيده من الخير والسوء، وتصور له نفسه وهو يواجه هذا الرصيد، ويود -ولكن لات حين مودة!- لو أن بينه وبين السوء الذي عمله أمدًا بعيدًا، أو أن بينه وبين هذا اليوم كله أمدًا بعيدًا، بينما هو في مواجهته.. آخذٌ بخناقه، ولات حين خلاص، ولات حين فرار!)(1)
ثم يتابع السياق الحملة على القلب البشري، فيكرر تحذير الله للناس من نفسه سبحانه {ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد}..
ومن رأفته هذا التحذير وهذا التذكير، وهو دليل على إرادته الخير والرحمة بالعباد.. {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم*قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين}.
يقول الإمام ابن كثير: (هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد))(2).
ومن مقتضيات مشيئة الله المطلقة أن يخلق الله ما يشاء، وأن يصطفي من خلقه ما يشاء، ليفعل به ما يشاء.. وفق علمه التام.. وحكمته البالغة {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} فالله سبحانه وتعالى اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، وهذا ما كان..
ولذلك تبدأ الآيات بأمِّ مريم باعتبارها البداية المباشرة لولادة مريم.. وذلك فيما سيكون..
__________
(1) بتصرف من الظلال.
(2) سبق تخريجه.(1/498)
وللتأكيد على معنى ما سيكون كان نذر أم مريم ما في بطنها ليكون فيما سيكون في خدمة بيت المقدس، وكان دعاؤها بعد الولادة {وإني أعيذها بك وذريتها} فيما سيكون أيضًا..
إن استعاذة أم مريم باعتبار «ما سيكون» كانت أخطر حدث في قضية عيسى صلى الله عليه وسلم ولذلك أيضًا كانت دلائل المشيئة الإلهية متمثلة في جعل «ما سيكون» قدرًا كائنا، وهو رزق الشتاء في الصيف قبل أن يكون الشتاء..!
ولأجل اعتبار «ما سيكون».. كان دعاء زكريا بالولد، وبشرى الملائكة له بـ «ما سيكون» له من ولد، وتفسير ذلك بمشيئة الله المطلقة {قال كذلك الله يفعل ما يشاء }..
ولذلك أيضًا كانت بشرى الملائكة لمريم بالكلمة؛ لأن الكلمة هي التي ستكون فعلا {إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم}.
وكان كل ما جاء من الآيات بعد ذلك متعلق بما سيكون بالنسبة لعيسى {وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين*ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين}.
فـ{الدنيا والآخرة}، و{المهد وكهلا} كلها إشارات مستقبلية لم تكن حدثت بعد، عند البشارة بعيسى..
والتعبير القرآني {كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} معناه: أن ما يقضي به الله يكون بمشيئته..(1).
وفيه دلالة إثبات أن عيسى مخلوق، ولذلك كانت كلمة {يخلق ما يشاء} بالنسبة لعيسى غير كلمة {يفعل ما يشاء} بالنسبة ليحيى، إذ كان الحال في يحيى وجود الأب والأم مع تعطل آلة الإنجاب منهما، فكان لفظ الفعل أنسب، كما قال تعالى: {وأصلحنا له زوجه} [الأنبياء: 90]، قال ابن عباس: كانت عاقرا لا تلد فولدت.
أمَّا في عيسى فانعدم وجود الأب أصلًا، وكان لفظ الخلق أنسب لعملية التخليق الكاملة.
__________
(1) سبقت الإشارة إلى علاقة عيسى بالقيامة من خلال قوله تعالى: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} -الباب الأول.(1/499)
ولإثبات حقيقة المشيئة في أفعاله سبحانه انتقل السياق إلى «ما سيكون» بصيغة «ما قد كان»، فقال سبحانه: {ورسولا إلى بني إسرائيل} فإذا بعيسى يتحدث فعلًا، لتدخل الآيات فيما هو كائن {أني قد جئتكم}.
ويختتم عيسى دعوته بالحقيقة الجامعة لدين الأنبياء {إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [آل عمران: 50](1).
سورة مريم
هيمنت رحمة الله على سياق سورة مريم، بداية من اسم السورة، ومرورًا بفاتحتها {ذكر رحمة ربك عبده زكريا} وانتهاءً بذكر التفاصيل المبيِّنة لمعنى رحمة الله في قصة مريم.. {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا*فاتخذت من دونهم حجابا}.
يقول صاحب التحرير والتنوير: (أما التصدي لوصفه بأنه شرقي فللتنبيه على أصل اتخاذ النصارى الشرق قبلة لصلواتهم، إذ كان حمل مريم بعيسى في مكان من جهة مشرق الشمس..
كما قال ابن عباس: إني لَأَعلمُ خلقِ الله لأيِّ شيءٍ اتخذت النصارى الشرق قبلة، لقوله تعالى: {مكانا شرقيا} أي: أن ذلك الاستقبال ليس بأمر من الله تعالى.
فذكر كون المكان شرقيا نكتة بديعة من تاريخ الشرائع مع ما فيه من مؤاخاة الفواصل).
{فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} [مريم: 17].
إن هذه الصورة تعني أن وجود عيسى يبدأ من هذه اللحظة، ولم يكن له وجود سابق، وأن وجود عيسى وجود بشري بحت؛ لأن الصورة التي نفَّذ بها جبريل المهمة كانت صورة بشرية دالة على الطبيعة البشرية للمهمة، طبقًا لقاعدة التدخل الملائكي في الواقع البشري(2)..
__________
(1) ناقش الكتاب بقية السياق في مواضعها؛ كالحكمة من الرفع: الباب الأول، وتفسير الضلال: في الباب الثالث، وحماية الدين من التحريف: في الباب الرابع، وورود صيغ اسم المسيح في هذا الباب.. فيرجع إليها.
(2) راجع: القواعد الحاكمة لتدخل الملائكة في الواقع البشري في اختصاصات عيسى بتأييده بروح القدس في نهاية هذا الباب.(1/500)
{بشرا سويا} يعنى صورة بشرية طبيعية كاملة..
{قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا} [مريم: 19]..
وفي سورة الأنبياء: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين} [91] وفي سورة التحريم: {ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [12].
والمراد بالفرج هنا: فرج القميص؛ أي لم تُعَلِّق بثوبها ريبة؛ أي: إنها طاهرة الأثواب. وفروج القميص أربعة: الكمان والأعلى والأسفل. قال السهيلي: فلا يذهبن وهمك إلى غير هذا؛ فإنه من لطيف الكناية لأن القرآن أنزه معنى، وأوزن لفظًا، وألطف إشارة، وأحسن عبارة من أن يريد ما يذهب إليه وهمُ الجاهل، وحياء الملائكة يمنع تصور أن نفخ جبريل كان في الفرج(1)، بل نفخ في جيبها (أي فتحة الرأس في الثيابها) فبلغت النفخة موضع الإنجاب، ومنه قوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} [النور: 31].
__________
(1) بدليل أن خديجة رضي الله عنها لما أرادت أن تعرف حقيقة ما حدث لرسول الله ? في غار حراء قالت لرسول الله ?: ((يابن عم، تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ فقال: نعم، فقالت: إذا جاءك فأخبرني. فبينا رسول الله ? عندها إذ جاء جبريل، فرآه رسول الله ? فقال: ((يا خديجة، هذا جبريل)) فقالت: أتراه الآن؟ قال: ((نعم)) قالت: فاجلس إلى شقي الأيمن، فتحول فجلس، فقالت هل تراه الآن؟ قال: ((نعم)) قالت: فاجلس في حجري فتحول رسول الله ? فجلس. فقالت: هل تراه الآن؟ قال: ((نعم)) فَتَحسَّرت رأسها، فألقت خمارها، ورسول الله ? جالس في حجرها، فقالت هل تراه الآن؟ قال: ((لا)) قالت: ما هذا شيطان، إن هذا لَمَلك يا ابن عم، فاثبُت وأبشر، ثم آمنت به وشهدت أن الذي جاء به الحق. رواه الطبراني في الأوسط (6622) والبيهقي في دلائل النبوة (453).(2/1)
{قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} وهذه طبيعة المؤمن المتعلق بالله.. أن يلجأ إليه ويُذَكِّر الناس به، وذكر الاستعاذة باسم «الرحمن» هاهنا مناسب لسياق السورة.
{قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا} بينما جاء في سورة آل عمران: {قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر} [آل عمران: 47] وبمقارنة السياقين نجد الآتي:
- في سورة آل عمران كانت البشرى من الملائكة دون تمثُّل، فناسب هذا الحال تعجبها من وجود مطلق الولد «الولادة» سواءً كان ذكرًا أم أنثى.
- أما في سورة مريم فكانت البشرى من الملك جبريل الذي تمثل في صورة بشر كامل الهيئة، وكانت البشرى مجددًا بغلام، فناسب هاهنا تعجبها من وجود غلام ذكر.
- وفي سورة آل عمران توقف نفيها عند جملة {لم يمسسني بشر} بينما عقبت في سياق مريم بجملة {ولم أك بغيا} تناسبًا مع تأكيد جبريل وقوع ما بشرت به الملائكة من قبل.
{قال كذلك قال ربك هو علي هين} وهو تكرار للكلام في حق يحيى، دلالة على اشتراك الحالتين في معنى طلاقة القدرة والمشيئة الإلهية.
{ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا} وقد كان عيسى عليه السلام آية على أشياء كثيرة منها: قدرة الله على الخلق بكل الصور، وقرب الساعة.
أمَّا الرحمة فقد كانت رسالته في الابتداء رحمة بالمؤمنين من بني إسرائيل وهم الحواريون، وفي الانتهاء رحمة بالمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بقتل الدجال والإيواء بهم إلى جبل الطور.
{فحملته فانتبذت به مكانا قصيا} وفيه الدلالة على ما كانت تعانيه مريم من خشية المواجهة مع قومها..
{فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا}، وهنا يبلغ الخوف مداه.. فيأتي دعاء المضطر الذي أنهكه البلاء، ومع البلاء.. يأتي فرج الله وتأتي رحمته.(2/2)
{فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا*وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا*فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا}.
والملاحظ في سياق حمل مريم بعيسى وولادتها له أنه لم يخرج عن الإطار البشري المعهود عند جميع الناس، من متاعب الحمل، والاحتياج إلى تغذية خاصة أثناءه، ثم مفاجأة موعد الولادة، وآلام المخاض، وهو ما يثبت بشرية عيسى بصورة مفصلة.
{فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا} وهنا بدأت المواجهة.. {يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا}:
عن المغيرة بن شعبة قال: (لما قدمت نجران سألوني فقالوا: إنكم تقرءون {يا أخت هارون} وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال: إنهم كانوا يُسَمَّون بأنبيائهم والصالحين قبلهم).
{فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا*قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا*وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا}.
وفي تفسير كلمة {مباركا} قال التستري: (وجعلني آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأرشد الضال، وأنصر المظلوم، وأغيث الملهوف).
وقد كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما الصبغة الأساسية لحياة عيسى ابن مريم بدليل قول الله عز وجل: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون*كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة: 78،79].
كما كانت حياة عيسى كلها بمرحلتيها -المرحلة الأولى: من الولادة حتى الرفع، والثانية: من النزول آخر الزمان حتى الموت- تحقيقًا زمنيًّا كاملًا لكلمة {مباركا} الواردة في الآية.(2/3)
فمنذ ولادته دَلَّ أمَّهُ على الخير {فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا*وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا} ثم كانت دعوته إلى بنى إسرائيل رحمة وبركة {ورسولا إلى بني إسرائيل*ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون} [آل عمران: 49، 50].
وعند عودته ستكون أول البركة: قتله للدجال، الذي كان الجوع في أيامه والقحط والفقر.
كما تكون من بركته: إيوائه بعباد الله إلى جبل الطور والدعاء على يأجوج ومأجوج، حتى أرسل الله عليهم النغف حتى أنتنت الأرض من ريحهم، فدعا عيسى ابن مريم فأنزل الله ماءً ليطهِّر الأرض من نتنهم، ثم أخرجت الأرض بركتها حتى أن الرمانة تكفي القبيلة من الناس، وقد أكَّد النبيِّ صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى بقوله: ((طوبى لعيش بعد المسيح، يؤذن للسماء في القطر، ويؤذن للأرض في النبات، حتى لو بذرت حبك على الصفا لنبت، وحتى يمر الرجل على الأسد فلا يضره، ويطأ على الحية فلا تضره، ولا تشاحن، ولا تحاسد، ولا تباغض))(1).
والبركة هي أثر كل هذه الأشياء.
{وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا} قال ابن عباس: لما قال بوالدتي ولم يقل بوالدي علموا أنه وُلِدَ من غير بشر.
{والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} «السلام» اسم من أسمائه الحسنى ومعناه: المنزه عن الخطأ في أفعاله، فالفعل الإلهي يكون باسم الله «السلام» لانتفاء الخطأ، وعندما يتم الفعل الإلهي في الواقع يكون هذا الفعل مرتبطًا بكل مراحله وأطرافه وحكمته النهائية باسم الله «السلام»..
ولذلك كان السلام على عيسى في كل مراحل وجوده: السلام عليه يوم ولد، و يوم يموت، ويوم يبعث حيا..
فإثبات السلام في مراحل وجود عيسى إثبات تنزيه الله عن الخطأ في خلق عيسى.
__________
(1) سبق تخريجه.(2/4)
{ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون*ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون*وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم}.
سورة الفرقان
الفرقان هو موضوع السورة كما هو اسمها، ولذلك تضمنت أهم حقائق الفرقان.. وهي الفرقان بين مقام الله الخالق.. والعباد المخلوقين..
فالله الذي أنزل الفرقان.. هو سبحانه الذي لم يتخذ ولدًا..
وأول آية في السورة أثبتت أن مقام النبيِّ الذي هو أعلى مقامات البشر.. لا يخرج به عن حد العبودية.. {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} [الفرقان: 1].
ثم تتابع الآيات ربط كل حقائق الفرقان الواردة في السورة بقضية نفي الولد عن الله باعتبارها محور حقائق الفرقان، لتتم بهذا الربط إضافة كل هذه الحقائق الواردة في السورة إلى التصور السلفي لقضية المسيح، حيث يكشف هذا الربط وتلك الإضافة عن أخطر جوانب القضية {الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا} [الفرقان: 2].
هذا هو مقام الله.. أما الشركاء فهم كما قالت الآية: {واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا} [الفرقان: 3].
ومن أهم حقائق الفرقان في القرآن.. أن الله سبحانه الذي أنزل القرآن هو الذي يعلم السر في السموات والأرض {قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما} [الفرقان: 6].
والتعامل مع قضايا الغيب من منطلق هذه الآية هو الذي يحسمها أمام العقل البشري، ومن أهم القضايا الغيبية: قضية عيسى ابن مريم.. فيكون فهم مسألة التشبيه من خلال هذه الآية أمرًا سهلًا ويسيرًا، فالله الذي يعلم السر في السموات والأرض هو الذي أخبرنا بأنه {شبه لهم}..(2/5)
ثم تناقش الآيات حقيقة هامة من حقائق الفرقان وهي الفرقان الزمني، ومعناه أن الحدث الواحد يكون مستحيلًا في وقت.. وممكنًا في وقت آخر..
فعندما يطلب الكفار نزول الملائكة أو رؤية الله في الدنيا يكون ذلك مستحيلا.. {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتوا كبيرا} [الفرقان: 21].
ولكن هذا الحدث سيكون حتمًا حين يرى الكافرون الملائكة.. ولكن في الآخرة.. {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا*الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا} [الفرقان: 25-26].
وهذه الآيات تمثل أساسًا في مناقشة قضية المسيح من ناحية الرؤية الإلهية، فعندما يدعي النصارى ألوهية المسيح إنما يدَّعون إمكانية الرؤية الإلهية في الحياة الدنيا، وهو الأمر المستحيل، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لن تروا ربكم حتى تموتوا))(1).
ثم تتواصل حقائق الفرقان الكوني من الجانب الإنساني، فعندما يكون إله الإنسان هواه فمن يكون عليه وكيلا..؟! ولذلك قال الله: {أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا*أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} [الفرقان: 43، 44].
إن الإنسان في حاجة إلى فرقان الله ولولا ذلك لضل، فالنفس والهوى وكل الحواس لا تهتدي إلا بهدى الله.
ومن الفرقان في النفس إلى الفرقان في الكون {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا*ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا} [الفرقان: 45، 46]..
__________
(1) أخرجه أحمد (5/324)، والحاكم في المستدرك (4/580).(2/6)
فالإنسان ينظر إلى الظل بعينه وهو أمامه ممدود في الأرض، ثم لا يعلم أين يتجه هذا الظل؛ لأنه يسير سيرًا ضئيلًا يكاد يكون ساكنًا ولكنه ليس ساكنًا.. ولو شاء الله لجعله ساكنًا، ولذلك لا تعرف اتجاه الظل إلا إذا نظرت إلى الشمس، فمن موضع الشمس بالنسبة للظل تعلم اتجاه الظل.
وإذا علمنا أن الشمس دليل على الظل تعلمنا الرجوع في هدايتنا كلها إلى فرقان القرآن؛ ولذلك تأتي الآيات بالشواهد الدالة على الحق..
ومن ظاهرة مد الظل.. إلى ظاهرة مرج البحرين {وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا} [الفرقان: 53].
وظاهرة مَرْجِ البحرين تناقش الفرقان بين صفات الأشياء ذات الطبيعة الواحدة، فمع أن الماء واحدٌ.. إلا أن العذب الفرات لا يتداخل في الملح الأجاج.
ثم ينتقل السياق من أكبر الظواهر الكونية الدالة على الفرقان «الشمس والبحار».. إلى أدقِّها..
{وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا} [الفرقان: 54].
وفي الوقت الذي يحسم فيه القرآن أمر التداخل بين صفات الطبيعة الواحدة يشتد الاختلاف بين النصارى في تداخل الطبيعتين في الأقانيم المزعومة بين الخالق والمخلوق..!
وفي الوقت الذي يثبت فيه القرآن فرقان النسب والمصاهرة بين البشر يدَّعي النصارى اختلاط الأمر بين مقام الله مع البشر.. {ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا*وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا*قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا*وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا} [الفرقان: 55-58].(2/7)
فوصف الله بأنه {الحي الذي لا يموت} يقتضي التوكل عليه، والتسبيح بحمده، كما يشير إلى فرقان الموت بين الخالق والمخلوق، ولذلك جاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك.. لا إله إلا أنت.. أن تُضِلَّني.. أنت الحيُّ الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون))(1).
ولذلك أيضًا كان الموت شرطًا لرؤية الله، ليكون الفرقان قائمًا بين الله والإنسان في حال رؤية الإنسان لله.
الفصل الثالث
الهيمنة بالتبيين النبوي
وكما تحققت الهيمنة السلفية بالقرآن تحققت كذلك بالتبيين النبوي للقرآن؛ لأن السنة هي واقع تطبيق القرآن، ولذلك يُسميها الله بـ «الحكمة»..
فمن البداية دعا إبراهيم ربَّه أن يرسل رسولًا بالكتاب والحكمة {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} [البقرة: 129].
وامتن الله علينا بأن استجاب دعاءه {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} [البقرة: 151].
وامتن الله علينا بأن أنزل علينا الكتاب والحكمة {واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم} [البقرة: 231].
{هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [الجمعة: 2].
وامتن الله على رسوله بأن علمه الكتاب والحكمة {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} [النساء: 113].
__________
(1) أخرجه البخاري (6948)، ومسلم (2717) عن ابن عباس رضي الله عنهما.(2/8)
وحدَّد الله جليًّا معنى الحكمة حينما خاطب نساء النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا} [الأحزاب: 34].
قال الحسن وقتادة وغيرهما: (الحكمة: السنة).
ولذلك يروي الإمام البخاري عن ابن عباس قوله: ضَمَّني النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: ((اللهم عَلِّمْهُ الحكمة))(1).
فالسُّنة هي المَعِينُ الذي يتكلم منه حبر الأمة وترجمان القرآن: عبد الله بن عباس..
فنص القرآن يضع الأساس.. وتشرحه السنة..
بحيث تكون السنة هي «تفصيل الواقع التاريخي» الذي قرره القرآن.
وهنا مثالان نموذجيين:
المثال الأول «قضية الرفع والتشبيه» التي قال الله فيها: {وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا} [النساء: 157].
الذي تأتي رواية عبد الله ابن عباس كشارح وحيد لتفاصيل هذه الآية: (لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء.. خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلا منهم، من الحواريين يعني، فخرج عليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء، فقال: إن منكم من يكفر بي اثني عشرة مرة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيُّكم يُلقى عليه شبهي.. فيُقتل مكاني.. فيكون معي في درجتي..؟! فقام شاب من أحدثهم سنًّا، فقال له: اجلس، ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال: أنا..! فقال: أنت هو ذاك..! فأُلقِيَ عليه شَبَهُ عيسى، ورُفِعَ عيسى من روزنة في البيت إلى السماء، قال: وجاء الطلب من اليهود، فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه، فَكَفَر به بعضهم اثني عشرة مرة.. بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق:
__________
(1) رواه البخاري (3756).(2/9)
قالت فرقة: كان فينا الله ما شاء ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية. وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه إليه، وهؤلاء المسلمون. فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسًا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم).
فأنزل الله تعالى: {فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا} أي: آمن آباؤهم في زمن عيسى {على عدوهم} بإظهار دينهم على دين الكفار {فأصبحوا ظاهرين} [الصف: 14])(1).
المثال الثاني «قضية نزول المسيح قبل آخر الزمان» والتي قال الله فيها: {وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم} [الزخرف: 61].
ويشرحها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ.. لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابن مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم حَكَمًا مُقْسِطًا.. فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ)) ثم يقول أبو هريرة راوي الحديث: اقْرَءُوا إن شِئْتُمْ: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} [الأنعام: 159](2).
وتمتدُّ خصائص التناسب اللفظي والتعبيري من القرآن إلى نصوص السُّنة، لتكتمل الهيمنة..
وقد أوردنا أمثلة عديدة لصيغ ورود اسم المسيح عليه السلام في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم عند الكلام عن التناسب التعبيري في كتاب الله..
ونواصل هنا تتبع هذه الظاهر الإعجازية في أحاديث أخرى..
فعندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم المسيح الحق والمسيح الدجال في رؤية واحدة، ذكر اسم عيسى عليه السلام بصيغة: «المسيح ابن مريم».
__________
(1) رواه ابن كثير وإسناده صحيح على شرط مسلم.
(2) سبق تخريجه.(2/10)
روى الإمام مالك عن نافع عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((أَرَانِي لَيْلَةً عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا آدَمَ كأحسن مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ، لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ، قَدْ رَجَّلَهَا فَهِيَ تَقْطُرُ مَاءً، مُتَّكِئًا عَلَى رَجُلَيْنِ -أَوْ عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ- يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَسَاَلْتُ: مَنْ هَذَا..؟ فَقِيلَ: هَذَا الْمَسِيحُ ابن مَرْيَمَ. ثُمَّ إِذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ، أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا..؟ فَقِيلَ: هَذَا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ))(1).
هذا الحديث رواه أيضًا الإمامان البخاري ومسلم بنفس الألفاظ، بسندٍ يُطلِق عليه علماء الحديث: السلسلة الذهبية.
وفي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصيغة الاسم «المسيح ابن مريم» تطابقٌ كامل مع القاعدة القرآنية في ذكر هذه الصيغة في مواضع مناقشة عقائد النصارى المؤلِّهين للمسيح..
فالمسيح ابن مريم الذي ادَّعى له النصارى الإلهية، سينزله الله ليقتل الدجال الذي ادَّعى لنفسه الإلهية.. وهو وجه تناسب ذكر هذه الصيغة مع وصف عيسى والدجال.
ونلاحظ أن الارتباط بين هذه الصيغة وذكر الدجال مطرد في معظم الأحاديث الثابتة عن رسول الله..
لكن المثير حقًّا.. أن تتغير صيغة اسم المسيح ثلاث مرات في حديث طويل واحد، لتعبر كل صيغة عن مرحلة من المراحل التي سيقضيها المسيح بعد نزوله.
روى الإمام مسلم في كتاب «الفتن وأشراط الساعة» عن النواس بن سمعان الكلابي، قال:
__________
(1) سبق تخريجه.(2/11)
(ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ، فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ؛ حَتَّىَ ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا، فَقَالَ: ((مَا شَأْنُكُمْ؟)) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَداةً فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ، حَتَّىَ ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ.
فَقَالَ: ((غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ، إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِن يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللهُ خَلِيفَتِي عَلَىَ كُلِّ مُسْلِمٍ؛ إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ، عَيْنُهُ طَافِئَةٌ، كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّىَ بْنِ قَطَنٍ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ، إِنَّهُ خَارِج خَلَّةً بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا، يَا عِبَادَ اللهِ، فَاثْبُتُوا)).
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا لَبْثُهُ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: ((أَرْبَعُونَ يَوْمًا: يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ)).
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَذَلِكَ الْيَوْمُ الذِي كَسَنَةٍ، أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلاَةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: ((لاَ، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ)).
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: ((كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فَيَأْتِي عَلَىَ الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ، فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالأَرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا، وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ.(2/12)
ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ، فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ، فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَكِ؛ فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ، ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا، فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزِلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ، ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ.
فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ "الْمَسِيحَ ابن مَرْيَمَ" فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِي دِمَشْقَ -بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ- وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَىَ أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطرَ وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللؤْلُؤِ، فَلاَ يَحِل لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّىَ يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدَ؛ فَيَقْتُلُهُ.
ثُمَّ يَأْتِي "عِيسَى ابن مَرْيَمَ" قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللهُ مِنْهُ، فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَىَ اللهُ إِلَىَ عِيسَىَ: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي، لاَ يدَانِ لأَحَدٍ بِقِتالِهِمْ، فَحَرزْ عِبَادِي إِلَىَ الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَىَ بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ، وَيُحْصَرُ "نَبِيُّ اللهِ عِيسَىَ" وَأَصْحَابُهُ، حَتَّىَ يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَة دِينَارٍ لأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ.(2/13)
فَيَرْغَبُ "نَبِيُّ اللهِ عِيسَىَ" وَأَصْحَابُهُ، فَيُرْسِلُ اللهُ عَلَيْهِمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ فَرْسَىَ كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِي اللهِ عِيسَىَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى الأَرْضِ، فَلاَ يَجِدُونَ فِي الأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلا مَلأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ.
فَيَرْغَبُ "نَبِي اللهِ عِيسَىَ" وَأَصْحَابُهُ إِلَىَ اللهِ، فَيُرْسِلُ اللهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ، فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ مَطَرًا لاَ يَكُنّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ، فَيَغْسِلُ الأَرْضَ حَتَّىَ يَتْرُكَهَا كَالزلَفَةِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا، وَيُبَارَكُ فِي الرّسْلِ حَتَّىَ أَنَّ اللَّقْحَةَ مِنَ الإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ، وَاللَّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَاللَّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ.
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ رِيحًا طَيَّبَةً، فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلَّ مُؤْمِنٍ وَكُلَّ مُسْلِمٍ، وَيَبْقَىَ شِرَارُ النَّاسِ، يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ))(1).
عندما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ومواجهة عيسى له قال: ((فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ "الْمَسِيحَ ابن مَرْيَمَ")).
وهو ما يتوافق مع ما جاء آنفًا..
__________
(1) أخرجه مسلم (2937) عن النواس بن سمعان.(2/14)
وعندما يقضي المسيح على الدجال تبدأ مرحلة جديدة: ((ثُمَّ يَأْتِي "عِيسَى ابن مَرْيَمَ" قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللهُ مِنْهُ، فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ))(1).
ولما كان لفظ «المسيح» بمعنى التقابل بين الدجال وعيسى ابن مريم لم يذكر الحديث عيسى بلقبه «المسيح» بعد قتل الدجال، ليذهب لقب المسيح بزوال الدجال(2).
وقد يكون هؤلاء القوم الذين مسح عيسى وجوههم وأخبرهم بدرجاتهم في الجنة، ممن أسلم من بني إسحاق الذين اشتركوا ضمن جيش المسلمين في الملحمة(3) وهو ما يناسب هاهنا ذكر المسيح بصيغة «عيسى ابن مريم» طبقًا للقاعدة القرآنية.
ثم ينتقل الحديث إلى مرحلة جديدة، يقود فيها المسيح أمة الرسول صلى الله عليه وسلم: ((بَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَىَ اللهُ إِلَىَ "عِيسَىَ" إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي، لاَ يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَىَ الطُّورِ)) وطبقًا للقاعدة القرآنية.. يأتي المسيح هاهنا بصيغة الاسم «عيسى» المرتبطة بأمة الإسلام..
ويتأكد القصد من هذه الصيغة بتكرارها في بقية الحديث، حيث يقود المسيح عليه السلام أمَّة الرسول صلى الله عليه وسلم بوحي من الله ((وَيُحْصَرُ "نَبِيُّ اللهِ عِيسَىَ" وَأَصْحَابُهُ..))
((فَيَرْغَبُ "نَبِيُّ اللهِ عِيسَىَ" وَأَصْحَابُهُ..))
__________
(1) انظر ما قبله.
(2) راجع معنى اسم المسيح: في القضايا القرآنية بهذا الباب.
(3) روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ?: ((هل سمعتم بمدينة: جانب منها في البر و جانب منها في البحر..؟)) فقالوا: نعم، يا رسول الله..! قال: ((لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفا من بني إسحاق حتى إذا جاءوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم)) قال: ((فيقولون: لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط أحد جانبيها)).(2/15)
((ثُمَّ يَهْبِطُ "نَبِيُّ اللهِ عِيسَىَ" وَأَصْحَابُهُ..))
ولا تتوقف دلالة هذا الإحكام المنهجي على هيمنة السنة على قضية المسيح عليه السلام، بل تتعداها للدلالة على حقيقة أنها لا تكون إلا بوحي من الله.. {إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 4].
وباعتبار أن قضية المسيح عليه السلام قضية عقدية، فلا يجوز أن نعالج التطور التاريخي المتعلق بأتباعه ودعوته بغير النصوص السلفية الشرعية، حتى لا يخرج هذا التاريخ عن المضمون العقدي للقضية.
وليس من الصواب الظن بأن النصوص السلفية لا تفي بهذه المهمة..
وليس من الصواب كذلك اللجوء إلى التاريخ الوضعي، المكتوب وفق أهواء كاتبيه وتخرصاتهم..
وبالبحث فيما رواه أئمة الحديث عن أصحاب رسول الله نجد أن ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنه قد حسم التفاصيل الدقيقة التي تعتبر مفترق طرق في سيرة المسيح عليه السلام، والتي لم تتناولها نصوص تفصيلية غير منهجية لم يذكرها القرآن، ولم تتناولها السنة..
فهو الذي روى تفاصيل حادثة الرفع والتشبيه.. وهو الذي روى التفاصيل التاريخية المتعلقة بنشأة قضية الرهبنة..
وعند الشروع في دراسة سيرة المسيح عليه السلام من خلال النصوص السلفية.. تظهر مشكلة «الإسرائيليات» وهي الروايات والأخبار التي رواها بعض المفسرين والمؤرخين عن أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين أسلموا.. لذا وجب التنبه لها، والحذر من عواقبها.. وذلك بتحكيم قواعد علم الرواية والإسناد عند التعامل مع نصوص التراث المتعلقة بسيرة المسيح التاريخية..
ورواية هذه الأخبار مخالف لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء؛ فإنهم لن يهدوكم، وقد ضلوا، فإنكم إما أن تصدقوا بباطل، أو تكذبوا بحق))(1).
__________
(1) رواه العلامة ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (13/345) بسند حسن.(2/16)
وهنا نجد موقف عبد الله بن عباس ملتزمًا بالتوجيه النبوي، حيث كان من أشد المنكرين للرواية عن أهل الكتاب الذين أسلموا، لدرجة أنه منع كعب الأحبار من بعض أحاديثه، حتى لو وافقت ما عندنا، وقال: (إنه لا حاجة بنا إلى ذلك)(1).
وقال رضي الله عنه: (كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث، تقرءونه محضا لم يُشَب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدَّلوا كتاب الله وغيَّروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم..؟! لا والله.. ما رأينا منهم رجلًا يسألكم عن الذي أنزل عليكم)(2).
وكمثال للخلل الناشئ عن عدم الالتزام بهذا التصور نجد تضارب واختلاف الروايات المتناثرة في التفسير بشأن حادثة الرفع والصلب والتشبيه، والتي أورد المفسرون فيها روايات متعددة ومختلفة..
والموقف الإسلامي الصحيح يقضي بالالتزام بالرواية الصحيحة، الثابتة سلفيًّا عن عبد الله بن عباس، والتي ذكرناها قبل قليل.
ولا يتوقف التبيين النبوي على متون السنة، بل يمتد إلى تصنيف كتبها..
مثلما ورد في صحيح البخاري في كتاب الأنبياء، حيث رتَّب ذكرهم بناء على ترتيب سورة الأنبياء والسياقات القرآنية التي ذكرتهم..
وجاء ذكر «عيسى ابن مريم» موافقًا للسياق القرآني في سورة مريم وآل عمران والنساء..
ولذلك بدأ بذكر زكريا، توافقًا مع سياق سورة «مريم» باعتبار أن قصة زكريا مقدمة طبيعية لقصة عيسى، على أساس أن ولادة يحيى من أب شيخ وأم عاقر دليلٌ على إمكانية ولادة عيسى بدون أب..
ثم بدأ قصة عيسى بالموقف الذي انتبذت فيه مريم مكانًا شرقيًّا، حيث تمثل لها جبريل بشرًا سويًّا..
__________
(1) ذكره صاحب فتح المغيث (1/149) ولعل في تلقيب الصحابة لابن عباس بـ «حبر الأمة» إشارة إلى أنَّ الله أغنى هذه الأمة به عن أحبار اليهود والنصارى..!
(2) أخرجه البخاري (7363).(2/17)
ثم انتقل إلى سياق آل عمران حيث ذكر دعاء أم مريم بأن يعيذها الله وذريتها من الشيطان الرجيم، ليكون الارتباط بين مريم وعيسى مباشرة من خلال هذه الاستعاذة.
ثم ذكر إيمان مريم بـ {إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} [آل عمران: 37] ليكون ذلك الإيمان أساس الابتلاء بولد من غير أب..
ثم أثبت حقيقة حرز مريم وخيريتها على نساء العالمين، ليكون ذلك حرزًا لها من الاتهام بعد الولادة من غير أب وإثباتًا لطهارتها..
ثم ذكر الدليل على بعد مريم عن الشيطان بالحديث الذي يثبت أن مريم لم تركب بعيرًا قط، وأن مريم خير نساء العالمين..
وبمناسبة بشارة مريم بـ «كلمةٍ من الله» يُعرِّج على سياق النساء ليفند ادعاء ألوهية المسيح، ويكشف حقيقة الأقانيم، والقول الفصل في معنى «كلمة الله» و«روح منه».
حتى هذه المرحلة.. لا تخرج الأبواب والأحاديث عن إطار المقدمة العامة للقضية، ليبدأ بعد ذلك طرح قضية عيسى من خلال تصور عام..
عن عبادة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق.. أدخله الله الجنة على ما كان من العمل))(1).
وبعد هذا التصور العام يعود الإمام البخاري إلى سياق سورة مريم لتبدأ قصة عيسى... بالكلام في المهد كأول آية له.. وباعتبار أن الكلام الذي قاله تلخيص لقضيته..
ثم يذكر صفة إبراهيم وموسى وعيسى توافقًا مع سورة مريم..
ثم يذكر صفة الدجال.. والرؤيا التي رآه فيها هو والمسيح..
ونلاحظ أن عرض البخاري لقضية عيسى يتحدد من خلال ثلاثة محاور تشملها وتحددها بصورة كاملة:
الأول: عيسى ويحيى «التمهيد».
الثاني: عيسى والدجال «الحكمة».
الثالث: عيسى والرسول صلى الله عليه وسلم «الموالاة».
وفي علاقة عيسى بالرسول صلى الله عليه وسلم كانت عدة عناصر:
__________
(1) سبق تخريجه.(2/18)
- القرب بينهما والتتابع بغير شيء يفصل بينهما.
- وحتى لا يفهم إثبات القرب والتتابع والموالاة بمعنى التوحد الشرعي.. أثبت الرسول صلى الله عليه وسلم الخصوصية الشرعية لعيسى التي تثبت أن هناك أحكامًا وشريعة تخصه، لا تمتد إلى شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاء حديث رؤية السارق..
ثم تتوالى عناصر المقارنة بين عيسى والرسول من خلال النهي عن المغالاة في الرسول كما غالى النصارى في ابن مريم: ((لا تطروني..))(1).
ومن خلال جزاء الإيمان بعيسى والنبي صلى الله عليه وسلم: ((وإذا آمن بعيسى، ثم آمن بي فله أجران..))(2).
ومن خلال تحقق التوافق التام في عبارة شهادة عيسى والنبي على قومهما: ((وأقول كما قال العبد الصالح..))(3).
ثم حديث نزول عيسى.. الذي يمثل امتداد العلاقة بين عيسى والنبي، من خلال قيادة عيسى لآخر أمة الرسول صلى الله عليه وسلم..
الفصل الرابع
التفسير السلفي لاختصاصات عيسى
تمهيد
يجب أن يكون مفهومًا أن الاستدلال بمعجزات عيسى على ألوهيته أمرٌ في غاية التناقض، ذلك أن هذه المعجزات تقاس على أفعال البشر من الأنبياء لإثبات علاقتهم الخاصة بالله..
فإذا كان نظام الكون دليلًا على الربوبية فإن خرق قوانين هذا النظام دليلٌ على النبوة.
ولا تكون المعجزة ذات معنى إلا إذا نُسبت إلى بشر، باعتبار طبيعة الفعل البشري المحدود..!
بل لا يكون للمعجزة أي معنى إذا نُسبت إلى الله، بالنظر إلى أفعاله العظيمة كخلق السموات والأرض وجميع الخلائق من العدم المحض..
وبذلك لا تصلح معجزات عيسى دليلا على ألوهيته، بل تصلح دليلا على بشريته لتكون هذه البشرية هي وحدها دليل الإعجاز.
__________
(1) أخرجه البخاري (3261، 6442) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) أخرجه البخاري (3262) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري (3171، 3263، 4349، 4350، 4463،6161)، ومسلم (2860) كلاهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(2/19)
ومن هنا كانت اختصاصات ومعجزات عيسى أول دليلٍ على عبوديته لله سبحانه.
تفسير اختصاصات عيسى
أولا: طبيعة بني إسرائيل
هناك تفسير عام لطبيعة المعجزات التي اختص الله بها عيسى عليه الصلاة والسلام وهي متعلقة بطبيعة بني إسرائيل، ذلك أن الخوارق كانت تتوالى عليهم، دون أن تترك فيهم أثرًا..
قال الله عز وجل: {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة} [البقرة: 211].
بل وصل بهم الحال إلى الدرجة التي نرى فيها رضيعًا يتكلم في المهد.. ولا تفزع أمُّه لذلك، بل تتحدث معه دون الالتفات إلى خارقة كلامه وهو رضيع..!!
روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم..
وصاحب جريج، وكان جريج رجلا عابدا، فاتخذ صومعة، فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا رب! أمي وصلاتي.. فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا رب! أمي وصلاتي.. فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي رب! أمي وصلاتي.. فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات، فتذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته، وكانت امرأة بغي يُتَمَثَّل بحسنها(1) فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم.. قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها، فوقع عليها، فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي، فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال: يا غلام، من أبوك؟ قال: فلان الراعي.. قال: فأقبلوا على جريج يقبِّلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا.. أعيدوها من طين كما كانت.. ففعلوا.
__________
(1) أي: يضرب به المثل لانفرادها به.(2/20)
وبينا صبيٌّ يرضع من أمه، فمر رجل راكب على دابة فارهة(1) وشارة حسنة(2) فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي وأقبل إليه فنظر إليه، فقال: اللهم لا تجعلني مثله.. ثم أقبل على ثديها فجعل يرتضع)).
قال أبو هريرة: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه السبابة في فمه، فجعل يمصها.
قال: ((ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زنيت.. سرقت.. وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها..! فترك الرضاع ونظر إليها فقال: اللهم اجعلني مثلها..! فهناك تراجعا الحديث(3)، فقالت: حلقي! مر رجل حسن الهيئة فقلتُ: اللهمَّ اجعل ابني مثله. فقلتَ: اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون: زنيت.. سرقت.. فقلتُ: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلتَ: اللهم اجعلني مثلها، قال: إن ذاك الرجل كان جبارًا، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها: زنيت.. ولم تزنِ، وسرقت.. ولم تسرق، فقلت: اللهم اجعلني مثلها))(4).
وهذا الحديث بالذات هو الذي يفسر عدم تأثر بني إسرائيل بكلام عيسى في المهد، إذ كان من الطبيعي أن يؤمن بنو إسرائيل بأن عيسى هو المسيح، وأنه عبد الله كما نطق بذلك في المهد.
وكذلك عندما جرى الحجر بثياب موسى..
__________
(1) الفارهة: النشيطة الحادة القوية.
(2) الشارة: الهيئة واللباس.
(3) معناه: أقبلت على الرضيع.
(4) سبق تخريجه.(2/21)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن موسى كان رجلًا حييًّا ستيرًا، لا يُرى من جلده شيء؛ استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما استتر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص وإما أدرة وإما آفة، وإن الله عز وجل أراد أن يبرئه مما قالوا، فخلا يومًا وحده فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر.. فجعل يقول: ثوبي.. حجر! ثوبي.. حجر! حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانًا أحسن ما خلق الله، وبرَّأه مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إن بالحجر لندبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا، فذلك قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها} [الأحزاب: 69]))(1).
وفي الحديث نلاحظ أن حركة الحجر لم تلفت نظر بني إسرائيل.. بل كان كل ما استرعى انتباههم هو التأكد من أن موسى ليس به عيب..!
لذلك كان عيسى مختصًّا بهذا الحشد من المعجزات والخوارق، كآخر نبيٍّ لبني إسرائيل؛ لأنهم لن يلتفتوا إلى أي معجزة تقل أو تساوي تأثير هذه الخوارق المعتادة في حياتهم.
ولذلك أيضًا اشتركت معجزات عيسى عليه الصلاة والسلام في خصلة واحدة، وهي أن تكون مؤثرة في كيان الإنسان وفي إحساسه، ونافذة إلى أعماقه..
مثل إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله، وإخبارهم بما يأكلون وما يدخرون.
غير أن حكمة التأثير في الإحساس الإنساني قد بدت واضحة في معجزة المائدة، ذلك أن حواريي المسيح كان عملهم هو صيد السمك كما قال ابن عباس لمن سأله عن معنى الحواريين فقال: (سُمُّوا لبياض ثيابهم.. كانوا صيادي السمك).
ولذلك كان الطعام الذي نزل على المائدة هو الطعام الذي اعتادوه في حياتهم ومعيشتهم «السمك»..
__________
(1) أخرجه البخاري (3223) ومسلم (339) عن أبي هريرة.(2/22)
وهكذا كان الأمر حتى ورد عندهم في موعظة الجبل عندما جاع الناس الذين جلسوا لسماع الموعظة، فكانت المعجزة هي السمك الذي وجدوه بين أيديهم، وبعدها قال لهم المسيح: (الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: أَنتُم تَطلُبونَني، لا لِأَنَّكم رَأَيتُمُ الآيات.. بلِ لِأَنَّكم أَكَلتُمُ الخُبزَ وشَبِعتُم)..!
وبهذا يتبين لنا أن اختصاص عيسى بهذا النوع من المعجزات لم يكن اختصاصًا له بقدر ما كان اختصاصًا لبني إسرائيل أنفسهم، بدليل أن اختصاص عيسى كان امتدادًا لمعجزات موسى مع بني إسرائيل.. ابتداء بالوحي إلى موسى، حيث كانت عناصر موقف الوحي:
- اللقاء فوق الجبل..
- وعلامة الشجرة الدالة على اللقاء..
- والكلام تكليما..
- والألواح المكتوبة بقدرة الله..
حتى بلغ الأمر أن يطلب موسى رؤية الله سبحانه وتعالى.. حبًّا وشوقًا، وعند هذا الحدِّ يحقق الله الفرقان بين مقام الخلق والخالق {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين*قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين*وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين} [الأعراف: 143-145].
وبهذا كان اعتبار ظروف بني إسرائيل يمثل ارتباطًا بين معجزات موسى ومعجزات عيسى.
وقد أثبت القرآن هذا الارتباط في قول الله سبحانه: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} [البقرة: 253].(2/23)
ولكن القرآن يكشف طبيعة الجحود في بني إسرائيل، والتي تعقب كل معجزة وكل آية.. فيقول سبحانه: {وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون*فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون*ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون} [البقرة: 72-74].
فعيسى عليه السلام بكل اختصاصاته.. مثلٌ لبني إسرائيل.. وحجة عليهم.. {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل} [الزخرف: 59].
وفهم هذا النص يقتضي فهم بني إسرائيل، باعتبار أن عيسى مثلٌ لهم على وجه التحديد.
ثانيا: جميع الاختصاصات بذاتها دليل على العبودية
وكانت القاعدة في ذلك.. ارتباط الاختصاصات التي نشأت عنها الشبهات بدلائل العبودية..
فإذا كان من هذه الاختصاصات أن يولد من غير أب فقد اقتضت دلائل العبودية.. أن ينطق المولود بنفسه ليقول: {إني عبد الله}.
وإذا كان من هذه الاختصاصات أن يُرفع إلى السماء فقد اقتضت دلائل العبودية.. أن يُرفع بين ملكين..
وإذا كان من هذه الاختصاصات أن ينزل في آخر الزمان فقد اقتضت دلائل العبودية.. أن ينزل ليكسر الصليب ويقتل الخنزير ويطوف بالبيت حاجًّا أو معتمرًا، ويعجز عن قتال يأجوج ومأجوج فيأوي إلى جبل الطور، ويموت ويدفن بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر.
ثالثا: مجمل اختصاصات عيسى قد شاركه فيها غيره(2/24)
ومن أول هذه الاختصاصات «نجاته من طعن الشيطان عند ولادته» كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخًا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه))(1)، فهذا الحديث يؤكد نجاة مريم أيضًا من طعنة الشيطان، استجابة لدعاء أمها امرأة عمران {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} [آل عمران: 36].
والحديث الآخر: ((كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن فطعن في الحجاب))(2) يؤكد أنه لم يستثنِ أصلًا من إمكانية التعرض لتسلط الشيطان، بدليل أن الشيطان قد طعن بالفعل، ولكنه من جهة أخرى يثبت إعاذته من قِبل الله.
يقول الإمام القرطبي: ( ولا يلزم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال الممسوس وإغواؤه، فإن ذلك ظن فاسد؛ فكم تعرَّض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء، ومع ذلك فعصمهم الله مما يرومه الشيطان، كما قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الحجر: 42] هذا مع أن كل واحد من بني آدم قد وُكل به قرينه من الشياطين؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمريم وابنها وإن عُصِمَا من نخسه فلم يعصما من ملازمته لها ومقارنته).
أمَّا ما قيل بأنه «لم يخطئ» فهذا لم تأتِ به النصوص الثابتة، بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد من ولد آدم قد أخطأ أو همَّ بخطيئة ليس يحيى بن زكريا))(3)، فهذا يدل على إثبات هذه الخصوصية ليحيى وليس لعيسى، مصداقًا لقوله تعالى {أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين} [آل عمران: 39].
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) أخرجه أحمد (1/254، 291، 295، 301، 320) عن ابن عباس رضي الله عنهما.(2/25)
نقل الإمام ابن كثير عن القاضي عياض في كتابه الشفاء: (اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان {حصورا} ليس كما قاله بعضهم إنه كان هيوبًا أو لا ذَكَر له، بل قد أنكر هذا حذَّاق المفسرين، ونقاد العلماء، وقالوا: هذه نقيصة وعيب، ولا تليق بالأنبياء عليهم السلام، وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب، أي: لا يأتيها كأنه حُصِر عنها، وقيل: مانعًا نفسه من الشهوات، وقيل: ليست له شهوة في النساء، وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة، ثم يمنعها إما بمجاهدة كعيسى، أو بكفاية من الله عز وجل كيحيى عليه السلام، ثم هي في حق من قَدَرَ عليها، وقام بالواجب فيها، ولم تشغله عن ربه درجة عليا، وهي درجة نبينا صلى الله عليه وسلم الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن وقيامه عليهن وإكسابه لهن وهدايته إياهن، بل قد صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو، وإن كانت من حظوظ دنيا غيره، فقال: ((حُبِّبَ إليَّ من دنياكم))(1) هذا لفظه..
والمقصود أنه مدح ليحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء، بل معناه كما قاله هو وغيره: أنه معصوم عن الفواحش والقاذورات، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال: {هب لي من لدنك ذرية طيبة} [آل عمران: 38] كأنه قال: ولدًا له ذرية ونسل وعقب، والله سبحانه وتعالى أعلم).
__________
(1) أخرجه البيهقي في الكبرى (7/78) عن أنس بن مالك.(2/26)
أمَّا ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: ((فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب مثله قبله، ولم يذكر له ذنبًا، نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري))(1) فهذا لا ينفي أن يكون عيسى عليه السلام قد سبق منه الذنب، بل لوجود علة أخرى هي أكبر من الذنب، وهي أنَّ الناس اتخذوه إلهًا من دون الله، فلم يكن مناسبًا والحال كذلك أن يتقدم للشفاعة، أو يتكلم في غير تبرئة نفسه من هذه التهمة الشنيعة، كما قال تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب} [المائدة: 116].
فمقامه مقام من يطلب البراءة لنفسه، لا من يشفع لغيره..
ومما يؤكد ذلك أنه جاء في رواية الترمذي من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد: ((..إني عُبدت من دون الله))(2) وفي رواية أحمد والنسائي من حديث ابن عباس: ((..إني اتُّخِذْتُ إلهًا من دون الله))(3).
فمن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أولى أن يتقدم للشفاعة عمن لم يذكر له ذنب؛ وذلك لأن الشفاعة ذاتها التماس لمغفرة الذنوب، فيكون الأقرب إلى مقامها من غفرت ذنوبه.
وأمَّا كلامه بالمهد، كما قال تعالى: {ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين} [آل عمران: 46].
فقد شاركه فيه غلامان أيضًا، وقد مر ذلك قريبًا..
وأمَّا كلامه {كهلا} فإثباتٌ لنزوله مرة أخرى وعودته في آخر الزمان..
وهو أيضًا دليل على جريان الزمن على عيسى، وخضوعه لمراحل العمر البشري بضعفه.
وفي كلامه في المهد وكهلا نكتة لطيفة، فقد تكلم في المهد لينفي عن أمِّه تهمة الزنا، ويثبت عبوديته لله ابتداءً، كما سيتكلم كهلًا لينفي ادعاء قتله وصلبه، ويثبت عبوديته لله انتهاءً.
وما بين البداية والنهاية.. إثبات لأن الله غالب على أمره..
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق تخريجه.(2/27)
كما جرى ليوسف عندما أوحى الله له وهو في البئر {لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} [يوسف: 15].
وكما أوحى الله لأم موسى وهي تلقيه في اليم: {إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} [القصص: 7].
وتلك هي دلالة البداية على جريان القدر..
وأمَّا «الاختصاص بخلق الطير وإحياء الموتى بإذن الله» كما قال تعالى: {ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 49] فهذا لا يتمُّ فهمه إلا بمناقشة عدة تساؤلات..
لماذا كان الطين..؟ ولماذا كان الطير..؟ ولماذا كان النفخ..؟
أما التساؤل الأول.. لماذا كان الطين؟
فهو أن المعجزة لا بد أن تبدأ بمادة تكون منها؛ لأن المعنى الأصلي للخلق في أفعال الله هو «الإيجاد من العدم» وهو المعنى الذي تنفيه الآية في معجزة عيسى، وذلك بإثبات المادة الأصلية للمعجزة، وأنها لم تكن من العدم، وهو الذي يفسر قول الله سبحانه وتعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون: 14].
لأن الخلق يمكن أن يأتي من تحويل الأشياء من حالة لحالة، وهو ما يستطيعه البشر بإذن الله..
لكن الخلق من العدم.. لا يكون إلا لله.. ويتعلق باسمه «الخالق».
وإثبات المادة الأصلية للمعجزة هو الذي يثبت خضوع المعجزة وصاحبها لقانون السببية الذي يخضع له جميع الخلق..
وليست معجزات عيسى وحدها هي التي تخضع لهذه القاعدة، بل إن معجزات جميع الأنبياء تخضع لها أيضًا، فمعجزة موسى كانت قلب العصا حيَّة..
وكانت معجزته في إحياء الموتي هي ضرب القتيل ببعض البقرة المذبوحة كما في قوله تعالى: {وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون*فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون} [البقرة: 72، 73].(2/28)
وكانت معجزة إبراهيم في إحياء الموتي هي الطير كما في قوله تعالى: {قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم} [البقرة: 260].
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصًا على إثبات هذا المعنى في كل معجزاته، مثلما كان الأمر في معجزة نبع الماء من بين أصابعه، كما حدَّث أنس: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر، فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فأُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء، فوضع يده في ذلك الإناء، وأمر الناس أن يتوضئوا، فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه حتى توضؤوا من عند آخرهم}.
وكذلك حديث جابر في غزوة الأحزاب(1)..
وكذلك حديث أبي هريرة رَضِيَ الله عَنهُ وأهل الصفة(2)..
وعن سلمة رضي الله عنه: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ، فَأَصَابَنَا جَهْدٌ(3)، حَتَّىَ هَمَمْنَا أَنْ نَنْحَرَ بَعْضَ ظَهْرِنَا، فَأَمَرَ نَبِي اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَمَعْنَا مَزَاوِدَنَا(4)، فَبَسَطْنَا لَهُ نِطَعًا، فَاجْتَمَعَ زَادُ الْقَوْمِ عَلَى النطَعِ(5).
قَالَ: فَتَطَاوَلْتُ لأَحْزُرَهُ(6) كَمْ هُوَ؟ فَحَزَرْتُهُ كَرَبْضَةِ الْعَنْزِ(7) وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً.
قَالَ: فَأَكَلْنَا حَتَّىَ شَبِعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ حَشَوْنَا جُرُبَنَا(8)، فَقَالَ نَبِي اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((فَهَلْ مِنْ وَضُوءٍ؟)).
__________
(1) رواه البخاري في باب غزوة الخندق برقم (3876).
(2) رواه الترمذي برقم (3303) وصححه الألباني.
(3) الجَهد: المشقة.
(4) مزاودنا: جمع مِزوَد، وهو الوعاء الذي يُحمل فيه الزاد.
(5) النِّطَع: بساط أو سفرة من الجلد.
(6) فتطاولت لأحزره: أي أظهرت طولي لأحزره؛ أي: لأقدره وأخمنه.
(7) كربضة العنز: أي كمبركها أو كقدرها وهي رابضة.
(8) جُرُبَنا جمع جِراب: الوعاء من الجلد يجعل فيه الزاد.(2/29)
قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ بِإِدَاوَةٍ لَهُ، فِيهَا نُطْفَةٌ(1)، فَأَفْرَغَهَا فِي قَدَحٍ، فَتَوَضَّأْنَا كُلُّنَا نُدَغْفِقُهُ دَغْفَقَةً(2)، أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائِةً)(3).
قال المازري: (في تحقيق المعجزة في هذا: أنه كلما أكل منه جزء أو شرب جزء خلق الله تعالى جزءًا آخر يخلفه).
ومن هذا الحديث تتبين أهمية وجود مادة تحدث من خلالها المعجزة.
وكذلك كان الأمر في معجزات عيسى الواردة في كتبهم..
فقد أورد متى في كتابه: (وأما يسوع فدعا تلاميذه، وقال: إني أشفق على الجميع؛ لأن لهم الآن ثلاثة أيام يمشون معي، وليس لهم ما يأكلون، ولست أريد أن أصرفهم صائمين لئلا يخوروا في الطريق، فقال له تلاميذه: من أين لنا في البرية خبز بهذا المقدار حتى يُشبع جمعًا هذا عدده..؟! فقال لهم يسوع: كم عندكم من الخبز..؟ فقالوا: سبعة وقليل من صغار السمك، فأمر الجموع أن يتكئوا على الأرض؛ وأخذ السبع خبزات والسمك، وشكر وكسر، وأعطى تلاميذه، والتلاميذ أعطوا الجمع، فأكل الجمع وشبعوا).
أما التساؤل الثاني.. لماذا كان الطير؟
فقد كان الرومان الذين يمثِّلون ذروة القدرة البشرية في تلك الحقبة الزمنية متفوقين في فنون النحت والرسم والتصوير، فكان تصوير الطين كهيئة الطير ابتداءً ثم نفخ الروح فيه- إعجازٌ يحقق هدف المعجزة، في تحدي القدرة البشرية، وإثبات النبوة.
أما التساؤل الثالث.. لماذا كان النفخ؟
فعندما يُجري الله آية على يد نبيٍّ من الأنبياء.. فإنه لا بد من إثبات الصلة بين هذا النبي وهذه المعجزة..
ففي حالة العزير.. أجرى الله سنة الموت على العزير نفسه، ثم أثبت له حقيقة الموت بإجراء سنة الفناء على حماره، واستثناء طعامه من هذه السُّنة {طعامك وشرابك لم يتسنه} [البقرة: 259]. فكان ذلك إثباتًا لاختصاص العزير بهذه المعجزة.. من خلال حماره وطعامه.
__________
(1) فيها نُطفة: أي قليل من الماء.
(2) ندغفقه دغفقة: أي نَصُبُّه صبًّا شديدًا.
(3) أخرجه مسلم (1729).(2/30)
وعندما طلب إبراهيم الخليل من الله أن يريه كيف يُحيِي الموتى أمره بأخذ أربعة طيور، فكانت الصلة بين حادثة إحياء الموتى وإبراهيم الخليل أنه هو الذي ذبح الطيور الأربعة، ولكن الله يقول: {فصرهن إليك} [البقرة: 260] أي: اذبحهن وهم يميلون إليك..
ومعنى ذلك: أن يمسك برقابهم ورءوسهم؛ لأن الرقبة والرأس هي التي تحدد اتجاه الطائر..
وقد ورد أنه ذبحهن.. واحتفظ برءوسهن في يده.. {ثم ادعهن يأتينك سعيا} [البقرة: 260]..
ومن الرءوس عادت الحياة إلى الطير بإذن الله.. وهذا دليل اختصاص إبراهيم بهذه المعجزة..
وكذلك كانت معجزة موسى ألا تتحول عصاه إلى حية إلا إذا ألقاها موسى، ولا تعود عصاة إلا إذا أخذها، وبذلك تثبت الصلة بينه وبين معجزته.
أما في معجزة عيسى فكان النفخ هو الصلة القدرية.. تمامًا كما أُمِرنا بالنفث في اليد ومسح الجسم عند الرقية(1)..
أمَّا الاختصاص بإبراء الأكمه والأبرص.. فقد أجراه الله على يد كثير من الأنبياء، ومنهم نبينا عليه الصلاة والسلام..
ومن المهم هنا أن نلتفت الانتباه إلى الفرق بين الإبراء والشفاء، فلم تقل الآية أُشفي الأكمه والأبرص؛ لأن الإبراء هو طلب الشفاء وليس الشفاء ذاته، وقد أكد هذا المعنى صاحب لسان العرب في مادة «شفى»، حيث قال: (شفاه بلسانه: أبرأه).
وفي التفريق بين يبرئ ويشفي يأتي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة أصحاب الأخدود: ((وكان الغلام يُبْرِئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليسٌ للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما هاهنا أجمع لك إن أنت شفيتني، قال: إني لا أشفي أحدًا.. إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت بالله دعوتُ الله فشفاك، فآمن بالله.. فشفاه الله))(2).
والنص يثبت أن الغلام كان «يبرئ» وينفي أنه «يشفي» ويقول: ((إني لا أشفي أحدًا.. إنما يشفي الله عز وجل)).
__________
(1) أخرجه البخاري (4729) عن عائشة.
(2) أخرجه مسلم (3005) عن صهيب.(2/31)
وكذلك كان عيسى ابن مريم يبرئ ولا يشفي.. والله هو الذي يشفي.
وأمَّا الاختصاص بالعلم بما يأكلون وما يدخرون.. فقد جرى لكثير من الأنبياء أيضًا، ومنهم يوسف عليه السلام حين قال لصاحبيه في السجن: {لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي} [يوسف: 37].
وهذا النوع من العلم ليس علمًا بالغيب المطلق الذي لا يعلمه أحد من الخلق، وإنما هو غيب نِسْبِيٌّ، غاب عن البعض، وعلمه البعض.
وهذا النوع الأخير لا يكون العلم به إلا بإذن الله، وهو الأمر الذي اختص الله به عيسى عليه الصلاة والسلام، وغيره من الأنبياء.
رابعًا: اختصاصات عيسى التي ذكرت على وجه لم يشاركه فيها غيره لم تخرج عن التقدير الكوني العام
وذلك لكي لا يؤخذ من هذه الاختصاصات دليل على خروج عيسى عن حيز البشر..
ومن هذه الاختصاصات تسميته بـ «كلمة الله»، وقد فسرنا هذا الاختصاص من حيث الفعل عند الكلام عن الحكمة من خلق عيسى بلا أب، من خلال علاقته بالساعة.. وكذلك فسرنا هذا الاختصاص من حيث التسمية عند الكلام عن «الابن والكلمة» في الباب الثاني.
أمَّا الاختصاص بالتأييد بالروح القدس.. فمع أنَّ جبريل أمين الوحي، المكلف بتبليغه إلى جميع الأنبياء والمرسلين، وتأييدهم في دعوتهم إلا أن لفظ التأييد بـ «روح القدس» جاء اختصاصًا لعيسى، في ثلاث مرات:
{ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة: 87].
{تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} [البقرة: 253].(2/32)
}إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والأنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين} [المائدة: 110].
والملاحظ أنها جميعًا سياقات متعلقة ببني إسرائيل، ولذلك علاقة بعداوة اليهود لجبريل عليه السلام..
روى الإمام ابن أبي حاتم بسنده: (انطلق عمر بن الخطاب إلى اليهود فقال: أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمدًا في كتبكم..؟
قالوا: نعم..!
قال: فما يمنعكم أن تتبعوه..؟!
قالوا: إن الله لم يبعث رسولًا إلا جعل له من الملائكة كفلا، وإن جبرائيل كفل محمدًا، وهو الذي يأتيه، وهو عدونا من الملائكة، وميكائيل سلمنا، لو كان ميكائيل الذي يأتيه أسلمنا..!
قال: فإني أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى: ما منزلتهما عند الله تعالى..؟
قالوا: جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله..!
قال عمر: وإني أشهد ما ينزلان إلا بإذن الله، وما كان ميكائيل ليسالم عدو جبرائيل، وما كان جبرائيل ليسالم عدو ميكائيل..!
فبينما هو عندهم إذ مر النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا صاحبك يابن الخطاب..! فقام إليه عمر، فأتاه وقد أنزل الله عز وجل {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} [البقرة: 98])(1).
ولتسمية جبريل بـ «روح القدس».. معنى وحكمة..
فهو أداة تحقيق أفعال الله.. وبهذا الاعتبار لا بد أن تكون الأداة ملهمة بالصواب..
ولا بد أيضًا أن تتناسب مع الفعل من حيث ارتباطه باسم الله الذي يتحقق الفعل بمقتضاه.
__________
(1) أخرجه السيوطي في اللباب (1/17) وعزاه لإسحاق بن راهويه في مسنده وابن جرير من طريق الشعبي.(2/33)
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الركوع: {سبوح قدوس رب الملائكة والروح}(1).
ومعنى سُبُّوح: المبرَّأ من النقائص والشريك وكل ما لا يليق بالإلهية..
أمَّا القدُّوس: فهو المنزه عن الخطأ في ذاته وفي أفعاله..
وفي هذا الدعاء جاء الربط بين اسم الله «القدوس» و«الروح» وهو روح القدس..
وارتباط اسم «روح القدس» بتحقيق التقديس يرجع إلى هذا المعنى الذي نشأ عنه، وهو قاعدة عامة في ارتباط أسماء الملائكة بأعمالها، باعتبارها أداة في تحقيق أفعال الله بمقتضى أسمائه وصفاته.
وقد تبين مما سبق أن اسم الله «القدوس».. على وزن «فُعُّول» من القدس وهي صيغة مبالغة، وحقيقته: التعالي عن قبول التغيُّر.. والمطهَّر من كل ما يليق بالخالق.
و«التقديس» اسم الفعل، و«القُدُس» ليست بمعنى الفعل ولا اسم الفعل، ولكن بمعنى أداة تحقيق اسم الله القدوس.
والملاحظة الهامة في دعاء الركوع: هي الجمع بين الملائكة والروح، وهو الجمع الذي جاء في سورة القدر، ليلة تقدير أفعال الله كل عام؛ لذا كانت ليلة سلام، كما قال سبحانه: {إنا أنزلناه في ليلة القدر*وما أدراك ما ليلة القدر*ليلة القدر خير من ألف شهر*تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر*سلام هي حتى مطلع الفجر} [سورة القدر].
وهو ما يبين الحكمة من إثبات اسم الله السلام من بدايته إلى نهايته في خلق عيسى عليه الصلاة والسلام {والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} [مريم: 33].
__________
(1) أخرجه مسلم (487) عن عائشة.(2/34)
ولذلك يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: (هذه الأوقات الثلاثة أشد ما تكون على الإنسان؛ فإنه ينتقل في كلٍّ منها من عالم إلى عالم آخر، فيفقد الأول بعدما كان ألِفه وعرفه، ويصير إلى الآخر ولا يدري ما بين يديه، ولهذا يستهل صارخًا إذ خرج من بين الأحشاء وفارق لينها وضمها، وينتقل إلى هذه الدار ليكابد همومها وغمها، وكذلك إذا فارق هذه الدار وانتقل إلى عالم البرزخ بينها وبين دار القرار) وفي ذلك إثبات منه لعبوديته لله عز وجل، وأنه مخلوق من خلق الله، يَحْيَى ويموت ويُبعَث كسائر الخلائق، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد، صلوات الله وسلامه عليه.
واختصاص عيسى بالتأييد بروح القدس يأتي تقابلًا مع اختصاص إبليس بالعداء لعيسى عليه السلام، وهذا الاختصاص راجع إلى قاعدة التوازن التي يتضمنها معنى الحكمة في أفعال الله، ومثالها: تدخل جبريل في غزوة بدر بمجرد تدخل إبليس في الغزوة.
وقد سبق مناقشة موقف عداء إبليس لعيسى باعتباره مثل آدم..
فعناصر العداء بين إبليس وآدم هي نفسها عناصر العداء الخاص بين إبليس وعيسى.
وباعتبار أن إبليس هو المقابل المطلق لروح القدس، والمؤيد التام للدجال.. كان تأييد روح القدس لعيسى ابن مريم.. المقابل التام للدجال.
ويجب التنبيه على أن اختصاص عيسى بتأييد «روح القدس» لم يُسقط الفارق بين الإنس والملائكة؛ لأنَّ دخول الملائكة في الواقع البشرى له قواعده، وأهم هذه القواعد هو التناسب بين صورة الملك ومهمته التي سيقوم بها وتَمَثَّل من أجلها، مثلما جاء جبريل في غزوة بدر آخذًا بعنان فرسه، وفي غزوة الأحزاب.. لابسًا زيَّ الحرب.(2/35)
إن جبريل بطبيعة الملائكة لم يكن في حاجة إلى فرس أو زي للحرب، ولكن التدخل كان من أجل المنازلة في حرب بشرية، فكان لا بد من تناسب الصورة الملائكية مع الحرب البشرية، فركوب الفرس وارتداء زي الحرب تغير في الصورة لا في الطبيعة، بينما الأكل والشرب بخلاف ذلك.
وعندما جاء جبريل لتعليم الناس دينهم.. جاء وجلس جلسة العلم أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس واضعًا ركبتيه أمام ركبتي الرسول، واضعًا يده على فخذيه؛ لأن المهمة كانت نيابة عن الأمة، فجاء في صورة أحد أفرادها، وكان على صورة أجمل الرجال، واسمه دحية الكلبي.
ويفسر ذلك أيضًا حديث الرجل الذي سافر لأخيه حبًّا في الله، فتمثل له ملك في صورة بشر، لتعلق الأمر بالحب في الله بين البشر.
وكذلك الملك الذي نزل في صورة فارس لينقذ إنسانًا أراد لصٌّ أن يقتله، بعد أن دعا الله باسمه الحنان المنان، فتدخل الملك في صورة فارس لتعلقه بأداء مهمة في واقع بشري.
عيسى والصراط
تعريف الصراط:
لقد عرَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم الصراط تعريفًا جامعًا فقال: ((ضرب الله مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبوابٌ مفتَّحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يأيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا ولا تعوجوا، وداعٍ يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال: ويْحك لا تفتحه؛ فإنك إن تفتحه تلجْه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم))(1).
يقول الإمام ابن القيم: (لا تكون الطريق صراطًا حتى تتضمن خمسة أمور: الاستقامة، والإيصال إلى المقصود، والقرب، وسعته للمارين عليه، وتعينه طريقا للمقصود.
__________
(1) رواه أحمد عن النواس بن سمعان، وصححه الألباني برقم (3887) في صحيح الجامع.(2/36)
ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهذه الأمور الخمسة.. فوصفه بالاستقامة يتضمن قربه؛ لأن الخط المستقيم هو أقرب خط فاصل بين نقطتين، وكلما تعوج طال وبعد، واستقامته تتضمن إيصاله إلى المقصود، ونصبه لجميع من يمر عليه يستلزم سعته، وإضافته إلى المنعم عليهم ووصفه بمخالفة صراط أهل الغضب والضلال يستلزم تعينه طريقًا.
والصراط تارة يضاف إلى الله؛ إذ هو الذي شرعه ونصبه كقوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما} [الأنعام: 153] وقوله: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم*صراط الله} [الشورى: 52-53] وتارة يضاف إلى العباد كما في الفاتحة لكونهم أهل سلوكه وهو المنسوب لهم وهم المارون عليه).
ويقول رحمه الله: (فنذكر في الصراط المستقيم قولًا وجيزًا، فإن الناس قد تنوعت عباراتهم فيه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقته شيء واحد، وهو طريق الله الذي نصبه لعباده على ألسن رسله وجعله موصلًا لهم إليه ولا طريق لهم إليه سواه، بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله، وجعله موصلًا لعبادة الله وهو إفراده بالعبادات، وإفراد رسله بالطاعة، فلا يُشرك به أحدًا في عبادته ولا يشرك برسوله صلى الله عليه وسلم أحدًا في طاعته. فيجرد التوحيد، ويجرد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فأي شيء فُسر به الصراط المستقيم فهو داخل في هذين الأصلين.
ونكتة ذلك: أن تحبه بقلبك وترضيه بجهدك كله، فلا يكون في قلبك موضع إلا معمورًا بحبه، ولا يكون لك إرادة متعلقة بمرضاته..
فالأول: يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني: يحصل بتحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله. وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعث الله به رسوله والقيام به، وقل ما شئت من العبارات التي هذا آخيتها وقطب رحاها).(2/37)
من خلال تعريف الإمام ابن القيم يتبين لنا أن أهم الحقائق الجامعة للأنبياء.. حقيقة الصراط.
وأن الصراط هو الطريق الواحد إلى الله..
وباعتباره طريق.. تكون حقيقة كونيته وواقعيته..
وباعتباره واحد.. تكون حقيقة التوافق والتواصل والتكامل بين أصحابه..
وباعتباره مؤدِّيًا إلى الله.. تكون حقيقة المنهجية في طاعة الله ورسوله..
وباعتباره مؤدِّيًا إلى الله.. تكون حقيقة الغاية..
وبذلك يكون المعنى الإجمالي للصراط أنه (الطريق الحق الواحد المؤدِّي إلى الله).
وهذا التعريف يتحقق من خلال الرسالات والنبوات الممتدة إلى آخر الزمان، والمجتمعة كلها في النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم وأمته الخاتمة..
وقد جاء هذا المعنى في سورة المائدة: {ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين*يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} [المائدة: 15-16].
وقد تضمنت الآية مواجهة اليهود والنصارى بحقيقة الكتاب الذي انحرفوا عنه، ولذلك جاء بعقبها: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير*وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير*ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير} [المائدة: 17-19].(2/38)
ودلالة الأنبياء على الصراط تأتي باعتبار منهجهم الموصِّل إلى الله، وباعتبار ذواتهم الدالة بمعجزاتهم وأعمالهم على الله، ومن هنا جاء قول الله تعالى: {يبين لكم على فترة من الرسل} أي: تحقق به الاتصال بعد الانقطاع.
نبوة عيسى والصراط:
وفي إطار دلالة الأنبياء بذواتهم على الصراط.. ينشأ اختصاص بين عيسى والصراط، ومن هنا جاءت الآيات الدالة على هذا الاختصاص {إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [آل عمران: 51].
{وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [مريم: 36].
{إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [الزخرف: 64].
ويقوم الارتباط بين الصراط وعيسى في إطار حقيقة النبوة من خلال عدة أمور هي:
البشرى والتوافق والمنهجية والنهاية..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى عليهما السلام))(1).
والبُشرى هي السياق القدري المتجه نحو غاية واحدة كالرياح والمطر {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون} [الأعراف: 57].
ومن هذا المنطلق نشأت خصوصية العلاقة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، بحيث لم يكن معنى بُشرى عيسى برسول الله مجرد إخبار عنه، ولكن بمعنى الدلالة القدرية لولادة عيسى على بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام..
فقد كان عيسى عليه السلام علامة على الساعة {وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم} [الزخرف: 61] بينما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت أنا والساعة كهاتين -وفرَّق بين السبابة والوسطى- إن كادت لتسبقني))(2).
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/453) وأبو نعيم في الحلية (6/90) عن العرباض بن سارية.
(2) أخرجه البخاري (4995، 6138، 6139، 6140) ومسلم (2950، 2951) كلاهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه.(2/39)
ومن عناصر البُشرى: التقارب الزمني، ولذلك كانت الرؤية بمعنى البُشرى؛ لأنها تتحقق في الواقع بُعَيْدَ الشعور بها في النوم، ولذلك كانت رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قبل الوحي تتحقق مثل فلق الصبح.
ولذلك أيضًا كانت البُشرى هي السَّبق في الإخبار؛ لأن السبق في الإخبار هو الذي يحقق القرب بين الحدث والعلم به.
ومن حيث المنهجية فقد كانت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم متوافقة مع رسالة عيسى..
ويدل على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الحديث الذي جاء فيه: أن الله أمر يحيى وعيسى عليهما السلام بخمس كلمات أن يعملا بهن ويأمرا بني إسرائيل أن يعملوا بهن..
ثم قال بعقبها: ((وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن.. الجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله..))(1).
وكان آخر جهاد في هذه الأمة هو الجهاد مع عيسى..
ثم يجتمع الرسولان في النهاية، باعتبارهما دليل واحد على الصراط، واعتبار أن النهاية الواقعية للصراط نقطة واحدة..
وفى ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي))(2).
الحكمة والصراط:
والحكمة هي الصفة الواقعية للحق، والصراط هو واقع الحق، فكانت الحكمة هي الشاهد الأساسي للصراط، حيث جمع الله بينها وبين الصراط من خلال رسالة عيسى وذلك في قوله سبحانه: {ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون*إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [الزخرف: 61-64].
__________
(1) راجع نص الحديث بأكمله: الباب الرابع-تصحيح التحريف.
(2) أخرجه البخاري (3259) ومسلم (2365) كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه.(2/40)
وكذلك كان هذا الجمع عنصرًا من عناصر الارتباط بين عيسى والصراط في قول الله عز وجل: {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل}.. إلى قوله: {إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [آل عمران: 48-51].
الباب السادس
المواجهة
الفصل الأول:
منهج المواجهة
سلفية المواجهة
كما سبق في المقدمة، فإن سلفية هذه الدراسة تعني قيامها على نصوص القرآن والحديث وأقوال السلف، والذي يعنينا هنا هو تحديد المعنى المقصود بالسلفية في المواجهة مع النصرانية المحرَّفة، وهو: «الالتزام بمنهج السلف في الفهم والاعتقاد قبل المواجهة»، وفي هذا الإطار يجب التنبيه على أن أصحاب عقيدة التوحيد الخالص هم أقدر الناس على المواجهة الصحيحة للنصرانية المحرَّفة، وهم الذين يملكون التصور الكامل لتلك المواجهة، حتى إن من يقرأ الكتابات السلفية في هذا المجال يتبين له هذا الأمر بصورة واضحة، والمثال على ذلك كتاب «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» للإمام ابن تيمية.
والمواجهة السلفية للنصرانية المحرَّفة تتميز بالتجرد المطلق للحق، والبعد التام عن التعصب، ودليل ذلك.. التقييم الموضوعي للقضايا المطروحة، وهو الأمر الذي أخذه سلفُنا الصالح من القرآن في مناقشته لهذه القضية، مثل قوله تعالى: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} [آل عمران: 75] فتقرر الآية أن منهم من يؤدي الأمانة ومنهم من لا يؤديها.(2/41)
وفي البداية.. يجب التنبيه على أن منهج مواجهة النصرانية المحرَّفة له نفس الأبعاد المنهجية الكاملة لمنهج الدعوة الإسلامية، وهي الحكمة المأخوذة من قول الله عز وجل: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] وفيه يقول الأستاذ سيد قطب: (على هذه الأسس يُرسي القرآن قواعد الدعوة ومبادئها، ويعيِّن وسائلها وطرائقها، ويرسم المنهج للرسول الكريم، وللدعاة من بعده بدينه القويم، فلننظر في دستور الدعوة الذي شرعه الله في هذا القرآن.. والدعوة بالحكمة، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، والقدر الذي بيَّنه لهم في كل مرة.. والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها.. فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه.
وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق، وتتعمق المشاعر بلطف، لا بالزجر.. فإن الرفق في الموعظة كثيرًا ما يهدي القلوب الشاردة، ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب و التوبيخ.
وبالجدل بالتي هي أحسن.. بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له وتقبيح، حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق..
فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق حتى لا تشعر بالهزيمة، وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس، فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلًا عن هيبتها واحترامها وكيانها. والجدل بالحسنى هو الذي يطامن هذه الكبرياء الحساسة، ويشعر المجادل أن ذاته مصونة، وقيمته كريمة. وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها والاهتداء إليها..
في سبيل الله، لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر..!(2/42)
هذا هو منهج الدعوة ودستورها ما دام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والجدل بالحجة، فأما إذا وقع الاعتداء على أهل الدعوة فإن الموقف يتغير، فالاعتداء عملٌ ماديٌّ يدفع بمثله إعزازًا لكرامة الحق، ودفعا لغلبة الباطل، على ألا يتجاوز الرد على الاعتداء حدوده إلى التمثيل والتقطيع، فالإسلام دين العدل والاعتدال، ودين السلم والمسالمة، إنما يدفع عن نفسه وأهله البغي ولا يبغي {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} وليس ذلك بعيدًا عن دستور الدعوة فهو جزء منه. فالدفع عن الدعوة في حدود القصد والعدل يحفظ لها كرامتها وعزتها، فلا تهون في نفوس الناس. والدعوة المهينة لا يعتنقها أحد ولا يثق أنها دعوة الله. فالله لا يترك دعوته مهينة لا تدفع عن نفسها، والمؤمنون بالله لا يقبلون الضيم وهم دعاة الله والعزة لله جميعًا..
والهدى والضلال بيد الله وَفق سنته في فطرة النفوس واستعداداتها واتجاهاتها للهدى أو الضلال..
هذا هو دستور الدعوة إلى الله كما رسمه الله..
والنصر مرهون باتباعه كما وعد الله.. ومن أصدق من الله..؟!).
وقال رحمه الله في ظلال هذه الآية: {والفتنة أشد من القتل} [البقرة: 191]:
(فاعتبر الاعتداء على العقيدة والإيذاء بسببها وفتنة أهلها عنها أشد من الاعتداء على الحياة ذاتها. فالعقيدة أعظم قيمة من الحياة وَفق هذا المبدأ العظيم.
وإذا كان المؤمن مأذونًا في القتال ليدفع عن حياته وعن ماله، فهو من باب أولى مأذون في القتال ليدفع عن عقيدته ودينه..(2/43)
وقد كان المسلمون يسامون الفتنة عن عقيدتهم ويؤذون، ولم يكن لهم بد أن يدفعوا هذه الفتنة عن أعز ما يملكون. يسامون الفتنة عن عقيدتهم، ويُؤذَوْن فيها في مواطن من الأرض شتى، وقد شهدت الأندلس من بشاعة التعذيب الوحشي والتقتيل الجماعي -لفتنة المسلمين عن دينهم، وفتنة أصحاب المذاهب المسيحية الأخرى ليرتدوا إلى الكاثوليكية- ما ترك أسبانيا اليوم ولا ظل فيها للإسلام! ولا للمذاهب المسيحية الأخرى ذاتها! كما شهد بيت المقدس وما حوله بشاعة الهجمات الصليبية التي لم تكن موجهة إلا للعقيدة والإجهاز عليها; والتي خاضها المسلمون في هذه المنطقة تحت لواء العقيدة وحدها فانتصروا فيها، وحموا هذه البقعة من مصير الأندلس الأليم.. وما يزال المسلمون يسامون الفتنة في أرجاء المناطق الشيوعية والوثنية والصهيونية والمسيحية في أنحاء من الأرض شتى.. وما يزال الجهاد مفروضًا عليهم لرد الفتنة إن كانوا حقًّا مسلمين!).
فلابد أن تنطلق المواجهة الواقعية من التقييم السلفي لواقع الصراع بين الإسلام والنصرانية المحرفة، والمقصود بالتقييم السلفي هو تفسير هذا الواقع، وتحليل دوافعه، وتقييم اتجاهاته ومستقبله من خلال هذا التقييم.
تفسير واقع الصراع
نجد القرآن يفسر لنا طبيعة الصراع بين الإسلام والنصرانية بقوله تعالى: {يريدون أن يطفؤوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} [التوبة: 32].
لذلك يجب تقييم أي حركة نصرانية ضد الإسلام من خلال معنى هذه الآية، إذ لا يمكن اعتبار الصراع بين الإسلام والنصرانية المحرفة مجرد تقابل عقدي أو فكري، بل يجب النظر إلى أي حركة نصرانية ضد الإسلام كمحاولة لإطفاء «نور الله» بالأفواه..!
ثم تحدد الآيات الصيغة الواقعية لتحقيق الإرادة الإلهية {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق}.. وذلك لأن هذا الدين أنزله الله {ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} [التوبة: 33].(2/44)
وهذا التفسير العام لواقع الصراع يسبقه ويعقبه تحديد الدور المركزي للأحبار والرهبان في واقع النصرانية بقوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31] وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه العلاقة بالتحليل والتحريم(1) يعطيها بعدها الواقعي تمامًا كقيادة تشريعية وتوجيهية للنصارى كافة، وبصورة مطلقة، وفي كل مجالات حياتهم العملية..
وعن طبيعة قيادة الأحبار والرهبان لهذا الواقع يقول تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} [التوبة: 34] وهذه الآية تثبت العلاقة بين أكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله..
لنفهم أن هذا الفعل هو السبب الأساسي في بقاء بدعة النصرانية بكل أسبابها وجوانبها..
ولذلك جاءت الآية بصيغة الفعل المضارع لإثبات استمراريته {ليأكلون}..
ومن هنا كان تركيز الآيات على عقوبة هؤلاء الناس.. وكل الذين يكنزون الذهب والفضة، فتناقش فتنة المال بصورة تفصيلية ونفسية دقيقة للغاية {يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} [التوبة: 35].
دوافع الصراع
يجب أن يكون مفهومًا أن هدف النصارى ليس نقل المسلمين إلى النصرانية، ولكن إخراج المسلمين من الإسلام..
وهذه الحقيقة هي مضمون الآيات القرآنية التي تفسر موقف النصارى من الإسلام والمسلمين {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} [البقرة: 109]، وكلمة «وَدَّ» و «حَسَدًا» في الآيات تعبر عن الحالة النفسية التي يشعر بها النصارى تجاه المسلمين..
__________
(1) يراجع: نص حديث عدي ابن حاتم.(2/45)
وكذلك قوله تعالى: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة: 217] وكلمة {ولا يزالون} تدل على الإصرار على الهدف والاستمرار في المحاولات، وكلمة {إِنِ اسْتَطَاعُوا} تدل على بذل أقصى ما يستطيعون لأجل هذا الهدف الذي يسعون إليه..
وهناك دافع آخر للصراع من جانب النصارى، وهو وقف ظاهرة الدخول في الإسلام؛ لأن الحرب تمنع النصارى من التفكير في الإسلام بصورة موضوعية ومتزنة، وتعبئ النفس في اتجاه عدائي واحد؛ ليجدوا أنفسهم أعداءً لهذا الدين بصورة نفسية هستيرية لا حيلة لهم فيها، وتنعكس كل عناصر الصراع على شعورهم النفسي تجاه الإسلام.
ومن هنا يأتي تفسير ظاهرة ارتباط الحروب الصليبية -تاريخيًّا- بظاهرة الإقبال التاريخي من جانب النصارى على الإسلام.. والحرب القائمة دليل على هذا التفسير..
كما يأتي الدافع المادي، باعتبار أن الدنيا هي أحد عوامل التحريف، وأحد المحركات الأساسية للكافرين عمومًا والنصارى خصوصًا(1) .
ففي الحملات الصليبية المبكرة كان الباباوات يحرِّضون العامة على حرب المسلمين بقولهم: (إن أرض الشرق تفيض لبنًا وعسلًا..)، وحديثًا يحل النفط والثروات الطبيعية محل اللبن والعسل؛ ليكون هو المحرك الأساسي للحملات الصليبية الحديثة على بلاد المسلمين التي خصها الله بالنصيب الوافر منه..!
وذلك كله مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أُفق كما تداعى الأكلة على قصعتها))(2) .
ولكن يجب أن يكون مفهوما أن «اللبن والعسل» قديمًا و«النفط »حديثًا لم تكن هدفًا إلا باعتبارها وسائل للحرب على العقيدة الإسلامية.. وهي الهدف الأساسي.
مستقبل الصراع
__________
(1) تراجع: عوامل التحريف-الباب الثالث.
(2) مسند أحمد (22450).(2/46)
يكون التفسير السلفي لواقع الصراع من خلال علامات الساعة، وأساسها الملحمة، حيث تجتمع كل عناصر الصراع بين الحروب الصليبية من الناحية التاريخية والملحمة من الناحية المستقبلية.
ولكن المخططات تبطل بقدر الله وحده {وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} [إبراهيم: 46] وهذا النص القرآني يعالج البعد القدري للصراع؛ لنعلم أن مستقبل الصراع بيد الله وحده، محكوم بقدر الله وسننه الثابتة.
وطبقًا لعلامات الساعة هناك بُعدٌ قدري للمواجهة مع النصارى، يحدده ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن الملحمة.. حيث يقول: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتْ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لَا وَاللَّهِ.. لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا، فَيُقَاتِلُونَهُمْ؛ فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لَا يُفْتَنُونَ أَبَدًا، فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ إِذْ صَاحَ فِيهِمْ الشَّيْطَانُ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ؛ فَيَخْرُجُونَ -وَذَلِكَ بَاطِلٌ- فَإِذَا جَاءُوا الشَّأْمَ خَرَجَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ إِذْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّهُمْ فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، فَلَوْ تَرَكَهُ(2/47)
لَانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ))(1) .
من هذا الحديث نستطيع تحديد العناصر الثابتة للصراع:
الأول: دخول النصارى في الإسلام
حيث أنَّ أول سبب ظاهر للصراع -يذكره الحديث- هو طلب الروم استعادة من أسلموا منهم. يقول الإمام النووي: (رُوِيَ «سُبُوا» عَلَى وَجْهَيْنِ: فَتْح السِّين وَالْبَاء، وَضَمِّهمَا. قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِق: الضَّمُّ رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ. قَالَ: وَهُوَ الصَّوَاب.
قُلْت: كِلَاهُمَا صَوَاب؛ لِأَنَّهُمْ سُبُوا أَوَّلًا، ثُمَّ سَبَوْا الْكُفَّار، وَهَذَا مَوْجُود فِي زَمَاننَا، بَلْ مُعْظَم عَسَاكِر الْإِسْلَام فِي بِلَاد الشَّام وَمِصْر سُبُوا، ثُمَّ هُمْ الْيَوْم بِحَمْدِ اللَّه يَسْبُونَ الْكُفَّار، وَقَدْ سَبَوْهُمْ فِي زَمَاننَا مِرَارًا كَثِيرَة، يَسْبُونَ فِي الْمَرَّة الْوَاحِدَة مِنْ الْكُفَّار أُلُوفًا، وَلِلَّهِ الْحَمْد عَلَى إِظْهَار الْإِسْلَام وَإِعْزَازه).
وقد تقرر من قبل أن من عناصر الصراع الصليبي ارتباطه بظاهرة دخول النصارى في الإسلام، وهو العنصر الذي سيبقى حتى الملحمة مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: العرق
حيث كان الروم -أو أوروبا- هم العرق المكون «للنصارى» في الحروب الصليبية، ويمثلهم اليوم أوروبا وأمريكا، ليبقى عرق الروم هو العرق الأساسي للنصارى في الصراع حتى الملحمة.
الثالث: الكثرة
حيث قامت الحروب الصليبية على تجييش «كثرة عددية» ليس لها مثيل في التاريخ، لتبقى هذه الظاهرة في فكرة التحالفات الغربية ضد الإسلام.. حتى زمن الملحمة، ويخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بهذه الظاهرة فيقول: ((تكون هدنة بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفًا))(2) ..
__________
(1) أخرجه مسلم ( 2897 ) .
(2) أخرجه البخاري ( 3005 )(2/48)
ولعلنا نلاحظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فيغدرون)) لننتبه أن الغدر عنصر أصيل من عناصر الحرب الصليبية، وكذلك نلاحظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فيسيرون إليكم)) وقوله: ((يأتونكم)) وقوله: ((وتجمع للملحمة)) لننتبه إلى عنصر الغزو والهجوم من جانبهم.
الرابع: الصليب
وهو العنصر الواضح في الحروب الصليبية التاريخية حتى بلغ درجة هيسترية، فيُرسم الصليب على أعلام الدول، ورايات الحرب وملابسها، وعلى الدروع والأسلحة.. وكذلك ستكون في الملحمة ((فَيَرْفَعُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ الصَّلِيبَ فَيَقُولُ: غَلَبَ الصَّلِيبُ، فَيَغْضَبُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَدُقّهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ وَتَجْمَعُ لِلْمَلْحَمَةِ)).
ولعلنا نلاحظ عبارة: «غَلَبَ الصَّلِيبُ» لننتبه إلى مدى حمية النصارى للصليب، وهو الأمر الواضح جدًّا في كل الحروب الصليبية القديمة والحديثة.
وكنتيجة للغدر فإن كفة النصارى سترجح في أول المعركة، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((وَيَثُورُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى أَسْلِحَتِهِمْ، فَيَقْتَتِلُونَ، فَيُكْرِمُ اللَّهُ تِلْكَ الْعِصَابَةَ بِالشَّهَادَةِ)).
ولكن النتيجة لم تؤثر في المسلمين، ولم يستسلموا لها رغم أن الشهداء كانوا «ثلث الجيش»..(2/49)
وكنتيجة لاجتماع كل الأعداد والقوى والإمكانيات النصرانية في حرب الملحمة كان من الضروري أن يدخل المسلمون تلك الحرب بمنطق الشهادة: ((فَيَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً، فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمْ اللَّيْلُ، فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ.. كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ، ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً، فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمْ اللَّيْلُ، فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ.. كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ، ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً، فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يُمْسُوا، فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ.. كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الرَّابِعِ.. نَهَدَ إِلَيْهِمْ بَقِيَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَيَجْعَلُ اللَّهُ الدَّبْرَةَ عَلَيْهِمْ، فَيَقْتُلُونَ مَقْتَلَةً -إِمَّا قَالَ: لَا يُرَى مِثْلُهَا، وَإِمَّا قَالَ: لَمْ يُرَ مِثْلُهَا- حَتَّى إِنَّ الطَّائِرَ لَيَمُرُّ بِجَنَبَاتِهِمْ فَمَا يُخَلِّفُهُمْ حَتَّى يَخِرَّ مَيْتًا))(1).
أبعاد المواجهة ومراحلها
لا تقتصر المواجهة بين الإسلام والنصرانية المحرفة على المناظرات والحوارات الكلامية، بل تتخطاها إلى كل مجالات الحياة، لكننا في هذا السياق سنقصر معالجتنا على الجانب الفكري..
ويتأسس الموقف الفكري الإسلامي في مواجهة النصرانية على محورين:
- التأصيل الإسلامي بدراسة القضية من خلال النصوص السلفية..
- نقد النصرانية من خلال دراسة المصادر والكتابات النصرانية ذاتها..
__________
(1) أخرجه أحمد ( 4 / 91 ، 5/ 371 ، 409 ) ، وأبو داود ( 2 / 512 ) ، وابن ماجه ( 2 / 1369 )(2/50)
وفي هذا الإطار يجب تحديد الكتب التراثية الإسلامية التي يمكن الارتكاز عليها في المواجهة، وهنا يجب ملاحظة ظاهرة مهمة جدًّا.. وهي أن كتب التراث كانت ترجع في الرد على النصارى إلى مراجع وأصول قديمة، اختفى معظمها بعد موجات الاحتلال والنهب المنظم لتراث الأمة الفكري..
كما يجب ملاحظة أن النصارى يبدِّلون دينهم -ومعه كتاباتهم- بمعدلات زمنية سريعة وعجيبة، إلى درجة نجد فيها اختلافات واسعة بين النصوص والمصطلحات المتداولة حاليًا وتلك التي تناولتها كتب التراث الإسلامي..!
أمَّا المواجهة الواقعية فتقوم على متابعة واقع الصراع، من خلال متابعة المخططات والأساليب والوسائل التي يمارسها أصحاب البدعة.
ونتيجة لذلك تبرز ضرورة أن يكون لنا تصور عام متفق عليه لإدارة المواجهة، وأن نتعاون في إطار هذا التصور في جمع المعلومات المتعلقة بالحملة الصليبية، وأن نتعاون في جمع كل الشبهات المثارة من جانب هذه الحملة والرد عليها، بحيث يكون هناك نوعٌ من تبادل الخبرات والمهارات في مواجهة عدو يتسلح بأحدث العلوم النفسية والاجتماعية والتقنية، ويتمتع بأكبر دعم سياسي واقتصادي ومعلوماتي، ويستخدم أحط الأساليب وأخبثها.
ولقد مرت المواجهة الفكرية مع النصرانية المحرَّفة عبر مجموعة من المراحل، تطور فيها الخطاب النصراني متأثرًا بعاملين اثنين:
الأول: حال الأمة الإسلامية من حيث القوة والضعف.
الثاني: الخبرات التي اكتسبها النصارى من تجاربهم السابقة.
وقد بدأت المواجهة الفكرية بين الإسلام والنصرانية -تاريخيًّا- بوفد نصارى نجران الذين أقبلوا على النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عن قوله في المسيح ويناظرونه عليه، عن المغيرة بن شعبة قال: (لما قدمت نجران سألوني فقالوا: إنكم تقرءون {ياأخت هارون} وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال: إنهم كانوا يُسَمَّون بأنبيائهم والصالحين قبلهم).(2/51)
ثم تراجعهم أمام النبي عندما دعاهم للابتهال، ليكشف هذا التراجع حقيقة أن النصارى يفتقدون اليقين في عقيدتهم منذ البداية، وأن طبيعة موقفهم في المواجهة يقوم على أساليب المكر والكيد.
ثم مرورًا بمرحلة التسلل لإفساد العقيدة من خلال ترجمة النصارى -العاملين ببلاط الخلافة العباسية- للفلسفة اليونانية، وإغراء الحكام والسلاطين بها، والتسبب في ظهور الفرق المبتدعة نتيجة المناظرة والطعن في الدين على أساس المنطق اليوناني والفلسفة الأفلاطونية.
وانتهاءً بمرحلة استخدام المصطلحات والنصوص الإسلامية لتمرير المضامين والمعتقدات النصرانية، لتسهيل مهمة تقبل نقائضها وخرافاتها على العقل المسلم، خصوصًا بعد أن وصل هذا العقل إلى حالة من الجهل المطبق بدينه(1)
والملاحظة الثابتة تاريخيًّا.. أن الخطاب الفكري النصراني لا يبتعد عن الصراع السياسي والاجتماعي، بل تجده أحيانا يمهد له، وأحيانا أخرى يواكبه ويصاحبه، وذلك مع كل انكسار سياسي أو عسكري أو اجتماعي تتعرض له الأمة.
وفي كل الأحوال يظل الجدل هو الصيغة البارزة في تاريخ هذه المواجهة.
الفصل الثاني
الجدل(2)
تعريف الجدل
الحوار: مراجعة للكلام بين طرفين أو أكثر دون وجود خصومة بينهم بالضرورة(3)
أما الجدل: فكما يعرفه الإمام الجويني هو: (إظهار المتنازعين مقتضى نظرتهما على التدافع والتنافي بالعبارة أو ما يقوم مقامهما من الإشارة والدلالة)(4)
مشروعية الجدل
__________
(1) سبقت الإشارة إلى هذا الكلام في مبحث: العقلية التحريفية-الباب الثالث.
(2) اقتبسنا في هذا الفصل عدة فقرات من كتاب: رؤية شرعية في الجدال والحوار مع أهل الكتاب، للشريف محمد بن حسين الصمداني، وهو كتاب فريد في بابه، ينصح بالرجوع إليه.
(3) أصول الحوار، نشر الندوة العالمية ص9.
(4) الكافية في الجدل للجويني، ص21.(2/52)
قال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} [النحل: 125].
قال ابن كثير في تفسيرها: (أي: من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب..)(1) وقال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: (... فإنْ كان المدعو يرى أنَّ ما هو عليه الحق أو كان داعية إلى الباطل فيجادل بالتي هي أحسن، وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلًا ونقلًا. ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها فإنَّه أقرب إلى حصول المقصود، وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها ولا تحصل الفائدة منها، بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها). اهـ(2)
وقال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} [العنكبوت: 46].
قال الشوكاني رحمه الله: (أي: إلا بالخصلة التي هي أحسن، وذلك على سبيل الدعاء لهم إلى الله عز وجل، والتنبيه لهم على حججه وبراهينه، رجاء إجابتهم إلى الإسلام.. لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} بأن أفرطوا في المجادلة ولم يتأدبوا مع المسلمين، فلا بأس بالإغلاظ عليهم والتخشين في مجادلتهم)(3)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي …)) الحديث وفيه: ((ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن..))(4)
__________
(1) تفسير ابن كثير (4/532).
(2) تفسير ابن سعدي (3/93).
(3) فتح القدير (4/205).
(4) صحيح مسلم، كتاب الإيمان (1/384).(2/53)
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم))(1) قال ابن حزم: (وهذا حديث غاية في الصحة، وفيه الأمر بالمناظرة وإيجابها كإيجاب الجهاد والنفقة في سبيل الله)(2)
والنبي صلى الله عليه وسلم مبين للقرآن، فجداله مع أهل الكتاب هو التطبيق العملي للجدال القرآني مع أهل الكتاب، وهو في هذا ماضٍ على سنة الأنبياء من قبله في جدَالهم لأقوامهم وبيان الحق لهم، كما قال تعالى في جدال نوح لقومه: {قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدًّالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} [هود: 32]، وكذا الآيات الكريمات التي فيها جدَال إبراهيم لأبيه ولقومه، وللملك، ومحاجة موسى لفرعون ولقومه.
وهو صلى الله عليه وسلم على سنة الأنبياء من قبله يدعو إلى الله على بصيرة، فكان يواجه الناس على اختلاف عقائدهم، منهم: المسترشد الذي يطلب الحق ليلتزم به، ومنهم الجاهل الذي يبتغي العلم فيستنير به، ومنهم الجاحد الذي يسلك سبيل المدافعة والمنازعة بغية تثبيت ما عنده وإزهاق ما عند غيره، لكنه قد يستسلم لما تنتج عنه المدافعة والمنازعة، وظهور الحجة وبيان المحجة، ومنهم المعاند المتلدد الذي لا يلوي على شيء غير الوقوف أمام كل جديد بالصد والإنكار، بدعوى التزام ما كان عليه الأولون من الآباء والأجداد..
ومن هؤلاء وهؤلاء من ينتسب إلى كتاب منزل أصابه من التحريف والتبديل، ما جعله يخلط حقًّا بباطل، ورشادًا بِغَيٍّ، وصدقًا بكذب، وهم اليهود والنصارى..
__________
(1) رواه أبو داود وأحمد والنسائي والحاكم، وصححه النووي في: رياض الصالحين، والألباني في تخريج المشكاة (2/1124) رقم (3821)، وصحيح الجامع الصغير (3090).
(2) الإحكام في أصول الأحكام (1/29).(2/54)
ذكر ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد» ضمن فقه قصة وفد نجران: (ومنها: جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحباب ذلك، بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يُرجى إسلامه منهم، وإقامة الحجة عليهم، ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة)(1)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد قصة أهل نجران: (وفيها جواز مجادلة أهل الكتاب، وقد تجب إذا تعينت مصلحته)(2)
أقسام الجدل
ينقسم حكم الجدل مع أهل الكتاب إلى قسمين:
الأول: الجدل الممدوح، وهو الجدل الذي يقصد به تأييد الحق، أو إبطال الباطل، أو ما أفضى إلى ذلك بطريق صحيح.
الثاني: الجدل المذموم، وهو الجدل الذي يقصد به الباطل، أو تأييده، أو يفضي إليه، أو كان القصد منه مجرد التعالي على الخصم والغلبة عليه، فهذا ممنوع شرعًا، ويتأكد تحريمه إذا قلب الحق باطلًا أو الباطل حقًّا.
قال ابن تيمية رحمه الله: (والمذموم شرعًا ما ذمه الله ورسوله، كالجدل بالباطل، والجدل بغير علم، والجدل في الحق بعدما تبيَّن …)(3)
ويدخل في هذا النوع دعوات التقارب ونظريات الخلط بين الأديان، فإنَّها من الباطل الصرف؛ كما يدخل فيه كثير من الحوارات الحضارية المعقودة مع أهل الكتاب لما تفضي إليه من الباطل.
ومما يحسن مراعاته في هذا المقام التفريق بين مقام الدعوة ومقام دفع الصائل، وهل هما على حد سواء أم لا؟ من استبان عنده الفرق بين المقامين لُمِسَ من كلامه نصرة الإسلام وعزته، ولهذا فإنَّ الفرق جليٌّ بين من يَرُد وينافح على سبيل الدعوة وبين من يَرُد على هيئة دفع الصائل!
__________
(1) زاد المعاد (3/639).
(2) فتح الباري (8/95) كتاب المغازي، باب قصة أهل نجران.
(3) درء التعارض (7/156).(2/55)
إنَّ الرد على جاحد الحق الذي يقيم الحجج والشبه على باطله لا ينبغي أن يكون من باب الدعوة بالحكمة أو الموعظة الحسنة؛ بل يجب أن يكون من باب دفع ضرره عن المسلمين وصياله عليهم، فإذا صال عسكر الكفر على المسلمين بالسلاح المادي وجب أن يُرد ذلك بالسلاح المادي، إنْ كان في المسلمين طاقة وقدرة، والقدرة بالسيف ليست دائمة للمسلمين، بخلاف ما إذا صال عسكر الكفر بالحجج الباطلة، فإنه يجب على أهل العلم والإيمان الدفاع عن الإسلام بإقامة حججه الصحيحة، ودلائله الصريحة، وذلك أن الإسلام منصور أبدًا في مقام الحجة والبرهان.. هذا هو الأصل.
ولا يغيظ الكفار شيء كما يغيظهم إقامة حجة الإسلام وبيان براهينه، والتدليل على أباطيل الكفر وأحابيله.
يقول أبو محمد بن حزم في قوله تعالى: {ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح} [التوبة: 120] (ولا غيظ أغيظ على الكفار والمبطلين من هتك أقوالهم بالحجة الصادعة، وقد تهزم العساكر الكبار، والحجة الصحيحة لا تغلب أبدًا، فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمة، وأفاضل الصحابة الذين لا نظير لهم إنما أسلموا بقيام البراهين على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم، فكانوا أفضل ممن أسلم بالغلبة بلا خلاف من أحد المسلمين. وأول ما أمر الله عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يدعو له الناس بالحجة البالغة بلا قتال، فلما قامت الحجة وعاندوا الحق أطلق الله تعالى عليهم السيف حينئذ؛ وقال تعالى: {قل فلله الحجة البالغة} [الأنعام: 149] وقال تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} [الأنبياء: 18] ولا شك في أن هذا إنما هو بالحجة؛ لأن السيف مرة لنا ومرة علينا..
وليس كذلك البرهان، بل هو لنا أبدًا.. ودامغ لقول مخالفينا ومزهق له أبدًا..)(1)
ضرورة الجدل
هناك ضرورتان للجدل:
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام (1/28).(2/56)
الأولى: إظهار الدين
يقول الإمام ابن تيمية: (معلوم أن الله وعد بإظهار الإسلام على الدين كله.. ظهور علم وبيان، وظهور سيف وسنان، فقال تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} [الصف: 9]، وقد فسر العلماء ظهوره بهذا وهذا، ولفظ الظهور يتناولهما، فإن ظهور الهدى بالعلم والبيان، وظهور الدين باليد والعمل..
والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ومعلوم أن ظهور الإسلام بالعلم والبيان قبل ظهوره باليد والقتال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مكث بمكة ثلاث عشرة سنة يظهر الإسلام بالعلم والبيان والآيات والبراهين، فآمن به المهاجرون والأنصار طوعًا واختيارًا بغير سيف، لما بان لهم من الآيات البينات والبراهين والمعجزات، ثم أظهره بالسيف، فإذا وجب علينا جهاد الكفار بالسيف ابتداءً ودفعًا؛ فلأن يجب علينا بيان الإسلام وإعلامه ابتداء ودفعًا لمن يطعن فيه بطريق الأولى والأحرى.
فإن وجوب هذا قبل وجوب ذاك، ومنفعته قبل منفعته، ومعلوم أنه يحتاج كل وقت إلى السيف، فكذلك هو محتاج إلى العلم والبيان، وإظهاره بالعلم والبيان من جنس إظهاره بالسيف، وهو ظهور مجمل علا به على كل دين، مع أن كثيرًا من الكفار لم يقهره سيفه، فكذلك كثير من الناس لم تظهر لهم آياته وبراهينه، بل قد يقدحون فيه ويقيمون الحجج على بطلانه، لاسيما والمقهور بالسيف فيهم منافقون كثيرون، فهؤلاء جهادهم بالعلم والبيان.. دون السيف والسنان).
الثانية: دحض القول بانتشار الدين بالسيف(2/57)
يقول الإمام ابن تيمية: (يزعم كثير من أهل الكتاب أن محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته إنما أقاموا دينهم بالسيف، لا بالهدى والعلم والآيات، فإذا طَلَبوا العلم والمناظرة فقيل لهم: ليس لكم جواب إلا السيف.. كان هذا مما يقرر ظنهم الكاذب، وكان هذا من أعظم ما يحتجون به عند أنفسهم على فساد الإسلام، وأنه ليس دين رسول من عند الله.. وإنما هو دين ملِك أقامه بالسيف).
ومن المعلوم أن السيف لا سيما سيف المسلمين وأهل الكتاب هو تابع للعلم والحجة، بل وسيف المشركين هو تابع لآرائهم واعتقادهم، والسيف من جنس العمل، والعمل أبدًا تابع للعلم والرأي..
وحينئذ فبيان دين الإسلام بالعلم، وبيان أن ما خالفه ضلال وجهل.. هو تثبيت لأصل دين الإسلام، واجتناب لأصل غيره من الأديان التي يقاتل عليها أهلها، ومتى ظهر صحته وفساد غيره.. كان الناس أحد رجلين:
إما رجل تبين له الحق فاتبعه، فهذا هو المقصود الأعظم من إرسال الرسل..
وإما رجل لم يتبعه، فهذا قامت عليه الحجة.. إما لكونه لم ينظر في أعلام الإسلام، أو نظر وعلم فاتبع هواه، أو قصر..
وإذا قامت عليه الحجة.. كان أرضى لله ولرسوله، وأنصر لسيف الإسلام، وأذل لسيف الكفار، وإذا قدر أن فيهم من يعجز عن فهم الحجة فهذا إذا لم يكن معذورًا مع عدم قيامها.. فهو مع قيامها أولى ألا يعذر، وإن كان معذورًا مع قيامها فهو مع عدمها أعذر، فعلى التقديرين قيام الحجة أنصر وأعذر، وقد قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء: 15]، وقال تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما} [ النساء: 165]، وقال تعالى: {فالملقيات ذكرا* عذرا أو نذرا} [المرسلات: 5-6]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا أحد أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين))(1).
العلاقة بين الجدل.. والقتال
__________
(1) البخاري (6980)، مسلم (1499).(2/58)
وإثبات ضرورة الجدل تأتي باعتباره خطًّا موازيًا للقتال في إطار المواجهة، ومن هنا تنشأ ضرورة تحديد العلاقة الشرعية بين الجدل والقتال.
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (إنَّ من الناس من يقول: آيات المجادلة والمحاجة للكفار منسوخات بآية السيف؛ لاعتقاده أن الأمر بالقتال المشروع ينافي المجادلة المشروعة، وهذا غلط.. فإنَّ النسخ إنما يكون إذا كان الحكم الناسخ مناقضًا للحكم المنسوخ، كمناقضة الأمر باستقبال المسجد الحرام في الصلاة للأمر باستقبال بيت المقدس بالشام …)
ثم يقول رحمه الله تعالى في قوله: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} [العنكبوت: 46]:
(فهذا لا يناقض الأمر بجهاد من أَمرَ بجهاده منهم، ولكن الأمر بالقتال يناقض النهي عنه والاقتصار على المجادلة. فأمَّا مع إمكان الجمع بين الجدال المأمور به والقتال المأمور به.. فلا منافاة بينهما، وإذا لم يتنافيا بل أمكن الجمع لم يجز الحكم بالنسخ، ومعلومٌ أن كلًّا منهما ينفع حيث لا ينفع الآخر، وأن استعمالهما جميعًا أبلغ في إظهار الهدى ودين الحق).
وفي إطار العلاقة بين الجدل والقتال يكون الحد بين الرأي والحرب..
وفي ضوء العلاقة بين الجدال والقتال يمكننا تحديد أهم مفاهيم المواجهة، وهو الفرق بين الرأي والحرب، بتفسير الفرق بين القول الذي يقول فيه صاحبه رأيًا يخالف الإسلام فيستوجب ذلك الرد على صاحبه بحكمة وعلم.. وبين القول الذي يحارب به صاحبه الإسلام، فيكون الرأي للرأي.. والحرب للحرب..
فإذا قال قائلٌ في الإسلام قولًا غير معقول وغير واقعي يكون هذا القول حربًا لا رأيًا..
كأن يقول سفيههم: أن (محمدًا صلى الله عليه وسلم جامعَ زوجة عمه أبي طالب في القبر بعد أن ماتت حتى رآه الناس!) متجاهلًا أخلاق العرب ومروءتهم وحرمة الموتى وحق العمومة والتربية، بصرف النظر عن النبوة..(2/59)
هل يمكن اعتبار ذلك رأيًا يتطلب الرد على القائل بالحكمة.. أم حربًا تقتضي مواجهة مشعلها؟!
وعندما يقول سفيههم: (أن الحج مؤتمر جنسي يحدث فيه الزنا!).. في الوقت الذي يحرم فيه على الحاج أن يقرب زوجته {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدًّال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب} [البقرة: 197]..
وعندما يقول سفيههم: (أن المسلمات يمسحن الحجر الأسود بدم الحيض!).. في الوقت الذي يحرم فيه على الحائض الطواف بالبيت الحرام، فإن أصاب المرأة الحيض وهي تحج فإنها تفعل كل ما يفعله الحاج إلا الطواف بالبيت.
وأن اسم مدينة «منى» التي يبيت فيها الحجيج قبل الذهاب إلى عرفة (جاء من «ماء الرجال»!)..
هل يمكن اعتبار ذلك رأيٌ يتطلب الرد على القائل به بالحكمة.. أم حرب تقتضي إهدار دم قائله بالقوة؟!
لذا يتطلب الأمر تحديد الحد بين الرأي والحرب، وذلك من خلال عدة جوانب:
- النظر إلى شخص القائل، من حيث احتمال جهله بالقول من عدمه..
- النظر إلى معقولية القول؛ لأن هذه المعقولية هي التي تنفي شبهة الحرب..
- والنظر إلى ظروف القول؛ لأن أي قول يقال في سياق الحرب على الإسلام يأخذ حكم الحرب، مثل التحرك بقول بقصد إشاعته، لا بقصد مناقشته أو تبيين معناه..
قرآنية الجدل
والالتزام بالمنهج القرآني في الجدل ومواجهة الشبهات واجب أصلي ينبغي على الطرف الإسلامي أن يلتزم به، وذلك أن القرآن لم يدع بابًا من أبواب الشبهات التي أثارها ويثيرها أعداء الله.. إلا وفندها ودحضها، قال تعالى: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} [الفرقان: 33].(2/60)
يقول الإمام ابن تيمية: (وكثير من المصنفين في الكلام لا يردون على أهل الكتاب إلا ما يقولون: إنه يُعلم بالعقل.. مثل تثليث النصارى، ومثل تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يناظرونهم في غير هذا من أصول الدين. وهذا تقصير منهم ومخالفة لطريقة القرآن، فإنَّ الله يبين في القرآن ما خالفوا به الأنبياء ويذمهم على ذلك، والقرآن مملوء من ذلك)(1)
ومن هنا فإن المتأمل في القرآن يجد أنَّ معظم القضايا التي جادل القرآن فيها أهل الكتاب تدور على عدة محاور:
الأول: توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، ومن أمثلته.. قوله تعالى: {قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64].
ولهذا امتثلها النبي صلى الله عليه وسلم فكتبها في رسالته إلى هرقل عظيم الروم يدعوه إلى الإسلام ونبذ الشرك.
الثاني: إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به واتباعه، ومن أمثلته قوله تعالى: {ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير} [المائدة: 19].
الثالث: رد الشبهات التي يثيرونها على الإسلام وكشف زيفها، ومن أمثلته قوله تعالى: { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة: 142]
الرابع: بيان تناقض عقائدهم وتهافتها، ومن أمثلته قوله تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون} [المؤمنون: 91] وغير هذا كثير في القرآن والسنة.
__________
(1) مجموع الفتاوى (19/188).(2/61)
وقد حدد القرآن الجدل بالتي هي أحسن أسلوبًا وحيدًا للجدال مع النصارى.. وذلك لإتاحة الفرصة أمامهم لمعرفة الحق، وإزالة أي شبهات تشوش عليهم..(1)
ولكي ينجح الجدال في إظهار الحق، وإزالة الشبهات.. لا بد من الاتفاق على معايير ثابتة تحكمه، وهو ما أطلق عليه القرآن مصطلح {كلمة سواء}..
حيث يمكننا أن نحدد لهذا المصطلح ثلاثة أسس: العقل، وثبوت النصوص وصحتها، ومعيار الحجية..
فمن حيث العقل لا يجوز للمجادل أن يتخلى عنه ويهدره؛ لأن الله جعله مناط التكليف، وموضع التمييز بين الإنسان وغيره من العجماوات..
ومن حيث ثبوت النصوص يجب الاتفاق على ما يصح اعتباره دليلا يحتج به وما لا يصح، وعند المسلمين -مثلًا- لا يجوز الاحتجاج بالحديث الضعيف أو الموضوع..
وكذلك يجب الاتفاق على الحجية المعتبرة عند طرفي الجدل، وعند المسلمين -مثلًا- هي القرآن وما صح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أقوال الصحابة والتابعين وغيرهم فيشترط لحجيتها موافقتها للقرآن وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وهو الأمر الذي يختلف عند النصارى، إذ إنهم يؤمنون بأن «روح القدس» قد حلت على التلاميذ فأصبحت أقوالهم حجة..! كما بقي روح القدس يحل على من جاء بعد التلاميذ من الآباء، فأصبحت أقوالهم حجة عندهم كذلك..!
الثوابت القرآنية في المواجهة
«رد الفكر إلى الواقع» فعندما ادعى اليهود والنصارى أنهم أبناءُ الله وأحباؤه.. ردَّ الله عليهم ما يكذب ذلك في واقعهم {قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير} [المائدة: 18].
__________
(1) دعوة التقريب بين الأديان (2/725) وانظر: الإبطال للشيخ بكر أبو زيد (101).(2/62)
«رد الواقع إلى الفكر» وذلك عندما فسر الله واقع أهل الكتاب من حيث الأمانة بعقيدتهم العنصرية تجاه غيرهم من الأمم {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون* بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين}.
وهذه الآية تتضمن قاعدة هامة في تقييم واقع أهل الكتاب.. حيث إن واقعهم ومواقفهم ترجع إلى تصوراتهم المحرفة، وعندما يُوَاجَهُون بهذه التصرفات غير المقبولة فإنهم يقطعون الصلة بينها وبين التصورات التي يؤمنون بها، فعندما يواجِه المسلمون النصارى بتاريخهم الصليبي الحاقد على الإسلام، والذي ظهر في الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش.. يردُّون مدعين أنها أخطاء بشرية ليس لها علاقة بالدين..
وتفنيدًا لهذا الادعاء -قياسًا على هذه القاعدة- يكون الرد هو أن الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش لم تحدث إلا بأمر الباباوات، الذين لم يجرؤ أحد على مناقشتهم بسبب الاعتقاد بعصمتهم من الخطأ؛ لأنهم -حسب اعتقادهم- لا يتصرفون إلا بروح القدس التي حلَّت فيهم!
«رد الفكر النصراني إلى منهج الفهم الإسلامي» وذلك بأن يتم حسم قضية المسيح من خلال الثوابت الإسلامية، وهذا المنهج هو منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما دخل عدي بن حاتم -وهو نصراني- على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد علَّق في صدره صليبًا من ذهب، فقال: ((يا عدي، اطرح هذا الوثن من عنقك!)) قال: فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} قال: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم..!(2/63)
فصحح له النبي صلى الله عليه وسلم معنى العبادة بقوله: ((أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه..؟!)) فقلت: بلى..! فقال: ((فتلك عبادتهم))(1)
فتضمنت المواجهة ثوابت الإسلام التي واجه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم موقف عدي، والتي كان لها أثر نفسيٌّ قويٌّ فاستجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. وأسلم، وكانت الثوابت هي تفسير الصليب بالوثنية، وتفسير اتخاذ اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله باتباعهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام.
والاستناد إلى الثوابت في المواجهة.. حقيقة قرآنية تتأكد في مواضع متعددة، منها على سبيل المثال: المواجهة بين موسى وفرعون، وذلك عندما سأل فرعون: {قال فما بال القرون الأولى} [طه: 51].
فلم تكن إجابة موسى استقرائية تاريخية.. بل كانت تفويضًا لعلم الله.. {قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} [طه: 52].
فيجب أن تكون المواجهة بالقرآن، لا نتخلى عنه.. تحت زعم التجرد والعقلانية والموضوعية؛ لأن قرآنية المواجهة تتضمن ذلك كله {وجاهدهم به جهادا كبيرا} [الفرقان: 52].
فالتجرد: هو أن تنطلق المواجهة من إثبات التناقض الكامل بين طرفي المواجهة {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24].
«ارتباط الجدل باليقين» وذلك بموقف الابتهال الذي أنهى به رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدل العقيم.. كما قال الله سبحانه: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} [آل عمران: 61] فالابتهال هو الذي يجرد الموقف النصراني من عوامل التحريف والتزييف والتضليل؛ لأن الابتهال سيضع حب الأبناء والنساء والأنفس أمام ما في قلوبهم وعقولهم بعيدًا عن هذا التحريف.
__________
(1) المعجم الكبير للطبراني (218).(2/64)
«الإلزام بلازم القول» فعندما ادَّعى النصارى أن عيسى ابن الله ألزمهم القرآن بلازم هذا الادعاء، بإخضاعه لمقتضيات الوجود البشري، وهو ضرورة وجود الصاحبة {بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} [الأنعام: 101].
«التناسب بين أسلوب الجدل وموقف المجادل» والمقارنة الأساسية لتحقيق التناسب يبدأ بما بين اليهود والنصارى..
ومن هنا يمكن مقارنة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته إلى اليهود باعتبار أن قدر الله فيهم أنهم «مغضوب عليهم» ودعوته إلى النصارى باعتبار أن قدر الله فيهم أنهم «ضالون» وأن المقتضي المنهجي في ممارسة الدعوة مع اليهود كان يقوم على إثبات الوحي والرسالة دون الاستفاضة معهم في الحوار والمناقشة.
ومن ذلك ما رواه مسلم: جاء حبر من أحبار اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم فقال: جئت أسألك..! فقال له صلى الله عليه وسلم: أينفعك شيء إن حدثتك؟ فقال: أسمع بأذني، فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه وقال: ((سَلْ..!))(1) ولعلنا نلاحظ تشكك النبي صلى الله عليه وسلم في إجابة اليهودي وذلك بنكت العود الذي معه.
وفي هذا المعنى يقرر النبي صلى الله عليه وسلم تبعية اليهود لأحبارهم، وأن هذا هو المانع من هدايتهم فيقول: ((لو آمن عشر من اليهود لآمن بي اليهود))(2)
أما النصارى فكان أسلوب دعوتهم يقوم على استفاضة الحوار والمناقشة، ودليل ذلك ما رواه الربيع بن أنس البكري أحد التابعين مرسلًا قال: إن النصارى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فخاصموه في عيسى ابن مريم وقالوا له: من أبوه؟ وقالوا على الله الكذب والبهتان..
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟)) قالوا: بلى..!
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان (315) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
(2) البخاري في مناقب الأنصار (7/274) من حديث أبي هريرة.(2/65)
قال: ((ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟)) قالوا: بلى..!
قال: ((ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟)) قالوا: بلى..!
قال: ((فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟)) قالوا: لا..!
قال: ((أفلستم تعلمون أن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟)) قالوا: بلى..!
قال: ((فهل يعلم عيسى من ذلك شيئا إلا ما علَّم الله؟)) قالوا: لا..!
قال: ((فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، فهل تعلمون ذلك؟)) قالوا: بلى..!
قال: ((ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب ولا يُحدث الحدث؟)) قالوا: بلى..!
قال: ((ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غُذِّيَ كما تُغَذِّى المرأة الصبي، ثم كان يطعم ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟)) قالوا: بلى..!
قال: ((فكيف يكون هذا إلها كما زعمتم؟!)) قال: فعرفوا..
فأنزل الله عز وجل {الم* الله لا إله إلا هو الحي القيوم}(1) .
وبهذه القاعدة يمكن إحسان الظن بمن يريد مناقشة المسلمين من النصارى في قضايا الدين إلى أن يتبين غير ذلك، إذ يتقرر أن هناك من النصارى من يريد معرفة الحق، وإحساس الداعية بمن يريد معرفة الحق ممن هو مستكبر عنه أمر له اعتبار في منهج الدعوة، ودليله ما كان من عيسى مع اليهود {فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون} [آل عمران: 52] لأنهم كانوا كافرين ولكنه لما أحس أنهم لن يرجعوا عن الكفر الذي هم عليه.. بدأت المفاصلة معهم. وينطبق على هؤلاء قول الله {فذكر إن نفعت الذكرى} [الأعلى: 9].
__________
(1) أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم كما في: الدر المنثور، من أول سورة آل عمران.(2/66)
والتناسب الذي يجب مراعاته لا يقف عند مستوى الفرق بين اليهود والنصارى، بل يمتد إلى مذاهب النصارى أنفسهم، إذ يجب اعتبار المذهب الذي ينتمي إليه من يريد المناقشة؛ لأن الفوارق الجوهرية بين المذاهب عندهم تقتضي اعتبار ذلك.
المجادل المسلم
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (كل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرةً تقطعُ دابرَهم لم يكن أعطى للإسلام حقَّهُ، ولا وَفَّى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين)(1)
وقد ظهر أثر غياب هذا المعنى في مناظرات أهل الكلام للفلاسفة وأشباههم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولهذا كانت مناظرة كثير من أهل الكلام لهم مناظرة قاصرة، حيث لم يعرف أولئك حقيقة ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وما ذمه من الشرك، ثم يكشفون بنور النبوة ما عند هؤلاء من الضلال)(2)
ويكمل هذا في المجادل على قدر تحقق بعض اللوازم فيه، ومنها:
اللازم الأول: العلم والعدل
الأصل في العلم علم الكتاب والسنة وما يدل عليهما، وليس كل من انتسب للعلم صلح أن ينافح عن الإسلام أو يدعو إليه، بل ربما أفسد هؤلاء ما لا يمكن إصلاحه(3)
قال شيخ الإسلام: (ولا ريب أن المؤمن يعلم من حيث الجملة أن ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل، لكن كثيرًا من الناس لا يعلم ذلك في المسائل المفصَّلة، لا يعرف ما الذي يوافق الكتاب والسنة وما الذي يخالفه؛ كما قد أصاب كثير من الناس في الكتب المصنفة في الكلام في أصول الدين وفي الرأي والتصوف وغير ذلك)(4)
__________
(1) درء التعارض (1/357).
(2) انظر: الرد على المنطقيين، ص 536، 537.
(3) انظر: الحوار مع أهل الكتاب، للقاسم، ص148.
(4) النبوات (1/561).(2/67)
ويقول رحمه الله تعالى: (والإنسان خُلق ظلومًا جهولًا، فالأصل فيه عدم العلم، وميله إلى ما يهواه من الشر، فيحتاج دائمًا إلى علم مفصَّل يزول به جهله، وعدل في محبته وبغضه، ورضاه وغضبه، وفعله وتركه، وإعطائه ومنعه، وأكله وشربه، ونومه ويقظته، فكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى علم ينافي جهله، وعدل ينافي ظلمه، فإنْ لم يمن الله عليه بالعلم المفصَّل، والعدل المفصَّل.. وإلا كان فيه من الجهل والظلم ما يخرج به عن الصراط المستقيم، وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوان: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} إلى قوله: {ويهديك صراطا مستقيما} فإذا كان هذا حاله في آخر حياته أو قريبًا منها.. فكيف حال غيره؟!)(1)
اللازم الثاني: معرفته بما ينكي وينجع في رد صيال الخصم وجداله(2)
قال صلى الله عليه وسلم: ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم))(3) .
وفي الحديث أنَّ من أقسام الجهاد: الجهاد باللسان؛ ولا يعني ذلك مجرد الكلام وعموم المنافحة، فإنَّ هذا يُحسِنُهُ كلُّ أحد! ولهذا كان شعر حسان رضي الله عنه ليس كشعر غيره، فقد كان يقع من الكفار موقع النبل.
قالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اهجوا قريشًا؛ فإنه أشد عليها من رشق النبل)) فأرسل إلى ابن رواحة فقال: اهجهم.. فهجاهم فلم يُرضِ!
فأرسلَ إلى كعب بن مالك، ثم أرسلَ إلى حسَّان بن ثابت، فلما دخل عليه قال حسَّان: قد آنَ لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه، ثم أدلعَ لسانه فجعل يحركه فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم.
__________
(1) الفتاوى (14/38، 39).
(2) ليس المراد من هذا اللازم تعلم الممانعات والمعارضات التي تحدثوا عنها في علم الجدل، فليس هذا واجبًا بلا ريب، انظر: درء التعارض (7/439).
(3) تقدم تخريجه.(2/68)
ثم قالت عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((هجاهم حسَّان.. فشفى واشتفى))(1)
قال النووي رحمه الله في شرح الحديث: (وأما أمره صلى الله عليه وسلم بهجائهم وطلبه ذلك من أصحابه واحدًا بعد واحد ولم يرض قول الأول والثاني حتى أمرَ حسَّان، فالمقصود منه: النكاية في الكفار)(2)
وكما أن الجهاد باليد لا بد من إعداد العدة فيه وإلا كان ملومًا على تفريطه، فكذا الجهادُ في ميدان اللسان والكلمة؛ بل أمرُهُ أخطر وأشدُّ من الجهاد باليد، فإنَّ غاية المجاهد في سبيل الله بيده إذا خسر المعركة أنْ يُقتلَ في سبيل الله، ولا يُلام عند عامة المسلمين على تفريطه في اتخاذ العُدد.. كما يلام من يتخلف عن إعداد العدة لمواجهة الكفر في ميدان النظر والمجادلة، وذلك أن الإسلام منصور دومًا وأبدًا في مقام الحجة والظهور، بخلاف الظهور بالسيف فإنه يكون مرة له ومرة عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد يَنهَون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظرُ ضعيفَ العلم بالحجة وجواب الشبهة فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل، كما ينهى ذلك الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجًا قويًّا من علوج الكفار، فإنَّ ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة)(3)
ومما يلتحق بهذا اللازم خطاب كل قوم باصطلاحهم الذي تعارفوا عليه، إذا كانت هناك حاجة، وكانت المعاني صحيحة.
قال ابن تيمية: (وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة، كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعُرفهم، فإنَّ هذا جائزٌ حسنٌ للحاجة، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتاجوا إليه)(4)
__________
(1) صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت (16/282، 283) رقم 2490.
(2) شرح مسلم، للنووي (16/281)، و قريب منه ما في: شرح الأبي-على مسلم (6/321).
(3) درء تعارض العقل والنقل (7/173).
(4) نفسه (1/43).(2/69)
وقال رحمه الله: (ولا ريب أن الألفاظ في المخاطبات تكون بحسب الحاجات كالسلاح في المحاربات، فإذا كان عدو المسلمين -في تحصنهم وتسلحهم- على صفة غير الصفة التي كانت عليها فارس والروم- كان جهادهم بحسب ما توجبه الشريعة التي مبناها على تحري ما هو لله أطوع وللعبد أنفع وهو الأصلح في الدنيا والآخرة، وقد يكون الخبير بحروبهم أقدر على حربهم ممن ليس كذلك لا لفضل قوته وشجاعته ولكن لمجانسته لهم كما يكون الأعجمي المتشبه بالعرب -وهم خيار العجم- أعلم بمخاطبة قومه الأعاجم من العربي وكما يكون العربي المتشبه بالعجم -وهم أدنى العرب- أعلم بمخاطبة العرب من العجمي)(1)
__________
(1) نقض المنطق ص90، ومجموع الفتاوى (4/107).(2/70)
ويفيد في هذا الشأن النظر في القواعد الجدلية المشروعة المستنبطة من الكتاب والسنة ومما دلت عليه العقول والفطر السليمة(1)
ومن فوائد ما قالوه: أن المناظر -أحيانًا- يحتاج إلى الاشتغال برد دليل المعاند المخالف وقَلْبِهِ عليه، ودمغ باطله وبيان تناقضه أكثر من بيان الحق الذي يدافع عنه، حتى يفيق ويتبين له فساد ما كان عليه.
__________
(1) عامة الكتب التي كتبت في الجدل هي مبينة لهذه القواعد، وإن كان في بعضها قصور أو زيادة على ما جاء به الشرع. وأوصل الدكتور عثمان علي حسن جملتها إلى 29 قاعدة. انظر: منهج الجدل والمناظرة (2/683-739) والإلمام بأحوال الجدل والمناظرة كـ: الإفحام والنقض والانتقال والسفسطة والانقطاع إلخ.. مما يفيد ويعين في نصرة الحق من أقرب الطرق، وإنْ كان أصل ذلك مستقرًّا في الفطرة البشرية، ولهذا لما تكلم شيخ الإسلام عن لفظ «الاستدلال» قال رحمه الله: (وإنْ أُريد به نفس طلب العلم بالشيء بالدليل والنظر فيما يدل الشيء.. فهذا مركوز في فطرة جميع الناس، فإنه ما منهم من أحد إلا وعنده من نوع النظر والاستدلال، بل ومن نوع الجدال، بحسب ما هداه الله إليه من ذلك، وقد قال تعالى: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} والإنسان يجادل بالباطل ليدحض به الحق من غير معرفة بقوانين الجدل، فكيف لا يجادل بالحق؟ وللناس من النظر والمناظرة في صناعاتهم وأمور دنياهم ما يبين أن النظر والمناظرة مركوز في فطرهم، فكيف في أمور الدين؟! والله سبحانه يقول: {الذي خلق فسوى وقدر فهدى} وقال: {قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}). انظر: درء التعارض (7/439).(2/71)
وهذه الطريقة نافعة في كثير من المسائل المطروحة في الحوار والجدال مع أهل الكتاب اليوم، كقضية تعدد الزوجات في الإسلام مثلًا، فلو سُئل عنها المرء فليس من الضرورة تبيين حكم الإسلام فيها لكل سائل؛ لأن السؤال -في الغالب- سؤال تعنت واستنقاص للإسلام، فهاهنا يبين لهم موافقة المسلمين لهدي الأنبياء السابقين وتناقضهم معه، وكذلك ما في واقعهم من تناقض في قضية المرأة، وتحويلها إلى رقيق يشترى ويباع، وتفشي الخيانة في مجتمعاتهم، ونحو ذلك من الأمور التي يسمعها الأصم ويراها الأعمى!
والأصل: عدم العمل بهذه الطريقة -عند عدم الحاجة إليها- لأنها تخالف أصل بيان الحق والصدع به(1) والله تعالى أعلم.
وأحيانًا قد يضطر المجادل المسلم إلى الاحتجاج على الخصم الكتابي بمقدمات يسلمها ولو كانت في نفسها باطلة، وذلك من أجل بيان تناقضهم لا لتقرير الحق(2) ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والله تعالى لا يأمر المؤمنين أن يجادلوا بمقدمة يسلمها الخصم إنْ لم تكن علمًا، فلو قُدرَ أنه قال باطلًا لم يأمر الله أن يحتج عليهم بالباطل، لكنَّ هذا قد يفعل لبيان فساد قوله وبيان تناقضه.. لا لبيان الدعوة إلى القول الحق ودعوة العباد إليه)(3)
اللازم الثالث: الصدع بالحق والجهر به
الأصل في المسلم جهره بالحق وصدعه به، قال تعالى: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} [الحجر: 94] وقال: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران: 187].
__________
(1) انظر: منهج الجدل والمناظرة (2/805).
(2) الحوار مع أهل الكتاب، للقاسم، 182، ومناهج الجدل في القرآن الكريم 432، وانظر: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في: الرد على المنطقيين، من أنَّ بعض المرضى لا ينتفع بالأغذية الفطرية بل يحتاجون إلى علاج وأدوية تناسب مزاجهم، ص330 وقبلها.
(3) الرد على المنطقيين، ص468.(2/72)
وفي قصة جعفر رضي الله عنه مع النجاشي دليلٌ على الجهر بالحق والصدع به في وقت الضعف وهم بديار الكفر، ولم يمنعه كونه في دار الكفر من بيان الحق(1)
وربما ظنَّ ظان أن مجرد مناظرة أهل الكتاب فيها تنازل عن الحق ومخالفة لوجوب الصدع بالحق، وهذا الظن ليس بشيء؛ لأننا في هذا المقام نتكلم بطريق التنزل مع الخصم، وهي من طريقة القرآن، ولهذا فإننا- كما يقول شيخ الإسلام: (نتنزل لليهودي والنصراني في مناظرته وإنْ كنا عالمين ببطلان ما يقوله، اتباعًا لقوله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] وقوله: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} [العنكبوت: 46] وإلا فعلمنا ببطلان ما يعارضون به القرآن والرسول ويصدون به عن سواء السبيل وإن جعلوه من المعقول بالبرهان أعظم من أن يبسط في هذا المكان)(2)
وهذا الصدع لا يعني ترك أدب الجدال والحوار أو التخلي عن أخلاق وآداب الإسلام، فالمسلم هو المسلم في كل الأحوال، وإنما يصول ويجول بالله ولله لا بنفسه ولا لهواه.
المجادل الكتابي
ليس هناك شروطًا خاصة بالمجادل الكتابي في الشريعة سوى عدم الظلم(3) والدليل قول الله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} [العنكبوت: 46] فإنْ كان منهم فيخرج الجدال معه عن مسمى «الجدال بالتي هي أحسن»؛ وينتقل الخطاب معه إلى مجادلة بغير التي هي أحسن.
__________
(1) تثور ههنا مسألة «الاستضعاف» و«الإكراه» وما ضوابط الصدع بالحق في وقت تحقق الاستضعاف.
(2) درء التعارض (1/188).
(3) الحوار مع أهل الكتاب، للقاسم، ص162.(2/73)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فالظالم لم يؤمر بجداله بالتي هي أحسن، فمن كان ظالمًا مستحقًّا للقتال غير طالب للعلم والدين فهو من هؤلاء الظالمين الذين لا يجادلون بالتي هي أحسن، بخلاف من طلب العلم والدين ولم يظهر منه ظلم، سواء كان قصده الاسترشاد، أو كان يظن أنه على حق يقصد نصر ما يظنه حقًّا، ومن كان قصده العناد يعلم أنه على باطل ويجادل عليه فهذا لم يؤمر بمجادلته بالتي هي أحسن، لكن قد نجادله بطرق أخرى نبين فيها عناده وظلمه وجهله جزاءً له بموجب عمله)(1)
(والامتناع عن الجدال مع الظالمين واتخاذه منهجًا مطردًا يخالف منهج النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جادل اليهود بالتي هي أحسن في المدينة، وكانوا يكتمون ما أنزل الله ويلبسون الحق بالباطل؛ كما جادل نصارى نجران ودعاهم إلى المباهلة فرفضوا، فالأصل أن يُقبل الجدال مع كل أحد؛ لأن كل كافر ترجى هدايته. نعم قد تكون المصلحة في الامتناع عن مجادلة طائفة منهم أو مع أفراد لسبب أو لآخر وهذا استثناء)(2)
وبقاء النصارى علي باطلهم هو في حقيقته ظلم، ولذلك جاء في سورة مريم بعد ذكر قصة عيسى {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون* ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون* وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم* فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم* أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين} [مريم: 34-38] ذلك أن النصارى ظالمون في اعتقادهم..
ظلم الجدل
ويأخذ صورة أساسية وهي: تجاوز الكلمة السواء..
كما قال الله تعالى: {قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}.
__________
(1) الجواب الصحيح (1/219).
(2) الحوار مع أهل الكتاب للقاسم، 162 بتصرف.(2/74)
قال ابن كثير: (أي عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسرها بقوله: {أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا}: لا وثنًا ولا صليبًا ولا صنمًا ولا طاغوتًا ولا نارًا ولا شيئًا، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له، وهذه دعوة جميع الرسل، قال الله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} ثم قال تعالى: {ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله} قال ابن جريج: يعني يطيع بعضنا بعضًا في معصية الله، وقال عكرمة: يسجد بعضنا لبعض {فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} أي: فإن تولوا عن هذا النصف وهذه الدعوة فَأَشْهدوهم أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم).
والعلة من استثناء الظالمين من «الجدل بالتي هي أحسن» هي أن حكمة هذا الجدل هي تحقيق الهداية، وأن الهداية لا تكون للظالمين كما قال سبحانه: {قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون* ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين* كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين} [آل عمران: 84-86]، ومن هنا كان افتراء الكذب علي الله ممن «يُدْعَى إِلَى الإسلام» هو أعلى درجات الظلم {ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين} [الصف: 7].
مكر الجدل(2/75)
ونتيجة لبطلان القضية النصرانية.. ارتكز أصحابها إلى المكر في طرحهم لقضيتهم ومناظرتهم عليها، ويدخل في هذا الإطار ارتباط النصرانية المحرفة تاريخيًّا بالمناقشات والجدل، والمجامع هي الشاهد التاريخي على ذلك، ومن هنا اكتسبوا خبرة واسعة في الجدل، الأمر الذي يختلف عند المسلمين باعتبار أن الإسلام يحرم الاختلاف والمِراء، مما يقتضي أن تكون المواجهة الجدلية من خلال المنهج القرآني الذي يضمن لصاحبه الحق والصواب.
ومن أمثلة هذا المكر: أن يسأل المجادل النصراني.. «كلمة الله» هل هي خالقة أم مخلوقة..؟
وقد تعوَّد الناس بتلقائية أن تكون الإجابة في أحد الاحتمالات المطروحة في السؤال.. فتكون الإجابة إما خالقة أو مخلوقة.. وكلاهما خطأ..!
أما الإجابة الصحيحة فإن كلمة الله ليست خالقة ولا مخلوقة، ولكن مخلوقٌ بها، وهي إجابة خارجة عن الاحتمالين المطروحين بالمكر..
ومن أمثلة مكر الجدل أيضًا: أن يسأل المجادل النصراني.. كلام الله.. هل هو غير الله أم لا..؟!
والنفي والإثبات كلاهما خطأ؛ لأن النفي معناه أن كلام الله منفصل عنه، وهذا غير معقول..
والإثبات أيضًا خطأ؛ لأنه يعني أنه هو الذات، مما يثبت باطلهم أن الذات هي الصفة، وأنَّ الله «الذات» هو الكلمة «الصفة»!
أما الإجابة الصحيحة أن نستفصل السائل، فإن أراد بقوله «هل هو غير الله» أنه مباين له منفصل عنه.. فصفات الموصوف لا تكون مباينة له منفصلة عنه.
وإن كان انفصال الصفة عن الموصوف مستحيلا في المخلوق.. فكيف بالخالق؟!
وإن أراد بالنفي أن كلمة الله ليست هي ذاته.. فليست الصفة هي الموصوف، وهي غيره بهذا الاعتبار، واسم الرب تعالى إذا أُطلِقَ يتناول الذات المقدسة بما يستحقه من صفات الكمال، فيمتنع وجود ذات بدون صفات الكمال.
فاسم «الله» يتناول الذات الموصوفة بصفات الكمال، وهذه الصفات ليست زائدة على هذا المسمى؛ بل هي داخلة فيه.(2/76)
ومن أمثلة مكر الجدل: أن يضرب للأقانيم مثلًا لا ينطبق عليها، فتنعكس القناعة بالمثل على الموضوع المضروب له المثل «الأقانيم»، فيقول المجادل.. إن مَثَلَ الأقانيم الثلاثة مثل الشمس.. الشمس ذاتها وضوءها وحرارتها، وهي شيء واحد.
ومثل «الشمس» لا يطابق الموضوع المضروب له المثل «الأقانيم».
وفي ذلك يقول ابن تيمية: (وهم تارة يشبهون الأقنومين «العلم والحياة» التي يسمونها «الكلمة وروح القدس» بـ«الضياء والحرارة» التي للشمس مع الشمس، ويشبهون ذلك بـ«الحياة والنطق» الذي للنفس مع النفس، وهذا تشبيه فاسد؛ فإنهم إن أرادوا بالضياء والحرارة ما يقوم بذات الشمس فذلك صفة للشمس قائمة بها لم تحل بغيرها، ولم تتحد بغيرها، كما أن صفة النفس كذلك.. هذا إن قيل إن الشمس تقوم بها حرارة وإلا فهذا ممنوع.. والمقصود هنا بيان فساد كلامهم وقياسهم..
وإن أرادوا ما هو بائن عن الشمس قائم بغيرها كالشعاع القائم بالهواء والأرض والحرارة القائمة بذلك كان هذا دليلا على فساد قولهم من وجوه:
منها: أن هذه أعراض منفصلة بائنة عن الشمس قائمة بغيرها لا بها، ونظير هذا ما يقوم بقلوب الأنبياء من العلم والحكمة والوحي الذي أنذروا به، وعلى هذا التقدير فليس في الناسوت شيئا من اللاهوت، وإنما فيه آثار حكمته وقدرته.
ومنها: أن الحرارة والضوء القائم بالهواء والجدران أعراض قائمة بغير الشمس، والكلمة وروح القدس عندهم هما جوهران.(2/77)
ومنها: أن هذا ليس هو الشمس ولا صفة من صفات الشمس «القائمة بها»، وإنما هو أثر حاصل في غير الشمس بسبب الشمس، ومثل هذا لا ينكر قيامه بالأنبياء والصالحين، ولكن ليس للمسيح عليه السلام بذلك اختصاص، فما حل بالمسيح حل بغيره من المرسلين، وما لم يحل بغيره لم يحل به، فلا اختصاص له بأمر يوجب أن يكون إلها دون غيره من الرسل، ولا هنا اتحاد بين اللاهوت والناسوت، كما لم تتحد الشمس ولا صفاتها القائمة بها بالهواء والأرض التي حصل بها الشعاع والحرارة).
ولمواجهة مكر الجدل وتراكم الخبرات في الجانب النصراني.. ينبغي جمع الخبرة من ممارسة الأفراد في هذا المضمار، ومتابعة تطورات الحالة الفكرية للخصوم، مثل انتقالهم من استخدام مثل الشمس لإثبات بدعة الأقانيم إلى بدعة «الوحدانية الجامعة» والتي يدَّعون فيها أن الواحد يتضمن داخله الأقانيم الثلاثة..!!(1)
كما ينبغي اعتبار الكفاءة في المواجهة، وهنا ينبغي التفريق بين المستوى العلمي النظري للمجادل والقدرة الشخصية الفعلية على الجدل؛ لأن القدرة على الجدل مهارة في ذاتها، تحتاج إلى سرعة البديهة، والحنكة في استخدام المعلومات، وعدم الاستدراج من قبل الخصم، وغيرها... وكلها مهارات مكتسبة من الممارسة، أو من الفنون الحديثة، كفن التفاوض.
وبصفة عامة فإن الظلم والمكر لم يقف عند حد الجدل.. بل كان في كل أساليب المواجهة عند النصارى:
إذ يعتمد النصارى بصورة كلية على المؤثرات النفسية والعاطفية في مخاطبة الناس، تعويضًا للخلل الشامل في المضمون عندهم..
فتقوم الترانيم مصحوبة بالموسيقى بالتخلل إلى النفس..
بينما يقوم صوت الكورال المصاحب لها برسم صورة زائفة عن يقين الجموع بهذا الباطل..
ثم تأتي الفتيات والزينة ليكتمل نصب الشِرَاك..
__________
(1) راجع مناقشة هذا الهراء في الباب الثاني.(2/78)
وأثناء ذلك.. يحرص النصارى على الظهور بأقصى صورة تمثيلية للسعادة والهناء الذين ينعمون بهما في ظل تلك العقيدة الزائفة..!
وإذا كان المخاطب من غير السذج الذين ينخدعون بهذه المؤثرات.. فلا مانع من المواجهة المباشرة بأسلوب إحداث الصدمات، خصوصًا والحماية مضمونة، والعاقبة مأمونة..!
فمِمَّا يَصدِم المسلم.. أن تُوجَّه له دعوة مباشرة لاعتناق النصرانية، أو أن توضع نصوص القرآن والسنة موضع التشكيك والنقد، أو أن تحاك الشبهات حول رسول الله صلى الله عليه وسلم..
أو أن يُهَدَّد بالجحيم المقيم.. أو المستقبل الضائع.. إن هو مات على الإسلام..!
ومن أخطر أساليبهم لاختراق الشخصية المسلمة استخدام المصطلحات الإسلامية المؤثرة مثل كلمات «الله أكبر» أو «الحمد لله» أو «لا إله إلا الله» للتمويه، وآخرها نزول طبعة من الإنجيل المحرف بعنوان «الإنجيل الشريف» محاكاة للعنوان «المصحف الشريف»..!
ولا مانع أيضًا من استخدام المصطلحات والأساليب الدعوية الإسلامية بحذافيرها في عرض المضمون النصراني..
وحينما تلوح أول بادرة للاهتزاز أو الشك.. فهناك برامج تسجيلية، وأفلام مرئية، وإحصاءات مفبركة، عن أعداد هائلة للذين تنصروا..! وذلك لحسم التردد، وحشد التأثير..
وقد جمع القرآن هذه الأساليب جميعًا تحت عنوان واحد حيث قال الله سبحانه: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون* ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون} [الأنعام: 111، 112].
فالزخرف والغرور.. هما أخص خصائص موقف النصارى في المواجهة، وهما انعكاس دقيق للحالة النفسية التي يعيشونها: سخافة المضمون.. وانهيار اليقين..
وكذلك مكر الجدل بالخبرة المكتسبة من الفترة الزمنية الطويلة التي عاشها النصارى وهم يدافعون عن الكذب والباطل.(2/79)
ومن زخرف القول: استخدام عبارات مؤثرة بلا مضمون منهجي محدد مثل:
(تعالوا إلي أيها المتعبون والثقيلي الأحمال.. وأنا أريحكم)..
(أنا هو الطريق والحياة)..
عبارات تسترعي الانتباه، وتؤثر في النفس، دون أن يكون لها مضمون منهجي، يعرف الإنسان كيف يتعامل معه بصورة عملية..
ولذلك فإن من أهم خصائص المنهج الصحيح للدعوة.. وضع الإنسان أمام منهج واضح عملي كامل، بحيث لا تُطرح أي حقيقة إلا ومعها الخطوة العملية التي يعيش بها الإنسان في حياته..
فعندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا)) قال بعدها: ((ولن تؤمنوا حتى تحابوا)) وهو القول الذي يضع الحقيقة في إطارها التطبيقي، ثم قال: ((هل أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟)) قالوا: بلي يا رسول الله! قال: ((أفشوا السلام بينكم))(1) ، فتحددت الخطوة العملية المحققة لمضمون العبارة الأولى والثانية.
أما أن يكون الأمر مجرد عبارات ليس لها واقع وعناوين ليس تحتها معنى.. فهذا هو زخرف القول.
لذلك ينبغي ألا يؤثر فيك أن تفاجأ بمن يدعوك إلى النصرانية؛ لأنه يريد أن يهز ثقتك في نفسك ودينك عندما تشعر أنك موضع دعوته..
وينبغي ألا يؤثر فيك أن تسمع أن هناك من دخل النصرانية من «المسلمين»؛ لأن هناك كثير من الناس ينتسبون إلى الإسلام انتسابًا اسميًّا وليس لهم علاقة بهذا الدين، ولا يدركون حقيقة الإسلام أصلًا..
فينبغي الانتباه إلى أن أساليب التبشير قائمة على المال والسحر والنساء، وأن الفقر الذي يعانيه المنتسبون للإسلام قد تنشأ عنه «حالات شاذة» لا يجوز أن تؤثر في قلب أصحاب هذا الدين..
وعلينا ألا ننسى أن هذه الأساليب من جنس فتنة الدجال، حيث يأتي ومعه جبال خبز وأنهار ماء، بينما يعاني الناس العطش والمجاعة، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يا عباد الله.. فاثبتوا))(2).
الفصل الثالث
الشبهات النصرانية
__________
(1) أخرجه مسلم ( 911 ) .
(2) أخرجه مسلم (2937).(2/80)
الشبهات والمتشابهات
يقول ابن منظور في لسان العرب: شبَّه عليهِ الأمر: لبَّسهُ عليهِ.
واشتبه عليَّ الأمر: خفي والتبس، واشتبهتُ في المسأَلة: شككت في صحَّتها.
والشُّبْهة: الالتباس والمِثْل.
وقيل الشُّبْهة: اسم من الاشتباه، وهي ما يشتبه عليك أمرهُ.
ومنهُ قول الحريري في مقدَّمة مقاماتهِ: ونستغفرك من سَوْق الشهوات إلى سُوق الشُّبُهات).
وما نعنيه هنا هو «الشبهات» المطروحة من خارج إطار المنهج الإسلامي، والتي تُلقى على العقل المسلم بغرض تشكيكه في دينه..
تحليل ظاهرة الشبهات
الشبهات ظاهرة معرفية إنسانية عامة، وذلك أن المعرفة الإنسانية عبارة عن رموز لفظية أو شكلية تدل على مجموعة من المعاني..
وقد اقتضى سعي الإنسان لاستيعاب أكبر قدر من المعاني والدلائل.. استخدام أقل قدر من الرموز في التعبير عن أكبر قدر من المعاني..
مما أوجد حالات المرادفات المتعددة للكلمة الواحدة..
والاستخدام المتباين لنفس الألفاظ في سياقات مختلفة بمعانٍ متفاوتة..
وإمكانية تأويل النصوص بأكثر من طريقة بناءً على زاوية الفهم، وقاعدة النظر، وطبيعة المتلقي..
ومن هنا نشأت قضية الشبهات التي هي عبارة عن نصوص «آيات أو أحاديث» يفهم منها أكثر من معنى بالنسبة للزاوية التي يتم تناولها من خلالها..
وهو ما أكدته آية آل عمران {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} [آل عمران: 7].
فالنص المحكم.. هو الذي لا يدل إلا على معنى واحد..
والنص المتشابه هو ما دلَّ على أكثر من معنى.. منه الحق ومنه الباطل..
وهو ما جعل الشبهات أداة قدرية للهدى والضلال..
فيكون النص الواحد هدى وشفاء للمؤمنين.. وعمى وضلالا للكافرين.. {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى} [فصلت: 44].(2/81)
يقول الإمام ابن القيم: (هذا حال القلوب عند ورود الحق المنزَّل عليها: قلبٌ يفتتن به كفرًا وجحودًا، وقلب يزداد به إيمانًا وتصديقًا، وقلب يتيقنه فتقوم عليه به الحجة، وقلب يوجِبُ له حيرة وعمى، فلا يدري ما يراد به)(1)
فالشبهة هي محاولة إحداث خلل في فهم وتناول النصوص، من خلال التأثير على النص الأصلي لاختلاق تناقض في المعنى بأساليب متعددة.. منها:
- انتزاع النص وبتره من سياقه الأصلي..
- الزيادة أو النقصان من ألفاظ النص..
- إفقاد النص مقوماته الأساسية وتحويره واستباقه بمقدمات مصطنعة لدفع الفهم باتجاه مُعيَّن..
- تضييع إحداثيات النص وإخراجه من إطار الإحكام المنهجي الإسلامي..
- حشد وتجميع النصوص المدسوسة وتقديمها على أنها نصوص قطعية..
- إلزام النص بما ليس من لوازمه..
ومن حيث الواقع الذي تُلْقى فيه الشبهات: فهناك عوامل أساسية لتفسير أسباب ظهور الشبهات وتأثيرها.. وهي: قلة العلم، غلبة الجهل، وشيوع الفواحش والكبائر..
يقول الإمام ابن القيم: (لما كان القلب يوصف بالحياة وضدها انقسم بحسب ذلك إلى هذه الأحوال الثلاثة.. صحيح ومريض وميِّت..
فالقلب الصحيح: هو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به، كما قال تعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء: 88، 89].
وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم، والأمر الجامع لذلك: أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره..
فسَلِمَ من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله..
فسَلِمَ في محبة الله مع تحكيمه لرسوله في خوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والذل له وإيثار مرضاته في كل حال، والتباعد من سخطه بكل طريق، وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله وحده..
__________
(1) من كتاب: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان.(2/82)
فالقلب السليم: هو الذي سَلِمَ من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى: إرادة ومحبة وتوكلا وإنابة وإخباتا وخشية ورجاء وخلص عمله لله، فإن أحبَّ.. أحبَّ في الله، وإن أبغض.. أبغض في الله، وإن أعطى.. أعطى لله، وإن منع.. منع لله، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسوله، فيعقد قلبُه معه عقدًا محكمًا على الائتمام والاقتداء به وحده -دون كل أحد- في الأقوال والأعمال.. أقوال القلب: وهي العقائد، وأقوال اللسان: وهي الخبر عما في القلب، وأعمال القلب: وهي الإرادة والمحبة والكراهة وتوابعها، وأعمال الجوارح..
فيكون الحاكم عليه في ذلك كله -دقيقه وجليله- هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل، كما قال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} [الحجرات: 1] أي: لا تقولوا حتى يقول ولا تفعلوا حتى يأمر..)(1)
__________
(1) من كتاب: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان.(2/83)
ويقول أيضًا: (القلب محتاج إلى ما يحفظ عليه قوَّته، وهو الإيمان وأوراد الطاعات، وإلى حمية عن المؤذي الضار، وذلك باجتناب الآثام والمعاصي وأنواع المخالفات، وإلى استفراغه من كل مادة فاسدة تعرض له، وذلك بالتوبة النصوح واستغفار غافر الخطيئات، ومرضه هو نوع فساد يحصل له يفسد به تصوره للحق وإرادته له، فلا يرى الحق حقًّا، أو يراه على خلاف ما هو عليه، أو ينقص إدراكه له وتفسد به إرادته له، فيبغض الحق النافع، أو يحب الباطل الضار، أو يجتمعان له وهو الغالب، ولهذا يفسر المرض الذي يعرض له تارة بالشك والريب، كما قال مجاهد وقتادة في قوله تعالى: {في قلوبهم مرض} [البقرة: 10] أي: شك، وتارة بشهوة الزنا، كما فسر به قوله تعالى: {فيطمع الذي في قلبه مرض} [الأحزاب: 32]، فالأول مرض الشبهة، والثاني مرض الشهوة، والصحة تحفظ بالمثل، والشُّبَهُ والمرض يدفع بالضد والخلاف، وهو يقوى بمثل سببه، ويزول بضده، والصحة تحفظ بمثل سببها، وتضعف أو تزول بضده، ولما كان البدن المريض يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح: من يسير الحر والبرد والحركة ونحو ذلك- فكذلك القلب إذا كان فيه مرض آذاه أدنى شيء: من الشبهة أو الشهوة، حيث لا يقوى على دفعهما إذا وردا عليه، والقلب الصحيح القويُّ يطرقه أضعاف ذلك، وهو يدفعه بقوته وصحته.
وبالجملة.. فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه وضعفت قوته، وترامى إلى التلف، ما لم يتدارك ذلك بأن يحصل له ما يقوي قوته ويزيل مرضه.
ومرض القلب نوعان: نوع لا يتألم به صاحبه في الحال، وهو النوع المتقدم كمرض الجهل، ومرض الشبهات والشكوك، ومرض الشهوات، وهذا النوع هو أعظم النوعين ألمًا، ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم، ولأن سكرة الجهل والهوى تحول بينه وبين إدراك الألم، وإلا فألمه حاضر فيه حاصل له، وهو متوارٍ عنه باشتغاله بضده، وهذا أخطر المرضين وأصعبهما، وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم، فهم أطباء هذا المرض.(2/84)
والنوع الثاني: مرض مؤلم له في الحال.. كالهم والغم والغيظ، وهذا المرض قد يزول بأدوية طبيعية.. كإزالة أسبابه، أو بالمداواة بما يضاد تلك الأسباب، وما يدفع موجبها مع قيامها.
وكما أن القلب قد يتألم بما يتألم به البدن، ويشقى بما يشقى به البدن- فكذلك البدن يتألم كثيرًا بما يتألم به القلب، ويشقيه ما يشقيه، وكذلك الشاكُّ في الشيء المرتاب فيه يتألم قلبه حتى يحصل له العلم واليقين، ولما كان ذلك يوجب له حرارة.. قيل لمن حصل له اليقين: ثلج صدره، وحصل له برد اليقين..
وهو كذلك يضيق بالجهل والضلال عن طريق رشده، وينشرح بالهدى والعلم، قال تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء} [الأنعام: 125])(1)
المنهج العلمي في التعامل مع الشبهات
هناك عدة قواعد علمية تحدد الأسلوب السليم للتعامل مع الشبهات، ابتداءً من بحث صحة النص وتوثيقه، ومرورًا بتجريده من عوامل التحريف والتحوير، وانتهاءً بالالتزام بالفهم السلفي في معالجة وتفسير النصوص، والذي يرتكز على عدة قواعد:
الأولى: رد المتشابه إلى المحكم، تطبيقًا لقوله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} [آل عمران: 7].
فإذا اشتبه علينا معنى «كلمة الله» و«روح منه» في قوله تعالى: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء: 171] عدنا إلى محكم قوله سبحانه: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59] فنفهم أن عيسى خُلِقَ بكلمة الله «كن» تمامًا مثلما خلق بها آدم(2).
__________
(1) من كتاب: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان.
(2) راجع: الفصل الرابع-التحريف في كلام الأنبياء- الباب الثاني، وفيه تطبيق مباشر على هذه القاعدة.(2/85)
وكذلك عدنا إلى قوله تعالى: {سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} [الجاثية: 13] لنفهم أن الإضافة بـ «مِنْهُ» إضافة ربوبية وخلق، لا إضافة تبعيض وتركيب، وهكذا يُفسَّرُ المتشابه بالمحكم.
الثانية: رد الشبهة لعدم معقوليتها؛ كزعمهم بوجود أخطاء نحوية في القرآن، وذلك لأن علم النحو الذي يحاكمون القرآن إليه إنما وضعه علماء المسلمين استنباطًا من نصوص القرآن ذاته، وبناءً على كلام العرب وأشعارهم في الحواضر والبوادي، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو واحد من هؤلاء، والذين تلقوا القرآن لأول مرة هم أيضًا من هؤلاء، فيصير من غير المعقول -ابتداءً- أن توضع القواعد بناءً على نص ثم تخالفه..
ومن غير المعقول -انتهاءً- أن يتلقى هؤلاء جميعًا خطأ ما في الكلام دون أن ينتبهوا إليه، وهم الحجة الطبيعية لعلماء النحو واللغة..!
فتصير الشبهة منطقًا معكوسًا ومتناقضًا مع ذاته.
ومن جنس الشبهات غير المعقولة، الشبهة التي يزعم فيها الظالمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جامعَ زوجة عمه أبو طالب في القبر بعد أن ماتت حتى رآه الناس، متجاهلين أخلاق العرب ومروءتهم، وحرمة الموتى، وحق العمومة والتربية، بصرف النظر عن النبوة..
الثالثة: تحديد منزلة الشبهة وتصنيفها: فينبغي التركيز على قضايا العقيدة وإثبات الوحي والنبوة والمعاد على غيرها من القضايا.
الرابعة: إظهار التناقضات بجوار رد الشبهات؛ لأن إظهار التناقضات يخرج المسلم من دائرة الإحساس بالاتهام والدفاع في مواجهة الآخر، وما يترتب على ذلك من الهزيمة النفسية للمدافع، وشعور الانتصار عند المهاجم..(2/86)
فحينما يحاول أعداء الله تجريم واجب الجهاد، ودمغه بالإرهاب والعدوان لا نكتفي بتوضيح قيمة الجهاد في الإسلام، وارتباطه بغاية الهداية ورد العدوان، والتزامه بمعنى الإنسانية، بل ينبغي التقدم بما وراء ذلك، وهو استخراج النصوص الموجودة في كتبهم والتي تحث على القتال والقتل دون أدنى معنى لغاية الهداية، أو اعتبار لمعنى الإنسانية(1).
الخامسة: التفريق بين نص الوحي وفهم المسلمين؛ لأن الأول: معصوم يحدد إطار الإسلام وقيمه، والثاني: عمل بشري خاضع لاحتمال الصواب والخطأ. فبينما تقتصر الحجية في الجانب الإسلامي على كلام الله وما صحت نسبته إلى رسوله نجد أن النصارى يؤمنون بعصمة باباواتهم، وأنهم لا يتكلمون إلا بقوة «روح القدس».
السادسة: مراعاة الفرق بين الطرح العلمي وطرح المواجهة، فعند تفنيد الشبهات والرد عليها ينبغي أن يتصف الرد بالاختصار والإحكام والبساطة والتلقائية، الأمر الذي يختلف عن الطرح العلمي التفصيلي دون مراعاة لعقول المخاطبين، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً)(2)
تصنيف الشبهات
تتوزع الشبهات التي تثار على عدة اتجاهات..
فمنها: ما يتعلق بالتصور الإسلامي عن حقيقة ذات الرب سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته..
ومنها: ما يتعلق بأصول الدين كقضية الوحي والقرآن والرسول والسنة..
ومنها: ما يتعلق بشريعة الإسلام وأحكامها..
ومنها: ما يتعلق بتاريخ المسلمين وحضارتهم وما يتعلق بدورهم في رفعة الإنسانية..
وسوف نختار بعض الشبهات التي تتضمن قواعد عامة في منهجية مواجهة الشبهات، وتعتبر نموذجا لغيرها في نفس الباب.
كما نستطيع تصنيف أسباب تأثير الشبهات إلى عدة مجموعات:
- شبهات ناشئة عن الجهل باللغة وقواعد النحو وأساليب البلاغة.
__________
(1) تراجع: شبهة القتال في هذا الفصل.
(2) صحيح مسلم (1/21).(2/87)
- شبهات ناشئة عن الجهل بعلم الحديث وقواعده، وتعدد الروايات.
- شبهات ناشئة عن الفهم المغلوط لنصوص الآيات والأحاديث.
- شبهات ناشئة عن الجهل بالمنهج الإسلامي وحِكمه وغاياته.
ملاحظات عامة حول الشبهات:
عند التصدي لمناقشة الشبهات فإنه ينبغي المقارنة بين الشبهة المثارة والفكر النصراني، لكشف الهدف من وراء إثارة تلك الشبهات.
ففي الوقت الذي يثير فيه النصاري شبهة انتشار الإسلام بالسيف.. نجد التوراة التي بين أيديهم تقول: (حين تقرب من مدينة لكي تحاربها؛ استدعها إلى الصلح، فإن أجابتْك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكونُ لك للتسخير، وتُستعبد لك، وإن لم تسالمْك، وعمِلتْ معكَ حربًا فحاصِرها، وإذا دفعها الرب إلهُك إلى يديك: فاضرب جميعَ ذكورها بحد السيف، أما النساءُ والأطفالُ والبهائمُ وكل ما في المدينة فهو غنيمةٌ لك.. وهكذا تفعل في جميع المدن البعيدة عنك جدًّا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا؛ وأما مدنُ هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهُك نصيبًا فلا تستبق منها نسمة ما، الحثيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين..) إلخ [التثنية/20].
وفي موطن آخر: (إنَّ موسى أرسل اثني عشر رجلا مع فيخاس بن العازار لمحاربة أهل مديديان، فحاربوا وانتصروا عليهم وقتلوا كل ذكر منهم، وملوكَهم الخمسةَ وبلعامَ، وسَبُوا نساءَهم وأولادَهم ومواشيَهم كلها، وأحرقوا القرى والدساكرَ والمدائنَ، فلما رجعوا غضب عليهم موسى وقال: هل أبقيتم كل أنثى حية؟
إن هؤلاء كُنَّ لبني اسرائيل حسب كلام بلعام سبب خيانة للرب في أمر فغور، فكان الوباء في جماعة الرب، فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر اقتلوها، لكن جميع الأطفال من النساء اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر أبقوهن لكم حيات) [سفر العدد/31].(2/88)
ثم أمر بقتل كل طفل ذكر وكل امرأة ثيبٍ، وأبقى الأبكارَ، ففعلوا كما أمر، وكانت الغنيمة: (من الغنم ستمائة وخمسة وسبعين ألفا، ومن البقر اثنين وسبعين ألفا، ومن الحمير واحدا وستين ألفا، ومن نفوس الناس من النساء اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر جميع النفوس اثنين وثلاثين ألفا).
لاحظ ترتيب غنائم الحرب: الغنم.. البقر.. الحمير.. ثم النساء..!
وفي الوقت الذي يناقش فيه النصارى حكم الموؤدة.. نجدهم يقولون: إن جميع البشر سيدخلون الجحيم حتى الأنبياء(1)
وفي الوقت الذي يتكلم فيه النصارى عن دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم حرام بنت ملحان.. يؤمن النصارى بزنى الأنبياء للمحارم..!
وفي الوقت الذي يتكلم فيه النصارى عن أخطاء نحوية في القرآن.. لا يعرف النصارى أي مصدر لكتاباتهم «المقدسة»..!
ومن قدرة الله عز وجل في إظهار حقيقة الإسلام أن تَكشِف مناقشة كلّ شبهة تثار ضده.. وجهًا إعجازيًّا فيه..!
فعندما ناقش النصارى شبهة محاولة تَرَدِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوق الجبل.. ظهرت حقيقة العلاقة بين حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والوحي.
وعندما ناقش النصارى شبهة سحر الرسول صلى الله عليه وسلم ووضع السم له في الطعام.. ظهر معنى «العصمة» في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعندما ناقش النصارى شبهة الدخول على «أمِّ حرام بنت ملحان».. ظهر أحد دلائل نبوته بتحقق الغيب كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
وهكذا لا تثار شبهة.. وإلا وتكشف مناقشتها عن وجه من وجوه اليقين في هذا الدين، وهو ما ينبغي أن يكون هدفًا بحد ذاته لمناقشة الشبهات.
__________
(1) يراجع: باب تحليل التحريف.(2/89)
ونظرًا لأن «مناقشة الشبهات» قضية متجددة، باعتبار ما يكشف عنه الإعمال المستمر للفكر الإسلامي في النصوص، وباعتبار تغير أسلوب المواجهة من قِبَل الأعداء كأحد نتائج مكر المواجهة.. فإنها تستحق أن تكون عملًا قائمًا بذاته(1) ولذلك اقتصر الكتاب على بعض الأمثلة التي تبين مجموعة من القواعد المنهجية التي ينبغي الالتزام بها عند مناقشة أي شبهة.
محاولة التردي:
__________
(1) في النية إصدار عمل مستقل للرد بصورة منهجية على الشبهات المثارة إذا شاء الله وقَدَّر.(2/90)
قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من تَرَدَّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدًا مخلدًا فيها أبدا))(1).. بينما حاول هو قتل نفسه بالترَدِّي من قمة الجبل!! وساقوا هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري: (باب أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة. أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها، حتى فَجَأَهُ الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطَّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطَّني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق})) فرجع بها ترجف بوادره، حتى دخل على خديجة، فقال: ((زمِّلوني زمِّلوني)) فزمَّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال: ((يا خديجة، ما لي؟!)) وأخبرها الخبر، وقال: ((قد خَشِيتُ على نَفْسِي)) فقالت له: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عم خديجة -أخي أبيها- وكان امرأ تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: أي ابن عمِّ، اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أُنزل
__________
(1) البخاري (5442)، مسلم (109).(2/91)
على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، أكون حيًّا حين يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَوَمُخْرِجِيَّ هم..؟!)) فقال ورقة: نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزَّرًا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما بلغنا، حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدَّى له جبريل، فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقًّا. فيسكن لذلك جأشه، وتقرُّ نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل فقال له مثل ذلك)((1)).
هذه هي الشبهة، وتلك أدلتها..
وقبل أن نناقشها نريد أن نلفت الانتباه إلى قول الزهري راوي الحديث: (فيما بلغنا)..
وهو ما يسمَّى في علم الحديث بالإدراج، أي: أنها من قول الراوي وليست من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالتالي فقد يكون..
والآن نناقش الشبهة:
أولا: يجب أن نتفق على أن هذا الفعل كان قبل نزول الوحي والأحكام الشرعية، ومن ضمنها حكم قتل النفس، ومن هنا لا يجوز لنا أن نُكيِّف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتها أيَّ تكييف شرعي؛ لأن التكييف الشرعي للأفعال المحسوسة لا يكون إلا بحكم، وبذلك يكون من الخطأ أن نقول: إنها محاولة انتحار؛ لأن الانتحار هو قتل النفس مع وجود حكم النهي عن ذلك.
ولعل التدرج في تحريم شرب الخمر يكون دليلًا على اعتبار المرحلة الشرعية في تقييم الأفعال..
فقد ظل الناس يشربون الخمر بعد التحريم الجزئي المتعلق بالنهي عن شرب الخمر في وقت الصلاة، حتى نزل التحريم النهائي فامتنع الناس.
__________
(1) البخاري (6581).(2/92)
ثانيًا: إذا أردنا أن نسقط اعتبار عدم نزول حكم قتل النفس، وأردنا تقييم الموقف باعتبار حرمة الفعل، نكون مطالبين عندئذ بالأخذ بكل أحكام الشريعة، ومنها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن ربكم تبارك وتعالى رحيم، من هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرة إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، ومن هَمَّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله، ولا يهلك على الله تعالى إلا هالك))(1)
وبذلك يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم مأجورًا من الله على الامتناع عن الفعل بعد أن همَّ به.
ثالثًا: أن هذه المحاولة هي دليل على أن الوحي كان من الله ولم يكن لرسول الله أو لأحد من البشر فيه حيلة، وإلا لما بلغ الرسول هذه الحالة النفسية، وقد تكرر غياب الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، وحزن رسول الله حزنًا شديدًا ثم نزل الوحيُ ومعه قول الله عز وجل: {والضحى* والليل إذا سجى} [الضحى: 1، 2].
رابعًا: يبقى من الموقف التفسير النفسي، فلماذا حاول رسول الله هذه المحاولة؟
ووجه الغرابة في الأذهان جاء من عدم إدراك حقيقة علاقة الوحي برسول الله صلى الله عليه وسلم.. فالوحي حياة.. {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} [الشورى: 52].
والمقصود: هو جبريل، وهو ملك الوحي وملك الحياة، ولذلك كان الوحي حياة باعتبارهما وظيفة واحدة لملك واحد، ومن هنا كان مثل الذي يقرأ القرآن والذي لا يقرأه مثل الحي والميت، وكذلك مثل الوحي كالماء الذي ينزل من السماء وكان مَثَلُ الذي لا يستجيب للقرآن مثل الأرض البور {وكنتم قوما بورا} [الفتح: 12].
__________
(1) أحمد (2519) من حديث ابن عباس.(2/93)
ووصف الوحي بالحياة ليس مجازيًا؛ لأن هناك آثار حسية للقرآن في كيان الإنسان، فالقرآن للاستشفاء، ولذلك جاء في تفسير قول الله تعالى: {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} [الفرقان: 30] أي: تركوا الحكم به والاستشفاء به وتلاوته، حتى كانت الفاتحة رقية من السم، إذ إن الرجل الذي لدغته العقرب قام وكأن لم يكن به وجع بعد قراءة الفاتحة عليه.
ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم الله قائلا: ((أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي))(1)
فالحياة بالقلب، وأجمل الحياة هي الربيع، فكان القرآن أجمل حياة، وليس مجرد حياة، ولأجل أن القرآن أجمل حياة لا يتفق أن يُردَّ صاحب القرآن إلى أرذل العمر..!
وإذا كان هذا الأمر بالنسبة للمؤمنين فما هو أثر الوحي بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟
لقد كان معنى الوحي بالنسبة لرسول الله حياته هو؛ لأنه هو الذي تلقى، وهو الذي بلَّغ، ولذلك كان لهذا الأمر عدة مقتضيات:
أولًا: أن يتنزل الوحي على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، والحياة لا تكون إلا بالقلب {على قلبك لتكون من المنذرين} [الشعراء: 194] ولذلك كان قلب رسول الله لا يغفل ((تنام عينيه، ولا ينام قلبه))(2) وفي ذلك كان عبيد بن عمير يقول: رؤيا الأنبياء وحي..(3) لأنه يتلقى الوحي بقلبه، وقلبه لا يغفل.
ولأجل أهمية معنى الوحي كحياة بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان لحياته اعتبارين: الاعتبار الرسالي، والاعتبار الشخصي، فلما انتهى الاعتبار الرسالي، خُيِّر في الحياة بالاعتبار الشخصي، فاختار الموت، لترتبط حياته بالاعتبار الرسالي فقط، ولتكون حياته هي الوحي فقط، وبذلك يكون الوحي فقط: هو حياة الرسول صلى الله عليه وسلم..!
__________
(1) أحمد (4318) من حديث ابن مسعود.
(2) البخاري (821) من حديث ابن عباس.
(3) المصدر السابق.(2/94)
ومعنى تخيير رسول الله بعد انتهاء الوحي للحياة أو الموت هو أن حياته في حال نزول الوحي هي حياة متعلقة بالوحي كلية، وأن حياته بالاعتبار الشخصي مسألة أخرى يخير فيها.. ولذلك جاء قول الله عز وجل: {إذا جاء نصر الله والفتح} [النصر: 1] وكانت آخر ما نزل من القرآن من السور.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله خيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله)) فبكى أبو بكر فقال الصحابة: ما بال الشيخ يبكي؟!((1)) لأنهم لم يدركوا ما أدركه أبو بكر، وكان آخر ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: ((بل الرفيق الأعلى))(2) فقالت فاطمة: إذن لا يختارنا، ولذلك قال ابن عباس في تفسيرها: (ينعي بها الله أجل رسوله صلى الله عليه وسلم).
وبناء على هذا الفهم كانت علاقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل، فكان جبريل ضرورة حياة بالنسبة للرسول، حتى إن جبريل كان يدارس الرسول مرة كل عام، فلما كان العام الذي مات فيه دارسه القرآن مرتين، وذلك لحساب الأيام التي يعيشها دون أن يدرك رمضان بعد ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطيق غيابه، حتى أنه سأله: ((ألا تزورنا أكثر مما تزورنا)) فأنزل الله: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} [مريم: 64]((3)) فلما غاب عنه بعد نزول الوحي في أول الأمر لم يتحمل أن يعيش بغير وحي، ولكن جبريل كان يظهر له عندما يكون في هذه الحالة فيقول له: ((أنت رسول الله وأنا جبريل)) فيطمئن وتذهب الحالة التي هو فيها، ثم يعود فيظهر له جبريل فيقول: ((أنت رسول الله وأنا جبريل)) ويتكرر الموقف حتى أصبح رسول الله يملك القدرة على تَحمُّل غياب الوحي، كما كان يملك القدرة على تحمل الوحي نفسه، فقد كان هذا التحمل في الحالتين ضرورة رسالة ونبوة ووحي.
__________
(1) البخاري (454)، مسلم (274).
(2) أحمد (26389).
(3) البخاري (3046).(2/95)
فكما ارتبطت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة حتى النهاية كان موقف محاولة الرسول تحقيقًا لهذا الارتباط من البداية؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتنع عن المحاولة كلما جاءه جبريل وقال له: ((أنت رسول الله وأنا جبريل))(1) فأصبحت حياة رسول الله من بدايتها إلى نهايتها هي الرسالة.
ولعلنا نلاحظ ارتباط رسول الله بالوحي من رفضه للحياة بعد انتهاء الرسالة، واختياره الموت ..
((فاختار ما عند الله)) ..
((بل الرفيق الأعلى)).
ثانيًا: أن الموقف يثبت الإرادة الإلهية في بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بقدر؛ ابتداء من نجاة إسماعيل من الذبح ليكون له نسل ويكون من نسله رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرورًا بنجاة عبد الله أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذبح أيضًا بعد أن نذر عبد المطلب جد رسول الله أن يذبح أحد أبنائه في الكعبة، فاقترح عليه الناس أن يفتديه من هذا الذبح بمائة من الإبل، وانتهاء بهذا الموقف الذي أكد أن الرسالة كانت هي الحكمة الربانية لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حديث السحر:
__________
(1) البخاري (6581) بنحوه.(2/96)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سُحِر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه لَيُخَيَّل إليه أنه فعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله.. ودعاه.. ثم قال: ((أشَعَرتِ يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيته؟! جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مَطْبُوب، قال: ومن طَبَّه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي، قال: في ماذا؟ قال: في مشط ومشاطة وجَفِّ طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذروان)) فذهب النبي صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه إلى البئر، فقال: ((هذه البئر التي أريتها، وكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رءوس الشياطين)) فاستخرجه(1)
قالوا: فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد سُحر، فأين عصمة الوحي..؟
الثابت بالحديث الصحيح أن أثر السحر على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُهَيَّأ له أنه يأتي الشيء ولم يكن يأتيه، وهذا معناه أن أقصى تأثير للسحر في رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في علاقته بزوجاته ومعاشرته لهن، وهذا الجانب لا علاقة له بالوحي، مما يعني أن أثر السحر لم يخرج عن أخص خصائص النبي الشخصية.. مما يثبت معنيين في آنٍ واحد:
الأول: ابتلاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالسحر..
والثاني: وعصمة قدرته على تبليغ الوحي..
ولكي نفهم العلاقة بين أثر السحر ومقام النبوة يجب أن نفهم حقيقة الوحي.. فالوحي كان يتنزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم {على قلبك لتكون من المنذرين} [الشعراء: 194] ولذلك كان قلب رسول الله لا يغفل ((تنام عينيه، ولا ينام قلبه))(2) ومن هنا كانت رؤى الأنبياء وحي؛ لأنه يتلقى الوحي بقلبه، وقلبه لا يغفل.
__________
(1) البخاري (3095، 5432، 5433، 5716)، ومسلم (2189).
(2) البخاري (821) من حديث ابن عباس.(2/97)
وقد ينشا تساؤل يقول: أنه كان من الممكن أن ينجي الله الرسول صلى الله عليه وسلم من سحر اليهود كلية دون هذا الأثر؟
والواقع أن هذا الأثر هو الإثبات الحقيقي لنجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر؛ لأن إثبات النجاة يتطلب إثبات حدوث السحر ذاته ثم النجاة منه.. وهذا الأثر كان بمقدار إثبات حدوث هذا السحر.
وأحيانًا تكون عصمة الله للرسول صلى الله عليه وسلم بنجاته من الفعل، وأحيانًا تكون بنجاته من أثر الفعل بعد أن يحدث..
ومثال الحالة الأولى: محاولة اليهود إلقاء حجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم اليهود وجلس بجوار جدار لهم، فتمالئوا على إلقاء صخرة عليه من فوق ذلك الجدار، وقام بذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فأتاه الخبر من السماء، فقام مُظهرًا أنه يقضي حاجة، ورجع مسرعًا إلى المدينة.
ولعلنا نلاحظ أن جبريل نزل من السماء السابعة ليسبق الحجر قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله أراد منع الفعل..
أما مثال الحالة الثانية: فعندما أكل النبي صلى الله عليه وسلم اللقمة المسمومة، لم يكن ذلك تأخرًا من جبريل، ولكن الله شاء أن يقع الفعل، ويُبتلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسُمِّ، دون أن يقع أثره، وهو الموت في الحال، ثم يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكمل رسالته، حتى إذا انقضى أجله صلى الله عليه وسلم، ظهر أثر السُّم.. لينال الرسول صلى الله عليه وسلم شرف الشهادة..!
وكما أثبت موقف محاولة التردي من الجبل حقيقة العلاقة بين الوحي ورسول الله صلى الله عليه وسلم من الناحية النفسية..
أثبت موقف السحر التفسير الحقيقي للعلاقة بين الوحي ورسول الله صلى الله عليه وسلم من الناحية القلبية، يجب أن يكون فهم قول الله سبحانه وتعالى: {نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا} [الإسراء: 47].(2/98)
إذ أن ادعاء الكفار بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل مسحور- ليس له علاقة بحادثة السحر؛ لأن الادعاء كان منذ أعلن رسول الله وحدانية الله؛ لأن الآية جاءت بعد قوله سبحانه: {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا} [الإسراء: 46].
وقوله سبحانه وتعالى: {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب* أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب} [ص: 4، 5].
وقوله سبحانه وتعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين} [الإسراء: 43].
وفي ضوء قوله سبحانه: {والله يعصمك من الناس} نستطيع أن نفهم موقف السم وموقف السحر؛ لأن العصمة التي وعده الله بها إنما كانت باعتبار الرسالة، ولذلك كان النص: {ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين} [المائدة: 67].
حيث أن أذى الكافرين أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته الإنسانية، فَوُضِعَ عليه أحشاء الجزور في مكة، وأدميت قدماه في الطائف، وشقت جبهته وكسرت رباعيته في أحد، وكل ذلك لم يؤثر في النبوة والرسالة، وكذلك السم، أصيب بسببه رسول الله بالحمى، وكانت تعاوده كل عام، ولكنه لم يمت حتى تمَّت الرسالة، وكذلك السحر كان يهيأ له الشيء ولم يفعله بذهنه، ولكن ذلك لم يؤثر في الوحي الذي كان ينزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، شأن ذلك شأن الأذى والحمى في البدن..
وكأن هذه المواقف بإجمالها إضافة قدرية إلى دلائل النبوة..!
الأمية:
مصطلح الأمية له عدة معاني: لغوي، وعرفي (اصطلاح عام)، وشرعي (اصطلاح خاص)..(2/99)
المعنى اللغوي: الأمية نسبة إلى الأم، وهذه النسبة تعني الناحية المعرفية الناشئة عند الابن من خلال علاقته بأمه، وتتميز هذه المعرفة: بالفطرة، والبساطة، والحسية.
التفسير العرفي: باعتبار أن هذه الطبيعة المعرفية لا تدخل فيها القراءة والكتابة؛ فإن الإنسان الذي لا يقرأ ولا يكتب يكون أميًّا، وهذا المعنى ناشئ من أن القراءة والكتابة هي المرحلة التي يتجاوز بها الابن مرحلة التلقي عن الأم، ومن هنا جاء المعنى بأن الأمية هي عدم القراءة والكتابة اصطلاحًا.
المعنى الشرعي: أما المعنى الشرعي الخاص برسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي باعتبار معجزته ذات الطبيعة الحجية العقلية العلمية، والتي استلزمت أن يكون الرسول أميًّا؛ لا يقرأ ولا يكتب؛ لإظهار الإعجاز بصورة كاملة.
وبذلك أصبح المعنى الشرعي للأمية منطبقًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو النبي الذي لم يتلقَ أي معرفة قبل الوحي..
أما تفسير الأمية الخاص بالأمة فله ثلاثة أبعاد:
البُعد الأول: إطلاق اسم الأمية على الأمة باعتبار انتسابها للنبي الأمي، ولذلك أثبت القرآن خضوع غير العرب من المسلمين لصفة الأمية باعتبار الانتساب للأمة الأمية في قوله تعالى: {وآخرين منهم لا يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم} [الجمعة: 3].(2/100)
عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْجُمُعَةِ { وآخرين منهم لا يلحقوا بهم} قَالَ: قُلْتُ مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ، حَتَّى سَأَلَ ثَلَاثًا، وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ ثُمَّ قَالَ: ((لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ أَوْ رَجُلٌ مِنْ هَؤُلَاءِ))(1).
ولهذا قال مجاهد وغير واحد في قوله تعالى: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم}: (هم الأعاجم وكل من صَدَّق النبي من غير العرب).
البُعد الثاني: هو عدم وجود أي معرفة حضارية للأمة قبل البعثة رغم معرفتها الثابتة للقراءة والكتابة..
البُعد الثالث: هو المعنى الجامع للأمية بين الرسول والأمة، من حيث ارتباط معنى الأمية بمنهج الدعوة، فالأمية في منهج الدعوة ليست مستوى معرفي ولكنها أسلوب دعوي.. فنحن قوم أميون باعتبار أسلوب الدعوة الذي نراعي فيه كل المستويات البشرية الثقافية والعلمية..
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في (تفسير القرآن/ 4898)، ومسلم في (فضائل الصحابة/ 2546).(2/101)
ابتداءً من «التفهيم بالإشارة» عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ؛ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي: مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ)) (1) وهذا الحد يمثل الحد الأدنى للعقول التي نتعامل معها في دعوتنا، ويناسب عالمية الرسالة وامتدادها الزماني والمكاني، ويناسب طبيعة نقل الرسالة كما هي باعتبارها فطرة.. فلزم عند الأميين أن تكون طبيعة التلقي لهذا الدين من طبيعة الدين، وأن تكون طبيعة اعتناقه من طبيعة تلقيه، وأن تكون طبيعة الدعوة إليه من طبيعة اعتناقه، وهكذا.
إن الأمية -وهي الصفة التي انتقلت بها الولاية إلى الأمة الإسلامية- تعني في المقابل أن إفساد الدين عند بني إسرائيل يرجع في أساسه إلى التفريط في ضرورة حفظ الوحي بفطريته وبساطته بعيدًا عن الوثنيات والفلسفات والكهانة الناشئة عنها..
فنجد أن النصرانية قد قامت على القول بأن «المسيح ابن الله»، وعند مناقشة هذا القول يقال: إنه ليس ابنه كبنوة البشر، ويصرفون اللفظ إلى غير معناه المعروف للبشر؛ لذا كان لابد أن نفهم حقيقة النص الذي يكون به الوحي؛ لأن غاية الوحي أن ينقل معاني تحملها النصوص والألفاظ، لا مجرد ألفاظٍ لا تُقصَدُ معانيها..!
حديث أم حرام بنت ملحان:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ.. فَتُطْعِمُهُ، وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَدَخَلَ يَوْمًا فَأَطْعَمَتْهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ.. قَالَتْ: فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟!
__________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في (الصوم/1906)، ومسلم في (الصيام/1080).(2/102)
فَقَالَ: ((نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عليَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ، مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ..)).
قُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ! فَدَعَا.. ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟!
قَالَ: ((نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عليَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ)) فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ!
قَالَ: ((أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ، فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ زَمَانَ مُعَاوِيَةَ فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ))(1)
وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم دخل عليها: فأطعمته وجَعَلَت تَفْلِي رَأْسَه.
وأُمّ حَرَامٍ بِنتُ مِلْحَانَ هِيَ أخْتُ أُمّ سُلَيْمٍ، وهي خَالَةُ أنَسٍ بنِ مَالِكٍ، جاء في ترجمتها: (أم حرام بنت ملحان، واسمه: مالك بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن مالك بن النجار الأنصارية، خالة أنس بن مالك، وزوجة عبادة بن الصامت، يقال: اسمها الغميصاء، ويقال: الرميصاء)(2)
وقد اختلف العلماء في تفسير دخوله صلى الله عليه وسلم بيت أم حرام على ثلاثة أقوال:
الأول: قالوا: إنَّ دخوله عليها صلى الله عليه وسلم خصوصية اختصه الله بها، وهو قول باطل لحديث أنس بن مالك، الذي يقول فيه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه.. إلا على أم سليم، فإنه كان يدخل عليها، فقيل له في ذلك، فقال: ((إني أَرْحَمُها، قتل أخوها معي))(3)
__________
(1) أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
(2) التهذيب.
(3) البخاري (2689)، ومسلم (2455).(2/103)
الثاني: قالوا أن دخوله لم يَكُن فيه خُلوَةٌ شرعية منهي عنها، ويؤيد هذا القول الرواية التي يقول فيها أنس رضي الله عنه: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.. مَا هُوَ إِلاَّ أَنَا وَأُمِّي وَخَالَتِي أُمُّ حَرَامٍ، فَقَالَ: ((قُوْمُوا فَلأُصَلِّ بِكُم))(1) ولكنَّ الزيادة التي بالرواية الثانية: ( فأطعمته وجَعَلَت تَفْلِي رَأْسَه) تُبْطِلُ هذا القول.
الثالث، وهو الصواب: أنَّها كانت رضي الله عنها مَحْرَمًا له من الرضاعة، ويؤيِّده أنَّها من بني النجار، الذين ينتمي إليهم أخوال عبد الله بن عبد المطلب -أبي النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الإمام ابن عبد البر: (أظن أن أم حرام أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أختها أم سليم فصارت كل منهما أمه أو خالته من الرضاعة، فلذلك كان ينام عندها وتنال منه ما يجوز للمحرم أن يناله من محارمه، ثم ساق بسنده إلى يحيى بن إبراهيم بن مزين قال: إنما استجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفلي أم حرام رأسه؛ لأنها كانت منه ذات محرم من قِبل خالاته؛ لأن أم عبد المطلب جده كانت من بني النجار. ومن طريق يونس بن عبد الأعلى قال: قال لنا ابن وهب: أم حرام إحدى خالات النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فلذلك كان يقيل عندها، وينام في حجرها، وتفلي رأسه).
قال ابن عبد البر: (وأيهما كان فهي محرم له. وجزم أبو القاسم بن الجوهري والداودي والمهلب فيما حكاه ابن بطال عنه بما قال ابن وهب، قال: وقال غيره إنما كانت خالة لأبيه أو جده عبد المطلب، وقال ابن الجوزي: سمعت بعض الحفاظ يقول: كانت أم سليم أخت آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة).
__________
(1) مسلم في (الإمارة/1912).(2/104)
وأمَّا قولهم في «النوم في حُجْرِها»، وكلمة «حُجْر» هنا تعني: البيت، كما ورد في الآية: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما} [النساء: 23].
ومعنى حجوركم في الآية: بيوتكم، وكذلك الحجر في حديث أنس؛ يعني: البيت.
وكذلك في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: ((إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها))(1)
ليأرز: لينضم أهله ويجتمعون، حجرها: مسكنها الذي تأمن فيه وتستقر.
ويثبت ذلك قول أنس في رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم: (وضع رأسه في بيت بنت ملحان)(2)
وفي الوقت الذي يستنكر فيه النصارى دخول النبي صلى الله عليه وسلم على أم حرام -وهي خالته من الرضاعة- لا يبالون بما نسبوه للأنبياء من زنى المحارم في التوراة.
الوائدة والموردة:
عن سلمة بن يزيد الجعفي قال: انطلقت أنا وأخي وأبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: قلنا: يا رسول الله.. إن أمَّنا مليكة كانت تصل الرحم، وتقري الضيف، وتفعل وتفعل.. هلكت في الجاهلية، فهل ذلك نافعها شيئًا؟ قال: ((لا)).
قال: قلنا: فإنها كانت وَأدَت أختًا لها فهل ذلك نافعها شيئًا؟ قال: ((الوائدة والموؤدة في النار، إلا أن تدرك الوائدة الإسلام ليعفو الله عنها))(3).
__________
(1) مسلم في (الإيمان/147(.
(2) مسلم في الإيمان، باب: بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، رقم: 147.
(3) أحمد ورجاله رجال الصحيح والطبراني في الكبير بنحوه.(2/105)
والحكم الوارد في الحديث متعلق بفترة ما قبل الإسلام، والحكم العام في هذه الفترة أن أهلها في النار، فعندما تذكر حالة خاصة أو فعل تفصيلي فإنها لا تأخذ حكمًا يخالف هذا الحكم العام.
فلا نناقش الحديث من خلال حكم الوأد؛ لأنه حكم تفصيلي لا يجوز مناقشته أمام الحكم العام الذي يقضي في أهل فترة ما قبل الإسلام بالنار؛ لأن الأحكام تتأثر ببعضها إجراءً وتطبيقا.
فعندما أرى رجلًا يشرب الخمر بيده الشمال لا يعقل أن أنهاه عن الشرب بالشمال؛ لأن لحكم النهي عن الشرب بالشمال أثر على حكم شرب الخمر، فيكون لهذا الحكم الفرعي أثره على الحكم بالنهي عن شرب الخمر أصلًا..
وكذلك إذا كان حكم أهل الفترة حكمًا عامًّا، فإن أي حكم تفصيلي يخضع لهذا الحكم العام.. حتى لا يؤثر فيه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أثبت في الحديث حكمًا عامًّا غير متعلق بالوأد أصلًا سواء كانت الوائدة أو الموؤدة.
وفي الوقت الذي يناقش فيه النصاري حكم الموؤدة.. نجدهم يقولون: إن جميع البشر سيدخلون الجحيم حتى الأنبياء..!
حادثة المجبوب:
روى الإمام مسلم عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُتَّهَمُ بِأُمِّ وَلَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيِّ بن أبي طالب: ((اذْهَبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ)) فَأَتَاهُ عَلِيٌّ.. فَإِذَا هُوَ فِي رَكِيٍّ(1) يَتَبَرَّدُ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: اخْرُجْ! فَنَاوَلَهُ يَدَهُ فَأَخْرَجَهُ، فَإِذَا هُوَ مَجْبُوبٌ لَيْسَ لَهُ ذَكَرٌ، فَكَفَّ عَلِيٌّ عَنْهُ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَمَجْبُوبٌ مَا لَهُ ذَكَرٌ!(2)
__________
(1) الرَّكِيّ: ما يشبه البئر الذي يُغتسل فيه.
(2) مسلم (4975) وأحمد في مسنده (13478).(2/106)
قالوا: كيف يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا رضي الله عنه بقتل رجل بريء لمجرد التهمة، وكيف يَحكُم على رجل بالقتل في تهمة لم تُحقَّق ولم يواجه فيها المتهم، ولم يُسمع له فيها دفاع؟!
الحقيقة: إن هذه الشبهة ليست جديدة، بل ذكرها كثير من العلماء قديما وحديثًا، وردُّوا عليها من أكثر من وجه، وهذه الرواية ليست الوحيدة التي ذكرت هذه الحادثة، وهناك قاعدة في علم الحديث ذكرها الإمام ابن حجر في الفتح بقوله: (المُتَعَيِّن على من يتكلم أن بعض الرواة يختصر الحديث: أن يتتبع الأحاديث ويجمع طرقها، ثم يجمع ألفاظ المتون إذا صحت الطرق، ويشرحها على أنها حديث واحد، فإن الحديث أولى ما فُسِّرَ بالحديث).(2/107)
وتطبيق هذه القاعدة يقتضي ذكر الطرق الأخرى لهذا الحديث، وأهمّها الطريق الذي رواه الإمام الطحاوي في مشكل الآثار، عن علي بن أبي طالب قال: كان قد تجرءوا على مارية في قبطي كان يختلف إليها، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انطلق، فإن وجدته عندها فاقتله)) فقلت: يا رسول الله، أكون في أمرك كالسِّكَّة المُحْمَاة(1) وأمضي لما أمرتني لا يثنيني شيء.. أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ قال: ((الشاهد يرى ما لا يرى الغائب)) فَتَوَشَّحْتُ سيفي، ثم انطلقت، فوجدته خارجًا من عندها على عنقه جَرَّة، فلما رأيته اخترطت سيفي، فلما رآني إياه أريد ألقى الجرة(2) وانطلق هاربًا، فَرَقِيَ في نخلة، فلما كان في نصفها وقع مستلقيًا على قفاه، وانكشف ثوبه عنه، فإذا أنا به أَجَبّ أمسح، ليس له شيء مما خلق الله عز وجل للرجال(3) فغمدت سيفي، وقلت: مَهْ! قال: خيرًا! هي امرأة من القبط، وزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحتطب لها. فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: ((الحمد لله الذي يصرف عنا السوء أهل البيت))(4)
فكان المقصود من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو التبيُّن ومراعاة الأوضاع قبل التعرف، وبهذه الرواية يزول الإشكال.
شبهة سجود الشمس تحت العرش:
__________
(1) المحماة: الحديدة الملتهبة من حرارة النار، والمقصود: أنفذ أمرك بدون مراجعتك.
(2) والجِرَار: جمع جَرَّة، وهو إناء من الفَخَّار أو الخزف.
(3) أو مجبوب: أي مبتور الذَّكَر.
(4) البزار في مسنده (2 / 237)، وأبو نعيم في الحلية (3 / 178) عن علي رضي الله عنه.(2/108)
أخرج البخاري في صحيحه: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: (( أتدري أين تذهب؟)) قلت: الله ورسوله أعلم! قال: ((فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن، فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}))(1)
فمنذ متى كانت الشمس عند غروبها تسرع عائدة إلى المكان الذي تشرق منه؟
والرد: أن هناك حقيقة عامة قررها الله في كتابه، وهي أن كل مخلوق من مخلوقاته يسبح الله تعالى، ويخضع له بما يتناسب مع حاله..
فمن معاني السجود في اللغة: الخضوع، كما ذكره ابن منظور وغيره.
وعليه يُحمل ما في هذا الحديث، وهو المقصود في قوله تعالى في آية الحج: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} [الحج: 18].
قال ابن كثير رحمه الله: (يُخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعًا وكرهًا، وسجود كل شيء مما يختص به) ا.هـ.
والأمر بالنسبة للكون ليس متعلقًا فقط بالسجود، بل هناك التسبيح والصلاة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41].
أولا: عناصر تفسير السجود الكوني
__________
(1) البخاري (3027، 4542).(2/109)
- سجود العناصر الكونية كلها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18].
- سجود آثار العناصر الكونية: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال} [الرعد: 15]
- سجود مادة العناصر الكونية: وفيها يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأشياء تسجد لله بصفتها المادية وذلك كما في قوله: ((إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه، وإذا رفع فليرفعهما)).
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبع ونهى أن يكفت الشعر والثياب على يديه وركبتيه وأطراف أصابعه.. قال سفيان قال لنا ابن طاوس: ووضع يديه على جبهته وأمرَّها على أنفه؛ قال: هذا واحد واللفظ لمحمد دعه يسجد(1)
- سجود حركة العناصر الكونية: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون} والشمس داخلة في دواب السماء؛ لأن معنى الدبيب السير والحركة، والشمس متحركة تجري لمستقر لها كما هو معلوم بنص القرآن وكما هو ثابت بالعقل.
- سجود الزمن الكوني {لمستقر لها} لأن الآية تعني الحركة والزمان.
- السجود المرحلي الكوني {والنجم والشجر يسجدان} [الرحمن: 6] لأن تفسير الآية أن النجم هو الشجر الصغير، فالشجر في كل مراحله يسجد..
هذا هو المعنى العام للسجود الكوني يتبعه تفسير اختصاص الشمس بالسجود.
ثانيا: اختصاص الشمس بالسجود تحت العرش
وهذا الاختصاص هو الارتباط بين غروب الشمس بالنسبة للأرض وبين غروب الشمس بالنسبة للعرش.
ويفسر هذا الاختصاص هو أن الشمس هي أساسٌ:
__________
(1) البخاري (776، 777، 779، 782)، ومسلم (490) بنحوه.(2/110)
(أ) لاجتماع كل العناصر السابقة للسجود الكوني في الشمس باعتبارها أكبر العناصر الكونية بالنسبة للوجود الإنساني علي الأرض؛ ولذلك ضرب إبراهيم بها المثل في تفهيم الناس التوحيد {فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78].
(ب) لإثبات السجود لمن يعبد من دون الله، وأول ما ينطبق ذلك ينطبق على الشمس {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37].
{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} {النساء: 172].
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الاسراء: 57].
(جـ) الموقع الكوني للأرض بالنسبة للعرش.. ((البيت المعمور في السماء السابعة يدخله كل يوم ألف ملك ثم لا يعودون إليه حتى تقوم الساعة))(1) وفي رواية: ((السماء الدنيا)) وفي رواية أخرى بزيادة ((بحيال الكعبة)) وعن قتادة قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((هل تدرون ما البيت المعمور؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه مسجد في السماء تحته الكعبة لو خرَّ.. لخرَّ عليها...)).
ومن هنا تثبت المحورية الكونية للعلاقة بين العرش والأرض، بحيث يكون غروب الشمس هو سجود تحت العرش.
__________
(1) البخاري (3035، 3674)، ومسلم (162، 164).(2/111)
ولكننا نؤمن بذلك كحقيقة غيبية لا كتخيل فلكي، وهناك فارق بين الاعتقاد الغيبي والتخيل الفلكي، والخلط بين الأمرين هو الذي أنشأ الصدام بين علماء الطبيعة والكنيسة؛ حيث دافعت الكنيسة عن مركزية الأرض لا كتصور اعتقادي؛ ولكن كتفسير فلكي..
ولكننا نؤمن بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كحقيقة اعتقادية غيبية.. لا كتفسير فلكي..
خاتمة
الحملة القائمة جزءٌ من واقع الصراع القائم بين الإسلام والجاهلية.. لا يجوز تجاهله في إطار واقع الصراع بكل أبعاده، ولا يجوز تضخيمه على حساب أبعاد الصراع الأخرى.
فهو صراع واحد بين الإسلام بتصوره الكامل.. والجاهلية بعقائدها الفاسدة.
ومن هذا المفهوم تنطلق حقائق منهجية هامة.. لعل أهمَّها حقيقة الأساس الديني للصراع؛ حيث كان الذين لا يفهمون طبيعة الصراع ينكرونه دائمًا، حتى ظلت أجيال متوالية تفسر الصراع بغير هذه الحقيقة، وظلوا يفسرون الحرب على الإسلام بتفسيرات ومصطلحات كاذبة «مناطق النفوذ».. «السيطرة على منابع النفط والمواد الخام».. «الإجراءات الوقائية».. «الأحزمة الأمنية».. إلى آخره.
وجاءت الحملة الصليبية القائمة لتكشف هذا الكذب المستمر، وأن الإسلام في حسابات هذا الصراع كان دائما هو المحور.. والقضية.. والهدف..
وإعلان الحرب العالمية على الإسلام في هذا التوقيت -بالمضمون الديني- له معنى هام، وهو أن هذه الحرب ستكون بداية الظواهر المرتبطة بآخر الزمان حتى حدوث الملحمة التي ستكون بين المسلمين والصليبيين، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لتكوِّن هذه الظواهر أبعادًا نهائية لهذه الحرب التي ستُقَسِّم العالم على المدى الزمني البعيد إلى فسطاطين: فسطاط كفر لا إيمان فيه، وفسطاط إيمان لا كفر فيه.. وهي علامة للساعة.(2/112)
ومن هنا كانت الحرب على الثوابت في العقيدة، والمقدسات في الدين -التي أصبح مجرد الحفاظ عليها قبضًا على الجمر- تفرض علينا الحذر من اختزال الصراع في مجرد المواجهة الفكرية وأساليب المناظرات والمناقشات، بل يجب إعطاؤها كل أبعاد الصراع مع الجاهلية؛ لتكون المواجهة مناسِبة للحرب بكل أبعادها وأخطارها..
وهذا الفهم هو الذي يقينا شرَّ الغفلة عن الخطة الحقيقية لأعدائنا؛ حيث يمارسون معنا محاولات رهيبة لتوزيع مناطق الصراع.. وتمييع قضايا الصراع.. وترتيب الأدوار.
فالحرب الآن.. موزَّعة على كل أنحاء العالم الإسلامي؛ ليتوزع الإحساس بالدم المسلم على كل المواقع.. فيغيب الشعور بالمذبحة العالمية..!
والحرب الآن.. ليست تحت أسوار القدس..
ولكنها ذهبت إلى كل موقع من مواقع العالم الإسلامي يمكن أن يأتي منه من يريد الوقوف تحت أسوار القدس.
والحرب الآن.. لا تقتصر على الجانب الفكري أو السياسي أو العسكري.
بل تتعداها إلى كل جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
ليعيش المسلمون معاناة البحث عن اللقمة.. تحت خط الفقر المنسي، ومعاناة الضياع الاجتماعي.. الذي يؤدي إلى الانحطاط والدعارة والمخدرات، ومعاناة الأمراض والأوبئة.. التي تقتل الأمل في حياة طبيعية..
إن فرض الفقر على العالم المنتسب للإسلام يأتي بهدف المساومة تحت خط الفقر الشديد على الدين والعقيدة؛ ليكون هذا الفقر مقدمةً اجتماعيةً على المدى الزمني البعيد لظهور الدجال، الذي سيأتي ومعه جبال الخبز لمن يؤمن به!!
حتى أصبح الرافض لبيع دينه بعرض من الدنيا علامةً من علامات الاستفهام، وأصبح عند باعة الدين والقيم موقفًا لا تفسير له..!
نقول ذلك؛ ليفهم الناس أن هذه الحرب ليست حدثًا عارضًا؛ بل هي خطة قديمة موضوعة بإحكام، وضع فيها الشيطان كل إمكاناته وسلطاته.. ليقطع الوجود التاريخي للأمة المسلمة.(2/113)
الحرب الآن.. ليس فيها عملاء معدودون مثل «شاور» و«العلقمي» بل هي حرب العملاء.. العملاء أغنياؤها وقادتها..
الحرب الآن.. قتلاها كثيرون ولكن ليس بالسيف القديم، بل باليورانيوم المنضب، وأغذية السرطان والأوبئة، ونشر الفقر والمجون.
وقد لا يتصور البعض أن الحرب الصليبية العالمية على الإسلام قائمةٌ فعلًا، بتأثير الصورة النمطية القديمة للحروب الصليبية التي تسيطر على مخيلتهم، فما من سفنٍ رُسِمَ على أشرعتها الصليب الضخم ترسو على الشواطئ الإسلامية، وليس هناك فرسان للمعبد فوق الخيول..
لأن الحرب الآن يُرَاعَى فيها البُعدُ عن استفزاز الشعور الإسلامي قدر المستطاع؛ لأنهم يعلمون ما تعنيه يقظة هذا الشعور..!
ومن أجل ذلك تتوزع الأدوار.. ليحقق دورٌ الهدف، ويخفف آخرُ من أثره، ويشتِّتُ ثالثٌ مَنْ يستيقظ..!
على مستوى الدولة الواحدة الداخلة في الحرب.. يكون هناك الحزب المحارب، والحزب المعارض للحرب..
وعلى مستوى الأحلاف.. تكون هناك الدولة المحاربة، والدولة المعارضة للحرب.. ليصبح الرجاء في القتلة، والأمل في الأعداء.
وإذا كانت الحرب بهذه القسوة، وتلك الشراسة.. فإن المواجهة لا بد أن تتناسب معها..
فإذا كان الإنسان هو محور هذا الصراع وغايته.. فلابد أن يكون هو محور المواجهة وغايتها..
فموجات الانحلال العارمة لا يمكن مواجهتها بمجرد الكلام عن الأخلاق مع إنسان مغمور في تلك الموجات التي تقذف به في كل اتجاه..
وإخراج الإنسان من نطاقها لا يعني إلا التأثير فيه بصورة لا تقل عن قوة الغريزة التي تصرخ في كيانه؛ ليعيش قضيته أقوى مما يعيش غريزته، وينتمي بقوة إلى كيان يحميه برغبة لا تقل عن رغبة الاحتضان الغريزية في الإنسان.
ولا بد من استيعاب كيان من نحاول إنقاذه بحيث لا يبقى في هذا الكيان أي بقية لغير القضية، ويعيش حياة الزهد في الدنيا والشهوات، بحيث لا تؤثر فيه أي محاولة إغراء..(2/114)
((فليس الغِنَى عن كثرة العَرَض، ولكن الغِنَى غِنَى النفس))(1) .
ومع هذا المعنى التربوي.. يجب التأكيد على أهمية الصدقات والزكاة لسد حاجة الفئات الفقيرة والمحتاجة، لتكون المواجهة الكاملة لشهواتها وشبهاتها، ويكون إنقاذ المسلمين من المؤامرة، فيؤمن الناس بالحق ويموتوا عليه.
وهذا الحصار الذي تعيشه الدعوة من عصابة الدجال يفرض على أصحابها أن يتعاملوا مع المرحلة بمنطق «الشهادة في سبيل الله»..
فنحن الآن.. في زمن مواجهة الجاهلية بكل إمكانياتها..
ونحن الآن.. في زمن الإيمان القوي اللازم لمواجهة هذه الجاهلية، ومنطق الشهادة هو أهم ضرورات المرحلة.
وهناك إمكانيات إسلامية هائلة في المواجهة..
منها: الفطرة التي تولد مع كل إنسان..
ومنها: التأييد الرباني في كلِّ موقع من مواقع الصراع..
ومنها: اهتداء عقلاء النصارى الرافضين للتناقض والغموض إلى الإسلام..
ومن أهم ضرورات المرحلة أيضا: أن يتعاون المسلمون في إدارتها ليكون لهم منطلق واحد، تجتمع فيه كل الطاقات الفكرية، وكل الخبرات العملية، وكل إمكانات المتابعة الواقعية.
ومهما كانت الحرب التي تشنها الجاهلية.. فهي بالاعتبار الإيماني زمن الصدق ومنطق الشهادة {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].
ومواجهتها تخضع لقول الله عز وجل: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
ونهايتها هي قدر الله المهيمن {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
__________
(1) متفق عليه، البخاري (6081) ومسلم (1051).(2/115)