بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ثم أما بعد:-(1/1)
فإن الله قد بعث نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى ترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك وما ترك خيراً إلا دل الأمة عليه ولا شراً إلى حذرها منه فأكمل الله به الدين وجعله حجة على عباده أجمعين وتربى أصحابه - رضي الله عنهم - في مدرسته أحسن تربية وتخرجوا منها دعاة وعلماء وقادة ومفتين قد ضربوا بسهم السبق في كل باب من أبواب الدين وحملوا على أعناقهم وأكتافهم هم إبلاغ هذه الرسالة التي تلقوها شفاهاً من نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فتركوا الأوطان وهاجروا في مشارق الأرض ومغاربها فاتحين معلمين لا يشغلهم عن أداء هذه الأمانة شاغل ولا يلهيهم عن القيام بها أو يصدهم عنها عاطل غافل قد نذروا أنفسهم لله وباعوا أرواحهم لخالقها يرجون بذلك جنة عرضها السماوات والأرض ولم ينقضي عصرهم إلا بعد أن أرسيت قواعد الملة وانتشر العلم في أرجاء هذه المعمورة غضاً طرياً صافياً لا شوب فيه ولا كدر فقد كان الجميع على السنة المرضية والطريقة المرعية معتمدهم في ذلك الكتاب والسنة لا يتجاوزونه طرفة عين فضربوا أروع المثل في التعلم والتعليم والجهاد والدعوة والصبر فرضي الله عنهم وأرضاهم ورفع نزلهم في الفردوس الأعلى وجزاهم الله تعالى خير ما جزى عالماً عن أمته ثم إنه نبغت في أواخر عصرهم بعض الطوائف التي ضلت عن الصراط المستقيم وتنكبت عن النهج القويم فزاغت بها الأهواء وتقطعت بها السبل والتبس عندها الحق بالباطل فعميت بصائرها عن نور الهدى وتحكم فيها عفن الهوى وخرجت على من بقي من الصحابة وحكمت بكفرهم واستحلت دماءهم وأموالهم وديارهم قائدهم في ذلك الفهم الفاسد والرأي العاطل وغرور النفس وتسويل الشيطان وتزيينه ودعاة الباطل الذين اندسوا بين صفوف المسلمين ليفرقوا جماعتهم ويهدموا وحدة كيانهم(1/2)
ويثيروا بعضهم على بعض فدارت رحى الحرب وقتل من قتل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين في فتنة خفي فيها الحق وهذا أمر الله ولا راد لأمره ولا غالب لقضائه ولا معقب لحكمه فإنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله على كل حال ونبغت بعد هؤلاء السفلة الخرقى طائفة أخرى تكلمت في علم الله تعالى وقدره وزعموا أن لا قدر وأن الأمر أنف وأن الله تعالى لا يعلم الأشياء ولم يقدرها قبل وقوعها فانبرى لصدها من بقي من الصحابة كابن عمر وكفروا القائل بها ولكن الأهواء والشبهات كالغلاف يمنع نفوذ نور الحق إلى القلوب والبصائر فعاندوا وكابروا المقولات وناقضوا وعارضوا المنقولات وردوا الأدلة المتواترة وتكلموا فيما ليس لهم به علم وزين لهم الشيطان أعمالهم وصدهم عن سواء السبيل فهم في غيهم يترددون وعن نور الهدى معرضون وفي العماية والضلالة غارقون ساهون لاهون, ثم تفاقمت الفتن وطلع قرن الشيطان وتكلم في ذات الرب جل وعلا وأسمائه وصفاته وازداد الأمر سوءاً بعد ترجمة كتب اليونان ونقل قواعدهم الكفرية ونظرياتهم الفلسفية إلى ديار المسلمين فانكب عليها كثير من أهل الإسلام وتضلعوا بما فيها من الباطل قبل تضلعهم من الحق فانتشرت الفلسفة وظهر علم الكلام المبني على هذه القواعد الباطلة المخالفة للمنقول والمناقضة للمعقول فاضطرمت نار الفتنة ونفخ إبليس في قلوب الكثير نفخة التجهم والاعتزال والإرجاء والإلحاد في أسماء الله وآياته وإنكار صفاته وظهرت فتنة القول بخلق القرآن فتغير وجه الأرض وخفي نور النبوة وهذا أمر الله وقدره ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ولكن الله تعالى لم يكن ليدع أمة حبيبه صلوات الله وسلامه عليه بلا مجدد يجدد لها دينها ويذب عن حياض أدلتها ويكسر شبه البطالين ويحطم أفنية البدعة وهم العلماء الربانيون والأئمة المصلحون، أعلام الهدى ومصابيح الدجى، فقاموا في وجه هذه الفتن وصرخوا بأصحابها, وكشفوا عوارها وأبدوا سوآتها(1/3)
حتى يميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم ومن هؤلاء الأئمة العظماء والكرماء النبلاء، والأجلاء الفضلاء أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تميمة الحراني المولود سنة إحدى وستين وستمائة والمتوفى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة المشهوربتقي الدين وشيخ الإسلام العلم البحر الفهامة المجدد الذي دنت له قطوف العلم ودانت له نواحي الحكمة، فإنه قد قام في وجه هذه الفتن أحسن القيام وأتمه وأكمله ونشهد عند الله بذلك، فما فتئ رحمه الله تعالى في سائر أحواله ليلاً ونهاراً سراً وجهراً طليقاً أو مسجوناً من نصر الحق والذب عن حياض الشريعة وكشف الشبه والإغلاق على الخصم ومن أوجه جهاده الجهاد بالقلم فإنه من أكثر الأمة تأليفاً وتحريراً حتى عجز من بعده من تلامذته ومترجميه من حصر كتبه، وإن مما كتبه بقلمه السيال كتابه المفضال العقيدة الواسطية، وهو متن مختصر يقوم على الآية والحديث في نسق وترتيب عجيب، جمع فيه عقائد أهل السنة بأسهل عبارة وأخصر إشارة، فلم يدع على صغر حجمه شاذة ولا فاذة من أصول العقائد إلا وذكرها، ولذلك فقد أقبل أهل العلم من بعده عليه ووضعوه غاية لشروحهم العقدية ومحفوظاتهم السنية، وحق له ذلك، وإنني بحمد الله وتوفيقه وحسن امتنانه وعظيم إنعامه أبحرت في عجائب هذا المتن وشرحت طرفاً منه لبعض الطلبة وعلقت عليه كثيراً من الحواشي المبنية على الأصول والقواعد، وأطلعت على غالب شروحه المطبوعة، وقد أفادني بعض الطلبة أن هذه التعليقات والحواشي لابد أن تخرج للناس من باب نفع الأمة، والمشاركة في نشر علوم السلف وإن هذه التعليقات الخاصة على طرة كتابي وحواشيه وهوامشه لا يجوز أن تبقى رهينة الأوراق الخاصة بل لابد أن تظهر للنور وتراها الأعين لتتحقق الفائدة ويعم النفع، فوجد قولهم ذلك قبولاً في نفسي فراجعت هذه التعليقات والحواشي وأضفت عليها مثلها أو أكثر وهاأنذا أنقلها(1/4)
إليك راجياً المولى جل وعلا أن ينفع بها الذكور والإناث والصغار والكبار والعامة والخاصة وأن يشرح لها الصدور ويفتح فيها الإفهام ويكتبها عملاً صالحاً مقبولاً نافعاً مباركاً وأسميتها بـ( اللآلئ البهية في شرح العقيدة الواسطية ) والفضل فيها كله أوله وآخره لله تعالى ثم لأهل العلم رفع الله درجتهم في جنان الفردوس الأعلى وجزاهم الله خيراً وأجزل لهم الأجر والمثوبة وعفا عنهم وغفر لهم ورحم أمواتهم وثبت أحياءهم وجمعنا بهم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وإني أنبهك أن هذا الشرح سيكون مبناه على القواعد والأصول والضوابط المقررة عند أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى، فالمباحث التي طرقها أبو العباس رحمه الله تعالى سأحاول جاهداً بحول الله وقوته أن أردها إلى أصولها وكلياتها، ومن المعلوم المتقرر أن شارح المتن يجب أن يشرحه على مقصوده الأصلي الذي وضع له، فالعقيدة الواسطية لم توضع إلا لنصر منهج السلف وتقييد عقائدهم فلا ينبغي لمن تناول الآيات الواردة فيها مثلاً أن يشرحها وكأنها تفسير أو يطيل في إعرابها وكأن المتن وضع للنحو، بل لابد من التركيز المطلق على ما يتعلق بالأسماء والصفات تأصيلاً وتفصيلاً وليس من المناسب الإطالة في غير ذلك وهذا ما سنعتمده في هذه التعليقات إن شاء الله تعالى، فأسأله جل وعلا أن يمن علي بإتمامه على أحسن الوجوه وأكمل الأحوال وأن ينزل فيه البركة تلو البركة وأن يجعله عملاً صالحاً نافعاً في الدنيا والآخرة، وأن يرزقنا الإخلاص والمتابعة والإعانة والتوفيق والسداد والقبول إنه خير مسئول ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى ونعوذ بوجهه الكريم من الكبر والبطر والأشر والرياء وفساد الأعمال، وأسأله جل وعلا أن يغفر لنا زللنا وتقصيرنا في العلم والعمل والدعوة والله أعلى وأعلم، فإلى المقصود وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون :-(1/5)
إنه من المناسب أن نستهل هذا الشرح ببعض المقدمات النافعة والتي هو بمثابة الركيزة لهذا الشرح الذي أسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن ينفع به ويبارك فيه فأقول :-
( المقدمة الأولى )
أهل السنة هم الذين اجتمعوا على الأخذ بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - باطناً وظاهراً في الاعتقادات والأقوال والأعمال، فلا محيد لهم ولا التفات لغير الكتاب والسنة، ولا أصول لهم غيرها كما سيأتي بعد قليل إن شاء الله تعالى فاعتقاداتهم مستمدة من الكتاب والسنة وأقوالهم وأفعالهم التعبدية وأخلاقهم المرعية مستمدة من الكتاب والسنة ولذلك سموا بأهل السنة لأنهم اعتمدوا الأخذ بالسنية، وسيأتي إن شاء الله تعالى قاعدة خاصة في مسألة الأسماء عند أهل السنة والجماعة، وإنما الذي أريد إثباته هنا هو التعريف العام لأهل السنة، وأزيدك إيضاحاً فأقول:- إن تعريفنا لأهل السنة هنا هو التعريف بالحد الجامع المانع، فيدخل فيه سلف الزمان وسلف الاعتقاد، فهو تعريف بالوصف وهناك تعريف بضرب المثال وهو أن يقال :- هم القرون الثلاثة المفضلة المذكورون في قوله - صلى الله عليه وسلم - (( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )) وهو في الصحيح، وكلاهما صحيح بلا شك والله أعلم .
( المقدمة الثانية )(1/6)
أهل السنة والجماعة لا يأخذون معتقدهم إلا من الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة، وهذا هو الحد الفاصل بين أهل السنة وسائر الطوائف، فإن الأصل الذي يسوقون فيه معتقداتهم إنما هو الكتاب وصحيح السنة، وكذلك لا تجد عقيدة من عقائدهم إلا وعليها دليل من الكتاب والسنة أو من أحدهما فضلاً عن دلالة الإجماع والقياس الصحيح والحس والفطرة، وقد شهدت الأدلة بأنه من أخذ بالكتاب والسنة هدي إلى صراط مستقيم، فإنهما الأصل الشافي والمورد العذب الكافي الذي لا شوب فيه ولا كدر وهما ثوابت راسخة أعظم من رسوخ الجبال الرواسي في الأرض فلا اختلاف فيهما ولا تناقض ولا اضطراب لأنهما من عند حكيم حميد لا يأتيهما الباطل من بين يديهما ولا من خلفهما، قال تعالى { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا } وقال تعالى { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فقد أمر بإتباعه وقد تقرر في القواعد أن الأمر المجرد عن القرائن يفيد الوجوب، فاتباعه واجب وفرض عين على كل واحد والمراد باتباعه أي امتثال أوامره واجتناب زواجره وتصديق أخباره وترسيخ الإيمان بها في القلوب والاتعاظ بقصصه وأخذ العبرة منها ومعرفة المراد من أمثاله وتطبيقها على أرض الواقع, قال تعالى { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُلْ يَا(1/7)
أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } وهذا نص صريح في وجوب متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا سعادة ولا فلاح ولا فوز ولا نجاة إلا في اتباعه - صلى الله عليه وسلم - باطناً وظاهراً في الاعتقادات والأقوال والأعمال, وقال تعالى { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } وقال تعالى { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وقال تعالى { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وقال تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } وقال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) "متفق على صحته" ولمسلم (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وقال عليه الصلاة والسلام (( أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة )) "رواه مسلم" وقال عليه الصلاة والسلام (( أبغض الناس إلى الله ثلاثة ملحد في الحرم ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه )) ووجه الاستشهاد منه أن من قرر شيئاً من العقائد والأعمال على خلاف الكتاب والسنة فقد ابتغى(1/8)
في الإسلام سنة الجاهلية, وقال عليه الصلاة والسلام (( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى )) قالوا :- ومن يأبى، قال :- (( من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى )) "رواه البخاري" وقال عليه الصلاة والسلام (( فمن رغب عن سنتي فليس مني )) "متفق عليه" وقال عليه الصلاة والسلام (( فإذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من أمر الدنيا فإنما أنا بشر )) "رواه مسلم من حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه - " وقال عليه الصلاة والسلام (( أوصيكم بتقوى الله تعالى والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد, فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ....(1/9)
)) "حديث صحيح" وقال عيه الصلاة والسلام (( إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وأنا النذير العريان فأطاعه طائفة من قومه فانطلقوا على مهلهم فنجوا, وكذبه طائفة أخرى فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم, فذلك مثل من أطاعني وصدق ما جئت به ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق )) "متفق عليه" وقال عليه الصلاة والسلام (( مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها, وجعل يحجزهن, ويغلبنه ويتقحمن فيها, فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تغلبوني تقحمون فيها )) "متفق عليه" ولمسلم (( فأنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار هلم عن النار وتغلبوني تقحمون فيها )) وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير, وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ, فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به )) "متفق عليه" وقال عليه الصلاة والسلام (( لقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي )) "رواه مالك والحاكم والبيهقي وسنده صحيح" وقال عليه الصلاة والسلام (( دعوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم, فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )) "متفق عليه" وقال عليه الصلاة والسلام (( ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه, ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه(1/10)
وما وجدتم فيه من حرام فحرموه, وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله )) "رواه أبو داوود والترمذي وابن ماجه وسنده صحيح" والأدلة في ذلك كثيرة شهيرة, وهي تفيد إفادة قطعية أنه يجب اتباع الكتاب والسنة بلا إفراط ولا تفريط ولا زيادة ولا نقصان وبهذا المسلك وهذا النهج نال السابقون رضوان الله عليهم ما نالوه من الدرجات العلى والنعيم المقيم ورضا رب العالمين والذكر الحسن الخالد في الدنيا والآخرة, فجعل الله لهم لسان صدق في العالمين وأورثهم جنات النعيم, فمن أراد النجاة كما نجوا فليسلك ما سلكوه وليعتمد ما اعتمدوه وليسر وراءهم خطوة خطوة متبعاً لا مبتدعاً, ومقتفياً لا مبتدياً, ومسلماً لا مجادلاً ولا معانداً, فالاعتصام بالكتاب والسنة هو طريق السعادة والفوز والنجاة والفلاح في الدنيا والآخرة, وهي الهدى والنور والروح والبر والشفاء والفرقان والحكمة والموعظة والإحسان { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ } فأهل السنة لا يأخذون عقائدهم إلا من الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة, وأما غيرهم فإنهم لايلتفتون إليهما ولا يعولون عليهما لأنهم حاربوا نصوصها تحريفاً وساموا أدلتها عسفاً وإلحاداً وتمثيلاً وتعطيلاً, وجعلوها لا تفيد إلا مجرد الظنون والخيالات وقدموا عليها العقول العفنة والأفهام المنتنة, فالعقل هو عمدتهم في إثبات عقائدهم, فيثبتون ما أثبته العقل ولو لم يكن عليه دليل صحيح وينفون ما نفاه العقل وإن ثبت به الدليل المتواتر فالعقول عندهم مقدمة على النقول, والأهواء عندهم مقدمة على الشريعة الغراء, وبعض الطوائف تعتمد في(1/11)
عقائدها على المرويات الواهية والنقولات الضعيفة والموضوعة والخرافات والدجل الذي يكذبون به على آل البيت - رضي الله عنهم - , وبعض الطوائف تبني عقائدها على المنامات والرؤى والأحلام والمكاشفات الشيطانية والخوارق الإبليسية, وكل هؤلاء وغيرهم قد ضلوا سواء السبيل وخالفوا مقتضى الدليل وجاءوا بالأقوال الباطلة واحتكموا إلى الرأي العليل وهم يوم القيامة مبعوثون وإلى الله راجعون وعنده موقوفون وعلى أعمالهم محاسبون وبها مجزيين, في موقف لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم, وسيذكرون ما نقول لهم ونفوض أمرنا إلى الله إن الله بصير بالعباد والله أعلم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
( المقدمة الثالثة )
اعلم رحمك الله تعالى وحفظنا وإياك من الأهواء المضلة والآراء المعتلة والأفكار المختلة أن باب الأسماء والصفات يقوم على ثلاثة أصول لابد منها في كل صفة, ولا تتم السلامة في اعتقاد هذه الصفة إلا باستكمال هذه الأصول الثلاثة, فهي متلازمة لا ينفك أحدها عن الآخر وعليها يدور باب الأسماء والصفات, فلابد من حفظها وإتقانها ومعرفة أدلتها والوقوف في وجه من يعارض فيها, وهي كما يلي :(1/12)
الأصل الأول : الاعتقاد الجازم والإيمان الراسخ أن الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع صفاته التي أضافها إليه, كما قال تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فلابد من تطهير القلب والعقل من خبث التمثيل, وتصفية النفس من شوائبه التصفية المطلقة, وقد نبه القرآن على ذلك في أكثر من آية فمنها الآية السابقة, ومنها قوله تعالى في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } أي ليس له كفواً لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته وأفعاله جل وعلا ومنها قوله تعالى { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ } وقوله تعالى { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } وقوله تعالى { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } فيجب أن ننزه قلوبنا عن محذور التمثيل, ونعتقد الاعتقاد الراسخ الثابت أن الله تعالى ليس كمثله شيء في ذاته وليس كمثله شيء في أسمائه وليس كمثله شيء في صفاته وليس كمثله شيء في أفعاله, لأن له الكمال المطلق من كل وجه وأنه لا يعتريه النقص في شيء من صفاته بوجه من الوجوه, بل ولا يمكن أن نتصور أصلاً أن يتطرق إلى صفاته شيء من النقص, وهذا ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا وندرسه لطلابنا ونسأله جل وعلا أن يثبتنا على هذا الاعتقاد إلى الممات .(1/13)
الأصل الثاني : الإيمان التام بما وصف الله به نفسه في كتابه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته فيجب علينا أن تثبت ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل, وأن ننفي عنه جل وعلا ما نفاه عن نفسه في كتابه أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته مع إثبات كمال الضد, أي كمال ضد الصفة المنفية, وهذا الأصل لا يؤخذ مفرداً بل لابد أن يكون مقروناً بالأصل الذي قبله وإلا لما سلم العبد في باب الأسماء والصفات ولذلك بدأ الله تعالى بنفي المماثلة أولاً ثم بإثبات الصفات ثانياً فقال { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فهذا يحقق الأصل الأول, وقوله بعد ذلك { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } يحقق الأصل الثاني، ثم ننتقل بعد ذلك للأصل الثالث وهو :(1/14)
الأصل الثالث : قطع الطمع في إدراك كيفية هذه الصفات فإن المتقرر عند أهل الحق أنه لا يمكن أبداً أن تعرف كيفيات صفات الله تعالى، ذلك لأن كيفية الشيء لا تعرف إلا برؤيته وقد اتفق أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى أن الله لا يرى بعيني اليقظة في الدنيا، قال عليه الصلاة والسلام (( وتعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت )) "رواه مسلم في صحيحه" واختلفوا في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه ليلة الإسراء والصواب أنه لم يره بعيني رأسه كما في حديث:- يا رسول الله هل رأيت ربك فقال (( نور أنى أراه )) فرؤيته جل وعلا في الدنيا ممتنعة فهذا الطريق أعني طريق الرؤية قد انعدم، وتعرف كيفية الشيء أيضاً برؤية نظيره حتى يستدل بصفات المشاهد على صفات الشيء الغائب، وهذا أيضاً معدوم لأنه جل وعلا لا مثيل له في صفاته حتى يستدل به على صفاته جل وعلا كما قال تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فهذا الطريق انعدم أيضاً, وتعرف كيفية الشيء أيضاً بإخبار الصادق عنها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخبرنا عن كيفية شيء من ذلك وإنما أخبرنا بالصفة ولم يخبرنا عن كيفية هذه الصفة، فأخبرنا أن له وجهاً ولم يخبرنا عن كيفيه هذا الوجه، وأخبرنا أن له يداً ولم يخبرنا عن كيفية هذه اليد وهكذا في سائر الصفات لربنا جل وعلا، فوجب الوقوف على حد الخبر، فبان بذلك أن طرق العلم بالكيفية قد انعدمت كلها فكيف تعرف كيفية صفات الله جل وعلا ؟ وبناء عليه فلابد من قطع الطمع في معرفة كيفية ما أثبته الله تعالى لنفسه من الصفات، فهذه الأصول الثلاثة هي التي يقوم عليه باب الأسماء والصفات، نفي المماثلة ، وإثبات ما أثبته ونفي ما نفاه ، وقطع الطمع في معرفة الكيفيات، فإذا استجمع العبد هذه الأصول الثلاثة في كل صفة فقد أتى بما أوجبه الله تعالى عليه في هذه الصفة، فمثلاً قوله تعالى { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } أولاً:- يجب عليك إثبات هذا الوجه،(1/15)
وثانياً:- يجب عليك أن تعتقد أنه وجه يليق بجلاله وعظمته لا يماثل وجوه المخلوقين، وثالثاً:- أن تقطع الطمع في معرفة كيفية هذا الوجه, ومثال آخر:- قوله تعالى { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } أولاً:- يجب عليك إثبات هاتين اليدين, وثانياً:- أن تعتقد أنهما يدان تليقان بجلاله وعظمته لا تماثل شيئاً من أيدي المخلوقين، وثالثاً:- أن تقطع الطمع في معرفة كيفية هذه اليد, ومثال آخر:- قوله تعالى { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } أولاً:- يجب عليك إثبات العين، وثانياً:- أن تعتقد أنها لائقة بالله تعالى لا تماثل شيئاً من أعين المخلوقين، وثالثاً:- أن تقطع الطمع في إدراك كيفية هذه العين, ومثال آخر:- قوله تعلى { وَجَاء رَبُّكَ } أولاً:- يجب عليك الإيمان بهذا المجيء، وثانياً:- أن تعتقد أنه مجيء يليق بجلاله وعظمته لا يماثل شيئاً من مجيء المخلوقين، وثالثاً:- أن تقطع الطمع في معرفة كيفية هذا المجيء, ومثال آخر :- قوله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } أولاً:- يجب عليك أن تؤمن بهذا الاستواء، وثانياً:- أن تعتقد أنه استواء يليق بجلاله وعظمته لا يماثله شيء من استواء شيء من المخلوقين وثالثاً:- أن تقطع الطمع في معرفة كيفية هذا الاستواء، وهكذا في سائر الصفات، فيجب عليك في كل صفة ثلاثة أمور:- الأول:- أن تثبتها، الثاني:- أن تنفي مماثلتها لشيء من صفات الخلق الثالث:- أن تقطع الطمع في معرفة كيفية هذه الصفة، والله أعلم .
( المقدمة الرابعة )(1/16)
كل فهم يخالف فهم السلف في أمور الاعتقاد فهو باطل مردود على صاحبه، وذلك لأن السلف قد شاهدوا التنزيل وعلموا التأويل، فهم أكمل الأمة عقولاً وأزكاها نفوساً وأعمقها فهماً وأتمها علماً، ويكفي في ذلك تزكية الله لهم في كتابه الكريم وتزكية النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم في صحيح سنته، وقد انعقد إجماع أهل السنة على صحة هذه القاعدة ولله الحمد والمنة ولذلك فإنهم ينكرون على من خالف في شيء من أمور الاعتقاد وخصوصاً الأسماء والصفات ويقولون له:- هذا خلاف فهم السلف ومنهجهم فيستدلون على بطلان القول بمخالفته لفهم السلف مما يدل على أن المعتمد عندهم هو أن كل فهم يخالف فهم السلف في مسائل الاعتقاد فإنه باطل، وبناء عليه فإنه لابد من فهم الكتاب والسنة على فهم السلف، وذلك لأن كلاً يدعي أنه يأخذ من الكتاب والسنة ولا يزعم أحد أنه يريد مخالفة الكتاب والسنة أو أنه على غير الكتاب والسنة, فصار الأمر لابد فيه من قيد يكون حداً فاصلاً وفاضحاً لهذه الدعوى التي لا صحة لها, فقيد أهل العلم رحمهم الله تعالى الأخذ بالكتاب والسنة بأن يكون من شرطه التوافق مع فهم السلف فقالوا: نأخذ بالكتاب والسنة على فهم سلف الأمة وقالوا: كل فهم في أمور الاعتقاد يخالف فهم السلف فإنه باطل مردود على صاحبه, وبناء عليه ففهم الممثلة لآيات الصفات، باطل لأنهم يفهمون منها ما يتوافق مع صفات المحدثات وهذا فهم مخالف لفهم السلف، وكذلك ما يفهمه المعطلة من آيات الصفات، باطل أيضاً لأنهم يحرفونها عن دلالاتها الصحيحة إلى معان أخرى بلا قرائن توجب ذلك وهذا فهم مخالف لفهم السلف وكذلك أيضاً ما يفهمه القدرية نفاة القدر في آيات القدر وما يفهمه الجبرية أيضا في آيات القدر أيضاً باطل لأنه فهم مخالف لفهم السلف، وما يفهمه المرجئة من نصوص الرجاء والوعد أيضاً باطل لأنه فهم مخالف لفهم السلف، وما يفهمه الوعيدية من آيات الوعيد أيضاً باطل لأنه فهم مخالف لفهم السلف،(1/17)
وما يفهمه أهل التجهيل في آيات الصفات أيضاً باطل لأنه فهم مخالف لفهم السلف، فإنهم يفوضون معانيها والسلف يعلمون معانيها، وما يفهمه القرامطة والباطنية من آيات الصفات واليوم الآخر باطل كل البطلان لأنه مخالف لفهم السلف، بل هو مخالف لفهم المسلمين جميعاً, وبه تعلم أن كل مذهب في مسائل الاعتقاد مبني على فهم مخالف لفهم السلف فإنه مذهب باطل، ورأي عاطل، فالواجب رده على صاحبه والإنكار على معتنقه، وهذه القاعدة سهلة الفهم واسعة التفريع وسيأتينا إن شاء الله تعالى ما يفهمه السلف في كل أبواب الاعتقاد في شرحنا لهذه العقيدة المباركة رضي الله عن صاحبها وجزاه الله تعالى خير ما جزى عالماً عن أمته والله أعلم .
( المقدمة الخامسة )(1/18)
اعلم رحمنا الله تعالى وإياك وجعلنا بفضله ونعمته مباركين حيث كنا أن المتقرر عند أهل السنة أن الاتفاق في الأسماء لا تستلزم الاتفاق في المسميات، أي أنه ليس كل شيئين اتفقا في اسمهما يتفقان في مسماهما وهذا صحيح بالنقل والعقل والحس، فأما النقل فإننا نجد أن الله تعالى يسمي نفسه بأسماء يطلقها على بعض عباده وليس المسمى كالمسمى، ويصف نفسه بصفات ويصف عباده بها وليس الموصوف كالموصوف فقال تعالى { إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } وقال عن خلقه { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } وليس السميع كالسميع ولا البصير كالبصير, وقال تعالى { إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } وقال عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - { بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } وليس الرؤوف كالرؤوف ولا الرحيم كالرحيم، وقال تعالى { وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } وقال عن عبده إسحاق { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ } وليس الحليم كالحليم، وقال تعالى عن نفسه { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } وقال عن بعض عباده { يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ } وليس العزيز كالعزيز، وقال تعالى { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } وقال عن بعض عباده أنهم قالوا { نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ } وقال عن قوم هود { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } وليست القوة كالقوة، وقال تعالى { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } وليست اليد كاليد، وقال تعالى { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } وقال تعالى { تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } وليست العين كالعين، وقال تعالى { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } وقال تعالى { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } وليس الوجه كالوجه وهكذا في آيات كثيرة جداً، تتفق في الأسماء، ولكن ليس المسمى كالمسمى وتتفق فيها أسماء الصفات ولكن ليس الموصوف كالموصوف(1/19)
فالاتفاق في مجرد الاسم لا يستلزم الاتفاق في الصفة, ويوضحه أيضاً الوجه العقلي:- وهو أن المتقرر عند عامة العقلاء أن الصفات والمعاني تختلف بختلاف من أضيفت إليه فإن أضيفت إلى الخالق صارت لائقة به وإن أضيفت إلى المخلوق صارت مناسبة لحاله، ذلك لأن الصفات المذكورة في الكتاب والسنة لم تذكر مطلقة وإنما ذكرت مضافة إما إلى الخالق وإما إلى المخلوق, وتختلف الصفة باختلاف المضاف إليه فلا يمكن أبداً أن تتفق الصفات مع اختلاف الإضافات إلا عند المهاويس المجانين الذين لا نقل عندهم ولا عقل وأما أصحاب العقول السليمة التي لم تتلوث بعفن علم الكلام فإنها تقضي قضاء جازماً بأن الصفة تختلف باختلاف الإضافات والعبرة إنما هو بالعقول السليمة الصريحة فهذه قاعدة لابد من حفظها أعني قولهم " الصفة تختلف باختلاف المضاف إليه " ويوضح ذلك أيضا الدليل الحسي وهو:- أننا نجد في المحسوسات التي نراها أشياء قد اتفقت في أسمائها واختلفت في كيفياتها وهذا لا يكابر فيه إلا من طمس الله عقله فإننا نرى أن للفيل وجهاً وللبعوض وجهاً, فهل بالله عليك يكون وجه الفيل كوجه البعوض للاتفاق في اسم الوجه؟ بالطبع لا, فإذا كان ذلك في المخلوقات فيما بينها مع أنه يجمعها وصف أنها مخلوقة فهل يكون ذلك لازم بين الخالق الكامل من وجه والمخلوق الضعيف العاجز الفقير المسكين؟ ونحن نعلم أن الشمس توصف بالإضاءة والشمعة توصف بالإضاءة فهل تكون إضاءة الشمس كإضاءة الشمعة للاتفاق في وصف الإضاءة؟ بالطبع لا, ونحن نرى أن النملة توصف بالوجود والسماء توصف بالوجود فهل يكون وجود السماء كوجود النملة للاتفاق في اسم الوجود؟ بالطبع لا فالأمر واضح جداً بل هو كشمس النهار ولكن عميت عنها عيون الخفافيش فقول أهل السنة هذا أعني قولهم: الاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في المسميات, قول صحيح بالنقل والحس والعقل, وأقسم بالله العظيم أنه صحيح كل الصحة فإن قلت: وما الداعي إلى تقرير(1/20)
هذه المقدمة؟ فأقول:- تتضح أهمية هذه القاعدة إذا عرفت أن المبتدعة من الممثلة والمعطلة قد قلبوا هذه القاعدة فقالوا: الاتفاق في الأسماء يستلزم الاتفاق في المسميات, وهذه قاعدة باطلة كل البطلان وهي التي أوقعت أهل التمثيل في التمثيل وأهل التعطيل في التعطيل فإن الممثلة لما رأوا أن أسماء صفات الله متفق مع أسماء صفاتنا قالوا: إذاً الصفة كالصفة وأما المعطلة فإنهم نتج عندهم أيضاً ما نتج عند إخوانهم الممثلة لكنهم خافوا من هذه النتيجة لأنهم لا يريدون تشبيه الله بخلقه فلم يجدوا بداً من تعطيل صفات الله تعالى ليفروا من هذه النتيجة التي قامت في رؤوسهم بسبب هذه القاعدة القبيحة الذميمة فهذه القاعدة بدون حرف ( لا ) باطلة كل البطلان وبإثبات هذه الحرف صحيحة كل الصحة وبما أن العقيدة الواسطية قد ذكر الشيخ فيها كثيراً من الصفات فلابد من تقريرها قبل البدء في شرح هذه الصفات لتكون من باب التأصيل قبل التفريع, ويتضح الأمر أكثر بالمقدمة السادسة
( المقدمة السادسة )(1/21)
اعلم رحمك الله تعالى أن القاعدة المتقررة عند أهل السنة أن كل ممثل معطل وكل معطل ممثل وبيان ذلك أن يقال إن الممثل لما اعتقد أن صفات الله تعالى كصفات خلقه فإنه يكون بذلك قد وقع في ثلاثة أنواع من التعطيل :- الأول:- أنه عطل النصوص العامة التي تقطع دابر المماثلة بين الخالق والمخلوق عن دلالتها الصحيحة كقوله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } والممثل عطلها عن دلالتها الصحيحة وكقوله تعالى { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ } والممثل قد عطلها عن معناها الصحيح لأنه قد ضرب لله أمثالاً وكقوله تعالى { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } والممثل قد عطلها عن معناها الصحيح لأنه جعل لله مكافئاً في صفاته وكقوله تعالى { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً } والممثل قد عطلها عن معناها الصحيح لأنه قد جعل لله أنداداً أي أشباه ونظراء في صفاته فهذه النصوص العامة التي تنفي مماثلة الله بخلقه قد عطلت عن معانيها الصحيحة عند الممثلة فهذا هو التعطيل الأول, وهو تعطيل النصوص العامة التي تقطع دابر المماثلة بين الخالق والمخلوق, الثاني:- أنه عطل نصوص الصفات الخاصة عن معانيها الصحيحة التي نزلت لإثباتها كقوله تعالى { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } فهل بالله عليك هذه الآية قد نزلت لإثبات وجه كوجه المخلوق أم لإثبات وجه لائق بجلال الله وعظمته؟ لاشك أنه الثاني والممثل لا يفهم منها إلا الأول فهو بذلك قد عطلها أي أخرجها عن دلالتها الصحيحة التي نزلت لها إلى معاني أخرى لا تدل عليها, وكقوله تعالى { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } فهل هذه الآية تفيد اليد الحقيقية على ما يليق بجلال الله وعظمته أم أنها تفيد يداً كيد المخلوق؟ لاشك أنه الأول والممثل لا يفهم منها إلا أنها يد كيد المخلوق فيكون بذلك عطل نصوص إثبات اليد عن معانيها الصحيحة وكقوله تعالى { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } فهل هذه الآية تثبت عيناً حقيقية لائقة بالله جل(1/22)
وعلا أم أنها تفيد عيناً كعين المخلوق؟ لاشك أنه الأول ولكن الممثل لا يفهم منها إلا عيناً كعين المخلوق فيكون بذلك قد عطلها عن معناها الصحيح وهكذا في كل آيات الصفات وهي كثيرة جداً فقد عطل النصوص المثبتة للوجه عن دلالتها الصحيحة وعطل النصوص المثبتة لليدين عن دلالتها الصحيحة وعطل النصوص المثبتة للعينين عن دلالتها الصحيحة وعطل النصوص المثبتة للاستواء عن دلالتها الصحيحة وعطل النصوص المثبتة للرحمة والرضى والكراهة والبغض عن معانيها الصحيحة وعطل النصوص المثبتة للمجيء والإتيان عن معانيها الصحيحة وعطل نصوص العلو عن دلالتها الصحيحة وعطل نصوص الكلام عن دلالتها الصحيحة وعطل نصوص الأصابع والقدم والساق عن دلالتها الصحيحة وهكذا ذلك لأن هذه النصوص لم تنزل لإثبات صفات تماثل صفات المخلوقات وإنما نزلت لإثبات صفات حقيقية على ما يليق بجلال الله وعظمته وكبريائه جل وعلا وهذا الممثل لا يفهم منها إلا المماثلة فهو بهذا الاعتقاد الباطل قد عطل النصوص الخاصة المثبتة للصفات فعنده الآن تعطيلان تعطيل عام وتعطيل خاص وهناك أيضاً تعطيل ثالث:- وهو أنه إذا اعتقد أن صفات الله كصفات خلقه فإنه يكون بذلك قد عطل الله تعالى عن كماله الواجب فإنه يجب علينا وجوب عين أن نعتقد الاعتقاد الجازم أن كل صفة أثبتها الله تعالى له فله أكملها وغايتها ونهايتها ومن المعلوم أن صفات المخلوقات ناقصة فإذا قال: إن صفة الخالق كصفة المخلوق فإنه بذلك يكون قد عطل الله تعالى عن كماله الواجب له في ذاته وصفاته فإن وجه المخلوق ناقص وسمعه ناقص وبصره ناقص وهكذا فإذا قال وجه الخالق كوجه المخلوق فقد عطل الوجه عن كماله الواجب وإذا قال سمع الله كسمع المخلوق فقد عطل السمع عن كماله الواجب وإذا قال بصر الله كبصر المخلوق فقد عطل البصر عن كماله الواجب فإذا قال ذلك في كل صفات الله تعالى فإنه يكون بذلك قد عطل الله تعالى عن كماله الواجب له جل وعلا وتقدس وتنزه(1/23)
عن كل نقص في ذاته أو صفاته أو أسمائه أو أفعاله { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . فهذا بالنسبة لقول أهل السنة " كل ممثل معطل " وأما قولهم: " وكل معطل ممثل " فبيان ذلك أن يقال: إن المعطل إذا سألته لماذا عطلت الله عن صفاته؟ لبادر بقوله لأن إثبات هذه الصفات يستلزم مماثلة الله بخلقه فهو مثل أولاً وأراد أن يفر من هذا التمثيل فعطل أي أنه لم يصعد إلى درجة التعطيل إلا بعد أن صعد درجة التمثيل فمثل أولاً ثم عطل ثانياً بل إن الحجة أعني الشبهة التي يستدل بها على التعطيل إنما هي خوف التمثيل وهذا واضح, ويقال أيضاً: إن بعض المعطلة عنده غلو في التعطيل فمنهم من نفى الأسماء والصفات جميعاً كالجهمية ومنهم من نفى الإثبات فلا يصف الله تعالى إلا بالنفي فقط, ومنهم من سلب عن الله النقيضين فيقول: لا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ولا سميع ولا أصم ولا يتكلم وليس بأخرس وهكذا, فهؤلاء بهذا التعطيل قد وقعوا في تمثيل الله تعالى بالمعدومات الممتنعات فهم فروا من شيء ووقعوا في شر منه مع ما يلزمهم من تعطيل النصوص والتكذيب بها فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون, اللهم إنا نبرأ إليك من تمثيل الممثل وتعطيله ومن تعطيل المعطل وتمثيله ونعوذ بوجهك الكريم أن نقع في شيء من ذلك ونسألك اللهم باسمك الأعظم الثبات إلى الممات ونعوذ بك من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن والله أعلم .
( المقدمة السابعة )
اعلم أرشدك الله لطاعته ووفقنا وإياك لسلوك سبيل مرضاته أن عندنا ثلاث قواعد نافعة جداً لابد أن نتربى عليها في بحثنا في باب الأسماء والصفات وهي :(1/24)
القاعدة الأولى:- الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات وبيانها أن يقال: إنه قد انعقد الاتفاق أن لله تعالى ذاتاً لا تماثل الذوات وأن إثباتنا للذات إثبات وجود لا إثبات تكييف فهاهنا ثلاثة أمور :-
الأول :- أن لله ذاتاً .
الثاني :- أنها لا تماثل الذوات .
الثالث :- أن إثبات الذات إنما هو إثبات وجود لا إثبات تكييف .
وهذه الأمور الثلاثة تفيدنا عدة أمور لازمة ولا يعارض فيها إلا المعاند ولا سبيل لنا على القلوب لأن القلوب وهدايتها من خصائص علام الغيوب :-(1/25)
الأمر الأول:- إذا كنا نؤمن بأن لله ذاتاً فلابد لزاماً أن نؤمن أن لهذه الذات صفات ذلك لأنه لا يتصور ذات بلا صفات فمن أثبت الذات وأنكر الصفات فقد كابر المعقولات وخالف المحسوسات وعارض المنقولات المسلمات لأن نفي الصفات يستلزم نفي الذات, وليس هناك ذات مطلقة عن الصفات أي ذات بلا صفات هذا إنما يكون في ذهن الأحمق الأخرق الذي لا يفقه ولو ادعى أنه من العقلاء فالدعاوى لابد لإثباتها من البينة ولذلك فإن قول بعض المبتدعة بنفي النقيضين مفضي إلى نفي الذات أصلاً ونفي الذات حقيقته نفي وجود الله تعالى وهذا كفر أكبر مخرج عن الملة بالكلية بل هو أعظم كفراً من كفر المشركين فإن المشركين كانوا يعتقدون أن الله تعالى هو الخالق الرازق المحي المميت وإنما كانوا يشركون في توحيد العبادة ولكن هؤلاء القرامطة الغلاة ينفون عن الله تعالى النقيضين فيقولون لا حي ولا ميت ولا سميع ولا أصم ولا متكلم ولا أخرس ولا فوق ولا محايث ولا تحت ولا داخل العالم ولا خارجه وهكذا وقولهم هذا يستلزم نفي الوجود أصلاً لأن هذه صفات المعدوم الممتنع فانظر كيف تجر البدع أصحابها إلى هذه المهاوي العقيمة والحفر العميقة التي لا مخرج لهم منها إلا بالتوبة النصوح والرجوع إلى مذهب السلف والمقصود أن الإنسان إذا اعتقد أن لله ذاتاً فلابد لزاماً أن يؤمن أن له صفات لأنه لا تكون الذات إلا بصفات بل إن الذات هي مجموع الصفات والله المستعان .(1/26)
الأمر الثاني:- إذا كنا نؤمن بأن ذات الله تعالى لا يماثلها شيء من الذوات فلابد لزاماً أيضاً أن نعتقد أن صفات هذه الذات لا يماثلها شيء من الصفات ذلك لأن اختلاف الذوات يؤدي إلى اختلاف الصفات فما تقوله في الذات فقله في الصفات لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات فلا يمكن أبداً ولا يتصور أصلاً أن تختلف الذوات وتتفق الصفات فإذا كنا نؤمن أن لله ذات تخصه لا تماثل شيئاً من الذوات فيجب علينا أيضاً أن نؤمن أن لله صفاتاً تخصه لا تماثل الصفات وأي عاقل في الدنيا يقول: إن ذات الله كذاتي؟ هذا ما لم نسمعه ولم نقرأه أبداً, فالخلاف بين أهل القبلة ليس في الذات وإنما الخلاف وقع في الصفات بل حتى الممثلة يؤمنون أن الله تعالى له ذات ليست كالذوات ولكنهم يقولون له صفات كالصفات وهذا تناقض صريح وتهافت واضح لا ترضاه العقول السليمة والفطر المستقيمة فضلاً عن النقول الصحيحة الصريحة, ولذلك فيقال للمثل: هل أنت تقر بأن لله ذات؟ فسيقول: نعم فقل له: إن الكلام في الصفات كالكلام في الذات فإذا كانت ذاته جل وعلا لا يماثلها شيء من الذوات فيلزمك - إن كنت عاقلاً تدري ما تقول - أن تكون صفات هذه الذات لا يماثلها شيء من الصفات فإنك ترى صفات الفيل تختلف عن صفات الجمل وسبب ذلك اختلاف ذاتيهما, فاختلاف ذاتيهما أدى إلى اختلاف صفتيهما, وصفات زيد تختلف عن صفات عمرو وسبب ذلك اختلاف ذاتيهما فاختلاف ذاتيهما أدى إلى اختلاف صفتيهما, وصفات الفرس تختلف عن صفات الذباب وسبب ذلك اختلاف ذاتيهما, فاختلاف ذاتيهما أدى إلى اختلاف الصفات فيما بينهما مع أنهما يجمعهما وصف أنها مخلوقة فكيف بالله عليك لا يكون ذلك لازماً فيما بين الخالق الكامل من كل وجه وبين المخلوق الضعيف من كل وجه؟ هذا مالا يكون أبداً، بل الذي ندين الله تعالى به ونعتقده بقلوبنا ونقوله بألسنتنا وندرسه لتلاميذنا أن لله صفاته الخاصة به كما أن له ذاته الخاصة به, ذلك لأن(1/27)
الكلام في الصفات فرع من الكلام في الذات, والله المستعان .
الأمر الثالث:- إذا كنا نؤمن أن إثباتنا لذات الله تعالى إنما هو إثبات وجود لا إثبات تكييف فكذلك نقوله في صفات هذه الذات, أن إثباتنا لصفات هذه الذات أيضا هو إثبات وجود لا إثبات تكييف, لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات, فنحن إذا قلنا: إن لله ذات فكلامنا هذا يفيد إثبات وجود هذه الصفات على ما يليق بجلاله وعظمته, لأن الكلام فيهما - أي الذات والصفات - واحد لا يختلف ومتفق لا يفترق, فما تقوله في ذات الله تعالى قله في صفاته, ولا نعني بذلك أن ذات الله تعالى أو صفاته لا كيفية لها في الحقيقة والواقع - حاشا وكلا - ونعوذ بالله من ذلك, بل المنفي هنا إنما هو علمنا بهذه الكيفية, أي الكيفية المزعومة لأنه لا يعلم كيف ذات الله ولا كيف صفاته لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلاً عن من دونهم من الأولياء والصالحين, فلا يعلم كيف الله إلا الله جل وعلا, فقول أهل السنة ( من غير تكييف ) أي من غير حكاية لكيفية شيء من هذه الصفات, وقولهم ( بلا كيف ) أي من غير ادعاء علم شيء من كيفية الصفات فلا ندخل في هذا الباب متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا بل الأمر مبناه على التسليم { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } والمقصود أنه كما أن إثباتنا لذات الله تعالى إثبات وجود لا إثبات تكييف فكذلك إثباتنا لصفاته جل وعلا أيضاً إثبات وجود لا إثبات تكييف لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات والله المستعان .(1/28)
الأمر الرابع:- إنه من المعلوم المتقرر عند أهل السنة وغيرهم أن ذات الله تعالى لا يعلمها إلا الله تعالى، فإذا كان ذلك كذلك فيجب أيضاً من باب الملازمة بين الذات والصفات أن يقال:- إن صفات هذه الذات لا يعلمها إلا الله تعالى، لأن الكلام فيهما واحد، فيصفه كل شيء لا تعلم إلا إذا علمت ذاته ، فالجهل بالذات مفضي إلى الجهل في الصفات, أي في الكيفية, وبناء عليه فإذا قال لك الجهمي { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كيف استوى ؟ فقل له: أولاً أخبرني أنت كيف الله في ذاته أي كيف ذاته جل وعلا؟ فبالطبع سيقول: لا أعلم كيف هو في ذاته, فإذا قال ذلك فقل له: وأنا أيضاً لا أعلم كيف هو في ذاته , فإذا كنا مشتركين في عدم العلم بالذات فكيف تطالبني أن أبين لك كيفية استوائه وأنا لا أعلم أصلاً كيف هو في ذاته, فإن الجهل بكيفية الذات يقتضي الجهل بكيفية الصفات, فكيفية الصفة تابعة للذات فمن علم الذات عرف كيفية الصفات, ومن جهل الذات جهل كيفية الصفات ونحن بالاتفاق لا نعلم كيف الله في ذاته فمن باب أولى أن لا نعلم كيفية صفاته لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات فنحن لا نعرف كيفية وجهه لأننا نجهل كيفية الذات ولا نعلم كيفية يديه لأننا نجهل كيفية ذاته ولا نعلم كيفية استوائه لأننا لا نعلم كيفية ذاته, ولا نعلم كيفية مجيئه وإتيانه ونزوله إلى السماء الدنيا لأننا أصلاً لا نعلم كيفية ذاته, وهكذا في سائر الصفات, فإذا قيل لك وما العلاقة بين الذات والصفات؟ فقل : العلاقة بينهما هذه القاعدة التي تقول: الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات والله المستعان .(1/29)
الأمر الخامس:- إذا تقرر لنا أن الكلام في الصفة كالكلام في الذات فاعلم رعاك الله تعالى ووفقك لكل خير وجنبك كل شر وبلاء وفتنة, أننا نؤمن الإيمان الجازم ونعتقد الاعتقاد الراسخ الذي هو أعظم رسوخاً من الجبال الرواسي أن الله تعالى كامل الكمال المطلق من كل وجه في ذاته جل وعلا وذاته جل وعلا لها الكمال المطلق, أي غاية الكمال ونهاية الكمال على ما يليق بجلاله وعظيم كبريائه وسلطانه عز وجل, هذا قولنا في الذات والكلام في الصفات كالكلام في الذات وبناء عليه فيلزمنا أن نقول أيضاً: أن الصفات التي نثبتها لهذه الذات هي الصفات الكاملة من كل وجه, أي أن لها الكمال المطلق فلا يعتريها نقص بوجه من الوجوه, فكما أن لذاته الكمال المطلق فكذلك أيضاً لصفاته الكمال المطلق, فلله تعالى الذات الكاملة المتصفة بالصفات الكاملة, وصفات الجلال المطلق والجمال المطلق والعظمة المطلقة المتناهية من كل وجه, فاستوائه له الكمال المطلق لأن ذاته لها الكمال المطلق, ووجهه جل وعلا له الكمال والجمال والبهاء المطلق, لأن ذاته جل وعلا لها الكمال والجمال والبهاء المطلق, ونزوله إلى السماء الدنيا له الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه لأن ذاته جل وعلا لها الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه, وهكذا في سائر صفاته, ولا يمكن أن يقال غير هذا ونعوذ به جل وعلا أن نعتقد أو نقول غير هذا فانظر إلى بركة هذه القاعدة فالله الله في حفظها واستذكارها دائماً وتعليمها للطلبة والناشئة فإنها أحد الأسباب التي يتحقق بها تعظيم الله جل وعلا, وتعظيمه عز وجل من مقاصد الشريعة التي جاءت بإثباتها, والله يحفظك ويرعاك ويجعل الجنة مأوانا ومأواك وهو أعلى وأعلم .(1/30)
القاعدة الثانية :- الكلام في بعض الصفات كالكلام في بعض, وهي أيضًا قاعدة نافعة جداً وقد رأينا بركتها على أنفسنا وطلابنا فأحب أن أتحفك بها لأني أحب لك ما أحبه لنفسي وقال عليه الصلاة والسلام (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) "متفق عليه" وبيانها أن يقال: أن باب الصفات باب واحد و القول فيه متفق لا يفترق ومؤتلف لا يختلف وواحد لا يتعدد, فما تقوله في صفة فإنه ينجر على جميع الصفات فالقول في صفة الوجه هو بعينه القول في صفة الاستواء واليدين والعينين وهكذا في سائر الصفات, وهذه القاعدة رد قوي على الأشاعرة الذين لا يثبتون من الصفات إلا سبعاً فقط وهي: الحياة والكلام والبصر والسمع والإرادة والعلم والقدرة, ويحرفون الباقي, وإنك إذا سألتهم عن سبب ردهم للباقي أجابك بجوابين لا ثالث لهما, الأول: يقولون أن إثبات ما عدا هذه السبع يفضي إلى تمثيل الله تعالى بخلقه فأنت تراهم هنا قد حرفوا ما حرفوه من الصفات بحجة المماثلة فيقال لهم: إن القول في بعض الصفات كالقول في بعض فإذا كان ما نفيتموه من الصفات يستلزم التمثيل فكذلك يقال أيضاً فيما أثبتموه يستلزم التمثيل, لأنكم تفرون من إثبات الوجه لأن المخلوق له وجه, وتفرون من إثبات اليد لأن المخلوق له يد, وتفرون من إثبات الاستواء لأن المخلوق له استواء وتفرون من إثبات العين لأن المخلوق له عين, وهكذا, ولكنكم تثبتون الحياة, فبالله عليكم أليس المخلوق له حياة, وتثبتون الكلام والمخلوق له كلام, وتثبتون السمع والبصر والإرادة والقدرة والعلم والمخلوق له سمع وبصر وإرادة وقدرة وعلم, فتكونون بذلك قد وقعتم في نفس المحذور الذي من أجله فررتم من إثبات باقي الصفات, وهذا تناقض ظاهر فإما أن تثبتوا الجميع فتلحقوا بركب أسيادكم أهل السنة وإما أن تنفوا الجميع فتلحقوا بركب إخوانكم المعتزلة, أما أن تثبتوا البعض وتنفوا البعض فهذا هو عين التناقض, فإن قالوا: نحن نثبت الصفات(1/31)
السبع على الوجه الذي يليق به جل وعلا فنقول لهم: وكذلك أثبتوا بقية الصفات على الوجه الذي يليق بالله جل وعلا, واستريحوا وأريحوا, وإن قالوا: إن إثباتنا لهذه الصفات السبع لا يقتضي تمثيل الله بخلقه فنقول لهم: وأيضاً إثبات بقية الصفات لا يقتضي تمثيل الله بخلقه, وهكذا, فما كان جوابهم فيما نورده عليهم في صفاتهم فهو جوابنا عليهم فيما نفوه من الصفات لأن القول في كل الصفات قول واحد لا تختلف، فإذا كان ما أثبتموه لا يقتضي تمثيل الله بخلقه فكذلك ما نفيتموه لا يستلزم تمثيل الله بخلقه فكذلك ما أثبتموه أيضاً -على فهمكم هذا- يستلزم تمثيل الله بخلقه، ويقال لهم أيضاً:- إن أخوانكم المعتزلة والجهمية ينكرون عليكم إثباتكم هذه الصفات السبع لأنهم ينكرون الصفات كلها، ويوردون عليكم شبهاً في إثباتكم لهذه السبع وأنتم تقومون بالرد عليهم دفاعاً عن مذهبكم في إثبات هذه السبع فما كان جوابكم عليهم دفاعاً عن مذهبكم فهو بعينه جوابنا عليكم فيما نفيتموه، وفي ذلك يقول أبو العباس فيما أثبتموه رحمه الله تعالى في التدمرية ( فهذا الفرق بين بعض الصفات وبعض يقال له كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته ) قلت:- لأن القول في بعض الصفات كالقول في بعض، وهذا باتفاق أهل السنة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى، ونحن نقول :- إن إثبات ما أثبته الله لنفسه من الصفات في كتابه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته حق على حقيقته على ما يليق بجلاله وعظمته لا يقتض تمثيلاً ، لأننا نثبته من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل لأن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير, وأما جوابهم الثاني فهم يقولون:- إن الصفات التي نثبتها قد اقتضى العقل ثبوتها والصفات التي نفيناها لم يقتض العقل ثبوتها، فإذا قالوا ذلك فقل لهم:- لنا على ذلك أجوبه :-
الأول :- أن باب الصفات باب توقيفي على الدليل ولا مدخل للعقول فيه .(1/32)
الثاني :- أن العقول متفاوتة أشد التفاوت فما ترونه بعقولكم أنه ليس بثابت يراه غيركم أنه ثابت، فبأي عقل نزن الكتاب والسنة، ذلك لأن العقل لا يعرف تفاصيل ما يجب إثباته لله مما نفي عنه، فأنتم ترون أن العقل يثبت الأسماء فقط وينفي سائر الصفات، والجهمية يرون أن العقل يقضي بنفي الكل الأسماء والصفات، والفلاسفة يرون أن العقل ينفي كل إثبات ولا يثبت إلا النفي فقط، والقرامطة غلاةٌ غلاة يرون أن العقل هو نفي النقيضين، فالعقول متفاوتة فأي عقل نعتمده وننزل الكتاب والسنة عليه ؟ .
الثالث :- سلمنا أن دليل العقل انتفى فإن انتفاءه لا يدل على انتفاء ما أثبته الدليل النقلي فإن النقل دليل مستقل بذاته لا يعرض على العقل، فالصفات التي نفيتموها قد جاءت بها الأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة فيجب إثبات ما أثبته النقل، فلا تقف حيث وقف العقل بل قف حيث وقف النقل .
الرابع :- أننا لا نسلم أصلاً أن العقل عاجز عن إثبات كثير مما نفيتموه من الصفات، فإن العقل السليم يعرف طريق إثبات ذلك، فمثلاً إكرام الطائعين بأنواع الإكرام وإدخالهم الجنة وإعدادها بأنواع النعيم المقيم واللذة الأبدية دليل على محبتهم ورحمتهم، وإهانة الكافرين وتعذيبهم بأنواع العذاب وإدخالهم النار دليل على بغضهم والغضب عليهم, وإمساك السماوات والأرض أن تزولا وإمساك الجبال دليل على القوة الكاملة، وهكذا في صفات كثيرة والله المستعان, والمقصود: أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض فتأمل هذه القاعدة العظيمة وتدبرها حق تدبرها تجدها برد اليقين على الفؤاد، وهذا هو شأن الحق، فإنه ينزل على القلوب المحبة له كالسلسبيل العذب البارد في القيظ الحار الجاف والله يتولانا وإياك.(1/33)
القاعدة الثالثة :- اعلم رحمنا الله وإياك وعلمنا ما ينفعنا ونفعنا بما علمنا أن أهل السنة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى ينظرون إلى صفات الله من جهتين:- من جهة المعاني، ومن جهة الكيفيات، ولابد من التفريق بين هاتين الجهتين ولابد أيضاً من معرفة مذهب أهل السنة فيهما فأقول وبالله التوفيق:- أما المعاني فإنهم يعلمونها أي أن معاني الصفات معلومة عند أهل السنة وذلك لأن ألفاظ آيات الصفات نزلت باللسان العربي المبين فوجب علينا حمل هذه الألفاظ على المعاني المتقررة عندنا في هذا اللسان العربي ولا يمكن أبداً أن يكون المراد بها مجهولاً لا يعلم أو يكون المراد بها معان أخرى غير المعاني المتقررة في هذا اللسان العربي, ولأن الله تعالى قد أمرنا بتدبر هذا القرآن وأكثر آياته من آيات الصفات والتدبر درجة يسبقها الفهم فكيف نؤمر بتدبر ألفاظ لا يفهم معناها؟ هذا ما لا يكون أبداً بل نحن نعلم جزماً أنه لما أمرنا بتدبر كتابه أنه مما يمكن تفهمه وتعقله ومعرفة معناه ومن ذلك آيات الصفات ولذلك فالمعتمد في مذهب أهل السنة رحمهم الله تعالى هو هذا ولا يجوز نسبتهم إلى غيره كما فعله بعض المؤلفين في الاعتقاد فإنهم يزعمون أن السلف لا يعلمون المعاني وهذا خطأ في النسبة بلا شك بل المعاني عندنا معلومة لا إشكال في ذلك فالوجه معناه لغة ما تحصل به المواجهة والبصر رؤية الأشياء والسمع إدراك الأصوات والنزول يكون من أعلى إلى أسفل والاستواء المعدى بـ(على) هو العلو والاستقرار وهكذا فمعاني الصفات عند أهل السنة معلومة وأما الكيفيات فإنها مجهولة أي كيفيات الصفات لا يتكلمون فيها البتة بل يفوضون علم الكيفية إلى الله تعالى ويقولون: الكيف مجهول, ذلك لأن الكيفية لا تعلم إلا بالرؤية وهي معدومة في حق الله تعالى فقد اتفق أهل السنة أن رؤية الله تعالى في الدنيا غير ممكنة أو برؤية نظيره وهو منتفٍ أيضاً لأنه جل وعلا ليس كمثله شيء ولم يكن له كفواً(1/34)
أحد ولا سمي له ولا ند ولا نظير له جل وعلا حتى يستدل بصفاته عليه أو بإخبار الصادق عنه والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخبرنا عن كيفية الصفة وإنما أخبرنا بالصفة ولم يتكلم عن كيفية الصفة فوجب الوقوف عند حد النص ولا نتعداه قيد أنملة فقد أخبرنا - صلى الله عليه وسلم - أن لربنا وجهاً ولم يخبرنا عن كيفية هذا الوجه وأخبرنا أن لربنا عيناً ولم يخبرنا عن كيفية هذه العين وأخبرنا أن لربنا يداً ولم يخبرنا عن كيفية هذه اليد وأخبرنا أن لربنا استواءً ولم يخبرنا عن كيفية هذا الاستواء وهكذا في سائر صفاته فكيف نعلم كيفيات صفات الله تعالى وقد انتفت عنها طرق العلم بالكيفية؟ ولذلك فأهل السنة يعلمون المعاني ويجهلون الكيفيات, ولذلك فقد جاء عن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه لما قيل له { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.(1/35)
وقد انعقد إجماع أهل السنة على اعتماد هذا الجواب في كل الصفات وليس في الاستواء فقط فقوله ( الاستواء غير مجهول ) أي معناه في اللغة معلوم تعرفه العرب في لسانها, وقوله ( والكيف غير معقول ) أي أن معرفة الكيفية لصفات الله تعالى لا تعقل أي غير داخلة في حد ما خلق العقل له, فليس للعقل أمامها إلا التسليم والتفويض { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } فلا يجوز للعقل أن يفكر مجرد تفكير في كيفية شيء من صفات الله تعالى, بل إن إدخال العقل في طلب معرفة الكيفية مسلك من مسالك الضلال وطريق من طرق الشيطان فالله تعالى لما خلق العقل جعل له حدوداً وطاقات لا يزال تفكيره سليماً ما دام داخلاً في حدوده وطاقاته وأما إذا أقحم فيما ليس له فيه مجال فإنه لن يرجع إلا بالحيرة والضلال والتيه والشكوك والحسرة والخيبة, ومن ذلك كيفيات صفات الله تعالى فإن معرفتها خارجة عن مدركات العقول ولم تخلق العقول لإدراكها أصلاً ولا قدرة ولا طاقة للعقل مهما فكر وقدر على معرفة ذلك لأنه من علم الغيب الذي اختص الله تعالى به لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل وقوله ( والإيمان به واجب ) لأنه خبر الشارع وقد تقرر أن خبر الشارع يجب تصديقه والإيمان به فيجب الإيمان الجازم بكل أخبار الشريعة وقوله ( والسؤال عنه بدعة ) أي لأنه سؤال مخترع لا يعرف عن أحد من سلف الأمة وأئمتها, بل هو تنطع وتشدق وتقحم في المهالك والمقصود أن تعلم أن القاعدة عند أهل السنة تقول: المعاني معلومة والكيفيات مجهولة ونحن بذلك المذهب وسط بين مذهبين ضالين كل الضلال, الأول:- مذهب المفوضة الذين يقولون:- المعاني غير معلومة ومن باب أولى الكيفيات أيضاً, الثاني:- مذهب الممثلة الذين يقولون:- بل الكيفيات معلومة ويجعلونها ككيفية صفات المخلوقات, فقال أهل السنة : بل المعاني معلومة وأما الكيفيات فمجهولة, فإن قلت:- كيف تقول إن مذهب أهل السنة هو العلم بمعاني الصفات مع أن الإمام(1/36)
أحمد يقول:- نثبت آيات الصفات لا كيف ولا معنى؟ فأقول:- إن المعنى الصحيح الذي يفهمه أهل العقول السليمة والفطر المستقيمة على ما يقتضيه وضع اللسان العربي وإنما المعنى المنفي هنا هو المعنى الذي ابتكرته الجهمية النفاة والمبتدعة الطغاة ويزعمون أنه هو المراد من آيات الصفات, وهو معنى غريب لا يفهمه أهل اللسان الصحيح من هذه الألفاظ, فالمنفي في كلام الإمام أحمد هو المعنى الفاسد الباطل المحدث الذي لا يعرف عن سلف هذه الأمة, فنعوذ بالله من الأهواء المضلة والأفهام المعتلة المختلة, وخلاصة هذه القاعدة أن معاني الصفات معلومة وكيفياتها مجهولة, فالوجه نعلم معناه في اللغة ولكن نجهل كيفيته والنزول نعلم معناه في اللغة ولكن نجهل كيفيته, والعين نعلم معناها في اللغة ولكن نجهل كيفيتها, والسمع نعلم معناه في اللغة ولكن نجهل كيفيته, والبصر نعلم معناه في اللغة ولكن نجهل كيفيته, وهكذا في سائر الصفات فإذا أتقنت هذه القواعد فأنت على خير عظيم وأعيدها لك مختصرة بألفاظها فقط لتكون منها على ذكر, القاعدة الأولى:- القول في الصفات فرع عن القول في الذات, القاعدة الثانية:- القول في الصفات كالقول في بعض القاعدة الثالثة:- معاني الصفات معلومة وكيفياتها مجهولة, والله ربنا أعلى وأعلم وهو يتولانا وإياك .
( المقدمة الثامنة )(1/37)
اعلم رحمنا الله وإياك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بين باب أسماء الله تعالى وصفاته أتم البيان وأكمله فليس في هذا الباب شيء من الالتباس ولا الإشكال ولا الغموض, بل الحق فيه واضح أبلج يراه كل ذي عينين والذي يدل على أنه بعينه أكمل البيان وأتمه عدة أمور, الأمر الأول:- أن قاعدة الدين وأساس الملة هي عبادة الله وحده لا شريك له وعبادته جل وعلا موقوفة على معرفته بأسمائه وصفاته فباب معرفة الله بأسمائه وصفاته محقق لهذا المقصود الأعظم فمن المحال مع هذه الأهمية أن يهمله أو يتركه غامضاً لا يعرف الحق فيه من الباطل فإنه ما قدر النبي - صلى الله عليه وسلم - حق قدره من يزعم أن هذا الباب لا يزال مشكلاً غامضاً بل هذا من أعظم القدح في كمال بلاغه وكمال نصحه وكمال شفقته بأمته - صلى الله عليه وسلم - , الأمر الثاني:- أنه - صلى الله عليه وسلم - قد بين لنا آداباً كثيرة من آداب هذه الشريعة بياناً شافياً كافياً كآداب الأكل والشرب والخلاء والجماع ودخول المنزل والخروج منه وغير ذلك كل ذلك قد بينه - صلى الله عليه وسلم - البيان الكامل الشافي والتام الكافي, وهذه الآداب لا تقاس بباب معرفة الله بأسمائه وصفاته فإذا كانت هذه الآداب قد بينت البيان الكامل فإنه يعلم قطعاً أن باب الأسماء والصفات أعظم منها بياناً وهذا قياس أولوي وهو حجة بالاتفاق فإنه من المحال أن يعلمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - ما نفعله في الخلاء وعند الجماع ونحو ذلك ولا يعلمنا ما يجب اعتقاده في ربنا جل وعلا هذا محال إلا عند من تربى على موائد الفلاسفة وزبالات أذهان اليونانيين وتتلمذ على يدي الأبالسة والشياطين, الأمر الثالث:- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بعث بالروح والنور قال تعالى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ(1/38)
نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فشريعته - صلى الله عليه وسلم - الذي بعث بها كلها نور وهدى وروح, فالصلاة نور والحج نور والزكاة نور والصوم نور وبر الوالدين نور وهكذا في كل جزئيات الشريعة وكلياتها وأعظم ذلك النور معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته فمن المحال أن يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم الأبواب نوراً بلا بيان بل يتركه ملتبساً غامضاً لا يعرف فيه وجه الحق من الباطل هذا لا يتصور في أصغر داعية من دعاة المسلمين فكيف بسيد الدعاة وخاتم الأنبياء وإمام المرسلين وأحب الخلق إلى الله تعالى ولله در القائل :
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رمادي(1/39)
الأمر الرابع:- أن جميع الأعمال التعبدية تتفرع عن هذا الأصل العظيم أعني معرفة الله بأسمائه وصفاته فهو أساسها وقاعدتها وأصلها وهي له كالفروع ومن المعلوم أن الحرص على إحكام تعليم الأصل وترسيخه في القلوب والإقبال التام على بيانه وتوضيحه وكشف الشبه والخيالات التي قد تعلق في القلوب هذا أوجب الواجبات وأعظم المطلوبات المتحتمات, لأن صحة الفروع والجزئيات فرع عن صحة الأصول والكليات فكيف يهمل النبي - صلى الله عليه وسلم - الأصول والكليات بلا بيان ولا إيضاح ويكرس كل جهده في إيضاح الفروع والجزئيات؟ هذا قدح في رسالته وكمال نصحه وشفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمته وهو من ظن السوء به نعوذ بالله من ذلك وهو مضاد لوجوب اعتقاد كمال تبليغه لجميع ما أمر به من البلاغ على أحسن الوجوه وأتم الأحوال, والويل لمن زعم ذلك والله المستعان, الأمر الخامس:- الأحاديث المصرحة بكمال البلاغ كقوله - صلى الله عليه وسلم - (( ما بعث الله نبياً إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم )) "رواه مسلم" وقوله - صلى الله عليه وسلم - (( تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلى هالك )) "رواه أحمد وابن ماجه" وقال أبو ذر - رضي الله عنه - :- لقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما. "رواه أحمد والطبراني في الكبير" وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :- قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقاما فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم, حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه.(1/40)
"رواه البخاري" ومحال الاستحالة المطلقة مع هذا البلاغ الكامل والحرص التام على تعليمهم أمور دينهم أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين الذي معرفته غاية المعارف وعبادته أشرف المقاصد والوصول إليه غاية المطالب, بل هو خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الدعوة الرسالية فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة ألا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - على غاية التمام؟ سبحانك هذا بهتان عظيم الأمر السادس:- أن الصحابة رضوان الله عليهم لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قاموا بالدعوة إلى الله تعالى وبذلوا فيها المهج والأموال والأنفس وكل غال ونفيس وقد نقلوا للأمة باب معرفة الله بأسمائه وصفاته أكمل النقل وبلغوه أكمل البلاغ مما يدل على أنهم قد تلقوه من نبيهم - صلى الله عليه وسلم - أكمل التلقي وفهموه أتم الفهم ولا يتأتى ذلك مع قول من يقول:- إنه باب غامض ملتبس لا يعرف فيه وجه الحق من الباطل، فإن نجابة الطالب دليل على حرص أستاذه، وكمال شفقته عليه ونصحه له، ولذلك فإنه من المتقرر عند أهل العلم أن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يختلفوا في شيء من أمور الاعتقاد وخصوصاً مايتعلق بباب الأسماء والصفات، بل هذا الباب عندهم من المسلمات في كلياته وجزئياته وأصوله وفروعه، ولذلك فإنه لا يعرف عنهم حرف واحد من خلاف التضاد في مسألة واحدة من مسائل الاعتقاد التي تستحق أن تكون من مسائل الاعتقاد، وما هذا إلا لأنهم فهموه أكمل الفهم وتشربته قلوبهم واستوعبته نفوسهم وتغلغل في أرواحهم وتقررت مسائله في عقولهم حتى لم يبق فيه مجال لاختلاف ولا لنزاع، وهذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - قد بذل قصارى جهده وغاية وسعه وما آتاه الله تعالى من قوة في إيصال ذلك الباب إلى القلوب والعقول في أحسن الوسائل وأوضح الدلائل، ولم يدخر في ذلك بذل الطاقة بأبي هو(1/41)
وأمي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا عبرة بالعقول التي قد فرخ فيها الشيطان وبيض فيها علم الكلام والفلسفة حتى صارت زبالات يلقى فيها كل نتن قبيح، فلا ترضى إلا بالخبيث من الأقوال والنجس من الأفكار، ومن يضلل الله فماله من هاد، والله المستعان .
( المقدمة التاسعة )
اعلم رحمنا الله وإياك أن مذهب السلف في سائر أبواب الاعتقاد هو الحق الذي لا يجوز اعتقاد غيره وهو الصواب الذي لا يعتري تصويبه وجه من أوجه الشك، فهو الهدى وما سواه فضلال وهو الصدق وما سواه فاختلاف وافتراء وكذب، ويدل على صحته عدة أوجه :-(1/42)
الوجه الأول:- أن منهج السلف الصالح مبناه على الدليل من الكتاب والسنة لأنهم لا يأخذون معتقداتهم إلا من هذين المصدرين وليس لهم أصول أخرى يأخذون منها معتقداتهم ولا شك ولا ريب أن الكتاب والسنة حق وصدق وصواب، ومن المعلوم أن ما بني على الحق فهو حق وما بني على الصدق فهو صدق وما بني على الصواب فهو صواب فيكون منهج أهل السنة رحمهم الله تعالى هو الحق والصدق والصواب لأنه يسير مع الكتاب والسنة حيث سارا ويقف معهما حيث وقفا، وأما المذاهب الأخرى فإنها إما مبنية على أمور عقلية والعقول فيها الحق وفيها الباطل، ولا خير في العقل إذا لم يهتد بنور الكتاب والسنة, وإما مبنية على القواعد الفلسفية المخالفة للمنقول والمصادمة للمعقول, وإما على المرويات الباطلة والنقولات الكاذبة وإما على الأحلام والرؤى والمكاشفات والخوارق الشيطانية العاطلة الفاجرة، وإما على خيالات يظنها أصحابها أنها من الأمور المسلمات وهي في حقيقتها من الخرافات والأحاجي والألغاز والفكاهات التي يضحك من سخافتها العقلاء أهل الألباب، فأين الحق من هذه المذاهب، فإنها في واد والحق في واد، ومن يضلل الله فماله من هاد، وأما مذهب أهل السنة فإنه في كل تفاصيله مستند على دليل من القرآن أو صحيح السنة وليس فيه مسألة من المسائل إلا وعليها ما يسندها من البرهان الساطع والدليل القاطع فهو الحق الأحقية المطلقة والصدق والصواب الذي لا يجوز البتة اعتقاد غيره ولا اعتماد مذهب سواه .(1/43)
الوجه الثاني:- أن منهج السلف الصالح متوافق كل الموافقة مع ما كان يعتقده الصحابة والتابعون وتابعوهم ومن المعلوم أنهم - أي الصحابة والتابعون وتابعوهم - هم خير قرون الأمة بشهادة النص الصحيح الصريح وهذا المدح والثناء العظيم لم يكن ليحصل لو كان المنهج الذي سلكوه مخالفاً للكتاب والسنة فإن مخالف الكتاب والسنة حقه الذم لا المدح فلما مدحوا بذلك ومنحوا هذه الشهادة العظيمة دل ذلك على صفاء اعتقادهم وصحة مذهبهم وسلامة سبيلهم وأنهم أهل الهدى والصراط المستقيم وأهل العلم النافع والعمل الصالح وأن الحق معهم يدور حيث داروا، بل إن هذه الشهادة لهم بالخيرية فيها حث للأمة اللاحقة أن تقتفي آثار الأمة السابقة وأن يترسموا خطاهم ويهتدوا بهديهم، وإنك إذا سبرت فرق الأمة كلها، لن تجد أشدهم شبهاً بالسابقين ولا ألزمهم إتباعاً لهم ولا أعظمهم موافقة لاعتقادهم ولا أبرهم قلوباً ولا أرشدهم تمسكاً بالكتاب والسنة إلا أهل السنة والجماعة, فيلزم من ذلك أن يكون أهل السنة هم أهل الهدى وأهل المعتقد الصافي والصراط المستقيم وهم أهل الحق وأهل العلم النافع والعلم الصالح وذلك لموافقتهم لخير القرون في العلم والهدى والاعتقاد, فالسبب الذي من أجله مدح السابقون متحقق في أهل السنة, وهذا يفيدك صحة منهج السلف لتوافقه مع معتقد خير القرون .(1/44)
الوجه الثالث:- أن العقل السليم من الآفات والعلل والشبه والشهوات يفرض فرضاً قطعياً لا نقاش فيه ولا شك ولا ريب يخالطه تقديم الكتاب والسنة على كل شيء وألا تعارض بقول أو فعل أو قاعدة كلامية أو مذهب ما, وهذا هو حال أهل السنة والسلف الصالح - رضوان الله عليهم - فإنهم يقدمون النقول على العقول وعلى آراء الرجال وعلى المذاهب وعلى شهوات النفوس فالنص عندهم هو الأصل وغيره الفرع وهو الميزان وغيره الموزون وهو المتبوع وغيره التابع وهو الأول والمقدم وغيره الثاني والمؤخر, ولا تجد مذهباً أو فرقة من الفرق إلا وعندها من مخالفة المنقول الشيء الكثير إلا أهل السنة والجماعة وهذا يدل على صحة منهجهم وسلامة طريقهم لأنه متوافق مع العقل السليم كل الموافقة وما وافق العقل السليم فهو صحيح لأنه لا يتعارض العقل الصريح مع النقل الصحيح فقد توافر في منهج أهل السنة توافقه مع العقل السليم وتوافقه مع منهج خير القرون .
الوجه الرابع:- في بعض روايات حديث الافتراق الذي يصح بمجموع طرقه وتلقي الأمة له بالقبول والاعتماد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( كلها في النار إلا واحدة )) قالوا من هي يا رسول الله قال (( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) فهذا النص يشهد أن من كان على مثل ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فهو الناجي وإنك إذا نظرت إلى سائر الفرق لن تجد فرقة إلا وعندها من المخالفة لما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الشيء الكثير سواء في اعتقاداتهم أو أعمالهم إلا أهل السنة والجماعة فإنهم الفرقة الوحيدة التي هي على مثل ما عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الاعتقاد وفي العمل وهذا يفيد أنها الفرقة الناجية ونجاتها دليل على صحة مسلكها وسلامة منهجها فإن النجاة ثمرة السلامة في الاعتقاد والعمل فهم الناجون بشهادة الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - .(1/45)
الوجه الخامس:- أنك إذا نظرت إلى كل الفرق وجدت أن عقائدها تتكيف مع المتغيرات بالزيادة والنقصان كالقدرية كان أوائلهم ينكرون علم الله السابق بالأشياء مع إنكار تقديرها ولكن لما كان هذا القول مفضوحاً أنكره متأخروهم وأبوه ورفضوه وقالوا: يعلمها ولكنه لم يخلقها وهذا الاختلاف والاضطراب دليل الفساد, والرافضة كانوا في أول أمرهم ممثلة ثم صاروا في آخر الأمر معطلة, والمعتزلة كانوا فرقة واحدة ثم تفرقوا أحزاباً وشيعاً كل حزب بما لديهم فرحون من جاء متأخراً يزيد أصولاً ويحذف أشياء مما قرره السابقون في مذهبه وكل فرقة من هذه الفرق افترقت في اعتقاداتها إلى فرق شتى, وكل فرقة منها تقرر أصولاً تخالف به الفرقة الأخرى, وهم منتمون إلى فرقة واحدة, فالخوارج صاروا فرقاً شتى والرافضة صاروا فرقاً شتى والصوفية كذلك, وهذا الاختلاف والتنافر والتناقض دليل على فساد أصول هذه الفرق ولكن إذا نظرت إلى أهل السنة وجدت أنهم مؤتلفون لا يختلفون ومتحدون لا يفترقون أصولهم واحدة وطريقتهم واحدة وعقيدتهم واحدة يأخذه الآخر عن الأول واللاحق عن السابق, غضاً طرياً واضحاً سهلاً بعيداً عن الإغراب والغموض لا تشوبه شائبة ولا تكدر صفو مشربه شبهة أو شهوة قريب المأخذ سهل المدرك قوي الأساس ثابت لا يتغير واحد لا يتعدد صامد لا يهتز على كثرة من حاربه وكاد لأهله, تقرأ الكتب الكثيرة فيه وكأنها لمؤلف واحد, هو المذهب الذي ترتاح له القلوب وتنشرح له الصدور وتطمئن له النفوس ليس بين أهله اختلاف في أصوله وقواعده ولا تنافر في أدلته وثوابته, لأنه مبني على أصل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه قد تأيدت بالدلائل مسائله, وانتشرت بين البرية فضائله فهو الحق وما سواه فباطل وهو الصواب المقطوع به وما سواه فباطل مردود على صاحبه وهو الثريا وغيره الثرى وهذا كله دليل على صحته وعلامة على خيريته فواعجباً لمن شك أو شكك في سلامته وصلاحيته إن هي إلا شنشنة(1/46)
نعرفها من أخزم ونخالة فكر مزجت بحثالة قول نسمعها ممن ضل وأجرم والله ربنا أعلى وأعلم .
الوجه السادس:- من المعلوم أن مذهب السلف يختلف عن مذهب الخلف فالمراد بالسلف النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين وتابعيهم ونعني بالخلف المتأثرون بالمناهج الكلامية الفلسفية كالجهمية والمعتزلة والخوارج والشيعة والأشاعرة وسائر طوائف أهل الكلام, فمذهب السلف يتنافر مع مذهب الخلف فحينئذٍ لا يخلو إما أن يكون الحق مع السلف وإما أن يكون مع الخلف؟ لا يمكن أن يقول مؤمن يدري ما يقول أن الحق مع الخلف لأنه يلزم عليه تجهيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه وهذا أعظم القدح في خير قرون الأمة ويلزم عليه أيضاً أن من اختارهم الله لصحبة نبيه كانوا أجهل الخلق وأضلهم وأبعدهم عن الهدى في أبواب الاعتقاد ويلزم عليه أن الحق لم يزل خافياً غامضاً ملتبساً, ولا يدرى عن حقيقة أمره حتى جاء أولئك المتأخرون الأوباش فاستخرجوه بغرائب الألفاظ ومستكره العبارات التي هي للألغاز والأحاجي أقرب منها إلى العلم والبيان والهدى ويلزم عليه أن الصحابة قد ضلوا في هذا الباب أي باب الاعتقاد وأضلوا غيرهم لأنهم علموا الأجيال التي جاءت بعدهم أبواب الاعتقاد وأي كفر بعد هذا الكفر وأي زندقة بعد هذه الزندقة وأي قدح بعد هذا القدح ويلزم عليه أيضاً تفضيل الخلف على السلف وهذا هو الضلال بعينه فبالله كيف تكون زبالات أذهان الفلاسفة وخرافات اليهود والنصارى أفضل وأكمل وأصح منهجاً من منهج السابقين الأولين؟ أم كيف يكون هؤلاء المتهوكون الأفاكاون الذي هم أعظم الناس شكاً وتيهاً وضلالاً وحيرةً واضطراباً أهدى من طريق محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحابته من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم أم كيف يكون من تربى في حظائر الفلسفة وتروى من بالوعة الباطنية القرامطة وعشعشت في عقله القواعد التي تناقض(1/47)
العقول وتصادم المنقول أعلم وأحكم من الذين استنارت قلوبهم بنور الكتاب والسنة وترووا من معينها الصافي الذي لا شوب فيه ولا كدر وتربوا في حلقات خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه ونهلوا من العلم النافع المؤيد لنصوص الوحيين بالله عليك كيف يكون ذلك؟ فهذا القول باطل كل البطلان لفساده في جميع نتائجه أعني القول بأن الحق مع الخلف لأنه مفض إلى لوازم كلها فاسدة باطلة وقد تقرر في الأصول أن فساد اللازم دليل على فساد الملزوم فإن بطل ذلك الأمر لزم الأمر الآخر وهو أن الحق مع السلف ومن كان الحق معه فمذهبه هو الصحيح وهذا هو الذي لا يجوز القول بغيره ولا تنس أن من جملة نواقض الشهادتين أن يعتقد العبد أن هدي غير رسول الله أكمل من هديه فنعوذ بالله من الأقوال المخالفة للكتاب والسنة والله أعلم .
الوجه السابع:- أن كبار المتعمقين في مناهج الخلف قد أعلنوها صريحة إنهم ليسوا على شيء وأن أصولهم وقواعدهم التي عظموها وأفنوا فيها أعمارهم وألفوا فيها المؤلفات وأشغلوا في تقديرها الأوقات إنما هي كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه بعد جهد جهيد لم يجده شيئاً وأنها لا توصل إلى الهدى ولا إلى العلم بل هي مجرد خيالات ظنوها حججاً مستقيمة فإذا هم يعترفون في آخر الأمر أنها خرافات عقيمة، فمنهم من أسعفه وتداركه الله برحمته وهداه في آخر عمره إلى مذهب السلف، ومنهم من بقي متردداً في ضلاله ويعمه في غيه وهو معترف بأنه ليس على شيء لكنه لا يدري أين طريق الهدى، وهذه شهادة من هؤلاء بصحة منهج السلف وقد تقرر أن الحق ما شهدت به الأعداء، فاسمع إلى كبيرهم الغزالي وهو يقول:- ( أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام ) ويقول كبير من أئمتهم :-(1/48)
ويقول الرازي وهو من هو في علم الكلام، فإنه من أشد أهل الكلام إسرافاً على نفسه في الحيرة والشك والاضطراب وكانت له نهمة في ذلك، فهو مغرم بالتشكيك لا التحقيق وقد قال يخبر عن نهاية أمره :-
ثم قال :- ( لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فلم أرها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } و { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } وأقرأ في النفي { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي )ا.هـ. ويقول آخر منهم وهو من كبارهم أيضاً:- ( لقد خضت البحر الخضم وتركت أهل الإسلام وعلومهم وخضت فيما نهوني عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي )ا.هـ. فهذه بعض اعترافات كبارهم كالغزالي والجويني والرازي والشهرستاني ، فإنها أي هذه الاعترافات ظاهرة على فساد هذه المناهج، مع أننا لم نسمع عن واحد من أهل السنة على مر التاريخ فيما نعلم
أنه أنَّ هذه الأنات وزفر هذه الزفرات وسكب هذه العبرات، وهذا دليل على صحة منهج السلف، وأنه المتوافق مع الفطر السليمة والافهام المستقيمة والله أعلم .(1/49)
الوجه الثامن:- أن السلف هم ورثة الأنبياء والمرسلين فإنهم قد تلقوا علومهم من ينبوع الرسالة الإلهية وحقائق الإيمان ولا يمكن أبداً أن يكون الحق إلا مع هؤلاء وإلا لفسدت العلوم وهلكت البشرية كلها، فإن الخلف قد تلقوا علومهم من المجوس والمشركين وضلال الصابئة واليهود ومخرفي اليونان من أهل السفسطة في المعقولات والقرمطة في المنقولات، فبالله عليك أفيكون أعداء الله تعالى وأعداء الرسل أعلم وأحكم وأهدى سبيلاً وأقوم منهجاً من الرسل وأتباعهم؟ لا والله هذا لا يكون أبداً ولا يمكن للعقل السليم أصلاً أن يتصوره مجرد تصور بل إن الذي ندين الله به هو أنه لا يجوز أصلاً عقد المقارنة بين المذهبين لأن مجرد عقد المقارنة بينهما تنقص مذهب السلف عن قدره العالي ومنزلته الرفيعة ولقد أحسن القائل :-
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
فإذا كان عقد المقارنة أصلاً لا يجوز فكيف حال من يفصل منهج الخلف على مذهب السلف؟ سبحانك هذا بهتان عظيم .(1/50)
الوجه التاسع:- أننا لا نزال - ولله الحمد والمنة - نرى ونسمع ونقرأ انتصارات السلف بالحجة والبرهان والسيف والسنان فما يتحجج صاحب بدعة ببدعته ولا مفتون بقوله المخالف للكتاب والسنة إلا وقيض الله تعالى له من جنده من يريق دم بدعته ويقطعها من دابرها والأمثلة على ذلك كثيرة شهيرة, فالسلف - رحمهم الله تعالى - هم المنصورون بالحجة والسيف فكلمتهم ظاهرة وروايتهم عالية لا تزل أبداً لهم من الله مؤيد ونصير, لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك, وهذا يشهد به القريب والبعيد والموافق والمخالف, وهذا ليس في زمن دون زمن, بل في كل الأزمنة, وما كان الله تعالى ليؤيدهم لولا أنهم على الحق, وما كان العليم الحكيم ليديم نصرهم إلا لأنهم نصروه بإعلاء كلمته والجهاد في سبيله بالقول واليد والمال والنفس, إذ إن من المعلوم أنه يمتنع في عدله وحكمته جل وعلا أن يديم نصر الباطل ويعلي كلمة السوء الإعلاء المطلق فلما أدام الله عز وجل أهل السنة وأعلا منارهم وثبت أقدامهم ونشر علومهم وأتم نصرهم على مخالفيهم بكل معاني النصر في كل الأزمان ومختلف مجاري الأحوال دل ذلك على أنهم أهل الحق وأن مذهبهم هو الصواب الصحيح, ومن قال بغيره فقد قدح في حكمة الله تعالى وعدله ونسبه إلى ما لا يجوز من وصف السوء تعالى الله عن كل أوصاف النقص علواً كبيراً وبهذا الدليل استدل بعض أهل العلم على بعض النصارى على صدق رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - , كما ذكره ابن القيم في الصواعق وهو دليل قوي ولكنه يحتاج إلى فهم بعض مقدماته, فأعد النظر فيه والله أعلم .(1/51)
الوجه العاشر:- أنه من المتقرر أن بطلان اللازم دليل على بطلان ملزومه ومن لوازم تفضيل مذهب الخلف على منهج السلف تجهيل الصحابة - رضي الله عنهم - , ونسبتهم إلى القصور في البحث في أبواب الاعتقاد على وجه العموم وباب معرفة الله بأسمائه وصفاته على وجه الخصوص وهذا اللازم باطل, لأنه مفض إلى اتهام ذلك الجيل الذي لم تعرف الدنيا مثلهم بعد الأنبياء والرسل والذين رضي الله عنهم ورضوا عنه واختارهم لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - والذب عنه والجهاد معه فإذا كان هذا اللازم باطلاً فيلزم منه بطلان ملزومه, أي أن تفضيل منهج الخلف على منهج السلف باطل أيضاً, ولا محيص ولا مناص من الفكاك من هذا اللازم الباطل إلا بالاعتقاد الجازم أن مذهب السلف من الصحابة والتابعين هو الحق والعدل والصدق وهو الذي يجب تقديمه على كل ما خالفه من المذاهب وهو الذي نعتقده ولله الحمد والمنة, فهذه الأوجه العشرة تفيدك إن شاء الله تعالى صحة ما قلناه من أن منهج السلف هو الحق والصدق والصواب والخير والبر والهدى والصراط المستقيم الذي من أخذ به نجا ومن اهتدى به هدي إلى طريق الجنة ومن حاد وزاغ عن طريقه فهو الضال التائه الحائر الذي هوت به الأهواء في المهايع الوخيمة والحفر العميقة, فنسأل الله تعالى أن يثبتنا وإخواننا جميعاً على منهج السلف وأن يختم لنا بخير وهو أعلى وأعلم .
( المقدمة العاشرة )
أقول:- اعلم رحمك الله تعالى أنه من المناسب جداً بعد ذكرنا للأوجه الدالة على صحة منهج السلف, أن نبين الأسباب التي أوجبت ضلال من ضل في أبواب الاعتقاد لنحذرها ونسعى في علاجها وليكون العبد على بصيرة في دينه, ومبتعداً عن كل أسباب الغواية والردى, وهي كما يلي :-(1/52)
السبب الأول:- وهو أعظمها وأخطرها وهو إرادة الهدى من غير الكتاب والسنة فإن هذه الطوائف التي ضلت في هذا الباب لم تأخذ معتقداتها من الكتاب والسنة وإنما أخذت عقائدها ومناهجها من عقولها المجردة وأهواءها العفنة وما تمليه عليهم شياطينهم, وقد وردت الأدلة الكثيرة أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة أضله الله تعالى فهم لا ينظرون في الكتاب والسنة نظر من يطلب الهداية والحق, وإنما نظر المجادل المعاند المستكبر الذي يصدق عليه قوله تعالى { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون } ولا يخفاك قوله - صلى الله عليه وسلم - (( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده, كتاب الله وسنتي ....)) وغير ذلك من الأدلة التي قدمتها في أول الكتاب .
الثاني:- اختلاط النبع, ونعني به أن هناك بعض الطوائف الإسلامية تأخذ بالكتاب والسنة ولكنها لم تقصر أخذ الاعتقاد عليهما بل عولت على مناهج أخرى, كمناهج أهل الكلام وطرائق أهل الفلسفة, فكدر هذا الأخذ الآخر أصل المنبع الشافي والمورد الكافي الصافي كالأشاعرة, فهم لم يتركوا الكتاب والسنة جملة وتفصيلاً, بل أخذوا بعضها, لكن في بعض المسائل فقط, ولكنهم عولوا على مذاهب الفلاسفة الأغبياء في باب الصفات والقدر وغير ذلك, وهذا السبب وإن كان داخلاً فيما قبله إلا أنني أفردته بالذكر حتى لا يقول قائل: إن بعض هذه الفرق تذكر في مذاهبها واستدلالاتها الكتاب والسنة, فذكرت لك لتعرف أن الإهداء بالكتاب والسنة في كثير من المسائل فالطائفة الأولى سبب ضلالهم تشريكهم في الأخذ من الكتاب والسنة أصولاً أخرى ومناهج مختلفة ومخالفة والله أعلم .(1/53)
الثالث:- عزل أدلة الكتاب والسنة عن فهم السلف الصالح, فهم وإن أخذوا بآيات القرآن والسنة لكنهم لا يفهمونها كما فهمها السلف الصالح وإنما اخترعوا لها فهماً آخر يكون في كثير من أحيانه مناقضاً المناقضة التامة لما فهمه السلف وهذا كثير جداً وقد ذكرت لك سابقاً أن فهم السلف شرط في فهم الكتاب والسنة وبخاصة مسائل الاعتقاد, فلابد من هذين الأمرين فإن الهداية تحصل بمجموعها وهما: الأخذ بالكتاب والسنة, ويكون ذلك الأخذ على فهم سلف الأمة, فهؤلاء الضالون في أبواب الاعتقاد وإن أخذوا ببعض الكتاب والسنة إلا أنهم لم يفهموها الفهم الموافق لفهم السلف وهذه طامتهم وتلك بليتهم فإنهم اغتروا بفهمهم وتكبروا بذكائهم الفطري المجرد عن هداية الكتاب والسنة فضلوا وأضلوا ولله در أبي العباس رحمه الله تعالى لما وصفهم بقوله ( هؤلاء أقوام أتوا فهوماً ولم يؤتوا علوماً وأتوا ذكاءً ولم يؤتوا زكاء لهم سمع وأبصار وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء )ا.هـ بمعناها .(1/54)
الرابع:- تحميل الأدلة ما لا تحتمل أو التقصير عنها من حد دلالتها فهم بين طرفين: إما مُفْرِطٌ إما مُفَرطٌ, فترى طوائف منهم تذكر أشياء في الأدلة لم يدل عليها النص لا مطابقة ولا تضمناً ولا إلتزاماً وتجد بعض الطوائف تبتر دلالة النص فتأخذ ببعضه وتترك بعضه وذلك كاستدلال بعض المتهوكين السفله الحمقى على نفي الصفات بقوله تعالى { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فبالله عليك أين وجه الاستشهاد؟ إن هو إلا قلة الأدب والسفه والتفاهة والغي والهوى وكاستدلال بعضهم على نفي الصفات أيضاً بقوله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وغير ذلك مما تراه في كتبهم أو في كتب من نقل مقالاتهم مما لا ينقضي منه العجب وتجد القدري الذي ينكر مشيئة الله تعالى يأخذ بقوله تعالى { وَمَا تَشَاؤُونَ } فقط وينكر قوله تعالى بعدها في نفس الآية { إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ } وهذا سبب كثير منهم فتجد بعضهم يأخذ ببعض الدليل أو الأدلة ويترك الطرف الآخر وتجد بعضهم يحمل الدليل أوجهاً من الاستدلال لا خطام لها ولا زمام فنعوذ بالله من هذه الطرق .(1/55)
الخامس:- إتباع الأهواء وتحكيمها في الأدلة وعرض الأدلة عليها فما وافقها قبلوه وما خالفها ردوه, لذلك فإن أهل السنة يطلقون على هذه الطوائف الضالة أهل الأهواء وهي في الحق تسمية مناسبة لهم كل المناسبة فهل وقع أهل التمثيل فما وقعوا فيه من تمثيل صفات الله بصفات خلقه إلا بالأهواء وهل وقع أهل التعطيل فما وقعوا فيه من التعطيل إلا بالأهواء وغير ذلك مما هو معلوم من حال هذه الطوائف فالهوى إن لم يكن مضبوطاً بالكتاب والسنة فإنه مدخل إبليسي واسع وباب فتنة عظيم يجر على أصحابه العلوم الفاسدة والأعمال الطالحة ولقد عصم الله تعالى بمنه وفضله وحسن توفيقه أهل السنة من هذه الأهواء وسد أبوابها لأنهم يعتمدون ما اعتمده النص لا ما اعتمده الهوى ويمنعون ما جاء به النص لا ما قرره الهوى قال تعالى { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } وقال - صلى الله عليه وسلم - (( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به )) فاستعذ بالله من هذه الأهواء وليكن قائدك الدليل عافانا الله وإياك من كل سوء وبلا ء .(1/56)
السادس:- تقعيد القواعد المخالفة للمنقول والمناقضة للمعقول فتجد هذه الطوائف الضالة تقعد بعض القواعد ثم تنزل عليها أدلة الكتاب والسنة وتلوي أعناق الأدلة حتى تتوافق مع هذه القواعد وإذا كانت نتائج هذا الإنزال لا تتناسب مع مذاهبهم فإنهم يقعون في الأدلة رداً وتحريفاً وتعطيلاً وجحوداً كل ذلك حتى لا تنخرم هذه القاعدة فيحرفون كلام رب البشر صيانة لكلام ضالة البشر, مثال ذلك أن القاعدة المتقرر عند عامة أهل الكلام أن الإتفاق في الأسماء يستلزم الاتفاق في الصفات وهي قاعدة باطلة كل البطلان نقلاً وحساً وعقلاً لكنهم قعدوها وورثوها من فلاسفة اليونان الذين لا عقل عندهم ولا نقل فلما أنزلت أدلة الصفات على هذه القاعدة وبانت نتائجها رضي بها أهل التمثيل وأباها أهل التعطيل فعطلوا فما وقع أهل التمثيل في التمثيل إلا بسبب هذه القاعدة وما وقع أهل التعطيل في التعطيل إلا بسبب هذه القاعدة وما وقع المرجئة والوعيدية في إنكار زيادة الإيمان ونقصه إلا بسبب تقعيدهم للقاعدة التي تقول:- الإيمان جزء واحد فلا يزيد ولا ينقص فخالفوا, بهذه القاعدة أدلة الوحيين وعطلوها عن مدلولاتها الصحيحة صيانة لهذه القاعدة, وما وقع الجبرية في القول بالجبر والقدرية في نفي القدر إلا بسبب تقعيدهم للقاعدة التي تقول:- كل مراد لله فهو محبوب, وهي قاعدة باطلة فلم يفرقوا بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية وغير ذلك فلأنهم قعدوا هذه القواعد المخالفة للكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة ضلوا وتاهوا في كثير من أبواب الاعتقاد, وأما أهل السنة - رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى - فإنه لما كانت كل قواعدهم مستمدة من الكتاب والسنة كانوا هم أهل الهدى والحق فاللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وثبتنا على صراطهم المستقيم إلى الممات والله أعلى وأعلم .(1/57)
السابع:- كثرة الجدال والخوض بالباطل بلا علم ولا برهان مع التعصب المعتب وحب رفع الذات ولو كان الحق في خلاف ذلك, وهذا سببه ضعف التعبد لله تعالى وعدم تجرد النفس من الهوى قال تعالى { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } وقال تعالى { وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا } وقال عليه الصلاة والسلام (( وما ضل قوم بعد هوى إلا أوتوا الجدل )) فالمجادل بلا علم ولا برهان ضال لم يرد الله به خيراً وهذه الطوائف تجادل بعد بيان الحق واتضاحه كل الوضوح ومع ذلك فلا يزالون من الحق في حيص بيص فكيف إن قيل؟ وماذا لو كان كذا؟ وهب أنه كان كذا وكذا فماذا يقال؟ وغير ذلك من الأسئلة الجدلية العقيمة التي تزيد القلوب شكاً وتطمس نور البصائر, قال تعالى { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ } فكلما ازداد هؤلاء جدلاً كلما ازدادوا ضلالاً ولذلك قال الغزالي وقد كان كبيراً من كبرائهم (أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلام)ا.هـ
الثامن:- تقديم العقول على النقول وهذا أصل من أصول فسادهم فإن النقل عندهم تابع للعقل والعقل مقدم عليه بل العقل هو الميزان والنقل هو الموزون والعقل هو المتبع والنقل هو التابع ولذلك فإنهم يعرضون النقل على العقول فما وافقها أخذوه واعتمدوه وما خالفها ردوه سنداً إن كان آحاداً وقالوا: إن الآحاد لا يقبل في مسائل الاعتقاد وردوا معناه بالتحريف تارة والتعطيل تارة وإن كان متواتراً بحجة أنه لم يتناسب مع عقولهم ألا فشاهت عقول القردة والخنازير ومن ارتضع من ثديهم والله أعلم .(1/58)
التاسع:- ضعفهم في معرفة لسان العرب وهذا أمر واضح فيهم كل الوضوح فإن الأدلة من الكتاب والسنة نزلت باللسان العربي المبين فيشترط أن يكون الناظر فيها ذا معرفة باللسان العربي فيعرف العام والخاص والمطلق والمقيد والمحكم والمتشابه والمجمل والمبين والأمر والنهي والناسخ والمنسوخ ونحو ذلك ولكن هؤلاء الطوائف معرفتهم بلسان العرب ضعيفة فإن غالبهم من الأعاجم ويعرف ذلك من تتبع تراجمهم والله أعلم .
العاشر:- الأخذ بالمرويات الضعيفة والنقول الكاذبة الموضوعة التي لا خطام لها ولا زمام ويظهر ذلك جلياً في مذاهب الرافضة فإنهم يبنون معتقداتهم على النقول الكاذبة والمرويات الباطلة التي يروونها - زوراً وبهتاناً - عن آل البيت والعجب من هؤلاء يتركون الأدلة الصحيحة المتواترة الصريحة ويعتمدون على هذه النقول الباطلة يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هي خير, وتجد هذا السبب واضحاً في كثير من الطوائف والفرق والله أعلم, فهذه بعض الأسباب وهي أهمها, فنسأل الله تعالى أن يعافينا وإخواننا من كل فتنة وبلاء والله أعلم .
فهذه بعض المقدمات المهمة التي تطلعك على ما وراءها مما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى في هذه العقيدة المباركة ولنبدأ الآن في شرح تفاصيل جمل المسائل المذكورة في متن الواسطية ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو حسبنا ونعم الوكيل فأقول :-
قال الشيخ ( بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً )
أقول : هذه الجملة التي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى فيها مسائل:-(1/59)
المسألة الأولى:- افتتح الشيخ كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز فإن البسملة ذكرت في أول كل سورة, وبفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكاتباته لعظماء الدول فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفتتح مكاتباته بالبسملة وعملاً بحديث (( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع )) وهو حديث ضعيف بكل طرقه, وجرى على ذلك غالب من نعرف أنه ألف في مسائل العلم فإنهم يفتتحون تأليفهم بالبسملة ثم يعقبونها بالحمدلة والله أعلم .
المسألة الثانية:- القول الراجح إن شاء الله تعالى أن المخاطبات قسمان إن كانت من الأمور الكتابية فالسنة فيها البدء بالبسملة لأن هذا هو الثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - ككتابه - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل عظيم الروم, كما في حديث ابن عباس عن أبي سفيان عند البخاري وكما في كتابه - صلى الله عليه وسلم - في مقادير الزكاة كما في صحيح البخاري أيضاً وغير ذلك, وإن كان من الأمور الشفاهية كالخطب والمحاضرات والندوات والكلمات الإلقائية فإن السنة فيها البدء بحمد الله, فإنه ما حفظ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه ابتدأ خطبة إلا بالحمد والشواهد من النقول على ذلك كثيرة, وهذا تفسير منه - صلى الله عليه وسلم - لحديث (( كل أمر لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع )) وفي رواية (( لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أقطع )) فإن هذا من باب التفسير النبوي وقد تقرر في القواعد أن خير ما فسرت به السنة هو السنة, فإن كان الأمر من باب المكاتبات فابدأ فيه بالبسملة وإن كان الأمر من باب الإلقاء المباشر فابدأ فيه بالحمدلة، وهذا هو الجمع وهو الراجح، وقد قيل غير ذلك ولكن ليس هو المقصود بالشرح وإنما أشرت إليك لكثرة السؤال عنه وقلة من حقق فيه والله أعلم .(1/60)
المسألة الثالثة:- القول الصحيح إن شاء الله تعالى أن الحمد والشكر بينهما علاقة وثيقة لكن أحدهما أعم من الآخر، فالحمد أعم من الشكر باعتبار أسبابه، فإن الحمد يكون ابتدائياً ويكون جزائياً، فالحمد الابتدائي هو ذكر ما للمحمود من صفات الكمال الموجبة للحمد ومدحه بها, وجزائياً في مقابلة النعمة، وأما الشكر فإن له سبباً واحداً وهو مقابلة النعمة فقط فإنك لو أتيت لأحد لم يسبق له عليك نعمة ولا فضل وقلت له:- شكرا لك، لقال: وعلى ماذا؟ لأن الشكر لا يكون في مقابلة النعمة فقط، فالحمد أعم من الشكر باعتبار أسبابه والشكر أعم من الحمد باعتبار وظائفه التي يؤدى بها، لأن الشكر يؤدى بالقلب وباللسان وبالجوارح، ونعنى بشكر الجوارح استعمال هذه النعم في طاعة المنعم، وأما الحمد فإن له وظيفتين فقط وهي القلب واللسان وأما الجوارح فلا يحمد بها، واختار هذا القول الشيخ رحمه الله تعالى, فالحمد أعم من الشكر باعتبار أسبابه والشكر أعم من الحمد باعتبار وظائفه والله أعلم .(1/61)
المسألة الرابعة:- اعلم أن الحمد المطلق لا يكون إلا لله جل وعلا وأما غيره فإن له مطلق الحمد فقط, والحمد الذاتي من خصائصه جل وعلا فلا يحمد أحد لذاته إلا هو جل وعلا وأما غيره فإنما يحمد لما له من صفات الكمال والإنعام فقط ولكن يتطرق له الذم بقدر ما فيه من صفات النقص، واعلم أنه لا يحمد على كل حال في السراء والضراء إلا الله جل وعلا وأما غيره فإنه يحمد في حال دون حال، واعلم أن الألف واللام في قول ( الحمد ) تغير استغراق جميع المحامد بكل أنواعها ومختلف صورها فكلها مستحقة لله جل وعلا وهو مالكها عز وجل فالله يحمد لذاته ويحمد لأسمائه ويحمد لصفاته ويحمد لأفعاله وأحكامه ويحمد لما له على عبيده من الإنعام والأفضال التي لا تعد ولا تحصى، وحمده جل وعلا من موجبات رضاه كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - (( إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها )) "رواه البخاري" وحمده جل وعلا من واجبات عبادته فالعبد الذي لا يحمد الله تعالى لم يقم بما أوجب الله عليه من كمال التعبد الواجب، ولذلك فقد افتتح الله كتابه بالحمد فقال { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وافتتح خلقه بالحمد فقال { الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } واختتمه بالحمد فقال { وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وافتتح إنزال كتابه بالحمد فقال { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } وجعل الحمد من لوازم عبودية خلقه له فقال { هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فالهج بحمده دائماً إن كنت تريد(1/62)
رضاه وعفوه ورحمته وجنته والله المستعان .
المسألة الخامسة:- قاعدة ( ألفاظ النصوص ينبغي التعبير بها في سياق مسائل الاعتقاد ) وذلك لأنها أسلم وأحفظ للعبد وأجمع في التعبير عن المراد من المعاني ولأنها من عند الحكيم الحميد فلا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ولأنه - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وأما ألفاظ بقية الخلق فإنه يعتريها القصور والنقص والإيرادات في غالبها، فإذا كنت حريصاً على كمال الموافقة فاحرص كل الحرص أن لا تعبر عن مسائل الاعتقاد إلا بما عبر به النصوص فإنه أسلم لك في دينك وأقطع لخصمك، وهذا هو الذي جرى عليه أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في هذه العقيدة المباركة فإنه ما تجاوز القرآن والحديث في سياق مسائل الاعتقاد إلا قليلاً، وهو في هذا القليل يذكر من العبارات ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها واستفدنا ذلك من قوله ( الحمد لله ) فإنها تربية منه رحمه الله تعالى على التعبير عن عقائد بها ورد النص، وكذلك قوله ( الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ) فإنه متوافق مع قوله تعالى { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ...(1/63)
الآية } وسيأتيك من هذا الشيء الكثير، ولذلك فإن التعبير بنفي التمثيل أفضل من التعبير بنفي التشبيه لأن الله تعالى قال { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وموافقة النص أولى، والتعبير عن المخالفين في أبواب الاعتقاد بالمحرفين خير من التعبير عنهم بأهل التأويل لأن القرآن عبر عنهم بأنهم { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } ولأن التحريف مذموم كله وأما التأويل فمنه ما هو مقبول ومنه ما هو مردود، ولأن الخصم لايستطيع أن يناقش أو يرد أو يجادل في ألفاظ الوحيين لأنه سيفتضح أمره ويتبين سرائره، ولأن ألفاظ الوحيين فيها من البركة واليسر ما تنشرح له الصدور وترتاح له القلوب وتطمئن له العقول السليمة، ما ليس في غيرها من الألفاظ، فاحرص بارك الله فيك على هذا فإنه من أنفع الأشياء في باب الاعتقاد فكلما كانت ألفاظك متوافقة مع ألفاظ الكتاب والسنة كلما كان ذلك أرسخ لك في هذه الأبواب وأبعد عن المداخلات التي تكدر صفو هذه المسائل والله يحفظنا وإياك .(1/64)
المسألة السادسة:- اعلم رحمك الله تعالى أن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - تتضمن شيئين:- الهدى، ودين الحق, والمراد بالهدى العلم النافع والمراد بدين الحق العمل الصالح، فهي إذاً مبنية على ركنين على العلم النافع والعمل الصالح، ومن المعلوم أن الدين له إطلاقات ومنها:- العمل، ومنه قوله تعالى { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } ومنه قوله تعالى { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ } أي عملكم وما تخفيه صدوركم، والعلم النافع هو العلم الذي تقوم به مصالح الناس الدينية والدنيوية ويراد به علم الكتاب والسنة وما يساعد على فهمها من العلوم، والمراد بالعمل الصالح أي العمل الذي استجمع شرطين:- الإخلاص والمتابعة، فكل عمل اختل فيه شرط من هذه الشروط فإنه لاغٍ غير مقبول، بل قد يكون وبالاً على صاحبه قال الله تعالى { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } وقال تعالى { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } وقال - صلى الله عليه وسلم - (( إنما الأعمال بالنيات ...(1/65)
الحديث )) وقال (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )) وقال (( إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فجيء به فعرفه نعمه فعرفها فقال:- ما عملت فيها، فقال:- قاتلت فيك حتى استشهدت، قال:- كذبت إنما قاتلت ليقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال:- ما علمت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت القرآن فيك فيقول:- كذبت إنما تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل ثم يؤمر به فيسحب على وجهه حتى يلقى في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فجيء به فعرفه نعمه فعرفها قال:- ما علمت فيها، فقال:- ما تركت من سبيل خير تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، فيقال:- كذبت إنما أنفقت ليقال جواد وقد قيل ثم يؤمر به فيسحب على وجهه حتى يلقى في النار )) "رواه مسلم" فتأمل بالله عليك هذا الحديث حق تأمله وانظر كيف كانت هذه الأعمال العظام وبالاً على أصحابها لما لم تصاحبها النية الصالحة، فلا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون ما أشد معالجة هذه النية وما أعظم أثرها في العمل وقال - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) وفي رواية مسلم (( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )) والأدلة على هذين الشرطين كثيرة جداً، فالعمل التعبدي لا يقبله الله تعالى إلا إذا كان خالصاً صواباً والخالص ما كان لله والصواب ما كان موافقا للسنة، وبناء عليه فاحفظ هذه القاعدة التي تقول ( الشريعة مبناها على الإخلاص والمتابعة ) وقد شرحتها في كتابي القواعد المذاعة, والله أعلم .(1/66)
المسألة السابعة:- اعلم رحمك الله تعالى أن حقيقة التوحيد هي الجمع بين النفي والإثبات، فلا تقوم حقيقة التوحيد إلا بذلك، فمن أثبت ولم ينفي فليس بموحد ومن نفى ولم يثبت فهو معطل جاحد، وأما من جمع بين النفي والإثبات فهو المؤمن الموحد وعلى ذلك قامت كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) الكلمة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، فإنها مبنية على ركنين على النفي في قولك ( لا إله ) واللام هنا هي اللام النافية الجنس بدليل بناء ما بعدها على الفتح وهي تفيد نفي جميع الآلهة والمراد نفي أحقيتها للعبادة، لأنها آلهة باطلة فكل ما عبد من دون الله فهو باطل، فالتعبد للملائكة باطل والتعبد للأنبياء باطل والتعبد للأشجار والأحجار والقبور والكهوف والمغارات كل ذلك باطل لأنه صرف العبادة لمن لا يستحق أن يعبد، وقوله ( إلا الله ) إثبات العبادة الحق لله جل وعلا فالعبادة حقه المحض جل وعلا لا يشاركه فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي صالح فهو الإله الحق وما سواه فباطل كما قال تعالى { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ } وتفاصيل ذلك ذكرناه في كتاب إتحاف أهل الألباب فارجع إليه إن شئت .(1/67)
المسألة الثامنة:- اعلم أن شهادة أن محمد رسول الله معناها طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب مانهى عنه وزجر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع وتقديم قوله على قول كل أحد وتقديم محبته على كل محبة وكثرة الصلاة والسلام عليه ابتداءً أو عند ذكر اسمه، والاعتقاد الجازم أنه أفضل الأنبياء والرسل وأنه خاتمهم وأنه لا نبي بعده وأنه صاحب المقام المحمود والحوض المورود وأنه أول من يدخل الجنة والشافع في أهلها ليدخلوها، وأنه بلغ البلاغ المبين وأتم الله به النعمة والدين وأنه ما ترك خيراً إلا دل الأمة عليه ولا شراً إلا حذرها منه، وأن ما جاء به من عند ربه جل وعلا حق وصدق كله في منطوقه ومضمونه ولوازمه وأن شريعته أحب الشرائع إلى الله تعالى وأخفها وآخرها، وأن صحابته هم خير الأمة علماً وعملاً وحقيقة الشهادة هي مجموع الإقرار القلبي المعبر عنه بالنطق اللساني، فالشهادة الصحيحة التي تترتب عليها آثارها في الآخرة هي ما استجمعت الإقرار والنطق لأن الإقرار وحده بلا نطق لا يكفي ولا يعصم الدم والمال والنطق وحده بلا إقرار هو حقيقة النفاق كما قال تعالى { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } وتكذيبهم هذا لأنهم لم تكن شهادتهم نابعة من إقرار قلبي وإنما هو نطق لساني فقط وهذا لا يغني عن صاحبه شيئا ( نعم ) نحن مأمورون أن نعمل بالظاهر فمن سمعناه يشهد هذه قبلنا منه ظاهره، وتركنا سريرته إلى الله تعالى فلنا الظاهر والله يتولى السرائر، إلا أنه في الآخرة لا تنفع هذه الشهادة اللسانية بلا إقرار قلبي والله المستعان .
المسألة التاسعة:- أحسن الأقوال في الصلاة والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم - هو ما قاله أبو العالية فإنه قال (صلاة الله على رسوله ثناءه عليه في الملأ الأعلى) .(1/68)
المسألة العاشرة:- اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في الصلاة والسلام على غيره - صلى الله عليه وسلم - والراجح من هذا الخلاف هو ما اختاره ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من المحققين رحمهم الله تعالى من أن الصلاة على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - إما أن يكون على آله وأزواجه وذريته، وإما أن يكون على غيرهم، فإن كان الأول فإنه يجوز مقروناً بالصلاة عليه ويجوز كذلك مفرداً, وأما غيرهم فلا يخلو إما أن يكون على الملائكة وأهل الطاعة عموماً الذين يدخل فيهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وغيرهم فإن ذلك جائز أيضاً، فيقال:- اللهم صل على ملائكتك وأهل طاعتك أجمعين، والحالة الثانية:- أن تكون الصلاة والسلام على شخص معين أو طائفة معينة فيجوز ذلك ما لم يتخذ ذلك شعاراً عليه أي صفة ملازمة لاسمه فإن اتخذت شعاراً عليه فيحرم ذلك لأن اتخاذها شعاراً هو من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - التي لا يجوز أن يشاركه فيها أحد من الأمة لاسيما إذا جعلها شعاراً له ومنع منها غيره ممن هو أفضل منه كما تفعله الرافضة فإنهم يجعلونها شعاراً على أفراد آل البيت ويمنعون منها سائر الصحابة وأما إذا صلى عليه أحياناً فلا بأس، قال ابن القيم بعد الكلام السابق (وبهذا التفصيل تتفق الأدلة وينكشف وجه الصواب والله الموفق)اهـ
قال الشيخ رحمه الله تعالى ( أما بعد فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة ) .
أقول:- هذه القطعة فيها عدة مسائل :-(1/69)
المسألة الأولى:- اعلم رحمك الله تعالى أن القاعدة عند أهل السنة رحمهم الله تعالى في التسمية والانتساب أنهم لا ينتسبون إلا للإسلام أو الإيمان أو ما دل عليه الدليل أو ما وقع عليه اتفاقهم ذلك لأن التسمية عند أهل السنة لها شأنها, فأهل السنة والجماعة يفارقون أهل البدع ويتميزون عنهم في أنهم ليس لهم اسم يعرفون به ولا لقب أو رمز يميزهم عن غيرهم إلا الإسلام أو الإيمان أو ما دل عليه دليل ولا ينتمون لشخص بالغاً ما بلغ ويجعلونه قدوتهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , قال الإمام مالك ( أهل السنة ليس لهم لقب يعرفون به لا جهمي ولا قدري ولا رافضي ) وقد كان السلف رحمهم الله تعالى يحذرون من التسمي بغير الإسلام ويشددون في ذلك فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ( من أقر باسم من هذه الأسماء المحدثة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ) وقال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى ( إياكم وكل اسم يسمى بغير الإسلام ) وقال مالك بن مغول رحمه الله تعالى ( إذا تسمى الرجل بغير الإسلام فألحقه بأي دين شئت ) فهذه ميزة من ميزات أهل السنة رحمهم الله تعالى لابد من الإشادة بها وبيانها وتذكير الأمة بها فإنه ما عمت البلوى في الأزمنة المتقدمة وهذه الأزمنة إلا لما اخترعت الطوائف أسماء محدثة ما أنزل الله بها من سلطان وجعلتها مناطاً للولاء والبراء فمن كان منطوياً تحت شعارنا فهو أخونا وإن كان هو في ذاته من أفجر الناس ومن أبى الانضمام لحزبنا والدخول تحت مسمانا فإنه عدو لدود لنا وإن كان هو في نفسه صالحاً لأن عقد الولاء والبراء بسبب الانطواء تحت هذه المسميات المحدثة لم يعد كما كان هو على عهد القرون المفضلة وإنما صار يتبع هذه الأسماء وبهذا يتبين لك أن السلف رحمهم الله تعالى كانوا ينظرون إلى دفع أي سبب قد يكون من شأنه تفرق الأمة وتخريبها فحذروا من الانتساب لغير الإسلام والإيمان تحذيراً بليغاً لأن من أسباب الفرقة والاختلاف(1/70)
الانطواء تحت أسماء وشعارات ما أنزل الله بها من سلطان, بل السلف كانوا يحذرون من الانتساب لأحد بعينه حتى ولو كان رجلاً من كبار الصحابة فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ( قال لي معاوية - رضي الله عنه - أنت على ملة علي - رضي الله عنه - فقلت: لا , ولا على ملة عثمان, أنا على ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) وقال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى ( وكذلك التفريق بين الأمة وامتحانها بمالم يأمر الله به ولا رسوله مثل أن يقال للرجل: أنت شكيلي أو قرفندي فإن هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأمة شكيلي ولا قرفندي والواجب على المسلم إذا سئل عن ذلك أن يقول: لا أنا شكيلي ولا قرفندي, بل أنا مسلم متبع للكتاب والسنة, والله تعالى قد سمانا في القرآن المسلمين, المؤمنين, عباد الله, فلا نعدل عن الأسماء التي سمانا الله بها إلى أسماء أحدثها قوم وسموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان)ا.هـ.(1/71)
وبهذا يعلم خطورة ما انتشر بين المسلمين في هذا العصر من أحزاب وجماعات وضعت لها أسماء وألقاب ومناهج ورسوم وطقوس تميز كل طائفة عن الأخرى وأصبح لكل طائفة دعاة وأنصار وأتباع يوالون من والى هذه الجماعة وانتسب إليها وينفرون بل ويعادون كل من عارضها ولم يدخل تحت لوائها, بل ولقد وصل الأمر ببعض هذه الأحزاب والجماعات أن توالي أعداء الله تعالى كالرافضة والخوارج والباطنية والصوفية وغيرهم من أهل البدع لانتسابهم لجماعتهم التي يعظمونها, في حين أنهم قد نصبوا العداوة لأهل السنة والجماعة لعدم انتسابهم إليهم, وإني أخشى والله العظيم إذا طال ذلك الأمر وتمادى أصحابه في هذا الغي أن يرفع بينهم السيف ويقتل بعضهم بعضاً بسبب هذه الأسماء المحدثة التي ما أنزل الله بها من سلطان, فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ونعوذ بالله ربنا من الأهواء المضلة والآراء المختلة والأفهام المعتلة ومن الفتن ما ظهر منها وما بطن .(1/72)
المسألة الثانية:- وأما أهل الضلالات والبدع فإنهم قد خالفوا أهل السنة في ذلك كعادتهم في عشق مخالفة أهل السنة في كل شيء فأهل السنة رحمهم الله تعالى عندهم التحجر في الانتساب وأما أهل البدعة فقد فتحوا هذا الباب على مصراعيه, فمن الطوائف من تنتسب إلى اسم مؤسسها كالجهمية نسبة إلى الضال الغاوي الجهم بن صفوان الترمذي, وكالأشاعرة نسبة إلى أبي الحسن الأشعري وكالماتريدية نسبة إلى أبي منصور الماتريدي وكالكلابية نسبة إلى محمد ابن سعيد بن كلاب, والزيدية نسبة إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب, وهو منهم براء, ولكنهم ينتسبون إليه ولو فتحت الكتب التي تتكلم عن الطوائف لوجدت فيها أمثلة كثيرة جداً على هذا النوع, ومن الفرق من تنتسب إلى أصل بدعتها التي خالفت فيها أو اشتهرت بها كالممثلة نسبة إلى القول بتمثيل الله بخلقه وكالقدرية نسبة إلى بدعتهم في إنكار القدر وكالمعطلة نسبة إلى القول بتعطيل صفات الله تعالى بعضاً أو كلاً, وكالجبرية نسبة إلى قولهم بأن العبد مجبور على فعله وأنه لا اختيار له فيه, وكالخوارج نسبة إلى خروجهم على الخليفة الرابع بل ولخروجهم عن جماعة المسلمين, وكالرافضة نسبة إلى رفضهم لزيد بن علي ابن الحسين بن علي رحمه الله تعالى بل ولرفضهم إمامة الخلفاء الثلاثة الأول أبي بكر وعمر وعثمان, بل ولرفضهم للسنة واقتصارهم على الأخذ بالقرآن فقط والأمثلة كثيرة, ويجمع هذه الأمثلة أن هذه الفرق الضالة قد خالفت أهل السنة رحمهم الله تعالى في الانتساب, فاحذر من ذلك أشد الحذر, ولما رأى القوم أن التسمية لها شأنها عند أهل السنة, أرادوا المخادعة وأطلقوا على أنفسهم أسماء هي في ظاهرها طيبة لكنها في باطنها تحمل أصولاً تخالف المنهج السليم والصراط المستقيم فالأشاعرة قد أطلقوا على أنفسهم مسمى السنة والجماعة, والمعتزلة أطلقوا على أنفسهم أهل التوحيد والعدل, والصوفية أطلقوا على أنفسهم أهل الزهد والتعبد(1/73)
وأرباب النسك, وبعض الطوائف أطلقوا على أنفسهم حزب الله, وبعضهم أطلق على نفسه الأخوان المسلمون, وبعضهم أطلق على نفسه جماعة التبليغ وغير ذلك من الإطلاقات التي لا نزال نسمعها بين الفينة والأخرى, ولذلك فلا عبرة بهذه الأسماء وإنما العبرة بالحقائق والأصول التي تقررها هذه الجماعات, ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية إذ بدأ هذه العقيدة بتقرير هذه القاعدة المباركة المهمة وقد عبر عنها بتعديد بعض أسماء أهل السنة رحمهم الله تعالى ليبين ذلك ولم أر من الشراح لهذه العقيدة من أشار إلى هذه القاعدة عند كلامهم على هذه الأسماء ونحن نعلم جزماً أن تكرير الشيخ لهذه الأسماء وحرصه على تعداد بعضها ليس هكذا جزافاً وإنما ليبين لك بعض هذه الأسماء المباركة التي ثبتت بها الأدلة كما سيأتي إن شاء الله تعالى, ومن هذا التعديد أخذنا هذه القاعدة, وقررناها بذكر شيء من النقول عليها والتي تبين أنها مهمة عند أهل السنة وقد شرحناها بأكثر من ذلك في كتابنا القواعد المذاعة في مذهب أهل السنة والجماعة والله ربنا أعلى وأعلم .(1/74)
المسألة الثالثة:- من الأسماء التي ذكرها أبو العباس رحمه الله تعالى ما ذكره بقوله ( الفرقة الناجية ) وهذا اللقب مأخوذ من مفهوم حديث الافتراق أعني قوله - صلى الله عليه وسلم - (( وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة )) فهذا يفيد أن كل هذه الفرق هالكة إلا فرقة واحدة هي الناجية فقط وهم أهل السنة والجماعة زادهم الله شرفاً ورفعة, قال الإمام الآجري رحمه الله تعالى : ( ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه سئل: من الناجية؟ فقال عليه الصلاة والسلام في حديث (( ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) وفي حديث قال ((السواد الأعظم)) وفي حديث قال (( واحدة في الجنة وهي الجماعة )) فهي ناجية من عذاب يوم القيامة وناجية من الشبهات المضلة والأهواء المختلة, وقد اشتهر إطلاق هذه الاسم على أهل السنة بين العام والخاص حتى إن بعض المؤلفين وضعوه في عناوين كتبهم كما فعل الإمام ابن بطة في كتابه:- ( الإبانة عن شريعة الفرق الناجية ومجانبة الفرق المذمومة ) وكما فعل الإمام ابن القيم في نونيته فإنه سماها ( الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية ) وقد وقع الإجماع بين أهل السنة على هذه التسمية وإقرارها, فهذا الاسم أعني - الفرقة الناجية - صحيح ثابت لأهل السنة أثراً ومعنىً كما وضحناه سابقاً, وقد انعقد عليه الإجماع ولله الحمد والمنة, ومن أسماؤهم أيضاً: ما ذكره الشيخ بقوله ( المنصورة ) ويقصد به الطائفة المنصورة, وقد دل على استحقاق أهل السنة لهذه التسمية قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه معاوية بن قرة عن أبيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال (( لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة )) وفي الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون )) "متفق عليه" وهذه الطائفة(1/75)
المنصورة هم أهل السنة والجماعة كما نص على ذلك الأئمة, فقد قال الإمام البخاري: هم أهل العلم, وقال أحمد: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم, وقال القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث, وقال أبو العباس: وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ...(1/76)
الحديث (( وهذا كما قد دل عليه الدليل الأثري فإنه أيضاً دل عليه الدليل النظري والحسي, فالواقع يشهد بهذا فمن عرف التاريخ عرف أن أهل السنة هم الطائفة المنصورة فما زال الله يجدد لهم عقيدتهم بأئمة يعودون بالناس إلى العقيدة الصافية كأمثال الإمام أحمد والبخاري والإمام عثمان بن سعيد الدارمي وكأمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومن بعدهم, وجميع من سار على نهجهم واقتفى أثرهم, وكأمثال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب وأبناءه وأحفاده إلى يومنا هذا وكأمثال الشيخ عبد العزيز ابن باز وابن عثيمين وغيرهم كثير جداً ويعسر حصرهم بأسمائهم, فالله تعالى ينصر هذه الطائفة بهؤلاء الأئمة الأعلام والفحول العدول الثقات الأمناء, فأهل السنة والجماعة هم الطائفة المنصورة بالسيف والسنان, والحجة والبيان فلا يتنطع مبتدع ببدعته إلا وقيض الله تعالى له من أهل السنة من يكسرها بالأثر المنقول المؤيد بالنظر والمعقول, وقد انعقد إجماع أهل السنة على التسمية بهذه التسمية والتي صارت شعاراً من شعارات الفخر لأهل السنة رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم والله أعلم, ومن أسمائهم أيضاً:- ما ذكره الشيخ بقوله ( أهل السنة والجماعة ) وهذا الاسم هو أشهر أسمائهم على الإطلاق، والذي حاول كثير من المبتدعة سلبه منهم أو الطعن في صحته ولكنه كالثور الذي يهدم الجدار على نفسه، وكالشاة التي تحفر عن السكين التي ستذبح بها، والمراد بالسنة هنا معناها العام الشامل أي يدخل فيها الإسلام كله ومن تأمل أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمر باتباع سنته عرف مطابقة هذا الاسم لأهل السنة رحمهم الله تعالى، فإنهم الفرقة الوحيدة التي عظمت السنة ورفعت قدرها واعتمدتها في كل مصادرها ومواردها وجعلت الأخذ بها من معالم عقيدتها العظيمة وفيصلاً بين المتبع والمبتدع، وهي الفرقة الوحيدة التي أخذت بأخبار الآحاد في مسائل الاعتقاد، فلم يقدموا على السنة الصحيحة(1/77)
عقلاً ولا قياساً ولا رأياً ولا قاعدةً ولا مذهباً ولا قولاً ولا أي شيء كان، فلا شك أنهم أهل السنة الحقيقيون وإن ادعا هذه التسمية الطوائف والأحزاب ولكن الواقع يكذب هذه الدعاوي العريضة التي قصد بها أصحابها المخادعة والمراوغة والتستر خلف المسميات الشرعية فقط، وأما أهل السنة رحمهم الله تعالى فقد صدقوا هذه الدعوى بالاتباع المطلق فصدقت الأفعال والأقوال واتفقت البواطن والظواهر، وأما قوله ( الجماعة ) فهذه التسمية ثابتة لهم بالنص والإجماع والاعتبار الصحيح، فعن معاوية - رضي الله عنه - في حديث الافتراق المشهور وفيه (( وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة )) يعني الأهواء (( كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله )) "حديث صحيح بطرقه" والشاهد منه قوله (( وهي الجماعة )) وعن أنس - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن أمتى ستفترق على اثنين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة )) "حديث صحيح بطرقه وشواهد" وهذه الجماعة المباركة إنما سميت بذلك لاجتماعهم وإجماعهم على الأخذ بكتاب الله تعالى وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - باطناً وظاهراً في الاعتقادات والأقوال والأعمال ونحن نؤمن بأن هذا الاسم المبارك يصدق بالمطابقة على أهل السنة والجماعة رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم, ومن أسمائهم أيضاً:- أهل الحديث والأثر وهذا باتفاقهم، ولشهرته بينهم فقد سمى بعض المؤلفين في الاعتقاد كتبهم بهذا الاسم كما فعله الإمام الصابوني رحمه الله تعالى كما هو معلوم من اسم كتابه المشهور وهذا قريب من تسميتهم بأهل السنة، وذلك لأنهم اتفقوا على الأخذ بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعلوا الأخذ به أصلاً من أصول عقيدتهم المباركة جعلنا الله وإياك من أتباعها, ومن أسمائهم أيضاً:- السلفيون(1/78)
وذلك لاتباعهم منهج السلف الصالح الذين هم الصحابة والتابعون وأتباعهم على الخير والهدى والمراد بسلف الزمان أهل القرون المفضلة المذكورون في حديث (( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )) الحديث وهو في الصحيح، والمراد بسلف الزمان أي الصحابة والتابعون وأتباع التابعين، وأما سلف الأوائل، أي هم كل من كان على مثل ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام وهذا الوصف يصدق على كل من اعتقد اعتقاداً مطابقاً لاعتقاد الصحابة التابعين فسعيد بن المسيب من سلف الزمان والاعتقاد، وسعيد بن جبير من سلف الزمان والاعتقاد، وشيخ الإسلام ابن تيمية من سلم الاعتقاد لا الزمان والشيخ محمد بن عبد الوهاب من سلف الاعتقاد لا الزمان وهكذا، رحم الله الجميع رحمة واسعة وجزاهم الله تعالى خير ما جزى عالماً عن أمته ورفع درجاتهم في الفردوس الأعلى وجمعنا بهم في الجنة إنه ولي ذلك والقادر عليه، فهذا طرف من أسمائهم المباركة والمهم تعتمد هذه القاعدة الطيبة والتي نصها يقول:- أهل السنة لا ينتسبون إلا للإسلام والإيمان أو ما دل عليه دليل أو ما وقع عليه اتفاقهم, والله أعلم .
المسألة الرابعة:- قوله رحمه الله تعالى ( والجماعة ) قد اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في المراد بالجماعة على خمسة أقوال وقد ذكرها الشاطبي في الاعتصام وهي كما يلي :(1/79)
القول الأول:- أنهم السواد الأعظم من أهل الإسلام فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق ومن خالفهم مات ميتة جاهلية سواء خالفهم في شيء من الشريعة أو في إمامهم وسلطانهم فهو مخالف للحق وممن قال بهذا أبو مسعود الأنصاري وابن مسعود رضي الله عنهما, قال الشاطبي معلقاً على ذلك ( فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدوا الأمة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون بها ومن سواهم داخلون في حكمهم لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم فكل من خرج عن جماعتهم فهم الذين شذوا وهم نهبة الشيطان ويدخل في هؤلاء جميع أهل البدع لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأمة لم يدخلوا في سوادهم بحال )ا.هـ . القول الثاني:- أنها جماعة العلماء المجتهدين فمن خرج مما عليه علماء الأمة مات ميتة جاهلية لأن جماعة الله هم العلماء جعلهم الله تعالى حجة على العالمين وهم المعنيون بقوله عليه الصلاة والسلام (( إن الله لن يجمع أمتي على ضلالة )) "حديث حسن" وذلك أن العامة عنها تأخذ دينها وإليها تفزع عند النوازل وهي تبع لها فمعنى قوله (( لن تجتمع أمتي )) أي لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة وممن قال بهذا القول عبدالله بن المبارك وإسحاق بن راهويه وجماعة من السلف وهو رأي الأصوليين(1/80)
قال الشاطبي معلقاً على ذلك ( فعلى هذا القول لا مدخل فيه لمن ليس بعالم مجتهد لأنه داخل في أهل التقليد ولا يدخل أيضاً أحد من المبتدعين لأن العالم أولاً لا يبتدع وإنما يبتدع من ادعى العلم وليس كذلك ولأن البدعة قد أخرجته عن نمط من يعتد بقوله )ا.هـ.القول الثالث:- أن الجماعة هي الصحابة على وجه الخصوص فإنهم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده, وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلاً وممن قال بهذا القول الخليفة عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى, القول الرابع:- أن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من أهل الملل إتباعهم وهم الذين ضمن الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن لا يجمعهم على ضلالة, القول الخامس:- ما اختاره الإمام الطبري من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير فأمر عليه الصلاة والسلام بلزومه ونهى عن فراق الأمة فيما اجتمعوا عليه من تقديمه عليهم, فهذه أقوال خمسة في المراد بالجماعة وأنت ترى أن هذا ليس من باب اختلاف التضاد بل هو من قبيل خلاف التنوع ولذلك فهذه الأقوال كلها حق وصدق فهذه الأقوال وإن اختلفت ألفاظها إلا أنها لا تصدق الصدق الكامل إلا على أهل السنة والجماعة رضي الله عنهم وأرضاهم فمعاني هذه الأقوال كلها تجتمع في أهل الحديث والأثر ولا يمكن أن يدخل تحت تلك الأقوال أو أحدها فرد أو جماعة من المبتدعة لأن المبتدعة هم أهل التفرق والخلاف المنافي للاجتماع والائتلاف والله أعلم .(1/81)
المسألة الخامسة:- وحتى يتبين لك سلامة المنهج الذي سار عليه أهل السنة فلابد من ذكر بعض خصائصهم الكثيرة والتي تميزوا بها عن سائر الفرق فأقول من خصائصهم:- ثباتهم على الحق وعدم تقلبهم كما هي عادة أهل الأهواء, وهذا يرجع إلى سلامة وصحة الأصول التي بنوا عليها عقيدتهم وأنها أصول ثابتة راسخة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ومن ذلك:- اتفاقهم على أمور العقيدة وعدم اختلافهم مع اختلاف الزمان والمكان وفي ذلك يقول الإمام قوام السنة الأصبهاني رحمه الله تعالى ( ومما يدل على أن أهل الحديث هم أهل الحق أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم قديمهم وحديثهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة لا يحيدون عنها ولا يميلون فيها, قولهم في ذلك واحد ونقلهم واحد لا ترى فيهم اختلافاً ولا تفرقاً في شيء ما وإن قل بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء عن قلب واحد وجرى على لسان واحد وهل على الحق دليل أبين من هذا )ا.(1/82)
هـ كلامه, ومن ذلك:- تعظيم السنة وعدم تقديم شيء عليها, ومن ذلك:- اعتقادهم أن سلفهم الصالح هم الأسلم والأعلم والأحكم, وهي قاعدة شرحناها في القواعد المذاعة في مذهب أهل السنة والجماعة, ومن ذلك:- أنهم أعلم الناس بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقواله وأفعاله, ولذلك فهم أشد الناس حباً للسنة وأحرصهم على إتباعها وأكثرهم موالاة لأهلها, ومن ذلك:- حرصهم الشديد على نشر العقيدة الصحيحة بكل ما آتاهم الله تعالى من قوة مشافهة وتأليفاً, ومن ذلك:- وسطيتهم بين فرق الأمة كوسطية الأمة بين الأمم, ولنا في ذلك رسالة مستقلة في بيان هذه الوسطية شرحاً واستدلالاً وتفريعاً, ومن ذلك:- أنهم أسلم الناس قلباً وأطهرهم باطناً وأزكاهم نفوساً وأعمقهم علماً وأشدهم تمسكاً وأقلهم تكلفاً وأقومهم ألسنة وأصفاهم مشرباً وأعظمهم حرصاً على الأمة, ومن ذلك:- تقديم النقول على العقول مع اعتقادهم الاعتقاد الكامل أنه لا يتعارض نص ثبتت صحته مع عقل ثبتت صراحته, ومن ذلك:- وضوح مذهبهم للكبار وللصغار وتوافقه مع الفطرة السليمة والعقول المستقيمة كل الموافقة فلا إغراب فيه ولا ألغاز ولا خفاء ولا لبس, ومن ذلك:- تعظيمهم للصحابة والذب عنهم, فهذه بعض الخصائص التي تميز بها أهل السنة, وهي كثيرة لكن هذا الذي يسمح به هذا المقام والله ربنا أعلى وأعلم .(1/83)
المسألة السادسة:- قوله رحمه الله تعالى ( المنصورة إلى قيام الساعة ) قد يشكل على ذلك أمر وهو أن الشيخ رحمه الله تعالى قد ذكر أن الفرقة الناجية منصور إلى قيام الساعة من أنه ورد في بعض الأحاديث أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق كما في قوله (( ويبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة )) فكيف نجمع بين هذا وبين قول الشيخ؟ فأقول:- لا إشكال في هذا ولله الحمد والمنة وإذا علمت أن المراد بقيام الساعة المذكورة في كلام الشيخ إنما هو الريح التي يرسلها الله تعالى على الناس قبيل قيام الساعة الكبرى فتدخل تحت آباط المؤمنين فتقبض أرواحهم فلا يبقى بعد هذه الريح إلا شرار الخلق فالريح هذه هي نهاية مطاف هذه الطائفة الكريمة زادها الله تعالى شرفاً ورفعة وهي - أي الريح - المرادة بقوله - صلى الله عليه وسلم - ((حتى يأتي أمر الله)) فأمر الله المذكور في هذا الحديث هو هذه الريح, فيكون المراد بقول الشيخ ( إلى قيام الساعة ) أي ساعة هذه الطائفة أي موتهم وقد أخبرت الأدلة أن موتهم يكون عند هبوب هذه الريح الطيبة وأما الساعة الكبرى فإنها تقوم بعد موت هذه الطائفة ومن المعلوم أن من مات فقد حلت ساعته وقامت قيامته فلا إشكال في كلام الشيخ رفع الله درجته وأجزل له الأجر والمثوبة وأعلا قدره في الدنيا والآخرة والله تعالى أعلى وأعلم .(1/84)
المسألة السابعة:- قوله ( فهذا اعتقاد ) يغلب على الظن أن الشيخ ابتدأ هذه العقيدة بهذه المقدمة وبناء عليه فإن الإشارة إلى قوله ( فهذا ) تعود إلى المعهود في الذهن والموجود بالقوة والذي سيتحقق وجوده بالفعل وقوله ( اعتقاد ) مأخوذ من العقد وهو الشد والربط وعند أهل العلم:- هو حكم الذهن الجازم يقال اعتقدت كذا أي جزمت به في قلبي فإن كان ما جزمت به مطابقاً للواقع فهو الاعتقاد الصحيح وإن كان ما جزمت به مخالفاً للواقع فهو الاعتقاد الفاسد فاعتقادنا أن لله تعالى أسماء حسنى وصفات عليا لا يماثلها شيء من أسماء وصفات المحدثات اعتقاد صحيح لأنه مطابق للواقع واعتقاد أن العبد مجبور على فعله وأنه لا قدرة له ولا اختيار اعتقاد فاسد لأنه مخالف للواقع وهكذا والله ربنا أعلى وأعلم .
المسألة الثامنة: وبما أننا نتكلم عن عقيدة سلفنا الصالح فهذه جمل من العقائد التي اتفقوا عليها نذكرها في بداية الشرح لتكون كالتاج له فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون :-
أجمعوا على أن العبادة حق صرف لله تعالى لا يصرف شيء منها لملك مقرب ولا لنبي مرسل ولا لولي صالح فضلاً عن الشجر والحجر ونحوها .
وأجمعوا على أن من صرف شيئاً من أنواع التعبد لغير الله تعالى فإنه قد أشرك الشرك الأكبر المخرج من الملة .
وأجمعوا على جواز التوسل بصفات الله تعالى .
وأجمعوا على جواز التوسل بالأسماء له جل وعلا .
وأجمعوا على جواز الاستعاذة بالصفة .
وأجمعوا على أن دعاء الصفة كفر أكبر مخرج عن الملة .
وأجمعوا على أن الأصل في باب العبادات الحظر والتوقيف على الدليل .
وأجمعوا على أن من دعا غير الله تعالى أو استعان أو استعاذ بغيره فيما لا يقدر عليه إلا هو جل وعلا فقد وقع في الشرك الأكبر نعوذ بالله من ذلك .
وأجمعوا على أن الشرك الأكبر لايدخل في الآخرة في حيز المغفرة إن مات صاحبه مصراً عليه.(1/85)
وأجمعوا على أن دعاء الأموات والاستغاثة بهم واتخاذهم وسائط في كشف الملمات وإغاثة اللهفات شرك أكبر .
وأجمعوا على أن السحر المشتمل على عبادة الشياطين بدعائهم والذبح لهم والاستغاثة بهم من الشرك الأكبر .
وأجمعوا على أن السحر له حقيقة فمنه ما يقتل ومنه ما يمرض ونحو ذلك .
وأجمعوا على أن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - عامة للثقلين الإنس والجن كافة .
وأجمعوا على أن الدين مبني على ركنين أن لا يعبد إلا الله وأن لا يعبد إلا بما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وأجمعوا على أن التبرك ذاتاً وزماناً ومكاناً مبناه على التوفيق على الدليل الشرعي الصحيح الصريح .
وأجمعوا على أن التوسل مبني على التوقيف أيضاً .
وأجمعوا على أن بركة المساجد الثلاثة وبركة المسلم معنوية لازمة لا ذاتية متنقلة .
وأجمعوا على أن الطواف بالقبور بدعة منكرة وموبقة عظيمة .
وأجمعوا على أن الحلف لا يجوز إلا باسم من أسماء الله أو صفة من صفاته، وهذا الإجماع في الجملة وإلا ففي بعض تفاصيله خلاف .
وأجمعوا على أن النذر للقبور والأشجار والأحجار من الشرك .
وأجمعوا على تحريم التمائم الشركية .
وأجمعوا على تحريم الإتيان للكهنة والسحرة والمنجمين والمشعوذين والعرافين .
وأجمعوا على أنه لا يعلم الغيب إلا الله تعالى .
وأجمعوا على تحريم قول ( ما شاء الله وشئت ) .
وأجمعوا على تحريم التعبيد لغير اسم الله تعالى ولا عبرة بقول ابن حزم:- حاشا عبد المطلب فإنه مسبوق بالإجماع .
وأجمعوا على الإيمان بنعيم القبر وعذابه وسؤاله .
وأجمعوا على إثبات البعث والنشور والجزاء والحساب .
وأجمعوا على الإيمان بالميزان وتطاير الصحف والصراط وأن ذلك كله حق على حقيقته لا يجوز تحريفه ولا الخروج به عن معانيه الصحيحة .
وأجمعوا على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن لا تفنيان أبداً ولا تبيدان .
وأجمعوا على الإيمان بالحوض وبما ورد له في الأدلة الصحيحة من الصفات .(1/86)
وأجمعوا على بطلان الشفاعة التي يظنها المشركون في معبوداتهم .
وأجمعوا على إثبات ما ثبت به النص من أمر الشفاعات في الآخرة .
وأجمعوا على أن من اعتقد أن هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هديه أنه كافر الكفر الأكبر المخرج عن الملة .
وأجمعوا على أن من اعتقد أن في وسعه أو أن أحداً في وسعه الخروج عن شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه يكفر الكفر الأكبر .
وأجمعوا على أن من استهزأ بشيء مما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسخر به أنه يكفر الكفر الأكبر بهذه السخرية وهذا الاستهزاء .
وأجمعوا على أن من أعرض الإعراض المطلق عن الشريعة فلا يتعلمها ولا يعمل بها أنه كافر الكفر الأكبر .
وأجمعوا على تحريم الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وأجمعوا على أن التكفير العام لا يستلزم تكفير المعين إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع .
وأجمعوا على أن مجرد الإقرار بتوحيد الربوبية لا يكفي للحكم بالدخول في الإسلام .
وأجمعوا على أن مرتكب الكبيرة ناقص الإيمان لكن لا يخرجونه من مطلق الإيمان، وأجمعوا على أنه إن مات مصراً عليها فإنه تحت المشيئة يوم القيامة .
وأجمعوا على تحريم التطير بمرئي أو مسموع أو زمان أو مكان وأنه شرك أصغر إذا اعتقد سببيته للبلاء وأما إذا اعتقد أنه الفاعل بذاته فهو شرك أكبر باتفاقهم .
وأجمعوا على أنه لا نسخ في أخبار القرآن وصحيح السنة .
وأجمعوا على أن أزواجه - صلى الله عليه وسلم - هن أمهات المؤمنين وأنهن أزواجه في الجنة .
وأجمعوا على أنه لا خلف في أخبار القرآن فكل من أثنى الله عليه خيراً في القرآن فإنه قد مات على ذلك .
وأجمعوا على تحريم سب الدهر .
وأجمعوا على أن هذه النجوم خلقها الله لثلاث، زينة للسماء ورجوماً للشياطين وعلامات يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، وأجمعوا على أن من تأول فيها غير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه .(1/87)
وأجمعوا على تحريم قول ( لو ) إذا كان من باب التسخط على القدر النازل أو كان من باب تمني المعصية .
وأجمعوا على تحريم الرياء .
وأجمعوا على أن الأعمال العبادية لا تقبل إلا بالإخلاص والمتابعة .
وأجمعوا على أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدم على قول كل أحد .
وأجمعوا على منع الإقسام على الله تعالى إذا كان من باب تحجر الواسع .
وأجمعوا على منع الغلو في سائر أبواب الشريعة، اعتقاداً أو عملاً .
وأجمعوا على أن الموت قضية عامة لكل ذي روح .
وأجمعوا على إثبات وجود الجن .
وأجمعوا على أن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بمعنى طلب الدعاء به قد انتهى بوفاته - صلى الله عليه وسلم - .
وأجمعوا على أن كل حديث يروى في زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - أو قبر صاحبيه على وجه الخصوص أنه مما لا تقوم به الحجة .
وأجمعوا على أن بلوغ النص شرط في قيام الحجة .
وأجمعوا على أن مطلق الفهم شرط في قيام الحجة .
وأجمعوا على أن الفهم المطلق ليس بشرط في قيام الحجة .
وأجمعوا على أن من اعتقد أن أحداً غير الله تعالى له نوع تصريف في الكون من تسيير الكواكب وإجراء السحاب وإنزال المطر ونحو ذلك فإنه مشرك الشرك الأكبر والعياذ بالله تعالى .
وأجمعوا على منع الاستشفاع بالله تعالى على أحد من خلقه .
وأجمعوا على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا قول الشارع .
وأجمعوا على وجوب التوبة من كل ذنب .
وأجمعوا على إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات في كتابه أو أثبته له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل وأن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .
وأجمعوا على قبول خبر الواحد في العقيدة إذا صح سنده .
وأجمعوا على أنه لا يتعارض نص صحيح مع عقل صريح .
وأجمعوا على الأخذ بأدلة الكتاب والسنة واعتمادها باطناً وظاهراً في الاعتقادات والأقوال والأعمال على فهم السلف الصالح .(1/88)
وأجمعوا على أن الأدلة حق كلها وعدل كلها في أخبارها و أحكامها ومنطوقها ومفهومها ولوازمها .
وأجمعوا أن باب الأسماء والصفات توقيفي على النص .
وأجمعوا على أن الصفات تعلم من جهة معناها فقط وأما كيفيتها فإنه لا يعلمها إلا الله تعالى .
وأجمعوا على أن أسماء الله تعالى مترادفة من حيث الذات ومتباينة من حيث الصفات .
وأجمعوا على أن أسماء الله تعالى أعلام ونعوت، فهي أعلام باعتبار دلالتها الإسمية ونعوت باعتبار دلالتها على الوصفية .
وأجمعوا على أن الاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في المسمى .
وأجمعوا على أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات وأن الكلام في الصفات كالكلام في بعضها .
وأجمعوا على الإيمان بأن الله تعالى له العلو المطلق في ذاته وصفاته وقهره وسلطانه .
وأجمعوا على أن الله يعلم ما كان وما يكون وما سيكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون وأنه لا يخفى على علمه شيء في الأرض ولا في السماء وأن علمه من صفات ذاته جل وعلا لم يسبق بجهل ولا يلحقه جهل .
وأجمعوا على أنه سبحانه على عرشه استوى استواء يليق بجلاله وعظمته .
وأجمعوا على أنه سبحانه ينزل كل ليلة في الثلث الأخير ويقول ما ورد به النص المتواتر .
وأجمعوا على إثبات صفة الوجه واليدين والأصابع والحياة والسمع والبصر والمعية والكف والقدم والساق والعين والمحبة والرحمة والرضا والغضب والكره كل ذلك حق على حقيقته على ما يليق بجلالة وعظمته جل وعلا، وأجمعوا على أننا لا ندخل في هذا الباب متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا .
وأجمعوا على إثبات صفة الكلام له جل وعلا وأنه قديم النوع حادث الآحاد .
وأجمعوا على أن كلامه جل وعلا بحرفٍ وصوتٍ يسمعه من يشاء .
وأجمعوا على أن المكاشفات والرؤى والمرويات التي لا أصل لها أو الضعيفة لا مدخل لها في إثبات شيء من الأحكام الشرعية .(1/89)
وأجمعوا على أنه جل وعلا لا يرى في الدنيا بعيني اليقظة، وإنما اختلفوا في النبي - صلى الله عليه وسلم - هل رآه ليلة أسري به؟ على قولين والصحيح أنه لم يره, وبحث الخلاف مذكور في موضع آخر .
وأجمعوا على أن الله تعالى يرى يوم القيامة رؤية عيان حقيقية كما يريده جل وعلا، فيرى في عرصات يوم القيامة ويرى بعد دخول الجنة، وأجمعوا على أن رؤيته جل وعلا لا تستلزم الإحاطة، فكما أنه لا يحاط به علماً كذلك لا يحاط به رؤية .
وأجمعوا على أن الإيمان اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح والأركان .
وأجمعوا على أنه يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان .
وأجمعوا على أن أركانه ستة وهي الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره .
وأجمعوا على أن الملائكة أجسام نورانية خلقهم الله تعالى على صفات هائلة عظيمة للقيام بأمور مخصوصة .
وأجمعوا على أن جاحدهم كافر الكفر الأكبر والعياذ بالله تعالى .
وأجمعوا على مراتب الإيمان بالقدر أربع مراتب:- العلم الشامل والكتابة العامة، والمشيئة النافذة وعموم الخلق لكل شيء .
وأجمعوا على أن فعل العبد مخلوق، لكنه كسب للعبد، ففعل العبد ينسب إلى الله تعالى خلقاً وإيجاداً وينسب إلى المخلوق تحصيلاً واكتساباً .
وأجمعوا على أن من أنكر علم الله السابق للأشياء فإنه يكفر .
وأجمعوا على أن من قصر علم الله تعالى على الكليات فقط ونفى علمه بالجزئيات فإنه كفر .
وأجمعوا على أن الروح مخلوقة مدبرة مربوبة .
وأجمعوا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء فلا نبي بعده .
وأجمعوا على أن النبوة مبناها على الاصطفاء والاختيار لا على الكسب كما يقوله الفلاسفة الأغبياء البله .
وأجمعوا على أن من ادعى النبوة فإنه كافر .
وأجمعوا على أن من ادعى أن أحداً من الأولياء أفضل من أحد من الأنبياء أو أن مقام الولاية أعلا وأشرف من مقام النبوة فإنه يكفر الكفر الأكبر .(1/90)
وأجمعوا على الترضي على سائر أصحابه - صلى الله عليه وسلم - .
وأجمعوا على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر واستقرت كلمة المتأخرين من أهل السنة على التثليث بعثمان والتربيع بعلي رضي الله عنهم أجمعين
وأجمعوا على أن ترتيبهم في الخلافة كترتيبهم في الفضل
وأجمعوا على أن الأدب الواجب فيما حصل بينهم من الخلاف هو الصمت عنه مع اعتقاد أنهم فيه مأجورين فالمصيب له أجران والمخطيء له أجر واحد .
وأجمعوا على وجوب طاعة الأئمة في غير معصية الله تعالى .
وأجمعوا على تحريم الخروج عليهم إلا أن نرى كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان مع غلبة الظن بالغلبة دون مفسدة أعظم من المصلحة المرجوة .
وأجمعوا على أنه لا يقطع لأحد بجنة ولا نار إلا من شهد له النص بذلك .
وأجمعوا على وجوب الصبر على المصائب .
وأجمعوا على تحريم بناء المساجد على القبور .
وأجمعوا على تحريم الدفن في المساجد .
وأجمعوا على أن الوصية بذلك باطلة .
وأجمعوا على بدعة تقبيل أي جزء من أجزاء الأرض إلا الركن الأسود فقط وتقبيله من باب الاستنان لا طلباً للبركة فإنه حجر لا يضر ولا ينفع .
وأجمعوا على أنه لا يشرع الطواف بأي جزء من أجزاء الأرض إلا بالبيت العتيق فقط
وأجمعوا على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه وأن الرد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الرد إليه في حياته والرد إلى سنته بعد وفاته .
وأجمع الصحابة والتابعون على أن شد الرحال إلى بقعة بقصد تعظيمها بدعة منكرة فلا يجوز شد الرحال لبقعة بقصد التعبد فيها إلا للمساجد الثلاثة فقط, وهذا باتفاقهم .
وأجمعوا على أن زيارة قبور الأنبياء والصالحين لأجل طلب الحاجات منهم أو دعائهم والإقسام بهم على الله تعالى أو ظن أن الدعاء أو الصلاة عند قبورهم أفضل منه في المساجد والبيوت أن هذا ضلال مبين وشرك وبدعة كما قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى (باتفاق أئمة المسلمين)ا.هـ.(1/91)
وأجمعوا على أن من اتهم عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه أنه كافر لتكذيبه لخبر الله تعالى .
وأجمعوا على أن من كفر الصحابة أو سبهم على وجه العموم فهو الكافر المرتد لعنه الله وأبعده وأقصاه .
وأجمعوا على أن كل صفة نفاها الله تعالى عن نفسه في كتابه أو نفاها عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته فالواجب نفيها واعتقاد أنه جل وعلا متصف بكمال ضدها .
وأجمعوا على الإيمان بمعجزات الأنبياء وبما صح وثبت من كرامات الأولياء .
وأجمعوا على أن من قال: ليس فوق العرش إله يعبد ولا رب يصلى له ويسجد أنه كافر الكفر الأكبر نعوذ بالله من هذه المقالة وأنه يجب استتابته فإن تاب وإلا قتل .
وذكر ابن القيم في النونية أنه قد اتفقت كلمة خمسمائة عالم على تكفير الجهمية أتباع الجهم ابن صفوان بل وصرح بعض المتأخرين بالإجماع على تكفيرهم وأنهم ليسوا من طوائف الملة أصلاً .
وأجمعوا على أن زيارة القبور الشرعية هي ما كانت بقصد التذكر والاعتبار أو للدعاء للميت أو بقصد اتباع السنة وما عدا ذلك فمن الزيارات البدعية .
وأجمعوا على أن الله تعالى له الكمال المطلق المتناهي من كل الوجوه في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله جل وعلا .
وأجمعوا على أن كل أفعاله وتشريعاته وأقداره جل وعلا لها الحكم العظيمة والمصالح النبيلة والغايات المحمودة، وأنه لا يفعل ولا يشرع ولا يقدر عبثاً جل وعلا .
وأجمعوا على أن ذات الله تعالى لا تماثل الذوات وكذالك صفاته أيضاً، وأجمعوا على أنها لا تماثل الصفات .
وأجمعوا على إثبات النار وعذابها والجنة ونعيمها، وأجمعوا أيضاً على أن عذاب النار ونعيم الجنة وإن اتفق مع أسماء عذاب ونعيم الدنيا في الاسم فإنه يختلف عنه في الكيفية والحقيقة فليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء .
وأجمعوا على تقسيم الإرادة إلى كونية وشرعية .
وأجمعوا على وجوب بيان الحق وكشف شبه الزائفين عن منهج الرسل والأئمة .(1/92)
وأجمعوا على أنه جل وعلا يسمى بالخالق قبل خلقه للخلق وأنه التواب قبل وجود الذنب وحصول التوبة من أحد فليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق ولا بإحداث البرية استفاد اسم الباري، بل له الأسماء الحسنى والصفات العليا الثابتة في الكتاب والسنة قبل وجود مقتضياتها فهو الرحمن الرحيم قبل وجود المرحوم وهو الله قبل وجود العباد وهو التواب قبل وجود المتوب عليه وهو الغفور قبل وجود ما يغفر وهو القاهر القهار قبل وجود المقهور وهكذا في سائر أسمائه وصفاته, فانتبه لهذا فإنه مهم جداً .
وأجمعوا على أن من صفاته جل وعلا ما هو ذاتي ومنها ما هو فعلي .
وأجمعوا على أن الجن مكلفون، وإنما وقع الخلاف في بعض أنواع التكليف فقط، وأما أصل تكليفهم فإنه قد وقع عليه الاتفاق .
وأجمعوا على أن كافر الجن يدخل النار, واختلفوا في المؤمن منهم والحق أنه يدخل الجنة وينعم بما ينعم به الإنس فيها وهو قول الأكثر .
وأجمعوا على أن أطفال المؤمنين مع آبائهم في الجنة .
وأجمعوا على أن الملائكة مجبولون على طاعة الله لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وأجمعوا على إثبات ما ثبت به من أسمائهم وصفاتهم وأعمالهم وأنهم أعداد غفيرة لا يحصيهم إلا الله تعالى فما يعلم جنوده من الملائكة إلا هو جل وعلا .
وأجمعوا على أن من أنكر ما أخبرت به الأدلة مما سيكون في اليوم الآخر أنه كافر مرتد .
وأجمعوا على أن التحريف والتعطيل والإلحاد في أسماء الله وآياته وصفاته حرام وقد يصل بصاحبه في كثير من صوره إلى الكفر الأكبر .
وأجمعوا على أن الله تعالى ينشئ للجنة خلقاً آخر فيدخلهم فيما بقي منها بعد دخول أهلها وأما النار فأجمعوا على أنه يضع عليها رجله فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قطٌ قط .
وأجمعوا على أن الموت يذبح بين الجنة والنار، إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار .
وأجمعوا على الأمة لا تجتمع على ضلالة أبداً .(1/93)
وذكر الشيخ تقي الدين في الفتاوى أن الجنة التي دخلها آدم هي جنة الخلد باتفاق الأئمة, وأن من قال بأنه جنة في الأرض فإنما هو قول تلقاه عن أهل البدع .ا.هـ.
وأجمعوا على وجوب النصيحة لله ولكتابه ولرسوله وللأئمة المسلمين وعامتهم, فهذه نبذ من مسائل الإجماع أسوقها إليك مختصرة ليتم النفع من هذا الشرح الذي أسأل الله تعالى أن ينفع به النفع العام والخاص والعاجل والآجل وأن ينزل فيه البركة تلو البركة إنه ولي ذلك والقادر عليه وأستغفر الله وأتوب إليه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
قال الشيخ رحمه الله تعالى ( وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره )
أقول:- هذه العبارة اليسيرة عبارة دسمة جداً ويدخل تحتها عدد كثير من المسائل ولكن بما أن الشيخ رحمه الله تعالى سيتطرق إلى بعض تفاصيلها في ثنايا كلامه فسوف نؤخر الكلام عن بعضها إلى الكلام عليه في حينه إن شاء الله تعالى، وبناء عليه فيكون الكلام على هذه الجملة المذكورة من المتن في مسائل :-(1/94)
المسألة الأولى:- الأشياء التي ذكرها أبو العباس هنا هي التي يسميها أهل العلم بأركان الإيمان وبعضهم يسميها بأصول الاعتقاد، وقد ذكرها الله تعالى في قوله تعالى { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ... الآية } وقال تعالى { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } وقال تعالى { وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا } وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:- كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً بارزا للناس فأتاه جبريل فقال ما الإيمان؟ قال (( أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث ... الحديث )) وفي حديث عمر المشهور عند الإمام مسلم في سؤال جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام والإيمان والإحسان، وفيه:- فقال:- أخبرني عن الإيمان، فقال (( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره )) قال: صدقت... الحديث . وقد انعقدت كلمة أهل السنة والجماعة قاطبة على أن هذه المذكورات هي أركان الإيمان وأصوله ودعائمه وأنه لا يصح إيمان أحد إلا بتحقيقها, وابتدأ الشيخ بها مجملة هو من باب الإجمال الذي يعقبه التفصيل وهذا أحسن ما يكون في التدريس والشرح والتفهيم .(1/95)
المسألة الثانية:- قوله ( وهو ) أي اعتقاد أهل السنة, قوله ( الإيمان ) عرف كثير من أهل اللغة الإيمان بأنه مجرد التصديق, وهذا فيه قصور, بل الصحيح أن الإيمان يفيد معنى زائداً فوق مرتبة التصديق فهو تصديق وإقرار, والمراد بالإقرار أي الاعتراف المستلزم للقبول للإخبار والإذعان والتسليم للأحكام, هذا هو الإيمان, وبناء عليه فالصواب في تعريف الإيمان أن يقال:- هو التصديق والإقرار المستلزم لمقتضياته, فالإيمان بالله تعالى وبملائكته وبكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر لا يكفي فيه التصديق فقط بل لابد مع التصديق بذلك أن يترقى العبد منه إلى مرتبة الإقرار الذي يوجب النطق باللسان والعمل بالجوارح والأركان, وبناء عليه فالإيمان المطلوب شرعاً هو التصديق بالجنان والقول باللسان والعمل بالجوارح والأركان, فلا يكفي أن تصدق بوجود الله فقط بل لابد مع هذا التصديق أن تقر بلسانك وتعمل بما يقتضيه الإيمان بالله تعالى ولا يكفي أن تصدق بالملائكة فقط, بل لابد أن تقر بلسانك وتعمل بما يقتضيه الإيمان بالملائكة, ولا يكفي أن تصدق بالرسل والكتب فقط بل لابد أن تقر بلسانك وتعمل بما يقتضيه الإيمان بالرسل والكتب, ولا يكفي أن تصدق باليوم والآخر فقط بل لابد مع التصديق به أن تقر بلسانك وتعمل بما يقتضيه ذلك وهكذا يقال في القدر, فالإيمان الصادق هو ما اجتمع فيه الإقرار الباطني والنطق اللساني والعمل بالجوارح والأركان فليس من آمن بوجود الله مؤمناً حتى يقر ويعمل, وهذه مسألة مهمة وهي التي أنبنى عليها خلاف أهل القبلة في مسألة حقيقة الإيمان كما سيأتي تفصيل ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى .
المسألة الثالثة:- قوله ( الإيمان بالله ) هذا أول ركن من أركان الإيمان, واعلم أنه لا يتحقق الإيمان بالله تعالى إلا بالإيمان بأربعة أمور:-(1/96)
أولها:- أن تؤمن بوجوده جل وعلا, فلابد أن تعتقد الاعتقاد الجازم القطعي الذي لا يشوبه أي شائبة شك أو ريب أنه جل وعلا موجود, وقد دل على وجوده النقل والعقل والفطرة والحس والإجماع, فأما الدليل النقلي فلأن ما جاءت به الرسل من شرائع الله تعالى المتضمنة لجميع ما يصلح الخلق يدل على أنه الذي أرسل بها رب حكيم رحيم فإن من نظر في أدلة القرآن والسنة بعين العدل والإنصاف علم علم اليقين أنها من عند الحميد المجيد العالم بمصالح عباده والهادي لهم لأقوم السبل, وأنه الحي الحياة الكاملة والقيوم القيومية المطلقة, فإن هذا القرآن الذي هو من كلامه جل وعلا لو اجتمع من بأقطار السموات والأرض على أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله لما استطاعوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً فمن الذي أنزله؟ ومن الذي تكلم به؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو, ولو نظرت نظرة يسيرة في آيات إعجازه في الكون والنفس والسماء والأرض وغيرها ورأيت أن العلماء لا يزالون بآلاتهم ومخترعاتهم الحديثة الدقيقة يعجزون عن معرفة كثير من الأشياء التي نظمها القرآن أبدع نظام وأحكمها غاية الإحكام لعرفت أنه من عند الله جل وعلا, وأنك بعد ذلك لا تملك إلا أن تقول: { أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } لا والله الذي لا إله إلا هو ليس في الله شك ولا أدنى أدنى أدنى من طرفة عين بل هو الإله الحق وما سواه فباطل, فالنظر في القرآن كافٍ للعبد في الدلالة على وجود منزله والمتكلم به جل وعلا وتقدس وتبارك اسمه وتعالت عظمته وكبريائه, ولو نظرت نظرة يسيرة إلى شيء من علل الأحكام الشرعية وغايتها والمصالح المترتبة عليها لعلمت علم اليقين أنها مما لا يستطيعه مخلوق وإنما هو الله تعالى الحكيم العليم بما يصلح عباده, ولو نظرت إلى أخبار الغيب في القرآن وكيف قد وقع كثير منها على ما أخبر القرآن به بلا زيادة ولا نقص لعلمت أنه من عند الذي يعلم الغيب جل(1/97)
وعلا, ولا ينكر ذلك إلا معاند قد ظهر عناده, نعوذ بالله من العناد ومن تخبط الشيطان لعقولنا وأفهامنا, وأما الدليل العقلي على وجود الله تعالى فبيانه أن يقال:- إن كل ذي عقل سليم من الآفات التي تدخل على العقول يقر بوجوده جل وعلا من غير سبق تعليم ولا تفهيم لأن وجود الله من الأشياء الضرورية على العقول والنفوس وذلك لأن من نظر إلى هذا العالم علويه وسفليه وما فيه من الكواكب والأجرام والسحاب والجبال والأشجار والناس وغير ذلك مما هو موجود فيه علم جزما ً - إن كان ذا عقل سليم - أن الأشياء إنما وجدت بعد أن كانت عدماً, وأن الذي أوجدها هو الله الأحد الصمد الحي الذي لا يموت ذلك لأنها لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها لأنها قبل وجودها كانت عدماً والعدم لا يوجد نفسه, لأن العدم ليس بشيء وما ليس بشيء فإنه لا يخلق شيئاً, فالعدم لا يصلح أن يخلق نفسه, وكذلك لا يمكن أن توجد هكذا صدفة من غير خالق أوجدها فإن هذا تأباه العقول السليمة والأفهام المستقيمة, فإنك لو رأيت في البرية قصراً جميلاً عالياً له أبواب وشرف ونوافذ ساحرة, وقد بني على طراز لم تعهد مثله وقيل لك إنه لم يكن موجوداً بالأمس وقد وجد اليوم هكذا من غير بان بناه ولا عملت فيه يد أبداً فهل بالله عليك ستصدق هذا؟ بالطبع لا, لأن هذا القصر لا يمكن أن يوجد صدفة لأنه شيء حادث والمتقرر في العقول السليمة أن كل حادث لابد له من محدث كما أن كل مفعول لابد له من فاعل , ولو أنك جلست على ضفة نهر كبير وجاءك رجل وقال لك:- لقد كنت على ضفة ذلك النهر في يوم من الأيام فرأيت أشجاراً قد قطعت نفسها بنفسها ثم رمت بنفسها في هذا النهر ثم تراكب بعضها على بعض حتى صارت سفينة عظيمة وصارت تحمل المتاع من هذه الضفة وتنزله في الضفة الأخرى كل ذلك بلا صانع صنعها ولا ربان يقودها, لو سمعته يقول ذلك فبالله عليك هل ستتوقف لحظة واحدة عن اتهام عقله بآفة, إما جنون أو سكر ونحو ذلك, لأنه يمتنع أن(1/98)
تكون السفينة قد صنعت نفسها بنفسها ويمتنع أن تتحرك هذا التحرك الدقيق بلا قائد يقودها ولا ربان يسوقها, فإذا كان العقل يمنع ذلك في قصر أو سفينة فكيف بالله عليك بهذه السماوات العظيمة ذات المساحات والأرجاء الواسعة الهائلة وكيف بهذه الكواكب والمجرات الكبيرة التي تحتوي على نجوم يعجز عنها العد وكيف بهذه الشمس الكبيرة العظيمة من حيث خلقت وهي تطلع من المشرق وتغرب في المغرب في أوقات دقيقة محسوبة وكيف بهذا القمر الذي يبدو كالخيط لا يكاد يرى ثم لا يلبث بعد أيام حتى يكون بدراً يسرق أنظار الشعراء ثم يعود على حالته الأولى, وكيف بهذا السحاب المسخر بين السماء والأرض بموازين دقيقة وتسيره الرياح بحركة منتظمة, وكيف بهذه الأرض الكروية التي تحفظ ما عليها من الخلق على كبرها وضخامتها وهي معلقة تسبح في هذا الكون الفسيح لا تصطدم مع شيء من الكواكب والنجوم التي قد ملئت هذا الكون, ولا يمكن أبداً أن تخرج عن فلكها إلى فلك آخر, وكيف بهذه الجبال الكبيرة العظيمة الهائلة التي لا يكون الإنسان عندها إلا كحجر من أحجارها, كل له نظام بديع لا يتقدم عنه ولا يتأخر, وليس عمر الكون يوماً ولا يومين ولا سنة ولا سنتين, بل الكون أزمنة متطاولة لا يعلم عددها على التفصيل إلا من خلقه ودبره وأحكمه, فإذا لم يستطع العقل أن يتصور أن سفينة واحدة وقصراً واحداً يوجد بلا موجد ويحدث بلا محدث, أيتصور العقل أن هذا الكون كله يوجد بلا موجد ويحدث بلا محدث وإنما هو الذي أوجد نفسه أو وجد هكذا صدفة؟ لا والله العظيم هذا ما لا يتصوره العقل أبداً, بل مجرد التفكير في تصوره يتعب العقل, فالكون لم يوجد نفسه ولم يوجد صدفة من غير شيء بل له موجد أوجده وخالق أبدعه وأحكمه وأتقنه, وهو الله تعالى, فتبارك الله أحسن الخالقين سبحانه خالق كل شيء لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه, سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين(1/99)
واقرأ إن شئت { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } وفي الصحيح أن جبير بن مطعم سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في صلاة المغرب وكاد قلبه يطير عندما سمع هذه الآية وذلك أول ما وقر الإسلام في قبله, فالله تعالى هنا ذكر شيئين وسكت عن الثالث فقوله { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ } أي من غير خالق خلقهم أي وجدوا هكذا صدفة, وقد قدمنا أن هذا باطل, ثم قال { أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } أي هم الذين أوجدوا أنفسهم وخلقوها وقد قدمنا أيضاً أن هذا باطل, فالأول باطل والثاني باطل, فأين الثالث؟ أقول:- قد سكت عنه لأن من بطلت عنده هاتان المقدمتان تقرر في قلبه أن هناك خالقاً خلقهم ولا يصلح أن يكون هذا الخالق إلا الله تعالى, وأما الدليل الفطري, فلا والله لا ندري كيف نتكلم عنه لأننا نحسب أن وجود الله تعالى من أوضح الواضحات والمسائل القطعيات اليقينيات وتوضيح الواضح قد يوجب شيئاً من الوهم, ولكن جرياً على ما جرى عليه أهل العلم في ذلك نقول:- إن كل ذي فطرة سليمة يؤمن جزماً بما تقرر سابقاً في فطرته من أن الله موجده, وقولنا ( فطرة سليمة ) أي سالمة من التلوثات والمؤثرات الخارجية, فإن الفطرة السليمة لو تركت على حالها لنشأ صاحبها وهو مقر بوجود الله جل وعلا لأن وجوده يدخل ضمناً في العهد المأخوذ علينا, والذي ذكرنا الله به في قوله تعالى { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا...الآية } ومقتضى الإيمان بربوبيته الإيمان بوجوده جل وعلا, وقال تعالى { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ...(1/100)
الآية } وهذه الفطرة هو الاعتراف بوجوده وأنه رب كل شيء وخالقه ومليكه, وفي الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء فهل تحسون فيها من جدعاء )) ثم قرأ { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ...(1/101)
الآية } وفي الصحيح أيضاً أنه - صلى الله عليه وسلم - قال فيما يرويه عن ربه عز وجل (( وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم )) وهذه الحنيفية من مقتضياتها الإقرار بوجود الله تعالى من الأمور الفطرية الضرورية التي لا يستطيع العبد أن يدافعها أو ينتزعها من فطرته, وإنما هو الإنكار الذي مبدؤه العناد فقط, فواعجبي ممن ينكر وجود الله أصلاً كيف يستطيع أن ينفق مذهبه هذا على فطرته لكنها الأهواء المضلة, والأفكار الهدامة التي تلوث الفطرة وتطمس نور بصيرتها, نعوذ بالله تعالى من كل ما يخالف الشريعة قولاً وفعلاً والله المستعان, وأما الدليل الحسي فمن عدة أوجه الوجه الأول:- المعجزات التي أجراها الله تعالى على يد رسله, فإنها من البراهين القاطعة والحجج الساطعة على وجود الله تعالى لأن هذه الأمور العظيمة خارجة في ذاتها عن حد القدرة البشرية, فالعصا تنقلب حية هائلة تلقف ما يأفك سحرة فرعون, فبالله عليك من الذي قلبها؟ فإن موسى عليه الصلاة والسلام لما رأى ذلك أول مرة ولى مدبراً ولم يعقب خوفاً من هذا الأمر, ومن المعلوم أن موسى عليه الصلاة والسلام كان رجلاً فيه سمرة شديدة ومع ذلك لما أدخل يده في جيبه بأمر الله تعالى خرجت ولها نور يبهر الأبصار وبياض ساطع كإسفار النهار, فبالله عليك من الذي أجراها على يده وجعلها كذلك إنه الله الذي لا إله إلا هو, ولما تمرد قومه بنو إسرائيل وظهرت من بعضهم مخايل الكفر والعصيان نتق الله الجبل فوقهم كأنه ظلة, ذلك الجبل العظيم الراسخ في الأرض يكون فوق رؤوسهم كالسحابة فمن الذي فعل به ذلك إنه لو تجتمع قوى الدنيا بأسرها ما استطاعت ذلك لكنه الرب القوي القادر جل جلاله وعز جاهه وتقدست أسماؤه ولما خرج بقومه فراراً من فرعون وقومه وصل إلى البحر, سبحان الله أين المفر, إنه البحر الذي لا يستطيع أن يخوض لجته إلا نوادر الرجال, وبنو إسرائيل فيهم النساء والعجائز والمرضى والصغار(1/102)
ومنهم من لا يعرف السباحة أصلاً, والعدو من خلفهم وهو أشرس عدو, إنها ظروف صعبة حرجة, لكن أين الله؟ نعم لقد جاء الفرج من سابع سماء بالأمر منه جل وعلا لموسى بأن يضرب بعصاه البحر, فما هي إلا ضربة بتلك العصا التي طالت بها السنون فانفلق البحر طرقاً وصار سبلاً والأمواج عن جوانب الطرق كالجبال العظيمة الهائل لا ينزل منها في هذه الطرق نقطة واحدة, وعبر موسى وقومه لم يبتل منهم ثوب ولا قدم, فبالله عليك من أجرى ذلك؟ هل ستقول:- قد وقع صدفة؟ أم ستقول:- إنه سحر؟ أم ستقول:- بل وقع ذلك بقدرة الله تعالى التي خضع وذل لها كل شيء؟ نعم هذا هو الحق, فانفلاق البحر أليس دليلاً قاطعاً على وجود فالقه, بلى والله الذي لا إله إلا هو, ولو حدثتك وقلت:- لقد خرج من الجبل ناقة لم تلدها أم ولا أب لها, ناقة هائلة في صفاتها عظيمة نعوتها, من كبرها وضخامتها لا يستطيع سائر الإبل أن يمشين معها أو يشربن معها أو يقربن منها, إذا حلبت أروت سائر أفراد القرية, نعم إنها آية صدق أجراها الله تعالى على يد نبيه صالح عليه الصلاة والسلام قال تعالى { هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً... } وقال تعالى { لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } وقال تعالى { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ...(1/103)
} وتكاد كتب التفسير تجمع على أن هذه الناقة قد خرجت من الجبل حسب اقتراح قوم صالح, فمن الذي أخرج ذلك الكائن الحي من هذه الصخور الجامدة الميتة؟ إنه الله الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي, الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء, أوليس خروج هذه الناقة العظيمة الهائلة دليل على وجود مخرجها وأنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له؟ بلى والله إنه كذلك, وانظر بالله عليك ما أجراه الله تعالى على يد عيسى - عليه السلام - , يأتيه الأكمه وهو الأعمى الذي فقد نور عينيه فيمسح على وجهه بيده فيعود إليه بصره, ويأتيه الأبرص الذي قد ذهب لون جلده فيمسح عليه بيده فيعود جلده الأول أحسن ما كان منظراً ويمر على القبر فينادي صاحبه فيقوم الميت من قبره يمسح عن رأسه ووجهه التراب, يا سبحان الله, إنها عجائب ومعجزات ووالله لو يجتمع أطباء الدنيا عن بكرة أبيهم ما استطاعوا أن يعيدوا بصراً إلى عين أولوناً إلى جلد في هذه السرعة وبمسحة واحدة, أما إحياء الموتى فإنه الأمر الباهر والقدرة العظيمة التي لا يستطيعها إلا خالق كل شيء والذي أمره بين الكاف والنون فإذا أراد الشيء قال له كن فيكون, ولذلك قال تعالى بين ثنايا هذه المعجزات العظيمة { بِإِذْنِي } و { بِإِذْنِ اللَّهِ } أوليست هذه الآيات القاطعة والبراهين الساطعة من أعظم الأدلة على وجوده جل وعلا, لأن الذي أجراها هو الله تعالى وكيف يجريها وهو معدوم لا يوصف بوجود هذا ما لا يتصوره الذهن أصلاً فضلاً عن اعتقاد القلب له وجعله مذهباً ندعوا الناس إليه, وأما الآيات التي أجراها ربنا جل وعلا على يد نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإنها لا تقاس بما قبلها من الآيات, ويكفيك أعظمها وأكبرها على الإطلاق وهو القرآن الكريم الذي هو المعجزة الكبرى, ذلك الكتاب المبارك المجيد العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد مجيد و القرآن المتشابه المحكم الذي لا(1/104)
تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الترديد, المعجزة بلفظه ومعناه, والذي عجز الورى عن الإتيان بسورة من مثله على فصاحتهم وبلاغتهم, فمن الذي أنزله ومن الذي أحكم قوله؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو ولما أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى القمر وكان ليلة بدر فلقه الله تعالى بقدرته الباهرة ومشيئته النافذة التي لا يتعاظمها شيء قال تعالى { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ } فمن الذي شقه وفلقه؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو وغير ذلك من الآيات العظيمة التي أجراها الله تعالى على يد أنبيائه ورسله مما تدل الدلالة القاطعة وتفيد الإفادة الساطعة أنه جل وعلا موجود, ووجوده يقال فيه ما يقال في سائر صفاته فهو وجود حقيقي على ما يليق بجلاله وعظمته جل وعلا وليس وجوده جل وعلا كوجود المخلوق بل لكل وجوده الذي يناسبه ويخصه ويليق به ومجرد الاتفاق في اسم الوجود لا يستلزم الاتفاق في مسماه, وقد شرحنا ذلك في أول الكتاب ولله الحمد والمنة .(1/105)
ثانياً:- من الأدلة الحسية الدالة على وجوده جل وعلا إجابة الدعوات وإغاثة اللهفات, فيرفع العبد إليه يديه ذليلاً فقيراً سائلاً مستعطياً لا يسمعه أحد من الخلق ثم يتحقق له ما يريده فبالله عليك من الذي سمع دعاءه؟ وأجاب سؤاله؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو, ففي الصحيحين أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب فقال:- يا رسول الله هلك المال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا, فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه وقال (( اللهم أغثنا )) ثلاثاً, يقول أنس: فلا والله ما في السماء من سحاب ولا قزعة حتى خرجت من وراء سلع سحابة سوداء كالترس فلما توسطت السماء انتشرت فأرعدت وأمطرت فلا والله ما رأيت الشمس أسبوعاً كاملاً, ثم جاء الرجل أو غيره في الجمعة المقبلة يقول:- يا رسول الله هلك المال وانقطعت السبل فادع الله يرفعها عنا, فقال عليه الصلاة والسلام )) اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر )) كلما أشار عليه السلام بيده إلى ناحية تفرق السحاب عنها حتى خرجنا نمشي في الشمس.(1/106)
فسبحان الله العلي العظيم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء, وتقول عائشة:- سبحان من وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المرأة تشكو حالها وحال زوجها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتدعوا ربها وتتضرع إليه وإنه ليخفى علي بعض كلامها وأنا في جانب الحجرة فأنزل الله تعالى { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } فمن الذي سمع شكواها وأنزل فصل الخطاب في قضيتها مع زوجها؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو ولما تقطعت الحبال في يد نبي الله نوح عليه السلام وطالت به السنون في دعوة قومه وعلم بإخبار الله له أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن رفع يديه يدعو ربه القوي جل وعلا بقوله { رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } وقال { أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ } فاستجاب الله دعاءه ففتح أبواب السماء بماء منهمر وفجر الأرض عيوناً حتى التقى الماء على أمر قد قدر وحمله الله تعالى برحمته في الجارية العظيمة هو ومن آمن من قومه فنجوا بفضل الله ورحمته وهلك الكفار بعدل الله وقوته وشدة بأسه فمن الذي سمع دعاءه إنه الله جل جلاله وتقدست أسماؤه وتعاظمت صفاته قال تعالى { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } ولما طالت ألقي خليل الرحمن في النار قال حسبنا الله ونعم الوكيل فجاءه الفرج من رب الفرج { يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ } ولما طالت بزكريا السنون وتقدم به العمر وصار شيخاً طاعناً في السن رفع يديه يدعو ربه بأن يرزقه ولداً ولا يذره فرداً وليس معه أحد من الخلق فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في محرابه لقد استجاب الله دعاءك ووهبك يحيى وأصلح لك زوجك, فسبحان ربي مجيب الدعاء وكاشف البلواء ومغيث(1/107)
اللهفان { إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء } والأمثلة على ذلك كثيرة جداً لا تكاد تحصر, ولا زلنا ولله الحمد ندعوه بالشيء في خلواتنا وجلواتنا فما نبرح إلا ويأتينا الفرج, وصدق الله العظيم إذ قال { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } إنه الله تعالى, فما أجمل الكلام الذي يتعلق به إنه ينزل على القلب كالعذب الزلال السلسبيل البارد في شدة لفح الحر الصائف وإن الباب لو كان مفتوحاً للحديث عما حصل لي ولغيري من إجابة الدعاء لذكرت شيئاً كثيراً لكن الحديث عن النفس صعب ومن أصول الكتابة أن يحرص الكاتب أن لا يكتب إلا ما يشترك الناس في فهمه والعلم به مما تكون مصادره معلومة محفوظة, ولا يزال المسلمون ولله الحمد إذا أجدبت الأرض وتأخر المطر يخرجون جماعات إلى مصلى الاستسقاء ويدعون ربهم ويتضرعون إليه فما نلبث إلا وينزل الغيث فالحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً .(1/108)
ثالثاً:- من الأدلة الحسية على وجوده جل وعلا كل شيء تراه فالسماوات وكواكبها ونجومها شاهد صدق على وجوده, والأرض وجبالها وأشجارها وبحارها وأنهارها وما عليها من المخلوقات شاهد صدق على وجوده والرياح والسحاب والأمطار شاهد صدق على وجوده ووجود القرآن بيننا محفوظاً شاهد صدق على وجوده وتصريف الأقدار وتعاقب الدهور والأيام والأعوام والليل والنهار شاهد صدق على وجوده, ولذلك فإن التفكير في آياته منهج شرعي كما قال تعالى { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وفي الحديث (( لقد أنزل على الليلة آيات ويل لمن قرأهن ولم يتفكر فيهن )) وقرأ الآيات العشر الأواخر من سورة آل عمران وأولها فيه الأمر بالتفكير والاعتبار والنظر في هذه الآيات الكونية العظيمة التي تهدي العبد بالنظر فيها إلى وجود ربه الذي خلقها وأبدع صنعها, وقال تعالى { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ففي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد جل وعلا, آيات واضحة وعلامات بينة ساطعة قاطعة على وجوده جل وعلا ولكنه غبش القلوب ورانها وشهوات النفوس وشبهات العقول وتزيين الشياطين, فإن ذلك قد حجب القلوب والأبصار والبصائر عن مطالعة ذلك وصار الواحد منا يبصر(1/109)
بلا بصيرة ويتفكر - إن تفكر - بغير اعتبار ولا انتباه, فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فهذه الأوجه الثلاثة من الأدلة الحسية الدالة على وجوده جل وعلا والحمد لله رب العالمين ونستغفر الله تعالى ونتوب إليه, وتفاصيل الأدلة على وجوده جل وعلا أكثر من ذلك بكثير ولكن هذا ما حضرنا حال الكتابة والله المستعان .(1/110)
الأمر الثاني:- مما يقتضيه الإيمان بالله تعالى الإيمان بربوبيته جل وعلا, أي أنه جل وعلا خالق كل شيء ومالكه والمتصرف فيه بقدرته التي لا حدود لها, وهو توحيد الله تعالى بأفعاله جل وعلا, فهو الخالق ولا خالق إلا هو, وهو المالك ولا مالك على الحقيقة إلا هو, وهو المعز والمذل والمهيمن القادر القاهر, وهو المحي والمميت ولا يحيي ولا يميت إلا هو جل وعلا, قال تعالى { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } وقال تعالى { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } وقال تعالى { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وقال تعالى { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا...(1/111)
الآية } وقال تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } وهذا التوحيد مما أقر به الجميع فإنه لا يعرف عن طائفة من بني آدم إنكار هذا التوحيد إلا أن بعضهم عاند في الظاهر وأنكره مع إقراره به في الباطن كما عرف عن فرعون في قوله { مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي } وقال { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } إلا أن الخبيث كان مقراً بها في الباطن كما قال الله عنه { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } وقال الله تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال له { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا } وكذلك الدهرية فإنهم يزعمون ظاهراً أن الدهر هو الذي يحييهم ويميتهم كما قال الله عنهم { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ } ومن الطوائف التي أنكرته أيضاً الشيوعية الذين يزعمون أن لا إله والحياة مادة وأن الطبيعة هي التي أوجدت نفسها بنفسها وكذلك أنكرته المجوس الوثنية الذين يزعمون أن للعالم خالقين, النور والظلمة, إلا أنه ومع ذلك فإنه لا يعرف عن طائفة من طوائف بني آدم أنهم أثبتوا للعالم خالقين مستويين في جميع الصفات فإنهم وإن أشركوا في توحيد الربوبية إلا أنهم ولابد أن يفضلوا إلهاً على آخر, واعلم رحمك الله تعالى أن توحيد الربوبية مركوز في الفطرة متقرر فيها كل التقرر وهو لا يحتاج إلى تقرير وإنما يحتاج إلى تذكير والدليل على ذلك قوله تعالى { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ } وهذه الفطرة هي الاعتراف بأنه جل وعلا رب كل شيء(1/112)
ومليكه وقال تعالى { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا... الآية } وقال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه عز وجل ((وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)) وقال عليه الصلاة والسلام (( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )) ولم يقل أو يسلمانه أي يجعلانه مسلماً لأنه مسلم بالأصالة, وليس تقرير ذلك التوحيد هو الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب لأنه متقرر في الفطرة أصلاً, ولذلك فإن الإقرار به وحده لا يكفي للحكم بالدخول في الإسلام لأن المشركين أقروا به ولم يحكم لهم بالإسلام كما قال تعالى { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } وقال تعالى { قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } ومع إقرار المشركين فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم واستباح دماءهم, مما يدل على أن الإقرار بتوحيد الربوبية لوحده لا يكفي للحكم بالدخول في الإسلام, وبه تعرف أن من فسر توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية أنه قد غلط غلطاً عظيماً وقصر تقصيراً كبيراً فإن بعض الطوائف تعتقد أن معنى ( لا إله إلا الله ) أي لا خالق إلا الله أو لا قادر على الاختراع إلا الله, وهذا كلام صحيح في ذاته إلا أنه ليس هو معنى كلمة التوحيد, وذلك كما عند(1/113)
الصوفية والجهمية وبعض الأشاعرة وهو معتقد جماعة التبليغ والأخوان المسلمون فهو ما يذكرونه ولا شأن لنا بمن يجهل ذلك والمقصود أن هذا التفسير ليس هو التفسير الصحيح لأن التفسير الصحيح لهذه الكلمة هو أن يقال:- لا معبود بحق إلا الله و كما سيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى, والخلاصة:- أن المقتضى الثاني من مقتضيات الإيمان بالله أن تؤمن الإيمان الجازم الراسخ أن الله تعالى هو رب كل شيء وخالقه ومالكه والمتصرف فيه جل وعلا والله ربنا يتولانا وإياك لما فيه الخير وصلاح الإسلام والمسلمين .(1/114)
الأمر الثالث:- من مقتضيات الإيمان بالله تعالى أن تؤمن الإيمان القاطع الجازم أنه الله الذي لا إله إلا هو وأنه لا يستحق أحد العبادة في هذا الكون إلا هو جل وعلا فيجب عليك أن تعتقد أن العبادة حقه الصرف الخالص, الذي لا يجوز صرفه لملك مقرب ولا لنبي مرسل ولا لولي صالح, فضلاً عن الأشجار والأحجار والشياطين وغيرها, فأقسم بالله العلي العظيم أن العبادة حق لله تعالى, قال تعالى { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وقال تعالى { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } وقال تعالى { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } وقال تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } وقال تعالى { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا } وقال تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وهذا هو التوحيد الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب, قال تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وقال تعالى { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } وهو أول دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام فكل رسول بعثه الله تعالى إلى أمة من الأمم إنما يدعوا أمته أولاً إلى توحيد الألوهية فقد قال نوح لقومه { اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } وقال هود(1/115)
لقومه { اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } وقالها شعيب لقومه { اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } وكذلك سائر الرسل وهو التوحيد الذي وقعت فيه الخصومة لم تقع في أن الله هو الخالق والرازق والمحيي والمميت وإنما وقعت في أنه لا يعبد إلا هو جل وعلا كما قال تعالى { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ } وقد كانوا يعلمون العلم الأكيد أن زبدة دعوة الرسل هو إفراد الله تعالى بالعبادة قال تعالى عنهم { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } ومرتكز هذا التوحيد على كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) وبما أن الكلام قد جرنا على كلمة التوحيد فإنني أرى أنه من المناسب أن نتكلم عن معناها وفضلها وأركانها وشروطها ونواقضها وهذا من باب النصيحة لله ولكتابه ولرسوله وللأئمة المسلمين وعامتهم, فأرجو منك المعذرة على هذه الإطالة فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون وحسن التحقيق:- أما معناها فهو أن يقال ( لا معبود بحق إلا الله تعالى ) فهذا هو المعنى الصحيح والحق وما سواه فباطل, قال تعالى { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } فالله جل وعلا هو المعبود بحق, وجميع ما يعبد من دونه فإنه إنما عبد بالباطل, فعبادة الملائكة باطلة وعبادة الأنبياء باطلة وصرف العبادة للشمس والقمر والنجوم والأحجار والأشجار وغير ذلك من المعبودات كل ذلك باطل لا أساس له من الصحة وإنما العبادة الحق محصورة في الله عز وجل, ولذلك فلا يكفي أن نقول ( لا معبود إلا الله ) ولكن لابد من زيادة كلمة ( بحق ) لأن هناك أشياء عبدت من دون الله تعالى ولكن عبادتها بغير الحق, والعبادة الحق(1/116)
إنما هي لله جل وعلا, فإذا قيل لك, ما معنى ( لا إله إلا الله ) فقل ( لا معبود بحق إلا الله ) وأما أركانها فاعلم رحمك الله تعالى أن لها ركنين النفي والإثبات وهذا هو حقيقة التوحيد, فلا يكفي النفي وحده لأنه تعطيل محض ولا يكفي الإثبات وحده لأنه لا يمنع المشاركة ولكن إذا اجتمع النفي والإثبات فذلك هو حقيقة التوحيد, فهذه الكلمة العظيمة لها ركنان, النفي في قولك (لا إله) وهي نكرة في سياق النفي فيدخل فيها جميع ما عبد من دون الله تعالى وهذه اللام هي اللام النافية للجنس بدليل نصب الاسم بعدها, والركن الثاني هو الإثبات وذلك في قولك (إلا الله) أي أنه جل وعلا هو الإله المعبود بحق ولا يستحق العبادة في هذا الوجود إلا هو جل وعلا وأما فضلها فقد ورد فيها نصوص كثيرة فمن ذلك حديث عبادة - رضي الله عنه - في الصحيحين قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل )) ولهما من الحديث عتبان بن مالك مرفوعاً (( فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله )) وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي ذر جندب بن جنادة - رضي الله عنه - قال:- أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم وعليه ثوب أبيض ثم أتيته وقد استيقظ فقال ((ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة)) قلت: يا رسول الله وإن زنى وإن سرق قال (( وإن زنى وإن سرق )) قلت: يا رسول الله وإن زنى وإن سرق قال (( وإن زنى وإن سرق )) قلت: يا رسول الله وإن زنى وإن سرق قال (( وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر )) وروى مسلم في صحيحه من حديث عثمان - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة )) وفي(1/117)
حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما مرفوعاً (( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله )) وروى الترمذي في جامعه بسند فيه مقال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( أفضل الذكر لا إله إلا الله )) وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( قال موسى يا رب علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به قال يا موسى قل لا إله إلا الله قال يا رب كل عبادك يقولون هذا قال يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله )) "رواه ابن حبان والحاكم وصححه" وفي الحديث )) من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة (( "حديث حسن" وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قلت: يا رسول من أسعد بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال (( يا أبا هريرة ما ظننت أن يسألني عن هذا الحدث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه )) وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أعطاه نعليه قال له (( اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة )) حديث طويل وهذا هو موضع الشاهد منه, وقال عليه الصلاة والسلام (( من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرمه الله على النار )) والأحاديث في فضلها أكثر من ذلك وفيما مضى كفاية إن شاء الله تعالى, وأما شروطها فقد قرر أهل العلم أنها ثمانية وأنت تعلم أن الشرط هو الذي يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته, أي أن الانتفاع بهذه الكلمة العظيمة لا يتحقق إلا بتحقيق هذه الشروط وهي كما يلي, الشرط الأول:- العلم أي تكون عالماً بمعناها العلم المقتضي للإيمان بمدلولها والعمل بمقتضاها, وقد تقدم أن معناها ( لا معبود بحق في(1/118)
هذا الوجود إلا الله وحده جل وعلا ) قال تعالى { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وقال تعالى { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } وقال عليه الصلاة والسلام (( من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة )) وقد اتفقت كلمة أهل العلم على إثبات هذا الشرط وهذا من العلم الواجب على كل مكلف ولا يعذر أحد بجهله وضد العلم والجهل, الشرط الثاني:- الإخلاص وضده الشرك بقسميه الأصغر والأكبر, فلابد فيها من تحقيق الإخلاص فمن قالها رياء أو تسميعاً أو لغرض دنيوي فإنها لا تنفعه ومن قالها وهو واقع في شيء من نواقض الدين فإنها لا تنفعه, فلابد فيها من تحقيق مقام الإخلاص, فإن قولها عبادة والعبادات يشترط لقبولها الإخلاص قال تعالى { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } وقال تعالى { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء } وقال عليه الصلاة والسلام (( أسعد بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه )) وقال عليه الصلاة والسلام (( فإن الله حرم على النار من قاله لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله )) وفي حديث فضل الترديد وراء المؤذن كلمة كلمة وفي آخره (( ثم قال المؤذن لا إله إلا الله فقال أحدكم لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة )) الشرط الثالث:- اليقين وهو الاستيقان الكامل بمدلول وصحة هذه الكلمة بحيث لا يخالط القلب مطلق الريب في صحة ذلك, فلابد من الإيمان اليقيني القاطع الراسخ في القلب أعظم من رسوخ الجبال الرواسي في الأرض, فمن قالها وهو متردد في معناها ويداخله شك في صحة مدلولها فإنها لا تنفعه قال تعالى { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } فاشترط للإيمان بالله وبرسوله(1/119)
- صلى الله عليه وسلم - عدم الريب وانتفاؤه, وفي حديث أبي هريرة )) اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة (( "رواه مسلم" وفي الصحيح (( أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة )) الشرط الرابع:- الصدق, وهو أن يتوافق قول القلب واعتقاده مع قول اللسان, فلا ينفع أحدهم دون الآخر فاعتقاد بلا قول لا ينفع وقول بلا اعتقاد لا ينفع ألا ترى أن المنافقين الذين قالوا ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) لما لم تكن قلوبهم مصدقة بمدلول هذه الشهادة رد الله عليهم شهادتهم وكذبهم فيها كما قال تعالى { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } وسبب تكذيبهم هو عدم التصديق القلبي لمدلول هذه الشهادة وإنما قالوها خوفاً من المؤمنين ومراوغة ومخادعة لعباد الله الصالحين, وقال تعالى { وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } وأعظم الصدق هو هذه الكلمة ولم يكتف الله جل وعلا بأن يأتي بالصدق فقط بل اشترط شرطاً زائداً على مجرد المجيء به وهو قوله { وَصَدَّقَ بِهِ } فلابد من التصديق بالحق التصديق المقتضي للإيمان الراسخ والإتباع وقد أخطأ الكلابية خطأ عظيماً لما جعلوا الإيمان مجرد القول ولم ينظروا إلى توافقه مع التصديق الباطني فأسأله جل وعلا أن يهدي القلوب إلى موافقة الحق والتصديق به إنه ولي ذلك والقادر عليه, وضد التصديق الكذب, الشرط الخامس:- المحبة, وضدها الكراهية والبغض, فلا يتحقق الانتفاع بهذه الكلمة إلا بأن يكون القائل محباً لله جل وعلا ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ومقدماً محبتهما على كل محبة ومحباً لما يحبه الله ورسوله من الأقوال والأعمال والاعتقادات(1/120)
وسائر التعبدات, قال تعالى { وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا } وقال تعالى { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } وقال عليه الصلاة والسلام (( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين )) وقال - صلى الله عليه وسلم - (( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار )) "متفق عليهما" وأتفق أهل العلم على إثبات هذا الشرط, وأجمعوا على أن بغض شيء مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من النفاق الاعتقادي المخرج عن الملة وأجمعوا على أن من مقتضيات الإيمان بالله تعالى محبته جل وعلا, وتقديم محبته ومحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على كل المحاب, الشرط السادس:- القبول, وهو عمل قلبي باطني له آثاره على الجوارح, وضده الرد, فمن لم يقبل مدلول هذه الكلمة أو شيئاً من مقتضياتها فإنها لا تنفعه وإن قالها مراراً وتكراراً, قال تعالى { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } فأنت ترى أنهم ردوا مدلول هذه الكلمة ولم يقبلوه فالذي جعلهم يمتنعون عن قولها هو عدم قبول مدلولها, وقال تعالى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ(1/121)
أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا } وذلك أن الواجب على العبد تجاه ما قضاه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأمر إنما هو القبول المستلزم للانقياد والعمل, وأعظم ما قضاه الشارع أن لا يعبد إلا الله وأن لا إله إلا هو جل وعلا, فالواجب لينتفع العبد بذلك أن يقبله وأن يسلم به وينقاد له بالإتباع وكمال الطاعة فلا خيرة للعبد فيما قضاه الشارع من الأمور, الشرط السابع:- الانقياد وهو أثر للقبول في القلب فالقبول من أعمال الباطن والانقياد من أعمال الظاهر ويزداد هذا الانقياد كلما ازداد القبول في القلب فالانقياد ثمرة القبول وقد أجمع أهل السنة على إثبات هذا الشرط قال تعالى { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } وفي الحديث )) لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به (( وقال تعالى { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } الشرط الثامن:- الكفر بالطاغوت, والطاغوت مأخوذ من الطغيان وهو مجاوزة الحد, وفي الاصطلاح فقد عرفه السلف بالمثال وعرف بعضهم بالحد الجامع المانع ونحن نتبع في تعريفه ما قاله ابن القيم رحمه الله تعالى فإنه قال في تعريفه: هو ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فالكفر بالطاغوت شرط في الاستمساك بالعروة الوثقى قال تعالى { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وروى مسلم في صحيحه من حديث طارق بن أشيم الاشجعي - رضي الله عنه - قال قال رسول(1/122)
الله - صلى الله عليه وسلم - (( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله )) فهذه طرف يسير من الكلام على شروطها, وأما نواقضها فهي كثيرة وتعديدها بالأعيان يطول ولنا في ذلك مؤلف أسميناه (القول السديد في جمع نواقض كلمة التوحيد) فقد ذكرنا في الكتاب المشار إليه كثيراً من هذه النواقض, وأما هنا فنشير إلى عشرة نواقض منها, وهي التي يدخل تحتها غالب النواقض المشار إليها, الناقض الأول:- الشرك والمراد به الأكبر, فمن وقع في شيء من الشرك الأكبر فإنه قد انتقض توحيده الانتقاض الكامل, فإن مات ولم يتب فهو خالد مخلد في النار أبد الآباد لأن الشرك لا يدخل في حيز المغفرة يوم القيامة قال تعالى { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } وفي الآية الأخرى { فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا } وقال تعالى { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } وقال تعالى { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وقال تعالى { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } والشرك هو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله تعالى, فمن ذبح تعبداً وتقرباً لغير الله تعالى, أو سجد لغير الله أو دعا غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى, أو استغاث بالأموات والغائبين أو خاف خوف السر من قبر أو وثن أو شجر أو حجر ونحو ذلك أو استعان أو استعاذ بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى, أو غير ذلك فقد وقع في الشرك الأكبر المخرج عن ملة الإسلام بالكلية, فالواجب الحذر العظيم من الشرك كله والخوف منه والتباعد عنه كل المباعدة ولا(1/123)
يكون ذلك إلا بتصحيح الفهم وتصفية مشارب العلم وأخذه عن أهله العارفين الراسخين في العلم على منهج السلف الصالح, والله المستعان, الناقض الثاني:- اتخاذ الوسائط فيدعوهم في كشف الملمات وتفريج الكربات ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم فمن فعل ذلك فقد كفر إجماعاً, وهذا هو دأب المشركين فإنهم ما عبدوا هذه الآلهة لأنها تخلق أو ترزق أو تحيي أو تميت وإنما عبدوها لاعتقادهم أنها تقربهم إلى الله زلفى, كما قال تعالى { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } فسمى فعلهم هذا كذباً وكفراً, وقال تعالى { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } فقد سمى ربنا جل وعلا اتخاذ الواسطة شركاً ونزه نفسه عنه, وبه تعلم أنه لا واسطة بيننا وبين الله تعالى في عبادته, بل يجب علينا أن نعبد الله وندعوه مباشرة وبدون واسطة وأن نتوكل عليه بدون واسطة وأن نرجوه ونستعين به بلا واسطة كما قال تعالى { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وقال تعالى { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } ولم يقل( فقل إني قريب) وإنما قال { فَإِنِّي قَرِيبٌ } لإزالة توهم أهمية اتخاذ الواسطة وقد قرر أهل العلم أن اتخاذ الواسطة يكون تارة من الشرك الأصغر ويكون تارة من الشرك الأكبر فالذي يتخذ الواسطة ويعتقد أنها سبب ولكن لا يدعوها ولا يذبح لها ولا ينذر لها ويعتقد أن العبادة لله تعالى ولا يستحق أن يعبد(1/124)
إلا هو جل وعلا لكنه يتخذ الوسائط على أنها أسباب تقربه إلى الله بزعمه ويسأل الله بجاههم وحقهم فعمله هذا بدعة ووسيلة إلى الشرك الأكبر, وهو شرك أصغر لأنه اعتقد سبباً ما ليس بسبب لا شرعاً ولا قدراً ولأنه وقع في وسيلة من وسائل الشرك الأكبر وقد تقرر أن وسائل الشرك الأكبر يحكم عليها بأنها من الشرك الأصغر, وأما من يعبد الوسائط ويضفي عليها بعض خصائص الربوبية ويصرف لها بعض خصائص الألوهية فهذا مشرك الشرك الأكبر المخرج من الملة بالكلية والعياذ بالله تعالى والمتأخرون لا يقتصرون على جعل الوسائط مجرد وسائط لا يصرفون شيئاً من العبادة, بل الغالب أنهم يعبدونها وينذرون ويذبحون لها كما يفعلون عند الأضرحة فإنهم يدعونها ويستغيثون بأصحابها من دون الله تعالى ويتبركون بترابه ويلجئون لها عند الشدائد ويلهجون بنداء أصحابها عند الكربات, وبعضهم يحجونها في أوقات معينة ويعكفون عندها ولهم في زيارتها مراسم كفرية وأعياد إلحادية وثنية, ويبنون عليها المساجد ويوظفون عندها السدنة لجباية النذور والقرابين, ويجعلونها الترياق المجرب, ويعتقدون في أصحاب الأضرحة أن لهم تصرفاً خفياً في الكون وأن من سألهم أجابوه ومن استعاذ به أعاذوه ومن توكل عليهم كفوه وهذه طامة كبرى وبلية عظمى وهي أصل شرك العالم لأن الغلو في الصالحين هو الذي قاد قوم نوح إلى الوقوع في مثل هذه المهالك وتتابع عليه كثير من الناس إلى عصرنا هذا, وقد كثرت في عصرنا هذا القبور التي تعظم وتدعى من دن الله جل وعلا وتفاقم الأمر وازداد السوء لما حكمت الدولة الفاطمية العلوية الباطنية الملحدة لاسيما في مصر وتلك الأنحاء فانتشرت بسببهم المشاهد المعظمة وكثرت الأضرحة التي ألبست صفة القدسية ووضعوا لها الأعياد والمراسم على مدار العام, وقد ذكرنا تفاصيل ذلك في كتابنا الذي أسميناه ( تنوير الصدور في التحذير من فتنة القبور ) فقد بينا فيه كثير من الشبه التي يعتمدون عليها وأجبنا(1/125)
عنها بما قاله أهل العلم ولا زلنا في طوره الأخير أسأله جل وعلا أن ييسر إتمامه عن قريب إنه ولي ذلك والقادر عليه وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل, الناقض الثالث:- من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم فإنه يكفر, وهذا فيمن كان كفره مقطوعاً به إما بالنص أو الإجماع, فمن شك في كفر اليهود والنصارى فإنه يكفر ومن قال: يجوز التعبد لله بدين اليهود أو بدين النصارى فإنه يكفر ولا شك في ذلك, وذلك لأن الله تعالى قد صرح التصريح الذي لا احتمال فيه أن اليهود والنصارى كفار وكفرهم صار مما يعلم من الدين بالضرورة, ومن كذب خبراً من أخبار القرآن فإنه يكفر, ومن أنكر معلوماً من الدين بالضرورة فإنه يكفر, فالذي يشك في كفر المشركين عموماً فإنه يكفر, ولا يخفاك أن الدعوة القائمة في هذا الزمان المسماة بالدعوة إلى توحيد الأديان ويعنون بذلك اليهودية والنصرانية والإسلامية هذه الدعوى هي في ذاتها كفر لأن مفادها تصحيح مذاهب الكفرة ومعارضة القرآن ومضادة الشرع وتسويغ الكفر وتصحيح ما وردت الأدلة الصحيحة بأنه باطل, وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار )) "رواه مسلم" فيجب عليك أن تعتقد الاعتقاد الجازم أن اليهودية والنصرانية قد نسخا بالإسلام والإسلام هو الدين الحق الذي لا يقبل الله ديناً سواه قال تعالى { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } وقال تعالى { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } فلا دين للبشرية على وجه الأرض إلا الإسلام, فمن لم يؤمن بالإسلام الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام فهو كافر سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً أو مجوسياً أو ملحداً فكل من لم يؤمن(1/126)
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر, فيجب على المسلم أن يعتقد كفر الكفار أياً كانوا, كل من أشرك بالله ودعا غير الله بأي نوع من أنواع الشرك الأكبر فيجب تكفيره بالحكم عليه بالكفر ولا يجوز الشك في كفره ولا يجوز تصحيح ما هو عليه في الكفر والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, الناقض الرابع:- من اعتقد أن هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هديه أو أن حكم غيره أحسن من حكمه كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر, وذلك لأنه يجب على المسلم أن يعتقد الاعتقاد الكامل الراسخ أن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أكمل الهدي وأفضل الهدي وخير الهدي كما في قوله عليه الصلاة والسلام في غالب خطبه (( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ...(1/127)
الحديث )) "رواه مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه - " وقال تعالى { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } وهذا ليس في هدي دون هدي , بل هو عام في كل هدي لأن قوله في الحديث (( وخير الهدي )( اسم جنس دخلت عليه الألف واللام الاستغراقية فيدخل في ذلك كل هدي, فهديه في التعبدات أكمل الهدي, وهديه في الأخلاق أكمل الهدي, وهديه في الدعوة أكمل الهدي, وهديه في التعامل مع المخالف والموآلف أكمل الهدي, وهديه مع أهله وأصحابه أكمل الهدي, وهديه في التعليم أكمل الهدي, وهديه في الجهاد أكمل الهدي, وهديه في الأمر والنهي أكمل الهدي, وهديه في أكله وشرابه أكمل الهدي, وهديه في لباسه أكمل الهدي, وهديه في الأذكار والتعوذات أكمل الهدي, وهديه في مشيه أكمل الهدي, وهديه في التربية والنصح أكمل الهدي, وهديه في ركوبه ونزوله وسفره أكمل الهدي, وهديه في نومه وجلوسه أكمل الهدي, وهديه في قضائه وحكمه أكمل الهدي, وبالجملة فإن كل هدي بعثه الله به سواء كان هدياً اعتقادياً أو هدياً قولياً أو هدياً عملياً فهو أكمل الهدي, وأقسم بالله تعالى الأيمان الكثيرة المغلظة أنه أكمل الهدي وأن هدي غيره بالنسبة لهديه ليس بشيء, فهديه هو النور والرحمة والبر كله والإحسان برمته والروح والهدى قال تعالى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ } وهديه هو حياة القلوب وراحة النفوس قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } وهديه هو مفتاح الفلاح والصراط المستقيم قال تعالى { فَالَّذِينَ آمَنُواْ(1/128)
بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فلا حياة ولا فلاح إلا باتباع هديه, وبناء عليه فمن فضل هدياً على هديه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه لأنه منكر لما هو معلوم من الدين بالضرورة ولأنه معارض لأدلة الشرع ومضاد لله تعالى في حكمه وقضائه, ويدخل في هذه الجملة الحكم بغير ما أنزل الله تعالى وهي مسألة طويلة الذيول كثيرة التفاصيل, ولكن أختصر لكم القول فيها فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد العون والفضل:- عندنا في هذه المسألة حاكم ومتحاكم فأما الحاكم فلا يخلو من أحوال, الأول:- واضع القانون أصلاً والذي يعارض به شريعة المولى جل وعلا فهذا كافر الكفر الأكبر من غير نظر إلى نيته ولا شأن لنا بقصده لأن قرينة الحال تغني عن صريح المقال كالذي وضع القوانين الوضعية أو شارك في وضعها وكذلك المقر لها والموقع عليها فهؤلاء كفار ولا شك في كفرهم الثاني:- الحاكم بهذه القوانين الحكم المطلق, والذي نسف الحكم بالشريعة فلا يحكم في كل مسألة إلا بهذه القوانين الوضعية المخالفة للكتاب والسنة ويفتح في منطقة نفوذه المحاكم القانونية التي تحكم بهذا القانون الكفري ويحارب المحاربة الكاملة القوية من يدعو في بلاده إلى تطبيق الشريعة ولا يرضى أن تحكم بلاده إلا بهذه القوانين المخالفة في كلياتها وتفاصيلها شريعة الرب جل وعلا, فهذا كافر الكفر الأكبر المخرج من الملة بالكلية ولاشك في كفره, ولا ننظر إلى نيته وقصده ولا نقول كفر دون كفر كمذهب المرجئة لأن قرينة حاله الظاهرية تفصح عن مكنون نواياه الباطنية, الثالث: من يحكم بغير ما أنزل الله تعالى في بعض القضايا فقط لا في كلها كقضية أو ثنتين أو ثلاث أو أكثر أو أقل ما لم يكتسب حكمه بغير ما أنزل الله صفة الكثرة والديمومة, ويعتقد مع ذلك جواز الحكم بغير ما أنزل الله تعالى في هذه القضية أكمل وأفضل وأحسن من حكم الله ورسوله(1/129)
- صلى الله عليه وسلم - أو يعتقد أنه مخير في ذلك أي إن شاء حكم في هذه القضية بما تقتضيه الشريعة أو بما يقتضيه القانون الوضعي المخالف للكتاب والسنة فهذا أيضاً كافر الكفر الأكبر وهو مرتد عن الإسلام لا بالحكم في هذه القضية فقط, بل بالحكم بغير ما أنزل الله فيها مقروناً بهذه العقيدة الفاسدة الكفرية, وهذا مرتد تجب استتابته ثلاثة أيام فإن تاب وإلا وجب قتله مرتداً كافراً يعامل معاملة الكفار أبعده الله وأقصاه, الرابع: من كان الأصل فيه تحكيم الشريعة أي الحكم بما أنزل اله تعالى وهذا ديدنه وهجيراه ولكنه حكم بغير ما أنزل الله تعالى في بعض القضايا لداعي الهوى والشهوة مع اعتقاده الجازم أنه عاص ومخالف في هذا الحكم وأن حكم الشريعة فيها أفضل ولكن دفعه لتركه رشوة أو رغبة في البقاء في منصب مع اعتقاده أن مخطئ, أو محاباة لأمير أو قريب ونحو ذلك من دواعي الهوى فهذا لا يكفر وإنما يكون عاصياً وآثماً ومستحقاً للعقوبة وقد أتى باباً من أبواب الكفر الأصغر فهو كفر دون كفر, وحكمه حكم مرتكب الكبيرة, ومن كفر هذا الصنف الأكبر فكأن فيه نوع غلو في التكفير, الخامس: من حكم بغير ما أنزل الله عن اجتهاد وخطأ, أي أن يجتهد في إصابة حكم الشريعة ويبذل في ذلك ما آتاه الله تعالى من قوة العلم والفهم والنظر ولكنه يخطأ من غير تعمد لمخالفة حكم الكتاب والسنة, بل هو في نيته أنه يريد الحكم بما أنزل الله ولكنه أخطأ مع الاجتهاد فهذا لا شيء عليه وخطؤه مغفور، بل هو مأجور على اجتهاده أجراً واحداً وعلى ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر واحد )) فخطؤه مغفور لأنه لم يتعمد هذا الشيء وهو حريص على أن يحكم بالشريعة وقد اجتهد في إصابة الحق وموافقة الحكم الشرعي وبذل ما في وسعه ولكنه لم يوفق لإصابة الحق فالله يغفر له خطأه ويثيبه على بذل جهده أجراً واحداً ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها(1/130)
فهذا هو التفصيل بالنسبة للحاكم بغير ما أنزل الله وهو محصل ما قاله أهل العلم في هذه المسألة وأما المتحاكم فلا يخلو حاله من عدة أمور, الأول: أن يتحاكم عند الذي يحكم بغير ما أنزل الله تعالى مفضلاً لحكم الطواغيت على حكم الشريعة أو معتقداً جواز التحاكم لذلك أو أنه مخير في ذلك فهذا كافر الكفر الأكبر المخرج عن الملة, وهو متبع لحكم الجاهلية قال تعالى { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } وقال تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا } فرضاه وتفضيله لحكم الطواغيت إيمان به وقد تقرر أن الكفر بالطاغوت من شروط كلمة التوحيد فالمبتغي للتحاكم للطواغيت كافر بالله جل وعلا, الثاني: أن يتحاكم عند الحاكم القانوني من باب الاضطرار لاستخراج حقه إذ لا طريق له في استخراج حقه إلا بالجلوس عند هذا القاضي القانوني ولاسيما في الدول التي تنعدم فيها المحاكم الشرعية ولا يوجد فيها إلا المحاكم التي تحكم بالقوانين الوضعية مع إيمانه الجازم بوجوب التحاكم إلى الشريعة ومع كراهته القلبية لهذا التحاكم وعدم الإيمان به لكنه مضطر إلى ذلك لاستخراج حقه فهذا لا بأس به إن شاء الله تعالى ولا يسع الناس في مثل هذه البلاد إلا ذلك وإلا لضاعت الحقوق وفسدت الأمور, وهذا المتحاكم بهذا الاعتبار لاشيء عليه لأنه مضطر لذلك والضرورة تقدر بقدرها والضرورات تبيح المحظورات أي لا محرم مع الضرورة فإذا لم يكن ثمة طريق شرعي لاستخراج الحقوق إلا بالترافع إلى هذا القاضي القانوني فإن ذلك جائز والله ربنا أعلى وأعلم, الناقض الخامس:- من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول - صلى الله(1/131)
عليه وسلم - ولو عمل به فإنه يكفر وذلك لقوله تعالى { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } أي أبطلها, وقوله { مَا أَنزَلَ اللَّهُ } يدخل فيه الكتاب وهو الوحي الأول والمصدر الأول من مصادر الإسلام ويدخل فيه السنة على جميع صورها القولية والفعلية والإقرارية فإن السنة من الوحي قال تعالى { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } وقال عليه الصلاة والسلام (( ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه )) وقال تعالى { وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } وقال تعالى { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } واتفق أهل الإسلام على أنها المصدر الثاني من مصادر التشريع فمحبة الله عز وجل ومحبة ما أنزله من أعظم أنواع العبادة وكذلك محبة رسوله ومحبة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذه المحبة تقتضي محبة ما جاء به, فإن أبغض العبد شيئاً مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغضاً قلبياً فقد وقع في النفاق الاعتقادي الأكبر وهو مرتد بهذا البغض, قال تعالى { {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وقال تعالى { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا } وذلك لأنهم يبغضون الكتاب والسنة وإن كانوا يعملون بهما أحياناً ولكنهم يبغضون ذلك بقلوبهم وعملهم به في الظاهر لايفيد شيئاً لأنه تقية وجنة فقط فالمبغض للكتاب والسنة كافر, والمبغض للجهاد كافر والمبغض للفروق الشرعية بين الرجل والمرأة كافر والمبغض لعقيدة الولاء والبراء كافر, حتى وإن أظهر التأويلات الباردة التي يتستر من ورائها(1/132)
والمبغض لتربية اللحية كافر وهذا التكفير لمن أظهر البغض بالقول وأما من أضمر ذلك في قلبه ولم يتفوه به فإن سريرته بينه وبين الله تعالى, فما لنا إلا الظاهر والله يتولى السرائر, ولكن لابد أن نفرق بين البغض القلبي والكسل عن العمل أو استثقاله, فبعض الناس قد يكسل عن الصلاة أو يتثاقل الصوم ولكنه لا يبغض ذلك البغض القلبي فهذا لا يكفر ولكنه يلام ويعاقب ويزجر على هذا التهاون والتكاسل وكذلك بعض النساء يثقل عليها جداً أن يعدد زوجها ولكنها لا تبغض شريعة التعدد من قلبها وإنما يدفعها لاستثقالها الغيرة على الزوج لا بغض هذه الشريعة وبالجملة فهذا الناقض خطير جداً فلابد أن يتفقد العبد نفسه دائماً حتى لا يكون فيه شيء من ذلك وهو لا يشعر, الناقض السادس:- من استهزأ بشيء من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو ثوابه أو عقابه فإنه يكفر كما قال تعالى { قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } وهذا الناقض أثر من آثار الناقض الذي قبله فإن الناقض الذي قبله عمل قلبي وهو البغض وهذا الناقض من عمل الظاهر وهو الاستهزاء, لأنه من أقوال اللسان وهذه الآية الكريمة جاء في سبب نزولها أن جماعة من المسلمين كانوا غزاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك فاجتمعوا في مجلس فتكلم واحد منهم فقال: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء, يعنون بذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وكان في المجلس شاب من الأنصار يقال له عوف بن مالك فقال لهذا الرجل: كذبت ولكنك منافق, لأخبرن الرسول - صلى الله عليه وسلم - , فقام ذاهباً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخبره فوجد أن الوحي سبقه ونزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الله جل وعلا بما قال هؤلاء في مجلسهم, فارتحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من(1/133)
مكانه هذا الذي قيل فيه هذا القول الشنيع فجاء المتكلم بتلك الكلمات يعتذر للرسول - صلى الله عليه وسلم - فيقول: يا رسول الله إنا كنا نخوض ونلعب, أي نتحدث حديث الركب نقطع به الطريق عنا, والرسول - صلى الله عليه وسلم - ماضٍ في مسيره على راحلته لا يلتفت إليه, فتعلق هذا الرجل بنسعة ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وهو لا يلتفت إليه ولا يزيد على أن يقول { قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } وهذا دليل على أن الاستهزاء بشيء من الشرع كفر وردة عن الإسلام فيجب تعظيم الله تعالى وتعظيم رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيم الصحابة وتعظيم القرآن وأن من استهزأ بشيء من ذلك وتنقصه فإنه مرتد والعياذ بالله تعالى فلا يجوز جعل الله ورسوله أو الدين أو القرآن أو السنة أو عباد الله المؤمنين محطاً للتفكه وقطع المجالس في تنقصهم والاستهزاء بهم وهذا يفيدك الخطر العظيم ووجوب الحذر من مثل هذه المزالق اللسانية التي تهوي بصاحبها إلى أسفل سافلين, فعلى المسلم أن يتنبه لذلك وأن يجتنب الكلام السيئ ولاسيما الكلام في أمور الشرع وأهل الشرع والعلماء وأن يحفظ لسانه وأن يعلم أنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب وعتيد ويدخل في ذلك سب الله أو سب رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو سب الدين أو سب شيء منه أو سب القرآن أو سب الصحابة على وجه الإجمال أو سب الشيخين على وجه الخصوص أو الاستهزاء باللحية أو بالأذان قال تعالى { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } ويدخل فيه السخرية بتقصير الثياب أو الاستهزاء بالحدود وبتطبيقها, بل ويدخل فيه الاستهزاء بالإشارة كمد اللسان أو الشفتين عند ذكر شيء من ذلك وهو يقصد به الاستهزاء أو يشير إشارة تفيد التنقص والاستهزاء فهذا يعد تنقصاً(1/134)
واستهزاء وإن لم يتكلم بلسانه كما قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ... الآيات } وقال تعالى { وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } وقال تعالى { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } وهذه الآية الكريمة أعني قوله تعالى { قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ } فيها رد على المرجئة الذين يقولون لا يكفر إلا إذا اعتقد بقلبه لأن هؤلاء كانوا مؤمنين لقوله تعالى { بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } فلو أنهم كانوا منافقين لما كانوا مؤمنين, ومع ذلك فقد ثبت كفرهم من غير نظر إلى اعتقادهم بل صرحوا هم بأنهم ما أرادوا حقيقة ما قالوه وإنما كانوا يتحدثون حديث الركب يقطعون به الطريق ومع ذلك فقد كفرهم الله تعالى, ويدخل في ذلك الفكاهات والنكات على أهل الدين في لحاهم أو ثيابهم القصيرة ولو كان قصده مجرد إضحاك الناس فإنه كافر, فالحذر الحذر أيها المسلمون من فلتات اللسان وسقطاته الموجعة فإنها قد تذهب الدين وتنقل المتكلم من الجنة إلى الخلود الأبدي في النار وبئس القرار والله يحفظنا من كل زلل وهو المستعان وعليه التكلان, الناقض السابع:- السحر ومنه الصرف والعطف فمن فعله أو رضي به فقد كفر, قال تعالى { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } وقال تعالى { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } ومنه التولة وهي شيء يضعونه يزعمون أنه يحبب الرجل إلى امرأته والمرأة إلى زوجها, والساحر إذا مات على سحره فإنه ماله في الآخرة من نصيب كما قال تعالى { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ(1/135)
خَلاَقٍ } وحد الساحر إذا ثبت عليه أنه ساحر ضربه بالسيف حتى يموت لحديث (( حد الساحر ضربة بالسيف )) رواه الترمذي والدارقطني والطبراني والحاكم والصحيح أنه موقوف ولكن له حكم الرفع لأنه لا يقال بالرأي ولأن جندب وهو راوي الحديث لا يأخذ من أهل الكتاب وقد تقرر في القواعد أن الصحابي إذا قال قولاً لا مجال للرأي فيه ولم يكن يأخذ عن أهل الكتاب فإن له حكم الرفع قال الناظم :
وهكذا فاحكم له بالرفع بشرطه الآن فخذه وارع
إن لم يكن للرأي فيه معتنق ولم يكن يأخذ عمن سبق(1/136)
وقد عمل بذلك الصحابة رضوان الله عليهم فقد ثبت قتل الساحر عن ثلاثة, عن عمر فإنه كان يرسل إلى عماله:- أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. "أخرجه أحمد وأبو داوود وحسنه العلامة سليمان بن عبد الله رحمه الله تعالى في التيسير" وكذلك حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها وعن أبيها ومن يشابه أباه فما ظلم, فإنها قد أمرت بقتل ساحرة سحرتها فقتلت وقد رواه البيهقي وصححه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد, وكذلك جندب الخير فإنه قتل ساحراً عند الأمير كان يخيل للحاضرين أنه يقتل شخصاً ثم يحييه, فقتله جندب بالسيف وقال: إن كان صادقاً فليحي نفسه, ولا يعرف لهؤلاء الصحابة مخالف فهو كالإجماع, وقد ذكرنا مسائل كثيرة في السحر في كتابنا إتحاف أهل الألباب بمعرفة العقيدة والتوحيد في سؤال وجواب, والله يتولانا وإياك, الناقض الثامن:- مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين كما قال تعالى { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } وقد ذكر أهل العلم أن المظاهرة أقسام منها:- مظاهرتهم ومعاونتهم على المسلمين مع محبة ما هم عليه من الكفر والشرك والضلال, فهذا القسم لاشك أنه كفر أكبر مخرج من الملة, فمن ظاهرهم وأعانهم وساعدهم على المسلمين مع محبة دينهم وما هم عليه والرضا عنهم وهو مختار غير مكره فإنه يكون كفراً أكبر مخرج من الملة على ظاهر قوله تعالى { فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } ومنها:- أن يعاونهم على المسلمين لا مختاراً وهو لا يحبهم بل يكرهونه على ذلك بسبب إقامته بينهم فهذا عليه وعيد شديد ويخشى عليه من الكفر المخرج من الملة وذلك أن المشركين لما أكرهوا جماعة من المسلمين يوم بدر على الخروج معهم لقتال المسلمين فإن الله سبحانه وتعالى أنكر عليهم ذلك حيث إنهم تركوا الهجرة وبقوا مع المشركين وعرضوا أنفسهم إلى ما وقعوا فيه من إكراههم على الخروج مع أنهم يبغضون دين الكفار ويحبون دين(1/137)
المسلمين ولكن بقوا في مكة شحاً بأموالهم وبلدهم وأولادهم لا عن محبة للكفار أو محبة لدينهم فأنزل الله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ } يعني مع أي فريق كنتم ؟ هذا استنكار يعني لماذا كنتم مع المشركين وأنتم مسلمون؟ { قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ } ما لنا حيلة هم الذين أجبرونا وأكرهونا على ذلك { قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } لماذا تصبرون على البقاء مع الكفار وأنتم مسلمون؟ وعرضتم أنفسكم لما وقعتم في هذا المشهد المخيف؟ { فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا } هذا وعيد شديد لهم { إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } فالذي ترك الهجرة وهو يستطيع ولم يهاجر وبقي يسكن مع المشركين وأخرجوه معهم لقتال المسلمين هذا عليه وعيد شديد { إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ } فهؤلاء معذورون في بقائهم لأنهم لا يستطيعون الهجرة والله جل وعلا يقول { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } ومنها: من يعين الكفار على المسلمين وهو مختار غير مكره مع بغضه لدين الكفار وعدم الرضا عنه فهذا لا شك أنه فاعل لكبيرة من كبائر الذنوب ويخشى عليه من الكفر, ومنها: من يعين الكفار على الكفار الذين لهم عهد عند المسلمين فهذا حرام ولا يجوز لأنه نقض لعهد المسلمين فالكفار المعاهدون لا يجوز لجميع المسلمون قتالهم وفاء بالعهد الذي بينهم وبين المسلمين والذي يعين من قاتلهم من الكفار فهذا يكون نقضاً لعهد المسلمين ويكون عذراً بذمة المسلمين قال(1/138)
- صلى الله عليه وسلم - ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة)) وإذا كان الله عز وجل قد نهى المسلمين عن مناصرة المسلمين على الكفار إذا كان للكفار عهد عند المسلمين فكيف بمن ظاهر الكفار على نقض عهد المسلمين قال الله تعالى { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ } فإذا استنصر بنا مسلمون على كفار يجب علينا نصرة المسلمين على الكفار إلا في حالة واحدة إذا كان لهؤلاء الكفار عهد عند المسلمين فلا يجوز لنا أن نناصر المسلمين عليهم فكيف نناصر الكفار على حلفاء المسلمين فهذا أمر لا يجوز وكل هذا من أجل الوفاء بالعهد, ومنها: وهو مودة الكفار ومحبتهم من غير إعانة لهم على المسلمين هذا نهى الله عنه ونفى عن صاحبه الإيمان قال الله جل وعلا { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ } وقال تعالى { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } وقال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ...(1/139)
} إلى قوله { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } فسورة الممتحنة كلها في تحريم مودة الكفار ولو كانوا من أقرب الناس إلى المسلم وختمها بقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ } فكل سورة الممتحنة في موضوع معاداة الكفار وعدم محبتهم من أولها إلى آخرها والله يتولانا وإياك, الناقض التاسع:- من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فمن اعتقد ذلك فإنه كافر, ذلك لأنه يجب عليك أن تعتقد الاعتقاد الجازم أنه - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى الثقلين كافة كما قال تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } وقال تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } وقال تعالى { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } فرسالته - صلى الله عليه وسلم - عامة للإنس والجن, ويجب طاعته واتباعه فيما جاء به على جميع الإنس والجن ومن لم يستجب ولم يتبعه فهو من أهل النار قطعاً, والقول الصحيح أن الخضر نبي, والقول الصحيح أنه مات, والرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام في إثبات حياة الخضر ليست صحيحة ونسبتها لابن تيمية خطأ, والمعلوم من كلامه في الفتاوى إثبات موت الخضر وله في ذلك رسالة وقد أخطأ بعض الناس في اعتقاده أن الخضر خرج عن شريعة موسى, هذا خطأ محض وسوء فهم, لأن رسالة موسى عليه الصلاة والسلام ليست(1/140)
عامة وإنما هو نبي بني إسرائيل والخضر ليس من جملة من أرسل لهم موسى عليه السلام بل هو نبي مستقل, فلا يقال إن الخضر خرج عن شريعة موسى, لأنه لم يكن من أمة موسى أصلاً حتى يقال: خرج عن شريعته, وهذا كما يعتقد غلاة الصوفية فإنهم يزعمون أن الشيخ إذا وصل إلى مرحلة معينة ارتفعت عنه تكاليف الشريعة كما يعتقدونه في الحلاج رأس الزنادقة, وهذا الناقض يشمل العلمانيين الذين يدعون إلى فصل الدين عن الدولة وأن الدين والعبادات في المساجد وأن المعاملات وسياسيات الدول فهذه لا تدخل في دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن الناس هم الذين يتحكمون فيها, وكذلك أهل الكلام أفراخ الفلاسفة فلهم حظاً كبيراً من هذا الناقض, لأنهم يخرجون العقائد عن أدلة الكتاب والسنة ويعتمدون العقل في إثبات العقائد, ويجعلون أدلة الشرع ظنية لا تفيد شيئاً في مسائل العقيدة, ويدخل فيه الذين يدعون إلى وحدة الأديان فإنهم يسوغون لليهودي أن يبقى على يهوديته وللنصراني أن يبقى على نصرانيته ويصححون مذاهبهم ويعتقدون أنهم لا يلزمهم متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدخل فيه أيضاً الذين يدعون إلى نسف التحاكم للكتاب والسنة وتقرير التحاكم بالقوانين الوضعية ويدخل فيه الحداثيون الذين يدعون إلى ترك الماضي وإغلاق بابه وفتح باب التجديد في التشريع والتقنين وبالجملة فالذي نعتقده وندين الله تعالى به أن الإسلام هو الدين الحق الذي لا يقبل من أحد ديناً سواه وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى جميع الثقلين من الجن والإنس ويجب عليهم الإيمان به وبما جاء من كتابٍ وسنة, وأنه لا مسوغ لأحد كائناً من كان أن يترك الشريعة أو يستغني عنها, والله على ما نقول شهيد, الناقض العاشر:- الإعراض الكلي العام عن دين الله تعالى فلا يتعلمه ولا يعمل به كما قال تعالى { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ(1/141)
مُنتَقِمُونَ } وقال تعالى { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا } قال تعالى { وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ } وقال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا... الآية } وقال تعالى { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } وهذا الإعراض حقيقته عدم الرضا بالشريعة وعدم الرغبة فيها, ولكن كما ذكرت أنه يراد به الإعراض الكلي لا الجزئي, وأعني به الإعراض المطلق لا مطلق الإعراض, واعلم رحمك الله تعالى أن هذه النواقض هي رؤوس المسائل في هذا الباب, فاحذر يا أخي الكريم كل الحذر من هذه النواقض واحفظ توحيدك من الخدش والكسر, رحمك الله تعالى وعاملك بعفوه وجوده وكرمه وإحسانه فهذا خلاصة الكلام على الأمر الثالث من مقتضيات الإيمان بالله, وهو الإيمان بألوهيته جل وعلا ولم يبق لنا إلا الكلام عن الأمر الرابع وهو:(1/142)
الأمر الرابع:- الإيمان بأسمائه وصفاته وهو لب هذه العقيدة التي نحن بصدد شرحها وخلاصة ذلك أنه يجب على كل مسلم أن يؤمن الإيمان القاطع الراسخ بكل اسم سمى الله به نفسه في كتابه أو سماه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - في صحيح سنته وأن يؤمن بكل صفة قد وصف الله بها نفسه في كتابه أو وصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - في صحيح سنته من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل لأن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير, وقد قدمنا لك في بداية هذا الشرح المبارك إن شاء الله تعالى بعض القواعد الخاصة بالأسماء والصفات وسيأتي في ثنايا هذا الشرح لاحقاً كثير من القواعد والتفاصيل والتقاسيم فيما يتعلق بأسماء الله تعالى وصفاته إذا علمت هذا فاعلم أنه لا يتم الإيمان بالله تعالى إلا بالإيمان بهذه الأمور الأربعة وهي:- الإيمان بوجوده والإيمان بربوبيته, والإيمان بألوهيته, والإيمان بأسمائه وصفاته .(1/143)
المسألة الرابعة:- من مسائل الجملة التي نحن بصدد شرحها وهي ثمرات الإيمان بالله تعالى وذلك أن العبد إذا حقق الإيمان بربه جل وعلا بتحقيق هذه الأمور الأربعة التي أطلنا في تفصيلها فلابد أن يثمر ذلك الإيمان عدة ثمرات وهي كما يلي:- الأولى: تحقيق العبودية لهذا الرب العظيم, والحرص على تصفية هذه العبودية من شوائب الشرك والبدعة والمعصية والفناء في تحقيق توحيده بكل أقسامه لاسيما الألوهية, الثانية: التعبد لله بمقتضى أسمائه وصفاته الثالثة: تحقيق كمال محبته جل وعلا لأنه الخالق الرازق الذي أنزل لنا الكتب وأرسل لنا الرسل فلم يتركنا هملاً, بل هدانا بذلك إلى الصراط المستقيم والمنهج السليم رحمة بنا وإحساناً منه إلينا لأن رحمته سبقت غضبه, وعفوه سبق عقوبته, الرابعة: اللهج الدائم بحمده وشكره والثناء عليه جل وعلا لما له علينا من النعم العظيمة والآلاء الجسيمة ولما له من صفات الكمال ونعوت الجلال والجمال جل وعلا, الخامسة: راحة النفوس واطمئنان القلوب بمعرفته جل وعلا, فإن السعادة والحياة الطيبة منوطة بذلك, قال تعالى { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وقال تعالى { الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } السادسة: ارتياح الفطرة ولم شعثها وجمع شتاتها وسد الفراغ الذي فيها فإن في الفطرة ثلمة لا يسدها إلا معرفة الله تعالى والإيمان به والركون إليه والتوكل عليه, ولذلك فإن الكفار الذين لا يعرفون الله ولا يؤمنون به يحسون بفراغ كبير في فطرتهم وبهوة ساحقة عظيمة, وأما المؤمنون فإنهم لا يحسون بذلك لأن فطرتهم قد أنست بالله وبمعرفته والإيمان به, السابعة: دخول الجنة ابتداءً أو انتقالاً فإن الجنة لا يدخلها إلا من حقق التوحيد(1/144)
ونبذ الشرك وتحقيق التوحيد إنما يكون بهذه الأمور الأربعة, ولا يتم ذلك إلا بمعرفة الله جل وعلا والإيمان بما يجب الإيمان به مما جاء في الشرع والعمل على مقتضى ذلك, ففي الحديث (( إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة )) فالجنة لا يدخلها إلا أهل التوحيد, إما ابتداءً أي تكون الجنة أول منازلهم, وإما انتقالاً أي من أراد الله تعالى تعذيبه منهم في النار بسبب ما معه من الكبائر فإنه لا يخلد فيها وإنما يعذب فيها بقدر ما معه من الذنوب ثم يخرج منها إلى الجنة, فلا يخلد أحد في النار ممن معه أصل الإسلام وهذا كله من ثمرات الإيمان بالله تعالى والله أعلم, الثامنة: انتشار الأمن وحلوله والتمكين في الأرض وزوال الخوف وحصول الاستخلاف في الأرض كما قال تعالى { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } وكما قال تعالى { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } وهذه ثمرة عظيمة لا تحصل إلا بالتوحيد والإيمان ونبذ الشرك والبدعة والمعصية, التاسعة: تكفير السيئات ورفعة الدرجات كما قال تعالى { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } العاشرة: هداية القلوب كما قال تعالى { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } والفلاح كله والفوز كله لا يكون إلا بهذه الهداية, الحادية عشرة: تنزل الملائكة عليه عند(1/145)
احتضاره لتثبيته وتبشيره، كما قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ... الآيات } الثانية عشرة: أنه لا يخاف بخساً ولا رهقاً كما قال تعالى { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا } الثالثة عشرة: خشوع القلب وخضوعه لهذا الرب العظيم واستشعار مراقبته, والثمرات كثيرة ولكن هذا الذي يحضرني منها حال هذه الكتابة والله ربنا أعلى وأعلم .
المسألة الخامسة:- قول الشيخ رحمه الله تعالى ( وملائكته ) وهو جمع مفرده ملك بالفتح والملائكة هم عالم غيبي مخلوقون من نور للقيام بأعمال مخصوصة، فقوله ( عالم غيبي ) قيد أخرج عالم الإنس، لأنه عالم مشاهد ظاهر، وقوله ( مخلوقون من نور ) قيد أخرج عالم الجن لأنهم وإن كانوا من عالم الغيب إلا أنهم مخلوقون من مارج من نار كما قال تعالى { وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } وقوله ( للقيام بأعمال مخصوصة ) يدخل فيه جميع ما ورد من الأعمال التي يقوم بها الملائكة مما علمناه ومما لم نعلمه .(1/146)
المسألة السادسة:- اعلم أرشدك الله إلى طاعته أن الإيمان بالملائكة أصل من أصول الإيمان فمن أنكرهم أو أنكر شيئاً مما ثبت عنهم من الصفات والأعمال الواردة في الكتاب وصحيح السنة المتواترة فإنه مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ولا يتحقق الإيمان بالملائكة إلا إذا آمنت بعدة أمور :- الأول:- الإيمان الجازم القاطع بوجودهم وقد دل على وجودهم النقل وذلك في آيات كثيرة وسيأتي بعضها إن شاء الله تعالى، ويتضمن الإيمان بوجودهم الإيمان بأنهم أجسام لا أنهم مجرد أعراض أو أنهم قوى للخير فقط كما يقوله الفلاسفة الحمقى, الثاني:- الإيمان بما علمنا اسمه منهم باسمه ومن لم نعلم اسمه منهم فنؤمن بهم إجمالاً، وذلك كجبريل وميكائيل وإسرافيل ومنكر ونكير ورضوان وكل من صح الدليل باسمه فنؤمن به وباسمه, الثالث:- الإيمان بما علمناه من صفاتهم الواردة في الكتاب والسنة، فمن ذلك أنهم أولوا أجنحة كما قال تعالى { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء } وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في تفسير قوله تعالى { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } قال:- إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان.(1/147)
ومن ذلك ما وصف الله به عبده جبريل - عليه السلام - فقد وصف بالأمانة وكلهم أمناء ولا شك, وأنه شديد القوى وأنه ذو مكانة عند الله جل وعلا, وأنه ذو مرة أي ذو خلق حسن وأن له ستمائة جناح, كما قال تعالى { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى } وقال جل وعلا { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } وفي الحديث عند مسلم عن عائشة مرفوعا (( رأيته منهبطاً من السماء له ستمائة جناح ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض )) ومن ذلك: وصف الله تعالى ملائكة العذاب في قوله تعالى { عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } من ذلك: أنهم لا يفترون ولا يملون فيما أوكل إليهم من الأعمال ولا في عبادة الله تعالى قال تعالى { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ } وقال تعالى { فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } ومن ذلك: أنهم منزهون عن مخالفة الأمر وفعل المعصية قال تعالى { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } وقال تعالى { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } وقد ذكر الله تعالى في آيات كثيرة أن لما قال لهم { اسْجُدُوا لِآدَمَ } امتثلوا الأمر فبادروا بالسجود, ومن ذلك: أنهم لا يأكلون ولا يشربون ويستدل عليه بقصة أضياف إبراهيم قال تعالى { فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ } ومن ذلك أنهم أعداد كثيرة لا يحصيهم الرقم ولا يحيط بهم العد, قال تعالى { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } وقال - صلى الله عليه وسلم - ((أطت السماء وحق لها أن تئط ما من موضع أربع أصابع إلا ملك ساجد أو راكع)) وفي الحديث في صفة البيت(1/148)
المعمور (( فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم )) وأضرب لك مثالاً واحداً على كثرتهم وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - (( يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها )) فعدد هؤلاء أربعة مليار وتسعمائة مليون ملك, فسبحان من أحصاهم وخلقهم تعالى وتبارك وتقدس, الرابع:- الإيمان بما علمنا من أعمالهم الواردة في الكتاب والسنة فمن ذلك أن جبريل - عليه السلام - هو الموكل بالوحي وميكائيل هو الموكل بالقطر والزرع مما به حياة الأرض وإسرافيل هو الموكل بالنفخ في الصور ومنكر نكير موكلان بسؤال أصحاب القبور وملك الموت هو الموكل بقبض أرواح العباد ومنهم ملائكة موكلون بالنطفة في الرحم من نفخ الروح فيها وكتابة ما سيكون عليه من ذكورة وأنوثة أو شقاوة وسعادة, ومنهم الملائكة الموكلة بالجبال ومنهم الملائكة الحفظة الذين يحفظون العبد قال تعالى { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ } والملائكة الذين يحفظون أعمال العبادة بكتابتها قال تعالى { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } ومن ذلك: الملائكة الذين يتعاقبون علينا بالليل والنهار ويجتمعون في صلاة الفجر والعصر كما في الحديث المعروف (( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار )) ومنهم الملائكة السيارة الذين يسيحون في الأرض بحثاً عن حلق الذكر كما في حديث (( إن لله ملائكة سيارة ...الحديث )) ومنهم الملائكة الموكلون بالنار ومقدمهم مالك - عليه السلام - وغير ذلك من الأعمال مما ثبت في الكتاب والسنة, فإذا أتممت الإيمان بهذه الأمور الأربعة فإنك تكون قد حققت الإيمان بالركن الثاني من أركان الإيمان وهو الإيمان بالملائكة والله يعيننا وإياك على تحقيق ذلك التحقيق الكامل .(1/149)
المسألة السابعة:- اعلم رحمك الله تعالى أن هناك من الطوائف من تعتقد في الملائكة اعتقاداً فاسداً وذلك أن بعض الطوائف تعتقد أنهم يتصفون بشيء من صفات الألوهية فعبدوهم من دون الله تعالى, قال تعالى { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } وقال تعالى عنهم { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } وبه يتقرر أن الملائكة لا تحمل شيئاً من صفات الألوهية ولا يجوز صرف شيء من العبادة لها لأن العبادة حق الله الخالق لا يشاركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي صالح, ومن ذلك: أن المشركين كانوا يعتقدون أن الملائكة إناث هذا اعتقاد فاسد باطل كل البطلان قال تعالى { وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } وقال تعالى { فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ويتضمن ذلك الاعتقاد اعتقاد آخر فاسد وهو اعتقاد أن بين الله وبين الملائكة نسباً قال تعالى { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } والجنة هنا يراد بهم الملائكة على قول كثير من المفسرين, ومن ذلك ما يعتقده الفلاسفة الحمقى المجانين السفهاء السقطاء الذين خالفوا المنقول وناقضوا المعقول من أنه لا حقيقة(1/150)
للملائكة وليسوا بأجسام ولكن المراد بهم قوى الخير كما أن المراد بالشياطين قوى الشر وهذا المذهب كفر مخالف للقرآن السنة فإن ما ورد من صفاتهم في الكتاب والسنة تدل على أن لهم حقيقة ولهم أجسام .
المسألة الثامنة:- اعلم رحمك الله تعالى أن القاعدة في عالم الملائكة أن هذا العلم غيبي ومبنى أمره نفياً وإثباتاً على الدليل الشرعي الصحيح أي أنه لا مدخل للعقل في إثبات شيء له أو نفيه عنه بل الواجب هو الوقوف على ما وقف عليه النص ولا نتعدى القرآن والحديث فمن أثبت لهذا العلم شيئاً فإن قبولنا لهذا الإثبات موقوف على الدليل ومن نفى عنه شيئاً فإن هذا النفي موقوف على الدليل, فمن جعل العمدة في هذا الباب على عقله فقد ضل وأضل ولن يجني إلا الحيرة والتيه والشكوك والإشكالات التي لا مخرج منها إلا باعتماد هذه القاعدة المباركة, فعض عليه بالنواجذ واجعلها أساساً لك في هذا الباب, فما أثبته الدليل في هذا العلم أثبتناه وما نفاه عنه نفيناه وما لم يرد فيه إثبات ولا نفي فالواجب كف اللسان عنه والله يتولانا وإياك لما فيه الخير والصلاح .(1/151)
المسألة التاسعة:- اعلم رحمك الله تعالى أن الملائكة تموت كما قال تعالى { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ } ولعموم قوله تعالى { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } ولعموم قوله تعالى { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } وآخر من يموت ملك الموت وينفرد الحي القيوم الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء ولعموم قوله تعالى { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } ولكن اعلم أن الدليل إنما أثبت موتهم يوم النفخ في الصور وأما قبل ذلك فلا علم لنابه, وما لا علم لنابه فالواجب حتماً أن نقول فيه الله أعلم, والله يتولانا وإياك.(1/152)