الكشف عن حقيقة الصوفية
لأول مرة في التاريخ
تأليف/ محمود عبد الرءوف القاسم
بسم الله الرحمن الرحيم
اقرأ الفصلين الأول والثاني بهدوء وإمعان
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) [آل عمران:102].
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)) [النساء:1].
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)) [الأحزاب:70-71].
أمابعد..(1/1)
لننتبه إلى الآيات التالية، ولنتمثلها جيداً، قبل البدء بقراءة الفصول، يقول سبحانه: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)) [المائدة: (78-79)]. ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) [آل عمران:110]. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)) [الأنفال:24].
ثم: يقسم المتصوفة الصوفية إلى طريقة وحقيقة.
والطريقة هي التي تؤدي إلى الوصول إلى الحال الذي يعرفون به تلك الحقيقة.
فما هي الطريقة؟ وما هو الوصول؟ وما هي الحقيقة؟
وسنبدأ بدراسة الحقيقة أولاً، ثم الطريقة، ثم الوصول، وبعد ذلك تأتي المناقشات.
وستكون المناقشات بعرض حقائق الصوفية على القرآن والسنة، ثم تفسيرها فيزيولوجيًّا، ثم الكشف عن آثارها التاريخية والاجتماعية.
وعلى هذا فسيكون الكتاب قسمين:
- القسم الأول للدراسات.
- والقسم الثاني للمناقشات.
القسم الأول
الدراسات
الحقيقة - الطريقة - الوصول
الباب الأول
الحقيقة الصوفية
الفصل الأول
مذهب واحد
عباراتنا شتى وحسنك واحد ... ... وكلٌّ إلى ذاك الجمال يشير
لا يوجد إلا صوفية واحدة، غايتها واحدة، وحقيقتها واحدة (وسنرى أن طريقتها واحدة) منذ أن وجدت الصوفية حتى النهاية، وإن اختلفت الأسماء، وهذه براهين من أقوال عارفيهم (وصاحب البيت أدرى بما فيه):
قال الجنيد(1) (سيد الطائفة):
__________
(1) الجنيد بن محمد، إمام الطائفة، مات في بغداد سنة (297هـ) ويعرف أيضاً بالقواريري.(1/2)
(الصوفية أهل بيت واحد لا يدخل فيهم غيرهم)(1).
وقال أبو نصر السراج الطوشي(2) (صاحب اللمع، الكتاب الأم في التصوف):
...لأن علم الحقائق ثمرة العلوم كلها، ونهاية جميع العلوم، وغاية جميع العلوم إلى علم الحقائق، إذا انتهى إليها وقع في بحر لا غاية له، وهو علم القلوب، وعلم المعارف، وعلم الأسرار، وعلم الباطن، وعلم التصوف، وعلم الأحوال، وعلم المعاملات، أي ذلك شئت فمعناه واحد(3).
ويقول أبو طالب المكي(4):
...فأما المعرفة الأصلية التي هي أصل المقامات ومكان المشاهدات، فهي عندهم واحدة؛ لأن المعروف بها واحد، والمتعرف عنها، إلا أن لها أعلى وأول، فخصوص المؤمنين أعلاها، وهي مقامات المقربين، وعمومهم أولها، وهي مقامات الأبرار، وهم أصحاب اليمين(5).
ويقول أبو حامد الغزالي(6):
...فأما العلم الحقيقي الذي هو الكشف والمشاهدة بنور البصيرة، فكيف يكون حجاباً وهو منتهى المطلب(7).. [وعبارة (منتهى المطلب) تعني بوضوح أن لا غاية غيره].
ويقول ابن عربي(8) (الشيخ الأكبر):
...وينكرون الذوق؛ لأنهم ما عرفوه من نفوسهم، مع كونهم يعتقدون في نفوسهم أنهم على طريق واحدة، وكذلك هو الأمر، أصحاب الأذواق على طريق واحدة بلا شك، غير أن فيهم البصير والأعمى والأعمش، فلا يقول واحد منهم إلا ما أعطاه حاله، لا ما أعطاه الطريق، ولا ما هو الطريق عليه في نفسه(9)..
__________
(1) الرسالة القشيرية (ص:127).
(2) عبد الله بن علي بن محمد، طاوس الفقراء، مات سنة (378هـ).
(3) اللمع (ص:457).
(4) محمد بن علي المكي مات في بغداد سنة (386هـ).
(5) قوت القلوب: (2/79).
(6) محمد بن محمد الغزالي مات سنة (505هـ).
(7) إحياء علوم الدين: (1/255).
(8) محمد بن علي بن عربي الحاتمي، أندلسي مات في دمشق سنة (638هـ).
(9) الفتوحات المكية: (3/213).(1/3)
ويقول ابن البنا السرقسطي(1): مذاهب الناس على اختلاف ومذهب القوم على ائتلاف(2).
يشرح ابن عجيبة(3) هذا البيت فيقول:
...يقول (أي: ابن البنا): ثم تقوم الحجة الدالة على أنهم على المحجة والطريق المستقيم، بشيئين:..بخلاف مذهب الصوفية، فهي متفقة في المقصد والعمل وإن اختلفت المسالك.. فمرجع كلام القوم في كل باب لأحوالهم، وإلا فلا تنافي بين أقوالهم لمن تأملها، وذلك بخلاف مذهب غيرهم، والوجه فيه أن الحق واحد وطريقه واحدة وإن اختلفت مسالكها، فالنهاية واحدة، والذوق واحد، وفي معنى ذلك قال قائلهم:
الطرق شتى وطريق(4) الحق واحدة ... ... والسالكون طريق الحق أفراد
ومذهب الصوفية هو الاتفاق في الأصول والفروع، أما الأصول فنهايتهم الشهود والعيان، وهم متفقون فيه لأنه أمر ذوقي لا يختلف(5).
ويقول عبد الرزاق القاشاني(6) في شرحه على فصوص الحكم:
...يعني أن الطريق والغاية كلاهما واحدة في الحقيقة، وهو الحق، فالعارف يدعو على بصيرة من اسم إلى اسم(7).
ويقول أحمد الصاوي المالكي الخلوتي(8):
...وإنما العارفون تنافسوا في محبة الله ورسوله؛ فمنهم من طلب الوصال بالتغزل في الوسيلة، كالبرعي والبوصيري، ومنهم من طلبه بالتغزل في المقصد كابن الفارض وأمثاله، ومنهم من تغزل في المقامين كسيدي علي وفا، ومقصد الجميع واحد(9)...[يعني بقوله (الوسيلة): محمداً صلى الله عليه وسلم].
__________
(1) أبو العباس أحمد بن محمد بن يوسف التجيبي، من سرقسطة في جنوب الأندلس، مات قي فاس في حوالي الربع الأول من القرن التاسع.
(2) الفتوحات الإلهية، (ص:101).
(3) أحمد بن محمد بن عجيبة الدوريس الفاسي مات سنة (1224هـ).
(4) ليستقيم البيت يجب أن يكون (الطرق شتى ودرب الحق...).
(5) الفتوحات الإلهية، (ص:101) وما بعدها.
(6) الفاضل الكامل مات بعد سنة: (730هـ).
(7) ص:155).
(8) مصري مات سنة (1241هـ).
(9) الأسرار الربانية والفيوضات الرحمانية (ص:45).(1/4)
ويقول سيدي محمد كنسوس(1) (تيجاني):
...فاعلموا أيدكم الله أَن طرق المشايخ -رضوان الله عليهم- كلها أَبواب مفتوحة إِلى حضرة مولانا الكريم، وهى بمنزلة الطرق المحسوسة المؤدية إِلى محل واحد، وهي مع ذلك مختلفة في القرب والبعد والسهولة والصعوبة والأمن والخوف(2)...
وقال شاعرهم:
عباراتنا شتى وحسنك واحد ... ... ... وكل إلى ذاك الجمال يشير(3)
ويقول محمود أَبو الفيض المنوفي(4):
...وِاذا فني العبد عن الأغيار، كملت معرفته لبقائه مع الحق...وإذا وصل من المعرفة إِلى هذا الحد من التمكن شارف عين الجمع -أي: الحقيقة- وصار الجمع له حالًا...وهذا المعنى هو مرمى نظر الصوفية، وكل ما صنفوه ودونوه وامروا به ونهوا عنه في أقوال وأفعال وأحوال، إِنما هي وسائل إِلى هذا المقصد الشريف، والمقام المنيف(5)...
ويقول عبد القادر عيسى(6):
...وإن الطريق واحدة في حقيقتها، وإن تعددت المناهج العملية، وتنوعت أساليب السير والسلوك، تبعاً للاجتهاد وتبدل المكان والزمان، ولهذا تعددت الطرق الصوفية، وهي في ذاتها وحقيقتها وجوهرها واحدة(7)...
ويقول عبد الحليم محمود (الشيخ الأكبر) شيخ الجامع الأزهر:
...وفي الناس من يرى أن التصوف مذاهب وفرق وطوائف، ولكن هذا التفكير المنحرف تأتى إِلى القائلين به من نظرتهم إلى علم الكلام وإلى الفلسفة؛ ففي علم الكلام: أشاعرة ومعتزلة ومشبهة، وفي الفلسفة: أرسطيون وإِفلاطونيون وديكارتيون...
__________
(1) أبو عبد الله محمد بن أحمد مات في مراكش سنة: (1294هـ).
(2) كشف الحجاب (ص:329).
(3) غاية القرب، (ص:86).
(4) محمود أبو الفيض بن على بن عمر من منوف في مصر ولد عام (1312هـ)، أسس الكلية الصوفية في القاهرة ولعله لا يزال حيًّا حتى كتابة هذه الكلمات.
(5) معالم الطريق إلى الله، (ص:262).
(6) من حلب، شاذلي الطريقة، هاجر من حلب في أواخر السبعينات؛ متمتع بصحته حتى كتابة هذه الكلمات.
(7) حقائق عن التصوف، (ص:272).(1/5)
والنفوس مهيأة لقبول فكرة الطوئف في جميع العلوم النظرية؛ ولقد خلط الكاتبون بين هذه الدراسات والتصوف، فزعموا أن في التصوف مذاهب وفرقاً وطوائف ولو أمعنوا النظر، لعرفوا أن التصوف تجربة روحية، وليس نظراً عقلياً، وإذا كان النظر العقلي يفرق الناظرين إلى طوائف وفرق، فإن التجربة لا يختلف فيها اثنان؛ وإذا كانت الفلسفة، لأنها نظر عقلي، مذاهب متعددة، فإن التصوف، وهو تجربة، مذهب واحد لا تعدد فيه ولا خلاف.
وكما أنه لا يستساغ الخلط بين الوسائل والغايات في أي ميدان من الميادين، فإنه لا يجوز أن يستساغ الخلط بين طرق التصوف، وهي وسائل، وبين الغاية، وهي التصوف نفسه، فطرق التصوف متعددة مختلفة، وبعضها أوفق من بعض، وبعضها أسرع من بعض، ولكنها على اختلافها وتعددها، تؤدي إلى هدف واحد وغاية واحدة.
التصوف إذن مذهب «بصيغة المفرد» لا مذهب «بصيغة الجمع»(1).
هذه أقوال لبعض كبار القوم، نخلص منها إلى أن للصوفية عقيدة واحدة يدين بها كل المتصوفة قديمهم وحديثهم، وأن الطرق الصوفية (كالشاذلية والرفاعية والقادرية والخلوتية والنقشبندية واليشرطية والمولوية والبكطاشية والتجانية وغيرها وغيرها، وإن اختلفت أسماؤها، فهي كلها تؤدي إلى هدف واحد هو العقيدة الصوفية الواحدة.
فما هي هذه العقيدة؟
سيظن الكثيرون -بناء على ما تقدم- أنه يكفي لدراسة الصوفية أن ندرس عقيدة صوفي واحد، كالغزالي مثلاً، أَو ابن عربي، أو ابن عجيبة، أو غيره، ثم نطلق حكماً بكل ثقة واطمئنان على جميع المتصوفة، وإن حكمنا سيكون علمياً صحيحاً.
فنقول: هذا صحيح كل الصحة من الناحية العلمية، ولكننا إمام جماعة باطنية لهم عقيدة سرية، استهوت عقولهم ونفوسهم واستحوذت عليها، فلا يهتدون سبيلًا إِلا سبيلها، وهم يدافعون عنها بكل ما لديهم من إِمكانيات وبالمراوغات والمغالطات واللف والدوران وجميع الأساليب اللاعلمية واللاأخلاقية!
__________
(1) التعرف لمذهب أهل التصوف، (ص:12، 13).(1/6)
وكمثل على ذلك: إِنهم يعلمون يقيناً وخاصة الواصلون منهم أن الصوفية هي كفر وزندقة بالنسبة للشريعة الإسلامية، ومع ذلك فهم يكتمون هذه الحقيقة ويشيعون بين الناس أن الصوفية هي قمة الإسلام والإيمان وهي منتهى التقى والورع، وهي مقام الِإحسان!
وقد انطلت هذه الخدعة على الناس وصدقوها، حتى لو قلت لأحدهم: إِن الصوفية زندقة، لثار عليك واتهمك الاتهامات التي لا تخطر لك على بال، رغم أَنه ليس صوفيًّا، ولكنه اقتنع بالخدعة وانجرت عليه ذيولها.
ومثل من مراوغاتهم المعتادة: لو جئتهم بدراسة عن صوفية ابن عربي مثلًا، لسمعت من يقول لك: هذا مدسوس عليه، أَو لسمعت من يقول: هذا شيء لا يدين به الباقون، أو لسمعت: هذا كان فيما مضى من الزمان، ولم يبق له أثر، أو تسمع من يقول: الصوفية الآن لا يعرفون هذه الأمور ولا يفهمونها، فأَكثرهم بسطاء وسذج، أو هذا يعرفه بعضهم ويجهله الآخرون، وإن كانت الدراسة حول صوفي غير مشهور، فسيكون الجواب: هذا مندس على الصوفية، مدع لها، والصوفية الحقة بريئة منه ومن أمثاله، والصوفية الحقة هي قمة الِإسلام والِإيمان...
ولو أتيتهم بنصوص صوفية للغزالي مثلاً، وبرهنت لهم على صحتها وصحة نسبتها إلى قائلها وأريتهم مواضع الضلال فيها، فالجواب الذي ستسمعه: هذا كلام له تأويل! أو يجب أن نؤوله! أو هذا كلام لا نفهمه! أو...أو...إِلخ.
ومثل هذه الأجوبة، نسمعها أيضاً من غير المتصوفة من كثير من الناس، لأنهم سمعوها سابقاً من المتصوفة، وسمعوها وسمعوها كثيراً حتى اقتنعوا بها!(1/7)
ومن الأجوبة التي نسمعها من غير المتصوفة أكثر الأحيان، ومن المتصوفة في بعضها، قولهم: الصوفية على وشك الانتهاء، أَو هي في طريقها إِلى الزوال، أو إِن الصوفيين قليلون لا تأثير لهم في المجتمع، أو إِن الكلام عنهم فيه مبالغة.. إِلخ.. مع العلم أن (90%) من الأمة الإِسلامية لهم صلة بالتصوف وأهله بشكل من الأشكال- كما يقول سعيد حوى- أما الحقيقة فنسبة المتأثرين بالتصوف تزيد على ذلك، بل والمدافعون أنفسهم الذين يدعون أن التصوف انتهى هم في أفكارهم ودفاعهم متأثرون بالصوفية إِلى حد بعيد.
ومن أعجب ما نسمع من دفاع، قول القائل الغافل: إن فضح الصوفية هو دعاية لها، وعندما تصل السذاجة بصاحبها إلى مثل هذا المستوى، فلا يبقى مجال لمناقشتها.
أمام هذا الوضع الغريب عن الإِسلام، وعن قرآن الإِسلام، وعن سنة رسول الِإسلام.. أمام هذا الوضع الشاذ الذي تتخبط به المجتمعات الإسلامية.. أمام هذا الوضع، لا يكفي تقديم دراسة عن صوفي واحد أو اثنين أو ثلاثة أو عشرة! لذلك ستكون الفصول الآتية أقوالاً لأكبر عدد يمكن للكتاب أن يستوعبه من أئمتهم وكبرائهم، منذ الجنيد وأقرانه حتى أصحاب الطرق في أيامنا الحاضرة، بحيث لا يبقى مجال لأولئك المدافعين، ولا يبقى مكان لحججهم.
ويجب أن نتذكر دائماً، وأن لا ننسى أبداً أن التصوف مذهب واحد، كما يقرره أصحاب هذا المذهب العارفون الواصلون.
وكل ما هو آت من الفصول إِنما هو براهين على ذلك، ولنتذكر دائماً أن أصحاب البيت أدرى بما فيه.
الفصل الثاني
مدخل إلى فهم النصوص الصوفية
يا رب جوهر علم لو أبوح به ... ... لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي ... ... يرون أقبح ما يأتونه حسنًا(1/8)
قبل الولوج في متاهات النصوص الصوفية، ودهاليزها الملتوية المتعرجة، وزحاليقها المتقنة الصنع، قبل ذلك يجب أن نأخذ فكرة واضحة عن الأساليب التي يتبعونها في بسط أفكارهم وعقائدهم، في أقوالهم وكتاباتهم، في تواليفهم ودعاياتهم، لنستطيع فهم كلامهم بوضوح تام، وأن نعرف أغراضه وأهدافه، وبدون ذلك لا نستطيع دراسة الصوفية دراسة صحيحة، وستكون دراستنا لأساليبهم من أساليبهم، ومن أقوالهم وتواصيهم فيما بينهم.
سنرى -في هذه الدراسة- بوضوح تام ما يلي:
1- هناك سر غريب يتواصون بكتمانه عن غير أهله.
2- أهل هذا السر هم الصوفية.
3- هذا السر هو كفر وزندقة، يُقتل من يبوح به على أنه مرتد عن الإسلام.
4- يقسّمون المجتمع الإسلامي إِلى صنفين:
أ- أهل الشريعة: ويسمونهم أهل الظاهر، أو أهل الرسوم، أو أهل الأوراق، أو العامة.
ب- أهل الحقيقة: وهم الصوفية، ويسمونهم أيضاً أهل الباطن، وأهل الأذواق، أو الخاصة، وخاصة الخاصة هم كبارهم.
5- يتواصون دائماً وفي كل زمان ومكان، أن يظهروا لأهل الشريعة ما يوافقهم من الأحكام الِإسلامية، وأن يكتموا عنهم ذلك السر لئلا تباح دماؤهم، إِلا في حالات معينة (ستمر بين ثنايا النصوص) حيث يعبرون عنه باللغز والرمز والإشارة والعبارة المنمقة.
6- لا يعرف هذا السر إِلا بالذوق، أي: أن يذوقه الِإنسان بنفسه، وضربوا لذلك مثلاً: اللذة الجنسية التي لا يعرفها إِلا من يذوقها.
7- في العادة، يرمزون إِلى الذات الِإلهية بأسماء مؤنثة مثل ليلى وبثينة وغيرها..
وهذه نصوص لأئمتهم وأقطابهم وعارفيهم أوردها حسب التسلسل التاريخي (بدون دقة):
مما ينسبونه لزين العابدين (وهو في الواقع لكلثوم بن عمرو العتّابي توفي عام: 220هـ):
يا رب جوهر علم لو أبوح به ... ... لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا(1/9)
ولاستحل رجال مسلمون دمي ... ... يرون أقبح ما يأتونه حسناً(1)
فما هو هذا العلم الذي لو أباح به لرمي بالوثنية ولقتل على الردة؟
ويقول أبو بكر الكلاباذي (تاج الِإسلام)(2):
قال الجنيد للشبلي(3): نحن حبرنا هذا العلم تحبيراً، ثم خبأناه في السراديب، فجئت أنت فأظهرته على رءوس الملإ! فقال: أنا أقول، وأنا أسمع، فهل في الدارين غيري؟
يهمنا في هذا النص قول الجنيد فقط. إِنه يخبر عن علم حبره هو تحبيراً، (أي: وضع قواعده وأصوله)، ثم خبأه في السراديب! فما هو هذا العلم المخبأ؟! ولم خبأه في السراديب؟!
أما قول الشبلي فسنراه فيما بعد.
ويقول الجنيد أيضاً، مجيباً على رسالة أرسلها له أبو بكر الشبلي:
يا أبا بكر، الله الله في الخلق، كنا نأخذ الكلمة فننشقها، ونقرظها، ونتكلم بها في السراديب، وقد جئت أنت فخلعت العذار! بينك وبين أكابر الخلق ألف طبقة، في أول طبقة يذهب ما وصفت(4).
عندما يتمرس القارىء بالأساليب الصوفية سيعرف أَن معنى قوله: (يذهب ما وصفت)، هو: تُقتل.
ويقول الجنيد أيضاً:
لا يكون الصدّيق صدِّيقاً حتى يشهد له في حقه سبعون صدِّيقاً أنه زنديق، فهم يشهدون على ظاهره، مما ظهر من حاله؛ لأن الصديق يعطي الظاهر حكم الظاهر، ويعطي الباطن حكم الباطن، فلا يلبسون بالباطن على الظاهر ولا بالظاهر على الباطن، فهم يشهدون أنه زنديق ظاهراً، كما يعلمون أنه صديق باطناً، لتحققهم بذلك الحال في نفوسهم(5).
يا للعجب! ظاهراً -أي حسب الشريعة- زنديق، وباطناً صديق!! فهل الشريعة تخدعنا؟؟
__________
(1) الأنوار القدسية في بيان الآداب للشعراني، هامش الطبقات: (1/134)، والمناظر الإلهية، (ص:44)، والفتوحات الإلهية، (ص:44) وغيرها.
(2) التعرف لمذهب أهل التصوف، [باب: 65، (ص:145)].
(3) الشبلي من أصحاب الجنيد وأقرانه مات في بغداد عام (334هـ).
(4) اللمع، (ص:306).
(5) المناظر الإلهية، (ص:44)، وكشف الحجاب، (ص:373) وغيرها.(1/10)
وقال أيضاً (وقد أورده الغزالي في إحياء علوم الدين):
..أهل الأنس يقولون في كلامهم ومناجاتهم في خلواتهم أشياء هي كفر عند العامة(1).
وقال مرة: لو سمعها العموم لكفروهم، وهم يجدون المزيد في أحوالهم بذلك، وذلك يحتمل منهم ويليق بهم(2).
وقد كان الجنيد ينشد أبياتاً يشير بها إلى أسرار أحوال العارفين، وإن كان ذلك لا يجوز إِظهاره، وهي هذه الأبيات(3):
سرت بأُناس في الغيوب قلوبهم ... ... فحلّو بقرب الماجد المتفضل(4)
عراصاً بقرب الله في ظل قدسه ... ... تجول بها أرواحهم وتنهل
مواردهم فيها على العز والنهي ... ... ومصدرهم فيها لما هو أكمل
تروح بعز مفرد من صفاته ... ... وما كتمه أولى لدين وأعدل
سأكتم من علمي به ما يصونه ... ... وأبذل منه ما أرى الحق يبذل
وأعطي عباد الله منه حقوقهم ... ... وأمنع منه ما أرى المنع يفصل)
على أن للرحمن سراً يصونه ... ... إلى أهله في السر والصون أجمل
وقال سهل التستري(5): (للعالم ثلاثة علوم، علم ظاهر يبذله لأهل الظاهر، وعلم باطن لا يسعه إظهاره إلا لأهله، وعلم هو بينه وبين الله تعالى لا يظهره أحد)(6).
- أما العلم الظاهر، فقد عرفناه، إنه علم الشريعة. فما هو علم الباطن؟! ولم هو باطن؟!
وبقول الحلاّج(7): «المنكر في دائرة البراني، وأنكر حالي حين لم يران، (...وبالزندقة).. حملني...وبالسوء رماني»(8).
- يعني بدائرة البراني: ما هو خارج دائرة الصوفية.
__________
(1) إحياء علوم الدين: (4/292)، ولعل الفقرة (وهم يجدون المزيد.. إلخ) هي من تعليق الغزالي.
(2) إحياء علوم الدين: (4/292)، ولعل الفقرة (وهم يجدون المزيد.. إلخ) هي من تعليق الغزالي.
(3) إحياء علوم الدين: (4/288).
(4) في البيت إقواء.
(5) سهل التستري، من تستر، بلد من الأهواز، من أئمة القوم، توفي عام: (283هـ) أو (273هـ).
(6) إحياء علوم الدين: (1/89).
(7) قتل صلباً عام: (309هـ).
(8) الطواسين، طايسين النقطة.(1/11)
- فلم يسميه المنكر زنديقاً؟ ويرميه بالسوء؟! ما هو السر؟!
وقال: (يخاطب الناس في المسجد) ويروي القصة عبد الودود بن سعيد الزاهد: ...اسمعوا، إن الله أباح لكم دمي فاقتلوني، فبكى بعض القوم، فتقدمت من بين الجماعة، وقلت: يا شيخ، كيف نقتل رجلاً يصلي ويصوم ويقرأ القرآن؟ فقال: يا شيخ، المعنى الذي به تحقن الدماء خارج عن الصلاة والصوم وقراءة القرآن، فاقتلوني تؤجروا وأستريح، فبكى القوم، وذهب، وتبعته إلى داره، وقلت: يا شيخ، ما معنى هذا؟ قال: ليس في الدنيا للمسلمين شغل أهمّ من قتلي. فقلت له: كيف الطريق إِلى الله تعالى؟ قال: الطريق بين اثنين، وليس مع الله أحد. فقلت: بين. قال: من لم يقف على إشارتنا لم ترشده عبارتنا(1). إنه يقرر أن الشريعة تبيح قتله! فلِمَ؟
ويقرر أن المعنى الذي يباح قتله من أجله خارج عن الصلاة والصوم وقراءة القرآن! فما هو هذا المعنى؟
لننتبه إلى قوله: (ليس مع الله أحد)، وقوله: (من لم يقف على إِشارتنا لم ترشده عبارتنا).
ويقول:
كفرت بدين الله والكفر واجب ... ... عليّ وعند المسلمين قبيح(2)
- يعني بقوله: (كفرت) أي: سترت، والكفر هو الستر، فهو يقول: سترت بالإسلام، والستر واجب عليّ. - فما هو هذا الأمر الذي يستره بدين الله؟! ما هو؟!
- فما هو هذا الأمر الذي يستره بدين الله؟! ما هو؟!
- من الممكن أن نعرف هذا السر من بعض أقواله وفلتات شعره، يقول:
رأيت ربي بعين قلب ... ... فقلت: من أنت؟ قال: أنت(3)
فالحقيقة، والحقيقة خليقة، دع الخليقة، لتكون أنت هو، أو هو أنت من حيث الحقيقة(4).
- ولا أعلق على هذا القول بشيء، فهو واضح، وهو هو السر الذي يكتمونه.
__________
(1) أخبار الحلاج، (ص:57).
(2) ديوان الحلاج، (ص:28).
(3) الطواسين (طاسين النقطة).
(4) الطواسبن (طاسين الصفاء).(1/12)
وقال أبو الحسين النوري(1) مخاطباً الجنيد:
يا أبا القاسم، غششتَهم فأجلسوك على المنابر، ونصحتُهم فرموني على المزابل(2).
- وسنرى فيما يأتي من النصوص كيف غشهم الجنيد؟ إِنه كان يتكلم عليهم بالفقه.
ومما يورده الغزالي:
...قال بعضهم: للربوبية سر لو أظهر لبطلت النبوة، وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم، وللعلماء بالله سر لو أظهروه لبطلت الأحكام(3).
- أسرار!! تبطل بها النبوة، ويبطل بها العلم، وتبطل بها الأحكام؟! فما هي هذه الأسرار؟
وقال ابن عطاء(4) في قوله تعالى: ((وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا)) [النساء:63]، قال: على مقدار فهومهم ومبلغ عقولهم(5).
- واضح أنه يعني: على مقدار فهوم أهل الظاهر (أهل الشريعة)، ومبلغ عقولهم.
وقال بعض المتكلمين لأبي العباس بن عطاء: ما لكم أيها المتصوفة! قد اشتققتم ألفاظاً أغربتم بها على السامعين؟ وخرجتم على اللسان المعتاد! هل هذا إِلا طلب للتمويه؟ أو ستر لعوار المذهب؟
فقال أبو العباس: ما فعلنا ذلك إِلا لغيرتنا عليه، لعزته علينا، كيلا يشريها غير طائفتنا. ثم اندفع يقول:
أحسن ما أظهره ونظهره ... ... بادىء حق للقلوب نَشعره
يخبره عني وعنه أخبره ... ... أكسوه من رونقه ما يستره
عن جاهل لا يستطيع ينشره ... ... يفسد معناه إِذا ما يعبره
فلا يطيق اللفظ بل لا يعشره ... ... ثم يوافي غيره فيخبره
__________
(1) أحمد بن محمد النوري، بغدادي من أقران الجنيد مات سنة: (295هـ)، وترد كنيته في كتبهم أحياناً (أبو الحسن) وأحياناً (أبو الحسين)، وقد اعتمدت الثانية (أبو الحسين) دون تحقق، إذ لا يهمنا ذلك في هذا الكتاب.
(2) التعرف لمذهب أهل التصوف، (ص:146).
(3) إحياء علوم الدين: (1/88).
(4) أبو العباس بن محمد بن عطاء الأدمي البغدادي، من أقران الجنيد، مات سنة: (309هـ).
(5) التعرف، [باب: 65 (ص:146)].(1/13)
فيظهر الجهل وتبدو زمره ... ... ويدرس العلم ويعفو أثره(1)
وأنشدونا أيضاً له(2):
إِذا أهل العبارة ساءلونا ... ... أجبناهم بأعلام الِإشارة
نشير بها فنجعلها غموضاً ... ... تقصر عنه ترجمة العبارة
ونَشْهَدها وتُشْهِدُنا سروراً ... ... له في كل جارحة إِنارة
ترى الأقوال في الأحوال أسرى ... ... كأسر العارفين ذوي الخسارة
- البادي: ويقال: بادي الحق، والباده(3)، وهو بداية الوارد(4)، والوارد: كل ما يرد على القلب من المعاني من غير تعمد من العبد(5).
- وقوله: أكسوه من رونقه ما يستره عن جاهل...أي: يكسو الكلام الذي يظهره للناس من الرونق الذي يعجب السامع ما يستر حقيقة السر، لأنه لولم يفعل ذلك، لأخبر الجاهل (أي: غير الصوفي) به غيره، فكان ذلك سبباً لقتل صاحب هذا السر.. وبقتله وقتلهم يزول هذا العلم (الصوفي) ويظهر الجهل به.
- وفي الأبيات التي بعدها:
- أهل العبارة: يعني بها الناس غير الصوفيين الذين يحتاج في خطابهم إِلى العبارة ذات الرونق.
- الأحوال: جمع حال، وهو ما يرد على القلب من طرب وحزن أو بسط وقبض (وغيرها)، وتسمى أيضاً: الوارد(6).
- في البيت الأول والثاني يخبرنا أنه يجيب على السؤال بالِإشارة، ويجعل هذه الِإشارة غامضة! فلِمَ؟!
- في البيت الثالث يخبر عن تلك التي يَشْهدها هو، وتُشهده هي سروراً تستنير له كل جارحة من جوارحه، فما هي هذه التي يَشْهدها، وتُشْهده كل هذا السرور؟؟
__________
(1) التعرف، [باب: 31 (ص:89)].
(2) عبارة: (وأنشدونا أيضاً له) هي لأبي بكر الكلاباذي مؤلف (التعرف).
(3) الباده وردت في الرسالة القشيرية، حاشية العروسي (2/84).
(4) تعريف البادي من معجم مصطلحات الصوفية مادة (وارد).
(5) تعريف الوارد من معالم الطريق إلى الله: (ص:428).
(6) تعريف الأحوال من معجم مصطلحات الصوفية، مادة (حال).(1/14)
- في البيت الرابع يبين أنه عندما ترد عليه الأحوال- وعلى غيره- تكون الأقوال والكلمات لديهم أسيرة لا يطلقونها بحرية، ويشبهها بالعارفين (أي: الذين بلغوا الغاية من الصوفية) الذين خسروا حريتهم لأنهم باحوا بالسر، فأصبحوا أسرى مكبلين، وكذلك الأقوال.
- فلم كل هذا؟!
ويورد أبو بكر الكلاباذي قي (التعرف) ما يلي(1):
.. وقال غيره في قوله تعالى: ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ)) [الحاقة:44-45]، أي: لو نطق بالمواجيد على أهل الرسوم، يدل عليه قوله: ((بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة:67]، ولم يقل: بلغ ما تعرفنا به إِليك.
- المواجيد: جمع وجد على غير قياس، وهي ثمرات الأوراد(2)، أو الوجد هو غلبة ما كان يبعثه (المتواجد) ويتواجد له على قلبه(3)، وهو يشبه الحال والوارد.
- إنه يفسر الآية كما يلي: (لو نطق بما يجده عندما يرد عليه الحال، على أهل الرسوم، -أي: أهل الشريعة- أو أهل الظاهر، لأخذنا منه باليمين..).
- وطبعاً هذا تفسير ما أنزل الله به من سلطان، ولا عرفه محمد صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، وهو هنا يفتري على الله سبحانه أنه يأمر محمداً صلى الله عليه وسلم أن يكتم سر المواجيد! فما هو هذا السر؟
ويقول الطوسي (صاحب اللمع):
...ولهم في حقيقة التوحيد لسان آخر، وهو لسان الواجدين، وإشاراتهم في ذلك تبعد عن الفهم، ونحن نذكر من ذلك طرقاً كما يمكن شرحه، وهذا العلم أكثره إِشارة لا تخفى على من يكون أهله(4).
ويقول الطوسي نفسه في تعريف (التقية):
__________
(1) التعرف، (باب:65).
(2) حاشية العروسي: (2/46)، الهامش.
(3) حاشية العروسي: (2/43)، ويعرف ابن عربي في (كتاب اصطلاح الصوفية) الوجد بأنه: ما يصادف القلب من الأحوال المغيّبة له عن شهوده.
(4) اللمع، (ص:51).(1/15)
قال قوم: استعمال الأمر والنهي، وقال قوم: ترك الشبهات، وقال قوم: التقية حرم المؤمن كما أن الكعبة حرم مكة، وقال قوم: التقيه نور في القلب يفرق بها بين الحق والباطل(1)...
- هكذا جعلوا التقية مقدسة يتسترون بها. إِذاً: فنحن أمام فرقة باطنية.
ويقول أَبو طالب المكي(2):
...فتفصيل معاني التوحيد من شواهد الناظرين اضيق الضيق، وشهادة الجمع في التفرقة والبقاء قي الفناء أخفى الخفي، وشرح غريب عن الأسماع يُنكر أكثره أكثر من سمعه، غير أَن من له نصيب منه يشهد ما رمزناه، فينكشف له ما غطيناه(3).
- شواهد: جمع شاهد، وهو ما تعطيه المشاهدة(4) من الأثر في قلب المشاهد(5).
- الجمع: إِشارة إِلى حق بلا خلق(6). [لننتبه جيداً إِلى معنى (حق بلا خلق)].
- التفرقة (أو الفرق): وهو إشارة إلى خلق بلا حق، وقيل: مشاهدة العبودية(7)، [هناك الفرق الأول، والفرق الثاني، ولها عندهم تعابير كثيرة، ولننتبه إلى عبارة (خلق بلا حق)].
- الفناء على ثلاث درجات: فناء الظاهر، وهو مسلوبية العبد عن إرادته واختياره بتجلي الحق عليه بصفة الفعالية، وتسمى (فناء الأفعال).
وفناء الباطن: وهو مغلوبية صفاته في سلطنة أنوار الصفات القديمة الأزلية، وتسمى (فناء الصفات).
وفناء سر الباطن، الذي هو ذات العبد، فإِن الأفعال هي حجاب الصفات، فالصفات باطنها؛ والصفات هي حجاب الذات، فالذات باطنها وسرها، ولذا يسمى (فناء الذات)، وهو كناية عن مغلوبية ذات العبد في إِشراق أنوار عظمة الذات وأحديتها(8).
__________
(1) اللمع، (ص:303).
(2) محمد بن علي بن عطية الحارثي المكي، نشأ في مكة ومات في بغداد سنة: (386هـ).
(3) قوت القلوب: (2/81).
(4) أي: مشاهدة الحق (الله).
(5) رسائل ابن عربي (اصطلاح الصوفية).
(6) رسائل ابن عربي.
(7) رسائل ابن عربي.
(8) حاشية العروسي: (2/61).(1/16)
- البقاء: لا بد لصحة العبودية من التنزل عن عالم الجمع إِلى عالم التفرقة، ويقال لهذا: (البقاء)(1).
* ملحوظة: يلاحظ القارىء هنا أن الألغاز تفسر بالألغاز، ويُشرح الغموض بالغموض؟! وذلك لأننا الآن وجهاً لوجه أمام السر الذي يكتمونه.
ويقول أيضاً (أبو طالب المكي):
...وقال الجنيد: (وهؤلاء -أي: الصوفية- هم المدلون على الله تبارك وتعالى، والمستأنسون بالله تعالى، هم جلساء الله تعالى، قد رفع الحشمة بينه وبينهم، وزالت الوحشة بينهم وبينه، فهم يتكلمون أشياء هي عند العامة كفر بالله تعالى، لما قد علموا أن الله تعالى يحبهم، وأن لهم عند الله جاهاً ومنزلة، ثم قال عن بعض العلماء: أما أهل الأنس بالله تعالى فليس إلى معرفتهم سبيل).. هذا من كلام الجنيد ونحو معناه، حدثني به الخاقاني المقري، ولولا أنا روينا عنه ما ذكرناه، ما كنا نشرح حال هؤلاء إِشفاقاً على الألباب(2)...
- يوهم أبو طالب المكي القارئ أنه لا يشرح حال هؤلاء القوم الذين يتكلمون بأشياء هي الكفر عند العامة- أي: عند أهل الشريعة- إشفاقاً على الألباب، وهذا غير صحيح، فهو لا يشرح خوفاً من السيف، وليس شيئاً آخر.
نعود إِلى ما مر من مصطلحاتهم وألغازهم، ولا بأس من وضع بعض الصور الصغيرة التي قد تساعد على فهم هذه الألغاز، على أن توضيحها الكامل سيأتي في ما يأتي إِن شاء الله.
فالفناء: ويسمى أيضاً: المحو، والسكر، والغيبة، والطي، والحضور بالحق، والجلوة، والإحسان، والجمع.. وكلها أسماء لمسمى واحد، وهو مقام الجمع (وهناك بعض الاختلاف بين مدلول الكلمات)، فالجمع هو الفناء، وضم تعريفيهما إِلى بعضهما يساعد- بعض الشيء- على فهم السر والألغاز.
__________
(1) حاشية العروسي: (2/61).
(2) قوت القلوب: (2/77).(1/17)
أما البقاء: ويسمى أَيضاً: الفرق الثاني، أو الجمع في التفرقة، أو الفرق في الجمع، أو صحو الجمع، أو الِإطلاق.. فهو مقام أعلى من مقام الجمع، يجتمع فيه الفناء مع الصحو، أو الجمع مع الفرق، والاستغراق في مقام البقاء يسمى (جمع الجمع)، وبيت من تائية ابن الفارض قد يلقي أمام القارىء بعض النور، يقول:
ومن (أنا إِياها) إِلى (حيث لا إِلى) ... ... عرجت وعطرت الوجود برجعتي
في هذا البيت يخبرنا ابن الفارض أَنه بدأ عروجه إِلى الله (سبحانه وتعالى علوًّا كبيراً) من (أنا إِياها) الذي هو مقام الفناء، أو الجمع.. إِلخ، حتى وصل إِلى (حيث لا إِلى) ويكني بذلك عن مقام جمع الجمع.
- الرجاء من القارىء أن ينتبه إِلى كل عبارة، وخاصة (أنا إِياها)، وماذا يعني بـ(إِياها).
ويقول أبو حيان التوحيدي(1) في (رسالة:1):
يا هذا! إِن كنت ثاكلًا فنح على ما أصبت به، وإن كنت مكروباً بالسر فبح، فلعلك تشفي غليلك فيه(2).
* ملحوظة: في هذه الفقرة يذكر التوحيدي أحد الأسباب التي تدفع العارف بالسر إلى إفشائه.
ويقول أيضاً (رسالة كد):
...يا هذا! تجمع عن تفرقك، وتفرق في تجمعك! أتدري ما تفسير هذا اللغز؟
أي: احضر عن غيبتك، وتغيب عن حضورك، هذا أيضاً لغز آخر! أنا أكشف لك بما هو أبين، فتحل منه بما هو أزين؛ معنى ذلك: انف عن سرك الهموم كلها، حتى تنقى من كل دنس يكون في الإنس، ثم اخطب مجلسك من حضرة الحق بقبول ما يجود به لك(3).
__________
(1) علي بن محمد بن العباس، نزيل فارس، بقي إلى سنة: (400هـ) ويمكن أن تكون وفاته سنة: (407هـ).
(2) الإشارات الإلهية، (ص:48).
(3) الإشارات الإلهية، (ص:195).(1/18)
- أنبه إِلى ما يلي: إِنه يستعمل حرف الجر (عن) في العبارة الأولى (تجمع عن تفرقك) بينما يستعمل (في) في العبارة الثانية (تفرق في تجمعك) وذلك لأن- كلمة (تفرّق) تعني (الفرق الأول) الذي هو حالة المحجوبية التي نتخبط فيها نحن المحجوبون؛ فنحن نرى أن الخلق غير الحق! وهذا هو ما يسمونه (الفرق الأول) فهو يطلب الانخلاع عنه بالترقي إِلى مقام الجمع، فيقول: (تجمع عن تفرقك)، بينما في العبارة الثانية: (تفرق في تجمعك) يطلب من الواصل إِلى (الجمع) أن يتحقق بالتفرقة في جمعه، أي: يجمع التفرقة والجمع، وهذا -كما مر معنا- هو مقام (البقاء) أو (الفرق الثاني).
- والفرق الأول هو ما عبر عنه بعد ذلك بـ(الهمهوم كلها).، وبـ(كل دنس يكون فى الإنس)، فالهموم كلها وكل دنس يكون في الإنس: يعني بهما (الفرق الأول)، أو حالة المحجوبية التي نحن المحجوبون فيها.
- السر: في قوله: (انف عن سرك..)، هو حسب اصطلاحهم، لطيفة مودعة في القلب، كالروح في البدن، وهو محل المشاهدة(1) (أَي: مشاهدة الألوهية).
- لاحظنا أنه عبر هنا عن (الفرق الأول) أو حالة المحجوبية التي هي عدم رؤية الحق في الخلق، عبر عنها بـ(الهموم والدنس)، وقد يعبرون عنها أيضاً بـ(الصفات الذميمة، أو الردية)، و(الأفعال الذميمة، أو الردية)، وما شابه هذه التعابير.
كما يعبرون عن (الجمع) بـ (الصفات الحميدة) أو (الأفعال الحميدة) أو الِإحسان) وما شابه ذلك.
ويقول أبو بكر الكلاباذي(2):
إن للقوم عبارات تفردوا بها، واصطلاحات فيما بينهم، لا يكاد يستعملها غيرهم، نعبر ببعض ما يحضر، ونكشف معانيها بقول وجيز.
__________
(1) معجم مصطلحات الصوفية باختصار.
(2) محمد بن إبراهيم، فارسي، مات سنة: (380هـ) أو (390هـ).(1/19)
وإنما نقصد في ذلك إلى معنى العبارة دون ما تتضمنه العبارة، فإن مضمونها لا يدخل تحت الإشارة فضلاً عن الكشف، وأما كنه أحوالهم، فإن العبارة عنها مقصورة، وهي لأربابها مشهورة(1).
- يعني بكلمة (الكشف) هنا: المعنى اللغوي المعروف، لا معناهم الاصطلاحي، أما عبارة (العبارة عنها مقصورة) فسنرى بعد التمرس بأسلوب القوم أنها مغالطة للإيهام، وأن المانع عن كشفها هو الحرف من عقوبة الردّة.
ويقول القشيري(2) (صاحب الرسالة):
...وهذه الطائفة يستعملون ألفاظاً فيما بينهم، قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم، والإجمال والستر علي من باينهم في طريقتهم، لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب غيرة منهم على أسرارهم أن يشيع استعمالها في غير أهلها، إِذ ليست حقائقهم مجموعة بنوع تكلف، أو مجلوبة بضرب تصرف، بل هي معانٍ أودعها الله تعالى قلوب قوم، واستخلص لحقائقها أسرار قوم(3).
- عبارة غيره منهم على أسرارهم) هي أَيضاً مغالطة، وسنرى أَمثالها كثيراً، إِنها ليست الغيرة، وإنما هو الخوف من السيف (سيف الردة).
ويقول أبو حامد الغزالي (الذي يسمونه حجة الِإسلام)(4):
__________
(1) التعرف، (ص:111).
(2) أبو القاسم، عبد الكريم بن هوازن، مات سنة: (465هـ) في نيسابور.
(3) الرسالة القشيريه، (ص:31).
(4) محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الغزالي مات في طوس سنة: (505هـ).(1/20)
...ليس كل سر يكشف ويفشى، ولا كل حقيقة تعرض وتجلى، بل صدور الأحرار قبور الأسرار، ولقد قال بعض العارفين: (إِفشاء سر الربوبية كفر)، بل قال سيد الأولين والآخرين: (إِن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إِلا العلماء بالله، فإِذا نطقوا به لم ينكره إِلا أهل الغرّة بالله. ومهما كثر أهل الاغترار، وجب حفظ الأسرار على وجه الِإسرار، لكني أراك(1) مشروح الصدر بالله بالنور، منزه السر عن ظلمات الغرور، فلا أشح عليك في هذا الفن بالِإشارة إِلى لوامع ولوائح، والرمز إِلى حقائق ودقائق، فليس الخوف في كف العلم عن أهله بأقل منه في بثه إِلى غير أهله.
فمن منح الجهال علماً أضاعه ... ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم
فاقنع بإِشارات مختصرة، وتلويحات موجزة(2).
* الملحوظات:
أ- يبين (حجة الِإسلام) متى يكتم هذا العلم المكنون؟ ومتى ينشر؟ ولمن؟
ب- يذكر (أهل الغرة بالله)، وأهل (الاغترار الذين يجب حفظ الأسرار عنهم)، و(الجهال...) فمن هم هؤلاء؟ من هم؟
ج- يقول لسائله: (أراك مشروح الصدر بالله بالنور) فما هو هذا النور؟
د- بالعودة إِلى ما سبق من نصوص، نعرف أن الجهال هم أهل الظاهر (أهل الشريعة) وهم هم أهل الغرة بالله؟!
هـ- يشير (حجة الِإسلام) إِلى أن ما سيذكره هو إِشارات إِلى لوامع ولوائح، هو رمز إِلى حقائق يخفيها، هو إشارات مختصرة وتلويحات موجزة؟! فما هي؟
ويقول:
__________
(1) هذا الكلام، بل الكتاب (مشكاة الأنوار) كله هو جواب لسائل سأله.
(2) مقدمة كتاب مشكاة الأنوار.(1/21)
...نعم، قد تختلف الأعصار في كثرة الحاجة وقلتها، فلا يبعد أن يختلف الحكم لذلك، فهذا حكم العقيدة التي تعبد الخلق بها، وحكم طريق النضال عنها وحفظها (يعني بذلك علم الكلام)، فأما إزالة الشبهة وكشف الحقائق، ومعرفة الأشياء على ما هي عليه، وإدراك الأسرار التي يترجمها ظاهر ألفاظ هذه العقيدة، فلا مفتاح له إلا المجاهدة وقمع الشهوات، والإقبال بالكلية على الله تعالى، وملازمة الفكر الصافي عن شوائب المحاولات، وهي رحمة من الله عز وجل تفيض على من يتعرض لنفحاتها بقدر الرزق، وبحسب التعرض، وبحسب قبول المحل، وطهارة القلب، وذلك البحر الذي لا يدرك غوره ولا يبلغ ساحله، فإن قلت: هذا الكلام يشير إلى أن هذه العلوم لها ظواهر وأسرار، وبعضها جلي يبدو أولاً وبعضها خفي يتضح بالمجاهدة والرياضة والطلب والحثيث والفكر الصافي والسر الخالي عن كل شيء من أشغال الدنيا سوى المطلوب، وهذا يكاد يكون مخالفاً للشرع، إذ ليس للشرع ظاهر وباطن وسر وعلن، بل الظاهر والباطن والسر والعلن واحد فيه، فاعلم أن انقسام هذه العلوم إلى خفية وجلية لا ينكرها ذو بصيرة، وإنما ينكرها القاصرون الذين تلقفوا في أوائل الصبا شيئاً وجمدوا عليه، فلم يكن لهم ترقّ إلى شأو العلاء، ومقامات العلماء والأولياء(1).
* الملحوظات:
أ- يقول: إن معرفة حقائق الأمور وكشفها، ومعرفة الأشياء على ما هي عليه (لا كما يعرفها الناس) وإدراك الأسرار، كل هذا لا يعرف إلا بالمجاهدة وقمع الشهوات و..!
فهل يجيز لنا (حجة الإسلام) هنا أن نتساءل: ما هو دور الرسل؟ وما هو دور الشريعة؟
وما هو دور العلم؟! بل ما هي الفائدة من إرسال الرسل؟!
ب- ما الذي كان يمنع محمداً صلى الله عليه وسلم من أن يعلمنا أن الحقيقة لا تعرف إِلا بالمجاهدة وقمع
الشهوات و..، وما هو الخطر الذي كان يخشاهُ صلى الله عليه وسلم من ذلك حتى جاء هؤلاء العارفون ليعرفونا بهذا السر؟!
__________
(1) إحياء علوم الدين: (1/88).(1/22)
ج- تقريره وتأكيده على وجود الظاهر والباطن، والسر والعلن، وان هذا لا ينكره إلا من عميت بصيرته! فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمى البصيرة عندما قال لنا: {قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك...}(1).
د- ما هي غاية (حجة الإسلام) من تعريضه بـ(الذين تلقفوا في أوائل الصبا شيئاً وجمدوا عليه..)، وماذا يعني بكلمة (شيئاً) التي تفيد التعميم بكونها اسماً نكرة؟! طبعاً إن من هذا الشيء الذي تلقفوه هو علوم القرآن والسنة (الشريعة).
ويقول أبضاً:
..فإن فلت:.. فإن الباطن إن كان مناقصاً للظاهر ففيه إِبطال الشرع، وهو قول من قال: (إِن الحقيقة خلاف الشريعة، وهو كفر؛ لأن الشريعة عبارة عن الظاهر، والحقيقة عبارة عن الباطن، وإِن كان لا يناقضه ولا يخالفه فهو هو، فيزول به الانقسام، ولا يكون للشرع سر لا يفشى، بل يكون الحفي والجلي واحداً؟ فاعلم أن هذا السؤال يحرك خطباً عظيماً، وينجر إِلى علوم المكاشفة، ويخرج عن مقصود علم المعاملة، وهو غرض هذه الكتب، فإن العقائد التي ذكرناها من أعمال القلب، وقد تعبدنا بتلقينها(2) بالقبول والتصديق بعقد القلب عليها، لا بأَن يُتوصل إِلى أن ينكشف لنا حقائقها، فإِن ذلك لم يكلف به كافة الخلق...وإِنما الكشف الحقيقي هو صفة سر القلب وباطنه، ولكن إِذا أبحر الكلام إِلى تحريك خيال في مناقضة الظاهر الباطن، فلا بد من كلام وجيز في حله، فمن قال: إِن الحقيقة تخالف الشريعة، أَو الباطن يناقض الظاهر، فهو إِلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان! بل الأسرار التي يختص بها المقربون يدركها ولا يشاركهم الأكثرون في علمها، ويمتنعون عن إِفشائها إليهم، ترجع إِلى خمسة أقسام:
__________
(1) سنن ابن ماجة، المقدمة، حديث: (43).
(2) بتلقينها، هكذا في الِإحياء، ولعلها غلطة في النسخ أو الطباعة، ولعل الصحيح هو (بتلقيها).(1/23)
القسم الأول: أَن يكون الشيء في نفسه دقيقاً تكل أكثر الأفهام عن دركه! فيختص بدركه الخواص، وعليهم أن لا يفشوه إِلى غير أَهله، فيصير ذلك فتنة عليهم حيث تقصر أَفهامهم عن الدرك، وإِخفاء سر الروح(1)، وكفُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيانه من هذا القسم، فإِن حقيقته تكل الأفهام عن دركه وتقصر الأوهام عن تصور كنهه.. بل في صفات الله عز وجل من الخفايا ما تقصر أفهام الجماهير عن دركه، ولم يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم منها إِلا الظواهر للأفهام من العلم والقدرة وغيرهما، حتى فهمها الخلق بنوع مناسبة توهموها إِلى علمهم وقدرتهم، إِذ كان لهم من الأوصاف ما يسمى علماً وقدرة، فيتوهمون ذلك بنوع مقايسة، ولو ذكر من صفاته ما ليس للخلق مما يناسبه بعض المناسبة شيء، لم يفهموه، بل لذة الجماع إِذا ذُكرت للصبي أَو العنين لم يفهمها إِلا بمناسبة إِلى لذة المطعوم الذي يدركه، ولا يكون ذلك فهماً على التحقيق(2).
* الملحوظات:
أ- تقرير «حجة الإِسلام» أَن القول بأن «لا يكون للشرع سر لا يفشى، بل يكون الخفي والجلي وأحداً»، يحرك خطباً عظيماً! وينجر إِلى علوم المكاشفة.
- وقد عرفنا ما هو الخطب! وسنعرف أيضاً.
ب- تقريره أنهم (أي: الصوفية) تعبدوا الله بتلقيها بالقبول المباشر، قبل أَن ينكشف لهم؛ لأن الكشف لمِ يكلف به كافة الخلق، وهذا الكلام هو عرض فيه إِيحاء للقارئ أَن يتلقى هو أَيضاً هذه العلوم الكشفية بالقبول المباشر، لا بأَن يتوصل إلى أن تنكشف له!
ج- هذه الجملة (الأسرار التي يختص بها المقربون) وما فيها من إيهام وإيحاء مغري!
د- تقريرهُ أَن السر لا يمكن فهمه فهماً صحيحاً بالشرح، ولا يفهم إِلا بالذوق، ويشبهه بلذة الجماع.
__________
(1) إشارة إلى حديث ابن مسعود حين سأله اليهود عن الروح، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم حتى نزلت الآية، واستعماله في هذا الموضوع هو مغالطة صريحة.
(2) الإحياء: (1/89).(1/24)
ويقول: ...زاد الفلاسفة فأَولوا كل ما ورد في الآخرة، وردوه إِلى آلام عقلية وروحانية، ولذات عقلية، وأَنكروا حشر الأجساد، وقالوا ببقاء النفوس، وأَنها تكون إِما معذبة وإما منعمة بعذاب ونعيم لا يدرك بالحس؛ وهؤلاء هم المسرفون، وحد الاقتصاد بين هذا الانحلال كله وبين جمود الحنابلة دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنورها إلهي، لا بالسماع ثم إذا انكشف لهم أسرار الأمور على ما هي عليه، نظروا إِلى السمع والألفاظ الواردة، فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه، وما خالف أَولوه- فأَما من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع المجرد، فلا يستقر له فيها قدم، ولا يتعين موقف...والآن فكشف الغطاء عن حد الاقتصاد في هذه الأمور داخل في علم المكاشفة، والقول فيه يطول، فلا نخوض فيه، والغرض بيان موافقة الباطن الظاهر، وأنه غير مخالف له(1).
* الملحوظات:
1- ماذا يعني بعبارة (جمود الحنابلة)؟ في حدود معرفتي، كان علماء الحنابلة يطلبون دائماً الدليل من القرآن والسنة ويتمسكون به، فهل هذا هو الجمود الذي يعنيه (حجة الِإسلام)؟!
2- تقرير «حجة الإسلام ومحجة الدين التي يتوصل بها إِلى دار السلام» أن الحق الذي يسميه «حد الاقتصاد» لا يعرف بالسماع والسماع بدهيًّا، يكون من عالم بالقرآن أو عالم بالحديث أَو عالم بالفلسفة...وغيرها. وهؤلاء- طبعاً- أَخذوا علومهم بالسماع من علماء قبلهم، وهؤلاء- حسب قول الغزالي- لا يطلعون على حد الاقتصاد، ولا يمكن أن يعرفوه! إِذاً: فكيف يمكن معرفته؟!
الجواب يقدمه (حجة الِإسلام): لا يطلع عليه إِلا الموفقون الذين يدركون سر الأمور بنور إِلهي (أي: بالكشف)، لا بالسماع! فنسأله: ما هو دور القرآن والحديث؟ ولم أنزلا؟ ونسأل غيره: أليس هذا الكلام هو كفر من جهة، ومحاربة للعلم من جهة ثانية؟!
__________
(1) إحياء علوم الدين: (1/92).(1/25)
3- يقرر (حجة الِإسلام ومحجة الدين التي يتوصل بها إِلى دار السلام) أن علم الكشف هو الحق، هو واقع الوجود وحقيقته، بقوله: (إِذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه)، وقوله: (ما شاهدوه بنور اليقين)! وسنرى فيما يأتي أنه مخدوع، وأن كشفه لا يمت إلى اليقين بأي صلة.
4- اعترافه بوضوح كامل وصراحة تامة أنهم لا يأخذون بغير الكشف، وأنهم لا يعترفون بشيء من الشريعة إِلا إِن وافق كشفهم! وما يخالف كشفهم يؤولونه! وهذا يعني بكل جلاء، أنهم يعتبرون الشريعة غير صحيحة، وأنها ليست هي الحق، وأَنها - على الأقل- فيها أخطاء يجب أن تؤوّل لتتفق مع كشفهم!
والسؤال: إِذا لم يكن هذا ضلالًا وزندقة..! فما هو الضلال والزندقة..؟
وقد يقول قائل -وما أكثرهم-: إِنه لا يعني الشريعة بقوله: (السمع والألفاظ الواردة)، فنجيبه:
أ- الفلسفة، لا يحتاجون تأويل نصوصها؛ لأن من أَسهل الأمور أَن يقولوا عنها: إِنها كذب وخطأ وضلال وكفر وأي شيء يريدون، دون أَن يخافوا أحداً أو يخشوا شيئاً، أَما الشريعة فهي التي لا يستطيعون أن يقولوا عنها: إِنها كذب أَو خطأ، أَو يقولوا: فيها شيء من ذلك؛ لأن وراء هذا القول حد الردة، لذلك يستعملون الِإشارة والرمز واللغز ليموّهوا علينا، فيقول قائلهم: (السمع والألفاظ الواردة) بدلًا من (الشريعة)!
ب- الغزالي نفسه يوضح لنا مراده من مثل هذا التعبير في مكان آخر من إِحيائه، يقول: (.. أن يكون مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد، وجمد عليه وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إِليه ببصيرة ومشاهدة، فهذا شخص قيده معتقده.. فصار نظره موقوفاً على مسموعه، فإن لمع برق على بعد وبدا له من المعاني التي تباين مسموعه حمل عليه شيطان التقليد حملة(1)...
إِذن فالغزالي يعني بـ (السمع والألفاظ الواردة) الشريعة الِإسلامية.
__________
(1) إحياء علوم الدين: (1/255).(1/26)
5- وقد يأتي متحمس، وقد يحمل شارة علمية ذات اسم أو ذات شكل، ليفور ويثور، ويأتي بنصوص من هنا وهناك، يحاول أَن يثبت له بها الِإمامة والاستقامة! فنجيبه:
أ- هذا أسلوب معروف من أساليب المغالطة.
ب- الجواب عليه ورده واضح في هذه النصوص المنقولة عنهم.
ج- نحن هنا أمام نصوص محددة نناقشها، وموضوع معين ندرسه.
6- بما أن سيف التأويل (السحري) مسلط على رقاب النصوص (من قرآن وحديث)، إذن فلا مخالفة بين الشريعة والكشف! (هذا ما يقرره الحجة)!
- هنا نتقدم -بخشوع صوفي- لنسأل (الإمام، حجة الإسلام، ومحجة الدين التي يتوصل بها إلى دار السلام!) لنسأله: ما معنى قوله سبحانه: ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)) [النساء:59]؟
- وهل يا إمام عبارة ((فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ))، تعني: ردوه إلى الكشف!
- جوابنا لهذا الِإمام ولأتباع هذا الإمام، هو: أِن من يؤمن أن محمداً رسول الله، يقول: إذا خالف القرآن الكشف، ندوس الكشف تحت أقدامنا، ونتبع القرآن الكريم، هذا هو سبيل المسلم.
ويقول أيضاً:(1/27)
...علم المكاشفة -وهو علم الباطن- وذلك غاية العلوم، فقد قال بعض العارفين: من لم يكن له نصيب من هذا العلم أخاف عليه سوء الخاتمة، وأدنى نصيب منه التصديق به والتسليم لأهله...وأقل عقوبة من ينكره أنه لا يذوق منه شيئاً...وهو علم الصديقين والمقربين (أعني: علم المكاشفة) فهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة(1)، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسماءها، فيتوهم لها معانٍ مجملة، غير متضحة، فيتضح إِذ ذاك، حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه، وبصفاته الباقيات التامات، وبأفعاله، وبحكمه في خلق الدنيا والآخرة، ووجه ترتيبه للآخرة على الدنيا، والمعرفة بمعنى النبوة والنبي، ومعنى الوحي، ومعنى الشيطان، ومعنى لفظ الملائكة والشياطين، وكيفية معاداة الشياطين للِإنسان، وكيفية ظهور الملك للأنبياء، وكيفية وصول الوحي إِليهم، والمعرفة بملكوت السماوات والأرض، ومعرفة القلب، وكيف تصادم جنود الملائكة والشياطين فيه، ومعرفة الفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان، ومعرفة الآخرة والجنة والنار، وعذاب القبر والصراط والميزان والحساب، ومعنى قوله تعالى: ((اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)) [الإسراء:14]. ومعنى لقاء الله عز وجل، والنظر إِلى وجهه الكريم، ومعنى القرب منه والنزول في جواره...إِذ للناس في معاني هذه الأمور بعد التصديق بها مقامات شتى، فبعضهم يرى أن جميع ذلك أمثلة.. وبعضهم يدعي أموراً عظيمة في المعرفة بالله عز وجل...فنعني بعلم المكاشفة أن يرتفع الغطاء حتى تتضح له جلية الحق في هذه الأمور إيضاحاً يجري مجرى العيان الذي لا يشك فيه، وهذا ممكن في جوهر الإنسان لولا أن مرآة القلب قد تراكم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا، وإنما نعني بعلم طريق الآخرة العلم بكيفية تصقيل هذه المرآة عن هذه الخبائث
__________
(1) مرّ معنا قبل صفحات معنى عبارة: (صفاته المذمومة).(1/28)
التي هي الحجاب عن الله سبحانه وتعالى وعن معرفة صفاته وأفعاله.. ولا سبيل إليه إلا بالرياضة التي يأتي تفصيلها(1)...
* الملحوظات:
أ- علم المكاشفة هو علم الباطن، وهو غاية العلوم.
ب- يجب التصديق به والتسليم لأهله.
ج- هو علم الصديقين والمقربين:
وعلينا أن نلاحظ ما في الفقرتين (ب، ج) من إيحاء براق وجذاب! كما علينا أن ننتبه إلى تزكيتهم أنفسهم (صديقون ومقربون) بالرغم من الآيات الكريمة: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:49-50] و((فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)) [النجم:32] و((وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)) [الأحقاف:9].
د- يلقي الغزالي هنا بصيص نور على السر الذي يكتمونه (نور يظهر في القلب، تتضح به المعرفة بذات الله وبصفاته التامات، حتى أن (بعضهم يدعي أموراً عظيمة)، وتتضح أيضاً معرفة معنى النظر إلى وجهه الكريم)...
وعلينا أن ننتبه بشكل خاص إلى قوله: (المعرفة بذات الله)، وهي بقية العبارات جزء يسير من السر سمح لنفسه أن يسطره في هذه الفقرات، فهذا الخيط إذا أمسكناه فسنصل إِلى السر.
هـ- تسميته للحجاب عن الله سبحانه بـ(قاذورات الدنيا والخبائث)، ومر معنا في نص سابق تسميته له بـ(الصفات المذمومة)، وعرفنا من قول أبي حيان التوحيدي، أن هذه إِشارات ورموز يعنون بها (الفرق الأول) وسنعرف فيما بعد ما هو (الفرق الأول).
__________
(1) الإحياء: (1/18).(1/29)
ويقول: ...وعبر ابن عباس رضي الله عنهما عن اختصاص الراسخين في العلم بعلوم لا تحتملها أفهام الخلق، حيث قرأ قوله تعالى: ((يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ)) [الطلاق:12]، فقال: لو ذكرت ما أعرفه من معنى هذه الآية لرجمتموني، وفي لفظ آخر: لقلتم: إِنه كافر(1).
- وطبعاً ابن عباس بريء من هذه الضلالات والهذيانات.
ويقول أَيضاً:
...فاعلم أَن هذا قرع باب من المعارف، وهي أعلى من علوم المعاملة، ولكنا نشير منها إِلى ملامح، ونقول: هاهنا نظران: نظر بعين التوحيد المحض، وهذا النظر يعرفك قطعاً أنه الشاكر وأَنه المشكور، وأنه المحب وأَنه المحبوب، وهذا نظر من عرف أنه ليس في الوجود غيره، وأن كل شيء هالك إِلا وجهه، وأن ذلك صدق في كل حال أزلاً وأبداً؛ لأن الغير هو الذي يتصور أن يكون له بنفسه قوام، ومثل هذا الغير لا وجود له، بل هو محال أن يوجد، إِذ الموجود المحقق هو القائم بنفسه، وما ليس له بنفسه قوام، فليس له بنفسه وجود، بل هو قائم بغيره، فهو موجود بغيره، فإِن اعتبر ذاته ولم يلتفت إِلى غيره لم يكن له وجود ألبتة، وإنما الموجود هو القائم بنفسه، والقائم بنفسه هو الذي لو قدر عدم غيره بقي موجوداً، فإِن كان مع قيامه بنفسه يقوم بوجوده وجود غيره، فهو قيوم، ولا قيوم إِلا واحد، ولا يتصور أن يكون غير ذلك.. فإِذا ليس في الوجود غير الحي القيوم، وهو الواحد الصمد، فإِذا نظرت من هذا المقام، عرفت أن الكل منه مصدره، وإليه مرجعه، فهو الشاكر وهو المشكور، وهو المحب وهو المحبوب(2)...
* ما يجب أَن نلاحظه:
__________
(1) الإحياء: (4/85).
(2) الإحياء: (4/74).(1/30)
أ- في هذا النص كشف الغزالي حجاباً آخر عن السر المصون، ومع ذلك فهو يشير إِلى ملامح منه، وقد سمى السر هنا (التوحيد المحض) (وهذا النظر بعين التوحيد المحض يعرفك أنه الشاكر وأنه المشكور، وأنه المحب وأنه المحبوب بل وأنه ليس في الوجود غيره)، (وأخيراً صرح بالسر المصون، فغدا السر غير مصون)، ومع هذا التصريح فقد لا يكون القارىء قد عرف هذا السر بعد.
ب- بعد التصريح بالسر (ليس في الوجود غيره)، هذا التصريح الذي قد يجرد عليه السيوف، بدأ الغزالي يلوك بأُسلوب علم الكلام، ليبعد به شبح ما بعد التكفير، ثم يعي ليقرر من جديد: (فإِذاً ليس في الوجود غير الحي القيوم...الكل منه مصدره، وإِليه مرجعه..).
- وهكذا نكون الآن قاب قوسين أَو أَدنى من معرفة نور اليقين.(1/31)
ويقول: ...الفريق الثاني ليس بهم عمى، ولكن بهم عور؛ لأنهم يبصرون بإِحدى العينين وجود الموجود الحق، فلا ينكرونه، والعين الأخرى إِن تم عماها لم يبصر بها فناء غير الموجود الحق، فأثبت موجوداً آخر مع الله تعالى، وهذا مشرك تحقيقاً...فإِن جاوز حد العمى إِلى العمش أدرك تفاوتاً بين الموجودين، فأَثبت عبداً وربًّا، فبهذا القدر من إِثبات التفاوت والنقص من الموجود الآخر دخل في حد التوحيد، ثم إِن كحل بصره بما يزيد في أنواره، فيقل عمشه، وبقدر ما يزيد في بصره يظهر له نقصان ما أَثبته سوى الله تعالى، فإِن بقي في سلوكه كذلك، فلا يزال يفضي به النقصان إِلى المحو، فينمحي عن رؤية ما سوى الله، فلا يرى إِلا اللّه، فيكون قد بلغ كمال التوحيد، وحيث ادرك نقصاً في وجود ما سوى اللّه تعالى دخل في أوائل التوحيد...وترجمته قول: (لا إِله إِلا الله)، ومعناه أن لا يرى إلا الواحد الحق، والواصلون إِلى كمال التوحيد هم الأقلون...إذ عبدة الأوثان ((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) [الزمر:3]، فكانوا داخلين في أوائل أَبواب التوحيد دخولاً ضعيفاً(1).
* الملحوظات:
لا بأس الآن من إِضافة فقرة متممة للنص، أفردتها عنه لأن لها قيمة خاصة، يقول: (.. وفيهم من تنفتح بصيرته في بعض الأحوال، فتلوح له حقائق التوحيد، ولكن كالبرق الخاطف لا يثبت، وفيهم من يلوح له ذلك ويثبت زماناً ولكن لا يدوم، والدوام فيه عزيز).
- هذه صورة مما يحدث عندما يبلغ السالك إِلى ما يسمونه: (الفناء في الله أَو الجمع..)، ستفيدنا فيما بعد.
__________
(1) الإحياء: (4/75).(1/32)
ويقول: ...فإِن قلت: كيف يتصور أن لا يشاهد إلا واحداً، وهو يشاهد السماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة، وهي كثيرة، فكيف يكون الكثير واحداً؟ فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات، وأسرار هذا العلم لا يجوز أن تسطر في كتاب، فقد قال العارفون: إِفشاء سر الربوبية كفر، ثم هو غير متعلق بعلم المعاملة، نعم ذكر ما يكسر سورة استعبادك ممكن، وهو أن الشيء قد يكون كثيراً بنوع مشاهدة واعتبار، ويكون واحداً بنوع آخر من المشاهد والاعتبار، وهذا كما أن الإنسان كثير إن التفت إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه، وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد، إذ نقول: إنه إنسان واحد، فهو بالإضافة إلى الإنسانية واحد، وكم من شخص يشاهد إنساناً ولا يخطر بباله كثرة أمعائه وعروقه وأطرافه، وتفصيل روحه وجسده وأعضائه. والفرق بينهما أنه في حالة الاستغراق والاستهتار به مستغرق بواحد ليس فيه تفريق، وكأنه في عين الجمع، والملتفت إلى الكثرة في تفرقه، فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة، فهو باعتبار واحد من الاعتبارات واحدٌ، وباعتبارات أخر سواه كثيرٌ، وبعضها أشد كثرة من بعض، ومثاله الإنسان، وإن كان لا يطابق الغرض، ولكنه ينبه في الجملة على كيفية مصير الكثرة في حكم المشاهدة واحداً.(1/33)
ويستبين بهذا الكلام ترك الإنكار والجحود لمقام لم تبلغه، وتؤمن به إيمان تصديق، فيكون لك من حيث إِنك مؤمن بهذا التوحيد نصيب، وإِن لم يكن ما آمنت به صفتك، كما أَنك إذا آمنت بالنبوة وإن لم تكن نبيًّا كان لك نصيب منه بقدر قوة إيمانك، وهذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إِلا الواحد الحق تارةً تدوم وتارةً تطرأ كالبرق الخاطف وهو الأكثر، والدوام نادر عزيز، وإِلى هذا أَشار الحسين بن منصور الحلاج حيث رأى الخواص يدور في الأسفار، فقال: في ماذا أَنت؟ فقال: أَدور في الأسفار لأصحح حالتي في التوكل، وقد كان من المتوكلين، فقال الحسين: قد أَفنيت عمرك في عمران باطنك، فأين الفناء في التوحيد؟ فكأن الخوّاص كان في تصحيح المقام الثالث في التوحيد، فطالبه بالمقام الرابع، فهذه مقامات الموحدين في التوحيد على سبيل الِإجمال...أَما الرابع فلا يجوز الخوض في بيانه، وليس التوكل أيضاً مبنيًّا عليه(1)...
* الملحوظات على النصين الأخيرين:
أ- في النص الأول، قوله: (فأَثبت موجوداً مع الله تعالى وهذا مشرك تحقيقاً)، يقرر فيه بأسلوب فيه رونق، أَن من يرى أَن هذه المخلوقات هي شيء غير الله تعالى فهو مشرك تحقيقاً.
- أي إنه -آخر الأمر- شرح لنا ما هو السر، ولكن بأسلوب فيه شيء من الزحلقة للقارىء.
- وفي النص الثاني يرد على شبهة من يقول: كيف لا يشاهد إلا واحداً مع وجود السماوات والأرض؟.. ويقرر أَن هذا هو علم الكشف، وبالتالي هو السر الذي لا يجوز أَن يسطر في كتاب.
- ومع ذلك فقد سطر ما يفشي هذا السر إلى غير أَهله! ثم يقدم مثلاً يعين على فهم هذا الأمر (أي: رؤية الواحد في الكثرة).
ب- قوله: (فلا يرى إلا الله، أَي: لا يرى في هذا الكون في كل ما يراه من المرئيات إِلا الله، فيكون قد بلغ كمال التوحيد.
__________
(1) الإِحياء: (4/213).(1/34)
- وفي النص الثاني، يوضح أَكثر فأَكثر، فيقول: (وكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات...فهو باعتبار واحد من الاعتبارات واحد..).
- إِذاً: فالخالق والمخلوق هما واحد، أو هما وحدة... وهكذا، وضح لنا السر أخيراً، إِنه (وحدة الوجود)، وما أدراك ما وحدة الوجود؟!
ج- في النص الأول يقرر أن عبدة الأوثان داخلون في أوائل التوحيد دخولاً ضعيفاً.
- فأسال: إِن لم يكن هذا هو الكفر والزندفة، فما هو الكفر والزندقة؟
- وأُنبه إِلى أن القارىء الكريم عندما يمتلك ناصية العبارة الصوفية سيعرف أن معنى جملة الغزالي هو أن عبدة الأوثان دخلوا في التوحيد عندما عبدوا الوثن (لأنه جزء من الله) وكان دخولهم ضعيفاً عندما قالوا: ((...لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) ؛ لأن هذا القول هو تفريق بين الخالق والمخلوق، وهو عكس التوحيد، ولو كانوا داخلين في التوحيد دخولاً كاملاً لقالوا- عن إِيمان وعقيدة-: إِنهم يعبدون الله بعبادتهم للصنم؛ لأنه جزء من الله.
د- أطلب من القارىء الكريم أن يقرأ النصين الأخيرين بتعمق ويكرر قراءتهما حتى يستوعبهما جيّداً، ففي هذا تسهيل كبير لفهم كل نصوصهم، وفهم سرهم.
وهذه نصوص إضافية لـ(حجة الإسلام) أوردها دون تعليق:
يقول: ...والرابعة أن لا يرى في الوجود إِلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين، وتسميه الصوفية الفناء في التوحيد؛ لأنه من حيث لا يرى إِلا واحداً، فلا يرى نفسه أيضاً، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقاً في التوحيد، كان فانياً عن نفسه في توحيده، بمعنى أنه فني عن رؤية نفسه والخلق(1).
__________
(1) الإحياء: (4/212).(1/35)
ويقول: من هنا ترقى العارفون من حضيض المجاز إِلى يفاع الحقيقة، واستكملوا معراجهم، فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إِلا الله تعالى، وأن ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) [القصص:88] لا أنه يصير هالكاً في وقت من الأوقات، بل هو هالك أزلاً وأبداً، ولا يتصور إلا كذلك...فإذن لا موجود إِلا الله تعالى ووجهه، فإذن كل شيء هالك إِلا وجهه أزلاً وأبداً...ولم يفهموا من معنى قوله: (الله أَكبر) أَنه أَكبر من غيره، حاشا لله، إِذ ليس في الوجود معه غيره حتى يكون أكبر منه(1)...
ويقول: العارفون بعد العروج إِلى سماء الحقيقة اتفقوا على أَنهم لم يروا في الوجود إِلا الواحد الحق(2)...
- وأختم هذه الجرعة الضئيلة من بحر أقوال الغزالي في هذا الموضوع بنتف من تائيته؛ يقول:
إِذا كان قد صح الخلاف فواجب ... ... على كل ذي عقل لزوم التقية(3)
وهل أنا إِلا أنت ذاتاً ووحدة ... ... وهل أَنت إِلا نفسي عين هويتي
كأني لم أحجب بها وكأنما هي ... ... احتجبت بي فازدهى الناس عشقتي
فدِِنْتُ بأمر حرمته شريعتي ... ... وأَحييتُ حكماً قد أَماتته سنتي(4)
تسترتُ جهدي في هواك وطاقتي ... ... فلما مُنِعْتُ الصبر أَبديت صفحتي
فأعلنتُ ما أسررتَ فيّ فلم يكن ... ... بقولٍ ولا فعلٍ سواك فضيحتي
وقد كان لي في الصبر ستر على الهوى ... ... بهتكك ستر الصبر أَبديت عورتي(5)
يكِلُّ لساني عن صفاتي وإِنما ... ... يُعبر عني أَنني ذاتُ وحدة(6)
- لا بأس من التنبيه إِلى فكرة (لزوم التقية) في البيت الأول، حيث نعرف أَننا أَمام (فرقة باطنية) ترى لزوم التقية، وقد مر هذا، وهي ملحوظة هامة جدًّا جدًّا.
__________
(1) مشكاة الأنوار (حقيقة الحقائق)، (ص:55).
(2) مشكاة الأنوار (إشارة) (ص:57).
(3) النفحات الغزالية، (ص:149).
(4) النفحات الغزالية، (ص:173)، والأبيات ليست متتابعة في القصيدة.
(5) النفحات الغزالية، (ص:169).
(6) النفحات الغزالية، (ص:170).(1/36)
ويجب أَن أَعود فأنبه في أقوال الغزالي إلى ما يلي:
1- اعتبار الغزالي أَن كشفهم ومشاهدتهم هو الحق والحقيقة والصدق، وإليه يجب أَن يرجع في كل الأمور، حتى القرآن الكريم والسنة يجب أن يعرضا عليه ليحكم في صحتهما، فهذا إِن لم يكن كفراً وزندقة، فما هو الكفر والزندقة؟!
2- نفهم من هذا أَنه- وأَنهم- لا يرون القرآن حقًّا؛ لأنهم يؤولون منه ما خالف الكشف.
مع العلم أَن الِإيمان بالقرآن يقتضي نبذ كل ما يخالفه؛ لأنه كفر وزندقة، وهذا واضح.
3- علم المكاشفة عنده هو علم الصديقين والمقربين!! فأين ذهب القرآن وصحيح السنة؟!
4- ليس في الوجود غير الله، وكما يعلم كل من في بصيرته ذرة من عقل أو إيمان أن الكون موجود أوجده الله، ولكن عند الغزالي -وعندهم- الكون هو الله، (ما الكون إِلا القيوم الحي) وهي وحدة الوجود.
5- يقرر (حجة الإسلام) أن من يثبت موجوداً آخر مع الله، أي: (من يقول: إِن المخلوقات هي غير الله) هو مشرك تحقيقاً!!
- سبحان الله! ما هو هذا الكشف القريب العجيب!!! إِننا نقرأ في كتاب الله مثلاً: ((إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ)) [البقرة:173]، وواضح حتى للأغبياء أن عبارة (غير الله) تعني: الأوثان والقبور والأولياء وغيرهم، وكل هؤلاء مخلوقات. إِذاً: فالقرآن يقرر بوضوح كامل أن المخلوق غير الخالق، فنسأل (الحجة)، وأتباع الحجة، والمخدوعين بالحجة: هل القرآن شرك؟ أم الذين يخالفون القرآن هم المشركون؟ والضالون المضلون؟ والزنادقة الكفرة المارقون؟
6- كلمة (التوحيد) يعني - ويعنون - بها (وحدة الوجود) وحيثما وردت في كلامهم فهذا هو معناها.
7- يقرر أن عابد الأصنام داخل في أوائل التوحيد.
8- تقريره أن وحدة الوجود هي مشاهدة الصديقين (والرابعة أن لا يرى في الوجود إلا واحداً وهي مشاهدة الصديقين)!!
9- تقريره لزوم التقية! فلِمَ؟؟ وعلامَ؟؟ وفيم؟؟(1/37)
10- حكم وحدة الوجود في القرآن الكريم سنراه فيما يأتي.
11- هذه الأقوال للغزالي، وهي جزء صغير جدًّا من فيضه، هي من كتابه المشهور، بل المقدس، والمسمى (إِحياء علوم الدين)، كلها عنه إلا نصين، ومع ذلك فيسمى صاحبه (حجة الإسلام) ويتخذ الكتاب مرجعاً رئيسياً عند غالبية المسلمين؟! فإنا لله وإنا إِليه راجعون.
12- للغزالي كتب كثيرة يذكر فيها العلم (المضنون به على غير أهله) لم أتطرق إليها؟ لأن كتاب الِإحياء فيه الكفاية والشهرة، وهو ثقة عند القوم، وعند غير القوم.
13- أنبه بشكل خاص إلى قوله في تائيته: (فدنت بأمر حرمته شريعتي وأحييت حكماً قد أماتته سنتي)، الذي نفهم منها أنهم يعرفون تماماً أن الصوفية تناقض الإسلام، كما يعترف بالشطر الثاني أن الِإسلام أماتها، فجاء هو وأحياها؟! كما يُفهم من هذا الكلام أنها كانت موجودة قبل الِإسلام.
- وننتقل إِلى غيره، لنعود إِلى التواصي بالكتمان، ونرى صوراً من العبارة التي يستعملونها:
يقول عبد القادر الجيلاني(1) (قطب الأولياء الكرام):
...هم (أي: الواصلون) أبداً في سرادق القرب، فإِذا جاءتْ نوبة الحكم كانوا في صحن الحكم، إِذا جاءت نوبة الخروج كانوا على الباب يأخذون القصص من الخلق يصيرون وسائط بينهم وبين الحق عز وجل، هذه أحوالهم، ولكن من الحال ما يكتم(2).
* ما يجب الانتباه إليه:
1- الواصلون (في سرادق القرب): واضح أنه القرب من الله، و(كانوا في صحن الحكم): واضح أنه الحكم في الكون، أو التصرف! وهذا هو مقام الغوثية وهو- كما يعرف كل من قرأ القرآن وفهمه- أنه (أي: القول بالتصرف) من الشرك الأعظم؛ لأنه سبحانه يقول: ((..وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) [الكهف:26].
__________
(1) أبو محمد محيي الدين عبد القادر بن أبي صالح موسى جنكي دوست، ولد في جيلان عام (470)، وعاش في بغداد، وتوفي فيها عام (561هـ).
(2) الفتح الرباني، (ص:200).(1/38)
2- في نوبة الخروج يكونون على الباب وسائط بين الخلق والحق، وهذا أسلوب آخر في التعبير عن مقام (الفرق الثاني) أترك تحليله للقارىء.
3- مع ما في قوله من الشرك العظيم، فهو يقول: (ولكن من الحال ما يكتم)، فما هو هذا الحال الذي يكتم؟! وهل هناك ما هو أعظم من الشرك (كانوا في صحن الحكم)؟!
- في الواقع نحن الآن نعرف الجواب ومع ذلك نكرر السؤال! ما هو؟
- كما يحق لنا -منذ الآن- أن نعرف أن سيف التأويل صقيل صقيل، طويل طويل، لفاف دوار!
ويقول أيضاً (سلطان الأولياء):
...فهكذا العارف، الخلق جميعهم كالأولاد، يخاطب الخلق بلسان الحكم، ثم يرحمهم لاطلاعهم على العلم، فيرى أفعال الحق عز وجل فيهم، ينظر إِلى خروج الأقضية والأقدار من باب الحكم والعلم، ولكنه يكتم ذلك ويخاطب الخلق بالحكم الذي هو الأمر والنهي، ولا يخاطبهم بالعلم الذي هو السر(1).
ويقول: ...حتى إِذا رأيت موارد الحق إِلى قلبك، غمض عينيك وأخبت، لا تفش إِلى الغير سره، وارد الحق يأتي قلوبهم، على اختلاف أحوالهم ومقاماتهم تتغير ظواهرهم لتغير بواطنهم، ويحتاج المريد المطلع على أسرارهم أن يكون أعمى أصم سكران، حتى إِذا ظهرت نجابته عنده، وتحقق أدبه، يكتم سره، لعله يكسو قلبه ببعض ثيابه، يدعو الله بظاهره(2).
- نكرر السؤال رغم معرفة الجواب: ماهو السر الذي يكتمه؟؟
__________
(1) الفتح الرباني، (ص:225).
(2) الفتح الرباني، (ص:362).(1/39)
ويقول: ...ليس الخبر كالمعاينة، فحينئذٍ تكون من أمرك على بيضاء نقية لاغبار عليها ولا تلبيس ولاتخليط ولا شك ولا ارتياب، فالصبر الصبر، والرضا الرضا، حفظ الحال حفظ الحال، الخمول الخمول، الخمود الخمود، السكوت السكوت، الصموت الصموت، الحذر الحذر، النجا النجا، الوحا الوحا، الله الله ثم الله، الإطراق الإطراق، الإغماض الإغماض، الحياء الحياء، إلى أن يبلغ الكتاب أجله، فيؤخذ بيدك، فتقدم وينزع عنك ما عليك، ثم تغوص في بحار الفضائل والمنن والرحمة، ثم تخرج منها فتخلع عليك خلع الأنوار والأسرار والعلوم والغرائب اللدنية، ثم تقرب وتحدث فيه بإعلام وإلهام وتكلم وتعطي(1)...
* ملحوظة: نحن -مع عبد القادر الجيلاني- أمام القمة في الأسلوب الإشاري الرمزي.
ففي هذا النص الأخير مثلاً، يريد أن يقول: الكشف هو الحقيقة التي لا شك فيها، ويحتاج إلى الصبر على المجاهدة مع الرضا وحفظ السر، حتى إذا وصل السالك تخلع عليه الأنوار ويعطى العلوم اللدنية، ويرى أشياء كثيرة ويسمع.
وللقارئ أن يحلل النص بنفسه.
ومما ينسب إليه (وهي في الحقيقة لابن عربي):
أنا القرآن والسبعُ المثاني ... ... وروحُ الروحِ لا روح الأواني
وغُصْ في بحر ذات الذات تنظرْ ... ... معاني ما تبدّتْ للعيانِ
وأسراري قراءةٌ مبهماتٍ ... ... مسترةٌ بأرواح المعاني
فمن فهِمَ الإشارةَ فلْيَصُنْها ... ... وإلا سوف يُقتل بالسّنان
كحلاج المحبة إذا تبدَّت ... ... له شمسُ الحقيقة بالتّداني
وقال أنا هو الحقُّ الذي لا ... ... يُغير ذاتَه مرُّ الزمان(2)
__________
(1) فتوح الغيب، (ص:63، 64).
(2) فتوح الغيب، (ص:230)، وقد أورد ابن عربي هذه القصيدة في (كتاب الإسرا) في (باب سفر القلب) كما أورد أبياتاً منها في مقدمة الفتوحات المكية مع التصريح بأنها له، وقد أورد البيت (وأسراراً تراءت مبهمات) بدلاً من (وأسراري قراءة مبهمات)..(1/40)
- ما أنبه إِليه هو قوله: (كحلاج المحبة) الذي يدل على أن قائل القصيدة يؤمن بعقيدة الحلاج، وكذلك أهل الطريقة القادرية؛ لأنهم يتبنون هذه القصيدة، وكذلك توضيحه لسبب الكتمان (وإلا سوف يقتل بالسنان).
ويقول أحمد الرفاعي الغوث(1):
...أي علي! كل القوم شربوها فحكمت عليهم، فعربدوا وباحوا، وخالك شربها فحكم عليها، فكتم حبه، وأخفى وجده، فظهر بكتمانه على أقرانه، وارتفع بكتمان حُبه عند حبه على صحبه. أي: علي! عليك بكتمان الأسرار، تنال الفخار(2).
- يريد بقوله: (شربوها)، أي: شربوا الخمرة الإلهية، وهي إِشارة إِلى التحقق بالألوهية وما يصاحبه من لذة.
ويقول: أي سادة! من أراد أن يتكلم بلسان أهل المعرفة، فينبغي أن يحفظ أدب كلامه، فلا يكشف وثائقه إلا عند أهله، وأن لا يحفل المريد فوق طاقته، ولا يمنع كلامه من كان من أهله، ويكون كلامه مع أهل المعرفة بلسان المعرفة، ومع أهل الصفاء بلسان المحبة، ومع أهل الزهد بلسانهم، ومع كل صنف على قدر مراتبهم ومنازلهم وقدر عقولهم، فإن الله تعالى جعل للعارف هذه الألسن، نعم كلها تتلاشى عند ظهور سلطان الحق، وينبغي ألا يتحدث بحديث لا يبلغ عقل المستمع إِليه، فيكون ذلك فتنة، فإِن أكثر الناس جاهلون، اشتغلوا بعلوم الظواهر، وتركوا علم تصحيح الضمائر، فلا يحتملون دقائق كلام العارفين؛ لأن كلماتهم لاهوتية، وإشاراتهم قدسية، وعباراتهم أزلية...وأي دهشة أشد من دهشة العارف، إِن تكلم عن حاله هلك، وإن سكت احترق(3)...
__________
(1) أحمد محيي الدين أبو العباس الرفاعي ولد وعاش في أم عبيدة (كسفينة) من أعمال واسط بالعراق، وتوفي فيها عام (578هـ).
(2) قلادة الجواهر (ص:83)، وعلي هذا هو علي بن عثمان ابن أخت الشيخ أحمد، وهو صاحب كتاب (السر الجلالي والمقامات والمعالي).
(3) أعلام التصوف الإسلامي لأحمد أبو كف (ص:26، 27).(1/41)
- أقول: الكلام واضح جدًّا، لا يحتاج إِلى شرح (الكتمان عن غير أهله، والبوح به لأهله.. مع وصف إِشاري للسر).
ويقول:
ومستخبر عن سر ليلى تركتُه ... ... بعمياءَ من ليلى بغير يقين
يقولون خبرنا فأنت أمينُها ... ... وما أنا إِن أخبرتهُم بأمينِ(1)
- نلاحظ أنه يشير إِلى ما يكتمه بالاسم المؤنث (ليلى).
ويقول:
ولما شربناها ودبّ دبيبُها ... ... إِلى معدنِ الأسرارِ قلت لها قفي
مخافةً أن يسطو عليَّ مدامها ... ... فتظهرَ جُلاسي على سريَ الخفي(2)
- إِذن هناك سر خفي يكتمه، ويتحدث بكتمانه تعليماً لمريديه، ويرمز بالمدامة التي شربها إِلى الجذبة ولذتها.
ويقول:
يسقي ويشربُ لا تلهيه سكرتُه ... ... عن النديم ولا يلهيو عن الكاسِ
أطاعهُ سكرُه حتى تمكَّنَ من ... ... حال الصّحاة وهذا أعظمُ الناس(3)
ونعرف طبعاً أن السكر هو مقام الفناء، أو هو لذة الشعور بالألوهية.
ويقول: ...فإِذا أتقن السالك معرفة هذه الآداب اللازمة المطلوبة منه في حق مرشده علماً وعملاً، فحينئذ يلزم عليه أن يدخل باب القوم -رضي الله عنهم- بفناء النفس والِإعراض عن الدنيا بالكلية، والِإعراض عن الخلق-.. وعدم التفاخر وترك الدعوى وستر الأحوال وكتمان الأسرار(4)...
وطبعاً، نعرف الآن ماذا يعني بقوله: (بفناء النفس والأعراض عن الدنيا...).
ويقول: ...أعلم أن المدَّاح الذي يمدح بمجلس الفقراء بغير طمع...يكون له من الفقر سبعة قراريط، بشرط أن يكون مداحاً بالحقيقة...ولهذا الشرط في المعنى شروطاً: الأول: أن يكون فقير اً...السادس: أن يكون أمين الخزائن السرية، أي: أميناً على الأسرار فلا يكون مبيحاً بالسر(5).
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:226).
(2) قلادة الجواهر، (ص:227).
(3) قلادة الجواهر، (ص:227). في كتاب (بهجة الأسرار ومعدن الأنوار)، (ص:117) يعزى البيتان للشيخ سيف الدين قاضي القضاة أبي صالح؟؟.
(4) قلادة الجواهر، (ص:279).
(5) قلادة الجواهر، (ص:279).(1/42)
- ولا أظننا -منذُ الآن- بحاجة للتعليق على النصوص، فقد أصبحت واضحة المعاني لمن درس النصوص السابقة بإِمعان.
- ويقول أبو مدين المغربي(1) (الغوث):
وفي السر أسرار دِقاق لطيفةٌ ... ... تُراقُ دِمانا جَهْرة لو بها بُحنا(2)
ويورد عبد الحليم محمود (الدكتور، شيخ الجامع الأزهر)(3):
قيل له: (أي: لأبي مدين) مرة في المنام: حقيقة سرك في توحيدك؟
فقال: سري مسرور بأسرار تستمد من البحار الإلهية التي لا ينبغي بثها لغير أهلها، إِذ الِإشارة تعجز عن وصفها، وأبت الغيرة الِإلهية إِلا أن تسترها، وهي أسرار محيطة بالوجود لا يدركها إِلا من كان وطنه مفقوداً، وكان في عالم الحقيقة بسره موجوداً، يتقلب في الحياة الأبدية، وهو بسره طائر في فضاء الملكوت، وشرح في سرادقات الجبروت، وقد تخلق بالأسماء والصفات، وفني عنها بمشاهدة الذات...وكشف لي عن مكنون التحقيق، فحياتي قائمة بالوحدانية، وإشاراتي إِلى الفردانية(4)...
- يلاحظ هنا أن الكلام منامي! رؤيا رآها أحدهم!! ولكن نحن ماذا علينا؟ فقد رواه في كتابه الشيخ الأكبر شيخ الجامع الأزهر!! كما يجب أن ننتبه إلى عبارة: (وإشاراتي إلى الفردانية).
ويورد أيضاً أن ابن عربي يقول:
شيخنا أَبو مدين، من الثمانية عشرنفساً الظاهرين بأمر الله عن أمر الله، لا يرون سوى الله في الأكوان(5).
__________
(1) أبو مدين شعيب بن حسين الأنصاري، أصله من (حصن قطنيانة) قرية تابعة لِإشبيلية في الأندلس، هاجر إلى
بجاية صغيراً، وعاش فيها، وتوفي في (العباد) خارج تلمسان عام: (594هـ) وقيل قبل ذلك.
(2) الفتوحات الِإلهية، (ص:45)، وهي من قصيدة أولها:
تضيق بنا الدنيا إذا غبتمو عنا ... ... وتزهق بالأشواق أرواحنا منا
أوردها عبد الحليم محمود في كتابه (أبو مدين الغوث) حاذفاً منها هذا البيت؟؟!!.
(3) من أكبر مشايخ الصوفية في مصر، توفي منذ سنوات قليلة.
(4) كتاب (أبو مدين الغوث)، (ص:130).
(5) أبو مدين الغوث، (ص:124).(1/43)
ويورد أيضاً ما يلي (على لسان ابن عربي أيضاً):
ذهبت (المتكلم هو ابن عربي) أنا وبعض الأبدال إِلى جبل قاف، فمررنا بالحية المحدقة به، فقال لي البدل: سلم عليها فإِنها سترد عليك السلام، فسلمنا عليها فردت، ثم قالت: من أي البلاد؟
فقلنا: من بجاية(1).
فقالت: ما حال أبي مدين مع أهلها؟
فقلنا لها: يرمونه بالزندقة.
فقالت: عجباً والله لبني آدم(2)!
- ويقول عمر بن الفارض(3):
فلاحٍ وواشٍ ذاك يُهدي لعزةٍ ... ... ضلالًا وذا بي ظل يَهذي لِغرةِ
أخالف ذا في لومه عن تقىً ... ... كما أخالف ذا في لؤمه عن تقية(4)
- يجب أن ننتبه في البيت الثاني إِلى فكرة (التقية) ومع من يستعملها؟
ويقول:
ولي في الهوى علم تجل صفاته ... ... ومن لم يفقَهْ الهوى فهو في جهل
ومن لم يكن في عزة النفس تائهاً ... ... بحبِّ الذي يهوى فبَشِّرْهُ بالذُّلّ
إذا جادَ أقوامٌ بمال رأيتهم ... ... يجودون بالأرواح منهم بلا بخل
وإن أودِعوا سراً رأيت صدورهم ... ... قبوراً لأسرار تُنزه عن نقل(5)
ويقول:
وثَم أمورٌ تمّ لي كشفُ سرْها ... ... بصحو مفيقٍ عن سواي تغطّتِ
وعنيَ بالتلويح يفهم ذائقٌ ... ... غنيٌّ عن التصريحِ للمتعنت
بها لم يبح من لم يُبح دمه ... ... وفي الإشارة معنى ما العبارة حدت(6)
- ما يجب أن ننتبه إليه في أقوال ابن الفارض هنا، هو كلمة (الهوى) في قوله: ولي في الهوى علم تجل صفاته...وإلى ماذا تشير؟
__________
(1) مدينة جزائرية على ساحل البحر الأبيض.
(2) أبو مدين الغوث، (ص:123).
(3) ولد وعاشر في القاهرة ثم هاجر إلى مكة وبقي فيها (15) عاماً، ثم عاد إلى القاهرة وتوفي فيها عام: (632هـ).
(4) التائية الكبرى، الديوان، (ص:23).
(5) ديوان ابن الفارض، (ص:91).
(6) التائية الكبرى.(1/44)
إِن تحليلاً لهذه العبارة (الإشارية) يقدم مساعدة جديدة في فهم إِشاراتهم ورموزهم، نحن نعلم أن الهوى أو العشق -كائناً ما كان- ليس فيه علم ولا فقه، فما هو هذا الهوى الذي يعلِّم ويفقّه؟!
من البدهي أنه يعني بالهوى هنا، هوى الذات الإلهية، ونريد أن نقفز فوق فصول الكتاب، لنوضح هذه الِإشارة، رغم أن مكان التوضيح هو في ما يأتي من الفصول.
في الحقيقة والواقع أن هذا الهوى هو هوىً لتلك اللذة العارمة التي يذوقونها في (الجلوة) أو (الجذبة)، ففي الجذبة يغدون في حالة لا يرون فيها الأجسام كما هي، فقد يرونها أشباحاً شاحبة يتخللها نور قد يكون باهتاً وقد يكون قوًّيا طاغياً، وقد تضمحل هذه الأشباح والرؤى فلا يرى أَمامه إِلا أبعاداً شفافة، وقد يرى مناظر مختلفة، وقد يرى نفسه شفافاً مندمجاً في وجود شفاف، ويفسر هذا حسب الِإيحاءات الشيخية أنه فناءً في الله (جل وعلا) وما شابه ذلك.
وهم يظنون أَن هذا النور الذي يشاهدونه في كل شيء، وفي ذواتهم، هو الله ((سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ))، والحق أن هذه الحالة تشبه بدقة حالة التحشيش والأفينة! وفي هذه المشاهدة قد يسمعون كلاماً، أو يرون أشياء، يظنونها علماً، وهو ما يسمونه (العلم اللدني) وسنرى فيما بعد أمثلة من هذا العلم (اللدني).
إِن الهوى أَو العشق، للخمرة الِإلهية -كما يسمونها- هو الذي يدفعهم إِلى الرياضة والمجاهدة من أَجل (الوصول إِلى الجذبة)، ويسمون ذلك (الوصول إِلى الله، أَو العروج إِلى الله) حيث يتلقون العلم اللدني.
- إِذن: فهذا الهوى هو الذي قادهم إِلى الجذبة فالعلم، ومن هنا كانت إِشارة ابن الفارض.
فهو يرمز بكلمة (الهرى) إِلى ما يقود إِليه الهوىَ، وهو الجذبة، أَو الفناء في الله (بل الصحيح هو اللذة التي يجدونها والتي تستغرقهم حتى الإمناء).
ويقول السّهروردي المقتول(1):
__________
(1) شهاب الدين، يحيى بن حبش، قتل بحلب عام: (587هـ).(1/45)
بالسرّ إن باحوا تباح دماؤهم ... ... وكذا دماء البائحين تباح(1)
ويقول شهاب الدين السهروردي البغدادي(2):
.. فصار لهم بمقتضى ذلك علوم يعرفونها وإشارات يتعاهدونها، فحرروا لنفوسهم اصطلاحات تشير إلى معانٍ يعرفونها وتعرب عن أحوال يجدونها، فأخذ ذلك الخلف عن السلف، حتى صار ذلك رسماً مستمراً وخبراً مستقراً في كل عصر وزمان(3).
ويقول:.. وربما يتراءى له أنه بالله يصول وبالله يقول وبالله يتحرك، فقد ابتلى بنهضة النفس ووثوبها، ولا يقع هذا الاشتباه إلا لأرباب القلوب وأرباب الأحوال، وغير أرباب القلب والحال عن هذا بمعزل، وهذه مزلة قدم مختصة بالخواص دون العوام فاعلم ذلك(4).
* ملحوظة:
- الأسلوب الِإشاري في القمة، يشبه أسلوب عبد القادر الجيلاني، أو يفوقه، ولا غرو فقد تخرج في مدرسته، انظر إِلى قوله: (بالله يصول، وبالله يقول، وبالله يتحرك) حيث يمكن تفسيره بتفسير ظاهر لا غبار عليه، وآخر باطن هو ما يريده ويرمز إِليه، ومن السهل معرفته بشيء من التامل، كما يمكن التعرف أيضاً بشيء من التامل إِلى ماذا ترمز العبارة: (ابتلي بنهضة النفس ووثوبها) والجملة: (وهذه مزلة قدم مختصة بالخواص..)، توضح الإشارة، وتشرح العبارة، وتحل الرمز.
ويقول محيي الدين بن عربي(5):
__________
(1) التصوف في الإسلام لعمر فروخ، (ص:115)..
(2) أبو حفص، شهاب الدين عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عموية، صحب عمه أبا النجيب السهروردي والشيخ عبد القادر الجيلاني، من سهرورد، توفي في بغداد عام: (632هـ).
(3) عوارف المعارف، هامش إحياء علوم الدين: (1/303).
(4) عوارف المعارف، هامش الإحياء: (2/99)..
(5) ولد في مرسية في الأندلس، ثم انتقل منها إلى إشبيلية حيث اتصل بابن برجان وأخذ عنه الطريقة العريفية (وفي إمكانية هذا الاتصال نظر)، ثم ذهب إلى المغرب وأتصل بأبي مدين، وكثر تنقله في المشرق حتى استقر في دمشق ومات فيها عام: (638).(1/46)
وهذا الفن من الكشف والعلم يجب ستره عن أكثر الخلق لما فيه من العلو، فغوره بعيد، والتلف فيه قريب، فإن من لا معرفة له بالحقائق ولا بامتداد الرقائق، ويقف على هذا المشهد من لسان صاحبه المتحقق به، وهو لم يذقه، ربما قال: أنا من أهوى ومن أهوى أنا، فلهذا نستره ونكتمه.
وقد كان الحسن البصري -رحمه الله- إِذا أراد أن يتكلم في مثل هذه الأسرار التي لا ينبغي لمن ليس من طريقها أن يقف عليها، دعا بفرقد السبخي ومالك بن دينار ومن حضر من أهل هذا الذوق، وأغلق بابه دون الناس، وقعد يتحدث معهم في مثل هذا الفن، فلولا وجوب كتمه ما فعل هذا(1) !..
ويقول: فالساترون لهذه الأسرار في ألفاظ اصطلحوا عليها غيرة من الأجانب، والقائلون بوجود الآثار بالهمم لا يزالون مقيمين على مناهجهم حتى يلوح لهم أعلام بأيدي الروحانيات العلى، القائمين بالمرتبة الزلفى من مقام الفهوانية، فيها كتب مرقومة مقدسة، تقوم لهم شواهد على تحقيق ما هم عليه وتعظيم الانتقال عن هذا الوصف إِلى وصف آخر ميزها، فينهتك ستر الساتر، فيكشف ما سُتر ويفك معماه، ويحل قفله، ويفتح مغالقه، ويتحد همم ذلك الآخر بمطالعة الحقيقة الأحدية، فلا يرى إِلا همًّا واحداً لا غير، عنه تكون الآثار على الحقيقة، فتارةً تكون عنه تحويراً، وتارة تكون عنه عند تكون هذه الهمم عنه(2).
الفهوانية: خطاب الحق بطريق المكافحة في عالم المثال(3).
- رجعنا إِلى تفسير الألغاز بالألغاز!! ولكن سنعرف معناها بالضبط فيما يأتي.
* ما يجب ملاحظته:
في النص الأول يقدم سببين للستر:
أ- علو هذا الفن، وبعد غوره، وأظن الِإشارة فيه مفهومة.
2- التلف (أي: الموت أو القتل) القريب لمن لا يستر.
__________
(1) رسائل ابن عربي، كتاب الفناء، (ص:3).
(2) رسائل ابن عربي، كتاب الفناء، (ص:4).
(3) معجم المصطلحات الصوفية. [عبارة (عالم المثال) هي مصطلح إسماعيلي].(1/47)
والعبارة (امتداد الرقائق) فيها بعض الوضوح لمن قرأ النصوص السابقة، وفي نص لاحق في هذا الكتاب سيرى القارىء كلمة (رقيقة) بمعناها الواضح تماماً.
وفي النص الثاني، قوله: (بوجود الآثار بالهمم) يعني الهمم على المجاهدات والرياضات، وآثارها مشروحة فيما سبق.
كما أن لها معنى آخر، فالآثار، أو سرائر الآثار: يعنون بها الأسماء الِإلهية(1)، ومنها نعرف معنى الآثار. والهمم: الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ورد هذا التفسير في كتاب (معالم الطريق إِلى الله) في فصل (معجم مصطلحات الصوفية). مع الملحوظةأنها وردت في (باب الميم) بعد كلمة (مالك الملك) وقبل (المناصفة)، ومع العلم أن محلّها يجب أن يكون (باب الهاء). والمعنيان مدلولهما واحد.
وهناك العبارة: (.. بمطالعة الحقيقة الأحدية، فلا يرى إِلا همًّا واحداً لا غير، عنه تكون الآثار على الحقيقة...). وما أظن إِلا أن القارىء أصبح الآن يدرك معناها بسهولة، أوْلاً، ففي النصوص المقبلة المعين اللازم الكافي.
ويقول: أما تهمته في دينه، فهو أن يكون من أهل الكشف والوجود، فيلحق بأهل السحر والزندقة، وربما يكفر، فهو يتكلم على الأسرار التي أودعها الله في موجوداته وجعلها أمناء عليها، والناس ينسبونه إِلى أنه يقول بنسبة الأفعال إِليها، فيكفرونه بذلك(2).
- الوجود: وجدان الحق ذاته بذاته، ولهذا تسمى حضرة الجمع حضرة الوجود(3).
أو: وجدان أحق في الوجد(4).
- ألغاز تفسر بألغاز، ولكن ابن سبعين يوضح فيقول: ومن اسمه (الوجود) كيف يخصص بأسماء(5)؟
__________
(1) معجم مصطلحات الصوفية.
(2) رسائل ابن عربي (الميم والواو والنون)، (ص:7).
(3) معالم الطريق إلى الله (معجم مصطلحات الصوفية).
(4) رسائل ابن عربي (اصطلاح الصوفية)، (ص:5).
(5) ابن سبعين وفلسفته الصوفية.(1/48)
ويقول: ...وكنت أريد أن أذكر الخلوة وشروطها وما يتجلى فيها على الترتيب، شيئاً بعد شيء، لكن منعني من ذلك الوقت، وأعني بالوقت علماء السوء الذين أنكروا ما جهلوا، وقيدهم التعصب وحب الظهور والرياسة عن الإذعان للحق، والتسليم له إن لم يكن الإيمان(1).
* ما يلاحظ:
1- الخلوة.. وما يتجلى فيها، هو ما يجب كتمانه: (ونعرف الآن ما الذي يتجلى فيها).
2- تسميته علماء الشريعة بـ (علماء السوء)؟!
3- أسلوبه في مهاجمة الشريعة والدعاية للتصوف.
ويقول: إشارة- لا راحة مع الخلق- فارجع إلى الحق، فهو أولى بك، إن عاشرتهم على ما هم عليه بعدت عن الحق، وإن عاشرتهم على ما أنت عليه قتلوك، فالستر أولى، وأيسر أن تكون كائناً بائناً(2).
الملحوظةالهامة جدًّا: (إِن عاشرتهم على ما هم عليه بعدت من الحق)!! فما هو هذا الذي هم عليه والذي يبعده من الحق؟! إِنه الشريعة الِإسلامية بلا ريب! ويقول: ...وامتطيت متون الرفارف، وطرت في جو المعارف.
فعايَنْتُ من علمِ الغيوب عَجائباً ... ... تُصانُ عن التذكار في رأيِ من وعى
ومن واصلٍ سرّ الحقيقَةِ صامتٍ ... ... ولو نطقَ المسكينُ عجَّزه الورى
ومن كاتمٍ للسر يُظهِر ضدَّه ... ... عليه لطلابِ المشاهد للبقا(3)
- لننتبه إِلى قوله: (يظهر ضده).
ويقول:
وغُصْ في بحر ذات الذات تبصر ... ... عجائبَ ما تبدَّتْ للعيانِ
وأشواراً تراءت مبهماتٍ ... ... مسترة بأرواح المعاني
فمَنْ فهِمَ الإشارةَ فلْيَصُنْها ... ... وإلا سوف يُقتل بالسِّنان
كحلاج المحبة إِذ تبدَّت ... ... له شمسُ الحقيقة بالتَّداني
فقال: أنا هو الحقُ الذي لا ... ... يُغير ذاتَه مرُّ الزمان(4)
__________
(1) رسالة الشيخ إلى الإمام الرازي، (ص:7).
(2) رسائل ابن عربي (كتاب التراجم)، (ص:47).
(3) رسائل ابن عربي (كتاب الإسرا)، (ص:47).
(4) رسائل ابن عربي (كتاب الإسرا)، (ص:4).(1/49)
- مرت معنا هذه الأبيات قبل صفحات على أنها لعبد القادر الجيلاني، وأوردها ها هنا على أَنها لمحيي الدين بن عربي! وهي له في الحقيقة.
وللقارئ أن يتساءل: إِذن لماذا أوردتها باسم الجيلاني ما دامت في حقيقتها لابن عربي؟!
الجواب: إِن جميع السالكين والواصلين والعارفين والكمل من أصحاب الطريقة الجيلانية، يقرءونها في كتبهم وفي خلواتهم ومناجاتهم، يتقربون بها إِلى الله، على أنها من قول شيخهم الجيلاني، ولا بد أن العارفين الكمل عرفوا ذلك- إِخباراً أو إِقراراً- عن طريق الكشف الذي هو (نور اليقين وحق اليقين وعين اليقين)؟
لذلك، وتأدباً مع الكشف والكاشفين والعارفين، ولئلا أتهم هؤلاء الأشياخ الكمل، فقد أوردتها هناك على أنها للجيلاني.
والتزاماً بالبحث العلمي، وبالحقيقة الحقيقة، أوردها هنا على أنها لابن عربي، لأنها له.
ويقول ابن عربي أيضاً:
...إلا أنه تعالى وصف نفسه بالغيرة؛ ومن غيرته حرم الفواحش، وليس الفحش إلا ما ظهر، وأما فحش ما بطن فهو لمن ظهر له، فلما حرم الفواحش، أي: منع أن تعرف حقيقة ما ذكرناه، وهي أنه عين الأشياء، فسترها بالغيرة، وهو أنت من الغير، فالغير يقول: السمع سمع زيد، والعارف يقول: السمع عين الحق(1)..
__________
(1) فصوص الحكم (عفيفي) حكمة أحدية في كلمة هودية، (ص:110).(1/50)
ويشرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني هذا القول، فيقول: «إلا أنه تعالى قد وصف نفسه بالغيرة، ومن غيرته حرم الفواحش، وليس الفحش إلا ما ظهراً مما يجب ستره، ومن جملته سر الربوبية، فقد قيل: إفشاؤه كفر، وأما فحش ما بطن فهو لمن ظهر له» وهو الحق، ومن أظهره الله عليه، وذلك أن الحق هو الظاهر والباطن، «فلما حرم الفواحش: أي منع أن تعرف حقيقة ما ذكرناه، وهي أنه عين الأشياء، فسترها بالغيرة» أي: ستر هذه الحقيقة بالتعينات المختلفة التي يطلق عليها اسم الغير، فحدث السوى والغير، حيث يقال: أنت غيري وأنا غيرك، فاعتبرها، وأوجب الغيرة من الغير، فلهذا قال: (وهو أنت) أي: إلى الغيرة أنت، يعني أنانيتك إِذا اعتبرتها، إذ لولم تعتبرها ونظرت إليها بعين الفناء كما هي عليه في نفس الأمر(1)...نرى أن المتن مفهوم أكثر من الشرح، ونستطيع بكل ثقة واطمئنان أن نسمي الشروح الصوفية بـ(الشروح الباطنية)، أو (شروح المتاقاة)؛ لأن أكثرها من هذا النوع!
ولكن يهمنا أن نلاحظ أنه قد باح بالسر، حيث يقول: (حرم الفواحش، أي: منع أن تعرف حقيقة ما ذكرناه، وهي أنه عين الأشياء).
إِذن فالحقيقة هي أن الله هو الكون (جل الله وعلا) وهذا ما يُسمى (وحدة الوجود)، وهو السر الذي يجب ستره، والفحشاء المحرمة هي إِفشاؤه.
ويقول ابن هود(2):
علمُ قومي بيَ جَهْلُ ... ... إن شأني لأجَلُّ
أنا عبدٌ أنا رب ... ... ... أنا عز أنا ذُل
أنا دنيا أنا أخرى ... ... أنا بعضٌ أنا كُلُّ
أنا معشوقٌ لِذاتي ... ... لستُ عنه الدهر أسلو(3)
- ولا حاجة للتعليق فالكلام واضح.
__________
(1) شرح القاشاني على الفصوص، (ص:157).
(2) الحسن بن عضد الدولة علي، أخي المتوكل على الله ملك الأندلس، ابن يوسف بن هود الجذامي المرسي، مات في دمشق سنة: (699هـ).
(3) أعلام الزركلي، (ج:2).(1/51)
ويقول أبو الحسن الشاذلي(1):
ليكن الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً(2).
- التصريح هنا جيد الوضوح، إِنه يقول: خاطب الناس بالفرق، واكتم الجمع في قلبك، والفرق والجمع معروفان، عرفناهما في نص سابق.
ويقول ابن سبعين(3) مخاطباً أحد تلامذته:
...وشرطي عليك ألا يقف عليه (أي: على الكلام في الحقيقة الموجه في الرسالة إِلى التلميذ) إلا من هو من خواص خواص الخواص، وأن تكف عن السؤال فيه على أمر هو من الأمور التي ليست من جنس ما يكتسب، وهو من الغرابة بحيث لا يفهمه إِلا السعداء والأخيار، والكلام بما ليس من شأنه أَن يلفظ به خبر، وكأني بمن يقف عليه من الجهلة الخفافيش الذين تظلم الشمس والكواكب والأنوار الطبيعية وغير الطبيعية في أعينهم داخل الذهن وخارج الذهن(4).
- العبارة (الجهلة الخفافيش...) استعملها قبله الغزالي في (إِحياء علوم الدين).
ويقول: (بد العارف): كتمانه بد سعادتك، وإفشاؤه فسادها(5).
بد العارف: البد في اللغة هو الصنم. ويفسر أبو الوفاء التفتازاني (بد العارف) بـ(المعبود الذي يتوجه إليه العارف)(6).
__________
(1) علي بن عبد الله بن عبد الجبار الضرير الزاهد، ولد في قرية (غمارة) قرب سبتة فى المغرب، واتصل بابن مشيش وأخذ عنه الطريقة، وبناءً على توجيهاته ذهب إلى شاذلة في تونس، حيث نسب إليها، أقام في الِإسكندرية، توفي وهو في طريقه إلى الحج في صحراء عيذاب سنة: (656هـ).
(2) بداية الطريق إلى ناهج التحقيق، (ص:65).
(3) قطب الدين أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد...ابن سبعين من بلدة رقوطة تابعة لمرسية في الأندلس، ويعرف أيضاً بابن دارة، مؤسس الطريقة السبعينية، تنقل في المغرب ومصر وأقام في مكة وفيها مات سنة: (669هـ).
(4) رسائل ابن سبعين (الرسالة الفقيرية).
(5) رسائل ابن سبعين (ملاحظات على بد العارفين)..
(6) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:100).(1/52)
ويقول: وفي ذلك (أي: في التوحيد) يقول الحلاج رضي الله عنه: (أنا الحق) بمعنى لا آنية إلا واحدة، فإذا وقع الاتصاف ونطق بها، وقع في ذلك معنى متشابه عند العامة، وقتل القائل له، والذي حمله على ذلك محض الإفراد والإخلاص، حتى إن بعض الصوفية رضي الله عنهم أنشدوا له في ذلك.
بذكر الله تنفتحُ القلوب ... ... وتتضحُ المعارفُ والغيوبُ
وترك الذكر أفضل كل شيء ... ... فإن الحق ليس لهُ مغيب
وهذه هي (الدقيقة) عند القوم تارة، وهي (الحقيقة) أخرى، والذي يتكلم بها على حقيقتها من حيث هي، يقطع رأسه في عالم الشهادة، ويقتل في عالم الكون(1).
ويقول: أعلم أن الحروف خزانة الله، وفيها أسراره وأسماؤه وعلمه وأمره وصفاته وقدرته ومراده، فإذا اطلعت علي شيء منها، فأنت من خزانة الله، فلا تخبر أحداً بما فيها من المستودعات، فمن هتك الأسرار عذب بالنار(2).
* ملحوظة: قوله: (الحروف خزانة الله، وفيها أسراره 000)، نرى مثل هذا الكلام تماماً في كتب السحر وأقوال علمائه!
ويقول أَبو العباس المرسي(3):
قد يكون الولي مشحوناً بالعلوم والمعارف، والحقائق لديه مشهورة، حتى إِذا أُعطي العبارة، كان كالِإذن من الله تعالى في الكلام، ويجب أن نفهم أَن من أُذن له في التعبير، جلت في مسامع الخلق إِشاراته(4).
وكان يقول أيضاً:
كلام المأذون له يخرج وعليه كسوة وطلاوة، وكلام الذي لم يؤذن له يخرج مكسوف الأنوار(5).
- في كلامه هذا يبين- شأنه شأن غيره- أَن هناك أسلوباً معيناً يسميه (العبارة) - وقد رأينا هذا سابقاً- لا يجوز للولي أَن يتكلم إِن لم يتقن هذا الأسلوب.
__________
(1) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (79).
(2) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:85).
(3) أحمد أبو العباس المرسي، من أكابر العارفين، ومن السلسلة الشاذلية، صحب أبا الحسن الشاذلي، مات عام (768هـ).
(4) طبقات الشعراني: (2/12).
(5) طبقات الشعراني: (2/12).(1/53)
وقد مر معنا صورٌ كثيرة منه، في قمتها أُسلوب الجيلاني ثم تلميذه السهروردي البغدادي (شهاب الدين) الذي سبق أستاذه.
وقال ابن عطاء الله السكندري(1) من قصيدة:
فالله أَعنيه اسم الذات منفرداً فاعرفْ حقيقَته يا خير مؤتَمَنِ، وارفع به حُجباً واشفِ به عللاً، واكشِفْ به كرَباً عن كل ممتحنِ، وابذل له نفساً في كل موهنةٍ، واحفظ سرائرَه من كل مفتَتِنِ(2).
ويقول عبد الله اليافعي (الغوث)(3):
وروي أنه لما سعي بالصوفية إِلى بعض الخلفاء، أمر بضرب رقابهم، فأما الجنيد فتستر بالفقه، وكان يفتي على مذهب أبي ثور(4)...
- يفهمنا اليافعي في هذا النص أن الصوفية كان يحكم عليهم بالقتل على الزندقة، وأن الجنيد كان يتستر بالفقه.
ويقول:..وكشف لهم (أي: للواصلين) الغطاء، فانكشف لهم من العالم العلوي والسفلي ما أطلعهم عليه من علم الحال والماضي والمآل، فأخبروا بما جاز لهم كشفه من علم الغيوب، ونطقوا بما جاز النطق به مما في ضمائر القلوب...وعرفوا العلم الأعظم المقصود الأهم، وهو العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته علم مشاهدة وعيان، لا علم نظر واستدلال...وأودع قلوبهم أسراراً من كل مصونٍ لديهم مستور(5)...ويقول:
بها هام بعض في البراري وبعضهم ... ... به وله ظنوا جنوناً فقيّدا
وبعض عن الأكوان بان وبعضهم ... ... به جاوز الِإسكارُ حدًّا فعربدا
فسلَّ عليه الشرع سيفاً حمى به ... ... حدوداً فرى الحلاجَ ماضٍ محدداً
فمات شهيداً عندكَم مِن مُحقق ... ... ولَمْ عندهم يخرج عن القوم ملحداً(6)
__________
(1) تاج الدين بن عطاء الله السكندري، صحب ياقوت العرشي وأبا العباس المرسي، مات في القاهرة سنة (707هـ).
(2) القصد المجرد، (ص:66، 67)، والأبيات ليست متتابعة.
(3) أبو محمد عبد الله بن أسعد اليافعي، من عدن، انتقل منها حتى استقر في مكة ومات فيها عام: (768هـ).
(4) نشر المحاسن الغالية، (ص:422).
(5) نشر المحاسن، (ص:90).
(6) نشر المحاسن: (ص:283).(1/54)
ويقول لسان الدين بن الخطيب(1):
...وثالثها خاصة الخاصة، ويختص به من علوم الشريعة علم الحد...وهو علم الِإلهام، والعلم اللدني، والموهبي، والِإلهي. ويحتوي على معانٍ لا يقدر أن يعبر عنها من أطلع عليها، إِنما هو استشراف واطلاع على ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهو بحر لا يوصف بطول ولا عمق ولا عرض ولا نقطة ولا خط، إِنما هو ذوق تتلون لذاته في الطعمة الواحدة إِلى ما لا ينحصر عدده ولا ينتهي أمده، وهو علم النبوة...وهذا العلم هو الذي لا يجوز كشفه ولا إِذاعته ولا ادعاؤه، ومن كشفه وأذاعه وجب قتله واستحل دمه...وهو المراد بقوله تعالى: ((ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ))(2)[الملك:4]..
- كلام ابن الخطيب واضح، ونرى كيف يفسرون الآية الكريمة حسب التفسير الإشاري.
ويقول عبد الكريم الجيلي(3)، (وهو غوث أيضاً):
أنا الموجود والمعدوم ... ... والمنفي والباقي
ولا تثبت وجوداً لي ... ... ولا تنفيه يا باقي
ولا تجعلك غيراً لي ... ... ولا عيناً لآماقي
وقل أنا ذا ولست بذا ... ... بأوصافي وأخلاقي(4)
إِنه يقول: لا تثبث وجوداً لي (في نفسك باعتباري مخلوقاً)، ولا تنفيه (بلسانك).
وقوله: (يا باقي) أي: (يا من وصل إِلى مقام البقاء) ومثل هذا ما يريده في البيتين الآخرين.
ويقول:
رمزي الذي لي في الهوى ... ... أعيا قراءة كل كاتب
أظهرته بعبارة ... ... دقت فلم تفهم لصائب
عرضته لوحته ... ... صرحته بين الحبائب
__________
(1) لسان الدين محمد بن عبد الله بن سعيد...السلماني، وزير الأندلس، وهو المخصوص في (نفح الطيب)، مات قتلاً بسبب كتابه (روضة التعريف) الصوفي، وذلك سنة: (776هـ).
(2) روضة التعريف في الحب الشريف، (ص:431، 432).
(3) عبد الكريم بن إبراهيم ابن سبط عبد القادر الجيلاني، غوث، مات سنة: (832هـ).
(4) الإنسان الكامل، (ص:11).(1/55)
فزويت عنه عينهم ... ... ورويت منه كل شارب
أبديته وكتمته ... ... والله عن كل الحبائب
عذل العذول فعندما ... ... ظهروا فشا بين الأجانب(1)
يقول: إِنه رمز إِلى السر ثم أظهره بعبارة دقيقة...ولكن عندما عذل العذول أظهره ففشا بين الأجانب، وعذل العذول هو سبب جديد لِإفشاء السر يُعرّفنا به.
ويقول:
واشرب من الثغر المدا ... ... م فخمر فيها فيها
وأدر كئوسك راشداً ... ... رغم الذي يطويها
أبدت محاسنها سعا ... ... د فلا تكن مخفيها
ودع اغترارك بالسوى ... ... ليس السوى يدريها(2)
أظن أن القارىء أضحى الآن يعرف أنه يرمز بـ(سعاد) للذات الِإلهية، كما يرمز إِلى اللذة العارمة التي يشعر بها عندما يتحقق بالألوهية في خلوته، بـ(مدام الثغر، وخمر فيها، والكئوس، والمحاسن). كما أظن أن كلمة (السوى) أضحت مفهومة، أو سهلَاً فهمها.
والملحوظةهي أنه يدعو إِلى إِعلان السر وعدم إِخفائه (فلا تكن مخفيها) وإلى عدم الالتفات إِلى السوى (ودع اغترارك بالسوى) وهذا يعني أننا سنرى عنده كل التصريح بالسر، رغم استعماله الرموز في كثير من الأحيان. فنراه يقول مثلاً:
وما الخلق في التمثال إِلا كثلجة ... ... وأنت بها الماء الذي هو نابع
وما الثلج في تحقيقنا غير مائه ... ... وغير أن في حكمٍ دعته الشرائع
ولكن يذوب الثلج يرفع حكمه ... ... ويوضع حكم الماء والأمر واقع(3)
في هذه الأبيات تصريح ومغالطة:
فهو يصرح أن الخلق من الخالق كالثلجة من الماء، فكما أن الثلجة هي جزء من ماء تغير مظهرهُ فقط، كذلك الخلق هو جزء من الحق، تغير مظهره فقط.
__________
(1) الإنسان الكامل، من قصيدة مطلعها (لي في الغرام عجائب وأنا وربك ذو العجائب)، (ص:16).
(2) الإنسان الكامل، (ص:45).
(3) الإنسان الكامل، (ص:46). والأبيات من قصيدته المسماة (البوادر الغيبية في النوادر العينية)، وهي طويلة ومشهورة.(1/56)
والمغالطة هي تقريره أن الثلج هو الماء في تحقيقهم، بينما هو في حكم الشرائع غير الماء، ونتيجةً هذه المغالطة هي انطباع لدى القارىء أن الشرائع مخطئة، وتحقيقهم هو الصحيح.
- ولا أدري! هل لم يجد من يقول له: إِن حكمه خطأ وقياسه فاسد؟
ويقول من نفس القصيدة:
وها أنا ذا أخفي وأظهر تارةً ... ... رموز الهوى ما السر عندي ذائع
وإياك أعني واسمعي جارتي وما ... ... يصرح إِلا جاهل أو مخادع
ولكنني آتيك بالبدر أبلجاً ... ... وأخفيه أخرى كي تصان الودائع(1)
فلننظر إِليه كيف يأتينا بالبدر أبلجاً، يقول:
خبتني فكانت فيّ عني نيابة ... ... أجل عوضاً بل عين ما أنا واقع
فكنت أنا هي وهي كانت أنا وما ... ... لها في وجوِد مفردٍ مَن ينازع
بقيتُ بها فيها ولا تاء بيننا ... وحالي بها ماض كذا ومضارع
ولكن رفعت النفس فارتفع الحجا ... ... ونُبهتُ من نومي فما أَنا ضاجع
وشاهدتُني حقًّا بعين حقيقتي ... ... فلي في جبين الحسن تلك الطلائع
جلوتُ جمالي فاجتليتُ مرائياً ... ... ليطبع فيها للكمال مطابع
فأوصافها وصفي وذاتي ذاتها ... ... وأخلاقها لي في الجمال مطالع
واسمي حقًا اسمها واسم ذاتها ... ... ... لي اسم ولي تلك النعوت توابع(2)
قوله: (ولا تاء بيننا) يعني بها تاء المخاطب، أَي: إِنهما صارا ذاتاً واحدة.
ولننتبه إلى أَنه يشير إِلى الذات الإلهية بضمير المؤنث، حيث يظهر للغافل وكأَنه يتغزل بمحبوبته، ويقول في مكان آخر:
...لأن الكلام عن الحقائق بالِإشارة، ولا يفهم إِشارتنا ويعرف آفة ما فيها من عباراتنا إِلا من هو نحن ونحن هو، فافهم. وإليه الِإشارة، نقول شعراً:
وغني لي منى قلبي ... ... فغنيت كما غنى
وكنا حيث ما كانوا ... ... وكانوا حيث ما كنا
وقد أَردف سيدنا الشيخ العالم الرباني، شهاب الدين أَحمد بن أَبى بكر الرداد هذه الأبيات ثالثاً، فقال:
__________
(1) فتوح الغيب، (ص:202).
(2) الإِنسان الكامل، (ص:61).(1/57)
فحاسبنا وما بانوا ... ... ولا بانوا ولا بنّا
ولعمري أَشار إلى معنى غريب، لولا المقام -مقام الإشارة- لأنعمنا عنه العبارة(1).
* ملحوظة: منى قلبي: يعني به اللّه سبحانه، والضمير في (كانوا) عائد على الله سبحانه وتعالى، وعلى القارئ التحليل.
ويقول ابن البنا السرقسطي(2):
وهذه مسأَلة معتاصة ... ... لم يجد الحبر لها خلاصة
لأنها مسأَلة غريبة ... ... حقيقة الجواب عنها ريبة
وقلِّ ما تلقى لها مساعداً ... ... بل منكراً أَو ناقداً أو جاحداً(3)
ويقول:
وهذه حقيقة الإنسان ... ... حيث لها أنموذج رباني
متى ارتقيت عن قبيل الحس ... ... أَدركت في نفسك معنى النفس
يا من على القشر غدا يحوم ... ... حتى عن اللب متى تصوم
ووضعه في الكتب لا يجوز ... ... بل هو كنز في النهى مكنوز(4)
ويقول منها:
واستشعروا شيئاً سوى الأبدان ... ... يدعونه بالعالم الروحاني
ثم أمام العالم المعقول ... ... معارف تُلغز في المنقول(5)
ويقول منها:
ثم امتحى في غيبة الشهود ... ... فأَطلق القول أنا معبودي
حتى إِذا رُدَّ عليه منه ... ... أَثبت فرقاً حيث لم يكنه
فَرُدَّ تحو عالم التحويل ... ... وعبَّروا عن ذاك بالنزول
ورده بالحق نحو الخلق ... ... كي ما يؤدي واجبات الرق
فكلم الناس بكل رمز ... ... والغز التعبير أَي لغز(6)
__________
(1) المناظر الإلهية، (ص:77).
(2) أبو العباس أحمد بن محمد بن يوسف التجيبي المعروف بابن البنا السرقسطي، من سرقسطة في الأندلس، انتقل إلى فاس ومات فيها في النصف الأول من القرن التاسع الهجري.
(3) الفتوحات الإلهية (ص:27)، والأبيات من قصيدته المشهورة (المباحث الأصلية).
(4) الفتوحات الالهية، (ص:43) وما قبلها.
(5) الفتوحات الإلهية، (ص:112).
(6) الفتوحات الإلهية، (ص:351) وما قبلها.(1/58)
وقال ابن خلدون(1):
قُتل الحلاج بفتوى أهل الظاهر وأَهل الباطن، أَهل الشريعة وأهل الحقيقة؛ لأنه باح بالسر فوجبت عقوبته(2).
ويقول عبد الوهاب الشعراني(3):
...ونور بصائرهم بفضله، وطهر سرائرهم، وأطلعهم على السر المصون، وصانهم عن الأغيار، وسترهم عن أعين الفجار؛ لأنهم عرائس، ولا يرى العرائس المجرمون، فإِذا مر عليهم ولي من أولياء الله ينسبونه إِلى الزندقة والجنون، وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون، فمنهم المنكر لكراماتهم، ومنهم المنقص لمقاماتهم، ومنهم الثالب لأعراضهم، ومنهم المعترضون يعترضون على أحوالهم(4)...
ويقول: ومن الأولياء من سد باب الكلام في دقائق كلام القوم حتى مات، وأحال ذلك على السلوك، وقال: من سلك طريقهم اطلع على ما اطلعوا عليه، وذاق كما ذاقوا، واستغنى عن كلام الناس، وسيأتي في ترجمة عبد الله القرشي رضي الله عنه أن أصحابه طلبوا مكة أن يسمعهم شيئاً من علم الحقائق، فقال لهم: كم أصحابي اليوم؟
قالوا: ستمائة رجل. فقال الشيخ: اختاروا لكم منهم مائة. فاختاروا، فقال: اختاروا من المائة عشرين، فاختاروا، فقال: اختاروا من العشرين أربعة. فاختاروا، (قلت): وكان هؤلاء الأربعة أصحاب كشوفات ومعارف. فقال الشيخ: لو تكلمت عليكم في علم الحقائق والأسرار، لكان أول من يفتي بكفري هؤلاء الأربعة(5).
__________
(1) عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي، ولد في تونس عام: (1334م)، تقلب في البلاد، وتوفي في القاهرة عام (1406م)، الموافق لسنة: (808هـ).
(2) الفتوحات الإلهية، (ص:347).
(3) أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري المعروف بالشعراني، توفي في القاهرة سنة: (973هـ).
(4) الطبقات الكبرى: (1/2).
(5) الطبقات الكبرى: (1/12).(1/59)
- ما يجب أن ننتبه إليه بشدة في هذا النص، هو قوله: (لكان أول من يفتي بكفري هؤلاء الأربعة)، مع العلم أنهم أصحاب كشوف ومعارف، فهم متحققون بمثل ما تحقق به شيخهم، مما لو نطق به لكفروه! إذن فلم يكفرونه وهم على مثل عقيدته؟!
الجواب فيما مر معنا من نصوص، وخاصة قول الجنيد في أوائل هذا الفصل؛ أي: يكفرونه لأنه يبوح بالسر.
ويقول الشعراني أيضاً:
قال سيدي يوسف العجمي -رحمه الله-: (وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغلق الباب لما أَراد أَن يلقن جماعةً من أصحابه، كما تقدم، وقال: هل فيكم غريب...؟ لينبه على أَن طريق القوم مبنية على السحر، بخلاف الشريعة المطهرة، فلا ينبغي لأحد من أهل الطريق أَن يتكلم بالحقيقة عند من لايؤمن بها خوفاً أن ينكرها فيمقت(1).
وكان يقول:
إِياك أيها المريد أن تجادل أصحاب الطقوس بما تجده في نفسك من الأمور الذوقيات، فربما شنوا عليك الغارات ولم يرجعوا عما هم عليه، وربما سبوا الطريق وأهلها(2).
ويقول شيخ الشيوخ عبد الرحمن المجذوب(3) زجلاً:
احفر لسرك ودكوا في الأرض سبعين قامة ... ... وخلّ الخلائق يشكّو إلى يوم القيامة(4)
ويقول أحمد بن عبد الأحد السرهندي(5) (مجدد الألف الثاني):
__________
(1) الأنوار القدسية: (1/29).
(2) الأنوار القدسية: (163).
(3) سيدي عبد الرحمن المجذوب من الأولياء الأكابر!
كان مقطوع الذكر، قطعه بنفسه في أوائل جذبته، مات في القاهرة عام: (944هـ).
(4) إيقاظ الهمم، (ص:112).
(5) مؤسس الطريقة المجدية، مات في الهند سنة: (1034هـ/1625م).(1/60)
...والمنع من إظهار حقائق عالم الأمر إنما هو بسبب دقة تلك المعاني المكنونة...وليس في بثي الأسرار وإِن ظهر لنا كالشمس في فلك.. وبقية الجواهر العليا التي فوق الصفات الحقيقية داخلة في دائرة حضرة الذات تعالت وتقدست، ولهذا يقال لتجليات هذه المراتب الثلاثة: تجليات ذاتية، ولا مصلحة في التكلم وراء ذلك، بلغ اليراع إِلى هنا فتكسرا(1). ا هـ.
أظن أن القارئ يعرف الآن أن عبارة (بسبب دقة تلك المعاني المكنونة): هي للمغالطة، وأن السبب الحقيقي هو خوف التكفير.
- ويقول ابن عجيبة(2):
...فإذا انفرد القلب بالله، وتخلص مما سواه، فهم دقائق التوحيد وغوامضه التي لا يمكن التعبير عنها، وإنما هي رموز وإشارات لا يفهمها إلا أهلها، ولا تفشى إلا لهم، وقليل ما هم.
ومن أفشى شيئاً من أسرارها مع غير أهلها فقد أباح دمه، وتعرض لقتل نفسه، كما قال أبو مدين رضي الله عنه:
وفي السر أسرار دقاق لطيفة ... ... تراق دمانا جهرة لو بها بحنا
وهذهِ الأسرار هي أسرار الذات وأنوار الصفات التي تجلّى الحق بها في مظهر الأكوان، وإلى ذلك إشارة (ابن عطاء الله السكندري) بقوله: (الكون كله ظلمة، وإنما أَناره ظهور الحق فيه)(3).
- هنا يصرح ابن عجيبة بالسر، فيقول: (وهذه الأسرار هي أَسرار الذات...التي تجلِّى الحق بها في مظهر الأكوان)، وأظن أَن الجملة واضحة.
__________
(1) المنتخبات من المكتوبات، (ص:7).
(2) العارف بالله أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني مغربي من كبار صوفية القرن الثالث عشر الهجري، مات سنة: (1224هـ).
(3) إيقاظ الهمم، (ص:39)، وجملة (الكون كله...) من الحكم العطائية.(1/61)
ويقول: ...فلأن هذه الأمور أذواق باطنية، وأَسرار ربانية...وأَيضاً هي أمانات وسر من أسرار الملك، وسر الملك لا يحل إِفشاؤه، فمن أفشاه كان خائناً واستحق الطرد والعقوبة، ولا يصلح أن يكون أميناً بعد ذلك، فكتم الأسرارمن شأْن الأخيار، وهتك الأسرار من شأْن الأشرار. وقد قالوا: قلوب الأحرار قبور الأسرار.
وقال الشاعر:
لا يكتُمُ السر إِلا كلّ ذي ثقة ... ... فالسر عند خيار الناس مكتوم(1)
ويقول أيضاً: (وقال الحلاج -رضي الله عنه-: أنا أنت بلا شك فسبحانك سبحاني، وتوحيدك توحيدي، وعصيانك عصياني.
وقال أيضاً (أي: الحلاج):
سبحان من أظهر ناسوته ... ... سرّ سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهراً ... ... في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه ... ... كلحظة الحاجب بالحاجب
وبإِظهار هذا وأمثاله قُتل -رضي الله عنه- فمن لطف الله تعالى ورحمته أن ستر ذلك السر بظهور نقائضه، صوناً لذلك السر أن يظهر لغير أهله، ومن أفشاه لغير أهله قُتل كما فُعل بالحلاح...(2).
* ملحوظة: هم يكتمون السر خوفاً من السيف، وتجرءوا على الله سبحانه فجعلوه مثلهم! فهل يخاف سبحانه من السيف؟؟!
ويقول: ...قد يرخص للمعارف الماهر إِلقاء الحقائق مع من لا يعرفها، بعبارة رقيقة وشارةً لطيفة، وغزل رقيق، بحيث لا يأخذ السامع منها شيئاً. فقد كان الجنيد رضي الله عنه يلقي الحقائق على رءوس الأشهاد، فقيل له في ذلك، فقال: جانب العلم (أي: علم الحقائق الصوفية) حمى من أن يأخذه غير أَهله(3).
ويقول ابن عجيبة أيضاً في شرح قول ابن البنا السرقسطي:
ثم امتحى في غيبة الشهود ... ... فأَطلق القول أَنا معبودي
حتى إِذا رد عليه منه ... ... أَثبت فرقاً حيث لم يكنه
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:112).
(2) إيقاظ الهمم، (ص:156).
(3) إيقاظ الهمم، (ص:113).(1/62)
يقول: العبد في حال غفلته يكون مبتلى برؤية نفسه، واقفاً مع شهود حسّه، مسجوناً بمحيطاته، محصوراً في هيكل ذاته. فإِذا أراد الله تعالى أن يرفع عنه الحجاب ويدخله في حضرة الأحباب، ألقاه إِلى ولي كل أوليائه، وعرفه سر خصوصيته واصطفائه، فلا يزال يسير به ويحاذيه ويخرق عليه عوائد نفسه ويغيبه عنها، ويزهدهُ في فلسه وجنسه، فإذا رآه الشيخ قد رق في حقه الحجاب، واستحق الانخراط في سلك الأحباب، فتح له الباب وقال له: ها أنت وربك، فإِذا زج في حضرة النور، ورفعت عنه الستور، أنكر الوجود بأسره، وأنكر وجود نفسه، فامتحق وجودُه في محبوبه، وانطوى شهوده في شهود معبوده، فأنشأ يقول: (أنا من أهوى ومن أهوى أنا، أنا المحب والحبيب، ليس ثم ثان)، فإِذا تمكن في الشهود، وتحقق برؤية نور الملك المعبود، رُدَّ عليه صحوه ورجع إِليه سلوكه، فأثبت فرقاً في عين الجمع، قياماً بوظائف الحكمة في عين شهود القدرة، فيكون الجمع في باطنه مشهوداً، والفرق على ظاهره موجوداً، فرقاً لفظيًّا لا حقيقيّا؛ أدباً مع الربوبية وقياماً بوظائف العبودية...(إِلى أن يقول): ...وقوله: (فأطلق القول: أنا معبودي). إِطلاق هذا القول لا يسلم له إِلا في حالة القوة والجذبة، وإلا فقد علمت ما وقع للحلاج وهو ولي الله حقّا، وفي معنى ذلك قيل:
ومن شهد الحقيقة فليصنها ... ... وإلا سوف يقتل بالسنان
كحلاج المحبة إذ تبدت ... ... له شمس الحقيقة بالتداني
وقال آخر:
بالسر إِن باحوا تباح دماؤهم ... ... وكذا دماء البائحين تباح
وقال ابن خلدون: (قتل الحلاج بفتوى أهل الظاهر والباطن، أهل الشريعة وأهل الحقيقة؛ لأنه باح بالسر، فوجبت عقوبته). وممن أفتى بقتله الجنيد والشلبي، غيرة على السر أن يفشى لغير أهله، فالواجب كتم الأسرار، وإظهار شريعة النبي المختار(1).
* ملحوظة:
__________
(1) الفتوحات الإلهية، حاشية الإيقاظ، (ص:346، 347).(1/63)
قوله: (.. كتم الأسرار وإظهار شريعة النبي...) واضح الدلالة على أن الأسرار تناقض شريعة المختار.
ويقول أيضاً: ...ثم هؤلاء الجهال (أي: أهل الشريعة) لم يقنعوا بالإنكار، حتى كفروا من قال بشيء من ذلك (أي: من ذلك السر) كما قال: (أي: ابن البنا السرقسطي):
وكفَّروا وزندقوا وبدَّعوا ... ... إذا دعاهم اللبيب الأروع
قلت: هذا من الحرمان، وعلامة الخذلان، إذا دعاهم أحد إلى التحقيق، قالوا: إنه زنديق. وإذا خرق عوائد نفسه في دواء قلبه، قالوا: إنه صاحب بدعة. وهذا كله حجاب وستر لأوليائه، فإذا سمع المريد شيئاً من ذلك فليطب نفساً، فتلك عناية به، نعم، ينبغي أن يجزم نفسه في ستر السر الذي عنده، فإن أفشى شيئاً من ذلك فسيف الحلاج فوق رأسه(1).
ويقول: إذا قال الفقير: (أنا من أهوى ومن أهوى أنا) قبل تحقق فنائه، فما أبعده عن الصواب، وإذا تحقق فناؤه، فلا يقول ذلك إلا مع من يصدّقه في حاله، وإلا تعرض لقتله(2)...
- نرى أن ابن عجيبة واضح، ونصوصه واضحة، إنه- فى الواقع- يفشي السر رغم دعوته إلى كتمانه، ثم يشرح لنا بوضوح سبب الدعوة إلى الكتمان.
وفي النص الأخير يبين لنا معنى كلمة (الفناء) بحيث لا نحتاج معه إلى الرجوع إلى غيره، ومن الواضح جدًّا أنه يعني بقوله: (أنا من أهوى) أي: أنا الله! وقد مر في نص قبله، قوله: (أنا معبودي) ومتى تسلم لقائلها؟
ويقول أيضاً:
إياك أن تقول أناه ... ... واحذر أن تكون سواه(3)
واضح أن عبارة (أناه) تعني: (أنا هو) أو (أنا الله)، وهذه الجملة لابن عجيبة هي الموضوع الذي دارت حوله كل ما مر معنا من نصوص حول هذا الموضوِع، فهو يقول: إياك أن تقول (بلسانك للناس): أنا الله، ولكن احذر أن تكون (عقيدةً) سواه، أي: أن تعتقد أنك سواه (أي: سوى الله!) - وهو نفس قول الشاذلي: (ليكن الفرق في لسانك..).
__________
(1) الفتوحات الإلهية، (ص:427).
(2) الفتوحات الإلهية، (ص:456).
(3) الفتوحات الإلهية، (ص:347).(1/64)
ويقول محمد مهدي الرواس(1):
وبويعت في الحضرة على كتم أسرار الحضرة إلا عن أهلها، وقد قال إمامنا الشافعي -رضي الله عنه-:
ومن منَحَ الجهال علماً أضاعهُ ... ... ومَن مَنَعَ المستوجبين فقد ظلمْ(2)
وبويعت في الحضرة، على خفاء في ظهور، وظهور في خفاء، وطلسمية في مجلى، ومجلى في طلسمية، وانقباض في انبساط، وانبساط في انقباض، وتعين في استتار، واستتار في تعين(3)...
ويقول: وبويعت في الحضرة على الوقوف على قدم الاهتمام، مع حكم الطي في الزمان، يإعلاء أحكام شريعة سيد الأكوان- عليه صلوات الرحمن- وها أنا والحمد لله على العهد، تجردت لِإعلام أحكامها، برقائق يفهمها من فهمه الله بنوره المبين، وفقهه في الدين، مع طي في منشور الزمان، على منوال قول القائل:
تسترتُ من دهري بظل جناحه ... ... فصرتُ أرى دهري وليس يراني
فإِن تسألِ الأيام عنيَ ما درتُ ... ... وأين مكاني ما عرفن مكاني(4)
ويقول (من قصيدة):
طريقتُنا أنّا نمرُّ زماننا ... ... ونحن على مهدِ التَّكتُّم قُوّم
طريقتُنا أن نجعلَ السر رقعةً ... ... وفيها سطورُ الصدقِ لله نَرْقُمُ(5)
ومنها:
طريقتُنا أن نحفظَ الشرعَ ظاهراً ... وهذا هو السرّ الخفيّ المطلسم(6)
__________
(1) القطب الغوث الفرد المتمكن...السيد بهاء الدين محمد مهدي الشيوخي الشهير بالرواس، ابن علي الرفاعي الصيادي الحسيني الحسني، من بلدة سوق الشيوخ من أعمال البصرة، تجول كثيراً ومات في بغداد عام (1287هـ).
(2) بوارق الحقائق، (ص:292).
(3) بوارق الحقائق، (ص:273).
(4) بوارق الحقائق، (ص:274).
(5) المجموعة النادرة، (ص:287).
(6) المجموعة النادرة، (ص:288).(1/65)
ويقول محمود أبو الفيض المنوفي(1) (من قصيدة):
وأبصرتُ أسرار تسامت بذاتها ... ... وإني أرى شرحي لها فوق طاقتي
فإني إذا ما بحت يوماً بسرها ... ... لقيت حمامي بعد تمزيق مهجتي
ولست على سر أميناً إذن ولا ... ... حظيت بقرب عند أهل مودتي(2)
* * *
وكن كاتماً للسر عن غير أهله ... ... ولا تفشه إِلا لأهل البصيرة(3)
ويقول أيضاً:
ومن أعظم مواهب الله لأوليائه وجود العبارة، وهي (الفتوح بالتعبير عن المقاصد).
قال(4): وسمعت شيخنا أبا العباس يقول: يكون الولي مشحوناً بالعلوم والمعارف، والحقائق لديه مشهودة، حتى إذا أعطي العبارة، كانت كالِإذن من الله له في الكلام.
وقال: من أذن له في التعبير حسنت في مسامع الخلق عباراته، وحليت لديهم إشاراته.
وقال: سمعت شيخنا أبا العباس يقول: كلام المأذون له يخرج وعليه كسوة وطلاوة من نور قلبه، وكلام الذي لم يؤذن له يكون مكسوف الأنوار، حتى إن الرجلين ليتكلمان بالحقيقة الواحدة، فيقبل من أحدهما ويرد على الآخر، واعلم أن من أراد الله أن يكون داعياً إليه من أوليائه فلا بد من إظهاره إلى العباد ولو لخاصتهم، إذ لا تكون الدعوة إلى الله إلا كذلك(5).
- لقد مرت أقوال أبي العباس المرسي في صفحات سابقة، وأكررها هنا، لأن السيد المنوفي يتبناها.
__________
(1) محمود أبو الفيض بن علي بن عمر بن إبراهيم أبو ماضي...ولد في مدينة منوف من مديريات مصر عام (1312هـ)، وهو مؤسس الطريقة الفيضية، وصاحب مجلة العالم الِإسلامي، ورئيس تحريرها، ولعله يكون متمتعاً بالصحة أثناء كتابة هذه الكلمات.
(2) بداية الطريق إلى مناهج التحقيق، (ص:66).
(3) معالم الطريق إلى الله، (ص:444).
(4) معالم الطريق إلى الله، (ص:257).
(5) معالم الطريق إلى الله، (ص:257).(1/66)
- وعن الشيخ محمد أمين الكردي(1) يقول الشيخ سلامة العزامي(2):
...وكان يرى أن القول بوحدة الوجود من سكر الوقت وغلبة الحال، يعذر صاحبه إذا كان مغلوباً، ولا يصح تقليد غيره له، وكان يرى الخوض فيه حراماً إلا لمن ثبتت قدمه فى عقيدة أهل السنة والجماعة، وعرف ذلك من بقايا السكر ولم يتأثر بما يسمعه من الشطحات(3)...
- الوقت: ما هو غالب على العبد(4)، أو ما كان هو الغالب على الِإنسان(5)، فيقال: (وقتك الحزن، أو وقتك السرور، أو وقتك الجذبة، أو وقتك الغيبة...) وهذا النص أكثر وضوحاً من أن يحتاج إلى تعليق، ولكنه مع ذلك بحاجة إلى تأمل.
ويقول الشيخ عبد القادر الحمصي(6):
احذر نفس الله في كل آن ... ... واكتم سر الله ضمن الجنان
واعلم أن الله عين العيان ... ... واجمع خلق الله في الوحدة(7)
ومن قوله:
اكتم الأسرار عن ذوي الأغيار ... ... واهدم الأسوار واهجر بيعك(8)
- ذوو الأغيار أو أصحاب الأغيار: أي الذين يتوهمون أن في الوجود غير الله، أو الذين يتوهمون أن المخلوق غير الخالق.
__________
(1) شيخ شيوخ العصر...القطب الكبير محمد أمين الكردي الِإربلي ابن الشيخ فتح الله زاده، أخذ الطريقة النقشبندية عن الشيخ عمر النقشبندي، رحل إلى الحجاز ثم إلى القاهرة ومات فيها عام: (1332هـ).
(2) الشيخ سلامة العزامي، أحد أكابر علماء الأزهر وتلميذ الشيخ الكردي.
(3) ترجمة الشيخ الكردي في مقدمة كتاب تنوير القلوب، (ص:42).
(4) معجم المصطلحات الصوفية.
(5) شرح حاشية العروسي: (2/22).
(6) الشيخ عبد القادر الحمصي، أخذ الطريقة عن الشيخ علي اليشرطي وهو قريب العهد.
(7) اللطائف الروحية، (ص:42).
(8) اللطائفة الروحية، (ص:82).(1/67)
ويقول ابن أنبوجة(1): ...والغير عبارة عن التلبس بالرسوم، والكتم عن السر، والِإشارة دون تصريح صيانةً للأسرار، واتساعاً لمحل الأمانة، فيرقى عن ضيق الحمل، ومطاوعة البوح(2).
- الرسوم: جمع رسم، وهو الخلق وصفاته؛ لأن الرسوم هي الآثار، وكل ما سوى الله هي آثاره الناشئة من أفعاله(3). ومعنى هذا الكلام هو أن الرسوم هي المخلوقات إذا توهمناها غير الخالق، ويكون معنى قوله: (التلبيس بالرسوم) هو: التظاهر بأن الخلق غير الخالق!
- يبين ابن أنبوجةَ لمَ يستعملون الإشارة في العبارة دون التصريح، إنها من أجل أن ترقى بهم عن ضيق الحمل (أي: حمل السر) وعن مطاوعة البوح به، فيفرّجون عن صدورهم بعبارات مموهة على أهل الرسوم.
ولعل في هذا القدر من أقوال الكبار من أئمة الصوفية في كتمان السر عن غير أهله، والتلبيس على أهل الشريعة بالشريعة، وتنبيه السالكين أن التصريح بالسر يقودهم إلى السيف؛ لأن السر كفر وزندقة!! لعل في هذا القدركفاية.
بل فيه أكثر من الكفاية، بل وأكثر بكثير! فقد كانت الكفاية في نص أو نصين من (إحياء علوم الدين) الكتاب العظيم الشأن! عظيم الوقع! كثير النفع! جليل المقدار! ليس له نظير في بابه! ولم ينسج على منواله! ولا سمحت قريحة بمثاله! كاشفاً عن الغوامض الخفية...إلخ، لمؤلفه (حجة الِإسلام ومحجة الدين التي يتوصل بها إلى دار السلام! الِإمام! بل أكثر من عشرين ألف إمام! جامع أشتات العلوم! الضرغام! والبدر التمام! كاشف غياهب الشبهات...إلخ) أبي حامد الغزالي.
__________
(1) الشيخ العلامة العارف بالله سيدي عبيدة بن محمد الصغير بن أنبوجة الشنقيطي التيشيتي، من أفراد أعلام الطريقة التجانية.. توفي عام: (1284هـ).
(2) ميزاب الرحمة الربانية، (ص:113).
(3) معجم مصطلحات الصوفية.(1/68)
لقد كان في نص أو نصين منه كفاية؛ إذ لا كلام في هذا الكلام مع كلام حجة الِإسلام؛ لأن حجة الكلام كلام حجة الِإسلام! وليس بعد كلامه كلام! وإلا فما معنى كونه (حجة الِإسلام)؟!!
- هذه الفقرة هي من عدوى الكشف والعلوم اللدنية فالمعذرهّ!!
قد يقول قائل: ما دام نص أو نصان يكفيان! فلِمَ كل هذا الركام؟!
الجواب: هو محاولة- قد تكون فاشلة وقد تكون ناجحة- للوقوف أمام الثعلبيات الزئبقية التي نسمعها دائماً وأبداً من الصوفية وأنصارهم، ومن السذج الذين خدعوا بالعبارات المنمقة التي تسمي الليل ظهراً والجهل علماً!
فلو أتيناهم مثلاً بمثل من (الِإحياء) لسمعنا أقوالًا مختلفة، فقد يقول قائل منهم: (هذا كلام مدسوس على الكتاب)، وهى الجملة الظالمة التي كررت وتكرر دون حياء، وقد يقول آخر: (هذا قول انْتُهِيَ منه، ولم يبق له رصيد الآن. هذا كان عند بعضهم فقط). وقد يقول آخر: (التعميم لا يجوز)، وقد يقولون: هذا له تأْويل (وما أدراك ما التأْويل، له ذنب طويل، وخرطوم طويل، وناب طويل، وظفر طويل، وشعر طويل...).
من أجل هذا أوردت هذا الركام، ولولا الخوف من الِإطالة، وأن يبلغ الكتاب حجماً أكبر من حجمه؛ لأوردت من أقوال من أوردت أسماءهم، ومن أقوال غيرهم في هذا الموضوع ما قد يحتاج إلى مئات الصفحات، إن لم يكن ألوفها!!
واستكمالاً للفائدة، أعيد عرض بعض النصوص السابقة ذات الأهمية الخاصة الواضحة مع بعض الِإضافات.
يقول الجنيد:
لا يكون الصدِّيق صدِّيقاً حتى يشهد له في حقه سبعون صديقاً أنه زنديق!! وفي رواية: (ألف صديق أنه زنديق).
ويقول ابن عجيبة:
...وإلا فقد علمت ما وقع للحلاج، وهو ولي الله حقّا...وممن أفتى بقتله الجنيد والشبلي...(طبعاً لأنه باح بالسر).
ويقول ابن عربي:
ومن كاتمٍ للسر يظهر ضده ... ... عليه لطلاب المشاهد للبقا
ويقول اليافعي:(1/69)
...لما سعي بالصوفية إلى بعض الخلفاء، أمر بضرب رقابهم، فأما الجنيد فتستر بالفقه، وكان يفتي على مذهب أبي ثور.
ويقول أبو الحسن الشاذلي:
ليكن الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً.
ويقول ابن عجيبة أيضاً:
إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه.
وهو نفس المعنى تماماً الذي يقوله أبو الحسن الشاذلي. (الفرق: هو أن تفرق بين الخالق والمخلوق، والجمع أن تجمعهما في ذاتٍ واحدة)، وقد مر هذا الشرح سابقاً، وأعيده هنا.
وأعيد قول الحلاج لأهميته الخاصة الخاصة، يقول:
المعنى الذي به تُحقن الدماء، خارج عن الصلاة والصوم وقراءة القرآن.
ولا أعلق بشيء، فهي واضحة جدّاً، ولذلك أعدت كتابتها، ولكني أورد قولاً آخر له أهميته الخاصة جداً.
يقول الشعراني:
..قال عبد الله القرشي: ..لو تكلمت عليكم في علم الحقائق والأسرار، كان أول من يفتي بكفري هؤلاء الأربعة(1)!
- وطبعاً! يفتون بكفره ظاهراً بألسنتهم، أما في الباطن فهم يعتقدون عقيدة جازمة أنه صدّيق ولي لله، وأن إفتاءهم- في الظاهر بكفره هو للتمويه والنجاة من السيف! أو لكتمان السر!! أو لإعطاء الظاهر حكم الظاهر، ويبقى للباطن حكم الباطن!
ويقول أحمد الشرباصي معلقاً على قولٍ للغزالي:
فأنت ترى معي، من غير شك، أن الغزالي بعد أن أبان الصعوبة في وضع تعريف جامع مانع للتصوف بسبب سريته وباطنيته.. إلى أن يقول: ولعل هذه السرية أو الباطنية المستكنة في حقيقة التصوف، كانت المدخل لادعاء الكثيرين التصوف(2).
__________
(1) طبقات الشعراني: (1/12).
(2) التصوف عند المستشرقين، (ص:14).(1/70)
ومما يورده أحمد زيني الدحلان: (وسئل والد الشيخ محمد الرملي عن القائل بوحدة الوجود، فقال: يقتل هذا المرتد وترمى جيفته للكلاب؛ لأن قوله هذا لا يقبل تأويلاً، وكفره أشد من كفر اليهود والنصارى، واستحسن الشيخ ابن حجر منه هذهِ الفتوى...فمن زعم أن وحدة الوجود غير وحدة الشهود لم يشم رائحة معنى الوحدة، فوحدة الوجود ترجع إلى وحدة الشهود من غير حلول ولا اتصال، هذا هو القول الحق(1). انتهى).
- لنلاحظ أن الكفر عندهم هو التصريح بوحدة الوجود بعبارة لا تقبل التاويل (لأن قوله هذا لا يقبل تأويلاً) كما يجب أن نلاحظ أن وحدة الشهود هي وحدة الوجود.
ويقول عبد القادر الجيلاني:
أشد الأشياء على من عرف الله عز وجل، النطق مع الخلق والقعود معهم، ولهذا يكون ألف عارف والمتكلم فيهم واحد؛ إلا أنه يحتاج إلى قوة الأنبياء عليهم السلام، وكيف لا يحتاج إلى قوتهم وهو يريد أن يقعد بين أجناس الخلق، يخالط من يعقل ومن لا يعقل، يقعد مع منافق ومؤمن، فهو على مقاساة عظيمة، صابر على ما يكره، ومع ذلك فهو محفوظ فيما هو فيه، معان عليه؛ لأنه ممتثل لأمر الحق عز وجل في كلامه على الخلق، لم يتكلم بنفسه وهواه واختياره وإرادته، إنما أجبر على الكلام، فلا جرم يحفظ فيه(2).
- والآن..
نختم هذا الفصل، بفصل من كتاب (اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر) للِإمام العارف الرباني سيدي عبد الوهاب الشعراني..
__________
(1) تقريب الأصول لتسهيل الوصول، (ص:51).
(2) الفتح الرباني، (ص:216).(1/71)
يقول: (الفصل الثالث) في بيان إقامة العذر لأهل الطريق في تكلمهم في العبارات المغلقة على غيرهم رضي الله عنهم(1): اعلم رحمك الله، أن أصل دليل القوم في رمزهم الأمور، ما روي في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأبي بكر الصديق: أتدري يومَ يوم؟ فقال أبو بكر: نعم يا رسول اللّه، لقد سألتني عن يوم المقادير، وروي أيضاً أنه قال له يوماً: يا أبا بكر، أتدري ما أريد أن أقول؟ فقال: نعم، هو ذاك هو ذاك، حكاه الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في بعض كتبه.
* نقف قليلاً لنورد قوله صلى الله عليه وسلم: {إن كذباً عليَّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار}(2) جواباً على هذه الأحاديث المكذوبة.
__________
(1) اليواقيت والجواهر: (1/14).
(2) صحيح مسلم (كتاب العلم).(1/72)
وذكر الشيخ محيي الدين في الباب الرابع والخمسين من الفتوحات ما نصه: اعلم أن أهل الله لم يضعوا الِإشارات التي اصطلحوا عليها فيما بينهم لأنفسهم، فإنهم يعلمون الحق الصريح في ذلك، وإنما وضعوها منعاً للدخيل بينهم، حتى لا يعرف ما هم فيه، شفقة عليه أن يسمع شيئاً لم يصل إليه، فينكره على أهل الله، فيعاقب على حرمانه، فلا يناله بعد ذلك أبداً، قال: ومن أعجب الأشياء في هذه الطريق، بل لا يوجد إلا فيها، أنه ما من طائفة تحمل علماً من المنطقيين والنحاة وأهل الهندسة والحساب والمتكلمين والفلاسفة، إلا ولهم اصطلاح لا يعلمه الدخيل فيهم إلا بتوقيف منهم؛ لا بد من ذلك، إلا أهل هذه الطريق خاصة، فإن المريد الصادق إذا دخل طريقهم، وما عنده خبر بما اصطلحوه، وجلس معهم، وسمع منهم ما يتكلمون به من الِإشارات، فهم جميع ما تكلموا به، حتى كأنه الواضع لذلك الاصطلاح، ويشاركهم في الخوض في ذلك العلم، ولا يستغرب هو ذلك من نفسه، بل يجد علم ذلك ضروريًّا لا يقدر على دفعه، فكأنه ما زال يعلمه، ولا يدري كيف حصل له ذلك، هذا شأْن المريد الصادق، وأما الكاذب فلا يعرف ذلك إلا بتوقيف، ولا يسمح له قبل إخلاصه في الِإرادة وطلبه لها أحد من القوم؛ ولم يزل علماء الظاهر في كل عصر يتوقفون في فهم كلام القوم، وناهيك بالِإمام أحمد بن سريج، حضر يوماً مجلس الجنيد، فقيل له: ما فهمت من كلامه؟ فقال: لا أدري ما يقول، ولكن أجد لكلامه صولة...ثم إن القوم لا يتكلمون بالِإشارة إلا عند حضور من ليس منهم، أو في تأْليفهم لا غير. ثم قال: ولا يخفى أن أصل الِإنكار من الأعداء المبطلين إنما ينشأ من الحسد، ولو أن أولئك المنكرين تركوا الحسد وسلكوا طريق أهل الله لم يظهر منهم إنكار ولا حسد، وازدادوا علماً إلى علمهم. ولكن هكذا كان الأمر، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم...وأشد الناس عداوة لأصحاب علوم الوهب الِإلهي في كل زمان أهل الجدال بلا أدب، فهم لهم من(1/73)
أشد المنكرين؛ ولما علم العارفون ذلك عدلوا إلى الِإشارات، كما عدلت مريم عليها السلام، من أجل أهل الِإفك والِإلحاد إلى الِإشارة، فلكل آية أو حديث عندهم وجهان: وجه يرونه في نفوسهم، ووجه يرونه فيما خرج عنهم، قال تعالى: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ)) [فصلت:53] فيسمون ما يرونه في نفوسهم إشارة ليأنس المنكرون عليهم، ولا يقولوا: إن ذلك تفسير لتلك الآية أو الحديث، وقاية لشرهم ورميهم لهم بالكفر، جهلاً من الرامين معرفة مواقع خطاب الحق تعالى، واقتدوا في ذلك بسنن من قبلهم، وإن الله تعالى كان قادراً أن ينص ما تأوله أهل الله وغيرهم في كتابه، كالآيات المتشابهات، والحروف أوائل السور، ومع ذلك فما فعل، بل أدرج في تلك الكلمات ألِإلهية والحروف أوائل السور، علوماً اختصاصية لا يعلمها إلا عباده الخُلَّص...ومع هذا التفاضل المشهور فيما بينهم ينكرون على أهل الله تعالى،.. فإن القوم لما عملوا بما علموا، أعطاهم الله تعالى علماً من لدنه، بإعلام رباني أنزله في قلوبهم مطابقاً لما جاءت به الشريعة لا يخرج عنها ذرة!!
* وقفة قصيرة ثانية: بما أننا الآن نعيش لحظات في التفسير الِإشاري، فنريد أن نفهم النصوص فهماً (إشاريًّا). وعليه يكون المعنى (الإشاري) لعبارة (مطابقاً لما جاءت به الشريعة) هو: مطابق (أي: يشكل طبقة مقابلة) لما جاءت به الشريعة، وواضح أن هذا يعني أنهما منفصلان عن بعضهما. أما قوله: (لا يخرج عنها ذرة) فتحتمل معنيين (إشاريين):
المعنى الأول: لا يخرج عنها (أي: عن الشريعة) ذرة، أي: واحدة، لتلتحق بالعلم اللدنِي، فلا يوجد في العلم اللدني ذرة واحدة خرجت إليه من الشريعة، فهما مختلفان جملة وتفصيلاً.(1/74)
المعنى الثاني: (بالكشف) نشاهد أن كلمة (ذرة) تعني في لغة (الحقيقة) المسافة بين الجنة وجهنم، فيكون المعنى: لا يخرج عنها ذرة؛ أي: لا يخرج عنها المسافة بين الجنة وجهنم، فالمسافة بين الجنة وجهنم موجودة بين الشريعة وبين حقيقتهم.
نعود لمتابعة النص، بعد القفز عن تفسيرات إشارية:
...ولكن هؤلاء المنكرون، لما تركوا الزهد في الدنيا وآثروها على الآخرة، وعلى ما يقرب إلى الله تعالى...
* وقفة قصيرة ثالثة: أين قوله هنا: (وآثروها على الآخرة) من أقوالهم: (إلى متى الدنيا؟ إلى متى الآخرة؟)، و(اخلع نعليك)، و(اخرج من الكونين).. إلخ؟! والتي سنراها في نصوص مقبلة...نتابع.
...وتعوّدوا أخذ العلم من الكتب، ومن أفواه الرجال، حجبهم ذلك عن أن يعلموا أن لله عباداً تولى تعليمهم في سرائرهم، إذ هو المعلم الحقيقي للوجود كله، وعلمه هو العلم الصحيح الذي لا يشك مؤمن ولا غير مؤمن في كماله...فعلم أن من كان معلمه الله تعالى، كان أحق بالاتباع ممن كان معلمه فكره، ولكن أين الِإنصاف؟
فصان الله نفوسهم بتسميتهم الحقائق إشارات، لكون المنكرين لا يردون الِإشارات، وأين تكذيب هؤلاء المنكرين لأهل الله في دعواهم العلم من قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لو تكلمت لكم في تفسير سورة الفاتحة لحمّلت لكم منها سبعين وقراً)، فهل ذلك إلا من العلم اللدني الذي آتاه الله تعالى له.
* وقفة قصيرة رابعة: الكذب على علي بن أبي طالب أهون من الكذب على الله أو على رسوله. ونتابع.(1/75)
.. وقد كان الشيخ أبو يزيد البسطامي يقول لعلماء زمانه: أخذتم علمكم ميتاً عن ميت، وأخذنا علومنا عن الحي الذي لا يموت، وكان الشيخ أبو مدين إذا سمع أحداً من أصحابه يقول في حكاية: (أخبرني بها فلان عن فلان) يقول: لا تطعمونا القديد، يريد بذلك رفع همة أصحابه، يعني: لا تحدثوا إلا بفتوحكم الجديد الذي فتح الله تعالى به على قلوبكم في كلام الله تعالى أوكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الواهب للعلم الِإلهي حي لا يموت، وليس له محل في كل عصر إلا قلوب الرجال.
* وقفة قصيرة أيضاً: يقول: (الذي فتح الله تعالى به.. في كلام الله تعالى أو كلام رسوله)!! فهل قول أبي يزيد، وقول أبي مدين يوافق كلام الله أو كلام رسوله من قريب أو من بعيد؟! أو من أبعد من بعيد؟! إلا عن طريق التأويل، فسيفه صقيل، ومفعوله سحري، بل يعجز السحر والسحرة والفجرة عن تحقيق ما يحققه التأْويل!.. نتابع.(1/76)
.. وسئل الأستاذ علي بن وفا رضي الله عنه من بعض العارفين، على لسان بعض المعترضين: لمَ دوّن هؤلاء العارفون معارفهم وأسرارهم التي تضر بالقاصرين من الفقهاء وغيرهم؟ أما كان عندهم من الحكمة وحسن الظن والنظر والرحمة بالخلق ما يمنعهم عن تدوينها؟ فإن كان عندهم ذلك فمخالفتهم له نقص! وإن لم يكن عندهم حكمة ولا حسن ظن فكفاهم ذلك نقصاً؟! فأجاب بقوله: يقال لهذا السائل: أليس الذي أطلع شمس الظهيرة، ونشر ناصع شعاعها مع إضراره بأبصار الخفافيش ونحوها من أصحاب الأمزجة الضعيفة، عليم حكيم؟ فلا يسعه إلا أن يقول: نعم هو تعالى عليم حكيم، فإن قال: صحيح ذلك، ولكن عارض ذلك مصالح أخر تربو على هذه المفاسد، قلت: وكذلك الجواب عن مسألتك، فكما أن الحق تعالى لم يترك إظهار أنوار شمس الظهيرة مراعاة لأبصار من ضعف بصره! فكذلك العارفون لا ينبغي لهم أن يراعوا أفهام هؤلاء المحجوبين عن طريقهم، بل الزاهدين فيها، بل المنكرين عليها.. وحسبك جواباً أن من دوّن المعارف والأسرار، لم يدونها للجمهور، بل لو رأى من يطالع فيها ممن ليس هو بأهلها لنهاه عنها.
* ملحوظة:
هذا سبب من أسباب تدوين هذياناتهم التي يسمونها (علماً) ظلماً للعلم، ويسمونها (حقيقة) ظلماً للحقيقة! ونتابع:
.. وكان بعض العارفين يقول: نحن قوم يحرم النظر في كتبنا على من لم يكن من أهل طريقتنا؛ وكذلك لا يجوز أن ينقل كلامنا إلا لمن يؤمن به، فمن نقله إلى من لا يؤمن به، دخل هو والمنقول إليه جهنم الِإنكار، وقد صرح بذلك أهل الله تعالى على رءوس الأشهاد، وقالوا: من باح بالسر استحق القتل، ومع ذلك فلم يسمع أهل الغفلة والحجاب، بل تعدوا حدود القوم، وأظهروا كلامهم لغير أهله...
* وقفة قصيرة: هذا الكلام كله مغالطات، سيأْتي تفصيلها إن شاء الله تعالى بين ثنايا النصوص.. نتابع.(1/77)
.. فكما أوجب المجتهدون وحرّموا وكرهوا واستحبوا أموراً لم تصرح بها الشريعة في دولة الظاهر؛ فكذلك العارفون أوجبوا أموراً وحرموا وكرهوا واستحبوا أموراً في دولة الأعمال الباطنة؛ فالاجتهاد واقع في الدولتين...
* وقفة يجب أن تكون- هنا- طويلة جدًّا، ولكن لا مناص من تقصيرها: فالمجتهدون استنبطوا أحكاماً من النصوص؛ وهي موافقة لها ولكليات الشريعة الِإسلامية، بينما هؤلاء (العارفون) أوجدوا- عن طريق الكشف- عقائد لا تمت إلى الِإسلام بصلة، بل جاء الِإسلام وكل الأنبياء لمكافحة هذه العقائد.
أكرر القول: إن هؤلاء (العارفين) جاءوا بعقائد غريبة، وبنوا عليها أحكاماً غريبة!! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. نتابع.
.. فإن قيل: فلمَ رمّز القوم كلامهم في طريقهم بالاصطلاح الذي لا يعرفه غيرهم، إلا بتوقيف منهم كما مر؟ ولم لم يظهروا معارفهم للناس- إن كانت حقاً كما يزعمون- ويتكلموا بها على رءوس الأشهاد كما يفعل علماء الشريعة فى دروسهم، فإن في إخفاء العارفين معارفهم عن كل الناس رائحة ريبة، وفتحاً لباب رمي الناس لهم بسوء العقيدة وخبث الطوية؟
فالجواب: إنما رمَّزوا ذلك رفقاً بالخلق ورحمة بهم، وشفقة عليهم - (كذب ومغالطة، بل رمَّزوا خوفاً من سيف الحلاج) - وقد كان الحسن البصري! وكذلك الجنيد والشبلي وغيرهم، لا يقررون علم التوحيد إلا في قعور بيوتهم، بعد غلق أبوابهم، وجعل مفاتيحها تحت وركهم! ويقولون: أتحبون أن ترمى الصحابة والتابعون الذين أخذنا عنهم هذا العلم بالزندقة بهتاناً وظلماً.
* وقفة: هذا الكلام- أي: اتهام الحسن البصري والصحابة والتابعين بهذا الاتهام- هو البهتان والظلم، فقد كان الصحابة والتابعون والحسن البصري بريئين من هذه الزندقة، وفي كلامهم واتهامهم هذا مغالطة جريئة جدًّا جدًّا جدًّا. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. نتابع.(1/78)
..وما ذلك إلا لدقة مداركهم (أي: الصوفية) حين صفت قلوبهم وخلصت من شوائب الكدورات الحاصلة بارتكاب الشهوات والآثام! ولا يجوز لأحد أن يعتقد في هذه السادة! أنهم ما يخفون كلامهم إلا لكونهم فيه على ضلال، حاشاهم من ذلك!! فهذا سبب رمز من جاء بعدهم للعبارات التي دونت، وكان من حقها أن لا تذكر إلا مشافهة، ولا توضع في الطروس، ولكن لما كان العلم يموت بموت أهله إن لم يدوّن، دوّنوا علمهم ورمزوه مصلحة للناس، وغيرةً على أسرار الله أن تذاع بين المحجوبين.
وأنشدوا في ذلك:
ألا إن الرموز دليل صدقٍ ... ... على المعنى المغيّب في الفؤاد
وكل العارفين لها رموزٌ ... ... وألغازٌ تدق على الأعادي
ولولا اللغز كان القولُ كفراً ... ... وأدّى العالمين إلى الفسادِ
* والآن.. ليست وقفة، بل مشية! إذا قال الشاعر: (الرموز دليل صدق) فقد كذب الشاعر وكذب شعره؛ لأن الرموز عكاكيز الدجاجلة، والشعراء يتبعهم الغاوون، أما اصطلاحهم فقد غدا معروفاً لدى الباحث، ولننتبه بشكل خاص إلى قوله: (ولولا اللغز كان القول كفراً). نتابع.
فقد بان لك أنه ليس للإنسان مقابلة الوحوش والسباع الكواسر والظهور لهم، إلا إن علم قدرته على دفع أذيتهم له بتهيؤ أسباب القهر لهم بالقوة والمكنة والأنصار، فإن قيل: فلمَ لم يترك هذا العارف إظهار معارفه وأسراره بالكلية ويدخل فيما فيه الجمهور حتى يتمكن ويقوى فيكون ذلك أسلم له؟
* نعود إلى الوقفة، هنا أراد بقوله: (بتهيؤ أسباب القهر لهم بالقوة..) أن تكون (عبارة إشارية) فكانت أقرب إلى الإفصاح! لقد أشارت هذه العبارة إلى الكيد الذي يكيدونه للإسلام، وأفصحت عن الخطة التي وضعوها لذلك! أو بالأصح: الخطة الذي وضعها الشيطان ليكيد للإسلام باستخدامهم واستغلالهم! وفي قوله: (ويدخل فيما فيه المجهور حتى يتمكن..) إفصاح كامل عن أن ما هم فيه يختلف كل الاختلاف عما فيه الجمهور، أي: عن الإسلام. نتابع.(1/79)
...ونقل الإمام الغزالي في (الإحياء) وغيره عن الإمام زين العابدين بن علي بن الحسين -رضي الله عنه- أنه كان يقول:
يا ربّ جوهر علمً لو أبوحُ به ... ... لقيل لي أنت ممّن يعبد الوثنا
ولاستحلّ رجالٌ مسلمونَ دمي ... ... يروْن أقبحَ ما يأتونهُ حسنًا
قال الغزالي: والمراد بهذا العلم الذي يستحلون به دمه: هو العلم اللدني، الذي هو علم الأسرار، لا من يتولى من الخلفاء ومن يعزل، كما قاله بعضهم؛ لأن ذلك لا يستحل علماء الشريعة دم صاحبه، ولا يقولون له: أنت ممن يعبد الوثن(1).اهـ.
* تعليق: هذا الشعر مفترى على زين العابدين، من قبل العارفين الصادقين الصديقين الأولياء.
ويقول محمد العربي السائح التجاني(2):
__________
(1) اليواقيت والجواهر، (ص:14- 19)، وقد حذفت منه كثيراً مما لا فائدة منه للبحث.
(2) محمد العربي بن السائح الشرقي العمري نسبة، التجاني مشرباً، مغربي توفي سنة: (1309هـ)، وهو تلميذ أحمد التجاني وأحد خلفائه.(1/80)
..قال الشيخ علي الروذباري: (علمنا هذا إشارة فإذا صار عبارة خفي). ومن هنا احتاج أهل الله تعالى إلى وضع الِإشارات المصطلح عليها فيما بينهم، فيتكلمون بها عند حضور الغير وفي تآليفهم ومصنفاتهم لا غير، ولم يضعوها لأنفسهم؛ لأنهم يعرفون الحق الصريح في ذلك، والحامل لهم على وضعها الشفقة على الدخيل بينهم، خشية أن يسمع منهم أو يرى في تأليفهم شيئاً لا يصل إليه فهمه، فينكره، فيعاقب بحرمان علمه، فلا يعلمه بعد، والعياذ بالله تعالى...وكان بعض العارفين يقول: (نحن قومٌ يحرم النظر في كتبنا على من لم يكن من أهل طريقتنا، وكذلك لا يجوز أن يُنقل كلامنا إلا لمن يؤمن به، فمن نقله لمن لا يؤمن به دخل هو والمنقول إليه إلى جهنم، وقد صرح بذلك أهل الله تعالى على رءوس الأشهاد، وقالوا: من باح بالسر استحق القتل). فإن قيل: هلّا طوى العلماء من أهل الطريق بساط التأليف والتصنيف في مثل هذه العلوم وأمسكوا عن الخوض في رقائق الِإشارات ودقائق السر المكتوم؟ لأن الكلام في ذلك ربما ضر بالقاصرين من الفقهاء، فضلًا عمن عداهم، وربما خفيت وجوه المخرج فيه عن بعض النبلاء فضلاً عمن سواهم! أما كان عندهم من الحكمة والنظر للخلق بعين الشفقة والرحمة ما يمنعهم من الخوض في ذلك والتقحم لمضايق هاتيك المسالك؟! قلنا: قد ذُكر في (اليواقيت والجواهر) عن العارف بالله تعالى سيدي علي بن وفا رضي الله عنه، أنه قيل له مثل هذا فأجاب بقوله -رضي الله عنه-: يقال لهذا القائل: أليس الذي أطلع شمس الظهيرة ونشر ناصع شعاعها مع إضراره بأبصار الخفافيش ونحوها من أصحاب الأمزجة الضعيفة عليماً حكيماً؟ فإن قال: صحيح ذلك، ولكن عارض ذلك مصالح تربو على هذه المفاسد. قلنا له: وكذلك الجواب عن مسألتك! فكما أن الحق سبحانه وتعالى لم يترك إظهار أنوار شمس الظهر مراعاة لأبصار من ضعف بصره، فكذلك العارفون، لا ينبغي لهم أن يراعوا أفهام هؤلاء المحجوبين عن طريقهم؛ بل الزاهدين(1/81)
فيها، بل المنكرين عليها.. وكان تدوين معارفهم وأسرارهم من أحق الحقوق عليهم، لكون غيرهم لا يقوم مقامهم في تدوين أدوية أمراض القلوب وآداب حضرات الحق تعالى في جميع الأمور المشروعة؛ فإن لكل مقام حضوراً وآداباً تخصه...)(1).
- ولتخليص ما مضى وتثبيته؛ يجب أن نتذكر دائماً وألا ننسى أبداً أن غاية الصوفية واحدة وهدفها الذي يسعون إليه واحد، رغم اختلاف عباراتهم وأسماء طرقهم، وكل ما مضى براهين، ونزيده قولاً آخر لعبد الحليم محمود، يقول:
إن لكل صوفي طابعاً معيناً، ولكلامه مذاقاً خاصًّا، والصوفية وإن كانوا جميعاً يسيرون إلى هدف واحد، وغاية لا مذاهب فيها، هي التوحيد- فإنهم يختلفون في الشكل، ويتفاوتون في الطريق، ومن هنا كانت الكلمة المأثورة: (التوحيد واحد- والتوحيد هو الغاية- والطريق إلى الله كنفوس بني آدم.. إنها تتعدد وتتفاوت)(2).
- وهكذا عرفناً أن الغاية هي (وحدة الوجود)، وأنها غاية الصوفية وهدف جميع طرقها؛ ولا هدف ولا غايهّ لهم غيرها، والوصول إلى ذوقها هو ما يسمونه: (الِإحسان). وإن التقية واجبة، وهي التظاهر بالإسلام وشرعه، وإخفاء العقيدة الصوفية إلا لأهلها.
كما عرفنا متى يصرحون بعقيدتهم ولمن.. لكننا، وكما قلنا سابقاً، أمام مراوغات زئبقية لا تعرف معنى للخجل؛ فأحدهم يكذب عليك أمامك دون أي شعور بالحياء، كما حدث ويحدث دائماً.
ووقوفاً أمام مراوغاتهم ومكرهم نورد أيضاً أقوالاً لعدد كبير من أئمتهم، تثبت كلها أنهم كلهم يؤمنون بوحدة الوجود، لكن بعد أخذ فكرة عن معاجمهم، وما يسمونه شروحاً لمصطلحاتهم.
* المعاجم الصوفية:
أَلف بعض علماء التصوف معاجم للمصطلحات الصوفية، واكتفى بعضهم بإدراج بعض المصطلحات، أو جملة منها في ثنايا تواليفهم مع ما يسمونه (شروحها).
__________
(1) بغية المستفيد، (ص:18، 19، 20).
(2) أبو بكر الشبلي حياته وآراؤه، (ص:5).(1/82)
وفي الواقع، ليست معاجمهم معاجم شروح وتفاسير، فالقارىء العادي لا يرى فيها إلا تفسير الألغاز بالألغاز، ولا يخرج منها بأي طائل؛ وذلك لأنها في حقيقة الأمر معاجم عبارات، فهي مصنوعة من أجل هدف واحد، هو أَن تقدم للسالك عبارات إشارية مرموزة جاهزة ليستعملها في كتاباته وفي حواره مع أهل الشريعة، وكذلك ما يقدمونه في ثنايا تواليفهم مما يسمونه (شروحاً) لمصطلحاتهم.
وفيما يلي مجموعة من مصطلحاتهم، مع شيء من العبارات التي تشير إلى معانيها الحقيقية بأسلوب رمزي، مأخوذة من معاجمهم ومن كتبهم، ولن أذكر اسم المرجع الذي آخذ منه العبارة، لئلا أزيد في حجم الكتاب من جهة؛ ولأن ذلك لا ضرورة له من جهة ثانية، إلا في حالات خاصة.
وأترك للقارىء الكريم أن يتسلى باستخراج معانيها الحقيقية ليتمرس باللغة الصوفية، وقد أوضّح بعض المعاني عندما أظن ذلك ضروريًّا، وأضع التوضيح بين قوسين، إن كان في درج كلامهم، أو أجعله بعد كلامهم بشكل تعليق أو ملحوظة..
* الجمع والفرق:(1/83)
الجمع شهود الأغيار بالله، والفرق شهود الأغيار لله، الجمع إشارة إلى حق بلا خلق، والفرق إِشارة إِلى خلق بلا حق، وقيل: مشاهدة العبودية، الجمع شهود الحق بلا خلق، والفرق (الأول) هو الاحتجاب بالخلق عن الحق، وبقاء الرسوم الخلقية بحالها، الجمع إزالة الشعث والتفرقة بين القدم والحدث، (أي: بين الخالق والمخلوق) ؛ لأنه لما انجذبت بصيرة الروح إلى مشاهدة جمال الذات، استتر نور العقل الفارق بين الأشياء في غلبة نور الذات القديمة، وارتفع التمييز بين القدم والحدث لزهوق الباطل عند مجيء الحق...والجمع الصرف يورث الزندقة والِإلحاد، ويحكم برفع الأحكام الظاهرية (أي: الشريعة).. ولصاحب الجمع أن يضيف إلى نفسه كل أثر ظهر في الوجود (أي: يقول: أنا الخالق، أنا البارىء، أنا العرش) وكل فعل وصفة وأثر، لانحصار الكل عنده في ذات واحدة...والفرق: ما نسب إليك.. ومعناه أن ما يكون كسباً للعبد من إقامة العبودية وما يليق بأحوال البشرية فهو فرق، فإثبات الخلق من باب التفرقة، وإثبات الحق من نعت الجمع، وشهود الحكمة والنظر إلى الأسباب فرق.
ومن العبارات المرموزة التي يقدمها الطوسي في (اللمع):
...الجمع والتفرقة اسمان، فالجمع جمع المتفرقات، والتفرقة تفرقة المجموعات، فإذا جمعت قلت: الله ولا سواه، وإذا فرقت قلت: الدنيا والآخرة والكون؛ وهو قوله: ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) [آل عمران:18] فقد جمع، ثم فرق، فقال: ((وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ)) [آل عمران:18]، كذلك قوله: ((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ)) [البقرة:136]، وقد جمع؛ ثم فرق، فقال: ((وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ)) [البقرة:136].
* ملحوظة:
من الواضح جيداً أن في الكلام كثيراً من الوضوح؛ بل ومن التصريح، ولنلاحظ كيف يفسرون الآيات الكريمة تفسيراً ما أنزل الله به من سلطان.
ومنها:(1/84)
قال قوم: الجمع ما جمع البشرية في شهود الربوبية، والتفرقة ما فرقها عن تقسيم الرسوم، وقد ذهب الجنيد إلى أن قربه بالوجد جمع، وغيبته في البشرية تفرقة (أي: قرب الله في الوجد، وغيبة الله في البشرية). وقال أبو بكر الواسطي: إذا نظرت إلى نفسك فرقت، وإذا نظرت إلى ربك جمعت.. يضيف الطوسي قوله: وهذه أحرف مختصرة في معنى الجمع والتفرقة ولمن يتدبر في فهمه إِن شاء الله.
ومن شروح ابن عجيبة في (الفتوحات): ...قال شيخ شيوخنا علي العمراني رضي الله عنه في كتابه: اعلم أن الكلف (أي: القيام بالتكاليف) صفة من أوصاف الفرق، وعدم الكلف صفة من أوصاف الجمع، والفرق عبودية، وهو حق؛ والجمع ربوبية، وهو حق أيضاً، صار الحق هو القائل وهو المستمع لما قال؛ لأجل هذا المعنى تجد هؤلاء المتوجهين إلى الله تعالى، من غلب عليه شهود الجمع، تجده في غاية البسط والراحة من الكلف، ومن غلب عليه شهود الفرق تجده في غاية القبض والتعب والكلف.. اهـ.
* المعنى الصريح:
الجمع: هو جمع الخالق والمخلوق في وحدة، وشهود أن الله سبحانه هو كل الأشياء والموجودات، (ما الكون إلا القيوم الحي)، أو أنها جزء منه.
والفرق: هو التفريق بين الخالق والمخلوق، والظن أن المخلوق غير الخالق، والمؤمن بهذا سماه الغزالي في إحيائه (مشرك تحقيقاً) ؛ لأنه يجعل مع الله شريكاً له في الوجود.
* الحق بالحق للحق:
يقول الطوسي: وأما معنى قولهم: (الحق بالحق للحق) فالحق هو الله عز وجل. قال أبو سعيد الخراز: عبد موقوف مع الحق بالحق للحق، يعني: موقوف مع الله بالله لله، وكذلك: (منه له به) يعني: من الله لله بالله(1)...
أقول: يتوضح معنى العبارة إذا عرفنا أنها تشير إلى وحدة الوجود وإلى تحقق المعْنيِّ بها بالألوهية.
* التوحيد:
__________
(1) اللمع، (ص:411).(1/85)
محو آثار البشرية وتجريد الألوهية (والمعنى الصريح هو: توحيد كل الموجودات في وجود واحد، أي: لا موجود إلا الله، وقد خانتهم العبارة في هذا القول الذي يجب أن يكون (محو آثار الخلقية وتجريد الألوهية).
* الِإحسان:
أن تعبد الله كأنك تراه.. وذلك منهم مع كمال توكلهم على ربهم وصفاء توحيدهم وقطعهم النظر إلى الأغيار ورؤيتهم النعم من المنعم (معجم مصطلحات الصوفية).
وهو التحقق بالعبودية على مشاهدة حضرة الربوبية بنور البصيرة، أي: رؤية الحق موصوفاً بصفاته بعين صفته...لأنه تعالى هو الرائي وصفه، وهو دون مقام المشاهدة في مقام الروح (اصطلاحات الصوفية للكاشاني).
* الفناء:
الطوسي في (اللمع) عن جعفر الخلدي: سمعت الجنيد يقول: وسئل عن الفناء فقال: إذا فني الفناء عن أوصافه وأدرك البقاء بتمامه.
قال: وسمعت الجنيد يقول وقد سئل عن الفناء؟ فقال: استعجام كلك عن أوصافه، واستعمال الكل منك بكليتك.
وقال ابن عطاء: من لم يفن عن شاهد نفسه بشاهد الحق، ولم يفن عن الحق بالحق، ولم يغب في حضوره عن حضوره، لم يقع بشاهد الحق.
وقال الشبلي: من فني عن الحق بالحق لقيام الحق بالحق، فني عن الربوبية فضلاً عن العبودية.
الخلاصة: الفناء هو الجذبة، أو ما يحصل أثناء الجذبة من غيبوبة عن الخلق، وهذا هو الفناء عن الخلق، أو ما يحصل من غيبوبة يتوهمونها أنها في الحق، ويسمونها: الفناء في الله، وهي شعور المجذوب بالألوهية.
* ملحوظة:
بدأت بالمصطلحات السابقة لأهميتها، والباقية ستكون حسب الترتيب الأبجدي.
* الاتحاد: هو شهود وجود الحق الواحد المطلق، الذي الكل به موجود بالحق، فيتحد به الكل من حيث كون كل شيء موجوداً به معدوماً بنفسه، لا من حيث أن له وجوداً خاصاً اتحد به، فإنه محال. [أي: أنهم يعنون بالاتحاد (وحدة الوجود). ولننتبه إلى الجملة (لا من حيث إن له وجوداً خاصاً اتحد به، فإنه محال)].(1/86)
* الأحد: هو اسم الذات، باعتبار انتفاء تعدد الصفات والأسماء والنسب والتعينات عنها.
* انصداع الجمع: هو الفرق بعد الجمع، بظهور الكثرة في الوحدة، واعتبارها فيها. (ويسمى أيضاً: الفرق الثاني، وصحو الجمع،..).
* البارقة: هي لائحة ترد من الجناب الأقدس (هكذا يتوهمون) وتنطفىء سريعاً، وهي من أوائل الكشف ومبادئه.
* الباطل: ما سوى الحق، وهو العدم، إذ لا وجود في الحقيقة إلا للحق؛ لقوله عليه السلام: {أصدق بيت قاله العرب قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... ... وكل نعيم لا محالة زائل }
* البرزخ: هو الحائل بين الشيئين، ويعبر به عندنا (عالم المثال) أعني الحاجز بين الأجساد الكثيفة وعالم الأرواح المجرد، (أعني: الدنيا والآخرة) ومنه الكشف الصوري. (المعنى الصريح: البرزخ هو عالم الجذبة، ويسمونها (البرزخ الأول) والبرزخ الثاني هو البرزخ بالمعنى الشرعي المعروف).
* البواده: جمع بادهة، وهي ما يفجأ القلب من الغيب، فيوجب بسطاً أو قبضاً.
* الجلاء: هو ظهور الذات المقدسة لذاتها في ذاتها، والاستجلاء: ظهورها لذاته في تعيناته.
- لننتبه جيداً إلى الجملة الأخيرة: (ظهورها لذاته في تعيناته).
* الهواجم: ما يرد على العبد بقوة الوقت من غير تعمق من العبد، وهي البواده المذكورة.
* الواحدية: اعتبار الذات (أي: الإلهية) من حيث انتشاء الأسماء منها، وأحديتها بها، مع تكثرها بالصفات.
* الوارد: كل ما يرد على القلب من المعاني من فحص مواهبه، من غير تعمل من العبد.
* واسطة الفيض وواسطة المد: وهوالِإنسان الكامل الذي هو الرابطة بين الحق والخلق بمناسبة للطرفين، كما قال تعالى: لولاك لما خلقت الأفلاك!
* ملحوظة:
هذا كذب على الله سبحانه، إذ لا أصل لهذا القول إلا في اختراعاتهم.(1/87)
* الوجود: وجدان الحق ذاته بذاته، ولهذا تسمى حضرة الجمع حضرة الوجود، وجهان لعناية، هما: الجذبة والسكون، اللذان هما جهتا الهداية، وجهان للِإطلاق والتقييد، وهما جهتا اعتبار الذات بحسب سقوط جميع الاعتبارات، وبحسب إثباتها..
* ملحوظة:
ليس الفرق كبيراً بين قراءة هذا الهراء وبين علك اللباد. والمعنى بدون ثرثرة هو: الوجود هو الحالة التي يجد بها المجذوب أنه هو الله، وأن كل شيء هو الله (جل الله)، أو أنه يجد أن الله موجود به، أو أنه هو موجود في الله (تعالى الله)، ولذلك يطلقون على الله سبحانه اسم (الوجود)، وللهراء تتمة حذفناها رحمة بأعصاب القارىء.
* الحال: ما يرد على القلب بمحض الموهبة، من غير تعمل أو اجتناب كحزن أو خوف أو بسط أو قبض أو شوق أو ذوق (يجب الانتباه إلى معنى كلمة ذوق). ويزول بظهور صفات النفس، سواء يعقبه الميل أو لا، فإذا قام وصار ملكاً سمي مقاماً.
* الحجاب: انطباع الصور الكونية في القلب، المانعة لقبول تجلي الحقائق.
* حقيقة الحقائق: هي الذات الأحدية الجامعة، بجميع الحقائق وتسمى حضرهّ الجمع، وحضرة الوجود.
* الحقيقة المحمدية: هي الذات (أي: الِإلهية) مع التعين الأولى، فله (أي: لمحمد) الأسماء الحسنى كلها وهو الاسم الأعظم.
* الطالع: أول ما يبدو من تجليات الأسماء الِإلهية على باطن العبد، فيحسن أخلاقه وصفاته بتنوير باطنه.
- لعل القارىء يذكر ما هو معنى «يحسن أخلاقه وصفاته» وإن كان قد نسي فليرجع إِلى صفحات سابقة.
* الطمس: هو ذهاب رسوم السيار (أي: السالك) بالكلية في صفاء نور الأنوار.
* يوم الجمعة: وقت اللقاء والوصول إلى عين الجمع: (أي: وقت التحقق بالألوهية).
* الكل: اسم للحق تعالى، باعتبار الحضرة الواحدية الإلهية الجامعة للأسماء كلها، ولهذا يقال: أحد بالذات كلٌّ بالأسماء [وواضح أن (الكل) تعني كل شيء في الوجود].
* اللائحة: هي ما يلوح من نور التجلي، ثم يروح، وتسمى أيضاً بارقة وحضرة.(1/88)
* اللطيفة: كل إشارة رقيقة المعنى، يلوح منها في الفهم معنى لا تسعه العبارة.
* اللوامع: أنوار ساطعة تلمع لأهل البدايات من أرباب النفوس الصافية الطاهرة، فتنعكس من الخيال إلى الحس المشترك، فتصير مشاهدة بالحواس الظاهرة، فتتراءى لهم كأنوار الشهب والقمر والشمس فتضيء ما حولهم. وهي إما من غلبة أنوار القهر والوعيد على النفس، فتضرب إلى الحمرة، وإما من غلبة أنوار اللطف والوعد، فتضرب إلى الخضرة والفقوع.
* المحو: رفع أوصاف العادة، بحيث يغيب العبد عندها عن عقله (أي: الجذبة)، ويحصل منه أفعال وأقوال لا مدخل لعقله فيها كالسكر من الخمر.
* محو الجمع والمحو الحقيقي: هو فناء الكثرة في الوحدة: (أي: استشعار وحدة الوجود).
* المفتاح الأول: هو اندراج الأشياء كلها على ما هي عليه في غيب الغيوب، الذي هو أحدية الذات: كالشجرة في النواة، ويسمى بالحروف الأصلية.
* ممد الهمم: هو الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه الواسطة في إفاضة الحق والهداية على من يشاء من عباده.
* المنقطع الوحداني: هو حضرة الجمع التي ليس للغير فيها عين ولا أثر، فهي محل انقطاع الأغيار، وعين الجمع الأحدية، ويسمى منقطع الِإشارة، وحضرة الوجود، وحضرة الجمع.
* نهاية السفر الأول: هو رفع حجاب، الكثرة عن وجه الوحدة.
* نهاية السفر الثاني: رفع حجاب الوحدة عن وجوه الكثرة العلية الباطنية.
* نهاية السفر الثالث: هو زوال التقيد بالضدين (أي: الجمع والفرق) ظاهراً وباطناً، بالحصول في أحدية عين الجمع.
* نهاية السفر الرابع: شهود اضمحلال الخلق في الحق، واندراج الحق في الخلق، حتى يرى العين الواحدة (أي: الله سبحانه) في الصور الكثيرة، والصور الكثيرة في عين الوحدة.
* السالك: هو السائر إلى الله (بل إلى الجذبة) المتوسط بين المريد والمنتهي، ما دام في السير (أي: يقوم بالذكر والخلوة).
* الستائر: صور الأكوان؛ لأنها مظاهر الأسماء الِإلهية، تعرف من خلقها.(1/89)
* سر التجليات: هو شهود كل شيء في كل شيء، وذلك بانكشاف التجلي الأول للقلب، فيشهد الأحدية الجمعية بين الأسماء كلها، لاتصاف كل اسم بجميع الأسماء، لاتحادها بالذات الأحدية، وامتيازها بالتعينات التي تظهر في الأكوان التي هي صورها، فيشهدكل شيء.
* سر الربوبية: هو ظهور الرب بصور الأعيان، فهي من حيث مظهريتها للرب القائم بذاته الظاهر بتعيناته قائمة به موجودة بوجوده.
* العالم: هو الظل الثاني، وليس إلا وجود الحق الظاهر بصور الممكنات كلها، فلظهوره بتعيناتها سمي باسم السوى والغير...وإلا فالوجود عين الحق.. فالعالم صورة الحق، والحق هوية العالم وروحه، وهذه التعينات في الوجود الواحد أحكام اسم الظاهر الذي هو مجلى لاسمه الباطن.
* العارف: من أشهدهُ الله تعالى ذاته وصفاته وأسماءه وأفعاله، فالمعرفة حال تحدث عن شهود (انظر معنى كلمة شهود فيما بعد).
* عين الجمع: اسم من أسماء التوحيد (أي: توحيد الخالق والمخلوق في وحدة واحدة).
* عين الحياة: مظهر الحقيقة الذاتية من هذا الوجود، أو: هو باطن الاسم الحي الذي من تحقق به شرب من ماء عين الحياة الذي من شرب منه لا يموت أبداً؛ لكونه حيًّا بحياة الحق، وكل حي في العالم يحيا بحياة هذا الِإنسان لكونه حياتُه حياةُ الحق.
* الري: مزج الأوصاف بالأوصاف، والأخلاق بالأخلاق، والأنوار بالأنوار، والأسماء بالأسماء، والنعوت بالنعوت، والأفعال بالأفعال (هذا التعريف لأبي الحسن الشاذلي من طبقات الشعراني).
* العيد: ما يعود على القلب من التجلي، أو وقت التجلي كيف كان.
* الفرق الأول: هو الاحتجاب بالخلق عن الحق، وبقاء الرسوم الخلقية بحالها. (أي: هي حالة المحجوبين- مثلنا- الذين يظنون أن الخلق هم غير الحق).
* الفرق الثاني: هو شهود قيام الخلق بالحق، ورؤية الوحدة فى الكثرة، والكثرة في الوحدة، من غير احتجاب صاحبه بإحداهما عن الأخرى.(1/90)
(أي: هو كما يقول ابن عجيبة: إياك أن تقول أنا الله، واحذر أن تكون سواه).
* الفرقان: فرق.
* القرآن: جمع.
* فرق الجمع: هو الفرق الثاني، ومثله: صحو الجمع، والفرق في الجمع.
* الفهوانية: خطاب الحق بطريق المكافحة في عالم المثال. (كلمات كلها غموض ولكن عرفنا ما هو عالم المثال، إنه في الواقع عالم الجذبة عندما يكون المجذوب غائباً عن شعوره بالمخلوقية، وعندما يشعر أنه الله، ويكون معنى (الفهوانية) هو الكلام الذي يسمعه المجذوب من نفسه باعتباره هو الله، أثناء الجذبة).
* صاحب الزمان، وصاحب الوقت، وصاحب الحال: هو المتحقق بجمعية البرزخية الأولى، المطلع على حقائق الأشياء، الخارج عن حكم الزمان وتصرفات ماضية ومستقبلة، إلى (الآن) الدائم، فهو ظرف لأحواله وصفاته وأفعاله، فلذلك يتصرف في الزمان بالطي والنشر، وفي المكان بالقبض والبسط؛ لأنه المتحقق بالحقائق والطبائع، والحقائقُ في القليل والكثير، والطويل والقصير، والعظيم والصغير سواء، إذ الوحدة والكثرة والمقادير كلها عوارض، فكما يتصرف في الوهم فيها، كذلك في العقل فصدّق، وافهم تصرفه فيها في الشهود والكشف الصريح، فإن المتحقق بالحق المتصرف بالحقائق، يفعل ما يفعل في طوروراء أطوار الحس والوهم والعقل، ويتسلط على العوارض بالتغيير والتبديل.
* الصعق: هو الفناء في الحق بالتجلي الذاتي: (أي: التحقق بالألوهية وذوقها).
* صورة الحق: هو محمد صلى الله عليه وسلم، لتحققه بالحقيقة الأحدية والواحدية، ويعبر عنه بـ (صاد) كما لوح إليه ابن عباس رضي الله عنه، حين سئل عن معنى (ص) فقال: جبل بمكة كان عليه عرش الرحمن.
* الرداء: هو ظهور صفات الرب على العبد.
* الرسم: هو الخلق وصفاته.
* الرعونة: الوقوف مع حظوظ النفس ومقتضى طباعها. (أي: هي الركون إلى الشعور بالمخلوقية، أو هي الركون إلى الفرق الأول).(1/91)
* الشاهد: ما يحضر القلب من آثار المشاهدة (أي: مشاهدة الألوهية) وهو الذي يشهد له بصحة كونه محتظياً من مشاهدة شهوده، إما بعلم لدني لم يكن له فكان، أو وجد، أو حال، أو تجل وشهود.
* شعب الصدع: هو جمع الفرق بالترقي عن حضرة الواحدية إلى حضرة الأحدية، ويقابله صدع الشعب، هو النزول عن الأحدية إلى الواحدية.
* الشهود: رؤية الحق بالخلق (أي: رؤية الله في المخلوقات، يعني رؤية أن كل شيء هو الله).
* شهود المفصل في المجمل: رؤية الكثرة في الذات.
* شهود المجمل في المفصل: رؤية الأحدية في الكثرة.
* شواهد الحق: هي حقائق الأكوان، فإنها تشهد بالكون.
* الشئون الذاتية: اعتبار النفوس والأعيان والحقائق في الذات الأحدية، كالشجرة وأغصانها وأوراقها وأزهارها وأثمارها في النواة.
* التحقيق: شهود الحق في صور أسمائه التي هي الأكوان، فلا يحتجب بالحق عن الخلق، ولا بالخلق عن الحق (أي: هو مقام البقاء).
* الذوق: هو أول درجات شهود الحق بالحق في أثناء البوارق المتوالية، عن أدنى لبثة من التجلي البرقي، فإذا زاد وبلغ أوسط مقام الشهود، سمي شرباً، فإذا بلغ النهاية سمي ريًّا.
* ذو العقل والعين: هو الذي يرى الحق في الخلق، والخلق في الحق، ولا يحتجب بأحدهما عن الآخر، بل يرى الوجود الواحد بعينه حقًّا من وجه، وخلقاً من وجه، فلا يحتجب بالكثرة عن شهود الوجه الواحد الأحد، ولا يزاحم في شهود كثرة المظاهر أحدية الذات التي يتجلى فيها، ولا يحتجب بأحدية وجه الحق عن شهود الكثرة الخلقية.
* ظاهر الممكنات: هو تجلي الحق بصور أعيانها وصفاتها، وهو المسمى بالوجود الِإضافي، وقد يطلق عليه (ظاهر الوجود).
* ظل الإله: هو الِإنسان الكامل المتحقق بالحضرة الواحدية.
* الغوث: هو القطب حينما يلتجأ إليه.
* غيب الهوية: هو الذات (الإلهية) باعتبار اللاتعين.(1/92)
* العبارة والِإشارة والرمز: الِإشارة أرق وأدق من العبارة، والرمز أدق من الِإشارة، فالأمور ثلاثة: عبارات وإشارات ورموز، وكل واحدة أدق مما قبلها، فالعبارة توضح، والِإشارة تلوح، والرمز يفرح، أي: يفرح القلوب بإقبال المحبوب.
- أقول: هكذا يعرف ابن عجيبة العبارة والِإشارة والرمز في كتابه (إيقاظ الهمم) ص (118)، لكن أقوال القوم واستعمالاتهم تجعل المعنى خلاف ذلك.
فالعبارة: هي الجملة التي يستعملها المتصوفة فيتفاهمون بها فيما بينهم، ولا يفهم الآخرون من حقيقة معانيها شيئاً، إلا معان يتوهمونها لجهلهم، والعبارة تكون إشارة أو رمزاً أو لغزاً، وهذه الثلاثة متقاربة المعاني، ولا فائدة من تفصيلها هنا(1).
* عالم المثال: الجذبة ورؤاها.
* طريق المكافحة: هو معاملة السالك (أي: مشاهدته ومخاطبته وسمعه) لله بالله (أي: لله الكائن فى السالك، بالله الذي استشعره السالك. فهو مثلاً: يسمع من الله بالله، أي: يسمع من الله الباطن فيه بالله الذي هو نفسه حين استشعار الألوهية، أو يسمع من نفسه بنفسه، أي: من نفسه التي هي الله الباطن فيه، بنفسه التي وصلت إلى الشعور بالألوهية وذوقها وذوق معانيها).
* الحضور: النفس حين تتحد بالواحد في حال الجذب (هذا التعريف هو لأفلوطين، من المعجم الفلسفي الصادر عن مجمع اللغة العربية)، وإذا أردنا أن نصيغ هذه الجملة بالعبارة الصوفية، نقول: الحضور هو الفناء في الذات.
- قبل الانتقال إلى الفصل الثاني، نورد هذا النص للتذكير والتوكيد.
- يقول الدكتور سيد حسين نصر (صوفي شديد التحمس للصوفية):
__________
(1) من يريد التفصيل يمكنه الرجوع إلى كتبهم، مثل: (إيقاظ الهمم) لابن عجيبة، (ص:118، 119)، وغيره من كتبهم.(1/93)
..والأدب الصوفي الضخم الوارد فى جميع اللغات الِإسلامية.. هذا الأدب أشبه بمحيط يزخر بأمواج تندفع في جهات مختلفة، وتتخذ صوراً متباينة لكنها تعود دوماً إلى المنشأ الذي انطلقت منه.. لقد كان أقطاب التصوف على اتفاق في لباب ما قالوه عبر العصور وإن تباينت تعابيرهم(1)..
- يفهمنا هذا النص أن كل العبارات الصوفية المختلفة التي مرت والتي ستمر والتي لن تمر معنا، كلها تشير إلى معنى واحد، (وقد عرفناه، إنه وحدة الوجود).
يقول سيد حسين نصر مؤكداً:
..وكل ما نستطيعه هو التشديد على أن التعاليم الصوفية تدور حول عقيدتين أساسيتين هما: (وحدة الوجود)، و(الإنسان الكامل). إن جميع الأشياء تجليات للأسماء الحسنى والصفات الِإلهية، فبالِإنسان الكامل يتصور الله بذاته، ويتأمل جميع الأشياء التي جاء بها إلى- حيز الوجود(2).
لننتبه إلى تعريفه للِإنسان الكامل، وقد عرفنا مما سبق أن الِإنسان الكامل عندهم هو الذي وصل إلى مقام الفرق الثاني، وقد يضيفون المقدرة على كسب ثقة الآخرين، ويجعلونَ محمداً صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى للِإنسان الكامل، ولذلك، كثيراً ما يطلقون هذه العبارة (الِإنسان الكامل) وهم يعنونه بها.
في ختام هذا الفصل أعود فأذكر أن كتّاب الصوفية وشعراءها ومتكلميها يتفاوتون فيما بينهم بالمقدرة الفنية على سبك العبارة الصوفية بإشاراتها ورموزها وألغازها التي تطوي دائماً في ثناياها معنى وحدة الوجود، ويأتي في مقدمتهم: الجنيد، وعبد القادر الجيلاني، وأحمد الرفاعي، وشهاب الدين السهروردي البغدادي.. وآخرون.
__________
(1) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:22).
(2) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:42).(1/94)
وكان من الممكن أن يكون محيي الدين بن عربي منهم، لولا كثرة تواليفه مع كثرة ما يورد فيها من عبارات شعرية ونثرية، جعلت قسماً منها يخونه بوضوحه؛ لأن من كثر لغطه كثر غلطه، وللزيادة في التبيين والمساعدة على التمرس باللغة الصوفية، أُورد مثلاً من عبارات الجنيد:
جاء في كتاب (دقائق التفسير الجامع لتفسير الِإمام ابن تيمية) قول ابن تيمية رحمهُ الله:
(...وبين لهم الجنيد الفرق الثاني، وهو أنهم مع مشاهدة المشيئة العامة، لا بد لهم من مشاهدة الفرق بين ما يأمر الله به وما ينهى عنه، وهو الفرق بين ما يحبهُ وما يبغضه، وبين ذلك لهم الجنيد، كما قال في التوحيد: هو إفراد الحدوث عن القدم)(1).. إلخ.
أقول: رحم الله ابن تيمية، لم يكلف نفسه دراسة اللغة الصوفية وعباراتها، فانزلق مثل هذا الانزلاق.
وأظن أن عبارة الجنيد (مشاهدة المشيئة العامة) هي الآن واضحة المدلول، أما العبارتان: (ما يأمر الله به، وما ينهى عنه) فقد تغيب الإشارة فيهما عن القارئ الذي لم يتمرس بعد باللغة الصوفية، فإلى ماذا تشيران؟
مر معنا في صفحات سابقة، وسيمر فيما يأتي من فصول أنهم يقولون بالِإسلام والِإيمان والِإحسان الذي جاء في الحديث الشريف، وأنهم يفسرون (الِإحسان) أنه الفناء في الذات، أو استشعار الألوهية وتذوقها، وبالتالي معرفة وحدة الوجود استشعاراً وذوقاً وتحققاً.
ومر معنا- وسيمر- أنهم يجعلون معنى كلمة (الفاحشة، أو الفواحش) الواردة في القرآن الكريم هو البوح بالسر، ولنتذكر أيضاً تفسيرهم للآية الكريمة: ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ)) [الحاقة:44]، وغيرها.
__________
(1) دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية، جمع وتحقيق د. محمد السيد الجليد: (1/426).(1/95)
من هنا تتوضح الِإشارة في قول الجنيد (ما يأمر الله به) التي تشير إلى الآية الكريمة: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ...)) [النحل:90]، وكذلك الِإشارة في قوله: (وما ينهى عنه) التي تشير إلى الآية الكريمة: ((وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ...)) [النحل:90].
أي إن عبارة الجنيد: (ما أمر الله به) تشير إلى (الِإحسان) الذي يأْمر الله به، والذي هو عندهم معرفة وحدة الوجود؛ وعبارته: (وما ينهى عنه) تشير إلى (الفحشاء) التي ينهى الله سبحانه عنها، والتي هي عندهم البوح بالسر.
وبذلك تكون العبارة: (لا بد لهم من مشاهدة الفرق بين ما يأمر الله به وما ينهى عنه) لها نفس معنى عبارة الشاذلي: (اجعل الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً) ونفس معنى عبارة الجيلاني (فبظاهره ينظر إلى ما في السوق، وبقلبه ينظر إلى ربه عز وجل، إلى جلاله تارة وإلى جماله تارةً أخرى)، ونفس معنى عبارة ابن عجيبة: (إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه)..
وكذلك العبارة: (الفرق بين ما يحبه وما يبغضه) تشير إلى نفس المعنى.
أما عبارة: (إفراد الحدوث عن القدم) فتحمل نفس معنى (اجعل الفرق في لسانك موجوداً).
- ومثل آخر من عبارات أحمد الفاروقي السرهندي(1)، يقول:
__________
(1) أحمد بن عبد الأحد، يلقبونه بـ (مجدد الألف الثاني)، وهو مؤسس الطريقة المجددية، مات سنة (1034هـ/1625) في الهند.(1/96)
...مثلاً، قالت طائفة، من السكر، بالِإحاطة الذاتية، ورأوا أن الحق محيط بالعالم بالذات تعالى وتقدس، وهذا الحكم مخالف لآراء علماء أهل الحق، فإنهم قائلون بإحاطة علمية، وآراء العلماء أقرب إلى الصواب في الحقيقة(1)...ا هـ. إنه يقول: إن القائلين: إن الله سبحانه محيط بالعالم إحاطة علمية (أي: بعلمه سبحانه)، هم أقرب إلى الصواب من القائلين بأنه محيط بالعالم بذاته، ولعل القارىء انتبه إلى أن القول بالإحاطة الذاتية يقتضي الاثنينية: محيط ومحاط به، بينما القول بالإحاطة العلمية لا يقتفي لا الوحدة ولا الاثنينية، أَي: إن القول بأن الله سبحانه محيط بالعالم بعلمه لا يتنافى مع وحدة الوجود، كما أنه لا يتنافى مع التفريق بين الخالق والمخلوق، ولذلك كان هذا القول أقرب إلى الصواب. (ولننتبه إلى عبارة (أقرب إلى الصواب) التي تعني أنه ليس الصواب بعينه، وإنما هو أقرب إليه من ذلك القول). وبعبارة أوضح: إن مقولة (الإحاطة الذاتية) يمكن أن تحمل معنى الاثنينية أكثر من مقولة (الإحاطة العلمية) ولذلك كانت مقوله (الإحاطة العلمية) أقرب إلى الصواب الذي هو وحدة الوجود.
الفصل الثالث
وحدة الوجود عقيدة كل الصوفية
إن كنت لم تقطع بـ(لا) عنق السِّوى ... ... في قصر (إلا الله) لستَ بواصل
عن أحمد الفاروقي السرهندي.
قبل البدء بقراءة هذا الفصل يجب استيعاب الفصلين السابقين، وهضمهما وتمثلهما، ليصبح القارىء ممتلكاً ناصية العبارة الصوفية، يفهمها كما يفهمها أصحابها وواضعوها، لا كما يحلو له أن يتوهم، أو كما يوهمونه.
إن الصوفيين كلهم، من أولهم إلى آخرهم، (إلا المبتدئين)، يؤمنون بوحدة الوجود، وما مضى، ومئات النصوص التالية هي أدلة وبراهين.
يقول أبو بكر الكلاباذي في التعرف:
قال الجنيد: المعرفة وُجودُ جهلك عند قيام علمه. قيل له: زدنا. قال: هو العارف وهو المعروف.
__________
(1) المنتخبات من المكتوبات، (ص:10).(1/97)
يفسر أبو بكر الكلاباذي هذا الكلام فيقول: (معناه: أنك جاهل به من حيث أنت، وإنما عرفته من حيث هو)(1).
- قوله: (العارف هو المعروف)، واضح تماماً، فالعاوف (وهو مخلوق) هو نفس المعروف (الذي هو الله).
- وقول الكلاباذي: (أنك جاهل به من حيث أنت..)، فضمير المخاطب (أنت) يرمز به إلى (الفرق)، فهو يريد أن يقول: (إنك جاهل به) (أي: بالحق) من حيث تعتقد أنك (أنت) ولست (هو)، وإنما عرفته من حيث أنك (هو).
وبيت لابن الفارض قد يساعد على توضيح المعنى، يقول:
فقد رُفِعت تاء المخاطب بيننا ... ... وفي رفعها عن فرقة الفرق رِفعتي
- هذا هو نفس المعنى الذي أراده الجنيد بقوله: (المعرفة وجود جهلك..).
وقال أيضاً (أي: الجنيد):
حقيقة التوكل: أن يكون لله تعالى كما لم يكن، فيكون الله له كما لم يزل(2).
- قوله: أن يكون (أي: المتوكل الذي هو خلق)، كما لم يكن (أي: كأنه غير موجود كما كان سابقاً)، وهذا ما يسمونه (الفناء عن الخلق)، فيكون الله له كما لم يزل (أي: هو الموجود الوحيد ولا موجود غيره).
ويقول سهل بن عبد الله التّستري:
يا مسكين! كان ولم تكن، ويكون ولا تكون. فلما كنت اليوم صرت تقول: أنا وأنا!
كن الآن كما لم تكن، فإنه اليوم كما كان(3)...
- قول سهل هذا، هو نفس قول الجنيد، لكنه أكثر وضوحاً منه، وهو في الواقع لا يريد من جملته كلها إِلا قوله: (كان ولم تكن، وإنه اليوم كما كان)، وليس في باقي كلامه معنى يزيد على هذا.
- في هذه الأقوال وضوح قد يغيب عن بعض القراء، لكن بالرجوع إلى ما سبق من نصوص، وبملاحقة ما يأتي، يتبين المعنى تماماً؟ إنه «لا موجود إلا الله»، و«الكون هو الله».
ويقول أبو نصر الطوسي(4) في (اللمع):
__________
(1) التعرف لمذهب أهل التصوف، باب: (22)، (ص:66).
(2) التعرف، باب: (44)، (ص:101).
(3) إحياء علوم الدين: (4/222).
(4) أبو نصر الطوسي مؤلف (اللمع)، الكتاب الأم في التصوف، مات سنة: (378هـ).(1/98)
وبلغني عن أبي حمزة (الصوفي)(1) أنه دخل دار حارث المحاسبي، وكان لحارث دار حسنة وثياب نظاف، وفي داره شاة مُرغية، فصاحت الشاة مرغية، فشهق أبو حمزة شهقة، وقال: (لبيك يا سيدي)، قال: فغضب الحارث وعمد إلى سكين، فقال: إن لم تتب من هذا الذي أنت فيه أذبحك. قال: فقال له أبو حمزة: أنت إذا لم تحسن هذا الذي أنت فيه فلِمَ لا تأكل النخالة بالرماد..
يعلق الطوسي على هذا الكلام فيقول: يريد (أبو حمزة) بذلك أن إنكارك عليّ يشبه أحوال المريدين والمبتدئين(2).
- أي إن الشاة هي الله (أو جزء منه) وإن صوتها صوته (!) تعالى الله علواً كبيراً.
وتكلم أبو حمزة في جامع طرسوس فقبلوه، فبينا هو ذات يوم يتكلم، إذ صاح غراب على سطح الجامع، فزعق أبو حمزة، وقال: لبيك لبيك، فنسبوه إلى الزندقة، وقالوا: حُلولي زنديق، وبيع فرسه بالمناداة على باب الجامع: (هذا فرس الزنديق)(3).
وأبو الحسين النوري(4): سمع أذان المؤذن فقال: طعنة وشم الموت، وسمع نباح الكلاب، فقال: لبيك وسعديك(5).
- وهذا يعني أن الله هو كل ما نرى (وما لا نرى) بما في ذلك (؟!) تعالى الله.
وقد مر معنا قول الشبلي، وهو يجيب الجنيد: (أنا أرى وأنا أسمع، فهل في الدارين غيري).
وهذا قول بعيد الإشارة بعض الشيء، على أن الشبلي يكون أكثر وضوحاً عندما يقول لبعض زواره عند خروجهم من عنده: أنا معكم حيثما كنتم، أنتم في رعايتي وكلاءتي(6).
يقول الطوسي شارحاً: (أراد بقوله ذلك: إن الله تعالى معكم حيث ما كنتم وهو يرعاكم..).
ويقول الشبلي أيضاً:
__________
(1) قُتل على الزندقة، ولم أقف على تاريخ قتله، وهو من أقران الجنيد.
(2) اللمع، (ص:495)، وقد أورد القصة أيضاً عبد الفتاح أبو غدة في ترجمته للحارث المحاسبي في (رسالة المسترشدين)، (ص:23).
(3) تلبيس إبليس، (ص:169).
(4) أحمد بن محمد النوري، بغدادي من أقران الجنيد، مات سنة: (295هـ)..
(5) اللمع، (ص:492).
(6) اللمع، (ص:478).(1/99)
كنت أنا والحسين بن منصور شيئاً واحداً، إلا أنه أظهر وكتمت(1).
- وسنرى بعد قليل ما هي عقيدة الحلاج هذه التي كتمها الشبلي وأظهرها الحلاج فقُتل.
وعندما صُلب الحلاج ليُقتل، أرسل الشبلي امرأة متصوفة وأمرها أن تقول للحلاج: إن الله ائتمنك على سرٍّ من أسراره فأذعته؛ فأذاقك طعم الحديد(2).
- ونحن نعرف الآن ما هو هذا السر، ومع ذلك فسنراه من أقوال الحلاج الصريحة.
ويقول إبراهيم بن محمد النصراباذي(3):
إن كان بعد النبيين والصديقين موحدٌ فهو الحلاج(4).
- نفهم مما سبق أن الشبلي والنصراباذي يوافقان الحلاج في عقيدته كل الموافقة، فعقيدته التي سنراها هي عقيدتهما. ويقول أبو سعيد الخزاز(5): معنى الجمع: أنه أوجدهم نفسه في أنفسهم، بل أعدمهم وجود وجودهم لأنفسهم عند وجودهم له(6).
يفسر الكلاباذي هذا الكلام بقوله: معناه قوله: (كنت له سمعاً وبصراً ويداً، فبي يسمع وبي يبصر..) الخبر.
- كلام الخراز أوضح من تفسير الكلاباذي، وفي الحقيقة، إن الكلاباذي لا يريد تفسير كلام الخراز، بل يريد دعمه بالحديث الشريف، الذي أورده مشوهاً، مع العلم أن هذا المعنى الذي يعتمده الصوفية لهذا الحديث هو معنى فاسد، وسيأتي تفصيله، وقوله: (أوجدهم نفسه في أنفسهم) واضح جدًّا.
* وقال فارس(7):
__________
(1) من كتاب (الحلاج) لـ (طه عبد الباقي سرور)، وهو شيخ الصوفية في مصر، معاصر، (ص:104).
(2) الفكر الصوفي، (ص:62).
(3) أبو بكر النصراباذي من نيسابور، صحب الشبلي، وخرج في آخر حياته إلى مكة، ومات فيها عام: (367هـ).
(4) تلبيس إبليس، (ص:172).
(5) أحمد بن عيسى الخزاز (لسان التصوف) من أهل بغداد، صحب ذا النون المصري وغيره، مات سنة: (277هـ).
(6) التعرف، (ص:121).
(7) لم أقف على ترجمتهما، ويفهم من أقوال الكلاباذي أنهما معاصران له.(1/100)
سألت أبا عبد الله المعروف بشكثل(1): (ما الذي منعك عن الكلام؟)، فقال: يا هذا، الكون توهمٌ في الحقيقة، ولا تصح العبارة عما لا حقيقة له، والحق تقصُرُ عنه الأقوالُ دونه! فما وجه الكلام؟ وتركني ومر(2).
- إنه يصرح بكل وضوح أن الكون توهم لا حقيقة له باعتباره كوناً (أو خلقاً) وليس إلا الحق الذي تقصر عنه الأقوال دونه.
* ملحوظة:
كان يكفيه أن يقول: تقصر عنه الأقوال. أو: تقصر الأقوال دونه، ولكنه استعمل الكلمتين (عنه) و(دونه) للتعمية بالتعقيد.
ويقول أبو يزيد البسطامي:
غبتُ في الجبروت، وخضت بحار الملكوت، وحُجُبَ اللاهوت، حتى وصلتُ إلى العرش، فإذا هو خالٍ، فألقيت نفسي عليه، وقلت: سيدي أين أطلبك؟ فكشف، فرأيت أني أنا، فأنا أنا، أوّلي فيما أطلب، وأنا لا غيري فيما أسير(3).
وقال عندما تجلى له هذا النور (أي: نور وحدة الوجود):
(سبحاني ما أعظم شأني)(4)!!
ويقول الحلاج:
وأي الأرض تخلو منك ... ... حتى تعالوْا يطلبونك في السماء
تراهم ينظرون إِليك جهراً ... ... وهم لا يبصرون من العماء(5)
- يريد بقوله: (ينظرون إليك جهراً)، أي: أن كل ما يرونه هو أنت.
ويقول:
يا عينَ عينِ وجودي يا مدى هممي ... ... يا منطقي وعباراتي وإيمائي
يا كلَّ كلي ويا سمعي ويا بصري ... ... يا جملتي وتباعيضي وأجزائي(6)
ويقول:
سبحان من أظهر ناسوته ... ... سرّ سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهراً ... ... في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقُه ... ... كلحظة الحاجب بالحاجب(7)
ويقول:
رأيتُ ربي بعين قلب ... ... فقلتُ من أنت قال أنت
__________
(1) لم أقف على ترجمتهما، ويفهم من أقوال الكلاباذي أنهما معاصران له.
(2) التعرف، (ص:148).
(3) شطحات الصوفية، (ص:164).
(4) إيقاظ الهمم، (ص:156).
(5) أخبار الحلاج، (ص:125)، وفي ديوانه.
(6) أخبار الحلاج، (ص:115)، وفي الديوان أيضاً.
(7) الديوان وأخبار الحلاج، (ص:127).(1/101)
فليس للأين منك أينٌ ... ... وليس أينٌ بحيث أنت
في محواسمي ورسم جسمي ... ... سألتُ عني فقلتُ: أنت
أشار سري إليك حتى ... ... فنيت عني ودمتَ أنت(1)
ويقول:
عقد الخلائقُ في الِإله عقائداً ... ... وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه(2)
ويقول:
يا سر سر يدق حتى ... ... ... يحل عن وصف كل حي
وظاهراً باطناً تبدّى ... ... ... من كل شيء لكل شيء
إن اعتذاري إليك جهلٌ ... ... وعظم شك وفرط عيْ
يا جملة الكل لست غيري ... ... ... فما اعتذاري إذاً إليْ(3)
ويقول: فالحقيقة، والحقيقهّ خليقة، دع الخليقة لتكون أنت هو، أو هو أنت من حيث الحقيقة(4).
ويقول: وما كان في أهل السماء موحد مثل إبليس، حيث إبليس تغيّر عليه العين، وهجر الألحاظ في السير، وعبد المعبود على التجريد(5).
- وكتب كتاباً هذه نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، المتجلي عن كل شيء لمن يشاء. السلام عليك يا ولدي، ستر الله عنك ظاهر الشريعة، وكشف لك حقيقة الكفر، فإن ظاهر الشريعة كفر خفي، وحقيقة الكفر معرفة جليلة.
أما بعد، حمداً لله الذي يتجلى على رأس إبرة لمن يشاء، ويستتر في السماوات والأرضين عمن يشاء، حتى يشهد هذا بأن لا هو، ويشهد ذلك بأن لا غيره، فلا الشاهد على نفيه مردود، ولا الشاهد بإثباته محمود، والمقصود من هذا الكتاب أني أوصيك أن لا تغتر بالله ولا تيئس منه. وإياك والتوحيد، والسلام(6).
__________
(1) الديوان، (ص:16)، والأبيات هنا غير متتابعة، وأوائلها موجود في (طاسين النقطة).
(2) الديوان، (ص:76)، وينسب أيضاً لابن عربي، وهو الأصح.
(3) أخبار الحلاج، (ص:78).
(4) طاسين الصفاء.
(5) طاسين الأزل والالتباس.
(6) أخبار الحلاج، (ص:50).(1/102)
ويقول:..إن بعض الناس يشهدون عليّ بالكفر، وبعضهم يشهدون لي بالولاية، والذين يشهدون علي بالكفر أحب إلي وإلى الله من الذين يقرون لي بالولاية.. لأن الذين يشهدون لي بالولاية من حسن ظنهم بي، والذين يشهدون علي بالكفر تعصباً لدينهم، ومن تعصب لدينه أحبُّ إلي ممن أحسن الظن بأحد(1)...
وقال: ...يا إِله الآلهة، ويا رب الأرباب، ويا من لا تأخذه سنة ولا نوم، رُدّ إلي نفسي لئلا يفتتن بي عبادك، يا من هو أنا وأنا هو، لا فرق بين أنّيتي وهويتك إلا الحدث والقدم(2)...
- هذه عقيدة الحلاج، عقيدة وحدة الوجود (الكون هو الله)، أو هو جزء من الله (!) سبحانك اللهم عما يصفون.
وسنرى أن هذا القسم المتعين (أي: المتشكل في أعيان) من اللاهوت، يسمى بلسان العارفين (الملكوت)، ويسميه المحجوبون أمثالنا (الملك)، أما القسم اللطيف من اللاهوت، الذي لم يتعين، فهو (الجبروت). وناقل الكفر ليس بكافر.
بمعرفتنا عقيدة الحلاج نعرف عقائد كثيرين من كبار الطائفة الذين يصرحون بولايته وصدِّيقيته. ومرت معنا أمثلة منها.
وقد درج كثير من كتابهم على ألا يذكروا اسمه صراحة، لئلا يفضحوا عقيدتهم، وإنما يقولون: (أحد الكبراء) أو (أحد كبار العارفين) أو ما شابه ذلك، وكمثل نورده: الكلاباذي في (التعرف) الذي يستعمل عبارة (بعض الكبار) بدلاً من اسمه الصريح، وقبل الانتقال إلى غير الحلاج، نورد له أمثله، تجري عباراتها على ألسنتهم وفي كتبهم.
يقول:
كن لي كما كنت لي ... ... في حين لم أكنِ(3)
إنه يسأل الله مقام (الفناء) أو (الجمع).
ويقول:
وأقبل الوجد يُفني الكلَّ من صفتي ... ... وأقبل الحق يُخفيني وأُبديه(4)
من هذا البيت نفهم معنى (الوجد) ومعنى (فناء الصفات).
__________
(1) أخبار الحلاج، (ص:26).
(2) أخبار الحلاج، (ص:30).
(3) ديوان الحلاج، (ص:90).
(4) ديواد الحلاح، (ص:94).(1/103)
ويقول: صفات البشرية لسان الحجة على ثبوت صفات الصمد، وصفات الصمدية لسان الِإشارة إلى فناء صفات البشرية، وهما طريقان إلى معرفة الأصل الذي هو قوام التوحيد(1).
ويقول: نزول الجمع ورطة وغبطة، وحلول الفرق فكاك وهلاك(2).
- مصطلحاً (الجمع والفرق) معروفان الآن، وأترك للقارىء أن يفسر لِمَ كان الجمع ورطة والفرق فكاكها؟ ولمَ كان الجمع غبطة والفرق هلاكاً؟
وللتوضيح: الجمع كفر بالنسبة للشريعة، والفرق كفر بالنسبة لعقيدة الصوفية.
* فقرة معترضة:
مع أني أتدرج بإيراد النصوص حسب التسلسل التاريخي، بدون دقة، مع ذلك أرى من المفيد إيراد نص كان مكانه بعد صفحات، أورده لأن فيه توضيحاً لبعض المصطلحات الصوفية الأساسية.
يقول شيخ مشايخ الِإسلام، مظهر الفيض القدوسي، الأستاذ السيد مصطفى العروسي:
...والعلم بكيفيته (أي: الفناء، أو الجمع، أوما يرادفه من ألفاظ) مختص بالله تعالى لا يمكن أن يطلع عليه إلا من يشاء من عباده الكمّل الذين حصل لهم هذا المشهد الشريف والتجلي الذاتي المفني للأعيان بالأصالة، كما قال تعالى: ((فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا...)) [الأعراف:143]، فإذا علمتَ ما قدمتُه لك علمتَ معنى الاتحاد الذي اشتهر، وعلمت اتحاد كل اسم من الأسماء مع مظهره وصورته، أو اسم مع اسم آخر، أو مظهر مع مظهر آخر؛ وشهودُك اتحادَ قطرات الأمطار بعد تعددها، واتحادَ الأنوار مع تكثرها، كالنور الحاصل من الشمس والكواكب على وجه الأرض، أو من السرج المتعددة في بيت واحد، وتبدُّل صور عالم الكون والفساد على هيولى واحدة، دليل واضح على حقيقة ما قلنا، هذا مع أن الجسم كثيف، فما ظنك بالخبير اللطيف الظاهر في كل المراتب، الخسيس منها والشريف.
__________
(2) أخبار الحلاج، (ص:44).(1/104)
والحاصلُ أن الاتحاد والحلول بين الشيئين المتغايرين من كل الوجوه شرك عند أهل الله؛ وذلك لفناء الأغيار عندهم بسطوع نور الواحد القهار، بل المراد أن الحق تعالى باعتبار أنه مصدر الكائنات جميعها، علويها وسفليها، مركبات أو بسائط أو مجردات، جواهر وأعراضاً، كليات أم جزئيات، واعتبار انفراده بالوجود الذاتي، وأن جميع الموجودات مستمدة من وجوده، فهو هي وهي هو، على معنى: لا هو إلا هو، كان الله ولا شيء معه ويبقى الله ولا شيء معه، وإنما الكائنات تعينات له مخصوصة في أزمنة مخصوصة، محكوم عليها بأحكام مخصوصة، ثم إليه يرجع الأمر كما بدا، لِحِكَم عليَّة، وأسرارٍ إِلهية، عَلِمها مَن علمها وجهلها من جهلها، بتدبيره تعالى وتقديره، لا يُسأل عما يفعل، فافهم ولا تك أسير النقل والتقليد(1)...
- ورد في هذا النص عدة عبارات، نراها مبثوثة في كتبهم، وهم يستعملونها دائماً مع غيرها طبعاً وقد شرحت هذه العبارات بوضوح، لذلك كان من المفيد جدّاً إعادة قراءة هذا النص مراراً حتى تنطبع عباراته في الذهن، مما يجعل النصوص الصوفية واضحة المدلول.
وأهمها العبارات التالية:
- التجلي الذاتي المفني للأعيان - الظاهر في كل المراتب - فناء الأغيار - سطوع نور الواحد القهار - انفراده بالوجود الذاتي - فهو هي وهي هو - لا هو إلا هو - كان الله ولا شيء معه ويبقى الله ولا شيء معه - الكائنات تعينات - إليه يرجع الأمر كما بدأ.
وهي كلها تعني (وحدة الوجود) أو تشير إليها وإلى سطوعها.
لكن يجب أن ننتبه بشكل خاص إلى قوله: (.. ولا تك أسير النقل والتقليد)! ما معناها؟
- وقال أبو الحسين النوري:
كان الله ولا أين، والمخلوقات في عدم، فكان حيث هو، وهو الآن حيث كان، إذ لا أين ولا مكان(2)...
وقال أيضاً:
__________
(1) حاشية العروسي: (2/20).
(2) إيقاظ الهمم، (ص:46).(1/105)
عزّ ظاهر، وملك قاهر، ومخلوقات ظاهرة به وصادرة عنه، لا هي متصلة به ولا منفصلة عنه(1).
إنه في قوله: (لا هي متَّصلة به) ينفي الاتصال؛ لأن كلمة (الاتصال وما اشتق منها) تعني وجود اثنين متصلين ببعضهما، لذلك فهو ينفي الاتصال نفياً لتوهم الاثنينية، ثم ينفي الانفصال لِإثبات الوحدة.
- وقال أبو سليمان الداراني:
...إنك لا تكون مخلصاً في عملك حتى لا ترى في الدارين أحداً غير ربك(2).
- ويقول أبو طالب المكي(3) (مفسراً):
...يعني أنه رجع إلى العبد في أوله، أي: يكون كما كان قبل أن يكون لقوله: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)) [الأعراف:172]، إذ كان ذلك قبل أن يكون، وهل أجابت إلا الأرواح الطاهرة المقدسة؟ بإقامة القدرة النافذة والمشيئة السابقة؟ فيكون العبد كما كان، وأيًّا كان، ولماذا كان، وكيف كان. وهذا غايته تحقيق توحيد الموحِّد للواحد، وهو أن يذهب كما لو لم يكن، ويتلاشى وتنمحي أوصافه وتبقى أوصاف الحق كما لم يزل، على معنى قوله: صرت سمعه وبصره ويده ورجله وقلبه يسمع به ويبصربه ويأخذ به ويعقل به(4).
وقال أيضاً:
ظاهر التوحيد هو توحيد الله فى كل شيء، وتوحيده بكل شيء، ومشاهدة إيجاده قبل كل شيء، ولا نهاية لعلم التوحيد(5)...
- بشيء من التمعن ينكشف المعنى واضحاً في النصين.
ويقول أبو حيان التوحيدي في رسالة (كط):
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:46).
(2) علم القلوب، (ص:157).
(3) محمد بن علي بن عطية الحارثي المكي، من كبار القوم، مات سنة: (358هـ).
(4) علم القلوب (ص:95).
(5) علم القلوب، (ص:104).(1/106)
...بل أنت الموجود في كل شيء، لا كما يوجد ما دام بك وافتقر إليك، ولكن كما توجد أنت وليس واجدُك سواك؛ واجدٌ لك وواجدٌ بك وواجد منك؛ فأما واجد بك فلأنه وجد عينه بك، وأما واجد لك فلأنه وجد وجده من أجلك، وأما واجد منك فلأنه وَجَدَ ما به وَجَدَ ما وجَدَ مِن جهتك، فأنت المحيط وأنت المشتمِل، إلا أن إحاطتك بالقدرة، واشتمالك بالمعونة، وكل ما لخلقك بالمجاز؛ فَلَكَ الحقيقة، وكل ما سواك بالأثر؛ فَلَكَ بالعين، والإشارة التي هي إليك هي منك، والذاكر الذي هُو لك هُو بك، والوجد الذي هو منك هو بك، والوجد الذي هو بك هو منك، ولم تختلف هذه الحروف إلا لحاجة الخلق إليها في التكور، وإلا فالمعنى واحد مؤتلف متفق، لا يرنّق عليه لبس، ولا يمربه جن ولا إنس(1)...
ويقول أيضاً، رسالة (يه):
أشرقت الأكوان بالأشباح، وشرفت الأعيان بالأرواح، وتجلت أسرار الحق فيها بين الافتراح والارتياح، وتناجت النفوس على بُعد الديار بما تتخافت فيه الأفواه على قرب المزار، ورُدَّت على الناظرين خوائن الأبصار، والتقت في الغيب سوانح الِإقرار والِإذكار...فعندها لَحَظَ اللاحظون بعين الصدق، ولفظ اللافظون بلسان الحق شنآن الحال، واضمحلال المقال، والتواء المنال، فناجوا في السرائر، وباحوا بالضمائر، ورفعوا رقوم البواطن والظواهر، وافترقوا عن الألفة، وتكثروا بالوحدة، وخيموا بين سواحل التجني وبلاغ التمني(2)... ومنها:
__________
(1) الِإشارات الِإلهية: (1/224).
(2) الِإشارات الِإلهية: (1/139).(1/107)
...فالأسماء مطروحة بالتوقيف، والمعاني مأخوذة بالتعريف، الأسماء مختلفة بكَدَر الخلق، والمعاني مؤتلفة بصفو الحق الأسماء مجموعة بلسان التفرقة، والمعاني مسموعة بلسان الجمع. الأسماء متنافية باللغات، والمعاني متصافية بحكم الصفات. أما تعلم أن الأنس بالمعاني على إيثار الحق، مقدم على الاستيحاش في الأسماء لتنافيها على إيثار الخلق. الأسماء محدودهً بالأفهام، والمعاني معدودة بالإلهام. فإياك أن تلحظ المعاني بعين الاسم فتعطب، وإياك أن تعطي الاسم ذات المعنى فتتعب، وإياك أن تعطي المعنى رسم الاسم فتكذب، وإياك أن تفرق بينهما فتتهم، وإياك أن تجمع بينهما فتُوهّم، ها هنا زلقت أقدام المتكلمين، وانتكست أعلام المتحذلقين؛ لأنهم (سعوا في آياته معاجزين)، ونظروا في الآية مستهزئين، وركنوا إلى عقولهم مفتخرين متعززين، فنكصوا على أعقابهم خائبين خاسرين(1).
ويقول: رسالة (لد):
...وتحصّن من نفسك في نفسك، وتبرأ من جنسك في بني جنسك، واشهد الغيب وغب عن الشهادة، واحفظها عند بروز الحق الذي إذا بدا لك أباد، وإذا أحب أعاد وأفاد؛ وإياك وملابسة الكون فإنها تؤديك إلى الفرقة والبين، وعليك بالتجريد والتفريد، وعليك بهجران كل شيطان مريد(2).
ويقول: رسالة (لح هـ):
تباركت خطراتي في تعالائي ... ... فلا إله إذا فكرت إلائي(3)
- نلاحظ أن أسلوب الوحيدي فيه جزالة ألفاظ وغموض يشعر أن هناك سرّاً تحاك حوله هذه الألفاظ، والهلع من ظهور السر متماثل بين السطور، وهو يستعمل عبارات قليلاً ما يستعملها غيره، ولكنها مستعملة على كل حال. وبشيء من التأني في القراءة والتكرار تتوضح الأسرار، وكلمة (تعالائي) من فعل الثناء (تعالى).
ويقول القشيري:
__________
(1) الإشارات الإلهية: (1/140).
(2) الإشارات الإلهية: (1/259).
(3) الإشارات الإلهية: (1/388).(1/108)
...فإذا فني عن توهم الآثارمن الأغيار، بقي بصفات الحق، ومن استولى عليه سلطان الحقيقة حتى لم يشهد من الأغيار ولا أثراً ولا رسماً ولا طللاً، يقال: إنه فني عن الخلق وبقي بالحق(1).
ويقول:..ومن محاه الحق سبحانه عن مشاهدته (أي: مشاهدته لنفسه وأفعاله)(2)، أثبته بحق حقه، ومن محاه الحق عن إثباته به، ردّه إلى شهود الأغيار وأثبته في أودية التفرقة(3)..
* فقرة معترضة:
مر معنا ويمر هنا وفي كتبهم مصطلح (المشاهدة) والفعل منه (شاهد، يشاهد)، فماذا يعنون به؟
يقول القشيري: (...وتوهم قوم أن المشاهدة تشير إلى طرف من التفرقة؛ لأن باب المفاعلة في العربية بين اثنين، وهذا وهم من صاحبه، فإن في ظهور الحق سبحانه ثبور الخلق، وباب المفاعلة جملتُها لا تقضي مشاركة الاثنين، نحو: سافر، وطارق النعل، وأمثاله(4)...
- يفهمنا القشيري أن المشاهدة لا تكون بأن تشاهد الله سبحانه خارجاً عنك، فتكونا اثنين، لا، بل تشاهده في ذاتك، تشاهده أنك هو، إذن، منذ الآن، يجب أن نفهم مصطلح (المشاهدة ومشتقاتها) في كلام القوم حسب هذا المعنى. (مشاهدة الله تعني الاستشعار بالألوهية أو ذوق معنى الألوهية).
ويقول أبو حامد الغزالي (حجة الإسلام، الِإمام):
...فمن عرف الحق رآه في كل شيء، إذ كل شيء فهو منه وإليه وبه وله، فهو الكل على التحقيق، ومن لا يراه في كل ما يراه فكأنه عرفه، ومن عرفه عرف أن كل شيء ما خلا الله باطل، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، لا أنه سيبطل في ثاني الحال، بل هو الآن باطل(5)...
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:37).
(2) الجملة بين القوسين من شرح الرسالة في هامش حاشية العروسي: (2/76).
(3) الرسالة القشيرية، (ص:39).
(4) الرسالة القشيرية، (ص:40).
(5) إحياء علوم الدين: (1/254).(1/109)
- يبين لنا الغزالي هنا كيف يفهمون الجملة (كل شيء ما خلا الله باطل)، والآية ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) [القصص:88]، ومنذ الآن يجب أن نعرف كيف يفهمونها، ولا نحاول التأويل واللف والدوران مثلهم.
ويقول: ...واعلم أن الطواف الشريف هو طواف القلب بحضرة الربوبية، وأن البيت مثال ظاهر في عالم الملك لتلك الحضرة التي لا تشاهد بالبصر، وهي عالم الملكوت(1)...
- يبين الغزالي هنا أن حضرة الربوبية هي عالم الملكوت! فما هو عالم الملكوت؟
يشرحه ابن عجيبة بقوله: (مراتب الوجود هي العوالم الثلاثة: الملك والملكوت والجبروت، وذلك أن الوجود له ثلاثة اعتبارات: وجود أصلي أزلي، وهو الذي لم يدخل عالم التكوين، ويسمى عالم الأمر، وعالم الغيب، وهو المسمى بعالم الجبروت. ووجود فرعي، وهو النور المتدفق من بحر الجبروت، وهو كل ما دخل عالم التكوين لطيفاً كان أو كثيفاً، ويسمى عالم الشهادة، وعالم الخلق، وهو المسمى بعالم الملكوت(2)..
- إذن فحضرة الربويية يعني بها (الكون)، وسنرى هذا في نص آت، وقول ابن عجيبة: (وهو النور المتدفق من بحر الجبروت)، هو نفس نظرية (الفيض) اليونانية، والعريقة في تاريخ الوثنيات.
ويقول الغزالي أيضاً:
...نعلم أن للقلب ميلاً إلى صفات بهيمية.. وإلى صفات سبعية.. وإلى صفات شيطانية.. وإلى صفات ربوبية.. فهو لما فيه من الأمر الرباني يحب الربوبية بالطبع؟! ومعنى الربوبية التوحد بالكمال، والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال؛ فصار الكمال من صفات الإلهية، فصار محبوباً بالطبع للإنسان. والكمال بالتفرد بالوجود، فإن المشاركة في الوجود نقص لا محالة؛ فكمال الشمس في أنها موجودة وحدها، فلو كان معها شمس أخرى لكان ذلك نقصاً في حقها إذ لم تكن منفردة بكمال معنى الشمسية.
__________
(1) إحياء علوم الدين: (1/242).
(2) الفتوحات الإلهية حاشية إيقاظ الهمم، (ص:109).(1/110)
والمنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه، فإن ما سواه أثر من آثار قدرته لا قوام له بذاته، بل هو قائم به...وكما أن إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصاناً في الشمس بل هو من جملة كمالها، وإنما نقصان الشمس بوجود شمس أخرى.. فكذلك وجود كل ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة.. فإذاً معنى الربوبية التفرد بالوجود، وهو الكمال...ولذلك قال بعض مشايخ الصوفية: (ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله: ((أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)) [النازعات:24]، ولكنه ليس يجد له مجالاً، وهو كما قال(1)...).
- هذا النص مشحون، لكن أهم ما فيه هو:
1- استعمال الغزالي أساليب علم الكلام لإثبات أمر غيبي تتعذر معرفته إلا عن طريق الوحي.
2- قوله: (المنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه) يعني: أن الله جلت قدرته، لم يخلق شيئاً من العدم، إذ لو خلق شيئاً من العدم لكان هذا الشيء غير الله، ولكان مع الله موجود آخر غيره، لكن الحجة يقرر أن ليس مع الله موجود سواه، وهذه هي: (وحدة الوجود).
3- إعطاؤه لكلمة «الربوبية» معنى لم يرد عن خير البشر، ولا عن خير القرون، ولا عن تابيعهم.
4- إيراده القول الذي يعزوه إلى بعض مشايخ الصوفية والذي يفيد:
أ- إن فرعون رب في الباطن، وقد صرح بهذه الربوبية. لننتبه إلى كلمة (صرّح).
ب- هذه الربوبية هي في باطن كل إنسان، أي: أن كل إنسان هو رب في الباطن، لكنه لا يجد مجالاً لاستشعار هذه الربوبية أو للتصريح بها مثل فرعون.
5- تقرير الغزالي صحة هذا القول لقوله: (وهو كما قال).
ويقول الغزالي أيضاً:
__________
(1) إحياء علوم الدين: (3/243).(1/111)
...ومن ارتفع الحجاب بينه وبين الله تجلى صورة الملك والملكوت في قلبه، فيرى جنةً عرض بعضها السماوات والأرض، أما جملتها فأكثر سعة من السماوات والأرض؛ لأن السماوات والأرض عبارة عن عالم الملك والشهادة.. وأما عالم الملكوت، وهي الأسرار الغائبة عن مشاهدة الأبصار، المخصوصة بإدراك البصائر، فلا نهاية له. نعم، الذي يلوح للقلب منه مقدار متناهٍ.. وجملة عالم الملك والملكوت إذا أخذ دفعة واحدة تسمى (الحضرة الربوبية) ؛ لأن الحضرة الربوبية محيطة بكل الموجودات، إذ ليس في الوجود شيء سوى الله تعالى وأفعاله؟ ومملكتُه وعبيدُه من أفعاله(1)...
- نحن الآن نعرف مما سبق ومما سيأتي من نصوص، أنه وأنهم يعنون بقوله وقولهم: (أفعال الله) أي: حركاته (سبحانه عما يصفون).
ويقول: ...والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق، وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة، ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار. والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين، وتسمِّيه الصوفية (الفناء في التوحيد)...والثالث: موحد، بمعنى أنه لم يشاهد إلا فاعلًا واحداً إذا انكشف له الحق كما هو عليه، ولا يرى فاعلًا بالحقيقة إلا واحداً وقد انكشفت له الحقيقة كما هي عليه، لا أنه كلَّف قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة، فإن تلك رتبة العوام والمتكلمين.. والرابع: موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث إنه كثير، بل من حيث إنه واحد. وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد(2)...
__________
(1) إحياء علوم الدين: (3/13).
(2) إحياء علوم الدين: (4/212).(1/112)
ويقول: ...فإن قلت: كيف يتصوّر أن لا يشاهد إلا واحداً، وهو يشاهد السماء والأرض، وسائر الأجسام المحسوسة، وهي كثيرة؟ فكيف يكون الكثير واحداً؟ فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات.. وهو أن الشيء قد يكون كثيراً بنوع مشاهدةٍ واعتبار، ويكون واحداً بنوع آخر من المشاهدة والاعتبار، وهذا كما أن الِإنسان كثير إن التفتّ إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه، وهو باعتبارٍ آخر ومشاهدةٍ أخرى واحدٌ، إذ نقول: إنه إنسان واحد.. والفرق بينهما أنه في حالة الاستغراق والاستهتار به مستغرقٌ بواحد ليس فيه تفريق، وكأنه في عين (الجمع) ؛ والملتفتُ إلى الكثرة في (تفرقة) فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة، فهو باعتبار واحدٍ من الاعتبارات واحدٌ، وباعتبارات أخر سواه كثيرٌ...وهذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إلا الواحد الحق، تارة تدوم، وتارة تطرأ كالبرق الخاطف، وهو الأكثر، والدوام نادر عزيز(1)...
* ملحوظة: أرجو الانتباه إلى كلمتى: (الجمع والتفرقة) اللتين يشرح معناهما بوضوح.
ويقول: ...فكذلك عقولنا ضعيفة، وجمال الحضوة الِإلهية في نهاية الإشراق والاستنارة، وفي غاية الاستغراق والشمول، حتى لم يشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السماوات والأرض، فصار ظهوره سبب خفائه، فسبحان من احتجب بإشراق نوره، واختفى عن البصائر والأبصار بظهوره، ولا يُتعجب من اختفاء ذلك بسبب الظهور، فإن الأشياء تُستبان بأضدادها، وما عمّ وجوده حتى إنه لا ضدّ له، عسر إدراكه(2)...
ويقول بعد أن يذكر- إشارةً ورمزاً- صفة الذي لا يرى إلا الله: ...فهذا الذي يقال فيه: (إنه فني في التوحيد وفني عن نفسه)، وإليه الِإشارة بقول من قال: (كنا بنا ففنينا عنا فبقينا بلا نحن...ولذلك قيل:
لقد ظهرتَ فلا تخفى على أَحدٍ ... ... إلا على أكمهٍ لا يعرف القمرا
__________
(1) الِإحياء: (4/213).
(2) الإِحياء: (4/276).(1/113)
لكن بطنتَ بما أظهرتَ محتجباً ... ... فكيف يُعرف من بالعرف قد سُترا(1)
ويقول: (حقيقة الحقائق):..من هنا ترقى العارفون من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة، واستكملوا معراجهم، فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله تعالى، وأن ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) [القصص:88] لا أنه يصير هالكاً في وقت من الأوقات، بل هو هالك أزلاً وأبداً، لا يُتصور إلا كذلك.. فإذن لا موجود إلا الله تعالى ووجهه، فإذن كل شيء هالك إلا وجهه أزلاً وأبداً...ولم يفهموا من معنى قوله: (الله أكبر) أنه أكبر من غيره، حاشا لله، إذ ليس في الوجود معه غيره حتى يكون أكبر منه، بل ليس لغيره رتبة المعية، بل رتبة التبعية(2)...ويقول: (إشارة) العارفون بعد العروج إلى سماء الحقيقة، اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق(3). - نلاحظ أن أسلوب الغزالي فيه وضوح وصراحة، ونرى أنه عندما يريد التعمية، لا تساعده العبارة الإشارية، لذلك فهو يضيف جملاً موهمة، فمثلاً يقول: [إذ ليس في الوجود معه غيره...]، ثم يقول بعدها مباشرة: [بل ليس لغيره رتبة المعية...]!
فكيف ينفي وجود الغير في الجملة الأولى ثم يثبته في الثانية؟! في الواقع الغزالي غير متناقض مع نفسه وعقيدته في هذا النص أو غيره، فهذا أسلوبه في العبارة الملغزة الذي يحاول به مثل غيره من الصوفية التعمية على من هم غير أهله، وقد نجح في هذا الأسلوب.
__________
(1) الإحياء: (4/276، 277).
(2) مشكاة الأنوار، (ص:55).
(3) مشكاة الأنوار، (ص:57).(1/114)
والنصان الأخيران يوضحان معنى قولهم (أو قول بعضهم) أحياناً: (وحدة الشهود)، حيث نفهم منهما أن عبارة (وحدة الشهود) تعني بكل بساطة (مشاهدة وحدة الوجود). ويقول: ...لكن ينبغي أن يُعلم أن الحضرة الإلهية محيطة بكل ما في الوجود، إذ ليس في الوجود إلا الله وأفعاله، فالكل من الحضرة الإلهية، كما أن جميع أرباب الولايات في المعسكر -حتى الحراس- هم من المعسكر...فاعلم أن كل ما في الوجود داخل في الحضرة الإلهية(1)...(أفعال الله تعني حركاته سبحانه وتعالى).
ويقول في تائيته التي مطلعها:
بنور تجلي وجه قدسك دهشتي ... ... وفيك على أن لاخفىً بك حيرتي
منها:
وهل أنا إلا أنت ذاتاً ووحدةً ... ... وهل أنت إلا نفس عين هويتي(2)
ومنها:
فكيف بشكري كل عضو وقوة ... ... جعلت لنفعي عند تأليف بنيتي
وشكر التي قد حُجبت بي وإنها ... ... لأظهرُ لي من نور شمس تبدت(3)
ومنها:
ملأت جهاتي الست منك فأنت لي ... ... محيط وأيضاً أنت مركز نقطتي
فصرتُ إذا وجهت وجهي مصلياً ... ... فرايض أوقاتي فنفسي كعبتي
فصار صيامي لي ونسكي وطاعتي ... ... ونحري وتعريفي وحجي وعمرتي
وحولي طوافي واجبٌ وخلاله ... ... استلامي لركني من مناسك حجتي
وذكري وتسبيحي وحمدي وقربتي ... ... لنفسي وتقديسي وصفو سريرتي
ولو همَّ مني خاطر بالتفاتة ... ... لما كان لي إلا إليّ تلفُّتي
ولو لم أُؤدِّ الفرض مني إليَّ لم ... ... يصح بوجه لي ولم تَبرَ ذمتي(4)
__________
(1) إلجام العوام عن علم الكلام، (ص:32).
(2) النفحات الغزالية، (ص:173)، معارج القدس، (ص:195).
(3) النفحات الغزاليه، (ص:183)، ومعارج القدس، (ص:199).
(4) معارج القدس، (ص:202، 203).(1/115)
ويقول: ...فإن الفاعل بالحقيقة واحد، فهو المخوف والمرجو وعليه التوكل والاعتماد، ولم نقدر أن نذكر من مجاز التوحيد إلا قطرة من بحر المقام الثالث من مقامات التوحيد...وكل ذلك ينطوي تحت قول: (لا إله إلا الله)، وما أخف مؤنته على اللسان، وما أسهل اعتقاد مفهوم لفظه على القلب، وما أعز حقيقته ولبّه عند العلماء الراسخين في العلم، فكيف عند غيرهم.. فإن قلت: فكيف الجمع بين التوحيد والشرع؟ ومعنى التوحيد أن لا فاعل إلا الله تعالى، ومعنى الشرع إثبات الأفعال للعباد، فإن كان العبد فاعلاً فكيف يكون الله تعالى فاعلًا؟ وإن كان الله تعالى فاعلًا فكيف يكون العبد فاعلًا؟...ولأجل توافق ذلك وتطابقه نسب الله تعالى الأفعال في القرآن مرة إلى الملائكة ومرة إلى العباد، ونسبها بعينها مرة أخرى إلى نفسه! فقال تعالى في الموت: ((قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ)) [السجدة:11]، ثم قال عز وجل: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)) [الزمر:42]، وقال تعالى: ((أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ)) [الواقعة:63]، أضاف إلينا، ثم قال تعالى: ((أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا..)) [عبس:25-28]، وقال عز وجل: ((فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)) [مريم:17] وكان النافخُ جبريل عليه السلام، وكما قال تعالى: ((قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ)) [التوبة:14] فأضاف القتل إليهم والتعذيب إلى نفسه! والتعذيبُ هو عين القتل! بل صرح وقال تعالى: ((فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ)) [الأنفال:17]، وقال تعالى: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) [الأنفال:17] وهو جمع بين النفي والِإثبات ظاهراً، ولكن معناه: وما رميت، بالمعنى الذي يكون الرب به رامياً، إذ رميت، بالمعنى الذي(1/116)
يكون العبد به رامياً؛ إذ هما معنيان مختلفان. وقال الله تعالى: ((الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)) [العلق:4-5]، ثم قال: ((الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ)) [الرحمن:2] وقال: ((عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)) [الرحمن:1-4] وقال: ((إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)) [القيامة:19] وقال: ((أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ)) [الواقعة:58-59](1)...اهـ.
- أمثال هذا النص تتكرر كثيراً في كتب الغزالي، وخاصة في كتاب (إحياء علوم الدين).
ولقد رأينا في النصوص السابقة تصريح الغزالي بوحدة الوجود التي يسميها (التوحيد)، وهذا النص واضح، لكن بالنسبة لمن قرأ نصوص الغزالي السابقة واستوعبها معنى وألفاظاً وجملًا.
أما من يقرأ هذا النص لأول مرة، وهو خالي الفكر، فقد لا يستطيع ملحوظة فكرة (وحدة الوجود) الماثلة في كل جملة من جمله؛ لذلك كان من اللازم لمن يريد فهمه أن يرجع إلى نصوص الغزالي السابقة، خاصة، وإلى نصوص الصوفية عامة، ثم يعود إلى هذا النص ليرى (وحدة الوجود) واضحة كل الوضوح في ثنايا الكلام.
ولهذا النص فائدة كبيرة، لمعرفة كيفية فهمهم للنصوص القرآنية ولنصوص الحديث، وكيف يضعونها في سياق موهم، بحيث تظهر لأهل الأذواق وكأنها تحمل المعاني التي يريدونها! وكيف يلوون أعناقها ببراعة وانسياب تظهر وكأنها تتفق مع كشفهم وعقيدتهم؟!
إنه يقدم ما أورد من آيات في سياق الكلام عن (التوحيد) الذي يعني به توحيد الخالق والمخلوق في وحدة واحدة! يقدم هذه الآيات ليجعلها دليلاً على نظريته!
وهرباً من الِإطالة، نقدم توضيحاً لثلاث آيات، منها فقط:
__________
(1) الإحياء: (4/221).(1/117)
1- الآية ((فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)) [مريم:17] يريد الغزالي أن يقول: (إن الله سبحانه أرسل (روحه) ؛ وروحه كما يتبادر إلى أذهاننا، هو جزء منه، وهذا الروح هو ملك كما تخبرنا آية ثانية، إذن فالملك هو روح الله، وهو بالتالي جزء منه! أو هو هو حسب تعابيرهم).
2- الآية: ((فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)) [القيامة:18] التي يتبعها بتفسيره حيث يقول: «معناه: إذا قرأه عليك جبريل..». فالله سبحانه يقول: ((قَرَأْنَاهُ)) بصيغة المتكلمين، بينما القارىء هو جبريل، إذن فجبريل هو الله، أو هو جزء منه!!. سبحانه وتعالى علوًا كبيراً عما يصفون.
3- الآية: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) التي يفسرها بقوله: (...وما رميت، بالمعنى الذي يكون الرب به رامياً، إذ رميت، بالمعنى الذي يكون العبد به رامياً...)، وهو كلام واضح جدّاً! إنه يقول: [معناه: وما رميت (يا محمد الرب) إذ رميت (يا محمد العبد) ولكن الله رمى]، إذن محمد هو الله، (تعالى الله علوّاً كبيراً).
ولونظرنا إلى بقية الآيات التي أوردها في هذا النص- وفي غيره في كتبه- لرأيناه يريد بها نفس المعنى الذي بيّنّاه في هذه الآيات الثلاث.
يورد الغزالي بعد كلامه الذي سجلناه حديثين، يوجههما لأداء نفس المعنى الذي يحاول تقريره.(1/118)
يقول العراقي عن أولهما: (...في سنده جهالة، وقال ابن عدي: إنه منكر...). ويقول عن ثانيهما: (لم أجد له أصلاً). (ولم أوردهما تجنباً للِإطالة). ويورد أيضاً بعدها آيات أخرى، وأقوالاً لبعضهم وشعراً، نوردها دون تعليق الغزالي، ودون أي تعليق غيره؛ ليستطيع القارىء أن يفهم مرادهم من الآية حيثما مرت معه. يقول: ...وكذلك ذكر الله تعالى في القرآن من الأدلة والآيات في الأرض والسماوات، ثم قال: ((أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) [فصلت:53] وقال: ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) [آل عمران:18]، فبين أنه الدليل على نفسه...قال بعضهم: (عرفت ربي بربي ولولا ربي لما عرفت ربي)، وهو معنى قوله تعالى: ((أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))، وقد وصف الله تعالى نفسه بأنه المحيي والمميت، ثم فوّض الموت والحياة إلى ملكين، ففي الخبر (أن ملكي الموت والحياة تناظرا...)(1) لذلك قال صلى الله عليه وسلم للذي ناوله التمرة: (خذها: لولم تأتها لأتتك)، أضاف الإتيان إليه وإلى التمرة...وأصدق بيت قاله الشاعر قول لبيد: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل)...فإذاً لا حق بالحقيقة إلا الحي القيوم...فهو الحق وما سواه باطل، فإنه قائم بذاته وكل ما سواه قائم بقدرته..)(2).
هذه عبارات -أو بعض العبارات- التي يستعملونها يشيرون بها إلى وحدة الوجود، أوردها الغزالي متتابعة، وقد أورد غيرها الكثير في أماكن أخرى من (الِإحياء) وغير (الإِحياء)، مع التكرار لها في مواضع كثيرة.
وهذه صورة أخرى من صور العبارة الإشارية:
يقول ابن عطاء الله في حِكَمه:
متى جعلك في الظاهر ممتثلاً لأمره، ورزقك في الباطن الاستسلام لقهره، فقد أعظم عليك المنة(3).
__________
(1) الحديث مكذوب.
(2) الإحياء: (4/222).
(3) جمهرة الأولياء، (ص:78).(1/119)
وقد أوردها محمود أبو الفيض المنوفي (القطب) على أنها تحمل نفس معنى قول أبي الحسن الشاذلي، الذي رأيناه: (ليكن الفرق بلسانك موجوداً...) وهي إشارة إلى مقام (الفرق الثاني).
ويقول ابن عطاء الله أيضاً في حكمه: (كن بأوصاف ربوبيتي متعلقاً، وبأوصاف عبوديتك متخلقاً، فإن تحققت بأوصافك أيدك بأوصافه)(1)، وهي كما يقرر المنوفي تحمل نفس معنى سابقتها، أي: (الفرق الثاني).
ويقول عبد القادر الجيلاني (قطب الأولياء الكرام):
الحمد لله الذي كيّف الكيف وتنزه عن الكيفية، وأيّن الأين وتعزز عن الأينية، ووُجد في كل شيء وتقدس عن الظرفية، وحضر عند كل شيء وتعالى عن العندية(2)...
ويقول:
...ثم قال لي: يا غوث الأعظم! ما أكل الِإنسان شيئاً وما شرب وما قام ولا قعد وما نطق وما صمت وما فعل فعلًا وما توجه لشيء وما غاب عن شيء إلا وأنا فيه، ساكنه ومتحركه. ثم قال لي: يا غوث الأعظم، جسم الِإنسان ونفسه وقلبه وروحه وسمعه وبصره ويده ورجله ولسانه وكل ذلك طهرت له نفس بنفس لا هو إلا أنا ولا أنا غيره(3).
__________
(1) جمهرة الأولياء، (ص:80).
(2) الفيوضات الربانية، (ص:41).
(3) الفيوضات الربانية، (ص:5). وتبرز هنا ملحوظة هامة، هي أنه لا يهمنا إن كان كل ما في كتاب (الفيوضات الربانية) صحيح النسبة للجيلاني أم لا؛ لأن الذي يهمنا هو أن هذا الكتاب هو عقيدة عشرات الملايين من الذين ساروا على نهج الطريقة القادرية طيلة قرون طويلة.(1/120)
ويقول: ...فإذا تحقق عندكم العمل، رأيتم القدرة، فحينئذ يَجْعَلُ التكوين في أيدي قلوبكم وأسراركم، إذا لم يبق بينك وبين الله حجاب من حيث قلبك، قدّرك على التكوين وأطلعك على خزائن سره، وأطعمك طعام فضله، وسقاك شراب الأنس، وأقعدك على مائدة القرب منه، وكل هذا ثمرة العلم بالكتاب والسنة أعمل بهما ولا تخرج عنهما، حتى يأتيك صاحب العلم، الله عز وجل. فيأخذك إليه، إذا شهد لك معلم الحكم بالحذق في كتابه، نقلك إلى كتاب العلم، فإذا تحققت فيه أقيم قلبك ومعناك، والنبي في صحبتهما آخذ بأيديهما، ويدخلهما إلى الملك، ويقول لهما: ها أنتما ربكما(1). اهـ [أرجو الانتباه إلى حدود العمل بالكتاب والسنة (حتى يأتيك صاحب العلم)].
ويقول: ...إذا قال لك القلب (لا) فهو حرام، وإن قال: (نعم) فهو حلال، وإن سكت فلم يقل: (نعم) ولا (لا) فهو شبهة، إن عدمت المألوفات وصبرت نفسك فهو القناعة، تدري كم عنده من الطاعات، والصوم والصلاة لا يعبأ بها، إنما مراده منك قلب صاف من الأقدار والأغيار(2).
ويقول: ...بقي أبو يزيد البسطامي سبع مرات، لما سُمع منه من الكلام العجيب، يفتح إلى قلويهم أبواب القرب، لا يجمعهم مع الخلق سوى الصلوات الخمس ولقب الآدمية البشرية؛ وصورتهم صورة الِإنس، وقلوبهم مع القدر، وأسرارهم مع الملك(3).
- يخبر عبد القادر الجيلاني عن أبي يزيد البسطامي أنه كان يفتح أبواب القرب (من الله وبه وإليه وفيه) إلى قلوبهم، أي إلى قلوب المريدين. إذاً فعبد القادر الجيلاني -في هذا النص- يزكي أبا يزيد، وبالتالي فهو يوافقه على أقواله التي مرت معنا آنفاً.
ويقول: قيل للحلاج حين صلب: (أوصني)، قال: نفسك إن لم تشغلها وإلا شغلتك(4).
__________
(1) الفتح الرباني، (ص:217).
(2) الفتح الرباني، (ص:357).
(3) الفتح الرباني، (ص:360).
(4) الفتح الرباني، (ص:367).(1/121)
- يُظهر الحلاجَ هنا بمظهر المعلم الحكيم، المقصود، حتى عند الصلب، إذاً فالحلاج مزكىً عند الجيلاني، وهذا يعني أن الجيلاتي يتلقى أقوال الحلاج بالقبول، فهو يؤمن بأقواله وعقيدته، ونستطيع أن نرجع إليها حالاً، لتكون تذكرة وتعيها أذن واعية. ويقول: ...وإذا كان القطب اطّلع على أعمال أهل الدنيا وأقسامهم وما تؤول أمورهم إليه، ويطّلع على خزائن الأسرار، ولا يخفى عليه شيء في الدنيا من خير أو شر، لأنه مفرد الملك بطانته، نائب أنبيائه ورسله، أمين المملكة، فهذا هو العين القطب في زمانه(1)...
ويقول: ...يا عبدَ الهوى والطبع، يا عبدَ الثناء والحمد، ما جفّ به القلم وسبق به العلم من الأقسام، لا بد من استيفائهما، لكن الشأن هل يأخذها بك، أو به يوجدك، ويقعدك مع التوحيد...أطلب القرب من باب فنائك...ويكون (أي: العارف أو الواصل) نائب الرسول في المتابعة، يُترك ثم يؤخذ، ثم يُؤخذ، يَتْرُك المتروك ويأخذ المأخوذ، يضيء لك الأمر كفلق الصبح، يجدد على العبد ثوبَي الوجود تارة والفناء تارة، يُفْتقد، فيُقبل الحق عليه، وتارةً يوجد- فيخبر عن الحق (روى قلبي عن ربي)(2)...
- قبل الانتقال إلى كتاب آخر من كتب الشيخ، يجدر الانتباه إلى قوله: «يجعل التكوين في أيدي قلوبكم وأسراركم»، و«قدّرك على التكوين»، وقوله في نص سابق: «فإذا جاءت نوبة الحكم كانوا في صحن الحكم»، ثم عرض هذه الأقوال على الآية القرآنية الكريمة: ((...مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) [الكهف:26]، وقوله: (ها أنتما ربكما).
طبعاً! الأمر واضح، إن الذي يعتقد أن مخلوقاً ما، سواء كان إنساناً أو ملكاً، يمكن له (التكوين)، وأن يتصرف في الكون، إنما هو كافر؛ لأنه يناقض نص الآية الصريح.
__________
(1) الفتح الرباني، (ص:354).
(2) الفتح الربايى، (ص:355).(1/122)
- لكن! همسة أهمسها في أذن القارىء: إنهم يؤولون- كما يقول الِإمام الغزالي- النصوص المخالفة للكشف لتتفق مع كشفهم!! وعليه فهم يؤولون هذه الآية، ليصبح معناها: (إن كل من يحكم فهو الله)، لأن الله لا يشرك في حكمه أحداً، وبما أن هناك من يحكم ولو في أمر واحد، إذن فهو الله؛ لأن الحاكم هو الله وحده، ولأنه لا يشرك في حكمه أحداً؛ وطبعاً! هذه هي وحدة الوجود.. نعود إلى الشيخ.
يقول الجيلاني:
...ثم إذا لم يجد عند الخالق نصرَةً، استطرح بين يديه مديماً للسؤال أو الدعاء والتضرع والثناء والافتقار مع الخوف والرجاء، ثم يعجزه الخالق عز وجل عن الدعاء، ولم يجبه حتى ينقطع عن جميع الأسباب، فحينئذ يَنْفذ فيه القدر، ويفعل فيه الفعل، فيفنى العبد عن جميع الأسباب والحركات، فيبقى روحاً فقط، فلا يرى إلا فعل الحق، فيصير موقناً موحداً ضرورة، يقطع أن لا فاعل في الحقيقة إلا الله، لا محرك ولا مسكن إلا الله، ولا خير ولا شر ولا ضر ولا نفع ولا عطاء ولا منع ولا فتح ولا غلق ولا موت ولا حياة ولا عز ولا ذل إلا بيد الله...ويكون ولا حراك به في نفسه ولا في غيره، فهو غائب عن نفسه في فعل مولاه، فلا يرى غير مولاه وفعله، ولا يسمع ولا يعقل من غيره، إن بَصر وسمع(1)...اهـ.
- كل العبارات الدالة على وحدة الوجود في هذا النص، مرت معنا فيما سبق، مثل: (يفنى العبد عن جميع الأسباب..)، و(يصير موحداً)، و(لا فاعل إلا الله)، و(غائب عن نفسه في فعل مولاه).
لكن أمامنا الآن عبارة جديدة هي: (فيبقى روحاً فقط)، وكذلك المفردات المتلاحقة: (لا خير ولا شر ولا ضر...)، والتي يفهم الصوفي والمتمرس بعباراتهم إلى ماذا ترمز وتشير، وكذلك قوله: (فلا يرى غير مولاه وفعله).
__________
(1) فتوح الغيب، (ص:8، 9).(1/123)
ويقول: ...والحكاية المشهورة عن أبي يزيد البسطامي -رحمه الله- لما رأى رب العزة في المنام، فقال: كيف الطريق إليك؟ قال: اترك نفسك وتعال، فقال: فانسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها(1)...
- في هذا النص تزكية واضحة لأبي يزيد البسطامي ولمكاشفته، وهذا يعني أنه يؤمن بعقيدة أبي يزيد، وبالتالي يمكننا أن نكون موقنين أنه يتبنى أقواله التي مرت فيما سبق، كما يتبنى قوله في هذا النص، الذي هو: (فانسلخت من نفسي...)، والذي نعرف بعد قراءتنا لهذا الركام من أقوالهم وإشاراتهم، أنه يعني به الانسلاخ من فكرة تفريق الخلق عن الحق ومن الشعور بها.
ويقول: ...فحينئذ يصير مَحْقاً من أهل الحقيقة...وإن كنت في حالة (حق الحق)، وهي حالة (المحو والفناء)، وهي حالة الأبدال المنكسري القلوب لأجله، الموحدين العارفين، أرباب العلوم والعقل، السادة الأمراء خفراء الخلق خلفاء الرحمن وأخلائهِ وأعيانه وأحبائه عليهم السلام(2)..
- ما يجب الانتباه إليه: قوله: (حق الحق، المحو، الفناء، الموحدين، العارفين، خفراء الخلق وما بعدها..)، ومن لم يعرف معناها ومرماها فعليه البدء بقراءة الكتاب من أوله بوعي وحفظ، ويقول: ...فحينئذ يسمع نداء من قبل الحق عز وجل من باطنه: اترك نفسك وتعال، اترك الحظوظ والخلق إن أردت الخالق، واخلع نعليك (دنياك وآخرتك)، وتجرد عن الأكوان والموجودات وما سيوجد والأماني بأسرها، وتعرّ عن الجميع وافْن عن الكل، وتطيب بالتوحيد، واترك الشرك، وصدّق الإرادة(3).
ويقول: إلى متى المعاد؟ إلى متى الحق؟ إلى متى الهوى؟ إلى متى الرعونة؟ إلى متى الدنيا؟ إلى متى الآخرة؟!!! إلى متى سوى المولى؟ أين أنت من خالقك والأشياء؟
المكوّن الأول الآخر الظاهر الباطن، والمرجع والمصدر إليه(4).
* ملحوظات:
__________
(1) فتوح الغيب، (ص:25).
(2) فتوح الغيب، (ص:28).
(3) فتوح الغيب، (ص:127).
(4) فتوح الغيب، (ص:144).(1/124)
قوله: اخلع نعليك: (دنياك وآخرتك)، وقوله: إلى متى الآخرة؟! إذا خلعنا الآخرة! فماذا بقي لنا؟ وماذا نفعل بعشرات الآيات التي تأمرنا بالإيمان بالله واليوم الآخر؟!
وما معنى قوله سبحانه: ((لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ)) [الممتحنة:6]؟!
وما معنى قوله: ((وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى)) [النساء:77]؟!
وما معنى قوله: ((وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [الأنعام:32].
وما معنى قوله سبحانه: ((...وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ)) [الأنفال:67]؟!
وما معنى قوله سبحانه: ((وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)) [يوسف:57].
وما معنى قوله سبحانه: ((وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [الأعراف:169]، وقوله: ((وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [يوسف:109]، وقوله: ((وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ)) [النحل:30]، وقوله: ((وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) [الإسراء:19]، وقوله: ((وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)) [العنكبوت:64]، وقوله: ((وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ)) [الأحزاب:29]، وقوله: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)) [الشورى:20]...وغيرها وغيرها من الآيات.
فهل حكمة الشيخ (الكشفية) تنسخ آيات الله؟!(1/125)
وماذا في الأمر؟! فهؤلاء القوم هم المحبون المحبوبون العارفون المقربون الصديقون الواصلون الموحدون الذائقون المدللون الأولياء الصالحون الخلص أصحاب الأسرار الذين أشرفوا على عتبة أحوال الأنبياء، المتحققون بالأسماء والصفات والذات المتصرفون في الكون، الأقطاب الغيوث الطيبون الراضون المرضيون المقدسون القديسون المتقون الذاكرون المحفوظون السائرون السالكون العارجون الأوتاد الأبدال الأخيار الصفوة المخلصون المختارون المصطفون المختصون بالعلوم اللدنية الداخلون في بحار الأنوار الذائقون من معاني اسمه الصمد والقيوم والعزيز والجبار والمتكبر أي المتصفون بها والمتحققون بها والعارجون بها منها فيها إليها عليها حتى يصبحوا في الغاية: ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)) [النجم:42]..
والأوصاف كثيرة تعجز عنها العبارات والإشارات والكلمات والحروف والجمل والسطور والمقاطع والصفحات والملازم والفصول والأبواب والكتب والمجلدات والمكتبات..
- فلا جرم! من كانت هذه نعوتهم وصفاتهم، فهم يستطيعون- ولهم الحق- التصرف والحكم بنسخ القرآن كله، وحديث -رسول الله صلى الله عليه وسلم- كله، ووجود الأنبياء كلهم، وأحكام الشرائع كلها، ورسالات النبيين كلهم، بجرة قلم، أو بقوله: [كن فيكون]!!
ولهم المنة والفضل والشكر والإحسان والحمد والثناء والنعمة والكرم والجود والحكم والتصرف والحكمة والعلم والكشف وما بعد الكشف، ما قبل الكشف وما فوق الكشف وما تحت الكشف، وكشف الكشف، وكشف كشف الكشف، والعلم اللداني، وما فوقه وتحته وأمامه وخلفه وحوله وقبله وبعده...إلخ.
- (هذا من عدوى العلوم اللدنية).
ويقول الشيخ: ...فبظاهره ينظر إلى ما في السوق، وبقلبه ينظر إلى ربه عز وجل، إلى جلاله تارةً وإلى جماله تارة أخرى(1).
__________
(1) فتوح الغيب، (162).(1/126)
- عرفنا فيما سبق أن عبد القادر الجيلاني له أسلوب هو في القمة من حيث التعمية والإلغاز، وهذا نص يحمل نفس معنى الجملة التي مرت قبل صفحات: «إياك أن تقول: أناه، واحذر أن تكون سواه». وأترك للقارئ تحليلها مع العلم أن أسلوب عبد القادر الجيلاني في الرمز واللغز لا يفوقه إلا أسلوب تلميذه عمر السهروردي.
ويقول: ...ما ذُكر عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: ((وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)) [الجاثية:13]، فقال: في كل شيء اسم من أسمائه، واسم كل شيء من اسمه، فإنما أنت بين أسمائه وصفاته وأفعاله، باطن بقدرته وظاهر بحكمته، ظهر بصفاته وبطن بذاته، حجَب الذات بالصفات وحَجَب الصفات بالأفعال، وكشف العلم بالإرادة وأظهر الإرادة بالحركات، وأخفى الصنع والصنيعة، وأظهر الصنعة بالإرادة، فهو باطن في غيبه وظاهر في حكمته وقدرته، ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )) [الشورى:11].
ولقد أظهر في هذا الكلام من أسرار المعرفة ما لا يظهر إلا من مشكاة فيها مصباح أمره برفع يد العصمة: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل}(1). اهـ.
1- نسبة هذا التفسير لابن عباس غير صحيح.
2- يريد الشيخ أن يجعل ابن عباس يفسر قوله سبحانه: ((مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)) [الجاثية:13] أن السماوات والأرض جميعاً هي من الله، بمعنى هي جزء منه!
لذلك جعله (ناقلاً) يقول: (في كل شيء اسم من أسمائه، واسم كل شيء من أسمائه)، ومعنى هذا واضح، فاسم (الشمس) مثلاً هو من أسماء الله! والقمر هو من أسمائه سبحانه، وكذلك كل ما في السماوات والأرض، مثل: المريخ، المشتري، الثريا، الهواء، التراب...ومنها الدنسيات (جل الله وعلا علوًا كبيراً).
__________
(1) فتوح الغيب، (165).(1/127)
وهنا نرى بوضوح أن هذه العبارات (في كل شيء اسم من أسمائه واسم كل شيء من أسمائه...) تحمل نفس معنى قول قائلهم: (وما الكلب والخنزير إلا إلهنا)، وقول الآخر: (ولا يهولنك صدور الكائنات الدنسية من سنخ القدسية) وما ماثلها مما ورد في هذا الكتاب ومما لم يرد.
ثم جعله يقول: (فإنما أنت بين أسمائه وصفاته وأفعاله) وهذا واضح أيضاً. إنه يعني: إنك يا مخاطب بما أنك موجود بين الأشياء التي في الأرض، من هواء وماء وتراب وأحجار وغيرها وفي السماوات وبما أنها كلها أسماء الله وصفاته وأفعاله، إذاً فأنت بين أسمائه وصفاته وأفعاله!! (ولا ننسى أن عبارة (أفعال الله) يعنون بها حركاته جل وعلا).
وقوله: (ظاهر بصفاته...)، يعني أن كل ما يظهر لنا ونراه ونلمسه هو صفات الله! فهو ظاهر بها، فالحجر -مثلاً- يحمل صفة الحجرية التي نراها وهذه الصفة الحجرية تحجب عنا حقيقة كونه من الذات؟!
ويقول: يا هذا، الفناء إعدام الخلائق، وانقلاب طبعك عن طبع الملائكة، ثم الفناء عن طبع الملائكة، ثم لحوقك بالمنهاج الأول، وحينئذ يسقيك ربك ما يسقيك، ويزرع فيك ما يزرع(1)؟!
- يفسر كلمة (الفناء)، إنها إعدام الخلائق...ثم لحوقك بالمنهاج الأول، فما هو المنهاج الأول؟ إنه القول الذي يكررونه (كان الله ولا شيء معه) هذا هو المنهاج الأول! وسنراه فيما يأتي، وقد مر معنا فيما سبق.
وقال: ثم قال لي: يا غوث الأعظم، نم عندي لا كنوم العوام ترني! فقلت: يا رب! كيف أنام عندك؟ قال: بخمود الجسم عن اللذات.. في فناء ذاتك بالذات. ثم قال لي: يا غوث الأعظم، قل لأصحابك وأحبابك، من أراد منكم جنابي فعليه باختيار الفقر، ثم فقر الفقر، فإذا تم الفقر فلا ثمَّ إلا أنا(2).
- ما يُنتبه له هو: (في فناء ذاتك بالذات)، و(فلا ثم إلا أنا) وهما واضحتان، فقد مرا فيما سبق بلفظهما أو بمعناهما.
__________
(1) فتوح الغيب، (ص:170).
(2) الفيوضات الربانية، (ص:8).(1/128)
ولكن معنا الآن عبارة جديدة، هي (فقر الفقر) التي يعني بها (إعدام فكرة الخلق) وكذلك عبارة (فإذا تم الفقر) أي: فإذا تمت الغيبة عن مشاهدة الخلق على أنهم خلق.
ومما ينسب له، من قصيدة (والعارفون كلهم ينسبونها له):
وسِرّي سرُّ الله سارٍ بخلقه ... ... فلذ بجنابي إن أردتَ مودتي
وأمري أمرُ الله إن قلتُ كن يكن ... ... وكل بأمر الله فاحكم بقدرتي
وشاهدتُ ما فوق السماوات كلها ... ... كذا العرشُ والكرسيُّ في طي قبضتي
وجودي سَرى في سرّ سِر الحقيقة ... ... ... ومرتبتي فاقت على كل رتبة
ومطلع شمس الأفق ثُم مغيبها ... ... وأقطار أرض الله في حال خطوتي
أقلّبها في راحتي ككورة ... ... أطوف بها جمعاً على طول أحتي(1)
ويقول أحمد الرفاعي (الغوث):
...وراقبه في الخلوات والجلوات، واحمده واشكره على الفقر والغنى، واترك الأغيار، فما في الدار غيره ديار، وكن صوفيًّا صافياً(2).
ويقول: الذكر حِفظُ القلب من الوسواس، وترك الميل إلى الناس، والتخلي عن كل قياس، وإدراك الوحدة بالكثرة، وحسنُ ملحوظة المعنى(3).
ويقول: ...إن لله تعالى بعدد كل شيء خلقه أسماء(4).
- علينا هنا أن نتذكر قول الجيلاني الذي مر آنفاً في هذا المعنى.
ويقول:
طلبتُ في الكون باقي كي أهيم به ... ... غير الحبيب، فسرّ الحب وافاني
وقال لي: خل عنك الغير منخلعاً ... ... عن السوى، فسوى من تَدْره فاني
فصرتُ منه لديه فيه عنه به ... ... والغير راح بلا تَرْكي ونسياني(5)
__________
(1) الفيوضات الربانية، (ص:48، 49، 50).
(2) قلادة الجواهر، (ص:151).
(3) قلادة الجواهرة، (ص:148).
(4) قلادة الجواهر، (ص:191).
(5) قلادة الجواهر: (ص:232).(1/129)
ويقول: ...إذا أراد الله تعالى لعبد أن يؤهله لهذه المنزلة (الغوثية) وهذه الأحوال، أول ما يكلِّفه نفسه، فإذا داراها وأدبها وساسها واستقامت معه، كلَّفه أهله، فإذا داراهم وأحسن عشرتهم، كلَّفه جيرانه ومحلته، فإذا داراهم وأحسن إليهم وأقام بحقوقهم كلفه أمر بلده، فإذا أحسن إليهم وداراهم كلَّفه جهةً من الأرض، فإذا أقام بحقوقهم وأحسن إليهم كلفه جميع الأرض، وإذا سبقت له العناية الأزلية وأحسن إليهم وداراهم وأحسن سريرته مع الله تعالى فيهم، كلفه أمور الدنيا كلها، فإذا أقام بها كلَّفه ما بين السماء والأرض، فإن بينهما خلقاً كثيراً لا يعلمهم إلا الله تعالى، فإن هو داراهم وأحسن إليهم كلفه ما عدا بني آدم من المخلوقات، فإن هو داراهم وأحسن إليهم كلفه سماء بعد سماء إلى جميع السماوات، حتى ينتهي إلى مقام الغوثية، ثم يرفع منزلته حتى تصير صفته من صفات الحق سبحانه...فإذا صح لهذه الأمور، صار عينَ سرّ الله في أرضه، فيه ينزل الغيث، وبه يرفع البلاء، وبه تنزل البركات، حتى لا تنبت شجرة، ولا تخضر ورقة، ولا يَطَّلِعُ الله على خلقه إلا بنظره، ولا تقطر قطرة إلا بإذنه(1).
ويقول أبو يعزى المغربي(2):
من طلب الحق من جهة الفضل وصل إليه، ومن لم يكن بالأحد لم يكن بأحد(3).
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:195).
(2) يلنّور بن ميمون الهزميري، أستاذ أبي مدين، مات بالطاعون سنة: (572هـ).
(3) طبقات الشعراني: (1/137).(1/130)
ويقول: لا يكون الولي وليّا حقّاً حتى يكون له قَدَمٌ ومقام وحال ومنازلة وسرٌّ، فالقدم ما سلكته من طريقك إلى الحق، والمقام ما أقرتك عليه سابقتُك في العلم الأزلي، والحال ما بعثك في فوائد الأصول لا من نتائج السلوك، والمنازلة ما خُصِّصتَ به من تحف الحضور بنعت المشاهدة لا بوصف الاستتار، والسر ما أُودِعتَه من لطائف الأزل عند هجوم الجمع، ومحق السوى، وتلاشي ذاتك، فحفظ حكم المقام يفيد الفقه في الطريق، ويفيد الاطلاع على خبايا معانيه، وحفظ حكم الحال يفيد بسطة في التصريف لله بالله(1).
* ملحوظة: حبذا لو استظهر القارىء هذا النص، فكل جملة منه هي (عبارة) صوفية تحمل إشارة ورمزاً.
ويقول أبو مدين المغربي (الغوث):
من لم يصلُح لخدمته شَغَلَهُ بالدنيا، ومن لم يصلُح لمعرفته شَغَلَه بالآخرة(2)!!
- رأينا مثل هذا الكلام قبل صفحات: (إلى متى الدنيا، إلى متى الآخرة) والجواب عليه هناك.
ويقول: إذا ظهر الحق لم يبق معه غيره(3).
- المعنى واضح، فالعارف الذي يظهر له الحق، يظهر له في كل شيء، فيرى كل شيء هو الحق، ولا شيء غيره؛ وما كان يظنه غيره يظهر على حقيقته أنه الحق، حيث تزول عنه الغيرية.
ويقول: علامة الِإخلاص أن يغيب عنك الخلق في مشاهدة الحق(4).
ويقول: الفقر أمارةٌ على التوحيد، ودلالةٌ على التفريد، وحقيقة الفقر ألا تشاهد سواه(5).
عبارتا أبي مدين الثانية والثالثة، يحملان نفس المعنى وبدقة.
- مصطلح (التوحيد) شرحه لنا الغزالي بوضوح تام؛ إنه وحدة الوجود.
- والتفريد هو تفريد الله بالوجود، فليس معه غيره..
ويقول: الجمع ما أسقط تفرقتك، ومحا إشارتك، والوصول استغراقُ أوصافك، وتلاشي نعوتك(6).
__________
(1) طبقات الشعراني: (1/137).
(2) من كتاب (أبو مدين الغوث)، (ص:59).
(3) من كتاب (أبو مدين الغوث)، (ص:59).
(4) أبو مدين الغوث، (ص:60).
(5) أبو مدين الغوث، (ص:60).
(6) أبو مدين الغوث، (ص:84).(1/131)
- المعنى واضح، إذ معنى (الجمع والتفرقة) أصبح معروفاً، وما بقي يمكن فهمه بسهولة.
ويقول:
فلا تلم السكران في حال سكره ... ... فقد رُفع التكليف في سكرنا عنا
ويا عاذلي كرِّرْ عليَّ حديثهم ... ... فاعينُنا منهم وأعينُهم منا(1)
- وواضح ما يعني بضمير الغائبين في (حديثهم، منهم، أعينهم) إنها إشارة إلى الحق سبحانه.
ويقول:
فالكل دون الله إن حققته ... ... عدمٌ على التفصيل والِإجمال
فالعارفون فنوا ولما يشهدوا ... ... شيئاً سوى المتكبر المتعال
ورأوا سواه على الحقيقة هالكاً ... ... في الحال والماضي والاستقبال(2)
- هذه الأبيات تذكرنا بأقوال الغزالي، فهي هي بحروفها وكلماتها، كما نفهم منها معنى (وحدة الشهود).
ويقول شهاب الدين السهروردي البغدادي:
...فقلب الصوفي مجرد عن الأكوان، ألقى سمعَه، وشهد بصرُه، فسمع المسموعات وأبصر المبصرات، وشاهد المشهودات، بتخلّصِه إلى الله تعالى، واجتماعه بين يدي الله، والأشياء كلُّها عند الله، وهو عنده، فسمع، وشاهد فأبصر، وسمع جملها، ولم يسمع ويشاهد تفاصيلها؛ لأن الجمل تدرك لسعة عين الشهود، والتفاصيل لا تدرك لضيق وعاء الوجود، والله تعالى هو العالم بالجمل والتفاصيل(3).
ويقول: ...قال الله تعالى: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)) [ق:37]، قال: ...قال بعضهم: لمن كان له قلب سليم من الأغراض والأمراض. قال الحسين بن منصور: (لمن كان له قلب لا يخطر فيه إلا شهود الرب)(4)...
- إنه يستشهد بالحلاج، وبتفسير الحلاج، وحكمة الحلاج، إذاً: فهو يؤمن بالحلاج وعقيدته وأقواله، وهذا واضح.
ويقول (في دعاء):
__________
(1) أبو مدين الغوث، (ص:111).
(2) أبو مدين الغوث، (ص:112).
(3) عوارف المعارف هامش الِإحياء: (1/217).
(4) العوارف: (1/213).(1/132)
...يا دهريا ديهوريا ديهار، يا أبد يا أزل، يا من لم يزل ولا يزال ولا يزول، هو يا هو، لا إله إلا هو، يا من لا هو إلا هو، يا من لا يعلم ما هو إلا هو، يا كان يا كينان، يا روح، يا كائن قبل كل كون، يا مكوناً لكل كون، أهيا، أشراهيا، أدوناي، أصبؤت، يا مجلى عظائم الأمور(1)...
- الكلمات: (أهيا، أشراهيا...) هي كلمات عبرية، وفيها إشارة إلى أثر اليهودية في الصوفية.
وقال: ...وقال بعضهم: الروح (وهي غير الروح التي في الجسد) لطيفة تسري من الله إلى أماكن معروفة، لا يعبر عنه بأكثر من موجود بإيجاد غيره...) اهـ(2).
- ما هي هذه الأماكن المعروفة؟ سنعرفها فيما بعد!
وقال: ...والصوفي صفا عن هذه البقية (رؤية الخلق) في طرفي العمل، والتركِ للخلق، وعَزْلِهم بالكلية، ورآهم بعين الفناء والزوال، ولاح له ناصية التوحيد، وعاين سرّ قوله: ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) [القصص:88] كما قال بعضهم في بعض غلباته: ليس في الدارين غير الله...)(3) اهـ.
- بالرغم من أن الأسلوب الِإشاري عند عمر السهروردي هو في القمة العليا من حيث الرمز واللغز، ولكن العبارة خانته في هذه الفقرة، فكانت وحدة الوجود فيها واضحة تماماً، كما أنها في الفقرات السابقة، واضحة لمن عرف لغة القوم.
ويقول عبد السلام بن مشيش(4) (الغوث) في صلاته:
اللهم صل على من منه انشقت الأسرار، وانفلقت الأنوار، وتنزلت علوم آدم...
__________
(1) العوارف: (4/19).
(2) العوارف: (4/182).
(3) العوارف: (1/324).
(4) أبو محمد عبد السلام بن مشيش، أو بشيش، أحد الأئمة العارفين، كان يسكن مغارة في رأس جبل في المغرب، مات عام: (622هـ)، ومن تلامذته أبو الحسن الشاذلي.(1/133)
ولا شيء إلا وهو به منوط، إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط...اللهم إنه سرُك الجامع الدالّ عليك، وحجابك الأعظم القائم لك بين يديك...وزُجّ بي في بحار الأحدية، وانشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة، حتى لا أرى ولا أسمع ولا أحس إلا بها(1)...
* ملحوظة:
يلاحظ هنا أنه يستعمل كلمة (التوحيد) بمعناها الِإسلامي (أي: توحيد الله) ويجعلها أوحالًا، وهو يصرح بالوحدة.
وقال مخاطباً تلميذه أبا الحسن الشاذلي:
يا أبا الحسن! حدّدْ بصر الِإيمان، تجد الله في كل شيء، وعند كل شيء، ومع كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، وفوق كل شيء، وتحت كل شيء، وقريباً من كل شيء، ومحيطاً بكل شيء، بقربِ هو وصفه، وبحيطةٍ هي نعته، وعَدِّ عن الظرفية والحدود، وعن الأماكن والجهات، وَعن الصحبة والقرب في المسافات، وعن الدور المخلوقات، وامحق الكل بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو هو هو، كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان(2).
ويقول تاج العارفين أبو الوفاء(3):
...الذكر ما غَيّبك عنك بوجوده، وأخذك منك بشهوده، فإن الذكر شهود الحقيقة وخمود الخليقة(4)...اهـ.
- يعني أبو الوفاء بكلامه أن الذكر لا يكون ذكراً إلا إذا أنتج ما بَيَّنه لك (...ما غيبك.. وأخذك...).
ويقول الشيخ عقيل المنبجي(5):
__________
(1) النفحة العلية في أوراد الشاذلية، (ص:16).
(2) إيقاظ الهمم، (ص:40، 201).
(3) كردي عراقي من أهل النصف الأول من القرن السادس الهجري.
(4) طبقات الشعراني: (1/135).
(5) شيخ شيوخ الشام في وقته، ولد في قرية في الشرق، وانتقل منها (طيراناً) إلى منبج، ومات فيها، ولم أقف على تاريخ وفاته، لكن من الذين تخرجوا بصحبته عدي بن مسافر، فيكون من أهل النصف الأول من القرن السادس.(1/134)
...فإذا جاء الفضل، قل إلهي فَضْلُك لصنعك بلا أنا، فإذا شئتَ فقد حصل لك عند الخشوع عبودية، وعند الدلال توحيد، فعبوديتك بفقرك إليه، ودلاله أنه ما ثم غيره، فإذا جاءت الِإلهية (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون)، فبمجاهدة الهوى تعرفه، وبخروجك عن الخلق توحده(1)...اهـ [لاحظ عبارة (فإذا جاءت الِإلهية)].
ويقول الشيخ علي بن الهيتي(2):
كل من كوشف بالحقيقهّ.. أو شاهد الحق، أو اختُطِف عن مَشاهِدِهِ بوجود الحق، أو استُهلك في عين الجمع، أو لم يشهد سوى الحق تعالى، أو لم يحس سوى الحق، إلى آخر ما يعبَر عنه معبِّر، أو يشير إليه مشير، أو ينتهي إليه علم، فإنما هي شواهد الحق، وحق منْ الحق له، وكل ما بدا على الخلق فذاك مما يليق بالخلق(3)...
- وحدة الوجود واضحة في قول أبي يعزى (عند هجوم الجمع ومحق السوى وتلاشي ذاتك)، وفي قول المنبجي: (.. إنه ما ثَم غيره، فإذا جاءت الِإلهية...).
أما الهيتي فيورد عدةً من العبارات المرموزة التي تشير إلى وحدة الوجود، يقدمها للسالك الواصل ليستعملها في أحاديثه وكتاباته، وليتدرب على إنشاء العبارات المماثلة، ويجدر بالقارىء الكريم أن يستظهرها ليزداد تمرساً باللغة الصوفية.
ويقول عبد الرحمن الطفسونجي(4):
__________
(1) الطبقات الكبرى للشعراني: (1/136).
(2) نسبة إلى هيت على الفرات، من أكابر مشايخ العراق، يشب إلى القطبية العظمى، سكن رزيران ومات بها عام: (564هـ).
(3) الطبقات الكبرى للشعراني: (1/145).
(4) نسبة الى طفسونج، بلدة بأرض العراق، من أكابر مشايخ العراق وأعيان العارفين وصدور المقربين، مات بطفسونج مُسناً، ولم أقف على تاريخ وفاته، ولكنه معاصر لعبد القادر الجيلاني.(1/135)
...وينسى باستيلاء ذكر ربه عليه جميع الِإحساس، فيقال: انْدَرجَ في رؤية مذكوره، ويقال: فني عن نفسه، ويقال: فني بربه، ويقال: فني عن فنائه أي غفل عن ذكر غفلته عن نفسه باستيلاء ذكر ربه عليه، وصار ليس يشهد غيره، وهاهنا يكون مصطلماً عن مَشَاهِدِه، مختطَفاً عن نفسه، ممحوّاً عن جملته، فانياً عن كله، وما دام هذا الوصف باقياً فلا تمييز ولا إِخلاص ولا صدق، وهذا جمع الجمع، وعين الوجود، وهذا هو الوصول الذي يرد على أحوال التمييز والتكليف(1)...
- أقول: هذه عبارات أخرى مرموزة وملغزة تشير إلى وحدة الوجود، وتساعد على التمرس بلغة الصوفية.
ويقول الشيخ مطر الباذرائي(2):
...ولذة الأرواح الشربُ بكأس المحبة من أيدي عرائس الفتح اللدني، في خلوة الوصل، على بساط المشاهدة والهيام، بين عالَم الكون، في نور العزة وقراءة ما كُتب على صفحات ألواح نسمات ذرات الوجود، بقلم التوحيد (كلا بل هو الله العزيز الحكيم)(3) اهـ. (أي: إن ذرات الوجود هي الله العزيز الحكيم).
ويقول محيي الدين بن عربي (الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر):
...فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عينَ كل شيء(4).
ويقول: ...والعارف المكمَّل من رأى كلّ معبود مجلى للحق يُعبد فيه، ولذلك سموه كلهم إلهاً مع اسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك(5)...
ويقول: ...ولا يُشهَد، ولا تدركه الأبصار، بل هو يدرك الأبصار، للطفه وسريانه في أعيان الأشياء(6).
ويقول (الشيخ الأكبر نفسه):
__________
(1) طبقات الشعراني: (1/146)..
(2) من أجل مشايخ العراق وسادات العارفين، من الأكراد، سكن (باذراء) قرية من أعمال النجف، وبها مات، ولم أقف على تاريخ وفاته، ولعله في الربع الأخير من القرن السادس الهجري.
(3) طبقات الشعراني: (1/148).
(4) فصوص الحكم (فص حكمة إمامية في كلمة هاوونية)، (ص:192).
(5) الفصوص، (ص:195).
(6) الفصوص، (ص:196).(1/136)
فإن الِإله المطلق لا يسعه شيء، لأنه عين الأشياء وعين نفسه، والشيء لا يقال فيه: يسع نفسه ولا لايسعها، فافهم(1).
ويقول: ...((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) [ق:16]، وما خص إنساناً من إنسان، فالقرب الِإلهي من العبد لا خفاء به في الِإخبار الِإلهي، فلا قربَ أقربُ من أن تكون هوّيته (أي: هوية الله) عينَ أعضاء العبد وقواه، وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى، فهو حقّ مشهود في خلقٍ متوهم، فالخلق معقول، والحق محسوس مشهود عند المؤمنين وأهل الكشف والوجود، وما عدا هاذين الصنفين، فالحق عندهم معقول والخلق مشهود(2)...
في هذا النص يفسر لنا الشيخ الأكبر معنى كلمة (القرب) عند الصوفية، وهذا يجعلنا نفهم بوضوح كل العبارات السابقة واللاحقة، والتي تمر معنا، والتي فيها كلمة (القرب) ونستطيع من هذا النص فهم كلمة (الوجود) الاصطلاحية.
ويقول: ...فمن عَرَف أن الحق عينُ الطريق، عَرَف الأمر على ما هو عليه، فإن فيه -جل وعلا- تسلُكُ وتسافر، إذ لا معلوم إلا هو، وهو عينُ الوجود، والسالكُ والمسافر(3)...
ويقول الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر أيضاً:
...وبالِإخبار الصحيح أنه عين الأشياء، والأشياء محدودة وإن اختلفت حدودها، فهو محدودٌ بحدِّ كل محدود، فما يُحَدُّ شيء إلا وهو حد الحق، فهو الساري في مسمَّى المخلوقات والمبدعات، ولو لم يكن الأمر كذلك ما صح الوجود، فهو عينُ الوجود، فهو على كل شيء حفيظ بذاته، ولايؤوده حفظ شيء، فحفظهُ تعالى للأشياء كلها حفظه لصورته أن يكون الشيء غير صورته، ولا يصح إِلا هذا، فهو الشاهد من الشاهد، والمشهود من المشهود، فالعالم صورته، وهو روح العالم المدبِّر له، فهو الِإنسان الكبير.
فهو الكون كله ... ... وهو الواحد الذي
__________
(1) الفصوص (فص حكمة فردية في كلمة محمدية)، (ص:226).
(2) الفصوص (فص حكمة أحدية في كلمة هودية)، (ص:108).
(3) الفصوص، (ص:109).(1/137)
قام كوني بكونه ... ... ولذا قلت يغتذي
فوجودي غذاؤه ... ... وبه نحن نحتذي
فبه منه إن نظرت ... ... بوجه تعوُّذي(1)
- في النصين الأخيرين يستعمل كلمة (الوجود) بمعناها اللغوي، وليس بمعناها الاصطلاحي، كما في النص الذي قبلهما.
ويقول: ...وإذا كان الحق وقايةً للحق بوجه، والعبدُ وقايةً بوجه، فقل في الكون ما شئت: إن شئت قلت هو الخلق، وإن شئت قلت هو الحق، وإن شئت قلت هو الحق الخلق، وإن شئت قلت لا حقَّ من كل وجه، ولا خلق من كل وجه، وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك(2)...
- هذا النص يساعدنا كثيراً على فهم عبارات مرت معنا، وستمر، مثل: (أفنِ الخلق، أو أفن من لم يكن يبق من لم يزل، أو الفناء عن الصفات، أو الفناء عن الأفعال الرديئة، أو الفناء عن الكون...) إذ بما أن الكون هو الحق في الحقيقة، وهو خلق، أو كون بالتوهم، فإذا أفنينا الخلق، أو الكون، أو الصفات (التي تعني الخلق) بقيت الصفة التي تعني (الحق) وهذا هو معنى (الفناء في الحق).
ويقول:
فلا تنظر العينُ إلا إليه ولا ... ... يقعُ الحكم إلا عليه
فنحن له وبه في يديه ... ... وفي كل حالٍ فإنا لديه
لهذا يُنكَر ويُعرف وُينزَّه ويوصف، فمن رأى الحق منه فيه بعينه فذلك العارف، ومن رأى الحق منه فيه بعين نفسه فذلك غير العارف، ومن لم ير الحق منه ولا فيه وانتظر أن يراه بعين نفسه فذلك الجاهل(3)...
- هذا النص يعيننا على فهم العبارات التي تمر معنا مثل: (له وبه وفي يديه ولديه)، و(منه فيه بعينه)، وما شابهها، كما يدلنا على معنى المعرفة [منه فيه بعينه (أي: بعين الله)].
__________
(1) الفصوص، (ص:111).
(2) الفصوص، (ص:112).
(3) الفصوص، (ص:113).(1/138)
ويقول: ...إن لله تجلِّيينْ: تجلّي غيبِ، وتجلي شهادة، فمن تجلي الغيب يُعطي الاستعداد الذي يكون عليه القلب، وهوَ التجلي الذاتي الذي الغيبُ حقيقتُه، وهو (الهوية) التي يستحقها بقوله عن نفسه (هو) فلا يزال (هو) له دائماً أبداً(1)...
- في هذا النص يشرح لنا بصراحة معنى مصطلح (الهوية)، ومصطلح (هو)، حيث نستطيع أن نفهم بوضوح تام ماذا يعنون بكلمة (هو) حيثما وردت، مثل قولهم: (لا هو إلا هو).
ويقول: ...التجلي الشهودي في الشهادة...ثم رفع الحجابَ بينه وبين عبده، فرآه في صورة معتقدِه، فهو عين اعتقاده، فلا يشهدُ القلب ولا العينُ أبداً إلا صورةَ معتقده في الحق.
فالحق الذي في المعتقد هو الذي وسع القلب صورتَه، وهو الذي يتجلى له فيعرفه، فلا ترى العين إلا الحق الاعتقادي، ولا خفاء بتنوع الاعتقادات، فمن قيَّدَه (أي: في عقيدة واحدة) أنكره في غر ما قَيّدَه به، وأقرَّ به فيما قيَّده به إذا تجلى. ومن أطلقه عن التقييد لم ينكره وأقرّ به في كل صورة يتحول فيها، ويعطيه من نفسه قدر صورة ما تجلَّى له، إلى ما لا يتناهى، فإن صور التجلي ما لها نهاية نقف عندها(2).
- يقول (الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر) في هذا النص: إن كل الاعتقادات صحيحة، وكل المعبودات حق...كما يفهمنا أن الكشف تابع للقناعات الفكرية المسبقة.
__________
(1) الفصوص، (فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية)، (ص:120).
(2) الفصوص، (ص:121).(1/139)
ويقول: ...فإذا نظرتَ في قوله: (كنتُ رجله التي يسعى بها، ويده التي يبطش بها، ولسانه الذي يتكلم به)(1)، إلى غير ذلك من القوى ومحلّها الذي هو الأعضاء، لم تفرق، فقلتَ: الأمر حقٌّ كله، أو خلق كله، فهو خلق بنسبةٍ، وهو حق بنسبة، والعينُ واحدة. فعينُ صورة ما تجلّى عينُ صورة من قبِل ذلك التجلِّي. فهو المتجلي والمتجلّى له. فانظر ما أعجب أمر الله من حيث هويته، ومن حيث نِسبتُه إلى العالَم في حقائق أسمائه الحسنى(2).
ويقول:
فلولاه ولولانا ... ... لما كان الذي كانا
فإنا أعبدٌ حقّا ... ... وإن الله مولانا
وإنا عينُه فاعلم ... ... إذا ما قلت إنساناً
فلا تُحجب بإنسان ... ... فقد أعطاك برهانا
فكن حقًّا وكن خلقاً ... ... تكن بالله رحمانا
وغذّ خلقَه منه ... ... تكن رَوْحاً وريحانا
فأعطيناه ما يبدو ... ... به فينا وأعطانا
فصار الأمر مقسوماً ... ... بإياه وإيانا
فكنا فيه أكواناً ... ... وأعياناً وأزماناً(3)
__________
(1) جزء من حديث مشهور يستغله الصوفية في غير معناه الحقيقي.
(2) الفصوص، (فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية)، (ص:121).
(3) الفصوص، (فص حكمة نبوية قي كلمة عيسوية)، (ص:143).(1/140)
ويقول: ...((لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)) [الأنبياء:22]، وإن اتفقا، فنحن نعلم أنهما لو اختلفا تقديراً لنفذ حكم أحدهما، فالنافذُ الحُكْمِ هو الِإله على الحقيقة، والذي لم ينفذ حكمه ليس بإِله، ومن هنا نعلم أن كل حكم يَنْفُذ اليوم في العالم أنه حكم الله عز وجل، وإن خالف الحكْمَ المقرر في الظاهر المسمى شرعاً، إذ لا ينفذ حكم إلا لله في نفس الأمر، لأن الأمر والواقع في العالَم إنما هو على حكم المشيئة الِإلهية، لا على حكم الشرع المقرَّر، وإن كان تقريره من المشيئة، ولذلك نفذ تقريره خاصة، فإن المشيئة ليست لها فيه إلا التقرير، لا العمل بماجاء به، فالمشيئة سلطانها عظيم...فلا يقع في الوجود شيء ولا يرتفع خارجاً عن المشيئة، فإن الأمر الِإلهي إذا خولف هنا بالمسمى (معصية) فليس إلا الأمْرَ بالواسطة، لا الأمر التكويني، فما خالف الله أحدٌ قط في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة، فَوَقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة، فافهم، وعلى الحقيقة، فأمر المشيئة إنما يتوجه على إيجاد عين الفعل، لا على من ظهر على يديه، فيستحيل ألا يكون(1)...
- أرجو من القارئ أن يتسلى بتحليل النص بهدوء.
__________
(1) الفصوص، (فص حكمة وحودية في كلمة داودية)، (ص:165).(1/141)
ويقول: ...فإن العقل إذا تجرد لنفسه...وإذا أعطاه الله المعرفة بالتجلي، كملت معرفته بالله، فنزَّه في موضع وشبَّه في موضع، ورأى سريان الحق في الصور الطبيعية والعنصرية، وما بقيت له صورة إلا ويرى عينَ الحق عينَها. وهذه المعرفة التامة التي جاءت بها الشرائع المنزلة من عند الله، وحكمت بهذه المعرفة الأوهام كلها، ولذلك كانت الأوهام أقوى سلطاناً في هذه النشأة من العقول(1)...وبه جاءت الشرائع الِإلهية فشبهت ونزهت، شبهت في التنزيه بالوهم، ونزهت في التشبيه بالعقل، فارتبط الكل بالكل(2)...
- في هذا النص نتبين ماذا يعني الصوفية عندما يقولون: إن طريقهتم أو طرقهم مقيدة بالشريعة، فهم يفهمون الشريعة على هذا المنوال، كذلك يتبين لنا بوضوح ما معنى عبارتهم (الكل بالكل) عندما نسمعها في مثل قولهم: (فناء الكل بالكل، أو بقاء الكل بالكل، أو وجود الكل بالكل، أو ارتباط الكل بالكل...).
وبتوضيح: يقولون: إن طرقهم مقيدة بالشريعة على أساس المنهج التأويلي المبينَّ بعضه في هذا النص، وأرجو من القارىء أن يحلله بنفسه بهدوء؛ لأن تحليل بضعة نصوص تحليلاً صحيحاً يفيد في التمكن من العبارة الصوفية أكثر من قراءة بضعة كتب.
__________
(1) الفصوص، (فص حكمه إيناسية في كلمة إلياسية)، (ص:181).
(2) الفصوص، (فص حكمه إيناسية في كلمة إلياسية)، (ص:181).(1/142)
ويقول: ...ولما كان الاستواء الِإلهي على القلب من باب (وسعني)(1)، صارت الألوهية غيباً في الِإنسان، فشهادتُه إنسان، وغيبه إله، ولسريان الألوهية الغيبية في هذا الشخص الِإنساني، أدَّعى الألوهية بالاسم الإله، فقال فرعون: ((مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)) [القصص:38].. وصرح بالربوبية لكونها لا تقوى قوة الألوهية، فقال: ((أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)) [النازعات:24]، بخلاف من قالها عن الحال، من طريق الأمر بمساعدة المشيئة، فكان جمعاً، مثل أبي يزيد حين قال: (إنني أنا الله لا إله الا أنا فاعبدوني)، وقال مرة: (أنا الله)، فلم يكن للألوهية فيه موضع فراغ ترمي سهمها فيه لكمال السريان(2)...
- في هذا النص ردّ ملجم للذين حاولوا -ويحاولون- خداعاً، تأويل أقوال أبي يزيد البسطامي! وتصريحُ بعقيدة سريان الِإلهية في المخلوقات.
ويقول: ...ونحن من جانب الحقيقة في عين ((وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا)) [مريم:9]، و((لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا)) [الإنسان:1]، فكأنا لم تكن، فلا أولية إذن ولا آخرية، إذ لا نحن فبقي هو خاصة وهو المطلوب(3).
- هذه الفقرة تساعدنا وتوضح لنا معنى عبارتهم: (إذا كان كما كان قبل أن يكون)، و(كان ولم تكن وهو اليوم كما كان) و(أفن من لم يكن يبق من لم يزل) وما شابهها.
__________
(1) إشارة إلى الحديث القدسي الذي يقول فيه (...ووسعني قلب عبدي المؤمن).
(2) رسائل ابن عربي، (كتاب الجلالة)، (ص:5).
(3) رسائل ابن عربي، (كتاب الجلالة)، (ص:5).(1/143)
ويقول: لما كان مرِتبة الإمكان بما تحويه الممكنات غيباً، ولها الظلمة، وكانت الممكنات هي التي تتعين في النور الوجودي، ويظهر أحكام بعضها للبعض بالحق وفيه، وهو سبحانه لا قيدَ له ولا تميز، كان المثال بالواقع في الوجود مطابقاً للأصل، فالمداد مع الدواة نظير مرتبة الِإمكان وما حوته من الممكنات، من حيث إحاطة الحق بها وجوداً وعلماً، وحقائقُ الممكنات كالحروف الكامنة في الدواة، وإليه الِإشارة بقوله: (كان الله ولا شيء معه)(1)، ونحوه قولي.
وليس في الغيب الذاتي الِإلهي تعدد ولا تعين وجودي، والورق وما يُكتَب فيه كانبساط النور الوجودي العام الذي يَتعين فيه صور الموجودات، والكتابة سر الِإيجاد والِإظهار، والواسطة والآلة القلمُ الِإلهي، والكاتب الحقّ، من حيث كونه موجداً وخالقاً وبارئاً ومصوراً(2)...
- في هذا النص يتبين لنا مرادهم باستعمال الأسماء الحسنى (موجد، خالق، بارىء، مصور...وغيرها).
ويقول:
أنضِ الركابَ إلى رب السماوات ... ... وانبذْ عن القلب أطوارَ الكرامات
واعكف بشاطىء وادي القدس مرتقباً ... ... واخلعْ نعاليك تحظى بالمناجاة
وغب عن الكون بالأسماء متصفاً ... ... حتى تغيبَ عن الأوصاف بالذات(3)
__________
(1) رسائل ابن عربي، (رسالة الشيخ إلى الإمام الرازي)، (ص:12).
(2) رسائل ابن عربي، (رسالة الشيخ إلى الإمام الرازي)، (ص:12).
(3) رسائل ابن عربي، (كتاب الِإسرا)، (ص:36).(1/144)
- بعد أن وضح لنا ابن عربي كل السر، وأكثَرَ الأساليب التي يستعملونها، نستطيع أن نعرف، بوضوح أيضاً، في هذه الأبيات معاني العبارات الواردة فيها (أنض الركاب إلى رب السماوات) المرادفة لـ (السير إلى الله) و(العكوف بشاطىء وادي القدس)، وقد عرفنا آنفاً معنى (خلع النعلين)، ونعرف الآن ما معنى (الغياب عن الكون) و(الاتصاف بالأسماء) و(الغياب عن الأوصاف بالذات)، وعلينا أن نحفظها لأنها تستعمل كثيراً كثيراً، وكلها تعني (التحقق بالألوهية)، أو بوضوح أكثر: (العمل للوصول إلى الجذبة التي تجعلك تذوق شيئاً فشيئاً معاني الألوهية، حيث تعرف، بالذوق، أن الخالق هو نفس المخلوق)، وهو ما يُسمَّى: (وحدة الوجود).
ويقول ابن عربي أيضاً:
رأيتُ الحق في الأعيان حقًّا ... ... وفي الأسماء فلم أره سوائي
ولستُ بحاكم في ذاك وحدي ... ... فهذا حكمه في كل رائي
وعند المثبتين خلافُ هذا ... ... ... هو الرائي ونحن له المرائي(1)
ويقول:
الخلق تقديرٌ وليس بكائنٍ ... ... والمبْدَعاتُ هي التي تتكون
الروح والكلمات شيء واحد ... ... والحق فيه هو الذي يتعينَّ(2)
ويقول:
تجسدتُ أسمائي فكنتُ كثيراً ... ... ولم يرني غيري فكنت بصيرا
فيا قائلاً بالغير أين وجودُه؟ ... ... وأين يكون الغير؟ كنتَ غيورا(3)
ويقول:
مَن ستر الحقَّ ولم يُفشه ... ... فذلك الشخص الذي قد كَفَر
تبارك الله الذي لم يزل ... ... يَظْهر فيما قد بدا من صور
فإنه منشئها دائماً ... ... في كل ما يَظْهر أو قد ظَهَر(4)
ويقول:
فليس إلا عينه بالخبر ... ... وليس إلا غيره بالبصر
إن قيل هُوْ قيل لهم ليس هُوْ ... ... لأنه مطلوبكم بالفِكَر
أو قيل ما هوْ. قيل هُوْ إنه ... ... عين الذي تشهده في البصر(5)
ويقول أيضاً:
__________
(1) الفتوحات المكية: (3/549).
(2) الفتوحات: (3/553).
(3) الفتوحات: (3/361).
(4) الفتوحات (3/375).
(5) الفتوحات: (3/376).(1/145)
وقد أتى في الصلاة حُكْم ... ... منه بتقسيمه المثاني
فقال بيني وبين عبدي ... ... فمن رآه فقد رآني
فلست غير إله ولا هُوْ ... ... لوحدتي في الوجود ثاني(1)
ويقول:
عِنْديَّة الحق عينُ ذاته ... ... فهي لأشيائه خزائن
ينزل منها الذي يراه ... ... فهي لما يحتويه صائن
إنزاله لم يُزِله عنها ... ... لأنه أعينُ الكوائن(2)
وكل هذه الآبيات واضحة كل الوضوح فيما يخص عقيدة وحدة الوجود. ومعها أبيات أترك تحليلها للقارىء ليدرب نفسه على فهم نصوصهم أينما وردت.
ويقول أيضاً:
لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورة ... ... فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبةُ طائف ... ... وألواحُ توراةٍ ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ... ... ركائبه فالحب ديني وإيماني(3)
- وبدهي أن هذه العقيدة تنبثق من (وحدة الوجود)، ولنعلم أنه كان ينشر هذا الكلام في زخمة الحروب الصليبية.
ويقول جلال الدين الرومي(4)، مؤسس الطريقة المولوية:
نَفْسي، أيها النور المشرق، لا تَنْء عني لا تَنْءَ عني
حبي، أيها المشهد المتألِّق، لاتَنْءَ عني لاتَنْءَ عني
انظرْ إلى العمامة أحكمتُها فوق رأسي
بل انظر إلى زنار زرادشت حول خصري
أحملُ الزنار، وأحمل المخلاة(5)
لا بل أحمل النور، فلا تَنْءَ عني، لا تَنْءَ عني
مسلمٌ أنا، ولكني نصراني وبرهمي وزرادشتي
توكلتُ عليك أيها الحق الأعلى، فلا تَنْءَ عني لا تَنءَ عني
ليس لي سوى معبدٍ واحد، مسجداً كان أو كنيسة أو بيت أصنام
ووجهك الكريم فيه غاية نعمتي، فلا تَنْءَ عني لاتَنْء عني(6)
* ملحوظات:
__________
(1) الفتوحات: (3/535).
(2) الفتوحات: (3/193).
(3) ديوان ترجمان الأشواق، ومحاضرة الأبرار، (ص:402).
(4) مؤسس الطريقة المولوية، بلخي انتقل إلى سيواس، ثم إلى تركيا، ومات في قونية سنة: (672هـ).
(5) جملة (وأحمل المخلاة) يشير بها إلى الهندوسية، لأن البراهمة منهم يحملون المخلاة للاستجداء.
(6) في التصوف الاسلامي وتاريخه، (ص:94).(1/146)
- التشابه واضح بين هذا الكلام وكلام ابن عربي السابق، وعقيدة وحدة الوجود، هي التي ترى كل الأديان صحيحة؛ لأن كل المعبودات هي الله وكل شيء هو الله.
- ولنا أن ننتبه إلى قوله: (نفسي أيها النور المشرق لا تنء عني)، ثم سيره بخطابه لنفسه حتى يقول: (أيها الحق الأعلى لا تنء عني)، حيث نلاحظ أسلوباً جديداً في العبارة وتدرجها، ولننتبه إلى العبارة (لا تنء عني).
ويقول جلال الدين الرومي أيضاً:
مجهول أنا عند نفسي، بربك خبِّرني ما العمل
ولا بهذا الكون ولا ذاك، ولا في الجنة ولا النار موطني
ولا طردت من عدن ولا يزدان، ولا من آدم أخذت نسبتي
بل من مقام ما أبعده من مقام، وطريق خفي المعالم
تجردت عن بدني وروحي، فمن جديد أحيا في روح محبوبي(1).
- ما يجب ملاحظته قوله: (من مقام ما أبعده من مقام، وطريق خفي المعالم)، وقوله: (فمن جديد أحيا في روح محبوبي).
ويقول أيضاً:
يظهر الجمال الخاطف كل لحظة في صورة، فيَحْمِلُ القلبَ ويختفي، في كل نفسٍ يظهر ذلك الصديق في ثوب جديد، فشيخاً تراه تارة وشاباً تارة أخرى... انظر إليه وقد خرج من طينة الفخار، وانتشر في الوجود، ظهر بصورة نوح وأغرق الدنيا بدعاء منه...وفي نهاية المطاف ظهر بصورة عربي، ودان له ملك العالم...ذلك الجميل فتان القلوب قد ظهر بصورة سيفٍ في كف علي، وأصبح البتَّار في زمانه، لا لا! بل هو الذي ظهر في صورة إنسان، وصاح أنا الحق، ليس (منصور) هو الذي صُلِبَ على الدار، ولو ظن الجاهلون خلاف ذلك(2)...اهـ. (منصور هو الحلاج).
ويقول: أنا سَرِقَة اللصوص، أنا ألم العصا، أنا السحاب وأنت الغيث، أنا الذي أمطرتُ في المروج(3)...
ويقول على لسان قطبٍ يخاطب البسطامي:
__________
(1) في التصوف الِإسلامي وتاريخه، (ص:95).
(2) في التصوف الِإسلامي وتاريخه، (ص:105)، (106).
(3) فىِ التصوف الِإسلامي وتاريخه، (ص:152).(1/147)
إن الله هو ما تراه فيَّ بعين قلبك؛ لأنه اختارني بيتاً له، فإذا رأيتَني فقد رأيته، وطفْتَ حول الكعبة الحنفية، وإذا عبدتَني فقد عبدتَه وسبَّحت له، فلا تظنَّ أنني شيء غيره(1).
* ملحوظة: الكلام -وخاصة النص الأخير- واضح جدّاً.
ويقول الشيخ أرسلان الدمشقي(2):
كلّك شرك خفي، ولا يبين توحيدك إلا إذا خرجتَ عنك، فكلما أخلصتَ يُكْشَفُ لك أنه هو، لا أنت، فتستغفر منك، وكلما وحّدْتَ بان لك الشرك، فتجدّد فى كل ساعة ووقتٍ توحيداً وإيماناً، وكلما خرجتَ عنهم زاد إيمانك، وكلما خرجتَ عنك قوي يقينك...اليقين الأقوم في غيبتك عنك ووجودك به، فكم بين ما يكون بأمره وبين ما يكون به، إن كنت قائماً بأمره خَضَعت لك الأسباب، وإن كنتَ قائماً به تضعضعت لك الأكوان...ما صلُحت لنا وفيك بقية لسوانا، فإذا حوّلتَ السّوى عنك، أفنيناك عنك، فصلُحْت لنا وأودعناك سرَّنا. إذا لم يبق عليكَ حركة لنفسك كمل يقينك، وإذا لم يبق لك وجودٌ عندك كمل توحيدُك...إذا أفناك عن هواك بالحكمة وعن إرادتك بالعلم صرتَ عبداً صرفاً لا هوى لك ولا إرادة، فحينئذ يكشف لك، فتضمحلَّ العبودية في الوحدانية، فيفنى العبد ويبقى الرب تعالى، الشريعة كلها قبض، والعلم كله بسط، والمعرفة كلها دلال...إذا زال هواك يكشف لك عن باب الحقيقة، فتفنى إرادتك، فيكشف لك عن الوحدانية، فتحققتَ به أنه هو، بلا (أنت معه)...إن جئت بلا (أنت) قَبِلَك، وإن جئت بك حجبك...الخلق حجاب، وأنت حجاب، والحق ليس بمحجوب، وهو محتجب عنك بك، وأنت محجوب عنك بهم، فانفَصِلْ عنك تشهده، والسلام(3).
__________
(1) في التصوف الِإسلامي وتاريخه، (ص:157).
(2) مات في دمشق سنة: (541هـ).
(3) مقتطفات من رسالة الشيخ أرسلان من كتاب (شروح رسالة الشيخ أرسلان).(1/148)
- في هذا النص، يبين الشيخ أرسلان أن التحقق بالألوهية لا يكون إلا بنسيان كل شيء على الإطلاق، حتى الإحساس بالذات، وهذا مثل قولهم: (اخلع نعليك)، وسيأتي شرح لبعض عباراته.
ويقول عمر بن الفارض:
فلم تهوني ما لم تكن في فانياً ... ... ولم تفن ما لم تجتلي فيك صورتي
- إنه يشرح معنى (الفناء) بقوله: (تجتلي فيك صورتي)، أي: تصير صورتك صورة الله!
أممت إمامي في الحقيقة فالورى ... ... ورائي وكانت حيث وجهت وجهتي
يراها أمامي في صلاتي ناظري ... ... ويشهد في قلبي أمام أئمتي
ولا غرو أن صلى الإمام إلي أن ... ... ثوت في فؤادي وهي قبلة قبلتي
وكل الجهات الست نحوي توجهت ... ... بما تم من نسك وحج وعمرة
لها صلواتي بالمقام أقيمها ... ... وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ساجد إلى ... ... حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم يكن ... ... صلاتي لغيري في أداء كل ركعة
فأفنى الهوى ما لم يكن ثم باقياً ... ... هنا من صفات بيننا فاضمحلت
فألفيت ما ألقيت عني صادراً ... ... إلي ومني وارداً بمزيدتي
خرجت بها عني إليها فلم أعد ... ... إلي ومثلي لا يقول برجعة
جلت في تجليها الوجود لناظري ... ... ففي كل مرئي أراها برؤية
وأشهدت عيني إذ بدت فوجدتني ... ... هنالك إياها بخلوة خلوتي
ففي الصحو بعد المحو لم أك غيرها ... ... وذاتي بذاتي إذ تحلت تجلت
فوصفي إذ لم تدع باثنين وصفها ... ... وهيأتها إذ واحد نحن هيأتي
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... ... منادى أجابت من دعائي ولبت
وإن نطقت كنت المناجي كذاك إن ... ... قصصت حديثاً إنما هي قصت
فقد رُفعت تاء المخاطب بيننا ... ... وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي
فإن لم يجوّز رؤية اثنين واحداً ... ... حجاك ولم يثبت لبعد تثبِّت
سأجلو إشاراتٍ عليك خفيةً ... ... بها كعباراتٍ لديك جلية
وما شان هذا الشأن منك سوى السوى ... ... ودعواه حقاً عنك إن تُمحَ تُثبت(1/149)
كذا كنت حيناً قبل أن يكشف الغطا ... ... مناللبس لا أنفك عن ثنوية
أرح بفقد بالشهود مؤلِّفي ... ... وأغدو بوجد بالوجود مشتَّتي
يفرقني لبّي التزاماً بمحضري ... ... ويجمعني سلبي اصطلاماً بغيبتي
ومن فاقتي سكراً غنيت إفاقة ... ... لدى فرقي الثاني فجمعي كوحدتي
فجاهد تشاهد فيك منك وراء ما ... ... وصفت سكوناً عن وجود سكينة
وفارق ضلال الفرق فالجمع منتج ... ... هدى فرقة بالاتحاد تحدت
وصرح بإطلاق الجمال ولا تقل ... ... بتقييده ميلاً لزخرف زينة
من معاني البيت الأخير: كل شيء هو الله وكل العقائد صحيحة، وكل معبود هو الله..
وما زلتُ إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
وليس معي في الملك شيء سواء والـ ... معية لم تخطر على ألمعيتي
نفي المعية في هذا البيت يوضح أنه لا يريد من كلمة (الاتحاد) حيثما أوردها إلا (الوحدة):
ولكن لصد الضد عن طعنه على ... ... علا أولياء المنجدين بنجدتي
رجعت لأعمال العبادة عادة ... ... وأعددت أحوال الإرادة عدتي
في البيتين الأخيرين اعتراف جريء من الشيخ بأنه كان قد قطع العبادة، ثم رجع إليها لتكون عادة لا عبادة، وليصد بها الأضداد (أهل الشريعة) عن الطعن على الأولياء مثله، وهذا مثل قول الغزالي الذي مر في صفحة سابقة تماماً:
وهذبت نفسي بالرياضة ذاهباً ... ... إلى كشف ما حجب العوائد غطت
متى حلت عن قولي (أنا هي) أو أقل ... ... وحاشا لمثلي (أنها فيَّ حلَّت)
منحتك علماً إن ترد كشفه فرد ... ... سبيلي واشرع في اتباع شريعتي
فنبع صداء من شراب نقيعه ... ... لدي فدعني من سراب بقيعة
واضح أنه يعني بقوله: (سراب بقيعة) كل ما ليس من سبيله ولا من شريعته التي هي (وحدة الوجود) وبذلك تكون الشريعة الإسلام هي من (السراب البقيعة).
وكل الورى أبناء آدم غير أنـ ... ... ـي حزت (صحو الجمع) بين أخوتي
ومن (أنا إياها) إلى حيث (لا إلى) ... ... عرجت وعطرت الوجود برجعتي(1/150)
وغيري على الأغيار يثني وللسوى ... ... سواي يثني منه عطفاً لعطفتي
ومبدأ إبداها اللذان تسببا ... ... إلى فرقتي والجمع يأبى تشتتي
هما معنا في باطن الجمع واحد ... ... وأربعة في ظاهر الفرق عدت
- يبين في البيت الأخير وما قبله معنى الجمع والفرق.
ولم أَلهُ باللاهوت عن حكم مظهري ... ... ولم أنس بالناسوت مظهر حكمتيي
قول:إنه في الحكم إله وفي المظهر إنسان، وإنه يعي ذلك ولم ينسه.
تحققت أنا في الحقيقة واحد ... ... وأثبت (صحو الجمع) محو التشتت
إذا ما أزال الستر لم تر غيره ... ... ولم يبق بالأشكال إشكال ريبة
فأشكاله كانت مظاهر فعله ... ... بستر تلاشت إذ تجلى وولت
- يقول: إن فعل الله هو أشكاله التي يظهر بها والتي تتلاشى عندما يتجلى.
تنزهت في آثار صنعي منزهاً ... ... عن الشرك بالأغيار جمعي وألفتي
فبي مجلس الأذكار سمع مطالع ... ... ولي حانة الخمار عين طليعة
وما عقد الزنار حكماً سوى يدي ... ... وإن حل بالإقرار بي هي حلت
وإن نار بالتنزيل محراب مسجد ... ... فما بار بالإنجيل هيكل بيعة
وأسفار توراة الكليم لقومه ... ... يناجي بها الأحبار في كل ليلة
وإن خر للأحجار في البد عاكف ... ... فلا وجه للإنكار بالعصبية
فقد عبد الدينار معنى منزه ... ... عن العار بالإشراك بالوثنية
وما زاغت الأبصار من كلِّ ملةٍ ... ... وما زاغت الأفكار في كل نحلة
وما اختار من للشمس عن غرة صبا ... ... وإشراقها من نور إسفار غرتي
وإن عبد النار المجوس وما انطفت ... ... كما جاء في الأخبار في ألف حجة
فما قصدوا غيري وإن كان قصدهم ... ... سواي وإن لم يظهروا عقد نيتي
- يقول: كل شيء حق، وكل العبادات حق، وكل العقائد حق، فعابد البد (أي: الصنم) وعابد النار والنصراني واليهودي والمسلم كلهم على حق، وعلينا أن نلاحظ أن هذه الأقوال قيلت في زخمة الحروب الصليبية.
ويقول ابن سبعين في الرسالة النورية مخاطباً تلميذه:(1/151)
وجميع ما توجه الضمير إليه اذكره به ولا تبال، وأي شيء يخطر ببالك سمه به، من اسمه (الوجود) كيف يخص بأسماء منحصرة؟ هيهات! الله لا اسم له إلا الاسم المطلق أو المفروض، فإن قلت: نسميه بما سمى به نفسه أو نبيه، يقال لك: من سمى نفسه (الله) قال لك: أنا كل شيء، وجميع من تنادي أنا. وقد يصعب عليك هذا فعسى أن تسلم أنه معك بالعلم والفعل، فإذا سلمت هذا تسلم أن الذي استجاب لك هو الوجود، فإذا سلمت ذلك فعجل بذلك، ولا تكن كذلك فما يحق لك ذلك؛ يا هالك يا مالك انظر من حالك وقل بعد ذلك: يا حق يا أبد يا راحم يا أحد يا أكبر يا واجب الوجود، الذي الوجود ووحدته واحد، يا ماهية كل ماهية، يا آنية كل آنية.. لا شيء عندي إلا أنت.. لأن الكذب لا يجوز على الله ولا مع الله، ولا شيء أكذب من لسان الإضافة، ولا شرك أقبح من شركها... ولا يعتبر المحقق في ذلك إلا الله، وبد البد، والهو هو.
يعني بقوله: (لسان الإضافة) إضافة شيء إلى الله، مثل (عبد الله، أو مخلوقات الله...) أو إضافة الله إلى شيء، مثل: (خالق الكون..) لأن الإضافة تعني الاثنينية، أي وجود اثنين، خالق ومخلوق وهذا عند الصوفية كذب وشرك لأنه لا موجود إلا الله، والكون هو الله.
ويقول في إحدى رسائله:
... واضرب عن الوهم والحس والخيال والعادة، واخرج عن لواحقك ومحمولك وموضوعك... واطلب واحدك بوحدتك، واخرج عن وترك الخاص بك كما خرجت عن شفعك التابع لك، حتى يبقى الواحد. (أقول: هذا الكلام مثل كلام الشيخ رسلان).
وكان ابن سبعين يقول هو وأصحابه في ذكرهم: (ليس إلا الله) بدل قول المسلمين: (لا إله إلا الله).
ويقول في أحد الفصول التالية لـ(ملاحظات على بد العارف):
يا هذا، غض بصر إدراكك عن غير الله، ثم قل لنفسك: ياخسيسة المنزلة، متى ثبت سواه؟ حتى تستريبي فيه وتغضي بصرك عنه! هو الله.. فلا هو إلا هو ولا يمكن غير ذلك. اهـ.(1/152)
- أرجو الانتباه والتدقيق في معنى العبارة الأخيرة: (... ولا يمكن غير ذلك).
ويقول: ...لو كان فيهما موجود غير الله لكان الله وبالوهم لفسدت...
ويقول:
كم ذا تموّه بالشعبين والعلم ... ... والأمر أوضح من نار على علم
وكم تعبر عن سلع وكاظمة ... ... وعن زرود وجيران بذي سلم
ظللت تسأل عن نجد وأنت بها ... ... وعن تهامة هذا فعل متهم
في الحي حي سوى ليلى فتسأله ... ... عنها سؤالك وهم جر للعدل
ويقول:
ليس من فوه بالوصل له ... ... مثل من سير به حتى وصل
لا ولا الواصل عندي كالذي ... ... قرع الباب وللدار دخل
لا ولا الداخل عندي كالذي ... ... سارروه وهو للسر محل
لا ولا من سارروه كالذي ... ... صار إياهم فدع عنك العلل
فمحوه عنه فيهم فانمحى ... ... ثم لما اثبتوه لم يزل
ذاك شيء علق القلب به ... ... لو تجلى ذاك للخلق قتل
ويقول في (رسالة الإحاطة):
رب مالك وعبد هالك، ووهم حالك، وحق سالك، وأنتم ذلك! اختلط في الإحاطة الزوج مع الفرد، واتحد فيه النجو مع الورد، واتفق فيه السقر مع القر، وبالجملة السبت هو يوح الأحد، والموحد هو عين الأحد، ويوم الفرض هو يوم العرض، والذاهب من الزمان هو الحاضر، والأول في العيان هو الآخر، والباطن في الجَنَان هو الظاهر، والمؤمن في الجِنان هو الكافر، والغني هو الولي، والفقير هو الغني، وهذه وحدات حكمية، لا أحداث وهمية.
يريد بقوله: (عبد هالك) أي: لا وجود للعبد؛ والنجو هو الغائط.
ويقول في إحدى رسائله:
الله فقط، الله المستعان والمستعين، والإعانة معنى فيه في كونه معيناً ومستعيناً، والحمد لله في الأزل والأبد ولي المجد، ومن هو بهما عين الحامد والحمد... ولا حول ولا قوة إلا بالساري بذاته في أفعاله عن أسمائه بصفاته، أحب فتسمى بالحي، وأحاط فتسمى بالعالم... هو عين كل ظاهر، فحق له أن يتسمى بالظاهر، وهو معنى كل معنى فحق له أن يتسمى بالباطن.
ويقول في رسالة ثانية:(1/153)
استمع لما يوحى ويستقرا... من أبصر مقصوده كف عن سواه لأنه سواه، وشرط من سري واستوى قطع وهم السوى، فمن قربه الله يقول: الله فقط... ويحرر قضيته البسيطة بإطلاق الهوية على الآنية.
- للتذكير: الهوية من قولهم: (هو) إشارة إلى الله سبحانه، والآنية إشارة إلى المخلوقات التي هي تعينات.
ويقول الششتري:
ما للحجاب مكان في وجودكم ... ... إلا بسر حروف انظر إلى الجبل
أنتم دللتم عليكم منكم ولكم ... ... ديمومة عبرت عن غامض الأزل
عرفتم بكم هذا الخبير بكم ... ... أنتم هم يا حياة القلب يا أملي
ويقول (زجلاً):
لقد أنا شيء عجيب ... لمن رأني ... ... أنا المحب والحبيب ... ... ليس ثم ثاني
يا قاصداً عين الخبر ... ... غطاه أينك ... ... الخمر فيك والخبر ... ... والسر عندك
ارجع لذاتك واعتبر ... ... ما ثم غيرك
ويقول أيضاً:
لقد فشا سري بلا مقال ... ... وقد ظهر عني في ذا المثال
ترى وجود غيري من المحال ... ... وكل ما دوني خيال في
متحد في كل شيء ... ... أنا هو المحبوب وأنا الحبيب
والحب لي مني شيء عجيب ... ... وحدي أنا فافهم سري غريب
فمن نظر ذاتي رآني شيء ... ... وفي حلا ذاتي طواني طي
صفاتي لا تخفى لمن نظر ... ... وذاتي معلومة تلك الصور
أفنَ عن الإحساس ترى عبر ... ... في السر والمعنى خفيت كي
لأنه مني ستر علي(1)
يعلق ابن عجيبة على هذه الأشعار بعد شرحها، فيقول: وقد اتفقت على هذا المعنى، وهو سر الوحدة، مقالات العارفين، ومواجيد المحبين، وأشعارهم كل على قدر ذوقه وشربه، جزاهم الله عنا وعن المسلمين خيراً، ولا يفهم هذه العبارات إلا أهل الأذواق والإشارات(2)...
ويقول الششتري أيضاً:
محبوبي قد عم الوجود ... ... وقد ظهر في بيض وسود
وفي النصارى مع اليهود ... ... وفي الخنازير مع القرود
وفي الحروف مع النقط ... ... أفهمني قط أفهمني قط
عرفته طول الزمان ... ... ظهر لي في كل أوان
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:42).
(2) إيقاظ الهمم، (ص:43).(1/154)
وفي المياه وفي الدلوان ... ... وفي الطلوع وفي الهبوط
أفهمني قط أفهمني قط(1)
- قوله هنا: (وفي الخنازير مع القرود)، هو مثل قول قائلهم: (وما الكلب والخنزير إلا إلهنا)(2)، ومثل قول ولي الله الدهلوي: ولا يهولنك صدور الكائنات الدنسية من سنخ القدوسية، ومثل قول ابن سبعين: واتحد فيه النجو مع الورد، ومثل قول مصطفى العروسي: الظاهر في كل المراتب، الخسيس منها والشريف، ومثل قول عبد القادر الجيلاني الذي ينسبه لابن عباس: في كل شيء اسمٌ من أسمائه واسم كل شيء اسمه، ومثل قول أحمد الرفاعي: إن لله تعالى بعدد كل شيء خلقه أسماء. وغيرهم وغيرهم.
- وقبل الانتقال إلى غيره، نستشير متصوفةً كباراً آراءهم بهذا الششتري، فمن أقوالهم فيه:
1- كان الششتري يذكر في أزجاله قوله: شيوخي هم شاذلية(3). وكان ذلك في حياة أبي الحسن الشاذلي وتلميذه أبي العباس المرسي.
2- قَبِل الشاذليةُ إلى حد ما أشعاره في حضراتهم واحتضنوها(4).
3- عبر ابن عباد الرتدي(5) في رسائله الكبرى عن إعجابه بأزجال الششتري وموشحاته، وهو ينصح مريديه الشاذلية بقراءتها، ويقول عنها: وكلام الششتري عندي أقرب مأخذاً من كلام ابن سبعين، وأما أزجاله ففيها حلاوة وعليها طلاوة(6).
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:43).
(2) النفحات الأقدسية، (ص:338).
(3) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:174).
(4) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:174).
(5) محمد بن إبراهيم بن أبي بكر.. ابن عباد النفري الرندي، من رندة جنوبي الأندلس من شيوخ الشاذلية توفي سنة (792هـ)، ممن تأثربه، القديس يوحنا الصليبي من صوفية المسيحيين.
(6) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:174).(1/155)
4- شرح الشيخ أحمد زروق(1)، وهو من كبار الشاذلية، بعض أشعار الششتري ووصفه بقوله: الشيخ العارف، أحد الصوفية، من أبناء الملوك ثم صار من سادات الصوفية، كان يقرأ عليه القرآن والسنن، عارف بالحديث، وأما علم الأسرار والأنوار والحِكَم والأذواق، فحاز فيه قصب السبق(2)...
5- ويقول أبو العباس الغبريني(3):
الشيخ الفقيه الصوفي الصالح العابد الأديب أبو الحسن علي النميري الششتري من الطلبة المحصلين، ومن الفقراء المنقطعين، له معرفة بالحكمة، ومعرفة بطريق الصالحين الصوفية، وله تقدم في علم النظم والنثر على طريق التحقيق، وشعره في غاية الانطباع والملاحة، وتواشيحه ومقفياته ونظمه الزجلي في غاية الحسن(4).
6- ويقول عنه ابن عجيبة الحسني:
...وكذلك قصة الششتري رضي الله عنه مع شيخه ابن سبعين، لأن الششتري كان وزيراً وعالماً، وأبوه كان أميراً، فلما أراد الدخول في طريق القوم قال له شيخه: لا تنال منها شيئاً حتى تبيع متاعك وتلبس قشابة وتأخذ بنديراً وتدخل السوق، ففعل جميع ذلك، وقال له: ما نقول في السوق. فقال: قل: بدأت بذكر الحبيب، فدخل السوق يضرب بنديره ويقول: بدأت بذكر الحبيب، فبقي ثلاثة أيام، وخرقت له الحجب، فجعل يغني في الأسواق بعلوم الأذواق، ومن كلامه رضي الله عنه:
شويخ من أرض مكناس ... ... في وسط الأسواق يغني
آش علي من الناس ... ... وآش على الناس مني(5)
__________
(1) الشيخ أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي الشهير بزروق، كان قطباً غوثاً، توفي سنة (899هـ).
(2) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:174).
(3) المؤرخ الفقيه صاحب عنوان الدراية، توفي سنة (714هـ).
(4) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:170).
(5) إيقاظ الهمم، (ص:28).(1/156)
إذن فالششتري من كبار القوم وشيوخهم وعارفيهم، يذكرون اسمه مصحوباً بـ(رضي الله عنه)، ويأخذون أقواله حكماً ونبراساً ومعارف، وما دام هو كذلك، فشهادته كافية لتزكية أي شخص عند القوم، وهو يزكي شيخه ابن سبعين، بل يقدسه ويدعوه بكعبة الحسن وكنز حياته وشمسها وبدرها ومحيي الرسم، وممد الذات، وذات الخير، وكمية السعادة، وإكسير الذوات، ومغناطيس النفوس(1).
ويقول أبو الحسن الشاذلي:
إنا لننظر إلى الله ببصر الإيمان والإيقان، فأغنانا عن الدليل والبرهان، وإنا لا نرى أحداً من الخلق، فهل في الوجود أحد سوى الملك الحق، وإن كان ولا بد فكالهباء في الهواء، إن فتشتهم لم تجدهم شيئاً(2).
- لنلاحظ أن أبا الحسن الشاذلي يصرح بالاستغناء عن الدليل والبرهان؟! وطبعاً يكون الدليل والبرهان من القرآن والسنة، والحق عنده هو ما يراه بالكشف! كما أن وحدة الوجود ظاهرة في النص.
ويقول: إذا أردت الوصول إلى الطريق التي لا لون فيها، فليكن الفرق في لسانك موجوداً والجمع في سرك مشهوداً(3).
وقد مر هذا النص فيما سبق، ولننتبه إلى قوله: التي لا لون فيها.
ويقول: ...من الأولياء مَنْ يسكر من شهود الكأس ولم يذق بعد شيئاً، فما ظنك بعد ذوق الشراب وبعد الري؟ واعلم أن الري قل من يفهم المراد به، فإنه مزج الأوصاف بالأوصاف، والأخلاق بالأخلاق، والأنوار بالأنوار، والأسماء بالأسماء، والنعوت بالنعوت، والأفعال بالأفعال(4).اهـ.
- أي: إن الري هو التحقق بالألوهية الكاملة بكل معانيها.
ويقول: أبى المحققون أن يشهدوا غير الله تعالى لما حققهم به من شهود القيومية وإحاطة الديمومية(5). اهـ.
- من مثل هذا النص نعرف معنى عبارة (وحدة الشهود).
__________
(1) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:172).
(2) إيقاظ الهمم، (ص:44).
(3) طبقات الشعراني (2/7).
(4) طبقات الشعراني (2/8).
(5) طبقات الشعراني (2/9).(1/157)
ويقول: لا يتزحزح العبد عن النار إلا إن كف جوارحه عن معصية الله، وتزين بحفظ أمانة الله، وفتح قلبه لمشاهدة الله، ولسانه وسره لمناجاة الله، ورفع الحجاب بينه وبين صفات الله، وأشهده الله تعالى أرواح كلماته(1).
ويقول: العلوم التي وقع الثناء على أهلها، وإن جدت فهي ظلمة في علوم ذوي التحقيق، وهم الذين غرقوا في تيار بحر الذات، وغموض الصفات، فكانوا هناك بلا هُمْ، وهم الخاصة العليا الذين شاركوا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام في أحوالهم(2).
- يجب الانتباه إلى قوله: فكانوا هناك بلا (هُمْ)، الذي مر معنا مثله، وإلى العبارتين الجديدتين علينا: (غرقوا في تيار بحر الذات) و(وغرقوا في غموض الصفات). وفي النص السابق عبارة: رفع الحجاب بينه وبين صفات الله. وهي واضحة تماماً من حيث المعنى. ثم لننتبه إلى هذا الأسلوب في محاربة العلم: (العلوم...وإن جلت فهي ظلمة...).
ويقول: فإذا أمدَّه الله تعالى بنور ذاته، أحياه حياة باقية لا غاية لها، فينظر جميع المعلومات بنور هذه الحياة؛ ووجد نور الحق شائعاً في كل شيء، لا يشهد غيره(3)...
- لننتبه إلى قوله: (أحياه حياة باقية لا غاية لها)، فما هي هذه الحياة الباقية؟ المعنى واضح، ففي حياتنا الدنيا لا حياة باقية إلا لله، فيكون معنى (أحياه حياة باقية..)، أي: حققه بالألوهية، ونرى مثل هذه العبارة كثيراً في نصوصهم.
__________
(1) طبقات الشعراني (2/10).
(2) طبقات الشعراني (2/11).
(3) طبقات الشعراني (2/12).(1/158)
ويقول: ...فبينما هم كذلك، إذ ألبسهم ثوب العدم، فنظروا فإذا هم لا (هُمْ)، ثم أردف عليهم ظلمة غيبتهم عن نظرهم، فصار نظرهم عدماً لا علة له، فلا معرفة تتعلق به، اضمحلت المعلومات، وزالت المرسومات زوالاً لا علة فيه، وبقي من أشير إليه، لا وصف له ولا صفة ولا ذات، واضمحلت النعوت والأسماء والصفات، وكذلك فلا اسم له ولا صفة ولا ذات، فهنالك ظهر من لم يزد ظهوراً لا علة فيه، بل ظهر بسره لذاته في ذاته، ظهوراً لا أولية له، بل نظر من ذاته لذاته في ذاته، وهناك يحيا العبد بظهوره حياة لا علة لها، وصار أولاً في ظهوره، لا ظاهراً قبله، فوجدت الأشياء بأوصافه، وظهرت بنوره في نوره سبحانه وتعالى، ثم يغطس بعد ذلك في بحر بعد بحر إلى أن يصل إلى بحر السر، فإذا دخل بحر السر غرق غرقاً لا خروج له منه أبد الآباد، فإن شاء الله تعالى بعثه نائباً عن النبي صلى الله عليه وسلم، يحيي به عباده، وإن شاء ستره، يفعل في ملكه ما يشاء، فهذا عنبرة من طريقَي الخصوص والعموم. فتنبه(1).
ويقول أبو العباس المرسي(2)، تلميذ أبي الحسن الشاذلي:
قال لي الشيخ أبو الحسن: يا أبا العباس، ما صحبتك إلا لتكون أنت أنا وأنا أنت(3).
- هذا الكلام اعتراف من المرسي بأنه يسير على قدم أستاذه، فهما من عقيدة واحدة، وهذا بدهي.
ويقول: لو كان الحق سبحانه وتعالى يرضيه خلاف السنة، لكان التوجه في الصلاة إلى القطب الغوث أولى من التوجه إلى الكعبة(4).
ويقول: لو كشف عن نور الولي لعبد من دون الله(5)!؟! (ولا تعليق).
ويقول ابن عطاء الله السكندري(6) في حِكَمِه:
__________
(1) طبقات الشعراني (2/12).
(2) مرت ترجمته، مات عام (686هـ).
(3) طبقات الشعراني (2/14).
(4) طبقات الشعراني (2/14).
(5) إيقاظ الهمم، (ص:156)، ولطائف المنن، (ص:95).
(6) مرت ترجمته توفي سنة (707هـ).(1/159)
لا ترحل من كون إلى كون، فتكون كحمار الرحى يسير، والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل عنه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون، ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ المُنْتَهَى)) [النجم:42](1).
- قوله: لا ترحل من كون إلى كون...ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون. هو تماماً مثل قول عبد القادر الجيلاني الذي مر معنا:..إلى متى الدنيا؟ إلى متى الآخرة؟ إلى متى سوى المولى؟.. إذ المعنى واحد تماماً، وكذلك هو مثل قوله: اخلع نعليك: دنياك وآخرتك..، لكن يزيد عليه إن الذي يبتغي الآخرة يكون كحمار الرحى (كانت الطواحين تدار بالحمير)، إذ إن حمار الرحى يدور، يدور ثم يرجع إلى مكانه، وهكذا طالب الآخرة عند السكندري؟!
ويقول: لا تترك الذكر لعدم حضور قلبك مع الله فيه، لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره، فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع غيبة عن ما سوى المذكور، وما ذلك على الله بعزيز(2).
- في هذا النص يتضح لنا معنى المصطلح (حضور) ومعنى العبارة (غيبة عن ما سوى المذكور..)، وسنشاهدهما كثيراً في كتبهم.
ويقول: إنما أورد عليك الوارد لتكون به عليه وارداً(3).
أورد عليك الوارد ليتسلمك من يد الأغيار وليحررك من رق الآثار(4).
أورد عليك الوارد ليخرجك من سجن وجودك إلى فضاء شهودك(5).
- في هذه النصوص، يتبين لنا معنى (الوارد). وبدهياً، أننا الآن نعرف بدقة معنى العبارات (لتكون به عليه وارداً، ليتسلمك من يد الأغيار وليحررك من رق الآثار، ليخرجك من سجن وجودك إلى فضاء شهودك). فهي كلها تعني (شهود وحدة الوجود)، ويعني بالآثار شهود الخلق.
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:72).
(2) إيقاظ الهمم، (ص:79).
(3) إيقاظ الهمم، (ص:86).
(4) إيقاظ الهمم، (ص:86).
(5) إيقاظ الهمم، (ص:86).(1/160)
ويقول: فمن رأى الكون ولم يشهده فيه أو عنده أو قبله أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحُجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار(1). مما يدلك على وجود قهره سبحانه أن حجبك عنه بما ليس بموجود معه(2).
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر بكل شيء(3)!
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر في كل شيء(4)! كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الظاهر لكل شيء(5). كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو أظهر من كل شيء(6)! كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ليس معه شيء(7)!
- لنركيف يقدم ابن عجيبة (الذي يشرح حكم ابن عطاء الله) هذه التعجبات! إنه يقول: ...ثم استدل (أي: ابن عطاء الله) على بطلان وجود الحجاب في حقه تعالى بعشرة أمور، متعجباً من كل واحد، لظهوره مع خفائه، أي لشدة ظهوره عند العارفين، وشدة خفائه عند الغافلين الجاهلين، فأشار إلى الأول بقوله: كيف نتصور أن يحجبه شيء...، ومعنى هذا الكلام، أن الحجاب الذي يحجب الحق تعالى عن الغافلين الجاهلين هو الوهم فقط، لأن الحق ظاهر شديد الظهور، لكنه اختفى عن الغافلين بسبب غفلتهم وجهلهم. فهم يظنون أن المخلوقات هي غير الله. وهذا باطل عند العارفين.
- ويعلق ابن عجبية على قول ابن عطاء الله: وهو الذي أظهركل شيء، شارحاً فيقول: والظاهر هو الباطن، ما بطن في عالم الغيب هو الذي ظهر في عالم الشهادة، فحياض الجبروت متدفقة بأنوار الملكوت:
انظر جمالي شاهداً ... ... في كل إنسان
الماء يجري نافداً ... ... في أس الأغصان
تجده ماءً واحداً ... ... والزهر ألوان
يا عجباً كيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف(8)...
__________
(1) إيقاظ الهمم (ص:40).
(2) إيقاظ الهمم (ص:41).
(3) إيقاظ الهمم (ص:43).
(4) إيقاظ الهمم (ص:43).
(5) إيقاظ الهمم (ص:43).
(6) إيقاظ الهمم (ص:44). موجودة كلها في حاشية لطائف المنن (ص:603).
(7) إيقاظ الهمم (ص:44). موجودة كلها في حاشية لطائف المنن (ص:603).
(8) إيقاظ الهمم (ص:43).(1/161)
- ويشرح قوله:..وهو الذي ظهر بكل شيء، فيقول: بباء الجر، أي تجلى بكل شيء، فلا وجود لشيء مع وجوده، فكيف يحجبه شيء، والفرض أن لا شيء. قال صاحب العينية(1) رضي الله عنه:
تجليت في الأشياء حين خلقتها ... ... فها هي ميطت عنك فيها البراقع(2)
- ويشرح قوله: ...وهو الظاهر قبل وجود كل شيء، فيقول: فكل ما ظهر فمنه وإليه، فكان في أوله ظاهراً بنفسه، ثم تجلى لنفسه بنفسه، فهو الغني بذاته عن أن يظهر بغيره، أو يحتاج إلى من يعرفه غيره، فالكون كله مجموع، والغير عندنا ممنوع(3).
- ويشرح قوله: ...وهو الواحد الذي ليس معه شيء، فيقول: لتحقق وحدانيته أزلاً وأبداً، كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان، أإله مع الله، تعالى الله عما يشركون، أفي الله شك، فكل ما ظهر للعيان فإنما هو مظاهر الرحمن، قال صاحب العينية:
تجلى حبيبي في مرائي جماله ... ... ففي كل مرأى للحبيب طلائع
فلما تجلى حسنه متنوعاً ... ... تسمى بأسماء فهن مطالع
فالحق تعالى واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، فلا شيء قبله ولا شيء بعده ولا شيء معه(4).
- هذا النص الأخير يبين مرادهم من قولهم: توحيد الذات وتوحيد الصفات وتوحيد الأفعال التي تعني كلها وحدة الوجود.
ويقول ابن عطاء الله:
ما حجبك عن الله وجود موجود معه، إذ لا شيء معه، ولكن حجبك عنه توهم موجود معه(5).
من عرف الحق شهده في كل شيء، ومن فني به غاب عن كل شيء، ومن أحبه لم يؤثر عليه شيئاً(6). إنما حجب الحق عنك شدة قربه منك، إنما احتجب بشدة ظهوره، وخفي عن الأبصار لعظيم نوره(7).
قبل الانتقال من حكم (بل نقم) ابن عطاء إلى غيرها يجب أن نعرف قيمتها عند القوم.
__________
(1) هو عبد الكريم الجيلي المتوفي سنة (805هـ).
(2) إيقاظ الهمم (ص:43).
(3) إيقاظ الهمم (ص:44).
(4) إيقاظ الهمم (ص:44).
(5) إيقاظ الهمم، (ص:199).
(6) إيقاظ الهمم، (ص:235).
(7) إيقاظ الهمم، (ص:236).(1/162)
يقول ابن عجيبة: سمع شيخ شيخنا مولاي العربي (أي: الدرقاوي) رضي الله عنه يقول: سمعت الفقيه البناني يقول: كادت حكم ابن عطاء الله أن تكون وحياً، ولو كانت الصلاة تجوز بغير القرآن لجازت بكلام الحكم أو كما قال(1).
كما أنها تدرس في مساجد المسلمين، يدرسها علماء لهم شهرة، ويحمل بعضهم ألقاباً علمية.
ويقول ابن عطاء الله أيضاً:
..((قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)) [الإسراء:110]، وإن تعددت الأسماء، فالمقصود منها واحد، وهو الله، وكل الأسماء هي صفته ونعته، وهو أولها وأصلها، والأسماء كلها سرت في العالم سريان الأرواح في الأجساد، وحفت منه محل الأمر من الخلق، ولزمته لزوم الأعراض للجواهر، فإنه ما من موجود دق أو جل، علا أو سفل، كثف أو لطف، كثر أو قل، إلا وأسماء الله جل وعز ذكره محيطة به عيناً ومعنى، ومقتضى اسم الألوهية جامع لجميعها(2)...
* الملحوظة:
قوله: فإنه ما من موجود دق أو جل، علا أو سفل...إلى آخر النص، هو مثل ما مر في صفحة سابقة من قولهم: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا...وبقية العبارات. ويقول إبراهيم الدسوقي(3):
من أُدخل دار الفردانية، وكشف له عن الجلال والعظمة، بقي هو بلا هو(4)....ويقول: وهي في الحقيقة لعامر بن عامر البصري، ولكن نوردها على أنها له احتراماً لكشف العارفين:
تجلى لي المحبوب في كل وجهة ... ... فشاهدته في كل معنى وصورة
وخاطبني مني بكشف سرائري ... ... فقال: أتدري من أنا؟ قلت: منيتي
فأنت مناي بل أنا أنت دائماً ... ... إذا كنت أنت اليوم عين حقيقتي
وأنظر في مرآة ذاتي شاهداً ... ... لذاتي بذاتي وهي غاية بغيتي
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:4).
(2) القصد المجرد، (ص:33).
(3) إبراهيم بن أبي المجد بن قريش بن الحسين بن أبي طالب، مات في مصر عام (676هـ).
(4) طبقات الشعراني، (1/167).(1/163)
وما شهدت عيني سوى عين ذاتها ... ... وإن سواها لا يلم بفكرتي
بذاتي تقوم الذات في كل ذروة ... ... أجدد فيها حلة بعد حلة
فليلى وهند والرباب وزينب ... ... وعلوى وسلمى بعدها وبثينة
عبارات أسماء بغير حقيقة ... ... وما لوحوا بالقصد إلا لصورتي(1)
- ومن المفيد إيراد النص التالي...
يقول: أنا موسى عليه السلام في مناجاته، أنا علي رضي الله عنه في حملاته، أنا كل ولي في الأرض خلعته بيدي ألبس منهم من شئت، أنا في السماء شاهدت ربي، وعلى الكرسي خاطبته، أنا بيدي أبواب النار غلقتها، وبيدي جنة الفردوس فتحتها، من زارني أسكنته جنة الفردوس(2)...(ولا تعليق)!
وكتب إلى بعض مريديه، بعد السلام؛ وإنني أحب الولد وباطني خليّ من الحقد والحسد، ولا بباطني شظا، ولا حريق لظى، ولا جوى من مضى، ولا مضض غضا، ولا نكص نصا، ولاسقط نطا، ولا ثطب غطا، ولاعطل حظا، ولا شنب سرى، ولا سلب سبا، ولا عتب فجا، ولا سمداد صدا، ولا بدع رضا، ولا شطف جوا، ولا حتف حرا، ولا خمص خيس، ولا حفص عفص، ولا خفض خنس، ولا حول كنس، ولا عنس كنس، ولا عسعس خدس، ولا جيقل خندس، ولا سطاريس، ولا عيطافيس، ولا هطامرش، ولا سطامريش، ولا شوش أريش، ولا ركش قوش، ولا سملاد نوس، ولا كتبا سمطلول الروس، ولا بوس عكمسوس، ولا انفداد أفاد، ولا قمداد أنكاد، ولا بهداد ولا شهداد(3)...وغيرها كثير من هذه الهذيانات التي يسمونها: (علماً لدنياً).
__________
(1) طبقات الشعراني، (1/182).
(2) طبقات الشعراني (1/181).
(3) طبقات الشعراني (1/168).(1/164)
ويقول: أشهدني الله تعالى ما في العلى وأنا ابن ست سنين، ونظرت في اللوح المحفوظ وأنا ابن ثمان سنين، وفككت طلسم السماء وأنا ابن تسع سنين، ورأيت في السبع المثاني معجماً حار فيه الجن والإنس ففهمته، وحمدت الله تعالى على معرفته، وحركت ما سكن، وسكنت ما تحرك بإذن الله تعالى وأنا ابن أربع عشرة سنة(1). ويقول داوُد الكبير بن ماخِلاّ(2):
كلما جدد العبد المؤمن بالصدق حقيقة الإيمان، اقتضى تجديده ذلك فناء عوالم الأكوان(3).
- الرجاء الانتباه إلى ربطه الإيمان بفناء عوالم الأكوان، (أي: وحدة الوجود).
ويقول: ما ظهر متلصص كون إلا عند غيبة حارس المعرفة، ولولاها ما لاح متلصص كون أبداً، وإن شئت قلت تنويعاً لمثل التوصيل: ما لاح كوكب كونٍ إلا عند غيبة شمس المعرفة، ومتى طلعت شمس المعرفة من مشارق التوحيد أفلت كواكب الآثار وغابت نجوم الأغيار(4)...
- عبارات جديدة نراها في هذا النص: (متلصص كون) يعبر بها عن التفرقة، وكأنه يقول: إن الذي يعتقد أن الكون شيء خارج عن الوحدة، إنما هو لص يسرق الكون من الوحدة، وعبارة حارس المعرفة التي يعني بها مقام الجمع. وكذلك بقية العبارات. ويقول: ...فلسان اللسان هواء عن هواء، ولسان القلب داع إلى هدى، ولسان الغيب يشير إلى عالم المحق والفناء، وانطوى الفرع الأدنى في الأصل الأعلى(5).
- الفرع الأدنى هو المخلوق، أو هو الإنسان، هنا، أو هو السالك، إذا أردنا التخصيص، والأصل الأعلى هو الحق سبحانه.
__________
(1) طبقات الشعراني (1/183).
(2) الشيخ داوُد الكبير من ماخلا، شيخ محمد بن وفا الشاذلي، كان شرطياً في بيت الوالي بالإسكندرية في أوائل القرن الثامن الهجري.
(3) طبقات الشعراني (1/191).
(4) طبقات الشعراني (1/191).
(5) طبقات الشعراني (1/192).(1/165)
ويقول: إنما صد الناس عن العارف المحقق، وجود شركهم، لأن العارف يدفع بهم في حضرات الجمع والتفريد، فتفر نفوسهم من حر نار الأنوار إلى ظل ظلال الأغيار(1). ويقول: لو زال منك (أنا) للاح لك من أنا(2).
- يعني بكلمة (أنا) الأولى، ما يسمون في مصطلحهم بالأنية، أي الشعور بالذات كمخلوق، ويعني بـ (أنا) الثانية، ضميراً عائداً على أي متكلم كان (أو على الحق). وكان يقول:
كلما وجه العبد قلبه إلى الله تعالى انجمع، وكلما وجه قلبه إلى الخلق تفرق(3). كل سبب فرقك فقد أفناك وأماتك، وكل سبب جمعك فقد أحياك وأثبتك(4).
ويقول محمد وفا(5) الشاذلي الغوث مؤسس الطريقة الوفائية:
قال لي الحق: أيها المخصوص، لك عند كل شيء مقدار، ولا مقدار لك عندي، فإنه لا يسعني غيرك، وليس مثلك شيء، أنت عين حقيقتي، وكل شيء مجازك، وأنا موجود في الحقيقة، معدوم في المجاز، يا عين مطلعي، أنت الحد الجامع المانع لمصنوعاتي، إليك يرجع الأمر كله، وإلي مرجعك، لأنك منتهى كل شيء، ولا تنتهي إلى شيء، طويت لك الأرضين السبع في سبع من الحب والنوى، المتنوعة بالفعل إلى أصناف من نبات شتى، فإذا شئت على نشرها، أوْلجت فيها جواهر السماء، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ((إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [فصلت:39](6).
__________
(1) طبقات الشعراني (1/193).
(2) طبقات الشعراني (1/149).
(3) طبقات الشعراني (1/196).
(4) طبقات الشعراني (1/196).
(5) محمد وفا، من أكابر العارفين، خاتم الأولياء، صاحب الرتبة العلية، مات سنة (765هـ) في القاهرة.
(6) طبقات الشعراني: (2/22).(1/166)
- هذا العارف محمد وفا يتبع في تصريحه وتبيانه للحقيقة في هذا النص، أسلوب الحلاج والبسطامي وابن عربي وابن الفارض وغيرهم، لكن بشكل معكوس، فالحلاج قال: أنا الله، والبسطامي: أنا أنا، أو سبحاني، وهذا يقول: قال لي الحق، فالحق -سبحانه وتعالى عما يصفون- هو الذي يقول لمحمد وفا: ليس مثلك شيء، أنت عين حقيقتي، يا عين مطلعي، إليك يرجع الأمركله.
ويقول لسان الدين بن الخطيب:
...وإنما وقعت الكثرة بالتفصيل، والأمر في نفسه حقيقة واحدة وما ثم غيرها، الغدير إذا امتلأ عند المطر ملأ جباباً، ثم لم يكن غير الغدير صباباً(1).
ويقول: ...وأول مراتب العلم هو عين الذات، المعبر عنه بحقيقة الحقائق الكلية، وسريانه في كل اعتبار، ففي الإلهية إلهياً، وفي الكونية كونياً، والكل مظاهره...وهو قسمان: ذاتي وحداني، يلازمه الغنى، معناه شهود الذات نفسه من حيث الواحدية، التي هي مظهر للأحدية بجميع الاعتبارات والشئون، معنويها ومثاليها وحسيها، دنيا وبرزخاً وآخرة، دفعة واحدة، من حيث الكل في شهود الحق عيناً واحدة(2).
ويقول علي وفا(3) (ابن محمد وفا) وهو غوث أيضاً:
...لا يصح لأحد أن يقول في استفتاحه ((وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) [الأنعام:79] إلا حتى لا يرى غيره، ولا المصلَّى، ولا القبلة، ولا المناجي، فاجعل ربك مشهودك دون غيره(4).
__________
(1) روضة التعريف، (ص:611).
(2) روضة التعريف، (ص:581).
(3) هو وأبوه من سلسلة الخرقة الشاذلية، مات في مصر سنة (801هـ) حسب طبقات الشعراني، و(807هـ) حسب جمهرة الأولياء وشذرات الذهب وغيرها.
(4) طبقات الشعراني: (2/23).(1/167)
من أعجب الأمور قول الحق تعالى لسيدنا موسى عليه السلام: ((لَنْ تَرَانِي)) [الأعراف:143]، أي مع كونك تراني على الدوام، فافهم(1). ((وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)) [العنكبوت:45] وهو شهود ذاته وحده لا شريك له، لم يكن شيء غيره فافهم(2).
- قوله: لا يصح لأحد أن يقول: ((وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) [الأنعام:79] حتى لا يرى غيره، هو مثل قولٍ للغزالي أرجو من القارئ أن يتسلى بالبحث عنه.
- وكان يقول في قوله: ((أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)) [فصلت:54]: أي كإحاطة ماء البحر بأمواجه معنى وصورة، فهو حقيقة كل شيء، وهو ذات كل شيء، وكل شيء عينه وصفته، فافهم(3).
وكان يقول في حديث: {أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني} أي: مهما تصورني به من الصور، كنت ممده من أفق تلك الصورة بحكمها، فافهم(4).
وكان يقول: ما عبد عابد معبوداً إلا من حيث رأى له وجهاً إلهياً(5).
وكان يقول في حديث: {فإذا أحببته كنت سمعه. وفي رواية: كنته} ليس المراد به معنى الحدوث في نفس الأمر! لأنه كذلك بالذات، وإنما ذلك ليكون الشهود مرتباً على ذلك الشرط الذي هو المحبة، فمن حيث الترتيب الشهودي جاء الحدوث لا من حيث التقرير الوجودي، فافهم(6).
- قوله: ما عبد عابد معبوداً إلا من حيث رأى له وجهاً إلهياً، يذكرنا بقول الغزالي الذي مر معنا سابقاً وبقول محيي الدين بن عربي..
والحديث: {كنت سمعه} هو من حديث مشهور يستغله الصوفية أبشع استغلال، يحرفون معناه ويعطونه معنى هو في نظر الإسلام كفر.
وكان يقول -وهي عبارات تشير إلى وحدة الوجود يقدمها بين يدي القوم-:
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/23).
(2) طبقات الشعراني: (2/23).
(3) طبقات الشعراني: (2/23).
(4) طبقات الشعراني: (2/32).
(5) طبقات الشعراني: (2/32).
(6) طبقات الشعراني: (2/24).(1/168)
ما عبد الله أحد إلا على الغيب، لكن فتح لك الشرع الذوقي، في الذوق الشرعي المحمدي باباً إلى الجمع، بأن تشهد كل شيء من معبودك، حتى عبوديتك، فتراه هو الذي يجري الأحكام عليك، ويقيمها فيك بقيوميته، فتصير عند شهودك هذا تعبده كأنك تراه، لأنك لو رأيته، رأيته وجودك القائم بجميع صفاتك، وسمى اللسان المحمدي هذا الشهود مقام الإحسان، وليس بعده إلا مقام الإيقان، وهو العيان(1)، فافهم. (أرجو الانتباه إلى معنى: الإحسان، عندهم).
وكان يقول في معنى حديث: {كنت كنزاً لا أعرف...}، يعني: مرتبة التجرد... {فأحببت أن أعرف فخلقت خلقاً...}، أي: قدرت أعياناً تقديرية، {وتعرفت إليهم ودللتهم على كل منها بكل منها، ...فبي عرفوني}، أي: لأني أنا الكل، هذا حقيقة هذا الكلام في التحقيق، وله في الفرقان من معان أُخر، وكل من عند الله، فافهم(2).
وكان يشير أن يكون صدر كل كتاب هو: (بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه...أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وهو هو بما هو، سيدي وربي، وهو مولاي وحسبي، ليس إلا هو)(3)...
وكان يقول:
...فهو تعالى ذات كل موجود، وكل موجود صفته، وليس لها مبدأ أول إلا هو، إذ ليس بعده إلا العدم، والعدم لا يكون مبدأ، سيما لموجود(4).
* ملحوظة هامة:
هذا الكلام ينفي عن الله سبحانه قدرة الإيجاد من العدم! وهو واضح للمتأمل.
وقوله: (هو ذات كل موجود) هو مثل قول الآخر: (وما الكلب والخنزير...أو اجتمع فيه النجو مع الورد، وغيرها).
وكان يقول:
من هو بكل شيء محيط، لا يسعه شيء، هذا ومعه شيء! فكيف بمن هو كل شيء؟ ولم يكن شيء غيره، ويكفيك هذا فاصبر نفسك في جدك أو أثبت التجريد(5).
ويقول عبد الكريم الجيلي:
صفات الله فرقان ... ... وذات الله قرآن
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/27).
(2) طبقات الشعراني: (2/32).
(3) طبقات الشعراني (2/40).
(4) طبقات الشعراني: (2/45).
(5) طبقات الشعراني: (2/42).(1/169)
وفرق الجمع تحقيق ... ... وجمع الفرق وجدان(1)
نعرف الآن أنهم يعنون بعبارة (صفات الله، أو أسمائه) أنها هي المخلوقات بجميع أشكالها وأنواعها.
والجيلي هنا، يعني بكلمة (فرقان) أي مقام التفرقة، أو الفرق، وهو كما نعلم (التفريق بين الخالق والمخلوق). ويعني بكلمة (قرآن) مقام الجمع، وهو جمع الخالق والمخلوق في وحدة، هي الله، وحيثما وردت في كلام القوم عن الحقائق فيريدون بها هذا.
ويقول:
عجباً لذاك الحي كيف يهمه ... ... قحط السنين وأحمد نيسانه
أوج التعاظم مركز العز الذي ... ... لِرحى العلا من حوله دورانه
ملك وفوق الحضرة العليا على الـ ... ... ـعرش المكين مثبثِ إمكانه
ليس الوجود بأسره إن حققوا ... ... إلا حباباً طفحته دنانه
الكل فيه ومنه كان وعنده ... ... تفنى الدهور ولم تزل أزمانه
فالخلق تحت سما علاه كخردل ... ... والأمر يبرمه هناك لسانه
والكون أجمعه لديه كخاتم ... ... في إصبع منه أجل أكوانه
والملك والملكوت في تياره ... ... كالقطر بل من فوق ذاك مكانه
وتطيعه الأفلاك من فوق السما ... ... واللوح ينفذ ما قضاه بنانه
هو نقطة التحقيق وهو محيطه ... ... هو مركز التشريع وهو مكانه(2)
- يظهر في هذه الأبيات، وكأن الجيلي يجعل محمداً صلى الله عليه وسلم هو الله، ولكن حقيقة الأمر ليست كذلك؟ بل هي عقيدة يؤمن بها كل الصوفية دون استثناء! ويسمونها (الحقيقة المحمدية) ويقولون: إن محمداً هو المجلي الأعظم للذات الإلهية، وبتعبير أوضح: هو أعظم جزء في الذات الإلهية، والمسيطر على بقية الأجزاء، سبحانك اللهم.
وظن بعض الباحثين أن (الحقيقة المحمدية) هي عقيدة بعض الصوفية دون بعضهم الآخر، وأخطئوا، فكلهم يعتقدون نفس العقيدة! وسيأتي بيان ذلك، وهي عندهم جزء من عقيدة وحدة الوجود.
ويقول:
الواحدية مظهر للذات ... ... تبدو مجمعة لفرق صفات
__________
(1) الإنسان الكامل: (1/113).
(2) الإنسان الكامل: (1/73).(1/170)
الكل فيها واحد متكثر ... ... فاعجب لكثرة واحد بالذات
هذاك فيها عين ذا وكمثل ما ... ... نباك في حكم الحقيقة هاتي
فهي العبارة عن حقيقة كثرة ... ... في وحدة من غير ما أشتات
كل بها في حكم كل واحد ... ... فالنفي في ذا الوجه كالإثبات
فرقان ذات الله صورة جمعه ... ... وتعدد الأوصاف كالآيات
فاتلوه واقرأ منك سر كتابه ... ... أنت المبين وفيك مكنوناتي(1)
ويقول (من العينية):
خبتني فكانت فن عني نيابة أجل عوضاً بل عين ما أنا واقع فكنت أنا هي، وهي كانت أنا وما لها في وجود مفرد من ينازع بقيت بها فيها ولا تاء بيننا وحالي بها ماض كذا ومضارع وشاهدتني حقاً بعين حقيقتي فلي في جبين الحسن تلك الطلائع فأوصافها وصفي وذاتي ذاتها وأخلاقها لي في الجمال مطالع واسمي حقاَ اسمها، واسم ذاتها لي اسم، ولي تلك النعوت توابع(2). ومنها:
فما ثم من شيء سوى الله في الورى ... ... وما ثم مسموع وما ثم سامع
هو العرش والكرسي والمنظر العلي ... ... هو السدرة اللاتي إليها المراجع
هو الأصل حقاً والرسوم مع الهوى ... ... هو الفلك الدوار وهو الطبائع
هو النور والظلماء والماء والهوى ... ... هو العنصر الناري وهو الطبائع
هو الشمس والبدر المنير مع السها ... ... هو الأفق وهو النجم وهو المواقع
هو المركز الحكمي والأرض والسما ... ... هو المظلم العتام وهو اللوامع
هو الدار وهو الحي والأثل والغضا ... ... هو الناس والسكان وهو المرابع
هو الحكم والتأثير والأمر والقضا ... ... هو العزو والسلطان والمتواضع
هو اللفظ والمعنى وصورة كل ما ... ... يجول من المعقول أو هو واقع
هو الجنس وهو النوع والفصل إنه ... ... هو الواجب الذاتي والمتمانع
هو العرض الطاري نعم وهو جوهر ... ... هو المعدن الصلدي وهو الموائع
هو الحيوان الحي وهو حياته ... ... هو الوحش والإنس وهو السواجع
__________
(1) الإنسان الكامل: (1/43).
(2) الإنسان الكامل (1/61).(1/171)
هو القيس بل ليلى(1) وهو بثينة ... ... أجل نشرها، والخيف وهو الأجارع
هو العقل وهو النفس والقلب والحشا ... ... هو الجسم وهو الروح والمتدافع
هو الموجد الأشيا وعين وجودها ... ... وعين ذوات الكل وهو الموانع
حقائق ذات في مراتب حقه ... ... تسمى باسم الخلق والخلق واسع
ونزهه عن حكم الحلول فما له ... ... سوى، وإلى توحيده الأمر راجع
فيا أحدي الذات في عين كثرة ... ... ويا موجد الأشياء، ذاتك شائع
تجليت في الأشياء حين خلقتها ... ... فها هي ميطت عنك فيها البراقع
قطعت الورى من ذات نفسك قطعة ... ... ولم يك موصولاً، ولا فصل قاطع
فأنت الورى حقاً وأنت إمامنا ... ... وإنك ما يعلو وما هو واضع
وما الخلق في التمثال إلاكثلجة ... ... وأنت بها الماء الذي هو نابع
فما الثلج في تحقيقنا غير مائه ... ... وغير انِ في حكم دعته الشرائع
ولكن يذوب الثلج يرفع حكمه ... ... ويوضع حكم الماء والأمر واقع
تجمعت الأضداد في واحد البها ... ... وفيه تلاشت فهو عنهن ساطع
فكل بهاء في ملاحة صورة ... ... على كل قدٍّ شابه الغصن يافع
وكل اسوداد في تصافيق طرة ... ... وكل احمرار في الطلائع صانع
وكل كحيل الطرف يقتل صبه ... ... بماضٍ كسيف الهند حالٌ مضارع
وكل اسمرار في القوائم كالقنا ... ... عليه من الشعر الوسيم شرائع
وكل مليح بالملاحة قد زها ... ... وكل جميل بالمحاسن بازع
وكل لطيف جل أو دق حسنه ... ... وكل جليل وهو باللطف صادع
محاسن مَنْ أنشاه ذلك كله ... ... فوحّد ولا تشرك به فهو واسع
وإياك لا تلفظ بغيرية البها ... ... فما ثم غير وهو بالحسن بادع
وأطلق عنان الحق في كل ما ترى ... ... فتلك تجليات من هو صانع
وشاهده حقاً فيك منك فإنه ... ... هويتك اللاتي بها أنت دالع
ففي، أينما، حقاً، تولوا وجوهكم ... ... فما ثم إلا الله، هل مَنْ يُطالع
__________
(1) ليستقيم الوزن يجب أن تكون: (بل ليلاه).(1/172)
ودع عنك أوصافاً بها كنت عارفاً ... ... لنفسك فيها للإله ودائع
فقد صح في متن الحديث تخلقوا ... ... بأخلاقه ما للحقيقة مانع
وها هو سمع بل لسان أجل بدا ... ... لنا هكذا بالنقل أخبر شارع
فعم قوانا والجوارح كونه ... ... لساناً وسمعاً ثم رجلاً تسارع
ويكفيك ما قد جاء في الخلق أنه ... ... على صورة الرحمن، آدم واقع(1)
في الأبيات الأخيرة، نرى كيف يفسرون الآية: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)) [البقرة:115]، والحديث: {تخلقوا بأخلاق الله}، وهو حديث موضوع، وكيف يفسرون الحديث: {...فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به ويدَه التي يبطش بها...} كما نرى في الأبيات التي قبلها تقرير الشاعر أن كل شيء هو الله، ونرى استعمالهم لعبارة: دع عنك أوصافاً...أي: دع أوصافك...
ويقول: ثم كتب (أي: الحق سبحانه) على جناح الطير الأخضر، بقلم مداد الكبريت الأحمر، أما بعد؛ فإن العظمة نار، والعلم ماء، والقوى هواء، والحكمة تراب، عناصر بها يتحقق جوهرنا الفرد، ولهذا الجوهر عرضان؟ الأول: الأزل، والثاني: الأبد. وله وصفان؟ الوصف الأول: الحق، والوصف الثاني: الخلق، وله نعتان؟ النعت الأول: القِدَم، والنعت الثاني: الحدوث. وله اسمان، الاسم الأول: الرب، والاسم الثاني: العبد(2)...
ويقول: اعلم أن جميع حقائق الوجود، وحفظها في مراتبها، تسمى الألوهية، وأعني بحقائق الوجود: أحكم المظاهر مع الظاهر فيها، أعني الخلق والحق، فشمول المراتب الإلهية، وجميع المراتب الكونية، وعطاء كل حقه من مرتبة الوجود، هو معنى الألوهية(3)...
__________
(1) فتوح الغيب، (ص:203- 207).
(2) الإنسان الكامل: (1/24).
(3) الإنسان الكامل: (1/37).(1/173)
ويقول:.. واعلم أن الرب في كل موجود وجهٌ كامل، وذلك الوجه على صورة ذلك الموجود، وروح ذلك الوجود على صورة محسوسة وجسد، وهذا الأمر للرب أمر ذاتي...وإلى ذلك الإشارة في قوله: {خلق آدم على صورة الرحمن}، وقوله: {خلق آدم على صورته}، وهذان الحديثان، وإن كانا يقتضيان معاني قد تحدثنا عليها، فإن الكشف أعطانا أنهما على ظاهر اللفظ(1)...
ويقول محمد ين سليمان الجزولي(2) مؤلف دلائل الخيرات: ...اللهم صل على محمد وعلى آله، بَحْرِ أنوارك ومعدن أسرارك...وإمام حضرتك(3).
...اللهم صل على من فاضت من نوره جميع الأنوار(4)......اللهم صل على سيدنا محمد...إنسان عين الوجود، والسبب في كل موجود، عين أعيان خلقك(5)...اللهم صل على سيدنا محمد نور الذات، وسره الساري في جميع الأسماء والصفات،صلى الله عليه وسلم(6)...اللهم صل على محمد الذي هو قطب الجلالة(7)...
- هذة العبارات هي صور عن (الحقيقة المحمدية) واضحة المعنى، ووحدة الوجود واضحة فيها.
ويقول: ...ووفقني لاتباعه.. واجمعني عليه...وارفع عني العلائق والعوائق والوسائط والحجاب(8)...يا هو، يا من لا هو إلا هو، لا إله إلا هو(9)...
- لقد مرت هذه العبارات في الصفحات السابقة وشرحت هناك. إنها كلها تعني (وحدة الوجود).
ويقول زكريا الأنصاري(10) (شيخ الإسلام):
__________
(1) الإنسان الكامل: (2/6).
(2) أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن...ابن سليمان الجزولي السملالي مات سنة (870هـ).
(3) دلائل الخيرات، (ص:76، 99).
(4) دلائل الخيرات، (ص:90).
(5) دلائل الخيرات، (ص:100).
(6) دلائل الخيرات، (ص:233).
(7) دلائل الخيرات، (ص:214).
(8) دلائل الخيرات، (ص:15).
(9) دلائل الخيرات، (ص:223).
(10) زكريا الأنصاري الخزرجي، مات في مصر سنة (926هـ).(1/174)
...قالوا: والفناء على ثلاثة أوجه: فناءٌ في الأفعال: (لا فاعل إلا الله)، وفناء في الصفات: (لا حي ولا عالم ولا قدير ولا مريد ولا سميع ولا بصير ولا متكلم على الحقيقة إلا الله (وفناء في الذات): (لا موجود على الإطلاق إلا الله)، وأنشدوا في ذلك:
فيفنى ثم يفنى ثم يفنى ... ... فكان فناؤه عين البقاء(1)
* ملحوظة: قول الأنصاري هذا، هو أوضح ما قالوه في تعريف الفناءات.
ويقول شارحاً:
...وسئل الجنيد عن هذا، أعني عن قولهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فأنشد جواباً للسائل:
طوارق أنوار تفوح إذا بدت ... ... فتظهركتماناً وتخبر عن جمع
أي: المقامات، أولها طوارق تلوح إذا ظهرت، ونهايتها أنها إذا قويت بعد ظهورها، أظهرت الجمع وكمال الحال وكتمان السر، فأول المقام طوارق، ونهايته جمع، وكمال حال، وكتمان سر، فأشار بالأول إلى مقام الأبرار، وبالثاني إلى مقام المقربين(2)!
ويقول عبد الرحمن العيدروس(3) في مقدمة كتابه لطائف الجود في مسألة وحدة الوجود(4):
باسم الله بداية ونهاية، والحمد لله رواية ودراية، وأصلي وأسلم على الأول والآخر والباطن والظاهر وعلى آله وأصحابه الراتعين في بساتين المظاهر.
أما بعد، فهذه لطائف تتعلق بمسألة الوحدة، القائل بها أهل المعارف.
* ما يلاحظ:
قوله: وأصلي وأسلم على الأول والآخر والباطن والظاهر.
__________
(1) هامش الرسالة القشيرية، (ص:28)، وهامش حاشية العروسي: (2/3).
(2) هامش حاشية العروسي (2/33).
(3) عبد الرحمن بن مصطفى العيدروس، ولد في مدية (تريم) في حضرموت، تنقل ثم استقر في مصر، ومات فيها سنة (1192هـ).
(4) كتاب من (14 صفحة) فقط، والكتابة في أكثر صفحاته لا تتجاوز الصفحة.(1/175)
نعلم أن الأول والآخر والباطن والظاهر هي من صفات الله تعالى، لكنه هنا جعلها صفات للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو ما يسمونه الحقيقة المحمدية إذ يعتبرون أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو المجلي الأعظم للذات الإلهية، أي إن أعظم ظهور لله سبحانه هو في شخص محمد صلى الله عليه وسلم.
والملحوظةالثانية قوله: ...بمسألة الوحدة، القائل بها أهل المعارف، حيث يبين لنا ماذا يعنون بمصطلح (العارف) كما يبين أن أهل المعارف يدينون بوحدة الوجود.
وهو تصريح يشكر عليه.
ويقول في نفس الكتاب (اللطيفة الثالثة):
قال الشيخ الأكبر -نفع الله به- في الباب الثامن والأربعين والمائة من (الفتوحات المكية): الحق خلق، وما الخلق حق!
قال أهل المعرفة -نفع الله بهم-: ذلك لأن الإطلاق الحقيقي ذاتي للحق، فلا تقيده الأكوان بظهور تعيناتها في تجلية المنبسط عليها.
والخلق مقيد، والقيد ذاتي له، لأن الخلق عبارة عن تعين خاص في الوجود المنبسط، اقتضته ماهيته الثابتة.
فلو ارتفع القيد لم يكن خلق، فلا يصح أن يقال: الخلق عين الحق، لأن المقيد الذي يكون القيد ذاتياً له، لا يكون عين المطلق الذي يكون الإطلاق ذاتياً له. بخلاف أن يقال: الحق عين الخلق، فإنه صحيح، لأن المطلق الحقيقي لا تقيده الأكوان، فتجليه فيها لا ينافي التنزيه بـ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11].
- وهكذا أخضعوا الله- جل وعلا- وصفاته لعلم الكلام.
ويقول في نفس الكتاب: (اللطيفة السادسة: علمُ وحدة الأفعال، ووحدة الصفات، ووحدة الذات، من غير مباشرة ذلك ذوقاً وكشفاً وشهوداً، ليس لغير الخاصة، وأما الخواص فلهم مباشرة ذلك كشفاً.
...وإذا كان السالك في مباشرة (وحدة الأفعال) قَدِرَ على طي الأرض واختراق الهواء والمشي على الماء والإشباع بالقليل مكان الكثير والارتواء بالقليل، ونحو ذلك.(1/176)
وإذا كان في مباشرة (وحدة الصفات) سمع في تجلي صفة السمع له جميع الأشياء ناطقة، من جماد ونبات وحيوان، لأنه بالحق يسمع لا بنفسه، وكذلك يبصر في (تجلي صفة البصر له) جميع المُبْصَرات، ولا يحجبه شيء عن شيء، لأنه بالحق يبصر، وكذا جميع بواقيه (أي: بواقي الحديث) كما ورد: فبي يبصر وبي يسمع وبي يبطش إلى آخره.
وإن كان في مباشرة (وحدة الذات) كان بحسبها، لأنها تعود الأسماء الذاتية عنده كالملونة لون إنائه، فيتصف به (أي: بالله) بقبول الألوان كلها؟ فلا يدري العبد من هو لشهود الحق بالحق بلا نسبة شهود له، بل كـ ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) [آل عمران:18] و((وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)) [النساء:79] و((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) [المجادلة:6]، فتتصل الشاهد بالشاهد في جميع المشاهد والشواهد. اهـ.
- وحدة الأفعال: أي ليس في الوجود إلا فاعل واحد، وكل فعل، كائناً ما كان، فهو فعل الواحد الذي لا فاعل غيره، وقد مر معنا معنى مصطلح (فعل الله) عندهم، يعني حركته.
- وحدة الصفات: لا يوجد إلا حي واحد وسميع واحد وبصير واحد ومتكلم واحد...فجميع الذين يتصفون بالحياة والسمع والبصر والكلام و...و...هم واحد، وهو الله.
- وحدة الذات: وهي أن يرى كل الممكنات هي من ذات الحق، ويشرحها عبد الرحمن العيدروس شرحاً أوضح عندما يقول: كـ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) [آل عمران:18].. أي إن الواصل يشهد أنه هو نفسه الله الذي لا إله إلا هو. ويشهد وحدة ذاته وذات كل شيء مع الذات الإلهية مثل: و((وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)) [النساء:79]، أي لا شهيد غيره.(1/177)
ويقول محمد بن عبد الله بن شيخ العيدروس(1):
...فانتبه لنفسك أيها الأخ، وتقرب إلى مولاك بالصدق، تر العجائب فيما بينك وبين الوقوف على كنه الأشياء والاطلاع على أسرارها، إلى أن تنطلق من أسر هواك، وتتجرد عن علائق نفسك، فهناك تشرق عليك أنوار القبول، وتلوح عليك آثار الوصول، فإذا كنت كذلك:
بدا لك سر كان منك اكتتامه ... ... ولاح صباح كنت أنت ظلامه
وكنت حجاب القلب عن سر غيبه ... ... ولولاك لم يطلع عليك ختامه
فمذ غبت عنه حل فيك وطنبت ... ... على موكب الكشف المصون خيامه
وجاء حديث لا يمل سماعه ... ... شهي إلينا نثره ونظامه(2)
ويقول عبد القادر ابن شيخ العيدروس(3):
السائر إلى الله تعالى تتجلى له في أثناء سلوكه أنوار وتبدو له أسرار، فإن أرادت همته أن تقف عندما كشف لها من ذلك، لاعتقاده أنه وصل إلى الغاية القصوى، والنهاية من المعرفة، نادته هواتف الحقيقة: المطلوب أمامك فجد في السير، وإن تبرجت له ظواهر المكونات بزينتها، فمال إلى حسنها وجمالها، نادته حقائقها الباطنة: إنما نحن فتنة فلا تكفر؟ وغض عينيك عن ذلك. وأن إلى ربك المنتهى.
فلا تلتفت في السير غيراً وكل ما ... ... سوى الله غيرٌ فاتخذ ذكره حصناً
وكل مقام لا تقم فيه، إنه ... ... حجاب فجد السير واستنجد العونا
ومهما ترى كل المراتب تجتلى ... ... عليك، فحلْ عنها فعن مثلها حلنا
__________
(1) محمد بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله العيدروس، ولد بمدينة (تريم) بحضرموت، وتخرج بوالده في طريق القوم، ورحل إلى الهند شاباً حيث مات ببندرسوت عام (1031هـ) حسب الإيضاح، أو سنة (1005هـ) حسب أعلام الزركلي.
(2) إيضاج أسرار علوم المقربين، (ص:31)، والشعر لابن العريف صاحب الطريقة العريفية.
(3) قطب العارفين، غوث الواصلين، محيي الدين، عم محمد بن عبد الله السابق، لم أقف على تاريخ وفاته.(1/178)
وقل ليس لي في غير ذاتك مطلب ... ... ولا صورة تجلى ولا طرفة تجنى(1)
قال الجنيد: أدركتُ سبعين عارفاً كلهم يعبدون الله على ظن ووهم، حتى أخي أبا يزيد منهم لو أدرك صبياً من صبياننا لأسلم على يديه. قال سيدي أبو العباس المرسي رضي الله عنه في قوله: يعبدون الله على ظن ووهم. وإنما ذلك أنهم ظنوا أنه من المقامات ما لا يصلح أن يكون فوقه مقام، وليس كذلك، فلو أنهم تحققوا لعلموا أن فوق ذلك المقام مقاماً، إلى ما لا نهاية.
قوله لأسلم على يديه أي: لأنقاد له؟ والإسلام الانقياد، فليكن المريد عالي الهمة والنية حتى لا يكون له التفات إلى غير الله، وتكون النية إلى هذا المقام بإرشاد الشيخ العارف الرداد:
ولو كان لي ما كان في الكون كله ... ... وكانت لي الأكوان بالأمر ساجدة
لما نظرت عيني إليها وما رأت ... ... إذا لم تكن ذاتي لذاتك واحدة
ولسيدي الحبيب الوالد شيخ بن عبد الله العيدروس في المعنى:
لا ترتضِ بالاسم دون مسمه ... ... إن كنت يا ندمان صباً عاشقاً
واعكف على حب الحبيب وذكره ... ... في جمع جمع الجمع لا تتفرقا
وإذا نأى لك قرنه من دونه ... ... لا ترضها وارحل ولا تتعوقا
فهناك نادتك الحقائق لا تقف ... ... فأمامك المطلوب دُم متشوقاً(2)
وقال عبد الله بن أبي بكر العيدروس(3):
...فمن فني عن أفعال نفسه فهو باقٍ بأفعال الله، ومن فني عن صفاته فهو باقٍ بصفات الله تعالى، ومن فني عن ذاته فهو باقٍ بذات الله تعالى، كما قال بعضهم:
وقوم تاهوا في أرض بقفر ... ... وقوم تاهوا في ميدان حبه
فأفنوا ثم افنوا ثم أفنوا ... ... وأبقوا بالبقاء بقرب ربه
__________
(1) الأبيات من قصيدة للششتري.
(2) غاية القرب من مجموعة إيضاح أسرار علوم المقربين، (ص:85).
(3) إمام أئمة الأولياء العارفين، مؤسس الطريقة العيدروسية، من مدينة (تريم) في حضرموت، مات فيها سنة (865هـ).(1/179)
فالأول كما قالوا: فناء صفاته لبقاء صفات الحق، ثم فناؤه عن صفات الحق بشهود الحق، ثم فناؤه عن شهود فنائه باستهلاكه في وجود الحق، وهو فناء الذات في الذات، وهذه حقيقة ((قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ...)) [الأنعام:91] الآية(1).
وقال: فصل في حقيقة عالم التوحيد المبني على التفريد بعد أداء حق التجريد:
وهو أن يفردك الحق بفردانيته، عند استيلاء سلطان الذكر، حتى تخرج من قشور الحروف والصوت، فتفنى بسطوة بقية وجودك الذاكر، وبقية سلطنة إثباته، فثبوت المذكور عن الذكر بدوام الذكر على مقتضى قوله: ((فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)) [البقرة:152]، فيصير حينئذ الذاكر مذكوراً والمذكور ذاكراً، ويستبدل الأين بالعين، والمباينة بالمعاينة، والأنية بالوحدانية، وفني عن نفسه وعن غيره بالكلية في عين جمع الجمعية، فشاهد الذات الحقيقة الصمدية المنزهة عن الجسمية الكثيفة واللطيفة وتوابعها ولوازمها بالكلية، ولا يرى إلا الواحد الحق أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) [الشورى:11] هذا توحيد خواص الخواص.
...فالجذبة تبعده عن أنانيته وتقربه لهويته، إلى أن تورث الجذبة المشاهدة، فالمشاهدة أحضرته معه وغيبته عنه، إلى أن ظهر بالعيان، فالعيان يسحقه والعين تمحقه، ثم يحققه الحق ويزهق باطله، فيكاشف بأنوار غيب الغيب، فيطالع أسرار الملك والملكوت، ويتيه في تيه العظموت والجبروت، حتى تتجلى له شمس الربوبية عن سماء العبودية، فأشرقت أرض البشرية بنور ربها، ويرقى في المقام إلى تلألؤ نور الألوهية المستفاد من الله تعالى: ((اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [النور:35]، ثم نفحة الألطاف الربوبية، وانفتح في عين الشمس باب الهوية، وانغمس فيه المنغمس، ثم لا تسأل:
__________
(1) الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر من مجموعة (إيضاح أسرار علوم المقربين)، (ص:76).(1/180)
قد كان ما كان مما لا أفوه به ... ... فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر
فاستضاءت الآفاق الجسدانية بضوء الشريعة، وظهرت المشكاة النفسانية بلوامع الطريقة، وتنورت الزجاجة القلبية بأنوارحقيقة الروحانية، وأشرق الصباح الروحية بنار نور الألوهية، وبدت شجرة الوحدانية، ونودي موسى السر: ((أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [القصص:30]، فانمحت الجهات، وتلاشت الصور، وانطمس الأبعاض، وانعدمت الأجزاء، وسطعت عزة الوحدانية بتجلي نور الصمدانية الربانية، فتدكدك جبل الإنسانية الروحانية صعقاً، فاحترقت الغيرية بنار الغيرة، وارتفعت الشركة وبقيت الوحدة، متعززاً برداء الكبرياء والعزة، متزراً بإزار العلاء والعظمة، وحده لا شريك له، ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) [القصص:88]، هذا أوان ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) [الأنفال:17]، وهذا وقت ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)) [النجم:3] وهو سر {كنت له سمعاً وبصراً ولساناً، فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق}، ولعمري إن هذا الحال من كوشف بأسرار {كنت كنزاً مخفياً} فلما كشف الغطاء، وذهب الجفاء، ودام اللقاء فـ ((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)) [النجم:11]، وللقلب ما زوى، فرعى في رياض المعرفة...إذ تجافى عن المحاط المطلق المحاط به غيب الغيب المحيط المطلق، فتحقق له: ((أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)) [فصلت:54].
أبان الحق ليس به خفاء ... ... وباح السر وانكشف الغطاء
فنفسي زائل والروح نادت ... ... فلم يبق التكبر والصفاء
بقاء الحق أفنانا فأفنى ... ... بقاء فنائنا، ذاك البقاء
تجلت سطوة الجبروت حتى ... ... فنينا ثم إذ فني الفناء
هذا مقام المعرفة بمشاهدة الحقيقة(1)...
* ملحوظات:
__________
(1) الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر، من مجموعة (إيضاح أسرار علوم المقربين)، (ص:76، وما بعدها).(1/181)
- هناك أخطاء مطبعية، نقلتها على شكلها الصحيح الذي يجب أن تكون عليه أنبه.
- الجملة: (ويستبدل الأين بالعين...والأنية بالوحدانية)، وردت في الكتاب: (.. و.. والأينية بالوحدانية)، وهي غلطة مطبعية.
- (المنزهة عن الجسمية الكثيفة واللطيفة)، وردت: (الكشفية واللطيفة..).
- (فالجذبة تبعده عن أنانيته وتقربه لهويته)، وردت: (...تبعده عن إنابته..).
- (فاحترقت الغيرية بنار الغيرة..)، وردت: (.. بنار الغيرية).
- (متزراً بإزار العلاء..)، وردت: (.. مترزاً..).
- (هذا أوان ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ)) [الأنفال:17])، وردت: (هذا وإن رميت إذ رميت..). - (فلما كشف الغطاء..)، وردت: (فلما كوشف الغطاء..).
ويبرز لنا في هذا النص ما يلي:
أ- دور الجذبة في الصوفية، وأنها هي المطلب.
ب- ما يظهر للسالك أثناء الجذبة، وأن المشاهدة هي في الجذبة.
ج- وحدة الوجود التي يشاهدها في الجذبة.
د- عبارات تشير إلى وحدة الوجود وهي من عباراتهم التي يستعملونها.
هـ- كيف يفسرون بعض الآيات والأحاديث.
والرجاء من القارئ أن يتسلى بتحليل عبارات النص التي تشير كلها إلى وحدة الوجود.
ويقول مجدد الألف الثاني أحمد الفاروقي السرهندي(1):
__________
(1) مؤسس الطريقة المجددية النقشبندية، هندي مات سنة (1034هـ).(1/182)
...وإذا قال هؤلاء الصوفية بنفسهم بأن ذات الحق سبحانه وتعالى لا يُحكم عليها بحكم؟ يكون الحكم عليها بالإحاطة والسريان مخالفاً لهذا القول، والحق أن ذاته تعالى ليس كمثله شيء، لا سبيل لحكم من الأحكام إليها أصلاً، بل في ذلك الموطن الحيرةُ الصرفة والجهالة المحضة، فكيف يتطرق السريان والإحاطة إليها؟ ويمكن الاعتذارمن جانب الصوفية القائلين بهذه الأحكام بأن مرادهم بالذات هو التعين الأول، فإنهم لما لم يقولوا بزيادة ذلك التعيين على المتعين، قالوا لذلك التعين عين الذات، وذلك التعين الأول المعبر عنه بالواحدية سارٍ في جميع الممكنات(1)...
- لتسهيل التحليل، يعني بالإحاطة قولهم: الله محيط بكل شيء، أو بالممكنات، ويشيرون بها إلى وحدة الوجود، وبالسريان قولهم: الله سار في كل الممكنات، أو الأشياء، ويعنون بها وحدة الوجود أيضاً. وطبعاً القول بالإحاطة هو حكم، وكذلك القول بالسريان هو حكم أيضاً، لذلك لا يقولون بها، لأن ذات الحق لا يحكم عليها بحكم. ويعنون بكلمة (المتعين) الجزء من الله (جل الله وعلا)، الذي تشكل أو تعين بالمخلوقات، ويقرر المجدد أنهم لم يقولوا بزيادة التعين (أي: الخلق) على المتعين. فهو هو. والمتعين الأول هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وطبعاً، هذا أسلوب جديد يقدمه المجدد لتقرير وحدة الوجود بأسلوب موهم فيه شيء من التعقيد، أرجو من القارئ أن يحلله بهدوء ليزداد تمرساً باللغة الصوفية، وليتأكد أن العقيدة عندهم التلاعب بالألفاظ.
ويقول الشيخ عبد الغني النابلسي(2) في شرح رسالة الشيخ أرسلان:
واعلم أن الشرك الجلي هو أن يظهر للعبد أو لغيره منه اعتقاد أن مع الله تعالى رباً آخر يستحق العبادة من الخلق، أو مع الله تعالى غيره موصوفاً بصفة مثل صفاته تعالى، أوله فعل كأفعاله تعالى، أو اسم كأسمائه، أوحكم كأحكامه.
__________
(1) المنتخبات من المكتوبات، (ص:10).
(2) دمشقي، توفي في دمشق سنة (1143هـ).(1/183)
والشرك الخفي، هو خفاء شيء، من ذلك على العبد، وهو فيه بسبب استيلاء الغفلة على قلبه، فترى الغافل عن معرفة نفسه جازماً أنه مشارك لله تعالى في الوجود، وفي جميع الصفات التي منها السمع والبصر والعلم والحياة والقدرة والإرادة وغير ذلك، وفي جميع الأسماء التي منها الحليم والكريم واللطيف والعليم إلى آخره، وفي جميع الأفعال كالإيجاد للعبادات والإعدام للمخالفات ونحو ذلك، وفي جميع الأحكام كالجزم بالحرام والحلال على الأمور الداخلة بانفرادها وتشخصها تحت أحكام القرآن والسنة؟ ومع ذلك هو غافل عما هو فيه، غير منتبه لأمره، قاطع بأنه موجود آخر مع الله تعالى، موصوف بأوصافٍ، مسمى بأسامي، له فعال وأحكام تصدر منه(1)....اهـ.
* تبيين:
قوله: إن الشرك الجلي هو:..اعتقاد أنه.. مع الله تعالى غيره موصوفاً بصفة مثل صفاته...يعني: من صفات الله، مثلاً أنه يسمع ويرى، والإنسان كذلك يسمع ويرى، فمن اعتقد أن الإنسان هو غير الله، فقد جعل لله شريكاً في السمع والرؤية، وهكذا بقية الأسماء والصفات، ومنها الوجود، ويجعل هذا شركاً جلياً.
ويجعل من الشرك الخفي أن يكون هذا الاعتقاد بسبب الغفلة.
ويجعل من الشرك الخفي مثلاً، أن يظن إنسان -بسبب الغفلة- أنه مشارك لله في الوجود، فمن ظن أن الإنسان هو غير الله، فقد جعل لله شريكاً في الوجود.. وكذلك من اعتقد أن الأوثان التي تعبد هي غير الله فقد جعل لله شريكاً غيره يعبد.
ويقول عبد الغني النابلسي أيضاً شارحاً لقول الشيخ أرسلان: فكلما أخلصت يكشف لك أنه هو لا أنت: فكلما أخلصت، أي: في خروجك عنك بأن خرجت عن هذا الخروج أيضاً...يكشف لك - بالبناء للمفعول- أي يكشف الله تعالى لك، بأن يظهر فيك وتجده في نفسك المعدومة، وهذا الانكشاف ليس كانكشاف الأشياء المغطاة...
قال أحد العارفين:
__________
(1) شرح رسالة الشيخ أرسلان، (ص:75، 76).(1/184)
توهمت قدماً أن ليلى(1) تبرقعت ... ... وأن حجاباً دونها يمنع اللثما
فلاحت فما أن ثم والله حاجب ... ... سوى أن طرفي كان من حسنها أعمى
أي: هو كشف، لكنه ليس كما يكشف الغطاء عن الآنية، أو الستر عن الباب، بل هو أمر إذا ظهر يرى العبد أن ذلك لم يكن مستتراً بشيء، وإنما الإدراك كان ضعيفاً عن الوصول إليه، فقواه الحق، فأدرك ما كان ظاهراً: أنه...هو، أي: الله سبحانه وتعالى الموجود وحده فقط، بالوجود القديم الخاص به (لا أنت)، أي: لا وجود لك بالكلية، بل أنت عدم محض حينئذ، وإن كنتَ عند ذلك على ما كنت عليه قبل ذلك، من غير تغيير، إلا أن بصيرتك قويت فأدركت ما لم تكن تدرك من قبل(2).. ويقول أيضاً:
قد بالغ في الظهور والكتمان ... ... حتى حارت به أولو العرفان
والسر على التحقيق كالإعلان ... ... قد أودعه في هذه الأكوان(3)
ويقول عبد الغني النابلسي أيضاً:
أنا كل الوجود والكائنات ... ... أنا كل الأرواح كل الذوات
أنا كل العقول بل كل شيء ... ... في جميع الأزمان والأوقات
ليس كل الوجود إلا أسامي ... ... والمسمى بكل ذلك ذاتي
والتباسي عليك حيث لباسي ... ... كل شيء يلقيك في الآفات(4)
- وسيتسلى القارىء بتحليل هذه النصوص، وهي واضحة تماماً.
ويقول الشيخ أحمد الدردير(5) في صلواته:
...وزج بي في بحار الأحدية، وانتشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أحس إلا بها(6)...
__________
(1) يشير بكلمة (ليلى) إلى الحق سبحانه عما يصفون.
(2) شرح رسالة الشيخ أرسلان، (ص 80، 81).
(3) شرح رسالة الشيخ أرسلان، (ص:107).
(4) شرح رسالة الشيخ أرسلان، (ص:175، 176).
(5) أبو البركات أحمد بن محمد بن أحمد العدوي المالكي الشاذلي الخلوتي الملقب بالدردير مات في القاهرة سنة (1201هـ).
(6) كتاب الأوراد الخلوتية (الصلوات الدرديرية).(1/185)
- هذه الفقرة هي جزء من الصلاة المشيشية، والشيخ الدردير يتبناها، ويضعها في أول صلواته، التي هي من الأوراد الخلوتية، إذن فيمكن اعتبارها، وكأنها له.
ويقول (حرف التاء):
...وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وأنعم علينا بتجلي الأسماء والصفات، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وأغرقنا في عين بحر الوحدة السارية في جميع الموجودات، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وأبقنا بك لابثاً في جميع اللحظات...وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وأذقنا لذة تجلي الذات، وأدمها علينا ما دامت الأرض والسماوات(1).
ويقول في منظومة أسماء الله الحسنى:
وهب لي أيا رباه كشفاً مقدساً ... ... لأدري به سر البقاء مع الفنا
وجُد لي بجمع الجمع فضلاً ومنة ... ... وداوِ بوصل الوصل روحي من الضنا
ومن علينا يا ودود بجذبة ... ... بها نلحق الأقوام من كان قبلنا(2)
يشرح الشيخ أحمد الصاوي هذا الكلام، فيقول:
لما كان جمع الجمع ووصل الوصل أعلى من الفناء والبقاء، ترقى إليهما بقوله: وجد لي.. إلخ، واعلم أن لهم مقاماً يقال له: الفناء، ومقاماً يقال له: البقاء والجمع والفرق، ومقاماً يقال له: جمع الجمع، ومقاماً يقال له: الفرق الثاني، ومقاماً يقال له: الوصل، ومقاماً يقال له: وصل الوصل.
فأما المقام الأول الذي هو الفناء، فهو استغراق العبد في الله، حتى لا يشهد شيئاً سوى ذات الله، ويقال لصاحبه: غريق في بحار الأحدية.
__________
(1) كتاب الأوراد الخلوتية (الصلوات الدرديرية).
(2) الأسرار الربانية والفيوضات الرحمانية، (ص:125، وما بعدها).(1/186)
وأما المقام الثاني، وهو البقاء، فهو الرجوع بعد الفناء إلى ثبوت الآثار، بشهود ذات وصفات المؤثر فيها، ويقال لصاحبه: غريق في عين بحر الوحدة، فمُشاهد الأحدية مشاهد للذات دون الأسماء والصفات وآثارها، وهو الفاني، ومشاهد الوحدة مشاهد للذات متصفة بالأسماء والصفات، مثبتاً للآثار، جامعاً بين الحق والخلق، وهذا هو الكمال بعينه، فلذلك قالوا: لا بد لكل فناء من بقاء، ومقام البقاء هذا، هو المسمى بـ (الجمع والفرق)، فجمعه شهوده لربه، وفرقه شهوده لصنعه، وأما جمع الجمع فهو مقام أعلى من البقاء وهو أن يأخذه الحق بعد بقائه، فيسكره في شهود ذاته تعالى، فيصير مستهلكاً بالكلية عما سوى الله تعالى، فمنهم من يبقى بهذه السكرة إلى الموت، كالسيد البدوي رضي الله عنه، ولذلك قال العارفون: إنه جُذب جذبة استغرقته إلى الأبد، ومنهم من يرد إلى الصحو عند أوقات الفرائض والقيام بأمور الخلق، كالسيد الدسوقي وأضرابه، والمؤلف أي الشيخ الدردير رضي الله عنهم، فيكون رجوعاً لله بالله لا للعبد بالعبد، هذا الرجوع يسمى (الفرق الثاني)؟ وأما (الوصل) فهو تلذذ القلب بشهود الحق بعد زوال الحجب الظلمانية والنورانية، فإن دام له الشهود يقال له: (وصل الوصل)، أي الوصل الكامل، كقولهم: (سر السر وعين العين) مبالغة في كمال الشيء(1)...
ويقول الشيخ الدردير:
...فإذا أدركته العناية الإلهية، واستند إلى شيخه بالكلية، ولازم المجاهدة حتى تمكن من الصفات المحمودة، وانقطع عنه عِرْق الرياء، وصارت نفسه ذليلة، واستوى عنده المدح والذم، ودخلت (أي: نفسه) في مقام الفناء، ورضيت بكل ما يقع في الكون من غير اعتراض أصلاً، سميت راضية...
__________
(1) الأسرار الربانية والفيوضات الرحمانية، (ص 125، وما بعدها).(1/187)
ولكن رؤية الفناء والإخلاص ربما أوقع في شيء من الإعجاب فيرجع به القهقرى، فليستعذ بالله من ذلك، مع مداومة الذكر والالتجاء إلى الله، وملحوظة أنه لا يتم له الخلاص إلا بمدد الشيخ، فإذا فني عن الفناء، خلص من رؤية الإخلاص، وتجلى عليه الرضا، وعفا عن كل ما مضى، وتبدلت سيئاتها (أي: النفس) حسنات، وانفتح لها أبواب الأذواق والتجليات، فصارت غريقة في بحار التوحيد...ولذا سميت (مرضية)...إلا أن صاحب الهمة العلية لا يرضى بالوقوف عند هذه المقامات وإن كانت سنية، بل يسير من الفناء إلى البقاء، ويطلب (وصل الوصل) بتمام اللقاء، فتناديه حقائق الأكوان، ((إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)) [البقرة:102]، ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)) [النجم:42] فإذا سار إلى منازل الأبطال وخلف الدنيا وراء ظهره، ناداه بأحسن مقال: ((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبَادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي)) [الفجر:27، 30]...اهـ(1).
* الملحوظات:
- نلاحظ في هذا النص ما يلي:- الدور الأساسي للشيخ في السير وفي الوصول.
- الأوصاف التي يطلقونها على الجذبة وما بعدها (الصفات المحمودة، انقطاع عرق الرياء...).
- دور مداومة الذكر.
- عبارة (صارت غريقة في بحار التوحيد) التي تشير إلى الاستشعار الدائم لوحدة الوجود، أو للألوهية.
- عدم الوقوف عند هذه المقامات، أي الغرق في التوحيد الذي هو مقام الفناء، بل يسير منه إلى البقاء بمداومة الذكر ومدد الشيخ.
- يشير إلى وجوب هذا الانتقال بالعبارة (فتناديه حقائق الأكوان: ((إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)) [البقرة:102].
__________
(1) حاشية العلامة الصاوي شرح الخريدة، (ص:134).(1/188)
ونعرف الآن أن العقيدة الصوفية هي أن الأكوان ليست شيئاً غير الله سبحانه وتعالى، إذن فحقائقها هي أنها تعينات إلهية، أو هي الله جل وعلا، التي تناديه: ((إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)) [البقرة:102]، والنداء هنا مجازي طبعاً، ويجعل الشيخ الفتنة مشيرة إلى استشعار الألوهية حيث يبهت الواصل ويقول: (أنا الله، سبحاني...) إلخ، فيحكمون عليه بالكفر.
والجديد في هذا النص هو فهمهم للآية: ((ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ....)) [الفجر:28] ((فَادْخُلِي فِي عِبَادِي...)) [الفجر:29] أوردها مشيراً بها إلى مقام البقاء الذي يستشعر فيه العارف أنه الله (جل الله وعلا)، ويشاهد بنفس الوقت العبودية، وجملة: ((فَادْخُلِي فِي عِبَادِي)) [الفجر:29] يجعلونها مشيرة إلى رؤية العبودية (أو الفرق)، والجمع مع الفرق هو مقام البقاء.
- ويقول ابن عجيبة(1) شارحاً قول ابن عطاء الله السكندري: الحق ليس بمحجوب عنك، إنما أنت المحجوب عن النظر إليه، إذ لو حجبه شيء لستره ما حجبه، ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر، وكل حاصر لشيء فهو قاهر له، وهو القاهر فوق عباده، يقول: ...قلت: الحق تعالى محال في حقه الحجاب.. فلا يحجبه شيء، لأنه ظهر بكل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، فلا ظاهر معه، ولا موجود في الحقيقة سواه، فهو ليس بمحجوب عنك، وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه، لاعتقادك الغيرية، وتعلق قلبك بالأمور الحسية، فلو تعلق قلبك بطلب المولى، وأعرضت بالكلية عن رؤية السوى، لنظرت إلى نور الحق ساطعاً في مظاهر الأكوان، وصارماً كان محجوباً عنك بالوهم في حق الشهود والعيان، ولله در القائل:
لقد تجلى ما كان مخبى ... ... والكون كله طويت طي
مني علي دارت كئوسي ... ... من بعد موتي تراني حي
__________
(1) أحمد بن عجيبة الدوريس الشاذلي الفاسي، توفي سنة (1224هـ).(1/189)
فالناس كلهم يشاهدون ولا يعرفون، وكلهم في البحر ولا يشعرون، وسمعت شيخنا رضي الله عنه يقول: والله ما حجب الناس عن الله إلا الوهم، والوهم أمر عدمي لا حقيقة له(1).
ويقول ابن عجيبة أيضاً:
...واعلم أن هذه الأوصاف البشرية التي احتجبت بها الحضرة، إنما جعلها الله منديلاً لمسح أقذار القدر (كالنفس والشيطان والدنيا)، فجعل الله النفس والشيطان منديلاً للأفعال المذمومة، وجعل البشرية منديلاً للأخلاق الدنيئة، وما ثم إلا مظاهر الحق وتجليات الحق، وما ثم سواه(2).
ويقول: ...فإذا تكامل إشراق نور الإيقان، وغطى وجود الأكوان، ووقع العيان على فقد الأعيان، ولم يبق إلا نور الملك الديان، كما أشار (أي: ابن عطاء الله) إلى ذلك بقوله: ما حجبك عن الله وجود موجود معه، إذ لا شيء معه، ولكن حجبك عنه توهم موجود معه.
قلت: الحق تعالى ظاهر، ونوره للبصائر باهر، وإنما حجبه مقتضى اسمه الحكيم واسمه القاهر، فما حجبك عن شهود الحق وجود شيء معه: ((أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [النمل:63]، ولكن حجبك عن شهوده توهم وجود موجود معه، ولا شيء معه، وكما كان ولا شيء، بقي ولا شيء(3).
- أرجو أن ينتبه القارىء إلى كيفية تفسيرهم للآية: ((أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ)) [النمل:63].
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:64، 65).
(2) إيقاظ الهمم، (ص:66).
(3) إيقاظ الهمم، (ص:199).(1/190)
ويقول: واعلم أن سر الخصوصية الذي جعله الله في بواطن أوليائه، وستره بظهور وصف بشريتهم، قد يظهره عليهم على وجه خرق العادة، فقد يظهر على وليه من قدرته وعلمه وسائر كمالاته ما تحار فيه العقول، وتذهل فيه الأذهان، لكن لا يدوم ذلك لهم، بل يكون على سبيل الكرامات وخرق العادات، يشرق عليهم شموس أوصافه، فيتصفون بصفاته، ثم يقبض ذلك عنهم فيردهم إلى حدودهم، فنور الخصوصية، وهي المعرفة، ثابت لا يزول، ساكن لا يحول؛ وسرها، وهو كمالاته تعالى، تارة يشرق على أفق بشريتهم فيستنير بأوصاف الربوبية، وتارة ينقبض عنهم فيردون إلى حدودهم وشهود عبوديتهم، فالمعرفة ثابتة، والواردات مختلفة، والله تعالى أعلم(1).
ويقول: ...وقال سيدي علي رضي الله عنه، على قول الشيخ أبي الحسن الشاذلي في شأن الخلق: أراهم كالهباء في الهواء، إن فتشتهم لم تجدهم شيئاً، قال: بل إن فتشتهم وجدتهم شيئاً، وذلك الشيء ليس كمثله شيء يعني: وجدتهم مظاهر من مظاهر الحق، أنواراً من أنوار الملكوت فائضة من بحر الجبروت(2).
- نرى في هذا النص أن عبارات عارفيهم ليست دائماً موافقة لما يريدون، فقد يُخْطِئون ويُخَطِّئون.
ويقول ابن عجيبة أيضاً:
...والتحقيق ما قدمناه من أن التعلق بأوصاف الربوبية يكون في الباطن، والتحقق بأوصاف العبودية يكون في الظاهر، فالحرية في الباطن على الدوام، والعبودية في الظاهرعلى الدوام، فحرية الباطن هي شهود أوصاف الربوبية، وهو معنى التعلق بها؛ لكن إن كان مجاهدةً فهو تعلق، وإن كان طبيعة وغريزة فهو تحقق.
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:157).
(2) إيقاظ الهمم، (ص:166).(1/191)
...والحاصل أن عظمة الربوبية ظهرت في مظاهر العبودية، فمن نظر للعظمة صرفاً تحقق بعظمة الربوبية، ومن نظر بظاهر المظهر تحقق بأوصاف العبودية، والكامل ينظر لهما معاً، فيتحقق بعظمة الربوبية في الباطن، ويتحقق بأوصاف العبودية في الظاهر، فيُعطي كل ذي حق حقه. فالتجمع في باطنه مشهود، والفرق في ظاهره موجود(1)...ويقول: ...اعلم رحمك الله ووفقك للتسليم لأوليائه، أن الحرية إذا تحققت في الباطن، لا بد من رشحات تظهر على الظاهر، فكل إناء بالذي فيه يرشح...ولذلك نجد أهل الباطن رضي الله عنهم، جلهم أقوياء في الظاهر، فربما تصدر منهم مقالات تستخرجها القدرة منهم، فيظن الجاهل بحالهم أن ذلك دعوى وظهور! وليس كذلك. وإنما ذلك رشحات من قوة الباطن لا قدرة لهم على إمساكها، منها ما يكون تحدثاً بالنعم، ومنها ما يكون نصحاً للعباد ليعرفوا حالهم فينتفعوا بهم في طريق الإرشاد، ومن هذا الأمر رفضهم كثير من أهل الظاهر المتعمقون في العبادة أو المتجمدون على ظاهر الشريعة(2)...
- يوضح ابن عجيبة في هذا النص سبب تصريح العارفين بمعارفهم وطبعاً، صار القارئ الآن يعرف معنى عبارة (الحرية)، فهي ضد العبودية، وتحققها في الباطن يعني استشعار السالك أنه ليس عبداً بل هو الله.
ويقول: ...وقال في لطائف المنن: وأشبه شيء بوجود الكائنات إذا نظرت إليها بعين البصيرة وجود الظلال...ومن هاهنا تبين لك أن الحجاب ليس أمراً وجودياً بينك وبين الله تعالى، ولو كان بينك وبينه حجاب وجودي للزم أن يكون أقرب إليك منه! ولا شيء أقرب من الله، فرجعت حقيقة الحجاب إلى توهم الحجاب(3)...
ويقول (معلقاً على قول ابن البنا السرقسطي):
حتى إذا جاء بطور القلب ... ... خوطب إذ ذاك بكل خطب
فقيل لو عرفتني بكوني ... ... قيل إذن فاخلع نعال الكون
__________
(1) إيقاظ الهمم (ص:184).
(2) إيقاظ الهمم (ص:186).
(3) إيقاظ الهمم، (ص:201).(1/192)
يقول: إذا وصل النور، من ناحية المذكور، إلى جبل الطور، وهو قلبك المستور، بحجاب هيبة المذكور، رفع عنه الستور، وخاطبه حينئذ بكل أمر جليل، وسر جليل، فلا تعلم نفس ما خصص به من المساررة، والمصافاة، والمكالمة، والمناجاة، فيناديه لسان الملكوت مترجماً عن عالم الجبروت: يا أيها العبد الشائق إلى حضرتي، لتعاين سر قدرتي، هلا عرفتني بكوني، وقنعت بذلك مني؟ فيقول العبد المشتاق إلى حضرة التلاق: لا أريد إلا وجهك الكريم، ومشاهدة سرك العظيم، فيقول له الحق جل جلاله: إن أردت هذا الخطب الجسيم، والأمر العظيم، فاخلع عنك نعال الكونين، وتخط بقدم همتك نعيم الدارين، فإذا خلعت عنك الحظوط والهوى، فأنت بالوادي المقدس طوى(1). ويقول: ...فأوصاف الربوبية رفيعة القدر عظيمة الشأن، وأوصاف العبودية خسيسة القدر دنيئة المقدار، فلا مناسبة بينهما في القدر، مع تلازمهما في المحل بتحقيق الوحدة، فهما متلازمان في القيام، متضادان في الأحكام(2)...
- هذا القول مثل قولهم: واتحد فيه النجو مع الورد، وقولهم: وفي الخنازير مع القرود.. وغيرها..
ويقول: إذا حققت أن الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، علمت علم يقين أن الأكوان والمكان والزمان لا وجود لها، وأن الحق كما كان وجوده وحده ولا أين ولا مكان، بقي كذلك، لا أين ولا مكان ولا زمان، نورُ أحديته محى وجود الأكوان، فانتفى بوجوده الزمان والمكان، ولم يبق إلا الواحد المنان(3)...
ويقول: ...ثم قال أي ابن البنا السرقسطي:
أو قال بالظهور والحلول ... ... فبدعة يقدح في الأصول
__________
(1) الفتوحات الإلهية، (ص:342).
(2) إيقاظ الهمم، (ص:419).
(3) إيقاظ الهمم، (ص:297).(1/193)
قلت -القائل ابن عجيبة-: مراده بالظهور: ظهور الذات العالية لبصر الحس، حتى تدرك بالبصر الحسي، وقد قال تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) [الأنعام:103]، وإنما تدركه البصيرة، فإذا انفتحت وقوي نورها، استولت على البصر، فصار الحكم لها، فالبصر لا يرى إلا الحس، والبصيرة لا ترى إلا المعنى؟ وقد يتلطف الحس فيصير كأنه معنى، فيكون ما تراه البصيرة في حق العيان، وهو محل الشهود، إذ الحس لا يفارق المعنى، وأما الحلول، فمعناه: إثبات السوى وحلول الألوهية فيه، وهو كفر صراح، فمن ادعى شيئاً من الظهور والحلول فارفضه، فقد أتى ببدعة تقدح في أصول إيمانه والعياذ بالله من الزلل.
ثم قال (أي: السرقسطي):
وقوله أنا الذي أهواه ... ... قبل الفنا عنه فما أقصاه
إذا قال الفقير: أنا من أهوى ومن أهوى أنا، قبل تحقق فنائه، فما أبعده عن الصواب، وإذا تحقق فناؤه، فلا يقول ذلك إلا مع من يصدقه في حاله، وإلا تعرض لقتله(1)...
* تعليق:
يعني بالظهور: الرؤية بالعين المجردة (الحاسة البصرية)، وقد مر معنا معنى الحلول عندهم، وقد يعبرون، في عصرنا هذا، عن الحلول بقولهم: التلبس، وقد سمعت من يقول: إن الولي يتلبسه الله، وفي هذه الحالة، عندما يتكلم الولي، فالمتكلم حقيقة هو الله..، وطبعاً قائل هذا القول هو إنسان جاهل بالصوفية، فالحلول عندهم كفر، وكذلك الاتحاد! لأن هذا وذاك لا يكون إلا بين اثنين، ولا يوجد إلا واحد.
والتعليقات كثيرة، أتركها للقارئ.
ويقول ولي الله الدهلوي(2):
__________
(1) الفتوحات الإلهية، (ص:455، 456).
(2) أبو الفياض ولي الله أحمد بن أبي الفيض عبد الرحيم الدهلوي (نسبة إلى دهلي) شيخ محدثي الهند في القرون الأخيرة، توفي سنة (1176هـ).(1/194)
والفناء إما شفاهي، وإما حجابي، أما الشفاهي فانصباغٌ بحقيقة الذات، لا تجلياته، انصباغاً قوياً تاماً، ويختص برجل شديد، فصوْرة مزاجه لا تنقهر إلا بتكرار التجليات، قوي جذبه لا يغادرحالاً ولا شيئاً إلا غلبه وقهره، ولا يدعه حتى يبلغ الدرجة القصوى.
...وذلك لأنه ربما لم يتحقق الفناء الشفاهي، وحينئذ تظهر النفس في صورة الربوبية، فيعسر زواله، ويعقب خلافه خزياً شديداً في الحياة الدنيا(1).اهـ.
- قوله: فصورة مزاجه، أي: فصورة مزاج الفناء...
- وقوله: ...فيعسر زواله، أي: يعسر زوال ظهور صورة الربوبية، فيبقى الولي يقول عن نفسه: أنا الحق....
- وقوله: ويعقب خلافه خزياً شديداً...، نعلم ما هو هذا الخزي؟ إنه التكفير...والقتل.
ويقول: وأما الخاص، فكل فناء في حضرة الذات، كان مع الصورة المزاجية...وأصل مذهبهم أن يتجشموا عملاً نيرنجياً، وذلك العمل أن يتلطفوا من أنفسهم، فينقدح لهم سر عظيم الشأن، على درجاته.
فأول ما ينقدح استناد الأفعال إلى الله سبحانه، فهناك يتوكل على الله ولا يخاف إلا إياه، وهذا ظَهْرُ السر في الدرجة الأولى، وأما بطنها، فأن يُرى اللهُ سبحانه في عين كل فعل على أن الفعل من أستاره وتقيداته. ووجه أوليتها أن الأفعال على شرف العدم في نفس الأمر، وإنما الموطن العلمي من تمثلات هذا الموطن، وهذه هي (المحاضرة) عندهم.
وثانياً: ينقدح لهم استناد الصفات بأجمعها إليه، فيرى أن كل بصره فهو من بصره، وكل سمع فهو من سمعه، إلى غير ذلك؟ ولعلك حرور باقتناص بطنها ووجه ثانويتها، فهذه هي المكاشفة.
__________
(1) الخير الكثير، (ص:106).(1/195)
وثالثاً: ينقدح استناد الذوات، فيرى أن كل ذات فهو من ذاته، فإذا انتقل إلى بطنها، وهو أن الواجبَ جَلَّ مَجْدُه سَنْخٌ كلِّ موجود، وأن كلَّ موجودٍ مُفاضٌ منه إفاضةً مقدسة، ثم السير إلى الله، وهذه هي (المشاهَدة)، ثم إن جذبات الله تعالى تجاذبه حيناً فحيناً حتى ترتفع الحجب والتقيدات ولا يبقى إلا ذو الجلال والإكرام في وحدته وكبريائه، ويكون المدرَك عين المدرِك، فلا يعلم بالعلم الحضوري إلا الله سبحانه(1)...اهـ.
- مر هذا النص في معناه أكثر من مرة في الصفحات السابقة، ملخصه أن السالك في سيره إلى المعرفة، أي إلى معرفة وحدة الوجود، يمر في ثلاث مراحل:
أولاً: معرفة وحدة الأفعال، حيث يشاهد الواصل ذوقاً واستشعاراً أن كل الحركات التي تجري في الكون هي حركات الواحد وأفعاله، وهذه هي المحاضرة.
ثانياً: معرفة وحدة الصفات حيث يشاهد الواصل أن الصفات جميعها التي يراها المحجوبون صفات لمخلوقات، مثل: سميع، بصير، طويل، عريض، أحمر، أخضر، شجاع، جبان.. هي صفات للواجب جل مجده (حسب تعبير الدهلوي) تظهر فى تعيناته التي يظنها المحجوبون غيره، وهذه هي المكاشفة.
ثالثاً: وحدة الذات، أو وحدة الوجود، وهذه هي المشاهدة، وفي واقع الأمر إن الأصل هو وحدة الوجود، وما وحدة الأفعال ووحدة الصفات إلا نتائج لها.
ويجب أن نعرف أن هذا الترتيب قد يحصل لواصل وقد لا يحصل، وهو تابع، إلى حد ما، لتوجيهات الشيخ وإيحاءاته.
ويقول ولي الله الدهلوي أيضاً:
ولا يهولنك صدور الكائنات الدنسية من سَنْخ القدوسية على سبيل الظهور والتمثل، فإنه لكل متدنس قدوسية هي أقرب من حبك وريده، وهو أبعد منها بما هو هو كبعد المشرقين(2)...اهـ.
- هذه المقولة هي مثل مقولة ابن سبعين: واتحد فيه النجو مع الورد. ومثل مقولة الششتري: وفي الخنازير مع القرود. ومقولة ابن عجيبة: متلازمان في المقام متضادان في الأحكام.
__________
(1) الخير الكثير، (ص:104، 105).
(2) الخير الكثير، (ص:21).(1/196)
ومثل قول قائلهم: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا. وغيرها من الأقوال المماثلة التي مرت والتي ستمر.
ويقول أيضاً مقرراً:
قال الشيخ صدر الدين القونوي(1): الحق سبحانه من حيث وحدة وجوده، لم يصدر عنه إلا الواحد، لاستحالة إظهار الواحد وإيجاده- من حيث كونه واحداً- غير الواحد، وذلك الواحد عندنا هو الوجود العام المفاض على أعيان المكونات ما وجد منها وما لم يوجد مما سبق العلم بوجوده، وهذا الوجود مشترك بين القلم الأعلى الذي هو أول موجود، المسمى بالعقل الأول أيضاً، وبين سائر الموجودات، ليس كما يذكره أهل النظر من الفلاسفة، فإنه ليس ثمة عند المحققين إلا الحق، والعالم ليس بشيء زائد على معلومه لله تعالى أولاً، المتصفة بالوجود ثانياً(2)...اهـ.
* الملحوظات:
نلاحظ في هذا النص ما يلي:
1- وضوح عقيدة وحدة الوجود.
2- إيمان قطبين كبيرين بها: القونوي صاحب النص، والدهلوي الذي أورده مقراً بما فيه.
3- العقيدة الإسماعيلية التي هي أصلاً من اليونانيات: الصدور والفيض والعقل الأول...
4- محاولتهم التوفيق بين الإسلام واليونانيات عندما جعلوا العقل الأول (وهو من اليونانيات) هو القلم الوارد في الحديث الشريف.
5- يخالفون أصحاب اليونانيات (أهل النظر من الفلاسفة) الذين يقولون: إن العقل الأول انفصل عن الحق سبحانه وصار كأنه غيره رغم أنه صدر عنه بالفيض، بينما يقرر المحققون (أي: الصوفية) أنه ليس ثمة إلا الحق، حيث لا وصل ولا فصل ولا غيره. وللعلم: القلم الأعلى الذي هو أول موجود، المسمى بالعقل الأول، هو محمد صلى الله عليه وسلم عندهم.
ويقول الدهلوي أيضاً مقرراً:
__________
(1) صدر الدين محمد بن إسحاق القونوي تلميذ ابن عربي وابن زوجته، له مكاتبات مع نصير الدين الطوسي وزير هولاكو، مات في قونية سنة (673هـ-1275م).
(2) الخير الكثير، (ص:37).(1/197)
قال مولانا عبد الرحمن الجامي(1)- بعدما فضل القول في تسويغ كون الوجود العام المنبسط على هياكل الموجودات عين الواجب جّل مجده بهذه الألفاظ-: الصوفيون القائلون بوحدة الوجود، لما ظهر عندهم أن حقيقة الواجب هو الوجود المطلق، لم يحتاجوا إلى إقامة الدليل على توحده ونفي الشريك عنه (أي: الشريك في الوجود)، فإنه لا يمكن أن يتوهم فيه اثنينية وتعدد من غير أن يُعتبر فيه تعين وتقيد(2)...اهـ.
- في هذا النص يظهر إيمان الجامي والدهلوي بوحدة الوجود، وكلاهما من الأقطاب.
ويقول أحمد زيني الدحلان(3):
...قال أهل المعرفة: إن تجلّي الحق سبحانه وتعالى على الدوام، ولا يمنع من ظهور أنوار التجلي إلا الاشتغال بالسِّوَى والإقبال على الغير، فلذلك يأمر الأشياخ المريدين بذكر لا إله إلا الله، لأنها مكنسة الأغيار، فإذا ذهب السِّوَى ظفر بالمولى، فالحق سبحانه وتعالى ليس بغائب، إنما الغائب أنت لاشتغالك بسواه، فأحضر قلبك تكن كأنك تراه، وهذا هو مقام الإحسان، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
__________
(1) نور الدين، عبد الرحمن بن أحمد الجامي، ولد في جام من بلاد ما وراء النهر، وتوفي في هراة سنة (898هـ-1492م).
(2) الخير الكثير، (ص:38).
(3) شيخ مشايخ الإسلام ورئيس العلماء الأعلام، شيخ الفريقين وإمام الطريقين أحمد بن زيني الدحلان، ولد في مكة وتوفي في المدينة سنة (1304هـ-1886م).(1/198)
وهاهنا نكتة ذوقية في قوله صلى الله عليه وسلم: {فإن لم تكن تراه فإنه يراك}، فَهِمها بعض العارفين حيث قال: (تكن): تامة بمعنى توجد، أي: فإن لم توجد، بأن فنيت فيه، فإنك تراه، أي إذا تحققت بمقام الفناء، نلت مقام الشهود، وهو الرؤية القلبية التي تصير في الآخرة بصرية؛ ولا يُشْكل على ذلك أن مقتضى هذا المعنى أن يكون (تراه) جواب الشرط، ومقتضى قواعد العربية حذف الألف من (تراه) لأنه مجزوم جواباً للشرط. لأنا نقول: إن بعض العرب يبقي مثل هذه الألف في الفعل المجزوم، فلا مانع أن يخرج ذلك على تلك اللغة لإفادة هذا المعنى اللطيف؟ ويكون قوله: (فإنه يراك): كلاماً مستأنفاً.
والحاصل أن الأصل في ذلك كله التحلي بالتوحيد، ومعرفة أن الأشياء كلها صادرة منه سبحانه وتعالى، ومستمدة من فضله، فلو أنك لا تصل إليه إلا بعد فناء مساويك ومحو دعاويك لم تصل إليه أبداً.
ولكن إذا أراد أن يوصلك إليه غطى وصفك بوصفه، ونَعْتَك بنعته، وأوصلك إليه بما مِنْه إليك، لا بما مِنْك إليه، عناية بك(1). اهـ.
- نحن في هذا النص، أمام أسلوب جديد ومبتكر في تفسير الحديث، ولا حاجة بنا للتعليق، لأنه من البدهي أن الذي يحرف كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد مواضعه، يكون منحدراً في منزلقٍ سحيق.
__________
(1) تقريب الأصول لتسهيل الوصول، (ص:216، 217).(1/199)
وقد أصبحت -الآن- العبارات: (الأشياء كلها صادرة منه ومستمدة من فضله)، و(فناء مساويك ومحو دعاويك)، مفهومة تماماً لدينا، فالعبارتان الأوليان تعنيان الوحدة، والثانيتان تعنيان: الفناء عن الأغيار، أي عدم شهود الخلق، فلا خلق موجود، ويقول: ...فالسالك سائر عن عالم الطبيعة إلى عالم الملكوت، ومنه إلى عالم الجبروت، ومنه إلى عالم حضرة اللاهوت، حضرة تمحى فيها العبارة والإشارة، وتذهب الأسماء والرسوم، ولا يبقى هناك مشهود إلا الحي القيوم، فإذا ظهرت شمس المعرفة ذهبت نجوم التفرقة، فلا يشهد المنتهي إلا مولاه، ولا يظهر له فعل ولا وصف ولا وجود إلا لله، فمن عرف الله شهده في كل شيء، فلا يتوحش من شيء ويستأنس به كل شيء، ويستأنس هو من كل شيء، ويشهد معنى قوله تعالى: ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) [القصص:88] عياناً، ويفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم:} أصدق كلمة قالها الشاعر لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل.....................
وتشرق على قلبه لمعة من قوله تعالى: ((هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ)) [الحديد:3]، ويتجلى له: ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)) [البقرة:115]، ويرتفع عنه اشتباه معنى: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) [ق:16]، وينطق بالحق، لأن الحق يكون حينئذ سَمْعَه وبَصَرَه ولسانَه، كما في الحديث القدسي: {فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به وبصرَه الذي يبصر به ولسانَه الذي ينطق به}.(1/200)
والحاصل أن العارف يصل إلى حالة يفنى فيها عن أفعاله وأوصافه وذاته، فلا يشهد إلا فعل مولاه وأوصافه وذاته، وهذا يسمى جمعاً، ومع ذلك لا يحجبه هذا عن فرقه. فالعارف لا يحجبه جَمعه عن فرقه، ولا فرقه عن جَمعه، ولا صحوه عن سكره، ولا سكره عن صحوه.. ويوضح لك شَمَّة من ذلك قولُه تعالى: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) [الأنفال:17]، فنفى عنه الرمي أولاً بقوله: (وما رميت)، وهو عين الجمع، وأثبته ثانياً بقوله: (وإذ رميت)، وهو عين الفرق، ثم قال: (ولكن الله رمى)، أي إن الرمي منسوب إلى الله(1).
ويقول مصطفى العروسي(2) شيخ مشايخ الإسلام:
__________
(1) تقريب الأصول لتسهيل الوصول، (ص:266).
(2) شيخ الجامع الأزهر حتى سنة (1870م)، مات سنة (1876م) الموافق لـ(1293هـ).(1/201)
الحمد لله الذي عين الأعيان بفيض نوره الأقدس، وقدرها بعلمه في ذاته على وجه الحكمة الأنفس...فسبحانه من إله قد تجلى بذاته لذاته، فأبدع آدم وأودعه مظاهر أسمائه المنعوتة (بالعالَم)، وأجمل فيه جميع الحقائق وألهم، فجعله مظهر اسمه الجامع لما تأخر وتقدم، وجعل له من نعوت التلوين ما قد يكون بغير التمكين مزلة للقدم، ومنحه سر العليم الأعلم، فهو العالم(1) والعلم والمعلَّم والحاكم والمحكوم عليه والحكم(2)، والمسمى بالأسماء الحسنى، ومرآة درج الكمال الأسنى...كيف لا وهو الإنسان الكامل والطلسم المعمى على سائر الأواخر والأوائل...مَنْ قيل فيه لولاك ما خلقت الأفلاك...سيدنا ورسولنا أبو القاسم، جمع الجوامع، وسر الأسرار، مَنْ كان من نوره سائر الأنوار، فهو الاسم الأعظم، الناطق بلسان: {أنا سيد ولد آدم}، أول التعينات الإلهية، وآخر الدلالات الإرشادية المبعوث إلى كافة الأرواح والأجسام، من المجردات والمركبات، من أول التعيين إلى آخر الختام(3). اهـ.
- الجديد في هذا النص هو قوله: المبعوث إلى كافة الأرواح والأجسام من المجردات والمركبات!! وهذا الكلام يعني أن محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى القرود والذئاب والهررة والفئران والكلاب والخنازير!! كما أنه مبعوث رسولاً إلى المزابل والحجارة والتراب، وإلى الهيدروجين والأكسجين والآزوت والحديد والنحاس..! لكن ما هي رسالته لهؤلاء؟!
الكشف أعلم!! لأن الكشف يعلم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ويعلم ما لم يعلمه رسل الله ولا كتبه -والمشتكى إلى الله-.
- كما نرى العبارة: أول التعينات الإلهية وآخر الدلالات الإشارية. التي تعني:
__________
(1) وردت في الكتاب (فهو العلم والقلم والمعلَّم) وهي غلطة مطبعية كما هو واضح.
(2) وردت في الكتاب (المحكم)، وهي غلطة مطبعية كما هو واضح.
(3) حاشية العروسي، (ص:2).(1/202)
أول تشكل صدر عن ذات الله وخاتم الرسل، وقد عرف المقربون الصديقون الأولياء العارفون هذا الأمر من حديث موضوع، وضعه أحد الكذابين الضالين المضلين، ولكن كشفهم صحح هذا الحديث، وإذا قال الكشف فصدقوه! فإن القول ما قاله الكشف!!
ويقول: ...وهذه الحضرة، أي حضرة الذات الأحدية، أو حضرة العماء، أو الحضرة الواحدية، تتعين بالتعين الأول، لأنها محل الكثرة، ومظهر ظهور الحقائق والنسب الأسمائية، وكل ما تعين فهو مخلوق، فهي العقل الأول...القائل بهذا القول يسمي هذه الحضرة بحضرة الإمكان، وحضرة الجمع بين أحكام الوجوب والإمكان، والحقيقة الإنسانية، وكل ذلك من قبيل المخلوقات، ويعترف بأن الحق في هذه الحضرة متجل بصفات الخلق...ويوضح قولنا: يُشار بالألف إلى الحضرة الأحدية. أن الحقيقة إن أُخذت بشرط أن لا يكون معها شيء، فهي المسماة بالمرتبة الأحدية المستهلكة فيها جميع الأسماء والصفات، وتسمى أيضاً: (جمع الجمع)، و(حقيقة الحقائق)، و(العماء)، وإن أخذت بشرط شيء: فإما أن تؤخذ بشرط جميع الأشياء اللازمة لها، كلياتها وجزئياتها المسماة بالأسماء والصفات، فهي المرتبة الإلهية المسماة عندهم (بالواحدية)، و(مقام الجمع)، وهذه المرتبة باعتبار الإيصال لظاهر الأسماء التي هي للأعيان والحقائق، إلى كمالاتها المناسبة لاستعداداتها في الخارج، تسمى مرتبة: (الربوبية)، وإن أخذت لا بشرط شيء، ولا بشرط لا شيء، فهي المسماة بـ: (الهوية السارية في جميع الموجودات)، وإن أخذت بشرط ثبوت الصور العلمية فيها، فهي مرتبة (الاسم الباطن المطلق، والأول، والعليم، ورب الأعيان الثابتة)، وإن أخذت بشرط كليات الأشياء فقط، فهي مرتبة الاسم: (الرحمن، ورب العقل الأول المسمى بلوح القضاء، وأم الكتاب، والقلم الأعلى)، وإن أخذت بشرط أن الكليات فيها جزئيات مفصلة ثابتة من غير احتجابها عن كلياتها، فهي مرتبة الاسم (الرحيم، رب النفس الكلية المسماة بلوح القدر، وهو اللوح(1/203)
المحفوظ، والكتاب المبين)، وإن أخذت بشرط أن تكون الصور المفضلة جزئية متغيرة، فهي مرتبة الاسم (الماحي والمثبت والمحيي، رب النفس المنطبعة في الجسم الكلي، المسمى بلوح المحو والإثبات)...ومرتبة الإنسان الكامل عبارة عن جميع المراتب الإلهية والكونية، من العقول والنفوس الكلية والحسية، ومراتب الطبيعة إلى تنزلات الوجود، وتسمى بالمرتبة العمائية أيضاً، فهي مضاهية للمرتبة الإلهية، ولا فرق بينهما إلا بالربوبية والمربوبية، فلذلك صار خليفة الله سبحانه وتعالى(1). اهـ.
* الملحوظات:
نلاحظ في هذا النص الطويل (وقد حذفت منه كثيراً) ما يلي:
1- يُظهرأن الأسماء الحسنى هي مظاهر الكون، ويضيف إلى الأسماء الحسنى، أسماء ابتدعها القوم على أنها من أسماء الله، مثل: (الهوية السارية..).
2- يوفق بين الفلسفة اليونانية (الأفلاطونية الحديثة) التي تبناها الإسماعيلية، وبين العقيدة الإسلامية، وفي هذا دليل على أن في الصوفية نُسُغاً يونانياً.
3- يبين عقيدة القوم بالإنسان الكامل، وأفكار غيرها يراها القارئ.
ويقول: ...وظلُّ الإلهِ هو الإنسان الكامل المتحقق بالحضرة الواحدية، والعالم الذي هو علامة على وجود موجده (الظل الثاني)، إذ ليس إلا الوجود الحق الظاهر بصور الممكنات كلها، فلظهوره بتعيناتها سُمي باسم السوى والغير، وذلك باعتبار إضافته إلى الممكنات، إذ لا وجود للممكنات إلا بمجرد هذه النسبة، وإلا فالوجود عين الحق، فالممكنات ثابتة على عدميتها...فالعالَم صورة الحق، والحق هوية العالَم وروحه(2)..
__________
(1) نتائج الأفكار القدسية، (حاشية العروسي)، (ص:5).
(2) نتائج الأفكار القدسية: (1/8).(1/204)
ويقول: ...وإن جميع الموجودات مستمدة من وجوده، فهو هي، وهي هو، على معنى: (لا هو إلا هو)، كان الله ولا شيء معه، ويبقى الله ولا شيء معه، وإنما الكائنات تعينات له مخصوصة في أزمنة مخصوصة محكوم عليها بأحكام مخصوصة، ثم إليه يرجع الأمر كما بدا، الحِكَمُ عَليَّة، وأسرار إلهية علمها من علمها وجهلها من جهلها بتدبيره تعالى وتقديره، لا يسأل عما يفعل فافهم، ولا تك أسير النقل والتقليد(1).
ويقول الشيخ عبد الرزاق القاشاني(2)...
...أي كل خلق تراه العين فهو عين الحق.. ولكن خيال المحجوب سماه خلقاً لكونه مستوراً بصورة خلقية، محتجباً بها، وإن كان متجلياً لم يعرفه(3)...
* الملحوظة:
نلاحظ مخالفة للقاشاني، فهو هنا يشرح (فصوص الحكم) لابن عربي، وابن عربي يقول: الحق خلق وما الخلق حق، وقد شرحها العيدروس فيما مر قبل صفحات، بقوله بعد شرح: ...فلا يصح أن يقال: الخلق عين الحق...بخلاف أن يقال: الحق عين الخلق، فإنه صحيح....بينما نرى القاشاني يقول: كل خلق، فهو عين الحق، وهو اختلاف في أسلوب التعبير فقط.
__________
(1) نتائج الأفكار القدسية (2/20).
(2) الأستاذ الفاضل والعالم الكامل الشيخ عبد الرزاق القاشاني، توفي بعد سنة (730هـ)، وكان محله أن يرد في مكان سابق حسب تاريخ وفاته، لكني أوردته هنا لأنني لم أعثر على ترجمة له، ولم أعرف تاريخ وفاته، وظننت أنه من أحياء القرن الثالث عشر هجري، فأوردته هنا، ثم عثرت على كتاب آخر له هو رشح الزلال في شرح الألفاظ المتداولة بين أرباب الأذواق والأحوال، وقد ذكر المحقق في مقدمته أنه توفي بعد سنة (730هـ)، وهو شيعي (حسب الصوفية بين الأمس واليوم (ص:136)، وكتبه مقدسة عند جميع المتصوفة السنة والشيعة.
(3) شرح فصوص الحكم للقاشاني (ص:152).(1/205)
ويقول: ...فمن عرف علم الطريق، وأنه ليس إلا الحق، إذ لا شيء غيره عليه، عرف أن أسفل سافلين لا يخلو عن الحق، فعلم أن الجهنميين في القرب وإن توهموا البعد(1)..
ويقول: ...وإن تعلقت مشيئته بإرادة الرزق لنا من لدنه، فهو المراد أن يكون لنا رزقاً، من حيث إنه الوجود الحق، فيوجدنا كما يشاء، ويختفي فينا، ويُظهرنا كالغذاء بالنسبة إلى المغتذي؟ فإنا نقوش وهيئات وشئون وتعينات لا وجود لنا ولا تحقق، فهو المتعين بنا، ومظهرنا، وغذاؤنا بالوجود، كما نحن غذاؤه بالأحكام(2)...
ويقول أحمد الصاوي المالكي الخلوتي(3) في شرح الصلوات الدرديرية: بتجلي الأسماء والصفات، أي: بظهور أسمائك العظيمة وصفاتك الكريمة بحيث لا نشهد حادثاً من الحوادث، ولا كوناً من الأكوان، إلا بشهود الأسماء والصفات قبله، لكون الأكوان آثارها، وهو معنى قولهم: العارف يرى الله في كل شيء، وقول بعض العارفين:
وفي كل شيء له آية ... ... تدل على أنه واحد
ومعنى قول سيدي عبد الغني النابلسي:
كل شيء عقد جوهر ... ... حلية الحسن المهيب
ومعنى حديث: {لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها ورجلَه التي يمشي بها..} الحديث. أي كنت مسموعَه عند سمعه الحوادث، مبصورَه عنده إبصاره الحوادث، وحولَه وقوتَه عند بطشه ومشيه، أي يشهدُني كذلك، لأنها آثاري وهي ظاهرة بي على حد قول بعض العارفين:
الله قل وذر الوجود وما حوى ... ... إن كنت مرتاداً بلوغ كمال
فالكل دون الله إن حققته ... ... عدمٌ على التفصيل والإجمال
من لا وجود لذاته من ذاته ... ... فوجوده لولاه عين محال
__________
(1) شرح الفصوص للقاشاني، (ص:156).
(2) شرح الفصوص للقاشاني، (ص:288).
(3) من شيوخ الطريقة الخلوتية عاش في مصر وأخذ عن الدردير، مات في سنة (1241) في مصر.(1/206)
وهذا المقام هو المسمى بوحدة الوجود، ولا يدركه الشخص إلا بعد الفناء في الأحدية الذي قال فيه ابن بشيش: وزج بي في بحار الأحدية. ووحدة الوجود هذه يسمى صاحبها في مقام البقاء ويسمى غَرقان في بحر الوحدة التي هي شهود المولى من حيث قيام الأسماء والصفات به(1).
ويقول الشيخ حسن رضوان(2)، من منظومته (روض القلوب المستطاب):
وتنجلي الرقائق المطوية ... ... في لفظة والحكمة المنوية
لا سيما ما كان في العقائد ... ... فإنه من أعظم المقاصد
وحسبه من ذلك المقصود ... ... إشراق نور وحدة الوجود
وكل ما سواه نجم آفل ... ... بل في شهود العارفين باطل
فليس إلا الله والمظاهر ... ... لجملة الأسماء وهو الظاهر
فمن صفت مرآته تحققا ... ... بما من الأسما عليه أشرقا
وشاهد المَشَاهد المصونة ... ... وأدرك المواهب المكنونة(3)
- قوله:
وكل ما سواه نجم آفل ... ... بل في شهود العارفين باطل
هي شهادة واضحة وجريئة من (عارف) أن العقيدة الإسلامية باطلة في شهود (العارفين)، لأنها لا تؤمن بوحدة الوجود، ولأن القرآن الكريم يحكم على القائلين بوحدة الوجود بالكفر المبين، ((وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ)) [الزخرف:15].
- وقوله: فليس إلا الله والمظاهر، يذكرنا بالذكر: ليس إلا الله، الذي استعمله جماعة منهم بدلاً من (لا إله إلا الله) كما مر آنفاً.
ويقول أيضاً:
__________
(1) الأسرار الربانية والفيوضات الرحمانية، (ص:60).
(2) الشيخ حسن رضوان من كبار القوم، مصري توفي عام (1310هـ)، ومنظومته هذه كما يقول زكي مبارك، تقرب من اثني عشر ألف بيت، وربما كانت أعظم منظومة في قواعد التصوف.
(3) من كتاب التصوف الإسلامي لزكي مبارك: (1/260).(1/207)
إذا مَنَّ الحق تعالى على عبد من عباده، وصافاه بصفاء نفسه من كدورة التعلق بما سواه، وطهره من جنابات غفلته ورعونات شهوته، حتى أفناه به فيه حق اليقين، وبلغ بذلك مرتبة (جمع الجمع)، ولحقت نفسُه بعالمها العلوي الأصلي، قامت به حينئذ رقيقة لطيفة ذاتية حقية، مفاضة من جانب الحق تعالى بفيض رحمانيته، ينكشف له به سريان الوجود الحق في جميع ذرات الممكنات، وسر تجليات الأسماء والصفات، وظهوره في كل مظهر بحسب استعداده، كشفاً إيمانياً، وذوقاً روحانياً، فيرى الحق في الخلق، والخلق بالحق؟ وهذا هو مشهد كمل العارفين المحققين(1). اهـ.
- قبل الانتقال إلى غيره، لا بأس من إيراد شهادة تزكية للشيخ حسن رضوان من لفةٍ كبرى في الجامع الأزهر، يقول زكي مبارك: وقد حدثني الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق (وكان شيخ الجامع الأزهر الأكبر)، أن البلد الذي أقام فيه الشيخ حسن رضوان، كثر فيه العلماء والمدرسون، فهو من الهداة الصالحين(2).
ويقول الشيخ محمد مهدي الرواس (قطب الغوث):
...قلنا: لَزِم الشكر والاعتبار، وطرحُ الدنيا عن الأفكار، والاشتغال بالمؤثر عن الآثار، إذ ما في الدار غيره ديار(3).
ويقول: وبويعت في الحضرة، على دوام الحضور بالانفراد الطوري من حيث مشهد القلب إلى الله تعالى، منقلباً عن مشاهدة الأكوان، ومنسلخاً عنها انسلاخ مقيم مع مراقبته، محترزاً من انتقاد مراقبه، فإن الناقد بصير، والأمر المقصود خطير، وإلى الله تصير الأمور(4).
__________
(1) التصوف الإسلامي لزكي مبارك: (1/265).
(2) التصوف الإسلامي لزكي مبارك (10/260).
(3) فصل الخطاب. (ص:224).
(4) فصل الخطاب: (ص:54).(1/208)
- إن العبارة عند محمد المهدي الصيادي تذكرنا بالعبارة عند عبد القادر الجيلاني، فهي في القمة من حيث الأسلوب الإشاري الرمزي، وهذا النص الأخير واضح بالنسبة للمتمرس بالأساليب الصوفية، أما حديث العهد بها فيرى نفسه أمام كلام غير مفهوم. ويقول: ...وطرْحُ هياكل الأكوان، هو عبارة عن التحقق بالتوحيد الخالص، والعلم بأن الخلق والأمر لله سبحانه، ألا له الخلق والأمر(1). اهـ.
* الملحوظة:
التوحيد في الإسلام لا يحتاج إلى طرح هياكل الكون لا كثيراً ولا قليلاً، ولا جملة ولا تفصيلاً. أما عند الصوفية، فطرحها هو الأساس، لأن هياكل الكون لا حقيقة لها باعتبارها هياكل، لأن حقيقتها هي الحق.
ويقول: المادة الثانية والتسعون من المائة الثانية: طرح هياكل الأكوان تحققاً بالتوحيد، مع حفظ الآثار، وإرجاع التأثير الذي يصدر عن الكل إلى الله تعالى(2).
- يعبر في هذا النص عن مقام (الفرق الثاني)، وأترك تحليله للقارئ.
ويقول:
آمنت بالله الوجود كله ... ... سواه يفنى وهو باقٍ لم يزل(3)
فطهِّر القلب لقدسه وكن ... ... ممتثلاً كتابه كما نزل
ويقول:
ولدى الأمرين حقاً ... ... ليس إلا الله فاعل
ثق به واترك سواه ... ... واربطنْ فيه الوسائل
وخذ الهادي إماماً ... ... فهو برهانٌ الدلائل
واتبع القوم فمنهم ... ... كل مقبول وواصل
عَرَفوا الله وحقاَ ... ... ما خلا الله فباطل(4)
ويقول:
وغب عن جميع الحادثات لربها ... ... ولا تتخذ فيها سوى شغله شغلا
وإن وهبوك العرش والفرش والفضا ... ... برمشة عين ضمن حُجب فقل لا
وسر سيرتي واسلك بنهج طريقتي ... ... إلى الله لا تشهد لدى غيره فعلاً
وجردك من كل الوجودات واضطجع ... ... على حُصُر التسليم يا من سما عقلاً
- يشير بهذه الأبيات إلى (وحدة الأفعال).
__________
(1) فصل الخطاب: (ص:62).
(2) المجموعة النادرة، (ص:225).
(3) المجموعة النادرة، (ص:291).
(4) المجموعة النادرة، (ص:303).(1/209)
ولا تر للمخلوق حولاً وقوة ... ... فلا قوة للخلق طراً ولا حولا
وخذ حلْوَ أمر الله في الدين مشرباً ... ... فلن ترى من مجلى مشاربه أحلى
- البيتان يشيران إلى (وحدة الصفات):
ومَن قاد للأغيار فاهجر سبيله ... ... ورافقْ محب الله إن قل أو جلا(1)
- هذا البيت الأخير يشير إلى (وحدة الذات).
- في البيتين: (وإن وهبوك العرش..)، و(وخذ حلو أمر الله..)، في الشطر الثاني من كل منهما خلل في الوزن.
ويقول: من صلوات له:
اللهم اجمعنا بك عليك، وارددنا منك إليك، وأرشدنا في حضرة جمع الجمع، حيث لا فرقة ولا منع، إنك أنت المانح الفاتح، تمنح ما شئت من مواهب ربانيتك لمن شئت(2).
ويقول: من نفس الصلوات.
اللهم صل على المتخلق بصفاتك، المستغرق في مشاهدة ذاتك، رسول الحق، المتخلق بالحق، حقيقة مدد الحق ((أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ)) [يونس:53]، اللهم إنا قد عجزنا من حيث إحاطة عقولنا، وغاية أفهامنا، ومنتهى إرادتنا، وسوابق هممنا، أن نصلي عليه من حيث هو، وكيف نقدر على ذلك، وقد جعلت كلامك خلقه، وأسماءك مظهره، ومنشأ كونك منه(3). اهـ.
- نحن الآن نعرف كثيراً من مصطلحات القوم، ومنها (المشاهدة) وقد مرت قبل صفحات، إذن، فالعبارة: المستغرق في مشاهدة ذاتك واضحة المعنى، أترك للقارئ البحث عنها وتحليلها.
__________
(1) المجموعة النادرة، (ص:289 و290).
(2) بوارق الحقائق، (ص:328).
(3) بوارق الحقائق، (ص:326).(1/210)
وما يجب أن نلاحظه بشكل متميز، هو إدراجه للجملة: ((أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ)) [يونس:53]، التي توهم الساذج أنه يعني بها المعنى المعروف في كتب التفسير، أي إن كلمة (حق) تعني الصدق، لكن بشيء من التروي لمن تمرس بأسلوب القوم، يرى أنه يستعمل كلمة (حق) على أنها اسم من أسماء الله الحسنى، فهو يقول: أمحمد هو الله قل إي وربي إنه الله. ثم لننتبه إلى قوله: وأسماءك مظهره، وإلى قوله: ومنشأ كونك منه، وكل هذا داخل فيما يسمونه (الحقيقة المحمدية) التي هي جزء من عقيدة (وحدة الوجود).
أما قوله: (ومنشأ كونك منه)، فهو أكثر وضوحاً من قول البوصيري في البردة:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ... ومن علومك علم اللوح والقلم
ويقول (من نفس الصلوات):
اللهم بك توسلت...أن تصلي عليه صلاة أبدية ديمومية قيومية إلهية ربانية، تصفينا بها من شوائب الطبيعة الآدمية، بالسحق والمحق، وتطمس بها آثار وجودنا الغيرية عنا في غيب غيب الهوية، فيبقى الكل للحق في الحق بالحق، وترقينا بها في معاريج شهود وجود ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)) [فصلت:53](1). - السحق: ذهاب تركيبك تحت القهر (ابن عربي في اصطلاح الصوفية)، ويفسره الدكتورعبد المنعم الحفني: هو الاضمحلال، أي ذهول العبد تجاه قهر الحق.
- المحق: فناء وجود العبد في حضرة الحق، أو فناء وجود العبد في ذات الحق، أو فناؤك في عينه.
- وسياق الكلام يُظْهِر المعنى الذي يشيرون إليه من الآية: ((حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)) [فصلت:53]، فهو يعني أن محمداً هو الحق، بجعل الهاء من (أنه) عائدة على محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل (الحق) من أسماء الله الحسنى.
- وهذا الكلام يدور- كما هو واضح- حول الحقيقة المحمدية، وبالتالي وحدة الوجود.
ويقول:
__________
(1) بوارق الحقائق، (ص:340).(1/211)
قد حاول الجمعَ أقوامٌ فأرجعهم ... ... موتى وهم بِطَنين الظن أحياء
فالعارفون بباب الفَرْق موقفهم ... ... والأنبياء العرانين الأجلاء
قال اتحاداً أناسُ والحلول حكوا ... ... والكل صدْمتُهم في الدين دهماء
لو حل فيهم على فرض المحال لما ... ... منهم تحلل بالتحويل أجزاء(1)
- يقول في البيت الأول: إن أقواماً حاولوا الوصول إلى مقام الجمع، ولكنهم فشلوا ورجعوا خائبين موتى ويظنون أنفسهم أحياء، وطبعاً يقول هذا الكلام ليقارنهم مع نفسه والمقام الذي وصل إليه.
- وفي البيت الثاني يقول: إن العارفين، وهم الذين وصلوا إلى مقام الفرق الثاني (أو صحو الجمع..)، وكذلك الأنبياء، يقفون بباب الفرق، بمعنى أنهم يظهرون للناس العبودية لله، ويكتمون سر (الجمع).
- يهمنا من هذه الأبيات، البيتان الأخيران، لأنه ينفي بهما الاتحاد والحلول، ونعرف أن الاتحاد لا يكون إلا بين اثنين يتحدان ببعضهما. وكذلك الحلول يحتاج إلى اثنين يحل أحدهما في الآخر.
ويقول في نفس القصيدة:
وقائل الحق لم تُقْلَب حقيقته ... ... وإن ترنَّم بالتبديل ورقاء
سرُّ تكاتمه أهل القلوب فخذ ... ... منه الرموز وما للسر إفشاء
الفرق بين نماط الجمع متسق ... ... والجمع يَشْهَدُه لطفٌ وإنطاء
يُسِفُّهُ الحق سفَّاً ثم يرجعه ... ... فرقاً وفي الأمر تجريد وإكساء(2)
- في الواقع، ليس هنا مكان هذه الأبيات، والتي قبلها، فمكان هذه في فصل سابق، ومكان التي قبلها في ما يلحق، وقد أوردتها هنا من أجل القارئ الذي يريد الرجوع إلى كتب الرواس - مَن نحن في حضرته الآن - فإنه سيجد في كتبه كلاماً يوهم لأول وهلة بـ (الفرق)، وقد يوهم بـ (الحلول) أو بـ (الاتحاد)، وكل ذلك هو من الأسلوب الإلغازي، أو (العبارة) ومن التقية.
ولتوضيح ذلك، لا بأس من نظرة سريعة على الأبيات الأخيرة.
__________
(1) بوارق الحقائق، (ص:110).
(2) بوارق الحقائق، (ص:109).(1/212)
في البيت الأول: وقائل الحق لم تقلب حقيقته...، يقول: إن الذي يقول الحق، أو العارف لا يتغير، ولا تُقلب حقيقته، أو حقيقة أنه عارف، إذا ترنم بالتبديل، أي إذا بدل القول، وقال بعكس الحقيقة.. فإنه يبقى على حقيقته.
- وفي البيت الثاني يشرح سبب ذلك، فيقول: إنه السر الذي يتكاتمه أهل القلوب - وهم طبعاً الصوفية - ويطلب من المخاطَب الذي يعنيه هو، يطلب منه أن يأخذ من الكلام الرموز، لأنه لا يفشي السر.
- وفي البيت الثالث: الفرق بين نماط الجمع..، يقول: إنه يذكر في كلامه (الفرق) الذي هو التفريق بين الخالق والمخلوق، أو العبودية، متسقاً مع الجمع، أي إنه يذكر الجمع ثم الفرق ثم الجمع ثم الفرق، وهكذا...وأن الجمع يَشْهَدُه اللطف في البحث والتمعن به.
- والبيت الرابع واضح جداً.
ويقول علي اليشرطي(1):
الوجود، هو الكتاب، والأنبياء سوره، وأكابر المسلمين والكفار آياته، وعامة الخلق كلامه، والوجود الناقص حروفه، والمجموع هو الله(2).
ويقول: انظر لمن يقرأ القرآن، كل إنسان يقرأ بسورته، فالوجود كله فرقان، فمن جاوز قرآنُه فرقانَه، كمل إيمانه وعرفانه(3).
- لعلنا نذكر، من النصوص السابقة، أنهم يعنون بـ (القرآن) مقام (الجمع)، وبـ (الفرقان) مقام (الفرق).
ويقول: قارئ القرآن مناجي الحق، قارئ القرآن ترجمان الحق، والقرآن حضرة الجمع(4).
وقال: متى استوى الجمع في بطن الفقير، تتفجر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، وتظهر الأسرار والأنوار، وعلى هذه الحالة كان مَنْ قُتل وعُذِّب في مقام الجمع، أما صاحب الفرق الثاني، فهو يسري في الممكنات سريان الماء بالعود الأخضر(5).
__________
(1) الشيخ علي نور الدين اليشرطي، مغربي هاجر إلى عكا، وأسس الطريقة الشاذلية اليشرطية، مات عام (1316هـ).
(2) نفحات الحق، (ص 69).
(3) نفحات الحق، (ص 70).
(4) نفحات الحق، (ص:97، 98).
(5) نفحات الحق، (ص:98).(1/213)
وقال: من استوى جمعه، صار قيومَ كل ذرة من ذرات الوجود(1).
وقال: إذا كان الإنسان في حالة جمعه سائراً لله، شهد الله في كل شيء، فيكون في مقام الواحدية؛ فإذا تم جمعه، سار به الحق، وما رأى شيئاً طلبه إلا أنكره، ويكون ذلك الإنكار من جملة مطلوبه، ويكون الوجود الحق، وهذا مقام الأحدية، فهي أصل لظهور الممكنات التي هي أرض العبودية(2).
- كلمة (الممكنات) وشرحها في النص الأخير يوضح مراد الشيخ من قوله: فهو يسري في الممكنات...في النص السابق.
وقال: اجعل ظاهرك عبودية، وباطنك أحدية، وميز ومهد(3).
هذا القول هو نفس قول الجيلاني، فبظاهره ينظر إلى ما في السوق، وبقلبه ينظر إلى ربه، ونفس قول أبي الحسن الشاذلي: اجعل الفرق في لسانك موجوداً والجمع في جنانك مشهوداً، وقول ابن عجيبة: إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه.. وقد مرت معنا ومر غيرها أيضاً بنفس المعنى.
وقال: يصل الفقير إلى مقام يقول فيه للشيء: كن فيكون. ثم تابع حديثه فقال: والبعض عند الخاطر(4).
- ويعني بقوله: عند الخاطر، أي يحصل الشيء عندما يمر بخاطره فقط، دون أن يقول له: كن.
وقال: ما زال العبد يذكر الله، حتى يستولي عليه الاسم، ومتى استولى عليه الاسم، انطوت العبدية بالربية، وظهرت عليه صفات الرب، ولذة الرب تغيَّب العبد عن وجوده حساً ومعنى(5).
وقال: ...ومَن يرحم الفقير ربي يحسن إليه، وهذه وحدة الوجود لا يحصل عليها أي إنسان، فهي للأصفياء والأنبياء(6).
__________
(1) نفحات الحق، (ص:98).
(2) نفحات الحق، (ص:98، 99).
(3) نفحات الحق، (ص:99).
(4) نفحات الحق، (ص:99).
(5) نفحات الحق، (ص:110).
(6) نفحات الحق، (ص:134).(1/214)
وقال: مر سائح كان يبحث عما يقربه إلى الله تعالى، ثم إذا هو بامرأة تحمل ولدها على منكبها فقالت له: ألم تر ولدي فقد فقدته؟! فنظر إليها وقال: هو ذا الولد على منكبيك وتسألين عنه! فقالت: يا عجباً هو معنا وندور نبحث عنه! فانتبه الرجل لحاله وقال لها: جزاك الله عني خيراً(1).
وقال: ما في فراق (أي: الفرق غير موجود)، ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)) [البقرة:115]، الفراف من هذا القفص، ومتى خرجت منه تنظر جميع العوالم متصلة بك(2).
- يعني بالفراق: الفرق، وبالقفص: الجسد.
وقال: العبد قابل لظهور تجليات الحق(3).
- هذا القول ظاهر المعنى، ومع ذلك فالنصوص التالية تزيده ظهوراً.
يقول محمد بهاء الدين البيطار(4):
__________
(1) نفحات الحق، (ص:163).
(2) نفحات الحق، (ص:225).
(3) نفحات الحق، (ص:235).
(4) محمد بهاء الدين البيطار الشامي الميداني، من شيوخ الطريقة الرشيدية، مات سنة (1314هـ).(1/215)
...فاعلم أيدك الله وإيانا بروح القدس، وأراك آياته في الأفاق وفي النفس، أن لله أسماء، وأسماء الأسماء، فأما أسماء الأسماء فهي التي يعلمها عموم الناس من الأسماء الرقمية أو اللفظية أو الذهنية، فهي في الحقيقة أسماء للأسماء وليست عين الأسماء، والأسماء الحقيقية هي أعيان العالم وصور حقائق المعاني، إذ من المعلوم أن اسم الله المميت مثلاً ليس المؤثر منه بالموت هذه الحروف التي هي الألف واللام والميمان والياء والتاء، وإنما المؤثر بالموت معنى هذه الحروف الذي هو الحقيقة العزرائيلية، وليس المميت عزرائيل(1) فقط، بل عزرائيل مظهر من مظاهر الاسم المميت وصورة من صوره، ومعلوم أن صُوَرَه لا تتناهى، فكل ما أمات فهو صورة للاسم (المميت)، فصورة الاسم تفنى، وأما جوهر الاسم وعينه فلا تفنى، لأنها عين الوجه الباقي، وكل شيء هالك إلا وجهه. فأسماء الله على الحقيقة أعيان العالم وحقائقه، ومظاهر الأسماء هي صور العالم، فلكل اسم إلهي من الصور ما لا يتناهى، فكل ما أمات، مثلاً، من ثعبان أو سيف أو رصاص أو حجر أو عصا فهو صورة من صور الاسم المميت، ومعنى المميت شأن من شئون الذات الإلهية، وهو عين الذات، ومن هنا يفهم قوله تعالى: ((فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ)) [الأنفال:17]، فتارة ينسب الله تعالى الإماتة إلى عزرائيل، فيقول: ((قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ)) [السجدة:11]، وتارة إلى الملائكة مطلقاً، فيقول: ((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ)) [النحل:28]، وتارة إلى البشر، فيقول: ((فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)) [التوبة:5]، وتارة يقول: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ)) [الزمر:42]، فإذا فهمت ذلك، وعلمت أن المظاهر صور الظاهر، والظاهر حقيقة واحدة، وهو وجود مطلق أحدي
__________
(1) الاسم: عزرائيل لم يرد في قرآن ولا في سنة صحيحة، وقد عبر إلى كتب المسلمين من اليهودية بواسطة المتصوفة.(1/216)
العين، تجلّى في صور مختلفة، فأنت بالخيار، فإن شئت فانسب إلى الصورة الظاهرة مراعاة للأسباب، وإن شئت فانسب لحقيقة الصور كلها، والتي هي وجود الله تعالى، إذ الصور كلها مندرجة في وجود الله اندراج أمواج البحر، فالأمواج هالكة في البحر، وهي عينه، فالمظاهر عين الظاهر، فليس إلا الله بلا مزج ولا حلول ولا اتحاد، بل القوم بريئون من جميع ذلك والله على ما نقول وكيل. وإذا فهمت ذلك، فخذ جميع أسماء الله على هذا المنوال، فالرزاق والحفيظ والسميع والبصير إنما هي المظاهر القائمة بهذه المعاني، فهي الأسماء لا الكلمات المؤلفة من بسائط حروف هذه الأسماء، لأن حروف الرزاق لا ترزق، ولا لفظ الرزاق، وكذلك لفظ السميع ليس هو السميع، هكذا، بل هذه الكلمات أسماء الأسماء لا عين الأسماء، كما حققه شيخنا الأكبر في الفتوحات المكية، سأل مريد أستاذه عن الاسم الأعظم، فضربه بحصاة، فكان هذا الضرب هو الجواب! يشير له، أنك أنت الاسم الأعظم، إن عرفت نفسك وأقمت الجدار عنك، فيظهر لك كنزك، وينكشف لك سر قوله صلى الله عليه وسلم:} من عرف نفسه عرف ربه {، إذا تحققت ذلك وتيقنته وسلمه قلبك بالإيمان القطعي. قال الشيخ الأكبر قُدس سره في كتاب (بلغة الغواص): قال تعالى: ((إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ)) [النمل:30] يعني سليمان ((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) [النمل:30]؛ فجعل سليمان عليه السلام عين ((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) [النمل:30]، وإذا فهمت التفصيل المتقدم بين الأسماء وأسماء الأسماء، سهُل عليك فهمُ هذا. فإن الكامل في وقته مظهرُ هذه الأسماء الثلاثة التي هي: الله والرحمن والرحيم، بك مظهر أسماء الله على الكمال، القائم بحقيقة الجمال والجلال. قيل لبعضهم: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت أحيي وأميت وأنا على كل شيء قدير(1)...
__________
(1) النفحات الأقدسيه، (ص:5، 6).(1/217)
ويقول: نحمدك اللهم يا من صلى على محمد بفيض ذاته، فكان مجلى له في جميع تجلياته...وأشهد أن لا إله إلا الله ولا موجود في هذا الوجود إلا إياه، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنسان عين ذاته وسر إمداداته(1)...
ويقول: ...ورد في الحديث القدسي: {العظمة إزاري والكبرياء ردائي} فإزاره عينه، ورداؤه عينه، فالمظهر عين الظاهر، والاسم عين المسمى، فهو المحيط بذاته بإحاطة هي عين ذاته، فكل ما تحيط به ذاته هو عين ذاته، فكل شيء له الكمال الذاتي المشار له بقوله تعالى حكاية عن هود عليه السلام: ((مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [هود:56]، فصراطه ذاته، فهو الآخذ بناصية كل شيء بذاته لذاته، والمأخوذ عين ذاته، فهو عين الصراط المستقيم الأحدي، وهو الذي عليه، فما على هذا الصراط إلا هو، وكل شيء عليه، فهو ذات كل شيء، وحقيقة النور والظل والفيء، ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)) [النجم:42]، فالأول عين الآخر، والظاهر عين الباطن، فالوجود واحد، كان الله ولا شيء معه، فهو تعالى كائن لا يزول، وأسماؤه لا تزول، كل يوم هو في شأن، فالشمس تجري لمستقر لها، ولا مستقر لها سواها، وهاهنا كنز مطلسم(2)...
ويقول: ...فما الأمر إلا هو، فكل أمرٍ عين الهو، وواقعٌ على الهو، وأوله هو، وآخره هو، وظاهره هو، وباطنه هو، وحقيقته هو، وذاته هو، قال الله تعالى: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) [الإخلاص:1]، غير أن هذه الهوية لها وجهان، كل منهما مرآة الآخر في عين واحدة(3)...
- في هذا النص يتوضح لنا معنى كلمة (الهوية) التي مرت معنا في نصوص سابقة، ولننتبه إلى تفسيرهم لـ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) [الإخلاص:1].
__________
(1) النفحات الأقدسية، (ص:3).
(2) النفحات الأقدسية، (ص:113).
(3) النفحات الأقدسية، (ص:280).(1/218)
ويقول: (جَمَع الجمع، وفَرَّق الفرق، من حيث لا جمع ولا فرق)(1)، أي إن الجمع والفرق حُكمان اعتباريان معقولان، وما ثَم إلا عين واحدة، هي المخبَّر عنها بالحي القيوم، فلا حي سواها، ولا قيوم سواها، كان الله ولم يكن شيء غيره، أي: (لا غير)، وهذا الحكم مستمرٌّ أزلاً وأبداً، كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون، فمن رأى الأشياء معه فقد جهل، فإن الله تعالى دفع هذا الوهم بقوله: ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)) [البقرة:115]، فأين الأشياء؟ إلا أن الكاملين يَسْتُرون هذا الوجه بأسماء الأشياء(2).
ويقول محمود أبو الفيض المنوفي(3):
__________
(1) هذه الجملة بين الحاصرتين هي من الصلوات الأحمدية الإدريسية التي هي من أوراد الطريقة الرشيدية.
(2) النفحات الأقدسية، (ص:281).
(3) مؤسس الطريقة الشاذلية الفيضية في مصر، أسس الكلية الصوفية عام (1927م)، وبقيت حتى عام (1933م)، ثم أصدر مجلة البهلول.(1/219)
وكذلك كل ما يبزغ أو يبدو في الكون من حياة أو وعي أو إرادة تنجلي كلها لكفاياتنا العليا، كأنها نعوت وخصائص أصلية لذلك الكائن الأسمى، الذي يبدو أنه مطلق يشمل اقتداره وإبداعه وجودنا ووجود غيرنا من الكائنات، وما وراءها من كائنات معجبة بأفعالها الخفية، ودليل ذلك أن الوجود في شموله - مع ما يبدو فيه من كثرة وتعدد- يمثل لإدراكنا الذاتي وحيرتنا النفسية الوجدانية وحدة شاملة مؤتلفة الروابط والعلائق، وإن تفاوتت فيها النسب والأوضاع والكيفيات والوظائف، لدى الحس والحواس والعقل والمعقولات، مما يدلك دلالة صريحة موجبة لليقين قاطعة للشك، على أن أصلها سبب إلهي مبدع لأسباب أولى الكائنات وعللها القريبة التي تصدر عن مشيئته، وهو ضرورة يدرك ما يفعل قبل أن يفعل وبعد أن يفعل، وتصير إليه أيضاً في النهاية نتيجة ما أراد وما فعل، وهو نفسه، فهو يقيناً ذلك الكائن الغيبي الذي نظم الكون ما علا منه وما سفل، بسماواته وأراضيه، وقد طبعها جميعها على أسلوب يجعلها كمَّاً واحداً متناغم الوحدات مترابط الحلقات، إن صانعها ومبدعها واحد أحد، وقد جعل الكائنات كلها تتطور وتترقى إلى هدف خاص بالمجموع، كما لو كان هذا المجموع الكلي كائناً واحداً يهدف إلى حقيقة لا يُدرك لها غور ولا نهاية، وما ذلك إلا لأن مبدع الكل كائن مطلق، ومتوحد في وجوده المتسامي(1).
* الملحوظات:
نحن الآن أمام ظاهرة في الكتابة الصوفية، فيها شيء من الجدة، هذا الشيء هو العبارة الخائنة، التي خانت قائلها فأظهرته بمظهر التناقض الصارخ، وإليك النص التالي الذي هو أكثر وضوحاً من هذا السابق.
__________
(1) معالم الطريق إلى الله، (ص:43).(1/220)
يقول: ...وقد أقاموا -أي الذين يهاجمون التصوف- أنفسهم بمعارفهم الضئيلة حكاماً قساة على أولياء الله وعارفيه، بدون مبرر يبرر نظرياتهم لا من الشرع ولا من العقل، حالةَ أنهم لم يتذوقوا من مشارب القوم وعلومهم ومعارفهم ومواجيدهم فيما بينهم وبين ربهم، وكذلك في نظراتهم السامية العميقة لهذا الوجود! وأول ما يرمون التصوف به من كذب عظيم اتهام جميع شيوخ التصوف بوحدة الوجود، فما وحدة الوجود يا ترى؟ هل هي الجمع بين وجودين أزليين أبديين أو واقعيين؟! هو المستحيل أو بين حادث وقديم وهو مستحيل أيضاً، والقوم أهل توحيد، أو يريدون بالحقيقة جعلها اثنينية بين خالق ومخلوق؟ وهذا باطل ينفيه التصوف الحق(1).
* التعليق على هذا الكلام:
- يقول: وقد أقاموا أنفسهم بمعارفهم الضئيلة..، فنجيبه:
وقال السها للشمس أنت ضئيلة ... ... وقال الدجى للظهر لونك حائل
لكن تقريراً للحقيقة: إن هذه العبارة تعني معارفهم الضئيلة بالصوفية، وهو بهذا صادق، لأن كل الذين هاجموا التصوف كانوا لا يعرفون عنه إلا أموراً سطحية، فمعارفهم به كانت ضئيلة.
وقوله: ...حكاماً قساة على أولياء الله وعارفيه بدون مبرر...، فنجيبه:
أ- الذي يحكم بالقرآن والسنة لا يكون حاكماً قاسياً، والذي يتهمه لذلك يخرج من الإيمان: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) [النساء:65].
ب- يقول:.. على أولياء الله..، فمن قال لك يا هذا أنكم (أولياء الله)، أوَلَمْ تقرأ الآية الكريمة: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:49، 50].
__________
(1) معالم الطريق إلى الله، (ص:404).(1/221)
ج- أما قوله: بدون مبرر!!، فجوابنا: بل المبرر موجود وموجود وموجود، وهو من الشرع، ومن القرآن، ومن السنة، وهو فرض لا سنة، إنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- ويقول: وكذلك في نظراتهم السامية العميقة لهذا الوجود..، فنجيبه: قرر مشايخ الصوفية وكبارهم وعارفوهم والمكاشفون والمشاهدون أن الحقيقة هي زندقة بالنسبة للشريعة، فإن كانت نظرات (أهل الحقيقة) سامية وعميقة! فكيف تكون نظرات الشريعة المناقضة لها؟؟ طبعاً ستكون بعكس ذلك! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
- ويقول: وأول ما يرمون به التصوف من كذب عظيم اتهام جميع شيوخ التصوف بوحدة الوجود...فنجيبه:
لقد أفحمتنا يا شيخ؟! لأن القول بأن اتهام جميع شيوخ التصوف بوحدة الوجود هو كذب عظيم!! هذا القول هو مفحم جداً!! بل وجداً جداً أيضاً!! ولا يسعنا أمام ما يأتي به هؤلاء الأولياء العارفون من صدق عظيم وجرأة عظيمة وفصاحة أعظم إلا أن نقول: اللهم إنا نشكو إليك هذا البلاء العظيم الذي دمر الأمة الإسلامية، والذي يصر أقطابه على السير في طريقهم للقضاء على ما تبقى لهذه الأمة من عقيدة إسلامية وأخلاق ووجود، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
- ثم يقدم التساؤلات: فما وحدة الوجود يا ترى؟! هل هي الجمع بين وجودين أزليين أبديين أو واقعيين؟ ويجيب نفسه: وهو المستحيل.
ونقول: نعم، هو مستحيل، ولم يقل أحد إن هذه هي وحدة الوجود، ونعجب من شيخنا كيف يورد هذا التساؤل الذي لم يرد!! ولكنه الأسلوب الماهر.
ويواصل شيخنا تساؤله: أو بين حادث وقديم؟! وهو مستحيل أيضاً.
ونجيبه نعم، إن الصوفية لا تقول بهذا، لأنه هو ما يسمى بالحلول أو الاتحاد، والصوفية بريئة من كليهما، والإسلام بريء من الجميع.
ويقول: والقوم أهل توحيد.
فنجيبه: نعم، إنهم أهل توحيد، وقد رأينا توحيدهم في أكثر من مائة نص سابق، وعرفنا ما هو، إنه توحيد الوجود.(1/222)
ثم يقول: أو يريدون بالحقيقة جعلها اثنينية بين خالق ومخلوق؟! وهذا باطل ينفيه التصوف الحق.
فنجيبه:
نعم، نعم، الاثنينية بين الخالق والمخلوق، أي وجود خالق ووجود مخلوق، حيث يكون في الوجود اثنان، خالق ومخلوق فهذا مرفوض عند الصوفية، وقولك يا شيخنا: هذا باطل ينفيه التصوف الحق، هو صحيح تماماً. فالتصوف الحق لا يؤمن بوجود خالق ومخلوق، وإنما يؤمن بوجودٍ واحد فقط هو الحق، وما الخلق منه إلا كموج البحر من البحر، وهي هي نفسها (وحدة الوجود).
ونقول: يا شيخنا، هاأنت تقرر وحدة الوجود عندما ترفض الاثنينية، إذن، فلم اتهمت (الذين يرمون شيوخ التصوف بوحدة الوجود؟!)، لم اتهمتهم بالكذب العظيم؟ وهم لا يرمونكم إلا بما أنتم عليه.
وللإيضاح: يقول النص: ...اتهام جميع شيوخ التصوف، وهذا يعني أن قسماً من شيوخه لا يؤمنون بوحدة الوجود، وسنرى فيما يأتي أن الذين لا يؤمنون بالوحدة هم الدخلاء على التصوف الذي يدعون المشيخة دون ذوق أو معرفة (ومن تشبه بقوم فهو منهم).
ويقول في نص آخر:
إنما ترجحت هذه الطائفة من حيث ارتفاع معارفها، لأن من تحقق عنده العلم بانفراد الله سبحانه بالفعل والصفة والذات وقيام مآثر الموجودات بما يخلقه لهم وفيهم من الصفات والحياة، قاده ذلك إلى جمع الهمة عليه وعكوفها لديه، وتصفو هذه المعرفة في ميدان الفناء عن ذكر غيره ورؤية سواه، وإذا فني العبد عن الأغيار، كملت معرفته لبقائه مع الحق، وقلت غفلاته عنه، وهو علم البقاء، وإذا وصل من المعرفة إلى هذا الحد من التمكن، شارف عين الجمع، أي الحقيقة، وصار الجمع له حالاً، فَعَينُ الجمع بخلاف علم الجمع الخاص بذلك، (والجمع هنا جمع معنوي خالص لجمع الروح على خالقها ونافخها دون حلول أو اتحاد أو اتصال أو انفصال، كما يحدث في المحسات وهو الحلول(1).
* تعليق:
__________
(1) معالم الطريق إلى الله، (ص:262).(1/223)
الأسلوب فيه شيء من الجدة كما قلنا. فهو يقول: انفراد الله سبحانه بالفعل والصفة والذات، بدلاً من قولهم: وحدة الأفعال والصفات والذات، ولكنه يضيف عبارة جديدة هي انفراده سبحانه بـ (قيام مآثر الموجودات) التي هي لا تخرج عن معنى وحدة الوجود، ولكن فيها شيء من الغموض يساعد هذا العارف على إضاعة القارئ العادي، خاصة عندما يضيف الجملة: بما يخلقه لهم وفيهم من الصفات والحياة التي تعني الفرق. ويعني بعبارة جمع الهمة عليه وعكوفها لديه: مقام الجمع، وهو واضح.
على أننا لو قبلنا جملته الأخيرة حسب ظاهرها الذي يمكن أن يفهمه القارئ العادي لكان النص كله تفاهة وسخافة، بل لكان كتابه كله كذلك.
ويشرح لنا كلمتين يستعملونهما كئيراً وهما: (اتصال وانفصال) ويقرر أن ذلك هو الحلول.
وتوضيح ما يريده هو أن الاتصال يقتضي وجود اثنين متصلين ببعضهما، وهو الحلول، والانفصال يقتضي وجود اثنين أيضاً منفصلين عن بعضهما، وبما أن الاثنينية مرفوضة، إذن فلا اتصال ولا انفصال، بل وحدة، والجمع هو الإحساس بهذه الوحدة ذوقاً واستشعاراً.
ويقول: وأما المرحلة السابعة، فهي مرحلة السعادة الأبدية التي يقول الله سبحانه وتعالى في وصفها بحديثه القدسي: {ما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضت عليه، وما زال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعَه وبصرَه ويدَه ولسانَه} إلى آخره، وهي المرحلة التي قيل فيها أيضاً: (وهناك ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) وهي المرحلة التي قلنا فيها من قصيدتنا الوجدانية:
فلما قرعتُ الباب قصدَ لقائها ... ... خلعتُ لها جاهي وعلمي ودعوتي
وحققتُ وصفي وهو ذلي لعزها ... ... وعاديت فيها حظ نفسي وعادتي
فلما رأتْ ذلي وعجزي وفاقتي ... ... تجلت إلى قلبي بمكنون حكمتي
وقربني الساقي لحان شرابها ... ... ... فكان بها سكري وصحوي ونشوتي
ولما بدتْ من طُور ليلاي نارها ... ... رأيت بها منها إليها هدايتي(1/224)
وصارت تناجيني بحُلْوِ خطابها ... ... فشاهدتُها لكن بعين بصيرتي
وأبصرتُ أسراراً تسامت بذاتها ... ... وإني أرى شرحي لها فوق طاقتي
فإني إذا ما بحتُ يوماً بسرها ... ... لقيت حمامي بعد تمزيق مهجتي
ولستُ على سرٍّ أميناً إذن ولا ... ... حظيت بقرب عند أهل مودتي
وفي مثل هذا المقام يقول الإمام الغزالي رضي الله عنه حيث بلغه ووصل إليه من طريق الشهود:
وكان ما كان مما لست أذكره ... ... فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر(1) اهـ.
- اعتدنا أن نسمع من القوم قولهم: تحققت بأوصافها. وما شابه ذلك، أما هنا، فيعكس الأسلوب زيادة في التعمية، حيث يقول: وحققت وصفي، إذن فهو بعد كل الجهد الطويل والرياضات المملة والخلوة والجوع والسهر، وبعد تأليف الكتب، ما زاد على أن حقق وصفه فقط!! وبكل هذه البساطة. مع العلم أن كل ما يدب على الأرض محقق وصفه الذي هو ذله لعزها، دون هذه الفلسفة، لأنه فطر على تحقيق وصفه: ((فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)) [الروم:30]. ولكن، نقول للقارئ، إنه الإمعان في التقية! ولنوضح الأمر:
في مراحل من تاريخ المسلمين، وصلت المجتمعات الإسلامية بمساعي الصوفية وجهودهم المستمرة إلى أحط دركات الجهل والغفلة، حيث أخذ الأولياء العارفون الصديقون المقربون الطاهرون المطهرون الأبرار الواصلون المحققون المصطفون المحبوبون المؤيدون العالمون الموحدون خواص الخواص...، حيث أخذوا حريتهم الكاملة في البيان، وأرخوا لعباراتهم العنان، وباحوا بالسر المصان.
وقد رأينا قول بعضهم: وحسبه.. إشراق نور وحدة الوجود.
ولعل النص التالي يغني عن الإطالة وإيراد نصوص أُخَر.
يقول الشيخ عبد الرزاق القاشاني:
__________
(1) بداية الطريق إلى مناهج التحقيق، (ص:66). والواقع أن نص الغزالي هذا مسروق، أو منقول نقلاً شبه حرفي من كتاب: قوت القلوب، وكذلك نصوص كثيرة غيره.(1/225)
وبعد، فإن الزمان تقاصرت أذياله، وكادت ترتفع بانكشاف الحق أسباله، ونطق الحق على لسان الخلق بأسراره، وزهق الباطل بتشعشع أنواره، واقتضت الحقيقة أن تُهْتَك أستارها، وطفقت في كل سمعٍ يُحدث أخبارُها، أقبل علي جماعة من إخوان الصدق والصفا، وأرباب الفتوة والوفا، من أهل العرفان والتحقيق، ومَن أيدته العناية بالتوفيق، خصوصاً كالصاحب المعظم العالم العارف الموحد المحقق، شمس الملة والدين، قدوة أرباب اليقين...أن أشرح لهم كتاب فصوص الحكم...شارطين علي أن لا أكتم شيئاً من جواهركنوزه(1)...اهـ.
- والكتب الصوفية التي ألفت في القرن الثالث عشر الهجري وعدة قرون قبله، تحمل كلها، أو جلها، طابع التصريح الكامل بوحدة الوجود، وما يدور حولها من عقائد وفلسفات.
وجاء القرن الرابع عشر، وتوسعت الثقافة، وزاد فهم بعض المسلمين للإسلام، ولبعض أعداء الإسلام، ولبعض أمراض المسلمين، وفهموا، بسبب الكتب التي ألفت في القرون السابقة، الكثير عن هذا السرطان الخبيث، وخطره ومكره، وأخذوا ينبهون عليه.
فأسرع (العارفون الصديقون الصادقون) إلى تقيتهم ورموزهم وألغازهم، وكلما توسع الوعي الإسلامي قليلاً، كلما زادوا في التعمية والغموض.
والنصوص الأخيرة صور من هذه التقية الجديدة، التي أخذت تمعن في الغموض والتعمية، حتى وصلت إلى حد الكذب الجريء.
كان القوم يستعملون فيما سبق العبارة والرمز واللغز والإشارة، أما في حاضرنا، فأخذوا يستعملون الإنكار؟!
وماذا عليهم؟ فالمهم هو (جلب الزبائن)، حتى إذا خضع الزبون للشيخ، وقام بالرياضات والمجاهدات والخلوات، التي تحقنه بالإيحاء الذاتي حقناً يملأ كل خليةٍ في جسمه، وطبق عليه شيخه الإيحاء الخارجي المستمر، حتى يصل إلى الجذبات، وتتجلى عليه التجليات، ويذوق من معاني الألوهية، أو يذوق على الأقل معنى اسم من أسماء الحق، عندئذ يُمْسون عاروين، ولات حين؟؟
__________
(1) شرح القاشاني، (ص:4).(1/226)
والذين لا يصلون، من الذين وقعوا في الشبكة، يُمْسون، بتأثير الإيحاءات، أنصاراً مغفلين متحمسين، يدافعون عن الشيخ العارف، وعن الطريقة المجيدة، وعن السالك المريد...ويمهدون المنزلقات إلى الهاوية، ويغطونها بالألفاظ المنمقة، والأكاذيب الجريئة المزوقة...انتظاراً لصيد جديد، في يوم جديد.
وقد تطور هذا الأسلوب أكثر وأكثر، وصار أكثر جدة.
وهذا الأسلوب الجديد، لا يخرج على القاعدة التي وضعها سيد الطائفة الجنيد، عندما قرر: لا يكون الصديق صديقاً حتى يشهد له في حقه سبعون صديقاً أنه زنديق، وفي رواية: ألف صديق...
ولا يخرج على قاعدة الجنيد عندما أفتى هو والشبلي بقتل الحلاج، وهما يعلمان أنه في الحقيقة ولي الله حقاً.
ولا يخرج على القاعدة التي وضعها أقطابهم وعارفوهم، والتي هي شرح لقاعدة الجنيد، والتي تقول: إن الصديق يعطي الظاهر- أي الشريعة- حكم الظاهر، ويعطي الباطن- أي حقيقتهم- حكم الباطن، وبالتعبير الآخر لا يلبس بالباطن على الظاهر ولا يلبس بالظاهر على الباطن.
كما لا يخرج على القانون الأساسي للطائفة: إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه.
وكما قلنا: المهم هو جلب الزبائن، وبعد ذلك يأتي التسليك، ثم يأتي الباقي.
ويقول عبد القادر عيسى(1):
اختلف علماء النظر في موقفهم من العارفين المحققين القائلين بوحدة الوجود، فمنهم من تسرع باتهامهم بالكفر والضلال وفهم كلامهم على غير المراد(2)...
__________
(1) شيخ الطريقة الشاذلية الدرقاوية في حلب.
(2) حقائق عن التصوف (ص:552)، وللعلم، يقال: إن كتاب (حقائق عن التصوف) هو من تأليف أحد تلاميذ الشيخ، نسبه إلى شيخه طلباً للقربى والوصول.(1/227)
- إذن، فالعارفون المحققون يقولون بوحدة الوجود، وهذا اعتراف كامل من عارف محقق، كما يعترف أن من علماء النظر من يتهمهم بالكفر والضلال، لكنه يتهم المتهمين بالتسرع، وعدم فهم كلامهم. فهل صحيح أنهم لم يفهموا كلامهم؟ مع أنه يقرر بوضوح أن العارفين المحققين يقولون بوحدة الوجود، فكيف ذلك؟
يتمم كلامه، قيقول:
...ومنهم من لم يتورط بالتهجم عليهم، فتثبت في الأمر، ورجع إليهم ليعرف مرادهم، لأن هؤلاء العارفين، مع توسعهم في هذه المسالة، لم يبحثوا فيها بحثاً يزيل إشكال علماء النظر، لأنهم تكلموا في ذلك ودونوا لأنفسهم وتلاميذهم، لا لمن لم يشهد تلك الوحدة من غيرهم، لذلك احتاج الأمر للإيضاح، لتطمئن به قلوب أهل التسليم من علماء النظر(1).
- تقرير جديد؛ إن غيرهم لم يشهد تلك الوحدة! إذن فهم شهدوها.
يتمم: ومن العلماء الذين حققوا في هذه المسألة وفهموا المراد منها، السيد مصطفى كمال الشريف، حيث قال: الوجود واحد لأنه صفة ذاتية للحق سبحانه وتعالى، وهو واجب فلا يصح تعدده، والموجود هو الممكن، وهو العالم، فصح تعدده باعتبار حقائقه. وقيامه إنما هو بذلك الوجود الواجب لذاته، فإذا بقي الوجود كما هو، فالموجود غير الوجود، فلا يصح أن يقال: الوجود اثنان: وجود قديم ووجود حادث، إلا أن يراد بالوجود الثاني (الموجود) من إطلاق المصدر على المفعول، فعلى هذا لا يترتب شيء من المحاذير التي ذكرها أهل النظر على وحدة الوجود القائل بها أهل التحقيق...
__________
(1) حقائق عن التصوف، (ص:552).(1/228)
...إلى أن قال: الحس لا يرى إلا الهياكل -أي: الموجود- والروح لا تشهد إلا الوجود، وإذا شهدت الموجود فلا تشهده إلا ثانياً، على حد من قال: ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله. وأراد بهذه الرؤية الشهودَ، لا رؤية البصر، لأن الرؤية من خصائص البصر، والشهود من خصائص البصيرة، لذلك ورد: أشهد أن لا إله إلا الله، ولم يرد (أرى) بل ولا يصح أن يقال: (أرى)(1). اهـ.
- إذن فقد قُتل الحلاج وأبو حمزة وابن برّجان والسهروردي وغيرهم، واستتيب من الكفر الجنيد والشبلي والبسطامي وأبو حيان وغيرهم، وكُفِّرَ وكُذِّبَ الغزالي وأحرق كتابه إحياء علوم الدين، وكذلك ابن عربي وغيره وغيره...من أجل إطلاق الاسم الوجود على المخلوق الموجود من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول!!
أي قالوا: الوجود بدلاً من أن يقولوا: الموجود.
من أجل استعمال المصدر بمعنى اسم المفعول، صُنع بهؤلاء المساكين الأبرياء ما صُنع! ومن أجل هذا تسرع علماء النظر باتهامهم بالكفر والضلال! (يا حرام).
على أنه يعود فيعترف أن الموجود هو الهياكل فقط، أي الأشكال والصور التي تُرى بالبصر، وهي في حقيقتها إنما هي الوجود، أي الحق سبحانه، وهذا لا يشاهده إلا الروح.
وهناك ملحوظة هامة جداً، إنها تفسيره لمعنى (أشهد)، فنحن نعرف أن معناها لغةً وشرعاً: أعترف وأقر، وكذلك فهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهمها عنه أصحابه وتابعوهم وكل المسلمين المسلمين.. بينما يفسرها هنا بمعنى (شهود البصيرة) وهو الذي يكون أثناء (الجذبة)!! وإلى الله المشتكى.
يتمم: وهكذا شأن العلماء المنصفين، يغارون على الشريعة الغراء، ويتثبتون في الأمور، دون أن يتسرعوا بتكفير أحد من المؤمنين، ويرجعوا في فهم كل حقيقة إلى أهل الاختصاص بها(2).
__________
(1) حقائق عن التصوف، (ص:552، 553).
(2) حقائق عن التصوف، (ص:553).(1/229)
- الجواب على هذا الكلام:. ((...يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)) [البقرة:9].
- يا هؤلاء، ما دام علماء النظر يكفرون أهل هذا الاختصاص، فكيف تطلبون منهم أن يرجعوا إليهم؟! ثم، هل الغيرة على الشريعة الغراء تكون بالتسليم للكفر وقبوله، واستفتاء أهله ليحكموا على أنفسهم؟! عجيب والله! إن الله سبحانه يقول: ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) [النساء:59]، وأنتم تطلبون من الآخرين أن يردوه إليكم لتقولوا لهم: إن كلمة الوجود هي من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول!
وكفى الله المؤمنين القتال! وصار الكفر إسلاماً والضلال إيماناً وحقيقتكم شريعة غراء. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ويقول: ...وهكذا تحقق السادة الصوفية بأعلى مراتب التوكل، فقلوبهم مطمئنة بالله تعالى، معتمدة عليه، واثقة به، متوجهة إليه،- مستعينة به، لأنه لا فاعل في الوجود سواه(1).
* تنبيه: أرجو من القارئ الذي عرف لغة القوم أن ينتبه إلى المراد من هذه العبارات، ويقول: ...ولذا طَرَق السادة الصوفية باب شكر الله تعالى على جميع أحوالهم، وحمدوا الله تعالى في سائر شئونهم، وشهدوه الفاعل المطلق والمنعم المتفضل والبر الرحيم(2)...
- قد مر معنا عشرات الأمثلة على معنى قولهم: (لا فاعل إلا الله)، وهنا يزيد المعنى توكيداً وتوضيحاً بقوله: (لا فاعل في الوجود سواه)، و(شهدوه الفاعل المطلق)، أي أضاف في الأولى عبارة: (في الوجود)، وفي الثانية: (المطلق)، وهذا زيادة في التوضيح.
__________
(1) حقائق عن التصوف، (ص:380).
(2) حقائق عن التصوف، (ص:393).(1/230)
ويقول: قالوا: وإنما السماع حقيقةٌ ربانية ولطيفةٌ روحانية، تسري من السميع المُسْمع إلى الأسرار بلطائف التحف والأنوار، فتمحق من القلب ما لم يكن، ويبقى فيه ما لم يزل، فهو سماع حق بحق من حق(1).
- وطبعاً، نحن نعرف الآن تماماً ما معنى: (فتمحق ما لم يكن، ويبقى ما لم يزل) و(سماع حق بحق من حق)، وإن وُجد من لا يعرف معناها بعد مئات الأمثلة السابقة فلن يكون هذا ذنبنا.
ويقول: ويختلف الواصلون في وصولهم إلى الله تعالى، كل على حسب مقامه وهمته:
فمنهم من وصل في سيره إلى وحدة الأفعال ذوقاً وشهوداً، ويفنى فعله وفعل غيره، ويتذوق معنى قوله تعالى: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) [الأنفال:17]، وهذه رتبة في الوصول.
ومنهم من يصل في سيره إلى وحدة الصفات ذوقاً وشهوداً، فيتذوقون معنى قوله تعالى: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)) [الإنسان:30]، ويتذوقون معنى الحديث القدسي: {فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به وبصرَه الذي يبصر به}، وهذه رتبة في الوصول. ومنهم من يترقى إلى مقام الفناء في الذات، فيشهد عرضية كل شيء مقابل وجود الحق عز وجل، وتفيض عليه أنوار اليقين ولسان حاله يقول:
وُجودي أن أغيبَ عن الوجود ... ... بما يبدو علي من الشهود
ويتذوق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أصدق كلمة قالها الشاعركلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل(2)}.
- الكلام واضح واضح، ونعرف الآن تماماً ماذا يريدون عندما يوردون قوله سبحانه: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ...)) [الأنفال:17]، وقوله: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)) [الإنسان:30]، فقد مرت كثيراً في الأمثلة السابقة مع شروحها التي قدموها، وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: {..كنتُ سمعه..}، وقد مر شرحها أيضاً.
__________
(1) حقائق عن التصوف، (ص:209).
(2) حقائق عن التصوف، (ص:280، 281).(1/231)
ولكن الملاحظ هنا، أن الشيخ استعمل عبارة (وحدة الأفعال) و(وحدة الصفات)، حتى إذا وصل إلى الذات لم يستعمل العبارة التي استعملها أسلافه في مثل هذا التسلسل، وهي عبارة (وحدة الذات) بل لاص عنها ليستعمل عبارة تحمل نفس المعنى، استعملها العارفون الصديقون المقربون في أقوالهم ويستعملونها، وهي: (الفناء في الذات) ووضوحها كافٍ.
ونُضيف: إن كل من يأخذ أقوال شخص ما على أنها أقوال حكيمة يُطلب تطبيقها، ثم يقدس هذا الشخص، فلا يذكر اسمه إلا مصحوباً بـ (سيدي) يتبعها بالدعاء له، إن كل من يفعل مثل هذا مع شخص ما فهو لا يفعله إلا إن كان يؤمن بعقيدته وسلوكه إيماناً كاملاً.
وهذه نبذ من كتاب عبد القادر عيسى المسمى: (حقائق عن التصوف)، يورد فيها أسماء متصوفة مرت معنا أقوالهم في وحدة الوجود، ورأينا مدى صراحتها ووضوحها.
يقول تحت عنوان: أقوال العارفين بالله من رجال التصوف..(1).
أبو حامد الغزالي:
قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي(2):
وقد أورد اسمه في الكتاب متمثلاً بأقواله ومستشهداً بها وداعياً إليها، تسعاً وثلاثين مرة.
- ومرت معنا أقوال الغزالي، فليرجع إليها القارئ ليرى ما فيها مما يغضب وجه الله.
ويقول: قال سيد الطائفتين الجنيد(3)..
- وقد مرت معنا أقوال الجنيد في وحدة الوجود، وورد اسمه في الكتاب سبعاً وعشرين مرة.
- وورد اسم ابن عطاء الله السكندري تسع عشرة مرة. جاء في المرة الأولى بقوله: يقول ابن عطاء الله السكندري(4).
وقد مرت أقواله الصريحة في وحدة الوجود.
__________
(1) حقائق عن التصوف، (ص:59).
(2) حقائق عن التصوف، (ص:60).
(3) حقائق عن التصوف، (ص:14).
(4) حقائق عن التصوف، (ص:66).(1/232)
ويورد اسم ابن الفارض وأقوالاً له ست مرات، جاء فيها في المرة الأولى النص التالي: ...وما علموا كيف كانت بداية ابن الفارض من حيث مجاهدته لنفسه، وإليك بعض كلامه يصف مجاهداته في سيره، مما يدل على أهمية المجاهدة، مع العلم أنه ابتدأ سيره إلى الله تعالى من نفسٍ لوامة، لا أمارة بالسوء، ويبين أن السالك الذي - لا مجاهدة له، لا سير له، ولا محبة له...(1).
- ونعرف إعلان ابن الفارض إيمانه بوحدة الوجود وتصريحه بذلك.
- وممن يورد أسماءهم مع أقوال لهم مشفوعة بالتقديس والدعاء: أبو الحسن الشاذلي في خمسة عشر موضعاً، أبو حمزة البغدادي في ثلاثة مواضع، أبو القاسم القشيري في خمسة عشر موضعاً، أبو يزيد البسطامي في خمسة مواضع، إبراهيم الدسوقي في موضع واحد، ابن عجيبة في ثلاثين موضعاً، أحمد زيني الدحلان في أربعة مواضع، زكريا الأنصاري في خمسة مواضع، عبد الكريم الجيلي في ثلاثة مواضع...وغيرهم الكثير مما مر معنا ومما لم يمر.
وقد رأينا أقوال هؤلاء العارفين في وحدة الوجود، وإيراد عبد القادر عيسى لهؤلاء الصوفية المشهورين هو دليل أكثر من كافٍ على إيمانه بما كانوا يؤمنون به، وهو وحدة الوجود ولا يبقى على الذين يخادعون إلا أن يكفوا عن مخادعتهم.
ويقول آية الله الخميني:
واعلم أن الأسماء والصفات الإلهية كلها كامل، بل نفس الكمال...وأكمل الأسماء هو الاسم الجامع لكل الكلمات، ومظهره الإنسان الكامل المستجمع لجميع الصفات والأسماء الإلهية ومَظْهَرُ جميع تجلياته(2)...
ويقول: فالإنسان الكامل جميعُ سلسلةِ الوجود وبه يتم الدائرة، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو الكتاب الكلي الإلهي(3)...
ويقول: الموجودات كلها أسماء إلهية.
__________
(1) حقائق عن التصوف، (ص:127).
(2) شرح دعاء السحر، (ص:78).
(3) شرح دعاء السحر، (ص:67).(1/233)
ولعلك بعد التدبر في روح الاسم، والتفكر في حقيقته ومطالعة دفتر سلسلة الوجود وقراءة أسطره، ينكشف لك بإذن الله وحسن توفيقه أن سلسلة الوجود ومراتبها ودائرة الشهود ومدارجها ودرجاتها كلها أسماء إلهية(1)...
- هذا مثل قول قائلهم: واجتمع فيه النجو مع الورد وغيرها مما مر.
ويقول تحصيل إشراقي: فإذا بلغ السالك إلى الله والمجاهد في سبيله إلى ذاك المقام، وتجلى عليه الحق في مظاهر الخلق، مع عدم احتجاب عن الحق والخلق، بنحو الوحدة في ملابس الكثرات، والكثرة في عين الوحدة، ينفتح عليه أبواب من المعرفة والعلوم والأسرار الإلهية(2)...- أقول: سنرى فيما يأتي من الفصول قيمة هذه المعرفة والعلوم الكشفية.
ويقول سعيد حوى:
...وبشكل عام، فإن السائر إلى الله ليصل إلى مقام الإحسان، فإنه يمر على ما يسميه الصوفية (الفناءات)، والفناء في الأفعال بأن يحس الإنسان أن كل شيء فعلُ الله، والفناء في الصفات بأن يستشعر الإنسان صفات الله عز وجل، والفناء في الذات، وهو أن يستشعر الإنسان أولية الذات الإلهية وصمدانيتها. ومتى استقر في هذا المقام أحس بمقام الإحسان، ويحاولون في هذه الحالة أن ينقلوه إلى مقام (المشاهدة مع رؤيته الخلق)، وهذا الذي يسمونه مقام (البقاء)، وقد تكون النقلة سريعة إلى الفناء في الصفات مباشرة، أو قد تكون إلى الفناء في الذات مباشرة، ثم يبدأ السالك يستشعر ما سوى ذلك(3)؟
- النص واضح جداً، مر معنا أمثاله. وفيه بعض العبارات الغامضة:
فعبارة: ...أولية الذات الإلهية يعني بها: كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما كان عليه، فأولية الذات الإلهية هي: كان ولا شيء معه، ويستشعر بها، أي: يستشعر أنها على حالها كما كانت، وهو الآن على ما كان عليه.
__________
(1) شرح دعاء السحر، (ص:84).
(2) شرح دعاء السحر، (ص:113).
(3) تربيتنا الروحية، (ص:298).(1/234)
وعبارة: ...وصمدانيتها: للاسم الصمد معنيان؟ أحدهما: الذي يُصمد إليه، أي: يُرجع إليه ويُتوجه إليه في كل شيء. ومعنى صمدانية الذات الإلهية عند الصوفية هو نفس معنى الآية: ((إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)) [العلق:8] عندهم، ونفس معنى: ((ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً)) [الفجر:28] عندهم.. وقد مر معنا كيف يفهمون الآيتين.
إذن، فمعنى قوله: يستشعر الإنسان أولية الذات الإلهية وصمدانيتها هو: أنه يستشعر وحدة الوجود. وهذا المعنى واضح تماماً لكل من فهم عباراتهم وتذوق معانيها. أما من لم يستطع بعدُ فهمها، رغم مئات الأمثلة والنصوص السابقة! فلا حيلة لنا معه.
وأمامنا أيضاً العبارة: ...أن ينقلوه إلى مقام المشاهدة مع رؤيته الخلق، وهذا...مقام البقاء.
إذن فمقام البقاء -ونعرفه سابقاً- هو المشاهدة يضاف إليها رؤية الخلق. وبالرغم من أننا الأن نعرف معنى مصطلح (المشاهدة) ولكن النص يزيدنا إيضاحاً، فالمشاهدة هي رؤية الحق بدون خلق، أي: رؤية الله، جل وعلا، في كل شيء، بحيث لا يرى الواصل خلقاً، بل يرى كل شيء هو الحق، وهذا هو مقام الفناء في الذات، لكن الشيخ ينقله إلى مقام (المشاهدة مع رؤيته الخلق)، وهو مقام (البقاء) أو الفرق الثاني، أو صحو الجمع...أو...وهو المقام الذي يقول فيه أبو الحسن الشاذلي: اجعل الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً. ويقول فيه الجنيد: لا بد من مشاهدة الفرق بين ما يأمر الله به وما ينهى عنه. ويقول فيه ابن عجيبة: إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه، وهو المقام الذي يتواصون به منذ مقتل الحلاج وغيره.
وأترك للقارئ تحليل قوله: (ثم يبدأ السائر يستشعر ما سوى ذلك) ليزداد تمرساً بفهم النصوص الصوفية.
ويقول سعيد حوى أيضاً:
ولئن كان جزء السير التحقق بأسماء الله، ولئن كانت مراحل السير تتم بالانتقال من فناء إلى فناء، فإن الذكر هو وسيلة ذلك كله(1).
__________
(1) تربيتنا الروحية، (ص:303).(1/235)
- معنى (التحقق بأسماء الله) واضح، ومر كثيراً في النصوص السابقة، ومع ذلك أورد أمثلة تساعد على التوضيح أكثر:
لو قال قائل: فلان متحقق باسم الشجاع فإن كل من يسمع هذا القول يعرف أن فلاناً شجاع بكل معنى الشجاعة.
ولو قال: فلان متحقق باسم الفيلسوف، لفُهم مباشرة أن فلاناً فيلسوف ضالع.
ولو قال القائل: فلان متحقق باسم الصوفي لعُرف دون تردد أن فلاناً صوفي. وهكذا.. عندما يقول القائل: إن السائر إلى الله، تحقق باسم من أسماء الله، وليكن مثلاً: الرب، فكل من يسمع هذا القول يعرف أن فلاناً تحقق بالربوبية، أي: صار رباً.
وهكذا بالنسبة للاسم (الرحمن)، وفي آخر الطريق بالنسبة للاسم (الله). ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ويقول سعيد حوى أيضاً:
...ومع أنني في سيري إلى الله أذاقني الله من فضله مِن معاني اسمِهِ الصمد جل جلاله وهو المقام الذي زل به هؤلاء(1).
- لو سمعت قائلاً يقول: فلان ذاق معنى الوزارة فماذا تفهم من ذلك؟ إن أي إنسان يسمع هذا الكلام يفهم منه بدهياً أن فلاناً صار وزيراً، فذاق معنى الوزارة. وكذلك قول الشيخ هنا: أذاقني...مِن معاني اسمه الصمد، أي مرت به حال صار فيها صمداً، أو استشعر من الألوهية الاسم الصمد.
وقد رأينا فيما سبق من نصوص أن الواصل يذوق معنى الأسماء الإلهية، أو يتحقق بها بالتدريج، اسماً بعد اسم، حتى يصل إلى الاسم (الرب)، ثم يصل إلى الاسم الأعظم (الله) حيث يصير هو هو، ويقول حينئذ: أنا أنا أو كما قال ابن البنا السرقسطي في المباحث الأصلية:
ثم امتحى في غيبةِ الشهود ... ... فاطلق القولَ أنا معبودي
ويقول سعيد حوى أيضاً:
__________
(1) تربيتنا الروحية، (ص:317).(1/236)
نحن نعلم أن هناك حالات للسالك يحس فيها بأحدية الذات الإلهية، ويستشعر فيها اسم الله الصمد، وهي حالة يستشعر فيها السالك فناء كل شيء، ولكن هذا الشعور لا بد أن يرافقه الاعتقاد بأن الله خالق، وأن هناك مخلوقاً، وأن الخالق غير المخلوق(1).
- إذن فالسالك يحس بأحدية الذات الإلهية، وقد مر معنا ماذا يعنون بعبارة أحدية الذات الإلهية، مرت في نصوص يمكن أن يقال عنها: كثيرة، وكذلك يستشعر السالك أيضاً في تلك الحالات اسم الله الصمد، أي يستشعر الصمدانية، أو الألوهية، فالمدلول الأخير للصمدانية والألوهية واحد، ويفسر استشعار الاسم الصمد، باستشعار فناء كل شيء، أي لا يشعر إلا بالله وحده في كل شيء ومع كل شيء وبكل شيء، وهذه هي وحدة الوجود.
ولكنه يقرر بأن هذا هو إحساس واستشعار، وذوق كما يقول في مكان آخر: ولكن لا بد أن يرافقه الاعتقاد بأن الخالق غير المخلوق.
وهكذا أوصلنا إلى مقام الفرق الثاني، الذي هو مقام الكمَّل من الرجال (الإنسان الكامل)، مع ملحوظة نبهنا إليها، كانوا فيما سلف من القرون يطلبون من الواصل أن يقول بلسانه: إن الخالق غير المخلوق، بينما في قلبه، يجب أن يعتقد بأنه هو هو، أما الآن فالشيخ يطلب من الواصل الاعتقاد- المرافق للشعور بالوحدة- أن الخالق غير المخلوق، وهذا تطور في التقية، على أننا لو تفحصنا الكلام بهدوء، لرأينا أن النتيجة واحدة.
لنأت إلى مَثَل (الماء والثلج)، فالذائق لكليهما يحس ويستشعر ويذوق أن الثلج هو نفس الماء تكثف عنه، فهو هو، ولكن لا بد أن يعتقد أن الماء غير الثلج، فمظهرهما مختلف، ودرجة حرارتهما مختلفة، وهذا مائع وهذا جامد، إذن، فالاعتقاد بأن هذا غير هذا تؤكده عدة ظواهر، وكذلك الوجود، فالملكوت غير الجبروت وبينهما عدة فروق في المظاهر، لكن الحقيقة واحدة، هي أحدية الذات الإلهية، وهي هي وحدة الوجود. وقد يقول قائل: إن هذا الاستنتاج فيه توجيه معين!
__________
(1) تربيتنا الروحية، (ص:79).(1/237)
لكن لو نظرنا في كلام الشيخ لرأينا الأمر واضحاً، فهو يقول: يحس أحدية الذات الإلهية، ويستشعر الاسم الصمد، ويذوق معنى الاسم الصمد، وهذا التصريح واضح بأن الواصل يستشعر وحدة الوجود، حيث لا شيء إلا الله، ثم يقول: لا بد من الاعتقاد بأن الخالق غير المخلوق! فكيف التوفيق بين المتناقضين؟ مع العلم أن الوحدة شيء يحسه ويستشعره ويذوقه ويتحقق به، وهذا ما يسمونه حق اليقين، بينما اعتقاد الغيرية هو شيء مفروض فرضاً (لا بد منه)! كيف التوفيق؟؟! نترك الأمر للقارئ.
ثم لننتبه إلى قول الشيخ: وهو المقام الذي زل به هؤلاء...وماذا تعني هذه العبارة؟ وأترك تحليلها للقارئ الكريم ليتسلى بها، وهي سهلة المتناول.
* وأخيراً، هذه نصوص دامغة من أقوالهم من كتبهم المعتمدة لديهم، بدءاً من الجنيد وعصره، حتى يومنا هذا، وهي غيض من فيض، فلو حاولنا جمع أقوال عارفيهم ومحققيهم في (وحدة الوجود) لاحتجنا إلى ألوف الصفحات، على أن في ما أوردناه كفاية وأكثر من كفاية.
إذن، فالصوفية كلهم يؤمنون بوحدة الوجود، مع العلم أن بعضهم لم يسمعوا بعبارة: وحدة الوجود، وإنما يعرفون أن المخلوقات هي الله، وأنه يجب كتم هذه المعرفة عن العامة، ولا تقال إلا للخاصة.
ونحن، في عرضنا للصوفية، نواجه نوعين من الناس: خبثاء وبسطاء.
والبسطاء يرددون أقوال الخبثاء بسلامة صدرٍ وحسن نية.
ومن جملة ما سيقوله لنا كلا النوعين في هذا المقام: إن الصوفيين الحاليين لا يعرفون هذه الأمور! أو: إنهم الآن لا يفهمون ذلك! أو: إن هذا شيء انتهى! أو.. أو.. وما أكثر ما عندهم من اعتراضات كلها باردة وليس فيها شيء من الحق.
فسداً لذرائع أمثال هؤلاء، نورد نصوصاً معتمدة لدى الطرق الصوفية، من أورادهم وصلواتهم التي يتعبدون بها في خلواتهم واجتماعاتهم، يطبعونها في كتب يوزعونها، ويحفظون نصوصها:
* من أوراد الطريقة القادرية وقد يستعملها الآخرون:(1/238)
...الاسم الثالث (هو)، عدد تلاوته أربعة وأربعون ألفاً وستمائة مرة، وتوجهه: يا من هو الله لا إله إلا أنت هو هو هو، إلهي حقق باطني بسر هويتك، وأفن مني أنانيتي إلى أن تصل إلى هوية ذاتك العلية، يا من ليس كمثله شيء، أفنِ عني كل شيء غيرك، وخفف عني ثقل كثائف الموجودات، وامحُ عني نقطة الغيرية لأشاهدك ولا أدري غيرك، يا هو يا هو يا هو، لا سواك موجود، لا سواك مقصود، يا وجود الوجود(1)...
* ومن أوراد الطريقة القادرية أيضاً:
الحمد لله الذي كيَّف الكيْف، وتنزه عن الكيفية، وأيَّن الأيْن وتعزز عن الأينية، ووُجد في كل شيء وتقدس عن الظرفية، وحضر عند كل شيء وتعالى عن العندية(2)...
* ومنها:..يا أول كل شيء، ويا آخر كل شيء، ويا ظاهر كل شيء، ويا باطن كل شيء(3)..
- أقول: هذا مثل قولهم: (وما الكلب والخنزير إلا إلهنا)، و(ولا يهولنك صدور الكائنات الدنسية من سنخ القدوسية)، وغيرها.
* ومنها:..إلهنا فطهر قلوبنا من الدنس لنكون محلاً لمنازلات وجودك، وخلصنا من لوث الأغيار لخالص توحيدك، حتى لا نشهد لغير أفعالك وصفاتك وتجلي عظيم ذاتك(4)...
* ومنها:..رباه رباه غوثاه، يا خفياً لا يظهر، يا ظاهراً لا يخفى، لطُفَتْ أسرار وجودك الأعلى فتُرى في كل موجود، وعلت أنوار ظهورك الأقدس فبدت في كل مشهود(5)...
- وهذا أيضاً مثل قولهم: (ولا يهولنك صدور الكائنات الدنسية من سنخ القدوسية) وما شابهها.
__________
(1) الفيوضات الربانية في المآثر والأوراد القادرية، (ص:16).
(2) الفيوضات الربانية (عقيدة الغوث الأعظم)، (ص:41).
(3) الفيوضات (ورد الصبح)، (ص:115).
(4) الفيوضات (ورد العشاء)، (ص:138).
(5) الفيوضات (ورد الاثنين)، (ص:143).(1/239)
* ومنها: ..رب أشهدني مطلق فاعليتك في كل مفعول حتى لا أرى فاعلاً غيرك، لأكون مطمئناً تحت جريان أقدارك، منقاداً لكل حكم ووجود عيني وغيبي وبرزخي، يا نافخاً روح أمره في كل عين، اجعلني منفعلاً فى كل حال لما يحولني عن ظلمات تكويناتي، وألحق فعلي وفعل الفاعلين في أحدية فعلك(1)...
* ومن أوراد القادرية أيضاً:
إلهي عم قِدَمُك حَدَثي ولا أنا، وأشرق سلطان نور وجهك فأضاء هيكل بشريتي فلا سواك، فما دام مني فبدوامك، وما فني مني فبرؤيتي إليك، وأنت الدائم لا إله إلا أنت، أسألك بالألف إذا تقدَّمَتْ، وبالهاء إذا تأخرت، وبالهاء مني إذا انقلبت لاماً، أن تفنيني بك عني، حتى تلتحق الصفة بالصفة، وتقع الرابطة بالذات(2)...
- أقول: (الألف إذا تقدَّمَتْ، والهاء إذا تأخرت، والهاء مني إذا انقلبت لاماً)، هذا لغز أرجو من لقارئ أن يتسلى بحله قبل قراءة هذا الحل في السطور التالية.
الحل: أمامنا في هذا اللغز ثلاثة عناصر: الألف المتقدمة، والهاء المتأخرة، واللام (المنقلبة عن الهاء منه)؟
بما أن الألف متقدمة والهاء متأخرة، إذن، فاللام متوسطة بينهما، ويكون اللغز هو كلمة (إله).
ويحوي هذا اللغز لغزاً آخر هو قوله: (والهاء مني)، التي يعني بها: الهاء من الضمير (هو) العائد عليه. وأترك للقارئ التسلي بتحليله وإلى ماذا يشير؟
* ومن أورادهم: ...يا هو يا الله (ثلاثاً) لا إله غيرك، أسقنا من شراب محبتك، وأغمسنا في بحار أحديتك، حتى نرتع في بحبوحة حضرتك، وتقطع عنا أوهام خليقتك(3)...
* ومنها: اللهم صل وسلم على من له الأخلاق الراضية...الأنيس بك والمستوحش من غيرك، حتى تمتع من نور ذاتك، ورجع بك لا بغيرك، وشهد وحدتك في كثرتك(4)...
__________
(1) الفيوضات (ورد الاثنين)، (ص:144).
(2) الفيوضات (ورد الأربعاء)، (ص:145).
(3) الفيوضات (ورد صلاة الكبرى)، (ص:158).
(4) الفيوضات (ورد صلاة الكبرى)، (ص:158).(1/240)
* ومنها: ...وطهِّرنا من قاذورات البشرية، وصفّنا بصفاء المحبة الصديقية من صدأ الغفلة ووهم الجهل، حتى تضمحل رسومنا بفناء الأنانية ومعاينة الطمسة الإنسانية في حضرة الجمع، والتحلية، والتحلي بألوهية الأحدية، والتجلي بالحقائق الصمدانية في شهود الوحدانية، حيث لا حيث ولا أين ولا كيف، ويبقى الكل لله وبالله ومن الله وإلى الله ومع الله غرقاً بنعمة الله في بحر منة الله(1)...
* ومنها: ...صلاةً هو لها أهل، صلاة تفرّج بها عنا هموم حوادث عوارض الاختيار، تمحو بها عنا ذنوب وجودنا بماء سماء القربة، حيث لا بين ولا أين ولا جهة ولا قرار، وتفنينا بها عنا في غياهب غيوب أنوار أحديتك، فلا نشعر بتعاقب الليل والنهار، وتحولنا بها سماح رياح فتوح حقائق بدائع جمال نبيك المختار، وتلحقنا بها أسرار ربوبيتك في مشكاة الزجاجة المحمدية، فتضاعف أنوارنا بلا أمد ولا حد ولا إحصار(2).
* ومن أورادهم:
...وأيدني اللهم عند شهود الواردات بالاستعداد والاستبصار، وأفض علي من بحار العناية المحمدية والمحبة الصديقية ما أندرج به في ظُلَم غياهب عيون الأنوار، واجمعني واجعل لي بين سرِّك المكنون الخفي والاستظهار، واكشف لي عن سر أسرار أفلاك التدوير في حواشي التصوير، لأدبركل فلك بما أقمته من الأسرار، واجعل لي الحظ الخطير الممدود القائم بالعدل بين الحرف والاسم، فأحيط ولا أُحاط، بإحاطة: ((لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)) [غافر:16](3).
- الرجاء الانتباه بإمعان إلى الجملة (فأحيط ولا أُحاط..)! وبأي إحاطة؟! بإحاطة: ((لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)) [غافر:16]!! وفهمكم كفاية.
__________
(1) الفيوضات (ورد صلاة الكبرى)، (ص:167).
(2) الفيوضات، (ص:177).
(3) الفيوضات، (حزب الحفظ)، (ص:183، 184).(1/241)
- ومن الجدير بالملحوظةأن الطريقة القادرية (بل كل الطرق الصوفية) تتبنى عينية عبد الكريم الجيلي، التي مر أبيات كثيرة منها، يتبنونها على أنها من نظم عبد القادر الجيلاني. ولا يهمنا نسبتها لهذا أو لذاك، وإنما الذي يهمنا هو تبنيهم لها، ويستطيع القارئ الرجوع إليها في صفحات سابقة، ولا بأس من إيراد بيتين منها:
وما الخلق في التمثال إلا كثلجة ... ... وأنت لها الماء الذي هو نابع
وما الثلج في تحقيقنا غير مائه ... ... وغيران في حكمٍ دعته الشرائع
* ومن أوراد الطريقة الرفاعية (ويستعملها غيرهم):
...فكفى به برهان عين علمك المكنون، ببحر سر معنى (ن)، ودقيقة أمرك المصون، بتجلي بهاء إشارة كُن فيكون، واسطة الكل في مقام الجمع، ووسيلة الجمع في تجلي الفرق، رحمة للعالمين قبل العالمين(1)..
* ومن أوراد الرفاعية من (صلاة الأنس):
...اللهم صل على ألف إنس إنسان الأزل، بحكمة باء برهان من لم يزل، أصل الأشياء الكلية، آدم في حقيقة البداية، أثر السر في آثار خفايا المظاهر الخفية، أول الكل في أول الأولوية...المتجلّي في سماء المعرفة بظهور مظهر شهادة الرحمن، محمدي الذات، المدلي إلى قاب الوحدة بتجلي موكبَي العناية والإحسان...أصل السبب في الإيجاد، فالكل منه والكل إليه، خزانة الأسرار، فالوارد والذاهب عنه وإليه(2)...
* ومن أورادهم:
اللهم صل على المتخلق بصفاتك، المستغرق في مشاهدة ذاتك، رسول الحق، المتخلق بالحق، حقيقة مدد الحق: ((أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ)) [يونس:53]...وقد جعلت كلامك خلقه، وأسماءك مظهره، ومنشأ كونك منه(3)...
* ومنها: اللهم اجمعنا بك عليك، واردُدْنا منك إليك، وأرشدنا في حضرة جمع الجمع، حيث لا فرقة ولا منع(4)...
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:251).
(2) قلادة الجواهر، (ص:263).
(3) بوارق الحقائق، (ص:326).
(4) بوارق الحقائق، (ص:328).(1/242)
* ومنها: اللهم بك توسلت.. أن تصلي عليه صلاة أبدية ديمومية قيومية إلهية ربانية، تصفينا بها من شوائب الطبيعة الآدمية بالسحق والمحق، وتطمس بها آثار وجودنا الغيرية عنا في غيب غيب الهوية، فيبقى الكل للحق في الحق بالحق(1)...
* ومن الأدعية التيجانية (ويستعملها غيرهم):
اللهم حققني بك تحقيقاً يسقط النسب والرتب والتعيينات والتعلقات والاعتبارات والتوهمات والتخيلات، حيث لا أين ولا كيف ولا رسم ولا علم ولا وصف ولا مساكنة ولا ملاحظ، مستغرقاً فيك بمحو الغير والغيرة بتحقيقي بك من حيث أنت كما أنت وكيف أنت، حيث لا حس ولا اعتبار إلا أنت بك لك عنك منك، لأكون لك خالصاً وبك قائماً وإليك آيباً وفيك ذاهباً بإسقاط الضمائر والإضافات(2)...
* ومن أدعيتهم (ياقوتة الحقائق):
الله الله الله، اللهم أنت الله الذي لا إله إلا أنت العالي في عظمة انفراد حضرة أحديتك. التي شئت فيها بوجود شئونك، وأنشأت من نورك الكامل نشأة الحق، وأنطقتها وجعلتها صورة كاملة تامة تجد منها بسبب وجودها من انفراد أحديتك قبل نشر أشباحها، وجعلت منها فيها بسببها انبساط العلم، وجعلت من أثر هذه العظمة ومن بركاتها شبحة الصور كلها، جامدها ومتحركها، وأنطتها بإقبال التحريك والتسكين، وجعلتها في إحاطة العزة من كونها قبلت منها وفيها ولها، وتشعشعت الصورُ البارزة بإقبال الوجود، وقدرت لها وفيها ومنها ما يماثلها مما يطابق أرقام صورها، وحكمت عليها بالبروز لتأدية ما قدرته عليها، وجعلتها منقوشة في لوحها المحفوظ الذي خلقت منه ببركته، وحكمت عليها بما أردت لها وبما تريد بها، وجعلت كل الكل في كلك، وجعلت هذا الكل من كلك، وجعلت الكل قبضة من نور عظمتك روحاً لما أنت أهل له(3)...
* وفي الطريقة النقشبندية:
__________
(1) بوارق الحقائق، (ص:340).
(2) ميزاب الرحمة الربانية، (ص:23).
(3) الميزاب، (ص:25).(1/243)
مر معنا قول الشيخ سلامة العزامي(1) واصفاً شيخه أمين الكردي:
...وكان يرى أن القول بوحدة الوجود من سُكر الوقت وغلبة الحال، يعذر صاحبه إذا كان مغلوباً، ولا يصح تقليد غيره له(2)...
ويقول محمد بن سليمان البغدادي الحنفي النقشبندي(3):
...الإسراف السابق لا ينافي الجذب اللاحق، لأن كثيراً من الأولياء الأكابر جذبتهم الواردات الإلهية وهم في الإسراف والمعصية، وأما الإسراف اللاحق، إذا لم يغلب على الخير، بل كان الأمر بالعكس، فلا يُحْكَم به على هلاك صاحبه جزماً والطعن في حاله...واعلم أن الجذب وحده من غير سلوك في الطريق المستقيم بامتثال أوامر الحق تعالى والاجتناب عن نواهيه لا نتيجة له أصلاً...وكذلك السلوك بامتثال الأوامر واجتناب النواهي من غير جذب إلهي لا نتيجة له غير الدخول في حيز العلماء والعباد من أهل الظاهر(4)...
- وطبعاً، الجذبة هي التجلي الإلهي، وفيها يحصل التحقيق بالأسماء الإلهية، والاستشعار بالاسم الصمد، أو بالألوهية.
* ومن أذكار النقشبندية (ذكر النفي والإثبات) أي: (لا إله إلا الله) جاء في آدابه:
__________
(1) أحد علماء الأزهر، عاش إلى ما بعد سنة (1343هـ)، ولم أقف على أكثر من هذه المعلومات، إلا أنه كان خليفة الشيخ أمين الكردي.
(2) تنوير القلوب، ترجمة المؤلف، (ص:42).
(3) بغدادي، من خلفاء الخالدية، نسبة إلى الشيخ خالد النقشبندي، توفي سنة (1234هـ).
(4) الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية، (ص:107).(1/244)
...ضارباً بلفظ الجلالة على القلب منفذاً إلى قعره، بقوةٍ يتأثر بحرارتها جميع البدن، مع ملحوظة معنى هذه الجملة، وهو أنه لا مقصود إلا ذات الله تعالى، وينفي بشق النفي (لا إله) جميع المحدثات الإلهية، وينظرها بنظر الفناء، ويثبت بشق الإثبات (إلا الله) ذات الحق تعالى، وينظره بنظر البقاء...ويقول بقلبه قبل إطلاق كل نَفَس: إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي،... فإذا انتهى العدد إلى أحد وعشرين، تظهر له نتيجة هذا الذكر المبارك، وهي النسبة المعهودة عند سادتنا النقشبندية من الذهول والاضمحلال والاستغراق في شهود المذكور تبارك وتعالى(1)...
- والنقشبندية ينبهون إلى ما يلي: مَن كان مستعداً لتقدم الجذبة على السلوك، لقنه الشيخ الذكر الأول (الله الله..)، ومَن كان مستعداً لتقدم السلوك على الجذبة، لقنه الذكر الثاني (لا إله إلا الله)(2)...ومن أصولهم: (الأصل الرابع: المراقبة):
اعلم أيها الأخ أن المراقبة هي عِلمُ المريد وتحققه باطلاع الله عليه، واستغراقه بمشاهدة الحق، واستهلاكه بالحضور الإلهي، وملازمة القلب لذلك، فإذا انتهى أمر السالك في المراقبة إلى انتفاء علمه بنفسه وبالأكوان، حصل له مبادي الفناء، وحينئذ يليق له أن يذكر باللسان: لا إله إلا الله، مع التدبر الحقيقي، وأقله خمسة آلاف في اليوم والليلة، فإذا فني عن فنائه، وهو المسمى: بالفناء التام، أو مبادي البقاء، حصل له أول درجة من درجات الولاية الصغرى، فإذا تم له البقاء تشرف بالولاية الكبرى(3)...
- نصوص النقشبندية هذه توضح لنا معنى الولاية، وعلاقة (ذوق معنى الأسماء الإلهية) بالجذبة، وعدم علاقة الجذبة بالأعمال الصالحة ولا بالسلوك.
__________
(1) السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية، (ص:34).
(2) السعادة، (ص:34، 35).
(3) السعادة، (ص:35).(1/245)
* ومن الأوراد الشاذلية (وغيرهم يستعملها): مر معنا قولهم في الصلاة البشيشية- أو المشيشية-: وزج بي في بحار الأحدية وانشلْني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة، حتى لا أرى ولا أسمع ولا أحس الا بها(1)...
* ومما جاء في الوظيفة الشاذلية (الممزوجة بصلاة سيدي عبد السلام بن بشيش، وتقرأ صباحاً ومساءً):
...اللهم صل وسلم بجميع الشئون، في الظهور والبطون، على مَن منه انشقت الأسرار الكائنة في ذاته العلية ظهوراً.. وفيه ارتقت الحقائق منه إليه، وتنزلت علوم آدم به فيه عليه.. ولا شيء إلا وهو به منوط، وبسره الساري محوط.. اللهم إنه سرك الجامع لكل الأسرار، ونورك الواسع لجميع الأنوار...اللهم ألحقني بنسبه الروحي.. وعرفني إياه معرفة أشهد بها محياه وأصير بها مجلاه...وسر بي في سبيله القويم وصراطه المستقيم إلى حضرته المتصلة بحضرتك القدسية...وزج بي في بحار الأحدية المحيطة بكل مركبة وبسيطة، وانشلني من أوحال التوحيد إلى فضاء التفريد المنزه على الإطلاق والتقييد، وأغرقني في عين بحر الوحدة شهوداً، حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أحس إلا بها نزولاً وصعوداً، كما هو كذلك لن يزال وجوداً...وأيدني بك لك بتأييد من سَلَك فملك، ومن ملك فسلك، واجمع بيني وبينك، وأزل عن العين غينك، وحل بيني وبين غيرك.. الله، منه بدأ الأمر، الله، الأمر إليه يعود، الله، واجب الوجود وما سواه مفقود(2)...
* ومن أورادهم (مناجاة ابن عطاء الله وتُقرأ وقت السحر):
__________
(1) النفخة العلية في الأوراد الشاذلية، (ص:16).
(2) النفحة العلية، (ص:18).(1/246)
...إلهي كلما أخرسني لؤمي أنطقني كرمك، وكلما أيأستني أوصافي أطمعتني منتك.. وتردّدي في الآثار يوجب بُعد المزار، فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك...أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعُدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك...وحققني بحقائق أهل القرب واسلك بي في مسالك أهل الجذب.. أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك، وأنت الذي أزلت الأغيار من أسرار أحبائك...يا من أذاق أحبّاه حلاوة مؤانسته فقاموا بين يديه مؤتلفين، ويا من ألبس أولياءه ملابس هيأته فقاموا بعزته مستعزين...فاطلبني برحمتك حتى أصل إليك، واجذبني بمنتك حتى أُقْبلَ عليك...وأنت تعرفت لي في كل شيء فرأيتك ظاهراً في كل شيء...ومحوت الأغيار بمحيطات أفلاك الأنوار(1)...
* ومن حزب الفتح لسيدي أبي الحسن الشاذلي:
.. ونسألك الإحاطة بالأسرار.. وجلّت إرادتك أن يوافقها أو يخالفها شيء من الكائنات، حسبي الله (ثلاثاً) وأنا بريء مما سوى الله..(2).
- يُرجى من القارئ أن ينتبه لقوله: (وأنا بريء مما سوى الله) في معنييها، الظاهر والصوفي، وأن يلاحظ مدى شمول البراءة في المعنى الظاهر!!
* ومن حزب اللطيف لسيدي أبي الحسن الشاذلي قدس سره:
...إلهي لطفك الخفي ألطف من أن يُرى، وأنت اللطيف الذي لطفت بجميع الورى، حجبت من سريان سرك في الأكوان فلا يشهده إلا أهل المعرفة والعيان، فلما شهدوا سر لطفك بكل شيء أَمنوا به من سوء كل شيء..(3).
* ومن الأوراد الخلوتية من (الدرة الشريفة) للعارف بالله الشيخ عبد الرحمن الشريف:
__________
(1) النفحة العلية، (ص:24، 25، 26).
(2) النفحة العلية، (ص:144).
(3) النفحة العلية، (ص:155).(1/247)
...صل اللهم عليه أكمل صلوات بدوام التنزيلات العارية عن السوى، وأَبْدِا التنقلات المخبآت عن من التوى، ما بَطَنَ الباطنُ بانطوائه في الوجود، وبدأ الظهور فعم بصائرأهل الشهود...وبجلال صولة عنايتك القهرموتية، صفِّ بواطننا من الأغيار، وظواهرنا من الأكدار، صفاءً صفّته يدُ جذباتك، ففاز بمعالي قرباتك، حتى نخرج من وبال عضال أطوار البشرية، ونراقبك من دون غيرية، ونشهد حضرتك من غير معية...(1).
* ومن أورادهم من الصلوات الدرديرية:
...وأنعم علينا بتجلي الأسماء والصفات، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وأغرقنا في عين بحر الوحدة السارية في جميع الموجودات، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وأبقنا بك لا بنا في جميع اللحظات، وأذقنا لذة تجلي الذات، وأدمها علينا ما دامت الأرض والسماوات(2). للعلم: الصلوات الدرديرية هي صلوات (بشكل أوراد) متفرقة لمتصوفة سابقين، جمعها أحمد الدردير وتبناها وأضاف إليها؟ وهي بذلك مثل دلائل الخيرات..
* ومن ورد السحر، للعارف بالله الشيخ مصطفى البكري: اللهم رقق حجاب بشريتي بلطائف إسعاف من عندك، لأشهد ما انطوت عليه من عجائب قدسك...(3).
* ومنه: إلهي! صرِّفنا في عوالم الملك والملكوت، وهيئنا لقبول أسرار الجبروت، وأفض علينا من رقائق دقائق اللاهوت(4).
* ومنه: إلهي! نحن الأسارى فمن قيودنا فأطلقنا...نسألك بأهل عنايتك الذين اختطفتهم يد جذباتك، وأدهشتهم سناء تجلياتك، فتاهوا بعجيب كمالاتك...(5).
* ومن أورادهم (الخلوتية):
__________
(1) مجموع أوراد الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية، (ص:3).
(2) مجموع أوراد الخلوتية، (حرف التاء).
(3) مجموع أوراد الخلوتية، (حرف الراء).
(4) مجموع أوراد الخلوتية، (حرف الصاد).
(5) مجموع أوراد الخلوتية، (حرف النون).(1/248)
"...اللهم افتح لنا أقفال قلوبنا بمفاتيح عنايتك...اللهم جذبة من جذباتك تكشف حجات الوهم عن عين اليقين، ونفحة من نفحاتك نلتمس بها مراتب أهل الرسوخ والتمكين...(1).
* ومنها:
ندعوك يا الله بالآيات والذ ... ... كر الحكيم بمظهر الأسماء
بالسكر بالغيبات من صحوٍ ... ... كذا بالشرب والري العلي ثناء
بالزاجرات وأهلها ومقامهم ... ... وبسيرهم من عالم الأشياء
وبوحدة الذات العلي ووصفها ... ... وبوحدة الأفعال يا مولائي
وبوحدة الأسما الكثيرة خصنا ... ... بالجمع ثم بجمعه الأسماء
بالفرق رب وفرقه زل غيننا ... ... عن عين حقك يا بديع سماء
وأنلنا معرفة اليقين وعينه ... ... بالحق وامح الغير من أحشائي
بالرؤية اللاتي بكم منكم لكم ... ... وبوجد أهل الله دم لي هنائي
بفنائهم وصفائهم أفنِ الفؤاد ... ... عن السوى واجعلنا أهل صفاء
واجعلنا من أهل الرسوخ بجمعنا ... ... وأدم سلوك عبيدك الضعفاء
بهوية السريان في كل الورى ... ... بالمحق امحق يا إلهي شقائي
بالهو والتجريد جردنا عن الـ ... ... أغيار وأفردنا بكل علاء
بالهوت واللاهوت والملكوت والـ ... ... ـجبروت صف السير من وعثائي
بالجذب ثم بأهله اشقِ الفتى ... ... من فيض سر قد سما ببهاء
بالصحو أرجعنا إلى الإحساس من ... ... بعد الهباء وغيبة النزلاء(2)
- تبلغ القصيدة اثنين وأربعين بيتاً، تحتوي اصطلاحات الصوفية، أو أهمها، وهي أدعية، كما نرى، يطلب بها الوصول إلى الجذب وما يستشعره المجذوب ويذوقه من الوحدة. والشاعر الذي قال هذه القصيدة ضعيف باللغة والشعر! فكشفه لم يسعفه!
* ومن أورادهم:
وهب لي أيا رباه كشفاً مقدساً ... ... لأدري به سر البقاء مع الفنا
وجد لي بجمع الجمع فضلاً ومنة ... ... وداوِ بوصل الوصل روحي من الضنا
وسر بي على النهج القويم موحداً ... ... وفي حضرة القدس المنيع أحلنا
__________
(1) مجموع أوراد الخلوتية، (حزب السين).
(2) مجموع أوراد الخلوتية، (حرف الهمزة).(1/249)
ومن علينا يا ودود بجذبة ... ... بها نلحق الأقوام من سار قبلنا(1)
* ومن أوراد الطريقة الرشيدية (الصلوات الإدريسية): ...وتجل لي يا إلهي باسم الذات، الاسم الله، مرجع الصفات والأسماء الحفية توحيداً صرفاً، تجلياً ينسف بصرصر عظمته وكبريائه جبال الخيالات الخَلْقية في نظري نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً، فتزول غشاوة عمش الأغيار عن بصري وبصيرتي، بل وعن ذاتي كلها، حتى تكون ذاتي كلها عيناً ذاتية إلهية من جميع الوجوه، وأكون كلي وجهاً واحداً إلهياً لا أعلم من جميع جهاتي ولا أشهد ولا أرى في (إياي) وفي كل شيء وفي لا شيء إلا إياك..(2).
* ومنها: اللهم صل على مظهر العظمة الإلهية(3)، جمعية عيون الحقائق الرحموتية(4)، سر ملكوت الأسماء المعبر عنه بالعماء قبل خلق أرض وسماء(5)، ساذج الذات الإحاطية الوجود، نقطة دائرة الكمال الإلهي في الغيب والشهود السذاجة الصرافة(6)، غيب هو(7)، فصل اللهم عليه بهُوَ، في هُوَ، كله هُوَ..(8).
* ومن الصلوات الإدريسية (الرشيدية) أيضاً:
...أن تصلي على النور الذاتي، والمنظر الصفاتي، مجلِّي الحقائق القرآنية، صورة مادة التجليات الفرقانية(9)، الحاجز بين خلقك وسبحات وجهك، كل الكل، في سر تجلي كل الكل(10)، حيث الكل للكل فيوض الجمال والجلال والكمال، من حيث لا حيث إلى حيث لا حيث في حيث لا حيث، فصل اللهم عليه وسلم من حيث لا حيث إلى حيث لا حيث في حيث لا حيث كما أنت حيث لا حيث...(11).
__________
(1) مجموع أوراد الخلوتية (منظومة أسماء الله الحسنى).
(2) النفحات الأقدسية، (ص:16، 17).
(3) النفحات الأقدسية، (ص:58).
(4) النفحات الأقدسية، (ص:61).
(5) النفحات الأقدسية، (ص:62).
(6) النفحات الأقدسية، (ص:63).
(7) النفحات الأقدسية، (ص:66).
(8) النفحات الأقدسية، (ص:69).
(9) النفحات الأقدسية، (ص:76).
(10) النفحات الأقدسية، (ص:79).
(11) النفحات الأقدسية، (ص:80).(1/250)
* ومنها: اللهم صل على الذات الكنه، قبلة وجوه تجليات الكنه(1)، عين الكنه في الكنه، الجامع لحقائق كمال كنه الكنه، القائم بالكنه في الكنه للكنه، صلاةً لا غاية لكنهها دون الكنه، وعلى آله وصحبه وسلم، كما ينبغي من الكنه للكنه، اللهم إني أسألك بنور الأنوار الذي هو عينك لا غيرك(2)..
* ومنها الصلاة السادسة:
اللهم صل على أم الكتاب، كمالات كنه الذات، عين الوجود المطلق، الجامع لسائر التقييدات(3)، صورة ناسوت الخلق، معاني لاهوت الحق، الناظر بالكل في الكل من الكل للكليات والجزئيات، كوثر سلسبيل منهل حوض مشارب جميع التجليات(4)، الملتذ بصورة نفسه في جنة فردوس ذاته بنظره به منه إليه فيه(5)....روح ذات الوجود، مجمع حقائق اللاهوت المشهود(6)...مبدأ الكل ومرجع الكل وهو الكل في الكل بلا بعض ولا كل..(7).
* ومنها الصلاة العاشرة:
اللهم صل على سلطان حضرة الذات(8)، مالك أزمة تجليات الصفات، قطب رحا عوالم الألوهية(9)...جمع الجمع وفرق الفرق من حيث لا جمع ولا فرق(10)...
- الصلوات الإدريسية هذه هي من أوراد الطريقة الرشيدية، وتظهر فيها وحدة الوجود مع الحقيقة المحمدية بوضوح تام، والحقيقة المحمدية هي الجزء الأهم في عقيدة وحدة الوجود.
* وفي الطريقة الأويسية (منتشرة في إيران):
يقول الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا، مخاطباً شيخ الطريقة مولانا محمد صادق عنقا(11):
__________
(1) النفحات الأقدسية، (ص:102).
(2) النفحات الأقدسية، (ص:104).
(3) النفحات الأقدسية، (ص:106).
(4) النفحات الأقدسية، (ص:107).
(5) النفحات الأقدسية، (ص:109).
(6) النفحات الأقدسية، (ص:118).
(7) النفحات الأقدسية، (ص:125).
(8) النفحات الأقدسية، (ص:227).
(9) النفحات الأقدسية، (ص:231).
(10) النفحات الأقدسية، (ص:281).
(11) كان هذا في لقاء بينهما عام 1974م في قرية (صوفي آباد) وهي لا تبعد كثيراً عن طهران.(1/251)
...ومن ناحية أخرى، فإني أدركت من خلال دراسة كتبكم وتفحيصها، وأيقنت من ثنايا تتبع خطكم الفكري، أنكم تؤمنون بأن الحقيقة واحدة، ولكنها تنطق في كل زمان بلسان مختلف، وأن الله واحد والوجود كله ناطق بكلماته، وأن ذات الموجودات هي ذات الحق، وأن الشيء الذي كان يظن أولاً أنه ذات مغايرة لذات الحق، ليس شيئاً في الحقيقة، بل ليس ثم شيء إلا ذات الحق كما يقول ابن طفيل(1).
أخيراً..
إن في هذه النصوص الوحدوية المقدمة حتى الآن، كفاية وكفاية، وأكثر من الكفاية، للدلالة على أن وحدة الوجود هي عقيدة القوم التي تقوم عليها الصوفية، فالصوفية هي وحدة الوجود مغلفة بالتقية، ووحدة الوجود المغلفة بالتقية هي الصوفية.
وهناك كتاب لا يكاد يخلو منه مسجد ولا بيت، يكاد يكون مقدساً لدى كل الطرق الصوفية، إنه كتاب: دلائل الخيرات، لمؤلفه محمد بن عبد الرحمن بن سليمان الجزولي السملالي.
إن كتاب (دلائل الخيرات) معتبر لدى كل الطرق الصوفية، يقرأ صباحاً ومساءً كل يوم، بل هو معتبر عند كثير ممن لا ينتمون إلى الصوفية. ومما جاء فيه:
...وفقني لاتباعه والقيام بآدابه وسننه، واجمعني عليه، ومتعني برؤيته، وأسعدني بمكالمته، وارفع عني العلائق والعوائق والوسائط والحجاب، وشنِّف سمعي معه بلذيذ الخطاب(2)...
- أنبه هنا إلى أن الذي يحتاج إلى توضيح معاني هذه العبارات، بعد مئات الصفحات السابقة، مثل هذا الإنسان عليه أن يشكو حاله إلى الله جل شأنه.
ومما جاء فيه:
...الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، يا هو، يا من لا هو إلا هو، يا من لا إله إلا هو(3)...
ومما جاء فيه أيضاً (صلوات الذات):
__________
(1) من الفكر الصوفي الإيراني المعاصر، (ص:68). وابن طفيل فيلسوف أندلسي مشهور، وهو مؤلف كتاب: حي بن يقظان.
(2) دلائل الخيرات، (ص:15).
(3) دلائل الخيرات، (ص:223).(1/252)
اللهم صل على سيدنا محمد نور الذات، وسره الساري في جميع الأسماء والصفات(1)...
- نكتفي بهذا القدر من النصوص الوحدوية، ففيه، كما قلنا، كفاية وكفاية، وأكثر من الكفاية.
وهذه النصوص، رغم كثرتها، ما هي إلا جزء ضئيل من عباراتهم المشيرة إلى وحدة الوجود، والتي لو جمعت لملأت ألوفاً من الصفحات.
وكثير من أقوالهم ونصوصهم الوحدوية التي أهملتُها، هي أكثر وضوحاً من بعض ما أوردته على صفحات هذا الكتاب؛ لكني أهملت تلك، وأوردت هذه، لأقدم للقارئ أكثر ما يمكن من أنواع عباراتهم ورموزهم وإشاراتهم وألغازهم.
البحر لا شك عندي في توحده ... ... وإن تعدد بالأمواج والزبد
فلا يغزنك ما شاهدت من صور ... ... فالواحد الرب ساري العين بالعدد
(التلمساني)
النتيجة:
من كل ما سبق نستنتج ما يلي:
- الصوفية هي وحدة الوجود والطريقة التي توصل السالك إلى ذوقها واستشعارها.
- يعلمون أن وحدة الوجود هي كفر وزندقة بالنسبة للشريعة، لذلك يتواصلون بكتمانها عن غير أهلها.
- كلهم يؤمنون بها من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم، عارفهم وأميهم، مشهورهم ومجهولهم، لكنهم يكتمونها عن المبتدئين حتى يتأكدوا من إخلاصهم.
- عندما نسمع بعبارة (الصوفية الحقة)، فهي تعني شيئاً واحداً ليس غير، إنها تعني (وحدة الوجود)، والطريق المؤدية إليها، ثم كتمانها عن غير أهلها.
- من أجل التعمية على أهل الظاهر -أهل الشريعة- أوجد لهم سيدهم الجنيد مصطلحات خاصة بهم، يسجلون بها أوهامهم في كتبهم وينقلونها إلى مريديهم.
- وزيادة في التزوير والخداع، اخترعوا أحاديث على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم ليؤيدوا بها عقيدتهم.
- وزيادة في التزوير والخداع، أولوا بالباطل آيات القرآن وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ليؤيدوا بالتأويل الباطل عقيدتهم.
__________
(1) دلائل الخيرات، (ص:233).(1/253)
- وزيادة في التزوير والخداع، ومن أجل التلبيس على البسطاء والسذج نشروا بين الناس أن عقيدتهم تعتمد على القرآن والسنة، وأنها لا تناقض القرآن والسنة، وأنها مؤيدة بالقرآن والسنة؟
- وزيادة في التزوير والخداع الذي لا حدود له، قالوا: إن طريقتهم هي الزهد وتربية النفس، وأنها السير إلى الله والعروج إليه.
- وبإيحاء شياطينهم وأوهامهم، سموا أنفسهم بأسماء فيها من الجرأة على الله سبحانه، وتحدي قرآنه وسنة رسوله ما تجاوز كل حد وكل ذوق، حتى جعلوا أنفسهم يتصرفون في الكون، وحتى جعلوا أنفسهم أو جعلوا الواصلين منهم، متحققين بالاسم الأعظم (الله) أي: أن الواصل هو الله.
فهم العارفون الصديقون الصادقون المقربون الأولياء الصالحون الأتقياء الأنقياء، رغم جهلهم وضلالهم وكذبهم وبعدهم عن الشريعة الإسلامية، وتوليهم الشيطان وممارستهم طقوساً لا تمت إلى الإسلام بصلة، وتأليههم البشر والقبور والحجارة والشجر، وهم يطبقون هذا التأليه عملياً وينكرونه نظرياً أمام أهل الظاهر (أهل الشريعة)، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
وللحقيقة. إنهم كلهم مشايخهم ومريديهم (إلا النادر من المبتدئين) يؤمنون بأنهم على حق فيما هم عليه، وأنه هو ما يسمونه: مقام الإحسان، وعندما يكذبون ويتاقون فهم يرون أن هذا هو الحكمة الإلهية، التي أرادها الله لعباده!
ومن العجب أن هذه الحكمة مفروضة فقط على متصوفة المسلمين، أما الهندوس والبوذيون والطاويون والجينيون فليست مفروضة عليهم، لأنهم يقولون بوحدة الوجود بكل صراحة، والفرق بين المتصوفة وبين أهل تلك الأديان، أن المتصوفة يكذبون ويجعلون الله سبحانه وتعالى مثلهم، بحجة أنه يغار على السر (جل وعلا علواً كبيراً).
* لا حلول ولا اتحاد:(1/254)
يتردد بين كثير من العلماء، وفي بعض الكتب، أن المتصوفة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: قسم يؤمنون بالحلول، وقسم يؤمنون بالاتحاد، وقسم يؤمنون بوحدة الوجود. ويجعلون الحلاج مثلاً للحلوليين، وعمر بن الفارض مثلاً للاتحاديين.
* ومعنى الحلول: أن الله سبحانه وتعالى عما يصفون خلق الخلق، وحل فيه، كما يحل الإنسان في الثوب الذي يلبسه، أو كما يحل الماء في التراب عند مزجه، فيكونان بذلك اثنين متماسَّين تعالى الله.
* ومعنى الاتحاد: أنه سبحانه خلق الخلق واتحد به، وضرب بعضهم مثلاً لذلك: اتحاد الماء بالخمر، مع أن هذا هو حلول في حقيقته وليس اتحاداً، وأصح منه مثلاً: اتحاد الكلور مع الصوديوم حيث يشكلان ملح الطعام. فيكونان بذلك متحدين، أومتماسَّين بالاتحاد.
* أما وحدة الوجود: فقد عرفناها جيداً من النصوص السابقة، إنها تعني أنه ليس في الوجود إلا واحد هو الله، وكل ما نرى هو أجزاء منه تتعين بأشكال مختلفة، بما في ذلك أنا وأنت وهو وهي وهما وهم وهن، والأرض والشمس والقمر والنجوم والملائكة والجن، بما في ذلك الشياطين والحيوانات والحشرات.
والحقيقة، أن هذا التقسيم وهم لا حقيقة له في الواقع، فجميع متصوفة المسلمين من أولهم إلى آخرهم هم على مذهب (وحدة الوجود)، وكل ما مر هو براهين على ذلك، نضيف إليه قولاً للحلاج ينفي الاثنينية، وآخر لعمر بن الفارض ينفي به الاثنينية أيضاً، وأقوالاً لبعضهم تنفي الحلول والاتحاد.
يروى عن عبد الودود بن سعيد بن عبد الغني الزاهد قال:
...قلتُ له (أي: للحلاج): كيف الطريق إلى الله تعالى؟ قال: الطريق بين اثنين، وليس مع الله أحد. فقلت: بيِّن! قال: مَن لم يقف على إشارتنا لم ترشده عبارتنا، ثم قال:
أأنت أم أنا هذا في إلهين ... ... حاشاك حاشاك من إثبات اثنين(1)
ويقول عمر بن الفارض:
وما شانَ هذا الشأْنَ منك سوى السوى ... ... ودعواه حقاً عنك إن تُمْحَ تثبت
__________
(1) أخبار الحلاج، (ص:57).(1/255)
كذا كنت(1) قبل أن يُكشف الغطا ... ... من اللبس لا أنفك عن ثنوية
متى حلتُ عن قولي (أنا هي) أو أقل ... ... -وحاشا لمثلي- (أنها فيَّ حلَّت)
وسرُّ (بلى)(2) لله مرآةُ كشفها ... ... ... وإثباتُ معنى الجمع نفيُ المعية(3)
وأقوالهم في استنكار الحلول والاتحاد ونفي وجود من يؤمن بهما كثيرة، نكتفي منها برشفات:
يقول الطوسي، صاحب اللمع (عنواناً لباب في كتابه): باب في ذكر غلط الحلولية وأقاويلهم، على ما بلغني، فلم أعرف منهم أحداً، ولم يصح عندي شيء غير البلاغ(4).
ويقول محمود أبو الفيض المنوفي:
...فمَنْ مِن الصوفية يا ترى يعتقد أن الذات الإلهي العظيم المقدس المنزه الذي لا يحيط به شيء، ولا يحتويه شيء من المكان على سعته، ولا الزمان على امتداده، يتحد أو يحل بشيء من مخلوقاته، إلا أن يكون جاهلاً بالتصوف وبالإسلام، أومدعياً أو متطفلاً على التصوف والإسلام، وإذن فلْيَكُفَّ المتخرصون الجاهلون عن تخرصهم بغير علم عن التصوف الحق وأهل التصوف، وليدعوا أمر الخالق الذي له في خلقه الكثير من الشئون(5).
* ملحوظة: لقد أحسن عندما فرق بين التصوف والإسلام.
ويقول ابن عجيبة:
...فلا وجود للأشياء مع وجوده، فانتفى القول بالحلول، إذ الحلول يقتضي وجود السوى حتى يحل فيه معنى الربوبية، والفرض أن السوى عدم محض فلا يُتصور الحلول..:
ونزهه في حكم الحلول فما له ... ... سوى وإلى توحيده الأمر راجع
__________
(1) ليستقيم الوزن يجب أن تكون (كذا كنت قدماً أو حيناً)...
(2) كلمة (بلى) يشير بها إلى الآية: ((وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى...)) [الأعراف:172].
(3) الأبيات، التائية الكبرى.
(4) اللمع، (ص:541).
(5) معالم الطريق إلى الله، (ص:410).(1/256)
فقد تقرر أن الأشياء كلها في حيز العدم، فانتفى القول بالاتحاد، إذ معنى الاتحاد هو اقتران القديم مع الحادث، فيتحدان حتى يكونا شيئاً واحداً، وهو محال، إذ هو مبني أيضاً على وجود السوى، ولا سوى، وقد يطلقون الاتحاد على الوحدة كقول ابن الفارض:
وهامت بها روحي بحيث تمازجا ... ... اتحاداً ولا جرم تخلله جرم(1)
ويقول محمد بهاء الدين البيطار:
...فالمظاهر عين الظاهر، فليس إلا الله بلا مزج ولا حلول ولا اتحاد، بل القوم بريئون من جميع ذلك والله على ما نقول وكيل(2).
الملحوظات:
نلاحظ في هذه النصوص (وكثير غيرها) ما يلي:
1- ينفون وجود من يؤمن بالحلول أو بالاتحاد، لأن ذلك يقتضي أن في الوجود موجودين، خالقاً ومخلوقاً، أو حسب تعبيرهم، الحق والسوى، وبما أنهم كلهم يؤمنون أن السوى لا وجود له، إذن فلا يوجد فيهم من يؤمن بالحلول أو الاتحاد.
2- الحلاج يتبرأ من الاثنينية وينزه الخالق عن إثبات اثنين، إذن فهو لا يقول بالحلول.
3- ينفي ابن الفارض الاثنينية(3)، وينفي وجود المعية مع الحق، إذن فهو لا يقول بالاتحاد، وفي شعره يردد كلمة (الاتحاد) وهو يعني بها وحدة الوجود، ولا شيء غير ذلك.
* الخلاصة:
الصوفية مذهب واحد، لا يوجد فيهم من يؤمن بالحلول ولا الاتحاد ولا المزج ولا الوصل ولا الفصل، بل كلهم كلهم يؤمنون بوحدة الوجود، وقد غلط العلماء الذين قالوا: إن في الصوفية حلوليين واتحاديين، وكانوا واهمين.
جملة يتسلى القارئ بتحليلها:
يقول أحدهم: ...وفي الحقيقة، لا فصل ولا وصل، ولذلك قيل:
ولا عن قلىً كان القطيعة بيننا ... ... كنه دهرٌ يُشتّ ويَجْمع
الفصل الرابع
الحقيقة المحمدية
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ... ... لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:45، 46).
(2) مرت في صفحة سابقة.
(3) مر هذا في الأبيات المنقولة من تائيته في صفحة سابقة.(1/257)
من النصوص التالية سنعرف ماذا تعني: الحقيقة المحمدية، وسنعرف أن الصوفية كلهم يؤمنون بها.
يقول الحلاج:
طس، سراجٌ من نور الغيب بدا وعاد، وجاوز السراج وساد...ما أخبر إلا عن بصيرته، ولا أمر بسنته إلا عن حق سيرته، حَضَرَ فأحضر، وأبصر فخبّر.. أنوار النبوة من نوره برزتْ، وأنوارهم من نوره ظهرتْ، وليس في الأنوار نورٌ أنْوَرُ، وأظهر وأقدم من القدم سوى نور صاحب الكرم...همته سبقت الهمم، ووجوده سبق العدم، واسمه سبق القلم، لأنه كان قبل الأمم، ما كان في الآفاق وراء الآفاق ودون الآفاق، أظرف وأشرف وأعرف وأنصف وأرأف وأخوف وأعطف من صاحب هذه القضية، وهو سيد البرية، الذي اسمه أحمد، ونعته أوحد، وأمره أوكد، وذاته أوجد، وصفته أمجد، وهمته أفرد...يا عجباً ما أظهره وأنظره وأكبره وأشهره وأنوره وأقدره وأبصره، لم يزل، كان مشهوراً قبل الحوادث والكوائن والأكوان، ولم يزل، كان مذكوراً قبل القبل وبعد البعد والجواهر والألوان...هو الدليل وهو المدلول... بالحق موصول غير مفصول، ولا خارج عن المعقول...العلوم كلها قطرة من بحره.. الأزمان كلها ساعة من دهره، هو الحق وبه الحقيقة، هو الأول في الوصلة، وهو الآخر في النبوة، والباطن بالحقيقة، والظاهر بالمعرفة...الحق ما أسلمه إلى خلقه، لأنه هو، وإني هو، وهو هو(1)...
* الملحوظات:
نرى في هذا النص ما يلي:
1- ينكر الوحي، ويجعل الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالرسالة من ذاته وبصيرته، ونرى هذا في الجمل (ما أخبر إلا عن بصيرته...حتى: وأبصر فخبر).
2- يجعل محمداً صلى الله عليه وسلم هو الله، وله جميع صفاته الحسنى.
ويقول محيي الدين ابن عربي:
...ثم تممها الجامع للكل محمد صلى الله عليه وسلم بما أخبر به عن الحق، بأنه عين السمع والبصر واليد(2)..
- قول ابن عربي هنا مختصر مفيد، فمحمد صلى الله عليه وسلم جامع للكل...
__________
(1) أخبار الحلاج (طاسين السراج)، (ص:82، وما بعدها).
(2) فصوص الحكم، (ص:110).(1/258)
ويقول أبو طالب المكي:
قال بعض أهل المعرفة: خلق الله الجنة بما فيها من نور المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلما اشتاقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان شوقها إلى المعدن والأصل، وصار شوق المشتاقين إلى الجنة شوقهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها من نوره خُلقت(1).
ويقول البوصيري في البردة:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورةُ مَن ... ... ... لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... ... واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
فإن مِن جودك الدنيا وضرَّتَها ... ... ومِن علومك علمَ اللوحِ والقلم
- أي: أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الذي أوجد الدنيا والآخرة.
ويقول محمد بن سليمان الجزولي في كتابه الذائع الصيت: دلائل الخيرات، وفيه الكفاية عن غيره:
اللهم صل على سيدنا محمد بحرِ أنوارك...إنسانِ عين الوجود، والسبب في كل موجود، عين أعيان خلقك المتقدم من نور ضيائك(2)...
- اللهم صل على محمد الذي هو قطب الجلالة(3)...
- اللهم صل على سيدنا محمد نور الذات وسرِّه الساري في جميع الأسماء والصفات(4).
ويقول عبد السلام بن بشيش:
...اللهم صل على مَن منه انشقَّت الأسرار وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق وتنزلت علوم آدم فأعجز الخلائق...وحياضُ الجبروت بفيض أنواره متدفقة، ولا شيء إلا وهو به منوط...اللهم إنه سرك الجامعُ الدال عليك، وحجابُك الأعظم القائم لك بين يديك(5)...
ويقول سيدي محمد الفاسي الشاذلي:
__________
(1) علم القلوب، (ص:30، 31).
(2) دلائل الخيرات، (ص:100).
(3) دلائل الخيرات، (ص:214).
(4) دلائل الخيرات، (ص:233).
(5) النفحة العلية، (ص:15، 16).(1/259)
فهو الياقوتة المنطوية عليها أصداف مكنوناتك، والغيهوبة المنْتَخَبُ منها معلوماتُك، فكان غيباً من غيبك، وبدلاً من سر ربوبيتك، حتى صار بذلك مَظْهراً نستدل به عليك، فكيف لا يكون كذلك، وقد أخبرتنا بذلك في محكم كتابك بقولك: ((إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ)) [الفتح:10]، فقد زال عنا بذلك الريب، وحصل الانتباه(1)...
- إذن، فمعلومات الله، جل وعلا، منتخبة من غيهوبة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو بدل سر ربوبية الله، وهو مظهره، وقد أخبرنا الله تعالى في محكم كتابه أن محمداً هو الله، بقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ)) [الفتح:10].
ويقول عبد الكريم الجيلي:
أوجُ التعاظم مركزُ العز الذي ... ... لِرحى العلا من حوله دورانه
مَلِكٌ وفوق الحضرة العليا على الـ ... ... ـعرش المكين مثبَّتٌ إمكانه
ليس الوجود بأسره إن حققوا ... ... إلا حباباً طفّحته دنانه
الكل فيه ومنه كان وعنده ... ... تفنى الدهور ولم تزل أزمانه
فالخلق تحت سما علاه كخردلٍ ... ... والأمرُ يُبْرمُه هناك لسانه
والكون أجمعه لديه كخاتم ... ... في إصبع منه، أجل أكوانه
والملك والملكوت في تياره ... ... كالقطر بل من فوق ذاك مكانه
وتُطيعُه الأملاك من فوق السما ... ... واللوح يُنْفِذُ ما قضاه بنانه
__________
(1) النفحة العلية، (ص:33).(1/260)
اعلم حفظك الله أن الإنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين، ثم له تنوعٌ في ملابس، ويظهر في كنائس، فيسمى به باعتبار لباسٍ، ولا يسمَّى به باعتبار لباسٍ آخر، فاسمُه الأصلي الذي هو له محمد، وكنيته أبو القاسم، ووصفه عبد الله، ولقبه شمس الدين....واعلم أن الإنسان الكامل مقابل لجميع الحقائق الوجودية بنفسه، فيقابل الحقائق العلوية بلطافته، ويقابل الحقائق السفلية بكثافته.. ثم اعلم أن الإنسان الكامل هو الذي يستحق الأسماء الذاتية والصفات الإلهية استحقاق الأصالة والملك بحكم المقْتَضَى الذاتي، فإنه المعبر عن حقيقته بتلك العبارات، والمشار إلى لطيفته بتلك الإشارات، ليس لها مستند في الوجود إلا الإنسان الكامل، فمثاله للحق مثال المرآة التي لا يرى الشخص صورته إلا فيها، وإلا فلا يمكنه أن يرى صورة نفسه إلا بمرآة الاسم (الله) فهو مرآته، والإنسان الكامل أيضاً مرآته(1)...
- ومن صلواتهم عليه صلى الله عليه وسلم في أورادهم:
* صلاة الإمام الغزالي، وقيل: إنها لعبد القادر الجيلاني:
اللهم اجعل أفضل صلواتك أبداً...على أشرف الخلائق الإنسانية، ومجمع الحقائق الإيمانية، وطور التجليات الإحسانية، ومهبط الأسرار الرحمانية...ومالك أزمة المجد الأسنى، شاهد أسرار الأزل، ومشاهد أنوار السوابق الأول، وترجمان لسان القدم...مظهر سر الجود الجزئي والكلي، وإنسان عين الوجود العلوي والسفلي، روح جسد الكونين، وعين حياة الدارين(2)...
- يقول العارف يوسف النبهاني، معلقاً على هذه الصلوات: قال سيدي أحمد الصاوي في شرح ورد الدردير: إن هذه الصلاة نقلها حجة الإسلام الغزالي عن القطب العيدروس...
__________
(1) الإنسان الكامل: (2/73، وما بعدها).
(2) أفضل الصلوات على سيد السادات، (ص:83).(1/261)
وبالرجوع إلى كتاب: الأسرار الربانية والفيوضات الرحمانية على الصلوات الدرديرية، للإمام الهمام...أحمد الصاوي، نقرأ الجملة: هذه الصلاة نقلها...إلخ بحرفيتها(1). ولم أقف على قطب معاصر للغزالي أو سابق له يعرف بالعيدروس، وأول قطب من عائلة العيدروس هو عبد الله بن أبي بكر المار ذكره، وقد وجد بعد الغزالي بثلاثة قرون.
وطبعاً نحن أمام الكشف الذي يعرضون عليه السمع والألفاظ الواردة، كما يقول الغزالي، فما شأننا؟!
* من صلاة لأحمد الرفاعي (جوهرة الأسرار):
اللهم صل وسلم وبارك على نورك الأسبق... الذي أبرزته رحمة شاملة لوجودك...نقطة مركز الباء الدائرة الأولية، وسر أسرار الألف القطبانية، الذي فتقت به رتق الوجود...فهو سرك القديم الساري، وماء جوهر الجوهرية الجاري، الذي أحييت به الموجودات، من معدن وحيوان ونبات، قلب القلوب، وروح الأرواح، وإعلام الكلمات الطيبات، القلم الأعلى، والعرش المحيط، روح جسد الكونين، وبرزخ البحرين(2)...
* صلاة لأحمد البدوي:
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد شجرة الأصل النورانية، ولمعة القبضة الرحمانية...ومعدن الأسرار الربانية، وخزائن العلوم الاصطفائية، صاحب القبض الأصلية...مَن اندرجت النبيون تحت لوائه، فهم منه وإليه(3)...
- لننتبه إلى عبارة: القبضة الأصلية، التي تعني: القبضة التي قبضها الله سبحانه من نور وجهه، وقال لها: كوني محمداً (كما يفترون).
* وصلاة ثانية له:
اللهم صل على نور الأنوار، وسر الأسرار، وترياق الأغيار(4).
* صلاة إبراهيم الدسوقي:
اللهم صل على الذات المحمدية، اللطيفة الأحدية، شمس سماء الأسرار، ومظهر الأنوار، ومركز مدار الجلال، وقطب فلك الجمال(5).
* صلاة لمحيي الدين بن عربي:
__________
(1) الأسرار الربانية، (ص:25).
(2) أفضل الصلوات، (ص:84)، وقلادة الجواهر، (ص:249).
(3) أفضل الصلوات، (ص:85).
(4) أفضل الصلوات، (ص:86).
(5) أفضل الصلوات، (ص:88).(1/262)
اللهم أفض صلة صلواتك...على أول التعينات المفاضة من العماء الرباني، وآخر التنزلات المضافة إلى النوع الإنساني، المهاجر من مكة (كان الله ولم يكن معه شيء ثان)، إلى مدينة (وهو الآن على ما عليه كان)، مُحْصي عوالم الحضرات الإلهية الخمس في وجوده: ((وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)) [يس:12]...نقطة البسملة الجامعة لما يكون ولما كان، ونقطة الأمر الجوالة بدوائر الأكوان، سر الهوية التي في كل شيء سارية، وعن كل شيء مجردة وعارية...كلمة الاسم الأعظم، وفاتحة الكنز المطلسم، المظهر الأتم الجامع بين العبودية والربوبية، والنفس الرحماني الساري بمواد الكلمات التامات، الفيض الأقدس الذاتي الذي تعينت به الأعيان واستعداداتها، والفيض المقدس الصفاتي الذي تكوتت به الأكوان واستمداداتها، مطع شمس الذات في سماء الأسماء والصفات...خط الوحدة بين قوسي الأحدية والواحدية...ومركز إحاطة الباطن والظاهر...اللهم يا رب يا من ليس حجابه إلا النور، ولا خفاؤه إلا شدة الظهور، أسألك بك...أن تصلي على سيدنا محمد صلاة تكمل بها بصيرتي...لأشهد فناء ما لم يكن وبقاء ما لم يزل، وأرى الأشياء كما هي في أصلها معدومة مفقودة، وكونها لم تشم رائحة الوجود فضلاً عن كونها موجودة(1)...
* صلاة لفخر الدين الرازي:
اللهم حيد وجرد في هذا الوقت وفي هذه الساعة من صلواتك التامات، وتحياتك الزاكيات...إلى أكمل عبد لك في هذا العالم، من بني آدم، الذي جعلته لك ظلاً، ولحوائج خلقك قبلة ومحلاً...وأظهرته بصورتك، واخترته مستوى لتجليك، ومنزلاً لتنفيذ أوامرك ونواهيك، في أرضك وسماواتك، وواسطة بينك وبين مكوناتك(2).
* صلاة النور الذاتي لأبي الحسن الشاذلي:
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد النور الذاتي والسر الساري في سائر الأسماء والصفات(3).
__________
(1) أفضل الصلوات، (ص:89، وما بعدها).
(2) أفضل الصلوات، (ص:97).
(3) أفضل الصلوات، (ص:113).(1/263)
* صلاة الشيخ محمد أبي المواهب الشاذلي:
اللهم صل على هذه الحضرة النبوية...يا سيدنا يا رسول الله أنت المقصود من الوجود.. وأنت الجوهرة اليتيمة التي دارت على أصناف المكونات، وأنت النور الذي ملأ إشراقه الأرضين والسماوات...يا أول يا آخر يا باطن يا ظاهر...الصلاة والسلام عليك يا رسول الله، الأملاك تشفعت بك عند الله، الصلاة والسلام عليك يا رسول الله، الأنبياء والرسل ممدودون من مددك الذي خصصت به من الله...قد نزلنا بحيك واستجرنا بجنابك وأقسمنا بحياتك على الله(1)...
* صلاة محمد بن أبي الحسن البكري:
__________
(1) أفضل الصلوات، (ص:118، وما بعدها).(1/264)
اللهم صل وسلم على نورك الأسنى، وسرك الأبهى...روح المشاهد الملكوتية، ولوح الأسرار القيومية، ترجمان الأزل والأبد، لسان الغيب الذي لا يحيط به أحد، صورة الحقيقة الفردانية...محمد الباطن والظاهر بتفعيل التكميل الذاتي في مراتب قربه...بداية نقطة الانفعال الوجودي إرشاداً وإسعاداً، أمين الله على سر الألوهية المطلسم، وحفيظه على غيب اللاهوتية المكتم، مَن لا تدرك العقول الكاملة منه إلا مقدار ما تقوم عليها به حجته الباهرة، ولا تعرف النفوس العرشية من حقيقته إلا ما يتعرف لها به من لوامع أنواره الزاهرة، منتهى همم القدسيين وقد بدوا مما فوق عالم الطبائع، مرمى أبصار الموحدين وقد طمحت لمشاهدة السر الجامع، من لا تجلى أشعة الله لقلب إلا من مرآة سره، وهي النور المطلق...وهو الوتر الشفعي المحقق...الفرع الجدثاني المترعرع في نمائه بما يُمد به كل أصل أبدي، جني شجرة القدم، خلاصة نسختي الوجود والعدم...وعابد الله بالله بلا حلول ولا اتحاد ولا اتصال ولا انفصال...اللهم صل وسلم على جمال التجليات الاختصاصية، وجلال التدليات الاصطفائية، الباطن بك في غيابات العز الأكبر، الظاهر بنورك في مشارق المجد الأفخر، عزيز الحضرة الصمدية، وسلطان المملكة الأحدية...مستوى تجلي عظمتك ورحمتك وحكمك في جميع مخلوقاتك، وخلقت بكلمة خصوصيته المحمدية بحار الجمع...وجعلته بحكم أحديتك وِتْر العدد...اللهم صل وسلم على دائرة الإحاطة العظمى، ومركز محيط الفلك الأسمى...بحر أنوارك الذي تلاطمت برياح التعين الصمداني أمواجه...خليفتك على كافة خليقتك(1)...
* الصلاة المعروفة بالصلوات البكرية:
__________
(1) أفضل الصلوات، (ص:127، وما بعدها).(1/265)
اللهم إني أسألك بنيِّر هدايتك الأعظم، وسر إرادتك المكنون من نورك المطلسم، مختارك منك لك قبل كل شيء، ونورك المجرد بين مسالك اللقِيْ، كنزك الذي لم يحط به سواك، وأشرف خلقك الذي بحكم إرادتك كونت من نوره أجرام الأفلاك وهياكل الأملاك، فطافت به الصافون حول عرشك تعظيماً وتكريماً، وأمرتنا بالصلاة والسلام عليه...وزجيت به في نور ألوهيتك العظمى، خليفتك بمحض الكرم على سائر مخلوقاتك، وشيدت به قوائم عرشك المحوط بحيطتك الكبرى... بحر فيضك المتلاطم بأمواج الأسرار(1)....
* الصلاة المسماة بالصلوات الزاهرة:
اللهم صل وسلم على الجمال الأنفس، والنور الأقدس، والحبيب من حيث الهوية، والمراد في اللاهوتية، مترجم كتاب الأزل، والمتعالي بالحقيقة عن حقيقة الأثر حتى كأنه المثل، الجلس الأعلى، والمخصوص الأولى، والحكمة السارية في كل موجود...روح صور الأسرار الملكوتية...محمدك وأحمدك وتر العدد، ولسان الأبد، العرش القائم بتحمل كلمة الاستواء الذاتي فلا عارض، المتجلي بسلطان قهرك على ظلل ظلم الأغيار لمحق كل معارض، النقطة التي عليها مدار حروف الموجودات بجميع الاعتبارات،...لوح الأسرار، ونور الأنوار...ومظهر أنوار اللاهوت في ناسوت المثل، القائم بكل حقيقة سرياناً وتحكيماً... المتجلي بملابس الحقائق الفردانية...الحافظ على الأشياء قواها بقوتك، الممد لذرات الكائنات بما به برزت من العدم إلى الوجود بقدرتك، كعبة الاختصاص الرحماني، محج التعين الصمداني، قيوم المعاهد التي سجدت لها جباه العقول، أقنوم الوحدة ولا أقنوم، إنما نورك بنورك موصول... منتهى كمال النقطة المفروضة في دوائر الانفعال، ومبدأ ما يصح أن يشمله اسم الوجود القابل لتنوعات القضاء والقدر، على ما سواك من حيث أنت أنت بما شئت من فيوضاتك العلية...وسر سرائر الكنز الأحدي الصمدي(2).
__________
(1) أفضل الصلوات، (ص:131، 132).
(2) أفضل الصلوات، (ص:134، وما بعدها).(1/266)
- لننتبه إلى عبارة: مدار حروف الموجودات بجميع الاعتبارات، والتي تحمل نفس معنى: (وما الكلب والخنزير إلا إلهنا) و(اجتمع فيه النجو مع الورد).. وغيرها..
* الصلاة السقافية لسيدي عبد الله السقاف:
اللهم صل وسلم على سلم الأسرار الإلهية، المنطوية في الحروف القرآنية، مهبط الرقائق الربانية، النازلة في الحضرة العلية...صاحب اللطيفة القدسية، المكسوة بالأكسية النورانية، السارية في المراتب الإلهية المتكملة بالأسماء والصفات الأزلية، والمفيضة أنوارها على الأرواح الملكوتية، المتوجهة في الحقائق الحقية، النافية لظلمات الأكوان العدمية المعنوية، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الكاشف عن المسمى بالوحدة الذاتية...صاحب الصورة المقدسة، المنزلة من سماء قدس غيهب الهوية الباطنة، الفاتحة بمفتاحها الإلهي لأبواب الوجود القائم بها من مطلع ظهورها القديم، إلى استواء إظهارها للكلمات التامات، اللهم صل وسلم على حقيقة الصلوات وروح الكلمات، قوام المعاني الذاتيات، وحقيقة الحروف القدسيات، وصور الحقائق الفرقانية التفصيليات...موصل الأرواح بعد عدمها إلى نهايات غايات الوجود والنور(1)...
* صلاة (يتعبد بها كل الصوفية):
اللهم صل على طامة الحقائق الكبرى، سر الخلوة الإلهية ليلة الإسراء...ينبوع الحقائق الوجودية، بصر الوجود، وسر بصيرة الشهود، حق الحقيقة العينية، وهوية المشاهد الغيبية، تفصيل الإجمال الكلي...نفس الأنفاس الروحية، كلية الأجسام الصورية، عرش العروش الذاتية، كتابك المكنون...يا فاتحة الموجودات، يا جامع بحري الحقائق الأزليات والأبديات...يا نقطة مركز جميع التجليات، يا عين حياة الحُسن الذي طارت منه رشاشات، فاقتسمتها بحكم المشيئة الإلهية جميع المبدعات(2)...
* صلاة (يتعبد بها كل الصوفية):
__________
(1) أفضل الصلوات، (ص:155، وما بعدها).
(2) أفضل الصلوات، (ص:166، 167).(1/267)
اللهم صل على مولانا محمد نورك اللامع، ومظهر سرك الهامع...الذي فتحت ظهور العالم من نور حقيقته...ولولا هو ما ظهرت لصورةٍ عينٌ من العدم الرميم(1)...
* صلاة (لكل الصوفية):
اللهم صل على عين بحر الحقائق الوجودية المطلقة اللاهوتية، ومنبع الرقائق اللطيفة المقيدة الناسوتية، صورة الجمال، ومطلع الجلال، مجلى الألوهية، وسر إطلاق الأحدية، عرش استواء الذات، وجه محاسن الصفات، مزيل برقع حجاب ظلمات اللبس بطلعة شمس حقائق كنه ذاته الأنفس، عن وجه تجليات الكمال الإلهي الأقدس، كتاب مسطور جمع أحدية الذات الحق، في رق منشور تجليات الشئون الإلهية المسمى كثرة صورها بالخلق(2)...
* صلاة (لكل الصوفية):
اللهم صل على سلطان حضرات الذات، مالك أزمة تجليات الصفات، قطب رحى عوالم الألوهية...جبال موج بحار أحدية الذات، طلسم كنوز المعارف الكنهيات الذاتيات، سقف مرفوع الكمالات الأسمائية، بحر مسجور العلوم اللدنيات، حوض الألوهية الأعظم الممد لبحار أمواج صور الكون الظاهرة من فيوض حقائق أنفاسه، قلم القدرة الإلهية العظموية، الكاتب في لوح نفسه ما كان وما يكون من محاسن مبدعات العالم وتقلباته، وجمال كل صورة إلهية وسر حقيقتها غيباً وشهادة...جمع الجمع وفرق الفرق من حيث لا جمع ولا فرق(3)...
* الصلاة الكبرى لسيدنا عبد القادر الجيلاني:
__________
(1) أفضل الصلوات، (ص:167، 168).
(2) أفضل الصلوات، (ص:168).
(3) أفضل الصلوات، (ص:169، 170).(1/268)
...اللهم صل وسلم وأفلح وأنجح وأتم وأصلح وزك وأربح وأوف وأرجح، أفضل الصلاة وأجزل المنن والتحيات، على عبدك ونبيك ورسولك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو فلق صبح أنوار الوحدانية، وطلعة شمس الأسرار الربانية، وبهجة قمر الحقائق الصمدانية، وحضرة عرش الحضرات الرحمانية، نور كل رسول وسناه...سر كل نبي وهداه...السيد الكامل الفاتح الخاتم، حاءُ الرحمة، وميم الملك، ودال الدوام، بحر أنوارك، ومعدن أسرارك، ولسان حجتك، وعروس مملكتك، وعين أعيان خلقك، وإمام الحضرة، وأمين المملكة، وكنز الحقيقة، طلسم الفلك الأطلس في بطون {كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف} طاوُس الملك المقدس في ظهور {فخلقت خلقاً فتعرفت إليهم فبي عرفوني} ...اللهم صل وسلم صلاة ذاتك على حضرة صفاتك الجامع لكل الكمال، المتصف بصفات الجلال والجمال، من تنزه عن المخلوقين في المثال، ينبوع المعارف الربانية، وحيطة الأسرار الإلهية، غاية منتهى السائلين...مظهر سر الجود الجزئي والكلي، وإنسان عين الوجود العلوي والسفلي، روح جسد الكونين، وعين حياة الدارَين...اللهم إنا نتوسل إليك بنوره الساري في الوجود أن تحيي قلوبنا بنور حياة قلبه الواسع لكل شيء...وتسري سرائره فينا بلوامع أنوارك حتى تغيبنا عنا في حق حقيقته فيكون هو الحي القيوم فينا بقيوميتك السرمدية، فنعيش بروحه عيش الحياة الأبدية...اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد جمال لطفك وحنان عطفك وجلال مُلكك وكمال قدسك، النور المطلق بسر المعية التي لا تتقيد، الباطن معنىً في غيبك، الظاهر حقاً في شهادتك، شمس الأسرار الربانية، ومجلس حضرة الحضرات الرحمانية...الذي خلقته من نور ذاتك، وحققته بأسمائك وصفاتك، وخلقت من نوره الأنبياء والمرسلين...اللهم صل وسلم على بهجة الكمال وتاج الجلال...وحياة كل موجود، عز جلال سلطنتك، وجلال عز مملكتك، ومليك صنع قدرتك...سر الله الأعظم...والظاهر في ملكك، والغائب في ملكوتك،(1/269)
والمتخلق بصفاتك...الحضرة الرحمانية، والبردة الجلالية(1)...
- هذه الصلاة الكبرى للشيخ عبد القادر الجيلاني شرحها الشيخ عبد الغني النابلسي، ونقلها يوسف النبهاني من ذلك الشرح، وكلهم أقطاب مكاشفون عارفون يعلمون علم اليقين!
* ومن صلاة الأنس لأحمد الرفاعي أيضاً:
...اللهم صل على ألف أنس إنسان الأزل، بحكمة باء برهان من لم يزل أصل الأشياء الكلية...المتصدر في رحاب الأسرار في مركز دائرة القبول والألطاف، المنفرشة بسطها في حومة العز...أصل السبب في الإيجاد، فالكل منه والكل إليه، خزانة الأسرار، فالوارد والذاهب عنه وعليه(2)...
- ومن شعر لشيخ الإسلام وغوث الزمان الحاج إبراهيم ابن الشيخ الحاج عبد الله الكولخي:
حرف الباء:
فما لي غير المصطفى البدر مأرب ... ... وفي جائزات الغير ما لي مرغب
هو الكل منه الكل بطناً وظاهراً ... ... فبحر سواه ما لنا فيه مشرب
فمن نوره الكونان، منه تفجرت ... ... علوم جميع الرسل والكل يشرب
هو الكامل المحمود والسؤلُ والمنى ... ... وأنت الحبيب المصطفى والمقرب(3)
* ومن الأوراد التجانية (الصلاة الغيبية في الحقيقة الأحمدية)، فإنها برزت من الغيب من غير إنشاء أحد، وهي:
اللهم صل وسلم على عين ذاتك العلية، بأنواع كمالاتك البهية، في حضرة ذاتك الأبدية، على عبدك القائم بك منك لك إليك، بأتم الصلوات الزكية، المصلي في محراب عين هاء الهوية، التالي السبع المثاني بصفاتك النفسية...الداعي بك لك بإذنك لكافة شئونك العلمية...المفيض على كافة من أوجدته بقيومة سرك، المدد الساري في كلية أجزاء موهبة فضلك، المتجلي عليه في محراب قدسك وأنسك، بكمال ألوهيتك في عوالمك وبرك وبحرك(4)...
ويقول عبيدة بن أنبوجة الشنقيطي:
__________
(1) أفضل الصلوات، (ص:174، وما بعدها).
(2) قلادة الجواهر، (ص:263، 264).
(3) الدواوين الست، (ص:51).
(4) ميزاب الرحمة الربانية، (ص:25).(1/270)
...نعم حقيقة مقصد هذه الطريقة العثور على معرفة بعض أسرار الحقيقة المحمدية من مراتب بطونها الأربع، ولا مطمع في خامستها كما تقدم، فالحقيقة المحمدية هي عين جميع المعارف الربانية، فلم تشذ شاذة منها، وصورتها البشرية هي باب تلك الحقيقة، فكما لا تؤخذ أحكام الله إلا من أفعال تلك الصورة البشرية وأقوالها...كذلك لا توجد المعارف إلا من تلك الحقيقة وأحوالها(1)..
* ومن الصلوات الأحمدية الإدريسية (الصلاة الخامسة): اللهم صل على الذات الكنه، قبلة وجوه تجليات الكنه، عين الكنه في الكنه، الجامع لحقائق كمال كنه الكنه(2)...
* ومنها (الصلاة السادسة):
اللهم صل على أم الكتاب، كمالات كنه الذات، عين الوجود المطلق الجامع لسائر التقييدات، صورة ناسوت الخلق، معاني لاهوت الحق، الناظر بالكل في الكل من الكل للكليات والجزئيات، كوثر سبيل منهل حوض مشارب جميع التجليات، الملتذ بصورة نفسه في جنة فردوس ذاته بنظره به منه إليه فيه، بحر قاموس الجمع المطمطم، وطراز رداء الكبرياء المطلسم، وراء الوراء، ودون الدون بلا دون(3)...
- قوله: (وراء الوراء)، إشارة إلى قوله تعالى: ((وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ)) [البروج:20]، ومحمد
وراء الوراء، أي (هومن وراء الله محيط)!!
ومما يقوله محمد بهاء الدين البيطار، في شرحه على الصلوات الأحمدية الإدريسية:
__________
(1) ميزاب الرحمة الربانية، (ص:155).
(2) النفحات الأقدسية، (ص:102، 103).
(3) النفحات الأقدسية، (ص:106، وما بعدها).(1/271)
...وللقوم رضوان الله عليهم في الحقيقة المحمدية أقاويل كثيرة، من أحسنها قول العارف أفضل الدين، تلميذ سيدي علي الخواص رضي الله عنهما: الحقيقة المحمدية هي سر وجوب الوجود الذاتي، الممدة لحقائق الممكنات الأسمائية والصفاتية من عالم البطون إلى عالم الظهور، بالتدريج القابل لتفصيل المظاهر الكونية وتفصيل حقائقها الإنسانية(1).
* للعلم: الصلوات الأحمدية الإدريسية هي من أوراد الطريقة الرشيدية، والميرغنية، والختمية...وغيرها، مع العلم أيضاً أن أكثر أصحاب الطرق- إن لم يكن كلهم- يستعملون جميع الأوراد الموجودة في جميع الطرق، أو أكثرها، ومن الأدلة على ذلك: الأوراد الدرديرية، وكتاب: دلائل الخيرات.
ومما يقوله الوارث المحمدي الجامع الغوث محمد مهدي الصيادي الرواس:
وبويعت في الحضرة، على الإيمان بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، بل وبحياة جميع النبيين والمرسلين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ذاق طعم الموت بالانتقال من هذه الدار إلى دار الآخرة، ورد الله عليه روحه، فهو في حضرة القرب عند مليكٍ مقتدر، يفعل بإذن الله في فلك الله ما يريد، وله التصرف المحض بأمر الله تعالى في ملك الله وملكوته، وهو شرارة الأزل والأبد...وعليه تعرض الأعمال وإليه تنتهي الأحوال(2)...
- الجواب: هو أولاً سؤال: هل الرؤى الشيطانية التي يشاهدها المتصوفة في حالة غيبوبة هلوسية(3) تنسخ آيات الله وقرآنه؟!
__________
(1) النفحات الأقدسية، (ص:12) ومحمد بهاء الدين البيطار دمشقي توفي سنة (1314هـ)، وأفضل الدين هو أخو عبد الوهاب الشعراني.
(2) فصل الخطاب، (ص:142).
(3) أطلق أحد الأدباء الشباب على الجذبة الصوفية اسم (التحشيش الروحاني)، وهي تسمية صحيحة.(1/272)
- والجواب ثانياً هو من كتاب الله: ((مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) [الكهف:26]، ((لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ)) [آل عمران:128]، ((قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا)) [الجن:21].
- والجواب ثالثاً: هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم..}.
- والجواب رابعاً: إن ما يذكره الرواس من رؤياه الهذيانية منقول بدون تغيير من عقيدة النصارى بالمسيح عيسى صلوات الله عليه، وكل ما فعله الرواس هو تبديل الاسم بالاسم، ولنتذكر توجيهه للآية الذي مر معنا: ((أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ)) [يونس:53]، وكيف جعلها تعني: الله هو (أي: محمد) قل إي وربي إنه الله!
ولعلهم لم يكتفوا بالحقيقة المحمدية، فأضافت بعض الطرق إليها الحقيقة العلوية، فمن أقوال جلال الدين الرومي (الطريقة المولوية):
منذ كانت صورة تركيب العالم: كان علي.
منذ نقشت الأرض وكان الزمان: كان علي.
ذلك الفاتح الذي انتزع باب خيبر بحملة واحدة: كان علي.
كلما تأملت في الآفاق ونظرت فيها أيقنت بأنه في الموجودات: كان علي.
إن سر العالمين الظاهر والباطن الذي بدا في شمس تبريز: كان علي(1).
- أما الطريقة البريلوية والطريقة البكتاشية فقد أحرزتا قصب السبق في تأليه علي بن أبي طالب، ومن أدعيتهما الرئيسية والأساسية، دعاء السيف: (ناد علياً مظهر العجائب، تجده عوناً لك في النوائب، كل هم وغم سينجلي بولايتك يا علي يا علي).
ومن جهة أخرى، أحرزت البكتاشية أيضاً قصبة السبق بإعلان التثليث، فصارت الأقانيم عندهم ثلاثة: صورة الله، محمد، علي.
والبكتاشيون يعترفون بخطاياهم أمام مشايخهم فيغفرونها لهم، ويحللون الخمر، ويعتقدون تناسخ الأرواح(2).
ويقول آية الله الخميني:
__________
(1) الصلة بين التصوف والتشيع، (ص:79).
(2) الفكر الشيعي والنزعة الصوفية، (فصل البكتاشية).(1/273)
...وبالمشيئة ظهر الوجود، وهي اسم الله الأعظم...وهي الحبل المتين بين سماء الإلهية والأراضي الخلقية، والعروة الوثقى المتدلية من سماء الواحدية، والمتحقق بمقامها الذي أفقه أفقها هو السبب المتصل بين السماء، وبه فتح الله وبه يختم، وهو الحقيقة المحمدية والعلوية صلوات الله عليه، وخليفة الله على أعيان المهيات، ومقام الواحدية المطلقة والإضافة الإشراقية(1)...
نختم هذه النبذ بالنصوص التالية:
يقول ابن قضيب البان(2) في كتابه المواقف الإلهية:
__________
(1) شرح دعاء السحر، (ص:110).
(2) عبد القادر محمد أبي الفيض السيد الأفضل أبو محمد، يتصل نسبه بقضيب البان الموصلي، ولد بحماة سنة (971هـ)، وتوفي في حلب في حدود سنة (1040هـ).(1/274)
موقف الحقيقة المحمدية: أوقفني الحق على مرتبة بيان الحقيقة المحمدية، وكشف لي عن حقائق الأسماء في مسمياتها العلوية، ثم قال لي: انظر إلى كل اسم من حيث صورته ومعناه! فرأيت الأسماء الإلهية قامت في الأعين الثابتة (أي: في المخلوقات)، وقال لي: هي أربابها. وقال لي رب الأرباب: الاسم الأعظم وسر الحقيقة المحمدية هو سر قلبك وقطب وجودك. ثم كشف لي عن جملة التجلي الأول ومظاهر التجليات ومجمع صور المربوبات...ثم كشف لي عن صور العقل الأول -وهذا من اليونانيات- فإذا هو شيء لا يكيف عند النظر، وكليات الوجود مندرجة تحت إشراقه، ورأيته قد قابل شيئاً مثله في الصورة، وقد اشتمل على الجزئيات، فقال لي: هو لوح القضاء، والدرة البيضاء. وقال لي: الحقيقة المحمدية هي الرحمة التي وسعت كل شيء، وهي أم الكتاب، وحضرة العلم الجامع، وإنسان العين السامع، ومنها كشف لي عن أسرار النور والوجود والعلم، فقال لي: كل ذلك مظاهرها وكلمتها الجامعة وصحيفتها الكاملة...ثم كشف لي منها عن نار العشق الأزلي والاتحاد العيني، وأراني تعلقه في الهمم الإنسانية، وقال لي: هو إنشاء الإرادة، وبه توجه الحب، وقال لي: هو أصل كل موجود وعدته، ثم كشف لي عن ينبوع ذلك، فإذا هي المركز والنقطة التي في فؤاد القطب المحمدي...وكشف لي عن سر عرش الحقيقة المحمدية، وقال لي: هو القلب الذي هو بيت عزتي، ومخزن سري ومنبع نوري، ومظهر سعة علمي وسرير سلطة اسمي. وقالى لي: قالبه الهيكل الذي بنيته بيدي، وهو مجمع البحرين، وقاب قوسين، وكشف لي فيه عن خزائن الرحمة وتنزل الآيات، وكيفية حلولها من غير ممازجة، وسريانها في الأسماع والأبصار بسر التجريد في قوالبها، ورأيت حكم سريانها في مرآة الخيال، وقيامها في مظاهر النبوة(1).
ويقول مصطفى بن محيي الدين نجا(2)، في شرحه (على الممزوجة بصلاة ابن بشيش):
__________
(1) الإنسان الكامل في الإسلام، (ص:195، 196، 197).
(2) من تلاميذ علي اليشرطي.(1/275)
اللهم إنه سرك الجامع لكل الأسرار، ونورك الواسع لجميع الأنوار.
(إنه) أي: المصطفى صلى الله عليه وسلم.
(سرك) أمرك الخفي الذي لا يحيط به غيرك.
(الجامع لكل الأسرار) أي: لجميع حقائق الوجود بحقيقته التي هي مادة كل موجود،
(ونورك) أي وإنه مظهرك الأتم الذي نشأ من حضرتك بدون واسطة. (الواسع لجميع الأنوار) أي المملوء بأنوارك القدسية التي سرت بك منه إلى سائر المظاهر الكونية، أو الذي وسع صور الكائنات كلها لاندراجها في حقيقته، وانطوائها في عين ماهيته انطواء الأشعة في الضياء؛ والنور من أسمائه(1)...
(وأصير بها مجلاه) أي محلاً لظهور كمالاته العلية ومحاسنه السنية، فيكون من رآني كأنما رآه، لأن الكاملين هم مرايا للكمال المحمدي، وهو مرآة للكمال الإلهي، ولا يكون التكميل لكل كامل إلا من الحضرة المحمدية(2)...
...والحاصل أن الله تبارك وتعالى جعل الحقيقة المحمدية واسطة الإيجاد لمخلوقاته تفضلاً منه وإحساناً، فالأرواح التي لا تشاهد ذلك ولا تدرك أنه صلى الله عليه وسلم روحها وعين حياتها كأنها أموات(3)... (الله منه بدئ الأمر) أي الشأن الكلي الجامع لكل الشئون، وهو النور المحمدي الشريف، وهو أول صادر عنه سبحانه...ويسمى بالقلم الأعلى، وبالدوة البيضاء، وبالعقل الأول، وبروح الأرواح، وبالأب الأكبر، وبإنسان عين الوجود، وبالإنسان الكامل، وغير ذلك من الأسماء المشهورة عند العارفين(4).
- الرجاء أن يلاحظ القارئ في هذه النصوص: الكذب على الله ورسوله، والشرك الأعظم، واليونانيات (العقل الأول).
والذي يريد استقصاء أقوالهم في الحقيقة المحمدية يستطيع أن يملأ منها مجلدات.
إذن، فالمتصوفة كلهم، من دون استثناء، يؤمنون بالحقيقة المحمدية، وقد وهم الذي خصوا بذلك جماعة منهم دون آخرين. لأن الصوفية مذهب واحد.
__________
(1) كشف الأسرار، (ص:102، 103).
(2) كشف الأسرار، (ص:112).
(3) كشف الأسرار، (ص:126).
(4) كشف الأسرار، (ص:139).(1/276)
* وملخص أقوالهم هو: إن الله (سبحانه وتعالى عما يصفون) عندما أراد أن يجعل قسماً من ذاته متعيناً بشكل مخلوقات، كان أول شيء فعله هو أنه قبض قبضة من نور وجهه وقال لها: كوني محمداً، فكان محمد هو أول التعينات. وهذه القبضة من النور هي التي يطلقون عليها اسم (الذات المحمدية). ومن هذه الذات المحمدية انبثقت السماوات والأرض، والدنيا والآخرة، التي يسمونها فيما يسمونها (تعينات) فهي كلها تصدر عن الذات المحمدية ثم تعود إليها. وهذا هو ما يسمونه (الحقيقة المحمدية).
وأكرر، إنهم كلهم يؤمنون بالحقيقة المحمدية، وإن أنكر أحدهم ذلك فهو مخادع يستعمل التقية.
ولننتبه إلى الشبه التام بينهم وبين الهنادكة الذين يقولون: إن الخلائق صدروا من وجه براهمان، ومن يديه ومن فخذيه، ثم من قدميه (حسب الطبقات الهندوكية).
وأعيد فأكرر، إنهم كلهم يؤمنون بالحقيقة المحمدية، كلهم بدون استثناء، وما مضى براهين.
وبعض الباحثين الذين خصوا بذلك جماعة منهم دون آخرين كانوا واهمين.
وكثيراً ما يعبرون عنها بعبارة (أسبقية النور المحمدي).
والمولد المكذوب على ابن الجوزي والذي كانت قدسيته متزاملة مع دلائل الخيرات، إن لم تتقدمها في كثير من الأحيان، والذي كان يؤمن بما فيه كل المسلمين، إلا من رحم ربك، هذا المولد المكذوب فيه تفصيل للحقيقة المحمدية يستطيع الرجوع إليه كل من يريد ذلك، فهو متداول وصغير الحجم ومحشو بالشرك بالله والكذب على رسوله، وكذلك مولد البرزنجي.
الفصل الخامس
غاية التصوف
الزهد عمل ساعة، والورع عمل ساعتين، والمعرفة عمل الأبد.
عبد القادر الجيلاني
في النصوص السابقة، أكثر بكثير من الكفاية، ولكننا أمام مخادعات ومراوغات لا تعرف حدوداً، ولا تعرف منطقاً، ولا تستحيي، وأمام مسلمين غافلين عن واقعهم خدعوا بالكلمات المنمقة.(1/277)
لذلك، وسداً للذرائع، ومنعاً للمراوغات والمخادعات، وإسكاتاً لمقولتهم: لعل ولعل ولعل..، نقدم براهين أخرى من أقوالهم، على أن غاية التصوف هي استشعار وحدة الوجود، وأنه لا غاية للتصوف غير هذه الغاية (وسنحاول الاختصار كثيراً):
- والشائع بين أهل الشريعة أن غاية التصوف هي الزهد والتوكل والصبر...إلخ.
وقد سَرَت هذه الأغلوطة في الغافلين من أهل الشريعة (أهل الأوراق)، مما يردده عليهم أهل الحقيقة (أهل الأذواق).
لكن لو رجعنا إلى عباراتهم المخصصة لأبناء طائفتهم، وللمريدين الذين قطعوا الشوط المطلوب في السلوك، لرأينا -وبوضوح- أن غاية التصوف هي التحقق بالألوهية، وهو ما يسمونه المعرفة، ولا غاية غيرها.
يقول عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور (لجنة نشر الأصول الصوفية):
طرق التصوف متعددة مختلفة، وبعضها أوفق من بعض، وبعضها أسرع من غيرها، ولكنها على اختلافها وتعددها، تؤدي إلى هدف واحد وغاية واحدة!(1).
- فما هي هذه الغاية؟
يقول أبو الحسن الشاذلي:
كنتُ يوماً جالساً بين يديه (أي: بين يدي ابن مشيش)، وفي حجره ابن له صغير يلاعبه، فخطر ببالي أن أسأله عن اسم الله الأعظم، قال: فقام إلي الولد ورمى بيده في طَوْقي، وهزني وقال:
يا أبا الحسن، أنت أردت أن تسأل الشيخ عن اسم الله الأعظم، ليس الشأن أن تسأل عن اسم الله الأعظم! إنما الشأن أن تكون أنت هو اسم الله الأعظم!؟!
...قال: فتبسم الشيخ وقال لي: جاوبك فلان عني..(2).
- إذن فالشأن أن تكون أنت هو اسم الله الأعظم!!
- ورغم وضوح العبارة، فلا بأس من أن نزيدها وضوحاً.
- اسم الله الأعظم عند القوم هو (الله).
يقول ابن عطاء الله السكندري:
إن هذا الاسم...أعني (الله) عز ذكره هو اسم الذات العلية...وهو أعظم الأسماء(3).
__________
(1) التعرف لمذهب أهل التصوف، (ص:13).
(2) أبو الحسن الشاذلي لعبد الحليم محمود، (ص:25).
(3) القصد المجرد، (ص:13).(1/278)
ويقول: ((قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ)) [الأنعام:91] وهو الاسم الأعظم(1).
والآن لنبدل العبارة (اسم الله الأعظم) بالاسم نفسه (الله)، فتكون الجملة: (إنما الشأن أن تكون أنت هو الله).
- هذا حكم واضح المدلول، يقرره، حسب المرجع الذي أخذ منه، أربعة أقطاب:
عبد السلام بن مشيش، وأبو الحسن الشاذلي، وابن الصباغ (مؤلف درة الأسرار) وعبد الحليم محمود.
ويقول الغزالي:
...ولمثل هذا قالت الصوفية: إن العلم حجاب، وأرادوا بالعلم: العقائد التي استمر عليها أكثر الناس بمجرد التقليد، أو بمجرد كلمات جدلية حررها المتعصبون وألقوها إليهم، فأما العلم الحقيقي، الذي هو الكشف والمشاهدة بنور البصيرة، فكيف يكون حجاباً وهو منتهى المطلب(2)؟!
ويقول: ...وفرقةٌ أخرى اشتغلوا بالمجاهدة وتهذيب الأخلاق، وتطهير النفس من عيوبها، وصاروا يتعمقون فيها، فاتخذوا البحث عن عيوب النفس ومعرفة خُدَعها علماً وحرفة، فهم في جميع أحوالهم مشغولون بالفحص عن عيوب النفس، واستنباط دقيق الكلام في آفاتها...
وفرقة أخرى جاوزوا هذه الرتبة، وابتدءوا سلوك الطريق، وانفتح لهم أبواب المعرفة، فكلما تشمموا من مبادئ المعرفة رائحة تعجبوا منها وفرحوا بها، وأعجبتهم غرابتها، فتقيدت قلوبهم بالالتفات إليها، والتفكر فيها، وفي كيفية انفتاح بابها عليهم وانسداده على غيرهم، وكل ذلك غرور، لأن عجائب طريق الله ليس لها نهاية، فلو وقف مع كل أعجوبة وتقيد بها قَصُرتْ خطاه وحُرِم الوصول إلى المقصد...
__________
(1) القصد المجرد، (ص:29).
(2) الإحياء: (1/255)، وفي هذا النص إنكار صريح للعقيدة الإسلامية (العقائد التي استمر عليها أكثر الناس لمجرد التقليد..)، وهي جملة تصفع وجوه الذين يسمون الغزالي (حجة الإسلام)، ويدرسون (إحياء علوم الدين).(1/279)
وفرقة أخرى جاوزوا هؤلاء، ولم يلتفتوا إلى ما يفيض عليهم من الأنوار في الطريق، ولا إلى ما يتيسر لهم من العطايا الجزيلة، ولم يعرجوا على الفرح بها والالتفات إليها، جادين في السير، حتى قاربوا فوصلوا إلى حد القُربة من الله، فظنوا أنهم قد وصلوا إلى الله، فوقفوا، وغلطوا...سر القلب الذى تتجلى فيه حقيقة الحق كله...وتنجلي فيه صورة الكل، وعند ذلك يشرق نوره إشراقاً عظيماً، إذ يظهر فيه الوجود كله على ما هو عليه...فإذا تجلى نوره، وانكشف جمال القلب بعد إشراق نور الله عليه، ربما التفت صاحب القلب إلى القلب فيرى من جماله الفائق ما يدهشه، وربما يسبق لسانه في هذه الدهشة، فيقول: (أنا الحق)(1).
- الرجاء من القارئ أن ينتبه إلى الجملة الأخيرة.
ويقول الغزالي أيضاً:
...فغاية المعاملة المكاشفة، وغاية المكاشفة معرفة الله تعالى، ولست أعني به الاعتقاد الذي يتلقفه العامي وراثة أو تلقفاً، ولا طريق تحرير الكلام والمجادلة في تحصين الكلام عن مرواغات الخصوم كما هو غاية المتكلم، بل ذلك نوع يقين، هو ثمرة نور يقذفه الله تعالى في قلب عبد طهر بالمجاهدة باطنه عن الخبائث...فكن حريصاً على معرفة ذلك السر الخارج عن بضاعة الفقهاء والمتكلمين(2).
- علينا مع هذا النص، أن نتساءل: ماذا يعني بقوله: ...الاعتقاد الذي يتلقفه العامي وراثة أو تلقفاً؟ (أترك تحليلها للقارئ). والجملة: (.. السر الخارج عن بضاعة الفقهاء) تسهل التحليل وتوضحه، كما يجب أن ننتبه جيداً إلى قوله:.. عبد طهر بالمجاهدة باطنه عن الخبائث التي تعني بوضوح أن تطهير الباطن عند الغزالي يكون بالمجاهدة، أي: بالرياضة الصوفية، لا بالعبادة! فنسأل: ما هو الكفر؟ لننتبه أن كلمة (العامي) تعني عندهم: عالم الشريعة.
__________
(1) الإحياء: (3/349، 350).
(2) الإحياء: (1/46).(1/280)
ويقول: ...فالقسم الأول علم المكاشفة، وهو علم الباطن، وذلك غاية العلوم...فهو عبارة عن نور يظهر في القلب...وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسماءها فيتوهم لها معاني مجملة غير متضحة، فتتضح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه وبصفاته الباقيات التامات(1)...
ويقول أبو عثمان الهجويري(2).
فاعلم أن أساس التصوف والمعرفة قائم على الولاية، وقد أكد هذه الحقيقة كل الشيوخ وإن اختلفت عباراتهم في ذلك. وكان محمد بن علي الحكيم هو أول من طبق هذا الاصطلاح. وقد ألف الشيوخ كتباً في هذا الموضوع ولكنها نادرة...فمِن هذا نرى أن الله تعالى اختار له أولياء اختصهم بصحبته، واختارهم حُكاماً لمملكته، ومنحهم أنواع الكرامات...وجمع أفكارهم فيه ومعرفتهم به، كانوا فيما مضى، وهم الآن كذلك، وإلى ما شاء الله إلى يوم القيامة(3)...
- هذا النص، يبين لنا غاية التصوف، وبين إلى جانبها حقيقةً تاريخيةً هي: أن محمد بن علي الترمذي الحكيم هو أول من أطلق صفة الولاية على الصوفية، وهو غير الترمذي المحدث صاحب السنن، والفرق بينهما كالفرق بين خداع الشيطان وهدى الرحمن.
ويقول أبو حيان التوحيدي:
...لأن غاية المجهود ان يسلو عن الموجود، ويغمض عن المشهود، ويقصى عن المعهود، ليجد من يغنيه عن هذا كله بعطاء ممدود، ورفد مرفود، وركن موطود، وحد غير محدود(4). ويقول أبو مدين الغوث:
من أقرب رحلة تكون للمريد إلى حضرة الحق الخاصة، دوام الذكر، فقد أجمعوا على أن من دامت أذكاره صفت أسراره، ومن صفت أسراره كان في حضرة الله قراره(5)...
ويقول أيضاً:
__________
(1) الإحياء: (1/18).
(2) أبو عثمان الجلالي الهجويري الفارسي، من شيوخ الطريقة الحكيمية، مات عام (465 أو (469هـ)).
(3) كتاب الرياضة وأدب النفس، (ص:22).
(4) الإشارات الإلهية، رسالة (يا)، (ص:115).
(5) الأنوار القدسية (1/144)، (في قواعد الصوفية).(1/281)
ليس للقلوب إلا وجهة واحدة، متى توجه إليها حجب عن غيرها، فإن توجه للدنيا حجب عن الآخرة، وإن توجّه للآخرة حجب عن الدنيا، وإن توجه إلى حضرة الله حجب عن الدارين(1).
- إذن، فالآخرة ليست غايتهم!
ويقول الشطيبي(2) (ومعه ابن عجيبة):
...ومن الناس من تحجبه المجاهدة عن المشاهدة، فتسطو عليه الأحوال، فتحول بينه وبين الغاية القصوى(3).
- إذن، فالغاية القصوى هي المشاهدة. ونعرف الآن ما معنى (المشاهدة) عندهم. ويقول، ومعه ابن عجيبة أيضاً:
...إن الإنسان إذا جال مع النفس في ميدانها، فجاهدها حتى هذبها وطهرها من الأوصاف الحاجبة لها، رجعت نفسه حينئذ إلى أصلها، وهي الحضرة التي كانت فيها، إذ لم تكن بينها وبين الحضرة إلا الحجب الظلمانية، فلما تخلصت منها، رجعت إلى أصلها(4)....
ويقول عبد الله اليافعي:
إن الحقيقة هي مشاهدة أسرار الربوبية، ولها طريقة هي عزائم الشريعة، فمن سلك الطريقة وصل إلى الحقيقة(5)...
- أقول: في كلام الشيخ هنا مغالطة جريئة، فهو يجعل الطريقة (الخلوة والجوع والسهر والذكر والشيخ) يجعلها عزائم الشريعة، فنسأله: متى؟ وفي أي موضع عزمت الشريعة هذه العزائم؟ ويُنْسَب لعبد القادر الجيلاني (أتباع الطريقة القادرية يؤمنون أنها له):
قطعتُ جميعَ الحجب لله صاعداً ... ... فما زلت أرقى سائراً في المحبة
تجلى لي الساقي وقال إلي قم ... ... فهذا شراب الوصل في حان حضرتي
وشاهدتُ معنى لو بدا كشف سره ... ... بصم الجبال الراسيات لدكت(6)
- ما زال يسير حتى وصل إلى الغاية التي بينها، وطبعاً هذا هو عقيدة كل أهل الطريقة القادرية.
ويقول عمر بن الفارض في نظم السلوك:
وما زلت إياها وإياي لم تزل ... ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
إلى أن يقول:
__________
(1) الأنوار القدسية: (1/142).
(2) لم أقف على ترجمته.
(3) إيقاظ الهمم، (ص:348).
(4) إيقاظ الهمم، (ص:349).
(5) نشر المحاسن الغالية، (ص:77).
(6) فتوح الغيب، (ص:236).(1/282)
فغاية مجذوبي إليها ومنتهى ... ... مرادي ما أسلفته قبل توبتي
أي إن غاية مجذوبه هو ما سلف من قوله: فما زلت إياها وإياي لم تزل.
وكان الشيخ داوُد بن باخلا يقول:
احذر أيها المريد أن يكون قصدك مِن ذكرك وعبادتك الأجر والثواب، فإن ذلك حاصل لا محالة، وإنما ينبغي أن تكون همتك في التلذذ بمناجاته..(1).
وكان يقول:
المريد أولاً يسمع، وثانياً يفهم، وثالثاً يعلم، ورابعاً يشهد، وخامساً يعرف(2).
ويقول ابن خلدون في المقدمة، فصل (علم التصوف):
...ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام، إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة...ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالباً كشف حجاب الحس والاطلاع على عوالم من أمر الله، ليس لصاحب الحس إدراك الشيء منها.
- ويقول ابن البنا السرقسطي في (المباحث الأصلية):
وإنما القوم مسافرون ... ... لحضرة الحق وظاعنون
فعندما مالت إلى الزوال ... ... أدخل في خلوة الاعتزال
وقيل قل على الدوام (الله) ... ... واحذر كطرف العين أن تنساه
حتى إذا جاء بطور القلب ... ... خوطب إذ ذاك بكل خطب
فقال لو عرفتني بكوني ... ... قيل، إذن، فاخلع نعال الكون
ثم فني عن رؤية العوالم ... ... ولم ير في الكون غير العالِم
ثم انتهى لفلك الحقيقة ... ... فقيل هذا غاية الطريقة
ثم امتحى في غيبة الشهود ... ... فأطلق القول: (أنا معبودي)
حتى إذا رد عليه منه ... ... أثبت فرقاً حيث لم يكنه
ويقول عبد الوهاب الشعراني:
...ومعلوم أن مقصود القوم القرب من حضرة الله الخاصة، ومجالسته فيها من غير حجاب. وأما الثواب فحُكمه حُكم علف الدواب، قال تعالى: {أنا جليس من ذكرني}...والمراد بالمجالسة انكشاف الحجب للعبد(3)...
__________
(1) الأنوار القدسية (1/129)، (في قواعد الصوفية).
(2) الأنوار القدسية: (1/130).
(3) الأنوار القدسية (1/34).(1/283)
- لننتبه إلى قوله: وأما الثواب فحكمه حكم علف الدواب!! ولنسأل: ما هو سبب فساد الأمة؟
ويقول ابن عجيبة:
...والأعمال عند أهل الفن ثلاثة أقسام: عمل الشريعة، وعمل الطريقة، وعمل الحقيقة...أو تقول: عمل أهل البداية، وعمل أهل الوسط، وعمل أهل النهاية. فالشريعة أن تعبده، والطريقة أن تقصده، والحقيقة أن تشهده...فإذا تطهر من أوصاف البشرية تجلى بأوصاف الربوبية(1)...
ويقول أيضاً:
...وأما موضوعه (أي: التصوف) فهو الذات العلية، لأنه يبحث عنها باعتبار معرفتها، إما بالبرهان، وإما بالشهود والعيان(2).
وبقول ابن عربي:
سَجَدَ الملائكة الكرام لديهم ... ... دون اعتقاد وجود رب ثان
للذات كان مسيرهم فحباهم ... ... بشهودها عيناً بلا أكوان
وصلوا إليه وعاينوا ما عاينوا ... ... من غيب سر السركالإعلان(3)
ويقول علي نور الدين اليشرطي:
يصل الفقير إلى مقامٍ يقول فيه للشيء كن فيكون...والبعض عند الخاطر(4).
- أي: يحصل الشيء عندما يمر بخاطر الفقير فقط، دون أن يتعب لسانه يقول: (كن). وطبعاً يحصل له هذا بالكشف لا بالواقع.
ويقول: ما زال العبد يذكر الله حتى يستولي عليه الاسم، ومتى استولى عليه الاسم انطوت العبدية بالربية، وظهرت عليه صفات الرب، ولذة الرب تغيب العبد عن وجوده حساً ومعنى(5).
- أقول: كل من رأينا، ومن قرأنا له، ممن انطوت فيهم العبدية بالربية وظهرت عليهم صفات الرب، كلهم إما بلهاء، أو تنقصهم المقدرة على التفكير السليم، فهل هذه هي صفات الرب؟!
ويقول محمود أبو الفيض المنوفي:
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:10).
(2) إيقاظ الهمم، (ص:5).
(3) كتاب الإسرا، فصل (مناجاة قاب قوسين)، (ص:22).
(4) نفحات الحق، (ص:99).
(5) نفحات الحق، (ص:110).(1/284)
...إن الوجود وحدة ظاهِرها الكائنات المتعددة، وباطنها الحقائق المتوحدة المقومة للكل...ولذا نرى أن أخص خصائص الكون، النزوع للترقي: فباطنه ينزع طالباً للظهور، وظواهره تتحول طلباً للاستبطان والخفاء. فالكائنات كلها تمثل على التحقيق دائرة واحدة، مركزها فعال في محيطها، ومحيطها آيل إلى مركزها. تلك الحقيقة العليا هي غرض الدين، وأمنية الفلسفة، وموضع دهشة العلم، وهي نفسها غاية الإنسان الكامل من الوجود، وهي هي بالذات موضوع بحث التصوف الحق(1).
- نسأل هذا العارف: ما هو دليله من الكتاب والسنة على أن وحدة الوجود هي غرض الدين؟؟ ولنتذكر أن مركزها الفعال في محيطها هو محمد صلى الله عليه وسلم.
ومر معنا قول حسن رضوان:
وحسبه من ذلك المقصود ... ... إشراق نور وحدة الوجود
ويقول أحمد الصاوي (المالكي الخلوتي):
...وأما الحقيقة فهي ثمرة الطريقة، من فهم حقائق الأشياء، كشهود الأسماء والصفات وشهود الذات(2)...
ومن الأوراد الخلوتية التي مرت في فصل سابق:
وجُد لي بجمع الجمع فضلاً ومنةً ... ... وداوِ بوصل الوصل روحي من الضنا
ومن علينا يا ودود بجذبة ... ... بها نلحق الأقوام من كان قبلنا
ويقول محمد بن سليمان البغدادي النقشبندي:
...تحقق بالتجربة والعيان لدى أساطين العلم والكشف والشهود والعرفان، من أن الطريقة النقشبندية أقرب وأسهل على المريد للوصول إلى درجات التوحيد، لأن مبناها على التصرف وآلقاء الجذبة المقدمة على السلوك(3)...
- هذه هي غاية التصوف، إنها التحقق بالذات والصفات، إنها وحدة الوجود، التي تشرق بالغيبة عن الحس الطبيعي (الجذبة).
__________
(1) معالم الطريق إلى الله، (ص:116).
(2) الأسرار الربانية والفيوضات الرحمانية، (ص:69).
(3) الحديقة الندية، (ص:12). وكلمة آلقاء لم أجدها فيما بين يدي من معاجم، ولعلها تصحيف من أَلَقات، بمعنى لمعات.(1/285)
ولو أردنا استقصاء أقوال القوم في غاية التصوف وهدفه، الذي هو الوصول ومعرفة وحدة الوجود، لاحتجنا إلى مئات الصفحات، وقد نحتاج إلى ألوفها. ولكن في هذا القدر كفاية، بالإضافة لما نراه في فصلي (المدخل إلى فهم النصوص الصوفية)، و(وحدة الوجود)، بل وفي شتى فصول الكتاب.
وهذا يعني، أننا عندما نسمع أحد الأولياء الأوفياء، الأتقياء الأنقياء، الصادقين الصديقين، المقربين العالِمين، العارفين المحققين، الأغواث الأقطاب، الأشراف الأسياد، الأشياخ الصالحين، الخاشعين المتعبدين، الذاكرين المتضرعين، المحبين المحبوبين، المطمئنين الموقنين، الواصلين الموصولين، المكاشفين المشاهدين، الطاهرين المطهرين، المحظيين الموحدين، المؤمنين المستنيرين، الراضين المرضيين، الزاهدين المتوكلين، العاشقين المعتصمين، المتقين الدالين على الله، الداعين إليه، الذين يمسون في حضرة الحق ويصبحون، المتحكمين في الكون، القائلين للشيء: كن فيكون، المتحققين بأسماء الله الحسنى حتى الاسم الأعظم (الله)، ذوي الأسرار العجيبة، والعلوم الجليلة...إلى آخر هذه الأوصاف التي يصفون بها أنفسهم والتي تجاوزت كل حدود رسمتها الشرائع، حتى الوثنية، وتجاوزت كل حدود الذوق والمنطق والعقل والحياء والخجل والأخلاق والضمير، بل وتجاوزت حدود الهزء بالإنسان وعقله وقلبه ونفسه وسره وسمعه وبصره، بل وتجاوزت حدود السخرية بوجود الإنسان ووجود الدين الإسلامي، والوحي الذي نزل بالدين الإسلامي.
أقول: عندما نسمع أحد هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات يقول: إن غاية التصوف هي الزهد والعبادة والاستقامة...فيجب أن نعلم أنه يستعمل التقية، وما أدراك ما التقية، ثم ما أدراك ما التقية، ثم ما أدراك ما التقية؟!
ولنتذكر حكمة الغزالي:
إذا كان قد صح الخلاف فواجب ... ... على كل ذي عقل لزوم التقية(1/286)
وقبل الانتقال إلى الفصل التالي أنبه إلى أن هذه الأوصاف التي أوردتها هي جزء مما يصفون به أنفسهم، وكلها من كتبهم وأقوالهم وأشعارهم وحكمهم.
وجواباً عليها نذكرهم ونذكر من يغتر بهم وبأقوالهم بقوله سبحانه: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:49، 50]، وقوله: ((فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)) [النجم:32].
والآن، أرجو من القارئ أن يتسلى بتحليل بيت ورد سابقاً مأخوذاً عن مجدد الألف الثاني، وهو:
إن كنت لم تقطعْ بـ(لا) عنق السوى ... ... في قصر (إلا الله) لست بواصل(1)
ولتسهيل التحليل: (لا) و(إلا الله) مأخوذتان من (لا إله إلا الله) و(قصر) من قصر يقصر.
وفي هذا البيت ثلاث فوائد:
1- أسلوب من أساليب العبارة الصوفية الملغزة المشيرة إلى وحدة الوجود.
2- كيف يفسرون (لا إله إلا الله).
3- من هو الواصل في اصطلاحاتهم، وبالتالي ما هي غاية التصوف.
وأخيراً.. وحدة الوجود هي الصوفية، وهي الصوفية الحقة، وهي غاية التصوف، ولا غاية للتصوف غيرها، وواهم من ظن أو يظن خلاف ذلك، واهم واهم.
يقول عبد القادر الجيلاني: الزهد عمل ساعة، والورع عمل ساعتين، والمعرفة عمل الأبد(2).
وهذا كلام واضح صريح أن الزهد والورع ليسا من الغاية في شيء، وأن المعرفة هي الغاية ولا غاية غيرها! فما هي المعرفة؟! ومن هو العارف؟!
الفصل السادس
العارف
كلنا نسمع بالعارف بالله فلان، ونقرأ في الكتب عن العارف بالله علان، كما نرى مكتوباً على أبواب بيوت الأوثان المنتشرة في بلاد المسلمين طولاً وعرضاً: هذا مقام العارف بالله....
__________
(1) المنتخبات من المكتوبات، (ص:17).
(2) فتوح الغيب، (ص:171).(1/287)
وليس لهذه العبارة (العارف بالله) مدلول واضح في أذهان كثيرين! وإنما تبعث في النفوس صوراً شاحبة لنوع ما من التزكية على الله تزكية عريضة وغامضة مبهمة، هذا هو الشعور الذي تبعثه هذه العبارة في الأكثرية من الناس، الذين يعطونها تفاسير انطباعية غير موضوعية، تتناسب مع هوى المفسر ونفسيته ومستواه العلمي.
فما هو معنى هذا المصطلح؟ وماذا يريدون به وله وفيه ومنه وعليه وإليه وعنه؟
الجواب، بكل بساطة، العارف بالله هو من عرف أن الله هو الكون!! وأن كل ما نرى ونسمع ونحس، بما في ذلك أنا وأنت وهو وهي وهم وهن ونحن وأنتم وأنتن - ونسيت أن أذكر (أنتما) - وبما في ذلك الحيوانات والحشرات والنباتات والجمادات، والأرض والشمس والقمر والنجوم والكواكب...كل هؤلاء هم أجزاء من الله! مع العلم أن بعض القوم لا يجيزون أن يقال: (أجزاء من الله) لأن الله كل لا يتجزأ، إنه وحدة غير قابلة للتعدد ولا للتجزؤ، ((سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)) [المؤمنون:91]، فالعارف، وبكل بساطة، هو من توصل إلى معرفة وحدة الوجود بالذوق والمشاهدة. قال الجنيد: المعرفة وجود جهلك عند قيام علمه. قيل له: زدنا، قال: هو العارف وهو المعروف(1).
وسئل الجنيد أيضاً عن العارف، فقال: لون الماء لون الإناء(2).
وسئل الحسين بن علي بن يزدانيار: متى يكون العارف بمشهد الحق؟
قال: إذا بدا الشاهد وفني الشواهد، وذهب الحواس، واضمحل الإحساس(3). معنى: بدا الشاهد: يعني شاهد الحق. وفناء الشواهد: بسقوط رؤية الخلق عنك. وذهاب الحواس: هو معنى قوله: {فبي ينطق وبي يبصر}(4).
وسئل ذو النون عن نهاية العارف فقال: إذا كان كما كان حيث كان قبل أن يكون(5).
وسئل الشبلي: متى يكون العارف بمشهد من الحق؟
__________
(1) التعرف، (ص:66).
(2) التعرف، (ص:138).
(3) التعرف، (ص:136).
(4) من شرح الكلاباذي في التعرف، (ص:136).
(5) التعرف، (ص:137).(1/288)
قال: إذا بدا الشاهد، وفنيت الشواهد، وذهبت الحواس، واضمحل الإحساس بالسوى، ولم يبق إلا شعور الذات بالذات(1).
ويقول الشبلي كذلك: المعرفة أولها الله وآخرها ما لا نهاية له(2).
وسئل أبو يزيد البسطامي عن صفة العارف؟ فقال: إن لون الماء من لون إنائه(3).
- يلاحظ أن قول ابن يزدانيار هو نفس قول الشبلي إلا قليلاً، وقول الشبلي أكمل منه وأوضح. كما أن قول البسطامي هو نفس قول الجنيد؛ ولا غرو! فمن البدهي أن يأخذوا عن بعضهم الأقوال والأفعال. وأظن أن معاني أقوالهم صارت الآن مفهومة تماماً للقارئ.
ويقول الغزالي:
...فمن عرف الحق رآه فى كل شيء، إذ كل شيء فهو منه وإليه وبه وله، فهو الكل على التحقيق..(4). ثم يلوك الغزالي بعد هذا الكلام كلاماً يقصد به التمويه على غير أهل الحقيقة.
ويقول: ...العارفون بعد العروج إلى سماء الحقيقة، اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق، ولكن منهم من كان له هذه الحالة عرفاناً علمياً، ومنهم من صار له ذوقاً وحالاً، وانتفتْ منهم الكثرةْ بالكلية، واستغرقوا بالفردانية المحضة، فلم يبق عندهم إلا الله، فسكروا سكراً وقع دونه سلطان عقولهم! فقال بعضهم: أنا الحق، وقال الآخر: سبحاني ما أعظم شاني، وقال الآخر: ما في الجبة إلا الله(5). ويقول: ...من هنا ترقى العارفون من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة، واستكملوا معراجهم، فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله تعالى(6)...ويقول: ...قال العارفون: ليس خوفنا من نار جهنم، ولا رجاؤنا للحور العين، وإنما مطالبنا اللقاء، ومهربنا من الحجاب فقط(7)...
__________
(1) معالم الطريق إلى الله، (ص:113).
(2) طبقات الشعراني: (1/104).
(3) معالم الطريق إلى الله، (ص:113).
(4) الإحياء: (1/254).
(5) مشكاة الأنوار، (ص:122).
(6) مشكاة الأنوار، (ص:55).
(7) الإحياء (4/22).(1/289)
- بتأمل النص الأخير، نلاحظ أن الغزالي يريد أن يقول: ...ولا رجاؤنا للجنة؛ لكنها كانت ستكون شديدة الوقع على سمع المسلم وعلى عقيدته، (فشلبنها) لتكون أخف وقعاً وقال: ولا رجاؤنا للحور العين، والمعنى واحد طبعاً.
ويقول ابن عربي (الشيخ الأكبر):
...فإن العارف مَنْ يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء(1)...
..والعارف المكمَّل من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد فيه، ولذلك سموه كلهم إلهاً مع اسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو فلك(2).
...فمن رأى الحق فيه بعينه (أي: بعين الحق) فذلك العارف، ومن رأى الحق منه فيه بعين نفسه فذلك غير العارف، ومن لم ير الحق منه ولا فيه وانتظر أن يراه بعين نفسه فذلك الجاهل(3)....(أرجو التمعن جيداً).
ويقول شهاب الدين السهروردي البغدادي:
...فلما صح تعرفه صح تصرفه، وهذا أعز في الأحوال من الكبريت الأحمر(4)...
ويقول عبد الكريم القشيري:
...وعند هؤلاء القوم، المعرفة صفة مَن عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته...
ثم تنقى عن أخلاقه الرديئة وآفاته، ثم طال بالباب وقوفه، ودام بالقلب اعتكافه، فحظي من الله تعالى بجميل إقباله...وانقطع عن هواجس نفسه، ولم يُصغ بقلبه إلى خاطر يدعوه إلى غيره، فإذا صار من الخلق أجنبياً، ومن آفات نفسه برياً...وصار محدثاً من قبل الحق سبحانه، بتعريف أسراره فيما يجريه من تصاريف أقداره، يسمى عند ذلك: عارفاً، وتسمى حالته: معرفة(5).
ومما أورده اليافعي للقشيري:
__________
(1) الفصوص، (فص حكمة إمامية في كلمة هارونية)، (ص:192).
(2) نفسه ونفس الفص، (ص:195).
(3) الفصوص، (فص حكمة أحدية في كلمة هودية)، (ص:113).
(4) عوارف المعارف في هامش الإحياء: (2/150).
(5) الرسالة القشيرية، (ص:141).(1/290)
...لا يُسمى العبد في هذه الطريقة عارفاً حتى يحصل بينه وبين الله تعالى أحوال زائدة على العلم، من فنون الكشوفات وصنوف التعريفات.. والعارف يبدو في قلبه في ابتداء التعريف لوائح، ثم لوامع، ثم كشوفات وبصائر وطوالع(1)...
- أقول: القشيري هنا حذر يستعمل الرمز، لكن عن مدى غير بعيد.
ويورد القشيري أيضاً في الرسالة:
قال ذو النون المصري: معاشرة العارف كمعاشرة الله تعالى! يحتملك ويحلم عنك تخلقاً بأخلاق الله عز وجل(2)...
ومما يورده:
...قال الحسين بن منصور (أي: الحلاج): إذا بلغ العبد إلى مقام المعرفة، أوحى الله تعالى إليه بخواطره وحرس سره أن يسنح فيه غير خاطر الحق(3).
ويقول ابن عطاء الله السكندري:
...والمعرفة رؤية لا علم، وعين لا خبر، ومشاهدة لا وصف، وكشف لا حجاب، ما هُمْ هُمْ، ولا هُمْ بإياهم، كما قال تعالى: ((إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ)) [الزخرف:59]. {فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً}(4)....
- يظهر من القراءة الساذجة لهذا النص أن فيه تنافراً بين جمله! لكن هذا يزول إذا تذكرنا أنهم يعنون بعبارة: (أنعمنا عليه)، أي: بالولاية والقرب. وعبارة: (كنت له سمعاً وبصراً)، أي: جعلته يستشعر ويتحقق أنه أنا. وأن (هو) من الأسماء الحسنى.
ويقول أيضاً:
إن ما سوى الله تعالى عند أهل المعرفة، لا يوصف بوجود ولا فقد، إذ لا يوجد معه غيره، لثبوت أحديته، ولا فقد لغيره؛ لأنه لا يفقد إلا ما وجد، ولو انهتك حجاب الوهم، لوقع العيان على فقد الأعيان، ولأشرق نور الإيقان فغطى وجود الأكوان(5)....
ويقول لسان الدين بن الخطيب:
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:69).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:142).
(3) الرسالة القشيرية، (ص:142).
(4) القصد المجرد، (ص:86).
(5) كشف الأسرار لتنوير الأفكار، (ص:139).(1/291)
ومحصول السعادة عندهم أن ينكشف الغطاء، وتظهر للعارف إنِّيَّة الحق، وأنه عين إنية كل شيء، ويعقل إنية ذاته وما هي عليه، ومن عرف نفسه عرف ربه(1)...
- كلمة (إنية) منحوتة من قول القائل: إني إني..
ويقول ابن خلدون:
...ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام، إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة، التي هي الغاية المطلوبة للسعادة(2).
وقال داوُد الكبير بن ماخلا (أو باخلا):
...ما لاح كوكبُ كونٍ إلا عند غيبة شمسِ المعرفة، ومتى طلعت شمس المعرفة من مشارق التوحيد أفلت كواكب الآثار، وغابت نجوم الأغيار(3)...
...أولاً: تسمع، ثانياً: تفهم، ثالثاً: تعلم، رابعاً: تشهد، خامساً: تعرف..(4).
ويقول ابن عجيبة:
...وأما العارفون فقد ظفروا بنفوسهم ووصلوا إلى شهود معبودهم، فهم يستأنسون بكل شيء، لمعرفتهم في كل شيء، يأخذون النصيب من كل شيء، ويفهمون عن الله في كل شيء، فإذا مُدِحوا انبسطوا بالله، لشهودهم المدح من الله وإلى الله، ولا شيء في الكون سواه(5).
...فإذا تطهر من الأغيار ملئ بالمعارف والأسرار، فالمعارف هي العلوم، والأسرار هي الأذواق، فمَنْ رآها وذاقها يقال له: عارف، ومن لم يصل لهذا المقام وكان من أهل الدليل يقال له: عالم(6)...
...وحقيقة العارف هو الذي فني عن نفسه وبقي بربه، وكَمُل غناه في قلبه؛ لا يحجبه جمعه عن فرقه، ولا فرقه عن جمعه، يعطي كل ذي حق حقه، ويوفي كل ذي قسط قسطه(7)...
ويقول عبد العزيز الدباغ(8) (قطب الواصلين):
__________
(1) روضة التعريف بالحب الشريف، (ص:611).
(2) مقدمة ابن خلدون، (علم التصوف).
(3) طبقات الشعراني: (1/191).
(4) طبقات الشعراني: (1/194).
(5) إيقاظ الهمم، (ص:215).
(6) الفتوحات الإلهية، (ص:412).
(7) الفتوحات الإلهية، (ص:413).
(8) الشيخ عبد العزيز بن مسعود بن أحمد الدباغ، مغربي من فاس، ولد سنة (1095هـ)، وتوفي سنة (1132هـ).(1/292)
...إن الله تعالى لا يحب عبداً حتى يعرفه به، وبالمعرفة يطَّلع على أسراره تعالى، فيقع له الجذب إلى الله تعالى(1).
ويقول مصطفى العروسي:
...العارف: هو مَن أشهده الله تعالى ذاته وصفاته وأفعاله، إذ المعرفة حالة تحدث عن شهود، والعالم من أطلعه الله على ذلك لا عن شهود، بل عن يقين مستند إلى دليل وبرهان، والعلماء بهذا المعنى هم العامة في اصطلاح الصوفية(2)...
ويقول محمود أبو الفيض المنوفي:
وحاصل المعرفة: أن الله هو النبع السامي لكل شيء، وليس شيء من الأشياء جميعها هو الله(3).
- يقول: وليس شيء من الأشياء جميعها هو الله؛ لأن الله في عقيدتهم هو جميع الأشياء لا شيء واحد منها فقط. وهو يستعمل هنا لفظ الجلالة (الله) بمعناه الكلي. بينما ذاك الذي قال: (أنا الله) استعمل لفظ الجلالة (الله) من باب إطلاق اسم الكل على الجزء. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وسبحان الله عما يصفون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولو أراد باحث أن يجمع أقوالهم في العارف ومعنى المعرفة لاحتاج إلى مئات الصفحات. وفي القدر الذي مر كفاية لسد الطرق أمام مراوغاتهم، التي تخلو من الحياء والمنطق والعقل السليم، بل وتخلو من الخوف من الله!
وزيادة في التوضيح، نذكر نصاً لابن عطاء الله في حِكَمه (بل نقمه) مع شرح عليه لابن عجيبة، يقول ابن عطاء الله:
...إن كانت عين القلب تنظر أن الله واحد في منته، فالشريعة تقتضي أن لا بد من شكر خليقته، وأن الناس في ذلك على أقسام ثلاثة:
غافلٌ منهمك في غفلته، قويت دائرة حسه، وانطمست حضرة قدسه، فنظر الإحسان من المخلوقين، ولم يشهده من رب العالمين، أما اعتقاداً فشرك جلي، وأما استناداً فشرك خفي.
__________
(1) الإبريز، (ص:217).
(2) حاشية العروسي: (1/8).
(3) معالم الطريق إلى الله، (ص:115).(1/293)
وصاحب حقيقة غاب عن الخلق بشهود الملك الحق، وفني عن الأسباب بشهود مسبب الأسباب، فهذا عبد مواجه بالحقيقة، ظاهر عليه سناها، سالك للطريقة، قد استولى على مداها، غير أنه غريق الأنوار، مطموس الآثار، قد غلب سكره على صحوه، وجمعه على فرقه، وفناؤه على بقائه، وغيبته على حضوره.
وأكمل منه عبد شرب فازداد صحواً، وغاب فازداد حضوراً، فلا جمعه يحجبه عن فرقه، ولا فرقه يحجبه عن جمعه، ولا فناؤه يصده عن بقائه، ولا بقاؤه يصده عن فنائه، يُعطي كل ذي قسط قسطه، ويوفي كل ذي حق حقه(1).
ومن شرح ابن عجيبة لهذه الحِكَم الضلالية:
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:385، وما بعدها)، والكتاب شروح وتعليقات لابن عجيبة على الحكم العطائية.(1/294)
...عينُ القلب هي البصيرة، ومن شأنها أن لا ترى إلا المعاني دون المحسوسات، كما أن البصر لا يرى إلا المحسوسات دون المعاني، والحُكْمُ للغالب منهما، فمن غلب بصره على بصيرته لا يرى إلا الحس، وهو الغافل؛ ومن غلبت بصيرته على بصره لا يرى إلا المعاني، وهي معاني التوحيد وأسرار التفريد؛ فالبصيرة لا ترى إلا نور الحق دون ظلمة الخلق، لكن لا بد من إثبات الحكمة، وقد تقدم قوله: الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، فلا بد من إثباتها قياماً بالحكمة ونفيها قياماً بالوحدة...(وأن الناس في ذلك على أقسام ثلاثة)، إما واقف مع الحس ناظر للأسباب، أو غائب عن الحس وعن رؤية الأسباب، أو جامع بينهما؛ أو تقول: إما عامة أو خاصة أو خاصة الخاصة...الحقيقة هي شهود نور الحق في مظاهر الخلق، أو شهود نور الربوبية في قوالب العبودية، فصاحب الحقيقة هو الذي يغيب عن الخلق بشهود نور الملك الحق، ويفنى عن الأسباب بشهود مسبب الأسباب، فإن كان مع مراعاة الحكمة فهو كامل، وإن كان من غير مراعاة الحكمة، فإن كان غائباً مصطلماً، فهو معذور...(ظاهر عليه سناها)، أي: نورها، فلما دهته الأنوار سكر وأنكر الحكمة؛ فهو باعتبار ما قبله، كامل لاستغراقه في بحر الوحدة، وهو معذور في نفيه الحكمة لغلبة وجده وظهور سكره، وباعتبار ما بعده ناقص لقصور نفعه على نفسه(1)...
- بين هنا حالة الفناء، بأنها تعتبر كمالاً بالنسبة لما قبلها الذي هو حالة الفرق، أي: التفريق بين الخالق والمخلوق، وهي نقص بالنسبة لما بعدها، وهو الحال الذي يسمونه: الفرق الثاني: أي الاعتقاد بالوحدة وبالحكمة، والحكمة عندهم هي وجود التعينات التي يجب أن نسميها (خلقاً) أو (عبودية) مراعاة للحكمة!
- وواضح أن هذا الكلام هو اتهام لله سبحانه وشريعته بالكذب والمتاقاة.
ويقول ابن عجيبة متمماً كلامه:
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:385- 387).(1/295)
...فمن الناس من يكون صدره ضيقاً فلا يحتمل تلك الأنوار، ولا يطيق مشاهدة تلك الأسرار، فيغيب في شهود الوحدة، وينكر الحكمة، ومن الناس من يكون واسع الصدر قوي النور، فإذا أشرقت عليه أنوار الحقيقة لم تغلبه عن القيام بالحكمة، وصار برزخاً بين حقيقة وشريعة، هكذا يكون سيره بين فناء وبقاء، حتى يتمكن فيهما ويعتدل أمره بينهما، وهذه حالة الأقوياء...(1).
- إذن فالكامل هو بين فناء (أي: في الوحدة)، وبين بقاء (أي: يحس بالحكمة)، وهي أن في الوجود تعينات يجب أن يقول: إنها خلق، ويجب أن يرى نفسه ويراها عباداً لله، لتتم الحكمة. فهو غارق في الوحدة ومتظاهر بالفرق. وهذا هو العارف.
- حتى يقول:
...الجمع رؤية الحق بلا خلق، والفرق رؤية الخلق بلا حق، فإن كان بعد الجمع فهو رؤية الخلق والحق، والحاصل أن أهل الجمع لا يشهدون إلا الحق، وأهل الفرق لا يشهدون إلا الخلق، ويستدلون على الحق، وأهل الفرق في الجمع يشهدون الخلق والحق، أعني يشهدون الواسطة والموسوط من غير فرق بينهما(2)...
- في هذا النص شرح لمصطلحات (الجمع، والفرق، والفرق في الجمع).
فـ(الجمع) هو رؤية الحق بلا خلق، وأهله هم الذين يقولون: (أنا الله، وسبحاني...).
و(الفرق) هو رؤية الخلق بلا حق، أي: أنهم ليسوا هم الحق، وهؤلاء هم المحجوبون.
وأهل الفرق في الجمع هم الذين يعرفون أنهم هم الله، وأن الكون هو الله، وأن الواسطة هي نفس الموسوط لا فرق بينهما، ولكنهم مع ذلك يعترفون بالعبودية، ويقولون: إنهم خلق وعبيد، وهؤلاء هم العارفون.
ومثله قول سعيد حوى:
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:388).
(2) إيقاظ الهمم، (ص:388).(1/296)
نحن نعلم أن هناك حالات للسالك يحس فيها بأحدية الذات الإلهية، ويستشعر فيها اسم الله الصمد، وهي حالة يستشعر فيها السالك فناء كل شيء، ولكن هذا الشعور لا بد أن يرافقه الاعتقاد بأن الله خالق، وأن هناك مخلوقاً، وأن الخالق غير المخلوق(1).
- هذا قول واضح في تعريف الصوفي الكامل، الذي يسمونه: العارف، ويسمونه أسماء كثيرة، منها: الولي، والصديق، والمقرب...وغيرها وغيرها مما مر معنا، ومما لم يمر، وعلى رأسها (الإنسان الكامل) أي: الواصل إلى مقام الفرق الثاني.
ويجب أن نلاحظ الاستدراك الذي يستدركه على توضيحه للحقيقة، التي عبَّر عنها بقوله: يحس أحدية الذات، يستشعر اسم الله الصمد، يستشعر فناء كل شيء، ثم استدرك ليلتزم بالقاعدة التي يتواصون بها، فقال: ولكن...يجب أن يرافقه الاعتقاد بأن الله خالق وأن هناك مخلوقاً، وأن الخالق غير المخلوق، هذا الاستدراك صريح (بشيء من التأمل) في أن تلك الحالات التي يحس بها أحدية الذات الإلهية ينعدم فيها فكرة الخالق والمخلوق، فالكل واحد، وهذا ما يعبرون عنه بأحدية الذات، واستشعار اسم الله الصمد، وفناء كل شيء وقد مرت كل هذه التعابير؛ كما أن هذا الاستدراك ما هو إلا التزام بالقاعدة القائلة: (اجعل الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً)، مع تطوير لها.
إذ معنى قوله هنا هو: إن وحدة الوجود هي واقع الوجود، وإن الواصل يحس بها ويذوقها ويستشعرها وبالتالي سيعتقد بها، لكن يجب عليه أن يعتقد بالنقيضين معاً! يجب عليه أن يعتقد أن الخالق هو المخلوق، وأن يعتقد معها أن الخالق غير المخلوق! انظر إليه يقول:.. ولكن هذا الشعور لا بد أن يرافقه.
الشعور بماذا؟ بأحدية الذات الإلهية، باستشعار الصمدانية، باستشعار فناء كل شيء، أي: باستشعار وحدة الوجود.
__________
(1) تربيتنا الروحية، (ص:79). والكتاب هو اقتباسات وتفريعات وزيادات على كتابي ابن عجيبة: (إيقاظ الهمم، والفتوحات الإلهية).(1/297)
وبدهي أن الإنسان إذا استشعر شيئاً وذاقه وأحس به فسيعتقد به اعتقاداً جازماً.
ومع ذلك، فالشيخ يطلب من السالك أن يعتقد مع هذا الاعتقاد (أن يرافقه) نقيضه، أي أن يعتقد النقيضين معاً! وهذا منطق جديد وتطوير جريء للعقيدة الصوفية وعبارتها.
* النتيجة:
من كل ما تقدم، ومما يمكن أن يملأ مئات الصفحات مما لم يتقدم، يظهر بوضوح تام أن معنى المعرفة عند القوم: هو معرفة وحدة الوجود، وأن العارف عندهم: هو الذي يعرف أن الكون هو الله ذوقاً واستشعاراً، أي يذوق الألوهية ويستشعرها ويحس بها ويتحقق بها.
* خلاصة كل ما تقدم:
- الصوفية مذهب واحد فقط، فقط، فقط.
- هذا المذهب هو سر يجب كتمانه، وهم يقولون بقتل من يبوح به لغير أهله.
- هذا السر هو (وحدة الوجود)، أي: أن الله هو الكون، والخالق هو عين ما نتوهم أنه المخلوق.
- لهم أسلوب خاص للتعبير عن هذا السر بين بعضهم، بحيث لا يفهمه إلا من كان منهم، ويسمون هذا الأسلوب: (العبارة)، وهي تشمل الإشارة والرمز واللغز، أي إنهم يعبرون في كلامهم عن وحدة الوجود بالإشارة والرمز واللغز، من أجل التعمية على غيرهم. وكلما كانت العبارة أكثر إيغالاً في الإشارة والرمز واللغز، كلما كانوا أكثر تقديساً لها وأكثر إعجاباً بصاحبها، ونجد قمة العبارة عند شهاب الدين السهروردي البغدادي، ثم عند أستاذه عبد القادر الجيلاني والجنيد وأفراد غيرهم.
- كلهم يؤمنون بوحدة الوجود، لكنهم يكتمونها، حسب القاعدة، ويتظاهرون أنهم يؤمنون بالمخلوقية والعبودية، ويسمون ذلك: (الفرق الثاني) أو (الفرق في الجمع) أو (صحو الجمع) أو (الصحو بعد المحو)...كما يطلقون على وحدة الوجود اسماً آخر هو: (وحدة الشهود)، وكثيراً ما يستعملون الاسم الثاني: (وحدة الشهود) للمغالطة، ويتقيدون بالشريعة من أجل ستر حقيقتهم، ويعتقدون أن الله سبحانه هو الذي يريد هذه المخادعة التي يسمونها: (الحكمة).(1/298)
- كلهم يؤمنون بالحقيقة المحمدية، التي تعني أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو المجلِّي الأعظم للذات الإلهية، وأن كل التعينات (أي: الأشياء) تصدر عنه ثم تعود إليه، يقول شاعرهم:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ... ومن علومك علم اللوح والقلم
- للتصوف غاية واحدة فقط، ولا يوجد في التصوف أية غاية أخرى غيرها على الإطلاق، وهذه الغاية هي الوصول إلى الجذبة التي يذوقون بها وحدة الوجود، أي يذوقون الألوهية.
وحسبه من ذلك المقصود ... ... إشراق نور وحدة الوجود
وما يقولونه: من أن الغاية هي الزهد والتوكل والورع وأخواتهن، ما هو إلا أسلوب دعائي لا أكثر ولا أقل، يخادعون به الله والذين آمنوا. ولنتذكر قول الجيلاني: الزهد عمل ساعة، والورع عمل ساعتين، والمعرفة عمل الأبد.
- والعارف: هو من وصل إلى معرفة وحدة الوجود، يذوق الألوهية واستشعارها والتحقق بها ومشاهدتها، لا بالدليل والبرهان.
وحجة الكلام كلام حجة الإسلام، الإمام الهمام، بل أكثر من خمسين ألف ألف إمام، بدر التمام، أبي حامد، بل أبي المحامد الغزالي، يقول:
...حتى إن مشايخ الصوفية صرحوا ولم يتحاشوا، وقالوا: من يعبد الله لطلب الجنة أو للحذر من النار فهو لئيم، وإنما مطلب القاصدين إلى الله أمر أشرف من هذا، ومن رأى مشايخهم وبحث عن معتقداتهم وتصفح كتب المصنفين منهم، فهم هذا الاعتقاد من مجاري أحوالهم على القطع...(1).
هذه هي الصوفية، ومئات الصفحات السابقة هي براهين من أقوالهم على ذلك، وكل من يقول خلاف ذلك، إن كان منهم فهو مراوغ مخادع، وإن كان من غيرهم فهو جاهل بالصوفية، جاهل بالصوفية.
__________
(1) ميزان العمل، (ص:16).(1/299)
ونسأل الذين يزكون بعض المتصوفة مثل الجنيد وغيره، نسألهم: هل كان الجنيد صوفياً أم لا؟ إن كان صوفياً فهذه هي الصوفية ولا شيء غيرها، وإن تجرأ متجرئ ونفى عنه الصوفية! نقول له: إن كل الذين كتبوا عن الجنيد كتبوا عنه على أنه صوفي. ويتوصلون إلى هذه الغاية بالطريقة.
فما هي الطريقة؟
لا وصول للحقيقة إلا بعد سلوك الطريقة (ابن عجيبة)
الباب الثاني
الطريقة
* تمهيد:
طريقتان:
لا يوجد في الصوفية إلا طريقتان هما:
1- طريقة الإشراق:
هي الطريقة الوحيدة الأزلية التي استعملها المتصوفة في كل الأمم.
فما إليه أبداً نشير ... ... هو علاج النفس والتطهير
وهذه طريقة الإشراق ... ... كانت وتبقى ما الوجود باقي(1)
بالرغم من أن معنى العبارتين (علاج النفس والتطهير) يجب أن يكون الآن، وبعد مئات الأمثلة، واضحاً تماماً، ومع ذلك فلا بأس من شرحهما.
علاج النفس: سياسة النفس، ومعاملتها، بإخضاعها مرحلة بعد مرحلة، إلى ما يوصلها إلى الجذبة.
تطهير النفس: هو تطهيرها مما يسمونه: (الصفات المذمومة)، وقد مرت عليها أمثلة كثيرة، وهي كل ما يعيق السالك عن الوصول إلى الجذبة وتذوق الوحدة.
2- طريقة البرهان، أو الطريقة الغزالية، أو التصوف السني:
وفرقة قالت بأن العِلْما ... ... من خارجٍ بالاكتساب أسمى
وشرطوا العلوم في اصطلاحه ... ... إذ لا غنى للباب عن مفتاحه
فليس للطامع فيه مطمع ... ... ما لم تكن فيه علومٌ أربع
وهي علوم الذات والصفات ... ... والفقه والحديث والحالات
وهذه طريقة البرهان ... ... وهي لكل حازم يقظان(2)
أي إن طريقة البرهان هي نفس الطريقة الإشراقية التي يعبر عنها هنا بـ(الباب)، أي الباب الذي يمر به السالك كي يصل الجذبة، يضاف إليها العلوم الإسلامية، مع الملحوظةأنه يعبر عن الجذبة ورؤاها بكلمة (الحالات).
__________
(1) من قصيدة المباحث الأصلية لابن البنا السرقسطي.
(2) من قصيدة المباحث الأصلية لابن البنا السرقسطي.(1/300)
ولا بأس من زيادة في التوضيح.
طريقة الإشراق:
هي الطريقة القديمة المستمرة (كانت وتبقى ما الوجود باقي)، وُجدت مع وجود الصوفية في أعماق التاريخ، وهي الطريقة الوحيدة في الحقيقة، ولا طريقة غيرها. يقول عنها الدكتور عبد الحليم محمود: ...فإن الصوفية جميعاً وفلاسفة الإشراق منذ فيثاغورس وأفلاطون، (بل هي أقدم منهما بكثير)، إلى يومنا هذا يعلنون منهجاً محدداً يقرونه جميعاً، ويثقون فيه ثقة تامة، ذلك هو المنهج القلبي أو المنهج الروحي، أو منهج البصيرة، وهو منهج معروف أقرته الأديان جميعها واصطفته مذاهب الحكمة القديم منها والحديث(1) اهـ.
وأسلويها الأممي التاريخي القديم الحديث، هو أن يميت السالك إحساساته وأعصابه بإرهاقها إرهاقاً شديداً جداً، حتى يصل إلى ما يشبه العته- وأقول (ما يشبه العته)، لأنه عته اصطناعي غير ناتج عن مرض طبيعي، وإلا فله كل مظاهر العته، وذلك بأن يخضع نفسه للرياضة، وهي، كما يقول الغزالي: الخلوة والصمت والجوع والسهر(2): وقد يضاف إليها شيء من التعذيب الجسدي. كما كان يفعل الشبلي وغيره، مع العلم أن متصوفة المسلمين جعلوا الذكر بدل الصمت، لأنه أسرع في الوصول إلى الجذبة، حتى إذا وصل فقد يأمرونه بالصمت. أما الجوع الذي يطبقونه فقد يمتد إلى عشرات الأيام، وفي سبيل السهر ومقاومة النوم يستعملون أية وسيلة يمكن أن تساعدهم على ذلك: كضرب السالك جسمه أو حرقه، أو الجلوس على الشوك، أو الوقوف على رجل واحدة مع التعلق بوتد اجتناباً للسقوط، أو تعليق القدمين في الأعلى والرأس مدلى إلى أسفل...أو أخذ وضع من أوضاع (اليوغا)، أو أخذ مادة طاردة للنوم كالشاي والقهوة المركَّزين تركيزاً عالياً، أو غيرهما من المواد الكيماوية.
__________
(1) أبو العباس المرسي، (ص:10).
(2) الإحياء: (3/65).(1/301)
يداوم السالك على هذه الحال، واضعاً أمامه غاية واحدة، حتى يصل إليها، ويعبرون عنها بمثل قولهم: (لا أريد إلا الله)، وهذا لا يمنعه أن يحصل معه أمر آخر غير الغاية المرجوة التي هي الجذبة ورؤاها.
قد يكون مفيداً إيراد بعض شرح لابن عجيبة:
...فعند ذلك (بعد رياضاتٍ ذكرها) يُدْخِله (الشيخ) إلى الخلوة، أي يأمره بها، ويحضه على ذكر الاسم المفرد (الله) حتى لا يفتر عنه ساعة...وهذا التدريج ليس بلازم لكل الشيوخ ولا لكل المريدين أن يسلكوه، بل من الشيوخ من يلقن الاسم من أول مرة (أي: دون الرياضة التي ذكرها قبل هذا الكلام) إذا رأى الفقير أهلاً له، ويأمره بقتل نفسه مع ذكر ربه، بحيث يجعل له وقتاً يذكر فيه ربه، ووقتاً يقتل فيه نفسه، وهذا الذي أدركنا عليه أشياخنا: يأمر الفقير بالخلوة في أول النهار إلى وقت العصر، ثم يخرج إلى السوق ويعمل من الأحوال ما تموت به نفسه، فيكمل فناؤه في الاسم مع موت نفسه، فيقرُب فتحُه.
ومن المريدين مَن لا يحتاج إلى خلوة، بل يأمره بالخلطة من أول مرة، والناس معادن وطبائع، والعلل متفاوتة، والفتح من الله من غير توقفٍ على الأسباب، إلا أن الحكمة جارية مع القدرة. والله تعالى أعلم(1). انتهى.
- ولعل القارئ يعرف الآن أن (الفتح) هو الجذبة ورؤاها.
- وعادة قد يسبق الجذبة أو يرافقها أمور خارقة للعادة، كأن يرى أشخاصاً أو أشكالاً مختلفة، أو يسمع أصواتاً...وقد يحدث مع بعضهم أن يسير على الماء أو يطير في الهواء...وهو موجود في كل الأمم، وفي الكافرة قبل المسلمة، ودور الشياطين واضح فيها.
- والمشاهد الجذبية مع خرق العادة هي التي تجعلهم يتشبثون بالتصوف، ذلك التشبث الذي لا يقبل النقاش، حتى يصل بهم الأمر إلى تأويل آيات القرآن الكريم
__________
(1) الفتوحات الإلهية، (ص:338).(1/302)
ووضع الأحاديث على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وتأويل الصحيح منها: ((يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ)) [النساء:46]، لتتفق مع رؤاهم الإشراقية التي يسمونها: كشفاً وعلوماً لدنية، وقد يسمونها: (حكمة الإشراق)(1).
أما طريقة البرهان:
فهي طريقة الإشراق نفسها مزجوها بالإسلام، وفلسفها حجتهم الغزالي بذكاء ودهاء. فصار عالمهم يتعلم، إلى جانب الإشراق، العلوم الإسلامية، وذلك بقصد التستر، واعتقاداً منهم أن الله سبحانه يريد ذلك.
وهم في علم التوحيد (علوم الذات والصفات) ينقسمون ظاهراً إلى قسمين: أشعرية وماتريدية. أما باطناً فالتوحيد عندهم هو وحدة الوجود، وقد رأينا مئات الأمثلة على ذلك في الفصول السابقة.
أما الحديث فلهم فيه أسلويهم الخاص!
فقد نرى بعضهم- مع الندرة- يحفظ ركاماً من الأحاديث، وقد يحفظها بأسانيدها، وقد يكون حافظاً لعدة كتب من كتب الحديث، ولكنه لا يستطيع أن يفقه الحديث ولا أن يميز بين صحيحه وضعيفه وموضوعه! وذلك لسببين:
1- أنه لا يحفظ الحديث من أجل العلم والعمل به ولمعرفة الحق من الباطل، إنما يحفظه ليتستر به، وليكون مقبولاً عند الناس، ويستطيع أن ينتزع منه ما يخال أنه يؤيد به مذهبه، وليزاود على منتقديه من أهل الظاهر، وقد مر بعض أقوالهم في ذلك، وطبعاً فيهم شاذون يحفظونه للعلم.
2- رأينا أن كشفهم هو الذي يصحح لهم الحديث أو يضعفه! وقد يكون الحديث صحيحاً فيضعفه الكشف فيصبح عندهم ضعيفاً! وقد يكون الحديث موضوعاً مكذوباً فيصححه الكشف فيصبح عندهم صحيحاً؛ لأن الكشف عندهم هو نور اليقين وعين اليقين وحق اليقين.
__________
(1) هناك كتاب ليحيى بن حبش السهروردي اسمه (حكمة الإشراق).(1/303)
- وفي الإشارة إلى الطريقة البرهانية بالرمز واللغز، يستعمل الصوفية عبارات كثيرة لا تخفى على المتمرس بلغتهم، منها على سبيل المثال: (حقيقتنا مقيدة بالقرآن والسنة) أو (طريقتنا سلفية وحقيقتنا صوفية) أو (التصوف السلفي) أو (إن كانت عين القلب تنظر أن الله واحد في منَّتِهِ فالشريعة تقتضي أن لا بد من شكر خليقته) وغيرها...
* خلاصة القول:
لا يوجد في التصوف إلا طريقة واحدة هي طريقة الإشراق، سواء عند متصوفة المسلمين أو عند غيرهم، ولكن متصوفة المسلمين مزجوا الطريقة الإشراقية بالإسلام، وسموا ذلك: (التصوف السني)، أو الطريقة البرهانية، أو الغزالية، وبذلك استطاعوا أن يخدعوا المسلمين ويجروهم إلى التصوف.
أما ما نرى ونسمع من أسماء كثيرة لطرق كثيرة، فسببه الشيوخ، ولا شيء غير الشيوخ إلا جشع الشيوخ، و(المدد) الذي يقدمه المريدون والمحبون و(المؤمنون). وليُظهر الشيخ أن طريقته تختلف عن بقية الطرق، يخترع أوراداً تختلف بألفاظها فقط عن بقية الأوراد، ولذلك قالوا: (الطريقة بأورادها). وقد رأينا كيف أن أورادهم محشوة بما يناقض الإسلام جملة وتفصيلاً، وكلها تحمل معاني واحدة أو متشابهة.
وقد ظهر في المجتمعات الإسلامية عشرات الطرق الصوفية، اندثر بعضها، وتفرع بعضها إلى طرق كثيرة، وسنرى بعد قليل كشفاً لما أمكن الوقوف عليه منها.
الفصل الأول
الشيخ
ما حرمة الشيخ إلاحرمة الله، فقم بها أدباً لله بالله.
ابن عربي
* لا طريقة بدون شيخ:
الشيخ عند المتصوفة هو إله، يعطونه كل صفات الألوهية، وهو الأساس في كل طريقة. وما تفرقت الطرق إلا اتباعاً لشيخ، وتسمى كلها باسم مشايخها ومؤسسيها، ومع الزمن تتفرع الطريقة الواحدة إلى طرق كثيرة تحمل أسماء مشايخها الجدد.
ولنزك أئمتهم يتكلمون...
يقول أبو حامد الغزالي:(1/304)
...فكذلك المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة، ليهديه إلى سواء السبيل، فإن سبيل الدين غامض، وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة...فمعتَصَمُ المريد، بعد تقديم الشروط المذكورة، شيخه، فليتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد، بحيث يفوّض أمره إليه بالكلية، ولا يخالفه في ورده ولا صدره، ولا يُبقي في متابعته شيئاً ولا يذر، وليعلم أن نفعه في خطأ شيخه- لو أخطأ- أكثرمن نفعه في صواب نفسه لو أصاب، فإذا وجد مثل هذا المعتَصَم، وجب على معتَصَمِه (أي: شيخه) أن يحميه ويعصمه بحصن حصين(1)....
ويقول القشيري:
...ثم يجب على المريد أن يتأدب بشيخ، فإن لم يكن له أستاذ لا يفلح أبداً. هذا أبو يزيد يقول: من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان. وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: الشجرة إذا نبتت بنفسها من غير غارس، فإنها تورق لكن لا تثمر، كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يأخذ منه طريقته نفساً فنفساً فهو عابد هواه، ولا يجد نفاذاً(2)...ويقول محيي الدين بن عربي في أول الباب الواحد والثمانين والمائة من الفتوحات المكية:
ما حُرمة الشيخ إلاحرمة الله ... ... فقم بها أدباً لله بالله
هم الأدلاَّء والقربى تؤيدهم ... ... على الدلالة تأييداً على الله
كالأنبياء تراهم في محاربهم ... ... لا يسألون من الله سوى الله
فإن بدا منهم حال تولههم ... ... عن الشريعة فاتركهم مع الله(3)
- لا أظن أن القارئ الذي بدأ الكتاب من أوله بحاجة إلى شرح لهذه الأبيات الضلالية، وتبيان ما فيها مما ينقض الشريعة الإسلامية جملةً وتفصيلاً.
وكان عبد القادر الجيلاني يقول:
من لم يعتقد في شيخه الكمال لا يفلح أبداً(4).
__________
(1) إحياء علوم الدين: (3/65).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:181).
(3) الفتوحات المكية، (الباب: 181) في أوله.
(4) الأنوار القدسية: (1/174).(1/305)
ويقول عبد الوهاب الشعراني (القطب الرباني والغوث الصمداني):
...فإن لم يتيسر للمريد صلاة الجمعة عند أستاذه، فليتخيله عنده في أي مسجد صلى فيه(1)...
ويقول علي وفا: ...فكما أن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به، فكذلك محبة الأشياخ لا تسامح أن يشرك بها(2)...
وكان أيضاً يقول:
إذا صدق المريد مع شيخه وناداه من مسيرة ألف عام، أجابه حياً كان الشيخ أو ميتاً(3)...
وكان أيضاً يقول:
المريد الصادق مع شيخه كالميت مع مغسله، لا كلام ولا حركة، ولا يقدر ينطق بين يديه من هيبته، ولا يدخل ولا يخرج، ولا يخالط أحداً، ولا يشتغل بعلم ولا قرآن ولا ذكر إلا بإذنه(4)...
ويقول عدي بن مسافر:
لا تنتفع بشيخك إلا إذا كان اعتقادك فيه فوق كل الاعتقاد(5).
- أرجو أن يفتش القارئ الكريم عن حدود قوله: (فوق كل الاعتقاد).
وللعلم: عدي بن مسافر هذا هو تلميذ عبد القادر الجيلاني، وهو شيخ الطريقة العدوية المعروفة الآن باليزيدية (عباد الشيطان)، طبعاً، بعد أن خضعت لشيء من التطور.
ويقول أبو يزيد البسطامي:
إذا أمر الأستاذُ التلميذَ أمراً من أمور الدنيا وبعثه في إصلاحه، فيقيم مؤذن في بعض طرقاته على مسجد من المساجد؛ فيقول: أدخل أولاً المسجد وأصلي ثم أكون وراء ما بعثني إليه، فقد وقع في بئر لا يتبين أسفلها، يعني ليس لها مقر(6).
ويقول إبراهيم الدسوقي (أحد الأقطاب الأربعة المدّركين):
...وكذلك ينبغي له (أي: للمريد) أن يحذر من تأويل كلام شيخه عن ظاهره إذا أمره بأمر، بل يبادر إلى فعل ذلك من غير تأويل(7)...
ويقول يوسف العجمي:
__________
(1) الأنوار القدسية (1/188).
(2) الأنوار القدسية: (1/187).
(3) الأنوار القدسية: (1/189).
(4) الأنوار القدسية: (1/189).
(5) الحقيقة التاريخية، (ص:343).
(6) شطحات الصوفية، (ص:182).
(7) الأنوار القدسية: (2/97).(1/306)
مِنْ أدب المريد أن يقف عند كلام شيخه ولا يتأوله، وليفعل ما أمره به شيخه وإن ظهر أن شيخه أخطأ(1)...
ويقول علي اليشرطي:
إياكم أن تؤولوا كلامي، فإن كلامي صريح لا يؤول، فاسمعوا ما أقول لكم(2).
- كلام الله وحديث رسوله يؤولان ليتفقا مع كشفهم!- كما يقول حجة الإسلام وكما يفعلون كلهم مما مر معنا ومما لم يمر- أما قول الشيوخ المتصوفة فلا يجوز تأويله؟!!
فيا ناس، ويا خلق، ويا عباد الله، ويا أسوياء، ويا مجانين، ويا من عنده ذرة من عقل أو ذرة من ضمير أو ذرة من حياء، أفتونا في هذا البلاء؟ أين المخرج؟ وكيف السبيل؟
ولئن عرضت عليهم هذه الأقوال، فستجد الجواب المعهود: هذا مدسوس، أو: هؤلاء منحرفون، ليس كل الصوفية هكذا...إلخ.
ويقول علي المرصفي (الذي قرأ في يوم وليلة ثلاثمائة وستين ألف ختمة!!):
...وإن قال (قائلٌ) للمريد: إن كلام شيخه معارض لكلام العلماء أو دليلهم، فعليه الرجوع إلى كلام شيخه...وإذا خرج المريد عن حكم شيخه وقدح فيه، فلا يجوز لأحد تصديقه، إنه في حال تهمة، لارتداده عن طريق شيخه(3)...
- إذن فالدليل لا قيمة له!! وما هو الدليل؟ إنه القرآن والسنة بلا ريب، ومع ذلك فعلى المريد الرجوع إلى كلام الشيخ؟! ولتُنْسخ الآية الكريمة.
وهذا يفسر لنا الحالة التي وصل إليها المسلمون من الجهل والانحطاط والذل.
وعودة إلى يوسف العجمي، الذي يقول:
...ومن شأنه (أي: المريد) إذا ذكر الله تعالى، أو فَعَل عبادة من العبادات، أن يستحضر نظر شيخه إليه، ليتأدب ويضم شتات قلبه(4)...
ويقول أحمد الرفاعي (الذي تسري كراماته في أتباعه من بعده!!):
__________
(1) الأنوار القدسية: (2/36).
(2) نفحات الحق، فصل (إرشاد وهداية).
(3) طبقات الشعراني: (2/128).
(4) الأنوار القدسية (2/98).(1/307)
...مَن لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان...وينبغي للمريد أن يعرف لشيخه الحق بعد وفاته كما كان يعرف له الحق في حالة حياته...وقال: من يذكر الله تعالى بلا شيخ، لا الله له حصل! ولا نبيه! ولا شيخه(1)!
- يا مسلمون! بل يا مؤمنون! (لأن ليس كل مسلم مؤمناً)، إن لم يكن هذا هو الشرك فما هو الشرك؟! أفيدونا يرحمكم الله.
ويقول العارف بالله سراج الدين الرفاعي الصيادي، ويشاركه أبو الهدى الصيادي:
...ومِن آداب المريد اللازمة: أولاً: حفظ قلب شيخه، ومراعاته في الغيبة والحضور...والتواضع له ولذريته وأقاربه، وثبوت القدم على خدمته، وأوامره كلِّيَّها وجزئيِّها، وربط القلب به، واستحضار شخصه في قلبه في جميع المهمات، واستمداد همته، والفناء فيه، وأن يكون ملازماً له لا يفتر عنه طرفة عين، ولا يُنْكِر عليه ما ظهر منه من صفة عيب، فلربما يَظْهر من الشيخ ما لا يَعْلمه المريد...كما وقع لبعضهم أنه دخل على شيخه فرأى عنده امرأة جميلة يلاعبها ويعانقها ويجامعها؟! فخرج منكراً على شيخه، فأُخذ منه حالاً جميعُ ما استفاده من شيخه، ومع ذلك إن المرأة امرأة الشيخ وزوجته(2).
- يا للأولياء النجباء الأتقياء الأنقياء...دستور من خاطرهم دستور! يلاعب زوجته ويجامعها أمام مريده!!
لكن ماذا عليه؟ فالمقربون لا يُسألون عما يفعلون؟ هكذا قرروا ويقررون! ولا تعترض فتنطرد، وسلِّم تَسْلَم. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ويقول أبو مدين الغوث:
وراقب الشيخ في أحواله فعسى ... ... يَرى عليك من استحسانه أثرا
ففي رضاه رضا الباري وطاعته ... ... يرضى عليك فكن مِنْ تركها حذرا(3)
وعودة إلى الشعراني حيث يقول:
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:177).
(2) قلادة الجواهر، (ص:278).
(3) الفتوحات الإلهية، (ص:230).(1/308)
سمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول: حقيقة حبِّ الشيخ أن يحب الأشياء من أجله ويكرهها مِنْ أجله، كما هو الشأن في محبة ربنا عز وجل(1).
ويقول أيضاً:
من أدب المريد إذا زار شيخاً في قبره أن لا يعتقد أنه ميت لا يسمعه، بل الأدب أن يعتقد حياته البرزخية لينال بركته، فإن العبد إذا زار ولياً وذكر الله عند قبره، فلا بد أن ذلك الولي يجلس في قبره، ويذكر الله معه كما شهدنا ذلك مراراً(2).
ويقول أيضاً:
...وأجمعوا على أن من شرط الحب لشيخه، أن يصم أذنيه عن سماع كلام أحد في الطريق غير شيخه، فلا يقبل عذل عاذل، حتى لو قام أهل مصر كلهم في صعيد واحد لم يقدروا على أن ينفروه من شيخه، ولو غاب عنه الطعام والشراب أياماً لاستغنى عنها بالنظر إلى شيخه لتخيله في باله، وبلغنا عن بعضهم أنه لما دخل هذا المقام سَمِن وعبل مِنْ نظره إلى أستاذه(3).
ويقول محمد العربي السائح التجاني(4):
...من فضائل هذه الطريق (أي: التيجانية)، أن من دخلها وأسلم قياده إلى صاحبها بطريق المحبة الخاصة وكمال التصديق، كان من الآمنين عند الله تعالى في الدنيا والآخرة(5)...
ويقول ابن عجيبة:
للقوم في لقاء المشايخ آداب، منها: أنهم إذا قربوا المنزل رفعوا أصواتهم بالهيللة والذكر، فلا يزالون كذلك حتى يصلوا إلى الزاوية...ومنها تقبيل يد الشيخ ثم رجله، إن جرت بذلك عادة الفقراء، فهو من أحسن التعظيم...ومنها جلوسهم بين يديه على نعت السكينة والوقار، خافضين أصواتهم، ناكسين رءوسهم، غاضين أبصارهم، فلا يكلمونه حتى يبدأهم بالكلام(6)...
__________
(1) الأنوار القدسية (1/169).
(2) الأنوار القدسية (1/161).
(3) الأنوار القدسية (1/168).
(4) أحد خلفاء أحمد التجاني، مات سنة (1309هـ).
(5) بغية المستفيد، (ص:84).
(6) الفتوحات الإلهية: (ص:308، 309).(1/309)
...فإن تعذر عليه (أي: على المريد) الوصول إلى الشيخ، وقد عرض له مرض أو أمر، فليشخص شيخه بين عينيه بصفته وهيأته ويشكو له، فإنه يبرأ بإذن الله، وإن كان مع جماعة واستحيا فليشتك إليه في قلبه(1)...(ما هو الشرك؟).
ويقول علي اليشرطي:
الطريق في ذِكْر الله ومحبة الشيخ(2).
ويقول: الطريق طريقنا، والنور نورنا، وإن شئنا نمده للفقير، وإن شئنا نطويه عنه(3)...
ويقول محمد أمين الكردي:
...ومنها أن لا يعترض عليه (أي: على شيخه) فيما فعله، ولو كان ظاهره حراماً، ولا يقول: لم فعل كذا؟ لأن من قال لشيخه: لم؟ لا يفلح أبداً. فقد تصدر من الشيخ صورة مذمومة في الظاهر وهي محمودة في الباطن(4)...
ويقول عبد المجيد محمد الخاني النقشبندي:
اعلم أيها الأخ المؤمن أن الرابطة عبارة عن ربط القلب بالشيخ الكامل...وحفظ صورته بالخيال، ولو عند غيبته أو بعد وفاته، ولها صور، أهونها أن يتصور المريد صورة شيخه الكامل بين عينيه، ثم يتوجه إلى روحانيته في تلك الصورة، ولا يزال متوجهاً إليها بكليته حتى يحصل له الغيبة أو أثر الجذب...وهكذا يداوم على الرابطة حتى يفنى عن ذاته وصفاته في صورة الشيخ...فتربيه روحانية الشيخ بعد ذلك إلى أن توصله إلى الله تعالى، ولو كان أحدهما في المشرق والآخر في المغرب، فبالرابطة يستفيض الأحياء من الأموات المتصرفين(5)...
ويقول القشيري في الرسالة في (باب حفظ قلوب المشايخ وترك الخلاف عليهم):
__________
(1) الفتوحات الإلهية، (ص:339).
(2) نفحات الحق، (ص:95).
(3) نفحات الحق، (ص:97).
(4) تنوير القلوب، (ص:528).
(5) السعادة الأبدية، (ص:22، 23).(1/310)
سمعتُ الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: إن شقيقاً البلخي وأبا تراب النخشبي قدما على أبي يزيد (البسطامي) فقُدِّمت السفرة، وشاب يخدم أبا يزيد، فقالا له: كل معنا يا فتى، فقال: أنا صائم، قال أبو تراب: كل ولك أجر صوم شهر، فأبى، فقال شقيق: كل ولك أجر صوم سنة، فأبى، فقال أبو يزيد: دعوا من سقط من عين الله تعالى؟ فأخذ ذلك الشاب في السرقة بعد سنة فقطعت يده(1)...انتهى.
- عجيب والله كل العجب، يؤلهون أنفسهم! يُعطون أجر صوم شهر! وأجر صوم سنة! فماذا بقي من الشرك والكفر؟ ورجل يطيع أوامر الله وأوامر رسوله يصوم تطوعاً لله، ويرفض أن يؤله غير الله أو يأخذ تشريعاً إلا منه. هذا الرجل يصبح ساقطاً من عين الله في حكم هؤلاء القوم! لم وفيم يسقط من عين الله؟ لأنه رفض أن يتخذ إلهاً غير الله! ثم ماذا؟ الصوم أصبح جريمة في نظرهم! فهل يستطيع هؤلاء القوم أن يقولوا لنا ما هو الكفر؟! وما هو الشرك؟! وما هو الإلحاد؟! وما هي الزندقة؟!
لكن يجب أن لا ننسى أبداً أن الاعتراض ممنوع، والذي لا يحفظ قلوب هؤلاء المشايخ العارفين الأبرار، الأطهار الأخيار، الصادقين الصديقين، المقربين الواصلين، المحظيين العارفين، العالمين المدّركين، المتصرفين الأولياء، الأتقياء الأنقياء الأصفياء، المحبين المحبوبين، الغارقين (في جهنم وبئس المصير) الذي لا يحفظ قلوبهم يسقط من عين الله، وتُقطع يده على السرقة؟!
ثم يتساءل المتسائلون: ما هو سبب انهيارالمسلمين؟ ما هو سبب فساد الأمة الإسلامية؟ ما هو سبب ذل المسلمين؟ ما هو سبب انحطاط الأمة الإسلامية؟ يتساءلون؟ والجواب ماثل أمام الناظرين الذين ينظرون بنور القرآن والسنة، لا بأعين الصوفية، لأنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
ويورد القشيري إياه، في نفس الباب (حفظ قلوب المشايخ وترك الخلاف عليهم):
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:151).(1/311)
...ومن المشهور أن عمر بن عثمان المكي رأى الحسين بن منصور (الحلاج) يكتب شيئاً، فقال: ما هذا؟ فقال: هو ذا أعارض القرآن! فدعا عليه وهجره، قال الشيوخ: إن ما حل به بعد طول المدة كان لدعاء ذلك الشيخ عليه(1).
* جوابنا:-
أولاً: الدنيا دار بلاء لا دار جزاء.
ثانياً: استهتاره بالقرآن ومحاولة معارضته لم تكن سبب بلائه، وإنما كان سبب بلائه دعاء الشيخ عليه!!
وللعلم: الرسالة القشيرية تدرس في مساجد المسلمين، وينصح القوم بقراءتها هي وكتاب إحياء علوم الدين، والحكم العطائية على أنها كتب إسلامية! والمشتكى إلى الله.
ويقول عبد القادر الجيلاني:
...وينبغي له (أي: للمريد) أن لا ينتظر من الله مطلوباً سوى المغفرة....
والتحبب إلى الشيوخ من الأولياء والأبدال، إذ ذاك سبب لدخوله في زمرة الأحباب ذوي العقول والألباب! الذين عقلوا من رب الأرباب، واطلعوا على العِبَر والآيات(2)...
* الملحوظات:
نلاحظ قوله: (التحبب إلى الشيوخ...سبب لدخوله في زمرة الأحباب) أي: أحباب الله!
وهذا الكلام مردود عليه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا- وحياً عن ربه- أن الدخول في زمرة أحباب الله هو إطاعة الله سبحانه واتباع رسوله والابتعاد عن الشرك، كل الشرك، ولم يرد أي نص عن المعصوم بالوحي أن التحبب إلى الشيوخ سبب في رضا الله، وبالتالي نطالبه بالدليل من القرآن والسنة، ولا دليل لديه إلا باللف والدوران والتأويل الباطل. ثم لننتبه إلى قوله: الذين عقلوا من رب الأرباب..، وهذه العبارة تحمل نفس معنى قولهم: (حدثني قلبي عن ربي..) وهو افتراء على الله الكذب. إنما هي إحساسات هَلْوَسِيَّة أقوى من الأفيونية، توهمهم شياطينهم من الإنس والجن أنها رحمانية وأنها خطاب من الله.
ويقول الجيلاني أيضاً:
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:151).
(2) الغنية: (2/164).(1/312)
وأما آدابه (أي: المريد) مع الشيخ، فالواجب عليه ترك مخالفة شيخه في الظاهر، وترك الاعتراض عليه في الباطن، فصاحب العصيان بظاهره تاركٌ لأدبه، وصاحب الاعتراض بسره متعرض لعطبه، بل يكون خصماً على نفسه لشيخه أبداً، يكف نفسه ويزجرها عن مخالفته ظاهراً وباطناً(1)...
- وهكذا يقرر سلطان الأولياء، عبد القادر الجيلاني، أن الشيخ ينفع ويضر، وأن التحبب إلى الشيخ سبب للدخول في زمرة الأحباب، وهذا هو النفع، والاعتراض عليه في سره سبب لعطبه، وهذا هو الضر.
- أما نحن فنؤمن أن لا نافع ولا ضار إلا الله. ونؤمن أن من يعتقد خلاف ذلك فهو مشرك مرتد.
ويقول: ...إن لم تفلح على يدي، لا فلاح لك قط(2)...
- مقارنة بين هذه الجملة وبين قوله سبحانه: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُوْنَ)) [المؤمنون:1-5].
ولم يقل سبحانه: لا فلاح إلا على يدي الشيخ كائناً من كان هذا الشيخ؟
فنسأل: من الصادق ومن الكاذب؟ ومن يجب أن نتبع؟
ويقول الدكتور سيد حسين نصر(3) (ترجمة كمال خليل اليازجي)(4):
والشيخ، فضلاً عن أن تأثيره ثابت، فإن نوره ينتشر فى كل مكان، ومع أنه شخصية روحية واضحة المعالم، لكنه مقترن داخلياً بالنور الذي يشرق على البر والبحر ويضيء كل شيء للمريد المرتبط به(5).
ويقول شهاب الدين السهروردي البغدادي:
__________
(1) الغنية: (2/164).
(2) الفتح الرباني، (ص:371).
(3) إيراني أظنه لا زال حياً.
(4) سوري أو لبناني، وأظنه لا زال حياً أيضاً.
(5) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:73).(1/313)
.. ومِن الأدب مع الشيخ أن المريد إذا كان له كلام مع الشيخ في شيء من أمر دينه أو أمر دنياه، لا يستعجل الإقدام على مكالمة الشيخ والهجوم عليه، حتى يتبين له من حال الشيخ أنه مستعد له، ولسماع كلامه وقوله متفرغ، فكما أن للدعاء أوقاتاً وآداباً وشروطاً، لأنه مخاطبة الله تعالى فللقول مع الشيخ أيضاً آداب وشروط لأنه من معاملة الله تعالى(1).
- لننتبه إلى مقارنته مخاطبة الشيخ مع مخاطبة الله، وجعله الكلام مع الشيخ من معاملة الله تعالى!!
ويقول أحمد الفاروقي السرهندي (مجدد الألف الثاني):
...وهذه المحافظة إنما هي إلى زمان الوصول إلى الشيخ الكامل المكمل، ثم بعد الوصول إليه، لا شيء عليه سوى تفويض جميع مراداته إليه، وكونه كالميت بين يدي الغسال لديه، والفناء الأول هو الفناء في الشيخ، ويكون هذا الفناء وسيلة الفناء في الله(2)...
* مشاهد شيخية مرسلة:
* المنظر الأول:
انتهت الحضرة، ووقف الشيخ تكرماً منه وعطفاً ليسهل على المريدين التبرك بتقبيل يده الإلهية.
وقف المريدون وملء قلوبهم الشكر والامتنان لهذا الشيخ الكريم العظيم، الذي يمكنهم دائماً من تقبيل يده المقدسة، وأحياناً من تقبيل رجله، ينعمون بما تفيضه عليهم من روحانيته التي تحققت بأسماء الله وصفاته، يعبون منها ذخراً روحياً يعيشون في نشوته القدوسية أياماً، حتى يتكرم عليهم الشيخ من جديد بتجل جديد لطلعته الصمدانية، التي تملؤهم بالأسرار الربانية.
أخذوا يتقدمون الواحد تلو الآخر، يجللهم صمت المؤمنين أمام وثنهم المعبود، وبخشوع تعبدي ينحني صاحب الدور راكعاً أمام الشيخ، آخذاً يده الكريمة الممدودة بيده الحقيرة يقبلها، ويحاول أن يرتشف منها أكثر ما يستطيع من الأسرار الإلهية المختزنة في شيخه. ثم يترك الدور لغيره وينصرف حامداً شاكراً.
__________
(1) عوارف المعارف، هامش الإحياء: (4/98).
(2) المنتخبات من المكتوبات: (ص:21).(1/314)
وصل الدور إلى شاب ملأ الإيمان الخرافي قلبه، وغمره بشوق جنوني إلى تنسم رائحة العارف الكامل الذي وصل إلى مقام (الفرق الثاني). وجاءت الفرحة، فأمسك بيده المرتعشة يد الشيخ القدوسية، وركع أمامه، ثم أهوى عليها يقبلها ويقبلها، وهو لا يشبع من تقبيلها ومن تمريغ وجهه وجبهته عليها. عيل صبر المريد الذي كان خلفه ينتظر دوره، فربت على ظهره طالباً منه الإسراع.
لكن الشيخ الكريم الرحيم العطوف الودود قال لهذا الذي نفد صبره، ناصحاً ومربياً ومعلماً: خليه يرتوي يا ابني خليه يرتوي. وذهبت مثلاً.
* المنظر الثاني:
الوقت بعد العصر، والطقس شديد البرودة، والسيارة الفخمة تقبع في جانب من أحد الأزقة الفرعية، وليس في الشارع سوى أفراد يسرعون الخطا هرباً من البرد.
مر رجل طاعن في السن، ممن امتلأ قلبه إيماناً بالضبابيات والخرافيات الصوفية، ولم يستطع الوصول إلى الجذبة رغم محاولاته.
التفت هذا العجوز نحو السيارة فعرفها، ومن وراء الزجاج المجلل ببخار الماء المتكاثف، لمح داخلها شخصاً فعرفه أيضاً.. وكيف لا؟ إنه شيخه(1) الولي العارف الصديق المقرب المحب المحبوب الواصل القديس المقدس المتحقق بالاسم الأعظم...إلخ. فكان كأنما عثر على كنز الدنيا والآخرة، بل وأعظم من الدنيا والآخرة! فانطلق نحوه دون وعي حتى وقف أمام زجاج السيارة صامتاً خاشعاً، خافضاً رأسه بذلة وخنوع، ماداً نظره الحقير نحو الشيخ يستجديه نفحة من قدوسيته المستسرة.
نظر إليه الشيخ بعينين جامدتين، وأنزل زجاج النافذة بمقدار ما يكفي لإخراج كفه، وأخرجها، فاستلمها العجوز، وقبلها.
ثم سحب الشيخ يده، وأغلق النافذة.
وذهب العجوز لحال سبيله، وهو مفعم بنشوة تغرقه في أعتم ظلمات الخيالات الوثنية، لكنه كان يحس أنه قبل يد الحق (سبحان الله وتعالى عما يشركون).
مشهد شيخي مسجل:
__________
(1) هذا الشيخ أخبره الكشف أنه المهدي المنتظر، وهو منذ سنين كثيرة ينتظر أن يأذن له الكشف بالتحرك.(1/315)
أورد ابن العماد الحنبلي في أحداث سنة سبع وثمانمائة:
وفيها (أي: توفي فيها) أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن وفا...وقال ابن حجر في أنباء الغمر: اجتمعتُ به مرة في دعوةٍ فأنكرتُ على أصحابه إيماءهم إلى جهته بالسجود، فتلا هوَ وهو في وسط السماع يدور ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)) [البقرة:115] فنادى من كان حاضراً من الطلبة: كفرت كفرت، فترك المجلس وخرج هو وأصحابه...
- لعل القارئ يذكر أن علي بن محمد بن محمد بن وفا هذا هو غوث من رجال السلسلة الشاذلية، وهذا يعني أن الطريقة الشاذلية تتبنى أفعاله وأقواله وتؤمن بها، وإن كتموا ذلك.
* الخلاصة:
الشيخ عند الصوفية إله، يسبغون عليه كل صفات الألوهية، والمريد الذي لا يعتقد بشيخه القدسية الإلهية لا يفلح في سعيه إلى الوصول إلى وحدة الوجود، وهذا هو معنى الفلاح عندهم، الجذبة، ثم مشاهدة الألوهية في نفس المُشاهَد وفي كل شيء. ولنستمع إلى قول الدكتور سيد حسين نصر، وهو من أعلام الصوفية في إيران، يقول:
إن دور الشيخ المرشد الذي يقتضي التسليم التام له، وأهميته، في تحرير المريد من الارتباك في عالم الكثرة، ثم توجيهه له بالتأمل في عالم الوحدة(1)...
الفصل الثاني
الرياضة (المجاهدة)
* لا طريقة بدون شيخ:
لنرجع أولاً إلى عارفيهم يخبرونا كيف يسلِّك الشيخ مريده في الطريقة.
يقول ابن عجيبة:
__________
(1) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:77).(1/316)
إذا أتى الفقير إلى الشيخ ليأخذ بيده، فأول ما يلقنه الورد، فإن التلقين فيه بركة عظيمة...ثم يأمره بالتوبة ورد المظالم وقضاء الدين بقدر الاستطاعة، ويحذره من الرجوع إلى ما كان عليه، ثم يعلمه ما يلزمه في دينه من طهارة وصلاة وما يتعلق بذلك إن كان جاهلاً، وما يتيسر من علم التوحيد خالياً عن الدليل، فإن كان الشيخ ليس من شأنه ذلك، دفعه إلى من يعلمه، ثم يأمره بلزوم الطاعة من صلاة وصيام وذكروغير ذلك، كل واحد ما يليق به، لأن الشيخ تقدم أنه يكون طبيباً ماهراً، ثم يأمره بالصحبة ولزوم مجالسة الشيخ، والاجتماج مع الإخوان، فطريق التربية ليست طريق الانفراد، وإنما هي طريق الاجتماع والاستماع والاتباع، فمهما انفرد المريد عن الإخوان لم يكن منه شيء، فإن تعذر إقامته مع الشيخ أمره بالزيارة والوصول، فمدد الشيخ جار إلى المريد كالساقية أو القادوس، فإن كان يتعاهدها ويمشي معها بقي الماء جارياً، وإن غفل عنها تخرم الماء وانقلب مع غيره، وأيضاً الوصول إلى الشيخ يدل على المحبة...ثم يذكره أولاً بما يُصلح جوارحه الظاهرة وهي التقوى والاستقامة، فإذا صلحت جوارحه الظاهرة أمره بالعزلة والصمت والجوع المتوسط وفراغ القلب والفناء في الاسم المفرد (الله)، فإذا رآه تحقق فناؤه وكثر تعطشه فتح له شيئاً من علم الحقائق، وأمره بالتفرغ التام وقطع العلائق، والزهد في الكونين، فإذا رآه أخذته حيرة أو دهشة دفع له علم الحقيقة، وأمره بتقليل ذكر اللسان وعمل الجوارح، وشغله بالفكرة، فإذا رآه لم يقدر على علم الحقيقة، أو رآه قنع بالعلم دون الذوق، أمره بتخريب الظاهر والتجريد التام، فإذا تمكن من الحقيقة، ورسخت فيه ذوقاً وتحقيقاً أمره بإرشاد الناس إن رآه أهلاً. هذا الذي أخذنا به وفهمناه من طريق أشياخنا(1)...
ويقول ابن البنا السرقسطي مبيناً:
حتى إذا انقاد مع الإفادة ... ... وكاد أن يصلح للإرادة
__________
(1) الفتوحات الإلهية، (ص:328).(1/317)
إذ للمريد عندهم حدود ... ... لأجلها قيل له مريد
فعندها رُدّ إلى الأوراد ... ... كالصمت والصوم مع السُّهاد
وعاملوه بالمعاملات ... ... إذ علموا مختلف العلات
ولم يحيلوه على الحقيقة ... ... إذ لم يكن مستوفي الطريقة
لكن أحالوه على الأعمال ... ... لأجل ما فيها من النوال
حتى إذا أحكم علم الظاهرْ ... ... وأبصروا القبول فيه ظاهرْ
ألقوا إليه من صفات النفس ... ... ما كان فيها قبل ذا من لَبْس
وهي إذا أنكرتها فلتعرف ... ... إحدى وتسعين وقيل نيف
فجرعوها أكؤس المنون ... ... وهي تنادي كيف تقتلون
فعندما مالت إلى الزوال ... ... أُدخل في خلوة الاعتزال
وقيل: قل على الدوام (الله) ... ... واحذر كطرف العين أن تنساه
فلم يزل مستعملاً للذكر ... ... فيصمت اللسان وهو يجري
وقدر ما تجوهر اللسان ... ... بالاسم يستثبته الجنان
ثم جرى معناه في الفؤاد ... ... جريَ الغذا في جملة الأجساد
فعندها حاذى مِراة القلب ... ... لوحُ الغيوب وهو غير مخبي
فأدرك المعلوم والمجهولا ... ... حيث اقتضى لتركها قبولا
حتى إذا جاء بطور القلب ... ... خوطب إذ ذاك بكل خطب
فقيل لو عرفتني بكوني ... ... قيل إذن فاخلع نعال الكون
ثم فني عن رؤية العوالم ... ... ولم ير في الكون غير العالم
ثم انتهى لفلك الحقيقة ... ... فقيل هذا غاية الطريقة
ثم امتحى في غيبة الشهود ... ... فأطلق القول: أنا معبودي
حتى إذا رُدَّ عليه منه ... ... أثبت فرقاً حيث لم يكنه
فرُدَّ نحو عالم التحويل ... ... وعبروا عن ذاك بالنزول
ورده بالحق نحو الخلق ... ... كي ما يؤدي واجبات الرق(1)
__________
(1) الفتوحات الإلهية، (ص:331 وما بعدها) بشكل متقطع.(1/318)
ويقول ابن عجيبة: ...ثم يمده بالعلم الظاهر، ومعناه أنه يذكره بعلم الشريعة وعلم الطريقة، دون علم الحقيقة، حتى إذا تهذب ظاهره وباطنه صلح لعلم الحقائق، ولا بد من الترتيب...وقد قالوا: من قدم الباطن على الظاهر فاته الباطن والظاهر(1). اهـ.
- وهكذا فالسالك لا يعرف حقيقة التصوف، لأنهم لا يخبرونه بها حتى يصبح أهلاً لذلك حسب قواعدهم.
وإنما يلقنونه أولاً علم الشريعة، فما هو علم الشريعة هذا الذي يلقنونه إياه؟ لنسمع الغزالي يشرحه، يقول ابن عجيبة:
...قال الشيخ أبو حامد الغزالي رضي الله عنه: ولقد أردت في بداية أمري سلوك هذا الطريق بكثرة الأوراد والصوم والصلاة، فلما علم الله صدق نيتي، قيض لي ولياً من أوليائه قال لي: يا بني، اقطع من قلبك كل علاقة إلا الله وحده، واخل بنفسك واجمع همتك، وقل: الله الله الله ولا تزد على ما فرض الله عليك شيئاً إلا الرواتب، وقل هذا الاسم بلسانك وقلبك وسرك، وأحضر قلبك واجمع خاطرك، ومهما قالت نفسُك: ما معنى هذا؟ فقل لها: لستُ مطلوباً بمعناه، وإنما قال تعالى: ((وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا)) [المزمل:8](2).
- مِنْ هذا النص (ومن ركامٍ غيره لا نورده اختصاراً) نعرف ما هو علم الشريعة الذي يلقنونه للمريد؟
هذا الوصف الذي يقدمه هنا ابن البنا السرقسطي وابن عجيبة والغزالي، هو ما نراه في كل كتبهم التي تهتم بهذه الناحية.
أما علم الطريقة (الإشراقية) ففي النصوص التي مرت في هذا الكتاب توضيح مبين.
إنهم يعلِّمون المريد، منذ الخطوة الأولى في رحاب الشيخ، أن يقدس الشيخ، وأن يكون عبداً للشيخ أكثر من عبوديته لله.
هذا هو رأس الطريق وأصله منذ أن نزل إبليس إلى الأرض، أو بعد ذلك بقليل، حتى الآن، وإلى ما شاء الله.
__________
(1) الفتوحات الإلهية، (ص:331).
(2) الفتوحات الإلهية، (ص:338).(1/319)
ثم يأتي (عند إشراقيي المسلمين وبعض غيرهم) الذكر الإرهاقي، الذي استعاضوا به- بصورة عامة- عن الرياضة، أو عن بعضها.
لكن الرياضة، رغم كل شيء، يبقى لها دورها في التصوف بين المسلمين، كما أن لها دورها الرئيسي، أو الوحيد، في تصوف غير المسلمين.
والمجاهدة (أو الرياضة)، كما رأينا، هي: الخلوة والصمت والجوع والسهر. وقد يرافقها تعذيب النفس بشكل من الأشكال، وتركيز الفكر في شيء ما أساسيٌ في المجاهدة الإشراقية.
* الخلوة (أو العزلة): طقس إشراقي أساسي، لا بد منه في السير إلى الجذبة، مارسه الإشراقيون منذ أن اكتشف إبليس أحبولة (الإشراق)، التي كانت على مدى التاريخ، وما زالت، تسمى: (المعرفة)، وجاء إشراقيو المسلمين فغلبوا عليها اسم: (الصوفية والتصوف).
كان إشراقيو الأمم، وما زالوا، يمارسون الخلوة في كهوف الجبال والوديان وفي شعابها، وفي أعماق الغابات، أو في كهوف (غرف صغيرة) تبنى في المعابد خصيصاً لهذه الغاية.
ومثلهم تماماً، مارسها متصوفة المسلمين، لكن قرونهم الأولى، استعاضوا عن كهوف المعابد بخلوات في بيوتهم، لأن المسلمين في ذلك الوقت كانوا يعرفون الإسلام ويفهمونه، وكانوا يعرفون أن هذه الزندقة غريبة عن الإسلام، فكل من عُرف بها أقاموا عليه حد الردة.(1/320)
وتتالت الأيام وشيئاً فشيئاً، فعلت السمومُ الصوفيةُ التي كانوا ينفثونها بهدوء فعلَها في المجتمعات الإسلامية، ففشا فيها الجهل والخرافة، وأخذ كهان الصوفية حريتهم بإعلان عقيدتهم الفاسدة والدعوة إليها، وسموها أسماءً فيها من الوقاحة بقدر ما فيها من الجرأة والافتراء على الله سبحانه، وبنوا لها هياكلها الخاصة التي سموها: (الخانقاه)، وفي الخانقاهات أقاموا، وفيها أقاموا كهوف الخلوة، وفي بعض الأحيان سموها: (المدرسة). وتتالت الأيام، وبالتكرار والزمن تمادوا في السيطرة على الفكر في المجتمعات الإسلامية، فجمدوه وعقَّموه، وصار الجهل والخرافة هو المظهر والمخبر، فانتشرت الخانقاهات في أحياء المدن وأزقتها، وفي القرى، بعد أن بدلوا اسم (الخانقاه) بـ(الزاوية)، ثم امتدوا من الزوايا ليتوغلوا في المساجد فيهتكوا حرماتها، وليرفعوا بيوت الأوثان التي يسمونها: (الأضرحة) وليجعلوا فيها ومنها كهوفاً لخلواتهم، وهياكل لطقوسهم، ومجالس لنشر ضلالاتهم.
وأصبح من غير المستهجن وجود أماكن الخلوة في المساجد، ومن المظاهراللازمة انتشار الزوايا، هياكلهم التي يقيمون فيها طقوس المكاء والتصدية، وارتفاع القباب فوق القبور إشارة إلى أن تحتها وثناً يعبد، ومكاناً للخلوة، ولم يعودوا بحاجة إلى كهوف الجبال والوديان وشعابها، ولا للغابات ولا للصحاري.
وأقل مدة للخلوة يوم وليلة، ولا حد لأكثرها، لكن المعتاد أن تكون أسبوعاً أو أكثر حتى الأربعين يوماً.
* الصمت: طقس إشراقي أساسي، لا بد منه في السير إلى الجذبة، مارسه الإشراقيون منذ أن اكتشف إبليس أحبولة الإشراق التي سموها: (الصوفية).
لكن إشراقيي المسلمين الأوائل عرفوا الأثر السحري لترديد كلمة ما، مئات الألوف من المرات أو ملايينها، بشكل مستمر ودون انقطاع، وهذا ما سموه: (الذكر)، فاستعاضوا به عن الصمت، بل وعن الرياضة كلها في كثير من الأحيان.(1/321)
على أن عارفهم يعود إلى ممارسة هذا الطقس (الصمت) بعد وصوله إلى ما يسمونه: (مقام جمع الجمع)، أي: عندما تصبح الجذبة طوع يديه أو مسيطرة عليه.
* الجوع: طقس إشراقي أساسي، لا بد منه في السير إلى الجذبة، مارسه الإشراقيون منذ أن اكتشف إبليس أحبولة الإشراق، التي سموها: (الصوفية).
وأقل مدة له يوم وليلة تتكرر، ولا حد لأكثرها نظرياً، وفي كتبهم يتحدثون عن متصوفة صاموا أسابيع وشهوراً، بل وسنين أيضاً، وقد رأينا من أقوالهم هذه أمثلة في هذا الكتاب، حتى تحدثوا عن صوفي صام أربعين سنة كان يأكل كل يوم زبيبة واحدة؟!
* السهر: طقس إشراقي أساسي، لا بد منه في السير إلى الجذبة، مارسه الإشراقيون منذ أن اكتشف إبليس أحبولة الإشراق التي سموها: (الصوفية).
وهذا الطقس، مضافاً إلى الخلوة، كانا وراء اكتشاف القهوة، فهم يذكرون أن عبد الرحمن العيدروس هو مكتشفها، وهو غير صحيح، لأنها معروفة قبله بأكثرمن قرنين(1)، ويقول ابن العماد الحنبلي: إن مكتشفها هو أبو بكر بن عبد الله العيدروس المتوفى سنة (909هـ).
- هذه هي الرياضة أو المجاهدة. وهدفها هو إرهاق الجملة العصبية إرهاقاً يُفقدها المقدرة على القيام بوظائفها، فتتخدر إحساساتها، وتصبح مركباً سهلاً لشياطين الجن التي تجري من ابن آدم مجرى الدم؟ وتصبح أكثر استعداداً للتأثر بالمادة المخدرة التي يفرزها الجسم، من أجل وظيفة حيوية فيزيولوجية.
* تعذيب النفس: كانوا يستعملونه من أجل السهر والصبر على الخلوة، وقد قلت ممارسته الآن، إذ نادراً ما نسمع به، واستعاضوا عنه بالمنبهات.
* الذكر (أو ما يسمى بالذكر):
__________
(1) عرفت القهوة والمقاهي في استانبول عام (962هـ)، الموافق لـ (1555م)، حيث جاء سوريان، أحدهما من حلب، والثاني من دمشق، وفتحا مقهيين في حي (تحت القلعة)، وهذا يعني أن القهوة كانت معروفة في سورية قبل ذلك.(1/322)
قلنا، ونقول، وقالوا هم: إن الطريقة الوحيدة التي تقود إلى الجذبة هي طريقة الإشراق، وهي هي نفسها طريقة البرهان، أو الطريقة الغزالية، بعد مزجها بالإسلام مزجاً تعسفياً.
ورأينا أن الطريقة الإشراقية تعتمد الرياضة (الخلوة والجوع والسهر والصمت) للوصول إلى الجذبة، لكن متصوفة المسلمين عرفوا أسلوباً أسرع وأكبر إمكانية للوصول إليها (إلى الجذبة)..
إنه الذكر، وكثيراً ما استغنوا به عن الرياضة.
فما هو الذكر؟ وما هو دوره؟
يقول عبد الوهاب الشعراني:
...إن عُمدة الطريق الإكثار من ذكر الله عز وجل...قالوا: إن الذكر منشور الولاية...وأجمع القوم على أن الذكر مفتاح الولاية، وجاذبُ الخير، وأنيس المستوحش، ومنشور الولاية...وما ثَم أسرع من فتح الذكر(1)...
ويقول ابن البنا السرقسطي:
فعندما مال إلى الزوال ... ... أدخل في خلوة الاعتزال
وقيل قل على الدوام (الله) ... ... واحذر كطرف العين أن تنساه
يشرح ابن عجيبة هاذين البيتين:
__________
(1) الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية: (1/35).(1/323)
...ومَيْل النفس إلى الزوال هو إعطاؤها الطوع من نفسها، بحيث يتصرف فيها صاحبها بلا نزاع منها...فعند ذلك يدخل الخلوة...ويحضه على ذكر الاسم المفرد حتى لا يفتر عنه ساعة، وهذا التدريج الذي ذكره الناظم (في أبيات سابقة) ليس بلازم لكل الشيوخ ولا لكل المريدين أن يسلكوه، بل من الشيوخ من يلقن الاسم من أول مرة إذا رأى الفقير أهلاً له...ومن المريدين من لا يحتاج إلى خلوة، بل يأمره بالخلطة من أول مرة، والناس معادن وطبائع، والعلل متفاوتة...قال الشيخ أبو حامد الغزالي رضي الله عنه: ولقد أردت في بداية أمري سلوك هذا الطريق بكثرة الأوراد والصوم والصلاة، فلما علم الله صدق نيتي قيض لي ولياً من أوليائه قال لي: يا بني! اقطع من قلبك كل علاقة إلا الله وحده، واخلُ بنفسك، واجمع همتك، وقل: الله الله الله ولا تزد على ما فرض الله عليك شيئاً إلا الرواتب، وقل هذا الاسم بلسانك وقلبك وسرك، وأحضر قلبك، واجمع خاطرك، ومهما قالت نفسك: ما معنى هذا؟ فقل لها: لست مطلوباً بمعناه(1)...
ويقول علي نور الدين اليشرطي: والله ما أخذناها بالسماع، ما أخذناها إلا بالذكر...(2).
ويقول ابن عطاء الله السكندري:
الذكر الرابع: (الله) ؛ ويسمى: الذكر المفرد، لأن ذاكره مشاهد لجلال الله وعظمته، فانٍ عن نفسه، قال الله تعالى: ((قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)) [الأنعام:91](3).
* ملحوظة:
- يستعمل ابن عطاء الله الآية في غير معناها الذي أنزلت له، أي يستعمل التأويل.
فماذا يحدث للذاكر؟...لنستمع إلى أقوالهم:
يقول علي نور الدين اليشرطي:
ما زال العبد يذكر الله حتى يستولي عليه الاسم، ومتى استولى عليه الاسم انطوت العبدية بالربية، وظهرت عليه صفات الرب(4)...
__________
(1) الفتوحات الإلهية: (ص:338).
(2) نفحات الحق، (ص:113).
(3) مفتاح الفلاح، (ص:42).
(4) نفحات الحق، (ص:110).(1/324)
- أقول: إن سأل سائل: ما هي صفات الرب التي تظهر عليه؟ فالجواب: هي الهلوسات التي يشاهدها أثناء الجذبة! ويشاهد فيها أنه الله (جل الله) بأسمائه وصفاته.
ويقول عبد المجيد الخاني النقشبندي:
واعلم أن المريد الصادق إذا اشتغل بالذكر على وجه الإخلاص، يظهر عليه أحوال عجيبة وخوارق غريبة، وهي ثمرات أعماله من فضل الله تعالى عليه، إما تطميناً لقلبه وتأنيساً، وإما ابتلاءً من الله تعالى وامتحاناً له. فالواجب عليه أن لا يلتفت إليها ولا يغتر بها، لئلا ينقطع بها عن مقصوده (مشاهدة الوحدة). ولهذا قال العارفون بالله تعالى: أكثر من انقطع من المريدين بسبب وقوعهم في الكرامات(1)...
* خلاصة ما تقدم:
إذا اشتغل المريد بالذكر، وهو عادة الاسم المفرد (الله)، واستمر عليه ليلاً ونهاراً أياماً كثيرة، قد تقصر وقد تطول، وقد تمتد إلى ما يزيد عن عشرين سنة، كما حصل لعبد القادر الجيلاني، تظهر أمامه خوارق؛ كأنْ يرى أشخاصاً يظهرون فجأة ويختفون فجأة، أو يسمع أصواتاً، أو تحدث أمامه حوادث غير عادية وغير معروفة السبب؟ أو قد يحدث مع بعضهم أن يسير فوق الماء أو يطير في الهواء.
هذه الخوارق ليست لازمة بالضرورة، فقد لا يحصل شيء منها، وإذا حصلت فإنهم يتواصون بإهمالها وعدم الالتفات إليها والاغترار بها؛ لأن غايتهم هي الوصول إلى الجذبة التي يستشعرون فيها وبها الألوهية ويذوقونها.
__________
(1) السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية، (ص:37).(1/325)
يستمر السالك بالذكر. وقد يلجأ إلى الرياضة (المجاهدة) كعامل مساعد، وقد يبدل الخلوة في غرفة بالسياحة في القفار، مع الجوع والسهر والمشاق، ويبقى يذكر ويذكر حتى يصل إلى الجذبة التي هي الهدف الأول، وتكون عادة سريعة الزوال في أول الأمر، عندئذ يسمونه: المجذوب أو الولي أو الواصل...، ويعنون بكلمة (مجذوب) أن الله سبحانه جذبه إليه، وينصحونه ألا يغتر بالجذبات القليلة السريعة الزوال، بل عليه أن يستمر في الذكر، حتى يزداد عدد جذباته ويزداد طولها، ثم حتى يشاهد فيها وبها المشاهد.
يبقى المريد (أو السالك) هكذا مستمراً حتى تصبح الجذبة طوع يديه، ففي أي وقت يريدها يبدأ بالذكر، وما هي إلا دقائق حتى يقع فيها، بل قد يقع فيها بمجرد التفكير بها.
وقد يصل إلى مقام تتكرر عليه تلقائياً دون ذكر، وهذا عندهم هو الأمل المنشود، ومن وصل إليه فهو البدل أو الوتد أو القطب أو الغوث (حسبما يوحي إليه شيطانه). على أن عند النقشبندية أسلوباً أسرع (كما يقولون) في الوصول إلى الجذبة، وهو ترديد لا إله إلا الله، مع هز الرأس بالصورة التالية:
يدير المريد وجهه إلى اليمين حتى تصبح ذقنه فوق كتفه اليمنى، ويلفظ كلمة (لا).
ثم يدير وجهه بسرعة إلى الأمام ويضع ذقنه على صدره، ويلفظ كلمة (إله).
ثم يدير وجهه بسرعة أيضاً إلى اليسار، حتى تكون ذقنه فوق كتفه اليسرى، ويلفظ كلمة (إلا).
ثم يدير وجهه بسرعة دائماً، إلى الأمام ويضع ذقنه فوق صدره، كما في الحركة الثانية، ويلفظ كلمة (الله).
ويعيد الكرة ويعيدها، وكل هذا يتم بأسرع ما يمكن.
ويقولون: إن القيام بهذه العملية واحداً وعشرين مرة، يمكن أن يوصل إلى الجذبة، ومن لم يصل، فليعد الكرة، ثم ليعدها، وسيصل أخيراً. ومن الناس من لا يصل مهما عمل وحاول.
ولقد انتقلت هذه الحركة إلى بعض الطرق الأخرى، لما فيها من سرعة في الوصول.(1/326)
ولعل القارئ أدرك أن ترديد عبارة (لا إله إلا الله) أثناء هذه الحركة لا يقدم ولا يؤخر في الوصول إلى الجذبة، وأن الفعل كله لهز الرأس بالشكل المذكور، ويا لها من ولاية! تهز رأسك فتصبح ولياً لله؟ (مرحباً ولاية)!
* المنشطات (الحضرة، السماع، قراءة الكتب الصوفية):
يقول الشيخ سعيد حوى:
...ويرافق السيْرَ إلى الله اجتماعٌ وإنشادٌ، وتصحبُه أمور، ويتطلب آداباً(1)...ويقول: ...هذه الحالات التي تزيد من إقبال الإنسان على الله تعالى، أو تجدد همته إن فترت كثيرةٌ منها: الاجتماع على علم أو على قراءة قرآن أو على ذكر أو على مذاكرة، ومنها الإنشاد، ومنها المطالعة في كتب السير إلى الله(2)...
- أقول: المعروف أن الصحابة رضوان الله عليهم وتابعيهم وتابعي تابعيهم، كانوا يجتمعون على علم وعلى قراءة القرآن، وكان هذا لا يدفعهم إلى ما يسميه: (السير إلى الله)، بل كانوا يسيرون في طريق الإسلام الذي أنزله الله سبحانه على رسوله صلى الله عليه وسلم. كما أنه من المؤكد أن الذين يجتمعون على علم وعلى قراءة القرآن بتدبر وتطبيق، يبتعدون كل البعد عن هذا الذي يسمونه: (السير إلى الله).
إن القرآن الكريم والعلم النبوي يحكمان بأن ما يسمونه (السير إلى الله) لا يمت لهما بصلة، وبالتالي ليس سيراً إلى الله، بل هو سير إلى الجذبة ليس غير، وسنرى ذلك فيما بعد.
أما الآن، فإلى بعض التفصيل للمنشطات: الاجتماع، ومظهره الرئيسي هو الحضرة، والسماع، وقراءة كتب التصوف.
* الحضرة لا طريقة بدون حضرة إلا بعض الشواذ النادرة:
__________
(1) تربيتنا الروحية، (ص:166).
(2) تربيتنا الروحية، (ص:167).(1/327)
كلمة (الحضرة) تعني عند القوم الجلسة التي يحضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه رجال الغيب، ففيها يكونون في حضرته، ولذلك سموها: الحضرة، وقد أفتى شيوخهم أن مَن حلف يميناً أو طلاقاً أن محمداً صلى الله عليه وسلم حاضر معهم، فلا يحنث ولا تطلق زوجته، وكلهم يعتقدون هذا لكنهم يكتمونه حسب القاعدة.
ولا بد في الحضرة من الشيخ أو من نائب عنه بإذنه، إذ بدون ذلك لا يحضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تنقسم الصوفية من حيث الحضرة إلى قسمين:
1- الصوفية الجالسة:
يقومون بطقوس الحضرة وهم جلوس، وينقسمون بدورهم إلى قسمين:
أ- الجالسة الصامتة: يقرءون أورادهم وأذكارهم جلوساً صامتين، كالنقشبندية، والخوفية، وقد يجهرون بعض الأحيان، وقد يقفون (حسب توجيه الشيخ)، مع ندرته.
ب- الجالسة الصائتة: يقرءون أورادهم وأذكارهم جلوساً مع الجهر بالصوت، كالتيجانية، والنعمتللاهية، وقد يقفون ويرقصون (حسب توجيهات الشيخ)، وهذا نادر.
2- الصوفية الراقصة:
عليها أكثر الطرق، وكلها صائتة، يبدءون الحضرة في أكثر الأحيان جلوساً، ينهضون للقفز والرقص، وقد يصاحب قفزهم الطبول والزمور والدفوف، وقد يكون الرقص إفرادياً، مع السماع طبعاً.
والصوفية الراقصة تنقسم أيضاً إلى قسمين:
أ) الرقص مع السماع بدون آلات.
ب) الرقص مع السماع مصحوباً بالآلات.
وتلخيص ذلك بالشكل التالية:
أما الرقص الإفرادي فقد يكون رقصاً مع النقص، (أي: مع هز الخصر) أو بدون نقص: (أي: بدون هز الخصر).
* كيفية الحضرة:
نذكر كيفية الحضرة بإيجاز وإجمال، دون تفصيل، إذ لا فائدة من ذلك ولا ضرورة.
مع العلم أنه لا يتم شيء في الحضرة إلا حسب توجيه الشيخ فقط، دون أي كلمة أو إشارة من المريدين، إذ هم أمامه كالميت بين يدي الغاسل.
قد تبدأ الحضرة بدرس يلقيه الشيخ، أو بقراءة بعض أحاديث نبوية دون تمييز، أو بنشيد من أناشيدهم، ثم يبدأ الورد.(1/328)
ولا يكون الورد إلا مع الالتزام التام بما يسمونه: الرابطة الشريفة، وهي أن يربط كل مريد في الحضرة بصره بشيخه إن كان حاضراً، وأن يتصوره في خياله إن كان غائباً، ويمكن له في أول أمره أن يضع صورته أمامه وينظر إليها، حتى يتدرب شيئاً فشيئاً على تصوره جيداً في وهمه.
وقد يقرأ أحدهم، بأمر من الشيخ طبعاً، السلسلة المزعومة للمشيخة (الطريقة)، والتي يصلونها زوراً وبهتاناً بالرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم تأتي الأذكار والصلوات على النبي، ولكل مشيخة أذكارها وصلواتها التي قد تطول وقد تقصر، والاختلاف طبعاً هو بالألفاظ لا بالمعاني، فالمعاني واحدة أو متقاربة، وقد رأينا نماذج منها فيما مر من الفصول.
وبالنسبة للصوفية الجالسة، تنتهي هذه الجلسة بالفاتحة وإهدائها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن فضله إلى الشيخ ثم إلى الأولياء...إلخ. وقد يزيدون عليها شيئاً من القرآن الكريم.
ثم يمد الشيخ يده، ويبدأ الحاضرون بتقبيلها واحداً بعد واحد، ثم ينصرف من يريد منهم الانصراف، وأحياناً يقف الشيخ عندما يمد يده للتقبيل كرماً منه، ليسهل على المريدين تقبيل يده دون إلجائهم إلى الجلوس والسجود ثم النهوض.
أما بالنسبة للصوفية الراقصة، فهم، بعد الانتهاء من جلسة الذكر والصلوات يقفون بشكل حلقة غير تامة، أو أكثر من حلقة، حسب العدد، ويأخذون بالقفز وهم في مكانهم، يتوسطهم الشيخ أو نائبه، يحركهم بإشارات يده، وهم يرددون: الله حي، الله حي، الله حي، لكن لا بلفظها، بل بأنات تتفق مقاطعها مع مقاطعها، ويد كل واحد ممسكة بقوة بيد جاره، متشابكة أصابعهم، وهم في قفزهم يرتفعون معاً ويهبطون معاً، ويقف المسنون منهم في الأطراف، وقد لا يشبكون أيديهم بأيدي جيرانهم، وعادة يكون قفز هؤلاء بتحريك الرأس والجذع إلى الأمام والوراء، دون أن يرفعوا أرجلهم عن الأرض، وقد يرفعون أعقابهم فقط.(1/329)
يرافق ذلك إنشاد من منشد حسن الصوت، ولا يوجد نشيد خاص لكل مشيخة، إن الأناشيد بشكل عام، مشتركة بين الجميع، إلا تلك التي تختص بتقديس شيوخ الطريقة.
وفي بعض الطرق، كالرفاعية، يرافق القفز الطبول الرجاجة، وفي بعضها، كالمولوية، يرافقها الموسيقى المنبعثة من النايات والصنوج والدفوف والمزاهر.
وبعد زمن قد يطول وقد يقصر، يعطي (البيشر)(1)، إشارة الانتهاء، وتختلف من طريقة إلى أخرى.
ثم يجلسون، ويقرءون الفاتحة مع الإهداء والدعاء، ثم يأتي شرب الشاي الحار، لأن شرب المشروبات الباردة ممنوع بعد الرقص.
وفي جميع المشيخات الصوفية، لا يجوز دخول الحضرة إلا بعد الطهارة والوضوء.
ثم يأتي دور تقبيل يد الشيخ حسب الشكل الذي مر آنفاً.
عادة، إذا كان الشيخ يريد من الحاضرين جميعهم الانصراف، يقف قبل الجميع قرب الباب، ويمد يده، فيشرع الحاضرون بالخروج مارين أمام الشيخ واحداً بعد واحد، يقبلون يده المقدسة، وقد يمرغون جباههم عليها. وقد يقبل بعضهم رجله، حيث يمدها الشيخ إلى الأمام تكرماً ومنة وعطفاً منه وتفضلاً، ليمكن المريد من تقبيلها وتمريغ وجهه وجبهته عليها.
وأكرر الإشارة إلى أن الرقص قد يكون إفرادياً، فيكون دون ترديد عبارة (الله حي) أو الآهات التي تتناغم معها، والراقص لا يردد أي شيء إلا إن كان الإنشاد الذي يرافقه يقتضي من الجميع أن يرددوا اللازمة معاً، فحينئذ قد يتفاعل الراقص معهم.
__________
(1) البيشر، اصطلاح أورده شهاب الدين السهروردي في عوارف المعارف، ويعني به الشخص الذي يدير الحضرة، سواء كان الشيخ أو نائبه، ويستعملون الآن كلمة (البيشروش).(1/330)
ونوع الرقص تابع لمهارة (الولي) الراقص، الذي يمكن أن يكون أي مريد أو أي شيخ، وأكثر ما تكون رقصاتهم من نوع (السماح) الذي هو رقص (المولوية) المشهور، وقد يرقصون (التانجو، أو السامبا، أو السلوفوكس)، ولا أدري إن كانت الرقصات العنيفة (بوغي بوغي، أو الروك أند رول، أو غيرها) قد دخلت حلقاتهم أم لا. مع العلم أن هذا ليس عاماً في كل المشيخات، بل قد يوجد في بعض الأحيان، وفي بعض الأماكن، وقد لا يوجد، ولا يختص بمشيخة دون أخرى.
أما رقصة (السماح) التي يرقصها المولوية (تقرباً إلى الله)، فهي أشهرمن أن تعرف، وكذلك الرقصات البكتاشية حول قبر وثنهم: (حاجي بكتاش)، وأشهر منها رقصات (الزار) في مصر والسودان والحبشة وغيرها.
لكن، على كل حال، يجب أن لا ننسى أبداً، أن هذه الرقصات هي منشطات على (السير إلى الله)!
* السماع:
ماذا يقولون في السماع؟ نكتفي ببعض الكلمات لبعض كبرائهم، و(كلهم في الهوى سوا).
يقول الغزالي:
...فإذاً تأثير السماع في القلب محسوس، ومَن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور، بل على جميع البهائم، فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة، ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داوُد عليه السلام لاستماع صوته؟ ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلب، لم يجز أن يُحكم فيه مطلقاً بإباحة ولا تحريم، بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص واختلاف طرق النغمات، فحكمه حكم ما في القلب، قال أبو سليمان: السماع لا يجعل في القلب ما ليس فيه، ولكن يحرك ما هو فيه. فالترنم بالكلمات المسجعة الموزونة معتاد في مواضع لأغراض مخصوصة، ترتبط بها آثار في القلب(1)....
__________
(1) الإحياء: (2/243).(1/331)
ومما يورده الطوسي:..سمعت الطيالسي الرازي يقول: دخلت على إسرافيلَ أستاذِ ذِي النون رحمهما الله وهو جالس ينكت بإصبعه على الأرض ويترنم مع نفسه بشيء، فلما رآني قال: أتحسن تقول شيئاً؟ قلت: لا. قال: أنت بلا قلب. سمعتُ أبا الحسن علي بن محمد الصيرفي قال: سمعت رويماً، وقد سئل عن المشايخ الذين لقيهم: كيف كان يجدهم في وقت السماع؟ فقال: مثل قطيع الغنم إذا وقع في وسطه الذئاب(1).
ويقول: سمعت أبا عمر وإسماعيل بن نُجيد، قال: سمعتُ أبا عثمان سعيد بن عثمان الرازي الواعظ، يقول: السماع على ثلاثة أوجه: فوَجه منه للمريدين والمبتدئين، يستدعون بذلك الأحوال الشريفة، ويُخشى عليهم في ذلك الفتنة والمراءاة.
والوجه الثاني: للصديقين يطلبون الزيادة في أحوالهم، ويسمعون من ذلك ما يوافق أحوالهم وأوقاتهم.
والوجه الثالث: لأهل الاستقامة من العارفين فهم لا يعترضون، ولا يتأبون على الله فيما يردُ على قلويهم في حين السماع، من الحركة والسكون. أو كما قال(2).
ويقول: وقال بعضهم: أهل السماع في السماع على ثلاثة ضروب: فضرب منهم أبناء الحقائق، وهم الذي يرجعون في سماعهم إلى مخاطبة الحق لهم فيما يسمعون. وضرب منهم يرجعون فيما يسمعون إلى مخاطبة أحوالهم وأوقاتهم ومقاماتهم، وهم مرتبطون بالعلم ومطالبون بالصدق فيما يشيرون إليه من ذلك. والضرب الثالث هم الفقراء المجردون الذين قطعوا العلائق ولم تتلوث قلوبهم بمحبة الدنيا والاشتغال بالجمع والمنع، فهم يسمعون بطيبة قلوبهم، ويليق بهم السماع، وهم أقرب الناس إلى السلامة، وأسلمهم من الفتنة. والله أعلم(3).
* السماع والتواجد أو الرقص:
رأينا وصف واصفهم عند السماع أنهم (مثل قطيع الغنم وقع في وسطه الذئاب)، وهذه أبيات لأبي مدين المغربي:
فقل للذي ينهى عن الوجد أهلَه ... ... إذا لم تذق معنى شراب الهوى دَعْنا
__________
(1) اللمع، (ص:361).
(2) اللمع، (ص:349).
(3) اللمع، (ص:351).(1/332)
إذا لم تذق ما ذاقت الناس في الهوى ... ... فبالله يا خالي الحشا لا تعنفنا
وسلم لنا فيما ادعينا فإننا ... ... إذا غلبت أشواقنا ربما صحنا
وتهتز عند الاستماع حواسنا ... ... وإن لم نُطق حمل التوجد نوَّحنا
أما تنظر الطير المقفص يا فتى ... ... إذا ذكر الأوطان حن إلى المغنى
وفرج بالتغريد ما في فؤاده ... ... فيفلق أرباب القلوب إذا غنى
ويهتز في الأقفاص من فرط وجده ... ... فمضطربٌ الأعضاءُ في الحس والمعنى
كذلك أرواح المحبين يا فتى ... ... تهزهزها الأشواق للعالم الأسنى
أنلزمها بالصبر وهي مشوقة ... ... وكيف يطيق الصبر من شاهد المعنى
إذا اهتزت الأرواح شوقاً إلى اللقا ... ... نَعَم ترقص الأشباح يا جاهل المعنى
فيا حادي العشاق قم واحد قائماً ... ... وزمزم لنا باسم الحبيب وروِّحنا
وصن سرنا في سكرنا عن حسودنا ... ... وإن نظرت عيناك شيئاً فسامحنا
فإنا إذا طبنا وطابت نفوسنا ... ... وخامرنا خمر الغرام تهتكنا
فلا تلم السكران في حال سكره ... ... فقد رفع التكليف في سكرنا عنا
ويا عاذلي كرِّر عليَّ حديثهم ... ... فأعيننا منهم وأعينهم منا
أرجو من القارئ الكريم أن يتسلى بملحوظة العبارات الصوفية الواردة في كل بيت من أبيات القصيدة، وقد مرت كلها (أو أكثرها) في النصوص السابقة.
والسماع في أكثر الأحيان يكون مصحوباً بآلات تبدأ بالدف، ثم تأتي الصنوج والمزاهر والطبول الرجاجة والنايات والأبواق.
وقد يكون السماع بدون آلات.
وكلتا الحالتين قد توجدان في الطريقة الواحدة، حسب الشيخ والظرف.
وأقوالهم في السماع حسب هذا المعنى الذي رأيناه، تملأ مئات الصفحات وأكثر.
* قراءة الكتب الصوفية:(1/333)
من المنشطات على الاجتهاد في الرياضة والذكر والإصرار على الوصول إلى الجذبة، قراءة الكتب الصوفية، وهي كلها مشحونة بتقديس التصوف وشيوخه، وبسرد مثير لخوارق العادة التي تحدث أمامهم، وبتلك العبارات والرموز والإشارات التي تتكلم عن أسرار غريبة وعجيبة، وغيرها من المثيرات المغريات.
كل هذا يبعث في القارئ شوقاً جامحاً لتلك الأسرار، واندفاعاً ملحاً للوصول إلى تلك الحالات، ويجعل خياله وآماله وأحلامه تهوم في تلك الأجواء الغنوصية التي يصورونها له إلهيةً وتحققاً بالألوهية، ويعبرون عنها بمثل قولهم: (لا أريد إلا وجه الله الكريم)، فيقبل على الرياضة الصوفية بإصرار، وعلى الغلو في الخضوع الشركي للشيخ، مما يساعده على الوصول إلى الجذبة والتحقق بالألوهية بسرعة أكثر.
وكل المراجع التي اعتمدناها لهذا الكتاب، هي كتبهم التي إليها يرجعون وعليها يعتمدون، وهي كتبهم التي يقدسون مؤلفوها هم عارفوهم وأشياخهم وأقطابهم وعلماؤهم.
وناسخوها هم من عارفيهم وأشياخهم وأقطابهم وعلمائهم ومريديهم.
والمشرفون على طباعتها لجان منتقاة من عارفيهم وأشياخهم وأقطابهم وعلمائهم.
والذين يقتنونها ويقرءونها هم من المنتسبين إلى طرقهم ومشيخاتهم، الذين لا يعصون الشيخ ما أمرهم، ويفعلون ما يأمرهم به.
والذين يقتنونها ويقرءونها أيضاً من عارفيهم وأشياخهم وأقطابهم وعلمائهم ومريديهم.
والذين يشترونها ليضعوها في مكتباتهم، أو في مكتبات المساجد أو المدارس، مراجع إليها يرجعون، هم من عارفيهم وأشياخهم وأقطابهم وعلمائهم وأسيادهم ومريديهم والسالكين على أيديهم.(1/334)
لذلك أرجو من القارئ الكريم، أن يكون مطمئناً كل الاطمئنان، واثقاً كل الثقة، مؤمناً كل الإيمان، أن كل ما في كتبهم هو صحيح النسبة إليهم، يؤمنون به كلهم إيماناً كلياً كاملاً، ولا يوجد فيه أي دس صغير أو كبير. وإذا قال لك أحد منهم عن أمر من أمورهم أو قصة من قصصهم أو نص من نصوصهم: إنه مدسوس. فاعلم أنه يكذب عليك ويخادعك ويمكر بك ويكيد للإسلام، عن وعي أو عن غير وعي، ولكن عن إخلاص وإيمان.
وإذا قال أحد من غيرهم: إنه مدسوس. فاعلم أنه جاهل بالصوفية غافل عن واقع المسلمين.
إن البحر الميت لا يحتاج لأن يدس فيه الملح ليصبح ملحاً، وجهنم لا تحتاج أن يدس فيها الجمر لتغدو حامية.
الفصل الثالث
كشف بطائفة مما يسمونه الطرق الصوفية
إنها ليست طرقاً، وإنما هي مشيخات أخذت أسماءها من أسماء مشايخها، الذين كانوا وما زالوا يجمعون حولهم المريدين والسالكين، ليحصلوا بذلك على المدد، أي: الأموال التي تنهمر عليهم، إما من المريدين مباشرة، أو بسبب هؤلاء المريدين، هذا المدد مضافاً إلى اللذة التي يجدونها في الجذبة، مع هلوساتها التي توهمهم أنهم تحققوا بالألوهية، كل هذا يدفعهم إلى التفاني في خدمة إبليس للإبقاء على مسيرة الكهانة، وجر المسلمين إلى أشراكها، والفرق بين الطرق هو بكلمات الأذكار لا بمعانيها، وبأشكال الحضرة، أما الرياضة والوصول والكشف والحقيقة التي هي هي الصوفية، فواحدة.
وهذه طائفة مما يسر الله سبحانه الوقوف عليه من مشيخاتهم، أوردها بإيجاز:
المحاسبية: نسبة إلى الحارث بن أسد المحاسبي، بصري، مات في بغداد سنة 243 هـ.
الطيفورية (أو البسطامية): نسبة إلى أبي يزيد، طيفور بن عيسى البسطامي، اختلفت كتبهم (المؤيدة بالكشف!!) في تاريخ وفاته على قولين: سنة (234هـ)، وسنة (261هـ).
السقطية: نسبة إلى أبي الحسن، السري بن المغلس السقطي، خال الجنيد وأستاذه، وإليه ينتمي أكثر المشايخ في بغداد، مات فيها سنة 251 هـ.(1/335)
القصارية: نسبة إلى أبي صالح، حمدون بن أحمد بن عمارة القصار، شيخ الملامتية في نيسابور، مات فيها عام 271 هـ.
الجنيدية: نسبة إلى الجنيد بن محمد (أبي القاسم) سيد الطائفة الصوفية- كما يلقبونه- أصله من نهاوند، ومولده ومنشؤه في العراق، ويقال له أيضاً: (القواريري)، مات في بغداد سنة (297هـ).
النورية: نسبة إلى أبي الحسين، أحمد بن محمد بن عبد الصمد النوري، بغوي الأصل، بغدادي المولد والمنشأ، مات سنة (295هـ).
السهلية: نسبة إلى سهل بن عبد الله التستري (أبي محمد) مات سنة 273 أو 283 هـ.
الخرازية: نسبة إلى أبي سعيد، أحمد بن عيسى الخراز، يقال له: لسان التصوف، بغدادي، مات سنة (277هـ).
الحكيمية: نسبة إلى أبي عبد الله، محمد بن علي الترمذي، الحكيم، مات سنة (296) أو (320هـ)، ولعلها الأرجح، وهو غير الترمذي المحدث صاحب السنن.
الحلاجية: نسبة إلى أبي المغيث، الحسين بن منصور الحلاج، فارسي، نشأ بواسط في العراق، مات قتلاً على الزندقة في بغداد سنة (309هـ). والصوفية كلهم يزكونه، وعلى رأسهم الغزالي في (إحيائه)، والقشيري في (رسالته)، والجيلاني في (فتحه وفتوحه)، وابن عربي في كتبه.
الخفيفية: نسبة إلى أبي عبد الله محمد بن خفيف الضبي الشيرازي، مات سنة (371هـ) أو (391هـ).
السيارية: نسبة إلى أبي العباس، القاسم بن القاسم السياري من مرو، مات سنة (342هـ).
هذه الطرق، هي الأصول للطرق التي ظهرت فيما بعد، وقد اندثرت أسماؤها بعد أن انقسم كل منها إلى طرق كثيرة، بسبب المشايخ الذين ظهروا فيها، ثم أصل كل منهم طريقة باسمه على حساب اسم شيخه. والظن أن هناك طرقاً غير هذه، واكبتها أو تقدمتها، لم يتهيأ لي الوقوف على ما يشير إليها.
الجنبلانية: مؤسسها أبو محمد عبد الله بن محمد الجنبلاني، من بلدة جنبلا في فارس، مات فيها سنة 287 هـ واليها يعود الفضل في نشر المذهب النصيري.(1/336)
الملامتية: تنسب أحياناً لحمدون القصار، لكن الذي بلورها وأعطاها شكلها النهائي هو تلميذه أبو محمد عبد الله بن منازل، مات بنيسابور سنة (329) أو (330هـ)، وسموا أنفسهم الملامتية، من (الملامة) لأنهم يشتغلون بملامة أنفسهم ويهملون الشريعة والأخلاق، وقد اضمحلت كطريقة مستقلة، لكنها استمرت تظهر في سلوك كثير من الأولياء في كل الطرق، يتظاهرون بالتهتك وإتيان البهائم وشرب الخمور وتناول الحشيش والسرقة وغير ذلك، ليستروا عن الناس ولايتهم وصديقيتهم!
الكازرونية: نسبة إلى أبي سعيد الكازروني، تتلمذ على ابن خفيف، وكان يلقب بـ(المرشد)، ولم أقف من ترجمته على أكثر من هذا، ويمكن أن تكون نسبة إلى أبي إسحاق، إبراهيم بن شهريار، مات في كازرون (في إيران) سنة 426 هـ، تخرج في الخفيفية بأبي محمد الحسين الأكار، ولعل هذا هو الأرجح، ويدعي أصحاب الطريقة الأويسية في إيران أن الكازروني من رجال سلسلتهم.
السالمية: تنسب إلى أبي عبد الله محمد بن أحمد بن سالم (الكبير) بصري، مات سنة (297هـ)، وإلى ابنه أبي الحسن أحمد بن محمد (ابن سالم الصغير) مات لسنة (360هـ)، وهو أستاذ أبي طالب المكي، والسالمية فرع من السهلية.
المسرية: نسبة إلى محمد بن عبد الله بن مسرة الجبلي، مات سنة (319هـ)، إسماعيلي، اتهم بالزندقة فخرج فاراً من الأندلس، ثم عاد إليها بعد مدة، وطريقته أم الطرق الصوفية في الأندلس، وهو غير ابن مسرة المحدث الحافظ الفقيه(1).
__________
(1) المحدث الحافظ الفقيه وهب بن مسرة بن مفرج التميمي الحجاري، من وادي الحجارة بالأندلس، توفي سنة (346هـ)، وقد وهم فيه الحافظ الذهبي وتبعه ابن حجر بسبب تشابه نسبته مع ابن مسرة الصوفي، (هذا التعريف مقتبس عن مجلة (دار الحديث الحسنية) (العدد: الثالث)، سنة (1402هـ-1982م)، (ص:145).(1/337)
الحلمانية: أسسها أبو حلمان الفارسي الحلبي في دمشق في القرن الرابع أو بعده بقليل، حاربها الأشاعرة؛ لأن أتباعها كانوا يصرحون بوحدة الوجود، فلم تعمر طويلاً. القشيرية: نسبة إلى أبي القاسم، عبد الكريم بن هوازن القشيري، مؤلف الرسالة القشيرية، مات في نيسابور سنة 465 هـ، ولعلها هي التي تسمى أيضاً: (الهوازنية).
الصديقية: ينسبونها إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومؤسسها هو أبو بكر بن هوار من قبيلة الهواريين الكردية، سكن في البطائح في جنوب العراق، في قرية الحدادية، وهو من أهل القرن الخامس الهجري، أخذ طريقته عن أبي بكر الصديق في المنام حيث ألبسه ثوباً وطاقية ومر بيده على ناصيته، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر بك تَحْيا سننُ أهلِ الطريق من أمتي بالعراق بعد موتها...ثم استيقظ فوجد الثوب والطاقية بعينيهما عليه).
العريفية: نسبة إلى ابن العريف، أبي العباس، أحمد بن محمد بن موسى، من المرية في الأندلس، مات في صنهاجة في المغرب سنة (535هـ) أو سنة (536هـ)، وهو غير ابن العريف النحوي الشاعر، وبالعريفية تخرج ابن عربي.
القادرية: أسسها محيي الدين، أبو صالح، عبد القادر الجيلاني (سلطان الأولياء)، مات سنة (561هـ) في بغداد، وهو أعجمي من (جيلان)، لكنهم يجعلونه من سلالة فاطمة الزهراء، رضي الله عنها.
الرفاعية (أو البطائحية): أسسها أحمد بن الحسين الرفاعي، من بني رفاعة (قبيلة من العرب)، ولد وعاش في أم عبيدة، من أعمال البصرة في العراق، ومات فيها سنة 578 هـ، والبطائح اسم المنطقة، وفي كتبهم يجعلونه من سلالة فاطمة الزهراء رضي الله عنه، ويجعلون رفاعة أحد أجداده.
العدوية: أسسها عدي بن مسافر، تلميذ عبد القادر الجيلاني، توفي في قرية بالس في جبل لالش من جبال الهكارية قرب سنجار، شمالي العراق، سنة (555هـ) أو (557هـ) أو (585هـ)، وقد تطورت هذه الطريقة، وأتباعها اليوم هم (اليزيديون) عبدة الشيطان.(1/338)
البيانية: نسبة إلى الشيخ أبي البيان: بنان أو بناء بن محمد بن محفوظ (السلمي) أو (القرشي) الحوراني ثم الدمشقي، مات سنة (551هـ).
المدينية: نسبة إلى أبي مدين، شعيب بن حسين (أو حسن) الأندلسي، استوطن بجاية في المغرب، مات وهو في طريقه للقتل على الزندقة سنة (590هـ) أو (593هـ) في تلمسان.
الرحيمية القنائية: نسبة إلى عبد الرحيم القنائي، مغربي أخذ عن أبي يعزى، ثم انتقل إلى مصر ومات فيها سنة (592هـ) في قنا. وقد وهم من قال: إنه لم يكن شيخ طريقة. ولكن يظهر أنها اندثرت.
القَلَنْدرية: نسبة إلى قلندر يوسف، أندلسي هاجر إلى المشرق، وقد ظهرت هذه الطريقة لأول مرة في دمشق سنة (610هـ)، وأتباعها يحلقون لحاهم، ولا يأخذون أنفسهم بشعائر الدين الإسلامي ولا بمقومات الأخلاق، مات قلندر يوسف في دمياط بمصر، والطريقة منتشرة في الهند، نشرها الشيخ قطب الدين العمري الجونبوري (أجهل عصره).
الكبروية: للشيخ نجم الدين أبي الجناب أحمد بن عمر بن محمد الخوارزمي الكبرى، أشهر صوفية الفرس، ولد وعاش في مدينة (خيوة) من أعمال خوارزم، مات فيها سنة 618 هـ أو قبلها بقليل، ويقال: إنه أخذ التصوف عن روز بهان(1) في مصر، لكني أظنه تخرج في القادرية بأحد تلاميذ عبد القادر.
__________
(1) يختلف اسمه من مرجع إلى آخر، فقد ورد: (روز بهار)،، (روز بهان)،، (روز نهار)،، (زون بهار)، ولم يساعد الكشف على معرفة الصحيح منها.(1/339)
الجِشْتية: نسبة إلى قرية (جشت) في هراة، (في الشمال الغربي من أفغانستان)، مؤسسها أبو إسحاق الدمشقي الجشتي، وهو من أحياء العقود الأخيرة من القرن السادس الهجري، ولعله أدرك بعض الأولى من القرن السابع، وهي منتشرة في الهند، نشرها هناك خواجة معين الدين حسن السنجري الأجميري، مات في أجمير سنة 620 هـ أو 627هـ أو 634 هـ، وقبره محجة للمسلمين والهندوس على السواء، وقد كان لبعض أتباعها دور في نشر الإسلام بين الهندوس، ويقول مؤلف (الثقافة الإسلامية) في الهند: إنها أول طريقة أخذها أهل الهند.
اليونسية: نسبة إلى يونس بن يوسف بن مساعد الشيباني البخاري، لا شيخ له، مات سنة 619 هـ في قرية (القنية) من أعمال (داريا) قرب دمشق، وهي غير اليونسية الفرقة الشيعية التي ذابت فيما بعد في المتاولة، وغير اليونسية، الفرقة المرجئية.
السهروردية: نسبة إلى شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي البغدادي، مات في بغداد سنة 632 هـ.
البابائية أو (البابية): نسبة إلى بابا إسحاق الكفرسوذي (من كفرسوت بنواحي حلب) التركماني، وقيل: نسبة إلى بابا إلياس، أو إليهما معاً باعتبارهما شريكين، وقد بدأت شهرة (بابا) في بلاد الروم (تركيا) سنة 628 هـ. قُتل بابا إسحاق سنة 638 هـ، قتله السلطان غياث الدين كيخسرو الثاني السلجوقي، وعفا عن بابا إلياس، وهي غير البابية التي أنجبت البهائية.
الأكبرية أو (العربية) أو (الحاتمية): نسبة إلى الشيخ الأكبر...ابن عربي الحاتمي، أندلسي من مرسية، طاف البلاد، واستقر في دمشق، ومات فيها سنة (638هـ)، تخرج بالعريفية، ويعتبره الإسماعيلية من أعلامهم.
الشوذية: مؤسسها أبو عبد الله الشوذي الإشبيلي المعروف بـ(الحلوي) توفي على الأرجح مع مطلع القرن السابع الهجري في تلمسان، وفي الشوذية تخرج ابن سبعين.
الحريرية: نسبة إلى علي بن أبي الحسن بن منصور الحريري، مات في (بُسر) من حوران سنة (645هـ)، وقد اضمحلت الآن.(1/340)
البكتاشية: نسبة إلى حاجي بكتاش، محمد بن إبراهيم بن موسى الخراساني، من أعوان بابا إلياس، نزح من خراسان إلى تركيا ومات في نوشهر حوالي منتصف القرن السابع الهجري، منتشرة في تركيا وشرقي أوروبا ومصر، وغلو التشيع الاثني عشري واضح فيها.
الشاذلية: مؤسسها أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي، مغربي، رحل إلى تونس وسكن فيها في قرية (شاذلة)، ثم انتقل إلى مصر، ومات فيها سنة 656 هـ في صحراء عيذاب وهو في طريقه إلى الحج، وكان كُف بصره، وفي بعض كتب الرفاعية أن الشاذلية فرع من الرفاعية. (والشاذلي مثل غيره من الصوفية من سلالة فاطمة الزهراء).
الأحمدية أو (السطوحية): نسبة إلى أحمد البدوي، من المغرب، هاجر أبوه إلى مكة، وهاجر هو منها إلى مصر بعد أن مر على العراق، وزار أضرحتها، أقام في مدينة طندتا (طنطا) ومات فيها سنة (675هـ)، وسميت السطوحية لأنه كان يقيم على السطح بصورة دائمة، ويقولون: إنه كان لا يصلي، وهو (مثل غيره من الصوفية) من سلالة فاطمة الزهراء رضي الله عنها.
العلوية: مؤسسها الأستاذ الأعظم، محمد بن علي بن محمد...باعلوي، ولد في مدينة تريم بحضرموت، ومات فيها سنة (653هـ).
العلية السعدية: نسبة إلى سعد الدين الجباوي (من قرية جبا في الجولان)، ابن يونس الشيباني، مات حسب أعلام الزركلي سنة (621هـ)، والظن أنه أدرك النصف الثاني من القرن السابع.
الأدهمية: نسبة إلى الشيخ أدهم؟ مدفون في القدس، ولعله من أحياء العقود الأخيرة من القرن السابع أو الأولى من الثامن الهجري.
البرهامية أو (الدسوقية) مؤسسها إبراهيم الدسوقي، من المغرب، مات في مصر سنة (676هـ).
السبعينية: نسبة إلى ابن سبعين، أندلسي، انتقل إلى مكة ومات فيها (يقال: منتحراً) سنة (667هـ) أو (668هـ) أو (669هـ). وأتباعها يسمون (الليسية) لأن ذكرهم كان: (ليس إلا الله).(1/341)
الششترية: نسبة إلى أبي الحسن علي النميري الششتري، تلميذ ابن سبعين، أندلسي، مات في مصر (دمياط)، سنة (668هـ).
السنية السعدية: أسسها سعد الدين محمد بن المؤيد...بن حمويه، شيعي(1)، سكن سفح قاسيون في دمشق، ثم رجع إلى بلده الأصلي خراسان، انتشرت طريقته في الشام وخراسان بين السنة الذين تشيعوا اتباعاً لشيخهم، وسموه: (يسعى العجم) إشارة إلى الآية الكريمة: ((وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى)) [القصص:20]، مات في خراسان سنة (650هـ)، ويسمونه أيضاً: سعد الدين الحموي، تخرج في الطريقة الأكبرية بالشيخ الأكبر نفسه.
المولوية أو (الجلالية): نسبة إلى المولى جلال الدين محمد بن محمد بن الحسين الرومي، بلخي، هاجر وهو صغير مع أبيه إلى سيواس وغيرها؛ حتى استقر في قونية (عاصمة السلاجقة) في تركيا، زار دمشق واتصل بابن عربي وتلاميذه، ومنهم سعد الدين الحموي والقونوي، وفي قونية وصل إلى مقام الفرق الثاني على يد شمس تبريز محمد بن علي بن ملك داد (لعله إسماعيلي)، مات جلال الدين سنة (672هـ).
النعمانية: نسبة إلى أبي عبد الله، شمس الدين محمد بن موسى بن النعمان، مغربي، قدم الإسكندرية شاباً ومات فيها سنة (683هـ).
المسلمية: شيخها حسن بن مسلم، مصري، مات في القاهرة سنة (764هـ).
المنايفية: شيخها رمضان الأشعث، مات في مصر في القرن الثامن؟
الوفائية: نسبة إلى محمد وفا بن محمد بن محمد النجم، ولد في الإسكندرية، ثم رحل إلى القاهرة، ومات فيها سنة (765هـ)، ومحمد وفا معدود من رجال السلسلة الشاذلية.
الهمدانية: نسبة إلى علي بن الشهاب الهمداني، فارسي، مات سنة (786هـ)، تخرج في الكبروية، ولعل اهتمامه بعبد القادر الجيلاني كان عن طريقها، وللهمدانية دور في نشر التشيع في إيران.
__________
(1) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:136).(1/342)
الركنية: نسبة إلى ركن الدين، أبو المكارم، علاء الدولة السمناني، من قرية سمنان في خراسان، مات سنة (736هـ)، تخرج في الكبروية، وكان يعارض بشدة التصريح بوحدة الوجود.
النقشبندية: أسسها بهاء الدين محمد بن محمد البخاري على صورة ثورة صوفية ألغت كثيراً من تقاليد التصوف، من ذكر وخلوة وكرامات، وألغت بشكل خاص خرافة السلسلة الصوفية التي كانوا يرفعونها إلى علي بن أبي طالب، حيث يقول بهاء الدين: لا تصل سلسلة أحد موضعاً معيناً)، ويقول: لم تصل إلى المتأخرين طريقة من أحد المشايخ، ولكن تلاميذه عادوا فجعلوا لطريقتهم سلسلة رفعوها إلى الجنيد، وجعلوه يكلمهم ويوجههم، مات بهاء الدين سنة (791هـ)، وقد تحولوا عن الجنيد فيما بعد، ففي كتاب: (تنوير القلوب) مثلاً، يجعلون سلسلتهم تمر بأبي يزيد البسطامي حتى تصل إلى أبي بكر الصديق، كما عادوا أيضاً إلى الخلوة، وإلى الرقص أحياناً، وإلى بقية الصوفيات، والطريقة من الجالسة الصامتة مع شذوذ نادر.
الحروفية: أسسها فضل الله بن عبد الرحمن الحسيني الإستراباذي، شيعي، كان يتنقل بين مدن فارس، قتل سنة (804هـ)، وسميت الحروفية لاعتنائهم الزائد بالحروف وأسرارها على طريقة الأوفاق والطلاسم، والزايرجة واستنطاق الحروف والتنجيم، وقد اندمجت الحروفية فيما بعد بالبكتاشية وطورتها، (كان الخليفة الثاني لفضل الله يسمى: علي الأعلى).(1/343)
الصفوية: نسبة إلى صفي الدين، إسحاق بن جبرائيل -والظاهر أنه تركي- العلوي -الحسني أو الحسيني-، توفي في أردبيل سنة (735هـ) على الأرجح، أخذ التصوف عن الشيخ إبراهيم الزاهد الكيلاني لعلها الطريقة القادرية، تشيع هو أو ابنه صدر الدين موسى (مات سنة 794 هـ)، كان أتباعه من السنة الذين انقلبوا إلى شيعة بسبب شيوخهم صفي الدين وأولاده وأحفاده (المؤلهين)، وكلهم من شمالي إيران، وقد قويت طريقته وكثر أتباعها في زمن خلفائه حتى استطاع أحد أحفاده (إسماعيل بن حيدر) أن يتملك بهم على إيران سنة (905هـ).
والطرق الأربع: الهمدانية، والسنية السعدية، والحروفية، والصفوية، هي التي بدأت العمل على نشر التشيع في إيران، وقد ذابت السنية السعدية والحروفية، بينما تابعت الصفوية عملها حتى تحولت إلى ملك، ثم إلى فرقة جديدة أضيفت إلى الفرق الإسلامية هي (القيزيلباشية).(1/344)
النوربخشية: نسبة إلى محمد بن عبد الله الملقب (نور بخش) أي واهب الأنوار، هاجر أبوه من الأحساء، وسكن في بلدة (قاين)، وانتسب أولاً إلى الطريقة الهمدانية، ثم أكد نسبته إلى علي بن أبي طالب عن طريق الكشف، فعرف أنه من سلالة موسى الكاظم، كما عرف عن طريق الكشف أنه المهدي، وساعده على ذلك اسمه (محمد بن عبد الله)، وسمى ابنه (القاسم)، فأصبح (أبو القاسم محمد بن عبد الله)(1)، وكان يصرح علناً أن حركته ترمي إلى الجمع بين التصوف والتشيع(2)، والملاحظ أنه شيعي، لكنه ادعى المهدوية حسب النصوص السنية، والطريقة الآن شيعية كلها، وقد ساعدت كثيراً جداً على انتشار التشيع في إيران والهند، مات نوربخش سنة 869 هـ(3) في الري. وفي أواسط القرن العاشر هرب شيخ النوربخشية (طاهر بن رضا الإسماعيلي القزويني) مع جمع من أتباعه إلى الهند حيث نشروا التشيع هناك مع الطريقة.
النعمتللاهية: نسبة إلى نعمة الله الولي العلوي الحلبي، ساح ولقي عبد الله اليافعي، ثم استقر في ماهان (من أعمال كرمان)، وكان مريدوه يسجدون له، ويرون أنه المعني بالآية: ((يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ)) [النحل:83]، وقد صارت الطريقة كلها شيعية بعد أن كان مؤسسها سنياً حنفياً ميالاً إلى التشيع، تخرج بالشاذلية، مات سنة 834 هـ، وعمره قريب من مائة سنة، وانتشرت النعمتللاهية في إيران والهند، وهي أوسع الطرق انتشاراً في إيران، وقد ساعدت كثيراً على انتشار التشيع هناك.
__________
(1) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، فصل محمد بن عبد الله الملقب بنور بخش، وهو نقلاً عن نفحات الأنس، (ص:286).
(2) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، فصل محمد بن عبد الله الملقب بنور بخش، وهو نقلاً عن نفحات الأنس، (ص:286).
(3) الصوفية ببن الأمس واليوم، (ص:137).(1/345)
المشعشعية: مؤسسها محمد بن فلاح بن هبة الله، وهو كغيره من الأولياء، من سلالة فاطمة الزهراء، رضي الله عنها، ولعله في الأصل درزي من وادي التيم، تصوف وتفقه في مدينة الحلة بعلوم الشيعة الإثني عشرية على يد أحمد بن فهد الحلي، وتزوج ابنته، ثم تنقل حتى وصل إلى بادية خوزستان، حيث أخبره الكشف أنه المهدي المنتظر (مهدي السنة)، حصلت على يده خوارق كثيرة كثر بسببها أتباعه، وكلهم من السنة الذين تحولوا إلى مذهب شيخهم المؤله الشيعي، وكان يسمي خوارقه (التشعشع)، وكان يقطع الطرق، وينهب الحجاج، امتلك الأهواز والحويزة (العاصمة)، وأكثر بلاد خوزستان، مات سنة 866 هـ.
الشطارية: نسبة إلى عبد الله شطار الخراساني، مات سنة 832 هـ في مدينة ماندو في الهند الوسطى، وقد كانت في القرن العاشر طريقة الهند الرئيسية، أدخلت اليوغا في رياضتها، واهتمت كثيراً بالسيمياء (السحر).
المدارية: أسسها بديع الدين مدار المكنيوري (الهند)، مات سنة 844 هـ، كان أتباعها من أهل الوحدة المطلقة، أي يصرحون بوحدة الوجود، ومن أهل التجريد الظاهري، يكتفون بستر العورة الظاهرة، ويجترئون على مناهي الشرع.
العيدروسية: نسبة إلى عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن العيدروس، من مدينة تريم في حضرموت، مات فيها سنة 865 هـ، وقد تخرج في العلوية، وهي منتشرة أكثر شيء في الهند وحضرموت.
الشابية: نسبة إلى أحمد بن مخلوف الشابي، تونسي، مات في القيروان سنة 887 هـ، وهي فرع من الشاذلية.
الجزولية: نسبة إلى محمد بن عبد الرحمن...بن سليمان الجزولي السملالي، مؤلف: (دلائل الخيرات)، مات سنة 869 أو 870 هـ في المغرب، وجزولة هي إحدى قبائل البربر، ولكنه مع ذلك من سلالة فاطمة الزهراء.(1/346)
الزرّوقية: نسبة إلى أبي العباس أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنوي الفاسي، المعروف بزروق، يقول عنه أبو الفيض المنوفي في جمهرة الأولياء: ولد يوم الخميس/ 12 محرم / عام 840 هـ، وعاش (63 سنة)، ومات سنة 899 هـ(1)، وقد تخرج في الشاذلية.
العيساوية: نسبة إلى سيدي محمد بن عيسى، من بلاد السوس (المغرب)، تخرج في الطريقة الجزولية، مات في (مكناسة الزيتون) سنة 933 هـ، ويظهر أنها والجزولية فرعان من الرفاعية، لأنهما تعتمدان الطبول وضرب الشيش والخناجر وأكل الزجاج والحيات، وفيهما كثير من المنكرات - شأن كل الطرق - لكن محموداً أبا الفيض المنوفي يجعل الجزولية فرعاً من الشاذلية.
الكَنكَوهية: نسبة إلى الشيخ عبد القدوس الكَنكَوهي، هندي، كان يصرح بوحدة الوجود ويدعو إليها بقوة، وهي فرع من الصابرية الجشتية، مات الكَنكَوهي سنة 933هـ.
الجهنجهانوية: نسبة إلى عبد الرزاق الجهنجهانوي، هندي، مات سنة 949 هـ، مزج بين القادرية والجشتية، وكان عالماً معروفاً، ويدعو إلى وحدة الوجود متحمساً لها ولمحيي الدين بن عربي.
المهدوية: مؤسسها (المهدي المنتظر) محمد بن يوسف الجنبوري، من جونبور في الهند، ومن أحياء القرن التاسع وأوائل العاشر الهجريين، توفي في خراسان، أخبره الكشف أنه المهدي المنتظر، وانتشرت طريقته في كجرات والدكن من بلاد الهند، وقد تحولت إلى فرقة من الفرق المنحرفة، ويجب أن لا نخلط بينها وبين المهدية السودانية التي جاءت بعدها بأربعة قرون.
الخلْوتية: نسبة إلى (أخي) محمد بن أحمد بن محمد كريم الدين الخلوتي، أخذها عن محمد صلى الله عليه وسلم مباشرة في اليقظة لا في المنام، وكان يقول: طريقتي محمدية، مات سنة 986 هـ في مصر.
__________
(1) الصحيح أنه ولد عام (846هـ)، وعاش (54 عاماً)، ومات سنة (899هـ).(1/347)
المجددية (أو الأحمدية): نسبة إلى مجدد الألف الثاني أحمد بن عبد الأحد الفاروقي السرهندي، من الهند، توفي سنة 1034 هـ/ 1625م، والطريقة فرع من الباقية التي هي فرع من النقشبندية، منتشرة في الهند وفي أكثر بلاد المسلمين، ولعلها غير موجودة في شمال إفريقية.
البيرامية: نسبة إلى إبراهيم (بل بيرم) بن تيمورخان، من بوسنة في البلقان، طاف البلاد، وله في كل بلد اسم، فاسمه في ديار الروم علي، وفي مكة حسن، وفي المدينة محمد، استقر في مصر، ومات فيها سنة 1026هـ.
الوزانية: نسبة إلى عبد الله بن إبراهيم بن موسى اليَمْلَحي المصمودي الوزاني، نسبة إلى بلدة وزان في المغرب، مات سنة 1089هـ، الموافقة لـ 1678م.
الذهبية: نسبة إلى آقا سيد محمد القريشي الذهبي، فارسي، ولعله من أهل النصف الأول من القرن الثاني عشر الهجري، والطريقة منتشرة بين الشيعة في إيران والهند، وهي فرع من النعمتللاهية.
الدرقاوية: نسبة إلى العربي أو (محمد العربي) بن أحمد...الدرقاوي، مغربي مات سنة (1239هـ)، وهي فرع من الشاذلية.
الولي اللاهية: نسبة لولي الله، أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي المتوفى سنة (1176هـ-1763م)، تخرج بالطريقة الأحسنية التي هي فرع من الطريقة الباقية، التي هي بدورها فرع من النقشبندية، له دور هام في نشر علم الحديث في الهند، ولعل هذا ناتج عن تأثره بدعوة محمد بن عبد الوهاب، والطريقة منتشرة في الهند.
المحمدية الأحسنية: مؤسسها أحمد بن عرفان البريلوي الشهيد، قاد جهاداً إسلامياً في محاربة الاستعمار، لكن صوفيي الهند خذلوه، لأنه- مع تصوفه- كان يقول بالنهج السلفي، قتل مجاهداً سنة 1246هـ-1831م، وطريقته فرع من الأحسنية (سيرد ذكرها) ولعله تخرج بالولي اللاهية.
الرحمانية: فرع من الخلوتية، تنسب في المغرب إلى محمد بن عبد الرحمن بوقبرين، مات في تونس سنة (1028هـ)، وينسبونها في بلاد الشام إلى عبد الرحمن الشريف، مات سنة (1305هـ).(1/348)
الإدريسية: أسسها أحمد بن إدريس، مغربي من الأدارسة، تجول في البلاد، واستقر في اليمن، طريقته محمدية، أخذها عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة في اليقظة لا في المنام، مات في بلدة (صبية) في تهامة عسير سنة 1253 هـ، وطبعاً رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في اليقظة بالكشف.
الرشيدية: نسبة إلى إبراهيم الرشيد، تلميذ أحمد بن إدريس، سار على نفس طريقته، وهو سوداني، تنقل، ومات في مكة سنة 1291هـ، ويجب أن لا نخلطها مع الرشيدية إحدى فرق الخوارج.
التجانية: مؤسسها أحمد التجاني، أخذ الطريقة عن محمد صلى الله عليه وسلم مباشرة في اليقظة لا في المنام، مات في المغرب سنة 1230 هـ، وقد كان الاستعمار الفرنسي يشجع انتشارها في البلاد الإسلامية التي يحتلها. تسلك أحمد التجاني في أول أمره في الخلوتية.
السنوسية: أسسها محمد بن علي السنوسي، تنقل، ومات في جغبوب (ليبيا) سنة 1276 هـ/ 1859م، وكانت ولادته في مستغانم (الجزائر)، وفي فترة ما كانت السنوسية شبيهة بالحزب السياسي ولها دور في محاربة الاستعمار.
المدنية: نسبة إلى محمد بن حمزة بن ظافر المدني، خرج من المدينة المنورة واستقر في المغرب الأقصى، وكان مبدأ ظهور طريقته عام 1240 هـ، وهي فرع من الشاذلية.
الأوَيْسِيَّة: ينسبونها - زوراً - إلى أويس القرني (وهذا بدهياً غير صحيح)، ظهر أويس في خلافة عمر بن الخطاب، توفي سنة 37 هـ ترجيحاً، وفي السلسلة الأويسية كثير من التخليط، فهم يجعلون من شيوخ سلسلتهم: ابن خفيف، والكازروني، والكبرى، ونوربخش، ولا يستبعد أن يكون مؤسسها (جلال الدين علي أبو الفضل عنقا)، توفي في طهران سنة 1293 هـ، أو شيخه (عبد القادر جهرمي)، مات سنة 1262 هـ، وإن صعدت فلا تبعد.(1/349)
الميرغنية: نسبة إلى محمد عثمان الميرغني بن محمد أبي بكر بن عبد المحجوب، من الطائف، انتقل إلى مصر، ثم إلى السودان، واستقر في (الخاتمية) جنوب (كسلا)، ومات فيها سنة 1268 هـ، وهو من تلاميذ أحمد بن إدريس.
المهدية: نسبة إلى (المهدي المنتظر) محمد بن أحمد بن عبد الله، من السودان، تلقب بالمهدي المنتظر سنة 1298 هـ، واستطاع السيطرة على السودان، توفي بالوباء سنة 1302، ويعرف أتباعه أيضاً بالدراويش، وقد أخذت في فترة ما شكل الحزب السياسي، وهي غير المهدوية الهندية المار ذكرها.
اليَشْرطية: أسسها علي اليشرطي، مغربي هاجر إلى عكا في فلسطين ومات فيها سنة 1316 هـ، وهي فرع من الشاذلية، ويتحدث الناس عن منكر فيها يسمونه: التنوير، وقد انتسب إليها السلطان عبد الحميد قبل انهياره بمدة وجيزة، على يد محمود أبي الشامات (دمشقي).
المدانية: نسبة إلى محمد المداني القصيبي التونسي، من أحياء العقود الوسطى من القرن الرابع عشر الهجري، وهي منتشرة في تونس وما حولها، وهناك من يتهم المداني بالتعامل مع الاستعمار الفرنسي.
الكسْنَزانية: نسبة إلى عبد الكريم الكسنزاني، عراقي، لعل وفاته كانت بعد عام 1360 هـ، وهي موجودة في العراق ولعلها فرع من القادرية.
البريلوية: نسبة إلى أحمد رضا البريلوي، من مدينة بريلي في الهند في ولاية أتّرْبْراديش، كان يلقب نفسه (عبد المصطفى)، ويدعوه أتباعه دائماً (حضرة الأعلى)، وكان شديد سواد اللون، والبريلوية منتشرة في شبه القارة الهندية، والتشيع والانحراف واضحان فيها. مات حضرة الأعلى سنة 1340 هـ، وكان تخرجه في القادرية.
العلاوية: نسبة إلى أحمد بن مصطفى العلاوي من مستغانم في الجزائر، مات فيها سنة س 1353هـ.
الحصافية: نسبة إلى حسنين الحصافي، مصري، من أهل النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، وهي فرع من الشاذلية.
المريدية: منتشرة في السنغال، مؤسسها (أحمد بنب)، سنغالي من أحياء عام (1926م).(1/350)
الفيضية: شيخها محمود أبو الفيض المنوفي، مصري، أسس في عام 1927 م في القاهرة الكلية الصوفية التي بقيت حتى عام 1933 م. ولعله لا يزال حياً حتى كتابة هذه الكلمات؟ وهي فرع من الشاذلية.
الخليلية: نسبة إلى الحاج محمد أبي خليل، من الزقازيق في مصر، توفي بعد سنة 1945م، وهي فرع من الأحمدية.
الحتمية: فرع من الميرغنية، شيخها محمد سر الختم الميرغني من أحياء 1968م، منتشرة في السودان.
النورسية: نسبة إلى سعيد النورسي، أبرز المشايخ الذين لم يتعرضوا للتصفية في زمن مصطفى كمال، منتشرة في تركيا.
- إلى جانب هذه الطرق، طرق أخرى يسر الله سبحانه معرفة أسماء مؤسسيها، ولم يتهيأ لي معرفة أزمنتهم وأمكنتهم، وهي:
الجهرية: مؤسسها الخواجة أحمد السيوري!! منتشرة بين مسلمي الصين، حيث يجعلون مؤسسها الأول عمر بن الخطاب، وينسبونها في الوقت ذاته إلى (ماهولونج)، لعله من أحياء أوائل القرن العشرين الميلادي.
البرهانية: نسبة إلى الشيخ برهان، منتشرة في السودان ومصر، ويجب ألا نخلطها مع البرهانية الغزالية.
المشارعة: نسبة إلى أحمد بن موسى المشْرع اليمني؟
الخشنية: نسبة إلى قطب الدين الخشني؟ وأظنها تصحيفاً من (الجشتية).
النورية: نسبة إلى نور الدين الإسفراييني، وهي غير النورية القديمة المنسوبة لأبي الحسين النوري.
الوفائية: نسبة إلى أبي الوفا لعله العراقي (تاج العارفين) من أهل النصف الأول من القرن السادس؟ إن كان ذلك فهي فرع من الصديقية، وهي غير الوفائية المنسوبة إلى محمد ولا الشاذلي المصري.
العِشقية: نسبة إلى أبي يزيد العشقي، لعلها أصل للشطارية، أو لعلها فرع منها.
الغوثية: نسبة إلى غوث الله.(1/351)
العمرية: لعلها نسبة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه! وأول من دخل بالخرقة العمرية إلى الشام هو عقيل المنبجي، ويسمونه: (الطيار)، لأنه انتقل من قريته في المشرق إلى منبج في شمال الشام طائراً في الهواء. ولعل وجوده في منبج كان في العقود الوسطى من القرن السادس الهجري.
الهوازنية: أظنها نسبة إلى عبد الكريم بن هوازن، فإن كان ذلك فهي (القشيرية).
العفيفية: شيخها عفيفي أحمد الساكت، مصري، من أحياء 1968م، وهي فرع من طريقة تسمى: الهاشمية، وهي غير العفيفية الشاذلية.
القادرية: شيخها عبد القادر القادري، مصري، وهي فرع من طريقة اسمها (القاسمية)، وغير القادرية الجيلانية.
الصاوية: لعلها نسبة إلى أحمد الصاوي، فتكون فرعاً من الخلوتية.
الدمرداشية: لعلها نسبة إلى عبد الرحيم مصطفى الدمرداش، مصري، قريب.
العزازية: شيخها إبراهيم العزاوي، (ولعلها العزاوية)، مصري من أحياء 1968م.
الحبيبية: شيخها محمد عبد الباقي الحبيبي، مصري، من أحياء 1968م.
المغازية: شيخها أحمد أبو الفتح المغازي، مصري، من أحياء 1968م.
الخضيرية: شيخها محمد نور الخضيري، مصري، من أحياء 1968م.
المروانية: شيخها محمد يوسف مروان، مصري، من أحياء 1968م.
الطرق الست الأخيرة، ليس من الضروري أن يكون مؤسسوها هم المشايخ المذكورة أسماؤهم، فقد يكون بعضهم، أو كلهم، ورثوا مشيختها عن آبائهم أو أجدادهم.
أهل الحق: طريقة متفرعة عن الصفوية وفيها غلوها، منتشرة في القرى العراقية والإيرانية الواقعة بين السليمانية وخانقين، وهي الآن أقرب إلى أن تكون فرقة دينية. وطرق متفرعة عن الجشتية منتشرة في الهند وفي غيرها (أجهل عصر مؤسسيها):
النظامية: نسبة إلى نظام الدين البدايوني، وهي فرع من الجشتية.
الصابرية: نسبة إلى علاء الدين بن أحمد الصابر، وهي فرع من الجشتية من أهل الوحدة المطلقة.(1/352)
الكَيسودرازية: منسوبة إلى السيد محمد بن يوسف الحسيني الدهلوي المدفون بكَلبركَة، وهي فرع من النظامية.
الحسامية: شيخها الشيخ حسام الدين المانكبوري، وهي فرع من النظامية أيضاً.
الصفوية المينائية: شيخها صفي الدين السائنيوري وهي فرع من النظامية أيضاً.
الفخرية: شيخها مولانا فخر الدين الدهلوي وهي فرع من النظامية.
وطرق متفرعة عن النقشبندية ومنتشرة في الهند وفي غيرها، أجهل، عصر مؤسسيها:
الباقية: شيخها رضي الدين أبو المؤيد عبد الباقي بن عبد السلام النقشبندي الدهلوي وقد تفرعت عنها المجددية المار ذكرها، ومنها تشعبت الطرق التالية:
الزبيرية: شيخها زبير بن أبي العلا بن محمد نقشبند، فرع من المجددية.
المظهرية: للشيخ شمس الدين حبيب الله جانجانان العلوي الدهلوي، فرع من المجددية.
الأحسنية: شيخها آدم بن إسماعيل البنوري، وهي فرع من الباقية، والولي اللاهية، والمحمدية الأحسنية فرعان منها.
العَلَمية: للشيخ علم الله بن فضيل البريلوي، فرع من الأحسنية.
* وطرق متفرعة عن النقشبندية الممزوجة بالجشتية، منتشرة في الهند.
العلائية: للأمير أبي العلاء بن أبي الوفاء الحسيني النقشبندي الأكبرآبادي، وهي مزج للطريقة النقشبندية ببعض أشغال الطريقة الجشتية.
المحمدية العلائية: شيخها محمد بن أبي سعيد الكالْبوي، فرع من العلائية.
المنعمية: للشيخ منعم بن عبد الكريم البهاري، فرع من العلائية.
الأفضلية: للشيخ محمد أفضل بن عبد الرحمن العباسي الإله آبادي، فرع من العلائية.
* وطرق متفرعة عن الكبروية منتشرة في الهند.
اليعقوبية: للشيخ يعقوب بن الحسن الصرفي الكشميري، وهي فرع من الهمدانية التي مر ذكرها والتي هي بدورها فرع من الكبروية.
الفردوسية: شيخها الإمام شرف الدين أحمد بن يحيى المنيري، تخرج في الكبروية.
* وطرق متفرعة عن الشاذلية، يمكن أن يكون مؤسسوها آباء أو أجداداً للمشايخ المذكورين وكلهم مصريون من أحياء 1968م.(1/353)
القاوقجية: شيخها محمد رضا أبو الفتح القاوقجي.
الجوهرية: شيخها رفعت الجوهري.
المحمدية الشاذلية: شيخها محمد زكي إبراهيم، ويجب ألا نخلطها مع الطرق المحمدية الأخرى.
الإدريسية: شيخها الحسن الإدريسي، وهي غير الإدريسية التي تفرعت عنها الرشيدية.
العفيفية: شيخها محمد عبد الباقي العفيفي، وهي غير العفيفية الهاشمية، وكلتاهما منتشرتان في مصر.
العزمية: شيخها أحمد ماضي أبو العزائم، منتشرة في مصر، ويوجد في سورية أيضاً طريقة (العزمية) ولا أعرف إن كانت نفس هذه الطريقة المتفرعة عن الشاذلية، أم غيرها؟
العَروسية: لعلها نسبة إلى مصطفى العروسي، شيخ الجامع الأزهر بين عامي 1860م - 1870م.
الناصرية، القاسمية، السالمية، الهاشمية المدنية، الحامدية.
* وطرق أخرى متفرعة عن الأحمدية (السطوحية)، مشايخها المذكورون مصريون من أحياء 1968م، ويمكن أن يكونوا ورثوا المشيخة عن آبائهم أو أجدادهم.
المنايفة: نسبة إلى عبد الله فؤاد المنوفي.
الفرغَلية: نسبة إلى أحمد صبري الفرغلي.
الشعيبية: نسبة إلى محمد حسن الشعيبي.
الشناوية: نسبة إلى حسن محمد سعيد الشناوي.
السالمية: وهي غير السالمية الشاذلية، وهما غير السالمية القديمة التي تخرج بها أبو طالب المكي.
الكناسية، الزاهدية، الإمبابية، المرازقة، الحلبية، التسقائية، البيومية.
* وطرق متفرعة عن الخلوتية (ولها نفس الملحوظات على سابقتها).
المصلحية: شيخها عبد العزيز المصيلحي.
المسلمية: شيخها محمد حسن المسلمي، وهي غير المسلمية التي مرت قبل صفحات.
العلوانية: شيخها محمد محمود علوان.
الشبراوية: شيخها مصطفى عبد الخالق الشبراوي.
الطيفية: شيخها أحمد محمد طيف.
الغُنَيْميَّة: كنية مؤسسها (الغُنيمي)، لا أعرف اسمه، لكن له ذرية من أحفاده هاجروا إلى دمشق، وقد هداهم الله له المنة، فنبذوا باطل الصوفية، وصار منهم دعاة إلى الحق والهدى.
البهوتية: فرع من الخلوتية.(1/354)
* وطرق متفرعة عن البرهامية (ولها نفس الملحوظات على سابقاتها):
الشهاوية: شيخها أبو المجد الشهاوي.
الزنوبية: فرع من البرهامية.
* وطرق لم أستطع العثور على أكثر من أسمائها (إلا الشيء القليل):
الخاكْساوية: فرع من النعمتللاهية، منتشرة بين الشيعة في إيران والهند.
المغربية: لعلها فرع من الرحمانية المغربية (الخلوتية)، ولعلها هي نفسها؟
الخوْفية أو (الخفية): أتباعها لا يجهرون بأذكارهم (الجالسة الصامتة)، منتشرة بين مسلمي الصين، وينسبونها هناك إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
البكرية: لعلها نسبة إلى أبي بكر بن هواري، فتكون هي (الصديقية).
الدرويشية: منتشرة في شمال إفريقية، ولعلها المهدية.
التسعينية: منتشرة في السودان.
البرهومية: منتشرة في السودان ومصر.
النُّورانية: منتشرة في الهند.
الغُرابية: وهي غير الغرابية، الفرقة الشيعية التي ذابت فيما بعد في المتاولة.
الدندراوية: منتشرة في العراق.
الديوبندية: نسبة إلى مدينة ديوبند في الهند.
القاسمية: هي غير القاسمية الشاذلية، وكلتاهما منتشرتان في مصر، ومنها تفرعت القادرية (غير الجيلانية).
الهاشمية: منها تفرعت العفيفية ولا أعرف إن كانت هي نفس الهاشمية المدنية، منتشرة في مصر.
الأحمدية الكتانية: منتشرة في المغرب.
الشيبانية: فرع من التغلبية الآتي ذكرها.
العزمية: منتشرة في سورية، ولا أعرف إن كانت هي نفس (العزمية الشاذلية) أم غيرها.
الكاكائية: منتشرة بين الأكراد في شمال العراق، ولعلها نسبة إلى اسم قبيلة، أو بمعنى (الأخوية).
الإبراهيمية: منتشرة في الأكراد شمال العراق، وهي الآن أقرب إلى أن تكون فرقة دينية، ومثلها: الشَّبَك، والماولية، والباجوان، وكلها منبثقة عن تفاعل بين البكتاشية والقيزلباشية.
الجنابذية: منتشرة في إيران، ولعلها حديثة العهد.
الكونايادية، الصفائية، الأوجاغية: هذه الطرق الثلاث موجودة في شمال إيران الغربي، وشمال العراق، وفي الأناضول الشرقي.(1/355)
السعيدية، التغلبية، الخواطرية، الحيدرية، الخزنوية، اليسوية.
كما يتحدثون عن الطريقة (المحمدية) وهي أن محمداً صلى الله عليه وسلم يأتي بذاته، ويلقنها للشيخ العارف، في اليقظة لا في المنام، (أي: يلقنه أورادها)، وطبعاً يرونه بالكشف.
وممن قالوا عن أنفسهم: إنهم على الطريقة المحمدية: محمد الخلوتي، عبد الغني النابلسي الذي صنف فيها كتاب: (شرح الطريقة المحمدية)، أحمد بن إدريس، أحمد التجاني، وطبعاً هناك غيرهم.
هذا ما يسره الله له الحمد، مع العلم أن بعض هذه الطرق اندثرت أو ذابت في طرق نشأت على أنقاضها، وبدهي أن طرقاً كثيرة غيرها وجدت ولم يتهيأ لي الوقوف عليها، وخاصة ما كان في إندونيسيا، وماليزيا، وسريلانكا، وإفريقيا الوسطى والجنوبية، وفي روسيا.
وأذكر هنا أيضاً، أن هذه ليست طرقاً بالمعنى الصحيح، إنما هي تبعيات لمشايخ فقط، لذلك كان الصحيح أن تسمى الواحدة منها (المشيخة)، فيقال: المشيخة الرفاعية، والمشيخة القادرية، والمشيخة النقشبندية، والمشيخة السهروردية، والمشيخة البرهامية، والمشيخة الأحمدية، والمشيخة الشاذلية، والمشيخة الخلوتية...إلخ.
وفي إيران يستعملون غالباً كلمة (مكتب)، أي: مدرسة، بدلاً من كلمة (طريقة). وهناك ملحوظة هامة جداً، وهي أن أكثر مؤسسي الطرق يجعلون نسبهم متصلاً بفاطمة الزهراء، ولهم في معرفة ذلك طريقان: الكشف والادعاء الجريء، والذين لا يفعلون ذلك قليلون بينهم.
كما يلاحظ أن هناك مركزين رئيسيين، كانت تنشأ فيهما الطرق الصوفية، ثم تنتشر منهما في بقية البلاد.
أ- مصر: وتأتي في الدرجة الأولى من حيث الكمية، وفي المرحلة الثانية تاريخياً، مع ملحوظة أن عدداً مرموقاً من مشايخها وفدوا إليها من المغرب.
ب- العراق: وتأتي في الدرجة الثانية من حيث الكمية، وفي المرحلة الأولى تاريخياً، مع ملحوظة أن عدداً مرموقاً من مشايخها وفدوا إليها من فارس.
وطبعاً؛ سيل الطرق لا ينقطع، ففي كل يوم جديد.(1/356)
وقد ظهرت مؤخراً طريقة جديدة في مصر اسمها: (العصبة الهاشمية والسدنة العلوية والساسة الحسينية الحسنية)، يقودها رجل من صعيد مصر يسميه أتباعه: (الإمام العربي)، وهو يعتزل الناس في صومعة، ويمرون عليه صفوفاً يسلمون عليه ويحدثونه، ويمنحهم البركات ويكشف لهم المخبوء، كل هذا من وراء ستار، فهم يسمعون صوته ولا يرون شكله، إلا المقربون.
أما المقامات؛ فلعل أفضل مكان توضع فيه هو لافتات دعائية تنصب على قارعات الطرق، ويوضع إلىجانبها عباراتهم التي وضعوها كتعاريف للصوفية.
مع ملاحظة هامة: وهي أن الذكر الإرهاقي عند متصوفة المسلمين هو الأساس، وقد يغني عن الرياضة.
الباب الثالث
الوصول
الفصل الأول
الأحوال والمقامات وتوابعها
تردد في أقوالهم وكتبهم كلمات: (الوصول والواصل والواصلون)، فما هو الوصول؟
يبدأ الوصول عادة بخرق العادة، ثم الجذبة، ثم المناظر الجذبية التي يسمونها: الكشف، وقد يصل بعضهم إلى الجذبة بدون المرور بخرق العادة.
ولكنهم، في افتراءاتهم، يدعون أمام أهل الظاهر (أهل الشريعة)، أن غاية التصوف هو الوصول إلى ما يسمونه: (المقامات)، وكثيراً ما يؤكدون هذا في كتبهم، حتى خدع بذلك المخدوعون، بل وخدع به بعضهم، فأخذوا يمارسون وسائل شتى، ليتحققوا بما يتوهمونه من مقامات، فما هي هذه المقامات، وما هي الأحوال؟
التعريف نأخذه من كتاب: (تربيتنا الروحية) لسعيد حوى، وهو التعريف الذي استقر عليه أكثر الصوفية منذ مئات السنين، يقول:
يتحدث الصوفية عن شيء اسمه: (حال)، وعن شيء اسمه: (مقام)، ويعتبرون الحال هو مقدمة المقام، فمثلاً أول ما يبدأ الإنسان يشتغل بالذكر، يصل إلى طمأنينة مؤقتة للقلب لا تلبث أن تزول، فهذا حال فإذا تابع الإنسان الذكر وصل إلى طمأنينة دائمة للقلب، فهذا مقام...(1).
إذن..
الحال: هو ما يرد على القلب فجأة ودون تعمد، ثم يزول بسرعة، وهو أوائل المقام.
__________
(1) تربيتنا الروحية، (ص:191).(1/357)
المقام: هو استمرار الحال واستقراره ودوامه بحيث يصبح صفة دائمة لصاحبه.
وهم يختلفون في المقامات- نوعها وعددها- اختلافاً كبيراً!
فهي عند الطوسي في (لمعه) سبعة: التوبة، والورع، والزهد، والفقر، والصبر، والتوكل، والرضا الذي هو آخر المقامات(1).
وهي عند أبي طالب المكي في (قوت القلوب) تسعة: التوبة، والصبر، والشكر، والرجاء، والخوف، والزهد، والتوكل، والرضا، والمحبة(2).
وهي عند أبي بكر الكلاباذي في (التعرف لمذهب أهل التصوف) غامضة، فهو يذكر المقام ويُعرفه تعريفاً ينقصه الوضوح: لكل مقام بدء ونهاية، وبينهما أحوال متفاوتة، ولكل مقام علمٌ، وإلى كل حال إشارة، ومع كل مقام إثبات ونفي...، حيث نرى أنه لم يكن للحال والمقام معنى واضح عنده، كما أنه يأتي بمَثَل على المقام (الإيمان والأمانة)، ولم أرهما عند غيره، إلا مقام الإيمان عند السهروردي.
وبعد صفحات يفتح الكلاباذي أبواباً للتوبة والزهد والصبر والفقر والتواضع والخوف والتقوى والإخلاص والشكر والتوكل والرضا واليقين والذكر والأنس والقرب والاتصال والمحبة، وعددها سبعة عشر، لكنه لم يُسمها (مقامات)، وإنما جعل لكل منها باباً مثل بقية أبواب الكتاب، وعليه نستطيع أن نقرر أن المقامات لم تكن واضحة المدلول عند الكلاباذي! ولم يكن يَعْرف ما هي!
والمقامات عند القشيري في (رسالته) غير واضحة كذلك، فبالرغم من أن تعريفه للمقام فيه شيء من الوضوح، لكن ماهية المقامات غير واضحة! فهو يورد أمثلة على النحو التالي: من لا قناعة له لا يصح له التوكل، ومن لا توكل له لا يصح له التسليم، وكذلك من لا توبة له لا تصح له الإنابة، ومن لا ورع له لا يصح له الزهد..(3). من هذا النص نستطيع أن نقول: إن المقامات عند القشيري هي: القناعة، والتوكل، والتسليم، والتوبة، والإنابة، والورع، والزهد.
__________
(1) اللمع، (ص:68 - 80).
(2) قوت القلوب: (1/178).
(3) الرسالة القشيرية، (ص:32).(1/358)
على أنه بعد صفحات، يورد أبواباً مثل بقية أبواب الكتاب للتوبة، والمجاهدة، (والخلوة والعزلة)، والتقوى، والورع، والزهد، (والصمت) والخوف، والرجاء، والحزن، (والجوع وترك الشهوة)، والخشوع، والتواضع، ومخالفة النفس، (والحسد والغيبة)، والقناعة، والتوكل، والشكر، واليقين، والصبر، والمراقبة، والرضا، والعبودية، والإرادة، والاستقامة، والإخلاص، والصدق، والحياء، (والحرية والذكر والفتوة)، وعددها ثلاثون.
ويقول عن التوبة (في باب التوبة): إنها أول المقامات، كما يخلط معها (الحسد والغيبة)، وفي هذا الكثير من الغرابة.
أما الغزالي في إحيائه، فالمقامات عنده مثيرة للاستنكار والتساؤلات!!
فهو يقسِّم إحياءه إلى أربعة أقسام أو (أرباع)، فيجعل الربع الأول للعبادات، ويجعل الربع الرابع (الأخير) للمقامات التي يسميها (المنجيات).
ومن هنا ينبعث الاستنكار والتساؤل!!
لأن من بدهيات الإسلام، وما يُعرف من الدين بالضرورة، أن العبادات هي المنجيات، فنسأل هذا الذي سموه (حجة الإسلام) نسأله: كيف يجعل المنجيات غير العبادات؟! وما هو حكم الإسلام في هذا؟
في واقع الأمر، هذا التقسيم هو عقيدة المتصوفة جميعاً، والدليل على ذلك تقديسهم لكتاب إحياء علوم الدين، وتواصيهم بقراءته وتعلمه وتعليمه، حتى قالوا: (بِعِ اللحيةَ واشتَرِ الإحيا)، وتقديسهم لمؤلفه وتعظيمهم له حتى سموه: (حجة الإسلام). ومقاماته هي: التوبة، والصبر، والشكر، والخوف، والرجاء، والفقر، والزهد، والتوحيد، والتوكل، والمحبة، والشوق، والأنس، والرضا، والنية أو (الإرادة)، والإخلاص، والصدق، والمراقبة، والمحاسبة، وعددها ثمانية عشر. هذه هي المنجيات عند حجة الإسلام!! ونعرف أن مثلها موجود في كل الوثنيات.
ننتقل إلى غيره، فنرى ابن سبعين في (بُد العارف) يقفز بالرقم عالياً، حيث يقول:(1/359)
...والقسم الأول من القسم الأول(1) من التصوف، هو الذي أدركه رجال الرسالة القشيرية، واليه أشار ابن العريف في (محاسنه)، و(مفاتح المحقق)(2)، وهو مركب من طريق وسلوك ووصول وفناء عن الوصول، ولواحقه مائة وخمسون؛ كالصبر، والحلم، والعلم، وغير ذلك يطول ذكره، وهو مقام الغزالي، وجميع من تكلم في التصوف بالعلوم الصناعية، غير أنه لم يحققه على ما يجب(3).
- يحق لنا أن نتساءل أمام هذا النص: من أين أتى ابن سبعين بـ (العدد: مائة وخمسين)؟! لا نعرف. لعله كان عن طريق الكشف!!
على أن الملاحظ أنه لا يهتم (هو نفسه) بالمقامات، بل ويظهر من كلامه أنه ينتقد متصوفة المقامات، ويسمي تصوفهم: (التصوف بالعلوم الصناعية).
ومن الملاحظ أنه لا يجعلها من صميم التصوف، بل يسميها: (لواحق).
كما أن من الملاحظ عند ابن سبعين أنه يصب اهتمامه على المجاهدة، وعلى بدئها بالاعتقاد بوحدة الوجود، والتركيز عليها، وهذا عكس طريقة رجال (الرسالة القشيرية) الذين يُعَرِّفون السالك بوحدة الوجود بعد الجذبة، أو بعد أن يقطع شوطاً كافياً بالمجاهدة.
والمقامات عند ابن البنا السرقسطي واحد وتسعون مقاماً أو أكثر. يقول:
ألقَوا إليه من صفات النفس ... ... ما كان فيها قبل ذا من لَبْس
وهي إذا أنكرتَها فَلْتعرف ... ... إحدى وتسعين وقيل: نيِّف(4)
يعني بقوله: (صفات النفس)، الصفات المذمومة التي يدعون أنهم يغيرونها بالصفات الحميدة، التي هي المقامات، ويقولون: إن كل صفة مذمومة يقابلها صفة محمودة، وبذلك تكون المقامات عند السرقسطي إحدى وتسعين ونيفاً.
__________
(1) نسبة إلى تقسيم سابق لهذا الكلام.
(2) كتابان لابن العريف: (محاسن المجالس)، (مفاتح المحقق).
(3) بد العارف، (ص:128).
(4) من قصيدة (المباحث الأصلية).(1/360)
والمقامات عند عمر السهروردي (إمام الوجود)، شيء آخر، يقول: ...وإني بمبلغ علمي وقدر وسعي وجهدي اعتبرتُ المقامات والأحوال، وثمرتها، فرأيتها بجميعها ثلاثة أشياء بعد صحة الإيمان...فصارت مع الإيمان أربعة(1) وهي: الإيمان، والتوبة، والزهد، والعبودية.
ويضيف: ثم يستعان على إتمام هذه الأربعة بأربعة أخرى، بها تمامها وقوامها...وهي: قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام، والاعتزال عن الناس(2)....
نلاحظ في قول السهروردي البغدادي ما يلي:
1- احتاجت المقامات والأحوال منه أن يبذل وسعه وجهده، بمبلغ علمه، ليعتبرها ويثمرها، وهذا يعني بوضوح أنها مطموسة المعالم، ومجهولة الآثار، لذلك احتاجت منه هذا الجهد ليعتبرها.
2- لم يفرق بين المقامات والأحوال، بل يظهر من قوله أنها عنده شيء واحد.
3- جعل الإيمان مقاماً، ولم أر أحداً شاركه هذه النظرة غير الكلاباذي.
4- جعل قلة الكلام وقلة الطعام وقلة المنام والاعتزال عن الناس مقامات! ولعل القارئ انتبه إلى أن هذه الأربعة هي عناصر الرياضة الصوفية: الصمت، والجوع، والسهر، والخلوة)، أي إن السهروردي جعل عناصر الرياضة الصوفية من المقامات! ولعله ينفرد بهذه النظرة.
- وعند ابن عجيبة هي: المحاسبة، والمراقبة، والمشاهدة، والتحقق بالفناء، والبقاء، وعين اليقين، وحق اليقين، وكذلك التوبة، والورع، والزهد، والتوكل، والرضا، والتسليم، فيكون عددها ثلاثة عشر مقاماً.
__________
(1) عوارف المعارف في هامش الإحياء: (4/261).
(2) عوارف المعارف: (4/262).(1/361)
- وفي كتاب (الصوفية بن الأمس واليوم) يورد مؤلفه قولاً لأبي سعيد بن أبي الخير يجعل المقامات أربعين: النية، والإنابة،...وآخرها التحقيق، ثم النهاية، ثم التصوف. حيث نرى فيها مقامات يكاد ينفرد بها مثل: (مقام الجهد، والولاية، والوجد، والوصال، والكشف، والخدمة، والتفكر، والتجريد، والتفريد، والانبساط) كما نراه يخلط ما قبل الجذبة بما بعدها، بينما أكثر الآخرين يجعلون المقامات في الطريق إلى الجذبة (أي: قبلها).
- بينما نرى عبد الحليم محمود في كتابه (أبو مدين الغوث) يجعل المقامات خمسة فقط: التوبة، والورع، والزهد، والمحاسبة، والمراقبة.
وفي الطريقة القادرية يجعلون المقامات سبعة تختلف عما رأيناه، وهي: النفس الأمارة والنفس اللوامة، والنفس الملهمة، والنفس المطمئنة، والنفس الراضية، والنفس المرضية، والنفس الكاملة(1).
ويجعلون الأحوال صفات للمقامات: فالنفس الأمارة حالها الميل، واللوامة حالها المحبة، والملهمة حالها العشق، والمطمئنة حالها الوصلة، والراضية حالها الفناء، والمرضية حالها الحيرة، والكاملة حالها البقاء(2).
- والمقامات عند عبد القادر عيسى اثنا عشر مقاماً، هي: التوبة، والمحاسبة، والخوف، والرجاء، والصدق، والإخلاص، والصبر، والورع، والزهد، والرضا، والتوكل، والشكر(3)، يذكرها في الصفحة الأولى من الباب الثالث من كتابه.
وبعد خمس صفحات يورد النص الآتي:
__________
(1) الفيوضات الربانية: (ص:37).
(2) الفيوضات الربانية، (ص:37).
(3) حقائق عن التصوف، (ص:269).(1/362)
قال أبو بكر الكتاني وأبو الحسن الرملي رحمهما الله تعالى: سألنا أبا سعيد الخراز، فقلنا: أخبرنا عن أوائل الطريق إلى الله تعالى؟ فقال: التوبة، وذكر شرائطها، ثم ينقل من مقام التوبة إلى مقام الخوف، ومن مقام الخوف إلى مقام الرجاء، ومن مقام الرجاء إلى مقام الصالحين، ومن مقام الصالحين إلى مقام المريدين، ومن مقام المريدين إلى مقام المطيعين، ومن مقام المطيعين إلى مقام المحبين، ومن مقام المحبين إلى مقام المشتاقين، ومن مقام المشتاقين إلى مقام الأولياء، ومن مقام الأولياء إلى مقام المقربين(1)...
أي: إن عبد القادر عيسى يثبت أن المقامات الخرازية، وعددها عشرة، تختلف عن مقاماته بالكم وبالكيف.
كما نرى أيضاً أن الخراز يذكر مقامات لم يقل بها الآخرون! فمقامات (الصالحين والمريدين والمطيعين والمحبين والمشتاقين...)، ما رأيناها فيما مر معنا من أقوالهم، ولعله ينفرد بها في طريقته.
- كما يلاحظ أن سعيد حوى أثبت مقاماً واحداً (الطمأنينة)، ولم أجده إلا في القادرية والعيدروسية.
في هذه النصوص كفاية، تجنباً للإطالة، ويتبين منها (ومن غيرها) ما يلي:
1- يختلفون في تعريف المقام والحال (وخاصة قرونهم الأولى).
2- يختلفون في عدد المقامات اختلافاً كبيراً.
3- يختلفون في ماهيتها (أي: ما هي المقامات؟) اختلافاً مثيراً للانتباه!
4- بعضهم لا يهتم بها، كابن سبعين (بل كلهم).
5- في واقع الأمر، ليست المقامات من أهداف التصوف، وليس لها دور أو شأن في الوصول إلى الغاية التي هي الجذبة، التي يذوقون فيها الألوهية ويستشعرون وحدة الوجود، وأقوالهم في هذا كثيرة جداً، رأينا بعضها في فصول سابقة، ونضيف إليها قولاً واحداً - تجنباً للإطالة- لعبد القادر عيسى، يقول:
__________
(1) حقائق عن التصوف، (ص:274).(1/363)
فالانقطاع في الطريق مصيبة كبرى وخسران مبين، وسببه موافقة السالك لشهوات نفسه، وتطلعه للمقامات والكشوفات، وانحرافه عن مقصده الأسمى، فالسالك الصادق المخلص لا يطلب المقامات ولا يقصد المراتب والكرامات، إنما هي منازل يقطعها في طريقه إلى الغاية الكبرى دون انحراف أو التفات.
وكل مقام لا تقم فيه إنه ... ... حجاب فجد السير واستنجد العونا
فلا تلتفت في السير غيراً وكل ما ... ... سوى الله غير فاتخذ ذكره حصنا
ومهما ترى كل المراتب تجتلي ... ... عليك فحُل عنها فعن مثلها حُلنا
وقل ليس لي في غير ذاتك مطلب ... ... فلا صورة تجلى ولا طرفة تجنى(1)
من كل ما تقدم، نستطيع أن نقرر مطمئنين، أن المقامات هي عناوين بلا مواضيع،
أو هي تنطعات دعائية، من تنطعات ذي النون المصري، ونرى ما يشبهها في الجينية والهندوكية والبوذية...
ومع ذلك فقد خُدع بها بعضهم وظنها واقعية! حيث نرى بعضهم يريد أن يصحح حاله في التوكل، وآخر في الصبر...إلخ، لكن الشيوخ كانوا ينبهونه إلى غلطه. وعلى كل حال، يجب أن نعرف أن عندهم مقامات حقيقية غير هذه، نعرفها من وصف القوم لأحوالهم ومشاهداتهم، وهي:
1- مقامان هما نتاج الطريقة، أي إن الطريقة (الإشراقية) تؤدي إليهما، وهما:
أ- مقام الاستخدار: يفقد فيه السالك القدرة على المحاكمة الصحيحة، والفهم المميز للأمور والأشياء، ويظهر عليه ما يُشبه الخبال، ويغدو قابلاً للتأثر بالمخدرات المعروفة (الحشيش والأفيون وزمرتهما) بكمية أقل من الكمية التي كان يتأثر بها عندما كان سليماً، وتقل هذه الكمية كلما زاد رسوخ هذا المقام في كيانه، ولذلك كان الاسم (الاستخدار) اسماً مناسباً لهذا المقام.
وفي هذا المقام يفقد السالك أيضاً اهتمامه بأي أمر آخر من أمور الدنيا والآخرة، ولا يبقى في نفسه من شاغل إلا الوصول إلى المقام الثاني (الجذبة).
__________
(1) حقائق عن التصوف، (ص:277، 278)، والأبيات من قصيدة للششتري.(1/364)
ب- مقام الجذبة: ويسمونها أسماء كثيرة مثل: (الغيبة، والصعقة، والمحو، والفناء عن الخلق...)، ويريدون بالاسم (الجذبة) أن الله سبحانة يجذب بها السالك إليه، و(الغيبة) أي عن الإحساس بالموجودات، و(الصعقة) أخذوها من الآية الكريمة: ((وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا)) [الأعراف:143]، ليوهموا أنفسهم ويوهموا الناس أن صعقة موسى صلوات الله عليه هي جذبة مثل جذباتهم، و(المحو) أي عن الشعور والإحساس، وهي تشبه الحالة التي تحصل لمتعاطي المخدرات شبهاً كاملاً، يكون فيها المجذوب نائماً مثل يقظان، أو يقظان مثل نائم، أو كما يصفه القشيري: إذا كان الغالب عليه المحو فلا علم ولا عقل ولا فهم ولا حس(1).
والجذبة هي الولاية، فكلمة الولي تعني الذي وصل إلى الجذبة، وكلمة الواصل أيضاً تعني الذي وصل إلى الجذبة.
وتبدأ الجذبة بصورة عامة بشكل (حال)، أي تكون سريعة الزوال، بطيئة المنال، ثم مع الدوام على ممارسة الرياضة، تصير (مقاماً)، أي تصير بطيئة الزوال سريعة المنال.
2- مقامان ناتجان عن توجيهات الشيخ وإيحاءاته، ويختصان بالرؤى الهلوسية (أحلام الجذبة) التي يراها المجذوب، ولولا الشيخ وإيحاءاته لكانت هذه الرؤى مثل رؤى الحشاش والأفيوني تماماً، ولذلك قالوا: من لا شيخ له فشيخه الشيطان، وقالوا: وصحبة شيخ وهي أصل طريقهم فما نبتت أرض بغير فلاحة وهاذان المقامان هما:
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:35).(1/365)
أ- مقام الجمع، أو الفناء في الله، أو الحضور بالله، أو الوجود، أو الإحسان، أو الحرية (مقابلة مع العبودية)...الخ، تمتاز أحلام الجذبة عموماً، بالجرأة البعيدة، والقفز فوق الواقع، وتكون متناغمة كلها مع عواطف المجذوب وأمانيه ومعلوماته المختزنة، لذلك يعمل الشيخ على حقنه بعواطف وأماني جديدة تدور كلها حول رؤية الأنبياء والملائكة، ثم العروج إلى الله (جل وعلا)، ثم الفناء فيه، أي: التحقق بالألوهية، وهو مقام الجمع الذي تبدأ رؤاه بشكل (حال)، ثم تتطور حتى تصير (مقاماً)، وتعني كلمة (الجمع) أي جمع الخالق والمخلوق في وحدة واحدة.
وفي هذا المقام تنطلق العبارات المخيفة مثل: (أنا الله، سبحاني، لا إله إلا أنا...)، وما شابهها، وهي عبارات تقود قائلها إلى سيف الردة، وتدفع المسلمين للانتفاض على الصوفية والقضاء عليها، مهما كانت غفلتهم، لذلك يعمل الشيخ على إيصال المجذوب إلى مقام البقاء.
ب- مقام البقاء، أو صحو الجمع، أو الفرق الثاني، أو الفرق في الجمع، أو الجمع في التفرقة، أو الإطلاق، أو العبودة، (يجعلون في افتراءاتهم كلمة (عبد) في الآية: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ)) [الإسراء:1] أنها من العبودة).
يبدأ الشيخ بتدريب المريد على العودة إلى الإحساسات العادية والتمييز، ليعترف أمام الناس بالمخلوقية والعبودية مع تحققه بالألوهية، حيث تتحقق حكمتهم أو قانونهم: اجعل الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً، وهم يفترون على الأنبياء أنهم كانوا في هذا المقام، وهو عندهم مقام الكمّل.
3- مقام لا علاقة له بالطريقة ولا بالشيخ هو (جمع الجمع)، أو (البقاء في الله)، وقد يسميه بعضهم: (الإطلاق).
وهم يختلفون في تعريفه، فهو عند بعضهم الاستغراق في مقام البقاء، بحيث يصبح الواصل دائم الشعور بالألوهية، وأنه هو الله (جل وعلا)، بكل أسمائه وصفاته، وبنفس الوقت يرى نفسه ويرى الأشياء كما يراها الآخرون.(1/366)
وهو عند بعضهم الآخر الغيبة الدائمة عن الإحساس، والجذبة المستمرة ليلاً ونهاراً بحيث يفقد الشعور، ومثل هذا يهمل كل شيء من أمور الدين وبعض أمور الدنيا، (مثل أحمد البدوي وغيره). ومنهم من يبقى عرياناً مكشوف العورة أمام الناس، ومنهم من يقبع في مكانٍ ما من الجبال أو البراري فاقد الوعي، (وكشف العورة حالة ملازمة). ومنهم من يأتي البهائم في الشوارع أمام الناس، ويؤولون له ذلك بأن سفينة في البحر على وشك الغرق وهو يسندها لينقذها، إلى آخر القائمة التي تحتوي أمثال هؤلاء المخابيل الذين نراهم في الأسواق، وفي مستشفيات المجانين، وفي مخابئ التحشيش.
4- مقامهم قبل الأخير في الموقف بين يدي الله، ((يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا)) [النبأ:40] هذه هي المقامات الحقيقية، ولا شيء غيرها، إلا دجلياتهم.
مع العلم أن أول من تكلم بمقاماتهم الموهومة، ووضع لها بعض الأسماء هو- كما يقولون- ذو النون المصري، ولعله أراد بذلك الدعاية للتصوف، ولعل الجنيد أراد منافسته فسبقه بأشواط.
وهذه بعض أمثلة من بعض ممارساتهم لبعض مقاماتهم التي يتنطعون بأسمائها:
* من مقام التوبة:
يقول الغزالي في كتاب التوبة، وهو الأول من ربع المنجيات:(1/367)
...وحُكي عن أبي عمرو بن علوان، في قصة يطول ذكرها، قال فيها: كنت قائماً ذات يوم أصلي، فخامر قلبي هوى طاولته بفكرتي، حتى تولد منه شهوة الرجال، فوقعت إلى الأرض، واسودَّ جسدي كله، فاستترت في البيت، فلم أخرج ثلاثة أيام، وكنت أعالج غسله في الحمام بالصابون، فلا يزداد إلا سواداً، حتى انكشف بعد ثلاث، فلقيت الجنيد، وكان قد وجه إلي فأشخصني من الرقة، فلما أتيته قال لي: أما استحييت من الله تعالى؟ كنت قائماً بين يديه، فساررت نفسك بشهوة حتى استولت عليك برقَّة، وأخرجتك من بين يدي الله تعالى! فلولا أني دعوت الله لك، وتبتُ إليه عنك، للقيت الله بذلك اللون؟ قال: فتعجبت كيف علم بذلك؟ وهو ببغداد وأنا بالرقة(1). اهـ.
* الملحوظات:
- نلاحظ أنه تاب عن غيره، ويكفي لبيان هذا الضلال آيتان من عشرات الآيات والأحاديث: ((قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا. قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا)) [الجن:21، 22]
- ونلاحظ أيضاً أنه جعل سواد الجلد في الدنيا عقوبةً من الله! وهذا جهل بالإسلام، إذ لو كان السواد في الدنيا عقوبةً أو سوءاً، لما كان بلال أسود البشرة، كما أن القرآن الكريم يخبرنا أنه ما من أمة إلا وظهر فيها نبي منها ((وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيْهَا نَذِيْرٌ)) [فاطر:24]، ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ)) [إبراهيم:4]، وهذا يعني أن الأمم الزنجية، مثلهم مثل غيرهم، ظهر فيهم أنبياء زنوج، فهل كان هؤلاء الأنبياء مغضوباً عليهم من الله سبحانه بسبب سواد بشرتهم؟!
- ثم لنلاحظ الدور الواضح الذي قامت به شياطين الجن في هذه التمثيلية وأمثالها.
- هذه صورة من مقاماتهم التي يسميها الغزالي (المنجيات).
وصورة أخرى:
* من مقام التوكل:
يقول الغزالي إياه، في إحيائه إياه:
__________
(1) الإحياء: (40/48)، ونشر المحاسن الغالية، (ص:68) وغيرها.(1/368)
...قال أبو موسى الديلي: قلت لأبي يزيد: ما التوكل؟ فقال: ما تقول أنت؟ قلت: إن أصحابنا يقولون: لو أن السباع والأفاعي عن يمينك ويسارك، ما تحرك لذلك سرك. فقال أبو يزيد: نعم، هذا قريب، ولكن لو أن أهل الجنة في الجنة يتنعمون، وأهل النار في النار يعذبون، ثم وقع بك تمييز بينهما، خرجتَ من جملة التوكل(1) اهـ.
هذه صورة من مقام التوكل عندهم، الذي هو من المنجيات عند الغزالي! ولا أرى حاجة للتعليق عليه، فهو أوضح، بل أقبح، بل أبعد ضلالاً من أن يحتاج إلى تعليق (أهل النار وأهل الجنة سيان!).
وصورة ثالثة:
* من مقامي التوكل والصبر:
يقول الغزالي نفسه:
...والمتوكلون.. على ثلاثة مقامات. الأول: مقام الخواص ونظرائه، وهو الذي يدور في البوادي بغير زاد، ثقة بفضل الله تعالى عليه في تقويته على الصبر أسبوعاً وما فوقه، أو تيسير حشيش له أو قوت، أو تثبيته على الرضا بالموت إن لم يتيسر شيء من ذلك(2). اهـ.
- لست أدري إلى كم من الصفحات يحتاج التعليق المفصل على هذه الضلالات، لكن بإيجاز الدوران في البوادي بغير زاد ليس من الإسلام، وهو بذلك مَوْزور لا مأجور، وإن مات فهو كالمنتحر.
- وهناك ملحوظة يحسن التنويه بها، وهي ادعاؤهم أن المقامات هي من السلوك ومن الطريقة، ويدعون أن الشيخ يُسَلك مريده في المقامات حتى إذا تحقق بمقام نقله إلى مقام أعلى...وطبعاً؛ هذا أسلوب في الدعاية ناجح.
* قصة للتسلية:
يورد الغزالي في الإحياء:
...فإذا ضيع جميع عمره في إصلاح نفسه فمتى يتنعم بالقرب؟ ولذلك كان الخوّاص يدور في البوادي، فلقيه الحسين بن منصور (الحلاج)، وقال: فيم أنت؟ قال: أدور في البوادي أصْلِحُ حالي في التوكل، فقال الحسين: أفنيت عمرك في عمران باطنك! فأين الفناء في التوحيد؟! فالفناء في الواحد الحق هو غاية مقصد الطالبين ومنتهى نعيم الصديقين(3). اهـ.
__________
(1) الإحياء: (4/227).
(2) الإحياء: (4/230).
(3) الإحياء: (4/368).(1/369)
- هذه القصة تتكرر في كتبهم، ونستفيد منها ما يلي:
1- كان الخوّاص من الذين يظنون أن المقامات واقعية، ذات وجود في الطريق، لذلك كان يريد إصلاح حاله في التوكل حتى يصير هذا الحال مقاماً عنده.
2- نبهه الحلاج إلى أن هذا ليس هدفاً، والهدف هو الفناء في التوحيد، (ونعرف الآن ما معنى الفناء في التوحيد).
3- يقرر (حجة الإسلام) أن الفناء في الواحد الحق (أي: استشعار وحدة الوجود باستشعار الألوهية) هو غاية مقصد الطالبين...وهذا يعني أن المقامات ليست هناك.
4- يستشهد الغزالي بالحلاج، ويأخذ عنه الحكم والحكمة في عدة مواضع من الإحياء، وهذا يدل على أنه مزكَّى عنده، وأنه يدين بما كان يدين به، وكل الصوفية مثله.
* خرق العادة:
في غالب الأحيان، وبعد ممارسة طويلة (وقد تقصر في النادر) لما رأيناه من الرياضة الصوفية، يحدث للسالك، أو أمامه، أمور غير عادية لا يُعرف لها سبب، هي خوارق العادة التي يصر المتصوفة إصراراً عجيباً على تسميتها الكرامات حتى جعلوا التصديق بها عقيدة لا يكمل إيمانهم إلا بها:
وأثبِتَنْ للأوليا الكرامة ... ... ومن نفاها، فانبذن كلامه
مع العلم أن الهندوس والطاويين...والكهان في الملل الوثنية، والسحرة الحقيقيين، يفعلون مثلها، وأكثر منها، بل المتصوفة أنفسهم، تكون سرعتهم في الوصول إليها على قدر غلوهم في الشرك بالله في شيخهم.
وفي ما يأتي سنرى نماذج كثيرة من (كراماتهم) هذه، وسنرى أنها ليست كرامات، وإنما هي خوارق شيطانية، يستدرج بها شياطين الجن هؤلاء القوم إلى شباكهم، فيصيدونهم، ثم يجعلون منهم (دودة الفخ) ليصيدوا بهم.
وهم دائماً يتواصلون فيما بينهم، ويوصون مريديهم، ألا يلتفتوا إلى الكرامات لأنها تشغلهم عن الوصول إلى التحقق بالألوهية (أي: مشاهدة السالك أنه هو الله). ومن أقوالهم في ذلك:(1/370)
اعلم أن المريد الصادق إذا اشتغل بالذكر على وجه الإخلاص، يظهر عليه أحوال عجيبة وخوارق غريبة، وهي ثمرات أعماله من فضل الله تعالى عليه، إما تطميناً لقلبه وتأنيساً، وإما ابتلاءً من الله تعالى وامتحاناً له، فالواجب عليه ألا يلتفت إليها ولا يغتر بها، لئلا ينقطع بها عن مقصوده، ولهذا قال العارفون بالله تعالى: أكثر من انقطع من المريدين بسبب وقوعهم في الكرامات(1)....بل الكرامة العظمى الوقوف على حدود الشريعة الغراء، واتباع السنة الواضحة البيضاء.
- أقول: هذه الجملة الأخيرة هي مغالطة يرددونها بحسن نية، وذلك أن الإشراق (الذي هو الصوفية) يبقى ضلالاً وزندقة ولو مزج بالوقوف على حدود الشريعة الغراء واتباع السنة الواضحة البيضاء.
وخوارق العادة- في الواقع- متنوعة، لكن لا تحدث كلها لأي واحد منهم، بل قد يحدث بعضها لبعضهم، ويلاحظ أنها- كلها- مما يقوم به شياطين الجن استدراجاًً وجراً لهم إلى وهدة الضلال والإضلال.
والخوارق التي يقوم بها متصوفة الهندوس وغيرهم أكثر تنوعاً وأعجب مما يقوم به متصوفة المسلمين، فقد يطيرون في الهواء، ويمشون على الماء، ويدخلون في النار، ويرفع أحدهم يده في الظلام فيخرج منها نور يضيء الغابة وغيرها، وضرب الشيش هو أشهر خوارق متصوفة المسلمين، وهو موجود في الطريقة الرفاعية والجزولية...
وأكرر القول إنها كلها مما يستطيع شياطين الجن تمثيلها أمام أوليائهم.
__________
(1) السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية، (ص:37).(1/371)
أما المشاهد الضخمة ذات الأبعاد الواسعة التي تتجاوز حجوم الجن وقدراتهم الطبيعية، كقطع الأرض بخطوة أو خطوات، والصعود فوق جبل قاف، ورؤية النفس أطول من السماوات، أو العروج إليها، ورؤية الله (جل الله وعلا)، والفناء فيه، واستشعار الألوهية (سبحان الله عما يصفون)، وذوق معانيها، فهذا بحاجة إلى الجذبة وأوهامها، وتشويهها لوظائف الدماغ الطبيعية التي طبعها الله عليها. والجذبة هي الوصول، أو هي أول الوصول.
وهي الفتوح، وعندما نسمع من يدعو لآخر بقوله: (الله يفتح عليك) فعلينا من الآن فصاعداً أن نعرف أن معناها: أوصلك الله إلى الجذبة.
فما هي الجذبة؟
* الجذبة:
وأخيراً، وبعد أن اجتزنا الطريق، فإلى أين نصل؟ وإلى أين تقود الطريقة؟
إن الطريقة كلها، بشركها ووثنيتها ونَصَبها وخلوتها وسهرها وجوعها هي من أجل الوصول إلى الجذبة ورؤاها.
والجذبة أو الصعقة أو الغيبة أو المحو أو السكر: هي حالة نفسية يَفْقِد بها المجذوب إحساسه بما حوله وبالواقع، ويرى فيها ويسمع ويحس رؤى وأصواتاً وإحساسات غريبة ومتنوعة، وهي تشبه حالة الغيبة التي تصيب متعاطي المخدرات شبهاً تاماً مظهراً ومخبراً ورؤى وإحساسات.
وعندما يصل سالكهم إلى الجذبة يصبح ولياً، فكلمة الولي تعني أنه وصل إلى الجذبة ليس غير، وهي التي يسمونها: الفتح، أو خرق الحُجب، والكشف هو ما يرونه ويسمعونه فيها.
وهي الهدف الذي يسعون إليه، ويتوهمون أن الله سبحانه يجذبهم بها إليه، وهذه بعض أقوال لبعض أقطابهم وعارفيهم تدل على ذلك:
يقول شهاب الدين السهروردي البغدادي:
...وقد ورد: جذبة مِن جذبات الحق توازي عمل الثقلين(1).
ويقول الشيخ حماد بن مسلم الدباس(2):
__________
(1) عوارف المعارف في هامش الإحياء: (2/91).
(2) أحد العلماء الراسخين في علوم الحقائق، صحب الشيخ عبد القادر الجيلاني، وانتمى إليه معظم صوفية بغداد.(1/372)
...وإن قال لك: اعبدْني، قل: وفقني، وإن قال لك: وحِّدني، قل: اجذبني(1).
- لننتبه إلى ربطه التوحيد بالجذبة، ولنتذكر ماذا يعنون بكلمة (التوحيد).
وكان داوُد الكبير بن ماخلا يقول:
الحال ما جذبك إلى حضرته، والعِلْم ما ردك إلى خدمته(2).
ويقول الشيخ بهاء الدين المجذوب(3):
...وذلك أن كل حالة أُخذ العبد عليها، يستمر فيها، ولو خرج عنها يرجع إليها سريعاً، حتى إن من المجاذيب من تراه مقبوضاً على الدوام، لكونه جُذب على حالة قبض؛ ومنهم من تراه مبسوطاً، وهكذا.. وكان الشيخ فرج المجذوب رضي الله عنه لم يزل يقول: عندك رزقة فيها خراج ودجاج وفلاحون، لكونه جُذب وقت اشتغاله بذلك؛ وزمنُ المجذوب من حين يجذب إلى أن يموت زمنٌ فرد، لا يدري بمرور زمان عليه. ورأيت ابن البجائي رضي الله عنه، لم يزل يقول: الفاعل مرفوع والمخفوض مجرور، وهكذا، لأنه جُذب وهو يقرأ في النحو. ورأيت القاضي ابن عبد الكافي رضي الله عنه لما جُذب لم يزل يقول - وهو في بيت الخلاء وغيره -: ولا حق ولا استحقاق ولا دعوى ولا طلب ولا غير ذلك(4).
ويقول الشيخ عبد القادر الدشطوطي(5):
...الناس معذورون، يقولون: عبد القادر ما يصلي، والله ما أظن أني تركت الصلاة منذ جُذبت، ولكن لنا أماكن نصلي فيها(6)....
ويقول عبد العزيز الدباغ:
...إن الله تعالى لا يحب عبداً حتى يُعرِّفه به، وبالمعرفة يطلع على أسراره تعالى، فيقع له الجذب إلى الله تعالى(7)...
ويقول عمر بن الفارض في التائية الكبرى:
فمني مجذوب إليها وجاذب ... ... إليه، ونزعُ النزع في كل جذبةِ
وما ذاك إلا أن نفسي تذكرت ... ... حقيقتها من نفسها حين أوحتِ
__________
(1) طبقات الشعراني: (1/135).
(2) طبقات الشعراني: (1/194).
(3) من أكابر العارفين، مات في القاهرة بعد سنة (920هـ).
(4) طبقات الشعراني (2/139).
(5) من أكابرهم، كف بصره، مات في القاهرة بعد سنة (930هـ).
(6) طبقات الشعراني (2/139).
(7) الإبريز، (ص:217).(1/373)
فحنَّت لتجريد الخطاب ببرزخ ... ... التًراب، وكلٌّ آخذ بأزِمَّتي
ويقول علي الخواص البرلّسي:
إنما سمي المجذوب مجذوباً لأن العبد لم يزل يتعشق حاله ويألفه ولا ينجذب عنه إلا بما هو أقوى منه، وإذا أراد الله تعالى أن يخلص عبداً ويستخلصه لنفسه، جذبه عما كان واقفاً معه من أمر الدنيا والآخرة، فإذا تعشق بما جذبه الحق إليه ثانياً جذبه به عنه ثالثاً(1)...
ويقول ولي الله الدهلوي:
...وأما طريق وصولهم إلى هذا الكمال المطلق، فهو أنهم ينجذبون إلى الله سبحانه، فيقطعون نور الغيب وغيره، حتى يصلوا إلى ميادين الأسماء...ثم يضمحلون في التجلي الذاتي(2)...
ويقول عبد الله بن أبي بكر العيدروس:
...وحقيقة العارف سائر طائر، ثم السير يستدل بالطير، فالسير يكون في مقامات النفس المطمئنة، والطير يكون في مقامات الروحانية العلوية، ثم يستدل الطير بالجذبات السرية، فالجذبة تبعده عن أنيته وتقربه لهويته، إلى أن تورث الجذبة المشاهدة، فالمشاهدة أحضرته معه وغيبته عنه إلى أن ظهر بالعيان(3)...
ويقول محيي الدين بن عربي في (الباب: 216) من الفتوحات المكية:
...إنما سمي مجذوباً لجذب الحق تعالى له، وأخذه بأعطافه، ولولا أنه كان متعشقاً بحاله، مستحسناً له، ما جذبه الحق تعالى، فكأن سبب هذا الكشف تعشق أحواله الطبيعية، ولولا الجذب العنيف ما ترك ما كان فيه(4)....
ويقول محمد مهدي الصيادي الرواس:
وبويعت في الحضرة: على المباعدة عن أصحاب دعوى الولاية والمحو، الذين تحقق أنهم ليسوا من أهل الانجذاب والغيبة، فإن أولئك من اللصوص والدجالين، وكأنهم المقصودين بسر قوله تعالى: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)) [الصف:7](5).
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/156).
(2) الخير الكثير، (ص:102).
(3) الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر، (ص:77).
(4) اليواقيت والجواهر: (1/136).
(5) فصل الخطاب، (ص:137).(1/374)
ومن أوراد الشاذلية (مناجاة ابن عطاء الله السكندري).
...حققني بحقائق أهل القرب، واسلك بي في مسالك أهل الجذب...(1).
ومن الأوراد الخلوتية (من منظومة أسماء الله الحسنى):
ومُنَّ علينا يا ودود بجذبة ... ... بها نلحق الأقوام مَن كان قبلنا
ومن الأدعية التيجانية:
اللهم اجذبني إليك قلباً وقالباً بجواذب عنايتك، وألبسني خلعةَ استغراق أوقاتي في الاشتغال بك(2)...
ويقول الدكتور عبد الحليم محمود:
...إننا لا نتحدث هنا عن طريق الاجتباء، فإنه في حقيقة الأمر ليس طريقاً بالمعنى العادي: إنه جذبة مِن جذبات الحق في لحظةٍ بَعْدَها يتبدل المرء حالاً بعد حال، ويدخل رحاب الحق جل وعلا، عبداً من عباده المخلصين(3)...
ويقول الدكتور سيد حسين نصر:
(يتكلم عن المرشد) إلى أن يقول: مثل هذا الشخص، إما أنه مسافر أدركته البركة الإلهية فهو سالك مجذوب، كان قد عبر أولاً جميع المفاوز والأخاديد التي تعترض الروح...لكنه بمساعدة الجذب الإلهي بعد ذلك عاد من مقامات القلب ومصاعد الروح، وبلغ عالم الكشف واليقين...أو أنه ذاك الذي جذبته البركة الإلهية فسلك الطريق فهو مجذوب سالك، وكان قبلاً قد عبر بمساعدة الجذب الإلهي جميع المقامات، وبلغ عالم الرؤيا والكشف عن الحقائق الإلهية(4)...
- تجنباً لزيادة الإطالة نكتفي بهذه الأقوال الكافية:
إذن، فالجذبة هي الهدف الذي يسعون إليه، وهي الفتوح، وعندما نسمع مَن يدعو لآخر بقوله: الله يفتح عليك، فعلينا منذ الآن أن نعرف أن معناها (أوصلك الله إلى الجذبة).
__________
(1) النفحة العلية في أوراد الشاذلية، (ص:24).
(2) ميزاب الرحمة الربانية، (ص:23).
(3) ذو النون المصري، (ص:49).
(4) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:75، 76).(1/375)
وأكرر القول بأنها تشبه الحالة التي يقع فيها متعاطي المخدرات (الحشيش أو الأفيون والمورفين والايثير وغيرها..) شبهاً دقيقاً، مظهراً ومخبراً، ورؤىً وهلوسات، مع أخذ الدور الذي يلعبه الشيخ وتوجيهه، وإيحاءات الجو الصوفي، بالاعتبار.
وأكرر أيضاً أنهم يعتقدون أن الله يجذب السالك إليه فتحدث له هذه الحالة، ولذلك يسمونها الجذبة، ويسمون الواصل إليها ولياً.
وهم يعنون بقولهم: (الله) الألوهية التي يعتقدون أنها باطنة في الإنسان، وفي كل شيء، وأنه محجوب عنها، أو عن الإحساس بها بالوهم، (أي: الوهم أنه مخلوق وأنه غير الله).
هذه الألوهية الباطنة فيه تجذبه إليها، فيفقد إحساساته بالظاهر وبالمخلوقية، حيث تتجه تلك الإحساسات إلى باطنه، إلى إلهيته التي كان محجوباً عن الإحساس بها بالوهم، هكذا يعتقدون!
يرى المجذوب أثناء الجذبة رؤىً ومشاهدات، تختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة والثقافات، واختلاف الرؤى حسب الثقافات تعني أن الرؤى التي يراها المتصوف المسلم، تختلف بعض الشيء عن رؤى المتصوف المسيحي، وهذه تختلف بعض الشيء عنها عند الهندوسي.. وهكذا.
والجذبة- كما رأينا- حالة يفقد فيها المجذوب الشعور بما حوله، ويرى ويسمع أشياء لا وجود لها، وقد تأتيه الجذبة ماشياً أو قائماً أو قاعداً أو مستلقياً أو منفرداً أوفي جماعة إن كان من الكمَّل، ونظرياً يمر الولي (الذي وصل إلى الجذبة) في المراحل التالية:
- تكون الجذبات الأولى قصيرة ومتباعدة وخفيفة، والعكس ممكن.
- مع الاستمرار على ممارسة الرياضة، وبعد زمن قد يطول وقد يقصر، تزداد الجذبات عمقاً وطولاً وتقارباً.
- أما المشاهدات (الكشوف)، فكثيراً ما تتجاوز حدود المقاييس العادية، وحدود المعقول لتتخطاها إلى اللامعقول، فيرى نفسه أطول من السماوات، أو يرى نفسه يعرج فيها من سماء إلى سماء حتى يصل إلى العرش، وطبعاً يراها كما يتوهم أنها هكذا، لا كما هي على حقيقتها.(1/376)
- وقد يرى مخلوقات ضخمة بأشكال مختلفة، يخال بوهمه، أو بتوجيهات شيخه أنها ملائكة.
- وقد تكون الرؤى في المقاييس العادية، فيرى أشخاصاً يتوهم أنهم أنبياء أو أولياء حسب توجيهات شيخه وطموحاته.
- يستمر السالك على المجاهدة ويزداد إصراراً عليها، لأن كل هذه الرؤى ليست هي غايته، حتى يرى نفسه جالساً مع الله (جل جلاله)، يحادثه ويسامره! وطبعاً هذا كله تابع لتوجيهات الشيخ، ويكون الحضور مع الله (جل الله) بشكل من الأشكال التالية:
* إما أن يرى المجذوب نفسه يعرج في السماوات حتى يصل إلى العرش، وهناك يجتمع مع الله (سبحانه وتعالى عما يصفون).
* أو أن يرى الله (جل وعلا) ينزل إلى جانبه ويحادثه، وقد يرفعه بين يديه ويجوِّله في السماوات.
* أو أن يرى نفسه مجتمعاً مع الله (تعالى) في مكانٍ آخر.
وهذا ما يسمونه (المحاضرة).
وفي كل الحالات يجد لذة عظيمة، ورغم كل ذلك فليس هذا هو الغاية.
- يستمر السالك على المجاهدة، وتتكرر المحاضرات وتتطور حتى يرى المجذوب في إحدى جلساته مع الله (جل وعلا) أن الله سبحانه يدمجه في اسم من أسمائه، أو في مكان ما من ذاته (سبحانه عما يصفون)، وهذا ما يسمونه: (المكاشفة)، ويسمونه: (الفناء في الله)، وقد يسميه بعضهم: (الإحسان).
- ويستمر السالك على المجاهدة، ويتطور الفناء في الله، ويزداد عمقاً ونشوة ولذة، وينتقل من اسم إلى اسم، (وهذا التدرج ليس ضرورياً دائماً)، حتى يصل إلى الفناء في الاسم (الرب) أو (الرحمن) على اختلاف بينهم، وهذا الاسم هو أعلى الصفات الإلهية عندهم، فيكون قد وصل إلى قمة المكاشفة، ومع ذلك فليس هذا هو الغاية، إن الغاية هي التحقق بالاسم (الصمد) أو (الله).(1/377)
- ومع المثابرة على المجاهدة، يقفز إلى الاندماج في الذات الإلهية كلاً في كل (تعالى الله عما يفترون)، فيرى نفسه أنه هو الله (سبحان الله) بجميع أسمائه وصفاته! وهذا ما يسمونه: (المشاهدة)، أو (الجمع)، أو (الفناء في الاسم الأعظم)؛ الله، الجامع لكل الأسماء والصفات، وعند بعضهم هو (الإحسان)..
وهذه المشاهدات (أو الهلوسات) هي ما يعبرون عنها بمثل قول عمر السهروردي: "ابتُلي بنهضة النفس ووثوبها، أو بمثل قول الغزالي: وبعضهم يدعي أموراً عظيمة في المعرفة بالله عز وجل، أو بمثل قول الجيلاني: هم أبداً في سرادق القرب، فإذا جاءت نوبة الحكم كانوا في صحن الحكم.
ومع استمرار إيحاءات الشيخ وتوجيهاته، وغرس الطموحات الوثابة في نفس الولي، ومع تكرار مشاهدة الاندماج في الله (سبحان الله عما يصفون)، يتعمق الشعور بالألوهية ويترسخ، وقد يدفعه هذا إلى البوح بالسر أثناء صحوه، فيقع في المحذورات التي تجر عليه وعلى طائفته الويل والثبور، لذلك يأخذون بأهون الشرَّين، فإذا فُضِحَ أمره وحَكَم عليه أهل الظاهر (الشريعة) بالكفر، حكموا عليه هم أيضاً بالكفر، وإذا أفتى أهل الظاهر بقتله، أفتوا هم أيضاً بقتله، مع إيمانهم بأنه صديق ولي مقرب، لكن بعض الشر أهون من بعض.
لتخليص الولي من هذا المحذور، ولأن هذا المقام ليس مقام الكمَّل من الرجال والنبيين، لذلك يبدأ شيخه بتدريبه على السيطرة على لسانه وكلماته، ليتحقق بمقام الكمّل الذين يتبعون القاعدة (إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه)، حيث يغدو ولياً كاملاً ومرشداً يحق له إرشاد الناس ودعوتهم، لكنه لا يكون مرشداً كاملاً إلا بمقدار ما يجمع حوله من الأتباع، ولذلك يعتبرون محمداً صلى الله عليه وسلم أكمل الكاملين، لأن أتباعه أكثر الأتباع، وأنه هو الإنسان الكامل الأعلى.(1/378)
وهذا هو مقام البقاء، أو الفرق الثاني...إلى آخر الأسماء، ولهم في التلميح إليه ووصفه عبارات أدبية يتبارون بالتفنن بها وتنويع أساليبها، مر معنا مئات منها، وفي كتبهم ألوف كثيرة غيرها.
وقد يقرأ القارئ في بعض كتبهم أسماء مثل مقام (قاب قوسين)، أو مقام (أو أدنى)، أو مقام (أنا أنا)، أو غير ذلك، وكلها تعني شدة التحقق بالألوهية مع طول مدتها.
وأكرر التنبيه إلى أن الترتيب المذكور ليس ضرورياً، وقد يختلف عند بعضهم اختلافاً كثيراً، وقد ينعكس في نادرٍ من الأحيان.
وهم يقولون: إن المناظر متنوعة لا تتكرر.
كما يتحدثون عن المريد والمراد.
فالمريد هو الذي يسلك الطريقة الإشراقية من أولها حتى يصل إلى الجذبة.
والمراد هو الذي يُجْذَب دون إرادة منه ودون مجاهدة، أو كما هو الواقع، المصاب بمرض عصبي ممن نراهم في الأسواق من المعتوهين والمخبولين والهائمين على وجوههم في البراري، ومنهم نزلاء مستشفيات المجانين.
ويعنون بالاسم (المراد) أن الله سبحانه أراده فجذبه إليه دون إرادة منه، ويصفون المراد عادة بمثل قولهم: (سائح في حب الله)، ويتبركون به، ويطلبون منه أن يكَبِّسهم، أي يضع يده عليهم لتسيل منه الأسرار عن طريقها وتسري في أجسامهم.
وفي جميع الأحوال، ينتاب المجذوب أحد نوعين من الإحساس:
أ- إما شعور باللذة- وهو الغالب- تختلف شدته من جذبة إلى أخرى، وقد تبلغ في بعض الجذبات- وخاصة في الفناءات في الله- من الشدة بحيث تستغرق كل ذرة من جسمه، وعندما يعود إلى الصحو، يعود حامداً شاكراً، ويذهب إلى صندوق ملابسه ليخرج منه سروالاً يلبسه بدل سرواله الذي امتلأ بالمني.
لكنه إذا كان من المتحققين بمقام الزهد، مسح المبتل من سرواله بالتراب، ومضى إلى حال سبيله.
أما إذا كان متحققاً بمقام التوكل، فيتركه كما هو ولا يلتفت إليه لشدة توكله.(1/379)
يَعرض الوليُّ أمْرَه هذا على شيخه ومشكاة إمداداته، فيهنِّئه ويبشره بأن هذا دليل على صحة المقام الذي وصل اليه، ويفهمه أن سببه هو بقايا شعور بالبشرية، وأنه سوف يزول عندما يتخلص كلياً منها، أو (من الشعور بالمخلوقية)، ويتحقق بالألوهية تحققاً كاملاً.
ويسمون هذا النوع من الإحساس: (البَسْط)، ويسمون جذباتها: (جمالية)، ويسمون فناءاتها أو تجلياتها التي يشاهدون بها أنفسهم أنهم الله: (التجليات الجمالية)، ويوهمون أنفسهم وتائهيهم أن هذه التجليات هي تحققٌ أو فناءٌ في الصفات الجمالية (عفوٌ غفورٌ ودودٌ رحيمٌ..).
2- وإما أن يشعر المجذوب بالاكتئاب أو الغضب أو ضيق الصدر...ويسمون له هذا الإحساس: (القبض) ويسمون جذبته: (الجلالية)، ويوهمون أنفسهم وتائهيهم أنها تجليات الحق عليهم بصفاته الجلالية، (العزيز الجبار المتكبر القهار...)، ويسمونها: (التجليات الجلالية)، أو (التحقق بالأسماء الجلالية)...
ويصف عبد القادر الجيلاني هاذين الإحساسين بقوله: يُكْشَف للأولياء والأبدال في أفعال الله ما يبهر العقول، ويخرق العادات والرسوم، فهي على قسمين: جلال وجمال، فالجلال والعظمة يورثان الخوف المقلق والوجل المزعج، والغلبة العظيمة على القلب، بما يظهر على الجوارح...أما مشاهدة الجمال فهو تحلي القلوب بالأنوار والسرور والألطاف والكلام اللذيذ والحديث الأنيس، والبشارة بالمواهب الجسام والمنازل العالية(1)...
- وهو معنى قوله أيضاً (الجيلاني) الذي مر معنا: ...وبقلبه ينظر إلى ربه عز وجل، إلى جلاله تارةً وإلى جماله تارةً أخرى. (ومثل هذا تماماً تماماً يحصل لمتعاطي المخدرات، والاختلاف بينهما هو في التفسير).
وهذه بعض أقوال لبعض أقطابهم يصفون بها بعض جذباتهم ومشاهداتهم.
يقول المعرِّف عن نفسه (شيعي من طهران):
__________
(1) فتوح الغيب، (ص:22).(1/380)
إن الفقير الحقير سيد حسين بن الرضا الحسيني الطهراني النعمتللاهي، نال بركة النعمة الإلهية في سنة 1303 للهجرة، ذلك أنني عندما التقيت بالسمح الطاهر، مثال العارفين وقطب الهداية في سلوك الطريق، والمرشد الأمين في ممارسة الصلوات، الشيخ عبد القدوس كرمنشاهي...بفضل البركة الإلهية ومعونة الأئمة الطاهرين عليهم السلام، التقيت هذا الرجل العظيم في الوقت الذي تقدم ذكره قرب إمام زادي زيد(1)، وكان له معي ما كان، وفي غضون أسبوع من الزمان حلت علي بركة وجوده وذلك قرب إمام زادي زيد...وبعد أن أجرى مراسم الندامة والتوبة، أعطاني التعليمات اللازمة، وأدخلني إلى حلقة الذكر وقراءة الأوراد، ودربني على ما ينبغي أن يُعمل ويقال، فامتثلت في ذلك كله، وبعد خمس عشرة ليلة، وهو مدى الخلوة الصغرى، عند الفجر، فيما كنت مستغرقاً في التفكير، رأيت جميع الأبواب والجدران في المكان المظلم الذي وُضِعْتُ فيه تشاركني في مراسم الذكر، فغبتُ عن الوعي، وهويتُ إلى الأرض، وبعد شروق الشمس سارع والدي الجسدي بداعي حبه الشديد لي، إلى استدعاء طبيب، ودعا كذلك بمحضري الأرواح وكاتبي التعاويذ الشافية، ثم إن والدتي الجسدية هي الأخرى عالجتني بكل ما تيسر لها من الأدوات والمنعشات والمغذيات.
وبقيتُ على مثل ذلك عشرين يوماً وأنا لا أقوى على القيام بفرائض الشريعة، ولا أعي لوجوب ممارسة الشعائر والرياضات، ولا أحدث أحداً بذلك. وبعد تلك الفترة عاد إلي الوضع الطبيعي أو كاد، وأصبحتُ طليقاً من حال الجذبة، فذهبتُ إلى الحمام وتوضأت، وشعرت برغبة شديدة في لقاء ذلك الشيخ العظيم، وبقيتُ بضعة أيام هائماً على وجهي كالمعتوه في الطرق والأسواق، ساعياً في طلبه، وأخيراً ظفرتُ به، وقبَّلتُ يده، فأبدى لي لطفه وعطفه.
__________
(1) مزار أحد الأولياء في طهران.(1/381)
وأقول موجزاً: إنني سلكتُ الطريق تحت رعايته مدة سنتين، آخذاً نفسي بجميع تعليماته ووصاياه، لذلك تحولت عن العلوم التقليدية تحولاً تاماً، وأقبلت على تفهم مسائل المعرفة، والسير في طريق اليقين، أطعته بكل ما أمرني به دون أن أجيب بنعم أو لا، وإذا بدا لي أن بعض ما سمعتُ أو رأيتُ منه يعارض في ظاهره للشريعة، رددته إلى عيب في سمعي أو تقصير في بصري...أحمد الله أنني بفضل ذلك العالم الكبير، وبفعل إرادته الروحية، استطعت أن أقف على ملابسات الفقر الروحي، ودقائق المعرفة الثابتة، ولطائف الحق اليقين، حتى بلغتُ حال الفناء في الله والبقاء فيه(1)...
* الملحوظة:
ما أنبه إليه بشكل خاص هو تحوله عن العلوم التقليدية تحولاً تاماً، ومن هذا القول، ومن أقوال كثيرة مرت وستمر، نعرف سبب الجهل الذي تتخبط فيه أمتنا.
والملحوظات كثيرة، يمكن للقارئ أن يتسلى بالبحث عنها، والمتكلم شيعي يعرف بـ (شمس العرفاء).
ولننتبه إلى أنه استعمل عبارة (بركة النعمة الإلهية) بمعنى الجذبة، ولعله استعمل عبارة (النعمة الإلهية) انبثاقاً من اسم الطريقة (النعمتللاهية) التي كان شيخه عبد القدوس كرمنشاهي شيخها.
ويقول عبد العزيز الدباغ (الولي الكامل والغوث الحافل):
...وبعد وفاة سيدي عمر بثلاثة أيام، وقع لي والحمد الله الفتح، وعرفنا الله بحقيقة نفوسنا، فله الحمد والشكر، وذلك يوم الخميس الثامن من رجب عام خمس وعشرين ومائة وألف، فخرجنا من دارنا، فرزقني الله تعالى على يد بعض المتصدقين من عباده أربع موزونات(2)، فاشتريت الحوت، وقدمت به إلى دارنا، فقالت لي المرأة:
__________
(1) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:77، 78، 79).
(2) عملة مغربية كانت متداولة آنذاك.(1/382)
اذهب إلى سيدي علي بن حرزهم(1) وأقدم لنا بالزيت لنقلي به هذا الحوت، فذهبت، فلما بلغت باب الفتوح دخلتني قشعريرة، ثم رعدة كثيرة، ثم جعل لحمي يتنمل كثيراً، فجعلت أمشي وأنا على ذلك، والحال يتزايد إلى أن بلغت إلى قبر سيدي يحيى بن علال نفعنا الله به، وهو في طريق سيدي علي بن حرزهم، فاشتد الحال، وجعل صدري يضطرب اضطراباً عظيماً، حتى كانت ترقوتي تضرب لحيتي! فقلت: هذا هو الموت من غير شك، ثم خرج شيء من ذاتي كأنه بخار الكسكاس(2)، ثم جَعَلَتْ ذاتي تتطاول حتى صارت أطول من كل طويل، ثم جعلت الأشياء تنكشف لي وتظهر كأنها بين يدي! فرأيتُ جميع القرى والمدن والمداشر، ورأيتُ كل ما في هذا البر، ورأيت النصرانية ترضع ولدها وهو في حجرها، ورأيت جميع البحور، ورأيت الأرضين السبع وكل ما فيهن من دواب كالبرق الخاطف الذي يجيء من كل جهة، فجاء ذلك النور من فوقي ومن تحتي وعن يميني وعن شمالي وعن أمامي وخلفي، وأصابني منه برد عظيم حتى ظننت أني مت، فبادرت ورقدت على وجهي لئلا أنظر إلى ذلك النور، فلما رقدت رأيت ذاتي كلها عيوناً؛ العين تبصر، والرأس تبصر، والرجل تبصر، وجميع أعضائي تبصر؛ ونظرت إلى الثياب التي علي، فوجدتها لا تحجب ذلك النظر الذي سرى في الذات، فعلمت أن الرقاد على وجهي والقيام على حد سواء؛ ثم استمر الأمر علي ساعة وانقطع(3).
* الملحوظة: إن كشفه منبثق من المعلومات السائدة في محيطه، ومثل هذا يحدث لمتعاطي المخدرات.
__________
(1) هو شيخ أبي مدين المغربي، والزيت من النذور التي تقدم للمقام.
(2) أكلة مغربية معروفة تسمى في الشرق، باسم (المغربية) أو (المفتول).
(3) الإبريز، (ص:9).(1/383)
ويقول نفسه: ...فبقي معي سيدي عبد الله البرناوي (صوفي من قرية برنو)، يُرشدني ويسددني ويقويني ويمحو الخوف من قلبي فيما أشاهده، بقية رجب وشعبان ورمضان وشوال وذي القعدة وعشر ذي الحجة، فلما كان اليوم الثالث من يوم العيد، رأيت سيد الوجود صلى الله عليه وسلم، فقال سيدي عبد الله البرناوي: يا سيدي عبد العزيز، قبل اليوم كنتُ أخاف عليك، واليوم حيث جمعك الله مع رحمته تعالى سيد الوجود صلى الله عليه وسلم، أمِنَ قلبي واطمأن خاطري(1)...
- ولنسمع إلى العارف القطب عبد الكريم الجيلي، يقدم وصفاً عاماً، يقول:
أما بعد، فإن المناظر الإلهية مَحاضر لجمال العلوم اللدنية، وإن تفصيلها لا يكون إلا عن موهبة ثابتة إلهية، فقد يدرك تلك الموهبة العبد في نفس المناظر العلى إيحاءً إلهياً، أو بحقيقة اتصافٍ من الصفة العلمية...وقد يتأخر عليه تفصيل تلك العلوم إلى نزوله عن تلك المناظر، فيفهم ما كان فيها إلهاماً إلهياً، أو بإعلام شيخ مرب مكاشف بالمناظر الإلهية، فيوفي الوقت الذي هو فيه أدباً به، ولكن فاته أدب تلك المناظر لفواتها، لأن التجلي الواحد لا يبقى زمانين، بل لله تعالى في كل زمان تجل مخصوص، مِن سر قوله: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)) [الرحمن:29]. ومن الناس مَن يُجذب إلى بعض المناظر الإلهية، فيخرج منها وهو لا يدري أين كان، ولو سمع بأوصاف المناظر التي كان فيها تعجب وأنكر ما كان عليه، وذلك لضعف علمه وقصور فهمه، فإن الدهش لا يطرأ إلا على الضعفاء. اعلم أن لكل منظر آفة تحجب الداخل فيها عما فوقها وتمسكه عندها، ما لم يعلم تلك الآفة، فإذا اطلع عليها ترقى عن ذلك المنظر إلى غيره(2)...
- يبين الشيخ هنا أن تفسير الرؤى الكشفية نابع من معلومات مسبقة، أو من إعلام شيخ مرب...
ويقول: منظرا {عبد الله كأنك تراه}:
__________
(1) الإبريز، (ص:10).
(2) المناظر الإلهية، (ص:7، 8).(1/384)
هو باب المناظر كلها...فيتصور له حضرة الحق تعالى الولي بكبريائه وعظمته، فلا يأتي عملاً وهو مأخوذ عن ذلك العمل، لغلبة حال الدهش على قلبه، ويكون سائر أحواله وأفعاله وأقواله كلها عبادات، لأنه مأخوذ عنها إلى تصور الحضرة الإلهية، فهو شاهد لذلك التصور بحقيقته في سائر أموره، وفي هذا المنظر يُفتح عليه علوم الاصطلام، ويكشف له عن أسرار الحق تعالى في ظواهر المخلوقات، فيقرأ رقوم كتابة أسماء الله تعالى على صفحات وجوه المخلوقات، ويعلم السر الذي أخذ بالعالم إلى مأخذهم فيما هو عليه، فلا يرى قبيحاً في الوجود(1).
- مع أن عبد الكريم الجيلي واضح العبارة في ما يكتب، إلا أنه في هذا النص يبعد في الإشارة والرمز، ومع ذلك، فبقليل من التروي يتضح كلامه. إنه يقول: إن هذا المنظر هو منظر الدهش، لأنه يرى نفسه إلهاً، ثم تنكشف له علوم الوحدة...
ويقول: منظر الوجود:
يتجلى الحق تعالى في هذا المنظر بأعيان المظاهر، فيكون عين الظاهر، وعين المُظهر، وهذا أول مجالي الصفة الواحدية، ولا يشهد صاحب هذا المشهد لشيء في العالم وجوداً البتة، فلا يبقى للمُحْدَثات عنده أثر...وفي هذا المشهد ينفتح على الداخل فيه علوم تنوعات التجلي، وينكشف له أن العالم كله تجل في تجل، ليس شيء غير ذلك....ويطّلع في هذا المنظر على السر الذي عبدته المخلوقات من دون الله...وفي هذا المشهد يطلع على السر الإلهي، فيكون شافعاً لمن شاء من عبدة الأوثان والمشركين وغيرهم من النحل والملل الماضية، فيحصلون في حقيقة الإيمان قبل الموت أو بعده، ويُحشرون في زمرة الموحدين(2)...
ويصف تجلي الأفعال، فيقول:
__________
(1) المناظر الإلهية، (ص:11).
(2) المناظر الإلهية، (ص:14 و15).(1/385)
فأما تجلي الأفعال، فإن الله تعالى إذا كشف عن بصر بصيرة العبد يتجلى الواحدية في العالم، فإنه أول ما يقع عنده من تفصيل ذلك المحل إرجاع أفعاله إلى الحق، وينسبها إليه سبحانه بعين ما كان ينسبها إلى نفسه، وفي هذا المشهد يسلب فعل العبد وقوته وإرادته، فلا يبقى له فعل ولا قوة ولا قدرة ولا إرادة، بل هو كسائر الجمادات، فهو في هذا المنظر لا فعل له البتة، فلو تكلم وسألته عن كلامه، لقال: لم أتكلم في هذا المشهد، وقد يفوت من الفرائض وغيرها على مَن لم يحفظها الله عليه من أوليائه، وقد يصدر ما يصدر عليه من لسان المعاصي، فيقال: عصى وترك ما وجب عليه من الفرائض، وهو بريء من ذلك مسلوب القوة والقدرة والفعل وإلإرادة...ويكشف له عن اللوح المحفوظ...فيشهد بلا شهود يُنْسَبُ إليه، ويعلم بلا علم، ويرى بلا رؤية، ويفعل بلا فعل يضاف إليه(1)....
ويصف تجلي الصفات فيقول: منظر تجلي الصفات:
وهو في هذا التجلي يشهد صفات الحق تعالى النفسية، فكلما ظهرت لك صفة من صفات النفسية، فنيت صفة من صفاتك، إلى أن تفنى عن جميع صفاتك النفسية، فإذا فني وصفك شهدت وصفه، فتعلم حينئذ أن حياتك وعلمك وإرادتك وقدرتك وسمعك وبصرك وكلامك، جميع ذلك منسوب إليه إلى حدِّ ما كان منسوباً إليك بلا صفة لك، بل تكون صفاتك صفات الله، فتتحقق أن لا حياة لك، بل الحياة حياته، وأن لا علم لك بل العلم علمه، وأن لا إرادة لك بل الإرادة إرادته، وأن لا قدرة لك بل القدرة قدرته، وأن لا سمع لك بل السمع سمعه، وأن لا بصر لك بل البصر بصره، وأن لا كلام لك بل الكلام كلامه، وفي هذا المنظر يجيب الله من دعاه بهذه الصفات، فلا يشهد وقوعَها إلا عليه، فأنت بريء من شهود صفاتك لشهودك أنها الله تعالى كشفاً وعياناً، يفتح عليك في هذا المحل معرفة الوجود الساري، ويكون عندك هذا العلم من علوم التوحيد(2)...
__________
(1) المناظر الإلهية، (ص:16).
(2) المناظر الإلهية، (ص:17).(1/386)
ويقول: منظر اترك نفسك وتعال:
ترك النفس إما هو بجحود الأنية وثبوت الهوية الإلهية، تعرَّ مِن أنيتك فتكون أنت لا أنت، بل هو، بل ما أنت هو، لأنه هو هو. وفي هذا المشهد تضاف أسماء الحق تعالى إليك فتجيب الداعين بها. فإذا قال قائل: يا الله! أجبته: لبيك وسعديك، وما أنت المجيب، بل الله الذي أجاب مَن دعاه، لطيفة إلهية لا يعرفها إلا الواقع فيها ذوقاً وجودياً وكشفاً حقيقياً، وفي هذا المشهد تنزل عليك الأسماء الإلهية اسماً اسماً، والصفات الرحمانية صفةً صفةً، وأنت تقبل بقدر ما يقتضية حالك(1)...
ويقول: منظر التكوين:
هو مشهد ذاتي تتلون فيه بمعاني الأسماء والصفات، فيغلب عليك في كل زمان حكْمُ صفة، فتكون في لونٍ غير ما كنت عليه قبل.. وفي هذا المشهد تجد من اللذة الإلهية ما يسري في جميع أجزائك، إلى أن تكاد تخرج روحك من عالَم التركيب إلى عالَم الأرواح لشدة اللذة المنطبعة فيك، تجدها بحكم الضرورة محسوسة، كما تجد لذة المحسوسات. وقد أخذتْ هذه اللذةُ فقيراً عن محسوساته حتى غاب عن الكون وما فيه، فلما رجع إلى نفسه وجده قد أمنى لما سرت فيه اللذة الروحانية، فعمَّت الروح والقلب، وأضافته على بشرة جسده، فأعطاه الجسد حكْمَ بشريته، وكان ما كان(2)...
ويصف مشهداً آخر، فيقول: منظر اللذة السارية:
__________
(1) المناظر الإلهية، (ص:18)، وفي الكتاب أخطاء مطبعية أو نسخية، منها: (الأينية) بدلاً من (الأنية)،، (عرض أينيتك) بدلاً من (تعرَّ من أنيتك).
(2) المناظر الإلهية، (ص:22).(1/387)
يتجلى الله بتجل يكشف فيه للعبد بمكانه من الحقائق الإلهية، فيظهر له من الله ما لم يكن يحتسب...ووجدت كل ذرة من وجودي حاملة من المعارف الكمالية ما لا يمكن شرحه، فأعطتني عوالمي كل اسم وصفة ومعنى ومرتبة لا نهاية لها، فلما وجدت ما وجدت، سرت فيَّ لذة الإلهية حتى ذقت أمراً محسوساً تكاد الروح أن تذهب لوجدانه، فلما رجعت إلى عالم الكون، حدث في حادث، وكنتُ يومئذ متقدماً في هذا الطريق...ولا وَصَل إلى تحقيق تلك (المقام اللذة) إلا بذلك الحادث، فمن لم يحدث به ذلك الحادث، لم يتم له ذلك اللذة، بل ما عنده إلا طرف منها، لأن اللذة المستولية عليه عمت الجسد وأخذت صاحبها، لا يجد بداً من أن يمني(1)...
ويصف مشهداً آخر، فيقول: منظر من أنت:
يتجلى الحق تعالى على العارف، بكشفٍ عن حقيقة ذات العارف، فيقال له في هذا المشهد: من أنت؟ فيقول ما قال الحلاج وأبو يزيد وغيرهما من أهل هذا المقام(2)...
* الملحوظة:
لعلنا نذكر ما قاله الحلاج وأبو يزيد وغيرهما فيما سبق من هذا الكتاب: أنا الحق، سبحاني..، ومتى يقول العارف هذا الكلام في هذا المقام؟؟ إنه يقوله عندما يُكشف له حقيقة ذاته! أي: إن حقيقة ذاته هي الله، يعرفها بالكشف!
منظر من أنا:
يتجلى الحق تعالى في هذا المشهد بتجل يكشف للعبد فيه عن حقيقة الذات المقدسة، فلا يجد العبد ما ثم إلا أنا، وحق ما قال، وصح ما ادعى، ولكن أين مقام العبودية عن مقام الربوبية(3)؟..
منظر الإشارة:
__________
(1) المناظر الإلهية، (ص:56).
(2) المناظر الإلهية، (ص:76).
(3) المناظر الإلهية، (ص:76، 77).(1/388)
للإشارة منظر جلي، ومشهد علي، ومعنى سني، أنت المراد بها على كل حال، وهو المشار إليه في كل مقال، أنت العين وهو الحُكم، أنت الوجود وهو المشهود، وأنت الجوهر وهو العَرَض، أنت هو وهو أنت، أنت الموصوف وهو الصفة، لكنه الموصوف، وأنت الأثر، وهو الأم وأنت الولد، لكنه الروح وهو الجسد، أنت حاصل كنوزه، أنت مغماز رموزه، أنت صريح لمغموزه، هذا كله منك وفيك، والله تعالى عن الإشارة والعبارة، وهو الكبير المتعال، فأسجد فهمك، وجرِّد همتك، وأفتق ما رتقناه عليك ليسهل فهم ما أشرناه إليك، كلامنا لا يفهم، وحالنا لا يُعلم، أي جان أي دوست،...لأن الكلام عن الحقائق بالإشارة(1)....
منظر ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ)) [الحجر:21]:
يتجلى الله تعالى على العبد بتجل يُكشف له فيه عن مفاتيح الغيب ذاته، فيلج في خزائن الملكوت، ويرى ما أودع الله فيها من أسرار الجبروت، ما لا يدخل تحت الحصر، ولا يعرفها إلا الله تعالى، وحينئذ يقرأ حقيقة قوله تعالى: ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ)) [الحجر:21]، من يتجلى الله عليه في هذا المنظر حلَّ رموز العالم من ذات نفسه، وعلم هيكله بجميع ما فيه، كل ذرة منه روحانية عالم من العوالم الوجودية الشهادية، فإن أراد تدبير ذلك العالم وتحريكه حرك من نفسه ذلك الرمز الذي هو روح ذلك العالم، فتحرك أجزاء ذلك العالم في عالم الشهادة والملك والملكوت بتحريك ذلك الرمز، فإن الجسد تابع للروح...وقد تحققتُ بهذا المشهد في سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة(2).
منظر (كن فيكون):
__________
(1) المناظر الإلهية، (ص:76، 77). وكلمة جان فارسية معناها: (ابن) ودوست معناها: (صاحب).
(2) المناظر الإلهية، (ص 78، 79).(1/389)
أول ما يتصف العبد بالتكوين في عالم الغيب، فيكوِّن الأشياء في الملكوت، ولا يستطيع على تكوينها في الملك! فمثله مَنْ يستطيع تصور الخيالات في عقله ولا يقدر عليها في محسوسه، فإذا استقام رجله في هذا المنظر، ثم اتصف حساً بصفتي القدرة والإرادة، يتجلى الله عليه بتجل إلهي يُكسبه نفوذ الأمر في عالم الأكوان جميعاً، الغيبية والشهادة، فحينئذ يقول للشيء كن فيكون، غيباً وشهادة، والناس في هذا المنظر متفاوتون، فمنهم من يظهر أثر أمره على الفور، ومنهم من يتأخر ظهور أثر أمره(1)...
* ملحوظة:
أرجو من القارئ الكريم أن يقرأ في فصل لاحق، مفعول المخدرات ورؤاها، ثم يقارنها بهذه الرؤى والمشاهدات، مع ملحوظة أن رؤى حشاش المخدرات تنبثق من عواطفه وأمانيه الساذجة، أما رؤى حشاش الإشراق فتنبثق من إيحاءات الشيخ وتوجيهاته، والطموحات المسيطرة على الجو الصوفي.
- ولنكتف من هذا الغوث بهذه المشاهد.
- ولنستعرض بعده الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر محيي الدين بن عربي في بعض وصفه لبعض الكشوف، يقول:
...واشتغلْ بالذكر حتى يتجلى لك مذكورك...
ثم بعد هذا يُكشف لك عن عالم سريان الحياة السببية في الأحياء، وما تعطي من الأثر في كل ذات بحسب استعداد الذوات...
فإن لم تقف مع هذا رُفع عنك، ورُفعت لك اللوائح اللوحية(2)، وخوطبت بالمخاويف، وتنوعت عليك الحالات، وأقيم لك دولاب تعاين فيه صور الاستحالات، وكيف يصير الكثيف لطيفاً واللطيف كثيفاً...
فإن لم تقف مع هذا رُفع لك نورٌ متطاير الشرر، فستطلب الستر عنه فلا تخف، ودم على الذكر فإنك إذا دمت على الذكر لم تصبك آفة...
...فإن لم تقف مع هذا رُفع لك عن أرواحٍ مستهلكة في مشهد من مشاهده، هم فيه حيارى سكارى قد غلبهم سلطان الوجد، فدعاك حالهم.
__________
(1) المناظر الإلهية، (ص:79).
(2) اللوحية نسبة إلى اللوح المحفوظ.(1/390)
فإن لم تقف لدعوته رُفع لك نورٌ لا ترى فيه غيرك، فيأخذك فيه وجد عظيم وهيمان شديد، وتجد فيه من اللذة بالله ما لم تكن تعرفها قبل ذلك، ويصغر في عينك كل ما رأيته، وأنت تتمايل فيه تمايل السراج(1)...
- وهذا وصف آخر لابن طفيل في أول كتابه: (حي بن يقظان)، يقول: سألتَ أيها الأخ الكريم، الصفي الحميم، منحك الله البقاء الأبدي، وأسعدك السعد السرمدي، أن أبث إليك ما أمكنني بثه من أسرار الحكمة المشرقية(2)....ولقد حرك مني سؤالك خاطراً شريفاً، أفضى بي إلى مبلغ هو من الغرابة بحيث لا يصفه لسان، ولا يقوم به بيان، لأنه من طور غير طورهما، وعالَم غير عالمهما. غير أن تلك الحال، لما لها من البهجة والسرور، واللذة والحبور، لا يستطيع من وصل إليها وانتهى إلى حد من حدودها، أن يكتم أمرها أو يخفي سرها، بل يعتريه من الطرب والنشاط والمرح والانبساط ما يحمله على البوح بها بجملة دون تفصيل، وإن كان ممن لم تحذقه العلوم، قال فيها بغير تحصيل؛ حتى إن بعضهم قال في هذه الحال: سبحاني ما أعظم شأني، وقال غيره: أنا الحق، وقال غيره: ليس في الثوب إلا الله، وأما الشيخ أبو حامد الغزالي، رحمة الله عليه، فقال متمثلاً عند وصوله إلى هذا الحال بهذا البيت:
فكان ما كان مما لست أذكره ... ... فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر
وإنما أدبته المعارف وحذقته العلوم...
...إلى أن يقول:
__________
(1) رسالة الأنوار، (ص:8- 12).
(2) يستعمل ابن طفيل عبارة (المشرقية) بدلاً من (الإشراقية) تقليداً لابن سينا.(1/391)
...وهذه الحال التي ذكرناها وحركنا سؤالك إلى ذوقٍ منها، هي من جملة الأحوال التي نبه عليها الشيخ أبو علي (أي: ابن سينا)، حيث يقول: ثم إذا بلغت به الإرادة والرياضة حداً ما، عنت له خلسات من اطّلاع نور الحق لذيذة، كأنها بروق تومض إليه ثم تخمد عنه(1)، ثم إنه تكثر عليه هذه الغواشي إذا أمعن في الارتياض، ثم إنه ليوغل في ذلك حتى يغشاه في غير الارتياض، فكلما لمح شيئاً عاج عنه إلى جناب القدس(2)، فيذكر من أمره أمراً، فيغشاه غاش، فيكاد يرى الحق في كل شيء، ثم إنه لَتَبْلُغ به الرياضة مبلغاً ينقلب له وقته سكينة، فيصير المخطوف مألوفاً، والوميض شهاباً بيناً، وتحصل له معارفه مستقرةً كأنها صحبة مستمرة.. إلى ما وصفه من تدرج المراتب وانتهائها إلى النيل، بأن يصير سره مرآةً يحاذي بها شطر الحق، وحينئذ تدر عليه اللذات العلى، ويفرح بنفسه لما يرى بها مِنْ أثر الحق، ويكون له في هذه الرتبة نظر إلى الحق ونظر إلى نفسه، وهو بعدُ متردد، ثم إنه ليغيب عن نفسه، فيلحظ جناب القدس فقط، وإن لحظ نفسه فمن حيث هي لاحظة، وهناك يحق الوصول.
- قبل تكملة المسيرة مع ابن طفيل، أريد أن أنبه إلى أننا يجب أن نفهم العبارات:
يرى الحق في كل شيء وكأنها صحبة مستمرة، ويحاذي بها شطر الحق، فهماً منطلقاً من عقيدة الصوفية التي ترفض الاثنينية وما ينبثق عنها من قول بالحلول أو الاتحاد، وتكفر من يقول بها، أي يجب أن نفهمها انطلاقاً من عقيدتهم بوحدة الوجود، فقط.
ونعود إلى ابن طفيل، يقول بعد فقرات من قوله السابق:
...وظهر بهذا القول أن مطلوبك لم يتعد أحد غرضين:
__________
(1) هذا هو ما يسمونه البوارق أو اللوامع أو اللوامح أو البوادة... إلخ.
(2) يعني بعبارة (جناب القدس) الألوهية.(1/392)
1- إما أن تسأل عما يراه أصحاب المشاهدة والأذواق والحضور في طور الولاية، فهذا مما لا يمكن إثباته على حقيقة أمره في كتاب، ومتى حاول أحد ذلك وتكلفه بالقول أو الكتب استحالت حقيقته، وصار من قبيل القسم الآخر النظري، لأنه إذا كُسِيَ الحروف والأصوات، وقُرِّب من عالم الشهادة، لم يبق على ما كان عليه بوجه ولا حال، واختلفت العبارات فيه اختلافاً كثيراً، وزلت به أقدام قوم عن الصراط المستقيم، وظُن بآخرين أنها زلت وهي لم تزل، وإنما كان ذلك لأنه أمر لا نهاية له في حضرةٍ متسعة الأكناف، محيطةٍ غير محاط بها.
2- والغرض الثاني من الغرضين اللذين قلنا: إن سؤالك لن يتعدى أحدهما، هو أن تبتغي التعريف بهذا الأمر على طريقة أهل النظر، وهذا- أكرمك الله بولايته- شيء يحتمل أن يوضع في الكتب، وتتصرف به العبارات، ولكنه أعدمُ من الكبريت الأحمر، ولا سيما في هذا الصقع الذي نحن فيه، لأنه من الغرابة في حد لا يظفر باليسير منه إلا الفرد بعد الفرد، ومَن ظفر بشيء منه لم يكلم الناس به إلا رمزاً، فإن الملة الحنيفية والشريعة المحمدية قد قنعت من الخوض فيه وحذرت عنه. اهـ.
- مع الانتهاء من فقرات ابن طفيل، أريد أن أظن أن القارئ الذي تمرس باللغة الصوفية يعرف أن معنى جملة ابن طفيل: وظن بآخرين أنها زلت وهي لم تزل، وإنما كان ذلك لأنه أمر لا نهاية له في حضرةٍ متسعة الأكناف.. هو أن هناك قوماً قالوا العبارات المخيفة: أنا الله، أو سبحاني، أو ما شابهها. وظن أناس بهم أنهم زلوا، وهو ليس كذلك، لأنهم قالوا ذلك وهم مغلوبون بشدة الجذبة.
ويريدون بقولهم: (زلوا)، أي صرحوا بوحدة الوجود في حالة الصحو، أو فاهوا بالعبارات التي تفضحهم، مثل: أنا الله، سبحاني...، أو ما شابه ذلك، وهذا هو البوح بالسر.
وغوث آخر يصف كشوفه:(1/393)
يقول ابن قضيب البان(1) في كتابه: المواقف الإلهية:
موقف الإسراء:
...ثم زجني الروح بالشوق إلى جهة الفوق، حتى حللنا الطبقة الثانية، فتلقانا بها أمم سانية، ورأيت في ذلك السوح نبي الله نوحاً يملي على أهل كل صنعة صنعته، ويبكي حتى تجري على خديه دمعته، ورأيت دموعه أصل وجود الشهب لتنوير تلك الحجب، ورأيت هناك أرواح العلماء به حافة، وأقدام الشهداء بين الملائكة صافة.
ورأيت فيها عين ماء جارية إلى فوق، وأرواح أهل الشوق والعشق واقفة في تلك السماء، ورأيت فيها فارساً على فرسه طارداً لا يمل ولا يكل ساعة واحدة، فسألت عنه، فقيل: هو الملك عطارد، كاتب الأخبار، وكل من في تلك السماء كتبة...
- للعلم: عطارد أو (الكاتب)، هو كوكب سيار من المجموعة الشمسية، مثل الأرض، يظهر صباحاً قبيل الشمس في المشرق، أو مساء في المغرب، حيث يغيب بعد الشمس بقليل، والكشف الجاهل، لم يساعد القطب الجاهل، على معرفة عطارد كما لم يساعده على معرفة الشهب.
ويكمل ابن قضيب البان قصة عروجه فيقول:
ثم ارتقينا إلى السماء الثالثة، وهي أعظم دائرة...ورأيت عليها حاجبين موكلين، اسم الواحد (القوة)، والآخر (الحول)، فأخذا بيدي ودارا بي في تلك الأماكن كلها...وفيها رأيت يوسف الصديق جالساً على كرسي من الحسن...ورأيت في ذلك السماء صورة مبتسمة والحياء ظاهر منها، فقال لي الروح: هذا المسيح بن مريم روح الله، ورأيت فيها ملائكة لكل ملك ألف رأس، في كل رأس ألف وجه، في كل وجه ألف فم، في كل فم ألف لسان، وقال لي الروح: هذه الملائكة الذين وكلهم الله بأرزاق أولاد آدم في الأرض، وعليهم ملك أعظمهم اسمه (القاسم).
__________
(1) عبد القادر بن محمد بن أبي الفيض السيد الأفضل أبو محمد، يتصل نسبه بقضيب البان الموصلي، ولد بحماة سنة (971هـ)، وتوفي في حلب سنة (1040هـ).(1/394)
ثم انتهينا إلى السماء الرابعة، وهي من معدن الفضة، وجنس خلقها منها، لهم أنوار تتلألأ، ورأيت هناك ملكاً على كرسي جالساً، أعظم أهلها هيبةً وهيئةً، والملائكة صافة به، فسألت عنه، فقيل: هو مغناطيس الأرواح وجامعها بعد انبثاثها في الصور...ثم قال لي الروح: اسم هذه السماء: (القدرة الباهرة)، وفيها رأيت إدريس وأكثر أولياء أمة محمد العارفين بالله، وفي هذه السماء انتشت فيَّ الحواس حتى بقيت أدرك بكل حاسة كل ما تدركه الحواس الخمس، وفيها خرق بصري الكون وشاهدت أعلى عليين وأسفل سافلين.
ثم انتهينا إلى السماء الخامسة، وإذا هي من معدن الذهب، ولونها حمراء، وخلق أهلها من جنسها...وهناك رأيت يحيى وزكريا وهارون...
ثم انتهينا إلى السماء السادسة، وهي من لؤلؤة، ونورها أبيض يعطي إلى الصفرة، وخلق أهلها منها، وفيها رأيت موسى بن عمران عليه السلام، وفيها رأيت ملكاً اسمه بلسائيل...وسألته عن أهل الأرض البيضاء وأصل نشئها، فأجاب عنها بأنها خلقت قبل أن يخلق الله تعالى السماوات والأرض بكذا ألف سنة، وذكر أن هذا الليل والنهار والشمس والقمركانوا موجودين في عالم منها، وكذلك الجواري الكنس، فلما خلق الله السماوات نقل كل كوكب إلى سماء منها، وذكر أن الجنة والنار يسمع بهما أهل السماوات من الملائكة وأهل الأرض من الجن ولم يدروا أماكنها...(1/395)
ثم انتهينا إلى السماء السابعة، وهي درة بيضاء كاللبن، وخلق أهلها من جنسها، وفيها ملك اسمه روحائيل موكل بأهلها...وفيها ملك على كرسي من نور، له أربعة أوجه، وجه على صورة الإنسان، ووجه على صورة الأسد، ووجه على صورة الثور، ووجه على صورة الأسد(1)...وفي هذه السماء رضوان خازن الجنان.. وفيها إسرافيل رئيس عالم الجبروت، وهو الذي بشرني بالقرب والمنزلة الكريمة عند ربي، وبالسعادة في الآخرة والشفاعة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي هذه السماء رأينا إبراهيم الخليل مسنداً إلى البيت المعمور، وتركت عنده الروح الملكوتي، وأخذ بيدي الرئيس للأرواح الجبروتية، إسرافيل، ثم انتهينا إلى بحار سبع، بحر أحمر، وبحر أسود، وبحر أزرق، وبحر أخضر، وبحر أبيض، وبحر أصفر، وبحر لا لون له، ثم انتهينا إلى حجب سبعين، عند كل حجاب من الحجب من أصناف الملائكة ما لا يعلم صنفهم وعددهم إلا الله تعالى، وعرض كل حجاب كما بين المشرق والمغرب هناك، وعمقه كما بين السماء والأرض، ثم انتهينا إلى سبعين حجاباً أخر، منها من ذهب، ومنها من فضة، ومنها من نحاس، ومنها من جوهر، ومنها من ثلج، ومنها من بَرَد، ومنها من نور، ومنها من ظلمة، وكنت كلما دنوت من حجاب تلقاني حاجبه وزجني فيه إلى أعلاه، بعدما يريني عجائبه وصُنع الحق تعالى فيه، ويبشرني بالكرامة من ربي القادر، حتى انتهيت إلى آخر حجاب هناك، وإذا بكرسي من اللؤلؤ منتصبة قوائمه من الجوهر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، فأخذ آخذ بيدي وأجلسني عليه، ثم نزل علي شيء ودخل جوفي من حيث لا أعلم، فقال لي شيء في قلبي: هاقد أكرمك مولاك بالسكينة الربانية...ثم نوديت من مكان قريب، وذلك من جهاتي الست: يا حبيبي ومطلوبي! السلام عليك، فغمضت عيني، وكنت أسمع بقلبي ذلك الصوت حتى أظنه من جوارحي لقربه مني، ثم نوديت:
__________
(1) صورة هذا الملاك الذي يقدمها هذا القطب، تذكرنا بصورآلهة الهندوس في الهند.(1/396)
انظر إلي ففتحت عيني فصرتُ كلي أعيناً، وكأن في باطني ما أراه في ظاهري، وصرت كأني برزخ بين كونين وقاب....ثم سمعت بقارئ يقرأ قوله: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ...)) [البقرة:285]، وإذا بذلك الحجاب قد رفع، وأذن لي بدخوله، ولما دخلته رأيت الأنبياء صفوفاً صفوفاً، ودونهم الملائكة، ورأيت أقربهم إلى الحق أربعة أنبياء، ورأيت أولياء أمة محمد أقرب الناس إلى محمد، وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى، وأقرب إليه أربعة أولياء فعرفت منهم السيد محيي الدين عبد القادر، وهو الذي تلقاني إلى باب الحجاب، وأخذ بعضدي حتى دنوت من سيدنا محمد صلى الله عليه وآله، فناولني يمينه، فأخذته بكلتا يدي، فلا زال يجذبني ويدنيني حتى ما بقي بيني وبين ربي أحد، فلما حققت النظر في ربي رأيته على صورة النبي، إلا أنه كالثلج أشبه شيء أعرفه في الوجود من غير رداء ولا ثياب، ولما وضعت شفتي على محل منه لأقبله، أحسست ببرد كالثلج سبحانه وتعالى، فأردت أن أخر صعقاً، فمسكني سيدنا محمد صلى الله عليه وآله، وأعادني إلى ورائي، فعدت معه، فتلقاني ثان، فلا زلت القهقرى وأنا شاخص إلى ما أراه، فلم أشعر بنفسي إلا وأنا على الكرسي الأول(1)...
- جاء في حاشية (الصفحة: 172) أن المؤلف (ابن قضيب البان) كان علق في هامش الصفحة التي فيها هذا النص ما يلي: وإذا أنا بالمسجد الحرام من مكة عند المقام، جالس في الحجر، قريب الفجر، فجددت الوضوء، وحضرت الصلاة سنة الألف وكنت مجاوراً بمكة حينئذ، فتمت الواقعة بعد الصبح.
ونترك مناقشة هذا الكلام الرهيب والتعليق عليه للقارئ.
ويقول ابن قضيب البان أيضاً في نفس الكتاب:
موقف سر قيام الحياة بالذات الوجودية:
__________
(1) الإنسان الكامل في الإسلام، (ص:166- 172.).(1/397)
أوقفني الحق على سر قيام الحياة بالذات الوجودية، فنظرت إلى سريان وحدة الوجود، والتئام شمل كل موجود، ثم حققت بعين الاعتبار، فإذا أنا بمراتب الوصال...ثم أطلعني على أسوار البدء والعود لدوائر الآثار وتنافر الأسماء، ثم كشف لي عن دائرة الكون السفلي...ثم كشف لي عن سر التنزيل والإرسال، وحكمة الوعد والوعيد، وحال الاجتباء والاصطفاء، ومقام الاختبار، ثم أشهدني العمدة في ذلك بعد كشف السُّبحات، فرأيت هناك صورة شاب، وجهه الشمس نوراً، وحوله صُور كالبدور والنجوم حُسناً، وأشعة أنوارهم جاذبة لكل موجود، وبين أيديهم موائد وأوانٍ بفواكه مملوءة، وأثمار معددة، وأشخاص يأخذون من ذلك الفضل، ويفعلون ما يؤمرون؟ وقد أشغلني نظري إليه، وأدهشني حضوري لديه، فنظر إلي نظر داع وشفيق راع، فسمعت صوتاً يقول: أرسل له الأمانة- بعدما هممت بالإقبال عليه، وكان بيني وبينه نحو عشرة صفوف- واذا بشيء حمله ومد به يده إليَّ، فتناولته بكلتا يدي، وهي آنية مملوءة من كل شيء، فابتلعتها لوقتي، وتيقظت لحسي، فإذا أنا بالبيت الحرام طائف، وقد حييت بحق المقام، وفي يدي كأس من زمزم، ما رشفته منه متمم، وحمدت الله على ما شهدته من الخير المقدم(1).
- ويقول: موقف الأنانية:
__________
(1) الإنسان الكامل في الإسلام، (ص:186، 187).(1/398)
أوقفني الحق على بساط الأنانية، ثم كشف لي عن سر قيام النفس الرحماني، والسر الباعث لروح الكشف والانتباه...وهناك أراني سر الحقائق في السعة والمضايق...ثم كشف لي عن أسرار المؤالفة والمتابعة وحال المعاينة، وأسرار الأديان المختلفة بالألقاب، ثم كشف لي عن بيت العزة، وأراني كيفية تنزُّل الصحف والكتب المسطَّرة، وكشف لي عن أمم الحروف العالية، وتنزُّلها في قوالب الكلِمِ المرموقة، فرأيت لكل حرف سبعة أبطن...وكشف لي عن إبطان المعية الذاتية وسريانها في سبق السوابق ولحق اللواحق. وكشف لي عن قيام أسرار حروف الألف، فرأيت قيام امتداد (الهمزة) بكل حقيقة خفية، و(اللام) بكل عالم كوني جلي، و(الفاء) بمعرفة كل معروف عند تعريفه، وقال لي: هذا السر لا يظهر إلا عند أفول قمر البشرية، وتجلي شمس الروحانية (أي: في حالة الجذبة)، ثم قال لي: وفي ظهورها قوة (شين) المشيئة، و(ميم) الكلام، و(سين) السلطان في حجب السبحاتية(1)...(إلى آخرهذه الهذيانات التحشيشية الأفيونية الهلوسية (التحشيش الروحاني).
- ويقول: موقف القطبية:
__________
(1) الإنسان الكامل في الإسلام، (ص:187، 188).(1/399)
أوقفني الحق على بساط القطبية، وقال لي: الإنسان الكامل قطب الشأن الإلهي، وغوث الآن الزماني، أول ما أُسلِّم له التصريف في قُطر نفسه حتى يبلغ الأشد، ثم أُسلِّم له ما وافقه من أقطار الأقاليم، ثم أُسلِّم له الأرض، ثم يُسلِّم له الملك، ثم يجمع له الملك والملكوت، وهذا هو النائب الرحماني. وقال لي: القطب يعرفه كل شيء حتى أهل الغيب وعالم المحال وأهل الأرض البيضاء، ويعرض عليه أحوال العوالم، وصور أولي العلم حتى يسميها بطابع الرحمة ويردها بالبصر. وقال لي: القطب قلبه في كِنِّ عالم الأزل، ومخدع الألوهة، وشخصه قبل كل وارد على الله في مركز الوقت على صفة بين كل عالم وبرزخ بين القبضتين والدارين، وبصره في أسرار الوجود ووجوه القلوب، وهو نكتة إنسان العين في الأبد والأزل، وهو المرآة لرؤية وجه الحق، وعنده مقر قاب قوسين، وقيام لواء الحمل. وقال لي: القطب فاروق الوقت، وقاسم الفيض، وإليه مُفَوَّض أَزمَّة الأمور...وقال لي: الكون كله صورة القطب، وأنا ذاته، وبأنفاسه ظهور ألوان الشئون الذاتية، وهو الباب الذي لا دخول ولا خروج إلا منه(1) (إلى آخر هذه الضلالات الهذيانية الحمقاء).
- ويقول: موقف الغوثية:
__________
(1) الإنسان الكامل في الإسلام، (ص:189، 190).(1/400)
أوقفني الحق على مقام غوثية الوجود وسر الإغاثة لكل موجود، عند خروجه من بحر العدم، ثم كشف لي عن المعارف الغوثية وأرواح مشاهدها في الشاهدين، وتحققتُ أسرار الصمدانية عند شهود أنوارها...ورأيت نشر حلل الرضا وكئوس الصفا وهي دائرة على الواردين من أهل الكشف، وفيها شراب النور والرؤية ومخاطبة الأسرار وسماط اللقاء، ومؤيد البقاء على كرسي الارتقاء، فرأيت أعيان حقائق الوجود حافَّة به، ثم رأيت تجلي الوجه الأحدي، ثم رأيت الهوية ومحاسن (إلاَّ هويَّة)(1)من مظاهر الألوهية في حضرة الأنس وحظيرة القدس.. ثم أُتي لي بخلعة الغوثية(2).
* ملحوظة:
يخبرنا ابن قضيب البان في هذا النص، أنه غوث زمانه، كما يخبرنا أن مقام الغوثية يرافقه، أو يرتبط به شهود أنوار الصمدانية، أو تحقق أسراراها.
وعبارة (تحقق أسرار الصمدانية) أو (شهود أنوار الصمدانية) تحمل نفس معنى العبارة التي تقول: (ذقت من معاني اسمه الصمد).
إذن، فنضيف إلى سؤال سابق سؤالاً جديداً: لِمَ لا تغيث الأمة الإسلامية وتنقذها مما تتردى فيه من ذل ومهانة ودمار في كل مكان، وجهل بالإسلام الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟ لِمَ ما دمت غوثاً أو قطباً على الأقل؟!
وللعلم، فإنه لا يكون موجوداً في وقت واحد إلا غوث واحد (هكذا يقررون)، ومع ذلك فلم يَخْلُ زمن من عدة أغواث مثل الجيلاني والرفاعي وأبي مدين مثلاً، ويوجد الآن عدة أغواث، حيث يظهر أن شياطينهم مختلفون فيما بينهم.
وللعلم أيضاً، كل الواصلين منهم يعرجون في السماوات ويتحققون بالفناءات، إلا من لا شيخ له.
والملحوظةالهامة أن رؤاهم كلها تنبثق من عواطفهم وطموحاتهم، وتتحرك في أجواء مأخوذة من معلوماتهم التي استقوها من المعارف الشائعة في عصرهم، بعجرها وبجرها وعامها وخاصها.
__________
(1) إلا هوية) مأخوذة من (إلا هو) في قولهم: (لا هو إلا هو).
(2) الإنسان الكامل في الإسلام، (ص:194).(1/401)
ونختم هذا الفصل بكلمة لأبي الهدى الصيادي (المرشد الكامل) عن اللذة في الجذبة، يقول: ...كما أن لهم المناجاة واللذة السارية في جميع وجودهم...(1). وأقول: إن هذه اللذة هي من الأسباب التي تربطهم بالصوفية، والعشق الإلهي هو -في الحقيقة- الشوق إلى هذه اللذة مع مرض الإدمان.
ولعل أهم ملحوظة يجب أن ننتبه إليها هي هذه الرؤى الكشفية التي وصفوها، والتي تظهر بوضوح أنها منبثقة من معلومات المكاشف وأمانيه المختزنة في لا شعوره، وطبعاً، استقى معلوماته من الوسط الثقافي الذي يحيط به، ومن توجيهات الشيخ. كما نرى أن دور قواه الفكرية اللاشعورية هو التنسيق والتصوير، ولو كانت معلومات المكاشف المختزنة وأمانيه مختلفة لتغيَّرت كشوفه حسب اختلافها.
الفصل الثاني
نماذج من حكايات الصوفية ومكاشفاتهم وكراماتهم وعلومهم اللدنية
يا مُلّسْلَيْن يا بلّمعَيْن يا منعلهيْ ... ... يا ما نقول يا تعليميا يا فَوْأَيَسْ واجفر
حكايات الصوفية وكراماتهم ومكاشفاتهم وعلومهم اللدنية، هي بيان واضح كاف لكشف حقيقة الصوفية.
إنها لا تزيد عن كونها خليطاً من المعلومات الخرافية التي كان الناس يظنونها حقيقة، ومن أوهام غرورية بعثتها أماني خرقاء، وطموحات هذيانية قفزت فوق الدين والعقل والفطرة والواقع، ومن رؤى ومسرحيات يضحك بها على أذقانهم خبثاء تلك المخلوقات، التي ترانا ولا نراها والتي هي الجن.
ولنترك حكاياتهم وكراماتهم ومكاشفاتهم وعلومهم اللدنية، لنتركها تتكلم بواقعها كما هي، لأن واقعها أبلغ من كل كلام.
* جبال قاف وكاف وعين وصاد:-
مما يذكره أبو طالب المكي:
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:112).(1/402)
...قيل لأبي يزيد (البسطامي): بلغت جبل قاف؟ فقال: جبل قاف أمره قريب، الشأن في جبل كاف وجبل عين وجبل صاد! قيل: وما هذا؟ قال: هذه جبال محيطة بالأرضين السفلى، حول كل أرض جبل بمنزلة جبل قاف المحيط بهذه الأرض الدنيا، وهو أصغرها، وهذه أصغر الأرضين، وقد كان أبو محمد يخبر أنه صعد جبل قاف ورأى سفينة نوح مطروحة فوقه، وكان يصفه ويصفها؟ وقال: لله عبد بالبصرة يرفع رجله وهو قاعد، فيضعها على جبل قاف(1). اهـ.
* الملحوظة:
النص يبين وضوح ما هو جبل قاف؛ وقد كان الناس يتوهمون صورة غير صحيحة للأرض، والآن عرف سطح الأرض، وعرفت مساحته بدقة، ولم يبق منه أي شيء مجهولاً، حتى قاع البحر، كل ذلك درس طوبوغرافياً وجيولوجياً وفيزيائياً وكيميائياً...والسؤال: أين يقع جبل قاف؟ ولم يكتف القوم بقاف، حتى أضافوا إليها كاف وعين وصاد، ثم إن القرآن الكريم يخبرنا عن سفينة نوح أنها استوت على الجودي، لا على جبل قاف، فهل كان الكشف أصدق من القرآن الكريم؟
لكن ما شأننا نحن؟ فالراوي هو أبو طالب المكي (القطب)، والمكاشف هو قطب أكبر. (وفي كل كشوفاتهم التي سنرى بعضها، تظهر القيمة التافهة لعلومهم اللدنية الجاهلة).
* لا يشرب ولا ينام طيلة سنة كاملة:-
مما يورده أبو طالب المكي وحجة الإسلام الغزالي وغيرهما:
قيل لأبي يزيد البسطامي: حدثنا عن رياضة نفسك في بدايتك؟ فقال: نعم، دعوت نفسي إلى الله، فجمحت علي، فعزمت عليها أن لا أشرب الماء سنة ولا أذوق النوم! فوفت لي(2)!
- بدون مناقشة أو تعليق.
* قصة بدون عنوان:-
__________
(1) قوت القلوب (2/69).
(2) قوت القلوب (2/70)، وإحياء علوم الدين: (4/304).(1/403)
مما يرويه الحجتان، أبو طالب المكي وأبو حامد الغزالي وغيرهما: ...حكي أن أبا تراب النخشبي كان معجباً ببعض المريدين، فكان يدنيه ويقوم بمصالحه، والمريد مشغول بعبادته ومواجدته؛ فقال له أبو تراب يوماً: لو رأيت أبا يزيد، فقال: إني عنه مشغول، فلما أكثر عليه أبو تراب من قوله: لو رأيت أبا يزيد. هاج وجد المريد فقال: ويحك، ما أصنع بأبي يزيد؟ قد رأيت الله فأغناني عن أبي يزيد! قال أبو تراب: فهاج طبعي ولم أملك نفسي، فقلت: ويلك، تغتر بالله عز وجل! لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة!! قال؛ فبهت الفتى من قوله وأنكره، فقال: وكيف ذلك؟ قال له: ويلك، أما ترى الله تعالى عندك فيظهر لك على مقدارك، وترى أبا يزيد عند الله قد ظهر له على مقداره، فعرف ما قلت(1)...
- لا يسعنا إلا السكوت الحزين أمام أمثال هذه المكاشفات الضلالية التي أوردها صاحبا: (قوت القلوب)، و(إحياء علوم الدين).
* ومرة أخرى جبل قاف:-
يقول أبو طالب المكي (وهو حجة عند القوم):
إن ولياً لله خطا خطوة واحدة خمسمائة عام، ورفع رجله على جبل قاف والأخرى على جانب الجبل الآخر، فعبر الأرض كلها(2)...
* المناقشة:
__________
(1) القوت: (2/70)، والإحياء: (4/305).
(2) قوت القلوب: (2/70).(1/404)
محيط الأرض (أربعون ألف كم)، ونصف المحيط أي (عشرون ألف كم) هي أبعد مسافة بين نقطتين عليه، وعندما يتحدثون عن (مسافة خمسمائة عام) فإنهم يعنونها بسرعة القوافل في ذلك الوقت، وكانت سرعتها الوسطى أو (أقل من الوسطى) حوالي (35 كم) يومياً، حيث كانت تقطع في الشهر حوالي (ألف كيلو متر)، وبذلك يكون محيط الأرض حسب حساباتهم (أربعين شهراً) (فقط لا غير)، أي (ثلاث سنوات وثلث)، وتكون مسافة (الخمسمائة عام) أطول من نصف محيط الأرض بـ (300 مرة) على أقل تقدير، بل وأبعد من المسافة بين الأرض والقمر بـ (15 مرة)، ولكن كشفهم يجهل هذه الحقائق، والسؤال يُترك للقارئ اللبيب مع التوكيد على أنهم يرون ذلك بالكشف وكأنه حقيقي.
* إرم ذات العماد:-
يورد أبو طالب المكي نفسه:
...قيل لأبي يزيد: دخلت إرم ذات العماد؟ فقال: قد دخلت (ألف مدينة) لله في ملكه، أدناها ذات العماد، ثم عدد كلها: البيت، وتاويل، وتاريس، وجابلق، وجابرس، ومسك. ولعل قائلاً يقول: فقد قال الله في وصفها: ((الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ)) [الفجر:8]. قيل: فإن معناه في بلاد اليمن، لأنهم خوطبوا في بلادهم...فذات العماد مدينة عاد في اليمن بين أبتر والشحر، يقال: لها سور له (ألف باب)، ما بين البابين فرسخ، مركبة على أعمدة الذهب والفضة والياقوت والزبرجد، فيها (مائة ألف عمود) من ذلك...تجتمع في هذه المدينة طائفة من الأبدال ليالي الجمع وفي الأعياد...وقد كان سهل رحمه الله يزورها في كل جمعة(1)....
* المناقشة:
الهذيان الجاهل واضح لا يحتاج إلى من ينبه عليه، لكن يظهر أن كشفهم أجهل ما يكون في حساب المسافات!! لأن سوراً طوله (ألف فرسخ) كاف لتسوير اليمن كلها بما في ذلك أبتر والشحر، ويبقى منه بقية، ولكنه الكشف والعلم اللدني! فلا تعترض.
* حتى أمر الساعة بيدهم:
يقول الحجتان؛ المكي والغزالي:-
__________
(1) قوت القلوب: (2/70).(1/405)
...ولما دخل الزنج البصرة، فقتلوا الأنفس، ونهبوا الأموال، اجتمع إلى سهل إخوانُه، فقالوا: لو سألت الله تعالى دفعهم؟ فسكت. ثم قال: إن لله عباداً في هذه البلدة لو دعوا على الظالمين لم يصبح على وجه الأرض ظالم إلا مات في ليلة واحدة! ولكن لا يفعلون. قيل: لِمَ؟ قال: لأنهم لا يحبون ما لا يحب، ثم ذكر من إجابة الله لهم أشياء لا يستطاع ذكرها، حتى قال: ولو سألوه أن لا يقيم الساعة لم يقمها(1)...
يعلق الغزالي (حجة الإسلام) على هذا الهذيان الضلالي بقوله:
وهذه أمور ممكنة في أنفسها، فمن لم يحظ بشيء منها فلا ينبغي أن يخلو عن التصديق والإيمان بإمكانها، فإن القدرة واسعة، والفضل عميم، وعجائب الملك والملكوت كثيرة، ومقدورات الله تعالى لا نهاية لها، وفضله على عباده الذين اصطفى لا غاية له(2)...
* الملحوظات:
لا نستطيع التعليق على هذه القصة ولا على التعليق؟ فالقصة يرويها عملاقان من عمالقة التصوف، والتعليق يقدمه حجة الإسلام ومحجة الدين التي يتوصل بها إلى دار!! لكن إذا كان قوله: (لو سألوه ألا يقيم الساعة لم يقمها) بكل ما فيه من تطاول وضلال يُستطاع ذكره، فما هي الأشياء التي لا يستطاع ذكرها؟! هي ولا شك أكبر بكثير وأضل بكثير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. لكنه الكشف والعلم اللدني والولاية، ولا تعترض.
* دعوة إلى الذل والمهانة:
يقول الحجتان نفساهما:
__________
(1) قوت القلوب (2/71)، والإحياء: (4/305).
(2) الإحياء: (4/305).(1/406)
...وعن بعضهم أنه قال: أقلقني الشوق إلى الخضر عليه السلام، فسألت الله تعالى مرة أن يريني إياه ليعلمني شيئاً كان أهم الأشياء علي، قال: فرأيته، فما غلب على همي ولا همتي إلا أن قلت له: يا أبا العباس! علمني شيئاً إذا قلته حجبت عن قلوب الخليقة، فلم يكن لي فيها قدر، ولا يعرفني أحد بصلاح ولا ديانة؟ فقال: قل: اللهم أسبل علي كثيف سترك، وحط علي سرادقات حجبك، واجعلني في مكنون غيبك، واحجبني عن قلوب خلقك. قال: ثم غاب فلم أره، ولم أشتق إليه بعد ذلك؟ فما زلت أقول هذه الكلمات في كل يوم. فحكى أنه صار بحيث يستذل ويمتهن، حتى كان أهل الذمة يسخرون به ويستسخرونه في الطرق يحمل الأشياء لهم لسقوطه عندهم، وكان الصبيان يلعبون به، فكانت راحته ركود قلبه واستقامة حاله في ذلك وخموله(1)...
- يعلق الغزالي (الإمام حجة الإسلام) على هذا فيقول: وهكذا حال أولياء الله تعالى، ففي أمثال هؤلاء ينبغي أن يطلبوا(2)...
- ونحن بدورنا نسأل الغزالي، ونسأل معه المكي قبله: ما معنى قوله تعالى: ((وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)) [المنافقون:8]؟ على أن الآية نفسها قدمت الجواب، فقالت: ((وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)) [المنافقون:8].
وأمثال هذه الدعوة تفسر لنا سبب انحطاط المسلمين وما آل إليه أمرهم.
* لا قيمة للصلاة والصيام في الآخرة:-
يقول حجة الإسلام الهمام، بدر التمام، أبو حامد، بل أبو المحامد، الغزالي (بعد أن يتكلم على المقامات الصوفية):
...فالعلم بحدود هذه الأمور...هو علم الآخرة، وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة (أي: الصوفية)، فالمعرض عنها هالك بسطوة ملك الملوك في الآخرة، كما أن المعرض عن الأعمال الظاهرة هالك بسيف سلاطين الدنيا، بحكم فتوى فقهاء الدنيا(3)...
__________
(1) القوت: (2/73)، والإحياء: (4/306).
(2) الإحياء: (4/306).
(3) الإحياء: (1/19). وهذا المعنى يتكرر في الإحياء، انظر: (4/183، 184).(1/407)
* الملحوظات:
نجيب على الضلال السافر الملاحظ في هذا النص بما يلي:
1- قوله عن العلم بالمقامات الصوفية: هو فرض عين في فتوى علماء الآخرة، هو تشريع، فنطالبه بالدليل من القرآن والسنة، ونرد عليه بقول الله سبحانه: ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)) [الشورى:21]، ونقول له: هذا تشريع جريء جداً، لم يأذن به الله، وهو شرك عظيم.
2- واضح كل الوضوح أن عبارة (الأعمال الظاهرة) يعني بها: الصلاة والصيام والحج والجهاد...وكل ما ظهر من الأعمال التكليفية، ويقرر (هذا الحجة) أن المعرض عنها هالك بسيف سلاطين الدنيا! أي إنه غير مؤاخذ عند الله! وهذا تكذيب للقرآن والسنة، كما يقرر أنه هالك بفتوى فقهاء الدنيا، أي إن علماء الآخرة (الصوفية) لا يرون فيها شيئاً! وهذا اعتراف بأن الصوفية لا يدينون بأوامر القرآن والسنة.
يكرر (حجة الإسلام) هذا المعنى في عدة مواضع في (إحيائه)، هذا واحد منها، وقد مر بعضها فيما سبق من نصوص، ويُترك الحكم للقارئ اللبيب.
* أذل من الكلب (ضعها في المقام المناسب):-
يورد الحجتان (إياهما):
...روي أن ابن الكُرَيني، وهو أستاذ الجنيد، دعاه رجل إلى طعام ثلاث مرات، ثم كان يرده ثم يستدعيه، فيرجع إليه بعد ذلك، حتى أدخله في المرة الرابعة، فسأله عن ذلك؟ فقال: قد رُضْتُ نفسي على الذل عشرين سنة حتى صارت بمنزلة الكلب يُطرد فينطرد، ثم يُدعى فيُرمى له عظم فيعود، ولو رددتني خمسين مرة ثم دعوتني بعد ذلك لأجبت!(1/408)
وعنه أيضاً أنه قال: نزلت في محلة، فعُرفت فيها بالصلاح، فشُتِّتَ علي قلبي، فدخلت الحمام، وعدلت إلى ثياب فاخرة، فسرقتها ولبستها، ثم لبست مرقعتي فوقها، وخرجت أمشي قليلاً قليلاً، فلحقوني، فنزعوا مرقعتي وأخذوا الثياب، وصفعوني، وأوجعوني ضرباً، فصرت بعد ذلك أعرف بلص الحمام، فسكنت نفسي(1)...
يعلق الغزالي على هذا العمل الذي لا يمت إلى الإسلام بأي صلة، فيقول: فهكذا كانوا يروضون أنفسهم حتى يخلصهم الله من النظر إلى الخلق، ثم من النظر إلى النفس، فإن الملتفت إلى نفسه محجوب عن الله تعالى (أي: لا يستشعر الألوهية) وشغله بنفسه حجاب له(2)...
- ونجيبه: إن هذا الأسلوب في ترويض النفس متبع في الهندوسية وفي البوذية، وفي الكهانة وفي السحر، والإسلام بريء منه.
ومثل هذا التوجيه المنحرف يفسر لنا سبب ارتكاس الأمة الإسلامية في الدرك الذي تتخبط فيه، وسبب انحراف أبنائها عن المحجة البيضاء.
* الطريق العجيب إلى الولاية العجيبة:
يورد الحجتان نفساهما أيضاً:
__________
(1) القوت: (2/74)، والإحياء: (4/306). وتعزى قصة لص الحمام في القوت إلى مجهول، بينما تعزى في كتاب (نشر المحاسن الغالية) لليافعي إلى إبراهيم الخواص (مات في الري سنة 291هـ).
(2) الإحياء: (4 /306).(1/409)
...وحكي أن شاهداً عظيم القدر من أعيان أهل بسطام كان لا يفارق مجلس أبي يزيد، فقال له يوماً: أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر ولا أفطر، وأقوم الليل لا أنام، ولا أجد في قلبي من هذا العلم الذي تذكر شيئاً! وأنا أصدق به وأحبه، فقال أبو يزيد: ولو صمت ثلاثمائة سنة، وقمت ليلها، ما وجدت من هذا ذرة! قال: ولم؟ قال: لأنك محجوب بنفسك، قال: فلهذا دواء؟ قال: نعم. قال: قل لي حتى أعمله. قال: لا تقبله. قال: فاذكره لي حتى أعمل. قال: اذهب الساعة إلى المزين، فاحلق رأسك ولحيتك، وانزع هذا اللباس، واتزر بعباءة، وعلق في عنقك مخلاة مملوءة جوزاً، واجمع الصبيان حولك، وقل: كل من صفعني صفعة أعطيته جوزة؛ وادخل السوق، وطف الأسواق كلها عند الشهود وعند من يعرفك وأنت على ذلك! فقال الرجل: سبحان الله، تقول لي مثل هذا! فقال: أبو يزيد: قولك: سبحان الله شرك! قال: وكيف؟ قال: لأنك عظمت نفسك فسبحتها وما سبحت ربك. فقال: هذا لا أفعله، ولكن دلني على غيره؟ فقال: ابتدئ بهذا قبل كل شيء. فقال: لا أطيقه. قال: قد قلت لك إنك لا تقبل(1)...
- يعلق الغزالي على هذا التوجيه الساقط فيقول:
فهذا الذي ذكره أبو يزيد هو دواء من اعتل بنظره إلى نفسه، ومرض بنظر الناس إليه، ولا يُنجي من هذا المرض دواء سوى هذا وأمثاله، فمن لا يطيق الدواء فلا ينبغي أن ينكر إمكان الشفاء في حق من داوى نفسه...(2).
- وهذا التعليق ينقله الغزالي عن المكي بتصرف.
* الملحوظات:
يلاحظ في هذا النص اعترافٌ من ثلاثة أقطاب، أن طريق الصوفية لا صلة له بطريق الإسلام، فللإسلام طريقه التي أمر الله بها، من صلاة، وصيام،...وبقية الأحكام، وللصوفية طريقها التي ما أنزل الله بها من سلطان. وهذه القصة يوردها أقطاب آخرون في كتبهم شأن كل القصص الأخرى.
أما الملحوظات الأخرى فنتركها للقارئ اللبيب.
__________
(1) القوت: (2/74، 75)، والإحياء: (4/306).
(2) الإحياء: (4/307).(1/410)
* جعلوا الدعاء منسوخاً (من مقام التسليم والرضا):-
يورد الغزالي والمكي قبله:
...وضاع لبعض الصوفية ولد صغير ثلاثة أيام لم يُعرف له خبر، فقيل له: لو سألت الله تعالى أن يرده عليك؟ فقال: اعتراضي فيما قضى أشد عليّ من ذهاب ولدي(1).
- سؤال موجه إلى صاحبي: (القوت) و(الإحياء): ما معنى قوله سبحانه: ((ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) [غافر:60]؟ وهل نسخهاكشفهم؟!!
* من مقام الفقر:
يورد شهاب الدين السهروردي البغدادي:
...وقال الدراج: فتشت كنف أستاذي أريد مكحلة، فوجدت فيها قطعة، فتحيرت، فلما جاء قلت له: إني وجدت في كنفك هذه القطعة! قال: قد رأيتها؟ ردها، ثم قال: خذها واشتر بها شيئاً. فقلت: ما كان أمر هذه القطعة بحق معبودك؟ فقال: ما رزقني الله تعالى من الدنيا صفراء ولا بيضاء غيرها، فأردت أن أوصي أن تشد في كفني فأردها إلى الله(2)...
* الملحوظة:
لا أظن أن مسلماً عنده شيء من الفهم الإسلامي، يجهل ما في هذا القول من غباء وضلال وتفكير وثني لا يمت إلى الإسلام بصلة؟! يجعل القطعة في كفنه ليردها إلى الله!!
* صدق أو لا تصدق:-
مما يورده أبو نصر الطوسي وابن الملقن:
أن محمد بن علي الكتاني(3) ختم في الطواف (اثنتي عشر ألف ختمة)(4)!
- كيف تم هذا؟ لا ندري.
* ومن كراماتهم:-
مما يورده عبد الوهاب الشعراني:
...ومنهم عبد الله بن عون رضي الله تعالى عنه...كان يخلو في بيته صامتاً متفكراً، وما دخل حماماً قط(5).
- ولا تعليق.
* المهدي الذي لا يعرفه الإسلام:
ويورد الشعراني نفسه:
__________
(1) القوت: (2/43)، والاحياء: (4/299).
(2) عوارف المعارف في هامش الإحياء: (4/310).
(3) الكتاني بغدادي مات في مكة سنة (322هـ).
(4) اللمع، (ص:225)، وطبقات ابن الملقن، (ص:148).
(5) طبقات الشعراني (1/64).(1/411)
...الشيخ حسن العراقي صاحب الضريح فوق الكوم بقرب بركة الرطلي بمصر، ذكر لي رضي الله تعالى عنه أنه اجتمع بالمهدي إمام آخر الزمان عليه السلام بدمشق، وأقام عنده سبعة أيام، وعلمه ورده كل ليلة (خمسمائة ركعة) وصيام الدهر(1)...
- سؤال: من هو هذا المهدي الساكن في دمشق، والذي سيظهر آخر الزمان؟ ومتى ولد؟ وكم عمره الآن؟ وهل هو حي لا يموت؟...إلى آخر الأسئلة.
وفي حدود ما سمعت، يوجد الآن ثلاثة أقطاب يدّعون المهدوية، قطبان في بلاد الشام، وقطب في الجزائر، وكل واحد منهم ينتظر الإذن بالتحرك! وكم من قطب أخبره كشفه أنه المهدي فكان كشفه كاذباً مثله.
وهنا تتوارد أسئلة كثيرة، أتركها للقارئ ليتسلى بها وبالتعليق على هذه الكشوف والمشاهدات.
ولكن ما يجب قوله: إن المهدية عن طريق الكشف، كانت من الأسباب الرئيسية لتشتت الأمة الإسلامية وتمزقها، وانحرافها عن الطريق المستقيم، ومن قرأ التاريخ عرف هذه الحقيقة الأليمة.
- كرامات؟ كرامات؟ كرامات؟ كرامات؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول الشعراني (القطب الرباني والغوث الصمداني):
...وسبب حضوري في مولده (أي: مولد أحمد البدوي) كل سنة، أن شيخي العارف بالله تعالى محمد الشناوي رضي الله عنه، أحد أعيان بيته رحمه الله، قد كان أخذ علي العهد في القبة تجاه وجه سيدي أحمد رضي الله عنه، وسلَّمني إليه بيده، فخرجت اليد الشريفة من الضريح، وقبضت على يدي. وقال سيدي: يكون خاطرك عليه واجعله تحت نظرك، فسمعت سيدي أحمد رضي الله عنه من القبر يقول: نعم نعم. ثم إني رأيته بمصر مرة أخرى هو وسيدي عبد العال، وهو يقول: زرنا بطندتا (طنطا)، ونحن نطبخ لك ملوخية ضيافتك، (وطبعاً المرئي في مصر مع سيدي عبد العال هو أحمد البدوي الميت من قرون)، فسافرت، فأضافني غالب أهلها وجماعة المقام ذلك اليوم، كلهم بطبيخ الملوخية.
__________
(1) الأنوار القدسية في الآداب، هامش الطبقات: (1/5).(1/412)
ثم رأيته (أي: أحمد البدوي الذي مات منذ قرون) وقد أوقفني على جسر قحافة، تجاه طندتا، فوجدته سوراً محيطاً، وقال: قف هنا، أدخل علي من شئت وامنع من شئت. ولما دخلت بزوجتي فاطمة أم عبد الرحمن وهي بكر، مكثت خمسة شهور لم أقرب منها، فجاءني (أي: أحمد البدوي) وأخذني وهي معي، وفرش لي فرشاً فوق ركن القبة التي على يسار الداخل، وطبخ لي حلوى، ودعا الأحياء والأموات إليه، وقال: أزل بكارتها هنا، فكان الأمر تلك الليلة.
وتخلفت عن ميعاد حضوري للمولد سنة (948هـ)، وكان هناك بعض الأولياء، فأخبرني أن سيدي أحمد رضي الله عنه، كان ذلك اليوم يكشف الستر عن الضريح، ويقول: أبطأ عبد الوهاب ما جاء.
وأردت التخلف سنة من السنين، فرأيت سيدي أحمد رضي الله عنه ومعه جريدة خضراء، وهو يدعو الناس من سائر الأقطار، والناس خلفه ويمينه وشماله، أمم وخلائق لا يحصون، فمر علي وأنا بمصر، فقال: أما تذهب؟ فقلت: بي وجع. فقال: الوجع لا يمنع المحب؛ ثم أراني خلقاً كثيراً من الأولياء وغيرهم، الأحياء والأموات من الشيوخ والزمنى بأكفانهم يمشون ويزحفون معه يحضرون المولد، ثم أراني جماعة من الأسرى جاءوا من بلاد الإفرنج مقيدين مغلولين يزحفون على مقاعدهم(1)...
- أقول: المأمول، الآن، من القارئ الكريم أن يكون عارفاً أن هذه كلها هلوسات كشفية، تختلط عند العارف مع الواقع فلا يميز بينهما، وأنها ليست من الإسلام في شيء، وأن الهندوس والطاويين والجبنيين يرون مثلها وأكثر، وكذلك بعض مرضى الأعصاب، ونزلاء مستشفيات الأمراض العقلية، والحشاشين، كما أن المأمول أيضاً أن يكون عارفاً لما فيها من شرك ووثنية، ومخالفات صريحة جريئة للإسلام ولدين الإسلام، ولرسول الإسلام، ولكل ما جاء به الإسلام. (ولكنه الكشف على كل حال).
* كشف:-
__________
(1) طبقات الشعراني: (1/186).(1/413)
...وكان (علي وفا) يقول في قوله تعالى: ((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ...)) [آل عمران:96] الآية، المراد به قلب آدم عليه السلام، لأنه أول بيت وضع للرب في البشر، وهو أيضاً بجسده مدفون تحت عتبة هذا البيت، كما أعطاه الكشف، وأما بنيّة البيت فهو مثال مضروب للقاصرين ليتذكروا به المعنى عند رؤية مثاله، فافهم(1).
- التعليق: هذه صورة من التفسير الإشاري أرجو من القارئ أن ينتبه لها، وتترك الأسئلة للقارئ.
* كرامة.. وكشف عورة:
...ومنهم الشيخ محمد بن هارون رضي الله تعالى عنه ورحمه...وكان سبب خراب بلده سنهور المدينة، أنه كُشف له عن صاعقة تنزل عليها من السماء تحرقها بأهلها، فأمر بذبح ثلاثين بقرة وطبخها، ومدها في زاويته، وقال للنقباء: لا تمنعوا أحداً يأكل أو يحمل، فأكل الناس وحملوا جهدهم، فجاء فقير مكشوف العورة، أشعث أغبر، فقال: أطعموني، فأطعموه حتى عجزوا، فلم يستطيعوا أن يشبعوه، فدفعوه وأخرجوه، فنزلت الصاعقة على البلد، فخرج الشيخ بأهله ومن تبعه، وهلك الناس في أسواقهم وبيوتهم أجمعين، فقال الشيخ للنقيب: يا ولدي: ما هذا الذي فعلته؟ شخص يريد أن يتحمل البلاء عن بلدنا بأكلة تمنعه! فهي إلى الآن خراب، وعمروا خلافها(2)...
سؤال واحد: متى خرج الشيخ مع أهله وأتباعه من المدينة؟ هل كان ذلك قبل الصاعقة أم بعدها؟ وماذا عن كشف العورة؟ والأسئلة والتعليقات كثيرة تُترك للقارئ اللبيب الفاهم للإسلام.
* والآن جاء دور السحلية (حيوان زاحف صغير):
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/31).
(2) طبقات الشعراني: (2/3)، وجامع النبهاني: (1/210)، والنبهاني (يوسف بن إسماعيل) من إجزمْ شمالي فلسطين، درس في الأزهر وعمل في القضاء وتوفي في بيروت سنة (1350هـ).(1/414)
...وحكى لي شيخنا سيدي علي الخواص رضي الله تعالى عنه، أن سيدي محمد بن هارون، سلبه حاله مرة صبي القرَّاد، وذلك أنه كان إذا خرج من صلاة الجمعة، تبعه أهل المدينة يشيعونه إلى داره، فمر بصبي القراد وهو جالس تحت حائط يفلِّي خلقته من القمل وهو ماد رجليه؛ فخطر في سر الشيخ أن هذا قليل الأدب، يمد رجليه ومثلي مار عليه، فسُلب لوقته! وفرت الناس عنه، فرجع فلم يجد الصبي، فدار عليه في البلاد إلى أن وجده في رميلة مصر؛ فلما نظر القراد الكبير إليه وهو واقف، وقد فرغوا، قال له: تعال يا سيدي الشيخ، مثلك يخطر في خاطره أن له مقاماً أو قدراً؟ هذا الصبي سلبك حالك، فله أن يمد رجله بحضرتك لكونه أقرب إلى الله منك! فقال: التوبة، فأرسله إلى سنهور المدينة، إلى الحائط التي كان يفلي ثوبه عندها، وقال له: ناد السحلية التي هناك في الشق، وقل لها: إن قزمان طاب خاطره علي فردي علي حالي، فخرجت ونفخت في وجهه، فرد الله عليه حاله رضي الله عنه(1).
- عجيب! الولاية، يسلبها صبي القراد وتعيدها سحلية!! وما دامت الولاية بنفخة سحلية، فما معنى قوله سبحانه: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)) [الإسراء:70] و...إلخ.
إن هذه العلوم الخرافية وأمثالها سيطرت على الأمة الإسلامية طيلة قرون طويلة، وسيطر بسببها الجهل بجميع أنواعه وأشكاله حتى وصلت إلى ما هي فيه الآن، ولم تزل هذه العقلية الغنوصية المنبعثة من الرؤى الشيطانية، التي تضحك بها الشياطين على عقول هؤلاء القوم وعلى أذقانهم، وهم يبثونها بين الناس، لم تزل مسيطرة على أفكار جماهير المسلمين، حتى المثقفين منهم، ولكنها تظهر بصور شتى. (وعلى كل حال هي العلوم اللدنية فسلِّم للقوم حالهم).
* تسجد لهم الملائكة:-
يقول عبد القادر الجيلاني (قطب الأولياء الكرام، شيخ المسلمين والإسلام):
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/3)، وجامع النبهاني: (1/211).(1/415)
...من الأولياء من تسجد الملائكة له، وتكتف أيديها إلى ورائها. آحاد أفراد من الأولياء ترى الملائكة(1)...اهـ.
- وأنا أيضاً أقف هنا مكتوف الأيدي إلى وراء، لا أعرف ماذا أعلق على هذا المستوى من الضلال؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهذا طبعاً من العلم اللدني.
ويقول الجيلاني نفسه:
يا غلام، اقرن بين الدنيا والآخرة، واجعلهما في موضع واحد، وانفرد بمولاك عز وجل عرياناً من حيث قلبك، بلا دنيا ولا آخرة...يا غلام، لا تكن مع النفس ولا مع الهوى، ولا مع الدنيا، ولا مع الآخرة، ولا تتابع سوى الحق عز وجل(2)...
* التعليق:
يأمرنا (سلطان الأولياء) أن نتعرى عن الدنيا والآخرة، ويأمرنا أن نقرن الآخرة بالدنيا، بمعنى أن ننبذ الآخرة كنبذنا للدنيا؟ ويقرن الآخرة مع النفس والهوى والدنيا، فنسأله، ونسأل الذي خدعوا به: ماذا بقي لنا إن تعرينا عن الآخرة وتركناها؟ ولم يعمل العاملون المؤمنون؟ أليس كل عمل المؤمن هو من أجل الآخرة؟
الله سبحانه يعلمنا أن ندعوه: ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) [البقرة:201]، فهل نطيع الله أم نطيع الجيلاني؟
عشرات الآيات في القرآن الكريم تأمرنا أن تكون غايتنا هي الآخرة، وأن تكون هي رجاءنا من الله سبحانه، منها مثلاً: ((اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ)) [العنكبوت:36]، فهل وصل (المقام) بالجيلاني إلى مستوى نسخ القرآن؟!
ثم يتساءل المتسائلون: ما دام الإسلام دين الفطرة، فلِمَ انحرف عنه المسلمون وابتعدوا منه بسلوكهم وأخلاقهم وعقائدهم؟ والجواب ماثل أمام الأعين، لكنها لا تعمى الأبصار...
__________
(1) الفتح الرباني: (ص:370).
(2) الفتح الرباني، (ص:14، 15).(1/416)
ويقول:..يا جاهل، اترك الدفتر من يدك، وتعال اقعد ههنا بين يدي على رأسك، العلم يؤخذ من أفواه الرجال لا من الدفاتر، يؤخذ من الحال لا من المقال، يؤخذ من الفانين عنهم (أي: عن أنفسهم) وعن الخلق، الباقين بالحق عز وجل(1)...- إنه ينهى عن علم الدفاتر ويأمر بعلم الحال لا بعلم المقال: وطبعاً علم الدفاتر، هو نفسه علم المقال، (الذي يتعلم بالقول واللسان)، وهو كل العلوم الإنسانية بما فيها علم الشريعة الإسلامية من قرآن وحديث وشروحهما وفقههما...إلخ، ثم يتساءلون عن سبب الجهل المتفشي في المسلمين؟
* كرامة فوق الإعجاز والمعجزات:-
...ومنهم الشيخ علي نور الدين المرصفي رحمه الله تعالى ورضي عنه آمين: كان من الأئمة الراسخين في العلم، وله المؤلفات النافعة في الطريق...وذكر لي سيدي أبو العباس رحمه الله أنه قرأ بين المغرب والعشاء خمس ختمات؟! فقال الشيخ: الفقير وقع له أنه قرأ في يوم وليلة ثلاثمائة وستين ألف ختمة؟؟!! كل درجة ألف ختمة(2)...اهـ.
- واإسلاماه! واعقلاه! واإنسانيتاه! واحياءاه؟! ولكنها الولاية؟
إن هذه الرؤى الشيطانية وأمثالها، التي سيطرت على عقول المسلمين، هي التي أفسدت فيهم ما أفسدت من تفكير أصبح غير سليم، لا يفكر إلا بأسلوب خرافي سحري بعيد عن الواقع الصحيح، ومن عقيدة انحرفت عن عقيدة الإسلام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، ومن سلوك أصبح موجهاً بالخيالات الصوفية الضبابية، والرؤى الكشفية التي تختلط عند الكمَّل مع الواقع فلا يميزون بينهما غالباً.
* كرامات وولاية تمقت الأذان وتحارب الصيام:-
__________
(1) الفتح الرباني، (ص:214).
(2) طبقات الشعراني: (2/128)، وجامع النبهاني: (2/367)، وذكرها الشيخ عبد الغني النابلسي في (شرح الطريقة المحمدية).(1/417)
...ومنهم سيدي إبراهيم بن عصيفير رضي الله تعالى عنه آمين...وكان كثير الكشف، وله وقائع مشهورة...وكان بوله كالحليب أبيض، وكان يغلب عليه الحال فيخاصم ذباب وجهه، وكان يتشوش من قول المؤذن (الله أكبر) فيرجمه ويقول: عليك يا كلب نحن كفرنا يا مسلمين حتى تكبروا علينا! وما ضبطت عليه قط كشفاً أخرم فيه...وكان رضي الله عنه يقول: أنا ما عندي من يصوم حقيقة إلا من لا يأكل اللحم الضاني أيام الصوم كالنصارى، وأما المسلمون الذين يأكلون اللحم الضاني والدجاج أيام الصوم فصومهم عندي باطل...وكان يفرش تحته في مخزنه التبن ليلاً ونهاراً، وقبل ذلك كان يفرش زبل الخيل، وكان إذا مرت عليه جنازة وأهلها يبكون، يمشي أمامها معهم ويقول: زلابية هريسة زلابية هريسة، وأحواله غريبة(1)...اهـ. ولا تعليق.
* ولي يمنع خادمه من الصلاة ويضربه إذا صلى:-
...ومنهم سيدي الشيخ شهاب الدين الطويل النشيلي رضي الله تعالى عنه...وكان ينادي خادمه وهو في الصلاة، فإن لم يجبه مشى إليه وصكه ومشى به وقال: كم أقول لك لا تعد تصلي هذه الصلاة المشئومة، فلا يستطيع أحد يخلصه منه(2)...
- وبالطبع فإن الصوفية يرون أن منعه من الصلاة له تأويل!
* جب نفسه تقرباً إلى الله (لعل هذا من مقام الورع!:-
...ومنهم سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله تعالى عنه (وهو من السلسلة الشاذلية) كان رضي الله عنه من الأولياء الأكابر...وكان مقطوع الذكر، قطعه بنفسه أوائل جذبه، وكان جالساً على الرمل صيفاً وشتاءً، وإذا جاع أو عطش يقول: أطعموه، أسقوه(3) اهـ.
ولا تعليق.
* تواضع مرحاضي ويدخل الجامع بالكلاب! رضي الله عنه:-
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/140).
(2) طبقات الشعراني: (2/141).
(3) طبقات الشعراني: (2/141).(1/418)
...ومنهم الشيخ أبو الخير الكليباتي رضي الله عنه، كان رضي الله عنه من الأولياء المعتقدين، وله المكاشفات العظيمة مع أهل مصر وأهل عصره...وكان أغلب وقته واضعاً وجهه في حلق الخلاء في ميضأة جامع الحاكم! ويدخل الجامع بالكلاب(1)!!
- لعل هذا من مقام التواضع المرحاضي الممزوج بالكلاب.
* مأمونية حموية:-
وحكى لي خادم سيدي أبي الخير الكليباتي أن شخصاً أتاه وأخبره أنه قال للشيخ:
إن زوجتي حامل، وقد اشتهت مأمونية حموية، ولم أجدها، فقال له الشيخ: ائتني بوعاء، فأتاه به، فتغوط له فيها مأمونية سخنة! فقال الخادم: وأكلت منها لعدم اعتقادي أنها غائط(2)!!
(ولا تعليق).
* يخطب عرياناً ويخرج الريح أمام الناس ويحلف كاذباً رضي الله عنه:-
...ومنهم الشيخ إبراهيم العريان رضي الله تعالى عنه ورحمه...وكان رضي الله تعالى عنه يطلع المنبر ويخطب عرياناً، فيقول: السلطان ودمياط باب اللوق بين القصرين وجامع طيلون الحمد لله رب العالمين، فيحصل للناس بسط عظيم...وكان يخرج الريح بحضرة الأكابر، ثم يقول: هذه ضرطة فلان، ويحلف على ذلك، فيخجل ذلك الكبير منه، مات سنة نيف وثلاثين وتسعمائة(3).
* ملحوظة هامة:
يظهر أن العري أمام الناس، المحرم في الإسلام، هو من مستلزمات الولاية الصوفية، ولكنه هين أمام المأمونية الحموية.
على كل حال، يجب أن تؤول لهؤلاء القوم ضلالاتهم للتستر عليها، كما يجب أن لا ننسى أنه يحلف كاذباً رضي الله عنه!.
* طبل وزمر:-
ومنهم سيدي إبراهيم المجذوب رضي الله تعالى عنه: كان رضي الله عنه كل فلوس حصلها يعطيها للمطبلين ويقول: طبلوا لي زمروا لي(4)...
* يحمل عن الناس؛ ماذا؟ ويتطور؛ لماذا؟:-
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/143)، وجامع النبهاني: (1/454).
(2) الأنوار القدسية في القواع: (2/44).
(3) طبقات الشعراني: (2/142)، وجامع النبهاني: (1/412).
(4) طبقات الشعراني: (2/142).(1/419)
...ومنهم سيدي سويدان المدفون بالخانكه رضي الله عنه...ووقع له وقائع وكرامات، وكان فمه لم يزل فيه نحو الخمسين حبة من الحمص ليلاً ونهاراً، يقال: إنها حملات الناس(1)...
وكان كثير التطور، يدخلون عليه فيجدونه سبعاً تارة وفيلاً أخرى(2) (وطبعاً دور إبليس واضح).
* رحمة بالجيف والحيوانات الميتة:
ومنهم سيدي بركات الخياط، كان رضي الله عنه من الملامتية، وهو شيخ أخي أفضل الدين، وشيخ الشيخ رمضان الصائغ الذي بنى له الزاوية...وكان دكانه مُنتناً قذراً، لأن كل كلب وجده ميتاً أو قطاً أو خروفاً يأتي به فيضعه داخل الدكان، فكان لا يستطيع أحد أن يجلس عنده(3). اهـ. (أمام هذه الكرامات أحسن شيء هو الرقص مع النقص).
* يأكل كل يوم زبيبة فقط:-
ومنهم الشيخ مرشد رضي الله عنه: كان رضي الله عنه قادري الخرقة، وكان يطوي الأيام والليالي، وأخبرني أنه مكث نحو أربعين سنة يأكل كل يوم زبيبة واحدة حتى لصق بطنه على ظهره(4)...
- إنه بذلك ابتعد عن هدي الإسلام، والله لا يقبل من العبادات إلا ما أمر به.
* كرامات (فوق الفوق):-
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/144).
(2) جامع النبهاني: (2/100).
(3) طبقات الشعراني: (2/144).
(4) طبقات الشعراني: (2/148).(1/420)
ومنهم سيدي علي وحيش من مجاذيب النجارية رضي الله عنه: كان رضي الله عنه من أعيان المجاذيب أرباب الأحوال...وله كرامات وخوارق...وأخبرني محمد الطنيخي رحمه الله تعالى، قال: كان الشيخ وحيش رضي الله عنه يقيم عندنا في المحلة في خان بنات الخطا، وكان كل من خرج يقول له: قف حتى أشفع فيك عند الله قبل أن تخرج، فيشفع فيه، وكان يحبس بعضهم اليوم واليومين، ولا يمكنه أن يخرج حتى يجاب في شفاعته...وكان إذا رأى شيخ بلد أو غيره ينزله من على الحمارة، ويقول له: أمسك رأسها حتى أفعل فيها، فإن أبى شيخ البلد تسمر في الأرض لا يستطيع يمشي خطوة، وإن سمع حصل له خجل عظيم والناس يمرون عليه، وكان له أحوال غريبة، وقد أخبرتُ عنه سيدي محمد بن عنان رضي الله عنه، فقال: هؤلاء يخيلون للناس هذه الأفعال وليس لها حقيقة(1)! (ولا تعليق).
* من ولايتهم الزنا والمواخير:-
...ووقع للشيخ زون بهار المدفون بالقرافة بالقرب من سيدي يوسف العجمي رضي الله عنه، أنه كان يصعق في حب الله تعالى، فتضع الحوامل ما في بطونها من صعقته! فحول الله تعالى ذلك إلى حب امرأة من البغايا، فجاء إلى الصوفية، ورمى لهم الخرقة، وقال: لا أحب أن أكذب في الطريق، إن واردي تحول إلى حب فلانة؛ ثم صار يحمل لها العود، ويُركبها، ويمشي في خدمتها، إلى أن تحول الوارد إلى محبة الحق بعد عدة شهور، فجاء إلى الصوفية، فقال: ألبسوني الخرقة، فإن واردي رجع عن محبة فلانة؛ فبلغها ذلك فتابت ولزمت خدمته(2)...(ولا تعليق).
* قصة في القصص:-
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/150)، وجامع النبهاني: (2/515).
(2) طبقات الشعراني: (2/154)، وجامع النبهاني: (2/77)، وقد ورد الاسم فيها (روز بهار) بدلاً من (زون بهار).(1/421)
...وأخبرني شيخ الإسلام الشيخ نور الدين الطرابلسي الحنفي، والسيد الشريف الخطابي المالكي النحوي رحمهما الله تعالى، قالا: سمعنا سيدي عثمان رضي الله عنه يقول: لما حججت مع سيدي أبي بكر (الدقدوسي) سألته أن يجمعني على القطب فقال: اجلس هاهنا، ومضى فغاب عني ساعة، ثم حصل عندي ثقل في رأسي، فلم أتمالك أحملها حتى لصقت بعانتي، فجلسا يتحدثان عندي بين زمزم والمقام ساعة، وكان من جملة ما سمعت من القطب يقول: آنستنا يا عثمان، حلت علينا البركة، ثم قال لشيخي: توص به فإنه يجيء منه، ثم قرأا سورة الفاتحة وسورة قريش، ودعوا وانصرفا، ثم رجع سيدي أبو بكر رضي الله عنه فقال: ارفع رأسك. قلت: لا أستطيع. فصار يمرجني ورقبتي تلين شيئاً فشيئاً حتى رجعت لما كانت عليه، فقال: يا عثمان هذا حالك وأنت ما رأيته! فكيف لو رأيته(1)؟
- فما هذا القطب الرهيب الثقيل؟!
* عجائب وغرائب، والإله هو إبليس عليه الصلاة والسلام:-
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/106)، وجامع النبهاني: (2/294).(1/422)
ومنهم الشيخ محمد الحضري رضي الله تعالى عنه؛ المدفون بناحية نهبا بالغربية، وضريحه يلوح من البعد من كذا وكذا بلداً، كان من أصحاب جدي رضي الله عنهما، وكان يتكلم بالغرائب والعجائب من دقائق العلوم والمعارف ما دام صاحياً، فإذا قوي عليه الحال (أي: الولاية) تكلم بألفاظ لا يطيق أحد سماعها في حق الأنبياء وغيرهم، وكان يُرى في كذا وكذا بلداً في وقت واحد، وأخبرني الشيخ أبو الفضل السرسي أنه جاءهم يوم الجمعة، فسألوه الخطبة، فقال: بسم الله؛ فطلع المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ومجده، ثم قال: وأشهد أن لا إله لكم إلا إبليس عليه الصلاة والسلام، فقال الناس: كفر. فسل السيف ونزل، فهرب الناس كلهم من الجامع، فجلس عند المنبر إلى أذان العصر وما تجرأ أحد أن يدخل الجامع، ثم جاء بعض أهل البلاد المجاورة، فأخبر أهل كل بلد أنه خطب عندهم وصلى بهم، قال: فعددنا له ذلك اليوم ثلاثين خطبة، هذا ونحن نراه جالساً عندنا في بلدنا...وكان يقول: لا يكمل الرجل حتى يكون مقامه تحت العرش على الدوام. وكان يقول: الأرض بين يدي كالإناء الذي آكل منه، وأجساد الخلائق كالقوارير أرى ما في بواطنهم، توفي رضي الله عنه سنة سبع وتسعين وثمانمائة رضي الله عنه(1).
* تعليق على ما مضى:
هذه الكشوف والكرامات والعلوم اللدنية، تكشف لنا عن سبب النكسة التي أصيبت بها الأمة الإسلامية، بعد أن بعثها الله تلك البعثة الرائعة، لتكون سيدة التاريخ، ولتقيم شريعة الله في الأرض، حتى إذا ظهرت الصوفية وانتشرت، ضربت على الأمة غشاءً كثيفاً من الجهل والضلال والانحراف عن الإسلام...وسيقول لك المتصوفة: هذه القصص والكرامات والعلوم اللدنية لها تأويل. فنجيبهم: هذه خدعة باطلة ماكرة، تدل على أن القوم يكيدون للإسلام ويضمرون له الشرور.
* ما هو معنى (لا إله إلا الله)؟ يقول حجه الإسلام:
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/107)، وبعضها في جامع النبهاني: (1/286).(1/423)
...والأنبياء هم الكحالون، وقد جاءوا داعين إلى التوحيد المحض، وترجمته قول (لا إله إلا الله)، ومعناه: أن لا يرى إلا الواحد الحق(1)!! لنتذكر بيت شعر مجدد الألف الثاني.
- (لا إله إلا الله) هي المدخل إلى الإسلام، وهاهم قد حرفوا معناها! فماذا بقي لهم من الإسلام؟
* العصا إنسان، والبحر في إبريق، (والعقل والإيمان في سبات عميق):-
ومنهم الشيخ محمد الشربيني رحمه الله تعالى، شيخ طائفة الفقراء بالشرقية، كان من أرباب الأحوال والمكاشفات...ولما ضعف ولده أحمد، وأشرف على الموت، وحضر عزرائيل لقبض روحه، قال له الشيخ: ارجع إلى ربك فراجعه فإن الأمر نُسخ؟ فرجع عزرائيل وشفي أحمد...وكان رضي الله عنه يقول للعصا التي كانت معه: كوني إنساناً، فتكون إنساناً، ويرسلها تقضي الحوائج ثم تعود كما كانت...وكان من عادته أنه يأمر مريديه بالشحاتة على الأبواب دائماً في بلده...وكان الشيخ محمد بن عنان وغيره ينكرون عليه لعدم صلاته مع الجماعة، ويقول: نحن ما نعرف طريقة تقرب إلى الله تعالى إلا ما درج عليه الصحابة والتابعون...له ذرية بأرض الغرب، وذرية في بلاد العجم، وذرية في بلاد الهند، وذرية في بلاد التكرور، فكان في ساعة واحدة يطوف على عياله في هذه البلاد ويقضي حوائجهم، وكل أهل بلاد يقولون: إنه مقيم عندهم، ولتبدله في هذه الصور، وتصرفه في هذه الأشكال، كان ربما أنكر عليه بعض الفقهاء ترك الجمعة...وكان إذا أراد أن يعدِّي في البحر يقول له المعدِّي: هات كراء...فقال الشيخ: (ها الله)، وطأطأ الإبريق، فأخذ ماء البحركله فيه!! ووقف المركب على الأرض، فاستغفر المعدِّي وتاب، فصب الإبريق في البحر، ورجع الماء كما كان(2)...
- لنلاحظ في هذه القصة تلاعبات الشياطين في المناظر الوهمية الموهمة.
* واقف تجاه المارستان دائماً ولا يتغوط:-
__________
(1) إحياء علوم الدين: (4/75).
(2) طبقات الشعراني: (2/136)، وجامع النبهاني: (1/296، 297).(1/424)
ومنهم الشيخ علي الدويب رحمه الله تعالى آمين...وكان رضي الله عنه يمشي على الماء في البحر...وكان لم يزل واقفاً تجاه المارستان بين القصرين من الفجر إلى صلاة العشاء وهو متلثم وبيده عصاً مِنْ شوم.. كان لا يدخل بيت الخلاء لقضاء الحاجة إلا في كل نحو ثلاثة أشهر مرة واحدة(1).
* يشفع بالملائكة ويقوم للكلب!!:-
ومنهم أبو محمد عبد الرحيم المغربي القناوي رضي الله تعالى عنه: هو من أجلاء مشايخ مصر المشهورين وعظماء العارفين، صاحب الكرامات الخارقة والأنفاس الصادقة، له المحل الأرفع من مراتب القرب والمنهل العذب...وحُكي أنه نزل يوماً في حلقة الشيخ شبَحٌ من الجو، لا يدري الحاضرون ما هو، فأطرق الشيخ ساعة، ثم ارتفع الشبح إلى السماء! فسألوه؟ فقال: هذا مَلَك وقعت منه هفوة، فسقط علينا يستشفع بنا، فقبل الله شفاعتنا فيه، فارتفع!! وكان الشيخ إذا شاوره إنسان في شيء يقول له: أمهلني حتى أستأذن لك فيه جبريل عليه السلام، فيمهله، ثم يقول له: افعل أو لا تفعل، على حسب ما يقول جبريل...ومر مرة عليه كلب فقام له إجلالاً، فقيل له في ذلك؟ فقال: رأيت في عنقه خيطاً أزرق من زي الفقراء(2)...(هكذا وإلا فلا).
لئلا نتهم هؤلاء القوم الأبرار يجب أن نؤول كلامهم: فالمَلَك الذي نزل ليستشفع بالشيخ تأويله: إن الشيخ كان يرقص السماح في الحضرة، واستئذانه جبريل عليه السلام، فجبريل هذا هو أحد الأولياء المعاصرين للشيخ، واسمه: جبريل عليه السلام، والكلب الذي قام إجلالاً له هو أحد الأقطاب، والخيط الأزرق هو الدليل والبرهان. (ودور إبليس واضح).
* يكتحل بالملح والميل المحمي بالنار:-
__________
(1) طبقات الصوفية: (2/136)، وجامع النبهاني: (2/366).
(2) طبقات الشعراني: (1/157)، وجامع النبهاني: (2/165).(1/425)
ومنهم أبو بكر جحدر الشبلي رضي الله عنه...وكان رضي الله عنه يقول: اكتحلت بالملح كذا وكذا ليلة، لأعتاد السهر، ولا يأخذني النوم، فلما زاد علي الأمر حميت الميل واكتحلت به(1)...
- ولعل القارئ يدرك جيداً أن هذا كان قبل وصول الشبلي إلى الجذبة التي يسمونها (ولاية)، ونسأل: هل عمله هذا من الإسلام أم من الهندوسية؟
* والكلب أيضاً ولي:-
ومنهم سيدي يوسف العجمي الكوراني رضي الله تعالى عنه: وهو أول من أحيا طريقة الجنيد رضي الله عنه بمصر...ولقد وقع بصره يوماً على كلب، فانقادت إليه جميع الكلاب، إن وقف وقفوا، وإن مشى مشوا، فأعلموا الشيخ بذلك، فأرسل خلف الكلب، وقال: إخسأ، فرجعت عليه الكلاب تعضه حتى هرب منها. ووقع له مرة أخرى أنه خرج من خلوة الأربعين، فيقع بصره على كلب، فانقادت إليه جميع الكلاب، وصار الناس يُهرعون إليه (إلى الكلب) في قضاء حوائجهم، فلما مرض ذلك الكلب، اجتمع حوله الكلاب يبكون ويظهرون الحزن عليه، فلما مات أظهروا البكاء والعويل، وأَلْهَمَ الله تعالى بعض الناس فدفنوه، فكانت الكلاب تزور قبره حتى ماتوا(2)...(ونترك التعليق للقارئ).
* بوضوء واحد سبع عشرة سنة:-
__________
(1) طبقات الشعراني: (1/104).
(2) طبقات الشعراني: (2/66)، وجامع النبهاني: (2/535).(1/426)
ومنهم سيدي عيسى بن نجم، خفير البرلُّس رضي الله عنه، كان من العلماء العاملين، وله المجاهدات العالية في الطريق؛ وسمعت سيدي علياً المرصفي رضي الله عنه يقول: مكث سيدي عيسى بن نجم بوضوء واحد سبع عشرة سنة! فقلت: يا سيدي، كيف ذلك؟ فقال: توضأ يوماً قبل أذان العصر، واضطجع على سريره، وقال للنقيب: لا تمكن أحداً يوقظني حتى أستيقظ بنفسي، فما تجرأ أحد يوقظه، فانتظروه هذه المدة كلها، فاستيقظ وعيناه كالدم الأحمر، فصلى بذلك الوضوء الذي كان قبل اضطجاعه، ولم يجدد وضوءاً؛ وكان في وسطه منطقة، فلما قام وحلها تناثر من وسطه الدود رضي الله عنه(1).
* تنبيه:
هذا الكلام له تأويل (اجتناباً لاتهام العارفين بالضلال والجهل والغباء)، فسبع عشرة سنة (بفتح السين)، تأويلها: سبع عشرة سنة من النوم (بكسر السين)، مقدار كل سنة من النوم ثانيتان، فيكون المجموع أربعاً وثلاثين ثانية، (أي: أكثر من نصف دقيقة)، وأما السنة من النوم (بكسر السين)، فتأويلها أنه كان يقرأ ((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)) [البقرة:255]. والدود تأويله (طووووووط).
ويجب أن لا ننسى أن سيدي عيسى من العلماء العاملين، وسيدي علياً المرصفي كان من الأئمة الراسخين في العلم، والراوي هو القطب الرباني والغوث الصمداني. وتُترك للقارئ المناقشة.
* قصة؛ لعلها من مقام المراقبة:
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/107)، وجامع النبهاني: (2/428، 429).(1/427)
- ومنهم أبو سعيد القلوري رضي الله عنه، هو من أكابر العارفين والأئمة المحققين، صاحب الأنفاس الصادقة، والأفعال الخارقة، والكرامات والمعارف...ودُعي مرة إلى طعام هو وأصحابه، فمَنَعَهُم من أكل ذلك الطعام وأكله وحده، فلما خرجوا قال لهم: إنما منعتكم من أكله لأنه كان حراماً؟ ثم تنفس فخرج من أنفه دخان أسود عظيم كالعمود! وتصاعد في الجو حتى غاب عن أبصار الناس، ثم خرج من فمه عمود نار، وصعد إلى الجو حتى غاب عن النظر، ثم قال: هذا الذي رأيتموه هو الطعام الذي أكلته عنكم(1).
* توضيح:
هذه القصة إما أنها من أكاذيبهم، أو أنها من التمثيليات الشيطانية التي تضحك بها الشياطين على أذقانهم وعقولهم، وتستجرهم إلى ما أوصلوا الأمة إليه من زيغ وانحراف في العقيدة والسلوك.
* زغاريد.. والقذارة طريق لولايتهم.. قاق قاق:-
ومنهم الشيخ محمد السروي رحمه الله تعالى آمين، المشهور بأبي الحمائل، أحد الرجال المشهورة في الهمة والعبادة، وكان يغلب عليه الحال، فيتكلم بالألسن العبرانية والسريانية والعجمية، وتارة يزغرد في الأفراح والأعراس كما تزغرد النساء... وجاءه الشيخ علي الحديدي يطلب منه الطريق، فرآه ملتفتاً لنظافة ثيابه، فقال: إن كنت تطلب الطريق فاجعل ثيابك ممسحة لأيدي الفقراء، فكان كل من أكل سمكاً أو زفراً يمسح في ثوبه يده مدة سنة وسبعة شهور، حتى صارت ثيابه كثياب الزياتين أو السماكين...فلما رأى ثيابه، لقنه الذكر، وجاء منه في الطريق...
وكان يغلب عليه الحال ليلاً فيتكلم بألسنة غير عربية من عجم وهند ونُوبة وغيرها، وربما يقول: (قاق قاق) طول الليل، ويزعق ويخاطب قوماً لا يُرَون، وإذا قال شيئاً في غلبة الحال نفذ(2)...
* التعليق:
__________
(1) طبقات الشعراني:) 1/148 (، وجامع النبهاني:) 1/459 (. وقد ورد اسمه في الجامع (القيلري) بدلاً من القلوري.
(2) طبقات الشعراني: (2/126)، وجامع النبهاني: (1/299).(1/428)
قيق قيق... ثم يتساءلون عن سبب فساد الأمة الإسلامية، وهو أوضح من الوضوح، لكن يبقى سؤال: كيف عرفوا أنه يتكلم العبرانية والسريانية والعجمية والهندية؟؟ لعلهم عرفوا ذلك عن طريق الكشف! (كشوف فوق كشوف فوق كشوف، ظلمات بعضها فوق بعض).
* يتطور في الخلقة، ويجر السفينة بخصيتيه، ويعيش بلا طعام، وعجائب أخرى:-
ومنهم الشيخ حسين أبو علي رضي الله عنه ورحمه؛ كان هذا الشيخ رضي الله عنه من كُمَّل العارفين، وأصحاب الدوائر الكبرى، وكان كثير التطورات، تدخل عليه بعض الأوقات تجده جندياً، ثم تدخل فتجده سبعاً، ثم تدخل فتجده فيلاً، ثم تدخل فتجده صبياً، وهكذا. مكث نحو أربعين سنة في خلوة مسدود بابها، ليس لها غير طاقة يدخل منها الهواء...وكان الشيخ عُبيد أحد أصحابه الذي هو مدفون عنده الآن، مثقوب اللسان لكثرة ما ينطق به من الكلمات التي لا تأويل لها، وأخبرني بعض الثقات أنه كان مع الشيخ عُبيد في مركب فوحلت، فلم يستطع أحد أن يزحزحها، فقال الشيخ عبيد: اربطوها في بيضي بحبل وأنا أنزل أسحبها، ففعلوا، فسحبها ببيضه حتى تخلصت من الوحل(1).
مكث في خلوة بغيط خارج باب البحر أربعين سنة لا يأكل ولا يشرب، وباب الخلوة مسدود، وليس له إلا طاق يدخل منه الهواء...مات في مصر بعد سنة (790هـ).
- نسأل فقط عن كشف العورة، وترك الآخرين يمسكونها ليربطوا بها الحبل؟ ونترك الباقي للقارئ اللبيب.
* يديران الوجود كيف يشاءان (من مقام الحرية):-
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/87)، وجامع النبهاني: (2/46).(1/429)
ومنهم سيدنا ومولانا شمس الدين الحنفي رضي الله تعالى عنه ورحمه، كان رضي الله عنه من أجلاء مشايخ مصر وسادات العارفين، صاحب الكرامات الظاهرة، والأفعال الفاخرة، والأحوال الخارقة، والمقامات السنية.. صاحب الفتح المؤنق والكشف المخرق، والتصدر في مواطن القدس...وكان رضي الله عنه يأمر من يراه من أصحابه عنده شهامة نفس بالشحاتة من الأسواق وغيرها...وكان سيدي علي بن وفا رضي الله عنه يوماً في وليمة، (فاستأذن عليه الشيخ محمد الحنفي فقام له وأجلسه جانبه)، فدار الكلام بينهما، فقال سيدي علي: ما تقول في رجل رحى الوجود بيده، يدوِّرها كيف شاء؟ فقال له سيدي محمد رضي الله عنه: فما تقول فيمن يضع يده عليها فيمنعها أن تدور؟! فقال له سيدي علي: والله كنا نتركها لك ونذهب عنها! فقال محمد رضي الله عنه لجماعة سيدي علي: ودعوا صاحبكم فإنه ينتقل قريبآ إلى الله تعالى. فكان الأمر كما قال...وكان يتطور في بعض الأوقات حتى يملأ الخلوة بجميع أركانها، ثم يصغر قليلاً قليلاً حتى يعود إلى حالته المعهودة...ومرضت زوجته فأشرفت على الموت، فكانت تقول: يا سيدي أحمد يا بدوي، خاطرك معي! فرأت سيدي أحمد رضي الله عنه في المنام، وهو ضارب لثامين...وقال لها: كم تناديني وتستغيثي، وأنت لا تعلمين أنك في حماية رجل من الكبار المتمكنين، ونحن لا نجيب من دعانا وهو في موضع أحد من الرجال! قولي: يا سيدي محمد يا حنفي، يعافيك الله تعالى، فقالت ذلك، فأصبحت كأن لم يكن بها مرض!!
ودخلت على الشيخ يوماً امرأة أمير، فوجدت حوله نساء الخاص تكبِّسه، فأنكرت بقلبها عليه، فلحظها الشيخ بعينه وقال لها: انظري. فنظرت، فوجدت وجوههن عظاماً(1)...
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/88، وما بعدها)، وجامع النبهاني: (1/261، وما بعدها).(1/430)
...حتى قال: بلغنا عن الشبلي رحمه الله تعالى أنه دخل يوماً خربة يقضي فيها حاجته، فوجد فيها حمارة، فراوده الشيطان عليها، فلما أحس الشبلي رضي الله عنه ذلك، رفع صوته وصاح: يا مسلمون يا مسلمون، الحقوني وأخرجوا عني هذه الحمارة، فإني أعرف ضعف نفسي عن سلوك طريق الصيانة...ولما دنت وفاته (أي: وفاة محمد الحنفي) بأيام، كان لا يغفل عن البكاء ليلاً ولا نهاراً، وغلب عليه الذلة والسكون والخضوع حتى سأل الله تعالى قبل موته أن يبتليه بالقمل، والنوم مع الكلاب، والموت على قارعة الطريق، وحصل له ذلك قبل موته! فتزايد عليه القمل حتى صار يمشي على فراشه، ودخل له كلب فنام معه على الفراش ليلتين وشيئاً، ومات على طرف حوشه والناس يمرون عليه في الشوارع!! وإنما تمنى ذلك ليكون له أسوة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام(1)!!
- السؤال: نسأل من عرف مبادئ الإسلام وبدهياته، ما هو حكم الإسلام والعقل في مثل هذا: ادعاء التصرف في الكون، والاستغاثة بغير الله، ونساء أجنبيات يكبسن الولي! ومراودة النفس على حمارة، والنوم مع الكلاب!! ويجعلون هذا تأسياً بالأنبياء!! ثم يتساءل المتسائلون عن سبب انحطاط المسلمين؟!
كما يجب أن نلاحظ الأدوار الخبيثة التي تمثلها شياطين الجن، وتضحك بها على ذقونهم، فتخدعهم وتخدع بهم.
* يبيع الجنة بثلاثين ديناراً ويأخذ من المرأة كل ما تملك:-
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/89، وما بعدها)، وجامع النبهاني: (1/261، وما بعدها).(1/431)
ومنهم الشيخ مدين بن أحمد الأشموني رضي الله تعالى عنه...كان من أكابر العارفين، وانتهت إليه تربية المريدين في مصر وقراها، وتفرعت عنه السلسلة المتعلقة بطريقة أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه...وجاءته رضي الله عنه امرأة فقالت: هذه ثلاثون ديناراً وتضمن لي على الله الجنة! فقال لها الشيخ رضي الله عنه مباسطاً لها: ما يكفي، فقالت: لا أملك غيرها، فضمن لها على الله دخول الجنة! فماتت، فبلغ ورثتها ذلك، فجاءوا يطلبون الثلاثين ديناراً من الشيخ، وقالوا: هذا الضمان لا يصح، فجاءتهم في المنام وقالت لهم: اشكروا لي فضل الشيخ، فإني دخلت الجنة! فرجعوا عن الشيخ(1). اهـ.
- ونحن بدورنا ننقل هذا الخبر للمسلمين، لعلهم يسرعون ويفتشون عن هؤلاء الأولياء ويشترون منهم ما يبتغون من عَرَصات الجنة، كما نرجو من كرم هؤلاء الأولياء أن يراعوا خواطر الفقراء. (ونذكر أيضاً بأن أحمد الرفاعي باع قصراً في الجنة).
* يدفع عنه الموت...ويمنع زوجته من الزواج بعده:-
ومنهم سيدي محمد الشويمي...كان من أرباب الأحوال العظيمة...ومرض سيدي مدين (الأشموني) رضي الله عنه مرة، وأشرف فيها على الموت، فوهبه من عمره عشر سنين!! ثم مات في غيبة الشويمي رضي الله عنه، فجاء وهو على المغتسل، فقال: كيف مت؟ وعزة ربي لو كنت حاضراً ما خليتك تموت!!
...وقد بلغنا أن زوجة سيدي محمد الشويمي مات عنها وهي بكر، وقال لها: لا تتزوجي بعدي أحداً فأقتله!! فاستفتت العلماء في ذلك، فقالوا لها: هذه خصِّيصي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوجي وتوكلي على الله، فعقدوا لها على شخص، فجاءه تلك الليلة وطعنه بحربة فمات من ليلته، وبقيت بكراً إلى أن ماتت وهي عجوز(2)...
ويترك التعليق للقارئ اللبيب.
* القيء إكسير الولاية:-
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/102)، وجامع النبهاني: (2/463).
(2) طبقات الشعراني: (2/103)، وجامع النبهاني: (1/284).(1/432)
محمد المسمى بقمر الدولة؛ أحد أكابر أصحاب سيدي أحمد البدوي، ولم يصحب سيدي أحمد زماناً طويلاً، إنما جاء من سفرٍ في وقت حر شديد، فطلع يستريح في طندتا (طنطا)، فسمع بأن سيدي أحمد رضي الله عنه ضعيف، فدخل عليه يزوره...فوجد سيدي أحمد قد شرب ماء بطيخة وتقيأه ثانياً فيها، فأخذه سيدي محمد المذكور وشربه!! فقال له سيدي أحمد: أنت قمر دولة أصحابي(1) اهـ. ولا تعليق (لكن القيء خير من المأمونية الحموية).
ومنهم سيدي الشيخ أبو بكر الدقدوسي رضي الله تعالى عنه...وكان له صاحب يبيع الحشيش بباب اللوق، فكان الشيخ رضي الله عنه يرسل إليه أصحاب الحوائج فيقضيها لهم! قال سيدي عثمان (الحطاب) رضي الله عنه: فسألته يوماً عن ذلك، وقلت: المعصية تخالف طريق الولاية، فقال: يا ولدي ليس هذا من أهل المعاصي، إنما هو جالس يتوِّب الناس في صورة بيع الحشيش، فكل من اشترى منه لا يعود يبلعها أبداً(2)...(دستور دستور).
- ومن هنا نستطيع أن نعرف سبب انتشار الحشيش في مصر.
* إجلالاً للكلب (من مقام التواضع):-
ومنهم شيخي وقدوتي إلى الله تعالى، العارف بالله تعالى سيدي محمد الشناوي رحمه الله تعالى، كان رضي الله تعالى عنه من الأولياء الراسخين في العلم...وكان رضي الله عنه يحكي عن الشيخ عبد الرحيم القناوي رضي الله عنه أنه رأى مرة في عنق كلب خرقة من صوف، فقام له إجلالاً للخرقة الصوف(3)...
- مر معنا تأويل مثل هذه الحالة، فليرجع القارئ إليه ليتدرب على التأويل والتضليل مثل هؤلاء البهاليل.
* يراود الأمرد عن نفسه ويحسس على مقعدته رضي الله عنه:
__________
(1) جامع النبهاني: (1/284).
(2) طبقات الشعراني: (2/105)، وجامع كرامات النبهاني: (1/437).
(3) طبقات الشعراني: (1/132).(1/433)
ومنهم الشيخ علي أبو خوذة...وكان من أرباب الأحوال ومن الملامتية، وكان يتعاطى أسباب الإنكار عليه قصداً...وكانت خوذة سيدي علي من الحديد، وكان زنتها قنطاراً وثلثاً، لم يزل حاملها ليلاً ونهاراً...وما رآه أحد يصلي مع الناس إلا وحده، وكان رضي الله عنه إذا رأى امرأة أو أمرد راوده عن نفسه وحسس على مقعدته، سواء كان ابن أمير أو ابن وزير، ولو كان بحضرة والده أو غيره ولا يلتفت إلى الناس(1)...(دستور دستور ودساتير كثيرة).
- لكن يجب أن نعرف أن هذا له تأويل! لئلا نتهم الأولياء الأبرياء بالجهل والغباء والكفر والزندقة وقلة الحياء.
* ولاية.. ولواطة.. والنهي عن المنكر جريمة:-
إبراهيم النبتيتي(2)، المجذوب الصاحي... من كراماته... قال الحمصاني: وقفت أصلي في جامع المرأة، فدخل علي رجل من الجند ومعه أمرد، وقصد به جهة المراحيض، فتشوشتُ في نفسي، وقلت: ضاقت عليه الدنيا وما وجد إلا الجامع! ولم أنطق بذلك، فقال لي إبراهيم المذكور: ما فضولك؟ وما أدخلك يا كذا وكذا؟ وسبني وشتمني! وقال: لا تتعرض! وما لك وذاك؟ إلى غير ذلك(3)...
* التعليق: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ...)) [المائدة:78] ((كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)) [المائدة:79].
* يعلم ما في الأرحام (من مقام العلم):-
أحمد بن جعد الأبيني(4).. وأتته امرأة وقالت: ادع لي أن يرزقني ولداً ذكراً، فقال: ستُرزقين ذلك! فوضعت أنثى، فقالت له فيه، فقال: والله ما قلت لك إلا بعد ما مسستُ ذكره بيدي هذه، ولكن أراد أن يُكذِّب هذه اللحية(5)!!
* يعلم ما في الأرحام...وزيادة:-
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/135)، وجامع النبهاني: (2/372).
(2) مات في مصر سنة (1019هـ).
(3) جامع النبهاني: (1/414).
(4) من اليمن، مات سنة (690هـ).
(5) جامع النبهاني: (1/523).(1/434)
جاكير الكردي(1) قدس الله روحه...مرت بقرات بالشيخ جاكير الكردي، فأشار إلى إحداهن، وقال: هذه حامل بعجل أحمر أغر، صفته كذا، وعيَّن يوم ولادته، وأنه نذر له، وعيَّن من يذبحه من الفقراء...واستأذن رجل واسطي الشيخ جاكير في ركوب بحر الهند بتجارة، فقال: إذا وقعت في شدة فناد باسمي...وكان الشيخ جاكير يقول: ما أخذت العهد قط على مريد حتى رأيت اسمه مكتوباً في اللوح المحفوظ(2)...
- السؤال: ما معنى قوله سبحانه: ((وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ)) [لقمان:34]؟ وقوله: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5]؟
* لا تنظر إلى فروجهم، فكشف الفرج ولاية:-
علي نور الدين بن العظمة(3)، كان من كبار الأولياء المجاذيب... ومن كراماته: ما حكاه حشيش الحمصاني، أنه مر عليه يوماً، فجرى في خاطره الإنكار عليه لعدم ستر عورته، فما تم له هذا الخاطر إلا وقد وجد نفسه بين إصبعين من أصابعه يقلبه كيف شاء، ويقول له: انظر إلى قلوبهم ولا تنظر إلى فروجهم(4).
- بهذه الكشوف والعلوم اللدنية وصلت أمتنا إلى ما هي عليه الآن من ذل وهوان وجهل وضياع.
* كشف، وجبل قاف أيضاً، والرجراج، وغيرها:-
علي بن أحمد بن خضر المطوعي(5)، المشهور بين الناس بحشيش الحمصاني...
أحد أكابر الأولياء العارفين...وأخبر بأنه اطلع على بحر الظلمات (أي: المحيط الأطلسي)، وأن به بلداً لا تبصر أهلها إلا في الظلمة!! وأنه رأى خلف جبل قاف أرضاً تتحرك بنفسها تسمى الرجراج، ليس بها ساكن، وأنه رأى إرم ذات العماد، وأنه اجتمع بالخضر عليه السلام فوجده يظهر في صُوَر مختلفة، وبالقطب فوجده يلبس كل يوم لباساً غير لون الآخر(6). اهـ.
__________
(1) عراقي مات قرب سامراء سنة (550هـ).
(2) جامع النبهاني: (2/3، 4).
(3) مات في مصر في أوائل القرن الحادي عشر الهجري.
(4) جامع النبهاني: (2/378).
(5) من صوفية القرن العاشر الهجري في مصر.
(6) جامع النبهاني: (2/379).(1/435)
- وعلى الإسلام والعقل والحقيقة السلام.
* أسرع من الصاروخ:-
علي البدوي الشاذلي، تلميذ سيدي ياقوت العرشي، قال رضي الله عنه: وكثيراً ما كان الشيخ ياقوت يوجهني في الحاجة من إسكندرية إلى بلاد الأندلس، فأذهب إليها وأرجع في يوم واحد، بسرعة خطاي، من غير أن تطوى لي الأرض(1)...
* حدث نسيه التاريخ:-
مسلمة بن نعمة السروجي، شيخ المشايخ وسيد الأولياء ورئيس الأصفياء...قال السراج: إنه لما قصد الكفرةُ من الفرنج والأرمَن مدينةَ سروج، وقتلوا وأسروا، ثم قصدوا زاويته، وصل الخبر إلى مريديه، فقالوا: يا سيدي جاءنا العدو، فقال: اصبروا، ثم كرروا القول إلى أن قالوا: بيننا وبينهم قدر رشقة حجر، فخرج، وأشار بيده الكريمة برجوعهم، فرجعت بهم الخيل قهراً لا يستطيعون ردَّها بوجه، فقُتل منهم خلق عظيم، وكذلك من الخيل، وتكسرت العدد، وصاروا بأسوأ حال(2).
* التعليق:
دماء المسلمين التي أريقت لا قيمة لها، ولم تثر همة الشيخ ومريديه إلا الزاوية فقط.
هذا بغض النظر عن كون قصتهم هذه أكذوبة صغيرة من أكاذيبهم.
* سوط عجيب:-
__________
(1) جامع النبهاني: (2/349).
(2) جامع النبهاني: (2/470).(1/436)
شيخنا الشيخ علي العمري(1)، الشاذلي الطرابلسي، أشهر أولياء هذا العصر وأكثرهم كرامات وخوارق عادات... ومن كراماته رضي الله عنه ما أخبرني به الحاج إبراهيم المذكور (إبراهيم الحداد من اللاذقية)، قال: دخلت في هذا النهار إلى الحمام مع شيخنا الشيخ علي العمري، ومعنا خادمه محمد الدبوسي الطرابلسي، وهو أخو إحدى زوجات الشيخ، ولم يكن في الحمام غيرنا، قال: فرأيت من الشيخ كرامة من أعجب خوارق العادات وأغربها، وهي أنه أظهر الغضب على خادمه محمد هذا وأراد أن يؤدبه، فأخذ الشيخ إحليل نفسه بيديه الاثنتين من تحت إزاره، فطال طولاً عجيباً بحيث إنه رفعه على كتفه وهو زائد عنه، وصار يجلد به خادمه المذكور، والخادم يصرخ من شدة الألم، فَعل ذلك مرات ثم تركه، وعاد إحليله إلى ما كان عليه أولاً، ففهمت أن الخادم قد عمل عملاً يستحق التأديب، فأدَّبه بهذه الصورة العجيبة. ولما حكى لي ذلك الحاج إبراهيم، حكاه بحضور الشيخ، وكان الشيخ واقفاً، فقال لي الشيخ: لا تصدقه وانظر، ثم أخذ بيدي بالجبر عني، ووضعها على موضع إحليله، فلم أحس بشيء مطلقاً، حتى كأنه ليس برجل بالكلية، فرحمه الله ورضي عنه ما أكثر عجائبه وكراماته(2).
* الملحوظات:
يلاحظ في هذا النص ما يلي:
1- كشف العورة واللعب بها.
2- الكذب؛ إما أن يكون الخادم كاذباً، أو أن يكون الشيخ كاذباً، وذلك عندما قال: لا تصدقه.
3- جعل الآخر يلمس مكان عورته.
* ولي يُحيي الموتى ويخالف الشرع:-
__________
(1) مات في طرابلس سنة (1322هـ).
(2) جامع النبهاني: (2/396).(1/437)
عبد الرحمن بن أحمد الجامي(1)...ومن كراماته...أنه جلس في زمن الربيع على شاطئ نهر ملآن، وإذا بقنفذة ميتة قد أقبلت على وجه الماء، فأخذها مولانا الجامي، ومسح بيده ظهرها، فظهر أثر الحياة فيها، ثم لما توجهنا جهة المدينة أقبلت تسعى خلفنا. ومنها أن مولانا سيف الدين أحمد قدم لمنزل العلوي ومعه جملة من المدرسين، فعمل له ضيافة، وعزم على الجامي، فأقاموا الذكر بالدفوف والمنشدين على العادة، فقال بعض الحاضرين للشيخ: يا مولانا! كيف استماع الغناء والطرب بالدفوف والرقص! ما هو خلاف الشرع؟ فحول الشيخ وجهه إليه، وتكلم في أذنه خفية، فظهر منه صوت عجيب، وحصل له وجد بالسماع وضرب الدف(2)...(الرجاء الانتباه إلى دور الشياطين).
* يبلع المتاليك ويتغوطها دنانير والناس ينظرون إليه:-
الشيخ حسن سكر الدمشقي(3)...(قالوا له): لا بد أن تظهر لنا كرامة، فقال: هاتوا لي مائة من المتالكات(4)، وهي قطع صغيرة من الفضة المغشوشة، فجاءوا له بمائة متاليك، فأخذها وألقاها في فمه وابتلعها، وفي الحال جلس بصورة مَن يقضي حاجة الإنسان، فأخرجها من أسفله دنانير من الذهب، فأخذوها، وكانت هي السبب في غنى أبي لبدة المذكور(5)...
- السؤال: ما هو حكم الشرع والذوق بجلوسه جلسة التغوط وكشف عورته أمام الآخرين؟ ومن أين جاءت شياطينه بالذهب؟
* ولي يقف عرياناً بين الناس ولا يصلي:-
__________
(1) مشهور باسم (منلا جامي)، مات في هراة سنة (898هـ).
(2) جامع النبهاني: (2/154).
(3) مات في دمشق سنة (1307هـ).
(4) المتليك عملة عثمانية صغيرة القيمة.
(5) جامع النبهاني: (2/42).(1/438)
حسن قضيب البان الموصلي(1)، قال السراج: عن الشيخ العارف أبي الحسن علي القرشي رحمه الله قال: دخلت على الشيخ حسن قضيب البان ببيته بالموصل، فرأيته ملء البيت، فهالني ما رأيت من نموه الخارق، فخرجت ثم عدت، فرأيته في زاوية من زوايا البيت مثل العصفور، فخرجت ثم عدت، فرأيته كالعادة...وقال المناوي: خرج أبو النجاء المغربي يريد المشرق ومعه أربعون ولياً، فكان كل بلد جاءه يستوعب ما فيه من الرجال، حتى وصل الموصل، فخرج إليه الرجال، وإذا بقضيب البان خرج بأطماره وشعثه، فقال: أين الشيخ؟ فقالوا: خرج. قال: يتشيطن! فغضبوا. وقال أحدهم: كذب شيطانك، فتغيظ ورمى أطماره، ووقف عرياناً على جنب بركة يصب الماء على يده بيده، وإذا بالشيخ جاء، فأخبروه، قال: صدق، كنت مع إمام الموصل، ينافقني وأنافقه؛ ثم قال قضيب البان: أخبرني بكل رجل رأيته من بلادك، فذكر رجالاً وقضيب البان يقول في كل رجل: وزنه كذا، ربع رجل، ونصف رجل، وهذا وازن، وهذا كامل، وهذا وإن ملأ صيته ما بين الخافقين لا يساوي عند الله جناح بعوضة.
وسئل الشيخ عبد القادر الجيلاني فقال: هو ولي مقرب ذو حال مع الله تعالى وقدَمِ صدقٍ عنده، فقيل له: ما نراه يصلي، فقال: إنه يصلي من حيث لا ترونه، وإني أراه إذا صلى بالموصل أو بغيرها من آفاق الأرض يسجد عند باب الكعبة!! وقال بعضهم: كان قضيب البان من الأبدال، واتهمه بعض من لم يره يصلي بترك الصلاة وشدد النكير عليه، فتمثل له على الفور في صور مختلفة، وقال: في أي هذه الصور رأيتني ما أصلي(2)!! اهـ. ولا تعليق، لأن التعليق أحياناً إضاعة للوقت، لكن الذي يورد هذه القصص هو عالم من علمائهم.
* فتوى لم تمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم:-
__________
(1) مات في الموصل سنة (570هـ).
(2) جامع النبهاني: (2/24).(1/439)
رسالة للحافظ السيوطي سماها (المنجلي في تطور الولي)، نقلتها من كتابه (الحاوي في الفتاوي)، وهذه هي: قال رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، توقع إلي سؤال رجل حلف بالطلاق، أن ولي الله الشيخ عبد القادر الدشطوطي بات عنده ليلة كذا، فحلف آخر بالطلاق أنه بات عنده في تلك الليلة بعينها، فهل يقع الطلاق على أحدهما أم لا؟ فأرسلت قاصداً إلى الشيخ عبد القادر، فسألته عن ذلك، فقال: ولو قال أربعة إني نمت عندهم لصدقوا، فأفتيت بأنه لا يحنث واحد منهما(1).
* التعليق:
السيوطي هذا كان يعد نفسه مجدداً، وهذه هي فتوى يصدرها هذا المجدد؟! وسلام على الشرع والعقل وعلى إنسانية الإنسان.
* الزبل خير من الغائط (المأمونية الحموية) على كل حال:-
شجاع الكرماني...حضر ليلة موسم بمسجد بقلعة الصبية بإيناس(2) يعرف بالشيخ محمد السلطي، فقال الجماعة: نريد أن نأكل حلوى دمشقية، فأخذ الجوالق والمجارف وخرج مع جماعة إلى المزبلة، فيها زبل وشقف وحجارة وغير ذلك، فملئوا الجوالق، وأتوا المسجد وهم يضحكون، ففرغه بين أيديهم، فإذا هو من أصناف أطايب الحلوى، فأكلوا وازدادوا إيماناً(3)...(ازدادوا إيماناً بأن كهانتهم هي الإسلام).
* كلا النقيضين صحيح، صدق أو لا تصدق، لكن لا تعترض فتنطرد:-
__________
(1) جامع النبهاني: (2/25).
(2) هكذا هي الجملة في الأصل.
(3) جامع النبهاني: (2/114).(1/440)
شعيب، أبو مدين المغربي، أحد أعاظم أئمة الطريق المجمع على جلالتهم وولايتهم الكبرى...قال: ...قامت الحرب مرة بالمغرب بين المسلمين والفرنج، وكان الظهور للفرنج، فأخذ شيخنا أبو مدين سيفه وخرج إلى الصحراء، مع نفر من أصحابه، وجلس على كثيب، فإذا بين يديه خنازير قد ملأت الصحراء، فوثب حتى صار بينهم، وعلا بالسيف رءوسهم حتى قتل كثيراً منهم، وولوا هاربين، فسألناه؟ فقال: هؤلاء الفرنج وقد خذلهم الله تعالى، فأرخناه، فجاء الخبر بكسرتهم في الوقت بعينه! وجاء المجاهدون وأكبوا عليه يقبلون قدميه، وأقسموا أنه لو لم يكن الشيخ بين الصفين لهلكوا...
* التعليق:
ما دامت لهؤلاء الأولياء هذه الكرامات! فلم أصبح المسلمون أذل من على وجه الأرض؟؟ ولم خسروا قبل ذلك الأندلس مع وجود هؤلاء الضراغم؟؟(1/441)
...وروي أن أمير المؤمنين بالمغرب، المسمى يعقوب، رأى مرائي وأحوالاً من أحوال المريدين، وسببه أنه قتل أخاه غيرة على الملك، فندم على قتل أخيه ندماً أورثه توبة أثرت في باطنه أحوالاً حسنة، وتغير عليه من نفسه ما لا يعهده لثمرة التوبة، فما كان أبركه عليه ذنباً؛ فشكا ما يجده لمريدة كانت تدخل قصره، فقالت: هذه أحوال المريدين، فقال: كيف أعمل بنفسي ومن يعرفني ويداويني؟ فقالت له: الشيخ أبو مدين سيد هذه الطائفة في هذا الزمان؛ فبعث يعقوب إلى الشيخ أبي مدين، وطلبه طلباً حثيثاً، والتجأ إليه، فاقتضى إجابة الشيخ أبي مدين له، فقال: قوموا له نطع الله عز وجل سبحانه وتعالى بطاعته، وأنا ما أصل إليه، بل أموت بتلمسان، وكان الشيخ يومئذ في بجاية، فلما وصل إلى تلمسان، قال لرسل يعقوب: سلموا على صاحبكم، وقولوا له: شفاؤك على يد أبي العباس المريني، ومات الشيخ أبو مدين...فمشى (أي: أبو العباس المريني) إليه (إلى يعقوب) واجتمع به، ففرح يعقوب بذلك، ثم أمر بذبح دجاجة، وخنق أخرى، وأن يطبخ كل منهما على حدة، وقدمهما بين يدي الشيخ، فأمر الشيخ الخادم برفع المخنوقة، وقال: هذه جيفة، وأكل من الأخرى، فسلم يعقوب نفسه له، وأنزل نفسه منزلة الخادم، وفتح له على يده، وترك الملك وسلمه لابنه، واشتغل مع الشيخ، وثبت قدمه في الولاية ببركة الشيخ أبي العباس وإشارة الشيخ أبي مدين.
- وبعد صفحتين فقط، يورد النبهاني هذه القصة بالشكل التالي:(1/442)
...وكان (أبو مدين) استوطن بجاية، ويقول: إنها معينة على طلب الحلال؛ ولم يزل بها يزداد حاله على مر الليالي رفعة ترد عليه الوفود وذوو الحاجات من الآفاق، ويخبر الوقائع والغيوب، إلى أن وشى به بعض علماء الظاهر عند يعقوب المنصور، وقال له: إنا نخاف منه على دولتكم، فإن له شبهاً بالإمام المهدي، وأتباعه كثيرون بكل بلد، فوقع في قلبه وأهمه شأنه، فبعث إليه في القدوم عليه ليختبره، وكتب لصاحب بجاية بالوصية...وارتحلوا به على أحسن حال حتى وطئوا به حوز تلمسان...فلما وصل وادي نسر اشتد به المرض ونزلوا به هناك...وكانت وفاته سنة 580 هـ، فحمل إلى العباد مدفن الأولياء والأوتاد، وسمع أهل تلمسان بجنازته، فكانت من المشاهد العظيمة...وعاقب الله السلطان فمات بعده بسنة أو أقل(1)...
- السؤال:
أ- أي الروايتين نصدق، وفيهما ما فيهما من التناقض؟!
ب- ألم يساعدهم كشفهم على معرفة الحق في هاتين الروايتين؟!
ونترك الباقي للقارئ، مع التنبيه إلى مدى الغفلة التي تسببها الصوفية!
* أين هذه الجزيرة السادسة وفي أي بحر محيط:-
...وقال الشيخ عمر القيسي: خدمت الشيخ عدياً رضي الله تعالى عنه سبع سنين، وشهدت له خارقات، فقال لي يوماً: اذهب إلى الجزيرة السادسة في البحر المحيط تجد بها مسجداً، فادخله، تر فيه شيخاً، فقل له: يقول لك عدي: احذر الاعتراض ولا تختر لنفسك أمراً فيه إرادة؛ ودفعني بين كتفي، فرأيت المكان والشيخ، وأخبرته، فبكى، ودعا له، وقال لي: إن أحد السبعة الخواص الآن في النزع، وقد طمحت إرادتي أن أكون مكانه، ثم دفعني فوجدت نفسي في الزاوية(2).
* توضيح:
مثل هذه الحالات يرونها في أحلام الجذبة (الكشف)، وكثيراً ما تختلط عندهم بالواقع، فلا يميزون بينهما! وفي جميع الحالات يعتبرونها عين اليقين وحق اليقين!
* يحيون الموتى (والويل لمن لا يصدق):-
__________
(1) جامع النبهاني: (2/118، 120).
(2) جامع النبهاني (2/297).(1/443)
وقال الشيخ عمر: كنت عند الشيخ عدي بن مسافر رضي الله عنه يوماً، فجاء جماعة من الأكراد والبوزية زائرين، وكان فيهم رجل يدعى (الخطيب حسين)، فقال له الشيخ: يا حسين! قم أنت والجماعة حتى نقلب أحجاراً ونعمل حائطاً للبستان، فنهض الشيخ ونهض معه الجماعة، وصعد الشيخ إلى سطح الجبل، وجعل يقطع أحجاراً ويدحرجها وهم ينقلونها إلى مكان العمل؛ فأصاب حجر رجلاً، فاختلط لحمه بعظمه وألصق بالأرض، فمات من ساعته؟ فنادى الخطيب حسين: مات فلان إلى رحمة الله تعالى، فانحدر الشيخ من سطح الجبل، وأتى الرجل المصاب، ورفع يديه إلى السماء، ودعا له، فقام الرجل بإذن الله تعالى كأنه لم يصبه شيء(1).
* التعليق:
عدي بن مسافر هذا له أتباع، هم اليزيديون عبدة الشيطان، المقيمون في سنجار وما حوله، وقد مضى على المسلمين قرون وهم يتخبطون في ظلمات هذه الأوهام الشيطانية أو الهذيانية، ولما يزل هؤلاء الكهان يُعملون كهانتهم وسحرهم لإبقاء هذه الأمة بعيدة عن إسلامها وعن وعيها. وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
* الفقير بما يعملون بصير:-
__________
(1) جامع النبهاني: (2/297).(1/444)
وقال الشيخ إسماعيل التونسي رحمة الله عليه: خرجت أنا وجماعة من التونسية إلى زيارة الشيخ عدي رضي الله عنه، فلما وصلنا سلمنا عليه وجلسنا نتحاور في كرامات الأولياء ودرجاتهم، فقال الشيخ: كل شيخ لا يعلم مريده كم ينقلب في الليل قلبةً ما هو شيخ، ولو أنه في مشرق الأرض أو مغربها؛ فقلت في نفسي: هذا أمر صعب، أنا أجامع زوجتي، والشيخ ينظر إلي؟! فلما رجعت إلى بيتي، هجرت زوجتي شهراً كاملاً، فعلم الشيخ عدي بما أنا عليه، فوصى جماعة من الفقراء المجاورة أنكم إذا توجهتم إلى منازلكم، يتوجه أحدكم إلى التونسية، ويقول لإسماعيل: يجيء إلى عندي...فلما وصلت وسلمت عليه زجرني وانتهرني، وقال: يا إسماعيل! أيما أحب: الشيخ يبصر مريده على حلال أو على حرام؟ لا تعد إلى مثلها؛ فقابلت أمره بالسمع والطاعة وانصرفت راجعاً(1).
* التعليق:
يرى ويبصر عبر المسافات والحواجز، ويرى مريده وهو يجامع زوجته، ولكنه يبصره على حلال؟! دستور دستور دستور، لكن على كل حال يجب ألا ننسى سلاح التأويل البتار الذي يجعل كتاب الإحياء بحراً من البحار.
* العري، العري، العري، وضع عقلك وإيمانك في ثلاجة:-
قال أبو البركات: دخل يوماً على عمي الشيخ عدي ثلاثون فقيراً، فقال عشرة منهم: يا سيدي، تكلم لنا في شيء من الحقيقة، فتكلم لهم، فذابوا، وبقي موضعهم حومة ماء؛ وتقدم العشرة الثانية، فقالوا له: تكلم لنا في شيء من حقيقة المحبة، فتكلم فماتوا، ثم تقدم الآخرون وقالوا: يا سيدنا تكلم لنا في شيء من حقيقة الفقر، فتكلم لهم، فنزعوا ما كان عليهم من الثياب، وخرجوا عرايا إلى البرية(2).
* الملحوظة:
على مدى قرون كان أمثال هؤلاء أسوة المسلمين، حتى وصل المسلمون إلى ما هم عليه.
* الصوفي يعز من يشاء ويذل من يشاء:-
__________
(1) جامع النبهاني (2/299).
(2) جامع النبهاني: (2/299).(1/445)
عزاز بن مستودع البطائحي: كان من أجلاء المشايخ وأكابر العارفين وأعيان الصالحين ورؤساء المقربين، له الآيات الصادقة...والتمكين التام والتصريف العام (أي: التصرف في الكون عامة)...ومما روينا أن الشيخ عزازاً سأله الخليفة المقتدي بأمر الله القدوم إلى بغداد ليتبرك به، فلما اخترق دهاليز القصر، ما نظر إلى ستر مرخي إلا تمزق قطعاً؛ ثم قال للخليفة: سيقصدك ملك العجم في جيش لا قبل لك به، وقد مَلَّكتُ جيشك رقاب جيشه، وملَّكتك عنقه، فكان كما قال، وأُسر الملك واعتقل ببغداد أياماً، ثم افتدي بأموال عظيمة(1)...
* صوفي مكشوف العورة، ولا يصلي.. وهو مع ذلك ولي:-
علي الكردي: أحد أكابر الأولياء أصحاب التصريف العظيم والكرامات الكثيرة، منها: ...ولما جاء العارف الكبير الإمام شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي صاحب كتاب (عوارف المعارف) إلى دمشق في رسالة الخليفة إلى الملك العادل بالخلعة والطوق وغير ذلك، قال لأصحابه: أريد أزور علياً الكردي، فقال له الناس: يا مولانا لا تفعل، أنت إمام الوجود، وهذا رجل لا يصلي، ويمشي مكشوف العورة أكثر أوقاته؛ فقال: لا بد من ذلك، قال: وكان الشيخ علي الكردي مقيماً أكثر أوقاته في الجامع، حتى دخل عليه مولَّه آخر يقال له: ياقوت، فساعة دخوله من الباب، خرج الشيخ علي من دمشق وسكن جبانتها بالباب الصغير، وما دخلها بعد ذلك إلى أن مات- وياقوت فيها يتحكم- فقالوا للشيخ شهاب الدين: هو في الجبانة، فركب بغلته، ومشى في خدمته من يعرِّفه موضعه، فلما وصل إلى قريب من مكانه، ترجل وأقبل يمشي إليه؟ فلما رآه علي الكردي وقد قرب منه كشف عورته! فقال الشيخ شهاب الدين: ما هذا شيء يصدنا عنك، ونحن ضيفانك؛ ثم دنا منه، وسلم عليه، وجلس معه، وإذا بحمالين قد جاءوا ومعهم مأكول متبر(2)...اهـ.
__________
(1) جامع النبهاني: (2/302، وما بعدها).
(2) جامع النبهاني: (2/331، 332)، ونشر المحاسن الغالية، (ص:307).(1/446)
نقول: وهكذا غاص المجتمع الإسلامي في كلمات الضلال والجهل؛ لا يصلي ويسير مكشوف العورة وهو يتحكم ويتصرف بالوجود، ويزوره إمام الوجود، وما أدراك من هو هذا الإمام، إنه إمام في تدمير عقائد هذه الأمة وسلبها إسلامها ودفعها إلى ظلمات الضلال والشرك والأخلاق البذيئة...لكن هذا كله له تأويل عند القوم، يضحكون به على أذقان المغفلين والسذج وعلى الذين ماتت فيهم الغيرة على الإسلام.
* ونسخت أحكام القرآن وسنن الله في كونه:-
سيدي أبو الحسن علي الشاذلي رضي الله عنه، السيد الشريف، زعيم الطائفة الشاذلية، وإمام الأولياء والصوفية، وأحد مفاخر الأمة المحمدية، قال: جعت مرة ثمانين يوماً، فخطر لي أن قد حصل لي نصيب من هذا الأمر، فإذا أنا بامرأة خارجة من مغارة، كأن وجهها ضياء الشمس حسناً وهي تقول: منحوس منحوس، جاع ثمانين يوماً، فأخذ يدل على الله بعمله، وأنا لي ستة أشهر لم أذق فيها طعاماً(1)؟
- ولا تعليق، لكن تذكير: وصال الصيام محرم في الإسلام، ولن تعدم من يقول لك: هذا له تأويل! أو يقول: هذا للخواص لا للعوام؟ فنجيبه: التأويل تضليل، والإسلام دين الحياة للخواص مثل العوام.
* كرامة فوق السنن...ولا حياء بالحلال:-
أبو عمرو عثمان بن مروزة البطائحي رحمه الله، أحد أعيان المشايخ وأكابر الرجال، وأصحاب الكرامات والأحوال...فبينما هو ليلة يتهجد، إذ طرقته منازلة من الجناب الأعظم، وتبدت له أنوار، فوقف سبع سنين واقفاً شاخصاً إلى السماء دون غذاء ولا إحساس بحاله، ثم عاد إلى بشريته (أي: كان في كل هذه المدة إلهاً ثم عاد إلى البشرية)، فقيل له: اذهب إلى قريتك، وجامع أهلك فقد آن ظهور ولد منك؟ فطرق بابه وأخبر أهله بحاله، فقالت زوجته: لئن فعلت وقضيت تحدث الناس في؛ فصعد السطح ونادى: يا أهل القرية، أنا فلان، اركبوا فإني سأركب(2).
* الملحوظات:
__________
(1) جامع النبهاني: (2/341).
(2) جامع النبهاني: (2/288).(1/447)
الملحوظات كثيرة، ومنها: ما ذنب هذه الزوجة التي ترملت مع وجود زوجها! وهل يسمح الإسلام بهذا الشذوذ؟؟ أما (اركبوا فإني سأركب)، فهذه تحتاج إلى حضرة، ورقص بنقص، وإلى (ترلم ترلم).
* جبل قاف أيضاً:-
قال سيدي محيي الدين (أي: ابن عربي): وأخبرني عنه (أي: عن موسى السيدراني) شيخي أبو يعقوب الكومي، أنه وصل جبل قاف المحيط بالأرض، فصلى الضحى بأسفله، وصلى العصر على ذروته، وسئل عن ارتفاعه في الهواء، فقال: مسيرة ثلاثمائة سنة، وأخبر أن الله طوق هذا الجبل بحية اجتمع رأسها بذيلها(1).
- وهكذا كل كشوفهم، جهل في جهل في غباء، والكذب زيادة.
ودخل موسى هذا أرضاً رأى النمل فيها على قدر المعز عجيبة الخلق، ورأى عجوزاً خراسانية واقفة على البحر والأمواج تصطفق بين ساقيها وهي تسبح الله وتقدسه(2)...- أين هي هذه الأرض؟ وهذا النمل؟ و.. و.. و.. وما أكثر الواوات والأينات؟
لكن أيها القارئ! سلم تسلم، لا تعترض فتنطرد! فهل تفهم أنت أكثر من الكشف؟! كشف! كشف دمر الأمة الإسلامية.
ويقول عبد الحليم محمود: إن كلام القوم رموز!
فنجيبه: الرموز عكاكيز الدجاجلة.
* بين السيقان، في خان بنات الخطا، تتقدس أسرارهم (دستور من خاطرهم):-
__________
(1) جامع النبهاني (2/498).
(2) جامع النبهاني: (2/498).(1/448)
(حسن الخلبوصي)، قال الشعراني: حكى الشيخ يوسف الحريثي رحمه الله، قال: لما حججت، سهرت ليلة في الحرم خلف المقام، وكانت ليلة مقمرة، فلما راق الليل، دخل جماعة يخفق النور عليهم، فطافوا وصلوا خلف المقام، وجلسوا يسيراً، فجاءهم شخص، وقال: يعيش رأسكم بالشيخ علي. فقالوا: رحمه الله تعالى. قال: من يكون موضعه؟ فقالوا: حسن الخلبوصي بناحية زفتى بالغربية. فقال: أناديه؟ فقالوا: نعم. فقال: يا حسن! فإذا هو واقف على رءوسهم عليه ثوب معصفر ووجهه مدهون بالدقيق وعلى كتفه سوط، فقالوا له: كن موضع الشيخ علي. فقال: على الرأس والعين، وذهب، فلما رجعت إلى بلادي قصدته بالزيارة في خان بنات الخطا، فوجدت واحدة راكبة على عنقه، ويداها ورجلاها مخضوبتان بالحناء وهي تصفعه في عنقه، وهو يقول لها: برفق فإن عيناي موجوعتان! فأول ما أقبلت عليه قال مبادراً: يا فلان، زغلت عيناك وغرك القمر، ما هو أنا، فعرفته أنه هو، وأمرني بعدم إشاعة ذلك(1). * التعليق: يتساءل المتسائلون عن سبب فساد الأمة الإسلامية وهو واضح أمام الأعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
* العورة.. العورة:-
__________
(1) جامع النبهاني: (2/38).(1/449)
الشيخ عبد الكريم القاوي(1) الدمشقي: كان من أصحاب الكرامات الباهرات...فأراد الوالي أن يرى منه شيئاً من ذلك، فقال له الشيخ عبد الله (ابن الشيخ سعيد الحلبي): هل تقدر أن تشرب جميع ما في هذه البركة من الماء؟ فقال: لا أفعل، فقال: نحن نفعل ذلك، فقال: افعلوا، فأمر بعضهم سراً بأن يظهر بأنه يشرب من البركة، وأمر آخر بأن يفتح مجراها من جهة أخرى، ففعلا ذلك، فبعد قليل فرغت البركة؛ فلما ظهر للشيخ القاوي أن ذلك الرجل شرب البركة قال: وأنا أشربها أيضاً فاملئوها؟ فتركوها حتى امتلأت، فقام الشيخ القاوي، وأخذه حال عجيب، ووضع فمه في البركة فصار يشرب والماء يخرج من إحليله، ولم يزل كذلك يدخل الماء من فمه ويخرج من إحليله إلى أن فرغت البركة؟ وهي من أعظم كراماته، فاعتقده الوالي وغيره اعتقاداً عظيماً(2)...
- السؤال: هل كانوا يرون إحليله والماء يخرج منه؟ وهل؟ وهل؟ على أن كشف العورة عندهم شيء مثير للانتباه!
* قاف أيضاً! فأين هذا القاف؟!:-
حماد بن مسلم الدباس(3)...وروي أن الشيخ حماداً مر ببعض قرى بغداد، فرأى بعض أمراء الدولة المستظهرية راكباً سكران، فأنكر عليه، فسطا الأمير على الشيخ، فقال الشيخ: يا فرس الله خذيه، فعدت فرسه كالبرق الخاطف، يسبق البصر، ولم يعلم أين ذهب! وبعث الخليفة الخيل وراءه فلم يقف له على أثر، قال تاج الدين أبو الوفاء: وعزةِ مَن له العزة، لم يستقر به فرسه دون بر ولا بحر ولا سهل ولا جبل حتى ذهبت به إلى وراء جبل قاف(4)...
- فيا ناس، خبرونا أين هذا القاف؟ هذا مع غض النظر عن الكذب الخالي من الحياء.
* يعلم ما في الأرحام، وقاف أيضاً؟!:-
__________
(1) توفي في دمشق عام (1283هـ).
(2) جامع النبهاني: (2/221، 222).
(3) توفي عام (525هـ).
(4) جامع النبهاني: (2/54).(1/450)
عبد الرحمن الشبريسي: روي أن أبا الفتح شمس الدين محمد المري السكندري المولود في إسكندرية سنة (818 هـ)، لما حملت به والدته، دخل والده الشيخ بدر الدين العوفي على الشيخ الإمام العارف بالله الشيخ عبد الرحمن الشبريسي، وسأله لها الدعاء، فقال له: إن زوجتك آمنة معها ولدان، أحدهما يموت بعد سبعة أيام، والآخر يعيش زمناً طويلاً، وسمِّه أبا الفتح، وسيكون له فتح من الله تعالى، وتوكل على الله، يعيش سعيداً ويموت شهيداً، ويخرح من الدنيا كيوم ولدته أمه، يضع قدمه على جبل قاف، يسوح زمانه، وينال من الله أماناً(1)...
- نسأل: ما معنى قوله سبحانه في آخر سورة لقمان: ((وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ)) [لقمان:34]، ونعود للسؤال: أين جبل قاف المحيط بالأرض هذا؟! لكن لا اعتراض على الكشف!
* ومثل شيخه، يجر السفينة بخصيتيه وينزل الغيث:-
عُبيد أحد أصحاب الشيخ حسين أبي علي، كان له خوارق مدهشة، ومن كراماته:
أنه كان يأمر السحاب أن يمطر فيمطر لوقته، وكل من تعرض له بسوء قتله بالحال في الحال؛ دخل مرة الجعفرية، فتبعه نحو خمسين طفلاً يضحكون عليه، فقال: يا عزرائيل إن لم تقبض أرواحهم لأعزلنك من ديوان الملائكة، فأصبحوا موتى أجمعين! وقال له بعض القضاة: اسكت، فقال له: اسكت أنت، فخرس وعمي وصم؛ وسافرَ في سفينة فوحلت ولم يمكن تعويمها، فقال: اربطوها بخيط في بيضي، ففعلوا، فجرها حتى خلَّصها من الوحل(2)...
* التعليق: لا يحتاج هذا الكفر والهذيان للتعليق (ولا للتقريق)، ولكن هذا التلازم بين الصوفية وكشف العورة مثير للانتباه.
* الطريق إلى الوثنية:-
__________
(1) جامع النبهاني: (2/155).
(2) جامع النبهاني: (2/286).(1/451)
(أبو الحسن علي بن عمر بن الحسين بن عيسى بن أبي النهى) كان فقيهاً صالحاً...وكان غالب أكله من الأشجار...وظهرت له كرامات كثيرة...وتُربته من التُّرَب المشهورة بالبركة واستجابة الدعاء، وقال: ومن أعجب بركتها ما أخبرني به الثقات، أنه كان على قبره شجرة سدر، يأخذ أصحاب الحُمِّيَّات من ورقها، يطلون به رءوسهم فيبرءون من الحمى، واستفاض ذلك حتى كان يؤتى لها من الأماكن البعيدة، قال: وكان من عادة أهل إب في غالب الأعياد أن يحصل بينهم وبين أهل باديتهم حروب كثيرة، فحصل بينهم في بعض الأعياد حرب انتصر فيه أهل البادية على أهل المدينة حتى أدخلوهم البيوت، فقال بعضهم: اقصدوا بنا هذه الشجرة التي يعبدونها فلنعقرها عليهم؛ فنهاهم بعض عقلائهم، فلم يقبلوا، وأسرع إليها بعض الجهال، وقطعها حتى أوقعها على الأرض؟ فأنف أهل المدينة من ذلك، وخرجوا نحوهم، فهزموهم هزيمة شديدة، وقتلوا منهم طائفة، وكان أول قتيل الذي قطع الشجرة. وكرامات الفقيه من هذا القبيل كثيرة(1)...
- السؤال: إن لم يكن هذا شركاً فما هو الشرك؟ وإن لم يكن وثنية فما هي الوثنية؟ وإن لم يكن ضلالاً فما هو الضلال؟ لكن هذا وأمثاله يفسر لنا الجهل والذل والتخبط الذي ابتليت به الأمة الإسلامية.
* يتصرف في الكون! لعله مساعَدة لله (سبحانه):-
__________
(1) جامع النبهاني: (2/328).(1/452)
(الشيخ جلال الدين التبريزي) كان من كبار الأولياء وأفراد الرجال...يذكر ابن بطوطة قصصاً من كرامات الشيخ التي رآها حين لاقاه...حتى يقول: ولما كان يوم دخولي إلى الشيخ، رأيت عليه فرجية مرعز، فأعجبتني، وقلت في نفسي: ليت الشيخ أعطانيها؛ فلما دخلت عليه للوداع، قام إلى جانب الغار، وجرد الفرجية، وألبسنيها مع طاقية من رأسه، ولبس مرقعة، فأخبرني الفقراء أن الشيخ لم تكن عادته أن يلبس تلك الفرجية، وإنما لبسها عند قدومي، وأنه قال لهم: هذه الفرجية يطلبها المغربي، ويأخذها منه سلطان كافر ويُعطيها لأخينا برهان الدين الصاغرجي...(ويذكر ابن بطوطة سفره بعد ذلك، وكيف أخذ الفرجية منه سلطان الصين، ثم ذهابه عند الشيخ الصاغرجي حتى يقول): فقصدت زاوية الشيخ برهان الصاغرجي، فوجدته يقرأ والفرجية عليه بعينها...فقال لي: هذه الفرجية صنعها أخي جلال الدين برسمي، وكتب إلي أن الفرجية تصلك على يد فلان...وعجبت من صدق يقين الشيخ، وأعلمته بأول الحكاية؛ فقال لي: أخي جلال الدين أكبر من ذلك كله، هو يتصرف في الكون(1)!!
* تعليق: كشفهم أضل منهم وأجهل! فقد جهل أن الحبكة في هذه القصة من ترتيب شياطين الجن.
* موكل بأهل البرزخ (بالوكالة عن الله تعالى)؟:-
(زين العابدين بن عبد الرءوف المناوي! ابن شارح الجامع الصغير؛ من أكابر الأولياء وأعيان الأصفياء...حدث الحمصاني، وهو أحد المشايخ العارفين، قال: رأيت طعيمة الصعيدي المصري، وهو من أكابر الأولياء في علم الأرواح، وأمامه إنسان كالنور، أو نور كالإنسان، قلت: ما هذا؟ قال: زين العابدين المناوي، قد وكل بأهل البرزخ(2).
ملحوظة: أرجو من القارئ الكريم أن يقارن بين هذا الكلام وبين ما يشبهه في الوثنية اليونانية.
* هل يجيز الإسلام نصب الخيمة على القبر وتعليق القناديل؟:-
__________
(1) جامع النبهاني: (2/10)، وقد نقلها عن رحلة ابن بطوطه.
(2) جامع النبهاني: (2/84).(1/453)
ومن كراماته (أي: زين العابدين المناوي)، أنه كان على قبره خيمة، فسقط عليها حائط بجانبها، فتقطعت الخيمة قطعاً قطعاً، وكان قد علق فيها ثريا من القناديل، فوجدت تحت الخيمة لم تنكسر، وهذا بالمشاهدة(1).
- الجواب: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج}.
وهكذا نرى أن كرامات الصوفية ما هي إلا شيطانيات تنحرف بالإسلام لتغرقه في أعمق أعماق الوثنية والجهل، وعدم كسر القناديل برهان ملموس على شيطانية الحادثة.
* النهي عن المنكر جريمة! وسلام على الإسلام:-
(ريحان بن عبد الله العدني)(2)...قال المناوي: من كراماته ما حكاه اليافعي عن بعض الثقات، أن بعض أهل عدن رآه يفعل بعض المنكرات، فأنكر عليه وقال: هذا الذي يدَّعي الصلاح يقدم على هذا! فاحترق بيته بالنار تلك الليلة(3)!!
سؤال: ما معنى قوله سبحانه: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)) [آل عمران:110]؟
* ومن الولاية القمل:-
...وحُكي عن إبراهيم بن أدهم رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما سُررتُ في إسلامي إلا ثلاث مرات: ...والثالثة: كنت بالشام، وعليَّ فرو، فنظرت فيه، فلم أميز بين شعره وبين القمل لكثرته، فسرني ذلك(4)! (دستور من خاطره).
* والبول يطهر الأولياء:-
وفي حكاية أخرى عنه أيضاً قال: ما سُررت بشيء كسروري يوماً كنت جالساً، فجاء إنسان وبال عليَّ(5)! (أما الآن فدساتير كثيرة، دستور دستور...).
* ولهم في المزابل مراتع إليها يحنون:-
يقول عبد الله اليافعي (الغوث) من قصيدة:
__________
(1) جامع النبهاني (2/84).
(2) يمني مات قبل (700هـ).
(3) جامع النبهاني: (2/78).
(4) نشر المحاسن الغالية، (ص:269)، والرسالة القشيرية، (ص:70).
(5) نشر المحاسن الغالية، (ص:270)، وتقريب الأصول، (ص:261)، والرسالة القشيرية، (ص:70)، وإيقاظ الهمم، (ص:345)، وغيرها.(1/454)
أحن ارتياحاً للمزابل لا إلى ... ... قصور وفرش بالطراز توشح(1)
- أما أنه لا يحن إلى القصور والفرش، فلا غبار عليه، وأما أن يحن إلى المزابل (فهذا عليه غبار وعليه زبالة أيضاً)!
* افتروا على الله سبحانه فجعلوه يفضل الأبيض على الأسود (من مقام التوبة):
...وكذلك القضية المشهورة للأستاذ سيد الطائفة الجنيد رضي الله تعالى عنه في توبته عن المريد الذي اسود جسمه بمجرد نظر وحديث نفس صدر منه في الصلاة، فابيض جسمه لما تاب عنه، وكان المريد في بلاد بعيدة، فلما قدم على الجنيد قال له: لولا أني تبت عنك لبقيت بذلك السواد إلى أن تلقى الله(2).
- سؤال: ما معنى قوله سبحانه: ((وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)) [النجم:39]، وقول الرسول مخاطباً أهله: {.. فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً}؟ ثم من جهة ثانية، نرى من الواضح أن دور شياطين الجن في هذه اللعبة واضح.
* الصوفي، يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب:-
...وقد قال بعضهم: لا يكون الشيخ شيخاً حتى يمحو خطيئة تلميذه من اللوح المحفوظ! وقال آخر منهم منكراً لهذا القول المذكور: لو كان شيخاً ما غفل عن تلميذه حتى وقع في الخطيئة(3)!!
الجواب: ((كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا)) [الكهف:5]. وعلى كل حال، يجب أن نعرف أنهم يعتقدون لمثل هذه الاعتقادات بناءً على رؤى يرونها فعلاً؟ وما هي إلا ألاعيب شياطين الجن يضلونهم بها، والكشف.
* يستحيي من الله أن يدخل المسجد (من مقام الحياء):-
ومن حكايات أهل الحياء ما حكي أنه رؤي رجل خارج المسجد، فقيل له: لم لا تدخل المسجد فتصلي؟ فقال: أستحيي منه أن أدخل بيته وقد عصيته(4)!!
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:270).
(2) نشر المحاسن الغالية، (ص:68)، وإحياء علوم الدين: (4/48)، وغيرهما.
(3) نشر المحاسن الغالية، (ص:68).
(4) نشر المحاسن الغالية، (ص:203).(1/455)
- الجواب: أخلاق تدمر الدين والأخلاق! وهذا يفسر سبباً من أسباب جهل المسلمين بدينهم ودنياهم. ومع ذلك فلن تعدم من يقول لك: هذا للخواص لا للعوام!! فنجيبه: يا سلام.
* سلِّم تسلم، فللشيوخ التصرف التام:-
...ورووا عن بعض الأولياء الكبار أنه طلب منه بعض الناس أن يدعو له الله تعالى أن يرزقه ولداً ذكراً، فقال له: إن أحببت ذلك فسلم للفقراء مائة دينار، فسلم إليه ذلك، ثم جاء بعد ذلك بمدة، وقال له: يا سيدي، وعدتني بولد ذكر وما وضعت امرأتي إلا أنثى؛ فقال له الشيخ: الدنانير التي سلمتها ناقصة؛ قال: يا سيدي، ما هي ناقصة إلا شيئاً يسيراً، فقال له الشيخ، ونحن أيضاً ما نقصناك إلا شيئاً يسيراً، فإن أحببت أن نوفي لك فأَوْفِ لنا!! فقال: نعم يا سيدي، ثم ذهب وعاد إليه بتوفية ذلك النقصان، فقال له الشيخ: اذهب فقد أوفينا لك كما أوفيت لنا؟ فرجع إلى منزله، فوجد الولد غلاماً بقدرة الله تعالى وإكرامه لأوليائه عز وجل(1)!!
* تنبيه: هذه القصة الكافرة، يرويها غوث من أغواثهم وحبر من أحبارهم، في كتاب هو مرجع من مراجعهم!!
* ما هو ذنب الصبي الصغير:-
وروي مسنداً في كتاب مناقب الإمام شيخ الإسلام...الشيخ عبد القادر (الجيلاني)...فأتاه بعد ذلك جمع من الرافضة بقفتين مخيطتين وقالوا له: قل لنا ما في هاتين القفتين؟ فنزل من الكرسي الذي يتكلم عليه، ووضع يده على إحداهما، وقال: في هذه صبي مقعد، وأمر بفتحها، ففتحت، فإذا فيها صبي مقعد، فأمسك بيده، وقال له: قم، فقام يعدو بإذن الله تعالى، ووضع يده على الأخرى، وقال: وفي هذه صبي لا عاهة به، وأمر بفتحها، وإذا فيها صبي، فقام يمشي، فأمسك بناصيته، وقال له: اقعد، فأقعد(2)...
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:22).
(2) نشر المحاسن الغالية، (ص:30).(1/456)
وإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد أتى على المسلمين مئات السنين، وهؤلاء القوم ومريدوهم وأشياعهم هم مُثُلهم العليا وموجهوهم في الدين والدنيا، حتى وصل المسلمون إلى ما هم عليه من الجهل والفساد.
* أمر الشمس بالوقوف فوقفت:-
ومن جملة المستفيضات ما اشتهر في بلاد اليمن بين الفقهاء وغيرهم، وربما تواتر عن الفقيه إسماعيل الحضرمي...رضي الله تعالى عنه، أنه قال يوماً لخادمه وهو في سفر يقول للشمس تقف حتى يصل إلى منزله، وكان في مكان بعيد، وقد قرب غروبها، فقال لها الخادم: قال لك الفقيه إسماعيل (قفي له)، فوقفت حتى بلغ مكانه، ثم قال للخادم: ما تطلق ذلك المحبوس؟ فأمرها الخادم بالغروب، فغربت وأظلم الليل في الحال(1).
ولا تعليق، ولا سؤال، ولا جواب، ولا ملحوظة، ولكن نقول فقط: إن كشفهم خانهم! إذ لتأخير غياب الشمس يجب أن يأمر الأرض أن تقف، فدوران الأرض هو الذي يسبب الليل والنهار، ووقوف الشمس لا يؤخرشيئاً ولا يقدم في غروبها.
* الولاية تنسخ القرآن والحديث والإسلام:-
قال الفقيه إسماعيل الحضرمي رضي الله تعالى عنه: قيل لي: يا فقيه إسماعيل: إنا مشتاقون إليك، فهل أنت مشتاق إلينا؟ أو قال: فما هذا التخلف؟ فقلت: يا رب عوقتني الذنوب. فقال: قد غفرنا لك ولأهل تهامة من أجلك(2)!!
- السؤال: هل نُسخت الآية: ((وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)) [النجم:39]؟ وغيرها من الآيات والأحاديث المعروفة؟! لكن أيها القارئ الكريم، لو عرضت هذا الكلام على صوفي جليل، لقال لك: هذا الكلام له تأويل، فنجيبه: التأويل تضليل، ومكر، وأحابيل.
* ثم قاف (يا ناس)!:-
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:33).
(2) نشر المحاسن الغالية، (ص:390).(1/457)
قال الشيخ أبو العباس أحمد بن أبي الخير اليمني المشهور بالصياد رضي الله تعالى عنه: خطر بقلبي الاعتزال عن الخلق والسكنى بجبل قاف، فسمعت قائلاً يقول: يا صياد! أنت لنا أو لنفسك؟ فقلت: بل لكم، فقال: إن كنت لنا فقف هاهنا، ولك أجر رجلين من أهل جبل قاف(1).
- يا ناس، دلونا على من يدلنا على هذا القاف، ولكم أجر كل أهل جبل قاف.
* نصير الدين الطوسي (رضي الله عنه!!):-
يقول عبد الله اليافعي (قطب الغوث)، والغوث كما تعلمون يتصرف في الكون، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى! وطبعاً يعلم ذلك بالكشف! يقول: وقال الإمام نصير الدين الطوسي رضي الله تعالى عنه في كتابه في (قواعد العقائد): والفعل الخارق الذي يظهر على أحد من غير تحد يسمى الكرامة(2)...إلخ.
- وللعلم، نصير الدين الطوسي هذا، هو وزير هولاكو، شاركه في قتل ثلاثة ملايين مسلم ومسلمة، وهو شيعي، فهل الكشف خان الغوث؟ أم أن دمار الإسلام هو رسالة التصوف؟
* يعرف الجنة قصراً قصراً، ورأى الشمس في العجلة يجرها ملكان!:-
(أبو العباس أحمد بن أبي الخير الصياد)...وقال في وقت: والله إني لأعرف الجنة قصراً قصراً، وأعرف النار حانوتاً حانوتاً، وأعرف أصحابها في الدنيا واحداً واحداً. وقال أيضاً: كشف لي عن الشمس، فرأيت ملكين عظيمين يجرانها على العجلة في الفلك، من المشرق إلى المغرب، ومن المغرب إلى المشرق، قال الراوي: فقلت له: صف لي الملكين. فقال: ملكان عظيمان لهما كذا وكذا من مخلب، لو نظر إليهما أهل الأرض لماتوا...(3).
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:390).
(2) نشر المحاسن الغالية، (ص:13).
(3) نشر المحاسن الغالية، (ص:76).(1/458)
- لم يسعفه كشفه وهو قطب، وكذلك الذي نقل هذه الكرامه، وهو غوث أيضاً، وهو عبد الله اليافعي، الذي لم يسعفه كشفه ولا غوثيته ليعرف أن الشمس تسير، لكن ليس من الشرق إلى الغرب، ولا من الغرب إلى الشرق، وأن الأرض هي التي تدور حول نفسها من الغرب إلى الشرق، وكذلك كذب عليهما شيطانهما عندما قال لهما: إن الشمس محمولة على عجلة، وفي فصل لاحق سنرى مثل هذا الكشف عند حشاش فطر المكسيك، وأما معرفة الجنة قصراً قصراً والنار حانوتاً حانوتاً، ومعرفة أصحابها، فنترك مناقشتها لغير الضالين المضلين، ((وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ)) [الأحقاف:9].
* العري أيضاً، ولكن مواساة للفقراء:-
وحكي أنه دخل بعضهم على بشر بن الحارث رضي الله تعالى عنه في يوم شديد البرد، وقد تعرى من الثياب، وهو ينتفض، قال: فقلت له: يا أبا نصر، الناس يزيدون في مثل هذا اليوم من الثياب، وأنت قد نقصت؟ فقال: ذكرت الفقراء وما هم فيه ولم يكن لي ما أواسيهم به، فأردت أن أواسيهم بنفسي(1)!!
* الملحوظات:
1- ماذا يستفيد الفقراء إن تعرى وانتفض من البرد؟ وإن مرض؟ وإن مات؟
2- هل يؤجر على هذا العمل أم يأثم؟ وهل العري فضيلة؟ عجيب!
3- إن كان يريد حقاً مواساة الفقراء، فلم لم يفتش على عمل ثم يدفع أجرته لهم؟
* أعذار أقبح من ذنوب (من مقام الإخلاص والورع):-
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:231).(1/459)
...ولا يزالون يتعاطون ما يؤدي إلى إساءة الظن بهم وسقوطهم من قلوب الخلق ورميهم لهم بالعظائم، لا يحتفلون بمدح الخلق ولا بذمهم استجلاباً لكمال الإخلاص، واستبراءً للنفس من شوائب الشرك الخفي الذي لا يسلم منه إلا الخواص، لا يبالي أحدهم بكونه بين الخلق زنديقاً إذا كان عند الله صديقاً؛ فبعضهم يوهم الناس أنه لا يصلي ولا يصوم وهو يصلي ويصوم في الباطن فيما بينه وبين الله تعالى، وقد شوهد منهم كثير يصلون في الخلوات ولا يصلون بين الناس! وبعضهم إذا نام عند الناس يوهمهم أنه نائم، ويخرج إلى بعض المزابل يوهمهم أنه يبول، وليس به بول ولا نوم، بل يصلي الصبح بوضوء العشاء! وبعضهم يصلي بين الناس، ولكن لا يُرى في الصلاة، بل يحتجب عن الناس بحاله، إخفاء للمحاسن كما تقدم! وبعضهم يكشف عورته بين الناس! وبعضهم يشتم الناس بالألفاظ القبيحة! وبعضهم يجعل قصبته بين رجليه ويعدو عليها كأنها فرسه! وبعضهم يشتمل ببعض الحرف الدنيئة! وبعضهم جاء بعض الملوك يزوره في عسكره، فاستدعى بطعام وجعل يأكل أكلاً بشيعاً شنيعاً، فانصرف عنه الملك لما رأى ذلك! وبعضهم يأخذ شيئاً للناس حتى ينسبوه إلى اللصوصية ويزول عنه شهرة الصلاح(1)!! اهـ.
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:303).(1/460)
- هذا الكلام يذكره قطب غوث، وما أدراك ما قطب الغوث! فنسأله: لا يصوم، أي: يأكل أمام الناس (وطبعاً هذا في رمضان)، فكيف يأكل أمام الناس، بينما هو يصوم في الباطن؟؟ هذا كلام لا يصدر إلا عن مجنون أو زنديق. ثم الذين يصلون في الخلوات ولا يصلون أمام الناس، فهل نسخت ولايتهم فرض صلاة الجماعة؟! وهل التظاهر بالزندقة يجوز في الإسلام أم هو زندقة بحد ذاته؟! والعري العري ثم العري، لعله من مستلزمات التصوف؟! على كل حال، هذا هو كمال الإخلاص الذي يدعون إليه، وهذا هو استبراء النفس من شوائب الشرك الخفي، وهذا ما يعلمونه للناس، وهذا هوسبب فساد الأمة وسبب انهيارها، وسبب الجهل والذل اللذين يخيمان عليها.
* رآه وهو في ظهر أبيه:-
...وروينا عنه (الشيخ أبي عبد الله القرشي) قال: سألني الشيخ أبو الربيع عن بعض ما كنت أرى؟ فأخفيت عنه شيئاً. فقال: أعلي تتستر؟ والله لقد رأيتك في ظهر أبيك قبل ظهورك(1)...اهـ.
- وطبعاً خانه الكشف، فقد كان موزعاً بين أبيه وأمه، حيث نتج من حيوان منوي من هذا، ومن بويضة من هذه، وهكذا نرى أن كشفهم لا يظهر منه إلا الجهل.
* كشف، ودعوة إلى الجهل:
يقول أحمد الفاروقي السرهندي، مجدد الألف الثاني:
...ومن علومهم (أي: الفلاسفة) علم الهندسة، وهو لا يغني شيئاً...وعلم الطب وعلم النجوم وعلم تهذيب الأخلاق...وهؤلاء الأشقياء أخرجوا رقابهم عن ربقة التقليد، وصاروا في صدد الإثبات بالدلائل، فضلوا وأضلوا. ولما وصلت دعوة عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلى أفلاطون، وكان هو أكبر هؤلاء الخذلة، قال: نحن قوم مهديون لا حاجة بنا إلى من يهدينا، ما أسفهه وما أشقاه، حيث أدرك شخصاً يحيي الأموات ويبرئ الأكمه والأبرص(2)...
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:50).
(2) المنتخبات من المكتوبات، (ص:74).(1/461)
- أترك التعليق للقارئ، ولكني أنبه إلى أن أفلاطون مات قبل ميلاد عيسى بـ(347 سنة)، فأين الكشف؟ مع العلم أن السرهندي يعترف أن الكشف قد يخطئ.
* صورة من مقام التواضع.. ثم من مقام الخوف:-
كان الشيخ الفقيه عبد الرحمن بن سعيد من الفقهاء والعلماء العاملين، بينما هو يمشي في يوم شاتٍ كثير الطين، فاستقبله كلب يمشي على الطريق التي كان عليها، قال من رآه: رأيت الشيخ قد لصق بالحائط، وعمل للكلب طريقاً، ووقف ينتظره ليجوز، فلما قرب منه الكلب، ترك مكانه الذي كان فيه ونزل أسفل، وترك الكلب يمشي فوقه! قال: فلما جاوزه الكلب وصلت إليه فوجدته وعليه كآبة! فقلت له: يا سيدي رأيتك الآن صنعت شيئاً استغربته! كيف رميت بنفسك في الطين وتركت الكلب يمشي في الموضع النقي؛ فقال لي: بعد أن عملتُ له طريقاً، تفكرت وقلت: ترفعت على الكلب وجعلت نفسي أرفع منه، بل هو والله أرفع مني وأولى بالكرامة، لأني عصيت الله وأنا كثير الذنوب...وأنا الآن أخاف من الله ألا يعفو عني لأني رفعت نفسي على من هو خير مني(1)...
* نسخ لآية قرآنية:
...وقيل للواسطي(2): لم لا تسأل الله شيئاً؟ فقال: أخشى أن يقال: إن سألتنا الذي لك عندنا فقد اتهمتنا، وإن سألتنا ما ليس لك عندنا فقد أسأت الأدب معنا، وإن سلمت الأمر لنا ونظرت بنظرنا أجرينا لك الأمور على مقتضى الموافقة(3).
السؤال: ما معنى قوله سبحانه: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) [غافر:60]؟ وهل نسختها ولايتهم؟
- وما معنى قوله سبحانه: ((فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) [غافر:14]؟
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:337، 338).
(2) يزيد بن هارون الواسطي، مات سنة (286هـ).
(3) إيقاظ الهمم، (ص:269).(1/462)
- وماذا بقي للقرآن من قيمة ما دام هوس هؤلاء المهووسين، يتحكم بآيات الله فيقررها أو ينسخها؟! لكنه العلم اللدني فلا تعترض. ولننتبه إلى الآية التي تقرر أن الذين يكرهون الدعاء هم الكافرون.
* علم لدني:-
يقول عبد العزيز الدباغ الغوث، إجابة على سؤال:
...الجواب والله الموفق للصواب بمنه، أن الثلج ماء عقدته الرياح، وأصله -غالباً- من ماء البحر المحيط، وماء البحر المحيط مخصوص بثلاث خصال لا توجد في غيره: البرودة إلى النهاية، لمجاورته للرياح وبعده من حر الشمس، ولذلك ينعقد بأدنى سبب، والصفاء إلى النهاية، لأنه ماء باقٍ على أصل خلقه، لم يمتزج بشيء من جواهر الأرض، فإنه بحر محمول على القدرة الأزلية، وليس هو على الأرض ولا على شيء، والبعد إلى النهاية، فإن المسافة التي بيننا وبينه في غاية البعد(1)...
- نترك التعليق لغير أهل الطريق، مع ملحوظة أن كشفه منبثق من معلوماته المستقاة من محيطه.
* علم لدني آخر:-
ويجيب عبد العزيز الدباغ، الغوث، على سؤال عن سبب الخسف فيقول:
__________
(1) الإبريز، (ص:145).(1/463)
...إن الأرض محمولة على الماء، والماء محمول على الريح، والريح تخرج من حيز عظيم بين السماء وطرف الماء، أعني ماء البحر المحيط، وذلك أنا لو قدرنا رجلاً يمشي ولا ينقطع مشيه، فإنه يبلغ لمنقطع الأرض، ثم يرى البحر المحيط، فإذا فرضناه يمشي عليه ولا ينقطع مشيه، فإنه لا يزال يمشي فوق الماء إلى أن ينقطع، وعندئذ لا يبقى بينه وبين السماء إلا الجو الذي تخرج منه الريح، فيرى رياحاً لا تكيف ولا تطاق، وهي بإذن الله الحاملة للماء والأرض، والماسكة للسماء، ثم هي خدامة دائماً لا تسكن لحظة، ومرتفعة نحو السماء، فإذا أراد الله تعالى أن ينزل المطر على قوم أمر شيئاً من تلك الرياح فانعكس إلى جهة الأرض، وعبر على متن البحر المحيط أو غيره، فيحمل ما أراد الله تعالى من الماء إلى الموضع الذي يريده عز وجل، وكم مرة أنظر إلى طرف الماء المُوالي للجو الذي فيه الرياح، فأرى فيه جبالاً من الثلج لا يعلم قدر عظمها إلا الله عز وجل، فإذا رجعت من الغد، وجدت تلك الجبال نُقلت إلى طرف الماء الموالي لجبل قاف، وإذا الرياح المنعكسة هي التي حملتها والله تعالى أعلم. وإذا أراد الله أن يخسف بقوم، دخلت الرياح في منافس وتقويرات في الأرض، بينها وبين الماء، فإذا دخلت الريح فيها، وقع في الأرض انحلال ينشأ عنه الخسف، وفي آخر الزمان تكثر المنافس في الأرض، ويكثر انعكاس الرياح إلى جهة الأرض، فتكثر الخسوفات، حتى يختل نظام الأرض، وكل ذلك بفعل الله تعالى وإرادته والله أعلم(1)...
- أرجو من القارئ الكريم أن يعرف أن قائل هذه الهذيانات الخرافية هو قطب الواصلين الولي الكامل الغوث الحافل، الصوفي الباهر، نجم العرفان الزاهر، صاحب الإشارات العلية، والعبارات السنية، والحقائق القدسية، والأنوار المحمدية، والأسرار الربانية، والهمم العرشية، مُنشئ معالم الطريقة...ومبدي علوم الحقائق(2)...
__________
(1) الإبريز، (ص:148).
(2) الإبريز، (ص:2).(1/464)
كما أرجو من القارئ أن يعرف أن الذي سجل هذه المعارف (أو المخارف) التي جرت على لسان نجم العرفان هذا، هو نجم عرفان آخر، وهو الحافظ سيدي أحمد بن المبارك، جمعها في كتابه الشهير (الإبريز)، ومما وُصف به هذا الإبريز قول أحدهم:
دع ما يريبك إن ظفرتَ بمنهل ... ... صاف وهذا منهل الأبرار
لله ما يحويه ذا الإبريز يا ... ... لَلَّه ما يحوي من الأسرار
جمعَ المحاسن فهو جنات أتت ... ... من كل صنف يانع الأزهار(1)
ومن جملة ما يقول نجم العرفان الحافظ أحمد بن المبارك عن نجم العرفان سيدي عبد العزيز الدباغ: ...ولو سألته رضي الله عنه ورحمه عن هذه الأسئلة (أسئلة ذكرها عن غيبيات) لخرجت في أجوبتها علوم غيبية، فإنه رضي الله عنه لا يجيب إلا عن عيان...(2).
__________
(1) من أبيات مكتوبة على الغلاف الداخلي للكتاب.
(2) الإبريز (ص:149).(1/465)
- أي: إن تلك الهذيانات التي ذكرها. صادرة عن عيانٍ شاهده عبد العزيز الدباغ بنفسه، وهذا دليل واضح كامل على أن رؤاهم ومشاهداتهم ما هي إلا أوهام، كانوا يظنونها حقائق، وقد شغلت- كعلوم- حيزاً من قناعاتهم، فظهرت في رؤاهم الكشفية، ولنلاحظ قوله: إن الأرض محمولة على الماء...وإن هذا الماء بعيد إلى النهاية، الذي يُظهر مدى جهل الكشف وغبائه أيضاً! لأن الآية الكريمة تقول: ((وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا. أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا)) [النازعات:30، 31]، أي: إن ماء الأرض خرج من الأرض، فيكون محمولاً عليها وليس العكس، وكذلك قوله: لو قدرنا رجلاً يمشي...فإنه يبلغ لمنقطع الأرض، الذي يدل على أن كشفهم (وعرفانهم) لم يستطع أن يفهم معنى قوله سبحانه: ((وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا)) [الحجر:19]، أي: إن الرجل الماشي، سيبقى يسير، وستبقى الأرض، ومعها البحر ممدودة أمامه لا تنقطع، لأنها كروية، ولكن الكشف جهول؟ ولننتبه أيضاً إلى قوله: وكم مرة أنظرُ إلى طرف الماء الموالي للجو...، الذي يبين بوضوح كامل أن هذه الأمور شاهدها بنفسه (بالكشف طبعاً)، وهذا دليل واضح على أن الكشف هو انبثاقات للمعلومات المختزنة في عقل المكاشف، وبالتالي، يدل هذا أيضاً على أن الصوفية ليست ولاية (ولا يحزنون)، وإنما هي حالة نفسية تشبه ما يحدث لمتعاطي المخدرات شبهاً تاماً. كما يجب أن ننتبه إلى اعتقادهم بواقعية الكشف.
* كشف فلكي فيزيائي كيميائي:-(1/466)
(ياقوتة): سألت شيخنا رضي الله عنه عن محل التغيير والاستحالة من العالم. فقال رضي الله عنه: محل ذلك ما دون فلك القمر!...فقلت له: فهل الاستحالة عامة في كل كثيف ولطيف فيما تحت فلك القمر؟ فقال رضي الله عنه: نعم. ألا ترى النار تستحيل هواء، والهواء يستحيل ماء، والماء يستحيل هواء، والهواء يستحيل ناراً، والنار تتصل بالهواء وآخرها يتصل بالنور، فأول طرف الهواء متصل بالماء وآخره متصل بالنار، وأول الماء متصل بالتراب وآخره متصل بالهواء، فمن جهة طرفه الأعلى يتصل بما فوقه، ومن طرفه الأدنى يتصل بما دونه ويستحيل؛ فقلت له: فما العلة في الاستحالة والتغيير؟
فقال: لتُجزى كل نفس بما كسبت وتعاقب بما جنت(1).
* التعليق:
يقول: إن الاستحالة (أي: الحوادث الكيميائية والفيزيائية) لا تجري فوق فلك القمر! أي: لو كنا في المريخ مثلاً، فأي عملية كيميائية أو فيزيائية لا يمكن أن تجري هناك!! كما يقرر (بل يقرران) أن ما فوق فلك القمر لا يوجد فيه تراب، إن التراب هو الذي نراه تحتنا فقط!!
- هذا الكلام يعني أن العارف (بل العارفين) الكامل المحقق لم يستطع أن يعرف أن الاستحالة والتغيير تجري فوق فلك القمر وفي النجوم البعيدة، كما تجري على الأرض، كما أنه لم يعرف (أو لم يعرفا) أن الأرض ومعها قمرها تدور مع بقية الكواكب السيارة حول الشمس، ولم يعرف كذلك أن النجوم شبيهة بالشمس لها توابع أو رفاق، تدور حولها أو معها، وتسري عليها سنن الله التي تسري على الأرض، ولم يعرف أيضاً أن العلة في الاستحالة والتغيير ليست كما قال: ((وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ)) [الجاثية:22]، وأنه لا علاقة بينهما ألبتة، وإنما هي سنن الله في خلقه، كانت كما أرادها أن تكون.
__________
(1) كتاب الجواهر والدرر على هامش الإبريز، (ص:151).(1/467)
وكل هذا يعني أن الكشف لم يعطه أكثر من المعارف المختزنة في مخازن دماغه والتي استقاها من المعلومات التي كانوا يتوهمونها، والتي جاءت بدورها من مكاشفات أولياء سابقين تراكمت بعضها فوق بعض، وكان الأقطاب المدركون والكباريت الحمر، يضيف كل واحد منهم إلى الركام ما يتجسد له في كشفه، مما يتوهمه من نظريات خرافية. والجدير بالذكر أن مثل هذا تماماً يحدث مع الذين يتعاطون المخدرات التحشيشية، فهم يرون في كشوفهم المعلومات المختزنة في عقولهم، يضاف إليها أمانيهم وطموحاتهم. وهكذا كل كشوف العارفين، ما عدا الطلسميات والمعميات والغيبيات التي لا يمكن أن يوجد عليها أي دليل، والتي ليس لها أي قيمة في ميزان العلم والمعرفة الحقة. ولإتمام الفائدة، نفيد القارئ علماً أن السائل هو القطب الرباني والغوث الصمداني سيدي عبد الوهاب الشعراني، وأن المسئول هو الشيخ الكامل المحقق صاحب الكشوفات الربانية والمعارف اللدنية، سيدي علي الخواص...وكان محل كشفه اللوح المحفوظ عن المحو والإثبات(1)!!
- أقول: لو كان كلامهم هذا صحيحاً، ولو كانت كشوفاتهم ربانية محلها اللوح المحفوظ، لتنزهت عن الغلط- مجرد الغلط- فكيف بها وهي كلها- كما نرى- هذيان في هذيان، وجهل في جهل؛ وبالتالي، تكون فناءاتهم وإشراقات وحدة الوجود فيها هذيانات من هذه الهذيانات.
* كشف من الغيبيات (للتسلية):-
يقول أحمد بن المبارك:
__________
(1) الجملة الأخيرة من طبقات الشعراني: (2/150).(1/468)
سمعت الشيخ (عبد العزيز الدباغ) رضي الله عنه يقول: في ذات كل ملك خمسة رءوس، لكل رأس يمينٌ وشمالٌ وفوقٌ سبعة، فله فوق تسعةُ أفواه، مجموع ذلك ثلاثة وستون فماً في كل رأس، فإذا ضربت عدد الرءوس الخمسة في عدد الأفواه السابقة، كان الخارج ثلاثمائة فم وخمسة عشر فماً، والفم يكون فيه ثلاثة ألسن، وقد يكون فيه خمسة ألسن، وقد يكون فيه سبعة ألسن؟ فإذا كان فيه ثلاثة، فالخارج من ضربها في عدد الأفواه تسعمائة وخمسة وأربعون لساناً، وإن كان فيه خمسة كان الخارج ألف لسان وخمسمائة لسان وخمسة وسبعون لساناً، وإن كانت سبعة كان الخارج ألفي لسان ومائتي لسان وخمسة ألسن؛ وإذا تكلم الملَك بكلمة خرج صوته بها من هذه الألسن كلها، فسبحان الملِك. الخلاق العظيم(1)...اهـ.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهكذا نرى أن كشوفهم ما هي إلا هذيانات وهلوسات وصور لما كانوا يعتقدونه عن الكون، وكلها خرافية، بالإضافة إلى الألاعيب الشيطانية.
* ثم قاف أيضاً:-
...سمعنا الشيخ أبا أحمد البطايحي رضي الله عنه غير مرة يقول: دخلت على شيخنا الشيخ عبد القادر رضي الله عنه ببيته يوماً، فوجدت عنده أربعة ما رأيتهم قبل! فوقفت مكاني، فلما قاموا من عنده قال لي الشيخ: الحقهم واسألهم أن يدعوا لك، فلحقتهم في صحن المدرسة قبل أن يخرجوا، وسألتهم الدعاء، فقال لي أحدهم: لك البشرى، أنت خادم رجل يحرس الله تعالى الأرض ببركته، سهلها وجبلها، برها وبحرها، وبدعوته تُرحم الخليقةُ برها وفاجرها، ونحن وسائر الأولياء في حضرة أنفاسه وتحت قدميه وفي دائرة أمره؟ ثم خرجوا من المدرسة فلم أرهم؛ فرجعت إلى الشيخ متعجباً، فقال لي قبل أن أخبره بشيء: يا عبد الله! لا تُعلِمْ أحداً بما قالوا لك يا أخي. قلت: يا سيدي مَن هؤلاء؟ قال: رؤساء رجال جبل قاف، وهم الآن في مواضعهم بجبل قاف(2)...
__________
(1) الإبريز، (ص:153).
(2) بهجة الأسرار ومعدن الأنوار، (ص:19).(1/469)
- السؤال: أين هذا القاف؟! أفيدونا يا رجال الغيب، ويا رجال الشهادة، ولكنهم كانوا يرون هذا فعلاً بالكشف! فما هو هذا الكشف؟!
* ماذا بقي للألوهية:-
يقول عبد القادر الجيلاني:
أنا من وراء أمور الخلق، أنا من وراء عقولهم، كل رجال الحق إذا وصلوا إلى القَدَر أمسكوا إلا أنا، وصلت إليه وفتح لي منه روزنة، فأولجت فيها، ونازعت أقدار الحق بالحق للحق، فالرجل هو المنازع للقدر لا الموافق له(1).
ويقول: طوبى لمن رآني، أو رأى من رآني، أو رأى من رأى من رآني، وأنا حسرة على من لم يرني(2).
الجواب هو قوله سبحانه: ((فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)) [النجم:32]. وقوله: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:49، 50]، وقوله مخاطباً رسوله: ((وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ)) [الأحقاف:9]، وقوله: ((قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا. قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا)) [الجن:21، 22]، وغيرها الكثير، فهل نؤمن بالقرآن أم بالجيلاني؟؟
* لا يلبس القميص تقرباً إلى الله تعالى (لعله من مقام المحاسبة):-
...وكان لأبي سعيد الخراز ابنٌ مات قبله، فرآه في المنام، فقال له: بُني أوصني.
فقال: لا تعامل الله على الجبن...فقال: زدني. فقال: لا تجعل بينك وبين الله قميصاً! قال: فما لبس القميص ثلاثين سنة(3)...
- فما شأن القميص؟! وهل يشكل القميص حاجزاً بين الإنسان وبين ربه؟!
* الكشف يجهل أن الإكسير خرافة:-
__________
(1) بهجة الأسرار ومعدن الأنوار، (ص:23).
(2) بهجة الأسرار ومعدن الأنوار، (ص:23).
(3) الرسالة القشيرية، (ص:180).(1/470)
لما مات إسحاق بن أحمد، دخل سهل بن عبد الله صومعته، فوجد بها سفطاً فيه قارورتان في واحد منهما شيء أحمر، وفي الأخرى شيء أبيض، ووجد شوشقة ذهب وشوشقة فضة، قال: فرمى بالشوشقتين في الدجلة وخلط ما في القارورتين بالتراب، وكان على إسحاق دَيْن، قال ابن سالم: قلت لسهل: إيش كان في القارورتين؟ قال: إحداهما لو طرح منها وزن درهم على مثاقيل من النحاس صار ذهباً! والأخرى لو طرح منها مثقال على مثاقيل من الرصاص صار فضة! فقلت: وإيش عليه لو قُضي منه دينه؟
فقال: أي: دوست، خاف على إيمانه(1).
- دوست: كلمة فارسية معناها صاحب. ولعل القارئ يعرف أن الشيء الأحمر والشيء الأبيض اللذين كانا في القارورتين هما ما يسمونه (الإكسير) وهو محض خرافة لا وجود له. ولكن كشفهم الذي يقولون عنه إنه عين اليقين وحق اليقين لم يسعفهم على معرفة اليقين، وظهر أكثر جهلاً منهم.
أما إنه أبقى الدِّين على نفسه لأنه إن قُضي دينه خاف على إيمانه!! فهذا منطق لا يفهمه إلا المكاشفون العارفون.
* الشريعة تابعة لحقيقتهم:-
...سمعت أبا بكر الدقاق يقول: كنت ماراً في تيه بني إسرائيل، فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين للشريعة، فهتف بي هاتف من تحت شجرة: كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر(2).
- إذن! فالشريعة تابعة لحقيقتهم! وهذا مثل قول الغزالي الذي مر في مكان سابق، وهو يعني: إن العبارة إن لم تكن موهمةً أن وراءها نصاً شرعياً فهي كفر (أي: في نظر أهل الشريعة).
* صيامٌ نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:-
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:164).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:164).(1/471)
...سمعتُ الفتاحي صاحب سهل بن عبد الله يقول: كان سهل يصبر عن الطعام سبعين يوماً، وكان إذا أكل ضعف، وإذا جاع قوي. وكان أبو عبيد البسري إذا كان أول شهر رمضان يدخل بيتاً ويقول لامرأته: طيِّني عليَّ الباب وألقي إليَّ كل ليلة من الكوة رغيفاً، فإذا كان يوم العيد، فتح الباب، ودخلت امرأته البيت، فإذا بثلاثين رغيفاً في زاوية البيت، فلا أكل ولا شرب ولا نام ولا فاتته ركعة من الصلاة(1)..
* التعليق:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصل في الصيام، وأمر بتعجيل الفطور، وأمر بالسحور، وأمر بتأخيره. وبذلك يكون هذا (الولي) موزوراً بعمله هذا لا مأجوراً، ولكن حقيقتهم تناقض الشريعة الإسلامية (على طول الخط)، وهذا عدا تركه صلاة الجمعة والجماعة.
* كذب على الله ورسوله:-
قال خير النساج: قص موسى بن عمران صلوات الله عليه على قوم قصة، فزعق واحد منهم، فانتهره موسى، فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى، بطيبي فاحوا، وبحبي باحوا، وبوجدي صاحوا، فلِمَ تنكر على عبادي(2)؟
- الجواب: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً)) [الأنعام:21].
والكذب على رسول الله موسى، كالكذب على رسول الله محمد صلى الله عليهما وسلم، ويقول صلى الله عليه وسلم: {من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار}.
* من خشوع الأولياء في الصلاة:-
...أحمد بن مقاتل العكي يقول: كنت مع الشبلي في مسجدٍ ليلة من شهر رمضان، وهو يصلي خلف إمام له وأنا بجنبه، فقرأ الإمام: ((وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)) [الإسراء:86]، فزعق زعقة قلت طارت روحه، وهو يرتعد ويقول: بمثل هذا يخاطب الأحباب! يردد ذلك كثيراً(3).
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:165). واللمع، (ص:217).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:157).
(3) الرسالة القشيرية، (ص:155).(1/472)
- نقول (متناسين تزكية النفس): لعل من مقام الإحسان الزعق في الصلاة؟ فهذه علوم لدنية كشفية يجهلها المحجوبون. وهذا يكشف دور إبليس في التصوف.
* يستبدل القرآن بالغناء! ولا تعترض:-
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: خرجت إلى مرو في حياة شيخي الأستاذ أبو سهل الصعلوكي؛ وكان له قبل خروجي، أيام الجمعة بالغدوات، مجلس دور القرآن والختم؟ فوجدته عند رجوعي قد رفع ذلك المجلس، وعقد لأبي الغفاني في ذلك الوقت مجلس القول! فداخلني من ذلك شيء، فكنت أقول في نفسي: قد استبدل مجلس الختم بمجلس القول! فقال لي يوماً: يا أبا عبد الرحمن! إيش يقول الناس في؟ فقلت: يقولون: رفع مجلس القرآن ووضع مجلس القول! فقال: من قال لأستاذه (لِمَ) لم يفلح أبداً(1)...اهـ.
- فهم القارئ كاف، ولكن ينبغي أن نشير إلى أن هذه الضلالات والتفاهات تدرَّس في مساجد المسلمين، وعليها ينشأ كثير من أبناء المسلمين! ثم يتساءلون عن سبب فساد المسلمين!!
* الصوفي إله! يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء بيده الخير:-
...أن شقيقاً البلخي وأبا تراب النخشبي قدما على أبي يزيد (البسطامي)، فقدمت السفرة وشاب يخدم أبا يزيد؛ فقالا له: كل معنا يا فتى. فقال: أنا صائم. فقال أبو تراب: كل ولك أجر صوم شهر! فأبى. فقال له شقيق: كل ولك أجر صوم سنة!! فأبى. فقال أبو يزيد: دعوا من سقط من عين الله تعالى!! فأخذ ذلك الشاب في السرقة بعد سنة فقطعت يده(2).
* التعليق: عندما يصل الضلال بأهله إلى هذا المستوى، فالسكوت خير من الكلام.
* يرفضون أن يكون آخر كلامهم (لا إله إلا الله):-
...عن أبي محمد الهروي أنه قال: مكثت عند الشبلي الليلة التي مات فيها، فكان يقول طول ليله هاذين البيتين:
كل بيت أنت ساكنه ... ... غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا ... ... يوم يأتي الناس بالحجج(3)
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:150).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:151).
(3) الرسالة القشيرية، (ص:137).(1/473)
وقيل للشبلي عند وفاته: قل: لا إله إلا الله، فقال:
قال سلطان حبه ... ... أنا لا أقبل الرشا
فسلوه بحقه ... ... لِمَ بقتلي تحرشا؟(1)
وقال بعضهم: كنت عند ممشاد الدينوري عند وفاته، فقيل له: كيف تجد العلة؟ فقال: سلوا العلة عني كيف تجدني؟ فقيل: قل: لا إله إلا الله، فحول وجهه إلى الجدار، وقال: أفنيتُ كلي بكلك، هذا جزاء مَنْ يحبك(2)؟
وقيل لأبي محمد الدبيلي وقد حضرته الوفاة: قل: لا إله إلا الله، فقال: هذا شيء قد عرفناه وبه نفنى، ثم أنشأ يقول:
تسربل ثوب التيه لَمَّا هويته ... ... وصد ولم يرض بأن أك عبده(3)
...سمعت بعض الفقراء يقول: لما قربت وفاة أحمد بن نصر رحمه الله تعالى، قال واحد: قل: أشهد أن لا إله إلا الله، فنظر إليه وقال: لا تترك الحرمة (بالفارسية: بي حرمتي مكن)(4). وحُكي أنه قيل له (لأبي الحسين النوري): قل: لا إله إلا الله، فقال: أليس إليه أعود(5)؟
- وغيرهم وغيرهم، ولا تعليق، ولا سؤال، لكن هكذا تقتضي حكمة الإشراق.
* من أجل نملتين (من مقام التقوى):-
...ومِثْل أبي يزيد، اشترى بهمذان حب القرطم، ففضل منه شيء، فلما رجع إلى بسطام رأى فيه نملتين، فرجع إلى همذان فوضع النملتين(6)!!
* الأسئلة:
1- هل أعاد النملتين إلى نفس قريتهما(7)؟ طبعاً لا. وعندما تبتعدان عن قريتهما فلا فرق عندهما بين بسطام وبين همذان، ولكن كشفه لا يفهم ذلك؟
2- عندما ذهب إلى همذان ورجع، فكم نملة مرت تحت رجله فداسها وقتلها دون أن يشعر؟ كم نملة قتل في سبيل إعادة نملتين؟ فكيف قصر علمه اللدني عن علم هذا الأمر البدهي.
* من مقام الزهد:-
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:138).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:138).
(3) الرسالة القشيرية، (ص:138).
(4) الرسالة القشيرية، (ص:138).
(5) الرسالة القشيرية، (ص:138).
(6) الرسالة القشيرية، (ص:52).
(7) القرية هي عش النمل.(1/474)
...سمعت الجنيد يقول: سمعت السري يقول: وإن نفسي تطالبني منذ ثلاثين سنة أو أربعين سنة أن أغمس جزرة في دبس فما أطعتها(1)!
- ليس لنا أمام هذا الزهد البارد إلا الدسترة: دستور دستور دستور.. ودساتير كثيرة.
* وأيضاً بلا عنوان:-
...سمعت أبا عبد الله الصوفي يقول: سمعت أبا عبد الله بن خفيف يقول: ربما كنت أقرأ في ابتداء أمري في ركعة واحدة عشرة آلاف مرة: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) [الإخلاص:1]، وربما كنت أقرأ في ركعة واحدة القرآن كله، وربما كنت أصلي من الغداة إلى العصر ألف ركعة(2)!!
- ولا تعليق أيضاً، لكن أطلب من القارئ اللبيب أن يقوم بعملية حسابية بسيطة، ومع ذلك فلن نعدم من يقول لنا هذه الأمور من مقامات الخواص! فنجيبهم: وكذلك الرقص مع النقص والموسيقى والسماع.
* فقرة معترضة بلا مناقشة ولا ملحوظة ولا تنبيه:-
قال أحمد التجاني: لو بحت بما علمه الله لي لأجمع أهل العرفان على قتلي(3).
* من أجل زبيبة (لعلها من مقام المراقبة أو المحاسبة):-
يقول أبو بكر الكلاباذي (تاج الإسلام):
...قال أبو عثمان: كنت عند أبي حفص، وبين يديه زبيب، فأخذت زبيبة ووضعتها في فمي، فأخذ بحلقي وقال: يا خائن، تأكل زبيبتي؟ فقلت: لثقتي بزهادتك في الدنيا وعلمي بإيثارك أخذت الزبيبة. فقال: يا جاهل، تثق بقلب لا يملكه صاحبه(4)؟!
- للعلم: هذه القصة المخجلة هي من باب: (توقي القوم ومجاهداتهم)، ومن ذلك:
كان أبو المغيث لا يستند ولا ينام على جنبه، وكان يقوم الليل، وإذا غلبته عينه قعد ووضع جبينه على ركبتيه فيغفو غفوة(5).
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:72).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:29).
(3) كشف الحجاب، (ص:373).
(4) التعرف (ص:147).
(5) التعرف، (ص:148).(1/475)
- السؤال: وماذا لو نام، وهل في عدم اضطجاعه فضل؟ أي فضل؟ لقد نام خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء، وخير البشر من بعدهم صحابة رسول الله، والنوم على الجنب هو من الفطرة، والإسلام دين الفطرة، فمن أين هذا التوقي والمجاهدة؟؟ {من رغب عن سنتي فليسى مني}. وطبعاً هي حكمة الإشراق.
* ومن توقيهم البارد:-
قالوا: إن أبا عمرو الزجاجي أقام بمكة سنين كثيرة لم يحدث في الحرم، كان يخرج من الحرم للحدث، ثم يعود إليه وهو على الطهارة(1).
- وماذا لو أحدث في الحرم؟ هل هو يفهم ما كان يجهله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟؟
* خرابات وقمامات ولا يكلم الناس:-
ويقول أيضاً (أبو بكر الكلاباذي):
...سمعت فارساً يقول: كان أبو عبد الله المعروف بشكثل لا يكلم الناس، وكان يأوي إلى الخرابات في سواد الكوفة، وكان لا يأكل إلا المباح والقمامات(2)...
* التعليق:
هل هذا من الإسلام في شيء؟؟ لكن ما علينا إلا العودة إلى الدسترة.. دستور! دستور! دستور! ويظهر أن هناك علاقة باطنية بين التصوف وبين القاذورات.
* ودستور آخر (لعله من مقام التقوى):-
...سمعت الحسين المغازلي يقول: رأيت عبد الله القشاع ليلةً قائماً على شط دجلة وهو يقول: يا سيدي أنا عطشان، يا سيدي أنا عطشان، حتى أصبح، فلما أصبح قال: يا ويلتي، تبيح لي شيئاً وتحول بيني وبينه، وتحظر علي شيئاً وتخلي بيني وبينه، فإيش أصنع؟ ورجع ولم يشرب منه(3).
جوابنا: ألم يعلم هذا الجاهل أنه في عمله هذا إن لم يكن آثماً فهو على الأقل غير مأجور؟ أوَلا يعلم أيضاً، هو وطائفته، أن مثل هذا موجود في دين الهندوسية لا في دين الإسلام؟ ثم ماذا لو شرب؟ وما هي الحسنة في عدم شربه؟ لكن بمثل هذه التفاهات وصلت حالة المسلمين إلى ما نراه الآن.
* الصراخ والتعري من مستلزمات الصوفية:-
__________
(1) التعرف، (ص:148).
(2) التعرف، (ص:148).
(3) التعرف، (ص:148).(1/476)
...ثم صرخ (عبد القادر الجيلاني) وقام إليه خلق كثير يتوبون صارخين باكين، إذ جاء عصفور فقعد على رأسه، فحنى رأسه له، ومكث كذلك وهو على رأسه والناس على درج الكرسي، والصراخ حوله وهو لا يبرح حتى مد يده بعض أصحابه نحوه، فطار، ثم دعا، وضج الناس بالبكاء والدعاء والتوبة، فنزل وخرج على حاله إلى جامع الرصافة، وتبعه خلق كثير بالبكاء والصراخ والوجد والتعري عن الثياب، ثم قال رضي الله عنه: هذا آخر الزمان(1)...
* الملحوظة: هكذا هي التربية الصوفية التي دمرت المجتمع الإسلامي: عري وصراخ وغوغائية...
* مشورة الكتاب والسنة غير ملزمة (لعلها للتسلية فقط):-
...فانظر إلى وزيريك، الكتاب والسنة، خذ مشورتهما، فإن أفتياك توقف، لا تستعجل، لا تُشِرْ، استفتِ نفسك وإن أفتاك المفتون، النفس إذا جاهدتها وخالفتها انسكبت مع القلب، صارا شيئاً واحداً(2)...
- للعلم: قائل هذا الكلام هو عبد القادر الجيلاني (وما أدراك...) وهو يقرر أن عليك ألا تلتزم بالقرآن والسنة، وإنما تستشيرهما فقط، ثم تعود إلى مشورة قلبك؟ وأرجو من القارئ أن يبحث عن حكم الإسلام في هذا.
وكان (عبد القادر الجيلاني) رضي الله عنه يقول: أيما امرئ مسلم عبر على باب مدرستي يخفف الله عنه العذاب يوم القيامة(3)!.. (يا سلام ويا بلاش).
* دعاء غير الله واستعانة بغيره:-
بسم الله الرحمن الرحيم
__________
(1) الفتح الرباني، (ص:369).
(2) الفتح الرباني، (ص:370).
(3) الغنية (ترجمة المؤلف)، (ص:4).(1/477)
يا سلطان العارفين، يا تاج المحققين، يا ساقي الحميا، يا جميل المحيا، يا بركة الأنام، يا مصباح الظلام، يا شمس بلا أفل، يا در بلا مثل، يا بدر بلا كلف، يا بحر بلا طرف، يا باز الأشهب، يا فارج الكرب، يا غوث الأعظم، يا واسع اللطف والكرم، يا كنز الحقائق، يا معدن الدقائق، يا واسط السلك والسلوك، يا صابح الملك والملوك، يا شمس الشموس، يا زهرة النفوس، يا هادي النسيم، يا محيي الرميم، يا عالي الهمم، يا ناموس الأمم، يا حاجة العاشقين...يا خزانة الأسرار، يا سيدي جمال الله، يا نائب رسول الله...يا راحم الناس، يا مذهب الباس، يا مفتح الكنوز، يا معدن الرموز، يا كعبة الواصلين، يا وسيلة الطالبين...يا قوي الأركان، يا حبيب الرحمن...يا فاتح المغلقات.. يا حائط الأشياء.. يا منتهى الأمل حين يتقطع العمل....يا ضياء السماوات والأرضين...يا فرجاً في الشدائد...يا غافر الأوزار...يا ذا الأحوال العظيمة...يا كاشف الغمة...يا مقبول رب الجنات، يا جليس الرحمن...يا شاه يا سر إلهي...يا سيدي يا سندي يا مولاي يا قوتي يا غوثي يا غياثي يا عوني يا راحتي يا قاضي حاجتي يا فارج كربتي يا ضيائي يا رجائي يا شقائي...يا نور السرائر يا صاحب القدرة يا وهاب العظمة...يا شاهد الأكوان بنظرة، يا مبصر العرش بعلمه، يا بالغ الغرب والشرق بخطوة، يا قطب الملائكة والإنس والجن، يا قطب البر والبحر، يا قطب المشرق والمغرب، يا قطب السماوات والأرضين، يا قطب العرش والكرسي واللوح والقلم...يا من يبلغ لمريده عند الاستعانة ولو كان في المشرق...يا صاحب التصرف في الدنيا وفي قبره بإذن الله...يا غوث الأعظم، أغثني في كل أحوالي، وانصرني في كل آمالي(1)...
- للعلم: هذا الدعاء ليس موجهاً لله تعالى، وإنما هو موجه لعبد القادر الجيلاني!!
وهو ورد أساسي من أوراد الطريقة القادرية التي يتعبدون بها ويتقربون إلى الله؟!
__________
(1) الفيوضات الربانية، (ص:191، وما بعدها).(1/478)
- وجوابنا: ((وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)) [الأحقاف:5].
* رجال الغيب كما ذكرها في (الغنية):-
اعلم أن رجال الغيب والأرواح المقدسة قدَّست أرواحهم، في اليوم السابع والرابع عشر والثاني والعشرين والتاسع والعشرين متوجهون إلى المشرق، واليوم السادس واليوم الحادي والعشرين والثامن والعشرين بين المشرق والشمال، واليوم الثالث والخامس عشر والثالث والعشرين والثلاثين منه متوجهون إلى طرف الشمال، واليوم الخامس والثالث عشر والتاسع والسابع والعشرين منه متوجهون إلى المغرب، واليوم الثاني والعاشر والسابع عشر والخامس والعشرين منه متوجهون بين المغرب والقبلة، واليوم الثامن والحادي عشر والثامن عشر، والسادس والعشرين والرابع والعشرين منه متوجهون بين المشرق والقبلة، فيا أخي إذا علمت جهات سيرهم وطريقتهم ينبغي أن تلتجئ إلى الله وإليهم بعد قراءة الأوراد، تقول: حصلوا مرادي ومقصدي. ويسمي لهم الطالب مقصودَه ومرادَه(1)...
- هذا العلم اللدني معرفته شرط من شروط المنتسب إلى الطريقة القادرية، بل وجميع الطرق دون استثناء.
ونسألهم ونسأل غيرهم: لو فتشنا ودرسنا الديانات الوثنية كلها، فهل نجد فيها شركاً أكثر من هذا؟ أو تفاهة (أنقى) من هذه التفاهة؟
* علم لدني آخر:-
...وأعلى الأمكنة، المكان الذي تدور عليه رحى عالم الأفلاك، وهو فلك الشمس، وفيه مقام روحانية إدريس عليه السلام، وتحته سبعة أفلاك، وفوقه سبعة أفلاك وهو الخامس عشر، فالذي فوقه: فلك الأحمر (أي: المريخ)، وفلك المشتري، وفلك كيوان (زحل)، وفلك المنازل (منازل القمر)، والفلك الأطلس فلك البروج، وفلك الكرسي،. وفلك العرش، والذي دونه: فلك الزهرة، وفلك الكاتب، وفلك القمر،
__________
(1) الفيوضات الربانية، (ص:199)، ولا أعرف في أي مكان من كتاب الغنية هي موجودة (المؤلف).(1/479)
وكرة الأثير، وكرة الهوى (الهواء)، وكرة الماء، وكرة التراب، فمن حيث هو قطب الأفلاك هو رفيع المكان(1)...
* التعليق: هذا العلم اللدني الناتج عن الكشف الذي هو حق اليقين، ظهر وإذا به انبثاق لمعلومات اقتنع بها المكاشف وكانت موجودة في عصره، مع غيرها طبعاً، وهذا العلم اللدني والكشف العظيم هو من كشوف الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر محيي الدين بن عربي. وكل كشوفهم وعلومهم اللدنية من هذا القبيل!!
* الكشف يقرر لاهوت عيسى:-
يقول ابن عربي في (مناجاة قاب قوسين):
...فسمعت كلاماً مني، لا داخلاً فيَّ ولا خارجاً عني، وهو يقول:
لله در عصابة سارت بهم ... ... نجب الفناء بحضرة الرحمن
قرعوا سماء الروح لما آنسوا ... ... جسماً ترابياً بلا أركان
فبدا لهم لاهوت عيسى المجتبى ... ... روحاً بلا نفس ولا جثمان(2)
- إذن، فعيسى عليه السلام إله، ولا تعترض فهو العلم اللدني. وهذا الكلام الذي لا داخلاً فيه ولا خارجاً عنه، عندما يسمعه الواصل وهو في حال استشعار الألوهية هو ما يسميه ابن عربي (الفهوانية).
* الكشف يقرر التثليث:-
ويقول ابن عربي أيضاً:
...فقام أصل التكوين على التثليث، أي: من الثلاثة...فهذا أيضاً قد ظهر حكم التثليث في إيجاد المعاني التي تقتنص بالأدلة؟ فأصل الكون التثليث، ولهذا كانت حكمة صالح عليه السلام التي أظهر الله في تأخير أخذ قومه ثلاثة أيام وعداً غير مكذوب(3) إلخ.
ويشرح عبد الرزاق القاشاني (في شرحه على الفصوص) هذا الكلام، ومن جملة ما يقول:
__________
(1) فصوص الحكم (كلمة إدريسية)، (ص:75).
(2) رسائل ابن عربي، كتاب الإسرا، (ص:51).
(3) فصوص الحكم، (ص:116، 117)، وشرح القاشاني على الفصوص (ص:169، 170).(1/480)
...أي: ثم لما كان التثليث سبباً لفتح باب النتائج في التكوين والإيجاد، سرى ذلك التثليث في جميع مراتب الإيجاد حتى إيجاد المعاني بالأدلة، وكما أن التثليث الأول مرتب ترتيباً متقناً: بكون الذات فيه مقدماً، والإرادة متوسطة بينه وبين القول، لا يكون إلا كذلك، فلذلك يكون الدليل مرتباً على نظام مخصوص(1)...(أي: على التثليث). - النتيجة من هذا الشرح التبريري (العلمكلامي) هي: عيسى إله، والكون قائم على التثليث، وبالتالي يكون دين النصرانية صحيحاً والإسلام غير صحيح..
- وهذا الكلام الوارد في (فصوص الحكم) يؤمن به كل الصوفية؛ لأنهم يؤمنون بأن ابن عربي هو ولي الأولياء وصديق الصديقين ومقرب المقربين والشيخ الأكبر والكبريت الأحمر. وكتابه فصوص الحكم هو أعظم مؤلفاته كلها قدراً وأعمقها غوراً وأبعدها أثراً، وقد شرحه شراح كثيرون من أئمة الصوفية وكبرائهم، حتى صارابن عربي يعرف بـ(صاحب الفصوص).
ويقول ابن عربي نفسه عن كتاب الفصوص ما يلي:
أما بعد: فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مُبشَّرةٍ أُريتها في العشر الأخير من محرم سنة سبع وعشرين وستمائة، بمحروسة دمشق، وبيده صلى الله عليه وسلم كتاب، فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم، خذْه واخْرج به إلى الناس ينتفعون به، فقلت: السمع والطاعة...وجرَّدت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حدَّه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان(2)...
* تعليق:
على القارئ ألا يظن أن ابن عربي كان نصرانياً؛ لأنه يؤمن بألوهية المسيح وبالتثليث، لا، لم يكن نصرانياً، وإنما كان صوفياً، وإيمانه بألوهية المسيح وبالتثليث جاء من صوفيته، ولفهم ذلك نقرأ الأبيات التالية من ديوانه (ترجمان الأشواق)، يقول:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة ... ... فمرعى لغزلانٍ ودير لرهبان
__________
(1) شرح القاشاني، (ص:171).
(2) فصوص الحكم للعفيفي، (ص:47)، وشرح القاشاني، (ص:9).(1/481)
وبيتٌ لأوثانٍ وكعبة طائفٍ ... ... وألواح توراةٍ ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ... ... كتائبه فالحب ديني وإيماني
ولنلاحظ أن ابن عربي كان يقول هذا الكلام عندما احتل الصليبيون القدس للمرة الثانية بعد أن حررها المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي. وبقوا فيها أربعة عشر سنة، وكان المسلمون يتنادون من كل حدب وصوب داعين للجهاد لتحرير القدس، بينما يقف ابن عربي ليقول: ...ودير لرهبان...وألواح توراة...أدين بدين الحب...!!
أما قصة تناوله كتاب فصوص الحكم من الرسول صلى الله عليه وسلم فنترك التعليق عليها، من حيث العقيدة ومن حيث الواقع، للقارئ اللبيب. بعد تذكيره بالآية الكريمة: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي...)) [المائدة:3]
* علوم لدنية؟!
يقول الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر الإمام العالم المحقق المتبحر...ابن عربي:
...فأقول على مفهوم من اللسان العربي بالحساب القمري من تقديم الليل على النهار، أن ليلة الأحد سلخ الله منها نهار الأربعاء، فالشأن الذي هو فيه في ليلة الأحد هو في نهار الأربعاء! وسلخ من ليلة الإثنين نهار الخميس، والشأن كالشأن، وسلخ من ليلة الثلاثاء نهار الجمعة...فالليالي منها للتحت والشمال والخلف، والنهار منها للفوق واليمين والأمام....والحكم لأول ساعة من الليل ولأول ساعة من النهار(1)...
ويقول أيضاً:
...ونبتدئ بيوم الأحد تبركاً بالاسم، فإنه من صفات الحق وله الأولية وله القلب...
__________
(1) رسائل ابن عربي، كتاب أيام الشأن، (ص:10).(1/482)
...فاعلم أن ليلة الأحد الإيلاجي(1) مركبة من الساعة الأولى من ليلة الخميس والثامنة منها والثالثة من يوم الخميس والعاشرة منها والخامسة من ليلة الجمعة والثانية عشرة منها والسابعة من يوم الجمعة والثانية من ليلة السبت والتاسعة منها والرابعة من يوم السبت والحادية عشرة منها والسادسة من ليلة الأحد؟ فهذه ساعات ليله.
وأما ساعات نهاره من أيام التكوير كما قلنا، فالساعة الأولى من يوم الأحد من أيام التكوير والثامنة منه والثالثة من ليلة الإثنين والعاشرة منه والخامسة من يوم الإثنين والثانية عشرة منه والسابعة من ليلة الثلاثاء، والثانية من يوم الأربعاء، والتاسعة منه، والرابعة من ليلة الأربعاء والحادية عشرة منها والسادسة من يوم الأربعاء، فهذا يوم الأحد الإيلاجي الشأني، قد كمل بأربع وعشرين ساعة كلها كنفس واحدة؛ لأنها من معدن واحد(2) (ويتمم أيام الأسبوع حسب هذا الهذيان).
ويقول: ...والسماوات والأرض لا تزال، والأيام دائمة لا تزال، فمِن مُقعَّر تلك الكواكب الثابتة إلى المركز نازلاً، لا تزال الأيام دائرة فيها أبداً بالتكوين، كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها، فالكون والفساد فيها دائم مستمر، والتسعة عشر عليها طالعة وغاربة، ومُقعَّر هذا الفلك هو سقف النار، نعوذ بالله منه، وسطح هذا الفلك هو أرض الجنة، والعرش سقفها، وهو روح هذه الأيام(3)...
- الجواب على هذه الهذيانات: ترلم ترلم ترلم...ترلم ترلم ترلم....
* أمنى من لذة الألوهية:-
يقول عبد الكريم الجيلي (الغوث):
__________
(1) كلمة الإيلاجي، من: ((يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ)) [الحج:61].
(2) الرسائل، كتاب الشأن، (ص:11، وما بعدها).
(3) الرسائل، كتاب الشأن، (ص:16).(1/483)
منظر التكوين: هو مشهد ذاتي تتلون فيه بمعاني الأسماء والصفات، فيغلب عليك في كل زمان حكم صفة... وفي هذا المشهد تجد من اللذة الإلهية ما يسري في جميع أجزائك، إلى أن تكاد تخرج روحك من عالم التركيب إلى عالم الأرواح لشدة اللذة المنطبعة فيك، تجدها بحكم الضرورة محسوسة كما تجد لذة المحسوسات، وقد أخذت هذه اللذة فقيراً عن محسوساته حتى غاب عن الكون وما فيه، فلما رجع إلى نفسه وجده قد أمنى لما سرت فيه اللذة الروحانية فعمت الروح والقلب(1)...
ولا تعليق، لكن سؤال: هل عليه الغسل من الجنابة أم لا؟ مع العلم أن حشاشي الأفيون والحشيشة يحصل لهم مثل هذا.
* أفحم الله بسبع كلمات (تعالى الله علواً كبيراً):-
...قيل للفقيه حسن بن أبي السرور: لو كشفنا للخلق عنك لرجموك! فقال: ولو كشفت لهم عن رحمتك لما عبدوك، فقيل: يا حسن حسنوه، لا تقول ولا نقول(2)!!
أما نحن فنقول:
- جاء في التلمود أن أحد الحاخامات بقي يجادل الله ثلاثة أيام حتى أفحمه واعترف له الله بخطئه (تعالى الله)، ولكن حسن بن أبي السرور استطاع أن يفحم الله بسبع كلمات في ثانيتين!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
- وفي هذا النص اعتراف من القوم بكفرهم وزندقتهم (لو كشفنا.. لرجموك).
* ومن كشوفهم وعلومهم اللدنية:-
يقول عبد الكريم الجيلي الغوث(3):
__________
(1) المناظر الإلهية، (ص:21، 22).
(2) المناظر الإلهية، (ص:21، 22).
(3) المناظر الإلهية، (ص:44). وحسن بن أبي السرور مات سنة 770 تقريباً.(1/484)
اعلم أن الله تعالى خلق دور فلك سماء الدنيا مسيرة أحد عشر ألف سنة، وهو أصغر أفلاك السماوات دوراً، فيقطع القمر دور هذا الفلك في أربع وعشرين ساعة معتدلة، أعني مستقيمة، فيقطع في كل ساعة مسيرة أربعمائة وثمانية وخمسين سنة ومائة وعشرين يوماً، وقطر هذا الفلك مسيرة أربعة آلاف سنة وخمسمائة عام؛ ثم إن للقمر فلكاً في نفس الفلك...بخلاف الكواكب السيارة فإن كل كوكب منها يقابل نور الشمس في جميعها، فمثلها مثل البلورة الشفافة، إذا وقع فيها النور سرى في ظاهرها وباطنها؟ بخلاف القمر، فإنه كالكرة المعدنية المصقولة لا تقبل النور إلا في مقابلة الشمس......والكوكب اسم للجرم الشفاف المنير من كل سماء...
وأما السماء الثانية، فإنها جوهر شفاف لطيف ولونها أشهب، خلقها الله تعالى من الحقيقة الفكرية، فهي للوجود بمثابة الفكر للإنسان، ولهذا كانت محلاً لفلك الكاتب وهو عطارد، جعله الله تعالى مظهراً لاسمه القدير...جعل الله دور فلك هذه السماء مسيرة ثلاث عشرة ألف سنة وثلاثمائة سنة وثلاثاً وثلاثين سنة ومائة وعشرين يوماً، يقطع كوكبها، وهو عطارد، في كل ساعة مسيرة خمسمائة سنة وخمس وخمسين سنة وخمس أشهر وعشرين يوماً، فيقطع جميع فلكه في مضي أربع وعشرين ساعة معتدلة، ويقطع الفلك الكبير في مضي سنة كاملة...
وأما السماء الثالثة فلونها أصفر، وهي سماء الزهرة، جوهرها شفاف...خلق الله دور فلك هذه السماء مسيرة خمس عشرة ألف سنة وستة وثلاثين سنة ومائة وعشرين يوماً، يقطع كوكبها، وهو الزهرة، في كل ساعة مسيرة ستمائة سنة وإحدى وثلاثين سنة وثمانية عشر يوماً وثلث يوم، فيقطع الفلك في مضي أربعة وعشرين يوماً، وملائكة هذه السماء تحت حكم الملك المسمى صورائيل...ورأيت ملائكة هذه السماء مؤتلفة، لكن على أنواع مختلفة، فمنهم من وكله الله بالإيحاء إلى النائم إما صريحاً وإما بضرب مثل يعقله العالم....(1/485)
وأما السماء الرابعة فهي الجوهر الأفخر، ذات اللون الأزهر، سماء الشمس الأنور، وهو قطب الأفلاك، خلق الله تعالى هذه السماء من النور القلبي...جعل الله هذا الكوكب الشمسي في هذا الفلك القلبي مظهر الألوهية ومجلس لمتنوعات أوصافه المقدسة النزيهة الزكية، والشمس أصل لسائر المخلوقات العنصرية، كما أن الاسم (الله) اسم لسائر المراتب العلية...ثم اعلم أن الله تعالى جعل الفلك الشمسي مسيرة سبع عشرة ألف سنة وتسعاً وعشرين سنة وستين يوماً، فيقطع جميع الفلك في مضي أربع وعشرين ساعة معتدلة، ويقطع الفلك الكبير في ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً وربع يوم وثلاث دقائق...(ويمضي الجيلي هكذا حتى يصل إلى السماء السابعة) ثم يقول:(1/486)
...الفلك الأطلس، هو عرصة سدرة المنتهى...ويسكن سدرة المنتهى الملائكة الكروبيون، رأيتهم على هيئات مختلفة لا يحصي عددهم إلا الله...ورأيت منهم مائة ملك مقدمين على هؤلاء جميعهم، بأيديهم أعمدة من النور...يرهبون بها من دونهم من الكروبيين ومن بلغ مرتبتهم من أهل الله تعالى، ثم رأيت سبعة من جملة المائة متقدمة عليهم يسمون قائمة الكروبيين، ورأيت ثلاثة مقدمين على هذه السبعة يسمون بأهل المراتب والتمكين، ورأيت واحداً مقدماً على جميعهم يسمى عبد الله. وكل هؤلاء عالون ممن لم يؤمروا بالسجود لآدم، ومن فوقهم كالملك المسمى بالنون والملك المسمى بالقلم، وأمثالهما أيضاً عالون، وبقية ملائكة القرب دونهم وتحتهم مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وأمثالهم، ورأيت في هذا الفلك من العجائب والغرائب ما لا يسعنا شرحه. واعلم أن جملة الأفلاك التي خلقها الله تعالى في هذا العالم ثمانية عشر فلكاً: الفلك الأول: العرش المحيط- الفلك الثاني: الكرسي- الفلك الثالث: الأطلس، وهو سدرة المنتهى- الفلك الرابع: الهيولى- الفلك الخامس: الهباء- الفلك السادس: العناصر - الفلك السابع: الطبائع- الفلك الثامن: المكوكب وهو فلك زحل ويسمى فلك الأفلاك- الفلك التاسع: فلك المشتري- الفلك العاشر: فلك المريخ- الفلك الحادي عشر: فلك الشمس- الفلك الثاني عشر: فلك الزهرة- الفلك الثالث عشر: فلك عطارد- الفلك الرابع عشر: فلك القمر- الفلك الخامس عشر: فلك الأثير، وهو فلك النار- الفلك السادس عشر: فلك الهواء- الفلك السابع عشر: فلك الماء- الفلك الثامن عشر: فلك التراب والبحر المحيط الذي فيه (البهموت) وهو حوت يحمل الأرض على منكبيه...ثم لكل موجود في العالم فلك وسيع يراه المكاشف ويسبح فيه ويعلم ما يقتضيه...(1/487)
أما الطبقة الأولى من الأرض: فأول ما خلقها الله تعالى كانت أشد بياضاً من اللبن، وأطيب رائحة من المسك، فاغبرت لما مشى آدم عليه السلام عليها بعد أن عصى الله تعالى، وهذه الأرض تسمى أرض النفوس...دور كرة هذه الأرض مسيرة ألف عام ومائة عام وستة وستون عاماً ومائتا يوم وأربعون يوماً...
...ثم سَلَك (الإسكندر) الجانب الجنوبي، وهو الظلمات، حتى بلغ يأجوح ومأجوج، وهم في الجانب الجنوبي من الأرض...لم تطلع الشمس على أرضهم أبداً...ثم سلك الجانب الشمالي حتى بلغ محلاً منه لم تغرب الشمس فيه، وهذه الأرض بيضاء على ما خلقها الله تعالى عليه، هي مسكن رجال الغيب، وملكها الخضر عليه السلام...وهي قريبة من أرض بلغار، وبلغار بلدة في العجم لا تجب فيها صلاة العشاء أيام الشتاء، لأن شفق الفجر يطلع قبل غروب شفق المغرب فيها...وهذه الأرض أشرف الأراضي وأرفعها قدراً...لأنها محل النبيين والمرسلين والأولياء الصالحين، وأما الطبقة الثانية من الأرض، فإن لونها كالزمردة الخضراء، تسمى أرض العبادات، يسكنها مؤمنو الجن...لا يزال أهلها قاطنين فيها حتى تغيب الشمس عن أرض الدنيا، فيخرجون إلى ظاهر الأرض يتعشقون ببني آدم تعشق الحديد بالمغناطيس...دورة كرة هذه الأرض ألفا سنة ومائتا سنة وأربعة أشهر.
...ولقد رأيت جماعة من السادات، أعني طائفة من متصوفي هذا الزمان، مقيدين مغلغلين، قد قيدهم جن هذه الأرض...
وأما الطبقة الثالثة من الأرض: فإن لونها أصفر كالزعفران، تسمى أرض الطبع، يسكنها مشركو الجن، ليس فيها مؤمن بالله...يتمثلون بين الناس على صفة بني آدم، لا يعرفهم إلا أولياء الله تعالى، لا يدخلون بلدة فيها رجل من أهل التحقيق...دورة كرة هذه الأرض مسيرة أربعة آلاف سنة وأربعمائة سنة وسنتين وثمانية أشهر...
(وهكذا حتى الأرض السابعة التي يقول عنها):(1/488)
...يسكنها الحيات والعقارب وبعض زبانية جهنم، دور كرة هذه الأرض مسيرة سبعين ألف سنة وأربعمائة سنة...وحياتها وعقاربها كأمثال الجبال وأعناق البخت(1)...(إلى آخر هذا الهذيان الجاهل وهذه الخرافات الساذجة).
* التعليق:
نتركه لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. لكن علينا أن ننتبه جيداً إلى أنه رأى كل هذه الهذيانات بالكشف الذي هو عين اليقين وحق اليقين ونور اليقين!! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإلى الله المشتكى، فقد دمروا بكشوفهم الهذيانية المجتمعات الإسلامية.
ويقول الجيلي أيضاً:
...وهذا الأمر الذي جعله الله لداوُد وسليمان عليهما السلام غير محصور فيهما ولا مقصور عليهما...وإلا فكل واحد من الأفراد والأقطاب له التصرف في جميع المملكة الوجودية، ويعلم كل واحد منهم ما اختلج في الليل والنهار فضلاً عن لغة الطيور. وقد قال الشبلي رحمه الله تعالى: لو دبت نملة سوداء على صخرة صماء في ليلة ظلماء ولم أسمعها لقلت إني مخدوع أو ممكور بي. وقال غيره: لا أقول: ولم أشعر بها؛ لأنه لا يتهيأ لها أن تدب إلا بقوتي وأنا محركها، فكيف أقول: لا أشعر بها وأنا محركها(2)...
سؤالنا: إن لم يكن هذا كفراً وشركاً وزندقةً فما هو الكفر والشرك والزندقة، أضف إليه كونه تفاهة فكرية وغباء، أو مرضاً عصبياً من نوع الجنون، ثم مجموعة من التصورات الوهمية التي كانوا يتصورونها عن الكون، وهي محض خرافة، وهكذا كل كشوفهم.
* وهذه أوهام مثلها:-
يقول ابن سبعين:
__________
(1) الإنسان الكامل: (2/97- 112).
(2) الإنسان الكامل: (1/122).(1/489)
...والنار جسم نير، يحيل الأجسام إلى طبيعته...والهواء جسم لطيف شفاف سيال...والماء جسم سيال حول الأرض...وهو المتوسط بين الوسط وإلى الذي من الوسط...والأرض جسم غليظ في مركز العالم، أو هو الوسط ونقطة العالم الطافي على الماء والكثافة المطلقة...والأركان الأربعة: النار والأرض والماء والهواء، والأخلاط أربعة: الصفراء والسوداء والبلغم والدم(1)...
- فأين الكشف؟ مع العلم أن ابن سبعين هو قطب دائرة الورثة، ومظهر آثار النبيين والمرسلين!!
ويقول: ...ونبدأ بكلام المقرب...فنقول: فائدة النفس لم تتحصل ولا تخلصت فيما تقدم على التمام...ونبين أن الخير في علمها والوقوف على كنهها غاية المطلوب والمرغوب...وأن واجب الوجود لا يعلم إلا إذا علمت، وأن معرفتها شرط في معرفته(2) اهـ.
1- عبارة (واجب الوجود) التي جعلوها اسماً من أسماء الله، لم ترد في كتاب ولا سنة.
2- عبارة (لا يعلم إلا إذا علمت) يمكن أن تقرأ بصيغة البناء للمعلوم، فتكون كفراً بيناً، كما يمكن أن تقرأ بصيغة البناء للمجهول، وبشيء من المناقشة يبين كفرها، ومثل ذلك عبارة (معرفتها شرط في معرفته).
3- وهكذا نرى أن كشوفهم التي يصفها الغزالي بأنها نور اليقين وعين اليقين وحق اليقين، ما هي إلا جهل في جهل في وهم في هذيان.
* يكذبون القرآن:-
يقول البوصيري في البردة (الشريفة):
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ... ... لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
ويقول:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ... ومن علومك علم اللوح والقلم
__________
(1) بد العارف، (ص:114).
(2) بد العارف، (ص:357).(1/490)
- الشطر الثاني من البيت الأول، يمكن أن يُفهم بأحد شكلين: إما أن الدنيا خلقت لأجل محمد صلى الله عليه وسلم وهذا مناقض للآية: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56]، وبالتالي هو كفر. وإما أنها خرجت إلى الوجود بأمره صلى الله عليه وسلم، وهذا يوافق معنى البيت الثاني، وكلاهما يعني أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الله، أو هو التجلي الأعظم للذات الإلهية، أو هو المركز الفعال فيها، وطبعاً هذا قمة الكفر.
* وينسخون القرآن:-
من كرامات أحمد الرفاعي:
أنه في العام الذي توفي فيه رضي الله تعالى عنه، حج وزار قبره صلى الله عليه وسلم، الذي هو أفضل من الجنة، بل من العرش والكرسي! ولما وقف تجاه القبر الشريف يريد الوداع أنشد:
إن قيل زرتم بما رجعتم ... ... يا أشرف الرسل ما نقول؟
فخرج صوت من القبر الشريف سمعه كل من حضر في ذلك الروض المعطر، وهو يقول:
قولوا رجعنا بكل خير ... ... واجتمع الفرع والأصول(1)
- الجواب: يقول سبحانه: ((وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ)) [يس:69]، فهل نُسخت الآية كرامةً لأحمد الرفاعي؟! وهذه الحادثة إن لم تكن من أكاذيبهم، فدور إبليس واضح فيها. ثم قوله (وقولهم: إن قبره أفضل من الجنة ومن العرش والكرسي)، فنغضُّ النظر عما فيه من الكفر الصارخ ومن تأليه محمد صلى الله عليه وسلم ونسألهم: هل عندهم دليل على هذا من قرآن أو سنة صحيحة؟ أم على الله يفترون؟!
* ويبيع الجنة (سباقاً مع الكنيسة):-
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:104، 109).(1/491)
...وأراد (أحمد الرفاعي) شراء بستان، فأبى صاحبه أن يبيعه إلا بقصر في الجنة، فارتعد وتغير واصفر، ثم قال: قد اشتريت منك بذلك، قال: اكتب لي خطك، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما ابتاع إسماعيل من العبد أحمد الرفاعي، ضامناً على كرم الله له قصراً في الجنة، يحف به حدود: الأول لجنة عدن، الثاني لجنة المأوى، الثالث: لجنة الخلد، الرابع: لجنة الفردوس، بجميع حوره وولدانه وفرشه وأشربته وأنهاره وأشجاره، عوضاً عن بستانه في الدنيا، والله شاهد على ذلك وكفيل؛ فلما مات إسماعيل دُفنت معه الورقة، فأصبحوا وإذا مكتوب على قبره: ((قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّاً)) [الأعراف:44](1)...
* التعليق:
لا تعليق، لكن إلى الله نشكو هذا البلاء، الذي أوصل الأمة إلى ما هي عليه من ذل وجهل.
* ونُسخت العبادة! ونُسخ القرآن والسنة! ونسخ الإسلام:-
قال الفقيه محمد بن الحسين البجلي رضي الله عنه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: {يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: وقوفك بين يدي وليٍّ لله كحلب شاة أو كشي بيضة خير لك من أن تعبد الله حتى تتقطع إرباً إرباً!! فقلت له: حياً كان أو ميتاً؟
فقال: حياً كان أو ميتاً}(2)!!
ولا تعليق، لكن سؤال: ماذا بقي من الوثنية؟! ومن الكفر؟! ومن الضلال؟!
* حياء مدهش:-
إبراهيم الأعزب (أحد خلفاء أحمد الرفاعي): ...وكان حياؤه من الله تعالى في مرتبة أنه ما رفع رأسه إلى السماء أربعين سنة(3)...
- سؤال: وماذا لو رفع رأسه إلى السماء؟ وهل في عدم رفعه حياء؟ وهل حجب عن الله سبحانه عندما لم يرفع رأسه؟ إنهم يقولون إن كل شيء هو الله! إذن فسواء رفع رأسه أم لم يرفعه فهو في جميع الحالات واحد. وهل يعرف ما لم يكن يعرفه رسول الله؟!
__________
(1) حاشية العلامة الصاوي، (ص:144)، وجامع الكرامات للنبهاني: (1/492).
(2) قلادة الجواهر، (ص:277).
(3) قلادة الجواهر، (ص:329).(1/492)
على كل حال: هذه صورة من (مقام الحياء)، ومثلها بقية مقاماتهم.
* لا تنهوا عن المنكر، فالنهي عن المنكر منسوخ، وعلى الإسلام السلام:-
أحمد البدوي (أحد الأقطاب الأربعة المتدركين): ...ثم حصلت له جمعية على الحق فاستغرق إلى الأبد...وأكثر أوقاته شاخص ببصره نحو السماء وعيناه كالجمرتين...واجتمع به ابن دقيق العيد، فقال له: إنك لا تصلي! ما هذا سنن الصالحين؟ فقال له: اسكت وإلا طيرتُ دقيقك، ودفعه فإذا هو بجزيرة متسعةٍ جداً، فضاق ذرعه حتى كاد يهلك؛ فرأى الخضر، فقال له: لا بأس عليك، إن مثل البدوي لا يُعترض عليه، اذهب إلى هذه القبة وقف ببابها، فإنه سيأتيك العصر ليصلي بالناس، فتعلق بأذياله لعله أن يعفو عنك؟ ففعل، فدفعه، فإذا هو ببابه(1)..
- السؤال: لم فرضت صلاة الجماعة؟ وجُعلت علنية؟ هل كان ذلك من أجل أن يصليها المقربون خفية عن الناس؟ وأين تقع هذه الجزيرة التي كان يصلي فيها البدوي؟ ولِمَ؟ وما هو دور القبة في الإسلام؟ وهل؟ وهل؟ وهل؟
وللعلم: في الديانات الوثنية، يبنون القبة ليضعوا تحتها الوثن على أنه إله في سمائه.
* فتش عن عنوان:-
...عن يعقوب (أحد تلامذة أحمد الرفاعي) قال: دخلت على سيدي أحمد في يوم بارد وقد توضأ، ويده ممدودة، فبقي زماناً لا يحرك يده، فتقدمت إلى تقبيلها فقال (أي: يعقوب): شوشت على هذه الضعيفة! قلت: من هي؟ قال: بعوضة كانت تأكل رزقها من يدي فهربت منك!! قال: ورأيته مرة يتكلم ويقول: يا مباركة ما علمتُ بك، أبْعدتُكِ عن وطنك! فنظرتُ، وإذا جرادة تعلقت بثوبه وهو يعتذر إليها رحمة لها(2)!!
- جوابنا: ماذا يكون لو قلد الناس الرفاعي فتركوا جسومهم مرعى للبعوض؟؟ والأسئلة كثيرة وكذلك الأجوبة (لكنك ستسمع: هذا من أعمال الخواص ص ص ص ص).
* أيضاً بلا عنوان (للتفتيش):-
__________
(1) حاشية الصاوي، (ص:146).
(2) قلادة الجواهر، (ص:65).(1/493)
...وكان (أحمد الرفاعي) يبتدئ من لقيه بالسلام، حتى الأنعام والكلاب! وكان إذا رأى خنزيراً يقول له: أنعم صباحاً؟ فقيل له في ذلك فقال: أعود نفسي الجميل(1).
- السؤال: هل من الجميل أن يسلم على الكلب والخنزير والأنعام؟ وما هو الجميل فيها؟ وهل تفهم الحيوانات عليه؟ إلى آخر الأسئلة، وهل كان الرسول وأصحابه يسلمون على الحيوانات، بل الكلاب والخنازير؟!
* السمك، وعودة إلى قاف! وهس س س س س س لا تعترض:-
...ومن كراماته (أحمد الرفاعي) أنه كلما خرج متنزهاً إلى الصحراء تخرج الأسماك من بطن بحر البصرة لالتماس بركاته، وتزدحم على أقدامه الشريفة كازدحام الإبل على موارد الماء(2)...
...ومنها أنه صلى الصبح في مكة المكرمة، والظهر في المدينة المنورة، والعصر في بيت المقدس، والمغرب في بعلبك في مقام نبي الله نوح عليه السلام، والعشاء وراء جبل قاف(3)!
* وقافات أيضاً؟ قافات:-
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:148).
(2) قلادة الجواهر، (ص:102).
(3) قلادة الجواهر، (ص:103).(1/494)
...وكان السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه مرة يتحدث في المجلس، فذكر القاف، فقال الشيخ يعقوب له: إيش بعد القاف؟ قال: قاف، فأعاد السؤال، فقال: قاف! وهو يسأل، وهو يقول: قاف! حتى عد عشر قافات! فقال للشيخ يعقوب، وهو يقول تلك القافات: أي يعقوب، أرض بيضاء، ما عُصي ربنا فيها طرفة عين، فيها خلق عظيم لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، ما سمعوا خلق آدم ولا لعنَ إبليس! فقال الشيخ يعقوب: يقدر أحد يقول ما لم يتحققه، قال: لا، أي يعقوب، ((مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)) [ق:18] ؛ ثم قال السيد أحمد الرفاعي رضي الله تعالى عنه: إلا إذا كنا، ثم دعا وقام من المجلس؟ وكان بعض الفقراء يحسن الظن في الشيخ يعقوب ويعتقده، فلما رأى كلامه للسيد أحمد الرفاعي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين هكذا، ظن وتصور أن السيد أحمد الرفاعي لم يتحقق هذه الأخبار، واعترض عليه، ويقول في شأنه على الاستهزاء أحياناً، فأذن الشيخ يعقوب في يوم من الأيام، وجلس في الأول، وجاء السيد أحمد الرفاعي رضي الله تعالى عنه وجلس في المحراب، وأدخل رأسه في قميصه، وفعل الشيخ يعقوب مثل ذلك، حتى مضى من وقت كثير، وكان الشيخ يعقوب إذا أذن لا يقدر أحد أن يقول له شيئاً حتى يفرغ من الصلاة؟ فقام ذلك الفقير المعتقد في شأنه، المعترض على السيد أحمد الرفاعي رضي الله تعالى عنه، ومد يده إلى الشيخ يعقوب وحركه، فلم يجد غير قميصه وعمامته! فتعجب من ذلك وأعلم الفقراء به! فلما كان بعد ساعة طويلة، رفع الشيخ يعقوب رأسه وقام، فقال السيد أحمد الرفاعي رضي الله تعالى عنه للشيخ يعقوب: أي يعقوب، تعبت، وتعبك عليَّ شديد؟ ثم قال الرجل المعترض للشيخ يعقوب: ما شاهدت؟ فقال له: ما خليتمونا من فضولكم، حتى أخذنا السيد أحمد الرفاعي بهذه اللحى البيض، ودار بنا المواضع التي ذكرها بأجمعها، حتى لا يبقى منها قليل ولا كثير(1).
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:191، 192).(1/495)
- أين هذا القاف؟ وتلك القافات؟ وكيف يخرج السمك من الماء ليتبرك بالسيد، وماذا يحصل للسمك بهذا التبرك؟ هل يدخل الجنة؟ أم ماذا...؟...؟
* سبع مداين؟ ووحي لم يمر على محمد صلى الله عليه وسلم:-
قال السيد إبراهيم الأعزب قدس سره: كنت نائماً في بعض الليالي في موضع هناك للسيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه، فأيقظني وقال: أي إبراهيم، ألا أخبرك؟ أظهرني الله سبحانه في هذه الساعة على سبعة مداين، كل مدينة منها بقدر هذه الدنيا سبع مرات، وهي مملوءة من الخلق، ليسوا من الجن ولا من الإنس، وما فيهم من يذكر الله تعالى، وكل ليلة عند غروب الشمس يأمر الله تعالى الملائكة، فيأخذون ذنوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم وينفضونها على تلك المدائن السبعة، وكل من أصاب منهم ذنباً فهو من أهل الجنة(1).
- أين هذه المدائن؟ وأهم من ذلك، أن المذنب من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا ذنب عليه ولا وزر؛ لأن الملائكة تأخذ ذنبه وتلقيه على تلك المدائن فيدخلون الجنة بسببها!! إذن ما على الإنسان من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن يكثر من الذنوب؛ لأنها تُرفع عنه مع المساء، ويدخل بسببها مخلوقات كثيرة الجنة، ثم سلام على الإسلام وعلى الإيمان وعلى الأخلاق وعلى المعاملة وعلى إنسانية الإنسان.
* الفقير إله:
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:193).(1/496)
قال السيد إبراهيم الأعزب قدس سره، حضرت في بعض الأيام عند السيد أحمد الرفاعي...قال: أي فقراء، الشيخ عثمان السالم آبادي قدس سره، يصعد كل يوم عند غروب الشمس إلى ديوان الربوبية، وينظر ديوان ذريته، فما يجد من سيئة يمحها ويكتب عوضها بلا معارضة!! قال السيد إبراهيم الأعزب: فأخذتني الغيرة من ذلك، فالتفت إليَّ السيد أحمد الرفاعي وقال: أي إبراهيم، لا يكون الرجل مُمَكِّناً في سائر أحواله حتى يُعرض عليه عند غروب الشمس جميع أعمال أصحابه وأتباعه وتلامذته بالقرب والبعد، فيمحو منها ما يشاء ويثبت فيها ما يشاء بكرم الله ولطفه؛ أي إبراهيم، قل عن هذا العبد الفقير الحقير البائس المسكين، معدن الذل والانكسار (يعني نفسه): لا يكون الشيخ شيخاً كاملاً في سائر أموره وأحواله وأقواله وأفعاله، ولا يصلح له الجلوس في المخدة، حتى يحضر عند تلميذه في أربع مواضع: عند خروج روحه من جسده، وعند مسألة منكر ونكير له، وعند جوازه على الصراط، وعند الميزان(1)...
- نسأل هؤلاء المخدوعين: ما هو الشرك الذي يزيد عن هذا الشرك؟ ثم إن محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو خير البشر، لا يغني عن أحدٍ شيئاً، أما هؤلاء القوم فقد تجاوزوا كل حدود الدين والإسلام والإيمان والعقل، ووصلوا إلى القدرة الإلهية، يفعلون ما يشاءون؟! وإنا لله وإنا إليه راجعون.
* وجعلوا الملائكة معاتيه ومخابيل:-
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:193).(1/497)
(يكذبون على الله وملائكته ورسله! ويناقض كشفهم بعضه) وبلغنا عن أبي عبد الله المغربي رضي الله عنه أنه قال: أهل السماع (أي: الغناء والموسيقى) خلقهم الله من نور بهائه، وخلق مثلهم سبعين ألف ملك من الملائكة المقربين، قد أقامهم الله تعالى بين العرش والكرسي في حضرة القدس، لباسهم الصوف الأخضر، ووجههم كالقمر ليلة تمامه، لهم شعور كشعور النساء، وهم قيام متواجدون والهون منذ خلقهم الله تعالى إلى أن ينفخ في الصور، يَسمَعُ بكاءهم وأنينَهم وفجعَهم وحنينَهم أهلُ السماوات السبع والأرضين، فهم أهل السماء، وينهدلون من العرش إلى الكرسي، ومن الكرسي إلى العرش، شبيه السكارى، لما بهم من شدة التوله، إسرافيل قائدهم ومرشدهم، وجبريل عليه السلام رئيسهم، والله تعالى مليكهم وجليسهم وأنيسهم، وهم إخواننا في النسب وأصحابنا في أهل السماء. ونقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما هبط آدم عليه السلام إلى الأرض بكى ثلاثمائة سنة، فأوحى الله تعالى إليه، يا آدم، مم بكاؤك؟ ومم جزعك؟ فقال: يا رب، لست أبكي شوقاً إلى جنتك ولا خوفاً من نارك، وإنما بكائي شوقاً إلى الملائكة الصوفية المتواجدين حول العرش، سبعين ألف صف، جرد مرد يرقصون ويتواجدون حول العرش يدورون، يد كل واحد منهم بيد صاحبه وهم يقولون: جَلَّ المَلِكُ ملِكُنا، لولا الملِكُ هلكنا، مَن مثلُنا وأنت إلهنا، ومَن مثلُنا وأنت حبيبنا ومستغاثنا ومستفزنا، وذلك دأبهم إلى يوم القيامة، قال: فأوحى الله تعالى إليه: يا آدم ارفع رأسك وانظر إليهم؟ قال: فرفع رأسه إلى السماء، فنظر إلى الملائكة وهم يرقصون حول العرش، وجبرائيل رئيسهم، وميكائيل قوالهم، فلما رآهم سكن روعه وأنينه وبكاؤه وحنينه(1)...
* التعليق:
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب..؟
ثم إن هذا الكشف يناقض كشف الجيلي المار سابقاً! فمن هو الكاذب؟
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:185).(1/498)
* ولم يبق عندهم لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم قيمة ولا معنى:-
...الشيخ محيي الدين عبد القادر (الجيلاني) رضي الله عنه كان يقول على الكرسي ببغداد: مكثت خمساً وعشرين سنة متجرداً سايحاً في براري العراق وخرابه، وأربعين سنة أصلي الصبح بوضوء العشاء، وخمس عشرة سنة أصلي العشاء ثم أستفتح القرآن وأنا واقف على رجل واحدة، ويدي في وتد مضروب في حائط خوف النوم، حتى أنتهي إلى آخر القرآن عند السحر؛ وكنت ليلة طالعاً في سلم، فقالت لي نفسي: لو نمت ساعة ثم قمت، فوقفت موضع خطر لي هذا، وانتصبتُ على رجْلٍ واحدة واستفتحتُ القرآن حتى انتهيت إلى آخره وأنا على هذه الحالة، وكنتُ من الثلاثة أيام إلى الأربعين يوماً لا آكل(1)...
- سؤال: ماذا حدث لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: {...أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني}.
- وقد رغب هؤلاء القوم عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فماذا يكونون؟
* الأنبياء وقوف بين يدي الصوفي:-
...ورأى بعض الفقراء الشيخ عبد الله بن أبي جمرة المدفون بقرافة مصر رضي الله تعالى عنه، وهو جالس على كرسي، وعليه حلة خضراء، والأنبياء كلهم واقفون بين يديه! فأشكل ذلك عليه، فعرضه على بعض العارفين، فقال: وقوف الأنبياء إنما هو أدبٌ مع مَن ألبس الخلعة فيكون ذلك من باب التعريف للأحكام الشرعية، لا شرعاً جديداً(2)!!
السؤال: ما هي هنا الأحكام الشرعية التي يعرفون بها؟؟ لا يوجد إلا الزندقة، وهذا هو دأبهم في كل زندقاتهم، يعطونها تأويلاً هو أقبح من الكفر، ثم يقولون لك: إنه موافق للشرع، وعليك أن تلغي إيمانك وعقلك وتسلم.
* الصوفي يجيب الدعاء:-
...ومن مدايحه (محمد وفا بن محمد الرفاعي الحلبي) فيه (في أحمد الرفاعي) مدحة يتداولها الناس في الأذكار بحلب وهي:
كل الأنام عيالٌ ... ... عليك يا ابن الرفاعي
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:458).
(2) قلادة الجواهر: (ص:111).(1/499)
يا بحر كل المزايا ... ... ويا مجيب الدواعي(1)
إذن؟ فأحمد الرفاعي يجيب الدواعي! ولا تعليق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
* التمسوا مدد الصوفي واستمطروا نعمه:-
يقول أحمد الرفاعي (الغوث):-
لي همة بعضها تعلو على الهمم ... ... ولي هوى قبل خلق اللوح والقلم
أنا الرفاعي طبولي في السما ضُربت ... ... والأرض في قبضتي والأوليا خدمي
كل المشايخ يأتوا باب زاويتي ... ... وفوق هاماتهم حاز العلا علمي
ولي لواءٌ على الكونين منتشر ... ... وكل أهل العُلا ما أنكروا هممي
فالجأ بأعتاب عزي والتمس مددي ... ... وطف ببابي وقف مستمطراً نعمي(2)
* التعليق:
أولاً: يجب أن نعلم أن أهل الطريقة الرفاعية كلهم يؤمنون بمضمون هذا الشعر، بل وكل الصوفية، وعلماؤهم هم الذين يطبعون الكتاب وينشرونه.
ثانياً: ننبه إلى قوله: والأرض في قبضتي، فالجأ بأعتاب عزي والتمس مددي، وقف مستمطراً نعمي، ننبه إلى هذا، ونسأل: ما هو الفرق بينه وبين الله سبحانه وتعالى عما يصفون؟ وماذا بقي من الكفر المبين؟ والشرك العظيم؟ اللهم نشكو إليك هذه الفئة الضالة المضلة.
* ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5]، نُسخت:-
...مَن ضاق حاله لمهمة أو لحاجة، أو عسر عليه مقصد، أو كان عليه دَين، أو كان في سجن أو بغى عليه ظالم، فليتوضأ ويصلي لله ركعتين، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مائة مرة، ويكون ذلك العمل في بيتٍ خال، ويقرأ الفاتحة للنبي وآله وأصحابه أجمعين، ويتوجه قائماً للشرق، لبر البصرة، لفلاة أم عَبيدة، محل مرقد الغوث الحسيني سيدي السيد أحمد (الرفاعي) وينادي بالاعتقاد والانكسار:
...يا وسيلة الطالبين، يا كعبة الطائفين...يا غوث الخلق، يا باب الحق...
__________
(1) قلادة الجواهر: (ص:427).
(2) قلادة الجواهر، (ص:233).(1/500)
يا أشجع الفوارس...يا أبا المدد...يا مصدر الطلاب، يا معجزة الرسول، يا سر الله، يا درة الغيب، يا سيف القدرة، يا نائب النبي الجليل، يا خليفة إبراهيم الخليل...يا مظهر الحضرتين، يا طويل الجناحين...يا أبا العلمين، يا شيخ الكل في مسند الكلية...يا صاحب النوبة الأولى، يا صاحب الصوت الأعلى...يا صاحب الموكب المرعب، يا مبرد النار...يا مبدل السموم، يا معنى عناية الحي القيوم...يا باب الله المفتوح، يا بدل الأبدال، يا سيد الرجال، يا نجيب الأنجاب...يا موصل كل أعرج...يا قطب الأقطاب المتصرفين، يا مظهر سر حضرة القدس في كل مكان وزمان، يا صاحب الآيات الباهرة...يا كنز العنايات، يا صاحب التصرف في الحياة والممات، يا إشارة الكاف...يا متكلماً بلسان الله...يا قطب الفرد، يا قطب الأعظم، يا قطب الغوث، يا غوث الأكبر، يا بحر الله الكبير، يا صاحب السرير...يا ترجمان الحضرة المحمدية...يا أمين سر أهل العبا، يا جليل الحضرة...يا وجه الرشد الأينس، همتك حاضرة، وعنايتك باهرة، وأسرارك ظاهرة بحق جدك المصطفى وبحرمة أبيك علي المرتضى وبكرامة والدتك فاطمة الزهرا، أغثني، وتوجه لجدك خير الأنام، وقوموا بقضاء حاجتي...أدركني يا أحمد الأولياء، رضي الله عنك، أغثني(1). - يذكرنا هذا الدعاء بالدعاء المقدم إلى عبد القادر الجيلاني، وهذا الدعاء مثل ذاك مستعملان حالياً في الطريقتين الرفاعية والقادرية، وكل طريقة لها دعاؤها المشابه. والشرك فيهما أوضح من الوضوح، وإلى الله المشتكى، ونسأله سبحانه أن يفتح بصائر المسلمين ويوقظ عقولهم لعلهم يستطيعون تقليص خطر هذا الطاعون الفتاك.
* شفقة صوفية:-
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:237، وما بعدها).(2/1)
...وكان (أحمد الرفاعي) إذا رأى رضي الله تعالى عنه فقيراً يقتل قملة أو بعوضة، يقول له: لا واخذاك الله، أَسَكَن غضبك منها؟ وذَكَرَ سيدي عبد الوهاب الشعراني في مننه أن السيد أحمد الرفاعي رضي الله تعالى عنه كان يدور وراء الكلاب المدودين ليداويهم فربما هرب منه الكلب، فيمشي وراءه ويتعطف بخاطره ويقول: أي مبارك، إنما أريد مداواتك(1)..
- السؤال: لِمَ يعطف على القمل الذي على الفقراء، ولا يعطف على الدود الذي على الكلاب؟ هل لأن القمل أفضل من الدود؟ أم لأن الكلاب أفضل من الفقراء؟
- وطبعاً نعلم الآن أن كلمة (فقير) تعني عند القوم (الصوفي).
* كشف؟:-
يقول محمد مهدي الرواس:
...وتصدر على منصة البروز من بطون الغياب سيدي الإمام الحجة المهدي (المنتظر) عليه الرضوان والسلام، فرَجَفت فرائصي لرؤيته...ثم قال من لسان الحال: (يا مُلَّسْلَين يا بَلَّمعَيْن يا مَنْعَلْهَيْ يا ما نقول يا تعليمليا يا فَوْأَيَسْ واجَفْر) كلمات فهمت منهن كل المقصود وحمدت الله وشكرته(2)...اهـ.
الجواب: طوط عرفوط بلعوط وِزكِز قاق؛ لأن جواب الكشف من جنس الكشف، ولا يفهمه إلا أهل الكشف.
* وجوب استعمال العبارة الملغزة التي تقبل التأويل:-
يقول الرواس:
وبويعت في الحضرة على التباعد عن أناس ابتُلوا بالانتقاد والاعتراض على أولياء الله تعالى، وذلك فيما يقبل التأويل(3)...
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:63).
(2) بوارق الحقائق، (ص:319).
(3) بوارق الحقائق، (ص:287).(2/2)
- نسأل: وأي شيء لا يقبل التأويل؟! إن باستطاعة الصوفي الشاطر أن يؤول قول عارفهم عندما يقول عن نفسه: (أنا الله) بأنه يعني بها جبل صنين في لبنان المطل على رابغ في طريق مكة! وكل ما مر معنا من زندقات وكفر يؤولونه ويجعلونه ولاية عظمى وصديقية كبرى! ولعل القارئ الكريم انتبه إلى أن عبارة (فيما يقبل التأويل) إنما هي توجيه للصوفي أن تكون عباراته قابلة للتأويل ليمكن خداع أهل الشريعة والتمويه عليهم بذلك!
* الكشف كذب وجهل:-
يقول ابن عجيبة:
...وكذلك قضية ابن الجوزي، كان يقرأ ببغداد اثني عشر علماً، فخرج يوماً لبعض شئونه، فسمع قائلاً يقول:
إذا العشرون من شعبان ولت ... ... فواصلْ شُرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداحٍ صغارٍ ... ... فقد ضاق الزمان على الصغار
فخرج هائماً على وجهه إلى مكة، فلم يزل يعبد الله بها حتى مات رحمه الله(1).
- الجواب: هذا لم يحدث وابن الجوزي توفي في بغداد وفي بيته في حي (قطفتا) في الجانب الشرقي من بغداد عام 597 هـ. ولكن الكشف قادر على كل جهل وكذب وتزوير.
* يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم:-
يقول ابن عجيبة وشهاب الدين السهروردي البغدادي قبله، وغيرهما:
...وعن أنس: {كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ نزل عليه جبريل فقال: يا رسول الله، فقراء أمتك يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، وهو نصف يوم، ففرح، فقال: أفيكم من ينشدنا؟ فقال بدْري: نعم يا رسول الله، فقال: هات، فأنشد البدري يقول:
قد لسعت حية الهوى كبدي ... ... فلا طبيب لها ولا راقي
إلا الحبيب الذي شُغلتُ به ... ... فعنده رقيتي وترياقي
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:262).(2/3)
فتواجد عليه السلام، وتواجد أصحابه معه، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فلما فرغوا آوى كل واحد إلى مكانه، فقال معاوية: ما أحسن لعبكم يا رسول الله! فقال: مهْ مهْ يا معاوية، ليس بكريم من لم يهتز عند ذكر الحبيب! ثم اقتسم رداءه مَن حضرهم بأربعمائة قطعة}(1)...
- الجواب هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مَن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار}، ثم يدعون الولاية، وادعاؤهم نفسه إثم مبين! وقد مرت حقب طويلة كانت فيها أكاذيبهم وخرافياتهم وضلالياتهم وغبائياتهم هي ثقافة المجتمعات الإسلامية، حتى أوصلوا الأمة الإسلامية إلى ما هي عليه.
* ومن العلم اللدني (رسالة إلى الغوث أحمد التجاني):-
...أما بعد، فالمطلوب من كمال فضل سيدنا الذي أسدى الله فضلاً ورحمة ومدداً إلينا، أن يتفضل علينا سيدنا بما وعدنا بخط يديه الكريمتين إلينا، كما هو معهود من فضل سيدنا من غير استحقاقٍ منا، بل محض فضل وإكرام وامتنان علينا من سورة (...مجموعة [طلاسم] مخطوطة باليد...) بما لها من الأسرار والعلوم والوقت، وما لها من اللزوم، ودفع عوارضها من الشرور والهموم، وإعطاء ما لديها من الأسرار والعلوم، وأن يديم عليها بحوْل الله على عدد الدهر والعموم، وكذلك (...مجموعة [طلاسم] بخط اليد...) الكتاب أيضاً على ما يليق بالحال ويزيل الإشكال(2).. إلخ
- أقول: بما أن جواب الكشف يكون من جنس الكشف، فقد خانني الكشف عن الجواب على هذا الهراء.
* ومن نفس الرسالة المرفوعة إلى الغوث أحمد التجاني:-
...وإن ظهر لسيدنا أمر آخر، فهو أدرى بحالنا، ولا نستحق شيئاً على سيدنا، إنما ذلك فضلٌ منه علينا؛ وأطلبُ منك سيدي الضمان الذي ضمنت لي بخط يديك من مقام مولانا الهمام الشيخ الأكبر أبي عبد الله سيدي محمد بن العربي الحاتمي...
__________
(1) الفتوحات الإلهية، (ص:275)، وعوارف المعارف في هامش الإحياء: (2/254)، وغيرها.
(2) كشف الحجاب، (ص:84، 85).(2/4)
...وأطلب منك سيدي أيضاً أن يدفع الله عني جميع العوارض التي تقطعني عن جميع الخيرات...وأما تنوير باطني واستقامته، وإظهار فضلك ومددك عليَّ وحصول الخيرات لديَّ ظاهراً وباطناً، فلا أَقبل فيه عذراً من سيدي من الآن إلى حصول المقام، وبعد حصول المقام ما لا عين رأت ولا أذن سمعت...وأن أكون مأموناً من السلب (أي: من سلب الولاية) إلى دخولي منزلي في الجنة(1) إلخ.
- على القارئ أن يعرف أن هذا الدعاء موجه إلى أحمد التجاني الغوث من خليفته الأكبر سيدي الحاج علي حرازم برادة! وأن هذا الدعاء ليس موجهاً إلى الله جل وعلا!
وإلى الله نشكو هذا السرطان الخبيث الذي يدمر الأمة الإسلامية بهدوء وإصرار.
* ومما يجيب به الغوث أحمد التجاني على هذا الشرك قوله: ...وأما ما طلبتَ من الضمان في المعرفة بالله، من كونها صافيةً من اللبس، ممزوجةً حقيقتُها بالشريعة، فإن أمرها لا يكون إلا كذلك لا غير...وأنا لك ضامن أن لا تُسلب ما دمتَ في محبتنا، وكل ما دونه، من دخول الجنة بلا حساب، إلى ما وراءه وما قبله، وسامحتك فيما لا تعمله مما مُقتضاه سوء الأدب؟ وأما السورة فتداومها 11000 مرة كل يوم أو كل ليلة، مختلياً وحدك وقت ذكرها فقط، وبدؤها أن تقرأ الفاتحة مرة، وصلاة الفاتح لما أُغلِق مرة، وتهدي ثوابها لأهل النَّوْبة في ذلك اليوم من الأولياء الأحياء، ثم تقوم وتقف مستقبلاً وتنادي: ح دستوريا أهل النّوْبة، جبهتي تحت نعالكم ح. ثم تقرأ الفاتحة مرة وتهدي ثوابها لروح الشيخ عبد القادر والشيخ أحمد الرفاعي وجميع الأولياء الغائبين والحاضرين، ثم تقرأ الفاتحة مرة وتهدي ثوابها لروح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم تسأل المدد(2)...
- أرجو أن يعلم القارئ أن هذا الشرك والزندقة صادران من قطب غوث إلى خليفته، وهو غوث أيضاً...ثم يتساءل المتسائلون: ما هو سبب فساد المسلمين؟!
__________
(1) كشف الحجاب، (ص:85، 86).
(2) كشف الحجاب، (ص:89).(2/5)
* يحضر بعد موته لقراءة الوظيفة:-
...(سيدي عيسى بن خراز) حدثه أنه رأى صاحب سيدنا رضي الله عنه سيدي ابن المشرى الأشهب بعد موته خارجاً من الزاوية المباركة بعدما قرئت الوظيفة، فقال له: أو تحضر الوظيفة بعد الموت؟ فقال له: نعم، ثم سأله عن والده صاحب سيدنا رضي الله عنه سيدي العربي بن الأشهب؟ فقال له: إن مرتبتة عالية وأنا دونها فلم أعرف ما اشتملت عليه لشفوفها وعلوها(1)...
* التعليق:
لم يَعُدْ محمد صلى الله عليه وسلم إلى الحياة ليحكم بين المسلمين في خلافاتهم التي أريقت بها الدماء، وكانوابأمس الحاجة له! ويعود هذا الصوفي من أجل قراءة الوظيفة مع أمثاله!! إنه الشيطان طبعاً يتلاعب بهم.
* بلا عنوان:-
يقول محمد بهاء الدين البيطار:
سأل مريد أستاذه عن الاسم الأعظم؟ فضربه بحصاة، فكان الضرب هو الجواب، يشير له: إنك أنت الاسم الأعظم(2)...
* ملحوظة ليست من موضوع الكتاب:-
محمد بهاء الدين الييطار هو والد أستاذنا، عالم الشام، داعية الحق والهدى الشيخ محمد بهجت البيطار، رحمه الله وأجزل ثوابه، وشكر جهاده.
* الصوفي يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير:-
ويقول: ...فإن الكامل في وقته مَظْهر هذه الأسماء الثلاثة التي هي: الله والرحمن والرحيم، بل مَظْهر أسماء الله على الكمال القائم بحقيقة الجمال والجلال، قيل لبعضهم: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت أحيي وأميت وأنا على كل شيء قدير(3)...
- ولا تعليق، ولا سؤال، ولا جواب، لكنه تفسير لما تتخبط به الأمة الإسلامية من فساد وضياع.
* يترك التصرف بالكون تظرفاً:-
ويقول: ...وكان هذا مقام أبي السعود تلميذ الغوث الجيلاني، فإنه قيل له: هل أعطاك الله التصرف في العالم؟ فقال: نعم، منذ خمس عشرة سنة، وتركته للحق تعالى تظرفاً! قال الشيخ الأكبر: ونحن تركناه أدباً ومعرفة(4)...
__________
(1) كشف الحجاب، (ص:395).
(2) النفحات الأقدسية، (ص:6).
(3) النفحات الأقدسية، (ص:6).
(4) النفحات الأقدسية، (ص:7).(2/6)
- ولا تعليق، لكنه ألَمٌ وسؤال: ما الذي أوصل الأمة الإسلامية إلى ما هي عليه الآن؟
* الشبلي هو محمد صلى الله عليه وسلم:- ويقول البيطار نفسه:
...ولما انجلى هذا المشهد لمريد الشبلي في صورة الشبلي، قال له أستاذه الشبلي رضي الله عنه: أتشهد أني محمد رسول الله؟ فقال: نعم(1)!...
- ولا تعليق، بل نعيد نفس الأسئلة السابقة.
* والكلب والخنزير جاء دورهما:-
ويقول أيضاً:
...حتى انْسَحَب على الوجود (أي:على الله) الضحك والفرح والعجب والمكر والكيد والاستهزاء والسخرية والظمأ والمرض والجوع والنسيان والشك، حتى قال بعض من غلبه الشهود من أرباب الأحوال:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا ... ... ا الله إلا راهب في كنيسة
وما ذاك إلا من انصباغ تلك الأحكام الثابتة بنور الوجود المطلق(2)...
ولا تعليق أيضاً، ولكن بكاء وحزن على ما حل بهذه الأمة من هذه الطائفة التي تُعْمِل بها معاولها بإصرار وتكرار، حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن.
* البدوي، قطب الأقطاب ولا يصلي:-
يقول أحمد الصاوي:
...وأما جمع الجمع، فهو مقام أعلى من مقام البقاء، وهو أن يأخذه الحق بعد بقائه، فيُسكره في شهود ذاته تعالى، فيصير مستهلكاً بالكلية عما سوى الله تعالى، فمنهم مَن يبقى بهذه السكرة إلى الموت كالسيد البدوي رضي الله عنه، ولذلك قال العارفون: إنه جُذب جذبة استغرقته إلى الأبد، ومنهم من يُرَدُّ إلى الصحو عند أوقات الفرائض، والقيام بأمور الخلق، كالسيد الدسوقي، وأضرابه، والمؤلف(3)، (أي:أحمد الصاوي)...
- ولا تعليق أيضاً، لكن تعريف، فالذي يذكر هذا الكلام هو الذي قرر في كتاب له أن ظاهر القرآن من أصول الكفر، كما يظهر من سياق كلامه أن أحمد البدوي كان لا يصلي.
* حتى الوحي ينكرونه:-
__________
(1) النفحات الأقدسية، (ص:341).
(2) النفحات الأقدسية، (ص:338).
(3) الأسرار الربانية والفيوضات الرحمانية، (ص:126).(2/7)
يقول الغزالي (حجة الإسلام ومحجة الدين التي يتوصل بها إلى دار السلام):
...والمدْرك الثاني: الوحي للأنبياء والإلهام للأولياء، ولا تظن أن معرفة النبي صلى الله عليه وسلم لأمور الآخرة ولأمور الدنيا تقليد لجبريل عليه السلام، فإن التقليد ليس بمعرفة صحيحة، والنبي صلى الله عليه وسلم حاشاه الله من ذلك، بل قد انكشفت له الأشياء وشاهدها بنور البصيرة، كما شاهد المحسوسات بالعين الظاهرة(1)...
- في هذا النص، نتعرف على أحد الأساليب الخبيثة التي يستعملونها في الكيد للإسلام والمكر به؟ فهو هنا يستعمل عبارة (تقليد لجبريل)، بدلاً من كلمة (الوحي) لتكون مقبولة.
- وواضح أن قوله: (لأمور الآخرة ولأمور الدنيا) يعني به الشريعة الإسلامية، وهذا الأسلوب يبين مدى المكر الذي يكيدون به الإسلام.
- ثم لم يكتف هؤلاء المخدوعون بأحابيل الشياطين وخدعهم (في خرق العادة وفي الجذبة وما يوسوسون لهم فيها) حتى أرادوا أن يجعلوا محمداً صلى الله عليه وسلم من زمرتهم، ويجعلوا الإسلام صورة عن هذياناتهم.
* صيام جديد أو دين جديد:-
يقول الطوسي (في اللمع) وشهاب الدين السهروردي (في عوارف المعارف) وغيرهما:
...وحكي عن بعض الصادقين من أهل واسط أنه صام سنين كثيرة، وكان يفطر كل يوم قبل غروب الشمس إلا في رمضان.
يعلق السهروردي على هذا بقوله: ...ولكن أهل الصدق لهم نيات فيما يفعلون، فلا يُعارضون، والصدق محمود لعينه كيف كان(2)...
- السؤال: ما الفائدة من تعاليم الإسلام؟ وأين ذهبت؟ وما فائدة الرسل؟؟؟
* الكشف جهل في جهل:-
ويقول السهروردي أيضاً (شيخ الطريقة السهروردية):
...قال سهل بن عبد الله: للقلب تجويفان، أحدهما باطن وفيه السمع والبصر، وهو قلب القلب وسويداؤه.
__________
(1) الكشف والتبيين للغزالي، (ملحق تنبيه المغترين)، (ص:210).
(2) اللمع، (ص:220)، وعوارف المعارف هامش الإحياء: (3/233).(2/8)
...ومثل العقل في القلب مثل النظر في العين، وهو صقالٌ لموضعٍ مخصوص فيه، بمنزلة الصقال الذي في سواد العين، ومنه تنبعث الأشعة المحيطة بالمرئيات، فهكذا تنبعث من نظر العقل أشعةُ العلوم المحيطة بالمعلومات(1).
* المناقشة:
أولاً: للقلب أربعة تجاويف لا تجويفان.
ثانياً: السمع والبصر مركزهما الدماغ لا القلب.
ثالثاً: لا تنبعث الأشعة المحيطة بالمرئيات من سواد العين، إنما تنبعث من ضوء الشمس أو القمر أو السرج...وتسقط على المرئيات ثم تنعكس إلى كل الجهات، والأشعة التي تصطدم بسواد العين تدخله، وتكون الرؤية.
رابعاً: لا يوجد تشابه بين العقل في القلب والنظر في العين.
خامساً: مِن هنا، ومن غير هنا، نعرف أن الكشف لا يزيد عن كونه صوراً لمعلومات اقتبسها العارف عن المعارف السائدة في مجتمعه، بالإضافة إلى هذيانات وثرثرات ووسوسات إبليسية.
* جهل في كذب:-
يقول أبو الهدى الصيادي الرفاعي:
...بلغنا أن الإمام علياً رضي الله تعالى عنه كان يقول في خطبته على رءوس الأشهاد: أنا نقطة (بسم الله) أنا جنب الله الذي فرطتم، فيه وأنا اللوح وأنا القلم وأنا اللوح المحفوظ، وأنا العرش وأنا الكرسي وأنا السماوات السبع والأرضون. فإذا صحا وارتفع عن تجلي الوحدة في أثناء الخطبة يعتذر ويقر بعبوديته وضعفه وانقهاره تحت الأحكام الإلهية(2).
* تنبيه:
جهل كشفهم، ففي زمن علي بن أبي طالب لم يكن لباسم الله " نقطة؛ لأن التنقيط لم يكن قد اخترع بعد، وكفركشفهم في الباقي. وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يقل هذا الهذيان؛ لأنه كان مسلماً مؤمناً ولم يكن من الضالين.
* أين الإيمان؟ وأين العقل والحياء؟:-
يقول أبو الهدى الصيادي:
__________
(1) عوارف المعارف في هامش الإحياء: (4/247).
(2) قلادة الجواهر، (ص:112).(2/9)
قال الشيخ شرف الدين أبوبكربن عبد المحسن: ...كنا مع السيد أحمد الصيادي قدس سره...وكنا كلما مررنا على نهرماء استقبله السمك من النهرإلى الشاطىء وازدحم على قدميه...وكذلك الدواب والهوام والغزلان في البر الأقفر، حتى إن الحيوانات نراها تقف له على حافتي الطريق...ومات أحد إخوانه فجأة فجاءت إليه أم الميت وهوساجد في صلاة الضحى، فتأخرفي سجوده، فقالت: وحقك لوبقيت إلى يوم القيامة ساجداً لما تركتك إلا بولدي، فرفع رأسه الشريف باكياً، وإذا بالمريد قد قام حياً! فسجد شكراً لله على نعمته التي أنعمها عليه. وذكرالمناوي أنه سجد سجدة واحدة فامتد سجوده سنة كاملة ما رفع رأسه حتى نبت العشب على ظهره(1)..
خير جواب على مثل هذه التمثيليات التي تنصبها شياطين الجن شركاً للضلال والإضلال هو: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم إليك نشكو مكر شياطين الجن بأوليائهم الذين خُدعوا بتمثيلياتهم فضلوا وأضلوا وأصروا على تدمير المسلمين.
* حوار مع الله (سبحانه وتعالى)، ويعرض الله عليه ملكه وملكوته، وحديث لم يمر على رسول الله ولا عرفه جبريل:
يقول ابن عربي:
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:340).(2/10)
(وصية إلهية) حدثنا … قال لي علي بن الخطاب الجزري بالجزيرة، وكان من الصالحين؛ رأيت الحق في النوم فقال لي: يا ابن الخطاب تمنَّ، قال: فسكتُّ، فقال لي: يا ابن الخطاب تمنَّ، فسكتُّ. قال ذلك ثلاثاًَ، ثم قال لي في الرابعة: يا ابن الخطاب أعرض عليك ملكي وملكوتي وأقول لك تمنَّ، وتسكت، فقال: قلت: يا رب، إن نطقتُ فبك، وإن تكلمت فبما تجريه على لساني، فما الذي أقول؟ فقال: قل أنت بلسانك، فقلت: يا رب قد شرَّفْتَ أنبياءك بكتب أنزلتها عليهم، فشرفني بحديث ليس بيني وبينك فيه واسطة، فقال: يا ابن الخطاب، مَنْ أحسنَ إلى من أساء إليه فقد أخلص لله شكراً، ومَنْ أساء إلى مَن أحسنَ إليه فقد بدَّل نعمة الله كفراً، قال: قلتُ: يا رب زدني، فقال: يا ابن الخطاب حسبك حسبك(1).
* التعليق: إنها الشياطين تضحك على ذقونهم وتتلاعب بعقولهم، فتضلهم وتضل بهم.
* التجرؤ على الله سبحانه:-
نقرأ في النفحات الأقدسية قوله:
… فهم ممَّن يحرفون الكلم عن مواضعه بتأويلهم الفكري الذي يحكمون به على الله، ويقولون هو منزه عن كذا، والله ما نزَّه نفسه هذا التنزيه البارد، ولا نزهه رسوله صلى الله عليه وسلم، بل أخبر رسول الله أن الله يعجب ويفرح ويضحك ويكذب ويشتم ويؤذي ويصبر على الأذى، فبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق، أي أخلاق الله، فكذب وشتم وأوذي وجاع وظمي ومرض واستقرض، وكل ذلك واردٌ في حق الله تعالى، فانطبق اسم الله عليه على الكمال والتمام(2)..
- أيها القارئ، ألا تشعر بالحمى من سماع هذا الكلام؟ الله يكذب! ورسوله يكذب! واسم الله ينطبق على رسوله على الكمال والتمام! أي إن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الله؟! وماذا يستطيع مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقوله أمام هذا القول المرعب؟ ثم يتساءلون عن سبب فساد المسلمين؟ والأمر أوضح من نار على علم.
__________
(1) الوصايا لابن عربي،) (ص:217 (.
(2) النفحات الأقدسية، (ص:16).(2/11)
* وأحاديث لم تمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم:-
...ومن تآليفه (أي: ابن عربي) أيضاً: كتاب الأحاديث القدسية، ذكر فيه أنه لما وقف على الحديث المروي في فضائل الأربعين، بمكة المكرمة، سنة 599 هـ، جمعها بشرط أن تكون من المسندة إلى الله تعالى، ثم أَتْبعها أربعين عن الله تعالى مرفوعة إليه، غير مسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أردفها بأحد وعشرين حديثاً، فجاءت واحداً ومائة حديث إلهية(1)...
- ونضيف إلى هذا الضلال أن هناك أحاديث منامية منتشرة بين المتصوفة نورد منها مثلاً واحداً للتفكهة: حدث أحد الصوفيين المعروفين في دمشق على المنبر في خطبة جمعة فقال: حدثني شيخي (فلان) قال: حدثه شيخه (فلان) قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت له: يا رسول الله! حدثني حديثاً أحدث به الناس، فقال: {ما تزال الملائكة تصلي على العبد ما دام في فمه طعم البُنِّ!! قال له: زدني...} إلخ. وكان مريدو هذا الشيخ يكتبون هذا الهراء باهتمام وكأنهم وقعوا على كنز، وحفظوه! وطبعاً، هم لا يحفظون شيئاً من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد علق الشيخ بعد إيراده هذا الهذيان، وتفاهتين أخريين معه أقبح منه، علق فقال: هذه أحاديث صحيحة لأن رواتها كلهم ثقات.
- أما نحن فنقول: اللهم إليك نشكو ما حل بالأمة الإسلامية من زيغ في الإيمان وجهل وذل وتخبط بسبب هذه الطائفة المارقة التي دمرت الإيمان والعلم والعقل والحياء.
* قصة مرسلة:
أخبره الكشف أنه المهدي المنتظر، وأخبر بذلك المقربين من مريديه، وأخذوا يعدون العدة لليوم العظيم، يوم يأتيه الإذن من الكشف: (اصدع بما تؤمر).
__________
(1) الفتوحات المكية: (4/555).(2/12)
اشترى الحصان (أو اشتري له) من سلالة معروفة، وهيأ له في بلدة مجاورة اصطبلاً يناسب المقام، مقام حصان المهدي المنتظر، ووكل به سائساً خاصاً لخدمته، يطعمه اللوز والبندق والفستق الحلبي، ويتعهد نظافته وراحته آناء الليل وأطراف النهار، وهل يوجد من هو أحق بالخدمة والاعتناء من حصان المهدي المنتظر.
ومن أمناء سره وموضع ثقته شاب ملأ الإيمان قلبه؟ الإيمان بأن الشيخ وصل إلى أعلى درجات القدوسية، وتحقق بكامل الأسماء والصفات الإلهية؟ عين له الشيخ يوماً يخرجان به بعد صلاة الفجر، هذا يركب حصانه؟ حصان المهدي، وذاك يركب حصانه؟ حصان وزير المهدي، إلى مكان منعزل، حيث يمضيان ساعات في التدرب على النزال والطعان بالسيف والترس والسنان؛ لأن سنن الله في خلقه سوف تتبدل، فتخرس البنادق والمدافع، ويفقد البارود والمتفجرات خاصية انفجارها، وإن حدث وانهمر الرصاص وتساقطت القذائف، فبضربة من سيف المهدي تتحول إلى هباء منثور.
كان البدء منذ حوالي خمس عشرة سنة، وهو حتى الآن ينتظر الإشارة.
وعندما يخرج للعباد، وتنقاد له البلاد، سوف ينزل المسيح، وهو إسرائيلي من فلسطين، حيث يرفضه الناس لإسرائيليته، لذلك، وتسهيلاً لمهمته (مهمة المسيح)، فقد هيأ منشوراً مهدوياً في درج كبير سوف ينشره على الناس يقدمه به إليهم، ويزكيه ليقبلوه!!!
- ولنعد إلى كشوفاتهم الفلكية:
مما يورد ابن عربي في: الفتوحات المكية (3/424):
صورة الفلك المكوكب وقباب السماوات وما تستقر عليه، وهو الأرض، والأركان الثلاثة، والعمد الذي يمسك الله به القبة، والمعدن والنبات والحيوان والإنسان.
وأترك التعليق للقارئ الذي اطلع على شيء من علم الفلك، ليعرف مدى جهل كشفهم الذي يسمونه نور اليقين وحق اليقين وعين اليقين، والذي يقول الغزالي إنهم يعرضون عليه السمع والألفاظ لتصحيحها!!
ويورد أيضاً في الفتوحات المكية (3/425):(2/13)
صورة أرض المحشر وما يحوي عليه من الأعيان والمراتب وعرش الفصل والقضاء وحملته وصفوف الملائكة.
وهناك خرائط أخرى لم أرودها اكتفاءً بهذا.
وللعلم: ظهر في مدينة ليون بإسبانيا في أوائل القرن السادس الهجري كتاب لأحد أقطاب طريقة صوفية يهودية (الكابالا).
واسم الكتاب (زوهار) أي: (الإشراق) وفيه صورة للمراتب الروحانية تشبه ما عَرَفه ابن عربي بالكشف وسجله في فتوحاته المكية، مع فارق، هو أن الشكل المرسوم في الزوهار يتلاءم بشكله وأسمائه مع الديانة اليهودية، بينما خرائط ابن عربي معدلة حسب المفاهيم الإسلامية؟ وقد كان هذا الكتاب منتشراً في الأندلس في عصر ابن عربي!
- فما هي العلاقة؟ لا جواب! لكن يجب ألا ننسى الكشف والعلم اللدني.
* كل المعبودات حق (والأوثان حق):-
يقول ابن عربي (الشيخ الأكبر):
...فمن عناية الله بنا، لما كان المطلوب من خلقنا عبادته، أن قرب علينا الطريق، بأن خلقنا من الأرض التي أمرنا أن نعبده فيها، ولما عَبَدَ منَّا مَن عبد غيرَ الله، غار الله أن يعبد في أرضه غيره، فقال: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه؛ أي: حكم، فما عَبَدَ مَن عَبَد غير الله إلا لهذا الحكم، فلم يُعْبَد إلا الله وإن أخطئوا في النسبة، إذ كان لله في كل شيء وجه خاص به ثبت ذلك الشيء، فما خرج أحد عن عبادة الله(1)؟
- معنى هذا الكلام أن أصنام الهندوس هي الله وأوثان اليونان هي الله، وأن اللات والعزى وغيرها كلها هي الله!
وإياك أيها القارئ أن تعترض، فتنطرد! لأنه الكشف الكشف الكشف.
* ووصل الكشف بأهله إلى تكفير القرآن:-
في حاشية الصاوي على الجلالين، في شرح آية الاستثناء في سورة الكهف: ((وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)) [الكهف:23، 24] جاء قوله: (أي: قول الصاوي):
__________
(1) الفتوحات المكية: (3/248).(2/14)
لا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية!! فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك للكفر، لأن الأخذ بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر(1) اهـ.
* التعليق:
الكشف على كل ضلال قدير، وبالكشف الباطل حقاً يصير!!
إن من أبسط بدهيات الإسلام، وما يُعلم من الدين بالضرورة، أن القرآن والسنة هما مصدر الإسلام، وكل ما خالف القرآن والسنة فهو الكفر والزندقة والضلال. ومن البدهيات في الإسلام، أن كلمة (كفر) تعني مخالفة القرآن والسنة، لكن عندما يأتي قطب غوث كالصاوي أحمد ليقول: إن الأخذ بظاهر القرآن والسنة من أصول الكفر، فلا يبقى منطق ولا يبقى عقل ولا يبقى دين ولا يبقى علم ولا يبقى معلوم ولا يبقى فهم ولا يبقى مفهوم ولا يبقى فكر ولا يبقى بحث ولا يبقى إسلام ولا يبقى إيمان...ولا يبقى إلا الجذبة والفناء عن كل ما وهبه الله للإنسان من مواهب، ولا يبقى إلا الهذيان والكشف عن الجهل والغباء. ومع ذلك، سلِّم تسلم، ولا تعترض فتنطرد!! لأن هؤلاء القوم عرفوا الأمور بنور اليقين وعينه وحقه، وسلام على الإسلام والعقل واليقين. وعلى كل حال، يجب ألا ننسى أبداً أن الهنادكة والبوذيين واليهود...يرون أن ظاهر القرآن والسنة من أصول الكفر. وهذا القول يعطينا صورة صغيرة، لكنها واضحة، عن دور الصوفية في تشويه الرسالات السماوية.
* حتى البول تظهر فيه القداسة:-
أورد الغزالي في (إحيائه):
__________
(1) تنزيه السنة والقرآن، (ص:11).(2/15)
...حُكي عن الجنيد أنه قال: مرض أستاذنا السري رحمه الله فلم نعرف لعلته دواء، ولا عرفنا لها سبباً، فوصف لنا طبيب حاذق، فأخذنا قارورة مائه، فنظر إليه الطبيب وجعل ينظر إليه ملياً، ثم قال لي: أراه بول عاشق، قال الجنيد: فصُعقت وغشي علي ووقعت القارورة من يدي، ثم رجعت إلى السري فأخبرته، فتبسم ثم قال: قاتله الله ما أبصره، قلت: يا أستاذ، وتبين المحبة في البول؟ قال: نعم(1)...
- لعل القارئ فطن إلى أن المحبة هنا هي محبة الله! وللعلم، يحدث مثل هذا تماماً لمدمني الأفيون والمهلسات.
* دين عجيب:-
يقول شهاب الدين السهروردي البغدادي:
...وحُكي عنه (عن إبراهيم الخواص) أنه قال: مكثتُ في البادية أحد عشر يوماً لم آكل، وتطلعتْ نفسي أن آكل من حشيش البر، فرأيت الخضر مقبلاً نحوي، فهربت منه، ثم التفت فإذا هو رجع عني، فقيل: لِمَ هربت منه؟ قال: تشوقتْ نفسي أن يغيثني(2)!
ويعلق السهروردي على هذه القصة بقوله: فهؤلاء الفرارون بدينهم!
- السؤال: أي دين هذا الذي فر به؟ إنه ليس الإسلام على كل حال! لأن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال في الصيام، وقال: {من رغب عن سنتي فليس مني}.. إذن، فهؤلاء القوم ليسوا من أتباع رسول الله! فإلى من ينتمون؟
* كل شيء عجيب حتى ورعهم (من مقام الورع):-
يقول الغزالي:
...فقد امتنع طائفة منهم (من الصوفية) عن الحلال المحض خيفة أن يشغل قلبه؛ وقد حُكي عن واحد منهم أنه احترز من الوضوء بماء البحر وهو الطهور المحض(3)؟!
__________
(1) إحياء علوم الدين: (4/290).
(2) عوارف المعارف، هامش الإحياء: (2/95).
(3) إحياء علوم الدين: (2/95).(2/16)
- سؤال: ماذا فعل إذن؟ لعله تيمم بالتراب؟ وهو غير مجزئ، والتراب أولى من ماء البحر أن يحترز منه، إذ قد يكون سقطت عليه نجاسة، أو يكون ملكاً لأحد فلا يبقى إلا إلغاء الوضوء، وإلا، فماذا فعل؟ هل صلى بدون وضوء؟ أو لعله توضأ بماء الغيب، ثم صلى بأرض الغيب، الواقعة في جزيرة الغيب، التي هي إحدى جزائر بحر الغيب، وصلى معه رجال الغيب، في أوقات الغيب من أيام الغيب وشهور الغيب، وإلا فماذا؟
على كل حال، هذا الكلام لا يجوز أن يُناقش؛ لأن راويه هو حجة الإسلام، رواه في كتابه (إحياء علوم الدين) اسمان يصمان السمع ويثقبان الآذان.
* بلا عنوان ولا تعليق ولا مناقشة:-
قال أحمد التجاني:
ليس لأحد من الأولياء أن يُدخل كافة أصحابه الجنة بغير حساب ولا عقاب إلا أنا وحدي، ولو بلغوا ما بلغوا من الذنوب وعملوا ما عملوا من المعاصي، وأما سائر سادتنا الأولياء رضي الله عنهم فيُدخلون الجنة أصحابَهم بعد الحساب والمناقشة(1)...(إِحِمْ).
* كشفهم يكذب عليهم:-
يقول عبد الوهاب الشعراني:
...قال الجلال السيوطي رحمه الله: واعلم أنه ما كان كبيرٌ في عصر قط إلا كان له عدوٌّ من السفلة، إذ الأشراف لم تزل تُبتلى بالأطراف، فكان لآدم عليه السلام إبليس...وكان لعيسى في حياته الأولى بختنصر وفي الثانية الدجال(2)...
هذا القول يقوله قطب، هو جلال الدين السيوطي، ويرويه عنه قطب الغوث الرباني، سيدي عبد الوهاب الشعراني، وكشف القطبين لم يساعدهما على معرفة أن بختنصر كان قبل عيسى صلوات الله عليه بأكثر من ستمائة سنة! ولكنه العلم اللدني الذي ينسخ آيات القرآن! فهل كثير عليه إن نسخ حقائق التاريخ؟
* يفطر في رمضان تقرباً إلى الله:-
يقول محمود أبو الفيض المنوفي:
__________
(1) كشف الحجاب، (ص:373، 374).
(2) الكبريت الأحمر، هامش اليواقيت، (ص:12، 13).(2/17)
...ومنها أن أحد الملامتية من الأولياء دخل بلداً، فأخذ الناس في تعظيمه، فسأل الله أن يصرفهم عنه، وكان ذلك في رمضان بالنهار، وهو صائم، ولما دعا الله، فأُلهم أنَّ بجيبه بلحة، فتناولها، فانصرف الناس عنه قائلين: إن الشيخ قد أفطر!! فشكر الله على أَن أَخْلَوْا ما بينه وبين ربه(1).
- يعلق محمود أبو الفيض المنوفي (قطب الغوث) على هذا الضلال بقوله: وهو وإن كان أفطر، ورأى القارئ أن الكفارة تلزمه! قلنا: إن مثل هذا يقضي ثلثي عامه صائماً قط؛ فإذا احتسب صوم بعض أيامه من الصوم كفارة للفطر، فلا مانع عنده. (ولا تعليق، ولا تقريق، ولا تبويق) لأنه العلم اللدني اللدني اللدني اللدني...
* لصوصية الولي ولصوصية السارق:-
يقول الغوث عبد العزيز الدباغ:
...الفرق بين أخذ الولي صاحب التصرف متاع الناس، وبين أخذ السارق واللص له، الحجابُ وعدمُه، فالولي شاهدٌ لربه عز وجل، مأمورٌ من قِبَلِه بالأخذ، قال الله تعالى: ((وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)) [الكهف:82].. ولقد دخل سيدي منصور القطب رضي الله عنه إلى مولانا إدريس نفعنا الله به، فوجد سيدي أبا يعزى بن أبي زيان البكاري يزور، فأخذ بُلْغَتَه (نوع من الأحذية) وخرج، فقلت للشيخ رضي الله عنه في ذلك، فقال: الفرق بين أخذ الولي والسارق الحجابُ وعدمُه، فسيدي منصور لكونه قطباً مشاهداً البُلْغة له، ورآها في اللوح المحفوظ مِن قِسْمَته، وسمع الأمر من الحق سبحانه بأخذها، يحل له الأخذ كيف أمكنه، والسارق محجوب غافل عن ربه...
يعلق نجم العرفان سيدي أحمد بن المبارك على هذه اللصوصية بقوله:
أعاذنا الله من سوء الانتقاد على الكمَّل من العباد(2)...اهـ) أي: لا تعترض عليهم فيما يفعلون!
* وهكذا وصلنا إلى (اللصوصية المقدسة):-
ويقول عبد العزيز الدباغ نفسه:
__________
(1) معالم الطريق إلى الله، (ص:348، 349).
(2) الإبريز، (ص:207).(2/18)
...إن الولي صاحب التصرف يمد يده إلى جيب من شاء فيأخذ منه ما شاء من الدراهم، وذو الجيب لا يشعر! قلت: (القائل هو أحمد بن المبارك): لأن اليد الذي يأخذ بها الولي باطنية لا ظاهرية(1)...
أقول: هذه اللصوصية تعطينا صورة صغيرة، لكنها واضحة، عن سبب فساد المجتمعات الإسلامية.
* والمعاصي كلها مباحة للولي! (مكراً بالأشقياء الذين يعترضون على الأولياء):-
يقول الدباغ:
وإذا أراد الله شقاوة قوم وعدم انتفاعهم بالولي، سخرهم الحق فيما هم فيه من قبح ومخالفة، فيظنون أنه على شاكلتهم، وليس كذلك، حتى إنه يُتصور في طور الولاية أن يقعد الولي مع قوم يشربون الخمر، وهو يشرب معهم، فيظنون أنه شارب الخمر، وإنما تصورتْ روحه في صورة من الصور، وأظهرت ما أظهرت، وفي الحقيقة لا شيء، وإنما هو ظل ذاته تحرك فيما تحركوا فيه، مثل الصورة التي تظهر في المرآة(2)...اهـ. (الآت رقص من دون نقص، ترلم ترلم، ترلم ترلم).
* عودة إلى كشف العورة:-
يقول الدباغ نفسه: إن غير الولي إذا انكشفت عورته نفرت منه الملائكة الكرام؛ لأن الحياء يغلب عليهم، والمراد بالعورة العورة الحسية، وهي ظاهرة، والعورة المعنوية التي تكون بذكر المجون وألفاظ السَّفَه، وأما الولي فإنها لا تنفر منه إذا وقع له ذلك؛ لأنه إنما يفعله لغرضٍ صحيح، فيترك ستر عورته لما هو أولى منه؛ لأن أقوى المصلحتين يجب ارتكابه، ويؤجر على ستر عورته وإن لم يفعله، لأنه ما منعه من فعله إلا ما هو أقوى منه، ولولا ذلك الأقوى لفعله، فكأنه فعلهما جميعاً فيؤجر عليهما معاً(3)...
- سؤال: ما هي المصلحة من كشف العورة؟ أي مصلحة؟ سواء كانت أقوى أو أضعف أو مساوية أو موازية؟ أو أو.
- جواب: لعل كشف العورة مقام من مقاماتهم، التي هي (المنجيات)! وإلا فماذا؟؟
* من أساليب تبرير الفساد والمعاصي:-
__________
(1) الإبريز، (ص:205).
(2) الإبريز، (ص:231).
(3) الإبريز، (ص:233).(2/19)
ويقول عبد العزيز الدباغ أيضاً: إن الولي الكبير فيما يظهر للناس يعصي وهو ليس بعاصٍ، وإنما روحه حجبت ذاته، فظهرت في صورتها، فإذا أخذت في المعصية فليست بمعصية؛ لأنها إذا أكلت حراماً مثلاً، فإنها بمجرد جعلها في فيها فإنها ترميه إلى حيث شاءت، وسبب هذه المعصية الظاهرة شقاوة الحاضرين والعياذ بالله(1) (انتهى).
- وهذا يفسر سبب فساد الأمة الإسلامية، وخاصة إذا علمنا أن العارفين ألف والمتكلم واحد.
* يتنازلون عن مزاحمة الله في تصرفه حياءً من الله وزهداً بالألوهية:-
قال أبو طالب المكي:
...وفوقها (فوق مقامات ذكرها قبل هذا الكلام) ما لا يصلح رسمه في كتاب من مكاشفات الصديقين ومشاهدات العارفين، منها: أنه أعطاهم (كن) بإطلاعه إياهم على الاسم، فزهدوا في كون (كن) لأجل (كان) توكلاً عليه وحياءً أن يعارضوه في قدرته ويرغبوا عن تقديره، أو يضاهوه في تكوينه(2)..
- الجواب: نشكوهم إلى الله، فقد دمروا على المسلمين إيمانهم وعقولهم (أبو طالب المكي حجة عند القوم، وقوته حجة أيضاً) ولا تعترض.
* التسول والكسل فضيلة (من مقامات التوكل والزهد):-
ويقول أبوطالب المكي أيضاً (ومعه الغزالي أيضاً):
قد يفضل التارك للتكسب شغلاً بالعبادة، عن المتكسب، من حيث فضل المتقدمون الزاهدون في الدنيا على كاسب المال حلالاً ومنفقه في سبيل الله. وسئل الحسن عن رجلين، أحدهما محترف والآخر مشغول بالتعبد، أيهما أفضل؟ فقال: سبحان الله! ما اعتدل الرجلان، المتفرغ للعبادة أفضلهما(3)!!
- السؤال: ما نفعل بقوله سبحانه: ((فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ)) [الملك:15]؟ وما نفعل بأحاديث رسوله التي يجعل بعضُها العملَ للتكسب بمرتبة الجهاد؟
الجواب: دعوتهم هذه- وكل عارفيهم يدعون لها- تفسر سبب انحطاط المسلمين.
__________
(1) الإبريز، (ص:232).
(2) قوت القلوب: (2/9).
(3) قوت القلوب: (2/29)، والإحياء: (4/232).(2/20)
* ويقدمون الحكايات لتشجيع التواكل والكسل والتسول:-
يقول أبو طالب المكي أيضاً والغزالي معه:
وحكي أن بعض العلماء صلى خلف رجل، فلما انفتل الإمام، نظر إليه في زي غير مكتسب، فقال: يا شيخ، مِنْ أين تأكل؟ فقال: اصبر حتى أعيد الصلاة التي صليتها خلفك ثم أجيبك(1)!
- عجيب والله! أصبح الأمر بالمعروف مبطلاً للصلاة؟! ثم يتساءل المتسائلون عن سبب فساد المسلمين!
ويقولان أيضاً (هو وهو):
وحدثونا في معناه عن آخر، أنه لزم العكوف في المسجد، ولم يكن ذا معلوم من عيش، فقال له الإمام الذي يصلي بالناس: لو تكسبت وتعيشت كان أفضل لك، فلم يجبه، فأعاد عليه وقتاً آخر نحو ذلك، فقال: يهودي في جوار المسجد قد ضمن لي كل يوم رغيفين، فقنعت بذلك، وتركتُ التكسب، فقال الإمام: إن كان صادقاً في ضمانه فإن عكوفك في المسجد خير لك، فقال له الرجل: يا هذا أنت لو لم تكن إماماً للمسلمين تقوم بينهم لنقص توجهك(2)....
* تعليق هام جداً:-
من هذه النصوص وما سبقها نستطيع أن نعرف سبب تأخر المسلمين وابتعادهم عن الإسلام ومصيرهم الحالي، حيث هم الآن (أذل أمة في الأرض).
* ويجعلون التشريع مستمراً، ولتنسخ الآية الكريمة:-
يقول محمد بن عبد الله بن حسنين الطصفاوي (التجاني):
واعلم أن من المقرر عند العلماء والأعلام، أنه يُعمل بجميع ما يتلقاه العارفون منه عليه الصلاة والسلام، سواء في اليقظة أو المنام، ما لم يصادم شيئاً من النصوص القطعية، أو يؤد إلى انخرام قاعدة شرعية(3)...
- سؤالان: الأول: أي شيء في الصوفية لا يصادم النصوص القطعية (سواء في المجمل أو التفصيل)؟
__________
(1) قوت القلوب: (2/15)، والإحياء: (4/232).
(2) قوت القلوب: (2/15)، والإحياء: (4/232).
(3) الفتح الرباني فيما يحتاج إليه المريد التجاني، (ص:99).(2/21)
- الثاني: يقول: ما لم يصادم شيئاً من النصوص القطعية! أفلا تصادم قاعدتكم هذه قوله سبحانه: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)) [المائدة:3]؟ أوَليست هذه الآية نصاً قطعياً؟ إن لم تكن كذلك، فهل بقي أمامكم نص يمكن أن يكون قطعياً؟!
* المتصوفة يفقهون الإسلام أكثر من الصحابة:-
يقول مولانا العارف بالله الشيخ محمد أمين الكردي (النقشبندي):
...وعن العارف الوفائي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي عن نفسه الشريفة: لست بميت، وإنما موتي عبارة عن تستري عمن لا يفقه عن الله، وأما من يفقه عن الله فهاأنذا أراه ويراني(1)...
الجواب: هذا الكلام هو إنكار للآية الكريمة: ((إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)) [الزمر:30]، التي هي نص قطعي، ورغم كل شيء يقولون: إن علومهم اللدنية وكشوفهم لا تصادم النصوص القطعية؟! وكلها مؤيدة بالقرآن والسنة؟!
* كيف يثبتون علومهم:-
...كان سيدي أحمد (ابن إدريس صاحب الطريقة الإدريسية) يقول: أملى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحزاب (أي: الأوراد) من لفظه.
وكان يقول: أخذنا العلم من أفواه الرجال كما تأخذون، ثم عرضناه على الله والرسول، فما أثبته أثبتناه وما نفاه نفيناه.
__________
(1) تنوير القلوب، (ص:45).(2/22)
وقال (واصفاً الصلوات الإدريسية التي مر بعضها في فصل سابق): هذه الصلوات قد استوت على عرش الأنوار، وأرجلهن متدليات على كرسي الأسرار، تصلين في كتاب الكمالات المحمدية، بقرآن الحقائق الأحمدية، قد طلعت في سماوات العلا شمسها، وارتفع عن وجه الكمال المحمدي نقابها، وبحرها في الحقائق الإلهية زاخر، ولهن في القسمة من المعارف المحمدية حظ وافر، خذهن إليك يا من أراد أن يسبح في كوثر النور المحمدي، وجُلْ في عجائب معانيها يا من يبتغي الاغتراف من البحر الأحمدي، تتلو عليك من كتاب الحقائق المحمدية محكم الآيات(1)...إلخ.
- يترك التعليق على هذا الضلال للقارئ، مع الرجاء أن يعود إلى الصلوات الإدريسية، وأن ينتبه إلى دور الشياطين في المسرحية.
* يتيمم على شط دجلة!:-
...وعن أحمد الدورقي قال: قعد معروف الكرخي على شط دجلة، فتيمم! فقيل له: الماء قريب منك، فقال: لعلي لا أعيش حتى أبلغه(2)!
- القول على هذا الفعل:
1- صلاته باطلة لأنها دون طهارة، وإذا حضر الماء بطل التيمم، وكشفه كان أجهل منه.
2- من أي باب من أبواب المقامات الصوفية يمكن أن يكون هذا العمل؟ هل هو من مقام الفقر؟ أم الزهد؟ أم الورع؟ أم الخوف؟ أم التوكل؟ أم ماذا؟ ولا يسعنا إلا أن نقول له ولهم: مرحباً يا تقي، مرحباً يا ورع، مرحباً يا زهد، مرحباً يا معروف الكرخي، مرحباً يا أبا نعيم الأصفهاني (الذي أورد هذه القصة) وعلى الإسلام السلام، وعلى العقل السلام.
وللعلم: راوي هذه القصة (وكثير من أمثالها) هو أبو نعيم الأصفهاني في الحلية.
* فرعون صادق بادعائه الربوبية:-
قال سهل بن عبد الله (التستري):-
__________
(1) أفضل الصلوات على سيد السادات، (ص:172، 173).
(2) حلية الأولياء، (معروف الكرخي).(2/23)
...وسئل عن سر النفس؟ فقال: النفس سر، ما ظهر ذلك السر على أحد من خلقه إلا على فرعون؟ ((فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)) [النازعات:24]، ولها سبع حجب سماوية، وسبع حجب أرضية، فكلما يدفن العبد نفسه أرضاً أرضاً، سما قلبه سماءً سماءً، فإذا دفنت النفس تحت الثرى، وصلت بالقلب إلى العرش(1).
- السؤال: أليس هذا تكذيباً لآيات القرآن الكريم؟؟ وماذا بقي من الإسلام؟ يا ناس أجيبونا. ورغم ذلك يقولون: إن علومهم مؤيدة بالقرآن والسنة! فجورٌ عجيب والله!
* يستطيع أن يحرق العرش والكرسي:-
قال الطوسي في اللمع (الكتاب الأم):
...حُكي عن الشبلي أنه أخذ من يد إنسان كسرة خبز فأكلها، ثم قال: إن نفسي هذه تطلب مني كسرة خبز، ولو التفت سري إلى العرش والكرسي لاحترق. أو كما قال(2).
- النقش على هذا الفقش: شر البلية شيئان:
أولاً: ما يضحك. ثانياً: عبارة (أو كما قال)!
ويقول الطوسي أيضاً:
...شهدوا على أبي الحسين النوري أنه سمع أذان المؤذن فقال: طعنة وشم الموت! وسمع نباح كلب، فقال: لبيك وسعديك(3)...
* ملحوظة:-
مر مثل هذا الضلال في مكان سابق، ولن تعدم زنديقاً أو جاهلاً يقول لك: هذا له تأويل.
وقال أيضاً:
سمعت أبا عبد الله بن جابان يقول: دخلت على الشبلي في سنة القحط، فسلمت عليه، فلما قمتُ على أن أخرج من عنده، فكان يقول لي ولمن معي، إلى أن خرجنا من الدار: مرُّوا، أنا معكم حيثما كنتم، أنتم في رعايتي وفي كلاءتي. قلت: أراد بقوله ذلك: إن الله تعالى معكم حيثما كنتم وهو يرعاكم ويكلؤكم وأنتم في رعايته وكلاءته.
__________
(1) اللمع، (ص:299)، والإحياء: (4/61). والرسالة القشيرية، (ص:5)، مع اختلاف الألفاظ، وأيضاً إحياء علوم الدين: (3/243).
(2) اللمع، (ص:479).
(3) اللمع، (ص:492).(2/24)
فالمعنى في ذلك أنه يرى نفسه مَحْقاً فيما غلب على قلبه من تجريد التوحيد وحقيقة التفريد. والواجد إذا كان وقته كذلك، فإذا قال: أنا، يعبر عن وجده، وعن الحال الذي قد استولى على سره(1)...إلخ.
- ولا تعليق، ولا نقش ولافقش، حتى ولا رقص، لا مع النقص ولا بدون نقص.
لكن ما أكثر الزنادقة والجهلة، الذين يقولون: هذا له تأويل أو هذا مدسوس، ونقول لهم: إنه غير مدسوس، ومعناه أنه كان في ذلك الوقت متحققاً بالألوهية، فقال كلامه ذلك بصفته أنه الله (جل وعلا).
* بالِمْ سلطان:-
.. باليم سلطان، أي: سلطان العسل (توفي سنة 922 هـ) وهو مجدد البكتاشية، وأمه أميرة مسيحية بلغارية، وأبو بكتاشي هو مرسل بابا، وقد حملت منه بأن تناولت الأميرة عسلاً، تناولته من يد الشيخ مرسل بابا، ولذلك سمي باليم سلطان(2).
- نقش على هذا الفقش: الذين يدعون الألوهية ليس بكثير عليهم أن يدعوا لأنفسهم ولادة كولادة المسيح. أما سبب الحمل فعلمه عند الله.
وللتذكير: البكتاشيون الآن، يحلون الخمور، ويعترفون بخطاياهم للشيخ فيغفر لهم، وأشياء أخرى.
* يسجدون للشيخ (ولا تعترض):-
نعمة الله(3)، الولي العلوي الحلبي...استقر في ماهان من كرمان. كان مريدوه يسجدون له، ويرون أنه المعني بالآية: ((يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ)) [النحل:83](4). (انتهى). (هس س س س س، لا تعترض).
* عبادة من نوع عجيب:-
يقول عبد الكريم القشيري:
__________
(1) اللمع، (ص:478).
(2) الفكر الشيعي والنزعة الصوفية، (فصل البكتاشية).
(3) من أتباع ابن عربي، مؤسس الطريقة النعمتللاهية، أوسع الطرق انتشاراً في إيران.
(4) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:119).(2/25)
قال بعضهم: وُصِف لي ذاكرٌ في أجمة، فأتيته، فبينما هو جالس، إذا سبع عظيم ضربه واستلب منه قطعة (أي: قطعة من لحمه)، فغشي عليه وعليَّ، فلما أفاق قلت: ما هذا؟ فقال: قيض الله هذا السبع عَلَيَّ، فكلما دخلتني فترة عضني عضة كما رأيت(1).
1- هذا الذاكر هو أحد رجلين:
أ- إما أنه أهدى من محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن محمداً لم يأت بمثل هذا الذكر ولا مثل هذه العبادة، ولا عرفها أصحابه.
ب- أو أنه سائر في إحدى متاهات الضلال البعيد..
2- ما هي نتائج العضات وقطع اللحم التي كان السبع ينهشها من جسمه؟
3- ما أكثر الزنادقة والمغفلين الذين يقولون: إن هذا مدسوس، فنجيبهم: ألا لعنة الله على الكاذبين.
* الصوفية يحاربون الشريعة والعلم:-
يقول ابن عجيبة:
...وقال شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه: الجلوس مع العارفين أفضل من العزلة، والعزلة أفضل من الجلوس مع العوام، والجلوس مع العوام أفضل من الجلوس مع المتفقرة الجاهلين، قلت (القائل هو ابن عجيبة): والجلوس مع علماء الظاهر أقبح في حق الفقير من جميع ما تقدم، والله ما رأيت فقيراً صحبهم فأفلح في طريق القوم أبداً، فلا قاطع أعظم منهم(2)...
- من أمثال هذه النصوص ندرك سبب بعد المسلمين عن إسلامهم، وسبب جهلهم به، وبالتالي سبب انحدارهم إلى مستوى الجهل والذل الذي يتخبطون فيه.
- لكن.. هل تفرد ابن عجيبة في هذا التوجيه؟
- الجواب: لا، فهو يسير في طريق القوم، وقد مرت أمثلة، وهذه أخرى: يقول شهاب الدين السهروردي البغدادي (إمام الوجود).
...قال أبو سليمان الداراني: ثلاث من طلبهن فقد ركن إلى الدنيا، من طلب معاشاً أو تزوج امرأة أو كتب الحديث(3)!!
ويقول الغزالي (حجة الإسلام) (داعياً للجهل والتنبلة):
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:103).
(2) الفتوحات الإلهية، (ص:330).
(3) عوارف المعارف على هامش الإحياء: (2/165).(2/26)
...وقال الجنيد رحمه الله: أحب للمريد المبتدئ ألا يشغل قلبه بثلاث، وإلا تغير حاله، التكسب وطلب الحديث والتزوج. وقال (أي: الجنيد): أحب للصوفي ألا يكتب ولا يقرأ؛ لأنه أجمع لهمه(1)...
ويقول الطوسي في اللمع (داعياً للجهل):
...وقال بعضهم: إذا رأيت الفقير قد انحط من الحقيقة إلى العلم، فاعلم أنه قد فسخ عزمه وحل عقده(2)...
وقال أيضاً (داعياً للجهل):
قال الجنيد: إذا لقيت الفقير فالقه بالرفق ولا تلقه بالعلم، فإن الرفق يؤنسه والعلم يوحشه(3).
وقال أيضاً (من مقام التوكل):
سمعت أحمد بن علي الوجيهي يقول: سمعت بعض المشايخ يقول: حج حسن القزاز الدينوري رحمه الله اثنتي عشرة حجة حافياً، مكشوف الرأس، فكان إذا دخل في رجله الشوك يمسح رجله بالأرض ويمشي ولا يطأطئ رأسه إلى الأرض من صحة توكله(4).
- سؤال: صحة توكله هذه من أين جاء بها؟ وما هو دليله عليها من قرآن أو سنة أو عمل صحابة؟؟ نعم، يمكن وجود الدليل في الهندوسية والبوذية.
* دعوة إلى الكسل:-
يقول أبو نصر الطوسي في اللمع (الكتاب الأم في تاريخ التصوف الإسلامي):
وسمعت الذَّقِّي يقول: أقمت بمكة تسع سنين، وكنتُ اعتقدت ألا أصلي صلاتين في موضع واحد، فكان يمر بي من الجوع ما إذا رأيت جنازة أقول: ليتني كنت مكان هذا الميت، قال: وكان يقع في قلبي في الوقت: يا هذا أليست هذه الفاقة التي لك لا يعلم بها أحد غير الله، فكنت أشتغل بذلك، ويذهب عني ما أجد من الجوع(5).
* الملحوظات:-
1- هو آثم وليس مأجوراً؛ لأن الجوع والكسل والصيام الموصول ليس من تعاليم الإسلام.
__________
(1) إحياء علوم الدين: (4/206).
(2) اللمع، (ص:233).
(3) اللمع، (ص:233).
(4) اللمع، (ص:223).
(5) اللمع، (ص:225، 226).(2/27)
2- هذه القصة وغيرها تدلنا على سبب انتشار (التنابل) في العالم الإسلامي حتى زمن قريب، حيث لم نزل نسمع بتنابل التكايا، مثل: (تنابل اصطنبول، وتنابل بغداد، وتنابل دمشق، وغيرهم من التنابل الذين كانوا منتشرين في التكايا المنتشرة في طول البلاد وعرضها).
3- كان اعتقد أنه لا يصلي صلاتين في موضع واحد! وماذا في هذا الاعتقاد من الفضل؟ وماذا لو صلى في أي مكان ييسره الله له؟ وهل هو مأجور على اعتقاده هذا؟ وهل؟ وهل؟....وماذا فعل بصلاة الجماعة؟!
* يزهدون في الدنيا والآخرة! فماذا يريدون؟:-
ويقول الطوسي أيضاً (من آداب الحج):
فإذا دفعوا مع الإمام إلى المزدلفة، فأدبهم أن يكون في قلوبهم العظمة والإجلال لله تعالى، فإذا دفعوا مع إمامهم جعلوا الدنيا والآخرة وراء ظهورهم(1)؟!
- الجواب على هذا الضلال نجده في آيات كثيرة، نكتفي بواحدة منها: ((اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ)) [العنكبوت:36].
إنه سبحانه يأمرنا أن نعبد الله ونرجو اليوم الآخر، فما بال علومهم اللدنية تأبى إلا أن تكون مخالفة للقرآن الكريم؟ وقد رأينا مثل هذا القول في النصوص السابقة، ولا بأس من الرجوع إليها لجلاء الذاكرة...ورغم كل ذلك، يقولون: إن علومهم مؤيدة بالقرآن والسنة!
* عودة إلى الجهل:-
يقول الطوسي نفسه في كتابه (اللمع) نفسه:
قال أبو يزيد البسطامي: صحبت أبا علي السندي، فكنت ألقنه ما يقيم به فرضه، وكان يعلمني التوحيد والحقائق صرفاً(2).
- السؤال: لِمَ لَمْ يعلمه كشفه ما يقيم به فرضه؟ وما هو هذا التوحيد والحقائق مع كل هذا الجهل؟
* عودة إلى القمل:-
...سئل المرتعش النيسابوري رحمه الله عن الفقير فقال: الذي يأكله القمل ولا يكون له ظفر يحك به نفسه(3).
ولا تعليق، لكن القارئ يعلم الآن أن معنى كلمة (الفقير) أي: الولي الصوفي.
__________
(1) اللمع، (ص:228، 229).
(2) اللمع، (ص:235).
(3) اللمع، (ص:152).(2/28)
* تأديب النفس على طريقة الهندوس:-
يقول أبو نصر الطوسي عن أبي نصر الروذباري:
...وذكر عن ابن الكرَيني، وكان أستاذ الجنيد رحمه الله، أنه أصابته الجنابة ليلة من الليالي، وكانت عليه مرقعة ثخينة غليظة...فجاء إلى الشط ليلة، وكان برد شديد، فحرفت نفسه عن الدخول في الماء لشدة البرد، قال: فطرح نفسه في الماء مع المرقعة، ولم يزل يغوص في الماء مع مرقعته ثم خرج من الماء، وقال: اعتقدت ألا أنزعها من بدني حتى تجف عليّ، قال: فلم تجف عليه شهراً كاملاً؛ وأراد بذلك تأديباً لنفسه؛ لأنها حرنت عند الائتمار لما أمر الله تعالى به(1).
- سؤالنا: ما هذا الدين الذي يدين به هؤلاء القوم؟ إنه ليس الإسلام على كل حال؟! وما هذه الغبائيات الجاهلة الحمقاء؟ لكن هذا وغيره يفسر لنا سبب انحطاط الأمة الإسلامية وضياعها التاريخي العجيب بعد تلك النهضة العجيبة.
ويقول الطوسي أيضاً:
وحكي عن إبراهيم بن شيبان أنه قال: كان أبو عبد الله المغربي رحمه الله يدخل البادية وعليه إزار ورداء أبيض، وفي رجله نعل طاق كأنه يمشي في السوق، فإذا دخل مكة وفرغ من الحج أحرم من تحت الميزاب، ويخرج من مكة، وهو محرم، ويقيم على إحرامه إلى أن يرجع إلى مكة(2).
- الجواب: كل العبادات باطلة إلا ما نزل به نص. فعبادته هذه باطلة وهو فيها بدعي آثم. ونرد عليه وعلى أمثاله من المبتدعين بالآية الكريمة ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)) [الشورى:21].
ولعل القارئ الكريم عرف أن العبادة المبتدعة هنا هي إحرامه طيلة السنة عند خروجه من الحرم إلى بيته حتى عودته إلى الحرم، ولعل القارئ يرى التفاهة الفكرية والانحراف في العقيدة في مثل هذه البدع التي يخيل لهم شيطانهم أنها ولاية لله، وما هي إلا ولاية للشيطان.
* طريقان ينبت فيهما الذهب والفضة! أين هما؟:-
يقول الطوسي نفسه:
__________
(1) اللمع، (ص:198).
(2) اللمع، (ص:224).(2/29)
وحكي عن إبراهيم الخواص رحمه الله أنه قال: أعرف في البادية تسعة عشر طريقاً غير الطريق الذي يسلكه الناس والقوافل. طريقان منهما ينبت فيهما الذهب والفضة(1)!
- جوابنا مثل جواب سابق: ترلم ترلم ترلم.
ويقول القشيري في (الرسالة القشيرية) (وفي الإعادة إفادة):
...وقال الواسطي: ادعى فرعون الربوبية على الكشف، وادعت المعتزلة على الستر، تقول: ما شئت فعلت(2)...
- إذن ففرعون هو رب فعلاً؛ لأنه ادعى الربوبية على الكشف الذي هو نور اليقين، وحق اليقين، وعين اليقين! فنسأل أهل الذكر: ما هو الكفر؟
ويقول القشيري أيضاً في رسالته:
...ولقد قيل للجنيد: العارف يزني يا أبا القاسم؟ فأطرق ملياً ثم رفع رأسه وقال: وكان أمر الله قدراً مقدوراً(3).
- إذن فالزنا لا يضر شيئاً بالولاية، وطبعاً يحل للولي كل شيء.
ويقول نفسه:
...كان يقال للنصراباذي كثيراً: إن علياً القوال يشرب بالليل ويحضر مجلسك بالنهار؟ وكان لا يسمع فيه ما يقال، فاتفق أنه كان يمشي يوماً ومعه واحد ممن يذكر علياً بذلك، فوجد علياً مطروحاً في موضع وقد ظهر عليه أثر السكر وصار بحيث يغسل فمه، فقال الرجل: إلى كم نقول للشيخ ولا يسمع! هذا علي بالوصف الذي نقول، فنظر إليه النصراباذي وقال للعذول: احمله على رقبتك وانقله إلى منزله، فلم يجد بداً من طاعته فيه(4)...
* التعليق:
__________
(1) اللمع، (ص:224).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:5)، واللمع، (ص:299)، والإحياء: (4/61) مع اختلاف في الألفاظ.
(3) الرسالة القشيرية، (ص:160).
(4) الرسالة القشيرية، (ص:105).(2/30)
لعلهم يرون أن الله سبحانه قد غلط عندما أنزل الحدود، وعندما قال: ((تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا)) [البقرة:229]، وقال: ((وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) [البقرة:229]، فجاء هؤلاء المكاشفون ليصلحوا غلطه! فألغوا حد شارب الخمر، وأكرموه! فعلوم الأولياء فوق علوم الأنبياء! ورغم ذلك يقولون: إن علومهم الكشفية لا تصادم النصوص القطعية، بل هي مؤيدة بها!
* تنبيه:
يفرض الإسلام على هؤلاء أن يقدموا السكير إلى القضاء ويشهدوا عليه بما رأوه، والقاضي هو الذي يقيم عليه الحد.
* عودة إلى الدعوة إلى الجهل:-
يقول القشيري (إياه) في رسالته (إياها) داعياً إلى الجهل:
...وقال الخضري: وأصولنا في التوحيد خمسة أشياء: رفع الحدث، وإفراد القدم، وهجر الإخوان، ومفارقة الأوطان، ونسيان ما علم وجهل(1).
ويقول أيضاً داعياً إلى الجهل:
قال الجنيد: التوحيد الذي انفرد له الصوفية هو إفراد القدم عن الحدث، والخروج عن الأوطان وقطع الصحاب وترك ما علم وجهل(2)...
ويقول أيضاً داعياً إلى الجهل:
وحكي عن أبي القاسم بن مروان النهاوندي قال: كنت أنا وأبو بكر الوراق مع أبي سعيد الخراز نمشي على ساحل البحر نحو صيدا، فرأى شخصاً من بعيد، فقال: اجلسوا. لا يخلو هذا الشخص أن يكون ولياً من أولياء الله، قال: فما لبثنا أن جاء شاب حسن الوجه وبيده ركوة ومعه محبرة وعليه مرقعة، فالتفت أبو سعيد إليه منكراً عليه لحمله المحبرة مع الركوة(3)...
* التعليق:
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:135).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:136).
(3) الرسالة القشيرية، (ص:167).(2/31)
إنكارهم على الناس حمل المحبرة (أي: الاشتغال بالعلم)، وطلبهم إليهم نسيان ما علم وما جهل هو جزء من رسالة التصوف التي ينشرونها في المجتمع الإسلامي، وهذا يفسر لنا سبب انحطاط الأمة الإسلامية إلى ما هي فيه من الجهل والبعد عن الإسلام وسبب كل ما تتخبط فيه مما يلمسه كل من فيه شيء من الإدراك.
- وفي قول الجنيد ملحوظة هامة جداً! هي قوله: (التوحيد الذي انفرد به الصوفية)، والذي يدل بوضوح واضح وصراحة صريحة وبيان مبين أن توحيدهم هو غير توحيد المسلمين، (إنهم انفردوا به). والإقرار أعلى الأدلة.
وأرجو من القارئ أن يتسلى بتحليل عبارة: (إفراد القدم عن الحدث)، ومثلها: (رفع الحدث وإفراد القدم).
- ومن الملحوظات الكثيرة التي يمكن تسجيلها على هذه النصوص نشير إلى واحدة هي قول الخراز عن الشخص: (لا يخلو أن يكون ولياً من أولياء الله) وقد ورد في ثنايا الكتاب بعض الآيات والأحاديث التي ترد على مثل هذا الافتراء على الله.
* عودة إلى نبذ الآخرة والزهد فيها:- يقول القشيري (إياه) في رسالته (إياها):
...وقيل: إن إبراهيم بن أدهم قال لرجل: أتحب أن تكون لله ولياً؟ فقال: نعم، فقال: لا ترغب في شيء من الدنيا والآخرة وفرغ نفسك لله تعالى(1)...
- الأجوبة كثيرة على من لا يريد الآخرة، منها قوله سبحانه: ((مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ)) [آل عمران:152]، فمن أي صنف هؤلاء القوم؟ وهم لا يريدون الدنيا ولا يريدون الآخرة، ويقول سبحانه: ((يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ)) [آل عمران:176]، وواضح أن هذا هو العقاب الشديد، وهؤلاء رفضوا حظ الآخرة سلفاً! فماذا بقي لهم؟
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:118).(2/32)
لعلهم يعلِّمون الله سبحانه ما لم يعلم؟! ويقول سبحانه: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)) [الشورى:20]، وهؤلاء لا يريدون حرث الآخرة، ويقول سبحانه: ((كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ)) [المدثر:53]، وهؤلاء لا يخافون الآخرة ولا يرجونها...والآيات والأحاديث كثيرة. ثم يقولون- ويا لهول ما يقولون، ويا للفجور والكيد والمكر فيما يقولون-: إن علومهم وكشوفهم لا تصادم النصوص القطعية؟! وكلها مؤيدة بالقرآن والسنة.
* يحرفون الكلم من بعد مواضعه:-
يقول القشيري في رسالته التي يدرسها علماؤهم في مساجد المسلمين الغافلين:
...وكذا أصحاب الحقائق يكونوا محواً عن نعوت الخلائق، قال الله تعالى: ((وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ)) [الكهف:18](1)...
- لا جرم أن القارئ الكريم غدا الآن على معرفة تامة بمعنى العبارة: (محواً عن نعوت الخلائق)، ومع ذلك فلا بأس من شرحها؟ يقول: إن أصحاب الحقائق، أي: الذين عرفوا الحقيقة وتحققوا بها، يكونون قد انمحت عنهم صفات الخلق، لقيامهم بصفات الحق، فظاهرهم مخلوقات؛ ولكن حقيقتهم هي الألوهية بنعوتها وصفاتها. ويجعل الآية الكريمة: ((وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ)) [الكهف:18] مشيرة إلى ضلالهم هذا. وهذه صورة من تحريفهم لمعاني الآيات الكريمة. ثم يقولون: إن علومهم وكشوفهم مؤيدة بالقرآن والسنة؟!
* ومن الولاية الصياح وتمزيق الثياب واللطم والرقص:-
يقول القشيري في رسالته:
...وقيل: السماع فيه نصيب لكل عضو، فما يقع إلى العين تبكي، وما يقع إلى اللسان يصيح، وما يقع إلى اليد تمزق الثياب وتلطم، وما يقع إلى الرجل ترقص(2)...
- ولا تعليق، ولكن هذا يذكرنا بأشياء؟ منها: (نحلة إلوسيس)، وكهانة الهندوس.
* ويكذبون على رسل الله وعلى الله تعالى:-
ويقول القشيري:
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:118).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:157).(2/33)
...وقال خير النساج: قص موسى بن عمران صلوات الله عليه على قوم قصة، فزعق واحد منهم، فانتهره موسى، فأوحى الله إليه: يا موسى! بطيبي فاحوا، وبحبي باحوا، وبوجدي صاحوا، فلم تنكر على عبادي(1).
- السؤال: من أين عرفوا هذا الافتراء؟ والجواب: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)) [الصف:7]، ((انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:50]...ثم إن الكذب على رسل الله هو من الأسباب الرئيسية التي جعلت الأقوام يخرجون من دين الله.
* لا صوفية دون محاربة العلم:-
ويقول القشيري (إياه):
سمعت منصوراً المغربي يقول: رأى بعضهم الخضر عليه السلام، فقال له: هل رأيت فوقك أحداً؟ فقال: نعم، كان عبد الرزاق بن همام يروي الأحاديث بالمدينة والناس حوله يستمعون، فرأيت شاباً بالبعد منهم، رأسه على ركبتيه، فقلت: هذا عبد الرزاق يروي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلِمَ لا تسمع منه؟ فقال: إنه يروي عن ميت، وأنا لست بغائب عن الله عز وجل، فقلت له: إن كنت كما تقول فمن أنا؟ فرفع رأسه وقال: أنت أخي أبو العباس الخضر. فعلمت أن لله عباداً لم أعرفهم(2).
- الجواب:
1- الخضر توفي في زمنه، وكذب الذين يقولون: إنه حي، وضلوا وهم جاهلون.
2- هذا الذي يتراءى لهم هو شيطان، يضحك على ذقونهم، أو هو في غالب الأحيان صورة كشفية يراها العارف الكامل الذي وصل إلى مقام لا يميز فيه بين الكشف والواقع في أحيان كثيرة.
3- عبد الرزاق بن همام لم يحدث بالمدينة، وإنما حدث باليمن، فكشفهم جاهل.
4- من رسالتهم في الحياة محاربة العلم باسم العلم اللدني، الذي يقولون فيه: حدثني قلبي عن ربي! وهذه الجهالات والضلالات التي بين أيدينا هي نماذج من علومهم اللدنية.
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:157).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:166).(2/34)
5- هذا بعض من كثير مما يدل على أن التصوف هو الذي دفع الأمة الإسلامية إلى حضيض الجهل الذي مرت به، وإلى الفساد الذي لا تزال تتخبط فيه.
* عودة إلى الكذب على رسل الله عليهم السلام:-
يقول القشيري:
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: لما قال إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك. قال: يا أبت هذا جزاء من نام عن حبيبه، ولو لم تنم لما أمرت بذبح الولد(1)... (وهكذا الكذب وإلا فلا).
* وكذب على محمد صلى الله عليه وسلم:-
يقول القشيري أيضاً:
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى بن مريم عليه السلام: لو ازداد يقيناً لمشى في الهواء، قال رحمه الله تعالى: إنه أشار بهذا إلى حال نفسه صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، لأن في (لطائف المعراج) أنه قال: {رأيت البراق قد بقي ومشيت}(2).
- الجواب: قال صلى الله عليه وسلم: {من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار}.
* يرغبون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم:-
ويقول القشيري أيضاً:
...وحكي عن بعضهم أنه قال: رأيت في بعض الأسفار شيخاً كبيراً قد طعن في السن، فسألته عن حاله فقال: إني كنت في ابتداء عمري أهوى ابنة عم لي وهي لي كذلك تهواني، فاتفق أنها زوجت مني، فليلة زفافها قلنا: تعالي حتى نحيي هذه الليلة شكراً لله تعالى على ما جمعنا، فصلينا تلك الليلة ولم يتفرغ أحدنا لصاحبه، فلما كانت الليلة الثانية قلنا مثل ذلك؟ فمنذ سبعين أو ثمانين سنة نحن على تلك الصفة كل ليلة، أليس كذلك يا فلانة؟ فقالت العجوز: كما يقول الشيخ(3).
الجواب على هذه القصة: يقول صلى الله عليه وسلم: {من رغب عن سنتي فليس مني}.
* وكذب على رسل الله:-
يقول القشيري إياه:
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:176).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:84).
(3) الرسالة القشيرية، (ص:82).(2/35)
...وقيل: إن داوُد عليه السلام كان يستمع لقراءته الجن والإنس والطير والوحش إذا قرأ الزبور، وكان يُحمل من مجلسه أربعمائة جنازة ممن قد مات ممن سمعوا قراءته(1).
- ماذا يمكن أن يقال عن مثل هذا المقال؟ هل يقال: يا سلام، أم يا حرام، أم يا كذب، أم يا غباء، أم يا ضلال؟! يُحمل من مجلسه أربعمائة جنازة كلما قرأ؟! ثم يتساءلون: ما سبب فساد المسلمين؟
- وللعلم: الرسالة القشيرية تدرس في مساجد البلاد الإسلامية! وينصح شيوخهم وعلماؤهم بقراءتها! على أنها - والحق يقال- من الكتب المشجعة على السير في طريق الكهانة، هي والكتاب الذي سمي- زوراً وبهتاناً- (إحياء علوم الدين)، وما هو إلا إحياء علوم الكهانة، وكذلك النقم الضلالية الكفرية التي سموها (الحكم العطائية)، وبقية كتبهم.
* مشاهد مرسلة (والكلام منقول بدقة):-
حدث الشيخ (ع) فكان مما حدث:
...ثم دخلت الزاوية...فقابلتني أمي فاطمة الزهراء، فطلبت منها الإذن بأن تسمح لي بتقبيل قدميها، فسمحت، فقبلتهما، ثم قبلت كفيها، ثم خديها، ثم جبينها ورأسها، ثم رضعت من بزَّيْها حتى رويت، ثم أخذت أقبلها، ثم تركتها، فقالت: ما لك؟ قَبِّل. قلت: إني أخاف من أبيك يزعل عليَّ، فقالت: إن أبي لا يزعل عليك، إنه يحبك كثيراً جداً، قبِّل، فعدت أقبلها لما علمت أنها أمي حقيقةً، فمن هذا المقام علمت أن جدي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمي فاطمة، وأن أبي علي المرتضى...اهـ. (الرجاء ملحوظة قناعته أن الكشف أمر واقع).
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:153).(2/36)
وقال: حصل لي في الخلوة بواسطة شيخي، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، حيث إن الله تعالى أجلسني بين يديه وقال لي: تمن عليَّ ما تريد...فقلت له: لا أريد شيئاً إلا أنت. فقال لي: إذن اذهب إلى الجنة، فأي قصر أعجبك أو أي شيء أعطيكه. فقلت: الله، يا رب لا أريد شيئاً إلا أنت...ثم حضر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد أن جلس عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى لي: افْنَ به، ففنيت به فوراً، ثم قال لسيدنا محمد: افن باسمي (اللطيف)، ففني عليه الصلاة والسلام به، ثم فني اسمه اللطيف في اسمه (الله)، ثم فني اسمه (الله) في ذاته العلية المقدسة؛ ثم قال الله تعالى لي: إن حظك عظيم...اهـ. (سؤال للقارئ: هل تستطيع معرفة اسم الشيخ من هذه النصوص؟).
وحصل لي فتح آخر:
حيث اصطفاني الله تعالى، حيث قال لي: أنت يا (ع) حبيبي، إني اصطفيتك من أصفى أصفيائي، فمقامك الآن في سويداء قلبي، فحمدت الله تعالى وشكرته وأثنيت عليه الثناء الجميل.
وفضيلة عظيمة حصلتُ عليها:
...فتح الله تعالى علي، ثم صعدت إلى السماء السابعة، وأنا مواظب على الذكر، فأهدى لي ربي اسمه الأعظم، فقلت له: ابن لي هنا قصراً عظيماً، فبنى لي قصراً عظيماً، فقلت له: ضع عليه كرسي الربوبية، فوضع عليه كرسي الربوبية، فقالت الملائكة: اجلس، فقلت لهم: حاشا لله تعالى، إن هذا لله وحده؟ فأخذت الملائكة تردد أخلاقاً محمدية، أخلاقاً محمدية، فقلت: الحمد لله رب العالمين.
وفي يوم من أيام رمضان المبارك:
كنت أصلي الضحى، تجلى الله تعالى علي وأخذ يحدثني حديثاً قلبياً ألذ من كل لذيذ، قال: أعلمك يا (ع) أنك الآن صرت عبداً خالصاً مخلصاً مقدساً لسويداء قلبي، ليس لك عنه بواح...وأنا أساعدك بكل ما تحتاج إليه من علم وحكمة وقدرة وجميع ما يلزم...وأذكُر لما كان ربي جل جلاله متجلياً علي قبلت فمه المقدس تقبيلاً لله محبة وشوقاً ولذة فوق وصف الواصفين، له الحمد.
وفي عام (1402هـ) في ليلة (يعينها):(2/37)
ذكرت الله كثيراً حتى صار كل شيء نوراً، وقد ذبت وسحقت في الله، بل صرت الله بجميع ذاته وصفاته وأسمائه، وبقيت تقريب الساعتين، والعالمين في بهجة وسرور وطبل وزمر وموسيقى وأذكار وأناشيد وصلوات على النبي، ثم انتهت وأنا في غاية السرور حامداً وشاكراً.
وحديث آخر يحدث به شيخ آخر (الشيخ م) يقول:
رأيت مناماً، أن أصابعي هم سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الكفوف (جمع كف) وما فوق هي الله تعالى. وإن الذين لا يؤمنون بذلك، بل يكذِّبون، هم كالبصقة تغلبني، لكني أبصقها في النهاية، وما بقي منها أبلعه، فيذهب ويمتزج مع الغائط ويخرج إلى حيث...اهـ.
- هاذان القطبان غير مثقفين، ولم يتقنا المكر أو لم يتعلماه، فقالا ما رأيا بصدق وبراءة، دون تهذيب ولا تنميق! لذلك ظهرت هلوسات الغرور المرهَق بالذكر الإرهاقي، والموجه بالقناعات والطموحات المسبقة، ظهرت واضحة في رؤاهما وأقوالهما، أما غيرهما من المثقفين والأدباء، فإنهم يحذفون ما لا يحسن إظهاره، أو يكتمونه أو يزوّرون فيه بالرمز واللغز، حتى يظهر مقبولاً بعض الشيء، ومع ذلك؟ فمن المتعذر أن تنقلب الزندقة إيماناً مهما أُلبست من تأويلات وتزويرات.
* دعوة إلى الجهل والفسوق:-
يقول سيدي محمد وفا (قطب غوث):
وبعد الفنا في الله كن كيفما تشا ... ... فعلمك لا جهل وفعلك لا وزر
فصاحب هذا الوصف يقال له في اصطلاح القوم: (في حضرة الإطلاق)، ويقال له: من الأحرار، لكونه مطلوقاً من طبائعه ومن كل ما سوى مولاه...وتارة تضاف حضرة الإطلاق إلى الله تعالى(1)...
- إذن، وكما يقرر هذا الغوث، بل كلهم يقررون أن السالك عندما يصل في الجذبة إلى الفناء يغدو ذا علم لا جهل فيه وإن كان أجهل الجهلاء ويغدو فعله، مهما كان فعله، لا وزر فيه (ولو جمع كل الأوزار).
وهذا مما يفسر لنا سبب الجهل والفساد الخلقي الذي تتخبط فيه الأمة الإسلامية.
__________
(1) الأسرار الربانية والفيوضات الرحمانية، (ص:81).(2/38)
* النهي عن العلم شعار يلتزمونه:-
ويقول محمد محمد أبو خليل:
...وكان شيخنا (الغوث محمد أبو خليل) رضي الله عنه ينهانا عن قراءة الكتب، ويقول: من اجتهد في عبادة الله، نور الله بصيرته، وعرف ما في الكتب وما ليس في الكتب بطريق الإلهام والكشف(1)..
الجواب:
1- رأينا علومهم وكشوفهم ومعارفهم، ورأينا ما فيها من جهل وتفاهة وهذيان وهلوسات تحشيشية.
2- كل هذا يفسر لنا سبب انحطاط المسلمين، وسبب ترديهم فيما يتخبطون فيه من جهل وفساد.
3- صدق الله سبحانه: ((اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)) [العلق:3، 4]، وكذبوا وضلوا؛ لأن الله سبحانه علم بالقلم، ولم يعلم بالكشف ولا بالعلم اللدني ولا بالفتوح ولا بالتحشيش ولا بالأَفْيَنَة ولا بأي مهلس من المهلسات.
* حكم عربية حاتمية أكبرية:-
...وقال بعضهم: إنما يتوكل عليه من يرى غيره. وقال بعضهم: عجبت لمن عرف الله كيف أطاعه. وقال بعضهم: لا تغتروا بدخول إبليس النار، فإنه تعالى يقول: ((لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ)) [ص:85].
وقال بعضهم: رجال الله كالسراب.
وقال بعضهم:
الشرع أمانة والحقيقة أمن. وقال بعضهم: لا يصام إلا شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن (أي: الذي كان في أول البعثة). وقال بعضهم: رسل الله الله.
وقال بعضهم: المطيع يسيء الظن بربه، والعاصي يحسن الظن بربه. وقال بعضهم: المحجوب من اتسعت معارفه، والعالي من قلت معارفه. وقال بعضهم: العلم للخلق والحقيقة للحق(2).
* الملحوظة:-
الكلام واضح الضلال، لكن الدعوة إلى الجهل أوضح، وأوضح منه الدعوة إلى التحلل من الدين.
* من التفسير الصوفي:-
__________
(1) المربي، (ص:417).
(2) رسائل ابن عربي، كتاب الأعلام، (ص:7).(2/39)
يقول ابن عربي، الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر، من تفسيره لسورة الروم: ((الم. غُلِبَتِ الرُّومُ)) [الروم:1،2]: الذات الأحدية مع صفتي العلم والمبدئية، كما ذكر أن روم القوى الروحانية تكون مغلوبة في أقرب موضع من أرض النفس، الذي هو الصدر؛ لأن فيض المبدأ يوجب إظهار الخلق واحتجاب الحق به، فكل ما كان أقرب إلى الحق، كان مغلوباً بالذي هو هو أقرب إلى الخلق...
((أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ)) [الروم:8]: سماوات الغيوب السبعة وأرض البدن وما بينهما من القوى الطبيعية والملكوت الأرضية والروحانية، والملكوت السماوية والصفات، والأخلاق وغيرها، إلا بالحكمة والعدل وظهور الحق في مظاهرهم بالصفات على حسب استعداد قبولها لتجليه...((وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ)) [الروم:8]: لاحتجابهم عنه، فيتوهمون أنه لا يكون إلا بالمقابلة الصورية في عالم آخر، باندراج الهوية في الهوية...
((اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ)) [الروم:11]: بإظهار الفرس على الروم، ((ثُمَّ يُعِيدُهُ)) [الروم:11]: بإظهار الروم على الفرس، ((ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) [الروم:11]: بالفناء فيه، ((وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ)) [الروم:12]: بوقوع القيامة الصغرى، ((يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ)) [الروم:12]: عن رحمة الله...أو القيامة الكبرى بظهور المهدي عم، وقهرهم تحت سطوته وحرمانهم من رحمته...((فَسُبْحَانَ اللَّهِ)) [الروم:17]: أن يكون غيره في الوجود والصفة والفعل والتأثير، ((حِينَ تُمْسُونَ)) [الروم:17]: بغلبة ظلمة الفرس على نور الروم، ((وَحِينَ تُصْبِحُونَ)) [الروم:17]: عند ظهور نورهم على ظلمة الفرس، ((وَلَهُ الْحَمْدُ)) [الروم:18]: بظهور صفات كماله وتجليات جماله في سماوات الغيوب السبعة وقت إصباح غلبة نور الروحانيات على ظلمات النفسانيات...(2/40)
- يجعل ابن عربي كلمة (الروم) تشير إلى نور الروحانيات (ويعني بها: استشعار الجمع)، كما يجعل كلمة (الفرس) تشير إلى ظلمة النفسانيات (ويعني بها استشعار الفرق).
وللقارئ أن يناقش هذا التفسير حسب مقتضيات اللغة وأصول التفسير وكليات العقيدة الإسلامية وجزئياتها. كما عليه أن يعرف أن تفسير ابن عربي هو كتاب مقدس عند الصوفية، وكله يجري على هذا النمط.
* كشفهم لا يساعدهم:-
قال الشريف حسن (أخو أحمد البدوي، وكانوا يقيمون في مكة):
فأقمت أنا وإخوتي، وكان أحمد أصغرنا سناً وأشجعنا قلباً، وكان من كثرة ما يتلثم لقبناه بالبدوي...ثم إنه في شوال سنة ثلاث وثلاثين وستمائة رأى في منامه ثلاث مرات قائلاً يقول له: قم واطلب مطلع الشمس، فإذا وصلت إلى مطلع الشمس فاطلب مغرب الشمس وسر إلى طندتا (طنطا) فإن بها مقامك أيها الفتى! فقام من منامه، وشاور أهله وسافر إلى العراق، فتلقاه أشياخها، منهم سيدي عبد القادر وسيدي أحمد بن الرفاعي، فقالا: يا أحمد، مفاتيح العراق والهند واليمن والروم والمشرق والمغرب بأيدينا فاختر أي مفتاح شئت منها، فقال لهما سيدي أحمد رضي الله عنه: لا حاجة لي بمفاتيحكما، ما آخذ المفتاح إلا من الفتاح. قال سيدي حسن: فلما فرغ سيدي أحمد من زيارة أضرحة أولياء العراق كالشيخ عدي بن مسافر والحلاج وأضرابهما، وخرجنا قاصدين إلى ناحية طندتا(1)...
* الملحوظات:-
1- كان مقيماً في مكة، والعراق بالنسبة لمكة ليس مطلعاً للشمس.
2- عندما ولد أحمد البدوي كان عبد القادر وأحمد بن الرفاعي قد شبعا موتاً من زمان، فكيف استقبلاه؟ طبعاً، إنه رأى ذلك بالكشف، وهؤلاء الكمل يتساوى في إحساسهم الكشف مع الواقع، وفي كثير من الأحيان لا يستطيعون التمييز بينهما.
3- أما مفاتيح المشرق والمغرب ووثنية القبور فنشكوها إلى الله سبحانه.
* بدون عنوان (لعلها من مقام النفس الراضية):-
__________
(1) طبقات الشعراني: (1/183).(2/41)
(أحمد المدعو حمدة) المجذوب الصاحي، له كشف لا يكاد يخطئ...قال المناوي (شارح الجامع الصغير): أخبرني الولد (أي: ولده سيدي زين العابدين الولي الكبير): ما تلبست بحال إلا كاشفني به وهو مقيم عند بعض النساء البغيات بباب الفتوح...(1).
- ويتساءلون: ما سبب فساد الأمة الإسلامية؟ ونتساءل: لم حرم الله الزنا؟ وفَرَض حد الزاني والزانية؟
* وبدون عنوان كذلك:-
مما يورده يوسف النبهاني:
...وقال العارف النابلسي (عبد الغني) في شرح الطريقة المحمدية: قال القسطلاني: وأخبرني شيخ الإسلام البرهان بن أبي شريف أنه كان يقرأ خمس عشرة ختمة في اليوم والليلة(2)...
- وكذلك لا تعليق، لكنها على كل حال أهون من ثلاثمائة وستين ألف ختمة!
* عودة إلى الجيلاني (قطب الأولياء):-
يقول: ...تدري كم عنده (أي: عند الله) من الطاعات والصوم والصلاة لا يعبأ بها، إنما مراده منك قلب صاف من الأقدار والأغيار(3)...
- إذن، وحسب تقرير الجيلاني، الله سبحانه لا يعبأ بالطاعات (ويجب أن ننتبه إلى أن الطاعات هي الشريعة الإسلامية وما فيها من عبادات وأخلاق ومعاملات)، ويقرر أن الله لا يريد إلا البلاهة الصوفية والعته الذي يقودهم إلى الجذبة ثم إلى شهود وحدة الوجود (صاف من الأقدار والأغيار).
أوَليس هذا التقرير هو افتراء على الله الكذب، وهو ضلال موغل في الضلال.
لكن، أيها القارئ الكريم، إنك لن تعدم مخادعاً أو مغفلاً يقول لك: هذا الكلام له تأويل! فنقول له: التأويل ضلال وتضليل، وكذب وأحابيل، ومكر بالمسلمين لإخراجهم من النور إلى الظلمات. أو يقول لك: هذا مدسوس، فنجيبه:
أولاً: ألا لعنة الله على الكاذبين.
ثانياً: هذه هي عقيدة القوم ومشربهم والغاية التي يسعون إليها، فلماذا تكون مدسوسة؟ ومن يفكر يدسها؟
__________
(1) جامع الكرامات للنبهاني (1/555).
(2) جامع الكرامات: (1/411).
(3) الفتح الرباني، (ص:357).(2/42)
ثالثاً: إن كانت مدسوسة فلِمَ لا يحذفونها من كتبهم، وعلماؤهم وأبدالهم هم الذين يشرفون على طبع كتبهم.
* الجنة بالمجان (بالبلاش):-
(فائدة جليلة)، قال سيدنا أحمد التجاني رضي الله عنه: ذكر ليلة الجمعة مائةً من صلاة الفاتح لما أغلق، بعد نوم الناس، يكفر ذنوب أربعمائة سنة(1) اهـ.
- نص صلاة الفاتح لما أغلق: اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، والهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم.
- تكملة: يظهر أن هذا الحكم قد نسخ، فقد ورد في كشف الحجاب:
...وإن المرة الواحدة منها فدية من النار، وإن من ذكرها مرة واحدة يغفر الله له ذنوبه ولو كانت في عمره مائة ألف سنة، وإن المرة الواحدة منها بأربعمائة غزوة كل غزوة بأربعمائة حجة. وإن ذاكرها يعطى ثواب كل ذاكر في الكون بأضعاف مضاعفة قل أو كثر. وإن المرة الواحدة منها تعدل ستمائة ألف صلاة من مطلق الصلوات من صلاة كل ملك وصلاة كل إنس وصلاة كل جان. وقال (أي: أحمد التجاني) -رضي الله عنه-: ما أعد الله تعالى لذاكر صلاة الفاتح لما أغلق من الفضل لا يحل لي ذكره، ولا يظهر إلا في الدار الآخرة(2).
- سؤال: ذكر كل ما ذكر من عظائم (صلاة الفاتح)، ومع ذلك يقول: إن هناك من الفضل ما لا يحل له ذكره! فما هو هذا الذي لا يحل ذكره؟ وهل هناك أكبر وأفظع مما ذكر؟ ونترك التعليق والمناقشة لكل من كان عنده ذرة من إيمان من ذرة من عقل مع ذرة من حياء.
* كرامة من جملة الكرامات وصوم أيضاً (من مقام المجاهدة):-
و.. (ومنهم أبو عبد الله بن خفيف)...وبقي في بدايته أربعين شهراً يفطر بكف باقلاء (أي: فول) حتى جف دمه، ويقرأ القرآن في كل ركعة، ويصلي كل يوم ألف ركعة، ودخل بغداد وبقي بها أربعين يوماً لا يأكل ولا يشرب(3)...
__________
(1) غاية الأماني، (ص:97).
(2) كشف الحجاب، (ص:375).
(3) حاشية العروسي: (2/6).(2/43)
- فلنتناس هنا- من أجل خاطرهم- حكم الشريعة الإسلامية على هذه البدع وما فيها من ورع هندوسي. ولننتبه فقط إلى أنه يصلي كل يوم ألف ركعة، ويقرأ في كل ركعة القرآن كله؟ أي: إنه يختم في اليوم ألف ختمة. ثم لنسكت شاكين إلى الله ما حل بهذه الأمة من هذه الطائفة.
يقول شاعرهم:
قلوب العارفين لها عيونٌ ... ... ترى ما لا يراه الناظرونا
هذا توضيح للرؤى الكشفية، فالمكاشف يرى أشياء لا وجود لها! يراها كما نرى الأشياء الموجودة أمام أعيننا، ويعزون ذلك إلى قوة في القلب يسمونها (السر)، ويقولون: إن السر بالنسبة للقلب كالروح بالنسبة للجسد، وطبعاً، هذا كله وهم في وهم، وفي فصل لاحق سنرى كيف تحدث الرؤى الكشفية، مع العلم أن مثلها تماماً يحدث لمن يتعاطى المخدرات التحشيشية الأفيونية وتلك الزمرة.
* كشوف يجهلها الواقع:-
قطب الغوث علي وفا كان يقول:
العلقة التي حول حبة القلب هي الحية المطوقة حول العرش من الملكوتي، والحية المطوقة بعين الحياة من الجبروتي، والحية المطوقة بقاف من الملكي، وكان رضي الله عنه يقول: البطن الأوسط من الدماغ المسمى بالدودة هو الذي قوته تنشئ حرير أهل الجنان...(1).
- إذن، فالقلب هو العرش؟ ولكن أين هي عين الحياة والحية التي تطوقها، وكذلك جبل قاف وحيته؟؟ لكن الكشف هو حق اليقين يرى ما لا يراه الناظرونا، وعندما يقول الكشف: إن هناك عين الحياة، وجبل قاف، و...، و...فيجب أن نصدقه؛ لأنه كشف! وكشف على من؟ على أولياء صديقين أقطاب أغواث.
فصدق أيها القارئ، وسلم تسلم، أما عقلك وبصرك وسمعك فادفنها في أي مكان يعينه الكشف، وحسبك الكشف، أما القرآن والسنة فيجب عرضهما على الكشف- كما يقول حجة الإسلام الإمام الهمام- فما وافق الكشف قرروه، وما خالف أولوه...
* من أحوال ومقامات (انتشار الحشيش في مصر) والإفطار في رمضان:-
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/34).(2/44)
ومنهم سيدي الشريف المجذوب رضي الله تعالى عنه ورحمه؛ كان رضي الله عنه ساكناً تجاه المجانين بالمارستان المنصوري، وكان له كشف ومثاقلات للناس الذين ينكرون عليه، وكان رضي الله عنه يأكل في نهار رمضان، ويقول: أنا معتوق أعتقني ربي، وكان كل من أنكر عليه يعطبه في الحال!!...وكان رضي الله عنه يتظاهر ببلع الحشيش، فوجدوها يوماً حلاوة، وكان قد أعطاه الله تعالى التمييز بين الأشقياء والسعداء في هذه الدار...(1) ترلم ترلم...
- يفطر في رمضان رضي الله عنه! ويبلع الحشيشة متظاهراً، رضي الله عنه!
السؤال البسيط: ما هي الفائدة الدينية والدنيوية والشرعية والعقلية والمنطقية والصبيانية والغوغائية والجنونية والغبائية والذكائية...و...؟ ما هي الفائدة، أية فائدة من التظاهر ببلع الحشيش؟ وهل يريد الله سبحانه من أوليائه أن يفطروا في رمضان ويتظاهروا بالخبائث؟! لكن ما شأننا نحن؟ فهؤلاء هم المقربون وكفى! ثم يتساءل المتسائلون: ما هو سبب فساد هذه الأمة؟ ويتساءلون: ما هو سبب انتشار الحشيش؟
* ولايته تجمده:-
ومنهم سيدي علي الدميري المجذوب رضي الله تعالى عنه: كان رضي الله عنه جالساً ليلاً ونهاراً على دكان بياع الرقاق تجاه حمام المارستان، وكان رضي الله عنه لا يتكلم إلا نادراً، وكان مكشوف الرأس ملفوفاً في بردة كلما تتقطع يبدلونها له بأخرى، أقام على هذه الحالة نحو عشرين سنة!! وكان كلما رآني تبسم، مات رضي الله عنه سنة خمس وعشرين وتسعمائه، ودفن بالمسجد الذي بقرب باب النصر اليشبكي، وقبره ظاهر يُزار رضي الله عنه(2)!!
- السؤال: ما هو قول القارئ بأمة تقدس المجانين ومرضى الأعصاب والحشاشين والأفيونيين؟!
* الصوفي يصور ما في الأرحام كيف يشاء:-
يقول عبد الله اليافعي (الغوث):
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/150).
(2) طبقات الشعراني: (2/150).(2/45)
...وروي عن بعض الأولياء الكبار أنه طلب منه بعض الناس أن يدعو له الله تعالى أن يرزقه ولداً ذكراً، فقال: إن أحببت ذلك فسلم للفقراء مائة دينار، فسلم إليه ذلك، ثم جاء بعد ذلك بمدة وقال له: يا سيد وعدتني بولد ذكر وما وضعت امرأتي إلا أنثى، فقال له الشيخ: الدنانير التي سلمتها ناقصة. قال يا سيدي! ما هي ناقصة إلا شيئاً يسيراً. فقال له الشيخ: ونحن أيضاً ما نقصناك إلا شيئاً يسيراً، فإن أحببت أن نوفي لك فأوف لنا. فقال: نعم يا سيدي، ثم ذهب وعاد إليه بتوفية ذلك النقصان، فقال له الشيخ: اذهب فقد أوفينا لك كما أوفيت، فرجع إلى منزله، فوجد غلاماً بقدرة الله تعالى وإكرامه لأوليائه عز وجل(1).
ويقول (مزهداً بالعلم):
ورُوي أن جماعة من أهل العلم قصدوا زيارة بعض الشيوخ، فلما أتوه وجدوه يَلْحَن في قراءته في الصلاة، فتغير اعتقادهم فيه، فلما ناموا تلك الليلة أجنبوا كلهم، فخرجوا ليغتسلوا في بركة ماء، فوضعوا ثيابهم ودخلوا في الماء، فجاء الأسد وجلس على ثيابهم، فلم يقدروا يخرجون، فلاقوا شدة من شدة البرد، فجاء الشيخ، وزجر الأسد، وقال له: ما قلت لك لا تتعرض لضيفاني، فبصبص وذهب، ثم قال لهم الشيخ: أنتم اشتغلتم بإصلاح الظاهر فخفتم الأسد، ونحن اشتغلنا بإصلاح الباطن فخافنا الأسد(2).
* الملحوظة:
التزهيد بالعلم والدعوة إلى الجهل هي من الواجبات الأولى للمتصوفة.
* الكعبة تذهب لتطوف حولهم:-
ويقول اليافعي أيضاً:
...وأعظم من ذلك وأفضل طواف الكعبة المعظمة بكثير منهم، وكل ذلك مشهور مذكور بالأسانيد الصحيحات(3)...
* تعليق:
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:22).
(2) نشر المحاسن الغالية، (ص:31، 32).
(3) نشر المحاسن الغالية، (ص:33).(2/46)
قيل مرة (بل مرات كثيرة جداً): الحج هذه السنة هو حج أكبر؛ لأن الكعبة كانت، كل سنة، تأتي إلى شيخنا لتطوف حوله، أما هذه السنة فقد جاء الشيخ ليطوف هو حولها، فهنيئاً لحجاج هذا العام! وفي الحقيقة إنهم يرون هذا في أحلام الجذبة.
- ثم يتساءلون عن سبب فساد الأمة؟ وسيطرة الجهل والتفكير الضبابي والخرافي عليها، مما سبب لها هذا العقم القاتل، والضياع الذهولي في مسارح التمثيليات الإبليسية.
* من أقوال جلال الدين الرومي:-
من ناحية تبريز أشرقت شمس الحق، فقلت لها: نورك مقترن بالأشياء، وهو في الوقت نفسه مفارق لها. إن شمس محيا (شمس الدين) بهاء الأفق، لم تشرق يوماً على ما هو فانٍ إلا وهبته طبيعة البقاء(1)...
- يعني بشمس الحق أستاذه شمس الدين، ووحدة الوجود ظاهرة في النص.
* من التفسير الصوفي:-
يقول ابن عربي في (تفسيره): ((ق)) [ق:1]: إشارة إلى القلب المحمدي، الذي هو العرش الإلهي المحيط بالكل...
- والتعليق للقارئ، مع التنبيه إلى عقيدتهم في الحقيقة المحمدية.
* من تفسيرهم أيضاً:-
للشيخ الأكبر والكبريت الأحمر نفسه:
((ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)) [القلم:1]: ((ن)) [القلم:1]: هو النفس الكلية، ((وَالْقَلَمِ)) [القلم:1]: هو العقل الكلي، والأول من باب الكناية بالاكتفاء من الكلمة بأول حروفها. والثاني (أي: القلم) من باب التشبيه...
- هذا تفسير يظهر ارتباط المتصوف بقناعاته المسبقة، وأن كشفه تابع لتلك القناعات.
* من كذبهم على الأنبياء:-
يقول الغزالي في (الإحياء):
__________
(1) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:73، 74).(2/47)
...وروي أن عيسى عليه السلام مكث يناجي ربه ستين صباحاً لم يأكل، فخطر بباله الخبز، فانقطع عن المناجاة، وإذا شيخ قد أظله، فقال له عيسى: بارك الله فيك يا ولي الله، ادع الله تعالى لي فإني كنت في حالة فخطر ببالي الخبز، فانقطعت عني، فقال الشيخ: اللهم إن كنت تعلم أن الخبز خطر ببالي منذ عرفتك فلا تغفر لي، بل كان إذا حضر لي شيء أكلته من غير فكر وخاطر(1)...
* الملحوظات:
الكذب على رسول الله عيسى، وتعظيم أمر الجوع على الطريقة الهندوسية المحرمة في الإسلام، وذلك لتبرير رياضتهم الصوفية، ثم جَعْلُ الولي أفضل من النبي، حيث إن عيسى عليه السلام قصَّر عن شأو الولي!! وكل هذه الثلاثة هي من الكبائر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
* حِكَم بدون تعليق:-
يقول الغزالي في (إحيائه): ...ثانياً: أن يكون مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع، من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة، فهذا شخص قيَّده معتقده عن أن يجاوزه، فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده، فصار نظره موقوفاً على مسموعه، فإن لمع برق على بُعْد وبدا له معنى من المعاني التي تباين مسموعَه حمل عليه شيطان التقليد حملة وقال: كيف يخطر هذا ببالك وهو خلاف معتقد آبائك؟ فيرى أن ذلك غرور من الشيطان، فيتباعد منه ويحترز عن مثله، ولمثل هذا قالت الصوفية: إن العلم حجاب، وأرادوا بالعلم العقائد التي استمر عليها أكثر الناس بمجرد التقليد أو بمجرد كلمات جدلية حررها المتعصبون للمذاهب وألقوها إليهم؛ فأما العلم الحقيقي الذي هو الكشف والمشاهدة بنور البصيرة فكيف يكون حجاباً وهو منتهى الطلب(2)..
وأترك التعليق لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؛ لكن أرجو الانتباه إلى الدعوة إلى الجهل.
ويقول الطوسي:
__________
(1) إحياء علوم الدين: (3/72).
(2) الإحياء: (1/255).(2/48)
...قال أبو بكر الكتاني: قال أبو حمزة: دخلت على سري، فجاءني بفتيت، فأخذ يجعل نصفه في قدح، فقلت له: أيش هو ذا تعمل؟ أنا أشرب هذا كله في مرة. فضحك وقال: هذا أفضل لك من حجة(1).
- يا سلام! شرب الفتيت أفضل من حجة! نسأله: ما هو دليله؟ لعله الكشف؟ لا نعرف.
* نصوص يتسلى القارئ بتحليلها وفك رموزها (بهدوء):-
قيل لابن عطاء: ما يفعل الذكر بالسرائر؟ فقال: ذكر الله تعالى إذا ورد على السرائر بإشراقه أزال البشرية في الحقيقة برعوناتها(2).
وقال الشبلي: الأرواح تلطفت، فتعلقت عند لدغات الحقيقة، فلم تر معبوداً يستحق العبادة عن أن تتقرب إلى ذلك الشاهد بغير ذلك المشاهد، وأيقنت أن الحدث لا يدرك القديم بصفته المعلولة(3).
- تسهيلاً للتحليل: يعني بـ (صفته المعلولة) أي: صفته على أنه غير الله، التي هي صفة معلولة وليست صحيحة.
وقال الشبلي أيضاً: كل إشارة أشار الخلق بها إلى الحق، فهي مردودة عليهم، حتى يشيروا إلى الحق بالحق، ليس لهم إلى ذلك طريق(4).
وسئل الجنيد مرة عن الإخلاص، فقال: إخراج الخلق من معاملة الله تعالى، والنفس أول الخلق(5).
سئل الزقاق عن المريد، فقال: حقيقة المريد أن يشير إلى الله تعالى، فيجد الله مع نفس الإشارة(6).
...وقال قوم: السر سران: سر للحق، وهو ما أشرف عليه بلا واسطة؛ وسر للخلق، وهو ما أشرف عليه الحق بواسطة. وقال: سر من السر للسر، وهو حق لا يظهر إلا بحق، وما ظهر بخلق فليس بسر(7).
- لتيسير التحليل: كل العبارات السابقة تشير إلى وحدة الوجود، وكذلك اللاحقة.
* من رسالة من الجنيد إلى أحدهم (يأمره بالتقية وكتم السر والتظاهر بما عليه الناس):-
__________
(1) اللمع، (ص:242).
(2) اللمع، (ص:290).
(3) اللمع، (ص:293).
(4) اللمع، (ص:295).
(5) اللمع، (ص:290).
(6) اللمع، (ص:295).
(7) اللمع، (ص:303).(2/49)
...فعليك رحمك الله بضبط لسانك، ومعرفة أهل زمانك، وخاطب الناس بما يعرفون، ودعهم مما لا يعرفون، فقلَّ مَن جهل شيئاً إلا عاداه...واخرجْ إلى الخلق من حالك بأحوالهم، وخاطبهم من قلبك على حسب مواضعهم(1)...
كتب أبو سعيد الخراز إلى أبي العباس أحمد بن عطاء: يا أبا العباس، تعرف لي رجلاً قد كملت طهارته، وبرئ من آثار نفسه عنه به له، موقوت مع الحق بالحق للحق، من حيث أوقفه الحق، حيث لا له ولا عليه، فالحق يعلله امتحان(2) له، وامتحان للخلق به؟ فإن عرفت لي هذا فدلني عليه(3).
وكتب الجنيد إلى أحدهم: آثرك الله يا أخي بالاصطفاء، وجمعك بالاحتواء، وخصك بعلم أهل النهى...وتمم لك ما تريد منك له، ثم أخلاك منك له ومنه له به، ليُفْرِدَك في تقلبه لك، بما يُشهدك، من حيث لا يَلْحقك شاهد من الشواهد يخرجك، فذلك: أول الأول الذي محا به رسوم ما ترادف مما غيَّبه به عنك بعلوِّ ما استأثر به منه له، ثم أفردك منك لك، في أول تفريد التجريد، وحقيقة كائن التفريد، فكذلك إذا انفرد بذلك أباد، وأفنى الإبادة ما سلف من الحق من الشاهد، بعد إفناء محاضر الخلق، فعند ذلك يقع حقيقة الحقيقة من الحق للحق، ومن ذلك: ما جرى بحقيقة علم الانتهاء إلى علم التوحيد على علم تفريد التجريد، فقد عززه الله وحجبه عن كثير ممن ينتحله ويدعيه، ويتحققه ويصطفيه(4).
وكتب الجنيد أيضاً: أكرمك بطاعته، وخصك بولايته، وجلَّلك بستره...وألزمك بابه، وكلفك خدمته، حتى تكون له موافقاً، ولكأس محبته ذائقاً، فيتصل العيش بالعيش، والحياة بالحياة، والروح بالروح، فتتم النعمة(5).
__________
(1) اللمع، (ص:312).
(2) يجب أن تكون: (امتحاناً له).
(3) اللمع، (ص:305).
(4) اللمع، (ص:313).
(5) اللمع، (ص:313).(2/50)
يقول أبو نصر الطوسي واصفاً أقوال الجنيد هذه: ...فيها إشارات لطيفة، ورموز خفية، تعبر عن الحقائق المشكلة، وتنبئ عن السرائر والخصوصية التي تفرد بها هذه العصابة في تجريد التوحيد، وحقيقة التفريد(1).
- انتبه إلى العبارة: (الخصوصية التي تفرد بها هذه العصابة في تجريد التوحيد وحقيقة التفريد.
ومن رسالة بعثها أبو سعيد بن الأعرابي لآخر: أماتك الله عنك، وأحياك به، وأيدك بالفهم، وفرغ قلبك من كل وهم، وأفناك بالقرب عن المسافة، وبالأنس عن الوحشة(2).
ومن رسالة لأبي سعيد الخراز بعثها إلى آخر: عصمك الله بذكره عن نفسك، وكاشفك بشكره عن وصفك...وأنا أسأل الله تعالى أن يجمع لك من نفسك ما فرق، ويبين عنك منها ما جمع، إنه الولي لذلك والقادر عليه(3).
* التنبيه:
من نظر في هذه النصوص فليتأمل، وليحاول فهمها بهدوء، وليرجع إلى النصوص السابقة في الكتاب وخاصة فصل (المدخل إلى فهم النصوص الصوفية).
* تعريف الكشف:-
يقول مصطفى بن محيي الدين نجا(4):
...والكشف لغةً رفع الحجاب، وفي اصطلاح أهل الحقيقة، هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الخفية وجوداً وشهوداً، وليس هو كما يُكْشف الغطاءُ عن الآنية والستر عن الباب، بل هو أمر إذا ظهر يرى العبد أن ذلك لم يكن مستتراً بشيء، وإنما الإدراك كان قاصراً عن الوصول، فقواه الحق تعالى، فأدرك ما كان ظاهراً(5).
* كل المعبودات حق:-
يقول ابن عربي (الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر):
__________
(1) اللمع، (ص:314).
(2) اللمع، (ص:315).
(3) اللمع، (ص:315).
(4) من تلاميذ نور الدين اليشرطي.
(5) كشف الأسرار لتنوير الأفكار، (ص:125).(2/51)
...فمن عناية الله بنا، لما كان المطلوب من خلقنا عبادته، أن قرَّب علينا الطريق بأن خلقنا من الأرض التي أَمَرَنا أن نعبده فيها، ولما عبد منا من عبد غير الله، غار الله أن يُعبد في أرضه غيره، فقال: ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)) [الإسراء:23]، أي حكم، فما عبد من عَبَد غير الله، إلا لهذا الحكم، فلم يُعبد غير الله وإن أخطئوا في النسبة، إذ كان لله في كل شيء وجه خاص، به ثبت ذلك الشيء، فما خرج أحد عن عبادة الله(1).
- إذن فالأوثان والأصنام وكل ما عبد من إنسان وشجر وقبر، كله هو الله. وقد مرَّ معنا في النصوص السابقة أمثلة كثيرة من نفس المعنى.
يقول الغزالي في الإحياء:
.. قال سهل: من طعن على التكسب فقد طعن على السنة، ومن طعن على ترك التكسب فقد طعن على التوحيد(2).
- نقول: هذا اعتراف من القطب سهل (ابن عبد الله التستري) ومن الحجة الغزالي أن الصوفية ليست من الإسلام. إذ يجعل (بل يجعلان) التوحيد مخالفاً للسنة في التكسب. وبقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {من رغب عن سنتي فليس مني}، إذن فهم ليسوا من رسول الله.
ويقول الغزالي أيضاً:
...قال أبو سعيد الخراز: دخلت البادية بغير زاد، فأصابتني فاقة، فرأيت المرحلة من بعيد، فسُررت بأن وصلت، ثم فكرت في نفسي أني سكنت واتكلت على غيره (أي: على غير الله)، وآليت أن لا أدخل المرحلة إلا أن أُحمل إليها! فحفرت لنفسي في الرمل حفرة وواريت جسدي فيها إلى صدري، فسمعت صوتاً في نصف الليل عالياً: يا أهل المرحلة، إن لله تعالى ولياً حبس نفسه في هذا الرمل فالحقوه(3)..
__________
(1) الفتوحات المكية: (3/248).
(2) الإحياء: (4/232).
(3) الإحياء: (4/233).(2/52)
- التعليق: هذا شيطان يضحك على ذقنه وذقونهم ليدفعهم إلى التوغل في الضلال والزندقة؛ لأن خروجه هكذا ليس من الإسلام في شيء، بل هو من الهندوسية، وادعاؤه الولاية هو افتراء على الله الكذب ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:49، 50].
* الكذب على أنبياء الله ووصفهم بما لا يوصف به إلا المجانين:-
يقول الغزالي نفسه:(2/53)
...قال يحيى بن أبي كثير: بلغنا أن داوُد عليه السلام كان إذا أراد أن ينوح، مكث قبل ذلك سبعاً لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يقرب النساء، فإذا كان قبل ذلك بيوم، أُخرج له المنبر إلى البرية، فأمر سليمانَ أن ينادي بصوت يستقري البلاد وما حولها من الغياض والآكام والجبال والبراري والصوامع والبيع، فينادي فيها: ألا من أراد أن يسمع نوح داوُد على نفسه فليأت، قال: فتأتي الوحوش من البراري والآكام، وتأتي السباع من الغياض، وتأتي الهوام من الجبال، وتأتي الطير من الأوكار، وتأتي العذارى من خدورهن، وتجتمع الناس لذلك اليوم، ويأتي داوُد حتى يرقى المنبر، ويحيط به بنو إسرائيل، وكل صنف على حدته، محيطون به، وسليمان عليه السلام قائم على رأسه، فيأخذ في الثناء على ربه، فيضجون بالبكاء والصراخ، ثم يأخذ في ذكر الجنة والنار، فتموت الهوام وطائفة من الوحوش والسباع والناس، ثم يأخذ في أهوال القيامة، وفي النياحة على نفسه، فيموت من كل نوع طائفة، فإذا رأى سليمان كثرة الموتى قال: يا أبتاه، مزقت المستمعين كل ممزق...ثم إذا أفاق داوُد، قام ووضع يده على رأسه، ودخل بيت عبادته، وأغلق بابه، ويقول: يا إله داوُد، أغضبان أنت على داوُد؟ ولا يزال يناجي ربه، فيأتي سليمان ويقعد على الباب، ويستأذن ثم يدخل ومعه قرص من شعير، فيقول: يا أبتاه، تقو بهذا على ما تريد...
وقال يزيد الرقاشي: خرج داوُد ذات يوم بالناس يعظهم ويخوفهم، فخرج في أربعين ألفاً، فمات منهم ثلاثون ألفاً، وما رجع إلا في عشرة آلاف. قال: وكان له جاريتان اتخذهما، حتى إذا جاءه الخوف وسقط فاضطرب، قعدتا على صدره وعلى رجليه مخافة أن تتفرق أعضاؤه ومفاصله فيموت(1)...اهـ.
__________
(1) الإحياء: (4/158، 159).(2/54)
- أرجو من القارئ الكريم، رجاءً حاراً، أن يصدقني، وإن لم يصدقني فإني مستعد لتأدية اليمين، أن هذه القصص ليست من هذيانات صبي في أحلام اليقظة! وليست من ثرثرات حشاش تناول نصف رطل من الأفيون، وليست من خبالات مجنون في ثورة جنونه...وإنما هي دعوة غزالية إلى الأخلاق الغزالية، وإلى المقامات الصوفية، يقذف بها حجة الكهانة (وأقطابه السابقون واللاحقون)، يقذفون بها حمماً وسموماً ومخدرات، دمرت عقل المسلم وقتلت منطق المسلم وخدرت نفسية المسلم، وأوصلت المجتمعات الإسلامية إلى ما تتخبط فيه الآن من رؤى ضبابية لكل الأمور، في دينها ودنياها، حتى أصبح المسلمون ألعوبة بيد كهان الشيوعية يقذفونهم يميناً وشمالاً كما يتقاذفون الكرة بينهم، يقيمونهم ببعض الشعارات ويقعدونهم ببعض آخر.
وهذه القصص هي قبل كل شيء كذب على رسل الله. كما أنها تذكرنا بالتمثيليات الوثنية التي كان يمثلها الكهنة الوثنيون في أعيادهم الوثنية ليبعثوا بها في الأذهان الوثنية، صوراً وثنية، يتصورون أنها حدثت لآلهتهم الوثنية، في أزمنتها الوثنية الأولى. وهي أنموذج لما يسميه الغزالي (المنجيات)!!
* من مقامات الصبر، أو الجوع:-
...سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله يذكر بإسناده أن أبا عقال المغربي أقام بمكة أربع سنين لم يأكل ولم يشرب إلى أن مات(1).
- الجواب على هذا وأمثاله هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم في (صحيح مسلم):
قال: {إن أحب الصيام إلى الله صيام داوُد...كان يصوم يوماً ويفطر يوماً}. وفي حديث آخر: {...ولا يفر إذا لاقى}.
وقال صلى الله عليه وسلم: {لا صام من صام إلى الأبد، لا صام من صام إلى الأبد، لا صام من صام إلى الأبد}.
وقال: {...ولكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر...فمن رغب عن سنتي فليس مني}.
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:35).(2/55)
هذه الأحاديث تخرج هذا (الولي) من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي تخرجه (وزمرته معه أيضاً) من الإسلام، ومع ذلك تدرَّس الرسالة القشيرية في مساجد المسلمين على أنها كتاب إسلامي، والمشتكى إلى الله.
* صورة من حالات الجذبة:-
يقول القشيري:
...دخل بعض الفقراء على أبي عقال، فقال له: سلام عليكم. فقال له أبو عقال: وعليكم السلام. فقال: أنا فلان. فقال أبو عقال: أنت فلان، كيف أنت وكيف حالك؟ وغاب عن حالته؛ قال هذا الرجل: فقلت له: سلام عليكم، فقال: وعليكم السلام. كأنه لم يرني قط! ففعلت مثل هذا غير مرة! فعلمت أن الرجل غائب فتركته وخرجت من عنده(1).
- هذه الصورة تساعد على فهم الحالة التي يكون فيها المجذوب أثناء جذبته، وهي تشبه تماماً حالة الحشاش أثناء تحشيشه.
* علم الصوفي، الشيخ، مثل علم الله تماماً:-
...وأما شيخنا سيدي علي الخواص، فسمعته يقول: لا يكمل الرجل عندنا حتى يعلم حركات مريده في انتقاله في الأصلاب وهو نطفة، من يوم: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)) [الأعراف:172]، إلى استقراره في الجنة أو في النار(2)...
- العجب العجاب، إن كشفهم يجهل مثلهم كل شيء، ولا يفهم مثلهم أي علم، ثم يدعون العلم الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه، وهي صورة من الإحساسات الخداعة، التي يحس بها المكاشف أثناء الجذبة، يحدث مثلها لمن يتعاطى المخدرات التحشيشية.
* محاربة العلم:-
يقول ابن عربي (الشيخ الأكبر):
لطيفة - من قال لك: لا تبرح من العلم، فقد قتلك بسيف الأبد.
إشارة - قالت طائفة: العلم حجاب. وذلك لأنه يعمر منك ما ينبغي أن تفرغه للرؤية (أي: لرؤية الله)، فلا تتعلم، أي: لا تقف مع العلم.
إشارة - العلم ليل لا صبح له، ومن قطع المفاوز في الظلمات وهو غير حِرِّيت، زاد تيهاً على تيه(3).
* المناقشة:
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:35).
(2) الكبريت الأحمر هامش اليواقيت والجواهر: (2/3).
(3) رسائل ابن عربي (كتاب التراجم)، (ص:58).(2/56)
الجهل ومحاربة العلم هي دعوة المتصوفة في كل زمان ومكان. وإذا عرفنا أن العارفين ألفٌ، وأن المتكلم واحد- كما يقول عبد القادر الجيلاني- عرفنا مدى الدور الرهيب الذي لعبته الصوفية في فساد الأمة الإسلامية وجهلها وانحطاطها وابتعادها عن الإسلام.
* ودائماً محاربة العلم:-
يقول ابن الملقن:
وروي عنه (محمد بن علي الكتاني) أنه قال: كنت وأبو سعيد الخراز وعباس بن المهتدي، وآخر لم يذكره، نسير بالشام على ساحل البحر، وإذا شاب يمشي ومعه محبرة، فظننا أنه من أصحاب الحديث، فتثاقلنا به، فقال أبو سعيد: يا فتى على أي طريق تسير؟ فقال: ليس أعرف إلا طريقين، طريق الخاصة، وطريق العامة، أما طريق العامة فهذا الذي أنتم عليه، وأما طريق الخاصة، فباسم الله، وتقدم إلى البحر، ومشى حيالنا على الماء، فلم نزل نراه حتى غاب(1).
- أما محاربة العلم في هذه القصة فظاهرة. وأما الشاب الذي مشى على الماء فهو أحد أمرين لا ثالث لهما: إما أنه شيطان تراءى لهم ليزيدهم غلواً في ضلالهم. أو هو إنسان صوفي استحوذ عليه شيطانه واتخذه شركاً يوقع به الناس في الضلال أو يزيدهم به غلواً فيه.
* مقام! لعله من مقام المجاهدة:-
...سمعت أبا الطيب العكِّي يقول: ذكر لي أن سحنون كان جالساً على شاطئ الدجلة، وبيده قضيب يضرب به فخذه، حتى بان عظم فخذه وساقه، وتبدد لحمه، وهو يقول:
كان لي قلب أعيش به ... ... ضاع مني في تقلبه
رب فاردده عليّ فقد ... ... ضاق صدري في تطلبه
وأغث ما دام بي رمق ... ... يا غياث المستغيث به(2)
ويترك التعليق هنا لكل من يريد التعليق، مع التذكير بأن مدمن الأفيون عندما ينقطع عنه مدة يصاب بمثل هذه الحالات.
* بدون عنوان:-
__________
(1) طبقات ابن الملقن، (ص:147).
(2) طبقات السلمي، (ص:197).(2/57)
عبد الله بن علوي ابن الأستاذ الأعظم(1)....من كراماته: أن رجلاً أنشد أبياتاً تتعلق بالبعث والحساب، فتواجد صاحب الترجمة وخر مغشياً عليه، فلما أفاق قال للرجل: أعد الأبيات. فقال الرجل: بشرط أن تضمن لي الجنة. فقال: ليس ذلك إلي، ولكن اطلب ما شئت من المال، فقال الرجل: ما أريد إلا الجنة، وإن حصل لنا شيء ما كرهنا؛ فدعا له بالجنة، فحسنت حالة الرجل وانتقل إلى رحمة الله، وشيعه السيد عبد الله المذكور، وحضر دفنه، وجلس عند قبره ساعة فتغير وجهه ثم ضحك واستبشر، فسئل عن ذلك، فقال: إن الرجل لما سأله الملكان عن ربه، قال: شيخي عبد الله باعلوي، فتعبت لذلك، فسألاه أيضاً، فأجاب بذلك، فقالا: مرحباً بك وبشيخك عبد الله باعلوي.
قال بعضهم: هكذا ينبغي أن يكون الشيخ، يحفظ مريده حتى بعد موته(2).
* الملحوظات على هذا الشرك وما يرافقه من هذيانات واضحة، لكن ألفت النظر فقط إلى دور شياطين الجن في المسرحية (هذا إن كان الشيخ صادقاً في قوله).
* من مقام الغوثية (التصرف في الكون):-
ومنهم الشيخ عبد الله، أحد أصحاب سيدي عمر النبتيتي.. كتب لي أنه رآني بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أَلْبِسْ عبد الوهاب (الشعراني) طاقيتي هذه وقل له يتصرف في الكون، فما دونه مانع(3)...
- الجواب: ((كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا)) [الكهف:5]؛ لكن يجب ألا نظن أنه يكذب في ادعائه الرؤية، بل هو صادق رأى ما رأى بالكشف وفي اليقظة؟
* من تلاعبات الشياطين بعقولهم:-
__________
(1) مات سنة: (731هـ).
(2) جامع النبهاني: (2/244، 245).
(3) جامع النبهاني: (2/275).(2/58)
عبد الرحمن بن الأستاذ الأعظم... وكان لبعض الأولياء الأموات قنديل يسرج كل ليلة في مسجد بني علوي (في بلدة تريم في حضرموت)، فانكسر القنديل فتركوا تسريجه، وكان صاحبه لا يعرفه أحد، فرأى السيد عبد الرحمن المذكور صاحب القنديل (أي: الميت) وهو يقول: أنا صاحب القنديل وتركتمونا بلا سراج، فقال له: قنديلك انكسر، فقال: في هذا الثقب درهم، وأشار إلى ثقب في داره، فلما أصبح أتى تلك الدار، ورأى الثقب، وإذا فيه درهم، وجاء إلى بائع القناديل، فقال: لم يبق شيء، فقال السيد عبد الرحمن: انظروا وراء الزير فإن فيه قنديلاً؟ ونظر فإذا قنديل لم يكن رآه قبل ذلك(1).
* التعليق:
لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من يتخذ السرج على القبور، فالمتخذون السرج على القبور هم من الملعونين ومن أولياء الشيطان، وليسوا من أولياء الرحمن، ودور شياطين الجن واضح في مثل هذه المسرحيات.
* فرعون صادق في ادعائه الربوبية وكل إنسان هو الرب:-
يقول حجة الإسلام الغزالي (وفي الإعادة إفادة):
...ولذلك قال بعض مشايخ الصوفية: ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله: ((أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)) [النازعات:24]؛ ولكنه ليس يجد له مجالاً، وهو كما قال(2)...
* التعليق: مر هذا في مكان سابق، ونعيده لاختلاف اللفظ، مع الرجاء أن ينتبه القارئ إلى قوله: (ما من إنسان..).
يقول عبد الغني النابلسي معارضاً من قصيدة:
وما الكل إلا صورة مستحيلة ... ... كماء له موج وفيه فواقع(3)
- السؤال: ما معنى هذا البيت؟ وما هو بيت الشعر الذي يعارضه به؟ ولمن؟
ويقول عبد الغني نفسه من موشح:
كل شيء عقد جوهر ... ... حلية الحسن المهيب
ويقول:
هذه الأكوان أجمعها ... ... شمة من وردة الأزل
أرجو من القارئ الكريم أن يتسلى بتفسير هاذين البيتين.
__________
(1) جامع النبهاني: (2/147).
(2) الإحياء: (3/243)، (4/61).
(3) الرمز الشعري عند الصوفية، (ص:247).(2/59)
* من (الصلاة الكبرى) لسيدنا عبد القادر الجيلاني:-
...اللهم صل على محمد حتى لا يبقى من صلاتك شيء، وارحم محمداً حتى لا يبقى من رحمتك شيء، وبارك على محمد حتى لا يبقى من بركاتك شيء(1)...
- أرجو من القارئ أن ينتبه إلى قوله: (حتى لا يبقى من صلاتك شيء.. وحتى لا يبقى من رحمتك شيء.. وحتى لا يبقى من بركاتك شيء)، وما فيها من تجرؤ على الله وانتقاص لرحمته وبركاته، وما فيها من جهل بالعقيدة الإسلامية وانحراف عن النهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وللعلم: هذه الصلوات هي من (الصلاة الكبرى) للشيخ عبد القادر الجيلاني، التي شرحها الشيخ عبد الغني النابلسي، ونقلها يوسف النبهاني من ذلك الشرح، وكلهم أقطاب مكاشفون. وهي واردة أيضاً في الكتاب المقدس (دلائل الخيرات) الذي يتخذونه بعد القرآن الكريم.
الصوفية والجنون:-
(أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد المستعجل) الرفاعي، كان من أكابر الرجال وأعيان الأولياء وسادات الأصفياء...
قال السراج: ...وروينا أن هذا الشيخ شمس الدين تاب على يديه بعض الأغنياء وقال: أعطني جنوناً، ومد يديه، فحثى له الشيخ حثيات في الهواء، وسماه أرطالاً معلومة، فصار مولهاً لوقته، وترك دنياه وأهله وخرج إلى نهر، ووقف في الماء إلى عنقه مدة سنة أو أكثر، فجاء جيرانه وأصحابه يسألون الشيخ رده إلى حاله الأول وعقله الدنيوي، فرسم بطلبه، فلما حضر حكى له قولهم، فقال: بالله يا سيدي لا تفعل ولكن زدني كذا وكذا من أرطال الجنون؟ فزاده؟ وذهب إلى مكانه وبقي فيه حتى مات(2).
* الملحوظات:-
__________
(1) أفضل الصلوات على سيد السادات، (ص:174).
(2) جامع الكرامات للنبهاني: (1/510).(2/60)
في واقع الأمر، إن ما يحصل للصوفي هو نفس ما يحصل للمجنون من خدر في مراكز الوعي والضبط في الدماغ، مع فارق، أن ما يحصل للصوفي هو شيء شبه مرضي، لا مرضي، ولا يكون مرضياً مثل الجنون تماماً إلا عند الذين يستولي عليهم الجذب، والذين يقولون عنهم إنهم في مقام جمع الجمع.
وكثيراً ما سمعنا ممن يقول عن مجنون أو معتوه إنه سائح في حب الله. وهذا مما يفسر حالة الضياع والجهل والهوان التي تتخبط فيها الأمة الإسلامية منذ القرون التي سيطرت فيها عليها الصوفية.
* كشف:-
(أحمد بن عبد الله البلخي)، قال بعضهم: رأيت الغوث أحمد بن عبد الله البلخي عند مكة سنة خمس عشرة وثلاثمائة على عجلة من ذهب والملائكة يجرون العجلة في الهواء بسلاسل من ذهب، فقلت: إلى أين تمضي؟ فقال: إلى أخ من إخواني اشتقت إليه(1)...
* الملحوظة:
ما أشبه هذه الرؤية بالرؤية التي رآها حشاش فطر المكسيك، والتي سنراها في فصل لاحق. وقد مر في صفحات سابقة كثير من أمثال هذه الرؤى التي تؤكد التشابه التام بين جذبة الصوفية وكشوفها، وبين جذبة المهلسات (الحشيش والأفيون وأشباهها) وكشوفها.
* أي الكشفين كذاب:-
أورد مؤلف بهجة الأسرار في كتابه المذكور عدة روايات بأسانيدها، هذه إحداها:
...أخبرنا أبو محمد عبد السلام بن محمد...قال: أخبرنا الشيخ الشريف أبو القاسم هبة الله بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن المنصوري ببغداد سنة إحدى وثلاثين وستمائة قال: أخبرني الشيخ العارف أبو محمد علي بن أبي بكر بن إدريس اليعقوبي بها سنة إحدى عشرة وستمائة قال: قال سيدي عبد القادر (أي: الجيلاني) رضي الله عنه: قدمي هذه على رقبة كل ولي لله(2).
ويورد بعد صفحةٍ أسماءَ الأولياء الذين حنوا رأسهم عندما قالها، يوردها بالأسانيد، ومن جملتها: ...
__________
(1) جامع الكرامات للنبهاني: (1/485).
(2) بهجة الأسرار ومعدن الأنوار، (ص:11).(2/61)
...(الشيخ سيدي أحمد بن الرفاعي) رضي الله عنه: أخبرنا أبو محمد سالم بن علي بن عبد الله بن سنان الصوفي.. أخبرنا.. أخبرنا.. قالوا: أخبرنا أبو الفرج عبد الرحيم وأبو الحسن علي ابنا أخي الشيخ القدوة أبي العباس أحمد الرفاعي...قالا: كنا عند شيخنا الشيخ أحمد بن الرفاعي بزاويته بأم عبيدة فمد عنقه وقال: على رقبتي، فسألناه عن ذلك فقال: قد قال الشيخ عبد القادر الآن ببغداد: قدمي هذه على رقبة كل ولي لله(1)...
ثم يورد أسانيد أخر للرفاعي وغيره ممن حنوا رقابهم.
وفي كتاب بوارق الحقائق نرى القطب الغوث الفرد المتمكن العارف بالله...بهاء الدين محمد مهدي الشيوخي الشهير بالرواس...الرفاعي الصيادي...نراه يقول فيمن قصيدة يمدح فيها أحمد الرفاعي:
لم يجهل العز من عالي تحجبه ... ... عن قادة القوم إلا كل محجوب
على أرسلان والجيلي قد ضربت ... ... خيامه بعد عزاز ومهيوب
وكان سبعون فرداً تحت رايته ... ... غير المحاذين من دان ومحبوب
العرش والفرش والأكوان تعرفه ... ... أنعم بسطرٍ بلوح القدس مكتوب
تكبكبت همم الأقطاب وانجمعت ... ... به بتمكين عزم غير مسلوب(2)
إنه يجعل شيخه الأكبر، أحمد الرفاعي، فوق كل الأقطاب، ويجعل خيامه مضروبة على عبد القادر الجيلاني ومعه أرسلان الدمشقي وبقية الأقطاب والأغواث.
ويقول أبو الهدى الصيادي (المرشد الكامل):
...وأما الواردات الثقيلة التي كانت ترد عليه (أي: على الجيلاني) قدس سره وتأخذه من حال إلى حال، فينطق بكلمات تتجاوز حد الصحو، فإنها حالة بداية لا تضر بمقامه العالي، ولا تحجب نور إرشاده المتلالي، وهي كقوله حالة غيبته: قدمي هذه على رقبة كل ولي لله(3)...
__________
(1) بهجة الأسرار ومعدن الأنوار، (ص:13).
(2) بوارق الحقائق، (ص:25).
(3) قلادة الجواهر، (ص:113).(2/62)
وبعد صفحة، يقول: ...فليس لنا إلا التأويل لهذه الألفاظ أدباً مع القوم، وباب التأويل واسع، فإنا نؤول...وأول من رواها ودون لها كتاباً صاحب البهجة (أي: بهجة الأسرار) الشيخ علي الهمداني...فإن صح الخبر عن الشيخ رضي الله عنه، فحالة شطح لا تفيد أمراً ولا غيره(1)..
ولن أناقش هذه الأقوال، بل أتركها للقارئ، ليناقشها ويتأكد بنفسه أن كشوفهم كلها هذيانات؛ لأن رواة هذه الخرافات السمجة كلهم أغواث، وبما أن كشفيهما متناقضان، لذلك، فإن كان أحدهما صادقاً كان الآخر كاذباً، والحق أنها كلها من تلبيسات الكشف.
* ملحوظة ثانية:-
يقول الوارث المحمدي الغوث محمد مهدي الصيادي الرفاعي:
...عبارات القوم لا تشير إلا إلى دولهم مع الله تعالى، ولا دخل لها بجيفة هذه الدنيا، ويؤيد ذلك أن هذا الإمام- أعني السيد الرفاعي (أحمد) سلام الله ورضوانه عليه - مضى على إرث قلوب الخلق، وفي ذلك مملكة ربانية مصرحة بأن دوام القطبية الجامعة (أي: الغوثية) في البيت الأحمدي محقق لا ينفصم عنهم ذلك بإذن الله تعالى.
ومثل هذا ما نصه الولي الصالح عبد الوهاب الشعراني في (مننه)، وكثير من كتبه بروايته عن العارف السلماباذي وغيره كلهم يقول لسيدنا أحمد الرفاعي: ...والدولة لك ولذريتك إلى يوم القيامة.
ومثل هذا نقل العارف بالله صاحب (أم البراهين) في كتابه، وابن جلال اللاري الحنفي في (جلاء الصدا) وغير واحد(2).
* التعليق: هؤلاء الأغواث والعارفون يقررون أن الغوثية دائمة في ذرية أحمد الرفاعي.
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:114)، ومؤلف بهجة الأسرار، هو علي بن يوسف بن جرير اللخمي الشطنوفي.
(2) فصل الخطاب، (ص:184، 185).(2/63)
وقد رأينا ابن قضيب البان يقرر أنه غوث زمانه، وهو ليس من سلالة أحمد الرفاعي. ويقول ابن العماد الحنبلي عن أبي بكر بن عبد الله باعلوي: هو قطب زمانه كما شهد به العارفون بالله تعالى شرقاً وغرباً، ولم يمتر في ذلك ذو بصيرة من أهل الطريق(1). وأبو بكر باعلوي هذا ليس من سلالة الرفاعي ولا من طريقته.
ويقررون أن عبد الله اليافعي كان غوث زمانه، ولم يكن من سلالة الرفاعي ولا من طريقته.
وقرر أحمد التجاني، ويقرر أصحابه معه، أنه غوث زمانه، ولم يكن من سلالة الرفاعي ولا من طريقته.
وقرر علي اليشرطي، وقرروا معه، أنه غوث زمانه، ولم يكن من سلالة الرفاعي ولا من طريقته.
وقرر وقرروا أن محيي الدين بن عربي الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر هو غوث زمانه، ولم يكن رفاعياً...إلى آخر القائمة.
فمن منهم الصادق؟ ومن الكاذب؟ أما الواقع فهو الكشف ورؤاه.
يورد الدكتور سيد حسين نصر لمن سماه (الشيخ العلوي):
...وحده كان الله وليس معه أي شيء- وهو الآن كما كان، آخراً مثله أولاً.
- من الأزل واحد هو، ليس معه أي شيء.
- مستتر باطناً وبيِّن ظاهراً.
- لا أول له ولا نهاية لوجوده.
- وكل ما تعلم منه إنما هو وجوده.
- وحدة مطلقة بلا استدراك ولا استثناء.
- كيف يمكن أن تحبس ذات الله في حجاب.
- وليس ثم من حجاب سوى نوره الغامر(2).
هذا النص لتذكير القارئ ببعض العبارات الصوفية ومعناها الذي صرح به الشاعر.
يقول حافظ (شاعر إيراني):
إن صوت المولى الحكيم ما زال في أذني من قبل الأزل
ونحن باقون على مثل ما كنا، وكذلك سنبقى أبد الدهر(3)
__________
(1) شذرات الذهب، حوادث سنة (914هـ)، وأبو بكر هذا من مدينة تريم في حضرموت، مات سنة (914هـ)، ويقول ابن العماد: لعله هو مبتكر القهوة أو شخص آخر بنفس الاسم ومن نفس المدينة، مات سنة (909هـ).
(2) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:42).
(3) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:44).(2/64)
الرجاء من القارئ أن يتسلى بتحليل هاذين النصين، وهما من العبارات الواضحة.
* قصة مرسلة:-
الشيخ (ج) من الواصلين الذين حظوا بزيارة الرسول لهم في اليقظة. حدَّث أمام جماعة خدعوه فوثق بهم، قال: زارني الرسول في اليقظة، وكان يلبس برنساً، فخلعه، وبقي عارياً تماماً، فنظرت إلى قُبُلِه فلم أر له شيئاً، ووجدت مكتوباً هناك كلمة (الله) - تعالى الله- ثم سجد الرسول، فنظرت إلى دبره وإذا بها أشد ضوءاً من الشمس.
- ولا تعليق، لكن تأكيد أن هذه (الكرامة) قد حدثت للشيخ فعلاً في اليقظة لا في المنام، ولم يكن فيها كاذباً، وقد حصلت له بالكشف، وقد ناقشه فيها جماعة، فأصر وأكد أنها صحيحة وأنه يعتز بها. ومثل هذا يوضح لنا دور الكشف.
من قصيدة لنور بخش (مترجمة عن الفارسية):
منذ اليوم الذي استجليت فيه طلعة حبيبي ... ... غدوت متميزاً من الخلائق أجمعين
وذلك أني صرت مبرأ من العقيدة والمذهب ... ... والملة كلية وأصبحت ولا دين لي(1)
ولا تعليق ولا غيره.
* أبو بكر الطرابلسي (نسبة إلى طرابلس الغرب):-
__________
(1) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:340).(2/65)
الطالب الأجل، الولي الصالح، المجذوب السايح. قال العلامة المؤرخ الشيخ محمد بن جعفر الكتاني الفاسي في كتابه سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس فيمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس: كان رحمه الله في أول أمره من الطلبة القاطنين بالمدرسة الصباحية...حتى صار مجذوباً هائماً في الأسواق، ولا يشعر بحر ولا برد، ولا يبالى بوسخ ولا بغيره، ولا يكلم أحداً من الناس إلا قليلاً، ثم صار يحمل معه في ثوبه قلاليس القطران والزيت والسمن والشحم وأحجاراً وحدائد، ويحمل ذلك على عنقه يطوف به في الأسواق...وهو من جملة الصلحاء الذين لقيهم العارف الأكبر مولاي العربي الدرقاوي وتبرك بهم، وقد أورده في رسائله قائلاً ما نصه: كنت أعرف سيدي أبا بكر الطرابلسي...وكان من المجاذيب الكبار، غائباً عن حسه دائماً، وقد شربت بوله يوماً لشدة تصديقي بولايته... توفي بفاس سنة 1180هـ، وكانت له جنازة عظيمة حضرها الخاص والعام(1).اهـ.
- الرجاء الانتباه إلى شرب بوله، وإلى موجبات الولاية عندهم، وإلى أن الخاص والعام حضر جنازته.
* معجزة لا تدرك إلا بالكشف:-
يقول القطب الرباني والغوث الصمداني سيدي عبد الوهاب الشعراني في ترجمته لأبي الحسن الشاذلي:
كان كبير المقدار علي المنار...فوق ابن تيمية سهمه إليه فرده عليه(2)...اهـ.
- أقول: لمعرفة المعجزة المعجزة في هذا الخبر، علينا أن نعرف أن أبا الحسن الشاذلي توفي سنة 656 هـ، وأن ابن تيمية ولد سنة 661 هـ، أي بعد موت أبي الحسن بخمس سنوات.
* قصة يرويها شاهدها:-
(كُبَّة كُبَّة) معتوه يعرفه أهل حلب في العقدين الأخيرين من القرن الرابع عشر الهجري، يدور في الشوارع مكشوف العورة، يبول على ساقيه، أكثر تواجده في حي (باب أنطاكية)، يعتقد ولايته الكثيرون.
__________
(1) أعلام ليبيا، (ص:34، 35).
(2) طبقات الشعراني: (2/4).(2/66)
حدثنا شاهد قال: كنت ماراً في شارع، وإذا بكبة كبة جالس على الرصيف يستمني بيده أمام المارة من رجال ونساء، فانتهرته وأردت طرده من المكان، وإذا بعالم معروفٍ يطل من نافذة بيته القريبة منا، ويصيح عليَّ بلهجة تأنيبية شديدة وانفعال، قائلاً: اتركه يا رجل، العمى على قلة الفهم! أنت تعرف ماذا يفعل؟ هذه صواريخ يقذفها على إسرائيل! الله أعلم كم يقتل منهم كل صاروخ!!.. (أو كما قال).
* قاف:-
يقول أبو العباس المرسي (قطب الغوث):
والله ما سار الأولياء والأبدال من قاف إلى قاف إلا حتى يلتقوا مع واحد مثلنا(1).
* التعليق:
1- أين هذا القاف؟
2- ما معنى قوله سبحانه: ((فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ)) [النجم:32]، و((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ...)) [النساء:49] ((انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:50]؟
3- المرسي غوث يتصرف بالكون من العرش حتى الفرش، وعارف بالله، أفلم يسعفه كل هذا على معرفة أن جبل قاف لا وجود له، وأنه محض خرافة كشفية؟
4- نفس السؤال يطرح على القطب الرباني والغوث الصمداني الذى أورد هذا الكلام؟ وعلى كل حال يجب أن نعرف أنهم كانوا يرون جبل قاف بالكشف، فهم لا يكذبون، لكن كشفهم هو الكذاب.
* من قبَّل قدمه دخل الجنة:-
مما يرويه عبد الله اليافعي في نشر المحاسن الغالية:
...ومن ذلك ما روي واشتهر واستفاض وتواتر في بلاد اليمن وما قرب منها أن الفقيه الإمام عالي المقام وصاحب الكرامات العظام الولي الكبير العارف بالله تعالى الشهير أبا الذبيح إسماعيل بن محمد الحضرمي رضي الله تعالى عنه قال: من قبل قدمي دخل الجنة، ولم يزل يقبل قدمه كل من رآه من الأكابر والأصاغر من المشايخ والعلماء وغيرهم من كل باد وحاضر.
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/14).(2/67)
ومن ذلك ما اشتهر عن السيد الجليل إمام الطريقة ولسان الحقيقة العارف بالله تعالى أحمد بن الجعل اليمني رضي الله تعالى عنه أنه التزم الشفاعة لمن رآه ومن رأى من رآه(1)...
- والسؤال: هل يوجد ضلال يزيد عن هذا الضلال؟ مع العلم أن هاتين الفقرتين هما بعض من كثير.
ومما ينسبونه لرابعة العدوية:
اللهم إني لا أعبدك طمعاً في جنتك، ولا خوفاً من نارك؟ وإنما أعبدك لأنك أهل للعبادة.
أقول: سمعنا هذه الجملة مرات كثيرة يطلقها الخطباء فوق المنابر، أو يلقي بها (العلماء) في حلقات الوعظ، ولا يهمنا إن كانت صحيحة النسبة إلى رابعة أم لا؟ كما لا يهمنا إن كانت شخصية رابعة حقيقية أم لا؟
إن الذي يهمنا هو أن الصوفية يؤمنون بها، وقد انزلق إيمانهم هذا إلى غير الصوفية، وقد سمعناها كثيراً ممن يهاجمون التصوف! بله المتصوفة.
وهذه الجملة شطرها الأول كفر، وشطرها الثاني نقص؟
فعبارة: (اللهم إني لا أعبدك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك)، تناقض ما أمر الله سبحانه به في عشرات الآيات وكثير من الأحاديث أن تكون عبادة المسلم (أو الإنسان) طمعاً في الجنة وخوفاً من النار، مر بعضها في فصول سابقة. وهذا التناقض يجعل العبارة كفراً وزندقة.
وعبارة: (إنما أعبدك لأنك أهل للعبادة) هي عبارة ناقصة؛ لأنها لا تنفي أهلية العبادة عما عُبد من غير الله.
وهي صورة من الذين يقرءون القرآن فلا يجاوز تراقيهم (وقد مر الحديث).
من (المنظومة على سفينة النجاة لسيدي أحمد زروق):
وملكت أرض الغرب طراً بأسرها ... ... وكل بلاد الشرق في طي قبضتي
فملكنيها بعض من كان عارفاً ... ... وخلفني فيها بأحسن سيرة
فأرفع قدراً ثم أخفض منصباً ... ... بأرفع مقدار وأرفع همة
وأعزل قوماً ثم أولي سواهم ... ... وأعلي مقام البعض فوق المنصة
وأبسط أرواحاً وأقبض أنفساً ... ... وأحيي قلوباً بعد موت القطيعة
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:298).(2/68)
وأجبر مكسوراً وأشهر خاملاً ... ... وأرفع موضوعاً بأرفع عمتي
وأقهر جباراً وأدحض ظالماً ... ... وأنصر مظلوماً بسلطان سطوتي
فإن كنت في كرب وضيق وشدة ... ... فنادِ أيا زروق آتي بسرعة
فكم كربة تجلى إذا ذكر اسمنا ... ... وكم كربة تجلى بإفراد صحبتي(1)
- السؤال: ما هي الوثنية؟ وهل في الوثنيات أكثر من هذا؟ وما معنى ما نقرأه في كل ركعة من صلاة: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5]؟ وما دام هؤلاء الأغواث يملكون هذه القدرة الإلهية فلم لا يغيثون هذه الأمة ويخلصونها من سرطانهم القاتل الذي أوصلها إلى ما هي عليه من ضياع وتشتت؟ وعلى كل حال يجب أن نعرف أنه يقول ما يراه في الكشف، فهو لا يكذب على الكشف، لكن الكشف هو الكذاب.
* يبيع الجنة:-
...وكان ابن أبي حاتم رضي الله عنه زاهداً ورعاً خاشعاً لا يكاد يرفع طرفه إلى السماء، وجاءه رجل وهو في الدرس فقال: إن سور طرسوس قد انهدم منه جانب واحتيج في عمارته إلى ألف دينار، فقال الشيخ للحاضرين: من يعمره وأنا أضمن له على الله قصراً في الجنة؟ فقام رجل أعجمي وجاء بألف دينار، وقال: اكتب لي ورقة بهذه الضمانة، فكتب له الشيخ، ثم إن العجمي مات، ودفنت معه الورقة، فحملها الريح حتى ألقاها في حجر الشيخ رضي الله عنه، فإذا مكتوب في ظهرها: قد وفينا ما ضمنته ولا تعد(2)...
- أقول: القصة مكذوبة، لكن المهم فيها هو أنهم يؤمنون بأن الأولياء يدخلون الجنة ويضمنون على الله وغير ذلك! مع سؤال: ما هو الفضل؟ أي فضل في عدم رفع طرفه إلى السماء؟ وملحوظة أن مثل هذا الورع والخشوع الذي جعلته الصوفية مثلاً أعلى في المجتمعات الإسلامية هو الذي أوصل هذه المجتمعات إلى الجهل والضياع والتخبط التي مرت بها.
* من مقام الورع:-
__________
(1) النفحة العلية في أوراد الشاذلية، (ص:27).
(2) الطبقات الكبرى، (2/189).(2/69)
...وكان الشيخ عبد الرحمن الأنباري النحوي رضي الله عنه لا يوقد قط في بيته سراجاً لعدم صفاء ثمن ما يشتري به الزيت، وكان تحته حصير قصب وعليه ثوب خلق وعمامته من غليظ القطن، فيصلي فيها الجمعة، ما يفرق الناس بينه وبين الشحاتين في رثاثة الهيئة، وكان لا يخرج من بيته إلا لصلاة الجمعة(1)...
- السؤال: هل هذا من هدي الإسلام؟ والباقي للقارئ.
* ومن مقام الورع أيضاً ومعه مقام الزهد:-
...كان الشيخ عبد الرحمن الداوُدي البوشنجي رضي الله عنه عالماً زاهداً لم يأكل اللحم منذ أربعين سنة من حين نهبت التركمان البهائم! وكان لا يأكل السمك، فحكى له شخص أن بعض الجند أكل على شاطئ النهر الذي يصاد له منه ونفض سفرته في النهر تأكله السمك، فلم يأكل بعد ذلك منه سمكاً، وكان له أرض ورثها من آبائه يزرع فيها ما يقوته، وله فيها بقرة وبئر ماء، فمطرت يوماً، فأطلقت البقرة إلى أرض جاره ثم رجعت وفي حافرها وحل، فاختلط في أرضه، فترك تلك الأرض للناس وخرج منها ولم يزرع بعد ذلك فيها شيئاً إلى أن مات، وكان له فرن يخبز فيه في داره، فجاء فقراء يزورونه، وكان غائباً، فوجدوا باب فرنه قد انهدم منه جانب، فعجنوا طيناً وأصلحوه، فامتنع من الخبز فيه، وبنى له خلافه، لكون من ليس على قدمه في الورع بناه(2)...
__________
(1) الطبقات الكبرى: (2/189).
(2) الطبقات الكبرى: (2/189).(2/70)
- ويترك التعليق للقارئ، مع ملحوظة هامة هي أن هذا الورع، وهذا الزهد كانا من المثاليات التي تجتهد نخبة المجتمع على تطبيقها!! إلا من رحم ربك، ومن هنا تتوضح لنا الطريق التي سارت فيها الأمة حتى وصلت إلى الضياع الذي تخبطت فيه زمناً، وهي الآن تحاول التخلص منه، لكن شد الصوفية الشديد يمنعها من ذلك، مع بلاء شديد جديد، هو الشيوعية بأساليبها المبنية على قوانين علم النفس وعلم الاجتماع والدعاية والإشاعة والكذب، حتى تحول كثير من المسلمين الآن إلى آلات أو جرافات تفتح الطريق للشيوعية وهم يحسبون أنهم يجاهدون في سبيل الله ويعملون لإقامة دولة الإسلام!
وننهي هذا الفصل الذي لو بقينا مسترسلين معه لاحتجنا إلى ألوف الصفحات، ننهيه بكلمات لابن عطاء الله السكندري صاحب الحكم المشهورة التي يقارنونها بالقرآن الكريم، يقول: ...فما سوى الله عند أهل المعرفة لا يتصف بوجود ولا بفقد، إذ لا يوجد غيره معه، لثبوت أحديته؛ ولا فقد لغيره لأنه لا يفقد إلا ما وجد، ولو انتهك حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان، ولأشرق نور الإيقان فغطى وجود الأكوان(1). ويقول: ...لأن من استرسل من إطلاق التوحيد، ورأى أن الملك لله وأن لا ملك لغيره معه، ولم يتقيد بظواهر الشريعة، فقد قُذف به في بحر الزندقة، وعاد حاله بالوبال عليه، ولكن الشأن أن يكون بالحقيقة مؤيداً، وبالشريعة مقيداً، وكذلك المحقق، فلا منطلقاً مع الحقيقة، ولا واقفاً مع ظاهر إسناد الشريعة، وكان بين ذلك قواماً. فالوقوف مع ظواهر الإسناد شرك، والانطلاق مع الحقيقة من غير تقييد بالشريعة تعطيل، ومقام أهل الهداية فيما بين ذلك(2)...اهـ.
- سؤال: هل مقام أهل الهداية هو الذي بين ذلك، أم مقام أهل الضلال البعيد؟!
* الملحوظات:-
__________
(1) التنوير في إسقاط التدبير، (ص:306).
(2) التنوير في إسقاط التدبير، (ص:284).(2/71)
- وحدة الوجود واضحة تماماً في النص الأول، ويجب أن نفهم العبارات التالية انطلاقاً منها.
- نفهم من العبارات: (إطلاق التوحيد)، و(رأى أن الملك لله)، و(أن لا ملك لغيره معه) استناداً إلى ما سبق أنها تشير إلى وحدة الوجود، وهي تذكرنا بعبارات كثيرة مرت في فصول سابقة، مشابهة لهذه، وتوضح لنا رموزها وإشاراتها، مثل: (الوحدة المطلقة) و(لا فاعل إلا الله) و(إن المنعم هو الله) و(هو المخوف والمرجو وعليه التوكل والاعتماد)، وغيرهما مما مرَّ وكلها تشير إلى وحدة الوجود.
- قوله: (ولا واقفاً مع ظاهر إسناد الشريعة)، فما هو إسناد الشريعة؟ إنه القرآن والسنة، وطبعاً يمكنهم تأويل كلمة (إسناد) بأنها تعني (رواة الحديث)، رغم أن النص لا يحتمل مطلقاً هذا التأويل. فقوله: (ظاهر إسناد الشريعة)، تعني بوضوح: (ظاهر القرآن والسنة)، لأننا عندما نورد سند أي نص كان بقولنا: رواه فلان عن فلان. فليس في هذا الإسناد ظاهر وباطن، وليس فيه إلا أسماء الرواة.
- ثم لننتبه إلى قوله: (الوقوف مع ظواهر الإسناد شرك)، التي تعني: (الوقوف مع ظواهر القرآن والسنة شرك)، وهو مثل قول الصاوي الذي مر في مكان سابق: إن ظاهر القرآن والسنة من أصول الكفر، ويعني بقوله: الوقوف مع ظواهرالإسناد شرك أن ظاهر القرآن والسنة يقرر أن المخلوق غير الخالق، وبالتالي، هناك موجود آخر في هذا الوجود غير الله (طبعاً أوجده الله سبحانه من العدم، لا من ذاته) وهذا هو الشرك في عقيدة الصوفية لأنه يشرك مع الله وجوداً غيره.
- وفي النص ملاحظات أخرى، يستطيع القارئ أن يتسلى بتحليلها (مثلاً: قوله: قذف به في بحر الزندقة؟).(2/72)
- أزيد: أردت أن أنهي هذا الفصل بكلمات ابن عطاء الله الآنفة، وأمامي في الكتب مئات الأمثلة من المضحكات المبكيات التي تستحق التسجيل ليطلع عليها المسلم الذي تهمه معرفة السبب الذي أوصل المجتمعات الإسلامية إلى ما وصلت إليه. وهذه الأمثلة بالإضافة إلى كونها من المضحكات المبكيات هي أيضاً مسليات ومحزنات، وأراني مدفوعاً لتسجيل بعضها.
مما يورده ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب:
وفيها (أي: سنة 909 هـ) أبو الخير الكليباتي (أي: توفي)، قال النجم الغزي: الشيخ الصالح الولي المكاشف الغوث المجذوب، كان رجلاً قصيراً يعرج بإحدى رجليه، وله عصاً فيها حلق وخشاخيش، وكان لا يفارق الكلاب في أي مجلس كان فيه حتى في الجامع والحمام، وأنكر عليه شخص ذلك، فقال: رح وإلا جرسوك على ثورٍ دائرَ مصر، فشهد ذلك النهار زوراً، فجرسوه على ثورٍدائرَ مصر، وأنكر عليه بعض القضاة ذلك، فقال: هم أولى بالجلوس في المسجد منك، فإنهم لا يأكلون حراماً ولا يشهدون زوراً ولا يستغيبون أحداً...وكان كل من جاءه في ملمة يقول له: اشتر لهذا الكلب رطل شواء وهو يقضي حاجتك، فيفعل، فيذهب ذلك الكلب ويقضي تلك الحاجة، قال الشعراوي (أي: الشعراني): أخبرني سيدي علي الخواص أنهم لم يكونوا كلاباً حقيقية، وإنما كانوا جناً سخرهم الله تعالى له...وقال الحمصي بعد ترجمته بالقطب الغوث كان صالحاً مكاشفاً...وكان يصحو تارة ويغيب أخرى، وكان يسعى له الأمراء والأكابر فلا يلتفت إليهم، وتوفي ثالث جمادى الآخرة وحمل جنازته القضاة والأمراء ودفن بالقرب من جامع الحاكم بالقاهرة وبني عليه عمارة وقبة.
- التعليق يترك للقارئ، وكذلك التساؤلات، وأنبه فقط إلى أنه حمل جنازته القضاة والأمراء، وبني عليه عمارة وقبة.
- كما أنبه أيضاً إلى أن القبة شعار وثني كانت تُبنى فوق الصنم المعبود على أنه إله في سمائه، وكانت القبة الكبرى تبنى من أجل الصنم الأكبر.(2/73)
ويقول القطب الرباني والغوث الصمداني:
ومنهم الشيخ الصالح عبد القادر السبكي رحمه الله تعالى، أحد رجال الله تعالى، كان من أصحاب التصريف بقرى مصر رضي الله عنه، وكان رضي الله عنه كثير التلاوة للقرآن...وكان كثير الكشف لا يحجبه الجدران والمسافات البعيدة من اطلاعه على ما يفعله الإنسان في قعر بيته...وخطب مرة عروساً فرآها فأعجبته، فتعرى لها بحضرة أبيها، وقال: انظري أنت الأخرى حتى لا تقولي بعد ذلك بدنه خشن، أو فيه برص، أو غير ذلك، ثم مسك ذكره وقال: انظري هل يكفيك هذا؟ وإلا فربما تقولي هذا ذكره كبير لا أحتمله أو يكون صغيراً لا يكفيك، فتقلقي منه وتطلبي زوجاً أكبر آلة مني. وكان له بنت يحملها على ظهره أي موضع ذهب حتى كبرت وهو يحملها على كتفه وهو يقول: خوفاً من أولاد الزنا، وكان ربما ذهب ليغسل لها ثوبها في البركة، فيحفر لها الأرض ويردم التراب عليها حتى ينشف ثوبها(1)...
- وأترك التعليق لغير أهل الطريق.
* يتركون العبادة مرضيين:-
يقول مجدد الألف الثاني أحمد الفاروقي السرهندي:
...فما تكون نسبة الآخرين لهؤلاء الأكابر؟ وربما تصدر العبادة عن الآخرين وتكون غير مرضية، وهؤلاء الأكابر يتركون العبادة في بعض الأحيان ويكون ذلك الترك مرضياً. فكان تركهم أفضل عند الحق جل وعلا من فعل غيرهم، والعوام حاكمون بخلاف ذلك يعتقدون ذلك عابداً وهذا مكاراً أو معطلاً(2)...
- أقول: من مثل هذا يتبين لنا دور الكشف في تزوير عقول الأمة؛ لأن هذا القطب المجدد عرف هذا الحكم عن الله الذي هو هو، أثناء إحدى فناءاته، وهو طبعاً، يعتقد أن هذا هو حق لاريب فيه.
ومما يورده القطب الرباني والغوث الصمداني:
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/184).
(2) المنتخبات من المكتوبات، (ص:152).(2/74)
...وكذلك وقع للإمام اليافعي التميمي رضي الله عنه، فحكى في كتابه (المنهاج) أنه مكث خمس عشرة سنة في نزاع، فخاطر يدعوه إلى الاشتغال بالعلم على طريق العلماء، وخاطر يدعوه إلى الاشتغال بما عليه الصوفية، قال: وكان الفقهاء يأمرونني بموافقتهم ويقولون: طريقنا يتضمن طريق غيرنا وطريق غيرنا لا يتضمن طريقنا، فقلت في نفسي بتوجه تام: اللهم بين لي أي الطريقين أقرب إليك، فبينما أنا أمشي في شارع من شوارع زبيد، إذ لقيني شخص من أرباب الأحوال وقال: إلى متى تشك في طريق القوم؟ اسلك منها فإنها أقرب الطرق إلى الله تعالى. قال: فقلت له: أريد البيان. فقال: نعم. فدخل زاويته وقال؛ أرسلوا لنا خلف العالم الفلاني، ممن لا يرى الشيخ إذ ذاك رد السلام عليه إذا سلم، فخرج النقيب إليه، فقال الشيخ للجماعة: لا أحد يرد عليه السلام إذا جاء ولا يقوم له ولا يفسح له، فقالوا: سمعاً وطاعة. فلما حضر قال: السلام عليكم. فلم يرد أحد عليه السلام، فقال: حرام عليكم. فجلس فلم يفسحوا له، فقال: خالفتم السنة، فقال الشيخ: الفقراء في أنفسهم منك شيء، فقال: وأنا في نفسي منهم أشياء، وأشار بأصابع كفه كلها. فقال الشيخ: انظر يا يافعي ما أثمره علم هذا. ثم قال للنقيب: أرسل وراء الفقير الفلاني، وأمرهم أن لا يردوا عليه السلام ولا يقوموا له ولا يفسحوا له، ففعلوا ذلك، فصار يبتسم ويقول: أستغفر الله تعالى، ثم وقف عند النعال، وأخذ النعال على رأسه وبكى، فلم يلتفت أحد إليه، فقال له الشيخ: الفقراء في نفوسهم منك شيء، فقال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقال الشيخ لليافعي: انظر ما أثمره صحبة الفقراء(1)...
- الملحوظات كثيرة، منها: العالم الفلاني، لم يتصرف إلا حسب توجيهات الإسلام، حيث لم يزد أن أمر بمعروف أو نهى عن منكر.
__________
(1) الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية: (2/36، 37).(2/75)
ونلاحظ أن الفقراء احتقروا هذا السلوك الإسلامي، واستحسنوا سلوك الفقير المزري، واللا إسلامي، وهكذا يتوضح لنا سبب انحطاط المسلمين، فالصوفية هي التي قادتهم إلى ما هم عليه.
- وأخيراً، وبعد قراءة هذا الفصل بهدوء، أظن أن القارئ الكريم توضحت لديه الرؤية، وأصبح على معرفة تامة بسبب انحطاط المسلمين. وفي فصل آت سوف نرى ما هو أكبر.
وفي هذا العصر أضيف إلى الصوفية التي سلبت من المسلمين سلامة التفكير، وأصبحوا لا يفكرون ولا يناقشون الأمور إلا بفهم سحري وإسقاط سحري لما يتوهمونه، على ما يتوهمونه، أضيف إليها بلاء جديد، هو الماركسية، التي وصلت إلى القمة في فن الجاسوسية؛ لأن العبادة عند اليهود هي الجاسوسية منذ (1900 سنة)، واليهودية هي الماركسية، أو بتعبير آخر، الماركسية هي التطبيق العملي لأسطورة الشعب المختار.
وقد استطاعت الماركسية أن تجعل من المسلمين أبواقاً للدعايات التي تخدم الماركسية، وتجعل كثيراً منهم أحجاراً في مقاليعها، أو قنابل في يدها ترمي بهم أعداءها وكل من يقف سداً في سبيلها، وكان أكبر مساعد لها على النجاح في هذا الميدان هو الأسلوب الصوفي في التفكير، الذي وصل إليه المسلمون، فالصوفية حرثت، والماركسية تزرع وتحصد، والماركسية هي هي اليهودية.
وهذا ورد من أوراد الطريقة الشبكية التي هي فرع من البكتاشية:
إن حقيقة كل الوجود علي جل جلاله، ملك العالي والداني علي جل جلاله، إذا تحررت من الكائنات أولها وآخرها فلن يبقى سوى علي جل جلاله، إن حارس جماعة الوالهين في حالتي الصحو والسكر علي جل جلاله، إن كنت تعبد الله فلا تدعوني مشركاً، فالله الذي تعبده علي جل جلاله، لا تكسر القلوب المنكسرة فإذا كسرتها فاعلم أن في القلب الذي كسرته علي جل جلاله، اعتصم بحبل علي واصعد إلى الذروة فسترى علياً جل جلاله بعد أن تحرر من القيود(1)...
* الملحوظة:
__________
(1) الشبك، (ص:80).(2/76)
تتضح الروح الصوفية في هذا النص من العبارات: (تحررت من الكائنات أولها وآخرها، جماعة الوالهين، حالتي الصحو والسكر، اصعد إلى الذروة، تحرر من القيود).
وفي الختام:
هذه هي الكشوف الصوفية والعلوم اللدنية والكرامات، كلها جهل وضلال ووأد للعقل الذي كرم الله به بني آدم، ولو كانت إلهية لتنزهت عن الغلط (مجرد الغلط)، ولو كانت الصوفية سيراً إلى الله وعروجاً إليه، كما يدعون، لما كان كل هذا التخبط والضياع عن مبادئ الإسلام، وعن أبسط مقومات الوجود الإنساني.
وقد فطن بعض متأخريهم إلى هذا الخبط والخلط، فاعتذروا عنه بقولهم: قد يخطئ الكشف. وهو عذر أقبح من الكشف، والصحيح هو أن نقول: قد يصدق الكذوب، وقد يحسن الشرير، وقد يصيب الكشف.
ولعل أهم ما يجب أن نلاحظه في كشوفهم أنها لا تزيد شيئاً عن معلومات المكاشف وأمانيه المسبقة إلا ما يقتضيه التصوير والتنسيق الموجهين بثقافته أيضاً، وطبعاً يستقي المكاشف معلوماته وأمانيه من الوسط الاجتماعي والوسط الصوفي الذي يتقلب فيهما، ولذلك لا نرى فيها أي شيء يزيد عن ثقافة مجتمعه، إلا بعض التخيلات التافهة.
القسم الثاني
المناقشات
بدأ القسم الأول من الكتاب بدراسة ما يسمونه (الحقيقة) ثم جاءت دراسة (الطريقة) بعد ذلك.
أما في المناقشة، فسيكون البدء أولاً بمناقشة الطريقة، ثم تأتي مناقشة حقيقتهم بعدها، ثم يأتي الباقي.
لكن قبل الشروع في المناقشة، لا بد من كلمة موجزة عن البدعة.
تقديم وجيز في البدعة:
القول في البدعة مكرور، ردده العلماء مئات المرات، ولا زالوا يرددونه، نورد هنا اقتباساً موجزاً مما قالوه ورددوه:
ما هي البدعة؟(2/77)
يقول صلى الله عليه وسلم في حديث: {...فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجد، وإياكم والمحدثات، فإن كل محدثة بدعة}. أخرجه أبو داوُد وابن ماجة والترمذي، وقال عنه: حسن صحيح. - كلمة (الخلفاء) هنا تعني كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتابعيهم الذين خلفوه في السير على هديه والدعوة إلى الله حسب تعاليمه.
- في هذا الحديث، بعد أن يأمرنا صلى الله عليه وسلم بالالتزام بسنته وسنة أصحابه، يحذرنا من المحدثات التي تحدث بعدهم. وهذه المحدثات هي الاختلاف كما يفهم من الحديث. لكن، هل كل أمر يحدث بعد الرسول وبعد أصحابه، كائناً ما كان هذا الأمر، هو بدعة؟
نعرف الجواب من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث: {...إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوه، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر}، رواه الشاطبي نقلاً عن مسلم.
ومن قوله في حديث تأبير النخل: {...أنتم أعلم بأمور دنياكم}.
من هاذين الحديثين، نعرف أن البدعة هي كل محدثة في الاعتقادات والعبادات، أما الأمور الدنيوية، فقد تركت لنا الحرية فيها، (إلا ما ورد فيه نص).
ومن القواعد التي استنبطها الأصوليون قولهم: كل العبادات باطلة إلا ما ورد به نص، وكل العادات مباحة إلا ما ورد به نص.
وإذ عرفنا ما هي البدعة، فما هو حكمها في الإسلام؟
يقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الشاطبي في (الاعتصام): {حلت شفاعتي لأمتي إلا صاحب بدعة}.
ويقول: {إن الله حجر التوبة عن كل صاحب بدعة}.
ويقول: {من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين}. ويقول: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي}. رواه أحمد وأبو داوُد وغيرهما.(2/78)
ويقول في حديث: {...وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. وفي رواية: وكل ضلالة في النار}. رواه أبو داوُد والنسائي وغيرهما.
وعليه، فلا يجوز مطلقاً تبني أية عقيدة، كائنة ما كانت، ولا القيام بأية عبادة، كائنة ما كانت، إلا إذا كان فيها نص بالعمل بها من قرآن أو سنة، وإلا فهي باطلةٌ داخلٌ صاحبُها في لعنة الله ووعيده. هذا هوحكم البدعة في الإسلام.
أما في الأمور الدنيوية، فيجوز للمسلم أن يقوم بأي أمر منها، سواء كان محدثاً أو غير محدث، إلا إن كان فيه نهي أو كان فيه ضرر بالدين أو ضرر بالناس.
لكن المتصوفة، كشأنهم في كل أمور الدين، رأوا هذه النصوص وغيرها، وعميت بصائرهم عنها، ((فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)) [الحج:46]، فأولوها التأويلات المنكرة التي تدل على رفضها والكفر بها، وجعلوا بدعهم حلالاً، قياساً على الأمور الدنيوية، رغم كل النصوص، ونسوا أنه (لا اجتهاد في مورد النص). وقياسهم الفاسد المنكر هذا يدل على أنهم لم يكتفوا بخروجهم على النصوص، وبالإحداث في دين الله، بل أضافوا إليهما المكر والكيد لهذا الدين بالمغالطات والمراوغات، كما أضافوا إليها عدم الحياء من الله ومن الناس، حين يظهر أحدهم، في دفاعه عن بدعهم، بمظهر الجاهل الغبي المعاند.
خلاصة الكلام:
حيثما وردت كلمة (بدعة) فالمراد بها هو الإحداث في الاعتقادات والعبادات، لا في العادات والأمور الدنيوية، إلا عند المتصوفة؛ فإنها لا تعني عندهم إلا المغالطة (والمناورة)، للتظاهر بأنهم يسيرون على هدي الإسلام.
وهم عندما يغالطون ويراوغون، يعتقدون أن عملهم هذا من التقية، التي هي الحكمة التي أرادها الله من الشرائع لستر (حقيقتهم)، فسبحان الله عما يصفون.
* ملحوظة هامة:(2/79)
هناك حجة واهية يتذرع بها المتصوفة لتأييد باطلهم؟ هي قولهم بـ (البدعة الحسنة)، ويحتجون بقوله صلى الله عليه وسلم: {من سن سنة حسنة فله أجرها...}، وقول عمر بن الخطاب في الجماعة لصلاة التراويح: [[نعمت البدعة]].
وحجتهم واهية وداحضة:
1- قوله صلى الله عليه وسلم: {من سنة سنة حسنة...}، قد أشبعه العلماء بحثاً، وإنما أذكر الملخص:
من القواعد المعروفة في علم الأصول، وفي مصطلح الحديث، أنه إذا وجد نصان، وظهر للوهلة الأولى أنهما متناقضان، فيجب أن نفتش في أحدهما، أو في كليهما، عن المعنى الصحيح الذي يزول معه التناقض؛ لأن الوحي لا تناقض فيه: ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا)) [النساء:82].
وعليه، فالذي يقول: إن معنى (السنة الحسنة) هو البدعة الحسنة، يكون قد أوجد في النصوص تناقضاً غير موجود في الأصل، ويكون قد خاض في الباطل خوضاً؛ لأن هذا المعنى المتوهم: (البدعة الحسنة)، مناقض لقوله: {كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة}، وغيرها مما مر.
أما المعنى الصحيح لـ (السنة الحسنة)، فهو: إماتة بدعة انتشرت، أو إحياء سنة اندثرت، أو افتتاح عمل خيري مشروع، أو إبداع في أمر من أمور الدنيا ينفع الناس في دينهم أو في دنياهم (دون ضرر بالدين).
هذه هي السنة الحسنة، وسبب قوله صلى الله عليه وسلم للحديث هو من الأدلة على ذلك، فقد قاله يحض الناس على تقديم صدقات.
2- قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [[نعمت البدعة]].
والجواب:
أ- الجماعة لصلاة التراويح ليست بدعة، بل هي سنة فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تركها لئلا تؤخذ فرضاً، حتى إذا انقضى زمن التشريع، وزال سبب تركها، لم يبق بأس من العودة إليها.(2/80)
ب- غلط الرجل الذي قال عنها: [[هذه بدعة]]. فأراد عمر رضي الله عنه أن يفهمه أنها ليست كذلك، وفي اللغة صيغ كثيرة مستعملة تصلح لهذا الهدف، منها هذه العبارة التي جاءت على لسان عمر: [[نعمت هي البدعة]]، فهو يريد أن يقول له: إنها ليست بدعة، ولو كانت البدعة مثلها، فنعمت هي البدعة.
وضرب المثل قد يفيد: كثيراً ما نسمع مثل قول من يقول: فلان ضرب فلاناً بنصف كيلو كنافة مثلاً، فلو أجابه أحدهم بـ (نعمت هي الضربة)، فماذا يفهم منها كل من يسمعها؟ إنه يفهم منها أنها ليست ضربة، ولو كانت كل ضربة هكذا، فنعمت هي الضربة...وهكذا...وهكذا يكون القول بالبدعة الحسنة هو بدعة ضلالة.
الباب الأول
مناقشة الطريقة
الفصل الأول
مناقشة مفهوم الصوفية للشيخ
عرفنا أن الطرق الصوفية كالقادرية والرفاعية والشاذلية والنقشبندية وغيرها، ما هي إلا مشيخات، ما هي إلا اتباع للشيوخ، فمناقشتها هي مناقشة عقيدة (الشيخ) عندهم.
كما عرفنا أن الطريقة الوحيدة الأممية التاريخية والحالية والمستقبلية هي طريقة (الإشراق).
وأهم ما في الطريقة الشيخ وصحبة شيخ وهي أصل طريقهم فما نبتت أرض بغير فلاحة، كما عرفنا من النصوص السابقة، وهي جرعة من سيل، أنهم يتخذون الشيوخ آلهة يعتقدون أنهم ينفعون ويضرون، وأن بيدهم النجاة.
ومن أقوالهم في ذلك: الدين إطاعة رجل.
كما رأينا من أقوال عارفيهم وأقطابهم وعلمائهم البراهين الكافية الوافية على أنهم يتخذون الشيخ إلهاً من دون الله، أو شريكاً معه يسبغون عليه كل صفات الألوهية. ومن أقوالهم التي مرت قول قائلهم (الغوث): لو كشف عن نور الولي لعبد من دون الله.
ولا بأس على القارئ الكريم من الرجوع إلى تلك الفصول مرة أخرى، ليبعث أقوالهم حية في ذاكرته، ثم يعود لمتابعة المناقشة.
وطبعاً، ستكون المناقشة بعرض أقوالهم وأفعالهم وعقائدهم على القرآن والسنة قبل كل شيء.(2/81)
1- يقول سبحانه في كتابه العزيز: ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)) [النساء:59].
واضح من الآية الكريمة كل الوضوح، وبدون لبس أو إشكال أو غموض، أن من يرد ما يُتنازع فيه إلى غير الله ورسوله، فهو لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر.
وردُّ الشيء إلى الله والرسول، يعني عرضه على الكتاب والسنة، فالقرآن كلام الله، والسنة كلام رسوله الموحى معناه من الله سبحانه.
والصوفية يردون كل شيء إلى شيوخهم، ويطلبون من الآخرين أن يردوه إليهم، ويكفي إيراد قولٍ واحدٍ لأحد أقطابهم: ...وإن قال (قائل) للمريد: إن كلام شيخه معارض لكلام العلماء أو دليلهم، فعليه الرجوع إلى كلام شيخه...وإذا خرج المريد عن حكم شيخه وقدح فيه، فلا يجوز لأحد تصديقه؛ لأنه في حال تهمة لارتداده عن طريق شيخه.
- السؤال: أيها المسلم المؤمن، ما هو حكم الشريعة الإسلامية على من يقول هذا ومثله؟ أو يفعله؟ أو يعتقده؟
إن الآية الكريمة تضع الجواب الكريم: ((فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)) [النساء:59]، التي يُستنبط منها: إن كنتم لا تؤمنون بالله واليوم الآخر، فردوه إلى الشيخ أو إلى من تريدون.
2- ويقول سبحانه: ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) [الشورى:21].
فكل شرع في الدين، كائناً ما كان، لم يأذن به الله فهو شرك.
والشيوخ في الصوفية يشرعون في دينهم كل ما لم يأذن به الله، ونكتفي بإيراد قول قطبهم المدَّرك:
من يذكرالله تعالى بلا شيخ، لا الله حصل ولا نبيه ولا شيخه.
فمن أين أتى بهذا التشريع؟ وما هوحكم من يأخذ بهذا التشريع الوثني؟(2/82)
ونعود للسؤال؟ ما هوحكم الشريعة الإسلامية على من يقول هذا ومثله؟ أويفعله؟ أو يعتقده؟
والآية الكريمة تقرر الجواب: ((وإن الظالمين لهم عذاب أليم)).
3- يقول سبحانه في وصف أهل الكتاب: (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ )) [التوبة:31]. يورد ابن كثير: سمع عدي بن حاتم الطائي (وكان نصرانياً فأسلم) هذه الآية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: {إنهم لم يعبدوهم}، فقال صلى الله عليه وسلم ما معناه: {بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم}.
وقد فعل الصوفية ذلك واتخذوا شيوخهم أرباباً من دون الله. ونكتفي بقول لحجتهم الغزالي:
...فالعلم بحدود هذه الأمور (أي: المجاهدات والمقامات)...هوعلم الآخرة، وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة...
وهو كلام واضح صريح، لا يُحتاج معه إلى غيره؛ لأنه كلام من يسمونه (حجة الإسلام)، مع أن غيره يملأ الكتب، على أنهم يحلون ويحرمون ويفرضون الفروض ويسنون السنن.
والسؤال: قل لنا أيها المسلم المؤمن، ما هو حكم الشريعة الإسلامية فيمن يقول مثل هذا؟ أو يفعله؟ أو يعتقده؟
وفي الآية الكريمة الجواب: ((سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [الطور:43].
4- ويقول سبحانه: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ...)) [البقرة:165].
وقد اتخذ المتصوفة من شيوخهم أنداداً يحبونهم كحب الله، بل أشد حباً، حتى كأن الآية أنزلت فيهم خاصة، وهذا قول مر معنا لأحد أقطابهم العظام: (حقيقة حب الشيخ أن يحب الأشياء من أجله ويكرهها من أجله، كما هو الشأن في محبة ربنا عز وجل).
وقول الآخر: الطريق ذكر الله ومحبة الشيخ.(2/83)
والسؤال: ما هو حكم الشريعة الإسلامية على من يقول هذا؟ أو يفعله؟ أو يعتقده؟
إن الآية الكريمة تعطينا الجواب الكريم: ((وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ)) [البقرة:165].
5- قال ربعي بن عامر لكسرى: [[بعث الله إلينا رسولاً ليخرجنا من عبادة الناس إلى عبادة رب الناس]].
وجاءت الصوفية لتعكس الآية وتعيد الشرك إلى مساره، فتخرج الناس من عبادة رب الناس إلى عبادة المشايخ وعبادة قبور المشايخ!
والسؤال: ما هو حكم الشريعة الإسلامية على هؤلاء؟ بل ما هو حكم الشريعة الإسلامية على من يتوقف في الحكم عليهم؟
6- سيقول لك المتصوفة وشيوخهم وكثير من الغافلين والمغفلين: معاذ الله، الصوفية لا يعبدون الشيوخ، لا يعبدون إلا الله...وقد يقدمون بعض الأمثلة الموهمة والمتداولة بينهم.
فنجيب: لا، بل يعبدون الشيوخ، وهذه أقوالهم وأقوال عارفيهم وأقطابهم الذين يتبركون بالركوع أمام قبورهم ولثم حجارتها والاستغاثة بما فيها من رمم، وأمثلهم طريقة ذلك الذي يعتقد أنهم يقربونه إلى الله زلفى وحسن مآب، وهذه أفعالهم كلها شاهدة عليهم بوضوح كوضوح الشمس في رائعة نهار مشمس، على أنهم يؤلهون الشيوخ ويعبدونهم. ولو جمعت أقوال عارفيهم في تأليه الشيوخ لملأت ألوف الصفحات.
وإنكارهم هذا، يسمى في الشريعة الإسلامية وفي اللغة العربية وفي جميع ما تعارف عليه البشر من أخلاق (الفجور).
- وسيقول بعضهم، متحرفاً لقتال (وفي لغة العصر مناورة): هذا واقع كثير من المتصوفة، وهو من الدخن والانحراف الذي أصاب التصوف كما أصاب غيره من أمور الشريعة. والتصوف الحق بريء من ذلك.(2/84)
فنقول: (شنشنة نعرفها من أخزم). إن واقع المتصوفة منذ أن وجدت الصوفية وفي كل الأمم، لا في المسلمين وحدهم، هو تأليه الشيخ وعبادته، وهي الطريق التي توصل المريد أو السالك إلى استشعار الألوهية، أما من يصل إلى الجذبة دون شيخ فيسمونه هم: (المراد)، ويعنون بها أن الله أراده فجذبه إليه.
وهذا افتراء على الله الكذب؛ لأن القرآن ينفي على لسان المسيح صلوات الله عليه أن يعرف أحد ما يريده الله: ((إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)) [المائدة:116]، ونقول لهم: هذه صورة من مراوغاتكم (للالتفاف حول الهدف)، أتقنتموها أنتم وأشياخكم تظهرونها وتخفونها حسب الظروف المحيطة، وهي من أساليب التقية الواجبة في عقيدتكم الصوفية كما قال الغزالي:
وإن كان قد صح الخلاف فواجب ... ... على كل ذي عقل لزوم التقية
7- وقد يأتي من لا يستحي من أن يقول: إن كلام العارفين هذا له تأويل!! فنقول له: لقد انتهينا من خرافة التأويل، وأحبولة التأويل، ومغالطة التأويل، وخدعة التأويل، ((يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)) [البقرة:9، 10].
لأنهم إذ يقولون هذا له تأويل، فهم يخادعون ويكذبون ويدجلون ويمكرون لجر المسلمين إلى زندقاتهم.
8- يدعون حب الله، وما أكثر أقوالهم في ذلك وفي العشق الإلهي. ومن المقامات التي يدعيها بعضهم في السلوك إلى الجذبة ما يسمونه (المحبة والشوق) إلى الله.(2/85)
والله سبحانه وتعالى يقول آمراً رسوله أن يعلمنا: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)) [آل عمران:31]. فالله سبحانه يأمرنا إن كنا نحبه، أن نتبع رسوله، وهذا يعني أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هو الدليل على حب الله، وعدم اتباعه دليل على عدم حب الله، وهؤلاء القوم يتبعون المشايخ الذين يأمرونهم بتأليه الرسول لا باتباعه. فهل هم بعد ذلك صادقون بادعائهم حب الله؟
الجواب: هو ما تقرره الآية الكريمة، بأنهم لا يحبون الله، وهذا هو واقعهم، فهم يحبون الجذبة واللذة التي يجدونها أثناء الجذبة والتي تستغرق كل خلية في كيانهم، وهي لذة تحشيشية جنسية يتوهمون أنها إلهية، ثم بعد أن يقعوا في الجذبة عدداً كافياً من المرات، يصابون بمرض الإدمان، مثل الإدمان الذي يصيب متعاطي الأفيون تماماً، حتى إذا ما امتنعت عليهم الجذبة في بعض الأحيان لسبب ما، أصيبوا بنفس الأعراض التي تصيب مدمن الأفيون عندما ينقطع عنه، من وله قاتل وصداع وما يشبه الجنون. وهذا هو ما يسمونه (العشق الإلهي) الذي يظهر في بولهم.
النتيجة: الذين يتبعون المشايخ لا يحبون الله، إذ لوكانوا يحبونه لاتبعوا رسوله. ويقول سبحانه: ((اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ)) [الأعراف:3]، هذا أمر من الله، يكفر من يخالفه.
وهؤلاء القوم يتبعون من دونه المشايخ، يأمرونهم بكل ما لم ينزل به الله سلطاناً فيأتمرون به! يأمرونهم بالركوع للشيخ فيركعون! يأمرونهم بالرابطة التي يسمونها (شريفة) فيطيعون! يأمرونهم بالرقص فيرقصون! يأمرونهم بأوهام كشوفهم في العقائد والعبادات فيأتمرون! فهل يكونون بعد ذلك من أهل القرآن؟!
إن أهل القرآن هم الذين يعملون بأوامره وينتهون عن نواهيه.(2/86)
- يقول سبحانه: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا)) [الجاثية:18]. فهل يتبعها هؤلاء القوم؟ طبعاً لا، لأنهم عندما يتبعون مشايخهم فقد خرجوا من اتباع الشريعة. وقد مر معنا قول أقطابهم للخادم: كل ولك أجر صوم شهر، وكل ولك أجر صوم سنة، وموافقة عالمهم القطب القشيري على ذلك.
فهل هذا هو اتباع للشريعة الإسلامية؟ طبعاً لا!
1- رأينا قول أبي مدين المغربي في الشيخ:
ففي رضاه رضا الباري وطاعته ... ... يرضى عليك فكن من تركها حذراً
وقول عبد القادر الجيلاني: إذا لم تفلح على يدي لا فلاح لك قط.
وقوله: والتحبب إلى الشيوخ من الأولياء والأبدال إذ ذاك سبب لدخوله في زمرة الأحباب.
وغيرها وغيرها من الأقوال التي تملأ ألوف الصفحات. فما هو حكم الإسلام في ذلك؟
يقول سبحانه: ((فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ)) [الزمر:2، 3].
إن المتصوفة هم أول من تنطبق عليهم أحكام هذه الآية باتخاذهم أولياء من دون الله ليقربوهم إلى الله زلفى...
- والسؤال: لِمَ -إِذَنْ- يقدسون الشيخ هذا التقديس؟ وما هي فائدته؟
- إن للخضوع الكامل للشيخ ولعبادته وتقديسه فائدتين عظيمتين:(2/87)
أ- خرق العادة: فمن القواعد المقررة أن الشياطين لا تقدم خدماتها للساحر إلا بعد أن يكفر: ((وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)) [البقرة:102]، والسحر هو الكهانة، وهي الصوفية؟ فكلما ازداد المريد غلواً في إشراكه الشيخ بالله، كلما ازدادت أمامه الخوارق الشيطانية، التي يسمونها (كرامات)، ويعزونها إلى المدد المفاض عليهم من الشيخ!
ب- التحقق أثناء الجذبة بالفناءات في الله: (الفناء في صفات الله وفي أسمائه وفي ذاته)، أو (التحقق بالألوهية)، وذلك أن المجذوب يرى في أحلام جذبته، صوراً هي خليط من انطباعات قديمة وحديثة مستقرة في أعماق لا شعوره، تختلط مع أماني وطموحات تسربت إلى أعماق نفسه من المحيط الذي يعيش فيه، وهذا هو نفس ما يراه متعاطي الحشيش والأفيون وعقار الهلوسة، وبدون الشيخ تكون رؤى المجذوب مثل رؤى الحشاش، تدور حول الجنس واللهو واللذة أو الحقد والحسد،
لكن الشيخ، بخبرته التي استقاها هو أيضاً من شيخه، يغرس في نفس المجذوب طموح العروج إلى السماوات والعرش والجلوس مع الله (جل الله)، ثم الفناء فيه بحيث يرى نفسه أنه جزء منه (سبحانه)، أو أنه هو هو بكامل أسمائه وصفاته (سبحانه وتعالى عما يصفون)، ويرى في أحلام جذبته أنه يتصرف بالكون، ويقول للشيء كن فيكون. ولا ينجح الشيخ بهذه المهمة إلا إذا كان المريد قد عجن عقله وعواطفه ونفسه كلها بحب الشيخ وتقديسه وطاعته، بحيث تغدو كلمة الشيخ جزءاً من كيان المريد لدى التلفظ بها.
ويجب ألا ننسى أن قوة شخصية الشيخ وجاذبيته تلعبان دوراً هاماً في استقطاب قلوب مريديه وعواطفهم حوله وتساعدان على تهيئتهم لرؤى (تحشيشهم الروحاني) التي يسمونها (الكشف).
وفي هذا يقول الغزالي:(2/88)
...فكذلك المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة ليهديه إلى سواء السبيل، فإن سبيل الدين غامض، وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة، فمن سلك سبل البوادي المهلكة بغير خفير فقد خاطر بنفسه، وأهلكها، ويكون المستقل بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها...فمعتصم المريد بعد تقديم الشروط المذكورة شيخه، فليتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد(1)...اهـ.
ولذلك قالوا أيضاً: من لا شيخ له فشيخه الشيطان؛ لأن رؤاه تكون مثل رؤى الحشاشين تماماً.
- وأخيراً، لنقرأ قوله سبحانه: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ. أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ)) [المؤمنون:1-10].
ولم يقل سبحانه: قد أفلح الذين يتمسكون بالشيخ، أو لا يفلح إلا باتباع شيخ، أو من لا شيخ له فشيخه الشيطان...أو بقية الشركيات.
- وهنا يقف المسلم الصادق أمام أمرين لا ثالث لهما: إما أن يؤمن بالقرآن الكريم ويكفر بهؤلاء القوم وبعقيدتهم، وإما أن يؤمن بهم وبعقيدتهم ويكفر بالقرآن الكريم، وأي طريق آخر لا وجود له إلا بالمراوغة والدجل.
الفصل الثاني
مناقشة الرياضة (المجاهدة)
__________
(1) إحياء علوم الدين: (3/65).(2/89)
لنبدأ المناقشة بقراءة آيات من كتاب الله: ((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ)) [الأنعام:50].
((قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي)) [الأعراف:203].
((قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)) [يونس:15].
((إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)) [الأحقاف:9].
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو رسول الله، لا يأتي من عنده بشيء في التشريع مطلقاً، وكل شيء يأمر به وينهى عنه فهو اتباع لما يوحى إليه. ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)) [النجم:4].
ويأمره الله سبحانه، والأمر موجه لكل من يتبع الرسول: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا)) [الجاثية:18]. ((اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ)) [الأعراف:3].
((وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)) [النور:21]. ((فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ)) [القصص:50].
والآيات كثيرة. والأحاديث كذلك كثيرة. منها: {وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة}. {من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد}.(2/90)
ومن القواعد الأصولية المقررة: (كل العبادات باطلة إلا ما نزل به نص). فهل يتبع الصوفية آيات الله وأحاديث رسوله، فيما يسمونه افتراءً (السير إلى الله)، وما هو إلا السير إلى الجذبة، وإلى الرؤى العصابية والشيطانية التي يستشعرونها في الجذبة. هل يتبعون آيات الله وأحاديث رسوله؟؟
1- الخلوة:
ليست من العبادات الإسلامية، ولا خلوة في الإسلام، وهي بدعة محدثة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أصحابه وتابعيهم وتابعي تابعيهم.
إنها بدعة محدثة في الإسلام، أما في الأمم الأخرى فهي قديمة قدم الكهانة.
2- الصمت:
وهو مناقض للعبادة في الإسلام، إذ العبادة هي أقوال وأعمال معينة، علمها الرسول للمسلمين ليتبعوها ولا يتبعوا غيرها. (وإلا فما هي الفائدة من رسالته؟).
ولا يوجد أي نص يجعل الصمت من العبادة الإسلامية، فهو بدعة.
وهو موجود في كل الأمم التي بنيت عقائدها على الكشف والإشراق.
3- الجوع:
فرض الله سبحانه صيام رمضان، وسن رسوله صلى الله عليه وسلم صيام أيام أُخَر، وحرم الوصال في الصيام، كما أمر أن يكون الصيام في غير رمضان متقطعاً.
وجوع الصوفية هو صيام أيام كثيرة لا يفطرون فيها مع المغرب، ولا سحور فيها، بل جوع مستمر حسب الأسلوب الكهاني الموجود في الهندوسية والبوذية والجينية والطاوية وغيرها. فهو ليس من العبادات الإسلامية، وليس من الإسلام في شيء، وهو بدعة.
4- السهر:
الوارد في الإسلام هو قيام الليل ضمن الحدود التي رسمها الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: {لا...ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر...فمن رغب عن سنتي فليس مني}(1). فليس السهر من الإسلام، ولا من عبادات الإسلام، ولا من المعمول به في الإسلام، وقد رأينا قول رسول الإسلام فيه وفي الجوع: {فمن رغب عن سنتي فليس مني}، أي: إن الذين يقومون بهذه الطقوس ليسوا من رسول الله، وبالتالي ليسوا من الإسلام.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب النكاح.(2/91)
5- تعذيب النفس بالضرب (كما كان يفعل الشبلي وغيره)، أو بالوقوف على رجل واحدة طيلة الليل، أو غير ذلك مما هو مستفيض في كتبهم، فهذا واضح البطلان، وهو من تلاعب الشياطين بهم، وليس الله سبحانه بحاجة أن يضربوا أنفسهم ويعذبوها ليرضى عنهم: ((هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)) [الحج:78]، إنما يرضى الله عن المؤمنين إذا عبدوه كما أمرهم (لا كما يبتدعونه أو يقلدون به أصحاب الوثنيات)، ويرضى سبحانه عن المؤمن إذا أدى لكل ذي حق حقه.
* ملحوظة هامة:
من أساليب القوم في المغالطة والمخادعة، قولهم: إنهم يتأسون في الخلوة وتوابعها، بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان قبل الرسالة يختلي أياماً كثيرة في غار حراء.
هذه المغالطة، مثل غيرها، فيها جهل غبي، أو تجاهل ماكر؛ لأن الآية الكريمة تقول: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ...)) [الأحزاب:21].
ولم يصبح محمدٌ (رسولَ الله) إلا بعد أن نزل عليه الوحي بالرسالة. أما قبلها فقد كان إنساناً كبقية الناس على الإطلاق، لا يمتاز عنهم إلا بأخلاقه الكريمة. يقول سبحانه: ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ)) [فصلت:6]، وهذه الآية واضحة كل الوضوح، لا لبس فيها ولا غموض، بأن الفرق بينه صلى الله عليه وسلم وبين بقية البشر، هو الوحي.
ويقول سبحانه: ((قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولاً)) [الإسراء:93]. ويقول: ((قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ...)) [إبراهيم:11]. ويقول صلى الله عليه وسلم: {أنا فيما لم يوح إلي كأحدكم}. ونعود إلى آية التأسي، إنها تأمرنا أن تكون أسوتنا برسول الله (الذي ينزل عليه الوحي)؛ وذلك لأن (رسول الله) معصوم بالوحي؛ أما قبل الرسالة فلم يكن معصوماً؛ لأنه لم يكن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم.(2/92)
وفي واقع الأمر، إصرارهم على القول بالتأسي بمحمد قبل الرسالة، منبثق عن:
1- عقيدتهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم وصل إلى النبوة بالمجاهدة والرياضة، وأن النبوة هي فتح مثل فتوحهم، وهم بالتالي، لا يعتقدون أن النبوة فضل من الله سبحانه يجعلها حيث يشاء.
2- منبثق عن عقيدتهم بما سموه (الحقيقة المحمدية) النابعة من (وحدة الوجود)، الباطلة الكافرة.
3- عن إنكارهم للمعنى الشرعي الصحيح لآيات القرآن وأحاديث السنة، وتأويلهم لها لتتفق مع كشفهم، كما صرح بذلك حجتهم الغزالي(1)، وكما نراه معمولاً به في كتبهم.
4- عقيدتهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم معصوم عصمة ذاتية، وليس بالوحي! وأنه أخذ علومه عن طريق الكشف، لا عن طريق جبريل عليه السلام، كما صرح بذلك حجتهم الغزالي(2) وغيره.
أخيراً..
المجاهدة، أو الرياضة، بكل عناصرها، ليست من الإسلام، ولا من عقيدة الإسلام، ولا من عبادات الإسلام، ولا من سنن الإسلام، ولا من مستحبات الإسلام، ولا من فضائل الإسلام، ولا من ممارسات الإسلام، ولا من عادات الإسلام، ولا من الأعمال المأجورة في الإسلام، ولا من الأعمال المشكورة في الإسلام.
إنما هي طقوس كهانية، مارستها وتمارسها الأمم الوثنية، تقود إلى الجذبة، لا إلى رضا الله تعالى.
* مناقشة الذكر:
لم أعثر في حدود اطلاعي، عند إشراقيي الأمم الأخرى، على وجود ممارسة للذكر بمداه الواسع وشكله الأساسي الموجودين عند متصوفة المسلمين.
__________
(1) انظر المدخل إلى فهم النصوص الصوفية.
(2) انظر فصل: (نماذج من حكايات الصوفية).(2/93)
ففي الأمم الأخرى، يعتمدون أساساً على الرياضة (الخلوة والجوع والصمت والسهر)، مع تركيز البصر على نقطة ما، مدة طويلة، مع تعذيب النفس في أكثر الأحيان، وهم- أثناء الرياضة- يركزون الفكر ويثبتونه على كلمة ما، فعند الهندوس مثلاً، يأخذ السالك في رياضته إحدى وضعيات اليوغا(1)، ويركز بصره على شيء ما، ثم يركز فكره في كلمة (أوم) التي هي عندهم الاسم المستسر لبراهمان(2)، أو (راهام).
قد تدوم مثل هذه الرياضة مدة طويلة جداً، ومن حين لآخر يعمدون إلى الرقص العنيف والموسيقى الصاخبة المدوية يصاحبها الزعاق، ثم يعودون إلى رياضتهم.
- والخضوع المطلق للشيخ (السامانا) الأكبر هو محور كل مجاهداتهم.
تسبب هذه المجاهدة؛ مع الاستمرار والزمن، إفراغاً لمراكز الوعي والشعور في الجملة العصبية، وهي حالة (الاستخدار) التي تجعلها في استرخاء يفقدها كثيراً من فعالياتها، ويهيؤها للتأثر بكمية من المخدر، أي مخدر، أقل من الكمية المؤثرة في الحالة العادية، كما تدفع الجسم لإفراز المادة المخدرة بكمية أكبر من المعتاد.
لكن هذه الرياضة تحتاج إلى كثير من قوة الإرادة والصبر، كما تحتاج إلى العزلة التامة. على أن متصوفة المسلمين عرفوا أسلوباً سهَّل عليهم الأمر كثيراً.. إنه ترديد كلمة ما، كائنة ما كانت، بشكل مستمر دون انقطاع، ليلاً ونهاراً، وهو ما سموه (الذكر). وهذا الذكر المستمر يساعد كثيراً على الوصول إلى حالة الاستخدار، ثم إلى الخدر (الجذبة) بمدة أسرع.
لكن هل صحيح ما يدعيه متصوفة المسلمين أمام الناس، أن ذكر الله، سواء بالاسم المفرد (الله) أو بالأذكار الإسلامية الأخرى، أو بأذكارهم وصلواتهم التي يبتدعونها، هي التي تقود إلى الجذبة؟
__________
(1) اليوغا رياضة تعبدية هندوكية.
(2) براهمان الإله الخالق عند الهندوك.(2/94)
الواقع خلاف ذلك فهاهم أقطابهم وعارفوهم وعلماؤهم، يؤكدون أن ترديد أي كلمة كانت، أو أي جملة، بصورة مستمرة، مئات الألوف من المرات، أو ملايينها، يؤدي إلى الجذبة، بعد مدة قد تطول وقد تقصر.
وهذه أدلة من أقوالهم في ذلك:
يقول ابن عطاء الله السكندري:
...والذكر تختلف أنواعه وتتعدد، والمذكور واحد لا يتعدد ولا يتحدد...(1).
- لننتبه إلى قوله: (لا يتحدد) وماذا تعني.
ويقول: ...وروي أن أبا القاسم الجنيد رحمه الله تعالى قال لبعض خواص أصحابه: إن اسم الله الأعظم هو (هو)...وذكر أن أهل المعرفة في هذا الاسم على أربعة أصناف أيضاً: فعارف قال: (الله)، وعارف قال: (هو)، وعارف قال: (أنا)، وعارف بهت(2)...
- ما هو معنى قوله: (وعارف بُهت)؟ ولِمَ بُهت؟ أظن الجواب واضحاً، إنه بُهت لأنه عرف أن كل شيء هو اسم الله الأعظم.
ومن النصين نفهم أن الذكر يمكن أن يكون بترديد كلمة (الله الله الله الله)، أو (هو هو هو هو)، أو (أنا أنا أنا أنا)، أو الأشياء التي جعلت العارف يُبهت.
ويقول ابن عطاء الله أيضاً:
...أما المسلوب الاختيار فهو مع ما يرد عليه من الأذكار وما يرد عليه من جملة الأسرار، فقد تجري على لسانه (الله الله الله)، أو (هو هو هو هو)، أو (لا لا لا لا)، أو (آه آه آه آه)، أو صوت بغير حرف، أو تخبط، فأدبه التسليم للوارد. وبعد انقضاء الوارد يكون ساكناً ساكتاً، وهذه الآداب لمن يحتاج إلى ذكر اللسان، أما الذاكر بالقلب فلا يحتاج إلى هذه الآداب(3)...
ويورد عبد الوهاب الشعراني ما يشبه هذا، يقول:
__________
(1) القصد المجرد، (ص:82).
(2) القصد المجرد، (ص:56).
(3) مفتاح الفلاح، (ص:30، 31).(2/95)
...وقال سيدي يوسف العجمي رحمه الله: وما ذكروه من آداب الذكر محله في الذاكر الواعي المختار، أما المسلوب الاختيار، فهو مع ما يرد عليه من الأسرار؛ فقد يجري على لسانه: (الله الله الله الله)، أو (هو هو هو)، أو (لا لا لا)، أو (آه آه آه)، أو (عا عا عا عا) أو (آ آ آ آ)، أو (هـ هـ هـ)، أو (ها ها ها)، أو صوت بغير حرف، أو تخبيط، وأدبه عند ذلك التسليم للوارد(1).
ويقول ابن عربي:
...فأغلق بابك دون الناس، وكذلك باب بيتك بينك وبين أهلك، واشتغل بذكر الله بأي نوع شئته من الأذكار، وأعلاها الاسم، وهو قولك: (الله الله الله)(2)...- نفهم معنى قوله: (بأي نوع شئته مق الأذكار) من قول آخر له: (...فما عُبد غير الله في كل معبود...)(3).
- يعني: أن كل ما عبد من صنم وشجر وبشر وغيره هو الله، ويمكن للذاكر أن يذكر بما يريد من أسماء المعبودات التي عبدت في كل الوثنيات، كأن يردد مثلاً: (هبل هبل هبل هبل..)، أو (جيلاني جيلاني جيلاني..)، أو (جذبة جذبة جذبة جذبة..)، أو (لينين لينين لينين لينين...)، أو (إنتاج إنتاج إنتاج إنتاج..)، أو (مقام مقام مقام مقام..)، أو (ضريح ضريح ضريح ضريح..)، أو (رفاعي رفاعي رفاعي..)، وغيرها.
ويروي ابن عجيبة قصة الششتري فيقول:
...وكذلك قصة الششتري رضي الله عنه مع شيخه ابن سبعين؛ لأن الششتري كان وزيراً وعالماً، وأبوه كان أميراً، فلما أراد الدخول في طريق القوم، قال له شيخه: لا تنال منها شيئاً حتى تبيع متاعك وتلبس قشابة وتأخذ بنديراً وتدخل السوق؛ ففعل جميع ذلك، فقال له: ما نقول في السوق؟ فقال: قل: بدأت بذكر الحبيب، فدخل السوق يضرب بنديره ويقول: بدأت بذكر الحبيب، فبقي ثلاثة أيام وخرقت له الحجب(4)...
- نلاحظ أن ذكره هنا ليس فيه شيء من أسماء الله الحسنى.
__________
(1) الأنوار القدسية في معرفة القواعد: (1/39).
(2) رسالة الأنوار، (ص:6).
(3) فصوص الحكم، (ص:72).
(4) إيقاظ الهمم، (ص:28).(2/96)
وكتب ابن سبعين إلى أحد مريديه (في الرسالة النورية):
...وجميع ما توجه الضمير إليه، اذكره به ولا تبال، وأي شيء يخطر ببالك سمه به، ومَن اسمه (الوجود) كيف يخصص بأسماء منحصرة؟! هيهات! الله لا اسم له إلا الاسم المطلق أو المفروض، فإن قلت: نسميه بما سمى به نفسه أو نبيه، يقال لك: إن من سمى نفسه (الله) قال لك: أنا كل شيء، جميع من تنادي أنا...وبعضهم كان يقول: قد قد قد هذا هذا هذا له له له(1)...
ويقول ابن أنبوجة الشنقيطي في (وصف العارف):
...فهو (أي: العارف) الخليفة الأعظم، إذ لا اسم له يختص به، فإن أسماء الوجود كلها أسماؤه، لتحققه بمراتبها، ولكونه هو الروح في جميع الموجودات، فما في الكون ذات إلا وهو الروح المدبر لها والمحرك والقائم فيها، ولا في كرة العالم مكان إلا وهو حال فيه ومتمكن منه. فبهذا الاعتبار لا اسم له يتميز به عن الوجود(2)...
- نرى في هذا النص أنهم يسبغون على العارف صفات هي نفس ما يسبغونه على الله (تعالى الله عما يقولون)، وعليه يمكن ذكر الله بترديد كلمة: (عارف عارف عارف عارف..) أو (عمر بن الفارض عمر بن الفارض عمر بن الفارض...)، أو (الغزالي الغزالي الغزالي الغزالي..)، أو (الشيخ الشيخ الشيخ الشيخ...)، أو (سيدي سيدي سيدي سيدي..) إلخ.
ويقول أبو الهدى الصيادي الرفاعي:
...والفناء، حقيقة سر الاعتقاد به من سر قوله عليه الصلاة والسلام: لو اعتقد أحدكم على حجر لنفعه(3).
- الحديث مكذوب، والاعتقاد به كفر، لكن يهمنا أنهم يؤمنون به، ويؤمنون أن الاعتقاد به ينفع، ومنه إن ذكر ذاكر اسم (حجر حجر حجر حجر)، أو (قبة قبة قبة قبة)، أو (صخرة صخرة صخرة صخرة..) نفعه (في الوصول إلى الجذبة طبعاً).
يردد علي نور الدين اليشرطي نفس القول:
__________
(1) رسائل ابن سبعين، (ص:184).
(2) ميزان الرحمة الربانية، (ص:115).
(3) قلادة الجواهر، (ص:292).(2/97)
...لو اعتقد أحدكم بحجر لنفعه. وقال: ليس الحجر الذي ينفع، إنما هو الاعتقاد(1).
- طبعاً، إنهما لم يقررا هذا الحكم إلا بعد تجارب، ويجب أن ننتبه إلى أنه ينفع في التصوف والكهانة والسحر فقط، (لأن الصوفية هي نفس الكهانة، والسحر بعضها)، ولا ينفع في شيء غيرها.
ويقول محمد بهاء الدين البيطار:
...فأسماء الله على الحقيقة أعيان العالم وحقائقه، ومظاهر الأسماء هي صور العالم، فلكل اسم إلهي من الصور ما لا يتناهى، فكل ما أمات مثلاً من ثعبان أو سيف أو رصاص أو حجر أو عصا فهو صورة من صور الاسم (المميت)، ومعنى المميت: شأن من شئون الذات الإلهية، وهو عين الذات(2)...
ويقول ابن سبعين في (الرسالة النورية) يخاطب أحد المريدين:
...هذه الكلمات التي نذكرها لك مرموزة مني، غير أن الذاكر ينتفع بها، وهي: عمرش أش عمر صح راهيا إيداحا أيهم اردع صعر عرجم كعلم....فقل إذا وجدت البحر والوجود والحمد: قهوم طمس هوالم صعنج ذلك الله ربكم يا يا يا(3)...
- بدهي أن ابن سبعين لم ينصح مريده بالذكر بهذه الأسماء إلا بعد تجريبها.
- وكما فهمنا من نصوصهم. الذكر يقود إلى الجذبة التي هي الغاية. وفي الطريق قد يحصل للذاكر بعض الخوارق، وينصحونه ألا يهتم بها لأنها تحجبه عن الغاية المنشودة.
والطريق إلى الجذبة قد يقصر وقد يطول، حسب استعداد السالك النفسي والفيزيولوجي. ولعل الذكاء الفطري العالي يبعد الوصول إلى الجذبة! ولعل الغباء الفطري يقصر الطريق إليها.
* وخلاصة لما تقدم:
الذكر بترديد أي كلمة كانت مقرر من كبار عارفيهم، فلا مجال للاعتراض عليه أو الشك فيه، إنهم يقدمونه لمريديهم قاعدة يسيرون عليها في مسيرهم إلى...الجذبة. ومن البدهي أنهم لم ينصحوا به مريديهم إلا بعد تجربة.
__________
(1) نفحات الحق، (ص:229).
(2) النفحات الأقدسية، (ص:5).
(3) رسائل ابن سبعين، (ص:182).(2/98)
ومنه تعلم أن حقيقة ذكرهم ليست مرتبطة بذكر الله سبحانه. وما التزامهم الاسم (الله) أو عبارات الثناء عليه ودعائه إلا أسلوب ذكي لإلباس التصوف رداء الإسلام، وضعه لهم سيدهم الجنيد، وتوسع فيه حجتهم الغزالي، وهو أحد مظاهر الطريقة البرهانية الغزالية، التي يسمونها (التصوف السني).
وذكرهم كله، موضوعه، وشكله، وزمانه، ومكانه، هو بدعة كله، غريب عن الإسلام كله، ومن الردود المفيدة عليه وعليهم، هو رد الإمام النووي رحمه الله.
لقد اتصل الإمام النووي في أول وصوله إلى دمشق، وهو صغير، بالمتصوفة، وسار في طريقهم، وعندما اتسعت معارفه وفهم الإسلام، ترك الصوفية بدون ضجيج، ورد عليهم بكتابين:
1- رياض الصالحين، يبين فيه بالنصوص الصحيحة (إلا قليلاً منها) طريق الصلاح، وحيث يتبين طريق الصلاح، فكل الطرق من دونه ضلال.
2- الأذكار: يبين فيه الأذكار الإسلامية، نصوصها، وأوقاتها، وأماكنها، كل ذلك بأسانيد أكثرها صحيح، وإذ يتبين ذلك، يتبين أن الذكر الصوفي الذي يستعمله السالكون إلى الجذبة، ليس من أذكار الإسلام.
- من جهة ثانية:
كل عبادة في الإسلام لها شروط وأركان.
ويوجد شرط مشترك لكل العبادات الإسلامية (مر معنا في بحث البدعة)، وهو: (كل العبادات باطلة إلا ما ورد به نص)، وبصيغة أخرى: (لا عبادة بدون نص). والذكر عبادة، فهو يحتاج إلى النص، وإلا فلا يكون عبادة.
وذكر الصوفية من حيث الشكل واللفظ إذا كان بالاسم المفرد أو (بما شئت من الأذكار) الواردة آنفاً، لا نص فيه. والنصوص التي يقدمونها، إنما يلفقونها بالتأويل والترقيع، إذن، فهو ليس عبادة.
كما أن للذكر في الإسلام أركاناً: نجدها في الآية الكريمة: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ)) [الأعراف:205].(2/99)
يهمنا في بحثنا هنا قوله سبحانه: ((فِي نَفْسِكَ)) [الأعراف:205]...((وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ)) [الأعراف:205]، فعبارة ((فِي نَفْسِكَ)) [الأعراف:205]، تعني ألا تسمع نفسك، وعبارة: ((وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ)) [الأعراف:205]، تعني ألا يسمعك جارك؛ لأن الجهر هو ما يستطيع سماعه الجار.
إذن، فيجوز في الذكر أن يُسمِع الإنسان نفسَه وأن لا يُسمعها.
وأما الجهر، فمنهي عنه بأكثر من آية وأكثر من حديث.
مع ملحوظة أن هناك حالات نص عليها الشارع، يجب فيها رفع الصوت بالذكر أو يجوز، كما في التلبية بالحج، وقبل صلاة العيدين، وفي التعليم، والحالة العفوية، ولتذكير الغافلين (حيث يجهر بعبارة الذكر مرة أو مرتين فقط)، وليس تفصيل هذه الأمور داخلاً في موضوعنا.
وكل محاولة أو مراوغة لاختراق الحدود التي رسمها الشارع من أجل التوسع بمدلول النص لتبرير الأساليب المبتدعة، هي محاولة باطلة، وهي بدعة وهي ضلالة، ((وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)) [الطلاق:1].
وتعرف الحدود الشرعية من النص، أو من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن فعل أصحابه. والأذكار التي يستعملها الصوفية في الخلوة أو السياحة وفي الحضرة وفي مجلس الذكر أو مجلس الصلاة على النبي أو بعد الانتهاء من الصلاة، كلها فاقدة لشرط وركن معاً، أو لأحدهما على الأقل، لذلك فهي باطلة، وهي بدعة، وهي ضلالة.
والباطل لا يقود إلا إلى باطل. وإن كلمة قالها الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان (أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم) لهي كافية لحسم هذا الموضوع. قال: [[كل عبادة لا يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تَعَبَّدوها، فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً]].
- هذا إن كان الذكر بالأسماء الحسنى أو بعبارات الثناء على الله.(2/100)
أما إن كان بغيرهما مما يقرره كهانهم من أسماء حجارة أو أوثان أو قبور أو غيرها فهي واضحة الزندقة بينة الكفر، وهي من الوثنية التي جاء الإسلام ليحاربها باعتبارها المصدر الرئيسي لكل الشرور، وهي السحر وهي الكهانة.
* قصة مرسلة:-
مستشار في محاكم الاستئناف في مدينة حلب، كانت تجمعه الصلاة في المسجد مع بائع شراب متجول، وفي ذات مرة، طلب إليه البائع أن يجرب أن يقرأ بعد كل وقت من أوقات الصلاة، الكلمات: (بطدٍ زهجٍ واحٍ ياحي ياهٍ) مائة مرة، وبعامل الفضول، صار المستشار يرددها بعد كل صلاة...
بعد ثلاثة أيام، بينما كان جالساً على قوس المحكمة يفصل في قضايا الناس، إذا به يرى أمامه بيته وأهله يقومون بأعمالهم حسب المعتاد، وعندما رجع إليهم بعد الظهر، سألهم عما كانوا يفعلونه في ذلك الوقت؟ فكان في بعض ما رآه بعض ما كانوا يفعلونه. وصارت مثل هذه الحالة تتكرر أمامه كلما كرر تلاوة الأسماء(1).
* فقرة من كتاب صوفي:-
...ولحرف الباء خلوة، وخادمه مهيائيل، فإذا أردت استخدامه اكتب الحرف وضعه في رأسك بعد الرياضة، واتل الدعوة والقسم دبر كل صلاة 31 مرة، واتل العزيمة والرياضة 40 يوماً، فإن الملك يحضر ويقضي حاجتك، ومهما أردته تبخر وتقول: أجب يا خادم حرف الباء، فإنه يحضر(2)...
- إن كتب التصوف المحض، والتي لم تؤلف للخداع والتضليل والمراوغة، ملأى بمثل هذه الفقرة، وهي واضحة كل الوضوح في أن التصوف هو السحر، والفرق بينهما أن الصوفي مخدوع مراوغ، والساحر صادق.
ويكفي للدلالة على أن الصوفية هي السحر، الرجوع إلى كتاب (شمس المعارف الكبرى) للبوني(3)، وكتاب (مجموع ساعة الخير) لابن عربي، و(المضنون به على غير أهله) للغزالي، و(صفحات من بوارق الحقائق) للمهدي الصيادي، وغيرها..
__________
(1) لم يتيسر استئذانه لذكر اسمه.
(2) شمس المعارف الكبرى، (ص:401).
(3) أحمد بن علي البوني من بونة في الجزائر، واسمها الآن عنابة، مات سنة (622هـ).(2/101)
لكن أقطاب التصوف العارفين بالله يتواصون فيما بينهم بتأليف الكتب الموهمة أنها من الإسلام، ذات المظهر الإسلامي الخداع؛ لأن الحكمة تقتضي ذلك، وطبعاً هم يفعلون ذلك عن إخلاص وإيمان بما يفعلون، شأن أي متدين مخلص لدينه ومؤمن به.
- وقبل الانتقال إلى البحث التالي، يجدر الانتباه إلى أن المتصوفة قد يستعملون الأذكار الإسلامية حسب المنهج الإسلامي، ويكون هذا منهم عملاً صحيحاً؛ لكنه لا يكون أبداً تبريراً لأذكارهم الصوفية حسب المنهج الصوفي.
* مناقشة الحضرة:
عرفنا أن الحضرة تكون: جالسة صامتة، أو جالسة صائتة، أو راقصة (بنقص أو بدون نقص).
1- الجالسة الصامتة:
في الرد عليها يكفي حكم عبد الله بن مسعود، الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (كما يرويه الحافظ الذهبي في التذكرة): {خذوا عهدكم عن ابن أم عبد}.
نجد حكم عبد الله بن مسعود هذا في (سنن الدارمي):(2/102)
...عن عمر بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه، قال: [[كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة (أي: الفجر)، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخرج عليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعاً، فقال: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيراً. قال: فما هو؟ قال: إن عشت فستراه.. رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة مرة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة مرة، فيهللون مائة، فيقول: سبحوا مائة مرة، فيسبحون مائة. قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً انتظار رأيك أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء. ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء أصحابه متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة. قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وأيم الله، لا أدري، لعل أكثرهم منكم...]].
- الرجاء ملحوظة أن الجلسة النقشبندية هي مثل هذه الجلسة.
2- الحضرة الجالسة الصائتة:
في الرد عليها نذكر ما يلي:(2/103)
- الآية الكريمة: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ...)) [الأعراف:205]، وهؤلاء يجهرون بذكرهم، كما يخلو ذكرهم من التضرع والخيفة.
- الحضرة بجميع أنواعها، ومثلها هذه، بدعة تنطبق عليها كل الأحاديث الواردة في البدعة، والتي رأيناها قبل قليل.
- حديث ابن مسعود السابق هو رد عليها كما هو رد على الجالسة الصامتة.
- قول حذيفة بن اليمان: [[كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله فلا تعبدوها]]، رد عليها وعليهم.
وبالتالي، هذه الحضرة (الجالسة الصائتة) هي مثل غيرها، بدعة، فهي مردودة عليهم.
3- الحضرة الراقصة (وكلها صائتة):
إن جميع الردود على البدعة وعلى أساليبهم في الذكر، وعلى الجالسة الصامتة، وعلى الجالسة الصائتة، هي ردود على الحضرة الراقصة، يضاف إليها:
- هي نفس صلاة اليهود!
جاء في (المزمور:149) (عدد:3): (ليسبحوا اسمه برقص، بدف وعود، ليرنموا له..).
وفي (المزمور: 150): (سبحوه بدف ورقص، سبحوه بأوتار ومزمار، سبحوه بصنوج التصويت، سبحوه بصنوج الهتاف...).
- وثنيو إفريقيا السوداء (الفيتيشيون) عباداتهم كلها رقص وسماع.
- الهندوس، صلاتهم لأصنامهم مثل الحضرة الراقصة، يتوسطهم الكاهن أمام الصنم، يرقصون ويهزجون، أي: إن صلاتهم هي رقص وسماع وقرع أجراس.
* الخلاصة:-
الحضرة الصوفية بجميع أشكالها، بدعة، ونقض للآيات والأحاديث، وتشبه كامل بالطقوس اليهودية والوثنية، (فيتيشية وهندوسية وجينية وطاوية...).
- أما كونها بدعة، فهي ضلالة، وكل ضلالة في النار.
- وأما كونها نقضاً للآيات والأحاديث، فهي كفر وزندقة وردة.
- وأما كونها تشبه الطقوس الوثنية واليهودية، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من تشبه بقوم فهو منهم}.
ولا حاجة للزيادة.
* مناقشة السماع:(2/104)
إن كل النصوص الواردة في السماع، حلاله وحرامه، وكل بحوث العلماء (وأقول: العلماء)، هي نصوص وبحوث فيه على أنه أمر دنيوي، ودنيوي فقط، لا علاقة له بعبادة ولا بتقرب إلى الله.
ولم يرد فيه نص (علمي) قط، بتحليل أو تحريم، إلا على أنه أمر دنيوي يمارس في الأعياد والأعراس والحرب أو في التسلية واللهو والطرب.
أما أن يكون طقساً تعبدياً، كما هو عند المتصوفة، فهذا شيء ما عرفه التشريع الإسلامي، ولا تكلم فيه عالم؛ لأنه بدهياً، غير وارد في العبادات الإسلامية.
أما المتصوفة، فيتخذون السماع طقساً تعبدياً روحانياً يسهل عليهم ما يسمونه ظلماً وعدواناً (السير إلى الله). وهنا يكمن الداء، ويعشعش البلاء.
إن السماع عند المتصوفة عبادة، وفي الغالب يكون مصحوباً بالآلات، وهذا كله:
1- بدعة، وذلك بين لا يحتاج إلى دليل، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
2- تشبه بالوثنيين وأهل الكتاب، يقول سبحانه في وصف صلاة المشركين: ((وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً)) [الأنفال:35].
وجاء في التوراة (الحالية) في (المزمور: 144) (عدد: 9): (يا الله، أرنم لك ترنيمة جديدة..).
وفي (المزمور:146) (عدد:2): (أسبح الرب في حياتي وأرنم لإلهي ما دمت موجوداً). وفي (المزمور: 149) (عدد: 3): (ليسبحوا اسمه برقص، بدف وعود، ليرنموا له..). وكذلك هو في الديانات الوثنية طقس تعبدي.
إذن فالصوفية يتشبهون بالسماع بالوثنيين وأهل الكتاب، و{من تشبه بقوم فهو منهم}.
* ملحوظة هامة جداً:(2/105)
من العجب العجاب، مغالطتهم، في كل مقولاتهم عن السماع، في كل كتبهم (ابتداءً من أمهات كتبهم (اللمع)، (التعرف)، (قوت القلوب)، (الرسالة القشيرية)، (إحياء علوم الدين) إلى بقية ما كتبوا وما دونوا)، حيث يبدءون بمناقشة السماع حسب الشرع والنصوص المزور بعضها، وطبعاً كل النصوص الشرعية في السماع إنما تتكلم عنه على أنه أمر دنيوي يمارس للتسلية واللهو، لكن الصوفية يتوسعون في التحليل حسب طريقتهم في التزوير، ثم يطبقون ذلك على سماعهم التعبدي الذي يجعلونه قربى يتقربون به إلى الله.
ولعل الأمثلة التالية يمكنها توضيح مدى الفساد والضلال في أسلوبهم هذا:
- يبيح الشرع أكل الشاورما، فهل يصبح أكل الشاورما بهذه الإباحة طقساً يعرج به إلى الله؟
- يبيح الشرع البصاق الذي ليس فيه أذى، فهل يجوز بناءً على ذلك، أن نجعل البصاق طقساً تعبدياً في (السير إلى الله)!
لا يعترض الشرع على أحد إذا خطر له أن يحك أذنه بإبهام رجله، فهل يصح، بناءً على هذا، أن يكون حك الأذن بإبهام القدم طقساً تعبدياً يمارس تنشيطاً على (العروج إلى الله)؟!
عجيب أمر هؤلاء القوم، هل هم لا يكادون يفقهون حديثاً؟ أم ((يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)) [البقرة:9، 10]؟
وغاية الطريقة الإشراقية هي الوصول إلى الجذبة التي هي الولاية (كما يتوهمون)، وهي حالة خدرية تشبه الحالة التي يقع فيها متعاطي الحشيش والأفيون ورفاقهما شبهاً تاماً.
* النتيجة:(2/106)
هذه هي طريقة الإشراق، كلها كفر وضلال وزندقة، إنها ليست مجرد بدع ساذجة أو انحرافات بسيطة، بل هي الطقوس الوثنية (وأقول: الطقوس) التي تعبدت بها كل وثنيات التاريخ (في الحال والماضي والاستقبال)، والعقائد الوثنية التي دانت بها أو حامت حولها كل وثنيات التاريخ في ماضي الزمان وحاضره، إنها ليست مجرد اجتهادات شاذة في الفروع أو في الأصول، أو حتى في العقائد؟ إنها طقوس وممارسات وعقائد غريبة عن الإسلام كل الغرابة، بعيدة عن الإسلام كل البعد، أُقحمت على الإسلام ومزجت به بأساليب إبليسية لتشكل ما يسمونه (الطريقة البرهانية) ولو أنصفوا لسموها (الديانة البرهانية).
الفصل الثالث
مناقشة الطريقة البرهانية (الغزالية)
(ويسمونها عادة التصوف السني)
رأينا في النصوص السابقة أن الطريقة البرهانية ليست إلا الطريقة الإشراقية مزجوها بالإسلام.
إن أول من اشتُهر عنه هذا الأسلوب هو الجنيد، الذي كان يتستر بالفقه(1) على مذهب أبي ثور، تلميذ الشافعي، وهو أول من نادى به وطالب المتصوفة بتطبيقه.
ورأينا قول أبي الحسين النوري عندما خاطب الجنيد قائلاً: يا أبا القاسم، غششتَهم فأجلسوك على المنابر، ونصحتُهم فرموني على المزابل.
لقد غشهم الجنيد بتكلمه عليهم بالفقه! ونصحهم النوري بعرضه عليهم الحقيقة الصوفية!
وكانت تجربة الجنيد ناجحة، سار المتصوفة على خطاها، وهذه التجربة مضاف إليها تحبيره مصطلحات الصوفية، وإيجاده أسلوب (العبارة الصوفية) بإشاراتها ورموزها وألغازها، كل هذا جعل منه سيد الطائفة بلا منازع؛ لأنه رسم لهم الطريق التي يسيرون فيها بأمان، ويستطيعون بواسطتها نشر عقيدتهم الإشراقية في المجتمعات الإسلامية من دون ضجة.
وسار المتصوفة على خطاها، ومَن شذ عنها واجه سيف الردة والتكفير، فقُتل مَن قُتل، وطُرد مَن طُرد، واستُتيب مِن الكفر مَن استُتيب.
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:422)، وطبقات الشعراني: (1/161)، وغيرها.(2/107)
ومِن أبرز مَن أصَّل طريقة الجنيد بعده، هو أبو طالب المكي في كتابه قوت القلوب الذي بدأه بعرض بعض آيات من القرآن الكريم، انتقاها بحيث يمكن أن يكون لها (بعد لَيِّ عنقها) علاقة بالتصوف، وجاء بشيء من الأحاديث في الأوراد وما دار حولها، ثم دخل في علم الباطن وأتبعه بفقه العبادات، وحشا ذلك كله بما يستهوي قلب القارئ نحو التصوف.
ولا يستبعد أن يكون هذا هو منهج الطريقة السالمية التي تخرج فيها أبو طالب؟
وجاء من بعده حجتهم الذي سموه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، فألف في الفقه على مذهب الشافعي، وألف في علم الأصول، ومواضيع أخرى، ثم وضع عشرات الكتب فيما سماه (العلم المضنون به على غير أهله) في قمتها كتابه المشهور إحياء علوم الدين، ولو أنصف لسماه (إعياء علوم الدين)، أو (إحياء علوم الكهانة). وبسبب هذا الكتاب، نسبت الطريقة البرهانية إلى الغزالي.
فلنلق عليه نظرة عابرة لنصطدم بما يلي:
1- تقسيم الكتاب: قسم الغزالي إحياءه إلى أربعة أرباع: ربع العبادات، وربع العادات، وربع المهلكات، وربع المنجيات.
حيث نرى في هذا التقسيم الظالم أنه جعل المنجيات غير العبادات، وجعل العبادات غير منجيات.
ونترك الحكم على هذا التقسيم لكل إنسان عرف بدهيات الدين الإسلامي، بل وبدهيات الأديان جميعها من أولها إلى آخرها، ولكن نسأل: كيف يكون المروق من الإسلام؟(2/108)
2- لم يكن هذا التقسيم صادراً من الغزالي عن غفلة أو عن غلط أو عن غير قصد؟ بل كان مقصوداً عن وعي وتصميم واعتقاد، وقد مر معنا قوله (بعد أن تكلم عن المقامات الصوفية): فالعلم بحدود هذه الأمور...هو علم الآخرة، وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة (أي: الصوفية)، فالمعرض عنها هالك بسطوة ملك الملوك في الآخرة، كما أن المعرض عن الأعمال الظاهرة (أي: العبادات) هالك بسيف سلاطين الدنيا، بحكم فتوى فقهاء الدنيا (أي: علماء الشريعة). وقد تكرر هذا المعنى في الإحياء في أكثر من موضع، مر بعضها في الفصول السابقة.
وهذا الكلام هو -تماماً- مثل قول عبد القادر الجيلاني الذي مر في فصل سابق: (تدري كم عنده من الطاعات والصوم والصلاة لا يعبأ بها، إنما مراده منك قلب صاف من الأقدار والأغيار)، والفرق بين العبارتين هو الفرق بين المهارتين في استعمال الإشارة والرمز واللغز.
وهذا يعني أن هذه العقيدة هي عقيدة كل الصوفية، لأن الرجلين عندهم في قمة التقديس.
- المهم، أن الغزالي يقرر في (إحيائه) أن العبادات لا قيمة لها عند الله؛ لأنها لإرضاء السلاطين والفقهاء فقط.
3- مر معنا في ثنايا الكتاب النصوص الكثيرة المنقولة من (الإحياء)، والمشحونة بالكفر والزندقة، وهي بعض من كثير.
4- يضاف إليها أكثر من أربعمائة حديث موضوع ومكذوب. يقول الحافظ العراقي (مخرج أحاديث الإحياء)، عن قسم منها: لم أجده، أو: لم أجد له أصلاً، مما يجعلنا نظن أن الواضع لها، أو لبعضها على الأقل، هو الغزالي نفسه، أو كشفه. (أما إذا أردنا الحق، فيبقى الغزالي متهماً بوضعها كلها، حتى يثبت العكس).
5- يضاف إليها أكثر من هذا العدد من الأحاديث الضعيفة. وبذلك يكون مجموع الأحاديث الموضوعة والضعيفة قريباً من نصف مجموع أحاديث الكتاب، إن لم تكن أكثر.(2/109)
وموقف الإسلام من هذا وذاك هو قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: {من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار}، وقوله: {من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين}.
أما الذين يبتغون الهدى في مثل هذا الكتاب الذي يحتوي على مثل هذا العدد الضخم من الأحاديث الموضوعة والضعيفة، فحكم الإسلام فيهم هو قوله سبحانه: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) [النساء:48]، لأن الأخذ بالأحاديث الموضوعة هو من أعظم الشرك، إلى جانب كون الذي يحدث بها أحد الكاذبين. أما الأخذ بالأحاديث الضعيفة فطريق إلى التهلكة؟ وذلك لأن ضخامة عددها في الكتب المختلفة هي دليل على أن أكثرها من الموضوعات. وهذا يجعل خطر الأخذ بها كبيراً جداً، أكبر من أية فائدة متوهمة.
ومن أعاجيب المتصوفة في المغالطة، أنهم عندما يقول لهم قائل: إن كتاب الإحياء مشحون بالأحاديث الموضوعة والضعيفة. يكون الجواب الذي سمعناه مراراً: لقد خرجها الحافظ العراقي وانتهى الأمر!! أو ما يدور حول هذا المعنى! فنقول:
- يا هؤلاء، اتقوا الله واخشوا يوماً تقفون فيه بين يديه، حيث لن تنفعكم جذباتكم ولا شياطين الجن التي تمسرح لكم مشاهداتكم في جذباتكم، ولا شيوخكم الذين يوصلونكم إلى جذباتكم.
- يا هؤلاء! إن الأخذ جهلاً بالحديث الموضوع، يمكن أن يكون معه عذر الجهل، أما الأخذ به بعد تخريجه، ومعرفة وضعه، فهو الشرك الأعظم!
والأخذ بالأحاديث الضعيفة بعد معرفة ضعفها هو طريق يؤدي في النهاية إلى الضلال.(2/110)
ولا بأس من إيراد كلمة في وصف الإحياء لأبي بكر الطرطوشي(1)، يقول: شحن أبو حامد الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أعلم كتاباً على بسيطة الأرض أكثر كذباً منه.
- نقول: إن قول أبي بكر الطرطوشي هذا، كان قبل تأليف كتب المتصوفة الأخرى.
6- يضاف إلى ما سبق، تفسير آيات القرآن الكريم تفسيراً لا تعرفه اللغة العربية، ولا أصول التفسير، وما عرفه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من اتبعهم بإحسان، وقد مرت نماذج منها في الفصول السابقة، منها على سبيل المثال: ((إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)) [العلق:8]، و((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)) [النجم:42]، التي يجعلها إشارة إلى وحدة الوجود.
والغزالي لا يتفرد بهذا الأسلوب، بل كلهم في كل كتبهم يحرفون الكلم من بعد مواضعه، وما أكثر الأمثلة التي مرت في هذا الكتاب، وهي بعض من كل.
7- يضاف إليها: أخبار غيبية عن الله سبحانه وتعالى، وعن الملائكة واللوح المحفوظ، وعن الرسل، وهي أخبار لا يمكن أن تعرف إلا عن طريق الوحي الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يرد فيها أي دليل من هذا الوحي، ولعل الغزالي عرفها بالكشف؟! وقد رأينا نماذج منها.
وهي بالتالي كذب على الله، وكذب على ملائكته، وكذب على رسله، وكذب على اليوم الآخر، وكذب على القضاء والقدر (خيره وشره)، وكذب على الصحابة، وكذب على التاريخ، وكذب، وكذب، وكذب.
8- يضاف إليها دعوة إلى أخلاق غريبة؟ فالتواضع هو الذل والمهانة، والورع هو التفاهة والبلاهة، والتوكل هو الاستسلام تطوعاً للجوع والعطش والعري والمرض، والزهد هو التسول وأكل القمامات وروث الحيوانات، وقد رأينا نماذج منها.
__________
(1) محمد بن الوليد بن محمد...القرشي الفهري الأندلسي، ويقال له أيضاً: ابن أبي رندقة، توفي في الإسكندرية سنة (520هـ)، وله كتاب في الرد على إحياء علوم الدين، لم أقف عليه.(2/111)
9- يضاف إليها تعطيل أحكام الإسلام بحجج فيها الكثير من المكر؟ فهذا لم يغير منكراً أو لم ينه عنه، أو لم يقم بعمل خير خوفاً من أن يكون عمله رياء، وذاك لم يأمر بمعروف خوفاً من أن يكون داخلاً في حكم الآية: ((أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ)) [البقرة:44]، وذلك لم يتضرع إلى الله ولم يسأله خوفاً من أن يكون دعاؤه اعتراضاً على قضاء الله، ورابع لم يتزوج خوفاً من أن يكون الزواج ركوناً إلى الدنيا، وآخر ينهى عن طلب الحديث والعلم لأنه طلب للرئاسة، وآخرون ينهون عن تعلم القراءة والكتابة لأنه أجمع لهمة المريد...إلى آخر ما مر وما لم يمر مما أفسد المسلم في دينه ودنياه.
10- يضاف إليها علم الكلام الذي أنكره نظرياً واستخدمه عملياً في كل كتبه، وخاصة في (الإحياء)، استعمله بمهارة ولباقة، وأدخله في أصول العقائد والعبادات، حيث جاء إلى الاعتقادات الغيبية التي لا يمكن معرفتها إلا عن طريق الوحي، فأخذ يستنبطها بأساليب علم الكلام، ليبرر تلقيها عن الكشف، بعد أن كانت لا تؤخذ إلا من نصوص القرآن وصحيح السنة.
واستعمله بمهارة ولباقة، فأقحم به الصوفية على الإسلام، حتى جعل المتصوفة هم (الخصوص)، وجعل أقطابهم (خصوص الخصوص)، وجعل أهل الشريعة هم العامة.
واستعمله بمهارة ولباقة، فجعل العبادات غير منجيات، وجعل المنجيات هي مقاماتهم الصوفية التي تدمر الأخلاق والإيمان والإسلام.
11- يضاف إليها مجموعة وافرة من المعلومات الخرافية المبثوثة في الكتاب، والتي شكلت جزءاً هاماً من المعارف والثقافة عند المسلمين طيلة القرون، وكانت سبباً لما وصلت إليه المجتمعات الإسلامية من ضياع وتفتت، وقد مرت صور منها في الفصول السابقة.
- وهناك ملحوظة جديرة بالاهتمام، وهي أن قسماً من إحيائه هو نصوص منقولة حرفياً من قوت القلوب للمكي، وبعضاً من اللمع للطوسي...(2/112)
كما أنه يأخذ أفكاره وفلسفاته وأقواله في التربية والنفس والمجتمع، من أفكار وفلسفات إخوان الصفا، وقد انتبه إلى هذا كثيرون منهم ابن سبعين(1) والمازري(2) والذهبي(3) وغيرهم.
لقد استطاع الغزالي، بهذه الأساليب، أن يمزج التصوف بالإسلام، ويجعل الآخرين يعتقدون أنهما شيء واحد.
وتبعه مثقفو المتصوفة على هذا النهج، وشيئاً فشيئاً، فَشَا هذا في الأمة، إلا من رحم ربك، وشيئاً فشيئاً، أصبح الإشراق وعلم الكلام آلة لاستنباط العقائد والعبادات في الإسلام، وشيئاً فشيئاً، جعلوا التصوف قمة الإسلام، وقبلوا تسميته (الإحسان)!
ولهذا السبب، أطلقوا على الغزالي لقب حجة الإسلام، وما هو إلا حجة الكهانة.
ولهذا السبب، جعلوا كتابه: (إحياء علوم الدين)، كتاباً مقدساً، ففي كل بلاد المسلمين، نرى من يسمعون العلماء وأتباعهم، يقرؤون القرآن للتبرك، ولترديد كلمة (الله)، عندما يقف القارئ على الآي، يمطونها ويكررونها! وكأنهم لم يقرؤوا قوله سبحانه: (( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )) [الأعراف:204] كما يقرؤون صحيح البخاري في المساجد جماعة إذا حزبهم أمر، بينما يقرؤون: (الإحياء) و(الرسالة القشيرية) و(الحكم العطائية)، وغيرها من كتبهم ليطبقوها ويتخذوها منهجاً طاغوتياً من دون القرآن والسنة، وأحسنهم طريقة من يشرك كتب التصوف بالوحي المحمدي، يأخذ منها اعتقاداته وعباداته.
هذه هي الطريقة البرهانية بإيجاز، وهي لا تزيد عن كونها أسلوباً ذكياً لاستدراج المسلمين وجرهم إلى نقمة حكمة الإشراق، إلى ضلالات الكهانة والكهان؛ إلى تلبيسات الخوارق الشيطانية وتفاهات العلوم اللدنية، إلى الوهم الممسرح الذي سموه معرفة، والكفر المموه الذي سموه توحيداً، إلى الصوفية التي سموها (الإحسان).
__________
(1) بد العارف، (ص:145).
(2) نرى هذا في فصل لاحق.
(3) نرى هذا في فصل لاحق.(2/113)
ويجب أن لا ننسى الجهود، التي نشكوها إلى الله، والتي قدمها في خدمة التصوف كثير من شيوخ الجامع الأزهر، عبر تاريخ الجامع الأزهر، حيث كان طلاب العلم يأتونه من مختلف البلاد الإسلامية، فيتعلمون فيه العلوم الإسلامية ممزوجة بالتصوف وعلم الكلام (أي: الطريقة البرهانية الغزالية) ثم يعودون إلى بلادهم لنشرها في مجتمعاتهم التي كانت تحترمهم وتأخذ عنهم لأنهم خريجوا الجامع الأزهر (!).
وهكذا صار التحشيش الإشراقي المتستر بالإسلام، وجذبات التحشيش الإشراقي المتلفعة بالإسلام، وهلوسات التحشيش الإشراقي الممزوجة بالإسلام، هي الموجه الحقيق للمجتمعات الإسلامية طيلة القرون الطويلة، حتى وصلت المجتمعات الإسلامية إلى ما هي عليه من جهل وتخبط وذل وانحطاط وتمزق.
وأعود فأذكر أن المتصوفة وعلى رأسهم شيوخهم وأقطابهم هم من أوائل المخدوعين والمضللين، فهم قبل غيرهم، يعتقدون أنهم على منهج الإسلام، وأن الإسلام كذلك! لأنها لا تعمى الأبصار.
وهم عندما يخادعون ويراوغون ويغالطون، فإنما يعتقدون أن هذا من الحكمة وأن الله سبحانه يريد منهم ذلك، وأن الرسل كلهم أرسلوا من أجل ستر الحقيقة التي هي وحدة الوجود.
وهذا الحكم صحيح بالنسبة للذين أخذوا التصوف ممزوجاً بالإسلام أو (لغالبيتهم العظمى)، أما أوائل المتصوفة في الإسلام، الذين أخذوا الصوفية عن كهانها غير ممزوجة بشيء، فأولئك كانوا خلاف ذلك؛ لأنهم هم الذين وضعوا لأخلافهم قواعد المكر والكيد حينما مزجوا الإسلام بالتصوف وأوصوا بالتقية ووضعوا العبارة الصوفية.
وماذا يُنتظرمن مجتمعات تتعبد الله بمثل هذا منذ أكثر من تسعة قرون، إلا من رحم ربك؟ أليس ما وصلت إليه هذه المجتمعات هو نتيجة منطقية لهذا؟(2/114)
ولا ننسى ملحوظة هامة، وهي أنهم نادراً ما يستعملون عبارة (الطريقة البرهانية) أو (الطريقة الغزالية)، وإنما يستعملون في العادة عبارة (التصوف السني) وقد يعبرون عنها أيضاً بمثل قولهم: (حقيقتنا مقيدة بالقرآن والسنة)، أو (طريقتنا سلفية وحقيقتنا صوفية)، وغيرها من العبارات التي مرت في هذا الكتاب والتي لم تمر.
ونختم هذا الفصل بفقرة لابن الطفيل، يقول:
وأما كتب الشيخ أبي حامد الغزالي، فهو بحسب مخاطبته للجمهور، يربط في موضع ويحل في آخر، ويكفر بأشياء ثم ينتحلها، ثم إنه من جملة ما كفر به الفلاسفة في كتاب (التهافت) إنكارهم لحشر الأجساد، وإثباتهم الثواب والعقاب للنفوس خاصة، ثم قال في أول كتاب الميزان: إن هذا الاعتقاد هو اعتقاد شيوخ الصوفية على القطع، ثم قال في كتاب المنقذ من الضلال والمفصح بالأحوال: إن اعتقاده هو كاعتقاد الصوفية، وإن أمره إنما وقف على ذلك بعد طول البحث. وفي كتبه من هذا النوع كثير يراه من تصفحها وأمعن النظر فيها. وقد اعتذر عن هذا الفعل في آخر كتاب ميزان العمل، حيث وصف أن الآراء ثلاثة أقسام:
1- رأي يشارك فيه الجمهورفيما هم عليه.
2- ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل ومسترشد.
3- ورأي يكون بين الإنسان وبين نفسه لا يطلع عليه إلا من هو شريكه في اعتقاده(1).
- نقول: إن ما أورده ابن طفيل هنا، وارد في كتاب الإحياء، وقد مرت نصوصه في الفصول السابقة، ورغم هذا كله وغير هذا كله، يسمون الغزالي حجة الإسلام؟!
الباب الثاني
مناقشة الوصول
الفصل الأول
مناقشة خرق العادة
لمناقشة خوارق العادة عند الصوفية، يجب أخذ فكرة- ولو موجزة- عن تلك المخلوقات التي ترانا ولا نراها، والتي يجري خبثاؤها من ابن آدم مجرى الدم، هذه المخلوقات هي الجن، وخبثاؤها هم شياطين الجن.
لكن قبل المضي في ذلك، أحب أن أنبه إلى أمر:
__________
(1) حي بن يقظان، (ص:113، 114).(2/115)
يوجد في مجتمعاتنا، كما في كل المجتمعات، متعالمون يدعون العلمية، والفكر العلمي، والأسلوب العلمي في التفكير، وقد يكونون علماء -في اختصاصهم- فعلاً. وإلى جانب هذه الميزة، توجد عند بعضهم ميزة أخرى، هي مقدرتهم على الكتابة بأسلوب قد يكون رائعاً وقد يكون مقبولاً، كما قد يحمل بعضهم ألقاباً علمية عالية. قد يخطر على بال أحد هؤلاء العلميين أن يتكلم عن (الخرافة)، فيكتب مقالةً في جريدة أو مجلة، أو بحثاً في كتاب، يوزع فيه لقب (الخرافة) على كل ما يخالف قناعاته الفكرية التي لم يكلف نفسه بدراستها دراسة علمية عميقة.
ومن جملة ما يقذفونه في زنبيل (الخرافة) الجن وخرق العادة.
هنا، أرجو من القارئ الكريم أن يغلق أذنيه؟ لأنني أريد أن أهمس في أذن هؤلاء (العلميين) همسة صغيرة، فأقول لهم:
1- مرحباً يا علميون (لأن السلام قبل الكلام).
2- من منسياتكم: أساليب البحث العلمي ووسائله تختلف حسب الموضوع المعروض للبحث!
فمثلاً: وسائل البحث العلمي وأساليبه في مسألة فلكية، تختلف كلياً عنها في مسألة كيميائية، وهذه تختلف كلياً عنها في مسألة تاريخية... وهكذا.
وكلها تختلف كلياً عن جلسة الصفا أمام الكأس المفعمة في جو الموسيقى الراقصة في ماخور عام أو خاص.
كذلك البحث العلمي في مسألة الجن وخرق العادة له أساليبه ووسائله الخاصة، التي تختلف كلياً عنها في غيرها، ويمكن لكل من يريد متابعتها أن يتابعها، ليتأكد بنفسه من وجود الجن، ومن حدوث خرق العادة، وبذلك سيعرف أنه كان يغرف من زنبيل الخرافة، عندما كان يظن أن الجن وخرق العادة من الخرافة.
لكنه سيجد -في خوضه هذا البحث- أناساً يخوضون فيه، وقد مسخت الخرافة عقولهم! فهم يعزون كل شيء إلى الجن! ويؤمنون بخوارق لا وجود لها إلا في مخيلاته المريضة، فهم بفهمهم السقيم للجن وخرق العادة، يغرفون أيضاً من زنبيل الخرافة، ولكن من الجانب المقابل وبنهم لا يشبع.(2/116)
فكلا الأخوين خرَّاف، ولكن ذوي الفهم السقيم في الجن وخرق العادة، هم أخرف من أولئك؛ لأن أكثر ما لا يفهمونه خاضع لسنن الله في خلقه، عدا عما يضخمونه من الأمور العادية.
وعلى كل حال، الجن موجودون، وخرق العادة موجود، وكاتب هذه الكلمات، خرقت أمامه العادة مرات ومرات.
- نعود لأخذ فكرة موجزة عن الجن:
للجن قدرات وخواص مادية وتشريحية وفيزيولوجية ونفسية، تختلف كثيراً عما يقابلها لدى الإنسان، يهمنا منها ما يلي:
1- يستطيعون الترائي للإنسان بأشكال مختلفة، وحجوم تتراوح أطوالها بين ميلليمترات (أو أقل)، وبضعة أمتار لا يستطيعون تجاوزها، وإن استطاعوا فغير كثير، وذلك تبعاً لحجومهم الطبيعية، ولعل الترائي بالحجوم الصغيرة جداً يكون بجزء من أجسامهم.
2- يستطيعون عندما يتراءون ألا يتركوا أحداً من الناس يراهم، إلا من يريدونه أن يراهم.
3- {إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم}، وبذلك يستطيع أن يدغدغ مراكز الحس التي يريد، فيثير البسط والقبض، واللذة والانزعاج، والتجلي الجمالي والتجلي الجلالي، مع العلم أن هذه الإحساسات وأمثالها، لها في الأساس أسباب فيزيولوجية.
4- يستطيعون قطع المسافات بسرعات كبيرة، فقد يقطعون في الثانية الواحدة مسافة تقاس بالكيلو مترات، إن لم يكن أكثر من ذلك.
5- يستطيع الواحد منهم (أو بعضهم) حمل ثقل يعجز عنه عدد من أفراد الإنس.
6- يظهر أن للجن متعة خاصة بالتلهي ببني الإنسان والتلاعب بعقولهم وعواطفهم، وملازمتهم.
بهذه الميزات، وبغيرها، يستطيع شياطين الجن أن يصنعوا لوليهم (العارف) بعض الأعمال الخارقة للعادة.
فقد يأتونه بخبر جديد من بلد بعيد بعض البعد، بعد وقوعه بدقائق، فيخبر به الناس، الذين عندما يتأكدون من وقوعه، يعتبرونه كرامة من كرامات الشيخ.
وقد يوسوسون لإنسان ما، بفكرة ما، ثم يلقونها إلى الشيخ، فيخبره بها، فيعتبرونها كرامة من كرامات الشيخ.(2/117)
وقد يلقي الشيطان إلى الشيخ أسماء أشخاص لا يعرفهم، فينبئهم بها، فيعتبرونها كرامة من كرامات الشيخ.
وقد يكون الشيخ في بلد ما، في وقت ما، ويتمثل به شيطان في بلد آخر في نفس الوقت، وقد يتمثل به شيطان ثالث في بلد ثالث في نفس الوقت أيضاً، فيرى أهل كل بلد أن الشيخ كان عندهم في ذلك الوقت! دون أن يعرفوا -لجهلهم- أنها خدعة شياطين! ويعتبرونها كرامة من كرامات الشيخ.
وقد يتراءى شيطان، أو شياطين، أمام الشيخ، بشكل شخص، أو أشخاص غائبين أو أموات، فيعدها الشيخ كرامة له.
وقد يتراءى شيطان الشيخ أمام الشيخ بشكل ما ويوهمه أنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أحد غيره من الأنبياء.
وقد يتراءى شيطان أو أكثر، أمام الشيخ بشكل أشباح تتطاير، فيظنهم من الملائكة أو من أرواح الأولياء.
وقد يحمل الشيطان وليه العارف في الهواء وينقله من مكان إلى مكان وقد يمشي به على سطح الماء.
...وقد.. وقد.. إلى آخر ما يسمونه -جهلاً أو افتراءً- الكرامات! والتي لا تزيد عن كونها ألاعيب شياطين يخدعون بها وليهم العارف، ثم يخدعون به وبها الآخرين.
وهنا نصطدم مع هؤلاء القوم، بفهمهم السقيم للغة العربية، وبالتالي، لنصوص الحديث الشريف، ومن قبله القرآن الكريم.
إنهم، في رؤيتهم لما يتوهمونه أنه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يظنون أنهم يرونه حقاً، ويحتجون لذلك بالحديث الشريف: {من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي}.
والحديث واضح البيان، لا لبس فيه ولا غموض! فهو يقول: {من رآني...}، والفرق كبير جداً بين هذا القول وبين: (من رأى شخصاً يدعي أنه أنا..)، أو: (من رأى شخصاً وظن أنه أنا..)، أو: (من رأى شخصاً وقيل له: إنه أنا..)! الفرق كبير جداً بين هذه العبارات وبين عبارة الحديث: {من رآني...}، التي تعني رؤيته صلى الله عليه وسلم، بشكله وصورته التي كان عليهما، بل وزيه أيضاً.(2/118)
ويقول في الحديث أيضاً: {..فإن الشيطان لا يتمثل بي}، وفي رواية: {لا يتمثل بصورتي}، والمعنى واحد. وهنا أيضاً الفرق كبير جداً بين هذا القول، وبين قوله لو قال: (..فإن الشيطان لا يدعي أنه أنا)، أو: (لا يستطيع شيطان أن يقول عن شيطان آخر: إنه أنا)، أو: (لا يستطيع أحد أن يُخدع فيتوهم شيطاناً يراه أنه أنا)!
إن عبارة {فإن الشيطان لا يتمثل بي}تعني أن الشيطان لا يستطيع أن يتراءى بصورة الرسول وشكله وزيه التي كان عليها صلى الله عليه وسلم في حياته، بحيث لو رآه أي إنسان من أصحابه لعرفه أنه هو.
وقد يتساءل متسائل: كيف نعرف إن كان من نراه في المنام هو الرسول أم لا؟ الجواب: تورد كتب الحديث وكتب الشمائل أوصافه صلى الله عليه وسلم، فمن رأى في منامه إنساناً تجتمع فيه كل تلك الأوصاف، دون استثناء، فهناك احتمال أن يكون هذا الذي رآه هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأقول هناك احتمال أن يكون هو الرسول؛ لأن الأوصاف المذكورة هي أوصاف إجمالية لا تفصيلية، وغير دقيقة، حيث يمكن أن نراها مجتمعة في عشرات الأشخاص الذين يختلفون عن بعضهم بدقائق صورهم وتفاصيلها.
وفي قصة جماعة الحرم عبرة لأولي النهى، فقد رأى عشرات منهم الرسول في المنام، وأخبرهم أن محمد بن عبد الله القحطاني هو المهدي المنتظر، ولا يخلو أن يكون بعضهم على علم بأوصاف الرسول الموجودة في الكتب، وأن يكون رآه حسب تلك الأوصاف المجملة، ثم كانت النتيجة أن القحطاني لم يكن المهدي، وبالتالي كانت كل تلك الرؤى من وسوسات الشياطين، أو من حديث النفس.
إن في هذه الحادثة برهان عملي ساطع على أن الشيطان يدعي أنه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن معنى الحديث: {لا يتمثل بي}، أي: لا يظهر بصورته وشكله الكاملين اللذين كان صلى الله عليه وسلم عليهما في حياته.(2/119)
كما يجب أن لا ننسى العدد الوافر من الأولياء العارفين الذين رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أنهم هم (المهدي المنتظر)، ثم كانت النتيجة أن الذي رأوه كان إما وسوسة شيطان، أو حديث نفس، أو كشفاً إن كان الرائي من المكاشفين.
هذا بالنسبة للرؤية في المنام أو في الجذبة.
أما ما يقوله المتصوفة من الرؤية في اليقظة فهذا واضح البطلان والضلال، كما هو واضح أن المترائي هو شيطان يضحك على أذقانهم، ويسلبهم عقولهم وإيمانهم، ويضل بهم غيرهم.
إن الشيطان يدعي أنه الله، فهل كثير عليه إن ادعى أنه الرسول؟
وهناك خارقة يؤخذ بها المخدوعون أكثر من غيرها، هي ضرب الشيش في الخدَّين والبطن حيث الأمعاء، وفي الجلد، وهي مشتهرة بين أتباع المشيخة الرفاعية والجزولية والعيسوية، يمارسونها في حضراتهم التظاهرية، وهي مثل غيرها لا تزيد عن كونها شيطانيات. بدليل أنها تحصل مع الكفرة، بل يحصل منهم ما هو أكبر منها، وفي فصل لاحق سنرى شيئاً من هذا. ولعله من الجائز أن يكون تفسير هذه الخارقة كما يلي:
1- لجلد الإنسان خاصة مطاطية، وكذلك الخدان والبطن والأمعاء، وهذا مشاهد ملموس.
ب- إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم، فهو بذلك يستطيع التخلل في أي مكان من الجسم.
ولعله يجد بذلك متعة خاصة نجهل طبيعتها.
وتتم العملية حسب الآتي:
يوجه الشيطان يد الشخص المتخلل فيه، ليضع الشيش في المكان المناسب من البطن، وعندما يضعه على الجلد، يباعد الجني بين خلايا النسيج الجلدي، وما تحته، بمقدار ما يمر الشيش بسلام دون أن يمزق شيئاً من الخلايا، وعندما يصل الشيش إلى الأمعاء (في المكان المناسب) يباعد الشيطان بينها، كما يباعد بين خلايا النسيج الذي يضمها بمقدار ما يمر الشيش بسلام أيضاً.. وهكذا.. يساعده على ذلك الخاصة المطاطية في هذه الأجزاء من الجسم، وسرعة الحركة التي يمتاز بها الجن.
ومثل هذا يحدث في الخدين وفي الجلد.(2/120)
لكن مهما كانت الدقة التي ينفذ بها الجن هذه العملية بالغة، فلا بد من تمزق بعض الخلايا، مما يسبب سيلان قطيرة أو قطيرات من الدم عند سحب الشيش.
كما يبقى المكان الذي حصلت فيه العملية أحمر بعض الشيء لمدة ما، بسبب الضغط التي عانته الأنسجة.
- طبعاً، هذا تفسير ظني، أما الحق، فيجب أن تخضع هذه الظاهرة ومثيلاتها إلى دراسة علمية جادة. وستكون وسيلة لاكتشاف مساحات مجهولة من النفس الإنسانية، بل والحيوانية أيضاً، كما ستكون وسيلة لاكتشاف وظائف فيزيولوجية مثيرة.
أما عملية قطع العنق بالسيف، أو قطع اليد، وما شابهها، فهي خداع بصري يقوم به أيضاً خبثاء الجن، وكذلك ضرب الرصاص.
وهناك عملية الدخول في النار التي تكاد تنعدم عند متصوفة المسلمين، بينما توجد بين كهنة الهنادكة، وهي عملية يقوم بها الجن أيضاً، يساعدهم عليها سرعتهم الهائلة، وقوتهم على الحمل، ومقدرتهم على الترائي بشكل الإنسان، وأن النار العادية لا تؤثر فيهم.
كما يساعدهم أيضاً، خاصة بصرية عند الإنسان، فالعين الإنسانية لا تحس بما يحدث أمامها في مدة تقل عن عُشر الثانية.
تحدث العملية بأن يحمل شياطين الجن الفقير الذي يتظاهر بالعزم على دخول النار وتنقله إلى مكان آخر، ثم يتراءى شيطان مكانه بشكله.
تتم هاتان العمليتان في مدة تقل كثيراً عن عُشر الثانية، فلا يرى أحد من الناس الحاضرين شيئاً مما حدث، ويرون الفقير ما زال في مكانه يستعد للدخول في النار! يدخل الجني المترائي بشكل الفقير إلى النار، ويخرج منها، دون أن تؤذيه طبعاً، وبعد خروجه، يعيدون الفقير، ويتلاشى الجني بنفس السرعة السابقة، ولا يرى أحد من الناس الحاضرين إلا أن الفقير دخل في النار وخرج منها سالماً، بل والفقير نفسه، قد لا يحس بما حدث، وقد يظن أنه دخل النار في حالة غيبوبة.
* الخلاصة:(2/121)
خوارق الصوفية، التي يسمونها كرامات، كلها ألاعيب شيطانية، وهي نفس الخوارق السحرية، ونفس الخوارق الكهانية التي تحدث في كل الوثنيات.
وللعلم: تعلم السحر يتم بالشرك الكامل في الشيخ الساحر (تماماً كالشرك في الشيخ الصوفي)، وبالقيام بنفس الرياضة الصوفية، وخاصة ما يسمونه (الذكر)، والذي يسمونه في السحر (القَسَم) أو (الطلسم) وليس هنا مكان هذا البحث.
إن الفرق بين الصوفية والكهانة والسحر هو الادعاء فقط، فالصوفي والكاهن يدعيان بغرور السير إلى الله والعروج إليه، والساحر أصدقهم. والصوفي والكاهن غايتهما الجذبة، والساحر يقف عند خرق العادة، وإذا أراد الجذبة اختصر الطريق إليها بتناول شيء من الحشيش أو الأفيون وما شابههما، وقد يصل إلى الجذبة بالرياضة.
إن هذه الخوارق الشيطانية، التي يسمونها (كرامات) لا تكفي لدفع الشيخ وأتباعه إلى مستنقع الكفر؟ إلى وحدة الوجود! لأن الأمر يحتاج إلى تمثيليات من نوع آخر، تظهر فيها مناظر غريبة ذات أبعاد كبيرة، لا يستطيع شياطين الجن تمثيلها لصغر أجسامهم بالنسبة لها! لذلك كان لا بد من خواص الجذبة ليستطيعوا تنفيذ تلك التمثيليات. فلننتقل إلى مناقشة الجذبة وخواصها.
وقبل الانتقال، نذكر أن الكرامات الصحيحة موجودة، لكن الطريق إليها هو طريق الإسلام الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت تظهر أكثر ما تظهر في الانتصارات العجيبة التي تشبه الأساطير، وفي الأخلاق الكريمة والسلوك العادل المتسامح مع المسلم ومع غير المسلم، والدعوة إلى الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول الحق بصراحة تامة مع المقدرة على الاحتفاظ بصداقة الذي يدعونهم وينهونهم... وهكذا انتشر الإسلام.(2/122)
مع ملحوظة هامة، هي أن الذي ينتهج النهج الصحيح في الإسلام، لا يعني أن كل خرق عادة يحصل أمامه هو كرامة، وعلينا أن نتذكر، بل علينا ألا ننسى الآية: ((فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)) [الأعراف:16]، وهذا يعني أن الخوارق التي تحصل أمام الذي ينتهج نهج الإسلام الصحيح، كما كان ينتهجه سلف الأمة من الصحابة وتابعيهم، هذه الخوارق سيكون أكثرها من الشيطانيات، وأقلها، إن لم يكن أندرها، من الكرامات الحقيقية.
الفصل الثاني
مناقشة الجذبة وأحلامها
لمحة عن المخدرات:
من المفيد، قبل الدخول في مناقشة الجذبة، أن نلقي نظرة سريعة على مفعول المخدرات: الحشيش والأفيون والكوكائين وعقار الهلوسة (إل، إس، دي، 25) وغيرها.
* من تأثير الحشيش:-
يقول الدكتور محمد رفعت (نقلاً عن أحد الباحثين يصف تجربته مع الحشيش):
...أحسست كأن جسدي يتحلل أو يذوب.. بدوت وكأنني شفاف تماماً.
جفون عيني تطول إلى ما لا نهاية، هذه الجفون ما لها تسقط وحدها هكذا ككرات من ذهب، سرعتها تثيرني، ألوان جميلة تحيط بي، هل أنا أنظر في منظار سحري صغير يقدم تلك الأشكال الزخرفية الملونة...
...إن سمعي أصبح فجأة حاداً تماماً.. إنني أستمع إلى صوت الألوان، كنت لا أستطيع أن أسمع للألوان صوتاً من قبل.. الألوان الحمراء والزرقاء والخضراء لها موجات صوتية تصلني وأميزها بوضوح(1).. اهـ.
- هنا نسأل الأولياء الذين ذاقوا الفناءات وتحققوا بالأسماء، أليست هذه الرؤى، وما بعدها، هي صور من مكاشفاتهم؟
ويقول نفسه:
والحشاش قد يقنع نفسه بقدرته على إيجاد حل لكل مشكلة، وهذا طبعاً نتيجة ما يعتريه من هبوط في المراكز العصبية العليا، ومنها حاسة التقييم والتقدير، فيظل يهوم في آفاق وتصورات كلها سراب خادع وضلال مبين(2)...اهـ.
__________
(1) إدمان المخدرات، (ص:114، 115).
(2) إدمان المخدرات، (ص:51، 52).(2/123)
- لنتذكر هنا قول الصوفية عن كشوفهم: إنها حق اليقين وعينه ونوره، وعن أنفسهم: إنهم العارفون الذين عرفوا الأمور على ما هي عليه...
ويقول: عندما يتعاطى الشخص الحشيش لأول مرة فإنه يشعر بهذه الأعراض: ارتعاشات عضلية في جسمه...إحساسات جسمية خاطئة أو وهمية...مثل الشعور بطول في الأطراف...اضطراب في الحواس، خصوصاً السمع والبصر(1). اهـ.
- لنتذكر وصف عبد العزيز الدباغ لمبدأ حاله بالجذبة.
ويقول: الآثار النفسية لإدمان تعاطي الحشيش: اضطراب الحواس، خصوصاً السمع والبصر، فتصبح الحواس حادة للغاية، إلا أن المدركات كلها تبدو في صورة مغايرة ومحرفة، سواء من ناحية الشكل أو اللون، كما يعاني المدمن من الهلاوس...فيرى أشكالاً ويسمع أصواتاً ليس لها وجود مادي، كما يعاني من خداع الحواس...فإذا رأى حبلاً ظنه أفعى، وإذا رأى كلباً خيل إليه أنه أسد...وهكذا...
واختلال إدراك الإنسان للزمان والمكان، فيبطئ إحساس الإنسان بالزمن...
فإذا قضى دقائق في عمل ما، يخيل إليه أنه قضى فيه ساعات طوال...أما بالنسبة للمسافات فإنها تطول جداً.. فإذا سار عشرة أمتار خيل إليه أنه قطع عدة كيلو مترات..
اضطرابات في التفكير تؤدي إلى اختلال في حكم الشخص على الأمور:
بطء شديد في عمليات التفكير بسبب التخدير الذي يشمل قشرة المخ، ويدفع الإنسان إلى عدم الاكتراث بما حوله، ويفقد المبادأة.. كما يعطل مراكز الضبط والتحكم وتمحيص الأمور...مما يجعل المتعاطي قابلاً للإيحاء...
اضطرابات وجدانية، فيشعر المتعاطي بشعور زائف بالسعادة الوهمية...وإحساس بالرضا والراحة.. يصل أحياناً إلى درجة النشوة. إلا أن هذه السعادة الزائفة تحمل في طياتها وسائل التدمير لشخصية الإنسان(2). اهـ.
وسئل حشاش: بماذا تحس وأنت تحشش؟ فأجاب:
__________
(1) إدمان المخدرات، (ص:124).
(2) إدمان المخدرات، (ص:126، 127).(2/124)
أحس بفرح، وربما بحزن، وقد أضحك كثيراً، أو أبكي كثيراً، حسب الحالة التي تجلبها الحشيشة، فليست كل الحالات سواء، ولكنني أشعر بحاجة إلى الهدوء...مرة شعرت بأنني أسابق السيارة المنطلقة في الشارع، بينما كنت جالساً في مكاني! والحالات مختلفة على كل حال(1). اهـ.
- نعيد نفس السؤال موجهاً للأولياء المكاشفين: أليس مثل هذا ما يشاهدونه في مكاشفاتهم؟ وخاصة الفرح والحزن، اللذين يسمونهما (البسط والقبض)، وكذلك طول المسافات، وطول الزمن، والشعور بالسعادة، والوصول أحياناً إلى درجة النشوة؟...
* من تأثير الكوكائين:-
يقول الدكتور محمد رفعت:
ولعل أغرب مظاهر الشذوذ الحيوي في جسم المدمن، الهلوسة التي تصيب جلد مدمن الكوكائين... إلى أن المدمن هنا يحس وكأن آلاف القمل والبراغيث وشتى أنواع الهوام تنهش في جلده، وتجري تحت جلده مباشرة(2)...
والكاثين ضئيل الأثر، ويشبه الكوكائين في إحداثه نوعاً من الخدر أو التنميل(3)...
ويقول أحد الباحثين (دكتور لوغر):
__________
(1) الحشيش قاتل الإنسان، (ص:24، 25).
(2) إدمان المخدرات، (ص:43).
(3) إدمان المخدرات، (ص:54).(2/125)
يشعر مدمن الكوكائين بآلاف الهوام تدب على جلده وداخل جسمه، ويحس بلدغات مئات القمل والبق و...إلخ. وبظاهرة حسية غريبة ما اعتادت المخدرات الأخرى توليدها، تبلغ هذه الظاهرة حداً يرى فيه المدمن حشرات لا وجود لها على جلده فيأخذها متوهماً ويحبسها ويضعها في علبة، حتى إنه ينظر إليها بمكبرة، ويا لغرابة الأمر... إنه يراها وقد تجسمت أمام عينيه كما لو أنها موجودة فعلاً. وغالباً ما يلاحق مدمن المخدرات هذه الطفيليات المزعجة يبحث عنها على الأبواب وفوق الكراسي وفي الفراش وبين الأظافر وفي جميع أجزاء جسمه وحتى داخل فمه ومنخريه وأذنه. وقد يغدو هذا النمط من الهذيان والهراء (الهلوسة) جماعياً...إذ لا غرابة أن تجد مدمنين اثنين يبحث كل منهما عن هذه الهوام على جلد الآخر مخففاً عنه العذاب على حد اعتقاده(1).
* الملحوظة:
لننتبه إلى أنه يرى حشرات وقد تجسمت أمام عينيه، حتى إنه ينظر إليها بمكبرة..
أي يرى ما لا وجود له في الحقيقة؛ وكذلك الرؤى الكشفية.
* من تأثيرات عقار التهليس (L. S. D.25):-
يقول محمد رفعت:
وهذا العقار يعتبر من السموم الكبرى ذات الأثر العميق فيما يتعلق بانتقال المتعاطي من عالم الهلوسة والهذيان، وهم يطلقون عادة على الحالة الجديدة للمريض المدمن اسم (رحلة)، وهذه الرحلة لا يلزمها الكثير من هذا السم الزعاف، إذ يكفي من (200) إلى (400) ميكروغرام.
وبعدها يكون الرحيل إلى سفر يستغرق ثماني ساعات من الزمن يتخيل المريض وكأنها رحلة عمر كامل من الهلوسة والهذيان والتخيلات التي يسودها اللامعقول والإثارة الحسية، والنشاط الحيوي المزعوم، بينما يكون المدمن في واقع الأمر جثة هامدة طيلة السفر بعد الرحيل(2)...
__________
(1) إدمان المخدرات، (ص:61، 62).
(2) إدمان المخدرات، (ص:45).(2/126)
...وتختلف آثار هذا العقار على الإنسان باختلاف شخصيته، وتركيبه النفسي، وكذلك باختلاف الجو العام الذي يتم فيه التعاطي، وهذه بعض الأعراض (لتعاطي 3 ميكروغرام):
زغللة بالعينين، واضطراب في شكل المرئيات، وظهور بعض الأشياء التي لا تحمل أي معنى، كعلامة في الحائط مثلاً، كما لو كانت كلمات مفهومة مثلاً، أو وجه إنسان، أو أي شيء آخر له معنى.
- هلاوس بصرية... أي: رؤية أشياء ليس لها وجود مادي.. فيكفي أن يتخيل الفرد شيئاً أو يتمنى رؤيته، حتى يراه أمامه مجسماً، وبالألوان الطبيعية أيضاً.. فهلاوس هذا العقار تتميز بأنها تظهر بالألوان، عكس هلاوس الحشيش والأفيون التي تظهر أبيض وأسود فقط. (في الواقع، هلاوس الحشيش والأفيون ليست واحدة عند كل الأشخاص، فمنها ما يكون بالألوان الطبيعية).
- اضطراب في إحساس الفرد بالزمن.. فقد يتوقف الزمن تماماً، أو يمر ببطء شديد.. وقد يسرع جداً، فيبدو كأن آلاف السنين قد مرت في لحظات.
- توقف كامل للنشاط العقلي.. فيصبح من الصعب على الإنسان أن يبت في أي أمر، أو يفكر في أي مشكلة، أو حتى يقوم بالعمليات الحسابية البسيطة.
- إحساس زائف بالراحة والسعادة الدافقة.. أو يحدث العكس تماماً.. فيشعر الإنسان باكتئاب شديد ورعب...(لنتذكر البسط والقبض).
ولكن أعجب شعور يمكن أن يحسه الإنسان هو ذلك الشعور بتداخل الحواس... عندما يتداخل السمع مع البصر مع الشم مع الذوق مع اللمس، فينتج عنه ذلك الخليط العجيب من الحواس الذي يعتبر من الأعراض المميزة لعقار الهلوسة... عندما يسمع الإنسان لون الورد، ويشم صوت الموسيقى، ويرى الطَّرْق على الباب، ويشم جرس التلفون(1)... إلخ.
- وهنا نعيد السؤال، نوجهه إلى أي صوفي مكاشف: أليست رؤاه الكشفية مثل هذه الرؤى الهلوسية؟ يمر بفكره شيء فيراه مجسماً أمامه؟ يحسب اللحظات سنين طويلة؟ ثم الرؤى الناتجة عن تداخل الحواس؟ وغيرها؟
__________
(1) إدمان المخدرات، (ص:131، 132).(2/127)
ومما يذكره مكتشف العقار (هوفمان) عن تجربته له يقول: وجدت نفسي عند العصر مجبراً على التوقف عن العمل.. فأغمضت عيني.. لأرى، كما يرى الناظر في المنظار السحري، عرضاً لسبحة لا تنقطع من صور عجيبة مجسمة وغنية بألوان غير عادية، وقد دام ذلك العرض ساعات عديدة(1)... اهـ (أليست رؤى الجذبة هكذا؟).
ومما حدث له، في تجربة ثانية:
بعد أربعين دقيقة، شعر بدوار خفيف وإثارة واضطرابات في الرؤية ونوبات حمقاء من الضحك ما استطاع لها ردعاً...كانت الوجوه تبدو له كأقنعة مضحكة... وأكثر ما أدهشه هو التلون الشديد الذي كانت تتلون به الأشياء ويتلون به الأشخاص، وعلى خلفيات يسيطر فيها اللونان الأخضر والأزرق كانت تضطرب ألوان ذات صفاء ولدونة مدهشين، كان كل شيء ينقلب إلى ألوان، حتى إن أصوات البوق الآتي من الشارع كان يراه كشعاع ملون، وكانت المشاهد تترى، كان يرى نفسه يومئ، ويصمت ويتحرك(2).
* من تأثير الهروئين (من مشتقات الأفيون):-
الهروئين، يحمل الإنسان إلى جنان خيالية، وخيالات من نوع أنه أصبح من الملائكة، أو أنه أصبح نبياً، أو أن له موعد مغازلة مع القمر (الذي هو الشمس)، ثم يدفعه ذلك أن يتصرف حسب تصوره هذا، فيحاول الطيران من أعلى البناية باتجاه السماء، فيسقط على الأرض وتتهشم ضلوعه(3)...
* من تأثير الإيتير:-
__________
(1) إدمان المخدرات، (ص:146).
(2) إدمان المخدرات، (ص:). 147.
(3) الحشيش قاتل الإنسان، (ص:9).(2/128)
يقول أحد الذين جربوه (الكاتب الفرنسي غي دوموباسان): كان أول ما شعرت به همساً خفيفاً ناعماً ومهدهداً، ثم ما لبثت أن لاحظت بأن جسمي أخذ يخف...أخذ يخف ويخف، حتى بدا لي فيها كما لو أنه كان يتبخر، أحسست بأنه لم يبق لي من جسمي سوى الجلد.. لم يبق سوى ما يكفي لأشعر بلذة العيش، بأن أشعر بأنني أتأرجح في هذه السعادة التي تغمرني...ما كنت أرى أحلاماً كالتي يسببها الحشيش، وما كان ذهني يمتلئ بالرؤى التي يسببها الأفيون، لقد كان إحساساً بحدة ذهنية كبيرة، إحساساً بشكل جديد من الكينونة والتفكير والإحساس والحكم على الحياة، إحساساً بالاقتناع بأنني كنت أدرك عندئذ الواقع الحقيقي للعالم.. كان يبدو لي بأنني تذوقت ثمرة شجرة الحياة، وأن كل الأسرار تنكشف أمامي(1)...
- وهنا أيضاً نتوجه إلى أي صوفي وصل إلى مقام الجمع، وذاق الفناءات، ونسأله: أليست هذه الحالة وهذا الشعور والهمسات المهدهدة الناعمة تشبه ما ذاقه أثناء فناءاته وما سمعه من خطابات توهمها إلهية، وذلك الإحساس الزائف بأنه صار يدرك واقع العالم؟
* من تأثير فطر المكسيك المقدس:-
قام بالتجربة شخص اسمه (آلان ريشاردسن) مع رفيق له اسمه (غوردن واسن):
وقد تمت التجربة في أعالي المكسيك بين الهنود الأصليين:
كانت الغرفة مظلمة ومزدحمة بالناس. كانوا جميعاً هنوداً مكسيكيين... وكانت هناك كاهنة تغني ملوحة بالفطر في دخان لهب نار تتقد في المذبح لتطهر الفطر من أدرانه فيغدو جاهزاً للتناول.
قدم الهنود للرجلين اثني عشر فطراً مطهراً فأخذا يأكلانها... لكن الكاهنة انبرت تغني بمزيد من النشاط، مصفقة بطريقة غريبة وبلحن مهدهد، وفجأة دار (ريشاردسن) نحو رفيقه هامساً في أذنه بأنه يرى أشياء غريبة. فأجابه (واسن) إن الرؤى ستترى، وإنك ستراها سواءً أسدلت جفنيك أو فتحت عينيك.
__________
(1) المخدرات، (ص:115).(2/129)
بدأت الرؤى تظهر رسوماً فنية، كسجادة تبرق بزينتها وتتألق، ثم تتحول إلى قصور وباحات وأقواس وحدائق.. تراءى لريشاردسن حيوان أسطوري يجر عربة ملكية ذات عجلتين، ثم بدت له الجدران وكأنها تنحل...وأحس بروحه تطفو.. وشعر بأن نظره يحيط بفراغات لا متناهية...كان يرى نماذج من الأفكار الأفلاطونية، وصوراً غير كاملة للحياة اليومية(1) اهـ.
- السؤال: أليست هذه الرؤى هي نفس ما يراه الأولياء العارفون المكاشفون؟ مع العلم أنه لو كان جلوسه في مكان غير الغرفة المظلمة، أو لو كانت ثقافته غير ثقافته، لأمكن أن تتغير رؤاه قليلاً أو كثيراً.
ويقول الدكتور صلاح يحياوي:
يستهلك سكان بولينزيا (الكافا) بكميات كبيرة ليعيشوا دائماً تقريباً في رؤى جنة صنعية يهيؤها لهم هذا المخدر(2) اهـ.
- ونفس السؤال إلى نفس الأولياء المكاشفين: أليست هذه الهلوسات هي نفس الهلوسات التي تهيؤها لهم جذباتهم؟
- كيف كان الناس ينظرون إلى المخدرات؟
يقول الدكتور صلاح يحياوي:
...كان من المعروف بأنهم (الكهان) كانوا في طقوس (المسارة) يستخدمون مخدرات ما كان يعرفها غيرهم، وبذلك كانوا يعمرون أذهان المبتدئين بأحلام مرعبة وواضحة إلى درجة كانت تجعل هؤلاء يعتقدون أنها واقعية(3).
...كان (باراسلو) يحمل الأفيون دائماً معه، مطلقاً عليه اسم (حجر الخلود)(4).
...ففي القرن الحادي عشر، وبعد ثلاثمائة عام من نشر العرب لاستخدام الأفيون، بدأ يظهر ثناء العامة وإطراؤهم على هذا المخدر، فكانوا يتغنون به كـ (شراب الآلهة)(5).
...لقد أكد الإينكا (سكان البيرو الأصليين) للإسبان بأن الكوكا (منها يستخرج الكوكائين) نبتة إلهية أوصى بها الإلهان (مانوكو كاباك) وزوجته (ماما أوكيو).
__________
(1) المخدرات، (ص:152).
(2) المخدرات، (ص:106).
(3) المخدرات، (ص:9).
(4) المخدرات، (ص:23).
(5) المخدرات، (ص:23).(2/130)
لقد خصت هذه الصفة الإلهية، والتي لا زال بعض هنود أمريكا الجنوبية يؤمنون بها، خصت حكام الإينكا وحدهم بحق امتلاك مزارع هذه الشجيرة، ويقاسم الكهان الحكام هذا الامتياز(1).
ومما يذكره صلاح يحياوي أيضاً:
كانت جميع شعوب العالم القديم تعرف هذا المخدر (الحشيش)... وقد أحاطت الهالات خواصه، فنسب إليه الهندوس أصلاً إلهياً، فقالوا بأن الإله (فيشنو)(2) قد نصح جميع الآلهة الصغار وجميع الشياطين بأن يجتمعوا في يوم حدده لهم للحصول على إكسير الخلود...وكانت النتيجة أن إكسير الخلود هو القنب الهندي الذي استخلص منه الحشيش(3)..
* وملاحظتان هامتان من المفيد إيرادهما:
يقول الدكتور محمد رفعت:
من الطريف أن نعرف ماذا يفعل المخدر بالإنسان...مع ملحوظة أن هذه الأعراض لا تظهر جميعاً في نفس الوقت ولا بنفس الشدة في جميع الحالات...كما لا تظهر عند كل الناس(4).
ويقول الدكتور صلاح يحياوي:
...إن أفعالها (أي: المخدرات) مطابقة لما يسببه الجنون في أطواره البدائية(5).
- أقول: إن هذه الملحوظةالأخيرة التي يذكرها الدكتور صلاح يحياوي تدلنا على أن باستطاعة الجسم أن تتولد فيه مادة تفرزها غدة ما، لها نفس مفعول المخدرات، وهذه المادة هي التي تسبب الجنون.
- وقبل الانتقال إلى الفصل التالي، نسأل أي صوفي فتح عليه فوصل إلى الجذبة ورأى الكشوف وذاق الفناءات، أليست هذه الرؤى والمشاهدات الهلوسية التحشيشية هي صوراً مشابهة لرؤاه ومشاهداته في جذباته ومعارفه المتوهمة؟
__________
(1) المخدرات، (ص:51).
(2) فيشنو هو الإله الحافظ عند الهندوس.
(3) المخدرات، (ص:66، 67).
(4) إدمان المخدرات، (ص:123).
(5) إدمان المخدرات، (ص:155).(2/131)
إن كان الصوفي الذي سيُسأل هذا السؤال صادقاً مع الله تعالى ومع الناس ومع نفسه فسيقول الحق ويعترف أنها شيء واحد، وإن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ويرجو رحمة الله ويخاف عذابه فسيتوب ويرجع ويحاول إصلاح ما أفسد، وإلا فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، وليعلم أن عليه آثام من استجرهم والمستجَرِّين بمن استجرهم إلى يوم القيامة.
ويجب أن لا ننسى أن الحشاشين لو كان لهم شيخ يوجههم لكانت مشاهداتهم مطابقة كل المطابقة لمشاهدات الصوفية في فتوحهم وكشوفهم وفناءاتهم؛ وذلك لأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان (لكن من هو الشيطان؟).
* مناقشة الجذبة:
لنناقشها أولاً على ضوء القرآن والسنة:
يدعي الصوفية، دون خوف من الله، أن رياضتهم التي ما أنزل الله بها من سلطان، هي الطريق إلى الله سبحانه ومعراجهم إليه؛ لأنها توصلهم إلى الجذبة! ويعتقدون أن الله سبحانه يجذب بها العبد إليه، ولذلك سموها الجذبة، ومفهوم لفظ الجلالة (الله) عندهم يعني -كما أصبح واضحاً الآن- كل الموجودات بما في ذلك ذواتهم، ومعنى (يجذبهم إليه)، أي: يزيل عنهم الحجاب، الذي هو الوهم بأنهم غير الله، ويبعدهم عنه، ويجذبهم إلى استشعار الألوهية في أنفسهم، أي: يشعرون أنهم الله (سبحان الله)، ويشاهدون أن كل شيء هو الله، وهذا هو ما يسمونه الوصول إلى الله، والجذبة هي الولاية والصديقية...إلخ، وهي عندهم حال يتدرج ويمر بأطوار من الرؤى والمشاهدات المختلفة والاستشعارات حتى تصبح مقاماً.
ففي بادئ الأمر، قد يصل السالك إلى الجذبة بعد رياضة، طويلة أو قصيرة، لكن الجذبة تزول بسرعة ثم لا تعود إلا برياضة مثل الأولى، أو أكثر أو أقل، فالولاية هكذا هي حال.
ومع المثابرة يصل إلى درجة يقع فيها في الجذبة بشيء من الذكر، وتطول مدتها، فتكون ولايته هنا مقاماً، ويصير ولياً صديقاً مقرباً... مقيماً إذا صارت الجذبة دائمة.(2/132)
فهل في هذا التصور شيء من الصحة؟
الجواب: لا! للأسباب التالية:
1- إن كون الجذبة ولاية وصديقية وقرباً و.. هو، في أحسن الحالات، أمر غيبي لا يعرف إلا بنص من الوحي الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، أي: بنص من القرآن والسنة الصحيحة، ولا وجود لمثل هذا النص، إلا ما كان من تأويلاتهم الباطلة وافتراءاتهم الظالمة. ((فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ)) [الأنعام:144].
2- إن ادعاء الولاية والصديقية هو هو تزكية النفس على الله، وهو من كبائر الإثم: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:50] و((فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)) [النجم:32].
وكذلك اتهام الآخرين بالولاية والصديقية هو من كبائر الإثم. لقوله سبحانه مخاطباً رسوله: ((قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)) [الأحقاف:9] ولغضب رسوله عندما سمع صحابية جليلة تزكي صحابياً جليلاً، فقال لها: {والله ما أدري ما يُفعل بي وأنا رسول الله. ثم أقرها عندما قالت: فلن أزكي بعدها على الله أحداً}، أي: إنه صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن لا نزكي على الله أحداً.
وهكذا كان فهم الصحابة الكرام، فهذا علي بن أبي طالب يثني على عبد الله بن مسعود فيقول: [[إنه لخيرنا، ولا أزكي على الله أحداً]]! إن علي بن أبي طالب لم يزك عبد الله بن مسعود على الله!
إذن، فتزكية النفس وتزكية الغير هما من كبائر الإثم، والإصرار على ذلك هو كفر بالقرآن والسنة.
وبذلك يكون الادعاء بأن الجذبة صديقية وقرب وولاية هو كفر بنصوص القرآن والسنة.(2/133)
3- رأينا في الفصول السابقة أن السالك يدخل في الشرك الأكبر منذ الخطوة الأولى في طريق الصوفية، ثم يسير في طريق كلها بدع وضلالات وطقوس طاغوتية وتشبه بالكفرة ومخالفة للقرآن والسنة وتزوير لنصوصهما وافتراء على الله سبحانه، وخداع لعباده (بل ولنفسه أيضاً) بادعائه اتباع القرآن والسنة، وكذب على الله وعلى ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذب على الحقائق، وكذب على التاريخ والجغرافيا، واحتقار للعقل والعلم اللذين كرم الله بهما بني آدم، وتقديس للجهل والعته والجنون!
ثم لم يكتفوا بهذا حتى مزجوه بالإسلام! فشوهوا الإسلام وحرفوه! وهنا الطامة الكبرى، وقد رأينا كل هذا فيما مضى من فصول الكتاب من نصوصهم وأقوال أقطابهم وعارفيهم وعلمائهم.
فهل يمكن لمسلم في قلبه إيمان بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر أن يعتقد أو يظن أن هذه الطريق هي الطريق إلى الله؟ أو أنها تقود إلى حق أو حقيقة؟
بل هل يمكن لذي عقل سليم كائناً من كان، أن يعتقد أو يظن أن طريق إبليس هذه هي طريق السير إلى الله والعروج إليه؟ سبحان الله عما يصفون.
إن طريق الشيطان لا تقود إلا إلى مسارح الشياطين ومتاهاتهم...
والجذبة مسرح شيطاني ومتاهة إبليسية، وليست صديقية!
4- إن الجذبة الإشراقية تشبه الجذبة التحشيشية الأفيونية تماماً مظهراً ومخبراً وجملة وتفصيلاً، فإن كانت جذبة الصوفية ولاية وصديقية فجذبة التحشيش مثلها، ويكون الحشاشون والأفيونيون أولياء صديقين، ويكون الهيبيون هم الأبدال والأقطاب والأغواث.
* الخلاصة:
ليست الجذبة ولاية ولا صديقية، وإنما هي مسرح شيطاني، وكذب وباطل ما يدعون.
وفي الجذبة تكشف لهم الكشوف ويتلقون العلوم اللدنية ويرون المناظر الغيبية والمشاهدات الإلهية، إلى آخر الهلوسات الجذبية.
فإلى مناقشتها وعرضها على الكتاب والسنة.
* مناقشة أحلام الجذبة:
التي يسمونها: الكشف، أو العلوم اللدنية، أو المناظر الإلهية، أو المشاهدات.(2/134)
(قبل البدء، أرجو من القارئ الكريم أن يعيد قراءة مفعول المخدرات، ويكرر قراءتها).
نستطيع أن نقسمها، من حيث مصدرها، إلى قسمين:
1- هلوسات فيزيولوجية: وهي تسربات من الأماني والمعلومات (الصحيحة أو المتوهمة) المختزنة في اللاشعور، تتسرب من مخازنها، لتنزلق مباشرة إلى مراكز التفسير الحسي في الدماغ، فما كانت منها صوراً بصرية، انطبعت في مركز التفسير البصري، فيراها المجذوب وكأنها ماثلة أمامه، سواء فتح عينيه أم أغمضهما! لأنها لم تصله عن طريق العين. وما كانت منها صوراً سمعية، انطبعت في مركز التفسير السمعي، فيسمعها أصواتاً لا يعرف مصدرها بالضبط! لأنها لم تصله عن طريق الأذن. ومثلها ما كان صوراً شمية أو ذوقية أو لمسية.
2- هلوسات شيطانية: يتراءى بها شيطان المجذوب أمامه، مستفيداً من خاصة الجذبة في تضخيم الأطوال، أو ينفثها في لا شعوره، وهو الميدان الذي يستطيع الشيطان أن ينفث فيه وسوساته، لتتسرب منه إلى مراكز الحس في الدماغ، مثل بقية الهلوسات الفيزيولوجية.
لا يكون هاذان القسمان منفصلين عن بعضهما، بل ممتزجين، إلا فيما ندر، وفي حالات كثيرة يمكن التمييز بينهما.
وإن تسميتهم لها المناظر الإلهية، أو الكشف، أو نور اليقين وعين اليقين وحق اليقين، أو غيرها مما مر في هذا الكتاب ومما لم يمر، ما هي إلا جهل مغرور، وافتراءات على الله الكذب، وضلالات موغلة في الجرأة عليه سبحانه وجل عما يفترون. والبراهين ما سبق وما يلي:
1- إن الله سبحانه كرم الإنسان ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)) [الإسراء:70] عندما خلق فيه مراكز الوعي، ووهبه بها العقل وتوابعه، كالإدراك والفهم والعلم، ومنها التكاليف.(2/135)
فالله سبحانه، عندما يخاطب الإنسان، فإنما يخاطب فيه العقل والوعي والشعور، وعندما أرسل الرسل بالدين والتكاليف، فإنما أرسلهم يخاطبون العقل والوعي والشعور. والآيات المبينة الدالة على ذلك كثيرة، منها: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى)) [طه:54].
((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) [الرعد:4].
((كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) [الروم:28].
((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ)) [آل عمران:13].
((فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ)) [الحشر:2].
((وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) [آل عمران:7].
((لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) [ص:29].
((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِِ)) [آل عمران:190، 191].
((كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) [يونس:24].
((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) [الرعد:3].
((لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)) [الحاقة:12].
((وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) [البقرة:230].
((كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) [الأعراف:32].
((فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ)) [السجدة:27].
((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)) [الروم:23].
((فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا)) [الحج:46].
((انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)) [الأنعام:65].(2/136)
((قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ)) [الأنعام:98].
((قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)) [الأنعام:126].
((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)) [النحل:13]
والآيات كثيرة، كلها تبين أن الوعي في الإنسان هو الذي أعده الله تعالى لتلقي كلماته، وهو الذي أعده لفهم الحقائق وإدراكها، وخاطبه بالوحي، ليكون الوحي المرتكز الأساسي الذي ينطلق منه العقل الواعي في جميع ميادينه.
وعندما يكون الخطاب الإلهي موجهاً إلى الوعي والشعور، فهذا يعني أن الطريق إلى رضوان الله لا يمكن أن تكون إلا عن طريق الوعي والشعور التامين.
أما الشيطان، فاللاشعور في الإنسان هو ميدانه الذي يصول فيه ويجول، والآيات الدالة على ذلك كثيرة، منها: ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)) [الناس:1] ((مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)) [الناس:4، 6].
((فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا)) [الأعراف:20].
((إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ)) [محمد:25].
((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ)) [الأنعام:121].
((وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ)) [المؤمنون:97]...
وعلى ذلك لا تكون الجذبة فتحاً إلهياً، بل استحواذاً شيطانياً، ولا تكون هلوساتها نور اليقين ولا عين اليقين ولا حق اليقين، وإنما وحي إبليس وجنوده، ولا تكون مناظرها إلا مسارح الشياطين وهلوسات الحشاشين.
2- مر في بحث سابق الآيات التي تبين أن طريق الضلال لا تقود إلا إلى ضلال، وأن سبيل الشيطان لا تؤدي إلا إلى غرور ((وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا)) [النساء:120].(2/137)
ورأينا ما هي الطريق إلى رؤية هذه المناظر وتلك الكشوف، إذن فهي كلها باطلة، وهي كلها شيطانية.
3- إذا كانت هلوسات جذبة الإشراق كشوفاً إلهية، فهلوسات جذبة المخدرات مثلها تماماً، لأن الجذبتين شيء واحد، وكل ما بينهما من فرق أن المخدر في جذبة التحشيش يأتي من خارج الجسم بينما يأتي المخدر في جذبة الإشراق من داخل الجسم، والنتيجة واحدة في الحالتين!
وإذا كانوا يصرون على أن هلوساتهم هي فتوحات إلهية وعلوم لدنية! فلِمَ لا يختصرون الطريق ويوفرون الوقت والجهد؟ إذ بدراهم معدودة يستطيعون شراء شيء من الحشيش أو الأفيون أو عقار التهليس أو الإيتير أو غيرها، وبثوانٍ معدودة تشرق عليهم الأنوار، وتنكشف أمامهم الأسرار، ويعرجون في السماوات العلا ويتمتعون بالمحاضرة والمكاشفة والمشاهدة، ويذوقون معاني الأسماء كلها، ويتنقلون في الفناءات.. إلى آخر الهلوسات!!
ما دام كلا الطريقين إلى جهنم، فلم لا يتبعون الأقل مشقة؟؟!
- بالرغم من أن كل الصفحات السابقة هي براهين ساطعة واضحة على أن رؤاهم هي هلوسات شيطانية، وأن فيها الكفاية وأكثر من الكفاية. ومع ذلك فهناك الكثير من الأدلة غيرها من كشوفهم وعلومهم اللدنية ومشاهداتهم...فإلى كشوفهم وعلومهم اللدنية ومشاهداتهم:
ولنبدأ بجبل قاف. ولنستعد قبل ذلك بعض خواص الجذبة:
- تضخم الأطوال (الجفون تطول إلى ما لا نهاية، والأطراف تطول والمسافات حتى يرى الأمتار طول ما بين المشرق إلى المغرب).
- رؤية أشكال وسمع أصوات ليس لها وجود.. وأحياناً رؤيتها بمجرد تمنيها أو مرورها بالفكر..
- رؤية الحبل أفعى والكلب أسداً...وما شابهها.
ولا بأس من الرجوع إلى أول هذا الفصل لمراجعة المخدرات ومفعولها.
* جبل قاف:-(2/138)
كان كثير من الأقطاب العارفين الأبدال يرونه (أثناء الجذبة طبعاً)، ويصعدون عليه، ويذهبون إلى ما وراءه، ويرونه محيطاً بالأرض، يبلغ ارتفاعه ثلاثمائة سنة (أي: ما يزيد عن بعد القمر بأكثر من تسع مرات) ويرى بعضهم الحية المحيطة به (وبالتالي بالأرض) وذيلها عند رأسها...
كانوا يرون هذه الأمور بالكشف! بينما الآن، صار من البدهيات عند الجميع، حتى الصوفية، أن الأرض كروية، وقد دُرس سطحها كله إلى أعماق محترمة دراسة دقيقة! فقد دُرس سطح اليابسة بدقة بالغة، جبالاً وودياناً وسهولاً وصحاري وبحيرات وأنهاراً، ودرست تربتها إلى أعماق تقاس بالكيلو مترات بدقة أيضاً. ودرست طبقات الأرض دراسة إجمالية، لكنها صحيحة، إلى أعماق تقاس بألوف الكيلو مترات، كما درست البحار كلها سطحاً وأمواجاً ومداً وجزراً، وعرفت أعماقها بدقة، ووضع لقيعانها الخرائط الصحيحة، ووضعت الأسماء لما فيها من جبال ووديان ومنبسطات، أي: إن سطح الأرض كله درس دراسة دقيقة إن لم يكن بالمتر المربع فبالكيلو متر المربع.
ويعرف الجميع أن جبل قاف محض خرافة لا وجود له، وأن الأبعاد التي قدروها له وللأرض، لا تدل إلا على جهل كامل بجغرافية الأرض، وجهل مخز بحساب المسافات، فكشوفهم لم تفدهم شيئاً، بل هي التي دفعتهم إلى وهدة الجهل الذي يتخبطون فيه.
وما دام جبل قاف لا وجود له! فماذا كانوا يرون إذن؟
الواقع، إنهم كانوا يرون بالكشف جبل قاف، والذين كانوا يرونه هم من الأقطاب الأبدال الأولياء العارفين! ورؤيتهم له بالكشف هي برهان ساطع قاطع جديد على صحة كل ما ورد في الفصول السابقة من أن الجذبة ليست إلهية وإنما تحشيشية، وأن كشوفهم ما هي إلا هلوسات الحشاشين وتمثيليات الشياطين!
رأينا أن الخلوة عنصر أساسي في المجاهدة، وقد كانوا كلهم -أو أكثرهم- يعتزلون الناس في البراري أحياناً وفي الخرائب أحياناً، خوفاً من سيف الحلاج.(2/139)
والخرائب، كما هو معروف، هي بيوت خربة هدمت جدرانها، لكن بعضها، كما هو معروف أيضاً، يبقى حولها شيء من جدرانها المهدومة، بارتفاعات مختلفة (قامة أو نصف قامة أو أكثر أو أقل).
من البدهي، أن المرتاض الذي كان يرتاد الخرابات، كان ينتقي إحدى تلك الغرف الخربة المحاطة ببقايا جدرانها، لأن هذه البقايا تعزله عن رؤية الناس.
ومن البدهي أنه كان يسوي أرضها، أو جزءاً من أرضها، إلى حد يستطيع معه الإقامة عليه أثناء خلوته فيها.
ومن البدهي أيضاً أن كثيراً منهم -إن لم يكن كلهم- وصلوا إلى الجذبة أثناء إقامتهم في تلك الخرائب، وأن بعض تلك الجذبات كان من النوع المضخم للأبعاد، فماذا كان يرى المجذوب في مثل تلك الحالة؟
- كان يرى البقعة التي يقيم عليها أرضاً شاسعة واسعة، يقدر بوهم جذبته، أو بإيهام شيطانه له، أن طولها من الشرق إلى الغرب مئات السنين، ومن الشمال إلى الجنوب كذلك.
ويرى بقايا الجدران التي تحيط بها، جبلاً شاهقاً ذاهباً في السماء، يحيط بالأرض من جميع جهاتها.
وطبعاً كانوا يقصون مشاهداتهم على بعضهم، وكانت قصة الجبل الشاهق المحيط بالأرض تتردد كثيراً في مشاهداتهم وقصصهم، لكثرة خلواتهم في الخرائب.
وربما كان يخطر لأحدهم، على بال جذبته، أن يصعد فوق جبل قاف، فينهض، ويقترب من الجدار المتهدم، ويعتلي فوقه، فيرى نفسه قد قطع الدنيا بخطوة أو خطوتين أو ثلاث، ويرى نفسه قد صعد فوق جبل قاف، بخطوة أو خطوتين أو ثلاث، حسب المكان الذي صعد عليه.
وقد يهبط خلف الجدار المتهدم فيرى نفسه وراء جبل قاف، وقد يتراءى له شيطانه، وقد يكون معه رفقة شياطين آخرون، فيتسلون بالتلاعب بعقله والضحك على ذقنه، ويفهمونه أنهم أولياء مثله يقيمون وراء جبل قاف، أو يزورونه من حين إلى آخر، كما قد يكون هؤلاء الأولياء مرتاضين مثله يختلون في الخرائب المجاورة لخرابته، وقد يكونون مجرد صور هلوسية.(2/140)
وقد يحدث لجذبة الفقير (على وزن حضرة الفقير) أن يرى خلف جبل قاف حية، أو حبلاً يتوهمه حية، فيراها طويلة طول ما بين المشرق والمغرب، وقد تكون هذه الحية وسوسة من شيطانه ينفثها في روع جذبته فيراها مجسمة أمامه.
وبما أنهم كانوا، لجهلهم، والجاهل عدو نفسه، وعدو دينه، يؤمنون أن كشوفهم هي نور اليقين وعين اليقين وحق اليقين، لذلك آمنوا أن الأرض محاطة من جميع جهاتها بجبل شاهق جداً! وعرف بعضهم بالكشف أن اسمه قاف، وانتشرت الأسطورة، وأخذت حيزاً هاماً من الثقافة العامة في المجتمعات الإسلامية حتى زمن قريب! بل لا يزال كثير من الأبدال العارفين وعابديهم (المريدون) والمخدوعين بهم يؤمنون حتى الآن بجبل قاف.
وقد كانت الخرابات ضرورية لرؤية جبل قاف قبل أن يعرف، أما بعد ما شاع اسمه واشتهر واحتل مكانه من الثقافة العامة، فقد صار بإمكان الفقير أن يراه في أي مكان تأتيه فيه الجذبة، كما يرى بقية التخيلات والصور المختزنة في اللاشعور، (وسنرى توضيح هذا بعد صفحات).
إن رؤية جبل قاف وغيره من الخرافات، بالكشف، هي برهان واضح جداً وساطع جداً على أن كشوفهم هلوسات تحشيشية شيطانية، وليست فتوحات إلهية كما يفترون.
5- بقية كشوفهم الجاهلة:
رأينا، فيما سبق من فصول، نماذج كثيرة من كشوفهم التي سموها علوماً لدنية، وما فيها من جهل، ولا بأس من إضافة الملحوظات التالية:(2/141)
أ- من كشوف الأقطاب الأغواث العارفين أن الأرض محمولة على حوت اسمه (نون)، والحوت على الماء المحيط.. إلى آخر الهذيان، ولم يستطع واحد من أولئك العارفين الذين عرفوا الأمور بنور اليقين -كما يقول حجتهم- أن يعرف أن ذلك هراء، وأن الأرض كروية مدحوة في الفضاء(1) وأنها تدور حول الشمس، وأن ماءها خرج منها ((أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا)) [النازعات:31]، وهذا يعني أن الماء محمول عليها، وليست هي محمولة عليه، وهذا دليل على أن كشوفهم ليست إلهية، بل هي هذيانات هلوسية؛ لأنها لم تستطع معرفة الحقيقة ولا فهم الآية الكريمة.
ب- رأى قطب منهم الشمس في عجلة يجرها ملكان لهما مخالب... وهذا يذكرنا بالحيوان الأسطوري الذي يجر عجلة ملكية والذي رآه حشاش فطر المكسيك، ولم يستطع الكشف الجاهل ولا كل كشوفهم أن تعرفهم أن الشمس كتلة ملتهبة مضطربة تكاد تميز من الغيظ أكبر من الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرة، وأنها ليست محمولة على عجلة بل مدحوة في الفضاء.
إذن فكشفهم ليس إلهياً وإنما هو هلوسة هذيانية.
ج- لم يعرف أي قطب منهم أو غوث من الذين يتصرفون في الكون أن القمر مثل الأرض فيه صخور وأتربة، وأنه كروي خال من الهواء والماء! ولم يعرف عارف منهم أن المريخ والزهرة والكاتب(2) وغيرها كلها مثل الأرض تتألف من صخور وأتربة وفيها أجواء غازية وفي بعضها ماء... لأن كشفهم ليس إلهياً بل هلوسات تحشيشية.
د- لم يستطع أي غوث منهم من الذين يتصرفون في الكون أو من الذين تحققوا بأسماء الله الحسنى، ومنها الاسم (العليم) ومنها (علام الغيوب)، أن يعلموا شيئاً عن الذرات والجواهر والنوى وكهاربها وحركاتها...لأن كشفهم ليس إلهياً بل هلوسة أفيونية يرون فيها ما كانوا يتوهمونه عن الكون من خرافات وأساطير.
__________
(1) مدحوة: أي مقذوفة ومدحرجة.
(2) الكاتب هو: عطارد.(2/142)
6- لم يستطع كشفهم الجاهل أن يميز الحديث الموضوع من الصحيح، حتى كانوا وراء تزوير الأحاديث ووضع أكثر الموضوع منها والمكذوب، فكانوا من الأدوات التي هدمت الإسلام في نفوس المسلمين، إذن فكشفهم ليس إلهياً وعلومهم اللدنية هي جهالات لدنية.
ولا نريد أن نزيد، فما على القارئ الكريم إلا الرجوع إلى فصل (نماذج من حكايات الصوفية وكراماتهم...)، أو إلى كتبهم، ليرى ما يكشف عن الجهل والغباء والخرافة والاستحواذ الشيطاني، فحكاياتهم وكراماتهم أبلغ من أي حديث آخر.
- ونذكر أن العروج في السماء، والفناء في الله (تعالى الله) وتوابعها، لا يستطيع شياطين الجن تمثيلها أمام السالك، أو العارف، أثناء اليقظة؛ لأن أجسامهم أصغر من أن تستطيع التمثل بتلك الأشياء الضخمة جداً.
لذلك كانوا بحاجة إلى الجذبة وخواصها، وأحياناً إلى الخاصة المضخمة لصغائر الأشياء تضخيماً كبيراً! ليستطيعوا أن يوهموا الفقير بتلك الأمور ثم يوهموه أنه صار (عارفاً بالله) بينما هو في الحقيقة، صار من أجهل خلق الله وأضلهم، وصارت نفسه مركباً ومسرحاً وملهاةً للشياطين يعبثون فيها كما يريدون!
* فيزيولوجية الجذبة:
ما هي الجذبة؟ وكيف تحدث؟
- من المعروف أن العمل العضلي المجهد يسبب إفراز مادة (حامض اللبن) في الدم الذي يوصله إلى أنحاء الجسم، وبملامسته للأنسجة العصبية يؤثر فيها تأثيراً تترجمه الجملة العصبية إلى شعور بالتعب.
وشبيه بهذا ما يحدث نتيجة المجاهدة الصوفية.
لنسأل أي عالم صادق من علماء التشريح والفيزيولوجيا، وسيخبرنا أن العزلة والسهر والجوع والذكر الإرهاقي وتوابعها واستمرارها مدة طويلة تحدث في الجسم الإنساني تحريضاً يجعله يفرز مادة تؤثر على الجملة العصبية تأثيرات هدفها الأول التلطيف من شدة الألم الناتج عن تلك الممارسات.
فما هي هذه المادة؟ وما هو تأثيرها؟(2/143)
يمكن معرفة هذه المادة بالتحاليل المخبرية الدقيقة، (وقد تفيد معها الفحوص الشعاعية والسريرية على أن تجري على عدة سالكين في أكثر من حالة صحو وأكثر من حالة جذبة لكل واحد منهم. وقد يكون من المفيد بدء الفحوص مع بدء سيرهم في التصوف).
ومع ذلك نستطيع، بصورة أولية، معرفة الوظيفة الكيميائية لهذه المادة من تأثيرها؟
إذ إن تأثيرها يشبه تماماً تأثير المواد المخدرة، إذن فهي من نوعها، وهي بالتالي من أشباه القلويات.
لكن يظهر من تجارب القوم وتوصيات الشيوخ أن هذه المادة المفرزة، لا تؤثر على الأعصاب التأثير المطلوب إلا عندما تكون الجملة العصبية في حالة (الاستخدار)، ورأينا أن الوصول إلى هذه الحالة يكون بخلع النعلين، الدنيا والآخرة، أي: بإفراغ مراكز الوعي في الجملة العصبية من جميع مشاغلها الدنيوية والأخروية! إفراغاً كاملاً، حتى تصاب هذه المراكز، (بسبب تعطيلها عن العمل)، بالكسل والضمور والاسترخاء، أي: (الاستخدار)، حيث تغدو قابلة للتأثر بكمية من المخدر أقل من الكمية التي يمكن أن تتأثر بها في الحالة العادية.
وهكذا يلتقي الهبوط الكافي في نشاط القشرة الدماغية ومقاومتها مع الزيادة الكافية في دفقة المخدر، فتكون الجذبة المورفينية التي يسمونها بغرورهم: الفتوح، أو كشف الحجب، أو الإشراق، أو الولاية، وغيرها... وما هي في حقيقتها إلا (أَفْيَنَةٌ ذاتية)(1) تشبه الأفينة التي يسببها الأفيون والمورفين والحشيش وعقار الهلوسة وفطر المكسيك وغيرها شبهاً كاملاً، مظهراً ومخبراً ومشاهدات وهلوسة وحالة نفسية.
__________
(1) أطلق عليها أحد الأدباء الشباب اسم (التحشيش الروحاني).(2/144)
ولو أُخضع الذين يتعاطون هذه المهلسات إلى إيحاءات الشيخ والجو الصوفي مدة كافية من الزمن، لصارت هلوساتهم مثل هلوسات الصوفية تماماً: عروجاً إلى السماء، واجتماعاً بالملائكة والأنبياء، ووصولاً إلى العرش، وحضوراً مع الله (جل وعلا)، وفناءً فيه حلولاً أو اتحاداً أو وحدةً، حسب الإيحاءات التي يُحقنون بها.
وفي هلوسات الصوفية التي يسمونها الكشف والفتح والعلم اللدني، والتي يرونها أثناء الجذبة، براهين تُضاف إلى ما سبق، على أن جذبة الإشراق هي نفس جذبة التحشيش والأفينة؛ لأن مشاهداتهم في هذه نفس مشاهداتهم في تلك، والفرق بينهما ناتج عن الفرق بين الأماني والمعلومات المختزنة؛ ولأن الحالة النفسية في كلتيهما واحدة.
وتبرز ملحوظة مفيدة؟ فقد رأينا في فصل سابق أن هز الرأس على الطريقة النقشبندية قد يوصل إلى الجذبة بعد إحدى وعشرين هزة، أو بعد تكرارها، مما يدل على أن المادة المهلسة المفرزة إنما تفرزها بعض أنسجة الدماغ أو بعض الغدد القابعة في ثناياه.
فهل الأمر كذلك؟
نعم إنه لكذلك! ففي الدماغ منطقة تُفرز مادة شبه قلوية لها مفعول المرفين، هذه المنطقة (تحت المهادية) واقعة في الجزء الأسفل من المخ، تفرز مادة (الأنْدُورفين) أي: (المورفين الداخلي) وهي أقوى من المورفين المعروف، وظيفة هذه المادة هي تخفيف الآلام الشديدة التي يمكن أن تكون قاتلة، تلطفها وتجعلها -بآلية معقدة- في الحدود غير المميتة.
كما أن هناك مادة ثانية يفرزها الدماغ اسمها (أنكيفالين)(1) لها نفس التأثير المخفف للآلام ونفس المفعول المورفيني، لكنها أضعف من المورفين.
نقرأ في المعجم الفرنسي (Larousse) تعريفاً لهاتين المادتين، ترجمته:
- أندورفين(2) (Endorphine): هرمون تفرزه الغدة تحت المهادية (Hypothalamus) له خصائص المورفين المسكِّنة.
__________
(1) ليس لدي من المراجع ما يعينني على معرفة المنطقة التي تفرزها.
(2) يوجد عدة أنواع لكل من الأنكيفالين والإندورفين.(2/145)
- أنكيفالين(1) (Enképhaline): مادة يفرزها الدماغ تؤثر في نقل السيالة العصبية ولها مفاعيل المورفين المسكِّنة.
ونقرأ للدكتور أكرم المهايني(2) في كتابه (علم الأدوية الفارماكولوجيا) قوله:
- مماثلات المورفين: أقر العلماء مؤخراً، إثر الدراسات الحديثة لفسيولوجية المراكز العصبية، وجود ببتيدات... تبدي قدرةً تحاكي فعل المورفين في عدد من النسج الحية، ولا سيما في الجملة العصبية والنخامي والأنبوب الهضمي، وقد تم حتى الآن، الكشف عن مجموعتين من هذه الببتيدات الداخلية المنشأ التي عرفت باسم (مماثلات المورفين) أو (الببتيدات نظيرة الأفيون) وهما:
1- مجموعة الأنكه فالين...(اكْتُشِفت سنة 1977م).
2- مجموعة الأندورفين(3)...(اكْتُشِفت سنة 1976).
(ليس من موضوع كتابنا أن ننقل تجارب الفارماكولوجيين ومناقشاتهم في موضوع هذه الببتيدات، وإنما نورد منها ما يمس موضوع بحثنا).
- إن دفقة كافية من الأندورفين، أو من الأنكيفالين، أو منهما مجتمعين توقع السالك في الجذبة المماثلة للجذبة التي يسببها المورفين، حيث ينال السعادة الأبدية التي تستمر دقائق أو سويعات، يرتقي أثناءها في المعارج، وينتقل في الفناءات، ويتحقق بالأسماء والصفات ويذوق من معاني اسمه الصمد...
فلكما التقديس يا إندورفين ويا أنكفالين، يا هرموني الولاية وإكسيري المعرفة، يا سُرارتي التوحيد وقرارتي التفريد.
يا إندورفين ويا أنكفالين، يا من بكما تعلقت همم الرجال، وإليكما تطاولت أعناق المحبين العاشقين الأبطال، ومن أجلكما اقتحموا الأهوال.
يا إندورفين ويا أنكفالين، إليكما حقيقة توجهت صلوات الصوفية في الجهر والإسرار، وبكما حقيقة تعلقت قلوبهم والأسرار، وفي سبيلكما حقيقة واصلوا اجتهاد الليل بالنهار.
__________
(1) يوجد عدة أنواع لكل من الأنكيفالين والإندورفين.
(2) أستاذ في كلية الطب بجامعة دمشق حتى كتابة هذه الكلمات.
(3) علم الأدوية الخاص، (ص:304، 305).(2/146)
يا إندورفين ويا أنكيفالين، يا منتهى أمل السائرين، وغاية غايات السالكين، إليكما صبت قلوبهم، ولكما عَنت وجوههم، وبتجلياتكما التي لا توصف بلسان، ولا تفصل ببيان، باعوا الدنيا والآخرة، ورضوا بجهنم مستقراً ومقاماً.
يا نور يقينهم، وعين يقينهم، وحق يقينهم.
يا هرموني الفناءات، وإكسيري التجليات، يا مانحي التحقق بالأسماء والصفات.
يا إندورفين ويا أنكيفالين، يا كاشفي الحجب، يا مقدسي الأسرار، يا رافعي الغين عن العين.
يا سر الجذبات التي أوهمتهم شياطينهم من الإنس والجن أنها ولاية وقرب وتحقق بالألوهية.
* كيف يسبب الإندورفين والأنكفالين الجذبة:
الألم الشديد حافز يدفع الغدد الدماغية المختصة لإفراز هاتين المادتين أو إحداهما بشكل دفقات كافية لتخدير المراكز العصبية، بما في ذلك القشرة الدماغية، تخديراً خفيفاً كافياً لإبقاء الألم في حدود غير قاتلة.
كما يظهر من تجارب القوم (الصوفية) أن الاهتزازات العصبية العادية (غير الحادة) إذا استمرت مدة كافية (تختلف من شخص لآخر تدفع هذه الغدد لإفراز دفقات من هاتين المادتين أو من إحداهما، وقد رأينا أن هز الرأس بعنف على الطريقة النقشبندية قد يثير الدفقات.
والرياضة الإشراقية عند الأمم الأخرى (الخلوة، والجوع، والسهر، والصمت، وتركيز الفكر في كلمة، وتركيز النظر على نقطة، وأخذ بعض الأوضاع غير المريحة، والاستمرار على ذلك مدة طويلة)، يقود الى نتيجتين:(2/147)
1- إفراغ مراكز الوعي من أي شيء يشغلها على الإطلاق، فتتعطل القشرة الدماغية من وظائفها الطبيعية التي طبعها الله سبحانه عليها، ومع المثابرة والاستمرار تصاب بشيء من الكسل والارتخاء، ومع المثابرة والاستمرار أيضاً، يزداد الكسل والارتخاء حتى تصل إلى درجة كافية للتأثر تأثيراً كافياً بكمية المهلس (إندورفين أو أنكيفالين أو كليهما)، الضئيلة التي تفرزها الغدد المختصة، كما أن تكرار الرقص العنيف، يساعد في زيادة كسل القشرة الدماغية واسترخائها، أو انكماشها.
إن عملية عدم التفكير المطلق وإفراغ الذهن من كل ما يشغله عملية صعبة للغاية، بل تكون متعذرة للكثير من الأشخاص، فأعانهم إبليس بأن دلهم على فائدة تركيز الفكر في كلمة ما كائنة ما كانت هذه الكلمة، فالهندوسي، مثلاً، يستعمل كلمة (أوم) أو (راهام)، والطاوي يستعمل كلمة (طاو)... وإذا أراد أحد متصوفة المسلمين ممارسة رياضة الصمت (وهذا نادر جداً) ركز تفكيره في شيخه.
ويستطيع القارئ أن يجرب ذلك بنفسه، فيركز تفكيره في كلمة ما، ولتكن (زيز)، يرددها في ذهنه دون أن يحرك لسانه أو شفتيه أو أي جزء من فمه، مع الانتباه إلى هذا الترديد، وسيشعر أن ذهنه كان فارغاً من أية فكرة أثناء ترديدها.
2- النتيجة الثانية: هي الإرهاق المؤلم المستمر الذي يدفع الغدد الدماغية المختصة إلى إفراز مخزونها من المهلس، واستمرار الألم وتزايده يدفع هذه الغدد إلى العمل المتزايد وإلى تزايد الإفراز، حتى تغدو الكمية المفرزة كافية للتأثير على المراكز العصبية التي وصلت إلى درجة كافية من الارتخاء؟ فتكون الجذبة التي يسمونها فيما يسمونها: (كشف الحجب، أو الفتح، أو الولاية، إلى آخر الأسماء الظالمة)، مع العلم أن ازدياد الإفراز عن الحدود المحتملة يقتل صاحبه.
أما متصوفة المسلمين:(2/148)
فقد حذفوا من رياضتهم الصمت وتركيز الفكر والنظر وأخذ الأوضاع المؤلمة، واستبدلوها بما سموه (الذكر). إن ترديد كلمة ما، يقود بعد مدة قد تطول وقد تقصر (حسب الأشخاص) إلى نفس النتيجتين السابقتين:
1- إفراغ الذهن من خواطره، والاستمرار على هذا الإفراغ بالذكر الإرهاقي المستمر ليالي وأياماً يدفع القشرة الدماغية إلى الاستخدار.
وكذلك الخضوع الكامل للشيخ هو عامل مساعد وقوي للوصول إلى الاستخدار لأنه يحول دون تشغيل الفكر، بل يشله.
2- من المعروف أن الإنسان إذا مارس حركة ما مدة طويلة، تغدو لديه عادةً يقوم بها دون إرادة أو شعور.
وكذلك ترديد كلمة ما، ليلاً ونهاراً، يغدو بعد مدةٍ عادةً، يرددها المرتاض دون إرادة أو شعور، ويزيدها الترديد الإرادي تمكناً، حتى إنه يكون نائماً، فيستيقظ، أو يوقظه أحد، فيلهج بها لسانه مباشرة دون وعي منه، بل قد يصل إلى ترديدها أثناء نومه.
ومثله الأعصاب التي تربط اللسان بالدماغ والتي تسري فيها التموجات العصبية النطقية المتناغمة مع الكلمة المرددة ومقاطعها وحروفها، تعتاد على ترديد تلك النبضات مع اللسان دون وعي.
ومثلها المراكز المختصة في الدماغ.
وبطبيعة الحال، تنتقل هذه النبضات إلى الأنسجة المحيطة بأعصاب اللسان وبمراكزها في الدماغ حيث تصبح لها عادة مثل اللسان وأعصابه. ومع الزمن يشعر المرتاض أن أعصابه كلها تردد تلك النبضات، وكلما زاد من ترديده الإرادي للكلمة كلما تمكنت تلك العادة من دماغه وأعصابه.
فلم يزل مستعملاً ... للذكر ... ... في صمت اللسان وهو يجري
وقَدْرَ ما تجوهر اللسان ... ... بالاسم يستثبته الجَنان
ثم جرى معناه في الفؤاد ... ... جَرْيَ الغِذا في جملة الأجساد
هذه الاهتزازات (الميكرونية طبعاً) المستمرة، تنتشر في الدماغ حتى تصل إلى الغدد المختصة التي تأخذ بالاهتزاز مثل بقية الدماغ؛ واستمرار هذه النبضات يفضي إلى إفراغ المخزون أو المهيأ من هرمونها.(2/149)
واستمرار الاهتزاز، باستمرار الذكر، يؤدي بعد مدة إلى إصابة هذه الغدد بالخلل، فيزداد إفرازها ويسهل قذفها، وقد تصاب بالتضخم، كما يؤدي هذا إلى خلل في التفكير السليم.
وهكذا... حتى تغدو كمية الدفقة كافية لأَفْيَنَةِ المراكز العصبية المستخدرة، فتكون الجذبة، ويغدو السالك ولياً لله بكمية من الإندورفين والأنكيفالين قد تقاس بأجزاء من الغرام!
فلكما التمجيد والنعمى يا إندورفين ويا أنكيفالين، ولكما توجههم الأسمى يا إندورفين ويا أنكيفالين، لوجهكما الرقص مع النقص وبدون نقص، يا مقدسي الأسرار ويا باعثي الأنوار.
ما كان لهاثهم إلا وراء سرابكما، ولا هيامهم إلا بما يمنيهم إبليس فيكما من الخلد وملكٍ لا يبلى، ((يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا)) [النساء:120].
يا إندورفين ويا أنكيفالين، يا قدس أسرارهم، ويا جاذبيهم إلى الأوهام الشيطانية التي ضلوا بها وأضلوا.
وعندما تصير زيادة الإفراز وسهولة قذفه مقاماً بعد أن كانت حالاً، عندئذ يكون السالك قد وصل إلى الدرجات العلا، ونال القرب والسعادة العظمى، وصار بدلاً أو قطباً أو غوثاً، حسبما توهمه شياطينه من الإنس والجن.
فيا عباد الإندورفين، احمدوه واشكروه على ما أولاكم من نِعَمه، ولا تنسوا الأنكيفالين.
إلى جانب هاذين الهرمونين، يجب أن نذكر عاملاً مساعداً هو الأكسجين. ففي الحضرة الراقصة، وبعد دقائق قليلة من القفز، يأخذ الراقص باللهاث والتنفس العميق، وهذا ما يسمى (التهوية) حيث يدخل إلى رئتيه كمية من الهواء، وبالتالي من الأكسجين، أكبر من الكمية العادية.
عندما تستمر عملية التهوية مدة كافية، ترتفع نسبة الأكسجين في الدم، وللأكسجين تأثير أفيوني ضعيف، وارتفاع نسبته في الدم يصيب المراكز العصبية بأَفْيَنَةٍ خفيفة، يختلف الإحساس بها من شخص إلى آخر.(2/150)
لذلك نرى بعض الراقصين في الحضرة يأخذه الحال، فيزعق ويثور، إن كان الوارد قبضياً، أو يشعر بشيء من السرور والخدر اللذيذ، إن كان الوارد بسطياً، وقد يقع على الأرض، وقد يرى صوراً ينقصها الوضوح أو بعضه، وهذا يثير فيه الشهية الجارفة للوصول إلى الجذبة ويدفعه إلى المثابرة على الرياضة، مع العلم أن بعض الذين يأخذهم الحال كاذبون لا يحسون بشيء، وإنما يتظاهرون بذلك طمعاً في أن يحقق الحال المقال.
كما أن للتهوية دوراً آخر، إذ إن ارتفاع نسبة الأكسجين في الدم يؤثر على المراكز العصبية في جميع الحالات، ويجعل فعاليتها تهبط، ولو لم يشعر الراقص بذلك، وكلما زاد عدد الحضرات كلما زاد الهبوط، وهذا يساعد السالك كثيراً على الوصول إلى مقام الاستخدار، لذلك جعلوا الحضرة من المنشطات وأصروا عليها.
* ترنيمة إلى الإندورفين (مع حفظ المقام للأنكيفالين):
كنت مزقتُ شِعري، لكن البادئ أو الباده أو الطالع أو اللائح أو البارق أو اللامح، (وكلها مترادفة تعني بدايات الحال). أو الهاجم أو الوارد أو الحال (وهذه أيضاً مترادفة)، أو المقام، أيها لا أدري، أجرى في الخاطر هذه المقيصيرة فسجلتها.
أأندرفين والمسعى ... ... إلى إشراقك الأسنى
له التسبيح في الإعلانِ ... ... والتمجيد في النجوى
له أبدالهم تعنو ... ... وفيه قطبهم يفنى
أأندرفين هرمون الـ ... ... ـولاية مانح الحسنى
إليك عروجُ سالكهم ... ... ومنك سحائب النعمى
طَبَتْ سُبُحات سرك سِرَّ ... ... قلب العارف المُظما
وقرًّح جفنه ولهٌ ... ... بخمرة ذلك المجْلى
يهيم بسُكر جذبتها ... ... يعبُّ يعبُّ لا يروى
بها قد باع دنياه ... ... وعاف لأجلها الأخرى
رضي بجهنمٍ سَكَناً ... ... مُقابل ساعة تُجْلى
أأندرفين كنتَ لهم ... ... معين الخدعة الكبرى
سرابُك عندهم خلْدٌ ... ... وملكٌ جل لا يبلى
وفيضك قدس سرهمُ ... ... يقدس قدْرَ ما تطغى
فأنت محط قبلتهم ... ... وأنت الغاية القصوى(2/151)
إليك صلاتهم حقاً ... ... وذكرهم وما يُتْلى
أضاعوا فيك رُشدَهُم ... ... فضلوا، السعْي والمسعى
- الترنيمة للإندرفين لأنني أظن أن له الدور الأساسي في الجذبة.
وقبل الانتقال إلى الفصل التالي، من المفيد ملحوظة ما يلي:
المنطقة تحت المهادية (Hypothalamus) هي منطقة من الدماغ الأوسط في قاعدة المخ، حيث توجد عدة مراكز منظمة لوظائف فيزيولوجية هامة: (الجوع، والعطش، والنشاط الجنسي، والنوم، والاستيقاظ، وتنظيم الحرارة في الجسم).
وبدهي أن هذه المراكز هي أول ما يتأثر بالإندورفين، وبدهي أن هذا التأثر يغير كثيراً أو قليلاً من فعاليات هذه المراكز، وهذا يفسر ما يحدث لبعض الواصلين من بقاء مدة طويلة دون طعام أو شراب أو نوم، ومقدرة بعضهم على تحمل البرد الشديد أو الحر الشديد، وغير ذلك مما يظنونه كرامات دالة على ولايتهم.
* فيزيولوجية الرؤى أثناء الجذبة:
ما دامت مكاشفاتهم ومشاهداتهم وإشراقاتهم باطلة كلها! لأنها مدحوضة كلها بنصوص القرآن والسنة.
وما دامت دون أي رصيد في واقع الحياة والوجود!
وما دام كل ما يشاهدونه ويسمعونه ويكاشفونه هذيانات وهلوسات إندورفينية أنكيفالينية!
ما دامت كذلك! إذن فما هي؟ وكيف تحدث؟
1- هناك التمثيليات الشيطانية، لكنها في واقع الأمر ثانوية، وقد لا تقتضيها الحاجة في كثير من الأحيان، وأكثر ما تكون في حالة الصحو، فيسمونها الكرامات، ومع ذلك فهي وسيلة الخداع الأولى في الصوفية.(2/152)
2- عملية الكشف والمشاهدة تجري في الدماغ، في مركز التفسير البصري، كالتالي: من المعروف أن الصور الحسية (البصرية والسمعية والشمية والذوقية واللمسية) عندما تتلقاها أعضاء الحس (العين والأذن والأنف واللسان والجلد) تحولها إلى سيالة عصبية تنقلها الأعصاب المختصة (بشكل تموجات قطعاً) مباشرة وبسرعة، إلى مراكز التفسير الحسي في الدماغ، فما كانت بصرية انتقلت إلى مركز التفسير البصري، حيث يتم هناك الإحساس بالرؤية، أي إن مركز التفسير البصري في الدماغ (تحت القشرة) هو الذي يحس بوجود الأشياء وبأطوالها وأحجامها وأبعادها وألوانها وحركاتها، أي هو الذي يفسرها بالصورة التي يعرفها كل من وهبه الله سبحانه نعمة البصر. وما كان سمعياً انتقل من الأذن إلى مركز التفسير السمعي الذي يتم به الإحساس بالصوت وارتفاعه وحدته وقربه وبعده...وهكذا.
فمراكز التفسير في الدماغ هي التي تفسر السيالة أو (الموجات) الواردة إليها، ذلك التفسير الذي يعرفه كل حي.
من مراكز التفسير الحسي تنتقل الصور مباشرة وبسرعة إلى مخازن الحفظ في الخلايا الدماغية المتخصصة بذلك والقابعة في منطقة اللاشعور في الأجزاء الداخلية من الدماغ.
وكذلك يحدث للأفكار والتخيلات والأماني والطموحات، تُخزن كلها في خلايا مخازن الحفظ المخصصة لها.
ويلاحظ بوضوح أن منطقة اللاشعور ليست مجرد مخازن صامتة تكدس فيها الصور والأفكار بجمود، وإنما هي عالم حي تجري فيه بنشاط عمليات تحليل وتركيب وإنشاء، لكن يغلب على هذه العمليات التنسيق مع العواطف والأماني المختزنة والتخيلات.
ويقرر علماء التشريح والفيزيولوجيا، بناءً على دراستهم وتجاربهم الكثيرة، أن مراكز الوعي (التذكر والإدراك والمحاكمة والضبط وتمحيص الأمور) تقع في القشرة الدماغية.
ويظهر أن خلايا المراقبة والانتقاء تتوزع بين القشرة وتمتد إلى داخل الدماغ.
ومراكز التفسير الحسي (البصري والسمعي وبقيتها) تقع تحت القشرة داخل الدماغ أيضاً.(2/153)
ومن ملحوظة أحلام اليقظة، والأفكار الشاردة أثناء الاسترخاء، والأحلام المنامية، ومن دراسة أوصافهم لأحلام جذباتهم الأفيونية والإشراقية، نستطيع أن نتخيل ما يلي:
أن هناك طرقاً عصبية (حبال) بعضها صادر عن مراكز الوعي في القشرة الدماغية (التذكر والإدراك وبقيتها) وبعضها صادر عن مراكز التفسير الحسي تحت القشرة (البصرية والسمعية وبقيتها) وكلها تصب مباشرة في مخازن الحفظ في مناطق اللاشعور في الدماغ، والتي هي خلايا عصبية تعد بالمليارات وأن هناك قنوات مباشرة من مراكز التفسير الحسي إلى مراكز الوعي في القشرة (الإدراك والضبط وغيرها).
كما يلاحظ؛ مع شيء من القبول، أن هناك طريقاً، أو قناة عصبية (حبل) صادرة عن مخازن الحفظ في اللاشعور، تصب، حسب مقتضى الحال، في مركز التذكر أو التخيل في القشرة، ومن هناك تتوزع إلى المراكز الأخرى في القشرة الدماغية حسب مطلوب الفرد أو حالته.
ويلاحظ أن الطريق الواصلة بين مراكز الوعي في القشرة وبين مخازن الحفظ في اللاشعور هي، في الحالة العادية، ذات اتجاهين: من القشرة إلى مخازن الحفظ، ومن مخازن الحفظ إلى القشرة (أي: ذهاب وإياب).
والطريق الواصلة بين مراكز التفسير الحسي تحت القشرة وبين مخازن الحفظ هي، في الحالة العادية، ذات اتجاه واحد: من مراكز التفسير الحسي إلى مخازن الحفظ فقط. كما أنه من الملاحظ أيضاً أن خروج الصور الحسية والأفكار من مخازن الحفظ في اللاشعور يكون بأحد أسلوبين.
أ- أسلوب إرادي انتقائي، لا تخرج فيه إلا الصور المطلوبة، وهذا يدل على وجود خلايا دماغية وظيفتها الإشراف على إفراز الصور والأفكار المطلوبة وإخراجها إلى مركز أو أكثر من المراكز المناسبة في القشرة الدماغية، أي: إن هذه الخلايا الدماغية هي مراكز مراقبة أو (رقيب) ويظهر أن جزءاً من هذه الخلايا أو (الحبال) الرقيبة واقع في منطقة اللاشعور، فهو يعمل دون أن يشعر به الكائن الحي.(2/154)
ب- أسلوب لا إرادي، تتسرب فيه الصور والأفكار عفوياً (حسب الظاهر) وتجري هذه العملية في حالة الشرود الذهني والاسترخاء وفي حالة النوم (الأحلام) وفي الجذبة (الكشف)، عندما تكون مراكز الوعي والرقيب فاقدة فعالياتها.
كما يلاحظ أيضاً وبوضوح، أن عمليات التحليل والتركيب التي تجري في مناطق الوعي تكون متناسقة مع واقع الحياة والوجود على قدر استيعابها لهذا الواقع.
وأن عمليات التحليل والتركيب التي تجري في منطقة اللاشعور تكون متناسقة مع العواطف والأماني والمخاوف الكامنة، تأخذ موادها الأولية منها ومن المعلومات المختزنة، فتحللها وتركب منها صوراً جديدة تتفق والأماني المختزنة والعواطف، ويلعب فيها الذكاء الفطري للفرد وسعة خياله دوراً ملحوظاً، لذلك، غالباً ما تقفز فوق الواقع والمعقول.
- وهناك حقائق تشريحية وفيزيولوجية تساعد معرفتها على معرفة كيفية حدوث الرؤى الجذبية، بل والمنامية أيضاً:
- يتألف الحبل العصبي من خلايا عصبية متصلة ببعضها، تنتقل السيالة العصبية فيها من خلية إلى جارتها حتى تصل إلى مراكز التفسير الحسي في الدماغ، أو إلى القشرة الدماغية.
- الخلية العصبية، ويسمونها (العصبون) أو (النورون) تعريباً من (neurone) لا تستطيع الانقسام، وينتهي طرفاها بخيوط دقيقة متشعبة، تجتازها السيالة باتجاه واحد(1).
- بالقرب من منتهيات العصبونات، بملامسة التلاحمات العصبية، توجد حبيبات(2) تحتوي على مكونات آمينية يسمونها (الآمينات الوسيطة).
__________
(1) عن المعجم الفرنسي (Larousse).
(2) التعامل مع هذه الحبيبات يكون بالمجهر الالكتروني لصغرها.(2/155)
- ما بعد منطقة التلاحم هذه يوجد تلاحم آخر غني بحويصلات كبيرة (نسبياً) كروية تختزن مادة ببتيدية (أي: لها نفس مفعول الإندورفين) يسمونها (المادة: P). وقد أثبتت الدراسات أن (المادة: P) والأنكيفالين والمستقبلات المورفينية تبدي نفس التوزع. و(المادة: P) هذه هي حموض نووية (كالآمينات) لها دور هام في تأمين نقل الشيفرات الألمية عبر الألياف الناقلة للألم.
- تمر السيالة العصبية الحاملة لحسِّ ما من أول العصبون إلى آخره، وهناك يتحرر عدد من الآمينات الوسيطة من حبيبات ادخارها لتصطدم بمنتهيات العصبون المجاور لتنقل إليه السيالة، أو لتحرض فيه سيالة مماثلة، أما (المادة: P) ففي نقل الألم.
- تقوم أدوية الجملة العصبية المركزية (الأفيونيات ومعها الإندورفين والأنكيفالين) بتأثير منتشر، منبه أو مثبط، لجميع التلاحمات العصبية (أي: مكان اتصال العصبونين المتجاورين)...ويتم هذا التأثير بطريقة اصطفائية مختلفة الشدة، وذلك بتنشيط أو إبطاء استقلاب الآمينات الوسيطة، أو بالتدخل في وظائف هذه المواد (الآمينات الوسيطة)...
- وفي الحقيقة أصبح من المقبول اليوم أن السيالة العصبية عندما تبلغ نهاية النورون العصبي حذاء المركز، يتحرر من هذه النهاية عدد من الآمينات الوسيطة وتنتشر لتنبه أو تثبط نوروناً آخر(1)...اهـ
- ألفتُ النظر إلى قوله: (ويتم هذا التأثير بطريقة اصطفائية).
ويقول في مكان آخر:
إن آلية التأثير العام لهذه الأدوية (المخدرات العامة) التي تستند على وجود ولع اصطفائي مختلف الشدة بينها وبين المراكز العصبية المنتشرة على طول المحور الدماغي النخاعي(2)...
__________
(1) علم الأدوية الخاص، (ص:4)، مع شيء من التصرف، (المادة: P) (ص:308، 309).
(2) علم الأدوية الخاص، (ص:6).(2/156)
ويقول: إن اكتشاف بعض المركبات الكيمياوية، كعقار الهلوسة (L S D) والمسكالين وغيرهما، وملحوظة أن هذه المواد قد تسبب تبدلات عميقة في التصرفات تصل لدرجة الإهلاس، كل هذا لفت انتباه الدوائيين الجدد إلى إمكان وجود علاقة بين اضطرابات السلوك والتصرف، وبين بعض المركبات الكيمائية التي تبدي ولعاً اصطفائياً خاصاً بالمناطق الدماغية الخاصة بوظائف الكيان النفسي. وقد ارتقت نظرية التأثير الاصطفائي إلى أبعد من ذلك(1)...اهـ.
- هذه التقارير منقولة عن الدكتور أكرم المهايني في كتابه علم الأدوية الخاص، مع قليل من التصرف للتخلص من التعقيدات والتفصيلات التي لا تهمنا في بحثنا.
يهمنا من هذه التقارير:
- الآمينات الوسيطة التي تنتقل من نهاية عصبون إلى بداية جاره لتنبيهه بتحريض السيالة، أو تثبيطه.
- دور الأدوية المؤفينة (ومعها الإندورفين والأنكيفالين) بتنشيط الآمينات أو إبطائها (تثبيطها) أو تقويتها.
- تأثير هذه العقارات الأفيونية على أماكن مصطفاة من الأعصاب ومن الدماغ، وخاصة بالمناطق الدماغية الخاصة بوظائف الكيان النفسي، وهو الموضوع الذي نحن بصدده في كتابنا.
- وهذه الأماكن والأجزاء العصبية التي لديها القابلية للتأثر بهذه العقارات المخدرة يسمونها (المستقبِلات).
يقول الدكتور أكرم المهايني عن مجموعة الأنكيفالين:
...تتثبت بشدة على المستقبلات المورفينية، وتتوزع في الجسم بشكل يتماشى مع توزع هذه المستقبِلات(2)...
ويقول عن مجموعة الأندرفين:
...وأثبتت الدراسات التجريبية...عام 1976م، بأن لهذه الببتيدات أيضاً ولع شديد بالمستقبِلات المورفينية(3)...
__________
(1) علم الأدوية الخاص، (ص:7).
(2) علم الأدوية الخاص، (ص:304).
(3) علم الأدوية الخاص، (ص:305).(2/157)
- من كل هذا، نرى أن الإندورفين والأنكيفالين اللذين يفرزهما الدماغ لهما نفس مفعول المورفين بصورة دقيقة، وإن كان الأنكيفالين أضعف منه، والأندرفين أقوى في بعض الحالات. وهذه التقارير العلمية، مضاف إليها ما رأيناه في الفصول السابقة من تشابه كامل بين حالة الجذبة الأفيونية الهلوسية ورؤاها وبين حالة الجذبة الصوفية ورؤاها، كل هذا يجعل التأكد كاملاً، ولا يترك مكاناً لأي شك أو تساؤل أو تردد بأن الجذبة الصوفية ورؤاها هي تهليس إندرفيني أنكيفاليني، وأن الرياضة الصوفية وعلى رأسها الذكر الإرهاقي تعمل على زيادة الكمية المفرزة من هاتين المادتين بشكل مَرَضي دائم، كما تعمل، بإرهاقها الدماغ مدة طويلة، على إضعافه إضعافاً كافياً للتأثر بهذه الكمية الجديدة من إحدى هاتين المادتين أو كلتيهما.
وبالتالي تكون الصوفية، أو الإشراق، أو المعرفة، أو الكهانة، أو ما شئت غيرها من الأسماء التي أطلقوها، تكون خدعة إبليسية كبرى، وهي السبب الأساسي لانحراف الإنسانية عن الفطرة التي فطرها الله سبحانه عليها.
ولزيادة الفائدة وزيادة تأكيدها، نصان آخران.
يقول الدكتور أكرم المهايني:
...ويحسن بنا التذكير، بأن زوال الألم بفعل المورفين (ومثله الإندورفين والأنكيفالين طبعاً) لا يؤلف سوى وجه واحد من أوجه تأثيراته المتعددة، فطيف تأثيره يشمل أيضاً- بشكل أعم- السلوك والتصرفات.
...ولوحظ أيضاً وجود فرط نشاط إندورفيني في السائل الدماغي الشوكي لدى المصابين بالفصام (الجنون) المترقي(1)...
- أقول: يعرف القارئ الآن أن الفصام المترقي هو مقام (جمع الجمع)، وأن المصاب به هو الذي يسمونه (المراد)، ولو أجريت الفحوص اللازمة لهؤلاء الأولياء الأحياء الذين نسمع بهم، وخاصة عندما يكونون في مقام القرب، لوجد فرط النشاط الإندورفيني في السائل الدماغي الشوكي عندهم.
__________
(1) علم الأدوية الخاص، (ص:310، 311).(2/158)
ومن هنا يبرز الترجيح، أن الإندورفين هو صاحب الدور الأساسي، أو الرئيسي في الجذبة.
- والآن نستطيع أن نتخيل كيفية حدوث الرؤى الكشفية والأفيونية:
الظاهر أن مناطق اللاشعور في الدماغ تبقى في نشاط مستمر في جميع الحالات، شأن أجهزة الجسم اللا إرادية.
وواضح للمتأمل أن القناة العصبية التي تخرج فيها الصور من مخازنها في خلايا اللاشعور إلى مراكز الوعي في القشرة الدماغية، هذه القناة، أو القنوات، هي من مستقبِلات المورفين، ولذلك، عندما تغدو كمية الإندورفين المفرزة كافية، بتحريض الرياضة الصوفية، تتفاعل معها هذه المستقبِلات، فتتثبط الآمينات الوسيطة على طول الحبل العصبي الواصل بين المخازن والقشرة، وتغدو هذه الطريق مغلقة، ويظهر أن خلايا الرقابة العليا يصيبها نفس الشيء، كما أن مستقبِلات الأفيون في كل الجملة العصبية يصيبها نفس الشيء، وهذه هي الجذبة.
إن فقدان المجذوب الإحساس بما حوله جزئياً أوكلياً (حسب كمية المهلس) هو دليل لازم كاف على أن الآمينات الوسيطة قد ثبطت، فتوقفت السيالات التي تحمل الإحساسات من أعضاء الحس (العين والأذن...) إلى القشرة الدماغية.
هذه هي الجذبة، وهذه هي الولاية (مرحباً ولاية).
ويظهر أن هذه الولاية تصيب أيضاً خلايا الرقابة في الدماغ، فتأخذ خلايا اللا شعور حريتها بتحليل الصور والمعلومات المختزنة، وغيرها، لتركب منها صوراً جديدة متناسقة مع عواطف المجذوب ورغباته، بل لعل العواطف والرغبات هي التي تحرك عملية التحليل والتركيب.(2/159)
تخرج هذه الصور الجديدة، وغالبيتها بصرية، على غفلة من الرقيب المخدّر بشكل سيالات عصبية، لعلها موجية (وهو المنطقي)، في الطريق المعتاد الذي طبعت عليه، أي إلى مراكز الوعي في القشرة الدماغية، لكنها تجد منافذها مغلقة، وتجد إلى جانبها منفذاً آخر، وهو الطريق ذات الاتجاه الواحد التي تخرج من مراكز التفسير الحسي وتصب في المخازن، وهي، بدهياً، تقع داخل الدماغ، فتعبرها اضطراراً مخالفة للعادة في الحالة العادية، حيث تصل إلى مراكز التفسير الحسي. ولعل (المادة: P) لها دور في فتح هذه القناة بصورة معكوسة.
بما أن غالبية الصور بصرية، لذلك تذهب إلى مركز التفسير البصري، فيفسرها ويحس بها كما لو كانت آتية عن طريق العين، ويراها المجذوب مجسمة ماثلة أمامه كأنها شيء واقع حقيقي؛ لأن مركز التفسير مطبوع على التأثر بأية موجة تصله، ليفسرها ويرسلها مفسرة إلى مركز الإدراك في القشرة، ولا علاقة له بمصدرها ولا بالطريق الذي سلكته.
وتذهب الصور السمعية إلى مركز التفسير السمعي، واللمسية إلى مركز التفسير اللمسي...وهكذا.
وعندما يصل الخدر خفيفاً إلى الطرق الواصلة بين المخازن ومراكز التفسير الحسي، عندئذ يختلط الحابل بالنابل، ويختلط السمع بالبصر بالشم بالذوق باللمس، فتذهب الموجات البصرية إلى مركز تفسير حسي (بصري أو غير بصري) وكذلك السمعية والشمية والذوقية واللمسية، فتحدث لهم الرؤى التي لا يستطيعون وصفها، وتوهمهم شياطينهم، ويصور لهم غرورهم أن الأنبياء كانوا كذلك! وتوهمهم جذباتهم أن الجنة كذلك.
وعندما يزيد المخدِّر عن حده، ويتغلغل في الدماغ يصاب المجذوب بالجنون أو الشلل أو الموت.
هكذا تحدث أحلام الجذبة بجميع أنواعها سواءً أكانت مورفينية أو إندورفينية، أي سواء كانت جذبة تحشيش أو جذبة إشراق.(2/160)
ولعل من آثار الإندورفين أيضاً تمييع الخلايا العصبية، وخاصة خلايا القشرة الدماغية، تمييعاً خفيفاً طبعاً؛ لأن هذا يمكن أن يكون تعليلاً لما يرونه من تضخيم الأبعاد قليلاً أو كثيراً، ومن إطالة الزمن أو تقصيره، ومن رؤية فراغات لا نهائية أو رؤية الأشياء شفافة أو لا وجود لها...وذلك لأن الخلايا المدْرِكة في القشرة، عندما تتميع، يمكن أن يتغير شكلها باتجاه أو بآخر بسبب الضغوط حولها، فيحدث ذلك التشويه في الإدراكات، كما يمكن أن يكون حدوث هذا التميع في مراكز التفسير ذاتها.
وهنا يأتي دور الشيخ؟
فلولا الشيخ لكانت الرؤى متشابهة مع بعضها في الجذبتين (جذبة التحشيش وجذبة الإشراق). لكن توجيهات الشيخ وإيحاءاته المتناسقة مع تجاربه السابقة، تحقن المريد بالعواطف والطموحات التي توجه رؤاه إلى العروج في السماوات والمحاضرات والمكاشفات والمشاهدات والفناءات والتحقق بالأسماء والصفات، ورؤية جبل قاف وكاف وعين وصاد، وغيرها، حيث يرى السالك منها ما يتناسب مع استعداداته الفكرية والإندورفينية.
ولهذا السبب كان الشيخ هو الأصل في طريقهم، ولهذا السبب قالوا: من لا شيخ له فشيخه الشيطان؛ لأن من لا شيخ له تكون رؤاه مثل رؤى حشاشي الحشيش والمورفين وزمرتهما، ولهذا السبب كان الخضوع الكامل للشيخ أساساً ليسهل انطباع توجيهاته وإيحاءاته في أعماق المريد.
مساكين! الحشاشون والمورفينيون! مساكين!
فلو كان لهم شيخ يوجههم، لذاقوا أيضاً الفناءات، وتحققوا بالأسماء والصفات، وتصرفوا بالكون، ولكان منهم الأبدال والأقطاب والأغواث.
أما قولهم بالتصرف في الكون، هذا الهذيان المضحك المبكي (وكلهم هذيانات مضحكة مبكية) فقد رأينا مثله عند حشاش عقار الهلوسة، الذي يكفي، في بعض الحالات، أن يتخيل شيئاً أو يتمنى رؤيته حتى يراه أمامه مجسماً.(2/161)
ومثل هذا يحصل لبعض الواصلين الذين صار خَلَل غددهم المفرزة للهرمونين مقاماً عالياً، فقد يمر بخاطره عرش الرحمن مثلاً، فيراه أمامه مجسماً كما يتصوره بوهم جذبته، لا كما هو على حقيقته التي لا يعلمها إلا الله.
وقد يخطر على بال جذبته أن ينقله من مكان إلى مكان، فيقول له: (انتقل) فيراه قد انتقل.. وهكذا. وهذا ما يسمونه (التصرف في عالم الملكوت).
وكذلك ما يحدث لبعضهم أحياناً من اضطراب في إحساسه بالزمن حيث يحس أنه قطع سنين طويلة في جذبة لم تدم سوى دقائق قليلة! مثل هذا ما رأيناه يحدث لمجذوب المهلسات...
والرجاء من القارئ أن يعود إلى مفعول المخدرات في أول هذا الفصل لتتوضح أمامه ما هي كشوفهم ومعارفهم وعلومهم اللدنية.
والآن، نستطيع أن ندرك بصورة أوضح وأدق، دور الرياضة الصوفية. فهي بعناصرها التي عرفناها والتي يُجْملها قولهم: (اخلع نعليك، الدنيا والآخرة)، تقلل الإحساسات الذاهبة إلى الدماغ تقليلاً كبيراً، وهذا يعني أن السيالات العصبية تقل كثيراً، وهذا يعني كذلك أن الآمينات الوسيطة يقل عملها كثيراً، ومع الزمن تصاب بالكسل، ومع تطاول الزمن بالمثابرة على الرياضة، ومع تكاثر الإندورفين والأنكيفالين بسبب الرياضة أيضاً، يغدو كسل الآمينات الوسيطة مقاماً عالياً، وتغدو مستعدة للشلل أو ما يشبهه بكمية من المخدر أقل من الذي تحتاجه في الحالة العادية، أي: تصل إلى مقام الاستخدار، والذكر الإرهاقي يقوم بنفس المفعول، وإذا ساعدته عناصر أخرى من الرياضة كان أسرع، ولعل التلاحمات العصبونية المحيطة بالدماغ هي محل العمليات المذكورة، وذلك لتكاثر الإندورفين في السائل الدماغي الشوكي أثناء الجذبة.
* فقرات معترضة:
* إكسير الولاية:-(2/162)
تسهيلاً على المريدين وتيسيراً لهم للوصول إلى الولاية والصديقية والغوثية والألوهية بيوم أو يومين، وبدون تعب ولا خلوة ولا جوع ولا سهر، نقترح على الشيوخ العارفين الكمل، ذوي المدد العظيم من الأموال التي تنهمر عليهم من المخدوعين والغافلين، أن يكلفوا واحداً أو أكثر من علماء الكيمياء الطبية، لتحضير نوعين من العقاقير:
أ- عقار يسبب هبوط فعالية الآمينات الوسيطة بشكل دائم (الاستخدار).
ب- عقار آخر يحدث خللاً يضخم الغدد الدماغية المفرزة للمخدرين ويزيد إفرازها زيادة كافية.
عندئذ تصبح الولاية والقطبية والألوهية في متناول الجميع! فكل من يريد التحقق بالأسماء والصفات والفناءات في الذات والتصرف في الكون، ما عليه إلا أن يذهب إلى صيدلية يشتري منها (إكسير الولاية) المكون من عقارين:
- العقار الأول: يأخذه في اليوم الأول، حيث يجتاز كل المقامات في ساعات، ويصل إلى مقام الاستخدار.
- العقار الثاني: يأخذه في اليوم الثاني، حيث تخرق له الحجب وتكشف الغيوب بعد ثوانٍ أو دقائق.
لكن الشيخ يبقى لازماً لا بد منه في جميع الحالات! إذ بدون إيحاءاته وتوجيهاته لن يستطيع المريد الوصول إلى الألوهية، لأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان، ومن لم يكن بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل فلا يمكن لإيحاءات الشيخ أن تنطبع في أعماقه لتصبح جزءاً هاماً من أمانيه وطموحاته.
وصحبة شيخ وهو أصل طريقهم ... ... فما نبتت أرض بغير فلاحة
ولهذا، فلن يكون إكسير الولاية خطراً على المدد الذي ينهمر على الشيوخ، بل بالعكس، سيزيد كثيراً عدد السالكين بسبب سهولة (الطريقة الإكسيرية)، وبذلك سيزداد كثيراً مدد الشيخ، كما سيحتاجون إلى عدد أكبر من الشيوخ الكمَّل.
* أحلام النوم:-
فيزيولوجية أحلام النوم تشبه فيزيولوجية أحلام الجذبة، مع فارق هو:(2/163)
في الجذبة: يبقى خدر الدماغ سطحياً وثابتاً في موضعه طيلة الجذبة، بينما تكون بقية أجزاء الدماغ متمتعة بنشاطها المعتاد إلا في حالة (الفناء عن الفناء) أو جمع الجمع.
وفي النوم: يبدأ النوم سطحياً (في القشرة الدماغية) حيث تحدث الأحلام، وتكون أجزاء الدماغ الأخرى في حالة هبوط تدريجي نحو النوم، فحالة الهبوط تجعل الحلم غامض الموضوع، والتدرج نحو النوم الكامل، أو بالعكس، يسبب القفزات في تسلسل حوادثه.
وعندما يصل النوم إلى مراكز التفسير الحسي تنقطع الأحلام.
* هل سيبصر الأعمى:-
لا أظنه بعيداً، ذلك اليوم الذي يذهب فيه الأعمى إلى الصيدلية ليشتري (جهاز إبصار) يضعه على رأسه، ترتبط به نظارات يضعها على عينيه، ثم يخرج وهو يرى الحياة كما يراها البصير العادي. وتحدث عملية الرؤية كالتالي:
تقع الأشعة المنعكسة عن الأشياء على نظارات الجهاز (مثل وقوعها على العين العادية) وترتسم صورها عليها.
تتحول هذه الصور إلى موجات كهرطيسية تسري عبر شريط ناقل إلى الجهاز الموضوع في مكان معين فوق الرأس.
يحول هذا الجهاز الموجات الكهرطيسية إلى موجات عصبية مناسبة تخترق الجمجمة والقشرة الدماغية حتى تصل إلى مركز التفسير البصري الذي يفسرها كما لو كانت آتية إليه عن طريق العين، إذ كل ما يريده مركز التفسير البصري هو أن تصله موجات عصبية مناسبة، ليفسرها ويحس بها ذلك الإحساس الذي يعرفه كل كائن حي بصير.
أما من أين أتت تلك الموجات؟ وكيف؟ وفي أي طريق؟ فهذا لا شأن له به.
وهكذا تحل مشكلة العميان حلاً جذرياً أو شبه جذري، كما يستطيع أي إنسان أن يستعمل هذا الجهاز للتسلية، أو لضرورة ما.
* جهاز فيديو يغني عن الشيخ والرياضة وعن إكسير الولاية:-
نفس جهاز الإبصار الذي يضعه الأعمى على رأسه، يرتبط به جهاز فيديو خاص (بدلاً من النظارات).
يستطيع صاحب الجهاز أن يقتني مجموعة كبيرة من أشرطة الفيديو التي سجلت عليها مناظر متنوعة الأشكال والمواضيع.(2/164)
فما على المرء إذا أراد أن يقوم بسياحة إلى إندونيسيا، مثلاً، إلا أن يضع الجهاز على رأسه، ويضع في الفيديو الشريط المناسب، ويحرك الزر المطلوب، ثم تبدأ الرحلة! فيرى نفسه ذاهباً إلى وكالة سفريات، حيث يشتري بطاقة طائرة، وفي اليوم التالي يستيقظ من النوم باكراً، ويذهب إلى المطار، ويختلط بالمسافرين، ويقف بدوره أمام رجل الأمن المكلف بمراقبة الأمتعة، وبعد أن ينتهي من كل المشاكل، يعبر إلى المدرج، ويصعد إلى الطائرة ليجلس على مقعد فوق مؤخرة جناح الطائرة الأيمن، ويجلس إلى جانبه شاب يمضغ لباناً في فمه مما يثير في نفسه الضيق والحنق معاً... وتتحرك الطائرة وتحلق في الجو، وينظر صاحبنا من النافذة ليمتع نظره بالأرض التي تطوى تحته ببطء لتظهر أرض غيرها...وهكذا حتى يصل إلى مطار لاهور...إلى آخر الرحلة وتفاصيلها... بينما هو في حقيقة الأمر قابع في غرفته لم يتحرك من مكانه!
وإن كان صاحبنا من المريدين الذين لا يريدون إلا وجهه (؟) فيضع في الفيديو شريط الولاية، وإن أراد الحسنى (؟) وضع شريط العروج إلى الله (جل الله وعلا علواً كبيراً)، فيرى الملائكة تتنزل عليه وتقول له: (لا تخف ولا تحزن)...ويرفعه أحدهم...حتى يعبر السماوات ويصل إلى العرش (في قصة طويلة ومناظر متنوعة مذهلة) وهناك تحدث له الفناءات والتحققات والتصرفات، ويذوق من معاني اسمه الصمد والرب والرحمن، حتى الاسم الأعظم.
وهكذا... إلى آخر المناظر المسجلة على الشريط، وعلى بقية الأشرطة.
الباب الثالث
مناقشة الحقيقة
الفصل الأول
مناقشة وحدة الوجود
1- يقول سبحانه: ((وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ)) [الزخرف:15].
الآية واضحة كل الوضوح، لا لبس فيها ولا غموض.
فوحدة الوجود تجعل من كل مخلوق جزءاً من الله جل وعلا.(2/165)
وتقرر الآية الكريمة الحكم على الذين يؤمنون بهذه العقيدة الذين يجعلون من عباد الله (سبحانه عما يصفون) جزءاً منه، تقرر الحكم عليهم بالعبارة: ((إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ)) [الزخرف:15]، التي نفهم منها ما يلي:
أ- قوله: ((إِنَّ الإِنسَانَ)) [الزخرف:15]، يدل على أن المؤمنين بوحدة الوجود هم من بني الإنسان فقط، فلا يوجد بين الجن مثلاً، بل الملائكة، من يؤمن بهذه العقيدة الكافرة.
ب- قوله: ((لَكَفُورٌ)) [الزخرف:15]، على وزن (فعول)، وهي صيغة تدل على المبالغة والاستمرار، تعني: إن المؤمن بوحدة الوجود هو شديد الكفر مستمر عليه، يمتنع رجوعه عنه أو يصعب.
وتعني: إن شدة الكفر واستمراريته الموجودة في نوع الإنسان تجعله يؤمن بمثل هذه العقيدة.
ج- قوله: ((مُبِينٌ)) [الزخرف:15]، أي: مظهر للكفر، مفصح عنه، موضح له، وهذا يعني أن الفكرة واضحة الكفر، والذي يؤمن بها مبين للكفر، الكفر ظاهر له وعليه؛ وذلك لأن الفطرة السليمة (وبعض غير السليمة)، تقشعر رعباً من سماع هذا التطاول على القدسية الإلهية، وترتجف هلعاً من هذا الغرور الغبي الجريء الظالم، لمجرد سماعها ذلك.
2- يقول سبحانه: ((وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)) [الصافات:159].
طبعاً، وحدة الوجود تجعل الجن جزءاً من الله تعالى، وليس بعد هذا النسب ما هو أقوى منه؛ لأنه نسب بعض الذات إلى الذات.
لكن الآية الكريمة تستهجن هذه الفكرة، نفياً لها ودحضاً، وتنزه الله سبحانه وتعالى عما يصفه هؤلاء الواصفون.
والعبارة: ((وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ)) [الصافات:158]، واضحة الدلالة على أن الجن- لو كانوا يتصلون بنسب إلى الله سبحانه- لما جعلهم من المحضرين. وعدم وجود النسب بينه سبحانه وبين الجنة ينفي وحدة الوجود نفياً كاملاً.(2/166)
3- يقول سبحانه: ((وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً)) [مريم:9]، ويقول: ((أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا)) [مريم:67].
الآيتان واضحتان كل الوضوح: إن الله سبحانه خلق الإنسان من لا شيء، من العدم، ولو كانت وحدة الوجود واقعة لكان الإنسان شيئاً قبل أن يوجد، كما هو الآن شيء بعد وجوده.
فكون الإنسان خلق من لا شيء، من العدم، ينفي وحدة الوجود جملةً وتفصيلاً، لأن الله تعالى ليس عدماً، إنه الحي القيوم الخالق البارئ المصور.
4- عشرات الآيات في الكتاب الحكيم تقرر أن المخلوق غير الخالق. منها: ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [النحل:73]، إذن فالأصنام والأوثان (وهي خلق) هي من دون الله تعالى، وليست جزءاً منه، ولا هي هو. ((وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)) [النحل:35].
((قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [غافر:66].
((إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [يونس:104].
((إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)) [الممتحنة:4].
ومنها: ((قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ)) [الزمر:64]، طبعاً، كانوا يأمرونه أن يعبد أصنامهم وأوثانهم. والآية الكريمة تقرر أنها غير الله، وبما أنها جزء من الخلق، إذن فالخلق غير الله، والمخلوق غير الخالق.(2/167)
((إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ)) [البقرة:173]، والذي أُهِلَّ به لغير الله إنما أُهِلَّ به للأوثان والأصنام ولمن يسمونهم (الأولياء)، وهؤلاء كلهم خلق، والآية الكريمة تقرر أنهم غير الله. ومن هذه الآيات: ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا)) [النساء:82].
((قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [الأنعام:14].
((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً)) [الأنعام:114]...
هذه الآيات هي بعض من آيات كثيرة غيرها تقرر أن المخلوق هو من دون الله، وغيره، وهي كافية للرد على كل جحود مؤمن بوحدة الوجود، ولو سماها وحدة الشهود.
5- لو كان الخلق هو الحق، كما يفترون، وكانت المخلوقات جزءاً من الله سبحانه تعينت بهذه الأشكال المختلفة، لما بقي أي معنى للأسماء الحسنى: (الخالق، البارئ، الفاطر، بديع السماوات والأرض)، التي تعني كلها (الإيجاد من العدم).
6- لو كانت وحدة الوجود صحيحة، لكان الإنسان جزءاً من الله، ولكانت الآية: ((إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)) [العصر:2] باطلة! ولكان الإنسان في ربح سواءً آمن أم لم يؤمن، وعمل صالحاً أم لم يعمل، وتواصى بالحق والصبر أم لم يتواصَ؟ لأنه جزء من الله.
وبما أن الآية الكريمة لا يمكن أن تكون باطلة، لأنها وحي من عند الله، إذن فعقيدة الصوفية هي الباطلة، إذ لو صحت عقيدتهم لأصبح معنى الآية: ((إن جزءاً من الله لفي خسر)) وهذا واضح البطلان.(2/168)
7- في القرآن الكريم آيات كثيرة تصبح شتماً لله (تعالى)، لو صحت عقيدة الصوفية بوحدة الوجود، مثل قوله سبحانه: ((وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ)) [هود:60]، لأن عاداً، حسب عقيدتهم الباطلة، هم جزء من الله سبحانه، حيث يصبح معنى الآية الكريمة: (إن جزءاً من الله (تعالى عما يصفون) أُتبع في هذه الدنيا؟؟ ويوم القيامة؟! (وناقل الكفر ليس بكافر).
ومثل هذه الآية كثير في الكتاب والسنة.
8- آيات كثيرة في كتاب الله تفهمنا أن العمل السيئ لا يرضي الله ولا يقود إلا إلى السوأى، وأن الحسنى لا يوصل إليها إلا بالعمل الصالح، من هذه الآيات: ((مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا)) [النساء:123].
((ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ)) [الروم:10].
((فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [القصص:84].
((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا)) [الجاثية:21].
((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌَ)) [يونس:26].
((لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)) [النجم:31]، وغيرها الكثير.
وطريق الصوفية تبدأ منذ الخطوة الأولى بالشرك الأعظم، فالمريد عندما يضع رجله في عتبة رحاب الشيخ مريداً له ولطريقه، فقد قبل عبادته وقبله رباً من دون الله، سواء عرف ذلك أم لم يعرف، ثم يسير المريد في الطريق الشركية مضيفاً إليها طقوساً ومجاهدات وثنية، حتى يصل إلى الجذبة التي تشرق عليه بوحدة الوجود.
إذن، فوحدة الوجود ضلال وباطل؛ لأن الطريق إليها ضلال وباطل.(2/169)
ثم إن الطريق الذي يتبعه المتصوفة للوصول إلى الجذبة هو طريق الشيطان، ((وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا)) [النساء:119]، ((وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا)) [النساء:38].
والشيطان لا يقودهم إلى الله كما يتوهمون، بل يضحك عليهم ويوهمهم ويستجرهم، ويعدهم، ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً.
9- يقولون في فريتهم هذه، بالقدرة والحكمة؟
فالقدرة: هي تعيينه سبحانه الخلق من ذاته، وهذا ما يسمونه الحقيقة.
والحكمة -عندهم-: هي ستره سبحانه (الحقيقة) عن خلقه. ويقولون: إن الله سبحانه أرسل الرسل بالشريعة من أجل هذا الستر.
- والجواب:
أ- مقولتهم في القدرة والحكمة هي، على كل حال، من الأمور الغيبية التي لا تُعرف إلا بنص من الوحي الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والنص لا وجود له، إذن فمقولتهم كاذبة، يكذبون بها على الله ورسوله، ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً)) [الأنعام:21].
ب- بما أن عقيدتهم في (القدرة والحكمة) وفي وحدة الوجود، لا يوجد أي دليل عليها في الكتاب والسنة إلا ما كان من تأويلاتهم الباطلة، لذلك لا يعدو الإيمان بها أن يكون واحداً مما يلي:
- إما اتهاماً لله (سبحانه وتعالى عما يصفون) بالخوف والكذب؟
- أو اتهاماً له (سبحانه وتعالى) بالجهل، وأنهم هم عرفوها (لأنهم عارفون)؟!
- أو اتهاماً للرسول صلى الله عليه وسلم بالخيانة والجبن؟
- أو اتهاماً للدين الإسلامي من أساسه بالبطلان؛ لأنه أُنزل ليحارب، فيما يحارب، هذه العقيدة التي هي أساس العقيدة الوثنية.
10- يفترون على الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه أمر مرة بإغلاق الباب، وسأل أصحابه إن كان فيهم غريب؟ فلما أجابوه بالنفي، بدأ معهم علوم الطريقة...ويقولون: إنه فعل هذا تعليماً لأصحابه على التستر على (حقيقتهم)، وهذا ما يسمونه (الحكمة).(2/170)
- الجواب على هذه الفرية المجردة من الإيمان ومن الإسلام ومن كل معاني الحياء: الهندوس والبوذيون والطاويون والمجوس (مع اختلاف في الشكل) كلهم يؤمنون بوحدة الوجود ديناً، يعلنونها ويبنون عليها كل فلسفاتهم في كل كتبهم، وهؤلاء كانوا وما زالوا يشكلون أكثر من نصف سكان الأرض.
والسؤال: ما هي هذه الحكمة (الخنفشارية) التي تسمح لأكثر من نصف سكان الأرض أن يعلنوا إيمانهم بوحدة الوجود ويبنوا عليها حياتهم وفلسفتهم ولا يكتموا منها شيئاً! ثم تمنع ذلك على المسلمين وعلى رسول الإسلام فقط؟! فأي حكمة هذه؟ إنها مهزلة وليست حكمة!
وإن من يعتقد صحة هذه الحكمة المفتراة، يحكم ضمناً أن الإسلام غير صحيح، وأن الديانات الوحدوية هي الديانات الصادقة! عرف ذلك أم لم يعرف؟ لأن الجهل أيضاً فنون.
11- ماذا كان يخشى محمد صلى الله عليه وسلم من إعلان وحدة الوجود، لو كان يؤمن بها؟ ولو أعلنها لاستجاب له الألوف الكثيرة في مدة قليلة؛ لأنها لن تكون غريبة على الأسماع، ولاستراح هو وأصحابه من كثير من الآلام التي عانوها.
12- الهندوس والبوذيون والطاويون والمجوس، كانوا وما زالوا يؤمنون بوحدة الوجود عقيدة وحيدة.
وأهل الكتاب كانوا وما زالوا يؤمنون بخالق في السماء، خلق الخلق من العدم مع شرك وتشبيه، وبعض رشفات من الوحدة (ما عدا متصوفيهم طبعاً). فجاء الإسلام ليعلن كفر أولئك المطلق، ويحرم على المسلمين ذبائحهم والزواج منهم...
بينما وقف من اليهودية والنصرانية موقفاً أخف بكثير، وسماهم (أهل الكتاب)، ووسع حدود التعامل معهم (وخاصة مع النصارى)، وأجاز ذبائحهم وطعامهم ومصاهرتهم...
فلو كان في دين الإسلام من وحدة الوجود ما يفتريه الصوفية، لانعكست الآية، ولصار النصارى هم الأبعدين، ولصار الهندوس والباقون هم الأقربين.(2/171)
13- عندما انتصر الفرس المجوس على الروم النصارى، كانت عواطف المسلمين مع النصارى، وحزنوا لهزيمتهم لأنهم أقرب إليهم من الآخرين ((غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ)) [الروم:2-4].
فلو كان الصحابة يعرفون أباطيل وحدة الوجود، أو يؤمنون بشيء منها، كما يفتري عليهم المتصوفة، لكانت عواطفهم مع الذين يشبهونهم في العقيدة، مع المجوس الذين يدينون بشكل من أشكال وحدة الوجود، لا مع النصارى الذين يؤمنون أن الله في السماء، وقد خلق الخلق من العدم، (مع شرك عظيم طبعاً).
14- كل الأحاديث التي يرويها المتصوفة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه في موضوع الوحدة هي:
- إما مكذوبة! وهم أنفسهم يعرفون أنها مكذوبة! ومع ذلك يوردونها دون خوف من الله، وكأنهم لم يسمعوا قول رسوله: {من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار}. وأسلوبهم أنهم يروونها، ثم يعلقون عليها بعبارة ما، مثل: (تكلموا فيه)، أو: (فيه نظر)، أو ما شابه ذلك، ثم يبنون عليها ما يشاءون من أحكام ظالمة! وكأنهم إذا قالوا عن الحديث المكذوب: (فيه نظر)، أصبح من الأحكام الشرعية، وأصبح العمل به شرعياً؟!
- وإما أن يكون حديثهم صحيحاً؛ لكنهم يلوون عنقه، فيؤولونه، ويعطونه معنى ما أنزل الله به من سلطان! وكذلك يفعلون مع الآيات القرآنية.(2/172)
وقد مرت في الفصول السابقة أمثلة كثيرة على ذلك، وهو نماذج لما شحنوا به كتبهم من هذه التحريفات، ومنها على سبيل المثال أيضاً: تفسيرهم لقوله سبحانه: ((الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)) [آل عمران:191]، بالحضرة الصوفية والرقص. وتفسيرهم لقوله سبحانه: ((فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ...)) [مريم:49] بالخلوة. وتفسيرهم لقوله سبحانه: ((وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)) [الأعلى:15]، بأن الذكر بالاسم المفرد (الله الله الله) هو صلاة. وتفسيرهم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: {من عادى لي ولياً آذنته بالحرب...}، أن الولي هو الصوفي. وقوله في بقية الحديث: {...فإذا أحببته كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها...} بأنه يعني وحدة الوجود.
وقد أشبع العلماء هذا الحديث بحثاً، ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن نص الحديث ينفي وحدة الوجود! إذ لو كانت وحدة الوجود موجودة، لكان اللهُ (سبحانه عما يصفون) سَمْعَ الإنسان، وبَصَرَه ويَدَه وكُلَّه! سواءً أحبه أم لم يحبه، وقبل أن يحبه وبعد أن يحبه، وفي جميع الأحوال، ولا تكون هناك حاجة لأداء الفروض والنوافل، ولا لأي شيء أبداً لتحقق ذلك.
وكون هذا الوصف: {كنت سمعَه...وبصرَه...} لا يتحقق إلا بعد أداء الفروض والتقرب بالنوافل...ثم بعد أن يحبه الله، يعني بكل وضوح أن هذا لم يكن قبل أن يحبه الله، أي: إن هذه المزية (كون الله تعالى سمع المرء...وبصره...) هي غير متحققة في الإنسان العادي، وبذلك تنتفي وحدة الوجود، وينتفي معها فهمهم الخاطئ.
ويكون معنى الحديث: إن الله سبحانه إذا أحب العبد أعانه إعانة تامة في كل شيء، ولا يكله إلى نفسه أبداً في أي شيء، وطبعاً تكون إعانة الله للعبد كما يريد الله سبحانه لا كما يريد العبد.(2/173)
15- الصوفية أنفسهم يعلمون علم اليقين أن وحدة الوجود هي كفر وزندقة بالنسبة للشريعة، ولذلك يُتاقون ويكتمونها عن غير أهلها ويتواصون بذلك.
* النتيجة:
وحدة الوجود كفر مبين، ومعتقدها كافر مبين، كافر حسب الشريعة، وكافر حسب الحقيقة الحقة التي هي الشريعة الإسلامية، له في الدنيا عقوبة المرتد عن الإسلام، وله في الآخرة عذاب أليم، إلا أن يتداركه الله سبحانه بلطفه وعفوه.
والصوفي الحق هو الذي يبطن وحدة الوجود، ويظهر التمسك بالشريعة، وهو منافق حقاً، بل هو شر أنواع المنافقين، وليكن مطمئناً (من مقام الطمأنينة) أن مقامه الحقيقي هو في الدرك الأسفل من النار إن لم يتداركه الله برحمته.
والعقيدة الإسلامية هي أن الله جل وعلا خلق الخلق من العدم، وقد مرت الآيات الدالة على ذلك، والمخلوقات هي من دون الله وغيرُه، أي أنها ليست تعينات من ذاته العلية، جل جلاله، وهو سبحانه فوق خلقه: ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ...)) [الأنعام:18]، ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5]، ((أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ)) [الملك:16] (والسماء هنا بمعنى: العلو).
وهو سبحانه فوق السماوات، بدليل قول رسوله صلى الله عليه وسلم معقباً على حكم سعد بن معاذ في بني قريظة: {لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أَرْقِعَة}، والأرقعة هي السماوات، واحدتها: رقيع.
وقول زينب رضي الله عنها تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم: [[زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات]] (رواه البخاري).
وغيرها وغيرها من الآيات والأحاديث.
الفصل الثاني
الباطنية
- عرفنا من الفصول السابقة أن الصوفية عقيدة باطنية، ولا باطنية في الإسلام.
يقول سبحانه: ((قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) [البقرة:118].(2/174)
((قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ)) [المائدة:19].
((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)) [إبراهيم:4].
((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ)) [البقرة:256].
((لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [النور:46].
((قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ)) [المائدة:15].
((قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ)) [الحج:49].
((قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا)) [النساء:174].
((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)) [النحل:89]...
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها}(1).
- من هذه النصوص الكثيرة، ومن عشرات غيرها، كلها واضحة جلية، نعرف أن ليس في الإسلام باطن وظاهر بالمعنى الصوفي.
ويكون الإيمان بأن في الإسلام ظاهراً وباطناً كفراً بآيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكذيباً لها.
- كما أن من الحقائق التاريخية، أنه لم يحدث قط وجود عقيدة باطنية في جماعة إلا إذا كانت هذه الجماعة تضمر الشر والكيد للمجتمع الذي تعيش فيه.
ولم تخرج الصوفية على هذه القاعدة، فقد رأيناها كيداً للإسلام ومكراً بالمسلمين.
__________
(1) سنن ابن ماجة، المقدمة، (حديث: 43).(2/175)
- ويقول أحد الباحثين: حيثما وجدت الباطنية ففكر باليهودية. وفي الواقع سنرى بعد قليل أن لليهودية دوراً في نشر الصوفية بين المسلمين، وعلى كل: (الحضرة) يمكن أن تكون أثراً من آثارها، ومثلها السماع، وتقديس القبور، وبناء القبب، واستعمال السبحة، والجهر بالذكر، وهز الجذع أثناءه إلى الأمام والوراء، أو إلى اليمين والشمال، كل هذه طقوس وممارسات موجودة في اليهودية كما هي موجودة في كل الوثنيات أيضاً! وهي موجودة في الصوفية! فما هي العلاقة؟؟ مع العلم أن كل هذء الأمور لا أساس لها في الإسلام ألبتة.
ولن نعدم مكابراً يقول: ليس في الصوفية باطنية، لن نعدمه رغم كل كتبهم ورغم كل أقوالهم، ورغم مئات الصفحات المدرجة في هذا الكتاب.
ولا جواب لنا على أمثال هؤلاء إلا أن نشكوهم إلى الله تعالى.
وللباطنية لغة اسمها (التقية)، يتعلمونها فيما بينهم، يخاطبون بها الناس، ويتسترون بها على ضلالاتهم، ويمكرون بها بالمسلمين، ويكيدون بها للإسلام، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فإلى مناقشة التقية.
ولنتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: {قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك} (إلا هالك).
الفصل الثالث
مناقشة التقية
من فعل: تاقى، يتاقي، متاقاة، وتقيَّة (بتشديد الياء)، ومُجرَّدُه هو فعل تَقَى يَتْقي تقيَّة، بمعنى اتقى.
التقية هي لغةُ الحركات الباطنية والمجال الذي تتفسح فيه ألسنتها، وفي مقدمتها الصوفية، وقد رأينا أنهم يجعلونها جزءاً من حقيقتهم، وقرأنا مثل قولهم: (التقية: حرم المؤمن)، و(إذا كان قد صح الخلاف، فواجب على كل ذي عقل لزوم التقية)، ومئات الأمثلة غيرها.
وهم يجعلون لها أصلاً قرآنياً في قوله سبحانه: ((...وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)) [آل عمران:28].(2/176)
لكن الفرق بين التقاة التي يسمح بها الإسلام، وبين تقيتهم هو نفس الفرق بين الإيمان والكفر.
فالتقاة الإسلامية تكون في حالة واحدة هي: ((مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)) [النحل:106]، إذ في حالة الإكراه هذه فقط يمكن للمسلم المؤمن أن يتظاهر بما يرضي القوة التي تكرهه ريثما يفلت منها، مع بقاء قلبه مطمئناً بالإيمان، أي: إنها حالة استثنائية وطارئة تضمر الإسلام وتظهر غيره.
بينما التقية الصوفية هي عكس ذلك، إذ هي أولاً: إبطان وحدة الوجود، أي: إبطان الكفر وإظهار الشريعة الإسلامية، وهذا هو النفاق عينه الذي هو شر أنواع الكفر، وأصحابه في الدرك الأسفل من النار.
وهي ثانياً: قاعدة مستمرة عندهم، وليست استثناء ولا هي حالة طارئة.
إذن فهي مناقضة للإسلام تناقضاً كاملاً واضحاً لا نقص فيه ولا لبس ولا غموض. وأسلوب التقية في الصوفية يتركب من:
الكذب، والتأويل، والمغالطة، والمراوغة، والمخادعة.
* الكذب:-
مر معنا في الفصول السابقة عشرات النماذج من كذبهم، وهي جرع من بحر، وبتأمل هذه النماذج، وغيرها مما في كتبهم، نرى أنها:
كذب على الله سبحانه، وكذب على ملائكته، وكذب على كتبه، وكذب على رسله، وكذب على اليوم الآخر، وكذب على القضاء والقدر (خيره وشره)، وكذب على الصحابة، وكذب على أهل الكتاب، وكذب على التاريخ...
أما الكذب على الجغرافية والفلك والجيولوجيا والفيزياء والكيمياء فهو من علومهم اللدنية التي عرفوها بالكشف الذي هو حق اليقين ونور اليقين وعين اليقين؟!
ويكفي القارئ -إذا لم يرد ترويح النفس بقراءة النصوص الكثيرة- أن يقرأ مثلاً (في فصل: نماذج من حكايات الصوفية...) النص الذي عنوانه: وجعلوا الملائكة معاتيه ومخابيل.
* التأويل:-
للتأويل معنيان:(2/177)