القائد إلى العقائد
و هو القسم الرابع من كتاب
(( التنكيل بما تأنيب الكوثري من الأباطيل ))
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لا أعلم به من نفسه ، و لا أصدق نبأ عنه من وحيه ، و لا آمن على دينه من رسله ، و لا أولى بالحق ممن أعتصم بشريعته و رضي بحكمه ، و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله ، اللهم صل على محمد ، و على آل محمد ،،كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد ، و على آل محمد ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، و رضي الله عنهم اختارهم لصحبة رسوله ، و حفظ شريعته ، و عن أتباعهم المقتدين بأنوارهم ، المقتفين لآثارهم ، الى يوم الدين .
أما بعد فإن صاحب كتاب(( تأنيب الخطيب )) تعرض في كتابه للطعن في عقيدة أهل الحديث و نبزهم بالمجسمة ، و المشبه ، و الحشوية ، و رماهم بالجهل و البدعة ، و الزيغ و الضلالة ، و خاض في بعض المسائل الاعتقادية ،كمسألة الكلام و الإرجاء ، فتجشمت أن أتعقبه في هذا كما تعقبه في غيره ، راجياً من الله تبارك و تعالى أن يثبت قلبي على دينه، و يهديني لما اختلف فيه الحق بإذنه ، و يتغمدني بعفوه و رحمته ، إنه لا حول و لا قوة إلا بالله .(1/1)
مقدمة
قال الله تبارك و تعالى : [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ] .فاطر : آية : 15 .
تضافر العقل و الشرع على إثبات أن الله تبارك وتعالى غني عن العالمين ، و أنه سبحانه الحكيم ، فخلق الله تعالى الخلق و تكليفه لهم لا يكون إلا موافقاً لما ثبت من غناه سبحانه و حمده و حكمته .
و قال تعالى : [ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ] . الذريات:56و عبادته سبحانه هي طاعته بامتثال ما أمر به و رضيه ، و اجتناب ما نهى عنه و كرهه، و لم يكن الغني الحميد ، الحكيم العليم ، ليأمر عباده إلا بما هو خير لهم ، و لا لينهاهم إلا عما هو شر لهم ، فإن أمرهم أو نهاهم للابتلاء فقط فطاعته نفسها خير لهم ، و عصيانه شر لهم ، و قد قال تعلاى : [ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ]الزمر: الآية 7 تقول العرب : لا أرضى منك بكذا ، و أرضى منك بكذا . إذا كانت الفائدة للمتكلم . فإذا كانت هي للمخاطب و لكن المتكلم بكرمه و رحمته يحب الخير و يكره الشر قالوا : لا أرضى لك كذا ، و أرضى لك كذا ، و قال تعالى فيما قصه عن لقمان : [ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ]: لقمان الآية 12
وفيما يخص قصة سليمان [ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ] النمل: الآية 40
وقال تعالى : [ وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ] إبراهيم: 8 .
وقال عز وجل : [ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ]العنكبوت: 6(1/2)
و في ( صحيح مسلم ) و غيره(( عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم فيما روى عن الله تبارك و تعالى أنه قال :(( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ، يا عبادي كلكم ضالٌ إلا من هديته ، فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ، فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسُكُم ، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل و النهار ، و أنا أغفر الذنوب جميعاً ، فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، و لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أن أولكم و آخركم ، و إنسكم و جنكم ،كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً ، لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني ، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، و من وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )) .(1/3)
فنستطيع أن نفهم من هذا كله أن الله تبارك و تعالى اقتضى كمال جوده أن يجود بالكمال إلى الحد الممكن ، و لا يفي بهذا أن يخلق خلقاً كاملين ، فإنما ذلك بمنزلة خلقهم حسان الصور ، و ذاك كمال يتمحض فيه الحمد للخالق من كل وجه ، و لا يحمد عليه المخلوق البتة ، فلا يعتد به كمالاً ، و كذلك أن يخلقهم غير كاملين و يجبرهم على الكمال ، فإنما الحمد منوط بالإختيار . و قريب من هذا أن يخلقهم غير كاملين و لا مجبورين و ييسر لهم اختيار الكمال بحيث لا يكون فيه مشقة عليهم ، فإن المخلوق إنما يحمد على اختيار الكمال حيث يكون عليه فيه مشقة ، و كلما كانت المشقة أشد ، كان الحمد أحق و الكمال أعظم (1) .
فصل
لنا أن نقول : أن مدار كمال المخلوق على حب الحق و كراهية الباطل ، فخلق الله تعالى الناس مفطورين على ذلك ، و قدر لهم ما يؤكد تلك الفطرة ، و ما يدعوهم إلى خلافها، ليكون عليهم في اختيار و هو مقتضى الفطرة و مشقة و تعب و عناء ، و لهم في خلاف ذلك شهوة و هوى ، فمن اختار منهم مقتضى الفطرة و صبر على ما فيه من المشقة و العناء ، و عما في خلافه من الراحة العاجلة و اللذة استحق أن يحمد ، فاستحق الكمال فناله ، و من آثر الشهوة و اتبع الهوى استحق الذم فسقط .
__________
(1) يريد أن الحكمة الإلهية التي يحمد الله عليها أن يخلق عباده من الأنس في حالة نقص و يتدرج بهم إلى الكمال باختيارهم فيما كلفهم به مما يتدرج بهم إلى الكمال بأعمالهم الاختيارية ، و لو خلقهم كاملين لما عاد عليهم حمد و ثناء لهذا الكمال ، و لو أجبرهم على الكمال لما حمدوا أيضاً على ما أجبروا عليه ، فكان الحمد و الثناء عليهم أن يسر لهم طريق الكمال التدريجي باختيارهم مع شئ من المشقة . محمد عبد الرزاق .(1/4)
وفي ( صحيح مسلم ) من حديث أبي هريرة و أنس عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال(( حفت الجنة بالمكاره ، و حفت النار بالشهوات )) . و هو في ( صحيح البخاري ) من حديث أبي هريرة بنحوه .
وأخرج أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن حبان و الحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال :(( لما خلق الله الجنة و النار أرسل جبريل إلى الجنة فقال : أنظر إليها ، قال : فرجع إليه فقال . و عزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها ، فأمر بها فحفت بالمكاره فقل : ارجع إليها ، فرجع ، فقال : و عزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد ، قال : اذهب إلى النار فانظر إليها ، فرجع فقال : و عزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها ، فأمر بها فحفت بالشهوات ، فقال : و عزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد )) (1) ) راجع ( فتح الباري )(( كتاب الرقاق )) . و قال الله عز و جل [ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ] البقرة: 216 .
وقال قبل ذلك : [ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ] البقرة:214
__________
(1) و قال الترمذي : (( حديث حسن صحيح )) . قلت : و إسناده جيد . ن(1/5)
وقال سبحانه : [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ . وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ] البقرة: 153 – 157
والمقصود بالابتلاء هو أن يتبين حال الإنسان ، فيفوز من صبر على تحمل المشاق ، ثابتاً على الحق معرضاً عما يراه في الباطل من المخارج التي تخلص من تلك المشاق أو تخففها ، علماً أن الدنيا زائلة ، و أن الذي يستحق العناية هو أمر الآخرة ، و يخسر من يلجأ إلى الباطل فراراً من تلك المشاق أو من شدتها .
ولا يقتصر الابتلاء على الشدائد ، بال قال الله عز و جل : [ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ] (الانبياء: من الآية35 ] و ذلك من وجهين :
الأول : أن الإنسان كما يشق عليه الثبات على الحق عند الشدائد ، فكذلكعند النعيم و الرخاء ، لأن النعيم يدعوا إلى التوسع في اللذات و الإستكثارمن الشهوات ، و التكاسل عن الطاعات ، و التكبر على الناس ، و غير ذلك . وفي الصبر عن ذلك ما فيه من المشقة.(1/6)
الوجه الثاني : أن من أستحوذ عليه إثار الباطل تكون الدنيا أعظم همة ، فهو من جهة إذا توفرت له نعم الدنيا و لم تنله مصائبها رضي عن ربه و دينه ، و إذا أصابته المصائب سخط ، و من جهة أخرى يعد نعم الدنيا و مصائبها أعظم دليل على رضا الله عز و جل و سخطه ، فإذا يسرت له نعم الديا و لم تنله مصائبها زعم أن الله عز و جل راضٍ عنه و عن دينه و عن عمله ، و إلا زعن أن الله عز و جل ساخط عليه و على دينه و على عمله! و هذه كانت شبهو فرعون كما بينته في ( كتاب العبادة ) و قال الله تبارك و تعالى : [ فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ : رَبِّي أَكْرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ] ( سورة الفجر ) .
وقال تعالى : [ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌوَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] (هود : 8 – 11 ) .
وقال تعلى : [ لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ]
( فصلت : 49 – 51 ) .(1/7)
وقال سبحانه : [ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ]
( الحج : 11 )
وأقرأ من سورة ( الفرقان ) - 7 - 11 و من سورة ( الزخرف ) – 31 – 35
والإنسان لا يكره الحق من حيث هو باطل ، و لكنه هو يحب الحق بفطرته ، و يحب الباطل لهواه و شهوته ، و مدار الفوز أو الخسران على الإيثار ، قال الله تبارك و تعالى : [فَأَمَّا مَنْ طَغَى . وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى . وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ] ( النازعات – 37 – 41 ) ولك أن تقول : أن الله تبارك و تعالى في جانب ، و الهوى في جانب ، و قد قال تعالى : [ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً . أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ] ( الفرقان : 43 – 44 ) و قال تعالى : [ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ] (الجاثية: 23 ) .
... و في الحديث :(( حبك الشيء يعمي و يصم )) . (1) و قال البريق الهذلي :
عزيمته و يغلبه هواه
و يحسب ما يراه لا يراه
أين لي ما ترى و المرء تأبى
فيعمي ما يرى فيه عليه
2 – فصل
__________
(1) أخرجه أبو داود و غيره عن أبي الدرداء مرفوعاً . و في سنده أبو بكر بن أبي مريم و هو ضعيف . ن(1/8)
الدين على درجات : كف عما نهي عنه ، و عمل ما أمر به ، و اعتراف بالحق ، و اعتقاد له و علم به . و مخالفة الهوى للحق في الكف واضحة ، فان عامة ما نهي عنه شهوات و مستلذات ، و قد لا يشتهي الإنسان الشيء من ذلك لذاته ، و لكنه يشتهيه لعارض . و مخالفة الهوى للحق في الاعتراف بالحق من وجوه :
الأول : أن يرى الإنسان أن اعترافه بالحق يستلزم اعترافه بأنه كان على باطل ، فالإنسان ينشأ على دين أو اعتقاد أو مذهب أو رأي يتلقاه من مربيه و معلمه على أنه حق فيكون عليه مدة ، ثم إذا تبين له أنه باطل شق عليه أن يعترف بذلك ، و هكذا إذا كان آباؤه أو أجاده أو متبعوه على شيء ، ثم تبين له بطلانه ، و ذلك أنه يرى أن نقصهم مستلزم لنقصه ، فاعترافه بضلالهم أو خطئهم اعتراف بنقصه ، حتى أنك لترى المرأة في زماننا هذا إذا وقفت على بعض المسائل التي كان فيها خلاف على أم المؤمنين عائشة و غيرها من الصحابة أخذت تحامي عن قول عائشة ، لا لشيء إلا لأن عائشة امرأة مثلها ، فتتوهم أنها إذا زعمت أن عائشة أصابت و أن من خالفها من الرجال أخطأوا ، كان في ذلك إثبات فضيلة لعائشة على أولئك الرجال ، فتكون تلك فضيلة للنساء على الرجال مطلقاً ، فينا لها حظ من ذلك ، و بهذا يلوح لك سر تعصب العربي للعربي ، و الفارسي للفارسي ، و التركي للتركي ، و غير ذلك . حتى لقد يتعصب الأعمى في عصرنا هذا للمعري ! .
الوجه الثاني : أن يكون قد صار في الباطل جاه و شهرة و معيشة ، فيشق عليه أن يعترف بأنه باطل فتذهب تلك الفوائد .
الوجه الثالث : الكبر ، يكون الإنسان على جهالة أو باطل ، فيجيء آخر فيبين له الحجة ، فيرى أنه إن اعترف كان معنى ذلك اعترافه بأنه ناقص ، و أن ذلك الرجل هو الذي هداه ، و لهذا ترى من المنتسبين إلى العلم من لا يشق عليه الإعتراف بالخطأ إذا كان الحق تبين له ببحثه و نظره ، و يشق عليه ذلك إذا كان غيره هو الذي بين له .(1/9)
الوجه الرابع : الحسد و ذلك إذا كان غيره هو الذي بين الحق فيرى أن اعترافه بذلك الحق يكون اعترافاً لذلك المبين بالفضل و العلم و الإصابة ، فيعظم ذلك في عيون الناس ، و لعله يتبعه كثير منهم ، و إنك لتجد من المنتسبين إلى العلم من يحرص على تخطئه غيره من العلماء و لو بالباطل ، حسداً منه لهم ، و محاولة لحط منزلتهم عند الناس .
ومخالفة الهوى للحق في العلم و الإعتقاد قد تكون لمشقة تحصيلية ، فإنه يحتاج إلى البحث و النظر ، و في ذلك مشقة و يحتاج إلى سؤال العلماء و الإستفادة منهم و في ذلك ما مر في الاعتراف و يحتاج إلى لزوم التقوى طلباً للتوفيق و الهدى و في ذلك ما فيه من المشقة . و قد تكون لكراهية العلم و الإعتقاد نفسه و ذلك من جهات ، الأول ما تقدم في الاعتراف فأنه كما يشق على الإنسان أن يعترف ببعض ما قد تبين له ، فكذلك يشق عليه أن يتبين بطلان دينه ، أو اعتقاده ، أو مذهبه ، أو رأيه الذي نشأ عليه ، و اعتر به ، و دعا إليه ، و ذهب عنه ، أو بطلان ما كان عليه آباؤه و أجداده و أشياخه ، و لا سيما عندما يلاحظ أنه أن تبين له ذلك تبين أن الذين يطريهم و يعظمهم ، و يثنى عليهم بأنهم أهل الحق و الإيمان و الهدى و العلم و التحقيق ، هم على خلاف ذلك ، و إن الذين يحقرهم و يذمهم و يسخر منهم و ينسبهم إلى الجهل و الضلال و الكفر هم المحقون ، و حسبك ما قصه الله عز و جل من قول المشركين ، قال تعالى : [ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ]
( الأنفال : 32 ) فتجد ذا الهوى كلما عرض عليه دليل لمخالفيه أو ما يوهن دليلاً لأصحابه شق عليه ذلك و أضطرب و أغتاظ و سارع إلى الشغب ، فيقول في دليل مخالفيه : هذه شبهة باطلة مخالفة للقطعيات ، و هذا المذهب مذهب باطل لم يذهب إليه إلا أهل الزيغ و الضلال…. ، و يؤكد ذلك(1/10)
بالثناء على مذهبه و أشياخه و يعدد المشاهير منهم و يطريهم بالألفاظ الفخمة ، و الألفاظ الضخمة ، و يذكر ما قيل في مناقبهم و مثالب مخالفيهم ، و إن كان يعلم أنه لا يصح ، أو أنه باطل !
ومن أوضح الأدلة على غلبة الهوى على الناس أنهم – كما تراهم – على أديان مختلفة، و مقالات متباينة ، و مذاهب متفرقة ، و آراء متدافعة ثم تراهم كما قال الله تبارك و تعالى :[ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ] .
فلا تجد من ينشأ على شيء من ذلك و يثبت عليه يرجع عنه إلا القليل ، و هؤلاء القليل يكثر أن يكون أول ما بعثهم على الخروج عما كانوا عليه أغراض دنيوية .
ومن جهات الهوى أن يتعلق الاعتقاد بعذاب الآخرة فتجد الإنسان يهوى أن لا يكون بعث لئلا يؤخذ بذنوبه ، فإن علم أنه لا بد من البعث هوي أن لا يكون هناك عذاب ، فإن علم أنه لا بد من العذاب هوي أن لا يكون على مثله عذاب كما هو قول المرجئة ، فإن علم أن العصاة معذبون هوي التوسع في الشفاعة – و هكذا .
ومن الجهات أنه لا شق عليه عمل كالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هوي عدم وجوبه ، و إذا ابتلي بشيء يشق عليه أن يتركه كشرب المسكر هوي عدم حرمته . وكما يهوى ما يخفف عليه فكذلك يهوى ما يخفف على من يميل إليه ، و ما يشتد على من يكرهه ، فتجد القاضي و المفتي هذه حالهما . و من المنتسبين إلى العلم من يهوى ما يعجب الأغنياء و أهل الدنيا ، أو ما يعجبه العامة ليكون له جاه عندهم و تقبل عليه الدنيا، فما ظهرت بدعة ، و هويها الرؤساء و الأغنياء و أتباعهم إلا هويها و إنتصر لها جمع من المنتسبين إلى العلم ، و لعل كثيراً ممن يخالفها إنما الباعث لهم عن مخالفتها هوى آخر وافق الحق ، فأما من لا يكون له هوى إلا إتباع الحق فقليل ، و لا سيما في الأزمنة المتأخرة ، و هؤلاء القليل يقتصرون على أضعف الإيمان ، و هو الإنكار بقلوبهم و المسارة به فيما بينهم ، إلا من شاء الله .(1/11)
فإن قيل : فلماذا لم يجعل الله عز و جل جميع حجج الحق مكشوفة قاهرة لا تشتبه على أحد ، فلا يبقى إلا مطيع يعلم هو و غيره أنه مطيع ، و إلا عاص يعلم هو و غيره أنه عاص ، و لا يتأتى له إنكار و لا اعتذار ؟ (1) .
__________
(1) علق الأخ العلامة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة على هذا الموضع ما لفظه ((يريد الشيخ بالسؤال و الجواب أن يبين حكمة الله تعالى في إبتلاء الناس بالهوى و الشبهات و الشهوات ليحصل الجهاد و الإبتلاء و يحمد المجاهد و يؤجر ، و إلا فوضوح الحق و الباطل أمر لإخفاء به ، ليهلك من هلك من بينه ، و يحيى من حي عن بينه )) .
وعلق على ما يأتي أو الفصل الثالث ما لفظه (( أن حجج الله تعالى التي سماها بينات هي مكشوفة واضحة لا خفاء بها و إنما تخفى على من في قلبه كن و في أذنيه وقر و على بصره غشاوة من هواه و أخلاقه و ما اعتاد )) .
... قال المؤلف : لا أراه يخفى أن مرادي بالقضية المكشوفة القاهرة هو أن تكون بحيث لا تخفى هي و لا إفادتها اليقين على عاقل حتى لو زعم زاعم أنه يجهلها ، أو أنه يعتقد عدم دلالتها أو يرتاب فيها لقطع العقلاء بأنه إما مجنون الجنون المنافي للتكليف أو كاذب . و لا يخفى أنه ليس جميع حجج الحق هكذا ، و لكنها بينات البيان الذي تحصل به الهداية و تقوم به الحجة ، ثم هي على ضربين ، الضرب الأول الحجج التي توصل الإنسان إلى أن يتبين له أنه يجب عليه أن يكون مسلماُ ، الثاني ما بعد ذلك ، فالأول حجج واضحة لكن من أتبع هوى قد بان أنه يصد عن الحق ، أو قصر في القيام بما قد بان أن عليه أن يقوم به فقد يرتاب أو يجهل ، و الضرب الثاني على درجات ، منه ما هو في معنى الأول فيكفر المخطئ فيه ، و منه ما لا يكفر و لكن يؤاخذ ، و منه ما يعذر ، و منه ما يؤجر أيضاً على إجتهاده . المؤلف(1/12)
قلت : لو كان كذلك لكان الناس مجبورين على إعتقاد الحق فلا يستحقون عليه حمداً و لا كمالاً و لا ثواباً ، و لكانوا مكرهين على الاعتراف كمن كان في مكان مظلم فزعم أن ذاك الوقت ليل وراهن على ذلك ففتحت الأبواب فإذا الشمس في كبد السماء ، و لكانوا قريباً من المكرهين على الطاعة من عمل و كف ، لفوات كثير من الشبهات التي يتعلل بها من يضعف حبه للحق فيغالط بها الناس و نفسه أيضاً .
فإن قيل : فإن المؤمن إذا كان موقناً كانت الحجة في معنى المكشوفة عنده أفلا يمون مثاباً على إيمانه و اعترافه و طاعته ؟
قلت : ليس هذا من ذاك في شيء ، أما الاعتقاد فمن وجهين :
الأول : أن الحجة لم تكن كلها مكشوفة للمؤمن من أول الأمر ، و إنما بلغ تلك الدرجة بنظره و تدبره و رغبته في الحق و مخالفته الهوى ، و بهذا ثبت صدق حبه للحق و ايثاره على الهوى فيستمر له حكم ذلك بعد انكشاف الحجة ، و هو بمنزلة الظمآن الذي يطلب الماء حتى ظفر به ، فأراد أن يشرب فقال له مصلط : أن لم تشرب ضربتك أو سجنتك . فمثل هذا لا يقال إذا شرب إنه إنما شرب مكرهاً .
الوجه الثاني : أن وضوح الحجة للمؤمن لا يستمر بدون جهاد ، لأن الشبهات لا تزال تحوم حول المؤمن لتحجب عنه الحجة و تشككه فيها ، و الشهوات تساعدها فثباته على الإيمان برهان على دوام صدق محبته للحق ، و ايثاره على الهوى .
وأما الاعتراف فالأمر فبه واضح ، فإن وضوح الحجة عند المؤمن لا يكون مكشوفاً لغيره ، فليس في معنى المكره على الاعتراف ، بل أنه إذا ذكرنا أن الحجة واضحة عنده وجد كثيراً من الناس يكذبونه أو يرتابون في دعواه .(1/13)
وهكذا حاله في الطاعة من عمل و كف ، فأن انكشاف الحجة في الإيمان الاعتقادي لا يستلزم إنكشاف الحجج الأخرى التي تترتب عليها الطاعات ، وهب أن هذه انكشفت له أيضاً ، فقد بقيت شبهات أخرى ، لولا صدق حبه للحق و إيثاره على الهوى لأمكنه التشبث بها ، كأن يقول : ينبغي أروح عن نفسي فإن لي حسنات كثيرة لعلها تغمر هذا التقصير ، أرى لعلها تنالني من شفاعة الشافعين ، أو لعل الله يغفر لي ، أو أتمتع الآن ثم أتوب . و قال الله تبارك و تعالى : [ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً ] الأنعام : 158 و في ( الصحيحين ) و غيرهما من حديث أبي هريرة قال :(( قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم : لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت و رآها الناس آمنوا أجمعون ، و ذلك حين [ ينفع نفساً أيمانها ] ثم قرأ الآية )) . و نحوه من حديث أبو ذر و ابن مسعود و أبي سعيد الخدري و صفوان بن عسال و عبد الرحمن بن عوف و عبد الله ابن عباس و عبد الله بن عمرو بن العاص و غيرهم .(1/14)
والأخبار بأن الشمس سوف تطلع من مغربها متواترة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم ، و معنى ذلك أن ما يشاهد الآن من سيرها ينعكس ، فسكان هذا الوجه الذي كان فيه النبي صلى الله عليه و آله و سلم يرونها تغرب في مغربها على العادة ثم يرونها في اليوم الثاني طالعة من مغربها ، و أما سكان الوجه الأخر فإنها تطلع عليهم من مشرقهم على عادتها ، ثم يرونها تسير إلى مغربها ما شاء الله ثم ترجع القهقري حتى تغرب فلي مشرقهم . و على زعم (1) أن الأرض هي التي تدور ، فإن دورة الأرض تنعكس ما ذكر .
فأما إيمان الناس جميعاً فوجهه و الله أعلم أن النفوس مفطورة على اعتقاد وجود الله عز و جل و ربوبيته ، و من شأن ذلك أن يسوق إلى بقية فروع الإيمان ، وآيات الآفاق و الأنفس تؤكد ذلك ، و لكن الشبهات و الأهواء تغلب على أكثر الناس حتى يرتابوا فيتبعوا اهوائهم ، فإذا طلعت الشمس من مغربها لحقهم من الذعر و الرعب لشدة الهول ما يمحق أثر الشبهات و الأهواء و تفزع النفوس إلى مقتضى فطرتها ، قال الله تعالى في ركاب البحر : [ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ] لقمان: 32 .
فتلك الآية في حق من يكون قد بلغه أن محمداً صلى الله عليه و آله و سلم أخبر بها حجة مكشوفة قاهرة ، و كذلك هي في حق من لم يبلغه لكن بمعونة الرعب و الفزع و شدة الهول .
__________
(1) كذا قول المصنف رحمه الله ، و لعله من باب التقية ، و إلا فكون الأرض تدور في الفضاء أصبحت من الحقائق العلمية التي لا تقبل الجدل ، و ليس في الكتاب و لا في السنة نص ينافي ذلك ، خلافاً لبعضهم . ن(1/15)
وقد دلت الآية على أن من لم يكن آمن قبل تلك الآية لا ينفعه إيمانه عندها ، و من لم يكن من المؤمنين قبل يكسب الخير لا ينفعه كسب الخير عندها و فهم من ذلك أن من كان مؤمنا قبلها ينفعه الإيمان عندها ، و من كان من المؤمنين يكسب الخير قبلها ينفعه كسب الخير عندها ، و النظر يقتضي أنه إنما ينفعه من كسب الخير عندها ما كان عادة له، و في ( صحيح البخاري ) و غيره من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال :(( إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً )) . و جاء نحوه من حديث عبد الله ابن عمرو بن العاص و أنس و عائشة و أبي هريرة ، و أشار إليها ابن حجر في ( الفتح ) .
فمن كان معتاداً للعمل من أعمال الخير مواظباً عليه ثم طرأ عليه بغير إختياره أو باختياره مأذوناً له عارض يعجز معه عن ذاك العمل ، أو يشرع له تركه أو يدعه و هو نفل لإشتغاله عنه أو لزيادة المشقة فيه فقد ثبت باعتياده أنه لولا ذاك العارض – و هو غير مقصر فيه – لأستمر على عادته فلذلك يكتب له ثواب ذاك العمل ، فأولا من هذا من كان معتاداً لعمل في عرض باعث آخر على ذاك العمل و استمر العامل على عادته .(1/16)
وقال الله عز و جل في قصة نوح [ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ] . هود: 27 - 28 يريد و الله أعلم أن كراهيتكم للحق و هواكم أن لا يكون ما أدعوكم إليه حقاً يحول بينكم و بين أن يحصل لكم العلم و اليقيين بصحته ، و في ( تفسير ابن جرير ) 12 / 17 عن قتادة قال :(( أما و الله لو استطاع نبي الله صلى الله عليه و سلم لألزمها قومه و لكن لم يملك ذلك ، و لم يملكه )) . و الرسول لا يحرص على ظان يكره قومه إكراهاً عادياً على إظهار قبول الدين، فإنه يعلم أن هذا لا ينفعهم بل لعله أن يكون أضر عليهم ، و إنما يحرص على أن يقبلوه مختارين ، و لذلك يحرص هو و أصحابه على أن يظهر الله تعالى الآيات على يده أملاً أن يحصل للكفار العلم إذا رأوها فيقبلوا الدين مختارين ، و يزداد الحرص على هذا عندما يطالب الكفار بالآيات ، و هذه كانت حال محمد صلى الله عليه و آله و سلم و أصحابه، فبين الله تعالى لهم في عدة آيات أنه ليس على الرسول إلا البلاغ ، و أن الهداية بيد الله ، و أن ما أوتيه من الآيات كاف لأن يؤمن من في قلبه خير ، و أن الله لو شاء لهدى الناس جميعاً ، لكن حكمته إنما إقتضت أن يهدي من أناب بأن كان يحب الهدى ، و يؤثره على الهوى .(1/17)
فأما من كره الحق و استسلم للهوى ، فإنما يستحق أن يزيد الله تعالى ضلالاً ، قال الله عز و جل [ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ] إلى أن قال : [ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ] الرعد – 31 . (1) و قال تعالى : [ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ] . الأنعام : 109 - 110 و قال تعالى : [ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ] الشورى – 13 .
وقال سبحانه : [ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ] المؤمن : 13 .
__________
(1) الأصل ( 27 – 31 ) . وإنما هي آية واحدة . ن(1/18)
وقال تعالى : [ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرائيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً . (1) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً ](2) الاسراء : 101 – 102 .
وقال تعالى : [ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ . فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ . وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً]. النمل:12 – 14.
فلما تبين لموسى و هارون أن فرعون و قومه قد استحكم كفرهم انتهى مقتضى الحرص على أن يهتدوا ، و اقتضى حبهما للحق أن يحبا أن لا يهديهما الله ، قال الله تعالى: [ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ . قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ] يونس: 88 - 89 .
__________
(1) مسحوراً . أي : ساحراً كقوله في الآية الأخرى ( و قالوا يا أيه الساحر أدعو لنا ربك ) الخ و الآية : ( قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ) و غيرهما . م ع
(2) و المثبور الهالك كقوله : ( إذا رأتهم من كان بعيد سمعوا لها تغيضاً و زفيراً و إذا القوا فيها مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً . لا تدعوا اليو ثبوراً و ادعوا ثبوراً كثيراً ) .
محمد عبد الرزاق(1/19)
وفي القرآن آيات كثيرة في أن الله تعالى لا يهدي الكافرين ، و المراد بهم من استحكم كفرهم و ليس كل كافر كذلك ، فقد روى هدى الله تعالى و يهدي من لا يحصى من الكفار ، و إنما الحق أن لا يهدي الله تعالى من استكم كفره .
3 – فصل
وكما اقتضت أن الحكمة أن لا تكون حجج الحق مكشوفة (1) قاهرة فكذلك اقتضت أن لا تكون الشبهات غالبة ، قال الله عز و جل : [ وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ . وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ . وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ] الزخرف:33 – 35 .
وذلك انه لو كان كل من كفر بالله تعالى بذلك النعيم دون المؤمنين ، لكانت تلك شبهة غالبة توقع الناس كلهم في الكفر .
فتخلص أن حكمة الحق في الخلق اقتضت أن تكون هناك بينات و شبهات ، و أن لا تكون البينات قاهرة و لا الشبهات غالبة ، فمن جرى مع فطرته من حب الحق و رباها و نماها و آثر مقتضاها ، و تفقد مسالك الهوى إلى نفسه فاحترس منها ، لم تزل تتجلى له البينات و تتضاءل عنده الشبهات ، حتى يتجلى له الحق يقيناً فيما يطلب فيه اليقين ، و رجحاناً فيما يكفي فيه الرجحان ، و بذلك يثبت له الهدى و يستحق الفوز ، و الحمد و الكمال على ما يليق بالمخلوق ، و من اتبع الهوى و آثر الحياة الدنيا ، تبرقعت دونه البينات ، و استهوته الشبهات ، فذهبت به ( إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم ) .
4 – فصل
__________
(1) الحق أن حجج الله تعالى التي سماها بينات هي مكشوفة واضحة لا خفاء بها و إنما تحفى على من في قلبه كن و في أذنيه وقر و على بصره غشاوة من هواه و أخلاقه و ما اعتاد . م ع . أنظر التعليق ص 182 . ن(1/20)
إن قيل : لا ريب أن الانسان ينشأ على دينه و اعتقاد و مذهب و آراء يتلقاها من مربيه و معلمه ، و يتبع فيها أسلافه و أشياخه الذين تمتلئ مسامعه بإطرائهم ، و تأكيد أن الحق ما هم عليه و بذم مخالفيهم و ثلبهم ، و تأكيد أنهم على الضلالة ، فيمتلئ قلبه بتعظيم أسلافه و بغض مخالفيهم ، فيكون رأيه و هواه متعاضدين على اتباع أسلافه و مخالفة مخالفيهم ، و يتأكد ذلك بأنه يرى أنه إن خالف ما نشأ عليه رماه أهله و أصحابه بالكفر و الضلال ، و هجروه و آذوه و ضيقوا عليه عيشته ، ولكن هذه الحال يشترك فيها من نشأ على باطل و من نشأ على حق ، فإذا دعونا الناس إلى الاستيقاظ للهوى و بينا لهم أثره و ضرره ، فمن شاء ذلك أن يشككهم فيما نشأوا عليه ، و هذا إنما ينفع من نشأ على باطل ، فأما من نشأ على حق فإن تشكيكه ضرر محض لأن غالب الناس عاجزون عن النظر .
قلت : المطالب على ثلاثة أضرب :
الأول : العقائد التي يطلب الجزم بها و لا يسع جهلها .
الثاني : بقية العقائد .
الثالث : الأحكام .
فأما الضرب الأول فسنبين إن شاء الله تعالى أن النظر فيه ميسر لكل أحد ، و أن النظر العقلي المتعمق فيه لا حاجة إليه و هو مثار الشبهات ، و ملجأ الهدى و منشأ الضلال ، كما سيتضح ذلك إن شاء الله تعالى ، فمن استجاب لتلك الدعوة إلى النظر الفطري الشرعي مخلصاً من شوائب الهوى ، فإن كان النظر سابقاً على حق فإنه يتبين له بهذا النظر أنه حق ، فيلزمه و قد صفا له و خلص ، و نجا من اتباع الهوى و صفت له الطمأنينة .
وأما الضرب الثاني فمن كان قائلاً بشئ منه عن حجة صحيحة فإن الاستجابة لتلك الدعوة لا تزيد تلك الحاجة إلا وضوحاً مع الخلاص عن الهوى ، و إلا فالجهل بهذا الضرب خير من القول فيه بغير حجة و إن صادف الحق .(1/21)
وأما الضرب الثالث فالمتواتر منه و المجمع عليه لا يختلف حكمه ، و ما عداه قضايا اجتهادية يكفي فيها بذل الوسع لتعرف الراجح أو الأرجح أو الأحوط فيؤخذ به . و إنما يجئ البلاء فيها من أوجه :
الأول : التقصير في بذل الوسع .
الثاني : التمسك بما ليس من الحق .
الثالث : الاعتداد بترجيح النفس الذي يكون منشؤه الهوى .
الرابع : عدم الرجوع عما يتبين أن غيره أولى بالحق منه .
الخامس : معاداة المخالف مع احتمال أنه هو المصيب و ظهور أنه كان مخطئاً فهو معذو، فمن شأن تلك الإستجابة لتلك الدعوة أن تدفع هذه المفاسد .
5 – فصل
هذه أمور ينبغي لإنسان أن يقدم التفكير فيها و يجعلها نصب عينيه .
التفكير في شرف الحق و ضعة الباطل ، و ذلك بأن يفكر في عظمة الله عز و جل و أنه رب العالمين ، و أنه سبحانه يحب الحق و يكره الباطل ، و أن من اتبع الحق استحق رضوان رب العالمين ، فكان سبحانه و ليه في الدنيا و الآخرة ، بأن يختار له كل ما يعلمه خيراً له و أفضل و أنفع و أكمل و أشرف و أرفع حتى يتوفاه راضياً مرضياً ، فيرفعه إليه و يقربه لديه ، و يحله في جوار ربه مكرماً منعماً في النعيم المقيم ، و الشرف الخالد ، الذي لا تبلغ الأوهام عظمته ، و أن من أخلد إلى الباطل استحق سخط رب العالمين و غضبه و عقابه ، فإن آتاه شيئاً من نعيم الدنيا فإنما ذلك لهوانه عليه ليزيده بعداً عنه ، و ليضاعف له عذاب الآخرة الأليم الخالد الذي لا تبلغ الأوهام شدته .(1/22)
يفكر في نسبة نعيم الدنيا إلى رضوان رب العالمين و نعيم الآخرة ، و نسبة بؤس الدنيا إلى سخط رب العالمين و عذاب الآخرة ، و يتدبر قول الله عز و جل : [ وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ . أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ . وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ . وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ . وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ]. الزخرف: 31 – 35 و يفهم من ذلك أنه لولا أن يكون الناس امة واحدة لابتلى الله المؤمنين بما لم تجر به العادة من شدة الفقر و الضر و الخوف و الحزن و غير ذلك ، وحسبك أن الله عز وجل ابتلى أنبيائه و أصفيائه بأنواع البلاء .و في ( الصحيحين ) من حديث كعب بن مالك قال :(( قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيؤها الرياح تصرعها مرة و تعدلها أخرى حتى يأتي أجله ، و مثل المنافق كمثل الأرزة المجذية التي لا يصيبها شئ حتى يكون انجعافها مرة واحدة )) و في ( الصحيحين ) أيضاً نحوه من حديث أبي هريرة . و معنى الحديث و الله أعلم أن هذا من شأن المؤمن و المنافق فلا يلزم منه أن كل منافق تكون تلك حاله لا يناله ضرر و لا مصيبة إلا القاضية .(1/23)
المقصود من الحديث تهذيب المسلمين فيأنس المؤمن بالمتاعب و المصائب و يتلقاها بالرضا و الصبر و الاحتساب ، راجياً أن تكون له عند ربه عز وجل ، و لا يتمنى خالصاً من قلبه النعم و لا يحسد أهلها ، و لا يسكن إلى السلامة و النعم و لا يركن إليها ، بل يتلقاها بخوف و حذر و خشية أن تكون إنما هيئت له لاختلال إيمانه ، فترغب نفسه إلى تصريفها في سبيل الله عز و جل ، فلا يخلد إلى الراحة و لا يبخل ، و لا يعجب بما أوتيه و لا يستكبر و لا يغتر ، و لم يتعرض الحديث لحال الكافر لأن الحجة عليه واضحة على كل حال . و أخرج الترمذي و غيره من حديث سعد بن أبي و قاص قال(( سئل النبي صلى الله عليه و آله و سلم : أي الناس أشد بلاء ؟ قال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه ، و إن كان في دينه رقة هون عليه …)) الحديث قال الترمذي :(( حسن صحيح )) (1) و قد ابتلى الله تعالى أيوب بما هو مشهور (2) . و ابتلى يعقوب بفقد و لديه و شدد أثر ذلك على قلبه فكان كما قصه الله عز و جل في كتابه : [ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَأبيضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ] يوسف:84 . و ابتلى محمداً عليه و عليهم الصلاة و السلام بما تراه في أوائل السيرة ، فكلفه أن يدعو قومه إلى ترك ما نشأوا عليه تبعاً لآبائهم من الشرك و الضلال ، و يصارحهم بذلك سراً و جهاراً ، ليلاً و نهاراً ، و يدور عليهم في نواديهم و مجتمعاتهم و قراهم ، فاستمر على ذلك نحو ثلاث عشرة سنة و هم يؤذونه أشد الأذى مع أنه كان قد عاش قبل ذلك أربعين سنة أو فوقها و لا يعرف أن يؤذي ، إذ كان من قبيلة شريفة محترمة موقرة في بيت محترم موقر ، و نشأ على أخلاق كريمة احترمه لأجلها الناس ووقروه
__________
(1) أنظر تخريجه و طرقه في (( الأحاديث الصحيحة )) ( 143 ) . ن
(2) راجع حديثه في المصدر السابق رقم ( 17 ) .(1/24)
، ثم كان ذلك على غاية الحياء و الغيرة و عزة النفس ، و من كانت هذه حاله يشتد عليه غاية الشدة أن يؤذى و يشق عليه غاية المشقة الاقدام على ما يعرضه لأن يؤذى ، و يتأكد ذلك في جنس ذاك الايذاء ، هذا يسخر منه ، و هذا يسبه ، و هذا يبصق في وجهه – بأمبي هو و أمي - ، و هذا يحاول أن يضع رجليه على عنقه إذا سجد لربه ، و هذا يضع سلى (1) الجزور على ظهره و هو ساجد ، و هذا يأخذ بمجامع ثوبه و يخنقه ، و هذا ينخس دابته حتى تلقيه (2)
__________
(1) السلا : غشاء جنين البهيمة . م ع
(2) نخس الدابة كان لزينب بنت الرسول فسقطت عنها ز أجهضت حينما هاجرت رضي الله عنها م ع
يقول المؤلف : بل روي مثل ذلك في شأن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه ، راجع ترجمة ضباعة بنت عامر من (( الاصابة )) . قلت : لكن في إسناد الرواية المشار إليها الكلي وهو متهم ! ن(1/25)
، و هذا عمه يتبعه أنى ذهب يؤذيه و يحذر الناس منه و يقول : إنه كذاب ، و إنه مجنون ، و هؤلاء (1) يغرون به السفهاء فيرجمونه حتى تسيل رجلاه دماً ، و هؤلاء يحصرونه و عشيرته مدة طويلة في شعب ليموتوا جوعاً ، و هؤلاء يعذبون من اتبعه بأنواع العذاب ، فمنهم من يضجعونه على الرمل في شدة الرمضاء و يمنعونه الماء ، و منهم من ألقوه على النار حتى ما أطفأها إلا ودك ظهره ، و منهم امرأة عذبوها لترجع عن دينها فلما يئسوا منها طعنها أحدهم (2) بالحربة في فرجها فقتلها ، (3) كل ذلك لا لشئ . إلا أنه يدعوهم إلى أن يخرجهم من الظلمات إلى النور ، و من الفساد إلى الصلاح ، و من سخط الله إلى رضوانه ، و من عذابه الخالد إلى نعيمه الدائم ، و لم يلتفوا إلى ذلك مع وضوح الحجة ، و إنما كان همهم انه يدعوهم إلى خلاف هواهم . و من و جه آخر ابتلى الله عز و جل نبيه صلى الله عليه و آله و سلم بأن قبض أبويه صغيراً ثم جده ثم عمه الذي كان يحامي عنه ، ثم امرأته التي كانت تؤنسه ، و تخفف عنه ، ثم لم يزل البلاء يتعاهده صلى الله عليه و آله و سلم و تفصيل هذا يطول ، و هذا هو سيد ولد آدم و أحبهم إلى الله عز و جل .
__________
(1) هم كبراء الطائف عندما عرض نفسه عليهم ليحموه من قريش فردوا عليه رداً قبيحاً و أغروا به
السفهاء.م ع
(2) أبو جهل قبحه الله ، و المرأة سمية أم عمار . م ع
(3) من تدبر هذه الحال علم أنها من أعظم البراهين على صدق محمد صلى الله عليه و سلم في دعوى النبوة ، فإن العادة تحيل أن يقدم مثله في أخلاقه و فيما عاش عليه أربعين سنة لما يعرضه لذلك الإيذاء ثم يصبر عليه سنين كثيرة و له مندوحة ، و لهذا كان العارفون به من قومه لا ينبسونه إلى الكذب و إنما يقولون : مسحور ، مجنون . قال الله تعالى : ( فإنهم لا يكذبونك و لكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) . المؤلف(1/26)
فتدبر هذا كله لتعلم حق العلم ما تنافس فيه و نتهالك عليه من نعيم الدنيا و جاهها ليس هو بشئ في جانب رضوان الله عز وجل و النعيم الدائم في جواره ، و أن ما نفر منه من بؤس الدنيا و مكارهها ليس في جانب سخط الله عز وجل غضبه و الخلود في عذاب جهنم . و في ( الصحيح ) من حديث أنس قال :(( قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار ثم يقال له : يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول : لا يا رب ، و يؤتى بأشد و يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له : يا أبن آدم هل رأيت بؤساً قط و هل مر بك شدة قط ؟ فيقول : لا و الله يا رب ما مر بي بؤس قط و لا رأيت شدة قط )) .(1/27)
يفكر في حاله بالنظر إلى أعماله من الطاعة و المعصية ، فأما المؤمن فإنه يأتي الطاعة راغباً نشيطاً لا يريد إلا وجه الله عز و جل و الدار الآخرة ، فإن عرضت له رغبة في الدنيا فإلى الله تعالى فيما يرجوا معونيته على السعي للآخرة ، فإن كان و لا بد ففيما يغلب على ظنه أنه لا يثبطه عن السعي للآخرة ، و هو على كل حال متوكل على الله راغب إليه سبحانه أن يختار له ما هو خير و أنفع ، ثم يباشر الطاعة خاشعاً خاضعاً مستحضراً أن الله عز و جل يراه و يرى ما في نفسه ، و يأتي بها على الوجه الذي شرعه الله عز و جل و هو مع ذلك كما قال الله تعالى : [ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ] المؤمنون: - 60 فهو يخاف و يخشى أن لا تكون نيته خالصة ، و ذلك أن النية الصالحة قد تكون من قوي الإيمان ، و قد تكون من ضعيفه الذي إنما يطيع إحتياطاً و قد لا تكون خالصة بل يمازجها رغبة في ثواب الدنيا لأجل الدنيا ، أو رغبة في الآثار الطبيعية ككسر الشهوة حيث لا يشرع ، و كتقوية النفس ، كالذي يصوم و يقوم ليكون من أهل اللكشف فيطلع على العجائب و المغيبات (1) فيلتذ بذلك و يعظم جاهه بين الناس ، و كذلك يتعبد ليحصل له الكشف فيصفوا إيمانه و يستريح من الوسوسة و مدافعة الشبهات ، فإن هذه الطريقة غير مشروعة ، و من شأنها أن تجر إلى تعاطي الأسباب الطبيعية لتقوية النفس و إن كانت منهياً عنها في الشرع كما هو معروف في بدع المتصوفة ، و من حصل له الكشف بهذه الطريق فهو مظنة ان
__________
(1) قلت : و مع كون هذه الطريقة غير مشروعية ، فهي من المستحيل أن توصل إلى الإطلاع على المغيبات بعد ختم الرسالة بالنبي صلى الله عيه و سلم و نزول قوله تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً . إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُول ) نعم هي في الحقيقة إنما توصل إلى أوهام و خيالات ، يتوهمونها كشوفات و مغيبات ! ن .(1/28)
يضعف أيمانه أو يزول عقوبة له على سلوكه غير السبيل المشروع ، حتى لو كشف له عن شيء مما يجب الإيمان به فشاهده لم ينفعه هذا الإيمان كما يعلم مما تقدم . و إنما المشروع أن يجاهد نفسه و يصرفها عن الشبهات و الوساوس مستعيناً بطاعة الله تعالى و الوقوف عند حدوده مبتهلاً إليه عز و جل أن يثبت قلبه بما شاء سبحانه ، فهذا إنما يحمل على إتباع الشرع و الاهتداء بهذا .
وكمنفعة البدن كالذي يصومليصح و يصلي التراويح لينهضم طعامه . و كموافقة الإلف و العادة كمن إعتاد الصلاة من صباه فيجد نفسه تنازعه إلى الصلاة فلا تستقر حتى يصلي ، فإن هذا قد يكون كالذي أعتاد العبث بلحيته فيجد نفسه تنازعه إلى ذلك حتى لو كف عن ذلك أو منع منه شق عليه . و كحب الترويح عن النفس كالذي يأتي الجمعة ليتفرج و يلقى أصحابه و يقف على أخبارهم . و كمراعات الناس لكي يمدحوه و يثنوا عليه فيعظم جاهه و يصل إلى أغراضه و لا يمقتوه ، إلى غير ذلك من المقاصد ، كالمرأة تتزين و تتعطر و تخرج إلى الصلاة لتشاهد الرجال و تلفتهم إليها . و كالعالم يريد أن يراه الناس و يعظموه و يستفتوه فيشتهر علمه و يعظم جاهه . و كالمنتسب إلى الصلاح يريد أن يعظمه الناس و يقبلوا يده و رجليه ، و يشتهر ذكره و يتساقط الناس في شبكته ، و كالحاكم النابه يريد أن يتطاول الناس إلى رؤيته و يتزاحموا و ترتفع أصواتهم بمدحة و غير ذلك .
والمؤمن و لو خلصت نيته في نفس الأمر لا يستطيع أن يستيقن ذلك من نفسه .
والمؤمن يخاف و يخشى أن لا يكون أتى بالطاعة على الوجه المشروع ، و ذلك من اوجه :(1/29)
منها أن للصلاة مثلاً شرائط و اركاناً وواجبات قد أختلف في بعضها ، و المجتهد إنما يراعي اجتهاده فيخشى أن يكون قصر في اجتهاده أو استزله الهوى ، و العامي إنما يتبع قول مفتيه أو إمامه أو بعض فقهاء مذهبه ، فيخشى أن يكون قصر أو تبع الهوى في اختياره قول ذاك المفتي أو في الجمود على مذهب إمامه في بعض ما اختلف فيه .
ومنها أن روح الصلاة الخشوع و النفس تتنازعها الخواطر فلا يثق المؤمن خشع بأنه كما يجب ، فإن حاولت نفس المؤمن أن تقنعه بإخلاصها في نيتها و اجتهادها و خشوعها خشى على نفسه أن يكون مغروراً مسامحاً لنفسه .
وهكذا تستمر خشية المؤمن بالنظر إلى طاعاته السالفة يرجوا أن يكون قبلها الله تعالى بعفوه و كرمه ، و يحشى أن يكون ردت لخلل فيها ، و إن لم يشعر به ، أو لخلل في أساسها و هو الإيمان .
هذه حال المؤمن في الطاعات ، فما عسى أن تكون حاله في المعاصي ؟ و قد قال الله تبارك و تعالى : [ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ الأعراف – 201 – 202 .(1/30)
فالمؤمن يتصارع إيمانه و هواه فقد يطيف به الشيطان فيغفله عن قوة إيمانه ، فيغلبه هواه فيصرعه ، و هو حال مباشرة المعصية ينازع نفسه ، فلا تصفوا له لذتها ، ثم لا يكاد جنبه يقع على الأرض ، حتى يتذكر فيستعيد قوة إيمانه فيثبت يعض أنامله أسفاً و حزناً على غفلته التي أعان بها عدوه على نفسه ، عازماً على أن لا يعود لمثل تلك الغفلة . و أما إخوان الشياطين ، فتمدهم الشياطين في الغي فيمتدون فيه و يمنونهم الأماني فيقنعون ، فمن الأماني أن يقول : الله قدره علي ، فما شاء فعل . قد أختلف العلماء في حرمة هذا الفعل . قد أختلفوا في كونه كبيرة ، و الصغائر أمرها هين . لي حسنات كثيرة تغمر هذا الذنب . لعل الله يغفر لي . لعل فلاناً يشفع لي . سوف أتوب ! و أحسن حاله أن يقول : أستغفر الله ، استغفر الله ، و يرى أنه قد تاب و محي ذنبه ، قال الله تعالى : [ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً . يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً . وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً . لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ] .النساء – 119 – 124 .(1/31)
وقال عز و جل : [ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقّ ] لأعراف – 169 .
وفي ( مسند احمد ) و ( المستدرك ) و غيرهما من حديث شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال :(( الكيس من دان نفسه و عمل لما بعد الكوت ، و العاجز من اتبع نفسه هواها و تمنى على الله الأماني )) . (1) و في ( الصحيحين ) عن عبد الله بن مسعود قال :(( إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه ، و ان الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا – أي بيده – فذبه عنه )) .
4 – يفكر في حاله مع الهوى ، أفرض أنه بلغك أن رجلاً سب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ، و آخر سب داود عليه السلام ، و ثالثاً سب عمر أو علياً رضي الله عنهما ، و رابعاً سب إمامك ، و خامساً سب إماماً آخر ، أيكون سخطك عليهم و سعيك في عقوبتهم و تأديبهم أو التنديب بهم موافقاً لما يقتضيه الشرع فيكون غضبك على الأول و الثاني قريباً من السواء و أشد مما بعدهما جداً ، و غضبك على الثالث دون ذلك و أشد مما بعده ، و غضبك على الرابع و الخامس قريباً من السواء و دون ما قبلهما بكثير ؟
أفرض أنك قرأت آية فلاح لك منها موافقة قول لإمامك ، و قرأت أخرى فلاح لك منها مخالفة قول آخر له ، أيكون نظرك إليها سواء ، لا تبالي أن يتبين منها بعد التدبر صحة ما لاح لك أو عدم صحته ؟
أفرض أنك و قفت على حديثين لا تعرف صحتهما و لا ضعفهما ، أحدهما يوافق قولاً لإمامك و الآخر يخالفه ، أيكون نظرك فيها سواء ، لا تبالي أن يصح سند كل منهما أو يضعف ؟
__________
(1) قلت : في إسناده أبو بكر بن أبي مريم و هو ضعيف . ن(1/32)
أفرض انك نظرت في مسألة قال إمامك قولاً و خالفه غيره ، ألا يكون لك هوى في ترجيح أحد القولين بل تريد أن تنظر لتعرف الراجح منها فتبين رجحانه ؟
أفرض أن رجل تحبه و آخر تبغضه تنازعا في قضية فاستفتيت فيها و لا تستحضر حكمها و تريد أن تنظر ألا يكون هواك في موافقة الذي تحبه ؟
أفرض أنك و عالماً تحبه و آخر تكرهه أفتى كل منكم في قضية و أطلعت على فتويي صاحبيك فرأيتهما صواباً ، ثم بلغك أن عالماً آخر أعترض على واحدة من تلك الفتاوى و شدد النكير عليها أتكون حالك واحدة سواء كانت هي فتواك أم فتوى صديقك أم فتوى مكروهك ؟
أفرض أنك تعلم من رجل منكراً و تعذر نفسك في عدم الإنكار عليه ، ثم بلغك أن عالماً أنكر عليه و شدد النكير ، أيكون استحسانك لذلك سواء فيما إذا كان المنكر صديقك أم عدوك ، و المنكر عليه صديقك أم عدوك ؟
فتش نفسك تجدك مبتلى بمعصية أو نقص في الدين ، و تجد من تبغضه مبتلى بمعصية أو نقص آخر ليس في الشرع بأشدمما أنت مبتلى به؟ فهل تجد إستشناعك ما هو عليه مساوياً لإستشناعك ما أنت عليه ، و تجد مقتك نفسك مساوياً لمقتك إياه ؟
وبالجملة فمسالك الهوى أكثر من أن تحصى و قد جربت نفسي أنني ربما أنظر في القضية زاعماً أنه لا هوى لي فيلوح لي فيها معنى ، فأقرره تقريراً يعجبني ، ثم يلوح لي ما يخدش في ذاك المعنى ، فأجدني أتبرم بذاك الخادش و تنازعني نفسي إلى تكلف الجواب عنه و غض النظر عن مناقشة ذاك الجواب ، و إنما هذا لأني لما قررت ذاك المعنى أولاً تقريراً أعجبني صرت أهوى صحته ، هذا مع أنه لا يعلم بذلك أحد من الناس ، فكيف إذا كنت قد أذعته في الناس ثم لاح لي الخدش ؟ فكيف لو لم يلح لي الخدش و لكن رجلاً آخر أعترض علي به ؟ فكيف كان المعترض ممن أكرهه ؟(1/33)
هذا و لم يكلف العالم بأن لا يكون له هوى ؟ فإن هذا خارج عن الوسع ، و إنما الواجب على العالم أن يفتش نفسه عن هواها حتى يعرفه ثم يحترز منه و يمعن النظر في الحق من حيث هو حق ، فإن بان له أنه مخالف لهواه آثر الحق على هواه . و هذا و الله اعلم معنى الحديث الذي ذكره النووي في ( الأربعين ) و ذكر أن سنده صحيح وهو(( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به )) (1) . و العالم قد يقصر في الإحتراس من هواه و يسامح نفسه فتميل إلى الباطل فينصره . و هو يتوهم أنه لم يخرج من الحق و لم يعاده ، و هذا لا يكاد ينجوا منه إلا المعصوم ، و إنما يتفاوت العلماء ، فمنهم من يكثر الإسترسال مع هواه ، و يفحش حتى يقطع من لا يعرف طباع الناس و مقدار تأثير الهوى بأنه متعمد ، و منهم من يقل ذلك منه و يخف ، و من تتبع كتب المؤلفين الذين لم يسندوا اجتهادهم إلى الكتاب و السنة رأساً رأى فيها العجب العجاب ، و لكنه لا يتبين له إلا في المواضع التي لا يكون له فيها هوى ، أو يكون هواه مخالفاً لما في تلك الكتب ، على أنه استرسل مع هواه زعم أن موافقيه براء من الهوى ، و أن مخالفيه كلهم متبعون للهوى . و قد كان من السلف من يبلغ في الاحتراس من هواه حتى يقع في الخطأ الآخر ، كالقاضي يختصم إليه أخوة و عده فيبالغ في الاحتراس حتى يظلم أخاه ، و هذا كالذي يمشي في الطريق و يكون عن يمينه مزلة فيتقيها و يتباعد عنها فيقع في مزلة عن يساره !
__________
(1) قلت : أنى له الصحة و في سنده نعيم بن حماد ، و قد سبقت ترجمته ، و ما فيه من الضعف ، ثم هو قد أختلف عليه في إسناده كما بينه الحافظ أبن رجب الحنبلي في (( شرح الأربعين )) ( ص 282 – 283 ) ، و قال : (( تصحيح هذا الحديث بعيداً جداً من وجوه ، منها تفرد نعيم به … )) . ثم بينها ، فمن شاء التفصيل فاليرجع إليه ، و قد أشار البخاري إلي ضعفه في (( جزء رفع اليدين )) . ن .(1/34)
يستحضر أنه على فرض أن يكون فيما نشأ يه باطل ، لا يخلوا عن أن يكون قد سلف منه تقصير أو لا ، فعلى الأول إن استمر على ذلك كان مستمراً على النقص و مصراً عليه و مزداداً منه و ذلك هو نقص الأبد و هلاكه ، و إن نظر فتبين له الحق فرجع إليه حاز الكمال و ذهبت عنه معرة النقص السابق ، فإن التوبة تجب ما قبلها ، و التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، و قد قال الله تعالى : [ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّأبينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ] . و في الحديث(( كلكم خطاءون و خير الخطائين التوابون )) (1) . و أما الثاني و هو أن لا يكون قد سبق منه تقصير فلا يلزمه بما تقدم منه نقص يعاب به البتة ، بل المدار على حاله بعد أن ينبه ، فإن تدبر و تنبه معرف الحق فإتبعه فقد فاز ، و كذلك إن اشتبه عليه الأمر فإحتاط ، و إن أعرض و نفر فذلك هو الهلاك .
6 - يستحضر أن الذي يهمه ويسأل عنه هو حاله في نفسه ، فلا يضره عند الله تعالى و لا عند أهل العلم و الدين و العقل أن يكون معلمه أو مربيه أو أسلافه أو أشياخه على نقص ، و الأنبياء عليهم الصلاة و السلام لم يسلموا من هذا ، و أفضل هذه الأمة أصحاب رسول الله صلة الله عليه و آله و سلم و رضى عنهم و كان آباؤهم و أسلافهم مشركين . هذا مع احتمال أن يكون أسلافك معذورين إذا لم ينبهوا و لم تقم عليهم الحجة . و على فرض أن أسلافك كانوا على خطأ يؤاخذون به فأتباعك لهم و تعصبك لا ينفعهم شياً بل يضرهم ضرراً شديداً فإنه يلحقهم مثل إثمك و مثل إثم من يتبعك من أولادك و اتباعك إلى يوم القيامة . كما يلحقك مع إثمك مثل إثم من يتبعك إلى يوم القيامة ، أفلا ترى أن رجوعك الى الحق هو خير لأسلافك على كل حال ؟
__________
(1) أخرجه الترمذي و غيره بلفظ : (( كل بني آدم خطاء ، و خير … )) . و سنده حسن . ن .(1/35)
7 – يتدبر ما يرجى لمؤثر الحق من رضوان رب العالمين ، و حسن عنايته في الدنيا و الفوز العظيم الدائم في الآخرة ، و ما يستحقه متبع الهوى من سخطه عز و جل ، و المقت في الدنيا و العذاب الأليم الخالد في الآخرة ، و هل يرضى عاقل لنفسه أن يشتري لذة إتباع هواه بفوات حسن عناية رب العالمين و حرمان رضوانه و القرب منه و الزلفى عنده النعيم العظيم في جواره ، و باستحقاق مقته و سخطه و غضبه و عذابه الأليم الخالد ؟ لا ينبغي أن يقع هذا حتى من اقل الناس عقلاً ، سواء أكان مؤمناً موقناً بهذه النتيجة ، أم ظاناً لها ، أم شاكاً فيها ، أم ظاناً لعدمها ، فإن هاذين يحتاطان ، و كما أن ذلك الإشتراء متحقق ممن يعرف أنه متبع هواه ، فكذلك من يسامح نفسه فلا يناقشها و لا يحتاط .
8 – يأخذ نفسه بخلاف هواها فيما يتبين له ، فلا يسامحها في ترك واجب أو ما يقرب منه ، و لا في ارتكاب معصية أو ما يقرب منها ، و لا في هجوم على مشتبه ، و يروضها على التثبت و الخضوع للحق ، و يشدد عليها في ذلك حتى يصبر الخضوع للحق و مخالفة الهوى عادة له .
9- يأخذ نفسه بالاحتياط في ما يخالف ما نشأ عليه ، فإذا كان فيما نشأ عليه أشياء يرى أه لا بأس بها ، أو أنها مستحبة ، و علم أن من أهل العلم من يقول إنها شرك أ, بدعة أ, حرام ، فيأخذ نفسه بتركها حتى يتبين له بالحجج الواضحة صحة ما نشأ عليه ، و هكذا ينبغي له أن ينصح غيره ممن هو في مثل حاله ، فإن و جدت نفسك تأبى ذلك ، فأعلم أ، الهوى مستحوذ عليها ، فجاهدها .(1/36)
وأعلم أ، ثبوت هذا القدر على المكلف أعنى أ، يثبت عنده أن ما يدعى إليه أحوط مما هو عليه كاف في قيام الحجة عند الله عز و جل ، و بذلك قامت الحجة على أكثر الكفار، فمن ذلك المشركون من العرب ، لم يكن في دينهم الذي كانوا عليه تصديق بالآخرة ، و إنما يدعون آلهتهم و يعبدونها للأغراض الدنيوية ، مع علمهم أن مالك الضر و النفع هو الله عز و جل وحده ، و لذلك كانوا إذا وقعوا في شدة دعوا الله وحده ، قال تعالى : [ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ] لقمان : 32 . وقال تعالى:[وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ] الإسراء : 67.
وكانوا يرون من هو على خلاف دينهم لا يظهر تفاوت بينه و بينهم و أحوال الدنيا ، و عرفوا فيمن أسلم مثل ذلك ، ثم عرض عليهم الإسلام ، و عرفوا على الأقل أنه يمكن أن يكون حقاً ، و أنه كان حقاً و لم يتبعوه تعرضوا للمضار الدنيوية و للخسران الأبدي في الآخرة ، فلزمهم في هذه الحال أن يسلموا ، لأنه إن كان الأمر كما بدا لهم من صحة الإسلام فقد أخذوا منه بنصيب ، و إلا فتركهم لما كانوا عليه لا يضرهم كما لا يتضرر من خالفهم ، فلم يمنعهم من الإسلام إلا إتباع الهوى . قال تعالى : [ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ] فصلت : 26 .
وقال تعالى : [ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ] فصلت : 52 .
وقال تعالى : [ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ] الأحقاف : 10 .(1/37)
وتكذيبهم للحق و إعراضهم عنه بعد أن قامت الحجة عليهم بأن تصديقه و اتباعه أحوط لهم و أقرب إلى النجاة ظلم شديد منهم استحقوا به أن لا يهديهم الله عز و جل إلى استيقان أنه حق ، و هذا كما تقدم في قصة نوح ، و قال الله تعالى : [ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ] الأعراف : 101 .و نحوها في سورة ( يونس ) : 74 و فيها : [ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ] .
وقال الله عز و جل : [ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ . وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ] الأنعام 110:109 .
وفي ( تفسير ابن جرير ) 7 / 194 : (( …. عن ابن عباس قوله : [وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ]…. قال لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شئ وردت عن كل أمر )) . و هذا هو الصحيح ، الكاف في قوله : [ كما ] للتعليل . و كذلك هي في قوله تعالى : [ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ] البقرة: 198 .
قال ابن جرير في ( تفسيره ) 2 / 163 : (( يعني بذلك جل ثناؤه : و اذكروا الله أيها المؤمنون عند المشعر الحرام بالثناء عليه و الشكر له على أياديه عندكم ، و ليكن ذكركم له بالخضوع له و الشكر على ما أنعم عليكم من التوفيق )) .(1/38)
وهو الظاهر في قوله تعالى : [ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ] البقرة: 239 . قال ابن جرير 3 / 337 : (( … فاذكروا الله في صلاتكم و في غيرها بالشكر له و الحمد و الثناء عليه على ما أنعم به عليكم من التوفيق لإصابة الحق الذي ضل عنه أعداؤكم )) . و قد ذكر ابن هشام في ( المغني ) هذا المعنى للكاف فراجعه. و في ( الإتقان ) : (( الكاف حرف جر له معان أشهرها التشبيه …. و التعليل نحو [ كما أرسلنا فيكم ] . قال الأخفش : أي لأجل إرسالنا فيكم رسولاً منكم فاذكروني ، [ و اذكروه كما هداكم ] ، أي لأجل هدايته إياكم … )) .
10- يسعى في التمييز بين معدن الحجج و معدن الشبهات ، فإنه إذا تم له ذلك هان عليه الخطب ، فإنه لا يأتيه من معدن الحق إلا الحق إن كان راغباً في الحق قانعاً به إلى الإعراض عن شئ جاء من معدن الحق ، و لا إلى أن يتعرض لشيء جاء من معدن الشبهات ، لكن أهل الأهواء قد حاولوا التشبيه و التمويه ، فالواجب على الراغب في الحق أن لا بنظر إلى ما يجيئه من معدن الحق من وراء زجاجاتهم الملونة ، بل ينظر إليه كما كان ينظر إليه أهل الحق . و الله الموفق .(1/39)
الباب الأول:في الفرق بين معدن الحق و معدن الشبهات
و بيان مآخذ العقائد الإسلامية و مراتبها
مآخذ العقائد الإسلامية أربعة ، سلفيان و هما الفطرة و الشرع ، و خلفيان و هما النظر العقلي المتعمق فيه ، و الكشف التصوفي .
أما الفطرة فأريد بها ما يعم الهداية الفطرية ، و الشعور الفطري ، و القضايا التي يسميها أهل النظر ضروريات و بديهيان ، و النظر العقلي العادي و أعني به ما تيسر للأميين و نحوهم ممن لم يعرف على الكلام و لا الفلسفة .
وأما الشرع فالكتاب و السنة .
وأما النظر العقلي المتعمق فيه فما يختص بعلم الكلام و الفلسفة .وأما الكشف التصوفي فمعروف [ عند أهله و من يوافقهم عليه ] . (1)
فأما المأخذ السلفي الأول فالهداية و الشعور الفطريان يتضحان و يتضح علو درجتهما بالنظر في أحوال البهائم و الطير و الحشرات كالنحل و النمل ، و أذكر من ذلك مثالاً واحداً ، لو أنك أخذت فراخ حمام عقب خروجهما من البيض فاعتنيت بحفظها و تغذيتها و تربيتها بعيدة عن جنسها لوجدتها بعد أن تكبر يأتلف الذكر الأنثى منها فلا يلبثان أن يبادر إلى تهيئة موضع مناسب لوضع البيض و حفظه و حضنه فيختاران موضعاً صالحاً لذلك ، ثم يتلمسان ما يمهدانه به من الحشيش و نحوه ، ثم تضع الأنثى البيض ، ثم يتناوبان حضنه ، فإذا الفراخ تناوبا حضنها و تغذيتها بما يصلح لها ، فإذا كبرت و قويت على تناول الحب و الماء بأنفسهما أخذا يلجئانها إلى ذلك بالإعراض عن زقها ، فإذا قويت على الطيران هجراها و طرداها كأنهما لا يعرفانها . فإذا تدبرت هذا الصنيع و نتائجه و جدته صواباً كله ، و لعلك لو تتبعت أحوال الطير لو وجدت ما هو ألطف من هذا و أدق و كذلك من تتبع أحوال النحل و النمل وجد أكثر من هذا و ألطف .
فإن كان للحمام شعور بأن الائتلاف سبب البيض ، و أن البيض يحتاج إلى ما ذكر فتخرج منه فراخ ، إلى غير ذلك ، فهذا هو الشعور الفطري ، و إن لم يكن هناك شعور ، و إنما هو انسياق إلى تلك الأفعال مع الجهل بما يرتاب عليها فتلك هي الهداية الفطرية .(2)
__________
(1) زيادة من فضيلة الشيخ محمد بن عبد الرزاق . ن
(2) و هو ما يعبر عنه علماء الحياة بغريزة الفرد و الجنس ، و هي تسوق الحيوان سوقاً لا شعورياً إلى ما يحفظ نفسه و يبقى جنسه شاء أم أبى ، و الإنسان يشارك الحيوان في هذه الغرائز الحيوانية ، و يزيد عليها بالعقل و الفكر . م ع(1/40)
و على كل حال فلإصابة في ذلك أكثر من إصابة الإنسان في كثير مما يستدل عليه بعقله ، و من تدبر حال الإنسان و جد له نصيباً من ذلك في شأن حفظ حياته و بقاء نسله . نعم إنه اكتفى له في بعض الأمور بعقله لكن ذاك العقل العادي ، فأما العقل التعمقي فلم يوكل إليه في الضروريات ، فإذا أحاطت العناية الربانية الطير و البهائم و الحشرات إلى تلك الدرجة و حاطت الإنسان أيضاً في حفظ حياته و بقاء نسله و غير ذلك ، فما عسى أن يكون حالها في حياطة الإنسان فما إنما خلق لأجله ؟
فإذا و جدنا للإنسان شيئاً من هذا القبيل في شأن وجود الله تبارك و تعالى ، و علوه على خلقه ، و علمه و قدرته ، و غير ذلك من صفاته فمن الحق على العقل أن لا يستهين بذلك ، زاعماً أنه قضية و أهمية ، كيف و قد شهد له العقل و الشرع كما يأتي .
وأما القضايا الضرورية و البديهية فقد اتفق علماء المعقول أنها رأس مال العقل ، و أن النظر إنما يرجى منه حصول المقصود ببنائه عليها ، استناده إليها .
وأما النظر بالعقل العادي فقد له الشرائع ، و بنت عليه التكليف ، و دعت إليه و حضت عليه ، و علماء المعقول مصرحون بأن الدليل العقلي كلما كان أقرب مدركاً و أسهل تناولاً و أظهر عند العقل كان أجدر بأن يوثق به .
ولا ريب أنه يخشى قصور العقل العادي في بعض المطالب ، لكن ذلك فيما ليس مطلوباً شرعاً فأما المطلوب شرعاً فإن الله تعالى أعد العقول العادية لإدراكه ، و أعد لها ما يسددها فيه من الفطرة و الآيات الظاهرة في الآفاق الظاهرة و الأنفس ، ثم أكمل ذلك بالشرع ، فإذا انقاد العقل العادي للشرع و امتثل هداه و استضاء بنوره فقد أمن ما يخشى من قصوره .
وأما المأخذ الثاني و هو الشرع ، فما عسى أن يقال فيه ، و إنما هو كلام الله عز و جل وكلام رسوله ، لا يخشى فيه و لا خطأ ، و كذب ، و لا تلبيس ، و لا تقصير في البيان [ لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ] .(1/41)
هذا ، و الله سبحانه إنما خلق الناس ليكملوا بعبادته كما أمر في المقدمة ، و هو سبحانه الحكيم العليم القدير ، فلابد أن يكون خلقهم على الهيئة التي ترشحهم لمعرفته و معرفة ما فرض عليهم الإيمان به ، لأن ذلك رأس العبادة و أساسها ، و لا نزاع أن الميسر لهم قبل الشرع هو المأخذ الأول ، فلابد أن يكون فيه ما يغني يما ثبت به الشرع بعد تنبيه الشرع ، ثم يكون فيه و في الشرع ما يكفي لتحصيل القدر المطلوب منهم ، و يؤكد هذا أن تحصيل الدرجة التي يعتد بها في النظر العقلي المتعمق جداً ، قال ابن سينا كما في ( مختصر الصواعق ) (1) 1 / 243 (( فإن المبرزين المنفقين أيامهم و لياليهم و ساعات عمرهم على تثقيف أذهانهم و تذكيه إفهامهم و ترشيح نفوسهم لسرعة الوقوف على المعاني الغامضة يحتاجون في تفهم هذه المعاني إلى فضل و بيان شرح عبارة )) .
فمن الممتنع أن يكلف الله تعالى جميع عباده بهذا ، و من الممتنع أن يكتفي منهم في الأصول التي يلزمهم اعتقادها بالتقليد الصرف لمن ليس بمعصوم ، كيف و قد علم سبحانه أن النظار سيختلفون ، فيكون فيهم المحق و المبطل ، و معرفة العامة بالمحق مع جهلهم بما هو الحق و عدم العصمة ظاهر الامتناع .
وقد نص الله تبارك و تعالى في كتابه على أنه خلق الناس على الهيئة التي ترشحهم لمعرفة الحق . قال الله تعالى : [ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ] سورة الروم : 30
و عدم العلم إنما هو لأمرين :
__________
(1) الصواعق للإمام ابن قيم الجوزية تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى ورضى عنهم . محمد عبد الرزاق(1/42)
الأول : ما يطرأ على الفطرة مما يغشاها فيصرف عن مراعاتها ، و في ( الصحيحين ) من طرق عن أبي هريرة قال : (( قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه و ينصرانه و يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ثم يقول أبو هريرة : و أقرءوا إن شئتم [ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ] الآية )) . لفظ مسلم من الحديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة .
الثاني : الإعراض عما أعده الله تعالى لجلاء الفطرة عن تلك الغواشي و هو الشرع ، قال الله تبارك و تعالى : [ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ] خواتيم الشورى .(1/43)
هذا ، و قد أرسل الله تبارك و تعالى رسله ، و أنزل كتبه ، و فرض شرائعه ، معرضاً عن علم الكلام و الفلسفة ، فأرسل محمداً صلى الله عليه و آله و سلم إلى الناس ، و اختار أن يكون أول من يدعى إلى الحق العرب الأمين ، و كلفهم بالنظر و الأيمان ، و قبل أيمان من آمن منهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس ، و بأنهم هم المؤمنون حقاً و قضى بقيام الحجة على من كفر منهم ، و لم يكن فيهم أثر لعلم الكلام و لا الفلسفة ، و لا أرشدهم الشرع إلى تحصيل ذلك بل حذرهم منه ، هذه سورة ( الفاتحة ) أعظم سورة في أعظم كتاب أنزله الله تبارك و تعالى ، فرض الله سبحانه على العباد قراءتها في كل يوم بضع عشرة مرة و فيها [ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ] .
ومعلوم من أمره إياهم بسؤال الهداية إلى هذا دون ذاك أنه يأمرهم بلزوم هذا و اجتناب ذاك و المنعم عليهم هم الأنبياء و من اهتدى بهديهم ، فهم من هذه الأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - و خيار أصحابه و من اهتدى بهديهم ممن بعدهم .(1/44)
و لا خفاء أن المأخذين السلفيين هما سراط هؤلاء ، و أن علم الكلام و الفلسفة ليسا من سراطهم ، و قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسير (( المغضوب عليهم و الضالين )) باليهود و النصارى ، لا خفاء أن موسى و عيسى عليهما السلام و من كان على هديهما هم من المنعم عليهم ، و إنما وقع الغضب و الضلال على اليهود و النصارى الذين خالفوا هدي موسى و عيسى و أصحابهم و أتباعهم المهتدين بهديهم ، و كان من تلك المخالفة الأخذ في علم الكلام و الفلسفة إتباعاً لسراط الأمم التي هي أوغل في الضلال كاليونان و الرومان . (1) فمن الواضح الذي لا يخفى على أحد أن علم الكلام و الفلسفة ليسا من سراط المنعم عليهم بل هما من سراط المغضوب عليهم و الضالين . فثبت بهذا أوضح ثبوت أن الشرع لم يقتصر عن الإعراض عن علم الكلام و الفلسفة ، بل حذر منهما و نفر عنهما ، فهل يقول مسلم بعد هذا أن المأخذين السلفيين غير كافين في معرفة الحق في العقائد ، و أن ما يؤخذ من علم الكلام و الفلسفة مقدم عل المأخذين السلفيين و مهيمن عليهما ؟ !
وقد قال الله تبارك و تعالى لمحمد و أصحابه : [ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ] آل عمران : 110 . و قال تعالى : [ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ ] كَرِيمٌ الأنفال : 74 .
__________
(1) و الهند و الفرس بل أن الهند و الفرس أعرق بالفلسفة من الرومان ، إنما أشتهر الرومان بنظام الدولة ووضع القانون المدني لها . م ع .(1/45)
والآيات في هذا المعنى كثيرة ، و قال تعالى : [ِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ] المائدة : 3 و إكمال الدين و كمال إيمان الصحابة صريح في أن جميع العقائد المطلوب معرفتها في الإسلام كانت مبنية موضحة حاصلة لهم . و ليس هذا كالأحكام العملية ، فإنه لا يطلب معرفته ما لم يقع سببه منها فقد يكتفي في عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ببيان الأصل الذي إذا رجع إليه عند وقوع سبب الحكم عرف منه الحكم . ثم رأيت في ( شرح المواقف ) بعد ذكر الأحكام العملية ما لفظه : (( و إنها لا تكاد تنحصر في عدد ، بل تتزايد بتعاقب الحوادث الفعلية فلا يتأتى أن يحاط بها …. بخلاف العقائد فإنها مضبوطة لا تزايد فيها أنفسها فلا تعذر الإحاطة بها )) . و أيضاً فتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز عند الجمهور ، فأما تأخيره عن وقت الحاجة فممتنع باتفاق الشرائع كما نقل عن القاضي أبي بكر الباقلاني : و وقت الحاجة إلى العقائد المطلوب اعتقادها في الشرع لا يمكن تأخره عن حياة النبي صلى الله عليه آله سلم ، ووقت الحاجة في النصوص المتعلقة بالعقائد هو وقت الخطاب لأن المكلف يسمع فيعتقد ، و القضية العملية التي تستدعي الحكم لا محيص للقاضي عن النظر فيها ، و القضاء عندما تحدث ، فأما العقائد فلو فرض أن فرعاً منها لم يعرف حاله من المأخذين السلفيين فحقه ترك الخوض فيه و أن يكون الخوض فيه بدعة ضلالة إذا لا ملجئ إلى النظر فيه فضلاً عن الكلام . و قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق أنه قال : (( خير القرون . (1) ثم الذين يلونهم ثم
__________
(1) هكذا أشتهر الحديث عن اللسنة ، و قد أخرجاه في (( الصحيحين )) من حديث ابن مسعود و عمران بن حصين ، و مسلم عن أبي هريرة س، و عائشة ، و لفظ حديثها و حديث ابن مسعود ((خير الناس قرني…)) و لفظ عمران و أبي هريرة (( خير أمتي قرني )) . ن(1/46)
الذين يلونهم )) . في أحاديث كثيرة في أفضلية الصحابة و كمال إيمانهم ثم إتباعهم ، و لا خفاء أنه لم يكن إذا ذاك عند المسلمين خير لعلم الكلام و لا الفلسفة ، و أنه لما حدث بعض النظر في الكلام كان بقايا الصحابة ثم أئمة التابعين ينكرونه، و هكذا لم يزل علماء الدين العارفون بالكتاب و السنة المتحققون بأتباع السلف ينكرون الكلام و الفلسفة ، ويشددون على من ينظر فيهما إلى أن قل العلماء و فشت الفتنة .
وبالجملة فشهادة الإسلام بكفاية المأخذين السلفيين في العقائد و تحذيره مما عداهما بغاية البيان ، و دلالة العقل بذلك واضحة و الله المستعان . فهل يسوغ مع هذا المسلم أن يرضى طعن الكورثي في أئمة السنة باقتباسهم العقائد من المأخذين السلفيين و ردهم ما يخالف ذلك . ! كقوله ص 115 في الإمام ابن الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم : (( و قد ذكر في كتاب ( الرد على الجهمية ) ما يدل على ما أصيب به عقله …. و هو الذي أعترف أنه يجهل علم الكلام … و مع ذلك تراه يدخل في مضايق علم أصول الدين….)) .
وقال 151 في الإمام ابن الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل : (( و عبد الله بن أحمد صاحب كتاب ( السنة ) ، و ما حواه كتابه هذا كافة في معرفة الرجل ، و مثله لا يصدق في أبي حنيفة … )) .
و قوله ص 16 في الامام الجليل عثمان بن سعيد الدارمي : (( عثمان بن سعيد في السند هو صاحب ( النقض ) ( كتاب الرد على الجهمية ) مجسم مكشوف الأمر يعادي أئمة التنزيه …. و مثله يكون جاهلاً بالله سبحانه )) .
وقوله ص 19 في الامام الشهير محمد بن إسحاق بن خزيمة : (( و اعتقاد ابن خزيمة يظهر من كتاب ( التوحيد ) … و عنه يقول صاحب ( التفسير الكبير ) … إنه كتاب الشرك . فلا حب و لا كرامة )) .(1/47)
ويتتبع أصحاب الإمام طاعناً في اعتقادهم يُسِرّحَسْوا في ارتغاء ، يقصد الطعن في الإمام أحمد ، بل رمز في بعض المواضع إلى الطعن في الإمام أحمد بما هو أصرح من هذا ، و طعن ص 5 في رواة السنة و في أئمتها الذيم امتحنهم المأمون و آله فقال : (( و كانت فلتات تصدر من شيوخهم في الله سبحانه و صفاته بما ينبذه الشرع ( الفلسفي ) و العقل ( الجهمي ) في آن واحد ، فرأى المأمون امتحان المحدثين و الرواة في مسألة كان يراها من أجلى المسائل ليوقفهم موقف التروي فيما يرون و يروون ، فأخذهم في مسألة القرآن ، و يدعوهم إلى القول بخلق القرآن …. فمنهم من أجاب مرغماً من غير أن بعقل المعنى ، و منهم من تورع من الخوض فيما لم يخض فيه السلف )) .
و لا ذنب لهؤلاء الأئمة إلا أنهم آمنوا بالله و رسوله و صدقوا كتاب الله و سنة رسوله، و لم يلتفتوا إلى ما زعمه غيرهم أنه لا يوثق بالفطرة و العقل إلا بعد إتقان علم الكلام و الفلسفة ، و أ، النصوص الشرعية من كلام الله تعالى و كلام رسوله حجة في العقائد لأنها لا تفيد اليقين كما في ( المواقف ) و شرحها في أواخر الموقف الأول : (( الدلائل النقلية هل تفيد اليقين ؟ و قيل لا تفيد ، و هو مذهب المعتزلة و جمهور الأشاعرة ، .. و قد جزم الإمام الرازي بأنه لا يجوز التمسك بالأدلة النقلية )) .
فلو أن الطاعن في أئمة السنة طعن فيهم من جهة العقل ساكتاً عن الدين لكان الخطب أيسر إذ يقال : إنه لم يتناقض بل غاية أمره أ،ه سكت عن الطعن في القرآن و النبي اكتفاء بما يلزم منه ذلك ، فأما الطاعن فيهم من جهة الدين ، فينبسهم إلى الزيغ و البدعة ، و الجهل يعقائد الإسلم ، فلا يخفى كذبه على عارف . و الله المستعان .
فصل
وأما المأخذ الخلفي الأول ، , هو النظر المتعمق فيه ، أعنى الكلامي و الفلسفي فقد تقدم بعض ما فيه .(1/48)
وقد يقال : إن من شأنه أن يشهد المأخذ السلفي الأول فيما أصاب فيه و يكشف عن خطائه فيما أخطأ فيه و يتغلغل إلى ما قصر عنه ، و أن يبين المراد من المأخذ السلفي الثاني، فعلى هذا لا معنى لنفور أهل الدين الحق عنه .
فأقول : أما من جهة النظر الإسلامي فما يخشى من خطأ المأخذ السلفي الأول قد تكفل الشرع بكشف الحال فيه كما أبطل نسبة الولد إلى الله عز و جل ، و ستبعاد الحشر، و استحاق غير الله عز و جل للعبادة ، و غير ذلك .
وما يقصر عنه المأخذ السلفي الأول في العقائد قد تكفل الشرع ببيانه ، فإن بقي شئ فالخوض فيه بدعة ، و ما يخشى من الخطأ في فهم النصوص لابد أن يكون في المأخذين السلفيين ما يكشف الحق فيه ضرورة أنهما كافيان مغنيان بشهادة العقل و الشرع القاطعة كما تقدم .
فبقي النظر المتعمق فيه لا حاجة إليه في معرفة العقائد في الإسلام ، و هو مثار للشبهات و التشكيكات كما يأتي ، لا جرم وجب التنفير عنه و التحذير منه ، و قد تقدم من الحجة على ذلك ما فيه غنى لطالب الحق ، فأما النظر فيه لكشف شبهات أهله فسيأتي ما فيه إن شاء الله تعالى .
و لنذفف (1) على هذا المأخذ بسلاح أهله ، لينكشف عواره ، و تنتهك أستاره ، و تندفع شبهة المغترين به و المرعوبين منه :
علماء المعقول يقسمون العلم إلى ضروري و نظري ، و يقولون : إن النظر إنما يحصل به العلم إذا كانت المقدمة من الضروريات أو لازمة لزوماً تعلم صحه بالضرورة ، ثم قسموا الضروريات إلى أنواع ، ردها بعضهم إلى ثلاثة : الوجدانيات ، و الحسيات ، و البديهيات . قالوا : و الوجدانيات قليلة الفائدة في إقامة الحجة على المخالف لأنه قد ينكر أن يكون يجد من نفسه ما يزعم المدعي أنه يجده ، قالوا : فالعمدة في العلم هي الحسيات و البديهيات .
__________
(1) التذفيف على الجريح الإجهاز عليه لاتمام إزهاق روحه . محمد عبد الرزاق .(1/49)
ثم ذكروا أن جماعة من الفلاسفة منهم – على ما حكاه الفخر الرازي – إماما الفلسفة أفلاطون و أرسطو ، قدحوا في الحسيات ، و أ، آخرين قدحوا في البديهيات ، و آخرين في الجميع ، و أن قوماً قدحوا في إفادة النظ للعلم مطلقاً ، و آخرين قدحوا في إفادة العلم في الإلهيات .
فأما القادحون في الحسيات ، فاحتجوا بأن الحواس كثيراً ما تغلط ، و ذكروا من ذلك أمثلة تراها في ( المواقف ) و غيرها (1) ، و من تدبر وجد كثيراً من أمثالها ، ثم قالوا : فهذه المواضع تنبهنا لغلط الحواس فيها لوجود أدلة نبهتنا على ذلك ، فيحتمل في كثير من المواضع التي نرى الحواس فيها مصيبة أن تكون غلطاً في نفس الأمر ، و لكن لم يتفق أن نطلع على دليل ينبهنا على ذلك ، و من الأصول المقررة أن عدم وجدان الدليل لا يستلزم عم المدلول .
__________
(1) من ذلك أن القبس إذا حرك بسرعة عظيمة في خط مستقيم رؤي خطا من نار ، و إذا حرك كذلك على شكل دائرة رؤي دائرة من نار ، و العصا المستقيمة في الماء ترى منحنية أو متعرجة ، و الشمس و القمر و النجوم ترى ساكنة و هي متحركة . و ذو المرة يذوق الماء العذب مرا ، و ماء الآبار يحس دافئا في الشتاء و باردا في الصيف و هو على حالة واحدة سيفا و شتاء . و على رأي متأخري الفلكيين ترى الأرض كسامنة و هي متحركة ، و المحموم يشكو بردا و جسده حار الخ . محمد عبد الرزاق .(1/50)
أجاب العضد و غيره بأن المدار على جزم العقل ، و هو لا يجزم بمجرد الإحساس بل مع أمور تنضم إليه لا يدرى ما هي و لا كيف حصلت و لا من أين جاءت . أشار بعضهم إلى القدح في هذا الجواب بأن الجزم مقدوح فيه كما يأتي ، أي أن العقل قد يجزم ثم يتبين خطاؤه ، و بأننا إذا تأمنا أمثلة الغلط منها ما كانت عقولنا تجزم فيها بالصحة قبل أن تشعر بالدليل الدال على الغلط . أجيب بأن ذاك الجزم ظن قوي ليس هو بالجزم اليقيني المشروط ، و هذا الجواب لا يجدي لاشتباه الجزمين ، غاية الأمر أنكم سميتم ما تبين غلطه ظناً ، و ما لم يتبين غلطه يقيناً ، و لو فرض أنه الغلط فيبعض ما تسمون الجزم فيه يقيناً لعدتم فسميتموه ظناً .
ومما يقوي ذلك القدح أنه توطأ جماعة على تشكيك إنسان في بعض ما يحس به و يجزم ، و لم يشعر بتواطئهم لأمكنهم تشكيكه ، بل ربما يكفي لتشكيكه واحد ، بل يتشكك بنفسه إذا كان يرى أن هناك ما يحتمل التغليط كالسحر .
هذا و قد رد علماء الطبيعة المتأخرون عدة نظريات ذهب إليها الفلاسفة مسندين لها إلى الحس ، و من ذلك ما كانوا جازمون به و يبنون عليه مقالات أخرى حتى في الإلهيات، و تعد ذلك من اليقينيات التي يوجب أسلاف الكوثري رد ما يخالفها من كلام الله تعالى و كلام رسوله .
ففن قيل : فماذا يقول السلفيون ؟(1/51)
قلت : من تدبر أمثلة الغلط وجدها على ضربين ، ضرب يخشى أن يكون سبباً قريباً لمضار و مفاسد ، و ضرب لا يخشى فيه ذلك ، لكن يخشى أن يغلط فيه المتعمقون فيبنوا عليه نظريات تعظم مفاسدها . ووجد الضرب الأول جميعه مما ينكشف فيه الحال عن قرب فمنه أن الإنسان إذا تحاول (1) رأى الشيء أثنين ، و لو كان هذا مما يتكرر للإنسان بغير شعوره لأوجب ضرراً و مفاسد ، فأقتضت عناية الله عز و جل أن لا يكون ذلك ، بل اقتضت أن يرى الأحول الشيء واحد كغيره مع أنه كان يجب أن يرى الشيء أثنين كالمتحاول . و هذا كما اقتضت العناية أن يكون لكل إنسان صورة يمتاز بها عن جميع الناس فلا يلتبس بصاحبك الذي عرفته معرفة محققة أح من أهل الأرض ، و هكذا ترى العناية شاملة ، و الله عز و جل إنما خلق الناس لعبادته ، فإذا كانت عنايته به في معاشهم على ما تقدم و هو وسيلة فقط ، فأولى من ذلك عنايته بهم في المقصد الذي لأجله خلقهم، و هذا يقتضي حفظ المأخذ السلفي الأول عن أن يستمر فيه غلط حسي يؤدي إلى ضلال في الاعتقاد ، على أنه لو كان شيء من ذلك لكشفه المأخذ السلفي الثاني و هو الشرع . فأما المتعمقون فإنهم هم الذين يجلبون الضرر على أنفسهم فلا بدع أن يكلمهم الله عز و جل إلى أنفسهم بل و يزيدهم ضلالاً إلى ضلالهم ، و نظير ذلك أن الله تبارك و تعالى إنما هيأ للناس ابتداء من الأسلحة ما لا يصيب به الإنسان في مرة واحدة إلا شخصاً واحداً ، و بذلك يحصل التكافؤ بين الناس و يخفف ضرر الفتن ، و لا تكاد تصيب من لم يتعرض لهما من الصبيان و النساء و العجزة و البهائم ، و لكن الإنسان آخذ يدقق في اصطناع الأسلحة حتى أصطنع القنابل التي تهلك الواحد منها ناحية بما فيها ، و يفكر في اصطناع ما هو أشد من ذلك [ من القنابل الذرية و الهيدروجينية و ما هو من الأسرار عندهم أعدوه للفتك بالأمم
__________
(1) أي صرف إحدى عينيه عن الأخرى حتى ترى كل واحد منهما غير ما تراه الأخرى . م ع(1/52)
الأخرى ] . (1) و أما القادحون في البديهيات فاعتلوا بأمور :
الأول : أن أجلى البديهيات قولنا : الشيء إما أن يكون و إما أن لا يكون ، قالوا : و أنه غير يقيني ، و أوردوا للقدح في يقينيته عدة شبهات ذكرها و أجاب عنها صاحب ( المواقف ) فراجعه مع شرحه و حواشيه لتعلم ما يتضمنه النظر المتعمق فيه من التشكيل في أوضح الأشياء ، و أجلاها تشكيكاً يشتمل على شبهات يصعب على الماهر حلها ، و على من دونه فهم الحل ، و لو أورد بعض تلك الشبهات على أمر خفي جاء به الشرع لجزم المتعمقون بأنها براهين قاطعة .
الأمر الثاني / أننا نجزم بالعاديات (2) كجزمنا بالأولياء فنجزم أن هذا الشيخ لم يتولد دفعة بلا أب و لا أم بل تولد منهما و نشأ بالتدريج …. ، و أن أواني البيت لم تنقلب بعد خروجي أناساً فضلاء . و لا أحجار جواهر ، و لا البحر دهناً و عسلاً ، مع أنه من الجائز خلاف هذا ، أما عند المتكلمين فلاستناد الأشياء جميعها إلى المختار فعله أوجب شيئاً من ذلك ، و أما عند الحكماء فلاستناد الحوادث الأرضية إلى الأوضاع الفلكية ، فلعله شكل غريب فلكي لم يقع مثله ، أو وقع و لكنه مثله إلا في ألوف من السنين .
__________
(1) زيادة من ع . ن
(2) ايالأمور المعتادة كولادة الإنسان من أبوين اتصلا ببعضهما اتصالا معروفاً و لفظه العاديات تقال للأشياء القديمة جداً نسبة إلى عاد . م ع(1/53)
أجاب العضد بأن الامكان لا ينافي الجزم كما في بعض المحسوسات . قال السيد في ( شرحه ) : (( فإنا نجزم بأن هذا الجسم شاغل لهذا الحيز في هذا الآن لا يتطرق إليه شبهة مع أن نقيضه ممكن في ذاته ، فقد ظهر أن الجزم في العاديات واقع موقعه )) . كذا قال الشارح ، و فيه ان القادحين لم يستندوا إلى الإمكان الذاتي المشترك بين أمثلتهم و مثال الشارح ، و إنما استندوا إلى احتمال الوقوع في نفس الأمر ، فإن أحجار البيت كما يمكن بالإمكان الذاتي انقلابها جواهر ، فإنه يحتمل وقوع الانقلاب بعد خروجك و ليس مثال الشارح هكذا ، فإنه مفروض في الحاضر المشاهد ، و قد قال تبارك و تعالى : [ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ ] إلى أن قال تعالى [ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى . قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى . قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى . فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى . قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ] طه : 9 – 21 فلما كان موسى عليه السلام مع أهله كانوا يشاهدون عصاه فيجزمون بأنها عصا لم تنقلب حية ، فهذا جزم كالجزم في مثال الشارح ، ثم لما فارقهم و أمر بإلقاء عصاه و انقلبت حية إذ كان أهله – وهو غائب عنهم – يجزمون في الوقت الذي انقلبت فيه حية يجزمون بمقتضى العادة أنها لم تنقلب حية . فهذا جزم كالجزم في أمثلة القادحين ، و لا يخفى الفرق بين الجزمين و أنه لا يلزم من صحة الأول صحة الثاني ، و لا من القدح في الثاني القدح في الأول ، و إن الثاني في قصة أهل موسى مخالف للواقع ، و في أمثلة القادحين محتمل لذلك فكيف يقال أنه جزم واقع موقعه ؟(1/54)
دع عنك خرق العادة و يغني عنه النقص العادي الذي لم يعهد كالرجل يمسي بالمغرب ثم يصبح في المشرق فإن هذا كان من المحال العادي عند الناس ، فانتقض بالطيارات فلو بقي الآن أهل جهة لم يسمعوا بخبر الطيارات لكانوا يجزمون بامتناع ما هو واقع بدون خرق عادة (1) و ربما يقال لا يمتنع أن يكون مراد الشارح أن الاحتمال البعيد جداً لا ينافي الجزم ، ففي مثاله يحتمل نقيض ما جزم به لاحتمال خطأ الحس ، فكذلك احتمال خرق العادة .
والظاهر أن مراد المتن و الشرح أنه كما أن الحس يحتمل الغلط و مع ذلك يسلم القادحون في البديهيات أن ذلك لا يقتضي القدح في الحسيات مطلقاً ، فهكذا يلزم في العاديات أن لا يقتضي احتمال الخرق القدح فيها مطلقاً .
و كأن العضد يقول في الجزم بالعادة مثل ما قاله في الجزم بالحس أن المدار على جزم العقل و هو إنما يجزم بأمور تنضم إلى الحس أو إلى العادة لا يدري ما هي و لا كيف حصلت و لا من أين جاءت . فإذا كان هذا مراده فقد تقدم في الكلام على الحسيات ما علمت .
__________
(1) و أعجب من هذا أن الطيارات النفاثة يبالغون الآن في تجويد صنعها و سرعة حركتها حتى يقال أنها تقطع في الساعة 800 ميل أو اكثر ، فتكون أسرع من حركة الأرض ، فإذا جاء اليوم الذي تسبق الطائرة حركة الأرض و طارت من بلد بعد غروب الشمس متوجهة إلى الغرب سبقت حركة الأرض فرؤية الشمس طالعة بعد غروبها و يكون هذا من عجائب العصر . م ع(1/55)
والحق الذي لا ريب فيه أن العقل قد يجزم في الحسيات بمجرد الإحساس ، و في العاديات بمجرد العادة ،و إنما يقف إذا عرض له ما يشككه ، فالذي يجوز السحر إذ قال له من يثق به : إن هنا ساحراً ، فأدخله عليه و ناوله تفاحة فأنه لا يجزم بأنها تفاحة أثمرتها شجرة ، بل يجوز أن تكون روثة – مثلاً - و أن حسه أخطأ لأجل السحر ، أو أن تكون روثة انقلبت تفاحة بعمل السحر ، فلا يجوز هنا بإحساس و لا عادة . و مع هذا فإن هذا الذي يجوز السحر تجده حيث لا مظنة للسحر يجزم بالإحساس و العادة كما يجزم غيره ، و قد يجزم ثم تشككه فيرجع عن جزمه .
فالحق أن النفس قد لا تعرف وجه الاحتمال فتجزم ، و قد تعرفه و لكنها تجحده فتجزم ، و قد تعرفه و تعترف به و تستحضره و لكنها تستبعده جداً فيجزم و لا تبالي به، فاحتمال الجزم للخطأ لا محيص عنه . و سيأتي اعترافهم بذلك .
فإن قيل : فماذا يقول السلفيون ؟
قلت : قد مر في الكلام على الحسيات ما فيه الكفاية و يعلم منه الجواب عنهم في شأن البديهيات و يأتي إن شاء الله تعالى لذلك مزيد .
و أما العاديات فهم يعترفون بجواز خرق العادة ، و إنما يحتجون بها في مواطن :
الأول : حيث تكون من المأخذ السلفي الأول ، بأن يعلم أن من شأنها أن تحمل الأميين على اعتقاد شيء في الدين ، و لم يأتي الشرع بما يخالفها ، ووجه الاحتجاج هنا هو تقرير الشرع ، مع القطع بأنها لو كانت مختلفة لكشف الشرع عن حالها .
الثاني : حيث تكون من المأخذ السلفي الثاني كأن يتواتر أثر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الدين ، ووجه الاحتجاج هنا أن الخرق إنما يكون بفعل الله عز و جل ، و من الممتنع أن يقع الخرق هنا بأن يتواتر ما هو كذب على النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الدين ، فإن هذا تضليل يتنزه الله عز و جل عن مثله .
فإن قيل : فقد روي أنه يظهر على يد الدجال بعض الخوارق .(1/56)
قلت : قد كشف الشرع حالها بالدلالات القاطعة من المأخذين السلفيين على كذب الدجال ، و لم يكتف بذلك بل نص النبي صلى الله عليه و آله و سلم على خروج الدجال و كذبه و ظهور ما يظهر على يده ، و أن ذلك ابتلاء محض .
الثالث : حيث لو رفض خرقها لكان حجة أخرى تقوم مقام العادة ، كما تقول أن من الحجة على إعجاز القرآن أن العرب لم يأتوا بسورة من مثله مع تحديه لهم و توفر الدواعي أن يفعلوا لو أمكنهم . ففي هذا القول إن فرض الخرق بأن يقال : لعلهم كانوا قادرين و لكن صرفهم الله عز و جل ، فهذا الصرف حجة أخرى على الأعجاز .
الرابع : حيث يكون مع العادة حجج أخرى لو فرض أن بعضها كالعادة لا يفيد إلا الظن لم يضر ذلك لأن القطع حاصل بالمجموع .
الخامس : حيث يكفي الظن . و الله الموفق .
الأمر الثالث : أن للأمزجة و العادات تأثيراً في الاعتقادات ، فقوي القلب يستحسن الإيلام ، و ضعيف القلب يستقبحه ، و من مارس مذهباً من المذاهب برهة من الزمان و نشأ عليه فإنه يجزم بصحته و بطلان ما يخالفه … )) .
قال العضد : (( و الجواب انه لا يدل على كون الكل كذلك )) .
أقول : هذا حق و لكن فيه اعتراف بأن ذلك واقع في كثير ، و هذا كاف في القدح في جزم العقل في الجملة ، لأن إذا ثبت أن جزمه قد يكون خطا لسبب لم يؤمن أن يكون خطأ في موضع آخر لذلك السبب أو لسبب آخر .
نعم ، قد تتضح القضية جداً فلا يخشى فيها ذلك ، كقولنا : الثلاثة اقل من الستة ، سو القضايا التي يختص بها المتعمقون ليست من هذا القبيل و لا قريباً منه ، و لا سيما قضاياهم التي يناقضون بها المأخذين السلفيين ، و كفى بمناقضتها لها حجة على اختلالها . فأما قضايا السلفيين فما لم يكن منها من ذاك القبيل فهو قريب منه ، و قد أمن اختلالها بإقرار الشرع لها ، فأما ما لم يقتصر الشرع على اقرارها ، بل جاء على وفقها ، فتلك الغاية .(1/57)
الأمر الرابع : مزاولة العلوم العقلية دلت على أنه يتعارض دليلان قاطعان بحسب الظاهر بحيث نعجز عن القدح فيهما ، و ما هو إلا للجزم بمقدماتهما مع أن أحدهما خطأ قطعاً .
أجاب العضد بأن البديهي ما يجزم فيه بتصور الطرفين فيتوقف على تجريدهما فلعل فيه خللاً .
أقول : هذا اعتراف بأن الجزم قد يكون خطأ ، فقد يكون هناك خلل يخفى على الناظر الماهر فيجزم بأنه لا خلل ، غاية الأمر أنه عند تعارض الدليلين العقليين يتنبه فيعرف أن هناك خللاً فكيف بما يلوح للمتعمق من الدلائل العقلية بدون أن يلوح له ما يعارضه ؟ فأما النصوص الشرعية فأنهم لا يعتدون بها ، على أن المتعمقين ربما يرجحون الدليل الخفي المعقد الذي هو مظنة الخلل على البديهي الواضح – ميلاً مع الهوى و رعباً ممن يرونه أمهر في التعمق منهم ، و لأنه يصعب عليهم معرفة الخلل في الخفي المعقد ، و يسهل عليهم أن يدفعوا البديهي الواضح ، بأن يقولوا : هذه قضية وهمية .
الأمر الخامس : أنا نجزم بصحة دليل آونة ، و بما يلزمه من النتيجة ، ثم يظهر خطاؤه ، فجاز مثله في الكل .
أجاب الشارح بقوله : (( لا نسلم أن مقدمات الدليل الذي نجزم بصحته آونة بديهية ، و لئن سلم ذلك فالبديهي قد يتطرق إليه الاشتباه لخلل في تجريد طرفيه و تعقلهما على الوجه الذي هو مناط الحكم بينهما ، ذلك لا يعم البديهيات )) .
أقول : هذا اعتراف بأن الناظر الماهر قد يجزم بأن المقدمة بديهية ، و الواقع أنها غير بديهية و قد يجزم بعد تدبره و إنعام نظره أنه لا خلل و تمام الكلام كما مر في (( الأمر الرابع )) .(1/58)
الأمر السادس : أن في كل مذهب قضايا يدعي صاحبه فيها البداهة ، و مخالفوه ينكرونها ، و هو يوجب الاشتباه و رفع الأمان ، فلنعد عدة منها … )) فذكروا إحدى عشرة قضية ثم قالوا : (( و قد أجيب عنها بأن الجازم بها بديهة الوهم ، و هي كاذبة ، إذ تحكم بما ينتج نقائضها ، قلنا : فيتوقف الجزم بها على هذا الدليل فيدور ، و أيضاً فلا يحصل الجزم بما لا يتيقن أنه لا ينتج نقيضه و لا يتيقن ، بل غايته عدم الوجدان )) .
ولم يجب العضد عن هذا الأمر السادس و لا السيد ، غير أنه قال في الجواب عن تلك الأمور كلها : (( و أجيب عن ذلك بأنا لا نشتغل بالجواب عنها ، لأن الأوليات مستغنية عن أن يُذَبّ عنها ، و ليس يتطرق إلينا شك فيها بتلك الشبه التي نعلم فاسدة قطعاً و إن لم يتيقن عندنا وجه فسادها )) .(1/59)
أقول لا ريب أن القدح في البديهيات بما يشمل الأوليات لا سبيل إليه لأن هناك قضايا واضحة متفق عليها ، و هؤلاء القادحون لم يدعوا ما يناقضها ، و إنما حاولوا التشكيك فيها بما لا يعتد به ، و ذل كقولنا : (( الثلاثة أقل من الستة )) و (( الشئ أعظم من جزئه )) و (( الشئ لا يسكون موجوداً معدوماً )) و (( و الجسم الواحد لا يكون في مكانين في و قت واحد – بأن يكون كله في أحدهما و كله في الآخر )) لكن الوثوق ببعض البديهيات لا يستلزم الوثوق بجميعها ، و قد اعترف بذلك المحتجون بها فبقي الكلام معهم في هذا ، فيقال له تلك القضايا المعددة في الأمر السادس و هي إحدى عشرة – و ما يشابهها اعترفتم جميعاً بأنها بديهية ، ثم اختلفتم في الأخذ بها ، كل فرقة منكم تزعم أن ما أخذت به من تلك القضايا بديهي عقلي يقيني ، و أن ماردته منها بديهي و همي ، فإن كان مرد ذلك إلى التحكم ، مَنْ هَوِيَ قضية قال : إنها بديهية عقلية تفيد اليقين ، و من خالفت هواه قال : بديهية وهمية ، فهذا ليس من العلم في شئ و إن كان المرد إلى الجزم ، فمن أحس بأنه جازم بالقضية قال : عقلية يقينية ، و من أحس بأنه مرتاب فيها قال : وهمية ، فهذا قريب من سابقه ، إذ قد ثبت أن الجزم يخطئ و يغلط ، و قد تقدم أدلة على ذلك ، و كفى بالاختلاف في هذه القضايا دليلاً ، و إن كان المرد إلى قوة المعارض ، فمن لم يقوَ عنده معارض القضية سماها عقلية و قطع بها : و من قوي عنده المعارض سماها وهمية فردها ، فهذه كسابقيه ، إذ غايته الجزم بالقضية أو الجزم بمعارضها ، و قد ثبت أن الجزم يخطئ و يغلط .
وأن هناك معيار صحيح فما هو ؟ قالوا : المعيار أن تعرض القضية البديهية المنظور فيها على البديهيات الأخرى ، فإن وجدت فيها ما ينتج نقيض هذه القضية علمنا هذه وهمية .(1/60)
قلت : هبوا أني تمسكت بقضية يقينية ، فخالفني مخالف و ذكر بديهية أخرى و زعم أنها عقلية يقينية ، وأنها تنتج نقيض قضيتي ، فقد لا أسلم أ، القضية التي ذكرها عقلية يقينية ، بل أحتج على أنها وهمية بإنتاجها نقيض قضيتي ، و ما أنتج نقيض الحق فهو باطل، و إن سلمت أن القضية عقلية فقد لا تكون من القضايا المتفق عليها بين العقلاء ، و إذا لم تكن منه لم يؤمن أن تكن في نفس الأمر وهمية و تابعت صحبي على الخطأ ، و إن كانت من القضايا المتفق عليها بين العقلاء أو بيني و بين صاحبي فقد لا أسلم صحة استنتاجه ، إذ غايته أن تكون صحة بديهية فلعل بداهته وهمية ، بدليل مناقضته لقضيتي و ما ناقض الحق فهو باطل ، فالمعيار الذي ذكرتم لا يفيد إلا حيث تكون القضية المعتبر بها من القضايا المتفق عليها بين العقلاء ، و تكون صحة إنتاجها كذلك ، و هذه فائدة ضئيلة لا تتأتى في شئ من القضايا التي اختلفتم فيها .
فإن قيل فماذا يقول السلفيون ؟
قلت: يقولون : القضية المحتاج إلى التثبت فيها (1) إما غير ماسة بالدين البتة ، و إما ماسة به .
فالأولى : لا شأن لهم بها بل يدعونها لعلماء الطبيعة .
و أما الثانية : فإما أن لا تكون من المأخذ السلفي الأول و إما أن تكون منه .
فالأولى : لا يعتدون بها إلا أن بعضه قد يتعرض لها وافقت المأخذين السلفيين .
__________
(1) اختراس من القضايا الواضحة و منها أصل الشرع إلا به . المؤلف(1/61)
وأما الثاني فيحكمون فيها الشرع ، فإن وجدوه جاء بما يخالفها علوا أنها باطلة ، و إن وجدوه أقر الناس على اعتقادهم الديني بحسبها علموا أنها حق ، و لأن الشرع لا يقر على مثل هذا إلا و هو حق ، فأما إذا زاد الشرع فجاء على وفقها فتلك الغاية .فهذا المعيار هو الذي ارتضاه الله عز و جل لعباده و كره لهم ما عداه ، فهو الصراط المستقيم و سبيل الله و سبيل المؤمنين ، و له مزايا لا تحصى ، و منها أنه أتم و أعم من معيار المتعمقين الضئيل الفائدة ، و منها أنه لا يؤدي إلى ما وقعوا فيه من الخروج عن الشرع والعقل بنسبتهم الكذب إلى الله تعالى ورسله كما سيأتي شرحه ، ومنها انه لا يؤدي إلى الاختلاف في الدين وتفريقه ، بدليل أن الصحابة والتابعين عليهم لهم بإحسان لم يختلفوا ، فان أدى إلى اختلاف ما فلا يكاد يكون ألا من قبيل الاختلاف في فروع الفقه ، لا يلزم المخطئ كفر ولا ضلال ، على انه إن خيف اختلاف في الدين كان الواجب على الأكثر في زمن غلب فيه الخير عدم التدقيق ، وعلى الأقل كتمان قولهم كما جرى عليه السلف في مسئله القدر،ومنها أن المخطئ إذا لم يقصر تقصيرا بينا يرجى له العفو، لأنه لم ينشأ خطأوه عن اتباع غير سبيل المؤمنين ، والتماس الهدي من غير السراط المستقيم ، ومنها تيسر المعرفة بدون الخروج عن الصراط المستقيم ولا السبل المفرقة عن سبيل الله عز وجل ، إذ يكفي للمعرفة العلم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله بدون حاجة إلى التعمق في المنطق والفلسفة .
ومنها أن العامة لا يحتاجون معه إلى التقليد المريب الموقع للمسلمين في الاختلاف و التفرق و التنابذ و التنابز و الفتن ، لأن القضية أما أن يتفق عليها علماء الدين فتكون إجماعاً ، و إما أن لا يظهر فيها مخالفة إلا ممن يشذ فيكون إتباع الجمهور المعلوم انهم إنما يتبعون كتاب الله تعالى و سنة رسوله أخذاً بالراجح الواضح .(1/62)
وهذا إنما يحتاج إليه في فروع العقائد التي لا يضر عدم استيقانها ، هذا مه أنه يسهل على العلماء أن يذكروا للعامة الحجة النقلية فيفهمها العامة فيكون متبعين للشرع ، و بذلك تطمئن قلوبهم ، و يزيد إيمانهم ، و يعظم ثوابهم . و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
وأما القادحون في الجميع فهم السوفسطائية ، و هم ثلاثة فرق ، أمثلها و أفضلها كما في ( المواقف ) و ( شرحها ) اللا أدرية يشكون في كل شيء .
الثانية : العنادية يزعمون أن لا موجود أصلاً .
الثالثة : العندية يقولون : حقائق الأشياء تابعة للاعتقاد ، فمذهب كل طائفة حق بالنظر إليهم ، و ليس في نفس الأمر شيء بحق .
قال السيد في ( شرح المواقف ) : (( إنما نشأ هذا من الإشكالات المتعارضة …. و بالجملة ما من قضية بديهية أو نظرية إلا و لها معارضة مثلها في القوة تقاومها )) .
أقول : فيعلم بهذا أن طريق المتعمقين مشتبه موقعه في كثرة الخطأ و الغلط و الاختلاف و الارتياب و الجنون ، و حق لمن رغب عن سبيل الله عز و جل و ابتغى الهدى في غيرها أن يقع في مثل هذا التيه .
... وإما القادحون في إفادة النظر العلم مطلقاً فهم السمنية ، و تمسكوا بوجوه سأحاول حكاية بعضها ، و ما أجيب به عنها بالمعنى تقريباً للفهم .
الوجه الأول : إفادة النظر الصحيح للعلم لا تعلم إذ لو علمت فإما بضرورة أو نظر و كلاهما باطل ، أما الضرورة فلاختلاف الناس في ذلك و للجزم بأنه دون قولنا (( الواحد نصف الاثنين )) في القوة و ليس ذلك إلا لاحتمال النقيض و لو على أبعد وجه ، و أما النظر فلإستلزامه إثبات الشيء بنفسه .(1/63)
أجاب بعضهم باختيار الضرورة ، و أن الضروري قد لا يكون تصور طرفيه جلياً و لا تجريدها سهلاً ، و لا يكثر وروده على الذهن فيؤلف و يستأنس به ، فمثل هذا قد يخالف فيه قليل من الناس ، و يدرك أنه دون قولنا (( الواحد نصف الاثنين )) و ذلك لا يخرجه عن كونه ضرورياً . و اختار بعضهم النظر ، و أجابوا بما فيه طول و تعقيد ، فراجعه في ( المواقف ) و ( شرحها ) ، لما قدمناه في أول الكلام مع منكري البديهيات .
الأمر الثاني (1): الاعتقاد الجازم عقب النظر لا يعلم أنه علم لأنه لا يعلم إلا بضرورة أو نظر و كلاهما باطل ، أما الضرورة فلأنه (( قد يظهر للناظر بعد مدة بطلان ما أعتقده و أنه لم يكن علماً و حقاً ، و كذلك نقل المذاهب و دلائلها لما مر من أنه قد يظهر صحة ما أعتقد بطلانه و بالعكس )) كذا في ( المواقف ) و ( شرحها ) .
وأما النظر فلأحتياجة إلى نظر آخر و يتسلسل .
أجاب العضد بقوله : ( الذي يظهر خطاؤه لا يكون نظراً صحيحاً و النزاع إنما وقع فيه )) .
الأمر الثالث : النظر لا يفيد العلم إلا إذا علم عدم المعارض إذا معه يحصل التوقف (( و عدمه ليس ضرورياً إلا لم و إلا لم يقع المعارض ، أي لم ينكشف وجود بعد النظر ، و كثيراً ما ينكشف فهو نظري ، و يحتاج إلى نظر آخر و هو أيضاً محتمل لقيام المعارض و يتسلل )) ، كذا في ( المواقف ) و ( شرحها ) .
أجاب العضد بقوله : (( النظر صحيح في المقدمات القطعية كما يفيد العلم بحقية النتيجة يفيد العلم بعدم المعارض في نفش الأمر ضروري )) .
__________
(1) كذا الأصل . وقد سبق انه قال (( الوجه الأول )) فالنظر يقتضي أن يقول هنا (( الوجه الثاني )) و كذا في بقية الأمور الباقية . ن(1/64)
الأمر الرابع : الاعتقاد الجازم قد يكون علماً لكونه مطابقاً مستنداً لموجب ، و قد يكون جهلاً لكونه غير مطابق مستنداً إلى شبهة أو تقليد ، فلا يمكن التمييز بينهما ، فإذاً ماذا يؤمننا أن يكون الحاصل عقيب النظر جهلاً ؟ )) . لخصت هذه العبارة من ( المواقف ) و ( شرحها ) .
قال العضد : (( هذا إنما يلزم المعتزلة القائلين بمماثلة الجهل للعلم )) .
قال الشارح : (( أما نحن ( أي الأشعرية ) فنقول : إذا حصل للناطر العلم بالمقدمات الصادقة القطعية و بترتيبها المفضي إلى المطلوب فإنه يعلم بالبديهة أن اللازم عنه علم لا جهل )) .
أقول : إذا كان القادحون يسلمون إمكان علم الناظر بأن نظره صحيح علماً يقينياً باتاً فلا ريب في سقوط شبهاتهم هذه و السبع الباقية المذكورة قي ( المواقف ) ، و إن كانوا يمنعون ذلك و يقولون : غايته أن يجزم ، و هذا الجزم لا يوثق به ، فكلامهم قوي بالنسبة إلى النظر المتعمق فيه في ونحوها ، و ليس فيما أجيب به عن ذلك ما يجدي ، إذا غايته أنه إذا علمت صحة النظر علماً يقينياً باتاً حصل العلم بأن ذلك علم ، و حصل العلم بعدم المعارض ، و حصل الأمن من أن يكون الاعتقاد جهلاً ، و هذا إنما يفيد إذا ثبت إمكان العلم اليقيني البات بصحة النظر ، فيبقى البحث في هذا الإمكان ، و لا ريب أنه ليس عند الناظر في النظر المتعمق فيه الإلهيات و نحوها إلا جزمه بالصحة أن صدق في دعوى الجزم، و هذا الجزم قد ثبت بالتجارب الكثيرة و الدلائل الواضحة أن مثله كثيراً ما يكون خطأ و غلطا ، و اعترف المتعمقون بذلك كما مر مراراً ، و إذا احتمل و لو على غاية البعد أن يكون الجزم خطأ لم يكن الجزم بصحة النظر علماً بصحته ، و لا الجزم بإفادته العلم علماً بذلك ، و لا الجزم بأن ما أفاده علم علماً بذلك ، و لا الجزم بعد المعارض علماً بعدمه ، و لا يحصل الأمن من أن يكون كل ذلك جهلاً .(1/65)
فإن قيل : إننا نقطع مع هذه الشبهات كلها بأن من النظار ما هو صحيح .
قلت : إن كان المراد الصحة في الجملة أي أن يمتنع أن تكون النظار كلها فاسدة ، فهذا لا يجدي في الأنظار الجزئية واحداً واحداً ، و إنما يفيد في كل منها الاحتمال ، فكل نظر يجزم بصحته فإنه يحتمل أن يكون فاسداً فينفس الأمر ، و لا ينافي ذلك امتناع أن يعم الفساد جميع الأنظار . و إن كان المراد القطع في بعض الأنظار بعينها فهذا لا يسلم بالنسبة إلى النظر المتعمق فيه في الإلهيات و نحوها ، و إنما غاية ما يحصل لكم في ذلك الجزم و قد علمتم ما فيه ، و إنما يسلم في القضايا السهلة الواضحة التي تؤول إلى البديهيات المتفق عليها عن قرب ، نعم قد يحصل القطع بالأمر لدليل آخر غير النظر الدقيق، كاجتماع أدلة يحصل اليقين بمجموعها ، و كأن تكون القضية بديهية قوية و هي في الدين و يقرها الشرع ، و كأن يصرح بها الشرع تصريحاً لا يمكن تأوبله إلا بجملة على الكذب أو التلبيس – و سيأتي شرح هذا إن شاء الله تعالى – لكن اليقين بهذه القضايا لا يستلزم صحة نظر دقيق يوافقها بنتيجته إذ قدح تصح النتيجة مع الفساد النظر كما لو أشرت إلى جسم أبيض و قلت : هذا جسم و كل جسم أبيض ، فإن النتيجة (( هذا أبيض)) و هي صادقة ، و النظر فاسد كما لا يخفى .
وأما القادحون في النظر في الإلهيات فقالوا : إن النظر إنما قد يفيد العلم في الهندسيات و الحسأبيات ، دون الإلهيات ، فإنها بعيدة عن الأذهان جداً ، و الغية القصوى فيها الظن و الأخذ بالأخرى و الأخلق ، و أحتجوا بوجهين :
الأول الحقائق الإلهية من ذاته و صفاته سلا تتصور ، و التصديق بها فرع التصور .(1/66)
الثاني ، أقرب الأشياء إلى الإنسان هويته التي يشير إليها بقوله : (( أنا )) و إنها غير معلومة – لا من حيث وجودها فإنه لا خلاف فيه –بل من حيث تصورها بكنهها ، و من حيث التصديق بأحوالها من لونها عرضاً أو جوهراً ، مجرداً أو جسمانياً ، منقسماً أو غير منقسم ، و قد كثر الخلاف فيها كثرة لا يمكن معها الجزم بشيء من الأقوال المختلفة، و إذا كان اقرب الأشياء إلى الإنسان هذا حاله فما الظن بأبعدها ؟ ذكر هذا كله في (المواقف) ثم ذكر أنه أجيب عن الوجه الأول بأنه يكفي التصور بعارض يكون هو مناط الحكم ، و عن الثاني بقوله : (( لا نسلم أن هوية الإنسان غير معلومة له ، و كثرة الخلاف فيها لا تدل إلا على العسر )) قال السيد في ( شرحه ) : (( فلم يثبت بما ذكرتم أن هناك نظراً صحيحاً لا يفيد علماً ، بل ثبت أن تميز النظر الصحيح عن غيره [ في شأن الهوية ] مشكل جداً فيكون ذلك في الإلهيات أشكل ، و لا نزاع فيه )).
أقول : الذي يظهر من كلام القادحين و ما استدلوا به أنهم لم يزعموا أن النظر الصحيح في الإلهيات لا يترتب عليه نتيجة صادقة ، و لا انه لا يمكن فيها نظر صحيح في نفس الأمر ، و انما زعموا انه لا يمتاز فيها النظر الصحيح من غيره لشدة البعض و الغموض و الاشتباه و الأشكال ، فلذلك لا تعلم صحة النظر علماً يوثق به ، فلا تعلم صحة النتيجة ، فلا يفيد علماً ، و على هذا فلهم ان يقولوا ، التصور بعارض يكون هو مناط الحكم محل غموض و اشتباه شديد لاحتمال مخالفة الإلهيات لغيرها في العوارض و ما يترتب عليها ، و العسر و شدة إشكال تمييز النظر الصحيح من غيره في شأن الهوية و كونه في الإلهيات أشد و أشد كاف في القدح ، إذ غاية ما قد يحصل للناظر أن يجزم ، و قد تقدم مراراً أن الجزم كثيراً ما يكون خطأ و غلطاً . إذا كان قد يقع ذلك في الحسيات و نحوها ، فما الظن بما هو من البعد و الإشكال بالدرجة القصوى ؟(1/67)
هذا و يرد على القادحين أن من أحوال الإلهيات ما هو على خلاف ما ذكروا كالعلم بوجود الخالق عز و جل ، و بأنه حي عليم قدير حكيم ، لكن لهم أن يقولوا ، أما ما كان من هذا القبيل فهو من الضروريات كعلم الإنسان بوجود هويته و بعض صفاتها أو أوضح من ذلك ، و إنما دخل التشكل من جهة النظر المتعمق فيه ، و تجاهل وهنه ، حتى جر أصحابه إلى إنكار الضروريات كما وقع للسوفسطائيين و غيرهم .
أقول : فعلى هذا يختص القدح بالنظر المتعمق فيه . فأما السلفيون فإنما يعتمدون المأخذ السلفي الأول لاثبات جلائل الأمور التي أعده الخالق عز وجل لإدراكها ، و بذلك يثبت الشرع يقيناً فيسلمون أنفسهم لخبر من يمتنع عليه الجهل و الخطأ و الكذب و التلبيس و التقصير في البيان .(1/68)
فقد اتضح بحمد الله عز وجل أن النظر العقلي المتعمق فيه كثيراً ما يوقع في الغلط ، إما بأن يبنى على إحساس غلط لم يتنبه لغلطه ، و إما بأن يبنى على قضية وهمية يزعمها بديهية عقلية ، و إما بأن يبنى على شبهة ضعيفة فيرد بها البديهية العقلية زاعماً أنها وهمية ، و إما بأن يبنى على لزوم باطل يراه حقاً ، و قد تبين بالفلسفة الحديثة المبنية على الحس و التجربة و تحقيق الاختبار بالطرق و الآلات المخترعة – غلط كثير من نظريات الفلسفة القديمة في الطبيعيات ، و كثير من تلك النظريات كانت عند القوم قطعية يبنون عليها ما لا يحصى من المقالات حتى في الإلهيات ، فما ظنك بغلطهم في الإلهيات ؟ و هم يعتمدون فيها على قياس الغائب على الشاهد ، فقد يقع الغلط في اعتقاد مشاركة الغائب للشاهد في بعض الأمور ، أو في اعتقاد مخالفته له ، أو في اعتقاد اللزوم في الشاهد أبنائه على استقرار ناقص أو غيره من الأدلة التي لا يؤمن الغلط فيها ، أو في اعتقاد أنه غير محقق إذا لزم في الشاهد لزم في الغائب ، أو في تركيب القياس ، أو غير ذلك مما يشتبه و يلتبس ، كما يتضح لمن طالع كتب الكلام و الفلسفة المطولة ، و لاسيما إذا طالع كتب الفريقين المختلفين كالأشاعرة و المعتزلة ، فالنظر العقلي المتعمق فيه مع أنه لا حاجة إليه في معرفة الحق كما تقدم فهو مظنة أن يشكك في الحقائق و يوقع في اللبس و الاشتباه و الضلال و الحيرة ، و تجد في كلام الغزالي و ةغيره ما يصرح بأن النظر العقلي المتعمق فيه لا يكاد ينتهي إلى يقين ، و إنما هي شبهات تتقارع و قياسات تتنازع ، فأما أن ينتهي الناظر إلى الحيرة ، و أما أن يعجز فيرضى بما وقف عنده و لاسيما إذا كان موافقاً لهواه ، و أما أن لا يزال يتطوح بين تلك المتناقضات حتى يفاجئه الموت .(1/69)
و قد قال الغزالي في ( المستصفى ) 1 / 43 : (( أما اليقين فيشرحه أن النفس إذا أذعنت للتصديق بقضية من القضايا ، و سكنت إليها فها ثلاثة أحوال :
أحدها : أن تتيقن و تقطع به إليه قطع ثان و هو أن تقطع بأن قطعها به صحيح و تتيقن بأن يقينها فيه لا يمكن أن يكون به سهو و لا غلط و لا التباس فلا تجوز الغلط في يقينها الأول و لا في يقينها الثاني ، و يكون صحة يقينها الثاني كصحة يقينها الأول ، بل تكون مطمئنة آمنة من الخطأ ، بل حيث لو حكي لها عن نبي من الأنبياء أنه أقام معجزة و ادعى ما يناقضها فلا تتوقف في تكذيب الناقل بل تقطع بأن القائل ليس بنبي و أن ما ظن أنه معجزة فهي مخرقة فلا يؤثر هذا في تشكيكها بل تضحك من قائله و ناقله ، و إن الخطر ببالها إمكان أن يكون الله قد أطلع على سر به انكشف له نقيض اعتقادها فليس اعتقادها يقيناً ، مثاله قولنا : الثلاثة أقل من الستة ، و شخص واحد لا يكون في مكانين، و الشخص الواحد قديماً حديثاً ، موجوداً معدوماً ، ساكنا متحركاً – في حال واحدة .
الحال الثانية : أن بها تصديقاً جزماً و لا تشعر بنقيضها البتة و لو أشعرت بنقيضها تعسر إذعانها للإصغاء إليه ، و لكنها لو ثبتت و أصغت و حكي لها نقيض معتقدها عمن هو أعلى الناس عندها كنبي أو صديق [ أو أجمع الفلاسفة و كبار المتكلمين أو المتصوفة ] أورث ذلك فيها توقفاً ، و لنسم هذا الجنس اعتقاداً جزماً و هو أثر اعتقادات عوام المسلمين و اليهود و النصارى في معتقداتهم و أديانهم ، بل اعتقاد أكثر المتكلمين في نصرة مذاهبهم ، فإنهم قبلوا المذهب و الدليل بحسن الظن في الصبا فوقع عليه نشؤهم فإن المستقل بالنظر الذي يستوي مليه في نظره إلى الكفر و الإسلام عزيز .
الحال الثالثة : أن يكون لها سكون إلى الشيء و التصديق به و هي تشعر بنقيضه أو لا تشعر و لكن لو أشعرت لم ينفر طبعها عن قبوله و هذا يسمى ظناً و له درجات …. )).(1/70)
أقول : إذا قرن هذا بما تقدم في حال النظر المتعمق في الإلهيات تبين بياناً واضحاً أن غالب أقيسته أو عامتها خصوصاً ما يخالف المأخذين السلفيين لا تفيد اليقين بل تقصر عند النظار العارفين عن إفادة الاعتقاد الجازم .
فإن قيل: فكذلك أو قريب منه أدلة المأخذين السلفيين لأنها تقبل التشكيك و لو بصعوبة .
قلت : أما جلائل الأدلة من المأخذ السلفي الأول و هي التي يتوقف عليها ثبوت أصل الشرع فإنها تقبل التشكيك عند من ابتلي بالنظر المتعمق فيه . و هذا لا يضرنا ، فإن من هؤلاء من شك في البديهيات كلها ، و منهم من يشك في كل شئ ، و من يجحد كل فيقول ليس في نفس الأمر شئ بحق كما تقدم ، على أننا إن سلمنا قبول التشكيك مطلقاً، فإننا نقول : إن ذلك إنما يكون في حق من لم يقبل الشرع الحق و يمتثل أوامره .و وجوب قبول الشرع يكفي فيه العلم بأنه أولى بالحق و الصدق و النجاة و السعادة ، و هذا يحصل قطعاً لكل مكلف أصغى للحجة ، فإذا قبل الإنسان الشرع و امتثل أوامره مع صدق رغبة في الحق هيأ الله تعالى له اليقين بما شاء إن لم يكن بدليل واحد فبمجموع أدلة كثيرة، و فوق ذلك العناية ، قال تعالى : [ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ] المجادلة : 22 .
وقال تعالى : [ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ] الحجرات : 14 .
كلمة [ لماَّ] تؤذن بأن المنفي بها هو بصدد أن يثبت قريباً فهذا و عد من الله عز وجل بأن يدخل الإيمان في قلوبهم جزاء لقبولهم الإسلام .
وقوله : [ و إِن تطيعوا … ] قال بعض أهل العلم : المعنى إنكم إن أطعتم ، رزقكم الله تعالى الإيمان فتستحقون ثواب الأعمال .(1/71)
وقال عز و جل : [ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ] محمد : 17 .
وقال تعالى : [ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ . وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِل ] الزمر: 36 – 37 .و قد ذكر الغزالي نفسه أنه كان في أول أمره يشك في كل شئ حتى البديهيات الضرورية الأولية قال : (( حتى شفى الله تعالى عني ذاك المرض و الإعلال ، و عادت النفس إبلا الصحة و الاعتدال ، و رجعت الضروريات العقلية موثقاً بها على أمن و يقين ، و لم يكن ذلك بنظم دليل و ترتيب كلام ، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدور ، و ذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف )) نقله عن شارح ( العقيدة الأصفهانية )
ص 94 – 95 ، و نقل عنه ص 98 : (( و كان قد حصل معي من العلوم التي مارستها و المسالك التي سلكتها في تفتيشي عن صنفي العلوم الشرعية و العقلية إيمان يقيني بالله تعالى ، و بالنبوة و اليوم الآخر ، و هذه الأصول الثلاثة كانت رسخت في نفسي بلا دليل محرر ، بل أسباب و قرائن و تجارب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها )) .
أقول : و ذلك النور الذي يقذفه الله تعالى في الصدور ليس لكل أحد فإنه لم يحصل لمنكري البديهيات ، و قد ذكر الغزالي أنه بقي نحو شهرين على الشك ، بل قد يقال إنه في الأصل بالنسبة إلى الضروريات عام و لكن من خاض في النظر المتعمق فيه و حاول اكتساب اليقين من جهة النظر احتجب اليقين من جهة النظر احتجب عنه ذلك النور ، فإن استمر على ذلك استمر على الشك كالسوفسطائية ، و إن رجع إلى القناعة بالفطرة عاد له ذلك النور كما وقع للغزالي ، و كذلك ليس قذف النور محصوراً في الضروريات العقلية التي يعنيها الغزالي ، بل يتناول جميع القضايا العقلية التي لا يثبت الشرع بدونها ، و لكن حصوله فيها كلها موقوف على صدق الرغبة في الحق و الخضوع لما ظهر منه ، و إيثاره على كل هوى .(1/72)
و الأسباب و القرائن و التجارب التي تحصل الإيمان اليقيني بالله تعالى و بالنبوة و اليوم الآخر ليست مقصورة على النوع الذي ذكر الغزالي أنه اتفق له بممارسته للعلوم ، بل ييسر الله تعالى لمن شاء ما هو أقرب منها و أقوى بالنظر العادي في آيات الآفاق و الأنفس و تدبر الكتاب و السنة . و إنما الشأن في التعرض لفضل الله عز و جل ، فمن اكتفى أولاً برجحان الشرع فآثره على هواه و أسلم له نفسه ة خضع لما جاء به و وقف عند حدوده فقد تعرض لنيل ذلك النور ، و ذلك اليقين على وجه هو أصفى مما قد حصل بممارسته العلوم و أضوأ و أبهى و أهنأ ، لأن ممارسته المعقولات في شأن الآلهيات تعترض فيها الشبهات و التشكيكات ، بل الأمر أشد من ذلك ، فإن الخوض في النظر المتعمق فيه طلباً للهدى من جهته عدولٌ عن الصراط المستقيم ، و خروج عن سبيل المؤمنين ، فهو تعرض للحرمان و الخذلان و الإضلال ، لكن قد يعذر الله تعالى بعض عباده ، فلا يحرمه فضله إلا أن الشبهات تنغصه عليه بل لا تزال تغالبه و قد تكون العاقبة لها و العياذ بالله .
هذا و من حصل له اليقين بصحة الشرع جملة فقد حصل له اليقين بصدق جميع ما جاء به الشرع ، و أنه لا يتطرق إليه إختلال البتة إذ يستحيل ههنا الجهل ، و الخطأ ، و الكذب ، و التلبيس ، و التقصير في البيان ، و هذا هو حال المأخذين السلفيين .(1/73)
غاية الأمر أنه قد تعرض لمن حصل ذلك شبهة يتعسر عليه حلها ، فإذا رجع إلى إيمانه و تصديقه لربه لم يبال بتلك الشبهة . و قد تقدم عن النظار فيما أجابوا به عن الأمور التي أوردها القادحون في البديهيات قولهم : (( لا نشتغل بالجواب عنها ، لأن الأوليات مستغنية عن أن يذب عنها ، و ليس يتطرق إلينا شك فيها بتلك الشبهة التي نعلم أنها فاسدة قطعاً ، و إن لم يتيقن عندنا وجه فسادها )) . فهكذا يقول السلفي في دفع الشبهات المناقضة ، لما أيقن به من صدق الشرع . و الخائب الخاسر من نسي إيمانه و يقينه ، و اغتر بالشبهات فهلك .
قال الله تعالى : [)وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ . سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ . مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ] .
الأعراف :175- 178.
أما قول الغزالي : (( فإن المستقل بالنظر الذي يستوي ميله في نظره إلى الكفر و الإسلام عزيز )) . فقد ينكر هذا عليه و يقال : كيف يمدح من يستوي ميله في نظره إلى الباطل و الحق ؟ ! و يجاب عن هذا بأن مقصوده أن أكثر المتكلمين يميلون إلى الإسلام بدون استيقان منهم أنه الحق ، بل عليه فألفوه و اعتادوه ، و لذلك ، يرى من نشأ على اليهودية أو النصرانية أو غيرهما يميلون إلى ما نشأوا عليه مع أنه باطل في نفس الأمر .(1/74)
لكني أقول : أما أئمة السنة الذين وفوا بشرط الله عز و جل من التسليم و الخضوع و الطاعة له ، فلا شأن لهم في هذا لأنهم قد تعرضوا لأن يكتب الله في قلوبهم الإيمان ، و يؤيدهم بروح منه ، ويزيدهم هدى ، و يزيدهم هدى ، و يرزقهم النور اليقين ، فقنعوا بالمأخذين السلفيين ، و اهتدوا بها عن بصيرة و يقين ، و من اختار ما علم أنه الحق ، و ثبت عليه ، و أعرض من الشبهات ، و لا يقال إنه غير مستقل إنه غير مستقل بالنظر ، كما إن النظار المستقلين قطعوا بالبديهيات ، و أجابوا عن الأمور التي أوردها القادحون بما تقدم . و كما أن الغزالي و هو يرى أنه مستقل بالنظر قال : إنه أيقن بالضروريات بدون دليل ، بل بنور قذف في صدره ، و أنه حصل له الإيمان بالله تعالى ، و بالنبوة ، و اليوم الآخر بدون دليل محرر ، بل بأسباب و قرائن و تجارب لا تحصى ، و لا ريب أنه لا يمكنه أن يشرح ما حصل له للخصم شرحاً وافياً يحصل للخصم اليقين .(1/75)
بل أقول : إن عامة المسلمين المحبين الخاضعين له ، الذين يغلب عليهم التقوى و الطاعة هم ممن تعرض لذاك النور ، و ذلك التأييد و تلك الهداية ، و كثير منهم لهم من اليقين الحقيقي الناشئ عن الفطرة و النظر العادي ، و اجتماع أمور كثيرة يفيد مجموعها اليقين مع عناية الله عز و جل و تأييده ما ليس لأكابر النظار ، (1) و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، و الله ذو الفضل العظيم . فأما المتكلمون فلا يبعد أن يكون أكثرهم كما قال الغزالي ، (2) و ذلك أنهم لأم يتعرضوا لذلك النور و التأييد و الهداية ، بل تعرضوا للحرمان و الإضلال بعدولهم عن الصراط المستقيم و سلوكهم غير سبيل المؤمنين ، فإذا حصل لأحدهم شئ من الاعتقاد حمد نفسه قبل ربه ! و قال : [ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ] أقرأ من سورة ( القصص ) : 78 ، و من سورة ( الزمر ) : 49 .
__________
(1) ثم رأيت نقلاً عن ( فيصل التفرقة ) للغزالي عبارة طويلة تراها في ( روح المعاني ) ج 8 ص 119 فيها (( لست أنكر يجوز ان يكون ذكر أدلة المتكلمين أحد أسباب الإيمان في حق بعض الناس و لكن ذلك ليس بمقصور عليه و هو نادر أيضاً … فالإيمان المستعار من الدلائل الكلامية ضعيف جداً مشرف على التزلزل بكل شبهة ، بل الإيمان الراسخ أيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع و الحاصل بعد البلوغ بقرائن لا يمكن العبارة عنها )) . المؤلف .
(2) نفس الهامش السابق(1/76)
و إذا قيل لهم صدّقوا بما جاءت به الرسل قالوا : لا نصدق فيما يتعلق بالمعقولات ، إلا بما أدركته عقولنا أو أكثر كشفنا ، و استهزءوا بمن يأخذ دينه من النصوص و سموهم الحشوية ، و الغثاء ، و الغثر ، و غير ذلك . قال الله تعالى : [ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ] المؤمن :83 . و قال تعالى : [ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ] الآية - البقرة : 85 .
و إذا قيل لهم آمنوا بالنصوص كما آمن بها السلف الصالح قالوا أولئك أعراض أميون جفاة لا يدرون ما المعقول ، قال الله تعالى : [ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ ] البقرة : 13 . و آل بهم الزيغ إلى نسبة الكذب إلى الله تعالى و رسله ، كما يجيء بالباب الأتي ، فأنا يهديهم الله تعالى ؟ قال سبحانه : [ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ]
النحل :104- 105 .
فالقوم خالفوا كثيراً من العقائد الإسلامية ، و يوشك أن يكون حالهم فيما لم يصرحوا بمخالفته على نحو ما قال الغزالي ، أي انهم لم يحافظوا على تلك البقية عن إيمان و يقين ، و لكن نشأوا على الإسلام و اعتزوا بالانتساب إليه فكرهوا أن يقطعوا التعلق به البتة ، و العلم عند الله عز و جل .(1/77)
والتحقيق عن الاستقلال بالنظر محمود ، و لكن الشأن في النظر ، فالنظر بحسب المأخذين السلفيين مع الوقوف عند الحد الذي حده الشرع ، و امتثال ما أرشد إليه و عمل به الصحابة و تابعوهم بإحسان من اتقاء الشبهات و تجنب الاختلاف في الدين و تفريطه محمود ، فالاستقلال فيه محمود ، و النظر المتعمق فيه مذموم ، لأنه لا يكاد يثمر إلا التشكيك في الحقائق ، و الاختلاف في الدين و تفريقه ، و يوشك أن يكون الحرص على الاستقلال بالنظر فيه من أمضى أسلحة الشيطان ، فأنه قد يحصل للإنسان الإيمان و اليقين بالقضايا الفطرية و الواضحة من المأخذ السلفي الأول ، و بما ذكر الغزالي من اجتماع قضايا كثيرة ظنية يحصل اليقين بمجموعها و من قذف الله عز و جل في القلب ، ثم يعرض له في النظر المتعمق فيه شبهة أو أكثر تخالف ذلك اليقين ، و ذاك الإيمان ، فيتعذر عليه حلها ، فيدعوه حب الاستقلال بالنظر إلى إتباعها و ترك ذاك اليقين ، و ذاك الإيمان متهماً نفسه لأن ثقتها ببطلان تلك الشبهة إنما هو لهواها في الإسلام ، فمثله مثل القاضي يتباعد عن هواه فيظلم أخاه كما مر في المقدمة .
بل أقول : أن الاستقلال بالنظر على الحقيقة هو ترك النظر المتعمق فيه رأساً فيما يتعلق بالإلهيات ، أو على الأقل ترك الاعتداد بما خالف المأخذين السلفيين منه كما يتضح لمن تدبر ما تقدم و ما يأتي .
وقد أبلغ الله تبارك و تعالى في إقامة الحجة على اختلال النظر المتعمق في الإلهيات بأن يسر لبعض أكابر النظار المشهورين بالاستقلال أن يرجعوا قبيل موتهم إلى تمني الحال التي عليها عامة المسلمين ، فمنهم الشيخ أبو الحسن الأشعري ، و أبوا المعالي ابن الجويني الملقب إمام الحرمين ، و تلميذه الغزالي ، و الفخر الرازي .(1/78)
أما الأشعري أولاً كان معتزلياً ، ثم فارق المعتزلة و خالفهم في مسائل و بقي على التعمق ، ثم رجع أخيراً كما يظهر من كتابه ( الإبانة ) إلى مذهب أصحاب الحديث ، و كتابه ( الإبانة ) مشهور ، و قد طبع مراراً ، و الأشعرية لا يكادون يلتفتون إليه .
وأما ابن الجويني فصح عنه انه قال في مرض موته : (( لقد قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها ، و علومه الطاهرة ، و ركبت البحر الخضم ، و غصت في الذي نهى أهل الإسلام عنها ، كل ذلك في طلب الحق و كنت أهرب في سالف الدهر من التقليد ، و الآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق ، (( عليكم بدين العجائز )) ، (1) فإن لم يدركني الحق بلطف بره فأموت على دين العجائز ، و تختم عاقبة أمري عند الرحيل على نزهة أهل الحق ، و كلمة الإخلاص : لا إله إلا الله ، فالويل لأبن الجويني )) و قال : (( أشهدوا علي أني رجعت عن كل مقالة يخالف فيها السلف ، و أني أموت على ما يموت عجائز نيسابور )) . إلى غير ذلك مما جاء عنه و تجده في ترجمته من ( النبلاء ) للذهبي ، ( طبقات الشافعية ) لابن السبكي و غيرها .
فتدبر كلام هذا الرجل الذي طبقت شهرته الأرض يتضح لك منه أمور :
الأول : حسن ثقته بصحة اعتقاد العجائز و بأنه مقتضٍ للنجاة .
الثاني : سقوط ثقته سقوط ثقته بما يخالف ذلك من قضايا النظر المتعمق فيه و جزمه بأن اعتقاد تلك القضايا مقتض لويل و الهلاك .
__________
(1) يشير ابن الجويني إلى أنه حديث ، و قد صرح الغزالي في (( الإحياء )) بنسبته إلى النبي صلى الله عليه و سلم ، و لكن الصواب أنه لا أصل له عنت النبي صلى الله عليه و سلم ، كما صرح له أئمة الحديث ، نعم في معناه حديث روي عن ابن عمر ، و لكنه موضوع ، و قد بينت ذلك في (( الأحاديث الضعيفة )) رقم ( 53 و 54 ) . و حال الجويني و الغزالي في الحديث معروفة عند أهل العلم ، و يأتي رأي المصنف فيهما قريباً . ن(1/79)
الثالث : أنه مع ذلك يرى أن حاله دون حال العجائز لأنهن بقين على الفطرة و سلمن من الشك و الارتياب ، و لزمن الصراط ، و ثبتن على السبيل س، فرجى لهن أن يكتب الله تعالى في قلوبه الإيمان ، و يؤيدهن بروح منه ، فلهذا يتمنى أن يعود إلى مثل حالهن ، و إذا كانت هذه حال العجائز ، فما عيى أن يكون حال العلماء السلفيين .
وأما الغزالي فكان يغلب عليه غريزتان :
الأولى : التوقان إلى تحصيل المعارف .
الثاني : شدة الحرص على حمل الناس على ما يراه نافعاً ، لكنه نشأ في عصر و قطر كان يسود فيها و لا سيما على علماء مذهبه و فرقته و خصوصاً أساتذته أمور :
الأول : اعتقاد أن المذاهب و المقالات قد تأسست فما بقي على طالب العلم إلا أن يعرف مذهبه ، و مقالة فرقته ، و يتقن الأصول ، و الجدل ، وز الكلام ، ثم يتجردللدفاع عن مذهبه ، و مقالة فرقته س.
الأمر الثاني : اعتقاد أن النصوص الشرعية قد فرغ منها ، فما كان منها يتعلق بالفقه قد أحاط به المجتهدون ، و قد زعم الغزالي أن الاجتهاد قد أنقطع ، و ما كان متعلقاً بالعقائد قد لخصه و هذبه أئمة الكلام مع ما أشتهر أن مدار العقائد على العقل ، و إذا خالفته النصوص وجب تأويلها ، و قد كثر فيها ذلك حتى أستقر عندهم أنه لا سلطان لها على العقائد ، و لهذا كان هو و أستاذه إمام الحرمين من أبعد الناس عن معرفته السنة كما ترى التنبيه عليه في مواضع من( تلخيص الخبير ) و في الكلام عن قول الله عز و جل : [ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ ] .
وفي ترجمة محمد بن محيريز من ( لسان الميزان ) و ( تخريج أحاديث الأحياء ) ، و غيرها .
وبذلك يتبين أن هذين الإمامين كانا قليلي الاعتداد بالنصوص ، فإن احتجا إلى ذكرها تعسفاً بدون مبالاة لا يكاد يهيمها أن يحتجا بحديث لا يدريان لعله موضوع ، و لا أن ينكر وجود حديث في ( الصحاح ) و هو فيها كلها .(1/80)
الأمر الثالث : اشتهار أن المذاهب و المقالة اللذين نشأ عليها الغزالي هما أقوم المذاهب و المقالات ، فاشتهر أن مذهب الشافعي هو المستوفي لجهتي الأثر و النظر ، و أن ما عداه مخل بأحدهما ، و أن مقالة الأشعرية هي المستوفية للنقل و العقل ، و أن ما عداها مخل بأحدهما كمقالة المعتزلة و مقالة أصحاب الحديث .
الأمر الرابع : اعتقاد أن مقالات الفلاسفة متينة جداً لبنائها على التحقيق البالغ في المعقول مع البراءة من التقليد و التعصب .
الأمر الخامس : توهم أن عند الباطنية علماً غريباً لمعرفتهم بالفلسفة و دعواهم معرفة اسرار الدين ، و نشاط دعاتهم في ذلك العصر .
الأمر السادس : توهم أن عند الصوفية جلية الأمر لدعواهم أنهم بتهذيبهم أنفسهم انكشفت لهم حقائق الأمور كما هي مع ما يظهر منهم من شرح بعض الحقائق بأدق مما يشرحها الفلاسفة والباطنية ، و ما يظهر لشيوخهم من الكشف عن الخواطر و الإخبار عن بعض المغيبات (1) و الأحوال الغريبة ، مع شهادة الفرق كلها أن لرياضة النفس و تهذيبها أثراً بالغاً في ترقية مداركها .
الأمر السابع : زعم أن متكلمي الأشاعرة قد فرغوا من الرد على أصحاب الحديث و على المعتزلة و غيرهم من المتكلمين ، و بقي مقالة الفلاسفة و الباطنية و الصوفية .
و هذا الأمر السابع هو كالنتيجة للأمور التي قبله فكان هو المستولي على ذهن الغزالي كما يتضح من شرح حاله في كتابه الذي سماه ( المنقذ من الضلال ) ، و ترى ملخص ذلك في ( شرح العقيدة الأصفهانية ) ص 94 فما بعدها .
__________
(1) أنظر التعليق ص 194 و 238 – 239 .(1/81)
و مما ذكره أنه أولاً يشك في صحة الحسيات و البديهيات ثم زال ذلك ، قال : (( و لم يكن ذاك بنظم دليل و ترتيب كلام ، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدور … و لما كفاني الله تعالى هذا المرض انحصرت أنصاف الطالبين عندي في أربع فرق ، المتكلمون …. و الباطنية …. و الفلاسفة …. و الصوفية …. فقلت في نفسي الحق لا يعدوا هذه الأنصاف الأربعة ، فهؤلاء السالكون سبيل طلب الحق ، عنهم فلا يبقى في درك الحق مطمع …. فابتدأت لسلوك هذه الطرق و استقصاء ما عند هؤلاء الفرق )) . ثم ذكر أنه ابتدأ بتحصيل الكلام فحصله و عقله و صنف فيه ، قال : (( فلم يكن الكلام في حقي كافياً ، و لا لدائي الذي أشكوه شافيا …. فلم يحصل فيه ما يمحوا بالكلية ظلمات الحيرة )) ثم ذكر تحصيله الفلسفة و التبحر فيها ثم قال : (( علمت أن ذلك أيضاً غير وافي بكمال الغرض فإن العقل ليس مستقلاً بالإحاطة بجميع المطالب ، و لا كاشفاً للغطاء عن جميع المعضلات )) ثم ذكر الباطنية إلى أن قال : (( فهؤلاء أيضاً جربناهم و سبرنا باطنهم و ظاهرهم )) . و ذكر أنه لم يجد مطلوبه عندهم ، قال : (( ثم أني لما فرغت من هذه أقبلت على طريق الصوفية …. )) فذكر و أطال في إطرائها على عادته في إطراء ما يحصل كما أطرى الفلاسفة أولاً فقال : إن من لا يعرف المنطق لا ثقة له بعلمه ، و لأنه كان يرى أن التصوف آخر ما يمكنه ، فلم يكن له بد من محاولة إقناع نفسه به .
ثم صار كلامه في كتبه تردداً بين هذه الطرق ، و كثيراً ما يختلف كلامه في القضية الواحدة ، يوافق هذه الفرقة في موضع ، و يخالفها في آخر ، حتى ضرب له ابن رشد مثلاً قول عمران بن حطان :
و إن لقيت معدياً فعدناني
يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن(1/82)
و ذلك يدل على أن إحاطته بتلك الطرق لم تحصل مقصودة من الخروج عن الحيرة ، بل أوقعته في التذبذب ، و كان ذلك مما بعثه على الرجوع في آخر عمره إلى ما كان أولاً يرغب عنه ، و يرى أنه لا شيء فيه ، فأقبل على حفظ القرآن ، و سماع ( الصحيحين ) فيقال أنه مات و ( صحيح البخاري ) على صدره ، لكن لم يمتع بعمره حتى يظهر أثر ذلك في تصنيفه . و الله أعلم .
و أما الفخر الرازي ففي ترجمته من ( لسان الميزان ) 4 / 429 : (( أوصى بوصية تدل على أنه حسن اعتقاده )) و هذه الوصية في ترجمته من كتاب ( عيون الأنباء ) 2 / 26 – 28 قال مؤلف الكتاب : (( أملى في شدة مرضه وصية على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر بن علي الأصفهاني … و هذه نسخة الوصية : بسم الله الرحمن الرحيم يقول العبد الراجي رحمة ربه به الواثق بكرم مولاه محمد بن عمر بن الحسين الرازي و هو في آخر عهده بالدنيا و أول عهده بالآخرة ، و هو الوقت الذي يلين فيه كل قاس ، و يتوجه إلى مولاه كل آبق …. إن الناس يقولون : الإنسان إذا مات انقطع تعلقه عن الخلق ، و هذا العام مخصوص من وجهين :
الأول : أنه إن بقي منه عمل صالح صار ذلك سباً للدعاء ، و الدعاء له أثر عند الله .
و الثاني : ما يتعلق بمصالح الأطفال … ، أما الأول ، فعلموا أني كنت رجلاً محباً للعلم .
( أ ) فكنت أكتب في كل شيء شياً لا أقف على كمية و كيف سواء كان حقاً أو باطلاً ، غثاً أو سميناً !
( ب ) إلا أن الذي نظرته ( ؟ نصرته ) في الكتب المعتبرة لي أن هذا العالم المحسوس تحت تدبير مدبر منزه عن مماثلة المتحيزات و الأعراض ، و موصوف بكمال القدرة و العلم و الرحمة .(1/83)
( ج ) و قد اختبرت الطرق الكلامية ، و المناهج الفلسفية ، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم ، لأنه يسعى في تسليم العظمة سو الجلال بالكلية لله تعالى و يمنع عن التعمق في إيراد المعارضات و المناقضات ، و لا ذاك إلا العلم بأن العقول البشرية تتلاشى و تضمحل في تلك المضايق العميقة ، و المناهج الخفية .
( د ) فلهذا أقول : كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب ، ووحدته ، وبراءته و الشركاء في القدم و الأزلية ، و التدبير و الفعالية ، فذاك هو الذي أقول به و ألقى الله تعالى به ، و أما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة و الغموض فكل ما ورد في القرآن سو الأخبار الصحيحة المتفق عليها بين الأئمة المتبعين للمعنى الواحد فهو كما هو ، و الذي لم يكن كذلك أقول يا إله العالمين …. أقول ديني متابعة محمد سيد المرسلين ، و كتأبي هو القرآن العظيم ، و تعويلي في طلب الدين عليها … ))
فبين في وصيته هذه انه تدرج إلى أربع درجات :
الأولى : الجري مع خاطره حقاً كان أو باطلاً .
الثانية : ما نصره في كتبه المعتبرة .
الثالثة: ارتيابه في المأخذ الخلفي و هو النظر الكلامي و الفلسفي .
الرابعة : ما استقر وثوقه به و رجع إليه ، وهو ما أثبته المأخذ السلفي الأول و أكده الشرع ، ثم قسم الباقي إلى قسمي :
الأول : ما بينه الكتاب و السنة ، فهو كما بيناه .
الثاني ما عدا ذلك ، فبين عدم وثوقه فيه بما سبق أن قاله في كتبه و اعتذر عن ذلك بحسن النية .
فرجوع هؤلاء الأكابر و قضاؤهم على النظر المتعمق فيه بما سمعت ، بعد أن أفنوا فيه أعمارهم من أوضح الحجج على من دونهم .(1/84)
هذا و المشهور بعد الاعتراف بكفاية المأخذين السلفيين و النهي عن الخوض في علم الكلام و الفلسفة الاعتذار عن الخائضين من المنتسبين إلى السنة بأنهم اضطروا إلى ذلك لدفع شبهات الكفار و الزنادقة ، و الملحدين و المبتدعة الذين يخوضون في دقائق المعقول ثم يطعنون في الإسلام و السنة ، قال المعتذرون و لم يكن ذلك في عهد الصحابة و التابعين و إنما حدث أخيراً بعد ضعف الإيمان و تشوف الناس إلى دقائق المعقول و إعجابهم بأهله ، فالخوض محدث لكن لحدوث داع إليه و باعث عليه و مقتض له .
و أقول : أما من خاض و حافظ على العقائد الإسلامية كما تعرف من المأخذين السلفيين و كما كان عليه السلف ، فعسى أن ينفعه ذاك العذر ، و إن كنا نعلم أن في حجج الحق من المأخذين السلفيين ما يغني من يؤمن [ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ] ، و أما من خاض فغير و بدل فهؤلاء هم المبتدعة و أتباعهم ، فهب أن منهم من يعذر في خوضه ، فما عذره في تغييره و تبديله ؟ ! و لا سيما من بلغ به التغيير و التبديل إلى القول بأن النصوص الشرعية لا تصلح حجة في العقائد ! حتى صرح بعضهم بزعم أن الله تبارك و تعالى أقر الأمم التي بعث فيها أنبياءه على العقائد الباطلة و قررها في كتبه و على السنة رسله و ثبتها و أكدها و زادهم عليها أضعافها مما هو – في زعم هؤلاء00– باطل ! !
فهل هذا هو الذب عن الإسلام و عقائده الذي يمتن به عليه أولئك الخائضون ؟ !
فصل(1/85)
و أما المأخذ الخلفي الثاني و هو الكشف التصوفي ، فقد مضى القرن الأول و لا يعرف المسلمون للتصوف إسماً و لا رسماً ، خلا أنه كان منهم أفراد صادقون الحب لله تعالى ، و الخشية له يحافظون على التقوى و الورع على حسب ما ثبت في الكتاب و السنة ، فقد يبلغ أحدهم أن تظهر مزيته في استجابة الله عز و جل بعض دعائه أو عنايته به على ما يقل في العادة ، و يلقى الحكمة في الوعظ و النصيحة و الترغيب في الخير ، و إذا كان من أهل العلم ، ظهرت مزيته في فهم الكتاب و السنة فقد يفهم من الآية أو الحديث معنى صحيحاً إذا سمعه العلماء و تدبروا ، وجدوه حقاً و لكنهم كانوا غافلين عنه حتى نبههم ذلك العبد الصالح . ثم جاء القرن الثاني فتوغل أفراد في العبادة و العزلة و كثرة الصوم و السهر و قلة الأكل لعزة الحلال في نظرهم ، فجاوزوا ما كان عليه الحال في عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ، فوقعوا في طرف من الرياضة ، فظهرت على بعضهم بعض آثارها الطبيعية كالإخبار بأن فلاناً الغائب قد مات أو سيقدم وقت كذا ، و أن فلاناً يضمر في نفسه كذا و ما أشبه ذلك من الجزئيات القريبة (1)
__________
(1) قلت : الإخبار أما في نفس الغير ليس من الجزئيات القريبة ، بل هو من خصوصيات الله تبارك و تعالى ، ( تعلم ما في نفسي … ) فيستحيل أن يصل إلى هذه المرتبة من يتعاطى الرياضة من مؤمن أو كافر ، و نحوه الإخبار بموت الغائب ، أو بقدومه ، نعم هذان الأمران الأخيران و نحوهما قد يكون من وحي الشيطان الجني الذي يسترق السمع إلى الشيطان الإنسي ، أو يمكنه بحكم جبلته أن يطلع على موت فلان ، قبل أن يطلع عليه البعيد عنه من بني الإنسان ، فيخبر به من يريد أن يضله من الإنس كهؤلاء المرتاضين الذي يتحدث عنهم المصنف رحمه الله تعالى . و مثله قدوم الغائب ، و مكان الضالة و نحو ذلك ، فهذه أمور ميسورة للجن ، فيطلعون بعض الإنس بما لا ضلالهم ( و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً ) ، و أما الإطلاع على ما في الصدور و الإخبار به فليس في طوق أحد منهم إلا بإخبار الله عز و جل من شاء من عباده الذين ارتضاهم لرسالته كما قال ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من أرتضى من رسول … ) . نعم ليس من هذا القبيل ما يلهمه الرجل الصالح ، ثم يقع كما ألهم ، لأنه لو سئل عنه قبل ذاك لم يستطع الجزم به ، فلأنه لم يدري أمن إلهام الرحمن هو أم من وحي الشيطان ؟ بخلاف النبي ( قالت من أنبأك هذا قال : نبأني العليم الخبير ) . و ليس منه أيضاً ما يتنبأ به الإنسان بفراسته و ملاحظته الدقيقة التي لا يتنبه لها غيره ، و قد و قع لي شخصياً من هذا النوع حوادث كثيرة لولا أنني كنت أبادر إلى الكشف عن أسبابها الطبيعية لظنها الناس كشفاً صوفياً ! فمن ذلك أنني كنت يوماً في حلقة الدرس أنتظر أن يكتمل الجمع ، إذ قلت لمن عن يميني – و هو حي يرزق – بعد قليل يدخل فلان – لشاب سميته . فلم يمضي سوى لحظات حتى دخل ! فنظر ألي جليسي دهشاً كأنه يقول : أكشف ؟ فقلت : لا بل هي الفراسة . ثم شرحت له سر المسألة ، و ذلك أن لشاب المشار إليه اعرف أن له دراجة عادية يأتي المكان الذي سيريد النزول عنده ، و أنه عند ذاك يسمع منها صوت بعض مسنناتها ، و كانت دراجة الشاب من النوع المعروف ب ( السباقية ) ، و الصوت الذي يسمع منها عند النزول أنعم من الأخريات ، و كان هو الوحيد الذي يركبها من بين الذين يحضرون الدرس عادة ، فلما أراد النزول ، و أوقف رجليه طرق سمعي ذلك الصوت ، فعرفت انه هو ، و أخبرت جليسي به ، فكان كذلك !
و قد أتفق لي مراراً – و يتفق مثله لغيري – أنني و أنا في صدد تقرير مسألة يقوم بعض الحاضرين يريد أن يسأل ، فأشير إليه بأن يتمهل ، فإذا فرغت منها قلت له : الآن فسل . فيقول : ما أردت السؤال عنه قد حصل ! فأقول : أهذا هو الكشف ؟ ! فمثل هذه الإجابة قد تقع تارة عفواً ، و تارة بقصد من المدرس الذي بحكم مركزه قد ينتبه لما لا ينتبه له الحاضرون فيعرف من علامات خاصة تبدوا له من الذي يريد السؤال ما هو سؤاله فيجيبه قبل أن يسأل ! فيظن أنه كثير من الناس انه كشف أو إخبار عما يضمر في نفسه - - و إنما هو الظن و الفراسة ، و يستغل ذلك بعض الدجالين فيلقون في نفوس مريديهم أنهم يطلعون على الضمائر ، و أنهم يعلمون الغيب ، فيتقبلون ذلك منهم ببساطة و سلامة قلب ، حتى أن الكثير منهم لا يسافرون ، و لا يأتون عملاً يهمهم ، إلا بعد موافقة شيخهم عليه ، فكأنه عندهم ( بكل شيء عليم ) . و الله المستعان .ن(1/86)
فكان الناس يظنون أن جميع ذلك من الكرامات ، و الواقع أن كثيراً منه كان من آثار الرياضة و هي آثار طبيعية غريبة تحصل لكل من كاف في طبعه استعداد و تعاني الرياضة بشروطها سواء أكان مسلماً – صالحاً أو فاجراً – أم كافراً ، فأما الكرامات الحقيقية فلا دخل فيها لقوى النفس . فلما وقعوا في ذلك وجد الشيطان مسلكاً للسلطان على بعض أولئك الأفراد بمقدار مخالفتهم للسنة ، فمنهم من كان عنده من العلم به عن دينه كما نقل عن أبي سليمان الداراني أنه قال : (( ربما تقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياماً فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين – الكتاب و السنة )) ذكرها و نحوها من كلامهم أبو إسحاق الشاطبي في
( الاعتصام ) 106 – 121 .
و منهم من سلم لهم أصل الإيمان لكن وقع في البدع العملية ، و منهم من كان سلطان السلطان عليه أشد فأوقعه في أشد من ذلك كما ترى الإشارة إلى بعضه في ترجمة رياح بن عمرو القيسي من
( لسان الميزان ) . ثم صار كثير من الناس يتحرون العزلة و الجوع و السهر لتحصيل تلك الآثار ، فقوي سلطان الشيطان عليهم ، ثم نقلت مقالات الأمم الأخرى و منه الرياضة و شرح ما تثمره من قوة الإدراك و التأثير ، فضمها هواتها إلى ما سبق ، ملصقين لها بالعبادات الشرعية ، تعاطيها من الخائضين في الكلام و الفلسفة ، فمنهم من تعاطاها ليروج مقالاته المنكرة بنسبتها إلى الكشف و الإلهام الروحي ، و يتدرع عن الإنكار عليه بزعم أنه من أولياء الله تعالى ، و منهم من تعاطاها على أمل أن يجد فيها حلاً للشكوك و الشبهات التي أوقعه فيها التعمق في الكلام و الفلسفة .
و من أول من مزج التصوف بالكلام الحارث المحاسبي ، ثم اشتد الأمر في الذين أخذوا عنه فمن بعدهم ، و كان من نتائج ذلك قضية الحلاج ، و لعله كان في أقران الحلاج من هو موافق له في الجملة ، بل لعل فيهم من هو أغل منه إلا أنهم كانوا يتكتمون ، و دعا الحلاج إلى إظهار ما أظهره حب الرياسة .(1/87)
و كذلك الفارابي و ابن سينا نتقاً من ذلك .
و كذلك في كلام متفلسفي المغاربة كابن باجة و غيره . و هكذا الباطنية كانوا ينتحلون التصوف ، فلما جاء الغزالي نصب منصب الكلام و الفلسفة الباطنية ، و زعم أن الحق لا يعدوا هذه الأربع المقالات ، و قضى ظاهراً للتصوف مع ذكره كفيره أن طائفة من المتصوفة ذهبوا إلى الأباحة المحضنة ، و في ذلك نبذ الشرائع البتة ، ثم لم يزل الأمر يشتد حتى جاء ابن عربي و ابن سبعين التلمساني ، و مقالاتهم معروفة ، و من تتبع ما كان عليه النبي صلى الله عليه و آله و سلم و الصحابة و أئمة التابعين ، و ما يصرح به الكتاب و السنة و آثار السلف ، و أنعم النظر في ذلك ، ثم قارن ذلك بمقالات هؤلاء القوم علم يقيناً أنه لا يمكنه إن لم يغالط نفسه أن يصدق الشرع و يصدقهم معاً، و إن غالط نفسه و غالطته ، فالتكذيب ثابت في قرارها و لابد .
هذا والشرع يقضي بأن الكشف ليس مما يصلح الاستناد إليه في الدين ، ففي ( صحيح البخاري ) من حديث أبي هريرة (( سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول : لم يبق من النبوة إلا المبشرات ، قالوا / و ما المبشرات ؟ قال : الرؤيا الصالحة )) .
و ورد نحوه من حديث جماعة من الصحابة ذكر في ( فتح الباري ) منها حديث ابن عباس عند مسلم و غيره ، و حديث أم كرز عند أحمد و ابن خزيمة و ابن حبان ، و حديث حذيفة بن أسيد عند أحمد و الطبراني ، و حديث عائشة عند أحمد ، و حديث أنس عند أبي يعلي . (1)
و فيه حجة على أنه لم يبق مما يناسب الوحي إلا الرؤيا ، اللهم إلا يكون بقي ما هو دون الرؤيا فلم يعتد به ، فدل ذلك أن التحديث و الإلهام و الفراسة و الكهانة و الكشف كلها دون الرؤيا ، و السر في ذلك أن الغيب على مراتب .
__________
(1) قلت : قد خرجتها و غيرها في (( إرواء الغليل )) ( 2539 ) ، وبعضها في الأحاديث الصحيحة )) ( 468 ) ن .(1/88)
الأولى : ما لا يعلمه إلا الله ، و لم يعلم به أحداً أو أعلم به بعض ملائكته .
الثانية : ما قد علمه غير الملائكة من الخلق .
الثالثة : ما عليه قرائن و دلائل إذا تنبه لها الإنسان عرفه كما ترى أمثلة ذلك فيما يحكى من زكن إياس و الشافعي و غيرهما ، فالرؤيا قد تتعلق بما هو من المرتبة الأولى لكن الحديثيقضي أنه لم يبق منها إلا ما كان على وجه التبشير فقط و في معناه التحذير ، و الفراسة تتعلق بالمرتبة الثالثة ، و بقية الأمور بالمرتبة الثانية ، و إنما الفرق بينها و الله أعلم أن التحديث و الإلهام من إلقاء الملك في الخاطر ، و الكهانة من إلقاء الشيطان ، و الكشف قوة طبيعية غريبة كما يسمى في هذا العصر قراءة الأفكار .
نعم قد يقال : أن الرياضة قد تؤهل صاحبها لأن يقع له في يقظته ما يقع له في نومه فيكون الكشف ضرباً من الرؤيا .(1/89)
و أقول : إن صح هذا فقد تقدم أن الرؤيا قصاراها التبشير و التحذير ، و في الصحيح (1) ((أن الرؤيا قد تكون حقاً و هي المعدودة من النبوة ، و قد تكون من الشيطان ، و قد تكون من حديث النفس )) ، و التكييز مشكل ، و مع ذلك فالغالب أن تكون على خلاف الظاهر حتى في رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة و السلام كما قص من ذلك في القرآن ، و ثبت في الأحاديث الصحيحة ، و لهذه الأمور اتفق أهل العلم أن الرؤيا لا تصلح للحجة ، و إنما هي تبشير و تنبيه و تصلح للاستئناس بها إذا وافقت حجة شرعية صحيحة كما ثبت عن ابن عباس أنه كان يقول بمتعة الحج لثبوتها عنده بالكاتب و السنة ، فرأى بعض أصحابه رؤيا توافق ذلك فاستبشر ابن عباس .
هذا حال الرؤيا فقس عليه حال الكشف إن كان في معناها . فأما إن كان دونها فالأمر أوضح ، و تجد في كلام المتصوفة أن الكشف قد يكون حقاً ، و قد يكون من الشيطان ، و قد يكون تخيلاً موافقاً لحديث النفس ، و صرحوا بأنه كثيراً ما يكشف للجل بما يوافق رأيه حقاً كان أو باطلاً، ولهذا تجد في المتصوفة من ينتسب إلى أهل الحديث و يزعم أنه يكشف له بصحة مذهبه ، و هكذا تجد فيهم الأشعري و المعتزلي و المتفلسف و غيرهم ، و كل يزعم أنه يكشف له بصحة مذهبه ، و مخالفه منهم لا يكذبه و لكنه يكذب كشفه ، و قد يكشف لأحدهم بما يوافق الفرقة التي ينتسب إليها ، و إن لم يكن قد عرف تلك المقالات من قبل ، كأنه لحسن ظنه بهم و حرصه على موافقتهم إنما تتجه همته إليهم فيقرأ أفكارهم و ترتسم في مخيلته أحوالهم .
__________
(1) قلت : المراد بـ ( الصحيح ) عند الإطلاق أحد ( الصحيحين ) ، و على هذا الاصطلاح جرى المصنف فيما سبق ، و هذا أن معناه أن الحديث عند أحدهما ، و ليس كذلك ، فأما أنه وهم في عزوه لـ ( الصحيح ) ، أو أنه تسامح في التعبير ، يعني أنه (( و في الحديث الصحيح )) و ليس في (( الجامع الصحيح )) ، و إنما أخرجه الترمذي و ابن ماجة . ن(1/90)
فالكشف إذن تبع للهوي ، فغايته أن يؤيد الهوى و يرسخه في النفس و يحول بين صاحبه و بين الاعتبار و الاستبصار ، فكان الساعي في أن يحصل له الكشف ، إنما يسعى في أن يضله الله عز وجل ، و لا ريب أن من التمس الهدى من غير السراط المستقيم مستحق أن يضله الله عز و جل ، و ما يزعمه بعض غلاتهم من أن لهم علامات يميزون بها بين ما هو حق من الكشف و ما هو باطل ، دعوى فارغة ، إلا ما تقدم عن أبي سليمان الداراني ، و هو أن الحق ما شهد له الكتاب و السنة ، و لكن المقصود الشهادة الصريحة التي يفهمها أهل العلم من الكتاب و السنة بالطريق التي يفهمها بها السلف الصالح .
فأما ما عرف عن المتصوفة من تحريف النصوص بما هو أشنع و أفظع من تحريف الباطنية فهذا لا يشهد لكشفهم ، بل يشهد عليه أوضح شهادة بأنه من أبطل الباطل .
أولاً لأن النصوص بدلالتها المعروفة حجة فإذا شهدت ببطلان قولهم علم أنه باطل .
ثانياً لأنهم يعترفون أن الكشف محتاج إلى شهادة الشرع ، فإن قبلوا من الكشف تأويل الشرع ، فالكشف شهد لنفسه فمن يشهد له على تأويله ؟
و أما التحديث و الإلهام ففي ( صحيح البخاري ) و غيره من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال : (( لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فأنه عمر )) . و أخرجه مسلم من حديث أبي سلمة عن عائشة ، وفيه (( فإن يكن في أمتي منهم أحد فأن عمر بن الخطاب منهم )) و جاء في عدة روايات تفسير التحديث بالإلهام .
و هذه سيرة عمر بين أيدينا لم يعرف عنه و لا عن أحد من أئمة الصحابة و علمائهم استدلال بالتحديث و الإلهام في القضايا الدينية ، بل كان يخفي عليهم الحكم فيسألون عنه ، فيخبرهم إنسان بخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصيرون إليه ، و كانوا يقولون القول ، فيخبرهم إنسان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلافه فيرجعون إليه .(1/91)
و أما الفراسة ، فإن المتفرس يمكنه أن يشرح لغيره تلك الدلائل التي تنبه لها ، فإذا شرحها عرفت فإن كانت مما يعتد به عملت بها لا بالفراسة .
فصل
مهما يكن في المأخذين الخلفيين من الوهن فإننا لا نمنع أن يستند إليها فيما ليس من الدين و لا يدفعه الدين ، بل لا ندفع أن يكون فيهما ما يوصل في كثير من ذلك إلى اليقين ، فإن الشرع لم يتكفل ببيان ما ليس من الدين . و كذلك لا نرى كبير حرج في الاستئناس بما يوافق المأخذين السلفيين بعد الاعتراف بأنهما كافيان شافيان ، إذ لا يلزم من كفايتهما أن لا يبقى في غيرهما ما يمكن أن يستدل به على الحق ، و إنما الممنوع الباطل هو زعم أنهما غير وافيين ببيان الحق في الدين .
و لم يقتصر المتعمقون على هذا الزعم الباطل ، بل صاروا إلى عزلهما عن بيان الحق في العقائد البتة ، حتى آل بهم الضلال إلى نسبة الكذب إلى الرسل عليهم الصلاة و السلام ، بل إلى رب العالمين سبحانه و تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً .(1/92)
الباب الثاني:في تنزيه الله و رسله عن الكذب
المتعمقون يردون كثيراً من نصوص الكتاب و السنة في العقائد ، فنهم من ردها مع تصريحه بأن كثيراً منها لا يحمل إلا المعاني التي يزعم أنها باطلة ، و يزعم أن الشرع إنما أتي بها مجاراة لعقول الجمهور ليمكن انقيادهم للشرع العملي .
و منهم من زعم أنها غير صالحة للحجة في العقائد مطلقاُ ، زاعماً أن ظهورها في معنى اعتقادي أو صراحتها فيه ، او مبالغتها في تأكيده ، كل ذلك لا يمكن أن يعلم به أن ذاك المعنى هو مراد المتكلم لدلالة النظر العقلي المتعمق فيه ، أو الكشف التصوفي على بطلان كثير من تلك المعاني في زعمه و احتمال مثل ذلك في الباقي .
و منهم من لم يصرح بما و لكنه قدم غيرها عليها و تعسف في تأويلها تعسفاً مخرجاً عن قانون الكلام ، أو اقتصر - مع زعمه أن المعاني المفهومة منطا باطلة - على زعم أن لها معاني أخرى صحيحة لا حاجة إلى معرفتها .فتحصل من كلامهم حملهم لتلك النصوص على الكذب ، أما القول الأول فواضح ، و أما الثاني فقريب منه كما يأتي ، و أما الثالث فيلزمه ذلك .
تنزيه الله تبارك و تعالى عن الكذب
مما علم من الدين بالضرورة و شهدت به الفطرة السليمة و العقول المستقيمة أن من المحال الممتنع أن يقع الكذب من رب العالمين ، و كيف يتصور وقوعه منه ؟ و هو عالم الغيب و الشهادة القادر على كل شئ ، الغني عن كل شئ ، الحكيم الحميد الذي له الحمد كله ، و إنما تخبط في ذلك متأخرو الأشعرية . و كأن الموقع لهم في التخبط ما ألزمهم به المعتزلة في مسألة القدر ، - و الخوض في القدر أم كل بلية – و لأمر ما ورد في الشرع النهي عن ذلك و شدد فيه السلف .
وإيضاح هذا أن الأشعرية لما صار قولهم إلى أن العباد مجبورون على أفعالهم ، قال لهم المعتزلة: كيف يجبر الله تعالى خلقه على الكفر و الفجور ثم يعاقبهم عليه ، و هذا قبيح و مفسدة و الله تعالى منزه عن القبائح ، و أفعاله مبنية على المصالح ، فاضطرب الأشعرية في هذا ثم لم يجدوا محيصاً إلا أ، يجحدوا هذين الأصلين ،فقالوا : الأفعال كلها سواء عند العقل و لا يدرك منها حسناً و لا قبحاً ، و الله عز و جل لا يفعل لشئ ، و لا لأجل ، إنما يفعل ما يريده ، و إرادته لا تعلل بشئ البتة . فقال المعتزلة : فيلزمكم أن يجوز عقلاً أن يكذب الله تعالى ، فحاول بعض الأشعرية التملص من هذا الإلزام بوجهين :
الأول : أن الكذب نقص و الله سبحانه منزه عن النقص .
الثاني : أنه لو جاز لكان قديماً ، و ما ثبت قدمه استحال عدمه فيمتنع الصدق . فلم ير بقية الأشعرية هذين الوجهين شيئاً .
أما الأول فلأنه لم يقم برهان عندهم – زعموا – على براءته تعالى من النقص ، و من قال منهم بالبراءة ، إنما يقول به في الصفات لا في الأفعال ، فأما النقص في الأفعال فهو القبح العقلي الذي ينكرونه .
(1/93)
و أما الثاني فلأنه لو تم فإنه لو تم يختص بما يسمونه الكلام النفسي ، و النزاع إنما هو في الكلام اللفظي .
فصار الأشعرية إلى التزام أنه يجوز عقلاً أن يقع الكذب من الله تبارك و تعالى ، ثم حاولوا القول بأنه و إن جاز عقلاً فلا يقع ، لأن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أخبر بأن كلام الله تعالى كله صدق . فقالت المعتزلة : إنما ثبتت نبوة النبي بإخبار الله عز و جل بأنه صادق ، و ذلك بإظهار المعجزة على يده إظهار مستلزماً لذاك الإخبار ، إذ هو بمنزلة أن يقول تعالى : صدق في دعواه أنني أرسلته .قالوا : فإن كان العقل يجوز وقوع الكذب من الله تعالى جاز أن يكون هذا الخبر كذباً ، فلا يكون مدعي النبوة نبياً ، فتجويزكم عقلاً أن يقع الكذب من الله تعالى يلزمه أن لا تثبت نبوة محمد يكون لكم أن تحتجوا على نفي وقوعه بخبر ؟ أجاب الأشعرية بأن دلالة المعجزة على صدق مدعي النبوة عادية ، و ذلك أن الله تعالى أجرى العادة بخلق العلم بالصدق عقبها ، قالوا : (( فإن إظهار المعجز على يد الكاذب و إن كان ممكناً عقلاً فمعلوم انتفاؤه عادة )) .
قال العضد : (( و قد ضربوا لهذا مثلاً قالوا : إذا ادعى الرجل بمشهد الجم الغفير أني رسول هذا الملك إليكم ، ثم قال الملك : إن كنت صادقاً فخالف عادتك و قم من الموضع المعتاد لك من السرير و اقعد بمكان لا تعتاده ، ففعل كان ذلك بمنزلة التصديق بصريح مقاله و لم يشك أحد في صدقه بقرينة الحال ، و ليس هذا من باب قياس الغائب على الشاهد ، بل ندعي في إفادته العلم بالضرورة العادية ، و نذكر هذا للتفهيم )) .
أقول : الذين شاهدوا المعجزات لم يوقنوا جميعاً بل بقي كثيرون منهم مرتابين ، و في القرآن كثيرة نصوص تصرح بذلك ، و هذا يدفع أن يكون الله عز وجل أجرى العادة بخلق العلم بالصدق عقب المعجزة .
فإن قيل ، الذين بقوا مرتابين إنما ارتابوا لعدم علمهم بأن ذلك فعل الله عز و جل بل جوزوا السحر .(1/94)
قلت : فإذا لم يقع العلم بالصدق إلا لمن علم أن ذلك فعل الله عز و جل فهذا نظير المثال الذي ذكروه ، فلو فرضنا فيه أن ذلك الجم الغفير كانوا يعتقدون أن الملك لا يبالي أصدق أم كذب و لا أَفَعَل ما تقتضيه الحكمة أم ما آتاه ، لم يحصل لهم بقيامه و قعوده أدنى ظن ، فصلاً عن الظن الغالب ، فضلاً عن العلم ، فأما إذا كانوا يعتقدون أنه لا يفعل شيئاً لأجل شئ فالأمر أشد . فثبت أن الذين يعلمون أن المعجزة من فعل الله عز و جل و إنما يصدقون لا اعتقادهم أن الله تعالى منزه عن أن يقع منه الكذب أو فعل مناقض للحكمة ، و هذا الاعتقاد هو مقتضى الفطر الزكية و العقول النقية و هو اعتقاد كل من يؤمن حق الإيمان بوجود الله تعالى و كمال علمه و قدرته حتى من الأشاعرة أنفسهم ، يعتقدون ذلك بمقتضى فطرهم ، و إن أنكروا بألسنتهم .
تنزيه الأنبياء عن الكذب
من المعلوم من الدين بالضرورة أن الأنبياء صادقون في كل ما أخبروا به عن الله عز و جل ، و أن من كذب نبياً في خبر من ذلك فقد كفر ، و معلوم أن جميع ما أخبر به الأنبياء في شؤون الدين فهو إخبار عن الله عز و جل ، و هذا من الوضوح عند المسلمين بحيث يستغني عن إيراد حججه .
فإن قيل : قد جوز بعض الناس أن يقول النبي في الدين باجتهاده ، و من هؤلاء من جوز أن يخطئ النبي لكنه إن أخطأ نبهه الله عز و جل فوراً ، و لعل من يجيز من هؤلاء تأخير البيان إلى وقت الحاجة يجيز تأخير التنبيه إلى وقت الحاجة .(1/95)
قلت : إن جاز الخطأ فإنما يخبر النبي بأنه يظن ، و من قال / أظن كذا ، إنما أخبر بأنه يظن ، فإذا كان يظن ما ذكر فقد صدق ، فإن بان خطأ ظنه لم يقل له : كذبت ، و إن قيل : كذب ظنك، فأما الأمور الدنيوية فخبر الأنبياء عنها إن تضمن خبراً عن الله عز و جل فكالأمور الدنيوية ، و إلا فالمعروف بين أهل العلم من المسلمين أن الأنبياء معصومون عن تعمد الكذب فيها ، و أورد على ذلك كلمات إبراهيم عليه السلام . و في ( الصحيحين )من حديث أبي هريرة مرفوعاً : (( لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات … )) فذكر تلك الكلمات ، و في ( مسند أحمد ) من حديث ابن عباس نحوه ، و في ( الصحيحين ) من حديث أنس مرفوعاً ذكر فزع الناس إلى الأنبياء يوم القيامة يسألونهم الشفاعة ، فيأتون آدم فنوحاً فإبراهيم فموسى فيعتذر كل من هؤلاء بتقصير كان منه في الدنيا ، فيذكر آدم أكله من الشجرة ، و موسى قتله النفس . و فيه في ذكر إبراهيم : (( فيقول : لست هنا كم – و يذكر خطيئته )) . زاد مسلم : (( التي أصاب فيستحي ربه منها )) و في رواية للبخاري في
(( كتاب التوحيد )) : فيقول : لست هنا كم – و يذكر خطاياه التي أصابها )) و في أخرى : (( و يذكر ثلاث كذبات كذبهن )) و في ( الصحيحين ) من حديث أبي هريرة مرفوعاً و فيه قول إبراهيم في عذره : (( إن ربي قد غضب اليوم …. و إني كنت كذبت ثلاث كذبات )) لفظ البخاري في تفسير سورة ( الإسراء ) ، و لفظ مسلم : (( إن ربي قد غضب اليوم …. ، و ذكر كذباته )) و قد جاء الحديث من رواية جماعة آخرين من الصحابة . فإطلاق الخليلين إبراهيم و محمد عليهما الصلاة و السلام على تلك الكلمات (( كذبات )) يدفع أن تكون من المعاريض التي لا راحة للكذب فيها . و يؤكده أن نبينا كان شديدا التقير لأبيه إبراهيم عليهما الصلاة و السلام ، و صح عنه أنه قال : (( نحن أولى بالشك من إبراهيم … )) و قال له رجل : يا خير البرية ، فقال : (( ذاك إبراهيم )) فكيف يظن(1/96)
به أن يقول : (( لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات )) و ه يعلم أنها ليس من الكذب في شئ ، مع أنه تحرى في هذا الحديث الثناء على إبراهيم فبين أنه لم يقع منه كذب إلا تلك الثلاث ثم قال : (( ثنتين منهم في ذات الله عز و جل ، و قوله : [ إِنِّي سَقِيمٌ ] و قوله : [ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ] ، وقال : بينا هو ذات يوم و سارة ( يعني امرأته ) إذ أتي على جبار من الجبابرة …. )) .
فإن قيل : قد يكون الكلام من تأكيد المدح بما يشبه الذم كقول النابغة :
بهن فلول من قراع الكتائب
و لا عيب فيهم غير أن سيوفهم
قلت : إنما يحسن مثل هذا حيث يكون المستثنى واضح من المستثنى منه ، و ليس الأمر هنا كذلك ، و قد سماها في الحديث الآخر (( خطايا )) و نظمها في سلك أكل آدم من الشجرة و قتل موسى للنفس ، و حكم إبراهيم بأنها تقصر به عن مقام الشفاعة ، و تتقضى إستحياءه من ربه لأجلها فالجواب عن تلك الكلمات بأنها ليس بكذب كما ترى .
و ثم و جب آخر و هو أن تلك الكلمات و قعت من إبراهيم عليه السلام قبل نبوته ، و كما أن قتل موسى للنفس كذلك فقد قص الله تعالى عنه أنه ذُكر بتلك الفعلة فقال : [ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ . فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ] الشعراء: 20-21 .
و قريب من ذلك حال آدم ، فإن أكله من الشجرة كان في الجنة قبل النبوة المعتادة .و قد قال الله تعالى في القصة التي ذكر فيها قول إبراهيم : [ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ] ، و هي إحدى الكلمات : [ قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ … قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ] الأنبياء : 59 – 63 .
و الكلمة الثانية و هي قوله : [ إِنِّي سَقِيمٌ ] ، كانت قبل ذلك .(1/97)
فأما الثالثة و هي قوله : (( هي أختي )) فالظاهر و الله أعلم أنها بعد ذلك ، و لكن في سياق القصة ما قد يشعر بأنها كانت قبل النبوة ، فإطلاقهم عليه (( فتى )) ظاهر في أنه يومئذ لم يبلغ أربعين سنة ، فإن الفتى هو الشاب الحدث كما في ( المصباح ) ، و قد صرح كثير من أهل العلم أن الأنبياء إنما نبئوا بعد بلوغ كل منهم أربعين سنة كما و قع لنبينا عليه الصلاة و السلام ، ز جزم به القاضي أبو بكر ابن العربي و آخرون ، و تاولوا ما في قصتي يحيى و عيسى ، و قال قوم : إن ذلك هو
الغالب .
فإن قيل : فإن اثنتين من تلك الكلمات وقعتا في صدد دعوته قومه إلى التوحيد ، و الثالثة يظهر أنها بعد ذلك ، فكيف يدعو قبل النبوة ؟
قلت : قد كان هداه الله تعالى من صباه بتوجيه نظره إلى الآيات الكونية ، قال الله عز وجل: [ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ] . ثم ذكر القمر و الشمس [ فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ … ] الأنعام : 75 – 80 .
فكان يحاج قومه بما هداه الله إليه بنظره .
فإن قيل : لو كانت تلك الثلاث قبل النبوة لذكر معها قوله : هذا ربي ، فإن هذه أشد .(1/98)
قلت : قد ذكر في بعض الروايات لكن قيل إنه خطأ من الرواي . و على هذا فقد يقال إنما تذكر تلك الكلمة لأنها كانت في الطفولة فيما قاله بعض أهل العلم و تلك الثلاث كانت بعد البلوغ. و في هذا نظر ، فإن قول النبي صلى الله عليه وآله و سلم : (( لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات )) يعم الطفولة . و قد يقال : إنما لم يذكرها لأن إبراهيم لم يرد بها الإخبار ، و إنما أراد الاستفهام الإنكاري . و هذا القول حكاه ابن جرير عن بعض أهل النظر ، ورده ، و روي عن ابن عباس ما ينص على أن الكلام على الإخبار و أن إبراهيم فعل ما يوافق ذلك ، و لم يذكر عن أحد من السلف خلافه ، و مع هذا فمن مال إلى هذا التأويل من أهل النظر وجهوه بأن إبراهيم أراد في نفسه الاستفهام ، و أراد في الظاهر إيهام قومه أنه موافق لهم ليكون ذلك أقرب إلى جرهم إلى الحق ، وعلى هذا فهذه الكلمة أشد من تلك الثلاث ، و الحديث السابق يأبى ذلك كما مر .
فإن قيل : أفليس الأنبياء معصومين عن الكفر مطلقاً ؟
قلت : ليس هذا بكفر في حكم الشرع ، فإن إبراهيم عليه السلام قال ذلك قبل أن تعرض عليه ، فضلاً عن أن تقوم عليه حجة بنظر و لا غيره و هو حريص على معرفة الحق ، باذل و سعه في تحصيلها ، صادق العزم على اتباع الحق على كل حال ، ليس في نفسه شائبة هوى في غير الحق ، فإن كان ذلك في الطفولة كان الأمر أوضح .
فإن قيل : فعلى هذا أيضاً يبقى الإشكال بحاله أو أشد فإن قوله : (( هذا ربي )) يكون خبراً مخالفاً للواقع ظاهراً و باطناً ، و تلك الثلاث إن كان الخبر فيها مخالفاً الواقع فظاهراً فقط .(1/99)
قلت : تلك الثلاث كانت عمداً أي أن إبراهيم كان يعلم أن الظاهر غير واقع ، وأم قوله : (( هذا ربي )) فخطأ محض غير مؤاخذ به (1) . و المتبادر من قولهم (( لم يكذب فلان ))نفي أن يكون و قع منه إخبار بخلاف الواقع يلام عليه ، و في ( صحيح مسلم ) في أحاديث البكاء على الميت (( فقالت عائشة : يغفر الله لأبي عبد الرحمن أما إنه لم يكذب ، و لكنه نسي أو أخطأ )) و في رواية (( قالت : إنكم لتحدثون عن غير كاذبين و لا مكذبين و لكن السمع يخطئ )) . و قولهم : (( كذب فلان )) المتبادر منه أنه تعمد أو أخطأ خطأ حقه أن يلام عليه ، و من ذلك حديث (( كذب أبو السنابل )) و قول عبادة : (( كذب أبو محمد )) و قول ابن عباس : (( كذب نوف )) و ما أشبه ذلك ، و الكذب لغة هو مخالفة الخبر – أي ظاهره الذي لم تنصب قرينة على خلافه – للواقع مطلقاً ، لكن لشدة قبح الكذب و أن العمد أغلب من الخطأ كان قولنا : (( كذب فلان )) مشعراً بذمه فاقتضى ذلك أن لا يؤتى بذلك حيث ينبغي التحرز عن الإشعار بالذم . و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
__________
(1) هذا هو الجواب عن عدم ذكرها مع الثلاث ، ثم ظهر لي جواب آخر ، و هو أن قوله (( هذا ربي )) لم يكن إخباراً منه لغيره بل لعله لم يكن عنده أحد و إنما قال ذلك على وجه الاعتراف كالمخاطب لنفسه ، و جواب ثالث و هو أن القرائن تدل أنه إنما بنى على ظنه فكأنه قال : (( أظن هذا ربي )) و من ظن أمراً فأخبر بأنه يظنه فهو صادق و إن أخطأ ظنه كما مر و يأتي إيضاحه . المؤلف(1/100)
هذا ، و لم يرد إبراهيم عليه السلام بقوله : [ هذا ربي ] ، رب العالمين ، و إنما بنى على ما كان يقوله قومه في الكواكب أن أرواح الملائكة متعلقة بها مدبرة بواسطتها ما أقدرها الله عليه ، أو شافعه إليه ، و لما رأوا أن الكواكب لا تكون ظاهرة أبداً اتخذوا الأصنام تذكارات لها و لأرواحها ، و كانوا يعبدون الأصنام و الكواكب تقرباً إلى تلك الأرواح ، و يقولون : أن الله رب الأرباب و آله الآلهة و قد أوضحت هذا بدلائله من الكتاب و السنة و أقوال السلف و الآثار التاريخية و المقالات في كتاب ( العبادة ) و لله الحمد .
وعلى كل حال فتلك الملمات أن ترجح أنها داخلة فيما يسمى كذباً فهي من أخف ذلك و أهونه و لنبين ذلك في إحداها :
دخل إبراهيم و معه امرأته ( سارة ) بلداً كان ملكه جباراً ، إذا سمع بامرأة جميلة أخذها فإن كان لها زوج بطش به ، فلما سمع الجبار بسارة أرسل إلى إبراهيم فسأله عنها فخاف أن يقول : امرأتي ، فيبطش به ، و أن يقول : أجنبية عني ، فيقال : فما شأنك معها ؟ فقال : هي أختي ، و اراد الأخوة الدينية . فإطلاق أخ و أخت في الأخوة الدينية شائع ذائع ، فاحتمال الخبر للمعنى الواقع قريب كما ترى ، و مع ذلك فهناك قرينة من شأنها إذ تبه لها المخاطب أن توهن الظاهر ، و هي أن تلك الحال يحتاج من وقع في مثلها إلى التورية و الإيهام خلاف الواقع ليدفع عن نفسه الظلم ، و يدفع عن مخاطبيه الوقوع في الظلم ، و لا تترتب على ذاك الإيهام مفسدة ، فقد يقال : إن هذه الحال إذا نظر إليها على هذا الوجه و لوحظ أن الخبر محتمل إحتمالاً قريباً لغير ظاهره صار الخبر مجملاًَ محتملاً لكل من المعنيين على السواء ، فعلى هذا لا يكون كذباً . لكن قد يرد على هذا أن تلك الحال إذا لوحظت إنما تقتضي أن من وقع فيها قد يترخص في الكذب ، فالاعتداد بها لا يبرئ الخبر عن إسم الكذب ، الا ترى أنه لو علم الجبار بالواقع لكان له أن يقول لإبراهيم : لم كذبت ؟(1/101)
و على كل حال فالاحاديث أطلقت على تلك الكلمات : كذبات ، فإن كانت كذلك حقيقة فقد يتعين أنها كانت قبل النبوة كما مرة ، و إلا فسواء أكانت قبلها أم بعدها فالأحاديث صريحة بأنها – بالنظر لما فيها من شبه الكذب – هي مما يعد وقوعه من مثل إبراهيم عليه السلام خطيئة ، فينبغي أن لا يكون وقع مثلها فضلاً عما هو أشد منه من محمد صلى الله عليه و آله و سلم لأنه مبعوث إلى الناس كافة من حين بعث إلى يوم القيامة فالعناية بشأنه آكد ، و هذا هو الواقع .
أما قبل النبوة فقد شهد له أعدائه بالصدق و الأمانة حتى سموه (( الأمين )) ، و لم يستطيعوا مع إسرافهم في عداوته ، و اضطرارهم إلى صد الناس عن إتباعه ، أن يذكر أحدهم أنه كذب أو وقع منه ما يشبه الكذب ، و قد سئل هرقل أبا سفيان أشد المشركين عدواة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم يومئذ و أحرصهم على أن يعيذه كما يعلم من سياق القصة في أوائل ( صحيح البخاري ) و غيره ، قال هرقل : فهل كنتم تتهمونه ( يعني النبي صلى الله عليه و آله و سلم ) بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ ( يعني قبل النبوة ) قال أبو سفيان : لا ، ثم قال هرقل : فقد أعرف إن لم يكن ليذر (1) الكذب على الناس و يكذب على الله . و قال الله تبارك و تعالى لرسوله : [ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ] الأنعام : 33 .
__________
(1) أي ليدع و يترك . م ع(1/102)
يعني و الله أعلم لا ينسبونك إلى تعمد الكذب ، و هذا بين واضح من كلماتهم ، كقولهم : (( مجنون )) أي لا يعقل ما يقول ، (( كاهن )) أي تلقي إليه الشياطين ما تلقي فيحسبه من عند الله . فأما قولهم : (( شاعر )) فقصدوا به توجيه بلاغة القرآن . و أما قولهم : (( ساحر )) فقصدوا به توجيه المعجزات ، و منها بلاغة القرآن و عجزهم عن معارضته . ف‘ن كان في كلماتهم ما فيه ذكر تعمد الكذب فذاك من باب اللجاج الذي يعرف قائله قبل غيره أنه لا يخفى بطلانه على أحد و إنما أعتني القرآن بحكاية ذلك و أبطاله إبلاغاً في إقامة الحجة ، و ليبين للناس أنه لا شبه لهم إلا مثل ذلك اللجاج ، و هذا مثل ما قصه الله عز و جل من قول بعض اليهود (1)
__________
(1) هذا قول بعض المفسرين مستدلاً على ذلك برد الله عليه بإنزال التوراة التي يعترفون بها . و لكن السياق و الأسلوب يدل على أن ذلك من قريش و رد الله عليهم بإنزال التوراة من باب الإفحام بما لا يمكن رده ، و فشهرة التوراة و إنها كتاب الله مما لم يجحده قريش ، فالحجة قائمة على جاحد الوحي من قريش بشهرة التوراة و أنها كتاب الله و اعتراف جمهور الناس بذلك من يهود و نصارى و عرب و عجم . أفاده المحقق ابن القيم في بعض كتبه . م ع
يقول المؤلف : جمهور المفسرين على أن القائلين بعض اليهود ، و هو المنقول عن ابن عباس من رواية على بن أبي طلجة ، و سيأتي في تفسير ( قل هو الله أحد ) رأي الشيخ في روايته ، و عن عكرمة و سعيد بن جبير و محمد بع كعب القرضي و السدي و غيرهم ، و يعنيه و يكاد قوله تعالى (( تجعلونه قراطيس تبدونها و تخفون كثيراً منها )) هكذا قرأها جمهور القراء و قرأها ابن كثير و أبو عمرو بالياء على الالتفات ، و أما القول بأن القائلين من قريش فنقل عن مجاهد و اختاره ابن جرير و قال : (( و الأصوب من القراءة في قوله ( يجعلونه قراطيس ببدونها و يخفون كثيراً ) أن يكون بالياء لا بالتاء )) كذا قال ، و استبعاد أن يقول بعض اليهود ذاك القول ليس في محله لأن اليهود بهت و قد قالوا (( يد الله مغلولة )) و قالوا (( إن الله فقير و نحن أغنياء )) قاتلهم الله أنا يؤفكون ، و أما السياق و الأسلوب فلا يقاوم دلالة (( تجعلونه قراطيس تبدونها و تخفون كثيراً منها )) . على أنه لا مانع من الجمع بين الوجهين ، القاتل من اليهود ، و قريش توافقه على ذاك القول .و الله أعلم .(1/103)
: [ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ] ، قال الله تعالى : [ٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ] الأنعام : 91 حمل اللجاج ذلك اليهودي على أن جحد أساس دينه على حد قول الشاعر
و اقتلوا مالكاً معي
اقتلوني و مالكاً
و في ( جامع الترمذي ) و ( تفسير ابن جرير ) و غيرهما بسند رجاله رجال ( الصحيح )(1) عن ناجية بن كعب قال : (( قال أبو جهل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنا لا نكذبك ، و لكن نكذب الذي جئت به )) . و في رواية : (( ما نتهمك و لكن نتهم الذي جئت به )) . و في ( تفسير ابن جرير ) و غيره عن السدي قصة وقعت قبيل بدر و فيها : (( فخلا الأخنس بأبي جهل فقال : يا أبا الحكم …. فقال أبو جهل : ويحك ، و الله أن محمداً لصادق ، و ما كذب محمد قط ، و لكن إذا ذهب بنو قصي باللواء و الحجابة و السقاية و النبوة فماذا يكون لسائر قريش . )) .
__________
(1) قلت : لكن هذا السند ينتهي إلى ناجية بن كعب ، و هو تابعي يروي عن علي ، فالقصة مرسلة ، بيد أن الترمذي قد وصله في إحدى رواياته و كذا الحاكم ( 2 / 315 ) عنه عن علي . و قال الحاكم : (( صحيح على شرط الشيخين )) . و أقره ابن كثير ، و رده الذهبي في (( التلخيص )) بقوله :
(( قلت : ما خرجنا لناجية شيئاً )) .
قلت : و أيضاً فقد قال الترمذي عقب الطريق الأول المرسل :
(( و هذا أصح )) .(1/104)
و أما بعد النبوة فالأمر أوضح ، فمن المشركين من كان مرتاباً فيما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومنهم من استيقنت نفسه و لكنهم عاندوا ، و كلا الفريقين عرفوا من حاله - صلى الله عليه وسلم - سابقاً و لاحقاً أنه لا مجال لاحتمال تعمده الكذب ، و أن اتهامه بذلك مكابرة مفضوحة إلى حد أنهم رأوا أن أقرب منها أن يقولوا : مجنون ، مع علمهم و علم كل من عرف النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه أعقل الناس .
و في ( المستدرك ) ج 3 ص 45 و غيره في قصة أبن أبي سرج لما جيء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليبايعه (( فرفع رأيه منظر إليه ثلاثاً [ ثم بايعه ] ثم أقبل على أصحابه فقال : أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله ؟ فقالوا : ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أو مأت إلينا بعينك ؟ فقال : إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين )) . (1) و جاءت قصة أخرى في رجل من المشركين كان شديداً على المسلمين فنذر أحدهم قتله ، ثم جاء المشرك ليسلم ، فكف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مبايعته مراراً ، ثم بايعه ، فقال الناذر : أني نذرت …. القصة ، و فيها أيضاً : (( أنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين )) .
__________
(1) قلت : قال الحاكم عقبة (( صحيح على شرط مسلم )) . ووافقه الذهبي . قلت : و فيه أحمد بن المفضل و هو صدوق في حفظه شيء . عن أسباط بن نصر ، و هو صدوق كثير الخطأ ، كما في (( التقريب )) . وهما من رجال (( الميزان )) للذهبي ، و الآخر من (( الضعفاء )) له . و من هذا الوجه أخرجه أبو داود أيضاً ( 2683 و 4359 ) و النسائي ( 2 / 170 ) و إلى هذا وحده عزاه الحافظ في (( الفتح )) ( 6 / 120 ) و سكت عليه ، و ما بين المعكوفين ، إنما وضعه المصنف بينهما إشارة ألا أنها ليست في (( المستدرك )) ، و إنما هي عند من ذكرنا بلفظ (( فبايعه )) . ن(1/105)
فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب قتل الرجلين إما لأنه قد سبق منهما من شدة الكفر و الإسراف ما أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينالهما عاقبه في الدنيا و الآخرة كما قص الله تعالى من دعاء موسى و هارون على آل فرعون : [ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ
الْأَلِيمَ ] يونس : 88 .
و أما لمعنى آخر يعلم بالتدبر و كأنه ألطف من هذا . فقد أحب - صلى الله عليه وسلم - قتل الرجلين ، لكن كره أن يصرح بالأمر يذلك في تلك الحال لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل من جاءه تائباً ، فأما إذا قتلا بدون أمر جديد منه فإنه يقال : إنهما قتلا بدون أمره ، و كره أن يومض لأن الإيماض من شعار أهل الغدر لا ينبغي للأنبياء .
أقول : فإذا لم ينبغي للأنبياء الإيماض في الحق لأنه في الجملة من شعار أهل الغدر فكيف ينبغي لهم (1) الكذب و هو نفسه قبيح مذموم ؟ !
__________
(1) كذا الأصل و لا غبار عليه في الأسلوب العربي : ففي القرآن : ( و ما ينبغي للرحمن أن يتخذ و لدا ) و فيه ( و ما علمناه الشعر و ما ينبغي له ) . أي لا يجوز ، فلا أدري ما الذي ما الذي بدأ لفضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق من هذه الكلمة (( ينغى لهم )) حتى كتب في الأصل فوقها كالمصحح لها (( يجوز عليهم )) مع أن المعنى واحد ، و اللفظ على الأسلوب القرآني فهو أفصح . ن(1/106)
و قال ابن حجر في ( الفتح ) (( باب الكذب في الحرب )) : (( قال النووي : الظاهر إباحة الكذب حقيقة في الأمور الثلاثة ، لكن التعريض أولى … و لا يعارض ذلك ما أخرجه النسائي … في قصة عبد الله بن سعيد بن أبي سرح … )) ثم قال ابن حجر : (( و الجواب المستقيم أن نقول : المنع مطلقاً من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يتعاطى شيئاً من ذلك و إن كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها ، فإن المراد أنه كان يريد أمراً فلا يظهره ، كأن يريد أن يغزو وجهة الشرق فيسأل عن أمر في جهة الغرب و يتجهز للسفر … )) .
أقول : كان صلى الله عليه و آله و سلم إذا أراد غزوة شرع في التجهيز و أمر أصحابه بذلك ، فقد تكون هناك قرينة تشعر بالجهة التي يريد ، و قد يكون هناك جاسوس لأهل تلك الجهة ، فإذا رأى التجهز و عرف تلك القرينة أسرع فأنذرهم فتحرزوا ، فكان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يقول ما يدافع تلك القرينة ليلتبس الأمر على الجاسوس ، فأما أن يتأخر ليعرف الحال فيسبقه النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أصحابه ، و إما أن يرجع إلى جهته فيخبرهم بأمر محتمل فلا يقوى الباعث لهم على التحرز . فإن التوريه تحصل بهذا و ليس من لازمها أن يكون ما يقوله صلى الله عليه و آله و سلم ظاهراً في غير ما في نفسه .
و اختصاص النبي صلى الله عليه و آله و سلم دون أفراد أمته بوجوب تنزهه عن كل ما يقال إنه كذب حكم معقول المعنى ، لأن وقوع مثل ذلك منه صلى الله عليه و آله و سلم لا ينفعك عن احتمال ترتب المفاسد عليه .
منها أنه لو ترخص في بعض المواضع لكان ذلك حاملاً على اتهامه في الجملة فيجر ذلك إلى ما عدى ذاك الموضع ، و هو صلى الله عليه و آله و سلم مبلغ عن الله فوجب أن لا يكون منه ما قد يدعو إلى اتهامه و لو في الجملة .(1/107)
و منها أنه صلى الله عليه و آله و سلم لم يزل منذ بعثه الله تعالى محارباً أو في معنى المحارب فلو وقع منه شئ مما يقال إنه كذب في الحرب لجر ذلك إلى الارتياب في كثير من أخباره ، إذ يقال : لعله كايد بها المشركين ، لعله ، لعله .
و منها أن الناس يقيسون فيقولون إنما ساغ ذلك في الحرب للمصلحة ، فينبغي أن تكون هي المدار فيسوغ مثل ذلك للمصلحة و لو في غير الحرب فيرتابون في أكثر أخباره صلى الله عليه و آله و سلم حتى في الدين .
و منها أنه فتح باب للمحدثين و لكل من غلبه هواه ، و لا يشاء أحدهم أن يندفع نصاً من النصوص النبوية إلا قال : إنما كان للمصلحة في عصره صلى الله عليه و آله و سلم . و هلم جراً ، فيصبح الدين ألعوبة كما وقع فيه الباطنية .
إلى غير ذلك من المفاسد التي تكون صغراها أكبر جداً من جميع المفاسد التي كانت تعرض في حروبه صلى الله عليه و آله و سلم ، و كان يمكنه أن يدفعها ببعض ما يقال : أنه كذب . فوجب أن تكون كلماته كلها حقاً و صدقاً .
فأما الخطأ فلا ريب أن الأنبياء قد يخطئ ظنهم في أمور الدنيا ، وأنهم يحتاجون إلى الأخبار بحسب ظنهم ، لكنهم إذا احتاجوا إلى ذلك فإنما يخبر أحدهم بأنه يظن و ذلك – كما تقدم – صدق، و حتى على فرض خطأ الظن ، فمن ذلك ما جاء في قصة تأبير النخل ، نشأ النبي صلى الله عليه و آله و سلم بمكة و ليست بأرض نخل ، و رأى عامة الأشجار تثمر و يصلح ثمرها بغير تلقيح ، فلا غرو ظن أن الشجر كلها كذلك ، فلما ورد المدينة مر على قوم يؤبرون نخلاً ، فسأل فأخبروه فأخبروه ، فقال : (( ما أظن يغنى ذلك شيئاً )) و في رواية (( لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً )) فتركوه ، فلم يصلح ، فبلغه صلى الله عليه و آله و سلم فقال : (( إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه ، فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن ، و لكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به ، فإني لن أكذب على الله )) .(1/108)
و في رواية (( إنما أنا بشر أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به ، و إذا أمرتكم بشئ من رأي فإنما أن بشر . أو كما قال )) أخرج مسلم الرواية الأولى من حديث طلحة بن عبيد الله ، و الثانية من حديث رافع بن خديج ، ثم أخرج من طريق حماد بي سلمة عن هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة ، و عن ثابت عن أنس القصة مختصرة و فيها أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال : (( لو لم تفعلوا لصلح )) و حماد على فضله كان يخطئ فالصواب ما في الروايتين الأوليين . و قوله صلى الله عليه و آله و سلم (( و لكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به فإني لن أكذب على الله )) و (( إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به )) واضح الدلالة على عصمته - صلى الله عليه وسلم - من الكذب خطأ فيما يخبر به عن الله و أمر الدين .
و من ذلك قسصة ذي اليدين : سلم - صلى الله عليه وسلم - في الظهر أو العصر من ركعتين فقام إليه ذو اليدين فقال : أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت ؟ فقال : كل ذلك لم يكن ، فقال ذو اليدين " بل يعض ذلك قد كان ، فسأل - صلى الله عليه وسلم - الناس فصدقوا ذا اليدين ، فقم فأتم بهم الصلاة . فقوله : (( كل ذلك لم يكن )) يتضمن خبرين :
الأول : عن الدين و هو أن الصلاة لم تقصر ، و هو حق .
و الثاني : عن شأن نفسه ، و هو أنه لم ينس ، و الواقع أنه كان قد نسي .
و القرائن واضحة في أنه اعتمد في الخبر الثاني على ظنه ، فهو في قوة قوله : (( لم أنس فيما رأى )) .(1/109)
و مما يدخل في هذا ما جاء في رضاع الغيل ، (1) ففي ( صحيح مسلم ) من حديث سعد بن أبي وقاص أنه ذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : لو كان ذلك ضاراً لأضر فارس و الروم )) ، و فيه من حديث جذامة (2) )بنت وهب مرفوعاً : (( بقد همت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم و فارس فإذا هم يغيلون أولادهم ، فلا يضر أولادهم ذلك شيئاً )) .
__________
(1) الغيل وطء المرضع ، فربما حملت من هذا الوطء فيفسد لبنها فيضر ذلك برضيعها ، فكان العرب يتجنبون ذلك محافظة على صحة أولادهم اثناء رضاعهم ، و هم النبي صلى الله عليه و سلم بالنهي عنه جرياً على تجارب العرب و لكنه رجع عن ذلك لفعل الروم و عدم ضرره لهم . م ع
(2) كذا الأصل بالذال المعجمة ، و هو رواية لمسلم ، و في أخرى له : (( جذامة )) بالدال المهملة ، قال مسلم : (( و هو الصحيح )) . قال الدارقطني : (( هي بالجيم و الدال المهملة ، و من ذكرها بالذال المعجمة فقد صحف )) . و على الصواب ، و قع فيما يأتي بع سطور ، و بالذال أيضاً ، فكان المصنف ذكره على الروايتين ، مشيراً إلى أنه لم يترجح عنده الصواب منهما . ن(1/110)
و في ( سنن أبي داود ) : (( حدثنا أبو توبة نا محمد بن مهاجر عن أبيه عن أسماء بنت يزيد ابن السكن قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا تقتلوا أولادكم سراً فان الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن فرسه )) . أبو توبة و محمد بن مهاجر من رجال ( الصحيح ) ، و مهاجر روى عن جماعة و ذكره ابن حبان في ( الثقات ) . (1) فالله أعلم .
__________
(1) قلت و هو معروف بتساهله في التوثيق كما سبق بيانه من المؤلف و منا ج 1 ص 436 – 438 ، و لم نر أحداً قد وافقه على توثيقه ، بل إن أبي حاتم لما أورد في كتابه ( 4 / 1 / 261 ) سكت عنه ، مشيراً بذلك إلى أنه غير معروف عنده، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في تعليقنا ص 436 و لذلك لم يعتمد توثيقه الحافظ بن حجر ، فقال في (( التقريب )) : (( مقبول )) . يعني عن المتابعة ، و إلا فلين الحديث ، كما نص على ذلك في المقدمة . و لذلك ، فإن القلب لا يطمئن لصحة هذا الحديث ، و قد أشار إلى تضعيفه العلامة ابن القيم في (( تهذيب السنن ) بقوله ( 5 /362 ) :
... (( فان كان صحيحاً فيكون النهي عن ( الغيل ) أولاً إرشاداً و كراهة ، و لا تحريما )) .
قلت : و هذا التأويل و إن كان بعيداً عن ظاهر حديث أسماء كما بينه المصنف ، فالمصير إليه واجب لحديث عبد الله ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن الاغتيال ، ثم قال : لو ضر أحداً لضر فارس و الروم .
قال الهيثمي في (( المجمع )) ( 4 /298 ) : (( رواه الطبراني و البزار و رجاله رجال الصحيح )) .
قلت : و كذلك رواه بن أبي حاتم في (( العلل )) ( 1 / 401 ) لكنه قال عن أبيه : (( الصحيح مرسل )) لكن له شاهد من شاهد من حديث أبي هريرة مثله . رواه الطبراني في (( الأوسط )) ، و فيه ليث بن حماد و هو ضعيف .(1/111)
زعم الطحاوي أن حديث أسماء كان أولاً ، و أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنى ذلك على ما هو المشهور بين العرب ، ثم كان حديث و جدامة بعد ذلك عندما أطلع - صلى الله عليه وسلم - على أن الغيل لا يضر .
هذا معنى كلامه و ليس بمستقيم .
أولاً : لأن حديث أسماء جزم بالنهي ، و حديث سعد و جدامة ظن مبني على أنه - صلى الله عليه وسلم - بلغه عن فارس و الروم أنهم يغيلون ثم لا يظهر بأولادهم ضرر لا يطهر مثله بأولاد العرب الذين لم يكونوا يغيلون فيتجه حمله على أنه عن الغيل .
ثانياً : في حديث أسماء جزم بضرر يخفى على الناس ، فإنما يمون ذلك عن الوحي ، و حديث سعد و جدامة إنما فيه نفي الضر الذي يظهر .
ثالثاً : في حديث جدامة : (( لقد همت أن أنهى )) و في حديث أسماء نهي صريح و كل من هذه الأوجه يقتضي تأخر حديث أسماء – على فرض صحته – و أن حديث سعد و جدامة كان رأياً رآة - صلى الله عليه وسلم - و ظناً ظنه .
هذا و قد أطلت في هذا الفصل و مع ذلك بقيت أمور مما يشتبه على بعض الناظرين كتأخير البيان إلى الحاجة عند الجماعة من أهل العلم ، و ما روي في نزول قوله تعالى : [ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَد ] ، و قوله - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه (( أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً )) .
فأما المجمل الذي لا ظاهر له فواضح أنه ليس فيه رائحة من الكذب ، و أما الذي له ظاهر ، فإنما يتأخر بيانه إذا كانت هناك قرينة تدافع ذاك الظهور ، فيبقى النص في حكم المجمل الذي لا ظاهر له ، و أما الآية و الحديث فالحق أن فهم غير المراد منهما إنما كان من تقصير السامع ، و لو تدبرسياق الكلام و لاحظ القرائن لما فهم غير المراد ، و قد شرحت ذلك بأدلته في رسالة ( أحكام الكذب ) و شرحت فيها ما حقيقة الكذب ؟ و ما الفرق بينه و بين المجاز ؟ و ما هي المعاريض ؟ و ما هو الذي يصح الترخيص فيه ؟ و غير ذلك .
[ و الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ] الأعراف : 43 .(1/112)
الباب الثالث:في الاحتجاج بالنصوص الشرعية في العائد
كان من المعلوم المقطوع به في عهد السلف الصالح أن ثبت ما يحتج به في العقائد و غيرها كلام الله تعالى و كلام رسوله ، ثم لما حدث التعمق في النظر العقلي كان بعض المتعمقين ربما يزيغ عما يعرفه الناس فيرد عليه أئمة الدين ، و يبدعونه و يضللونه و يحتجون بالنصوص ن فربما تأول هو النص أورد الحديث زاعماً أنه لا يثق بسنده ، فيرد عليه أئمة الدين تأويله بأنه خلاف المعنى الذي تعرفه العرب من لسانها و خلاف ما أثر من التفسير عمن سلف ، و يردون عليه رده للحديث بأن رجاله ثقات و أن أئمة الرواية يصححونه . و استمر الأمر على هذا زماناً . و في القرن الثاني نبغ من المبتدعة من يرد أخبار الآحاد حتى في الفقهيات ، و اقتصر بعضهم على ردها إذا خالفت القياس ، و ظاهر أن هذا يردها إذا خالفت المعقول في زعمه ، و قد رد أئمة الدين على هؤلاء ، و في كتب الشافعي كثير من الرد عليهم ، وكذلك تعرض له البخاري في ( الصحيح ) ، و على كل حال فكان معروفاً بين الناس أن أولئك المتأولين للنصوص على خلاف معانيها المعروفة و الرادين للأخبار الصحيحة هم مبتدعة . ثم عندما كثر المتعمقون و التبس بعضهم بأهل السنة كثر القائلون بأن أخبار الآحاد إذا خالف المعقول يجب تأويلها أو ردها ، و لبسوا بذلك ، فإن المعقول المقبول و هو ما كان من المأخذ السلفي الأول لا يصح نص بخلافه ، بل إذا صح نص ظاهر لفظه خلافه فالعقل حينئذ قرينة صحيحة لابد في فهم الكلام من ملاحظتها ، فالظاهر الحقيقي الذي هو معنى النص هو ما يظهر منه مع ملاحظة قرائنه . كل هذا و أهل السنة المتبعون لأئمتها المتفق على إمامتهم فيها ثابتون على ما كان السلف من الاحتجاج بالنصوص و تضليل من يصرفها عن معانيها المعروفة ، أو يرد الأخبار الصحيح .ثم نشأ المتوغلون في الفلسفة كالفارابي و ابن سينا ، فكان مما خالفوه من العقائد الإسلامية أمر المعاد ، فاحتج عليهم المتكلمون بالنصوص فغاضهم ابن سينا مغاضة شديدة، كما تراه في ( مختصر الصواعق ) ج 1 ص 241 .
و عباراته طويلة جداً ، و أنا أحاول المقصود أحاول تلخيص المقصود منها . زعم أن الشرائع إنما وردت لخطاب الجمهور ، أنها لو جائتهم بذكر التوحيد و التنزيه على ما يراه الفلاسفة و من يوافقهم من المتكلمين ، قال : (( لسارعوا إلى العناد أو أتفقوا على أن الإيمان المدعو إليه لإيمان بمعدوم لا وجود له أصلا )) . فزعم أن الحكمة اقتضت أن تجيئهم الشرائع بما يمكن تصديقهم به من التجسيم و التشبيه و نحو ذلك ليمكن قبولهم للشرائع العملية . و ذكر أن التوراة كلها تجسيم و أن في نصوص القرآن ما لا يحصى من ذلك قال: (( و بعضه جاء تنيهاً مطلقاً عاماً جداً لا تخصيص و لا تفسير له )) . ثم ذكر أن من النصوص ما هو صريح في التجسيم و التشبيه (( و لا يقع شبهة في أنها ليست استعارية و لا مجازية و لا يراد فيها شئ غير الظاهر )) . قال : (( فإن كان أريد بها ذلك ( يغني غير الظاهر ) إضماراً ( يعني أن المتكلم أضمر في نفسه إرادة غير الظاهر ، و إن كان الكلام لا يحتمله ) فقد رضي ( المتكلم بالقرآن ) بوقوع الغلط و التشبيه ( يعني التجسيم و نحوه ) و الاعتقاد المعوج بالإيمان يظاهرها تصريحاً )) . ثم ذكر أن الحال في أمور المعاد كذلك ، قال: (( و لم يكن سبيل للشرائع إلى الدعوة إليها و التحذير عنها إلا بالتعبير عنها بوجود من التمثيلات المقربة إلى الافهام …. فهذا هو الكلام على تعريف من طلب أن يكون خصاً من الناس لا عاماً أن ظاهر الشرائع غير محتج به في هذه الأبواب )) .
و يمكن ترتيب مقاصده في تلك العبارة على ما يا يأتي :
المقصد الأول : أن من تلك النصوص ما هو ظاهر في تلك المعاني ، و منها ما هو صريح فيها.
(1/114)
الثاني : أن الصريح منها يدفع احتمال الاستعارة و المجاز ، و يأبى أن يكون المراد منه إلا ذاك المعنى الذي هو صريح فيه .
( الثالث ) : أنه ليس في الكتاب و لا السنة نص ينفي تلك المعاني التي دلت عليها تلك النصوص الكثيرة بظهورها أو صراحتها أو صراحتها نفياً بيناً ، و إنما هناك إشارات يسيرة ليست بالبينة .
( الرابع ) : أن تلك المعاني موافقة لعقول المخاطبين الأولين و هو العرب الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه و آله و يلم ، حتى لو خوطبوا بنفيها لأنكرته عقولهم و ردته ، وحالهم في ذلك كحال الجمهور من الناس في عصرهم و قبلهم و بعدهم .
( الخامس ) : أن تلك المعاني في رأي ابن سينا و من يوافقه من المتكلمين ز غيرهم باطلة بدلالة النظر العقلي المتعمق فيه .
( السادس ) : أن صحة الدين الإسلامي و مجيئه بتلك النصوص على ما تقدم من حالها متناقضان ظاهراً ، إذ كيف يأتي الدين الحق بالاعتقاد الباطل ؟ !
( السابع ) : أن صحة الدين الإسلامي ثابتة بالبرهان و بطلان تلك المعاني ثابت – في زعمه و من يوافقه – بالبرهان .
( الثامن ) : أنه لا مخلص من هذا التناقض مع ثبوت كلا الأمرين ، بالبرهان إلا القول بأن الدين الحق قد يأتي بالاعتقاد الباطل رعاية لمصلحة البشر ليقبلوا الشرائع العملية التي تصلح شئونهم ! .
( التاسع ) : أنه إذا كان الأمر هكذا ، فاللائق بالجمهور قبول ما جاء به الدين الحق على أنه حق ، و اللائق بالخاصة و هم الذين تنبهوا لبطلان بعض تلك المعاني أن يعرفوا أن الدين إنما جاء لإصلاح الجمهور و أنه جاراهم على اعتقادهم و ما يوافقه و أن كان باطلاً في نفس الأمر ، فليدع الخاصة الاحتجاج بالنصوص للجمهور ، و ليحققوا لأنفسهم !(1/115)
( العاشر ) : أنه كما وقع في الدين ذاك التلبيس في عقائد في ذات الله و صفاته ، و لا مفر للمتكلمين الذين اعترفوا ببطلان تلك المعاني من الاعتراف به ، فكذلك وقع في أمور المعاد ، ووقوعها فيها أهون ، و المدار إنما هو على اقتضاء المصلحة ، و هي تقتضي التلبيس في أمور المعاد فإن الجمهور لا يخضعهم إلا الرغبة و الوهبة ، و لا تؤثر فيهم الرغبة و الرهبة إلا فيما يتعلق بالجسمانيات التي عرفوها و ألفوها .
و قد رأيت أن أفرض لأنه انعقد مجلس للنظر في هذه المقاصد حضره متكلم و سلفي و ناقد ، فجرى ما يأتي شرحه :
النظر في المقصد الأول
المتكلم : النصوص التي نوافق على بطلان ظواهرها لا نسلم أنها في تلك المعاني صريحة صراحة مطلقة أو ظاهرة ظهوراً مطلقاً ، كيف و القرينة قائمة على صرفها عنها ، و هي العقل و الإشارات التي ذكرت في المقصد الثالث .(1/116)
الناقد : أما العقل فقد زعم ابن سينا كما مر أن عقول الجمهور ومنهم المخاطبون الأولون موافقة لتلك المعاني ، فإن منعت هذا فنؤجل البحث فيه إلى المقصد الرابع ، و إن سلمته بطلت دعواك هنا ، فإن قانون الكلام أن تكون القرينة كاسمها مقترنة بالخطاب في ذهن المخاطب أو بحيث إذا تدبر عرفها و عرف صرفها عن الظاهر ، إذ المقصود عن نصب القرينة أن يكون الخبر صدقاً من حقه أن لا يفهم المخاطب منه خلاف الواقع ما لم يقصر . و إذا كانت عقول الجمهور و منهم المخاطبون الأولون توافق تلك الظواهر و تجزم بوجوبها عقلاً أو جوازاً أو لا تشعر بامتناعها فكيف يعتد عليهم بما قدر يدركه المتعمق في النظر بعد جهد جهيد ، مع العلم بأنهم لم يعرفوا التعمق في النظر و لا خالطوا متعمقاً بل نهاهم الشرع عن ذلك ، و هل هذا إلا كما لو غزا جماعة إلى أرض بعيدة ثم عادوا بعد مدة دون واحد فسئلوا عنه فأخبروه بأنه قتل فحزن أهله ثم قسموا تركته و اعتدت نساؤه و تزوجن إلى غير ذلك ، ثم قدم رجل فزعم أنه رأى ذلك الذي قيل انه قتل ، رآه بعد خبر القتل بمدة في الثغر حياً صحيحاً ، فافرض أنه ذكر ذلك للمخبرين بالقتل فصدقوا هذا المخبر الأخير و اعتذروا عن أخبارهم بالقتل بأنهم أرادوا بذاك الخبر خلاف ظاهره ، فقيل لهم : فهلا نصبتم قرينة ؟ فقالوا : كان الرجل حال خبرنا حياً صحيحاً سالماً و كفى بذلك قرينة ! فهل يقبل منهم هذا العذر ؟ أولا يرده عليهم العقلاء قائلين : ذاك لو كانت حياته و صحته و سلامته بحيث يدركها المخاطبون و هم أهله عند إخباركم لهم .(1/117)
فأما و هم لا يعلمون ذلك و لا يدركونه لبعده عنهم بمراحل كثيرة فليس هذا بقرينة ، إذا ليس من شأن العلم به أن يقترن عند المخاطب بالخطاب فيصرفه عن فهم الظاهر (1) ).
أما تلك الإشارات ففي المقصد الثالث أنها ليست بالبينة ، فإذاً لا تصلح أن تكون صارفة عن معاني النصوص الكثيرة الظاهرة أو الصريحة الموافقة لعقول المخاطبين ، بل يكون الأمر بالعكس و هو أن عقولهم وتلك النصوص الكثيرة تصرف عما قد يظهر من تلك الإشارات فإن كنت تزعم أن تلك الإشارات صريحة فنؤجل الكلام إلى المقصد الثالث .
المتكلم : إنما يصح الأخذ بظاهر الخبر إذا علم أن ذلك الأمر المخبر بوقوعه غير ممتنع عقلاً ، فأما إذا احتمل أن يكون ممتنعاً عقلاً فإنه يجب التوقف ، و يكون هذا الاحتمال قرينه تدافع ظاهر الخبر ، فتوجب التوقف فيه .
الناقد : في المقصد الرابع أن معاني تلك النصوص كانت موافقة لعقول المخاطبين، فإن سلمت ذلك سقط كلامك هنا لثبوت أنها لم تكن عندهم محتملة للامتناع ، فعلى فرض أن احتمل الامتناع يعد قرينة فلم يكن حاصلاً لهم ، فكيف يعتد عليهم به ؟ و قد مر الكلام في هذا ، و إن لم بسلم فينظر فيه في المقصد الرابع .
المتكلم : لم يكن القوم ماهرين في علوم المعقول فلا يعتد بإدراك عقولهم الوجوب أو الجواز ، بل يبقى الحكم في حقهم الاحتمال ، فإن لم يشعروا بقصورهم القاضي عليهم بالتوقف فقد قصروا .
__________
(1) و في (( صحيح مسلم )) و غيره حديث (( يمينك على ما يصدقك به صاحبك )) و هذا صريح في أن إضمار المتكلم في نفسه معنى غير المعنى الذي حقه أن يفهمه المخاطب لا يغني عن المتكلم شياً إذا كان المعنى الذي حقه أن يفهمه المخاطب غير واقع . المؤلف(1/118)
السلفي : كيف لا تعتد بعقولهم و قد اعتد بها رب العالمين فأرسل إليهم رسله ، و أنزل عليهم كتبه ، و أمرهم بالظر و التفكر و الاعتبار و التدبر ، و قبل إيمان من آمن منهم و أثنى عليهم ، نقم كفر من كفر منهم و عاقبه عليه ؟ ! و قد مر في صدر هذه الرسالة ما فيه الكفاية .
المتكلم : فدع هذا ، و لكن لي نظر في دعوى أن عقولهم كانت موافقة لتك المعاني .
الناقد : فيأتي الكلام في المقصد الرابع .
السلفي : هب أن تلك المعاني كانت محتملة في عقول القوم أي أنهم لا يدركون وجوبها و لا امتناعها و لا تقطع عقولهم بجوازها ، فدعواك أن احتمال الامتناع عقلاً قرينة توجب التوقف في ظاهر الخبر دعوى باطلة عقلاً و شرعاً و عملا ، أما العقل فإنه يقتضي قبول ظاهر الخبر إذا كان المخبر ثقة أميناً لا يخشى منه الكذب و لا التلبيس ، إذ الغالب صدقه ، و الغالب في الأخذ به حفظ المصلحة و اتقاء المفسدة ، و لا يفرق العقل بين ما يقطع المخاطب بجوازه و ما لا يقطع ، لأن الخبر الثقة الأمين غالب صدقه في الحالين ، و حفظ المصلحة غالب في الأخذ بظاهر خبره في النوعين ، فأما إذا ثبت عقلاً أن المخبر معصوم عن الجهل و الغلط و عن الكذب و التلبيس ، فوجوب قبول خبره بغاية الوضوح، بل إذا قطع المخاطب بعصمة المخبر عما ذكر و قطع بأن ظاهر خبره هذا هو المعنى ، و بأنه لا قرينة صحيحة تصرف عنه ، فأنه يقطع عقلاً بوقوع ذاك المعنى ،و إن كان قبل ذلك يجوز امتناعه عقلاً . و أما الشرع فظاهر ، فقد طالب الأنبياء الناس أن يصدقوهم فيما يخبرون به عن ربهم ، و أن يوقنو له بذلك ، و قضوا بإيمان المصدق الموقن و والوه ، و بكفر الممتنع عن التصديق و عادوه ، مع أن مما أخبروا به و طالبوا الناس بالإيقان به ما كانت عقول المخاطبين تستبعده ، و عقول الفلاسفة و بعض المتكلمين تصوب ذاك الاستبعاد ، و ذلك كحشر الأجساد بل مما أخبر به الأنبياء و طالبوا الناس بالإيقان به ما تزعم الفلاسفة(1/119)
أنه ممتنع عقلاً ، و وافقهم المتكلمون على ما وافقوهم من ذلك .
و أما العمل فلا يخفى على من تصفح أحوال الناس أنهم كانوا و لا يزالون و لن يزالوا يعتمدون على خبر الثقة الأمين فيما يقطعون فيه بعدم الامتناع و فيما يقطعون ، و اعتبر ذلك بأخذهم بأخبار علماء الحساب و الهندسة و المساحة و نحو ذلك من العلوم العقلية ، و هكذا العقائد ، فإن الناس يأخذونها من علمائهم تقليداً في كثير منها ، و يرضى منهم علماؤهم بذلك و يحضونهم عليه .
هذا و الخبر بوقوع الأمر يتضمن قطعاً بعدم امتناعه فكأن المخبر بعدم الامتناع ، و احتج بمشاهدته الوقوع ، و لو وجب أن يتوقف عن قبول ظاهر خبر الثقة الأمين في مثل هذا لوجب مثله فيما علم جوازه عقلاً لأن جوازه لا يقتضي وقوعه و ما لم يقع فالحكم بوقوعه ممتنع ، و تفسير هذا أنه إن كان ينبغي التوقف عن حمل الخبر على ظاهره فيما إذا احتمل أن يكون ذاك الظاهر ممتنعاً لذاته ، فكذلك فيما إذا احتمل أن يكون ممتنعاً لثبوت نقيضه ، حتى لو كنت قد علمت أن زيداً في بيته فأخبر بأنه خرج منه فإن خروجه ذلك يحتمل أن يكون ممتنعاً عقلاً لثبوت نقيضه إذا يحتمل أنه لم يخرج من بعد أن عهدته فيه ، و إذا كان لم يخرج فمن الممتنع عقلاً أن يكون خرج .
المتكلم : إنما فرقنا بين النوعين لأنه قد لا يحتمل في الأول أن يقوم بعد وقت الخطاب و لو بمدة طويلة دليل على أن ذاك الظاهر ممتنع عقلاً ، فيجب حينئذ صرف الخبر عن ظاهره أو الاعتراف بأن المتكلم به غير معصوم .
السلفي : إن ساغ هذا الاحتمال في الأول ساغ في الثاني ، فيحتمل فيما أخبر النص بأنه وقع أو سيقع في وقت كذا أن يقوم فيما يأتي دليل خلاف ذلك . فليس هناك إلا سبيلان :(1/120)
الأولى : سبيل المؤمنين أنه يستحيل عقلاً أن يكون المتكلم بالقرآن أو من النبي عليه الصلاة و السلام فيما يخبر به ربه جهل أو غلط أو كذب أو تلبيس ، ففرض أن يقوم دليل قاطع على خلاف النص الثابت قطعاً ، أو الظاهر قطعاً ز لا قرينة معه قطعاً ، فرض للمستحيل .
الثانية : سبيل ابن سينا و من وافقه من تجويز الجهل و الغلط ، أو الكذب و التلبيس [ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ] الكهف: 29 .
المتكلم : و هل كلامنا إلا في القطع ؟ فهب أن احتمال الامتناع العقلي لا يصلح أن يكون قرينة فمن أين يأتي القطع ؟ و من المحتمل أن يخطئ الناظر الناظر فيعتقد أن الحديث ثابت ، و ليس بثابت ، أو يعتقد صراحة الآية أو الحديث الثابت فيما فهمه ، و ليس كذلك ، أو يعتقد ظهور ما ليس بظاهر ، أو يعتقد انتفاء القرينة و هناك قرينة غفل عنها .
السلفي : سيأتي إثبات حصول القطع في الكلام مع الرازي و العضد ، فأما الخطأ، فالخطأ في الباب إنما يكون في الظن ، و ليس كالنظر العقلي المتعمق الذي يكثر فيه الغموض و الاشتباه و القطع بالباطل كما مر في الباب الأول ، و النظر في النصوص على وجه الإيمان بها و التسليم لها اهتداء يحبه الله تبارك و تعالى [ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ] محمد : 17 .
و النظر في الشبهات التعميقية على وجه الوثوق بها و تقديمها على النصوص زيغ عن سبيل الله [ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ] الصف : 5 .(1/121)
و من الواضح أن المهتدي أهل أن يعفى عن خطائه بخلاف الزائغ . و فوق ذلك فكلامنا هنا إجمالي ، فتتبعوا إن شئتم التفصيل فبينوا على طريق المأخذين السلفيين خطأ من أخطأ منا إن استطعتم ، فأما تعمقكم فقد أثبتنا أنه ليس بحجة في الدين فلا علينا أن لا نلتفت إليه ، فإن رضيتم بما عندكم فنحن بما عندنا أرضى [ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ . وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ] الشورى :15 - 16 .
المقصد الثاني
المتكلم : لا أسلم أن فيما أزعم بطلان ظاهره من النصوص المتعلقة بالعقائد ما هو من الصراحة بحيث يدفع احتمال الاستعارة و المجاز و نحو ذلك ، و يأبى أن يكون المراد به إلا ظاهره ، بل أقول يمتنع أن يكون في النصوص المتعلقة بالمعقولات ما هو كذلك .
السلفي : النصوص كلام ، و معلوم أن الكلام كثيراً ما يكون صريحاً بنظمه أو بسياقه أو بتأكيده أو بتكراره في مواضع كثيرة على وتيرة واحدة ، او بالنظر إلى نظائره ، أو إلى حال المخاطب التي يعلمها المتكلم – إلى غير ذلك ، و هكذا حال النصوص و هي بحمد الله تعالى معروفة ، و أمرها أوضح من أن يحتاج إلى بيانه ، و ليس هذا موضع التفصيل . و التفرقة بين المعقولات و غيرها مبنية على شبهة قد مر إبطالها ، على أن الظهور وحده قد يكفي للقطع كما تقدم ، و سيأتي في الكلام مع الرازي و غيره مزيد إن شاء الله تعالى .
المقصد الثالث(1/122)
المتكلم : كيف تكون تلك الإشارات غير بينة ؟ و فيها قوله تعالى : [ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ] و اسمه تعالى (( الواحد )) و ( قل هو الله أحد ) السورة .
السلفي : أما قوله تعالى : [ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ] فمثل الشئ – في لغة العرب – نظيره الذي يقوم مقامه و يسد مسده . و عند اكثر المتكلمين : مشاركة في جميع الصفات النفسية . و عند أكثر المعتزلة : مشاركة في أخص وصف النفس . و قال قدماء المتكلمين كما في ( المواقف ) (( ذاته تعالى مماثلة لسائر الذوات ، و إنما تمتاز عن سائر الذوات بأحوال أربعة : الوجوب و الحياة [ التامة ] و العلم التام و القدرة التامة … )) قال السيد في ( شرحه ) : (( قالوا و لا يرد علينا قوله تعالى : [ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ] . لأن المماثلة المنفية ههنا المشاركة في أخص صفات النفس دون المشاركة في الذات والحقيقة )).
و قال النجار : مثل الشئ مشاركة في صفة لإثبات و ليس أحدهما بالثاني . و ألزموه : (( مماثلة الرب للمربوب إذ يشتركان في بعض الصفات الثبوتية كالعالمية و القادرية )) كذا في ( المواقف ) ( و شرحها ) و فيما بعد ذلك (( هل يسمى المتخالفان المتشاركان في بعض الصفات النفسية أو غيرها مثلين باعتبار ما اشتركا فيه ؟ لهم فيه تردد وخلاف و يرجع إلى مجرد الاصطلاح … و عليه … يحمل قول النجار … فالله مماثل عنده للحوادث في وجوده عقلاً أي بحسب المعنى و النزاع في الاطلاق … ))
أقول : و ليس في النصوص التي ينكر المتكلمون معانيها ما يظهر منه إثبات مناظرة على الإطلاق بين الله عز و جل و غيره ، و لا مشاركة في جميع الصفات النفسية، و لا في أخص وصف النفس ، فإذا حملت المماثلة المنفية في الآية على واحد من هذه المعاني فليس بين الآية و بين شئ من المعاني الظاهرة لتلك النصوص منافاة ما .(1/123)
فأما المماثلة في بعض الصفات دون بعض فقد علمت إن المتكلمين يثبتونها في الجملة ، ولذلك ذكر الفخر الرازي أنه لا يصلح حمل الآية ما ينفي ذلك ، و أجاب الآلوسي بقوله :
(( من المعلوم البين أن علم العباد و قدرتهم ليسا مثل علم الله عز و جل و قدرته جل و علا – أي ليس سادين مسدهما )) .
أقول : قد تؤخذ المماثلة في مطلق العالمية و القادرية و نحو ذلك . فإن قيل ذاك أمر لا يلتفت إليه ، إذ ليس الواقع إلا قدرة ذاتية تامة لله عز و جل ، و قدرة مستفادة ناقصة للعبد – و هكذا .
قلت : فهذا المعنى أيضاً غير مناف لشئ من تلك الظواهر .
تحقيق معنى الآية
من تتبع موارد استعمال نفي المثل في الكتاب و السنة و كلام البلغاء علم أنه إنما يراد به نفي المكافئ فيما يراد إثباته من فضل أو غيره ، فمن ذلك قول الشاعر :
خلق يدانيه في الفضائل
ليس كمثل الفتى زهير
و قول الآخر :
ما إن كمثلهم في الناس من أحد
سعد بن زيد إذا أبصرت جمعهم
و قال الله عز وجل : [ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ] . الاسراء : 88 .
و قال تعالى : [ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ . إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ . الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ ] الفجر :6 – 8 .
أي – و الله أعلم – في قوة الأجسام كما يومئ آيه السياق و آيات أخرى .(1/124)
و قال سبحانه : [)هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ] خاتمة سورة ( محمد ) أي في الولي و البخل . و في حديث أبي أمامة في ( المسند ) و غيره أنه قال يا رسول الله مرني بعمل . فقام : عليك بالصوم فإنه لا مثل له . (1)و دونك الآيات التي فيها ( ليس كمثله شئ ) و نظائرها [حم عسق . كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ . تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي
__________
(1) قلت : هو في (( المسند )) ( 5/258,255 ) من طريق مهدي بن ميمون ثنا محمد بن عبد الله ابن أبي يعقوب الضي عن رجاء بن حيوة عن أبي أمامة . و من هذا الوجه ابن حبان ( 929 ) ، و هذا إسناد صحيح. رجاله ثقات رجال الشيخين ، لكن رواه شعبة عن محمد هذا قال : سمعت أبا نصر الهلالي عن رجاء بن حيوة. أخرجه ابن حبان ( 930 ) و الحاكم ( 1 /421 ) و قال : (( صحيح الإسناد و أبو نصر الهلالي هو حميد بن هلال العدوي )) . و وافقه الذهبي . كذا قالا ، و أبو نصر هذا ليس هو حميد ابن هلال ، بل هو رجل لا يدرى من هو كما قال الذهبي نفسه في (( الميزان )) . و قال الحافظ في (( التقريب )) : ((مجهول)). لكن ذكره في الإسناد شاذ ، فقد رواه ثقتان آخران كما رواه مهدي بم ميمون بإسقاطه ، و صرح بعضهم بسماع ابن أبي يعقوب من رجاء فهو إسناد متصل صحيح و قد صححه الحافظ في (( الفتح )) كما بينته فيما علقته على ( الترغيب و الترهيب ) . ن(1/125)
الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ . وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ . وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ . أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ . فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ . لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ] .
فواتح سورة الشورى ) .
و من نظائر هذه الآيات في الجملة قوله تعالى : [ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ] الرعد : 16 .(1/126)
و قوله سبحانه : [ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ . فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ] يونس : 31 – 32 .
و قوله تعالى : [)قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ . أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ . ]
النمل :59 – 60 .
و قوله تبارك اسمه : [ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ . قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ . قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ . بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ . عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ] . المؤمنون 84 – 92 .(1/127)
الآيات في هذه المواضع و أمثالها مسوقة لإقامة الحجة على المشركين الذين يتخذون من دون الله تعالى و بغير سلطان منه أولياء يعبدونهم أي يخضعون لهم طلباً للنفع الغيبي ، فالقرآن يبين أن مناط استحقاق العبادة أن يكون المعبود مالكاً للتدبير الغيبي مختاراً أن ينفع به و يضر كما يشاء لا على وجه الطاعة منه لمن هو أعلى منه ، و لا مفتقراً إلى إذن خاص ممن هو أعلى منه ، فإن هذا المالك هو الذيك يكون خضوع من دونه له سبباً لأن ينفعه ، و إعراضه عنه مظنة أن يضره ، فحينئذ يحق لمن دونه أن يخضع له . فأما من ليس كذلك فلا يمكن أن ينال من دونه منه نفع و لا ضر . نعم إن الله عز و جل يأمر الملائكة بما يريد فيفعلونه و يأذن لهم في الشفاعة لمن يحب فيشفعون و هم كما قال تعالى: [ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ . لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ .يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ . و هم بأمره يعملون . يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و هم من خشيته
مشفقون ] الأنبياء : 26 – 28 .(1/128)
فإذا أمرهم سبحانه بنفع عبد فعلوا ذلك طاعة لربهم فقط . و إذا أذن لهم في الشفاعة شفعوا رغبة في رضا ربهم ، و لو فرض أنهم لم يشفعوا بعد الأذن فلم يأذن لهم ربهم إلا وقد ارتضى الأمر الذي أذن لهم أن يشفعوا فيه فهو كائن لا محالة و إن لم يشفعوا، و بهذا يتضح يقيناً أن سؤال العبد من الملائكة أو خضوعه لهم عبث من جهة و سبب لغضب الله عز و جل على السائل ، فتغضب الملائكة لغضب ربهم من جهة أخرى. ولو كان الملائكة يتصرفون بأهوائهم لأختلفوا ، إذ قد يهوى هذا نصر أحد الجيشين المقتلين و يهوى الآخر نصر الجيش الآخر فيعمل كل منهما بحسب هواه ، يبذل جهده في التصرف بكل ما يمكنه ، هذا مع عظم قوة الملائكة و قدرتهم ، فتختل الأمور و يفسد النظام ، قال الله عز و جل : [ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ]الأنبياء : 22 . و قال تعالى : [ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِن ]
المؤمنون : 71 . و لما أذن الله عز و جل للبشر إذناً قدرياً عاماً في عمل ما يريدون – لأن مقصود التكليف لا يتم في حقهم إلا بذلك جعل قدرتهم محدودة ، فيقع من الفساد ما يناسب قدرتهم كما هو مشاهد ، و كلما زادت قدرتهم بواسطة الآلات و المخترعات زاد الفساد كما تراه في هذا العصر ، و لولا الله عز و جل يكفكف شدة ذلك بقدره لكان الفساد أعظم ،قال تعالى : [ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ] البقرة:251 .(1/129)
إن كان الله عز و جل يأذن لأرواح الصالحين الموتى بأمر يتعلق بالأحياء فلن يكون حال الأرواح إلا كحال الملائكة سواء ، بل الأرواح أولى بأن لا يؤذن لها في التصرف (1)
__________
(1) و الحق أن الأرواح بعد في قبضة الواحد القهار لا تصرف لهم في شؤون الأحياء بل قد انقطع عملهم كما في الحديث : (( إذا مات أبن آدم انقطع عمله غلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعوا له )) و هذه الثلاثة الباقية له بعد موته في آثار أعماله في الحيات قبل موته فليست عملاً له بعد الموت . و قال تعالى : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [ وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ] فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا [ الْمَوْتَ ] وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى ) . فالذي مات أمسك في قبضة القهار ، بخلاف الحي الذي أرسل إلى أجل مسمى . و ما فتح الشرك على من أشركوا بالأموات و الصالحين إلا اعتقادهم فيهم أنهم يفعلون بعد موتهم مثل ما كانوا يفعلون في حياتهم أو أشد و أقوى على سبيل الكرامة بزعمهم ، فتوكلوا على الأموات و عبدوهم و نسوا الحي القيوم فلم يتكلموا عليه و لم يخلصوا له العبادة كما هو مشاهد من أحوال عباد القبور و المنتصرين لهم من شرق الأرض و غربها . و الله المستعان كتبه محمد عبد الرزاق س.
يقول المؤلف : إنما فرضت الأذن للأرواح فرضاً ، و أوضحت أنه على فرضه فلن يكون حالها إلا كحال الملائكة في أن تصرفها إنما يكون تنفيذاً لما يأمر الله عز و جل ، و كما أن ثبوت ذاك التصرف للملائكة لا شبهة فيه لمن يعبدهم فكذلك الأرواح . و هذا واضح جداً و هو أقطع للنزاع من بسط الكلام في نفي التصرف البتة . و في ( كتاب الروح ) لأبن القيم ما يؤخذ منه أنه يثبت للأرواح تصرفاً في الجملة ، و سمعت بعض الأخوان يستعظم ذلك ، كأنه برى أن ذلك يروج شبه دعاة الموتى . و لا أشك أن هذا لم يغب عنه ذهن أبن القيم ، و لكنه يعلم أن الشبهة إنما تروج إذ أثبتنا للأرواح تصرفاً بأهوائها ، فأما ما كان من قبيل تصرف الملائكة فلا وما ذكره الشيخ من انقطاع العمل حق ، لكن لأبن القيم أن يقول قد تحب الأرواح أن تعمل عملاً في طاعة الله عز و جل تلذذاً بالطاعة كصلاة الأنبياء ليلة الإسراء و نحو ذلك فيكون ذاك التصرف في حقها من جملة النعيم تلتذ به نفسه و لا تثاب عليه ، و على كل حال فإنما فرضا فرضاً ، ليس فيه أدنى متشبث لدعاة الموتى فتدبر .(1/130)
بأهوائها ، فإنها في غير دار تكليف لا تخشى عقوبة علة ما يقع منها بخلاف الملائكة ، و بعض المسلمين يتردد في عصمه بعض الملائكة ، و القائلون بالعصمة يقولون بالتكليف مع شدة الخشية ، كما تقدم في بعض الآيات السابقة و المشركين الذين يزعمون أن الملائكة يتصرفون بأهوائهم ، يزعمون أنهم غير معصومين ، بل يجعلون حالهم كحال البشر مع عظم القدرة ، و يقولون كما أن للإنسان أن يسأل إنساناً آخر أغنى أو أقدر منه و يخضع له ، فكذلك له أن يسأل الملائكة و يخضع لهم لأنهم يعملون ما يشاءون، و يشاءون ما يهوون كالبشر و قدرتهم أعظم و هذا الشرك يوجد في بعض مشركي الهند و غيرهم ، و عليه كان أكثر الأمم المشركة . أما مشركو العرب فإنهم قلدوا غيرهم من الأمم في الشرك العملي فقط كما تقدم في الآيات ، إلا أنهم كانوا عندما يسألون عن ذلك يتشبثون بالشفاعة فقط ، مع تردد فيها ، و لما حاجهم القرآن لم يبق بأيديهم إلا الشغب حتى أنقذهم الله عز و جل ، و بالجملة فكان شركهم يكاد يكون عملياً فقط . و إذا تأملنا ما وقع فيه عامة المسلمين في القرون المتأخرة وجدناه أشد جداً مما كان عليه مشركو العرب . فأنا لله و أنا إليه راجعون .(1/131)
و أما البشر الأحياء فقدرتهم معروفة و لا تكون لهم قدرة غير عادية ، نعم قد يتفق قدرة عادية غريبة كما يقع لبعض المرتاضين و السحرة و سيأتي الكلام فيها ، فأما معجزات الأنبياء و كرامات الأولياء فليست بقدرتهم و لا في ملكهم ، قال اله عز و جل لمحمد صلى الله عليه و آله و سلم : [ و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى ] . و كان الصحابة إذا احتاجوا إلى نفع غيبي إنما يسألون النبي صلى الله عليه و آله و سلم الدعاء كما في الاستسقاء ، و قلة الأزواد في السفر ، و غير ذلك ، و الدعاء داخل في المقدورات العادية كما لا يخفى . و كانوا إذا بعدوا عنه فاحتاجوا أن يراجعوه في شيء كتبوا إليه أو أرسلوا على ما جرت به العادة ، فإذا لم يمكن ذلك قال أحدهم : أللهم أخبر عنا رسولك ، كما قال عاصم بن ثابت ، و جاء نحوه عن خبيب ابن عدي / و منا يحكى عنه مما يخالف ذلك لا يثبت ، و لو ثبت وجب حمله على المعنى المعروف . و دعاؤهم مرجوا الإجابة و ليس ذلك بحتم ، قال الله عز و جل لنبيه صلى الله عليه و آله و سلم : [)إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ] و قال سبحانه : [ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ] الأنعام : 35 و النصوص في هذا المعنى كثيرة .(1/132)
و أما الجن فأنه مأذون لهم أذناً قدرياً عاماً في الوسوسة لبني آدم ، و ذاك كالأمر الطبيعي لهم ، إما يستدعي بمعصية الله عز و جل و الغفلة عن ذكره ، و يستدفع بطاعته سبحانه و التعوذ به . فأما ان ينفعوا الناس أو يضروهم فلو كان مأذوناً لهم فيه أذناً قدرياً عاماً يشبه الأذن للناس ، لفسدت الدنيا ، فإن كان قد يقع شيء من ذلك فإنما يكون بأذن قدري خاص لا يفسد قواعد الدنيا ، و الإنسان لا يحتاج إلى الرغبة إليهم لتحصيل شيء من ذلك لأن الله عز و جل قد أغنى الناس بالأسباب العادية ، و بدعائه سبحانه ، أو ليس أن تسأل المالك الحقيقي القادر على كل شيء أقرب و أولى من أن تسأل جنياً على أمل أن يأذن له الله عز و جل إذناً قدرياً خاصاً في فعل مطلوبك ؟ فإن فرض أن إنساناً رغب إلى الجن فحصل له نفع أو أندفع عنه ضر فذلك بمنزلة من يتقرب إلى المشركين بالسجود لأصنامهم و نحوه ، فإنهم قد ينفعونه و ليس ذلك بعذر له ، بل الأمر أبعد فإن المشركين مأذون لهم إذناً قدرياً عاماً في النفع و الضر على ما جرت به العادة .
ة حال السحر كحال الجن قال اله عز و جل : [ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ (1) إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ] أي و الله أعلم إذناً قدرياً خاصاً و إنما يقع ذلك نادراً ، نعم قد يعد من السحر ما هو مبني على سبب عادي غريب كالتنويم المغناطيسي ، و ما يقع لبعض المرتاضين من التأثير بالهمة فيحسبه الجاهل كرامة .
__________
(1) في الأصل ( به أحدا ) . ن(1/133)
هذا و إذا أمر الله عز و جل بطاعة أحد أو الخضوع له أو بفعل هو في الصورة خضوع له ففعل المأمور ذلك طلباً للنفع الغيبي من الله عز و جل فهذه عبادة الله عز و جل، و هذا كسجود الملائكة لآدم ، و هكذا تعظيم المسلمين لحرمات الله عز و جل كاستقبال الكعبة (1) و الطواف بها و تقبيل الحجر الأسود ، و غير ذلك مما أمرهم الله به ففعلوه طاعة لله غير مجاوزين ما حده لهم ، و كذلك توقير النبي و إكرام الأبوين و أهل العلم و الصلاح بدون مجاوزة ما حده الله تعالى من ذلك .
والحاصل أن الخضوع طلباً للنفع الغيبي عبادة . فإن كان عن أمر من الله تعالى ثابت بسلطان فهو عبادة له سبحانه و لو كان في الصورة لغيره كالكعبة ، و إلا فهو عبادة لغيره . و يتعلق بهذا الباب مباحث عديدة قد بسطت الكلام عليها في كتاب ( العبادة ) (2) و إنما ذكرت هنا شذرة منه .
__________
(1) تعظيم المسلمين لحرمات الله و استقبال الكعبة و الطواف بها و تقبيل الحجر الأسود ليس كل ذلك من الخضوع لغير الله و طاعته بل هو خضوع لله و طاعة له بهذا العمل . م ع
(2) كتاب من تأليفي استقرأت فيه الآيات الاقرآنية و دلئل السنة و السيرة و التاريخ و غيرها لتحقيق ما هي العبادة ، ثم تحقيق ما هو عبادة لله تعالى مما هو عبادة لغيره يسر الله نشره . المؤلف(1/134)
و أصل المقصود هنا تفسير الآية فأقول : إن القرآن يذكر التدبير الغيبي جملة أو يذكر بعض أنواعه تفصيلاً ، و يبين أن المالك له القادر عليه المختار فيه بدون توقف على أمر آمر أو إذن أو تسليط مسلط ، هو الله وحده لا شريك له ، و أن ذلك هو مناط استحقاق العبادة ، فإذا كان سبحانه هو المتفرد بذلك فهو المتفرد باستحقاق العبادة . فتدبر الآيات المتقدمة تجدها على ما وصفت ، و تدبر آيات الشورى التي فيها [ ليس كمثله شئ ] تجدها من هذا القبيل ، فإذا كان الأمر هكذا فالظاهر أن المراد بقوله :
[ ليس كمثله شئ ] نفي المثل فيما ذكر في السياق من أنه تعالى يحي الموتى و أنه على كل شيء قدير ، و أن إليه الحكم و أنه فاطر السماوات و الأرض إلى غير ذلك . و جماع ذلك كله ملك التدبير الغيبي و القدرة عليه و الاختيار فيه على ما تقدم وصفه ، و المقصود بذلك إثبات أنه لا آله إلا الله .
و هب أنه يسوغ حمل قوله [ ليس كمثله شيء ] على ما يخالف تلك الظواهر التي يفر منها المتكلمون فهو احتمال مرجوح ، وهبه مساوياً أو راجحاً فهل يصح أن يعتد بها قرينه تصرف عن ظواهر تلك النصوص التي لا تحصى ، منها الظاهر البين ، و منها الصريح الواضح ، و منها المؤكد المثبت ، و معها عقل المخاطبين الأولين من الصحابة و غيرهم و جمهور الناس ؟ و هل هذا إلا قلب للمعقول الواضح ؟(1/135)
هذا و القائلون بأن ذات الله تعالى مجرداً أكثرهم يثبتون أو يجوزون وجود ذوات كثيرة مجردة من عقول و نفوس و أرواح غيرها ! فليتدبر من له عقل أليسوا أولى بزعم أن لله عز و جل مثلاً بل أمثالاً ممن لا يقول بالتجرد المحض الذي يزعمونه ؟ فإن الذوات المخلوقة غير المجردة تتفاوت تفاوتاً عظيماً جداً فما الظن بذات الخالق تبارك و تعالى ؟ فأما المجردة على فرض وجودها فكيف يعقل التفاوت العظيم بينهما حتى تكون هذه ذات رب العالمين و هذه ذات روح بعوضة ؟و ما قيل أن التجرد أمر عدمي لا يدفع ذلك ، على أنه عندهم براءة لأمر وجودي احتيج إليه ، لأنه ليس في اللغات لفظ يدل على ذاك المعنى ، لأن اللغات تابعة للعقول الفطرية ، و العقول الفطرية لا تعقل وجود ذات مجردة ذاك التجرد ، و إنما تعبر عن ذاك المعنى بقولها : (( معدوم )) (1) .
قال السلفي : و اقتصر عن النظر في تلك الآية على ما ذكرت راجياً أن يكون فيه الكفاية لمن لم يستحوذ عليه الهوى ، فأما من ختم على قلبه فلا مطمع فيه . و الله الموفق .
و أما اسم الله تعالى (( الواحد )) فلفظ (( واحد )) يراد به في اللغة ما يقابل المتعدد ومن تتبع مواقعه في القرآن و غيره من الكلام العربي الفصيح وجده يأتي وصفاً لموصوف ويكون هناك شيء محكوم عليه بالموصوف مع وصفه ، فعدم التعدد يكون للمحكوم عليه باعتبار الموصوف . قال الله تعالى : [ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ] حكم على الناس فيما كانوا عليه بقوله (( أمة واحدة )) فعدم التعدد ثابت للناس باعتبار (( أمة )) أي لم يكونوا أمتين أو أكثر ، و قد يصرح في الكلام بالمحكوم عليه و بالموصوف كما رأيت ، و قد يطوى ذكر أحدهما فيعرف بالتدبر ، و لا أطيل بأمثلة ذلك .
و على كل حال ، فإنه يأتي على أحد معنيين :
الأول : نفي التعدد في المحكوم عليه نفسه كالمثال السابق : نفي أن يكون الناس كانوا أمتين أو أكثر .
__________
(1) يأتي لهذا مزيد في مسألة الجهة . المؤلف(1/136)
المعنى الثاني : نفي أن يكون مع المحكوم عليه مثله أو مثلاه أو أمثاله باعتبار الموصوف فيكون المجموع متعدداً ، و من ذلك قوله تعالى : [ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ] أي ليس معه آله آخر أو أكثر فيكون المجموع متعدداً ، و من هذا الثاني قولهم : فلان واحد في فنه . واحد زمانه ، أي لا نظير له في ذلك .
... إذا تقرر هذا فلنذكر الآيات التي ورد فيها هذا الاسم . قال تعالى فيما قصة عن يوسف عليه السلام : [ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ . مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا ] يوسف 39 – 40
و قال عز و جل : [ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ] الرعد - 16
و قال سبحانه : [ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ . وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ . سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ . لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ . هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ] . خواتيم سورة
( إبراهيم ) .(1/137)
و قال تبارك و تعالى : [ قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ . رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ] صّ – 65 – 66 .
و قال تعالى : [ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ : مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ . لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ] الزمر – 3 – 4
و قال سبحانه : [ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ : لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ] غافر – 16
هكذا جاء هذان الاسمان الكريمان (( الواحد القهار )) في القرآن مقترنين معرفتين في المواضع كلها ، و كل ذلك في سياق إقامة الحجة على المشركين في الألوهية الزاعمين أن لله شركاء في استحقاق العبادة .(1/138)
فالكلام جارٍ على المعنى الثاني ، و هو نفي الحاصل بجود مثله معه في الربوبية و ما يقتضي استحقاق العبادة ، و سياق الآيات واضح جداً في ذلك ، و إنما ادعى بعضهم المعنى الأول في آية ( الزمر ) فقال : إن إمكان أن يكون له و لد ، يستدعي التركيب و الانفصال و الوحدة تنافي التركيب . و التركيب الذي يريده الفلاسفة و المتكلمون ليس من التعدد الذي تعقله العقول الفطرية في شئ ، (( الواحد )) بالمعنى الثاني الولد بدون تكلف فإنه لو كان له سبحانه و لد لكان نظيراً له في القدرة و غيرها فيكون رباً مستحقاً للعبادة ، و قد قال تعالى : [ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً . إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً . ] مريم : 92 – 93 .
و قال تعالى : [ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ] . البقرة : 116 .
و قال سبحانه : [ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ] . الأنبياء : 26
فحصل المقصود مع بقاء الإسم (( الواحد )) (1) على معناه المعروف الموافق لسائر الآيات .
__________
(1) من أدل شئ على أن الوصف بالواحد أو الأحد أو الوحيد لا ينفي الصفات عمن و صف بذلك الله تعالى و صف فيلسوف قريش الوليد بن المغيرة متوعداً متهدداً بقوله ( ذرني و من خلقت وحيداً ) الخ فوصفه بالوحيد بمعنى الواحد و لم ينفي عنه ذلك الوصف أن يكون إنسان له أوصاف أخرى من يدين و رجلين و وجه و رأس الخ ، فوصف الله تعالى بالأحدية لا ينفي صفاته الأخرى ، إفادة الإمام أحمد في (( رده على الجهمية )) الذين نفوا صفات الله تعالى من وصفه بالأحد و الواحد . م ع(1/139)
هذا و لما كان الاسم (( الواحد )) إنما هو صريح في نفي النظير في الربوبية ، و ما يقتضي استحقاق العبادة ، و ليس بالصريح في نفي المشارك في ذلك مشاركة تقتضي استحقاق العبادة في الجملة أردف في الآيات كلها بالاسم (( القهار )) ليتمم المعنى المقصود، و جاء الاسمان معرفين لأن ذلك معروف مسلم عند المشركين ، كما يوضحه الآيات الأخرى التي تقدم ذكر بعضها في الكلام على قوله تعالى : [ ليس كمثله شئ ] . و الله الموفق .
و أما سورة الإخلاص ففي ( صحيح البخاري ) و غيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال : (( قال الله تعالى : كذبني ابن آدم و لم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي فقوله : لم يعيدني كما بدأني … و أم إياي فقوله : اتخذ الله ولداً و أنا الأحد الصمد لم ألد ، و لم أولد ، و لم يكن لي كفؤا أحد )) و في رواية :
(( وأنا الصمد الذي لم ألد …. )) وقال الترمذي : (( حدثنا أحمد بن منيع حدثنا أبو سعد
– هو الصاغاني – عن أبي جعفر الرازي عن الربيع عن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : انسُب لنا ربك ، فأنزل الله : [ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ ] ، فالصمد الذي لم يلد و لم يولد ، لأنه ليس شئ يولد إلا سيموت ، و لا شئ يموت إلا سيورث ، و إن الله عز و جل لا يموت و لا يورث . [ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ] قال : لم يكن له شبيه و لا عدل ، و ليس كمثله شئ )) .
ثم قال الترمذي : (( حدثنا بن حميد حدثنا عبيد الله بن موسى عن أبي جعفر الرزاي عن الربيع عن أبي العالية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر آلهتهم ، فقالوا : أنسُب لنا ربك ، فأتاه جبريل بهذه السورة : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ – فذكر نحوه ، و لم يذكر فيه عن أبي بن كعب ، و هذا أصح من حديث أبي سعد )) .(1/140)
أقول : أبو سعد قال فيه الإمام أحمد : (( صدوق ، و لكن كان مرجئاً )) و قال أبو زرعة : (( كان مرجئاً و لم يكن يكذب )) و ضعفه الباقون ، قال ابن معين في رواية : (( ضعيف )) و في أخرى : (( كان جهمياً و ليس هو بشئ )) ، و في ثالثة : (( صاحب ابن أبي دؤاد كان هاهنا و ليس هو بشئ )) ، و في رابعة : (( جهمي خبيث )) . و قال البخاري في موضع : (( فيه أضطراب )) ، و آخر : متروك الحديث )) ، و في ثالث : (( ليس بثقة و لا مأمون )) .
لكن لم ينفرد أبو سعد بوصل الحديث فقد أخرج الحاكم في ( المستدرك ) ج 2 ص 540 : (( أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ و أبو جعفر محمد بن علي قالا: ثنا الحسين بن الفضل ثنا محمد بن سابق ثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن المشركين قالوا : يا محمد ، أنسُب لنا ربك ، فأنزل الله عز و جل : [ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ ] ، قال : الصمد الذي لم يلد و لم يولد ، و لم يكن له كفؤاً أحد … )) بمثل حديث أبي سعد ، و محمد بن سابق ثقة جليل إلا أن في ضبطه شيئاً حتى قال أبو حاتم : (( يكتب حديثه و لا يحتج به )) .(1/141)
و قد صحح ابن خزيمة و الحاكم هذا الحديث . (1) و أخرج ابن جرير من طريق إسماعيل بن مجالد عن أبيه عن الشعبي عن جابر قال : (( قال المشركون : أنسُب لنا ربك ، فأنزل الله : [ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ] )) . و أخرج عن قتادة قال : (( جاء ناس من اليهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا :أنسُب لنا ربك ، فنزلت …. )) و عن سعيد بن جبير نحوه مطولاً ، و عن عكرمة : أن المشركين قالوا : يا رسول الله أخبرنا عن ربك ، صف لنا ربك ، ما هو ؟ و من أي شئ هو؟ فأنزل الله تعالى [ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ] )) .
و الذي يصح في الباب حدبث البخاري ، ثم يليه حديث أبي العالية ، و قد شهد له حديث جابر ، و سنده صالح للمتابعة .
__________
(1) قلت : و كذا صححه الذهبي في (( تلخيص المستدرك )) و فيه بعد لأن أبا جعفر الرزاي فيه ضعف كما سبق بيانه في التعليق على حديث اللقنوت في الفجر ج 1 ص 147 . لكن حديث جابر الآتي بعده يشهد له في الجملة . ن(1/142)
و حديث البخاري يدل على أن أشد ما كان المشركون يعتدون فيه في حق الله تبارك و تعالى هو شكهم في قدرته على البعث ، و قد أخبر به ، و نسبتهم إليه الولد ، و القرآن يؤيد ذلك (1) فإنه كرر تثبيت البعث و نفي الولد في مواضع كثيرة ، فأما شركهم في الألوهية فكان عندهم مرتبطاً بدعوى الولد كما هو بين من عدة آيات ، و قد أوضحت ذلك في كتاب ( العبادة ) و تبين لي أن أول ما سرى إلى العرب نسبته إليه تعالى كانوا يقولون : الملائكة بنات الله ، على معنى أنهم مقربون إليه ، و لم يقولوا : أبناء الله ، خشية إيهام أن يكونوا نظراءه فقالوا : بنات الله ، لأن الإناث عندهمضعيفات ، و ليس لهن ميراث من آبائهن ، ثمك طال الزمان فصار أخلافهم يقولون : بنات الله ، و لا يحققون المعنى ، و لم يكونوا يثبتون أن الله عز و جل صاحبة ، و لذلك يقولون : احتج عليهم القرآن بقوله : [ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ] . فدل هذا على أن انتفاء الصاحبة أمر مسلم ، و في قصة إسلام طلحة أنه جاء و جماعة معه إلى أبي بكر ، فقال : أدعوك إلى عبادة اللات و العزى ، فقال أبو بكر : و اللات والعزى ؟ فقال طلحة : بنات الله ، فقال أبو بكر : و من أمهم ؟ فأسكت طلحة ، ثم قال أبو لأصحابه : أجيبوا الرجل ، فأسكتوا ، فأسلم طلحة .
__________
(1) أي يؤيد ما أقاده حديث البخاري من شكهم في قدرة الله تعالى على البعث فكرر الرد عليهم في ذلك بذكر أدلة قدرته على البعث ، و ذكر نفي الولد عنه بالحجج و البينات الواضحة التي تقطع شبههم و تقيم الحجة عليهم . محمد عبد الرزاق(1/143)
فأما قول الله عز و جل : [ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبا ] . ، فالمراد بالجنة هاهنا : الملائكة ، و المعنى أنهم جعلوا الملائكة بنات له ، و ما روي أنهم كانوا يقولون إن أمهاتهم بنات سروات الجن ، و لم يصح ، و لو صح لكان الظاهر أنهم اخترعوا هذا بعد قصة طلحة ، و اللات و العزى و مناة كانت عندهم أسماء لتلك الإناث التي زعموا أنها بنات الله ، ثم جعلوا لتلك الإناث تماثيل و سموها بأسمائها ، كما جرت به عادة المشركين في أصنامهم ، بل عادة الناس جميعاً في إطلاقهم على التمثال و الصورة اسم من يرون أن ذلك ثمثال أو صورة له . و بهذا التحقيق يتضح معنى آيات النجم ، و قد أوضحت ذلك في كتاب ( العبادة ) بما يثلج الصدر . و الحمد لله .
و المقصود هنا أن الذي يظهر من الآثار أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم لما صارح المشركين بإبطال قولهم في الإناث التي يجعلونها آلهة من دون الله ، يزعمون أنها الملائكة ، و أنها بنات الله ، و يمثلون التماثيل بأسمائها و يعظمونها تعظيماً لها ، و صارحهم بنتزيه الله عن الولد ، قالوا : أنسُب لنا ربك ، طمعاً منهم أن يجيبهم بما يستخرجون منه شبهة يشدون بها قولهم ، فأنزل الله تعالى هذه السورة.(1/144)
فأما تحقيق معناها فلفظ (( أحد )) زعم ابن سينا و من وافقه أنه الواحد من جميع الوجوه المنزه (( عن الجنس و الفصل و المادة و الصورة و الأعراض و الأبعاض و الأعضاء و الأشكال و الألوان و سائر ما يثلم الوحدة الكاملة و البساطة الحقة )) . و هذا ما نقلوه من عباراته المموهة . و هو و من وافقه يوهمون أنهم إنما يجتهدون في تنزيه في تنزيه عز و جل ، و هو في نفس الأمر بعيد عن ذلك ، كما يعلم من نفيهم صفات الكمال عنه ، و إنما غرضهم توجيه وجوده تعالى ، أي وُجُودُه من غير علة . و بعبارة أوضح في العقول الفطرية توجيه وجوده من دون أن يوجده موجد . و ذلك أن الفطرة و العقل قاضيان بأن الموجود من هذا الأشياء التي نراها لابد له من موجد ، و أنه مهما كان لبعضها صانع منها فإن فوقها جميعها رباً هو الموجد الحقيقي . و لكن كثيراً من النفوس لا تقنع بهذا حتى تقول : فهذا الموجد الحقيقي من أوجده ؟
فإن قيل : لا موجد له .(1/145)
قالت : و كيف وجد من غير موجد ؟ فإذا قيل : هذا السؤال إنما يأتي فيما ثبت أو جاز أنه لم يكن ثم كان ، و ذلك كأن تمر ببقعة لا بيت فيها ثم تمر بها و فيها بيت ، و كالشمس فإن العقول الفطرية حتى الساذجة تجيز أن يخلق الله تعالى شمساً أخرى غير هذه الشمس ، و تجيز أن يكون قد مضى زمان لا شمس فيه ثم خلق الله تعالى هذه الشمس ، و هكذا سائر المخلوقات ، و إنما قد تتوقف العقول الفطرية في بعض الأشياء التي لا ضير في التوقف فيها من جهة العقل ، و ذلك كالفضاء و الزمان فإنهما أمرين عدميين كما عليه المتكلمون فالأعدام أزلية ، (1) و إن كانا موجدين فلا يصلحان و لا واحد منهما أن يكون رباً أوجد هذه الموجودات . و المقصود أنه في مثل البيت و الشمس يأتي ذلك السؤال فيقال : لم يكن موجوداً فمن أوجده ؟ فأما الموجود الحق الذي ثبت أنه لم يزل فلا يأتي في حقه ذاك السؤال أصلاً .
__________
(1) أوضح من هذا أن يقال : الأعدام عدم و العدم لا يتصوره العقل و إنما يتخيل بتصور ضده ن الموجودات ، فإذا طرد من بين الموجودات فلا يتصور أن يكون موجداً لشئ منها و نحن في غنى عن تخيل أزلية أو غيرها للعدم . م ع(1/146)
فقد لا تطمئن النفس لهذا حق الاطمئنان ، و قد نبه الشرع على هذا و على علاجه ، ففي ( الصحيحين ) و غيرهما من طرق عن أبي هريرة (( قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول من خلق ربك ؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله (1) و لينته )) لفظ البخاري في (( بدء الخلق )) و فيهما من حديث أنس (( قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا : هذا الله خالق كل شئ فمن خلق الله ؟ لفظ البخاري في (( الاعتصام )) . و في ( مسند أحمد ) من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم نحو الأول و فيه (( فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل : آمنت بالله و رسوله ، فإن ذلك يذهب عنه )) . (2)
__________
(1) ذكر شيخ الاسلام ابن تيمية رداً على الرازي في تشكيكه أن الاستعاذة بالله كيف تكون هلاجاً في دوام وجود الله و عدم أوليته ؟ أفاد شيخ الإسلام أن الشك في العلوم النظرية يدفعه التفكير و البحث و أخذها من البديهيات و القطعيات و الضرويات فهنا مرض عقلي و وسواس لا علاج له إلا الرجوع إلى طبيب العقول و هادي النفوس و مصححها و شافيها . و قد استشفى الغزالي بهذا الدواء حينما أصيب بهذا الشك في المحسوسات . و قد قال الشاعر :
إذا احتاج النهار إلى دليل
و ليس يصح في الاذهان شئ
و قد قال ابن عقيل الحنبلي لرجل سأله أنه يغتسل و يتوضأ و يشك في وصول الماء إلى جسده و أعضائه ؟
فقال ابن عقيل : سقط عنك التكليف لأنك مجنن و قد رفع القلم عن المجنون أو نحو هذا . م ع
(2) قلت : و إسناده حسن ، و هو صحيح لغثير كما بينته في (( الأحاديث الصحيحة )) ( 116 ) . ن(1/147)
فمن أيقن بما قدمناه أول الرسالة من مرتبة الشرع فزع إليه فوجد الشفاء من تلك الوسوسة ، و من لم بفزع إليه و حاول الاكتفاء بذلك الجواب ، و هو أن ذلك السؤال لا يرد أصلاً جاءه الشيطان من طريق أخرى فقال : إن كان هذا الذي تقوله أنه الموجد الحقيقي أو أنه واجب الوجود شبيهاً بهذه المحسوسات فحكمه حكمها ، و إلا فماذا عساه أن يكون ؟ فإذا دفع ذلك بنفي تلك الذات المقدسة بحجة أنه لم يرها ، و لا رأى ما تكون من جنسه ، و ما كان هكذا فلا سبيل إلى تصوره ، فالأكمة لا يتصور الألوان حتى أنه حتى لا يحلم في نومه بأنه أبصر شيئاً جاءه الشيطان من جهة أخرى فاستعرض ما يثبته العقل و الشرع لله عز و جل فيعمد إلى أمر من ذلك فيقول : إن ثبت هذا لتلك الذات كانت شبيه بهذا لمحسوسات فيلزم الافتقار . فأما من وفقه الله عز و جل فإنه لا يعدم مخلصاً ، و أم المخذول فإنه يرى أنه مضطراً إلى نفي الأمر ، ثم يعمد الشيطان إلى أمر آخر فيقول : و هذا كالأول ، و هكذا حتى يأتي على عامة تلك الأمور ، و منها لوازم الوجود فلا يبقى للإنسان إلا اعتقاد وجود يعتقد انتفاء لوازمه . و قد لا يكتفي الشيطان منه بهذا، بل يقول له : و كيف تعقل مثل هذا ؟ و ما تظنه حجة على الوجود قد جربت أمثاله في تلك الأمور ، فليس هناك حجة ، و إنما هي شبهات نسجتها الأوهام و الأغراض في العصور المظلمة ، فكن حر الفكر ، قوي الإرادة ، و خلص نفسك من تلك القيود و الأغلال ، فانك في عصر العلم ! (1)
__________
(1) و استعذ بالله من تلك الوساوس كما أرشد إلى ذلك الحديث و ادع لها بالدعاء المأثور : (( اللهم رب جبريل و ميكائيل و اسرافيل فاطر السماوات و الأرض عالم الغيب و الشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما له يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك انك تهدي من تشاء إلى سراط المستقيم )) . و آثر عن الشيخ ابن تيمية رحمه الله أنه كان إذا أشكلت عليه مسالة توجه إلى الله تعالى و قال : يا معلم إبراهيم أهدني إليها . فيفتح عليه بها الفتاح العليم . م ع(1/148)
فهذه هي الحقيقة و الغاية لتلك الوحدة التي موه ابن سينا عبارته عنها ، فإنه يزعم أن ذات الله عز و جل ليست منفصلة عن العالم و لا متصلة به ، ليست خارجة عنه و لا هي فيه ، ليست مباينة له و لا محاثيه (1) ، لم توجد الذوات الأخرى حين وجدت خارج ذات الله عز و جل قريباً أو بعيداً ولا داخل ذاته . و المتكلمون وافق أكثرهم أبن سينا على هذا الأصل ، ثم يقع الخلاف في التفريع فابن سينا و موافقوه يقولون : لا قدرة لله عز و جل و لا إرادة و لا علم بالجزئيات ، و استحيا بعضهم فقال : يعلم ذاته ، و عندهم أنه لا شأن لله عز و جل بخلق و لا تقدير و لا اختيار و لا تدبير ، بل عندهم أنه سبحانه ليس برب للعالم ، و إنما هو السبب الأول لوجوده في الجملة ، و ذلك أن أصول الموجودات عندهم أشياء قديمة :
أحدها : وجود محض هو عندهم الواجب لذاته ، أو قل : (( الله )) .
__________
(1) ضد مباينة أي يوجد و الكلمة مشتقة من ( حيث ) ظرف المكان ، كما يقال : جلست حيث يجلس القاضي مثلاً .(1/149)
الثاني شيء نشأ عن الأول بدون قدرة للأول و لا إرادة و لا علم ! و يسمون هذا الثاني (( العقل الأول )) قالوا و نشأ عن العقل الأول عقل ثان و نفس و فلك و هكذا إلى عشرة عقول و تسع أنفس و تسعة أفلاك ! قالوا و العقل العاشر هو العقل الفعال وهو المدبر للعالم السلفي بواسطة الكواكب و تغير مواضعها . و شأن عندهم لله تعالى بالموجودات البتة خلا أنه كان في القدم سبباً محضاً لوجود العقل الأول بدون قدرة و لا إرادة و لا اختيار و لا علم ! (1) و من تدبر هذا علم أن البعوضة تملك من العلم و القدرة و الإرادة و الاختيار و التصرف مالا يسمحون لله عز و جل بلمك عشر معشاره ! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً . هذا مع ما في ترتيبهم المذكور على أصولهم فضلاً عن غير الاختلال ، بل هو هوس يخجل العاقل من نسبة القول به إلى من يشاركه في الانسانية !
و قولهم : إن ذات الواجب وجود محض . أورد عليه أن الوجود عندهم من المعقولات الثانية و هي عندهم أمور معدومة . فعلى هذا تكون ذاته عندهم عدماً ، و العدم لا يكون سبباً لوجود . أجاب بعضهم بأن الوجود الذي هو ذات الواجب في زعمهم وجود خاص و هو موجود و إنما المعدوم الوجود المتعارف ، قالوا : و الداعي لهم إلى القول بأن ذات الواجب وجود خاص أنها لو كانت شيئاً آخر احتاجت إلى ما يفيدها الوجود ، فإن كان غيرها كانت ممكنة ، أو بلسان الجمهور كانت هي أوجدت نفسها فهذا محال . و قد أطال المتكلمون البحث في هذا . و يمكن أن يقال على وجه الالزام : ذاك الوجود الخاص إن لم يكن متصفاً بهذا الوجود المتعارف ، اتصف ضرورة بنقيضه و هو العدم ، و المعدوم مفتقر في أن يوجد إلى غيره حتماً ، و إن كان متصفاً به وقعتم فيما فررتم منه .
__________
(1) بل بطريق التولد و قد أوضح شيخ الإسلام الرد عليهم في تفسير سورة ( الإخلاص ) و أن ذلك من نوع نسبة الولد إلى الله تعالى التي نقته السورة المذكورة . م ع(1/150)
و في ( حواشي عبد الحكيم ) على ( شرح المواقف ) : (( الصواب عندي أن لا إيجاد ههنا بل هو اقتضاء الماهية للوجود ، و المقتضي لا يلزم أن يكون موجداً ، ألا ترى أن الماهيات مقتضية للوازمها و ليست فاعلة لها … كيف و الإيجاد الخارجي لابد له من موجود و موجد في الخارج ، و ليس في الخارج ههنا إلا الماهية المقتضية للوجود ، و اعتبار التعدد فيها باعتبار أنها من حيث هي موجد و من حيث الاتصاف بالوجود موجد إنما هو في الذهن )) . (1)
__________
(1) أقول : و هذا الهوس نظير ما في الحديث من وسوسة الشيطان بقوله : هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله ؟. و علاجه الاستعاذة بالله و اللجوء إلى طب الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين . م ع(1/151)
أقول : فمن فهم هذا و قنع به فذاك ، و إلا فينبغي أن يدع التعمق و يرجع إلى اليقين و هو أن الله عز و جل هو الحق الذي لم يزل ، و أنه خالق كل شئ ، و ليستغد بالله و لينته . (1)
و قد سمعت بعض الأكابر يذكر عن جد أبيه و هو من المشهورين أنه إذا كان ذكر له ما يسميه المتأخرون على التوحيد قال : (( إنما هو علم التوحيل )) .
أقول : و تلك المناقضات و المعارضات و الوساوس بحر من الوحل لا ساحل له إلا من جهة واحدة فمن جاء من تلك الجهة فخاض في ذاك الوحل لم يزده الإمعان فيه إلا تورطاً ، فالسعيد من أعانه الله عز و جل على الرجوع إلى الساحل . (2)
__________
(1) و ليحمد الله أن عافاه من تفكير يؤدي إلى أن الله موجد – بتفج الجيم – في الذهن ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً – فإن ابتليت من هذا الهوس فخدر نفسك من الجهل و الغباوة و الاشتغال بشئ من علوم الدنيا فلك و جبر و هندسة حتى تصحو من تلك السكرة ثم ابتدئ التفكير و النظر بأسلوب الأنبياء و الصديقين و خذه من القرآن و الحديث ، و سيرة الرسول و خلفائه و سلف الأمة و سر في ركابهم و اربط رقبتك في عجلتهم و تلمس غبار غبار قافلتهم ، فإن نازعتك نفسك الا البحث الضيق فزج بها في أحضان علوم الكون و الخليقة من فلك و طب و زراعة و سياسة و اجتماع و صناعة فهي بحار تكفي لسباحة السابحين و خوض الخائضين ، و الغرق فيها مأمون العاقبة لا يخشى عليه الهلاك الأبدي و الكفر بالله تعالى ، بل أما انقاذ إلى شاطئ الحياة الدنيا ، أو الموت على الإسلام شهيداً أو قريباً من صفوف الشهداء ، ببركة البعد عن شكوك الشاكين في الله تعالى ، و ببركة السير على صراط أنبياء الله و رسله و الصديقين و الصالحين من عباده و حسن أولئك رفيقاً . م ع
(2) ساحل السلامة من الفطرة و طريقة الرسل و الأنبياء . م ع(1/152)
و المقصود هنا أن المتفلسفين لما أصلوا ذاك الأصل و هو أن ذات الله تعالى ليست منفصلة عن العالم و لا متصلة به أمعنوا في النفي كما تقدم . فأما المتكلمين الذين وافقوا على هذا الأصل فيضطربون في التفريع ، يثبت أحدهم أمراً فيجئ الذي بعه فيجد أنه مضطر إلى نفيه بمقتضى الاعتراف بذاك الأصل ، و هكذا .
و على كل حال فابن سينا نفسه معترف بأن تلك الوحدة تأباها العقول الفطرية، و هي عقول الجمهور و منهم الصحابة و التابعون ، و تقطع أن حاصلها العدم المحض ، و يعترف بأن الشرائع جاءت بضد تلك الوحدة و قد مر كلامه ، و يوافق عليه من يتعانى التحقيق من المتكلمين كما يأتي في مسألة الجهة الغزالي و التفتاني ، و إذا كان الأمر هكذا فلا ريب أنه لا وجه لحمل قول الله عز وجل (( أحد )) على تلك الوحدة ، فلنطلب معنى آخر .
قال بعض السلفيين أنه (( الواحد في الربوبية و الألوهية لا رب سواه ، و لا آله إلا هو )) . و هذا المعنى محتاج إلى التطبيق على السياق ، و سبب النزول ، و ذلك ممكن بنحو ما مر في (( الواحد )) لكن يبقى هنا سؤال و هو : لماذا جاء الاسم (( الواحد )) في القرآن معرفاً و جاء (( أحد )) غير معرف ؟(1/153)
و هنا معنى ثالث . في كتب اللغة أنه قال (( رجل وحد لا يعرف نسبه و لا
أصله )) ، و عن ابن سيدة أنه يقال (( رجل أحد )) بهذا المعنى و في القاموس (( رجل وحد و أحد محر كنين ووحد ووحيد و متوحد منفرد )) قال شارحة : (( و أنكر الأزهري قولهم: رجل أحد … لأن أحداً من صفات الله عز و جل التي استخلصها لنفسه )) و في القاموس ( أ ح د ) : (( الأحد بمعنى الواحد ، أي الأحد لا يوصف به إلا الله سبحانه و تعالى )) . قال الشارح بعد قوله : الأحد : (( أي المعرف باللام الذي لم يقصد به العدد المركب كالعدد عشرة و نحوه )) . ثم قال الشارح أخيراً : (( و هو الفرد الذي لم يزل وحده و لم يكن معه آخر ، و قيل : أحديته معناها انه لا يقبل التجزي لنزاهته عن ذلك ، و قيل : الأحد الذي لا ثاني له في ربوبيته ، و لا ذاته ، و لا في صفاته )) .(1/154)
أقول : فالظاهر أن (( وَحِد و أحد )) الذي قالوا : أنه لا يعرف نسبه و أصله ، و إنما حقيقته أنه بمعنى : منفرد ، ثم لوحظ فيه التقييد ، أي (( منفرد عمن يكن من نسبه و أصله )) . لا يوجد من يكون نسيباً له ، و لكن لما كان هذا ممتنعاً في الرجل إذ لابد في غير آدم و عيسى من أن يكون له أب و يغلب له عم و ابن عم و إن بعد و غير ذلك و إنما غايته أن لا يعرف نسبه و أصله عبروا بهذا ، و المعنى الحقيقي ثابت لله تبارك و تعالى ، فإنه لا نسيب له و لانسب البتة ، و بهذا يتضح موافقة سبب النزول و هو قول المشركين للنبي صلى الله عليه و آله و سلم : أنسب لنا ربك ، و لما كان هذا الوصف قد يطلق على غيره تعالى بمعنى أنه لا يعرف نسبه و قد يطلق على آدم بمعنى أنه لا أب له و إن كان مخلوقاً من الطين ، و كذلك عيسى و إن كان له نسب من جهة أمه و نحو هذا يقال في الملائكة و أبي الجان ، لما كان الأمر كذلك قيل : (( قل هو الله أحد )) و لم يقل ((الأحد)) وأكد ذلك أن المشركين لما قالوا : أنسب لنا ربك ، اقتضى ذلك أنهم يزعمون أن الله عز وجل ليس أحداً بذاك المعنى بخلاف (( الواحد )) في الربوبية فإنهم يعترفون به كما تقدم . وهذا المعنى هو المناسب لسبب النزول كما مر ، و مناسبته للسياق واضحة أيضاً .(1/155)
و قوله سبحانه : ( الله الصمد ) تقدم في حديث البخاري في رواية (( شتمه إياي قوله : اتخذ الله و لداً ، و أن الصمد … )) و في حديث أبي العالية (( فالصمد الذي لم يلد ولم يولد .. )) و أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب (( الصمد الذي لم يلد و لم يكن له كفواً أحد )) يظهر أن المراد أن الصمد يستلزم أنه لم يلد و لم يولد ، و توجيه ذلك يعلم مما يأتي : أخرج ابن جرير من وجهين صحيحين عن مجاهد قال : (( الصمد المصمت الذي لا جوف له )) . و كم وجه صحيح عن الحسن البصري قال : (( الصمد الذي لا جوف له )) . ومن وجه صحيح عن سعيد ابن جبير سئل عن الصمد فقال : (( الذي لا جوف له)) . ومن وجه صحيح عن عكرمة قال (( الصمد الذي لا جوف له )) . و من وجه آخر صحيح عن عكرمة أيضاً قال : (( الصمد الذي لا يخرج منه شئ )) زاد في رواية (( لم يلد و لم يولد )) . و من وجه صحيح عن الشعبي قال : (( الصمد الذي لا يطعم الطعام )) . و في رواية (( الذي لا يأكل الطعام و لا يشرب الشراب )) . و من وجه فيه ضعف عن عبد الله بن أبي بريدة عن أبيه قال عبد الله : (( لا أعلمه إلا قد رفعه ( يعني إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم ) قال : الصمد الذي لا جوف له )) و من وجه فيه ضعف عن ابن عباس قال : (( الصمد الذي ليس بأجوف )) . و من وجه ضعيف عن ابن المسيب قال : (( الصمد الذي لا حشوة له )) .(1/156)
هذه الأقوال كلها تعود إلى مثل قول مجاهد ، و استلزم هذا المعنى لنفي الولد و الوالد كما في حديث البخاري و حديث أبي العالية و قول محمد بن كعب ظاهر ، و ذلك أن من يكون كذلك لا يمكن أن يكون له ولد على الوجه المعروف في التناسل أو نحوه ، لأن ذلك يتوقف على أن يخرج من جوف الأب شئ يتكون منه الأب ، و هكذا من كان كذلك لا يكون له أب لأن الأب لابد أن يكون شبيه الابن في الذات ، ففرض أب للمصمت الذي لا جوف له يستلزم نفي الأبوة – و هذا المعنى مع صحته عن أكابر من التابعين كما رأيت واضح المناسبة للسياق ، و لحديثي البخاري و أبي العالية ، و لتقديم (( لم يلد )) فإن دلالة هذا المعنى على أنه لم يلد أقرب من دلالته على أنه لم يولد كما لا يخفى . لكن أخرج ابن جرير من وجه صحيح عن الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال : (( الصمد السيد الذي قد انتهى سودده )) . و قال : (( حدثنا علي (1)
__________
(1) علي هو ابن داود بن يزيد التميمي القنطري من شيوخ ابن جرير و من تلاميذ أبي صالح عبد الله ابن صالح كاتب الليث بن سعيد عن معاوية بن صالح الحضرمي عن على بن أبي طلحة الوالي عن ابن عباس رضي الله عنه . م ع
قلت : القنطري هذا ثقة صدوق ، و لم يتفرد به . فقد قال ابن أبي حاتم في (( تفسيره )) حدثنا أبي ثنا أبو صالح به . كما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية في (( تفسير سورة الإخلاص )) ص 5 ، لكن السند فيه ضعف و انقطاع كما يأتي عن المصنف رحمه الله تعالى . ن(1/157)
قال: ثنا أبو صالح قال ثنا معاوية عن علي عن إسماعيل عن ابن عباس في قوله :
[ الصمد ] ، يقول : السيد الذي كمل في سودده و الشريف الذي قد كمل شرفه و العظيم الذي قد كمل في عظمته ، و الحليم الذي قد كمل في حلمه ، و الغني الذي قد كمل في غناه ، و الجبار الذي قد كمل في جبروته ، و العالم الذي قد كمل في علمه ، و الحكيم الذي قد كمل في أنواع الشرف و السؤدد ، و هو الله سبحانه ، هذه صفته التي لا تنبغي إلا له )) .
و السند عن أبي وائل فيه الأعمش ، و هو مدلس مشهور بالتدليس ، و ربما دلس عن الضعفاء ، (1)
__________
(1) رواية الأعمش عن أبي وائل متعمدة في (( الصحيحين )) لاختصاصه به ، فلا يضره وجود شئ من التدليس في غير روايته عن أبي زائل ، ولو تنطعنا في رد رواية رمى بشئ من التدليس لرددنا رواية كثير من الأئمة كمالك و الثوري و غيرهما ، راجع رسالة الحافظ ابن حجر في مراتب المدلسين . و أما رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس فأقصى ما يكون من أمرها أخذها عن مجاهد و ابن جبير و هما من خيار ثقات أصحاب ابن عباس ، فاستندت إلى أقوى ركنين من أركان الرواة عن ابن عباس فزادت قوة بما يظن أنه يوهنها ، و لذلك اعتمدها أئمة التفسير المأثور كابن جرير و ابن أبي حاتم و غيرهما . و الله أعلم . م ع
قلت : ما ذكر فضيلته في رواية الأعمش عن أبي وائل وجيه ، وكذلك رواية علي عن ابن عباس ، إن ثبت أن بينهما مجاهد و سعيد ، و لكن أين السند بذلك ؟ ز ما ذكره من اعتماد ابن جرير و ابن أبي حاتم لروايته عن ابن عباس ، فيه نظر ، فإن مجرد الاعتماد على الرواية لا يدل على ثبوت إسنادها ، لجواز إن يكون هناك ما يشهد لها من سياق أو سبب نزول ، و أو غير ذلك ، مما يسوغ به الاعتماد على الرواية مع كون إسنادها في نفسه ضعيفاً . على أنه ليس من السهل إثبات أن الإمامين المذكورين اعتمدا هذه الرواية في كل متونها ، الله إلا إن كان المقصود بالاعتماد المذكور إنما هو اخراجهما لها ، و عدم الطعن فيها ، و حينئذ ، فلا حجة لثبوت اخراجهما لكثير من الروايات بالأسانيد الضعيفة ، و قد ذكرت بعض الأمثلة على ذلك من رواية ابن أبي حاتم في بعض تأليفي ، منها قصة نظر داود عليه السلام إلى المرأة و افتتانه بها و قصة هاروت و ماروت ، و قد خرجتهما في (( سلسة الأحاديث الضعيفة )) برقم ( 314 / 170 ) .
على أنه لو سلمنا بما ذكر فضيلته من الاتصال ، فلا يسلم السند إلى علي من كلام كما ذكره المصنف ، مشيراً بذلك إلى الضعف الذي عرف صالح كاتب الليث ، ففي (( التقريب )) : (( صدوق كثير الغلط ، ثبت في كتابه ، و كانت فيه غفلة )) . ن(1/158)
و السند عن ابن عباس فيه كلام و هو مع ذلك منقطع ، علي ابن أبي طلحة أجمع الحفاظ كما في ( الإتقان ) عن الخليلي على أنه لم يسمع من ابن عباس ، و قال بعضهم : إنما يروي عنه بواسطة مجاهد أو سعيد بن جبير .
و لا دليل على أنه لا يروي عنه بواسطة غيرهما ، و الثابت عنهما في تفسير الصمد خلاف هذا كما مر ، لكن ابن جرير قال : (( الصمد عند العرب هو السيد الذي يصمد إليه الذي لا أحد فوقه ، و بذلك تسمى به أشرافها و منه قول الشاعر :
بعمرو بن مسعود و بالسيد الصمد
ألا بكر الناعي بخيري بني أسد
و قال الزبرقان : ... ... ... و لا رهينة إلا سيد صمد .
فإذا كان ذلك كذلك فالذي هو أولى بتأويل الكلمة المعنى المعروف من كلام من نزل القرآن بلسانه ، و لو كان حديث ابن بريدة صحيحاً كان أولى الأقوال بالصحة لأن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أعلم بما عنى الله جل ثناؤه و بما أنزل عليه .
أقول : الذي يدل عليه البيتان مع مراعاة الاشتقاق أن (( صمد )) بمعنى : مصمود الآية كثيراً ، فأما زيادة (( الذي لا أحد فوقه )) فتؤخذ في الآية من القصر الذي يقتضيه تعريف الجزئين . و هذا المعنى و إن كان كأنه أشهر في العربية فالمعنى الأول معروف فيها، والاشتقاق يساعد المعنيين ، و في ( اللسان ) : (( قال أبو عمرو : الصمد من الرجال الذي لا يعطش و لا يجوع في الحرب و أنشد :
بكفي سبتني ذفيف صمد
وسارية فوقها أسود
( السارية ) الجبل المرتفع الذاهب في السماء كأنه عمود ، و الأسود العلم بكف رجل شجاع )) .(1/159)
أقول : و هذا على المبالغة أي كأنه لا جوف له فيجوع و يظمأ . و كفى دلالة على صحة المعنى الأول ثبوت القول به من أئمة التابعين ، ثم هو الأوضح مناسبة للسياق و سبب النزول . و ذهب بعض الأجلة (1) إلى تصحيح كلا المعنيين . و هذا إما مبني على صحة استعمال اللفظ المشترك في معنييه معاً ، و إما على ما يشبه التخيير الإباحي ، كأنه قيل : من فهم هذا و بنى عليه فقد أصاب ، و من فهم هذا و بنى عليه فقد أصاب .
__________
(1) كأنه يعني به شيخ الإسلام ابن تيمية في (( تفسير سورة الإخلاص )) له . و تصحيحه للمعاني الواردة على أئمة المفسرين من الصحابة و التابعين ليس من باب استعمال المشترك في معنيه أو معانيه و لا من باب التخيير الإباحي و لكنه رضي الله عنه صححها كلها لأنها متلازمة ، و لك معنى منها وجه من وجوه معنى الصمد ، فالسيد الذي كمل في سؤدده و علمه و حلمه و حكمته و غناه هو الذي استغنى عن الطعام و الشراب ، و تعالى عن الجوف و البطن و المعدة و الأمعاء .
... و شيخ الإسلام يرى فيما نقل من أقوال السلف في التفسير أنها متلازمة متشابهة لا اختلاف فيها ، و كثير منها بل أكثرها من باب التمثيل و تقريب المعنى ، و يذكر وجه من وجوهه و نوع من انواعه ، كما لو سألك أعجمي عن الخبز فأشرت إلى رغيف و قلت له هذا ، و أشار إلى رغيف بشكل آخر ، و قال : الخبز هذا ، و أشار ثالث إلى فطير أو بقسماط أو بقلاوة ، و قال : مثل هذا ، فتجمع هذه التفاسير عند الأعجمي على معنى كلي أنه ما صنع من دقيق الحب ، و لو تنوعت كيفيات الصناعة ، فكلها خبز أو من نوع الخبز أو شبيه به و حينئذ فلا تعارض و لا تناقض . و كذلك إذا تأملنا تفاسير السلف للصمد وجدناها متلازمة يشرح بعضها بعضاً و يبني بعضها بعضاً تجتمع كلها على إثبات عظمة الله و تنزيهه عن النقائص . و الله أعلم . م ع(1/160)
و المتكلمون يقولون : إن المعنى الأول محال على الله عز و جل ، لأن ذلك من صفات الأجسام ، و لا شأن لنا الآن بهم ، و إنما الكلام ههنا فيما فهمه المخاطبون الأولون ، و قد سمعت قول كبار التابعين المروي عن بعض الصحابة ، و من الواضح أنه لا ينافي المعناي التي ينكرها المتعمقون من آيات الصفات و أحاديثها ، و كذلك المعنى الثاني لا ينافيها و إنما حاصلة أن الله سبحانه هو الذي يعمد إلى الخلق فيما قصده فيما يهمهم ، و حاصلة أنه سبحانه المنفرد بالربوبية و استحقاق الألوهية ، [ و من لوازم ذلك نفي النقائض عنه ] . (1)
قوله تعالى : [ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ] واضح ليس فيه ما ينافي تلك المعاني .
قوله سبحانه : [ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ] مر في حديث أبي العالية : (( و لم يكن له شبيه و لا عدل و ليس كمثله شئ )) و أخرج ابن جرير من نسخة على بن أبي طلحة عن ابن عباس : (( ليس كمثله شئ فسبحان الله الواحد القهار )) و أخرج من وجه صحيح عن مجاهد قال : (( صاحبة )) ، والمعنى الأول متضمن للثاني ، و المنفي ههنا هو الكفء ، و المشاركة الإجمالية في الوجود و العالمية و القادرية و غيرها ليست مكافاة إذ الواقع [ في الوجود ] (2) إنما هو وجود ذاتي واجب كامل ، و وجود مستفاد ممكن ناقص، وقس على ذلك ، فلو فرض أن تلك المشاركة يصح عليها مشابهة ، فالمنفي هنا هو الشبيه المكافئ ، فليس في هذا أيضاً ما ينافي المعاني التي ينكرها المتعمقون .
المقصد الرابع
المتكلم : أمهلوني حتى أعيد النظر في المقاصد الثلاثة الأولى ، و أفكر فيها .
الناقد :فليتكلم السلفي في بقية المقاصد ، الرابع فما بعده .
__________
(1) زيادة من فضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة . ن
(2) زيادة من فضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة . ن(1/161)
السلفي : كان العرب الذين خوطبوا بالقرآن و السنة أولاً كغيرهم من الناس بعقولهم الفطرية و ما توارثوه عن الشرائع أن الله عز و جل [ ليس كمثله شئ و هو السميع البصير ] فكانوا يعلمون أنه سبحانه ليس بحجر و لا كوكب و لا إنسان و لا طائر و لا جني و لا ملك و لا من المخلوقات التي عرفوها و التي لم يعرفوها بل هو رب كل شئ و خالقه . و قد شهد لهم القرآن بأنهم كانوا يعتقدون وجود الله عز و جل و ربوبيته ، و أنه يرزق من السماء و الأرض ، و الذي لملك السمع و الأبصار ، و يخرج الحي من الميت ، و يخرج الميت من الحي ، و يدبر الأمر كله ، و له الأرض و ما فيها ، رب السماوات السبع ، و رب العرش العظيم ، بيده ملكوت كل شئ و هو يجير و لا يجار عليه ، خلق السماوات و الأرض ، و سخر الشمس و القمر ، و يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر له ، ينزل من السماء ماء فيحي به الأرض ، خلق السماوات و الأرض و هو العزيز العليم . إلى غير ذلك . انظر سورة ( يونس ) : 31 ، و سورة ( المؤمنون ) : 84 – 89 ، و سورة ( العنكبوت ) : 61 – 63 ، و سورة ( الزمر ) : 38 ، و سورة ( الزخرف ) : 9 و 87 ، و سورة ( البقرة ) : 21 – 22 و ( تفسير ابن جرير ) ج 1 ص 126 .(1/162)
و كانوا كغيرهم من أصحاب العقول الفطرية يعلقون أن الله سبحانه و تعالى ذاتاً قائمة بنفسها ، و لم يكن ذلك موجباً أن يتوهموا أنه من جنس ما يرونه و يلمسونه ، و لا مماثلاً لشيء من ذلك فقد كانوا يعتقدون وجود الجن و الملائكة ، و أنها قد تكون بحضرتهم و هم لا يرونها ، و لا يسمعون كلامها و لا يحسون بمزاحمتها لهم ، و يعلمون أن الله عز و جل أعلى و أجل و أبعد عن مماثلة ما يرونه و يلمسونه و كانوا كغيرهم من الناس يعلمون أن الموجود القائم بنفسه حقيقة لا يمكن أن يكون لا داخل العالم و لا خارجه ، و لا متصلاً به و لا منفصلاً عنه ، و لا قريباً من غيره من الذوات و لا بعيد عنها ، فكانوا يعتقدون أن الله تبارك و تعالى فوق عرشه الذي فوق سمواته .(1/163)
و لم يكونوا إذا قيل لهم : يد الله ، مثلاً ليفهموا من ذلك يداً كأيديهم ، ، فإنهم يعلمون أن المضاف يختلف باختلاف المضاف إليه ، يقال : رأس جرادة ، رأس حمامة ، رأس إنسان ، رأس حصان ، فيختلف كما ترى ، فما بالك بنحو (( يد الله )) مع ما قدمنا انهم كانوا يعلمون أنه تعالى ليس بإنسان و لا جني و لا ملك و لا مماثل لشيء من ذلك و لا لغيرها من مخلوقاته ، و انه أعلى و أجل و أكبر من ذلك كله ، و أنهم كانوا يعتقدون وجود الجن و الملئكة و أنها قد تكون بحضرتهم ، لا يرونها و لا يسمعون كلامها و لا يدركون لها حساً و لا أثراً ، و يعلمون أن الله تبارك و تعالى أعلى و أجل و أبعد عن مماثلة المحسوسات ، و الإنسان إذا كان يعرف المضاف إليه أو مثله أمكنه تصور المضاف تحقيقاً أو تقريباً يتأتى معه أن يقال : مثل ، أو شبيه ، و لم يبق هناك إلا إجمالي ، فإذا كان المضاف إليه هو الله عز و جل لم يتصور من يده مثلاً إلا ما يليق بعظمته و جلاله و كبريائه ، فلا يلزم من تلك المشاركة الإجمالية أن تكون يده مثل المخلوق و لا شبيهة بها بمقتضى لسان العرب الفطري ، فإنه لا يطلق في مثل ذلك (( ذاك شبيه بهذا )) و قد سبق في أواخر الكلام على قوله تعالى : [ ليس كمثله شئ ] ما ينبغي تذكره .
فينبغي استحضار هذا لئلا يتوهم أن العرب كانوا يعتقدون أن الله عز و جل يدين يدن إنسان أ, مثلها أو يجوزون ذلك ، أو فهموا ذلك من قول الله تعالى : [ خلقته بيدي ] و قس على هذا ، فإن كان في بعض النصوص ما يوهم ظاهره المماثلة فعقول القوم كانت قريبة كافية لصرفه عن ذلك ، إلا أن تكون مماثلة في مطلق أمر فهذه قد تقدم تحقيقاً في الكلام على قوله تعالى : [ ليس كمثله شئ ] .
قال السلفي : و ليست جميع النصوص المتعلقة بالعقائد موافقة لما كان عليه العرب ، فقد كانوا ينسبون إلى الله تعالى الولد ، و ينكرون البعث ، إلى غير ذلك مما رده عليهم القرآن .
المقصد الخامس إلى الثامن(1/164)
قال السلفي : لسنا نلتفت إلى دعوى ابن سينا و من وافقه و لا إلى نظرهم المتعمق فيه بل نقول : كل ما كان حقاً في نظر المأخذين السلفيين فهو حق ، و كل ما كان باطلاً في نظرهما فهو باطل ، و قد تقدم في الباب الأول ما في كفاية ، و بذلك تسقط دعواهم و ما بني عليها .
و حاصل كلام ابن سينا و من وافقه إنما هو نسبة الكذب إلى الله تبارك في كثير مما أخبر به عن نفسه و غيبه ، و إلى الرسول في كثير مما أخبر به عن ربه ، فإن منهم من اعترف ، و منهم من تقوم عليه الحجة ، بأن من تلك النصوص في دلالتها على المعنى الذي يزعمون بطلانه ما هو ظاهر بين ، و ما هو صريح واضح ، و ما هو مؤكد مثبت ، مع أنه ليس في المأخذين السلفيين ما يصح أن قرينة تصرف أفهام المخاطبين الأولين من كان مثلهم عن فهم تلك الظواهر ، بل فيها ما هو واضح كل الوضوح بل ، فيها ما هو واضح كل الوضوح في تثبيت تلك الظواهر .
و لا يقتصر أمرهم على هذا بل يلزمه أن يتناول الكذب في زعمهم جميع النصوص الواردة في الثناء على الله عز و جل ، و على رسوله و على كتابه ، و على دين الإسلام – بالصدق و الحق و الهداية و البيان و الإبانة و نحو ذلك كقول الله عز و جل [ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً ] [ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً ] و غير ذلك مما لا يحصى .(1/165)
و من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة تنزيه الله عز و جل عن الكذب ، و تنزيه أنبياءه عن الكذب عليه أي فيما أخبروا به عنه أو عن دينه . و قد تقدم الكلام في ذلك ، و فيه بيان تنزههم عن تعمد الكذب فيما عدا ذلك ، فإن ثبت أن كلمات إبراهيم عليه السلام مما يطق عليه اسم الكذب ، فاظاهر أنها كانت قبل النبوة كما مر ، و بالجملة فهي أشد ما حكي عنه الأنبياء ، فقد سماها إبراهيم و محمد عليهما السلام (( كذبات )) و سميت في الحديث (( خطايا )) و يرى إبراهيم عليه السلام أنها تقعد به عن رتبة الشفاعة في المحشر ، و تقتضي أن يستحي من ربه عز و جل .
و أرى أن أوازن بين تلك الكلمات و بين النصوص التي زعم المتعمقون بطلان معنياها الظاهرة ليتضح للناظر أنه يلزم أن يكون إبراهيم أصدق من رب العالمين – لا من محمد فحسب – بدرجات لا نهاية لها . و ذلك من وجوه :
الأول : أن كلمات إبراهيم ثلاث فقط لم يقطع منه طول عمره غيرها ، و تلك النصوص تبلغ آلافاً ، عن أنهم يزعمون أن نصوص التوراة وسائر كتب الله عز و جل كذلك .
الثاني : أن كلمات إبراهيم في مقاصد موقتة ، و تلك النصوص تعم الأزمنة إلى يوم القيامة .
الثالث : أن كلمات إبراهيم تتعلق بالذين خاطبهم فقط و تلك النصوص تعم حاجة الناس إليها إلى يوم القيامة .
الرابع : أن كلمات إبراهيم في مقاصد دنيوية ليس فيها إخبار عن الله عز و جل و لا عن دينه ، و تلك النصوص في أصل الدين و أساسه .(1/166)
الخامس : ان إبراهيم لم يكن عند الذين خاطبهم نبياً فيشتد وثوقهم بخبره ، و في الحديث : (( كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثاً هو لك به مصدق و انت له لك به كاذب )) ، (1) و تلك النصوص مخاطب بها المسلمون الذين يؤمنون بأن القرآن كتاب الله و أن محمداً رسول الله .
السادس : أن إبراهيم لم يكن قد التزم لمخاطبيه أن لا يحدثهم إلا بالصدق ، وتلك النصوص في الكتاب و السنة ، و قد قال تعالى : [ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً ] ،
[ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً ] ، [َالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ ] و غير ذلك .
السابع : أن كلمات إبراهيم قريبة لإحتمال المعنى الواقع ، و تلك النصوص أكثرها بغاية البعد عما يزعم المتعمقون أنه الواقع .
الثامن : ـن كلمات إبراهيم لم تؤكد ، تلك النصوص كثير منها مؤكدة فيما هي ظاهرة فيه غاية التأكيد .
التاسع أنت كلمات إبراهيم لت تكرر ، و تلك النصوص تكرر كثير منها في الكتاب و السنة .
العاشر : أن حال إبراهيم كانت ظاهرة للمخاطبين مقتضية أن يترخص في إيهامهم ، و تلك النصوص على خلاف ذلك ، فلم تكن حال محمد صلى الله عليه و آله و سلم تقتضي إلا الصدق المحض ، فأما رب العالمين فما عسى أن يقال فيه ؟
__________
(1) أخرجه البخاري في (( الأدب المفرد )) و أبو داود في (( السنن )) من حديث سفيان بن أسيد ، و فيه ضبارة بن مالك و هو مجهول . و رواه أحمد من حديث النوارس بن سمعان ، و فيه عمر بن هارون و هو متروك كما في (( التقريب )) ، فمن قال في إسناده : (( جيد )) ، فقد تساهل أو هم . ن(1/167)
الحادي عشر : أن إبراهيم احتاج إلى تلك الكلمات ، و لم يكن يمكنه قبل ذلك الاستعداد للحوادث لتلك الحوادث بما يغنيه عن تلك الكلمات أو نحوها ، و تلك النصوص على خلاف هذا – لو لم تكن حقاً ، فإن الله عز و جل إنما خلق الناس لعبادته كما تقدم تقريره أوائل الرسالة ، فلو كان الحق في نفس الأمر ما يزعمه المتعمقون لخلق الله تعالى الناس على الهيئة التي ترشحهم لإدراك ذلك بدون صعوبة شديدة ، و ذلك بأن يزيد في عقولهم و يهيئ لهم من آيات الآفاق و الأنفس ما يقرب إدراك الحق إلى أذهانهم ، حتى إذا خاطبهم به في كتبه ، و على ألسنة رسله ، و نبههم على الدلائل القريبة في ذلك أمكن من يحب الحق منهم و يرغب فيه أن يفهم ذلك و يدركه .
فنقول للمتعمقين : ألم يعلم الله عز و جل ما يكون عليه حال الناس ؟ أم علم و لكن لم يقدر على أن يخلقهم على الهيئة المذكورة و يهيئ لهم من آيات الآفاق و الأنفس ما ذكر ؟ أم علم و قدر ، و لكن لم يعبأ باقتضاء الحكمة ، فضطر سبحانه و حاشاه – أخيراً إلى الكذب و التلبيس الذي يوقع الناس في نقيض ما خلقهم لأجله في ا؟لأصول و حرصاً على أن يقبلوا بعض الفروع ؟ هذا مع ما يترتب على ذلك من المفاسد كما يأتي .
الثاني عشر : أن كلمات إبراهيم كان إبراهيم محتاجاً إليها حاجة محققة ، و تلك النصوص – لو لم تكن حقاً – على خلاف ذلك ، فإن العرب كانوا في جاهليتهم يعترفون بوجود الله و ربوبيته و غير ذلك ، كما سلف في الجواب عن المقصد الرابع ، فلو بنى الشرع أولاً على ما كانوا يعترفون به مما يعترف المتعمقون أنه حق في نفس الأمر ، و على ما يشبه و يقرب منه ، و سكت عن غيره مما تأباه عقولهم ، لم يكن ما ينفرهم عن قبول الشرع ، فأي حاجة دعت إلى أن يخاطبوا بما يزعم المتعمقون أنه باطل ؟(1/168)
بل أقول : لو جاءهم الشرع بالأصل الجامع في الجملة لما يزعمه المتعمقون ، و هو أن الله عز و جل ليس داخل العالم و لا خارجه ، ثم كرر الدعوة و الاستدلال كما صنع في إثبات ما كانت عقولهم تأباه من قدرة الله عز و جل على حشر الأجساد ، و كما صنع في نفي ما كانت عقولهم تتقبله أو توجبه من أن الله عز و جل و لداً – لكان فيهم من يخضع لذلك ، ثم لا يزالون يزدادون ، و أنت ترى من لا يحصي من المنتسبين إلى العلم و طلبه و قبلوا ذاك الأصل الجامع ، و بعض فروعه ممن أحسنوا به الظن من المتكلمين ؛ فقلدوه في ذلك و تعصبوا له ، و عادوا من يخالفه ، غير مبالين بعقولهم ، و لا بنصوص الكتاب و السنة ، و لا بمخالفة من هو أجل عندهم ممن قلدوه .
و قد جاء أفراد بمقالات تنبذها العقول الفطرية ، و يردها النظر المتعمق فيه ، و مع ذلك تبعهم من لا يحصى ، و العرب إنما كانوا يستندون في إنكار ذاك الأصل إلى عقولهم الفطرية و كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم عندهم أوسطهم نسباً ، وأفضلهم خلقاً ، معروفاً بينهم بالصدق و الأمانة ، و العدل و حب الحق و الحرص عليه ، و لا يريد رياسة و لا جاهاً ، ثم جاءهم بالمعجزات ، فلو جاءهم بذاك الأصل و نحوه أما كان يجد منهم من يقلده و يتبعه كما و جد المتعمقون و الأفراد الآخرون ، بل كما وجد الرسول نفسه في نفي نسبة الولد إلى الله عز و جل ، و في إثبات حشر الأجساد ؟ و سيأتي في الجواب عن المقصد العاشر على هذا .(1/169)
و هب أن الحاجة دعت إلى إظهار موافقتهم على ما يخالف ذاك الأصل و بعض فروعه و أنه ساغ ذلك ، فقد كان يكفي نص أو نصان أو ثلاثة مما هو ظاهر في غير ما يوافقهم محتمل لما يوافقهم ، فيحملون ذلك على ما يوافقهم و أهوائهم ، فإن كان و لابد فما يحتمل المعنيين على السواء ، أو يكون ظاهراً فيما يوافقهم ظهوراً ضعيفاً ، غايته أن يكون نحو كلمات إبراهيم ، فما بال الكتاب و السنة مملوأين بتلك النصوص التي يزعم المتعمقون أن ظاهرها باطل ، و منها ما ظاهر بين ، و ما هو صريح واضح ، و ما هو واضح ، و ما هو محقق مثبت مؤكد ، فهل كانت الضرورة تدعوة إلى ذلك كله ؟
الثالث عشر : كلمات إبراهيم لم تقتض الحكمة أن يتداركها بالبيان في الدنيا لأنها كانت في قضايا مؤقتة ، و لم تترتب عليها مفسدة ما كما تقدم ، وتلك النصوص لو كانت لما يزعم المتعمقون لاقتضت الحكمة اقتضاء باتاً أن يتبعها الشرع بما يتبين الحق ، و لم يقع من هذا شئ ، فأما الإشارات المذكورة في المقصد الثالث فقد مر الكلام فيها .
فإن قيل : وكَلَهم الشرع إلى العقل .
قلنا : العقل الفطري يوافق تلك النصوص كما تقدم ، و النظر المتعمق فيه جاء في الشرع التنفير عنه و عن أهله ، هذا مع الأمر المؤكد بالوقوف مع الكتاب و السنة و الاعتصام بهما ، ة الحكم بالزيغ و الضلال و الكفر على من خالفهما ، و تأكيد أن الحق كله فيهما ، و أن الدين قد كمل لهما ، و الأمر بالرجوع عند التنازع إليهما ، و بيان أن الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ، و أن الرسول يهدي إلى صراط مستقيم ، و غير ذلك .(1/170)
الرابع عشر : كلمات إبراهيم عليه السلام يظهر من تسميتها خطايا ، و من خجله و استحيائه من ربه في المحشر من أجلها انه ندم عليها في الدنيا ، و عزم أن لا يعود إلى مثلها ، و تلك النصوص لم يرد ما يشير إلى ندم محمد صلى الله عليه و آله و سلم من اجلها ، بل الوارد خلاف ذلك ، فأما الرب عز و جل فهو عالم الغيب و الشهادة .
الخامس عشر : أن كلمات إبراهيم لم تترتب عليها مفسدة ما ، بل ترتب عليها درء مفاسد عظيمة ، و تحصيل مصالح جليلة ، فقوله : (( هي أختي )) ترتب عليها سلامة إبراهيم من بطش الجبار ، و سلامة الجبار و أعوانه من ذاك الظلم . و قوله : [ إني
سقيم ] ترتب عليها تمكنه من تحطيم الأصنام ، و ما تبع ذلك من إقامة الحجة . و الثالثة ترتب عليها إقامة الحجة على عباد الأصنام حتى اضطروا إلى الاعتراف(1) ، فقال بعضهم لبعض : [ إنكم أنتم1 الظالمون ] . و أما النصوص التي يكذب المتعمقون معانيها التي هي فيها ما بين ظاهر بين ، و صريح واضح ، و محقق مؤكد . فإن كانت كما يزعم المكذبون فقد ترتب عليها مفاسد لا تحصى .
الأولى : لزوم النقص كما تقرر في الوجوه السابقة حتى لو لم يخلق الله تعالى الناس لما لزم مثل ذاك النقص ، و لا ما يقاربه ، بل لا يلزم نقص فيما أرى .
الثانية تثبيت الاعتقاد الباطل في أصل الدين و حمل الناس عليه .
الثالثة : حمل كثير ممن يسميهم ابن سينا (( الخاصة )) و هم المتعمقون في النظر العقلي على تكذيب الشرع البتة لأنهم يرون فيه تلك النصوص التي يرون أن معانيها باطلة ، فيقولون : لو كان هذا الشرع حقاً ما جاء بالباطل ، و الله تعالى أعز و أجل مكن أن يجل أو يكذب ، و الأنبياء الصادقون لا يجهلون و لا يكذبون عليه ، و اعتذار ابن سينا باطل كما ترى . فإن قيل أما هذم المفسدة فهي حاصلة على كل حال ، قلت : لكن إن كانت النصوص كما يقول المكذبون كانت تبعة هذا المفسدة عليها .
__________
(1) الأصل (( لأنتم )) . ن(1/171)
فأما إذا كانت حقاً كما يقول السلفيون فإن تبعة هذه المفسدة تكون على التعمق في النظر و تقديم ما يلوح منه على الفطرة و العقول الفطرية و كلام الله وكلام رسوله ، و بعبارة أخرى تكون تبعتها على إتباع الهوى ، و إيثاره على الحق ، و يكون ذلك بالنظر إلى الشرع مصلحة .
الرابعة : حمل أشد المؤمنين إخلاصاً و أقواهم إيماناً بالله و رسوله ، وألزمهم اعتصاماً بالكتاب و السنة – على تضليل أو تكفير من يظهر خلاف تلك النصوص من
(( الخاصة )) ، و حمل (( الخاصة )) على تجهيل أولئك المخلصين و تضليلهم و السخرية منهم .
ومن أعجب العجب أن الفريقين إذا علما ما في الافتراق في الدين من الفساد طلباً من الدين نفسه الذي أوقعها – على زعم المتعمقين – في الافتراق ، وقد زجر عنه – أن يدلهما على المخلص ، فلا يجد أن إلا قول الله عز و جل : [ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ] النساء – 59 .
فيتداعى الفريقان الى تحكيم الكتاب و السنة ، فأما السلفيون فيقولون : ذلك ما كنا نبغي ، و أما (( الخاصة )) فيعلمون أنهم إن أجابوا قضى الكتاب و السنة قضاء باتاً بتلك النصوص ، و إن أعرضوا تلا السلفيون ما يلي تلك الآية [ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً ] . النساء – 60 - 61(1/172)
و قوله بعد ذلك : [ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ] . النساء – 65 .
الخامسة : إن وقوع الكذب في بعض النصوص لشرعية يفتح الباب لتكذيب الشريعة كلها حتى على فرض قبول اعتذار ابن سينا ، هذا هو نفسه لما علم أن المتكلمين يوافقونه في بعض النصوص الاعتقادية فيزعمون أن ظواهرها باطلة جر ذلك إلى نصوص أخرى في العقائد ، ثم إلى نصوص تتعلق بالملائكة و النبوة و الأرواح ، ثم إل النصوص المتعلقة بالبعث و النشور و الجنة و النار و غير ذلك ، ثم ختم بأن قضى على كل من يريد أن يكون من (( الخاصة )) بأن لا يلتفت إلى الشرع فيما للرأي فيه مجال ، ففتح الباب بمصارعه و مهد لأصحابه الباطنية و غيرهم .
ولا ريب أنه لو جاز أن يكون في النصوص الشرعية كذب و تلبيس دعت إليه مصلحة ما و إن عارضتها عدة مفاسد ، لم يسلم نص من النصوص من احتمال ذلك ، و إنما حاصل هذا أن الشرع باطل ، و أن الأنبياء إنما أتبعوا أهواءهم ، و أحسن أحوالهم عند (( الخاصة )) أن يكونوا أتبعوا تخيلاتهم .(1/173)
والحق الذي لا يرتاب فيه مؤمن تنزيه الله عز و جل و كتبه و رسله عما يقول الظالمون الذين يسمون أنفسهم الخاصة ، و أن اتباع الأهواء و التخيلات هي صفة أولئك الفجار ، [ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ ] ثم لرسله (1) [ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ] . النحل – 60
المقصد التاسع
قال السلفي : المقصد التاسع مبني على ما قبله و قد علم حاله ، و ما ذكر من أن الفرض على هؤلاء كذا و على هؤلاء كذا لم يذكره ابن سينا ، و لكنه قد يؤخذ من كلامه ، و قد نحا الغزالي في بعض كتبه قريباً من هذا المنحي ، و صرح به ابن رشد في كتبه وزاد فأوجب على (( الخاصة )) أن يكتموا نتائج تعمقهم المخالفة للدين ، و إن إظهارها كفر أنه يحمل العامة على الكفر .
__________
(1) بل المثل الأعلى لله وحده و هو تفرده بالصمدية و السؤدد و الكمال و تنزهه عن كل عيب و نقص و شين و ذم . فالكتاب العصريون الذين استعملوا المثل الأعلى في مطمح النظر و الكمال المرجو لمن يتطلبه قد حرفوا المثل الأعلى أن يقال : و لله المثل الأعلى فس الوصف بالكمال و لرسله البيان الواضح و البلاغ المبين فيما أخبروا عن الله و لله وصفه كما قال تعالى : ( سبحان رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين ) . قال الشيخ ابن تيمية ما معناه : نزه نفسه عما وصفه به المبطلون ، و سلم على المرسلين لسلامة أقوالهم عما لا يليق بالله تعالى إثباتاً و نفياً ، و حمد نفسه على وصفه ، بربوبية رب العالمين آه ملخصاً بالمعنى في تفسير الآية من (( الواسطية )) و أما إستنكار وصف غير الله تعالى بأنه له المثل الأعلى ، فقد أستفدته من محاورة بعض شيوخ الهند المحققين . و الله أعلم . م ع(1/174)
و أقول : كان الحق على المتعمقين عندما برون مخالفة بعض نتائج تعمقهم للدين أن يعملوا بنصيحة ذاك الفريق من الفلاسفة القائلين أن النظر المتعمق فيه لا يوثق به في الآلهيات كما تقدم في الباب الأول ، و حينئذ يحصرون تعمقهم في البحث عن الطبيعيات ونحوها ، فإن أبى أحدهم فاليقصر داءه على نفسه على فلا يعلم و لا يصنف و لا يناظر، فإن اضطر إلى الذب عن الدين فليخل بمن يطعن في الذين و ليقل له : لم يخف عنا ما بدا لك ، و لكن عرفنا ما مل تعرف فإن الشرائع الحقة جاءت بما تنكره ، فإما أن يكون الحق ما جاءت به إذ من المحال أن يخطئ الله و أنبياؤه ، و تصيب أنت بنظرك الذي قد جربت عليه الخطأ و الغلط غير مرة ، و إما أن تكون الشرائع جاءت بما يصلح الجمهور على علم بما فيه ، و على كلا الحالين لا ينبغي معارضتها ، فإن أبيت فأني أرى علي أن أرد عليك ، و أقدح فيما تستدل به .
أقول : و من تأمل طرق استدلالهم و مناقضاتهم و معارضاتهم عرف أنه لا يصعب على الماهر في كلامهم الدفاع عن تلك النصوص ، و أنفعل مع اعتقاده خلافها لم يكن عليه عند نفسه غضاضة في علمه و لا دينه – إن كان متديناً – لأنه إنما رضي لنفسه من ذلك ما يرى أن رب العالمين رضيه لنفسه و لأنبيائه و رسله ، و قد وبخ الله عز و جل المشركين في قولهم أن له سبحانه بنات مع كراهيتهم أن تكون لهم بنات ، قال تعالى: [ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى . تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى ]النجم – 21 – 22
و قال سبحانه : [ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ . وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ . أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ] الزخرف – 16 – 17 – 18(1/175)
مع أن المشركين فيما أرى حاولوا التنزيه لأنهم رأوا أن الابن من شأنه أن يشارك أباه في ملكه بخلاف البنات فأنهن كن في عرفهم مطرحات . و صنيع أولئك الذين يسمون أنفسهم (( الخاصة )) أسوأ من ذلك ، إذ يزعمون أن الله تبارك و تعالى رضي لنفسه و لرسله الكذب و التلبيس ، ثم لا يرتضون مثل ذلك لأنفسهم بل يتنزهون عن ذلك جهدهم ، مع علمهم بأن صنيعهم مناقض لما يقولون أن صلاح الناس فيه و موقع فيما يقولون : إنه فساد عظيم . فليتهم إذ لم يسمح لهم شرف أنفسهم في زعمهم أن يتلوثوا بما يزعمون أن الله عز و جل ارتضاه لنفسه و لرسله سكتوا عن مناقضة ما جاء به الشرع و تركوا المسلمين و دينهم . لكن الله تبارك و تعالى أراد أن يهتك أستارهم ، و يبلوا بهم كما ابتلاهم ، قال تعالى : [. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2) ألم وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ] . فاتحة ( العنكبوت ) .
المقصد العاشر
قال السلفي : لا ريب أن ابن سينا في أمر الحشر أقوى من شبهته في شان الإعتقاد في ذات الله تعالى و صفاته ، فلو ساغ الكذب في شأن الإعتقاد لكان في شأن الحشر أسوغ لأن فحشه أخف ، و الحاجة إلى التشديد في الترغيب و الترهيب ظاهرة ، فألزمه للمتكلمين في محله ، فأما السلفيون فلا سلطان له عليهم كما لا يخفى .(1/176)
و مع أن شبهة ابن سينا داحضة لمعارضتها اليقين الضروري ، ففيها خلل من جهات تعلم مما تقدم ، و يختص بقضية حشر الأجساد أن العرب كانوا في جاهليتهم يعترفون بحياة الروح بعد موت الجسد ، و يقولون : أن المقتول تبقى تنوح على قبره حتى يؤخذ بثأره كما هو معروف في أشعارهم ، و قد جاء الكتاب و السنة بأشياء من حال الأرواح تصرح بحياتها منفصلة عن الجسد و لم ينكر ذلك أحد من المسلمين و لا المشركين ، فقد كان من الممكن أن يوسع القول في تعميم الأرواح و عذابها بدون تعرض لما كان العرب ينكرونه من حشر الأجساد ، بل لو كان المقصود إنما هو إجترارهم إلى قبول الشرع العملي لما ذكر لهم حشر الأجساد ، فإنه من أشد ما صدهم عن الإسلام ، قال الله عز وجل : [ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ . أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ] سبأ: 7 – 8 .
و قال تعالى : [ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ . وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ . أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ . أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ . قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ . فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ] الصافات : 14 – 19 .
كانوا يكذبون بالمعجزات إنها سحر ، محتجين بأن الذي ظهرت على يده بما لا يعقل من حشر الأجساد . و انظر ( الصافات ) أيضاً : 53 و ( المؤمنون ) : 35 و 82 و ( الواقعة ) : 47 .
مهمة(1/177)
قد يفسر حشر الأجساد بجمع أجزائها المتفرقة ، و قد يفسر بإنشاء أجساد أخرى، و النصوص الشرعية تدل على أمر جامع لهذين ، و قد أورد على الأول أن الأبدان في الدنيا تنمو و تحلل فتفارقها أجزاء و تتعوض أجزاء أخرى ، و لا تزال هكذا ثم تبلى بالموت و تتفرق فتدخل أجزاء من هذا البدن في تركيب من هذا البدن في تركيب أبدان أخرى و هلم جرا ، و إعادة تلك الأجزاء أعيانها في جميع تلك الأبدان بأن تكون هي أعيانها في هذا و هي أعيانها في ذاك في وقت و احد غير معقول ، فإن أعيدت في بعضها فلم يعد غيره على ما كان عليه ، و أيضاً فقد تكون الأجزاء من بدن مؤمن ، ثم تصير من بدن كافر ، و عكسه . و أجيب بأن المعاد في كل بدن إنما هو أجزاؤه الأصلية. ونوقش في هذا بما هو معروف . (1)
أقول : النصوص لا تدل على إعادة هذه الأجزاء كلها في كل بدن في وقت واحد ، و إنما تدل على الإعادة في الجملة ، و إذا تدبرنا الحكمة في الإعادة أمكننا أن نفهم التفصيل تقريباً .
__________
(1) أقول : و المعروف الآن علماء عند علماء الحياة ( البيولوجيا ) و وظائف الأعضاء ( الفسيولوجيا ) و التشريح الدقيق أن بدن الإنسان بله الحيوان في تبدل دائم حتى إنهم حددوا مدة تبدل البدن كله بسبع سنوات و مع هذا فمن ارتكب جرما و قتا ما ، ثم عوقب عليه بعد مدة تبدلت فيها خلايا بدنه بغيرها لا يقال عرفاً و لا عقلاً و فطرة أن المعاقب غير المجرم ، فمن قتل مثلاً في شبابه و أقتص منه في هرمه و شيخوخته فما عوقب إلا الجاني و إن تبدل باتفاق الباحثين في علم الحياة و وظائف الأعضاء ، و هذا يدل على أن الإنسان شخصية تعقل و تريد و تعمل و تحسن و تسئ راكبة مطية البدن لابسة ثياب الأعضاء فمهما تبدلت المراكب و الثياب فالشخص هو الشخص على أي مركب ركب و بأي ثوب ظهر . و الله أعلم . م ع(1/178)
فمن الحكمة إظهار قدرة الله عز و جل على الحشر ، و تصديق خبره بأنه واقع . وهذه الحكمة إنما تستدعي الإعادة في الجملة ، و ذلك يحصل بما يأتي قريباً .
ومنها أن ينال الجزاء هذه الأجزاء ، و هذا غير متحتم لأن الكاسب المختار للطاعة أو المعصية ، و المدرك لأثرها في الدنيا و المدرك للذة الجزاء أو ألمه في الآخرة هو الروح ، و إنما البدن آلة لها ، غاية الأمر أنه إذا كانت آلة الكسب هي آلة الجزاء كان ذلك أبلغ في كمال العدل فليكن من ذلك ما يمكن . و قد جاءت عدة نصوص تدل أن أبدان أهل الجنة و النار يكون بعض البدن منها أو كله من غير الأجزاء التي كانت منها في الدنيا ، ففي ( الصحيحين ) في قصة الذين يخرجون من النار (( فيخرجون قد أمتحشوا و عادوا حمماً فيلقون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل …. )) و جاءت عدة أحاديث أن أهل الجنة يكونون كلهم على صورة آدم طوله ستون ذراعاً ، راجعها في (( الباب التاسع و الثلاثين )) من ( حادي الأرواح ) . و قال تبارك و تعالى في أهل النار [ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ] . النساء : 56 .
و في ( صحيح مسلم ) عن أبي هريرة قال ،\: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : (( ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع )) و قال تعالى : [ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ] آل عمران :169 .(1/179)
و في ( صحيح مسلم ) من حديث أبن مسعود أنه سئل عن هذه الآية ؟ فقال : أما أنا قد سألناه عن ذلك فقال : (( أرواحهم في جوف طير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فأطلع إليهم ربهم أطلاعة …. )) أخرجه عن جماعة عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن ابن مسعود، و قد أخرجه ابن جرير في ( تفسير ) ج 4 ص 106 – 107 من طريق شعبة و من طريق سفيان الثوري كلاهما عن الأعمش بسنده أنهم سألوا عبد الله بن مسعود فقال : (( أرواح الشهداء …. )) فثبت سماع الأعمش لهذا الحديث من عبد الله بن مرة ، لأن شعبة لا يروي عن الأعمش إلا ما علم أنه سماع للأعمش ممن سماه نص على ذلك أهل المصطلح غيرهم ، (1) و كذلك أخرج هذا الحديث الدرامي ج 2 ص 206 من طريق شعبة ، فأما عدم التصريح بالرفع فلا يضر لأن هذا ليس مما يقال بالرأي ، مع ظهور الرفع في رواية مسلم .
__________
(1) ليتك قلت ذلك في حديثه عن أبي وائل عن ابن مسعود السابق في تفسير الصمد و لم تمل إلى تضعيفه مع أنه ربما كان أصح مما صححت في تفسير (( الصمد )) و إن كان لا يخالفه بل يتلازمان و يتظاهران على توضيح المراد . م ع(1/180)
و في ( مسند أحمد ) ج 1 ص 265 ، (( ثنا يعقوب ثنا أبي إسحاق حدثني إسماعيل ابن أمية بن عمروا بن سعيد عن ابن الزبير المكي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : (( لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله عز و جل أرواحهم في أجواف طير خضر تردد أنهار الجنة ، تأكل من ثمارها ، و تأوي إلى قناديل من ذهب و ظل العرش ، فلما و جدوا طيب مشربهم و مأكلهم و حسن منقلبهم قالوا يا ليت إخواننا يعلمون …. )) أبو الزبير يدلس ، (1)
__________
(1) لو رددنا حديث كل مدلس لرددنا جمهرة طيبة مباركة من السنة التي قبلها الأكابر و نشروها و عملوا بها ، و الذي يظهر من عمل المحققين من أئمة السنة إلى مراتب الجرح و لتعديل عند التعارض ( ! )ليأخذوا بالأرجح الأقوى إن لم يمكن الجمع ، و حديث أبي الزبير هذا ليت شعري ما الذي عارضه من رواية من هم أرجح منه حتى نشكك فيه و روايته محشو بها ( البخاري ) مكتظ بها ( مسلم ) و غيره فضلاً عن بقية دواوين السنة كأبي داود و الترمذي و غيرهم من أصحاب الصحاح و السنن و المسانيد . م ع
قلت : يبدوا لي في كلام فضيلته ملاحظات :
1 – التسوية بين تدليس الأعمش و تدليس أبي الزبير في التسامح بهما ليس بجيد ، لأن تدليس الأول قليل ، و تدليس الآخر كثير ، و لذلك أحتج الشيخان بالأعمش ، و لم يحتج بأبي الزبير غير مسلم منهما ، أورده الحافظ في المرتبة الثانية من (( طبقات المدلسين )) ، و هي – كما ذكر في المقدمة – مرتبة من احتمل الأئمة تدليسه ، و أخرجوا له في (( الصحيح )) . ثم أورد أبي الزبير في المرتبة الثالثة ، و هي مرتبة من أكثر من التدليس فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع كأبي الزبير الملكي . ثم أورد في هذه الطبقة و قال : (( مشهور بالتدليس )) .
2 – قوله في أبي الزبير : (( و روايته محشوا بها ( البخاري ) )) . ليس بصواب ، فإن البخاري لم ينسد له غير حديث واحد متابعة غير محتج به ! قال الحافظ ابن حجر في (( مقدمة الفتح )) ( 2 / 126 ) : (( لم يروا البخاري رحمه الله سوى حديث واحد في (( البيوع )) ، قوله بعطاء عن جابر ، و علق له عدة أحاديث ))
و مسلم و إن كان أحتج به ، فقد قال الذهبي في ترجمته من (( الميزان )) :
(( و في (( صحيح مسلم )) عدة أحاديث مما لم يوضح فيها أبو الزبير السماع عن جابر ، و لا هي من طريق الليث عنه ، ففي القلب منها شيء )) . ن(1/181)
وقد أخرج الحاكم في ( المستدرك ) ج 2 ص 297 الحديث من وجه آخر عن ابن إسحاق عن إسماعيل عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، زاد في السند (( سعيد بن جبير . و قال الحاكم : (( صحيح على شرط مسلم )) و أقره الذهبي .
و قال الله عز و جل : [ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَاب . النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ] . المؤمن : 45 – 46
و أخرج ابن جرير في ( تفسيره ) ج 24 ص 42 بسند رجاله ثقاة عن هزيل بن شرحبيل أحد ثقاة التابعين قال : (( أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدوا و تروح على النار و ذلك عرضها )) و في ( روح المعاني ) أن عبد الرزاق و ابن أبي حاتم أخرجا نحوه عن ابن مسعود .
و من حكم الإعادة أداء الشهادة قال الله تبارك و تعالى : [ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ . حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ] فصلت : 19 - 20 .
و قال عز و جل : [ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ] يّس : 65 .
و قال سبحانه : [ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ] النور : 24 .(1/182)
و المقصود من استشهاد الأعضاء إبلاغ الغاية القصوى في إظهار العدل ، و في ( صحيح البخاري ) و غيره عن أبي سعيد الخدري قال : (( قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له : هل بلغت ؟ فيقول : نعم يا رب ، فتسأل أمته : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما جاءنا من نذير ، فيسأل : من شهودك ؟ فيقول : محمد و أمته : فقال رسول الله صلة الله عليه و آله و سلم : فيجاء بكم فتشهدون أنه قد بلغ ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : [ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ] )) .
و في ( صحيح مسلم ) و غيره عن أنس قال : (( كنا عند رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فضحك ، فقال : هل تدرون مما أضحك ؟ قال قلنا : الله و رسوله أعلم ، قال : من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ قال : يقول : بلى ، قال : فيقول : فإني لا أجير على نفسي إلا شاهداً مني ، قال : فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا ، و بالكرام الكاتبين شهودا ، قال : فيختم على ما في فيقال لأركانه أنطقي ، قال : فتنطق بأعماله ، ثم يخلى بينه و بين الكلام ، فيقول : بعداً لكن و سحقاً ، فعنكن كنت أناضل )) .
و في ( صحيح مسلم ) أيضاً عن أبي هريرة قال : (( قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال …. قال فيلقى العبد فيقول أي فل … ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك و بكتابك و برسلك و صليت و صمت و تصدقت – و يثنى بخير ما استطاع ، فيقول : ههنا إذا ، ثم يقال : الآن نبعث شاهداً عليك ، و يتفكر في نفسه : من ذا الذي يشهد علي ؟ فيختم على فيه و يقال …. فتنطق فخذه و لحمه و عظامه بعمله ، و ذلك ليعذر من نفسه …. )) .(1/183)
فالإنسان إذا رأى يوم القيامة إن الله عز و جل يقرره بعمله و لا يؤخذ بمجرد علمه تعالى يتوهم أن الإنكار ينفعه ثم لا يرضى بشهادة الملائكة و لا الرسل ، فتشهد عليه أعضاؤه حينئذ يظهر له و لغيره عين اليقين الغاية القصوى في عدل الله تبارك تعالى ، و مع ذلك يعترف بلسانه صريحاً عند دخوله النار قال الله تبارك و تعالى : [ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً . حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ] الزمر : 71 .
و قال تعالى في شأن جهنم : [ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ، وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ . فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ) الملك : 8 – 11 . (1)
__________
(1) و من الحكم في البعث ما ذكره الله تعالى أنه تصديق لما أخبرت به رسله ، و فضح و توبيخ لمن كذب رسله كما قال تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُم ) – إلى أن ذكر جزاء المؤمنين بها و المكذبين لها ثم قال – ( و يرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق و يهدي إلى صراطٍ مستقيم ) و قال : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ . قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) . م ع(1/184)
و هذه الحكمة إنما تستدعي إعادة الأجزاء التي تؤدي الشهادة و ذلك عند أدائها فلا يلزم أن تعاد في كل بدن جميع أجزاءه ثم تبقى خالدة معه ، بل إذا فرضنا أجزاء معينة قد دخلت في تركيب عدة أبدان في الدنيا على التتابع بأن كانت في هذا البدن ، ثم صارت من ذاك البدن و هلم جرا ، و اقتضت الحكمة أن تؤدي الشهادة يوم القيامة في كل بدن من تلك الأبدان بما فعل ، فإن ذلك يمكن بأن تحشر أولا كما شاء الله تعالى إما في بدن واحد ، و إما متفرقة في تلك الأبدان ، (1) ثم إذا حوسب أول من أصحاب تلك الأبدان جمعت تلك الأجزاء في بدنه ثم أدت الشهادة فارقته إلى بدن أول من يحاسب بعده من أصحاب تلك الأبدان و هكذا حتى تستوفي تلك الأبدان كلها التي دخلت فيها و قضت الحكمة باستشهادها على أصحابها . و قد يشير إلى هذا قوله تبارك و تعالى : [يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا
فَاعِلِينَ] الانبياء : 104 و قوله سبحانه : [ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ] الأعراف : 29 .
__________
(1) تكلف المؤلف القول بحشر أجزاء كل بدن في بدن واحد أو في أبدان متعددة و ما يلي ذلك من أدائها شهادتها في بدن واحد أو أبدان متعددة هو النظر المتعمق فيه الذي ذمه المؤلف كثيراً و ذكر ما نشأ عنه من مفاسد و شبهات أبعدت المتكلمين عن تصديق الكتاب و السنة فما كان أحراه أن يبتعد عما ذم غيره عليه و خير ما قاله سابقاً أن البدن آلة الروح يحي هذا الإشكال و لا حاجة إلى التعمق ، قلت أنا أن البدن مطية الشخصية الإنسانية و ثيابها و ما أبلغ أن يشهد على الإنسان مطيته و ثيابه قديمة أو جديدة لبسها غيره قبله أو اختص هو بلبسها ، الحجة قائمة في شاهد عليك منك . و الله أعلم . م ع(1/185)
وأما الجزء الجسماني فمن الحكمة فيه تنعيم الأرواح و تعذيبها بما هو من جنس ما ألفته في الدنيا بواسطة الأبدان ، فإن الأرواح لطول صحبتها للأبدان و اعتيادها اللذات والآلام التي تصل إليها بواسطتها تبقى بعد مفارقة الأبدان متصورة تلك اللذات و الآلام ، متشوقة إلى جنس تلك اللذات ، نافرة عن جنس تلك الآلام ، فإذا أعيدت إلى أبدان ثم نعمت بما هو من جنس اللذات التي ألفتها ، كان ذلك أكمل للذتها و أتم لنعيمها من أن تنعم بلذات روحية محضة فكيف إذا جمع لها الأمران معاً (1) و إن أعيد إلى أعيدت إلى أبدان ثم عذبت بما هو من جنس الآلام التي كانت تنفر عنها كان ذلك أبلغ في إيلامها من أن تعذب بآلام روحية محضة فكيف إذا جمع لها الأمران . 1 و منها تصديق وعد الله و وعيده و إخباره بالحساب و الجنة والنار ، و سائر ما يتعلق بالآخرة ، و هذه الحكمة كافية لإبطال شبهة ابن سينا و موافقيه في أمر الآخرة ، فإننا لو أعرضنا عن الحكم الأخرى و اقتصرنا على هذه الحكمة لكفى ، بأن نقول : هب أن الأمر كما زعمت من أن الناس لا يؤثر فيهم الترغيب و الترهيب ، إلا إذا كان بما هو من جنس ما أفوه و اعتادوه في الدنيا من الأمور الجسمانية و اللذات والآلام الجسمانية ، فإن الحكمة إذا اقتضت أن يقضي الله عز و جل وقوع ذلك و تحقيقه لئلا يكون إخباره تعالى و إخبار رسله كذباً ، فإنه سبحانه يتعالى عن ذلك.
و لنقتصر على هذا القدر على مقالة ابن سينا في إنكاره الاحتجاج بالنصوص الشرعية و ننظر مقالات من بعده و الله الهادي .
قول الفخر الرازي في الاحتجاج بالنصوص الشرعية
في ( مختصر الصواعق ) ج 1 ص 252 – 256 عبارة طويلة للفخر الرازي سأحاول تلخيصها مع شئ من الإيضاح ، المطالب الثلاثة :
__________
(1) أي فإن ذلك أكمل و أكمل ، و ذلك هو الواقع . المؤلف(1/186)
الأول ما يتوقف ثبوت الشرع على ثبوته ، كوجود الله و علمه بالمعلومات كلها، وصدق الرسول ، فهذا يستحيل أن يعلم بإخبار الشرع .
الثاني : ثبوت أو إنتفاء ما يقطع العقل بإمكان ثبوته و إمكان انتفائه . فهذا إذا لم يجده الإنسان من نفسه ، و لا أدركه بحسه ، استحال العلم به إلا من جهة الشرع .
الثالث : وجوب الواجبات ، و إمكان الممكنات ، و استحالة المستحيلات . فهذا يعلم من طريق العقل بلا إشكال ، فأما العلم بإخبار الشارع فمشكل ، لأن خبر الشارع في هذا المطلب إن وافقه عليه العقل ، فالاعتماد على العقل ، و خبر الشارع فضل، وإن خالفه العقل وجب تقديم العقل و تأويل الخبر في قول المحققين ، لأن تقديم الخبر على العقل حكم على العقل بأنه غير موثوق به ، فيلزم من هذا أن لا يكون ما ثبت به الشرع موثوقاً به ، فيسقط الشرع و ما أدى ثبوته إلى انتفائه فهو باطل ، و إن لم يعلم موافقة العقل للخبر و لا مخالفته له كان محتملاً أن يكون العقل مخالفاً له فيجيب تأويله ، و مع هذا الاحتمال لا يفيد العلم .(1/187)
قال : (( فإن قيل : إن الله سبحانه لما أسمع المكلف الكلام الذي يشعر ظاهره بشئ فلو كان في العقل ما يدل على بطلان ذلك الشئ و جب عليه سبحانه أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل ، و إلا كان تلبيساً من الله تعالى ، و إنه غير جائز ، قلنا : هذا بناء على قاعدة الحسن و القبح و أنه يجب على سبحانه شئ ، و نحن لا نقول بذلك ، سلمنا ذلك فلم قلتم : إنه يجب …. ، و بيانه أن الله إنما يكون ملبساً على المكلف لو أسمعه كلاماً يمتنع عقلاً أن يريد به إلا ما أشعر به ظاهره ، و ليس الأمر كذلك ، لأن المكلف إذا سمع ذلك الظاهر فبتقدير أن [ لا ] يكون الأمر كذلك لم يكن مراد الله من ذلك الكلام ما أشعر به الظاهر ، فعلى هذا إذا أسمع الله المكلف ذلك الكلام ، فلو قطع المكلف لحمله على ظاهره مع قيام الاحتمال الذي ذكرنا كان التقصير واقعاً من المكلف لا من قبل الله تعالى …. فخرج بما ذكرنا أن الأدلة النقلية لا يجوز التمسك بها في باب المسائل العقلية ، نعم يجوز التمسك بها في المسائل النقلية ، تارة لإفادة اليقين كما في مسألة الاجماع و خبر الواحد ، و تارة لإفادة الظن كما في الأحكام الشرعية )) .
أقول : أما المطلب الأول فقد أعد الله تبارك و تعالى لثبوته فطر الناس و عقولهم الفطرية و آيات الآفاق و الأنفس ، ثم تكفل الشرع بالتنبيه على ذلك و إيضاحه مع تضمنه لآيات أخرى ثم ، ثم يتمم الله عز و جل ذلك بالتوفيق لمن استحقه ، فمن كان في قلبه محبة للحق و رغبة فيه و إيثار له على ما سواه رزقه الله الإيمان لا محالة ، و لهؤلاء درجات بحسب درجاتهم في المحبة و الرغبة و الإيثار ، فمنهم من تقوى هذه الأمور عنده وتصفو فيصفو له اليقين بالفطرة و أدنى نظر . و منهم من يكون دون ذلك فيحتاج إلى زيادة .(1/188)
وعلى كل حال ، فإن المأخذين السلفيين شافيان مغنيان في تحصيل الحق من هذا المطلب ضرورة أن الله عز و جل بعث رسله و أنزل كتبه في أقوام لا خبر عندهم لغير المأخذين السلفيين و لا أثر ؛ و اكتفى بهما و بنى عليهما .
ولا يقف الأمر عند الإستغناء عن المأخذين الخلفيين بل إن شأنهما أن يمانعا حصول الإيمان و يزلزلاه لأسباب :
الأول : أن المشتغل بهما يغفل عن المأخذين السلفيين .
الثاني : أنه يتعرض لشبهات تعتاص عليه فيسوء ظنه بالمأخذين السلفيين .
الثالث : و هو أعظم الأسباب حرمان التوفيق ، فإن طالب الحق في غير المأخذين السلفيين إما أن يكون فاقداً لصدق المحبة و الرغبة و الإيثار للحق ، و إما أن يكون كان عنده شئ من ذلك و لكنه ضعف بإعراضه عن سبيل الله عز و جل . فقد يبلغ به الضعف إلى أن يزول أثره البتة ، و قد يبقى أثره في الجملة فيبقى العبد متردداً ، وربما يتداركه الله عز و جل في آخر الأمر فيرجع إلى المأخذين السلفيين ، و إن كان لا صفو له ذلك كما يصفو لمن ثبت عليهما من أول أمره ، و لذلك كان إمام الحرمين يتمنى في آخر أمره أن يموت على دين عجائز نيسابور كما تقدم في الباب الأول .
وأما المطلب الثاني فإن أراد الرازي أن الأخبار الشرعية فيه قد تفيد العلم اليقيني فما هي ظاهرة فيه كما يدل عليه قطع الأشاعرة بتنزيه الله عز و جل عن الكذب مع مصيرهم إلى أنه لا حجة في ذلك إلا النصوص كما تقدم ، و كما يدل آخر كلام الرازي، و سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى ، فهكذا يلزمه في المطلب الثالث بل هو أولى وأحرى لتعلقه بأعظم أصول الدين فالخطر فيه أشد ، و احتياط الشارع له آكد ، و يترتب على التلبيس فيه مفاسد عظيمة كما مر في الكلام مع ابن سينا .(1/189)
وأما المطلب الثالث فقوله : (( إن خبر الشارع إذا وافق العقل فالاعتماد على العقل و خبر الشارع فضل )) قول مردود عليه ، بل إن كان الدليل العقلي من المأخذ السلفي الأول فهما دليلان ، و إلا فالنص هو الدليل ، و القياس التعمقي فضله كما يعلم مما تقدم في الباب الأول ، على أنه بعد ثبوت صدق الشارع بالدلائل العقلية يكون الاحتجاج بخبره احتجاجاً بالعقل .
قوله : (( فإن خالفه العقل وجب تقديم العقل …. )) قول مردود عليه ، بل إن كان الدليل العقلي من المأخذ السلفي الأول فهو قرينة صحيحة يعلم بها أن معنى الخبر خلاف ما يتراءى منه لولا القرينة ، فليس هنا تقديم للعقل و لا للشرع إذ لا تخالف ، و إنما هنا حمل للخبر على ما هو الظاهر الحقيقي ، فأن الخبر إذا اقترنت به قرينة صحيحة تصرف عما يتراءى منه لولاها ، فظاهره الحقيقي هو ما يفهم منه مع القرينة و هي حينئذ بمثابة كلمة من لفظ الخبر . و إن لم يكن هناك ما يخالف ظاهر النص إلا قياس أو أقيسة مما يركبه المتعمقون مكن أصحاب المأخذ الخلفي الأول ، فالواجب تقديم النص و لا سيما إذا كان قطعي الثبوت كآية من القرآن أو سنة ثابتة قطعاً ، و قد تقدم في الباب الأول بيان وهن تلك الأقيسة ، و لا يلزم من تقديم النص عليها حكم على العقل الذي هو من المأخذ السلفي الأول بأنه لا يوثق به ، و إنما يلزم الحكم بذلك على ذاك القياس و ما كان قبيله ، و الشرع لم يثبت بشئ من ذلك ، كيف و قد ثبت الإسلام في العرب ، و لا أثر فيهم للتعمق البتة ، و كذلك بقية الشرائع ، و إنما ثبت الشرع بما تقدم في المطلب الأول ، والعقل هناك هو العقل الفطري الذي أعده الله عز و جل لإدراك بيناته في الدين .(1/190)
هذا و قد تقدم في الباب الأول بيان حال النظر المتعمق فيه ، و أنه قد يتعرض عند أصحابه قياسان كل منهما بحيث لو أنفرد لكان قاطعاً عندهم ، و قد يحصل لبعضهم قياس يعتقد أنه قاطع يقيني ثم بعد مدة يتبين له أنه مختل ، و كثيراً ما يتمسك أحد الفريقين المختلفين منهم كالأشعرية و المعتزلة بقياس ، و يرى أنه قطعي يقيني ، و يتمسك الفريق الآخر بقياس آخر مناقض لذلك و يرى أنه قطعي يقيني ، و يثبت كل الفريقين على رأيه في قياسه يحاول القدح في قياس مخالفه ، و يستمر هذا إلى مئات السنين ، و هم يعرفون هذا و يعترفون به ، مع ذلك لا يرونه موجباً عدم الثقة بالعقل مطلقاً و لا بما كان من جنس تلك الأقيسة ، فكيف يسوغ لهم مع هذا أن يزعموا أن خبر الله عز و جل مع العلم بأنه سبحانه لا يجهل و لا يخطئ و لا يكذب – إذا قدم على قياس تلك الأقيسة كان ذلك قدحاً في العقل مطلقاً ؟ بل الحق أن تقديم القياس على النص هو الأولى بأن يكون قدحاً في العقل ، بل هو رد للعقل الصريح بشبهة واهية ، فقد ثبت الشرع بالعقل الصريح و ثبت صدق الشارع و إبانته بالعقل الصريح ، و كثير من المعاني التي دلت عليها النصوص و هم ينكرونها ثابتة بالفطر و البدائة و هي رأس العقل الصريح ، و قد أبتت مع ذلك بأقيسة من جنس أقيستهم .
قوله : (( و إن لم يعلم موافقة العقل للخبر و لا مخالفته له …. )) .(1/191)
أقول : أما العقل الصريح الواضح الجلي الذي صلح أن يكون قرينة فلا يمكن أن لا يعلم ، فإن جاز أن يذهل عنه بعض المخاطبين الأولين يلبث أن ينبهه غيره ، فإذا لم يعلم ما يكون قرينة كان النص نفسه برهاناً على صحة ما دل عليه ، و على عدم المخالف الصحيح ، و لا يبقى إلا إحتمال أن يوحي الشياطين إلى بعض أوليائهم شبهة النظر المتعمق فيه ، و قد قال الله عز و جل : [ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ] . الأنعام : 121
قوله : (( فإن قيل : إن الله سبحانه لما أسمع المكلف …. )) .(1/192)
أقول : هذا كله مغالطة ، فإن النصوص المتعلقة بذات الله تعالى و صفاته لم تقتصر في الدلالة على تلك المعاني على إشعار الظاهر ، بل فيها المؤكد ، و الصريح الواضح ، و الظاهر البين ، و لم يكن معها معارضاً لها قرينة صحيحة من شأنها أن لا تخفي على المخاطبين الأولين ، فعلى فرض بطلان تلك المعاني أو بعضها لا يكون اللازم التلبيس فقد بل تكون كذباً صريحاً ، و بطلان هذا اللازم لا يتوقف على القول بأنه يجب على الله تعالى ، و لا على القول بالحسن و القبح العقليين ، و إنما يتوقف على امتناع أن يكذب الله عز و جل أو يكذب رسوله ، و الأشاعرة و منهم الرازي يعترفون بهذا الامتناع ، و يكفرون من لا يقول به ، غاية الأمر أنهم زعموا أن العقل لا يمنع أن يكذب الله سبحانه أو أن لا يكذب ، و لكن الرسول أخبر بأن الله تعالى لا يكذب ، و قد ثبت صدق الرسول بظهور المعجزة على يده ، قالوا ودلالة المعجزة على صدقه عادية- على ما مر بيانه في الباب الثاني – و الدلالة العادية عندهم يقينة و مهما يكن في استدلالهم من الوهن فيكفي أنهم معترفون بامتناع أن يقع من الله تعالى أو من رسوله فيما يخبر له عن كذب ، و يكفر من يقول خلاف ذلك ، و لا ريب أنهم إذا عرفوا بطلان استدلالهم ، و لم يبق إلا أن يقولوا بالوجوب و الحسن و القبح العقليين ، أو يكفروا ، إنما يختارون الأول، فإن فرض أن أتباعهم اختار المفر فإلى حيث ألقت رحلها أم قشعم !
فأن قيل : يؤخذ من كلام الرازي أنه يزعم أن احتمال الامتناع العقلي قرينة تدافع ظاهر الخبر ، فلا يلزم من القول ببطلان تلك المعاني أو بعضها تكذيب النصوص ، ولا من القول باحتمال البطلان القول باحتمال الكذب .(1/193)
قلت : هذا زعم باطل كما مر في الكلام على المقصد الأول من مقاصد ابن سينا، وإنما الذي يصح أن يكون قرينة هو الامتناع العقلي نفسه إذا كان من شأنه أن لا يخفى على المخاطب ، فأما احتماله فقط فإنما هو كاحتمال عدم وقوع ما دل الخبر على و قوعه ، وذلك كما لو كان في عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم أعمى صائم في رمضان وهو عريش بعيد عن البيوت فلم يدر أقد غربت الشمس أم لا ، فينما هو كذلك إذ مر به النبي صلى الله عليه و آله و سلم ، فقال للأعمى : قد غربت الشمس و صلينا المغرب ، فهل للأعمى أن يقول في نفسه : لو كنت بصيراً ، و اخبرني النبي صلى الله عليه وآله و سلم هذا الخبر و أنا أشاهد الشمس لم تغرب ، لكان ذلك قرينة على أن المراد بالخبر غير ظاهره ، كأن يكون عنى قد غربت أمس ، أو قد قارت الغروب ، فعلي الآن أن لا آخذ بظاهر الخبر ، لأن احتمال عدم الغروب اليوم قرينة ؟
فإن قيل : فإن الرازي فرق بين الأمور التقليدية و غيرها .
قلت : لم يأت على ذلك بحجة ، بل هو فرق باطل ، مع ذلك فإنا إذا فرضنا أن الشمس لم تكن قد غربت في ذاك اليوم فاحتمال أن تكون قد غربت فيه ممتنع عقلاً ، ثم نقول للرازي : أرأيت عالماً خرج إلى البادية فكان يخبر الناس أخباراً ظاهرة بينة في عقائد باطلة ، ويتأول في نفسه معاني صحيحة ، ويقول في نفسه : القرينة على احتمال أني لم أرد الظاهر هي احتمال الامتناع العقلي وكثر من ذلك جداً ، ألا يقبح منه ذلك ولا يأثم و لا يكفر إذا كان في أخبار ما هو ظاهر بين فيما هو كفر ؟ و قال ابن حجر الهيتمي في ( الإعلام ) بهامش ( الزواجر ) ج 2 ص 31 : (( نقل الإمام – يعني إمام الحرمين – عن الأصوليين أن من نطق بكلمة الردة و زعم أنه أضمر تورية كفر ظاهراً أو باطناً ، و أقرهم على ذلك )) .
ثم ذكر الهيتمي أن الحكم بالكفر باطناً فيه نظر .(1/194)
أقول : قولهم : (( كلمة الردة )) إنما يفهم منها عند الإطلاق الكلمة الصريحة فيها، وقولهم : (( أضمر تورية )) ظاهر في تلك الترية لا قرينة عليها ، و ما كان كذلك فالتلفظ به مع معرفة حاله لا يكون إلا عن تهاون شديد ، (1) و من المعلوم أن من كان كارهاً لشيء نافراً عنه فإنه يتباعد عنه ما استطاع ، وهذا قد تقرب من الردة ما استطاع و كفى بذلك تهاوناً ، و مع هذا فقد قالوا إن الرضا بالكفر كفر ، و لا ريب أن ذاك الخارج إلى البادية قد رضي أن يعتقد الناس ظواهر ما أخبرهم به .
و افرض أن أهل البادية كانوا يسألونه عن قضايا اتفقت فيهم في الوصايا و قسمة المواريث يحتاج في معرفة مقاديرها إلى معرفة دقائق الحساب و كان يذكر لهم مقادير يعلم أنها مخالفة للولقع و يضمر تورية في نفسه ، فيعملون بظاهر فتاواه و يحفظونها ليعلموا بها فيما يتفق بعد ذلك من أمثال تلك القضايا ، و ترتب على ذلك ظلم كثير للفقراء واليتامى والأرامل ، و هو يزعم أن لم يرتكب محظوراً لإضماره التورية مع احتمال الامتناع العقلي لأن مسائل الحساب من أوضح المعقولات ، فهل يعذر في ذلك ؟
__________
(1) ثم رأيت في كتاب ((تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي)) للبقاعي ص 23 ذكر مقالة إمام الحرمين ثم قال :
(( قال الإمام الغزالي في (( البسيط )) بعد حكايته عن الأصوليين : (( بحصول التهاون منه )) ، ومنه ص 66 الحافظ العراقي : (( لا يقبل ممن اجترأ على مثل هذه المقالات القبيحة أن يقول : أردت بكلامي هذا خلاف ظاهره ، ولا نؤول له كلامه ولا كرامة )) . المؤلف .(1/195)
و افرض أن رجلاً عاقل خاطبك بكلام ، فتدبرته ملاحظاً القرائن ، فعلمت أن الكلام ظاهر بين في معنى ، و أنه لا قرينة تصرف عن ذاك المعنى ، و أنه لا وجه لفرض أن يكون المتكلم عجز عن البيان أو جهل أو أخطأ ، أفلا تعلم ذلك بأن المتكلم أراد أن يكون كلامه ظاهراً بيناً في ذاك المعنى ، و عمل بمقتضى هذه الإرادة فجاء بالكلام على وفقها ؟ ثم أن خطر ببالك احتمال أن يكون أراد في نفسه معنى آخر على وجه التأويل ، و أن يكون ذاك المعنى الظاهر البين الذي أراد أن يكون الكلام مفهماً له ثم جاء بالكلام على وفق من هذه الإرادة غير واقع ، أليس معنى هذا الخاطر إنما هو احتمال أن يكون الكلام كذباً ، و إن يكون ببالك لكان تأويل المتكلم في نفسه إنما هو على أحد ثلاثة أوجه :
الأول : مثل تأويل إبراهيم عليه السلام .
الثاني : أن يكون توهم أنه إذا تأول في نفسه فقد برئ من معرفة الكذب .
الثالث : أن يكون إنما أعد عذراً حتى إذا انكشف الحال و بان كذبه قال : إنما عنيت كيت وكيت .
فأما الأول فهو تأويل إبراهيم فقد سبق أن محله أن يكون الكلام قريب الاحتمال جداً لغير ما هو ظاهر في ، وأن يكو المتكلم مضطراً إلى الإيهام ، وأن يكون في ذاك الإيهام دفع مفسدة عظيمة ، ولا ترتب عليه مفسدة ما ، وهذه الأمور منتفية عن النصوص التي يزعم المتعمقون أن ظواهرها باطلة ، كما قدمناه في الكلام على المقصد الخامس من مقاصد ابن سينا ، ومع ذلك فقد قدمناه الحجة على أن كلمات إبراهيم عليه السلام كذبات ، وإنها لا تناسب مقام النبوة فضلاً عن مقام الربوبية .
و أما الوجه الثاني فممتنع في النصوص ، كيف و قد ثبت الحكم على كلمات إبراهيم عليه السلام بأنها كذبات و خطايا ، و أنها لا تناسب مقام النبوة فضلاً عن مقام الربوبية ، فما بالك بما هو أشد منها بدرجات كثيرة كما مر ؟(1/196)
وأما الوجه الثالث فتعالى الله عز و جل و تنزه أنبياؤه عنه ، إنما هو دأب الكذابين إذا افتضح أحدهم قال : إنما عنيت كيت وكيت ؟
وأعلم أن مقتضى كلام الرازي في منعه الاحتجاج البتة بالنصوص بالعقائد التي لا يجزم العقل وحده فيها بالجواز أنه لو كان الرازي في عهد النبي صلى الله عليه و آله وسلم وقد قامت عنده البراهين العقلية اليقينية على أنه نبي صادق ، وآمن به ثم أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخبر يتعلق بتلك العقائد لقال الرازي :لا يمكنني أن أعلم أن هذا المعنى الظاهر الوضح من كلامك هو مرادك ، لإحتمال أن تكون أردت خلافه ، فلو قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم : لم أرد إلا هذا المعنى و هو الظاهر الواضح وهو كيت وكيت ، لقال الرازي : كلامك هذا الثاني كالأول فلو أكد النبي صلى الله عليه و آله وسلم وأقسم بآكد الأقسام لقال الرازي : لا تثعب يا رسول الله فإن ذاك الأمر الذي دل عليه خبرك يحتمل أن يكون ممتنعاً عقلاً ، ما دام كذلك فلا يمكن أن أثق بمرادك ، فلو قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم : أنه ليس بممتنع عقلاً بل هو واقع حقاً ، لقال الرازي : لا يمكنني أن أثق بما يفهمه كلامك مهما صرحت و حققت و أكدت حتى يثبت عندي ببرهان عقلي أنه غير ممتنع عقلاً !(1/197)
فليتدبر العاقل هل يصدر مثل هذا ممن يؤمن بأن محمداً رسول الله ، و أنه صادق في كل ما أخبره به عن الله ؟ مع أن من هؤلاء من يكتفي في إثبات عدم الإمتناع العقلي بأن يرى في بعض كتب ابن سينا عبارة تصرح بذلك ، و إن لم يكن فيها ذكر دليل عليه، فعلى هذا لو كان أحدهم مكان الرازي فقال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم : انظر كتاب ( الشفاء ) – مثلاً – لأبن سينا في باب كذا ، فنظر فوجد تلك العبارة المصرحة بعدم الامتناع ، الصدق و قال : اطمأن قلبي ، لكن لو قال له النبي صلى الله عليه و آله وسلم : انظر كتاب الله تعالى في سورة كذا ، فنظر فوجد آية أصرح من عبارة ابن سينا وأوضح ، لما أعتد بها ، بل لقال : حال هذه الآية كحال كلامك يا رسول الله ، لأنه يحتمل عندي أن يكون هذا المعنى ممتنعاً عقلاً !
بل أقول : قضية كلامهم أنه لو وقف أحده بين يدي الله تعالى و علم يقيناً أن الذي يخاطبه هو الله تعالى غير أنه لا يراه و لم يكن ثبت عند هذا الرجل بدليل عقلي جواز رؤية الله عز و جل في الآخرة ، فقال له الله تعالى : إن المؤمنين سيروني بأعينهم في الآخرة ، لكان عندهم على الرجل أن لا يجزم بذلك مهما تكرر إخبار الله تعالى بالرؤية وبعدم امتناعها ، بل عليه أن يطالب الله عز وجل بدليل عقلي على الجواز ، فلو لم يسمعه الله تعالى دليلاً و رجع فلقي رجلاً آخر فأخبره ، فذكر له الرجل قياساً من مقاييسهم التي تقدم حالها في الباب الأول ، يدل على الجواز ، فنظر فلن يتهيأ له قدح لصدق حينئذ ، وكذلك لو لم يذكر صاحبه قياساً و لكن أراه عبارة لابن سينا تصرح بعدم الامتناع .(1/198)
فهذه قضية ذاك القول ، بل هذه ثمرة التعمق ، بل هذه من مقتضيات دعوى الإمامة بغير حق ، بل هذه من نتائج استكراه العقل على أن يخوض فيما لم يحط به علماً ، ثم إذا سكن إلى شيء و ألتزمه كان عليه أن يهدم كل ما خالفه ، بل هذه عقوبة الخروج عن السراط المستقيم ، و أتباع غير سبيل المؤمنين ، و الرغبة عن طريق السلف الصالحين .
وفوق هذا كله فإن كثيراً من النصوص التي ينكر المتعمقون ظواهرها كانت عقول المخاطبين الأولين تقطع بوجوب ما دل عليها بعضها ، وجواز ما دل عليه الباقي – كما مر في الكلام مع ابن سينا و يأتي طرف منه في مسألة الجهة وغيرها ، فاحتمال الامتناع العقلي كان منتفياً عندهم ، فعلى فرض بطلان بعض تلك المعاني ، يلزم أن تكون كذباً قطعاً حتى على زعم أن احتمال الامتناع العقلي قرينة .
فإن قيل : لم يكونوا ماهرين في المعقول فكان عليهم أن يشكروا في جزم
عقولهم .
قلت : فعلى هذا لم يكن يلزمهم الإيمان البتة ، بل على هذا لا يلزم أحداً الإيمان لأنه مهما بلغ من المهارة فلا بد أن يكون فوق درجته ما هو أعلى منها ، و أي باطل أبطل من هذا ؟ وإنما الحق أن هناك قضايا فطرية يستوي في إدراكها العاقل و الأعقل ، وهناك قضايا يقع التفاوت فيها ، و لكن يتفق أن يكون الرجل فيها أفضل من كثيرين كلهم أعقل منه ، إما لأنه يسر له من المشاهدة و التجربة والملاحظة والوجدان ما لم ييسر لهم ، وإما لأنهم عرضت لهم عوائق من الهوى و الشبهات و الاستكبار لم
تعرض له .
فإن قيل : أما القضايا التي يثبت بها الشرع فكانت عند المخاطبين الأولين ، بل هي عند جميع المكلفين إذا لم يعاندوا أو يقصروا بغاية الوضوح ، فلم يكن عليهم أن يشكوا في جزم عقولهم بها ، ولكنا ندعي أن القضايا التي توافق ظواهر النصوص التي ندعي بطلانها ، لم تكن عندهم بغاية الوضوح ، فكان عليهم أن يشكوا في جزم عقولهم بها فقط .(1/199)
قلت : هذه دعوى باطلة فإن من تدبير وجد أن من القضايا التي تدعون بطلانها ما من شأنه أن يكون أوضح عندهم ، من بعض القضايا التي يتوقف ثبوت الشرع على ثبوتها ، ومنها ما يكون مثلها ، ومنها ما قد يكون دومنها ، و لكن كيف ترون عليهم أن يميزوا هذا التمييز الدقيق مع قولكم إنهم لم يكونوا ماهرين ؟ و هب أنه كن يمكنهم ذلك أفلم يوجب الله عز و جل عليهم اتباع الشرع و يخبرهم بأنه [ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ] ؟
أفلا يكون في موافقة الشرع لعقولهم على تلك القضايا ما يجبر ما عسى أن يكون عندهم من الشعور بأن جزم عقولهم بها ليس بغاية الوضوح ؟
هذا كله إبلاغ في إقامة الحجة ، وإلا فمن المعلوم أن الذي يصلح قرينه إنما هو الامتناع العقلي الذي من شأنه أن يدركه المخاطب .
فأما قول الرازي إن الله إنما يكون ملبساً على المكلف لو أسمعه كلاماً يمتنع عقلاً أن يريد به إلا ما أشعر به ظاهره )) فجوابه يعلم مما يأتي :
اعلم أن للمتكلم إرادتين تتفقان تارة و تختلفان أخرى .
فالأولى : إرادة أن يكون خبره بحسب تركيبه مع قرائنه حقه أن يفهم منه المخاطب هذا المعنى ، فإذا لم يكن من المتكلم جهل ولا خطأ ولا عجز فلا بد أن يجيء خبره مطابقاً لهذه الإرادة .
الإرادة الثانية : إرادة المعنى كمنت يقول : (( رأيت أسداً )) فقد يريد في نفسه أسداً حقيقياً ، وقد يريد رجلاً شجاعاً ، فإذا لم يقصد المتكلم الكذب و التلبيس فإنما يريد بهذه الإرادة ذاك المعنى الذي حق الخبر أن يفهم منه ،فلا يختلف المعنى في الإراديتين إلا في الكذب و التلبيس ، فاعرف ذلك .
فإن عنى الرازي بقوله : (( … أن يريد به … )) الإرادة الأولى ، أو الثانية مع تسليم لأنها لا تكون في كلام الله تعالى إلا موافقة للأولى ، فمآل عبارته أن المكلف لا يمكنه القطع بأن المعنى الذي فهمه من الخبر هو الذي حقه أن يفهم منه .(1/200)
فأقول : الرازي يخص هذه الدعوى بمطلبه الثالث حيث يحتمل الإمتناع العقلي ، و يعترف بحصول القطع في مطلبه الثاني ، فأولى من ذلك حصوله في مطلبه الثالث حيث يكون العقل موافقاً للشرع .
إذا تقرر هذا فالمخاطبون الأولون كانوا يعتقدون فيما اختص بإنكاره المتعمقون من معاني النصوص وجوب بعضه عقلاً فيحصل لهم باعتراف الرازي القطع من ذلك ، فإما أن يلزم باعتراف الرازي الكذب و التلبيس ، و إما أن تكون تلك المعاني حقاً . و هو الحق المطلوب .
فإن قال : إنما عنيت بالعقل العقل الصحيح ، والمخاطبون الأولون إن اعتقدوا الوجوب العقلي أو الجواز فيما أقول بامتناعه عقلاً أو احتمله الامتناع عقلاً فذلك خطأ منهم .
قلت : المانع عندك من القطع إنما هو احتمال الامتناع ، فمن انتفى عنده احتمال الامتناع حصل له القطع ، و الله عز و جل قد ارتضى عقول المخاطبين الأولين وكلفهم بحسبها ، ولمة يرشدهم الشرع إلى التعمق في المعقول فيما يتعلق بالدين ، بل كره لهم ذلك، فعلى فرض أنهم أخطئوا لعدم تعمقهم فذلك خطأ لأتبعه عليهم فيه البتة ، بل على فرض بطلان تلك المعاني تكون التبعة على من خاطبهم خطاباً يعلم أنه من حقه بالنظر إليهم أن يفهموا منه الباطل و يقطعوا به بدون تقصير منهم .
وهب أن القطع لا يحصل في كل خبر فالرازي معترف بحصول الظن القوي ، وذلك اعتراف بأن تلك النصوص أو أكثرها مت حقها أن يفهم المخاطبون الأولون منها تلك المعاني التي ينكرها المتعمقون ، فإن من الممتنع عادة أن يخطئ المخاطبون الأولون ومن كان مثلهم في فهم تلك النصوص كلها خلاف ما حقها أن يفهموه منها ، وإذ ثبت هذا ثبت أن القول ببطلان تلك المعاني تكذيب لله عز وجل ولا بد .(1/201)
وأيضاً فالإيقاع في ظن الباطل قريب من الإيقاع في القطع به ، ألا ترى أن الإنسان إذا أخبر صاحبه بخبر إنما يحصل لصاحبه الظن لاحتمال أن يكون غلط أو أخطأ او جهل أو عجز أو تعمد الكذب ، ومع ذلك فإنه إذا كذب فعليه تبعة الكذب .
وإن عنى الرازي بقوله : (( … أن يريد به … )) الإرادة الثانية على زعم أنها قد تخالف في كلام الله تعالى الأولى ، فحاصل عبارته على هذا : أن الله تعالى لا يكون ملبساً إلا إذا امتنع عقلاً أن يكون ملبساً ، و هذا لا يظهر له معنى إلا أن يكون مغزاه أن اله تعالى إنما يكون ملبساً إذا امتنع عقلاً أن يكذب ، فإما إذا لم يمتنع عقلاً أن يكذب فالمصدق له هو المقصر ، فعلى هذا تكون منزلة رب العالمين عند الرازي منزلة الرجل الذي دينه الكذب ، فإذا كذب على قوم فبنوا على خبره ، فنالهم ضرر ، فلاموه كان لغيره أن يقول لهم : هذا رجل من عادته الكذب فأنتم المقصرون إذا عملتم بخبره ، فإن لم تعرفوا عادته فقد كان عليهم أن تتثبتوا ! والرازي لا يرضى هذا المثل نفسه ، و لا أقل أصحابه ، بل لا يرضى به إنسان لنفسه [ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ] النحل : 60 .
وبخ الله تعالى بهذا المشركين على قولهم أن له سبحانه بنات ، مع كراهيتهم أن تكون لهم بنات ، ولا أرى المقالة السابقة إلا أكبر من هذه ، و قال تعالى في الذين قالوا أن له سبحانه ولداً : [ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ] .
الكهف : 5 .
وقال سبحانه لقائلي ذلك : [ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً . تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً ] مريم : 89 - 90 .(1/202)
وقد اتفق المسلمون على أنه يمتنع عقلاً أن يقع من الله تعالى كذب ، غاية الأمر أن أكثر الأشاعرة زعموا أن الامتناع إنما هو بواسطة إخبار الرسول به مع امتناع أن يكذب الرسول .
هذا و قد رجع الرازي و لله الحمد أن الإحتجاج بالنصوص كما تقدم في الباب الأول ، و إنما اشبعت الكلام لأن كثيراً من الناس تبعوه في مقالاته ، و لم يلتفتوا إلى رجوعه ، كما يأتي عن العضد و غيره . و الله المستعان .
قول العضد و غيره
كلام العضد و غيره في هذه المسألة تلخيص لكلام الرازي الذي تقدم نقل بعضه عن ( مختصر الصواعق ) ، مع مخالفة يسيرة ستراها إن شاء الله تعالى .
قال العضد في أواخر الموقف الأول من ( المواقف ) .
المطالب ثلاثة أقسام :
أحدها : هو ما يمكن ، أي لا يمتنع عقلاً إثباته و لا نفيه ، نحوا جلوس غراب الآن على منارة الإسكندرية ، فهذا لا يمكن إثباته إلا بالنقل .
الثاني : ما يتوقف عليه النقل مثل وجود الصانع و نبوة محمد ، فهذا لا يثبت إلا بالعقل ، إذ لو ثبت بالنقل لزم الدور .
الثالث : ما عداهما نحوا الحدوث إذ يمكن لإثبات الصانع دونه ، و الوحدة ، فهذا يمكن إثباته بالعقل إذا يمتنع خلافه عقلاً بالدليل الدال عليه ، و بالنقل لعدم توقفه عليه )) .
أقول : هذه هي مطالب الرازي وإنما اختلف الترتيب . قال السيد الجرجاني في شرحه للمطلب الأول و هو في ترتيب الرازي الثاني : (( لأنه – يعني جلوس غراب على منارة الإسكندرية و نحوه – لكا كان غائباً عن العقل والحس معاً استحال العلم بوجوده إلا من قول الصادق ، ومن هذا القبيل تفاصيل أحوال الجنة و النار والثواب
والعقاب … )) .
أقول : هذا يدل على ما قدمته من أن فرار المتكلمين إلى هذا التقسيم إنما هو محاولة للتخلص من إلزام ابن سينا وقد مر ما فيه . ثم قال العضد :(1/203)
(( الدلائل النقلية هل تفيد اليقين ؟ : لا ، لتوقفه على العلم بالوضع و الإرادة ، والأول إنما يثبت بنقل اللغة والنحو والصرف ، و أصولها تثبت برواية الآحاد ، وفروعها بالأقيسة ، وكلامها ظنيان . والثاني يتوقف على عدم النقل والاشتراك والمجاز والإضمار والتخصيص والتقديم والتأخير ، والكل لجوازه لا يجزم لانتفائه بل غايته الظن ، ثم بعد الأمرين لا بد من العلم بعدم المعارض العقلي ، إذ لو وجد لقدم على الدليل النقلي قطعاً ، إذ لا يمكن العمل بهما و لا بنقضهما ، وتقديم النقل على العقل إبطال للأصل بالفرع ، وفيه إبطال للفرع ، وإذ أدى إثبات الشيء إلى إبطاله كان مناقضاً لنفسه فكان باطلاً ، لكن عدم المعارض العقلي غير يقين ، إذ الغاية عدم الوجدان ، وهو لا يفيد القطع بعدم الوجود ، فقد تحقق أن دلالتها تتوقف على أصول ظنية ، لأن الفرع لا يزيد على الأصل في القوة ، والحق إنها قد تفيد اليقين بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمالات ، فأنا نعلم استعمال لفظ الأرض والسماء ونحوهما في زمن الرسول في معانيهما التي تراد منها الآن ، و التشكيك فيه سفسطة ، نعم في إفادتها اليقين في العقليات نظر ، لأنه مبني على أنه هل يحصل بمجردها الجزم بعدم المعارض العقلي ؟ وهل لقرينه مدخل في ذلك ؟ وهما مما لا يمكن الجزم بأحد طرفيه )) .
أقول : أصل التشكيك كله للرازي كما يعلم من بعض كتب أصول الفقه .
و أقول : أما نقل اللغة والنحو والصرف فلا ريب أن هناك ألفاظاً يتفرد بنقلها بعض أهل اللغة ، وأوجهاً من النحو و الصرف يتفرد بحكايتها بعض أهل العربية ، لكن الأعم الأغلب من نقل اللغة و الصرف والنحو التواتر ، و محاولة القدح في الجميع بأن البعض ظني مع العلم بأن الأكثر قطعي صنيع أخس من أن يسمى سفسطة كما نعلم من الموازنة بينه و بين ما تقدم عن السوفسطائية في الباب الأول .(1/204)
وأمل النقل ، والمراد به هنا نقل الشارع الكلمة عن معناها اللغوي إلى معنى شرعي ، فقد وصف الله تبارك و تعالى كتابه بأنه (( مبين )) و انه (( بيان للناس )) و أنه ((بلسان عربي مبين)) وقال : [ ثم أنا علينا بيانه ] ، وأوجب على الناس تدبره وتصديقه والعمل به ، و قال : [ أنا نحن نزلنا الذكر و أنا له لحافظون ] ، ولا شبهة أنه ليس المراد حفظ ألفاظه فقط ، وإنما المقصود بحفظه بقاء الحجة قائمة والهداية دائمة إلى قيام الساعة ، وبهذا يعلم يقيناً أن الشارع لو نقل كلمة عن معناها اللغوي إلى معنى آخر لبين ذلك للناس بياناً واضحاً ، ولو بين لنقل بيانه ، لتكفل الله عز وجل بحفظ الدين ، ولما يلزم من انقطاع ذلك أن تنقطع الحجة و الهداية ، فتقوم الساعة أو يبعث نبي آخر ، و قد علمنا أن الدنيا باقية ، وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين ، و قد تقرر في الأصول أن من الأخبار المقطوع بكذبها ما نقل آحاداً ، و العادة تقضي أنه لو وقع لنقل متواتراً ، فما لم ينقل آحاداً من ذلك فالقطع بعدم وقوعه أوضح . وفوق هذا فإن السياق كثيراً مايعين معنى الكلمة حتى لمن يجهل أصل معناها ، وكثير من الكلمات تتكرر في الكتاب و السنة ويدل السياق في كثير من تلك المواضع أو أكثرها على معنى الكلمة ، وهكذا يكثر استعمالها على ألسنة حملة الشرع من الصحابة والتابعين ، بل كثيراً ما يدل السياق في الكلمة التي قد ثبت أن الشارع نقلها على أنها في ذلك الموضع ليست بالمعنى المنقولة إليه كقوله تعالى : [ إن الله و الملائكة يصلون على النبي ] ، (1)
__________
(1) كأنه يشير إلى أن لفظ ( يصلون ) في الآية الأولى و لفظ ( تزكوا ) في الثانية منقول عن وضعه اللغوي ، و هذا و إن ظهر في لفظ ( يصلون ) فلا يظهر في لفظ ( تزكوا ) . م ع
يقول المؤلف : عبارتي واضحة في غير هذا ، إنما أردت أن الشارع نقل لفظ الصلاة إلى ذات الركوع والسجود و لفظ الزكاة إلى أداء زكاة المال . ومع ذلك فسياق الآية الأولى يبين أن الصلاة فيها غير ذات الركوع و السجود ، و سياق الثانية تبين أن الزكاة فيها غير أداء زكاة المال .(1/205)
وقوله تعالى : [ و لا تزكوا أنفسكم هو اعلم بمن أتقى ] ، وغير ذلك ، فما بالك بما لم يأت أنه نقل إلى معنى آخر .
و نحو هذا يأتي في الاشتراك و المجاز والإضمار و التخصيص والتقديم والتأخير ، وقد تقرر أن الظاهر حجة ، وأن من استعمل الكلمة في غير المعنى الظاهر منها كان عليه أن ينصب قرينة و إلا كان الكلام كذباً ، واحتمال قرينة لم تنقل يرده ما تقدم من تكفل الله عز وجل بالبيان وبحفظ الشريعة ، وقضاء العادة بأنها لو كانت هناك قرينة لنقلت ، وكثيراً ما تقوم الحجة القاطعة على أن الكلام على ظاهره ، إما من الكلام نفسه بتركيبه وسياقه ، وأما بمعونة نظائره في الكتاب والسنة ، وقد أخطأ أفراد من الصحابة في فهم قوله تعالى : [ … و كلوا و أشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ] ، مع أن خطأهم إنما كان لغفلتهم عن السياق والقرائن كما أوضحته في رسالة ( أحكام الكذب ) ، ومع ذلك كان خطأ أولئك الأفراد سبباً لإنزال الله عز وجل بقية الآية زيادة في البيان والإيضاح ، فكيف يعقل أن يكون النص في العقائد ثم تخفى القرينة على جميع الصحابة ثم لا يبين الله لهم ، أو يعرفها جماعة منهم ثم لا يبالون بنقلها ، ولا يبعثهم الله تعالى على نقلهم نقلاً متواتراً يصل إليه علماء الرواية فيشيعونه ويذيعونه ؟ ! ولا ريب أنه كما كان الصحابة مخاطبين بالنصوص فكذلك من بعدهم وكما تترتب المفسدة الشديدة على جهل الأولين بالقرينة فكذلك من بعدهم ، غاية الأمر أن القرينة وإن كانت في حق المخاطبين الأولين لا بد أن تقترن بالنص فقد يجوز أن يستغني بعض النقلة باشتهارها فلا ينقلها مع النص ، لكن لا يلزم من هذا ألان لا تنقل ، بل لا بد من النقل لما تقدم ، فإذا طلبها العلماء في مظانها فلم يجدوها ، وحقها أن تنقل نقلاً متواتراً تواتراً يناله العلماء ، قطعوا بأنها لم تنقل كذلك ، فقطعوا بعدمها ، فقطعوا بأن النص على ظاهره .(1/206)
وليس الحال فيما يتعلق بالعقائد كالحال فيما يتعلق بالأحكام ، فإن الأحكام يجوز فيها أن تنقل القرينة آحاداً فقط لأن الخطأ في ذلك أمر هين ، وقد يكون الخطأ بالنظر إلى النصوص في الأحكام صواباً بالنظر إلى الحكمة ، فإن القوانين الشرعية تبنى على الأغلب في الحكمة ، ولكن الله تبارك وتعالى يتولى تطبيق الحكمة بقضائه وقدره ، فكما فرض الله تعالى الحكم بشهادة العدلين ، وقد يتفق أن يخطئ عدلان ، لكن الله تبارك وتعالى يتولى في مثل هذا تطبيق الحكمة بقضائه وبقدره ، فكذلك قد يعرف القاضي دليلاً عاماً فيقضى به ، وهناك مخصص له لم يقف عليه ، فهذا القضاء وإن كان خطأ بالنظر إلى نفس الأمر بحسب الدلائل ، فلعله صواب عند الله عز وجل بمقتضى الحكمة في تلك القضية ، فأما العقائد فعلى خلاف هذا إذا لا يعقل تغيير الحكمة فيها ، وكما يضر فيها القطع بالباطل فقريب منه الظن ، فهب أن العالم إذا بحث فلم يجد قرينه لم يقطع بظاهر النص ، فلا بد أن يظنه ، و لا يستطيع أن يدفع الظن عن نفسه ، ومع الظن فلا بد أن يحمد من أصحاب المقالات من يوافق ذاك الظن ، ويذم من خالفه لغير حجة صحيحة .
وبالجملة فمن تدبر القرآن و السنة وآثار السلف لم يخف عليه الحق في كثير منها، وأنه لا يمنعه عن القطع و الإستيقان إن منعه إلا الشبهات المحدثة المبنية على التعمق ، فأما من يقوي إيمانه و لا يبالي بتلك الشبهات ، فإنه يقطع بدلالة كثير من تلك النصوص ويؤمن بها ، و أما من لا إيمان له و هو مفتون بالشبهات فإنه يقطع بتلك الدلالة و يكفر بها .(1/207)
و أما الذين يكونون كما قال الله عز و جل : [ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ ] فقد عرفت حالهم ، ووراء ذلك أقوام يجهلون ما عليه العقول الفطرية كعقول المخاطبين الأولين أو يتجاهلون ، ويغفلون عن قوانين البيان أو يتغافلون ، و لا يعرفون وهن النظر المتعمق فيه ، أو يعرفون و ينكرون ، و لا يتدبرون النصوص فيعرفون دلائلها القواطع ، أو يتدبرون و يجحدون [ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ] .
و بالجملة فأسلافنا على ثلاث طبقات :
الأولى : من ضح لنا اعتصامه بالكتاب و السنة فهؤلاء الذين نتولاهم .
الثانية : من وضح لنا تهاونه بالكتاب و السنة فعلينا أن نتبرأ منهم .
الثالثة : قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يعفو عنهم ويعذرهم ، وعلينا أن نحمد الله فيما أصابوا فيه ، ونبرأ مما أخطأوا فيه . والله المستعان .
فأما ما ذكره العضد من المعارض العقلي فقد علمت حاله في الكلام مع الرازي ، وقوله : (( و الحق أنها قد تفيد اليقين بقرآئن مشاهدة أو متواترة )) ففيه قصور شديد ، بل قد تفيد اليقين من أوجه أخرى كما سلف .
ثم نكس فقال : (( نعم في إفادتها اليقين في العقليات نظر لأنه مبني على أنه هل يحصل بمجردها الجزم بعدم المعارض العقلي ؟ وهل للقرينة مدخل في ذلك ؟ وهما مما لا يمكن الجزم بأحد طرفيه )) .(1/208)
أقول لا ريب أنه من التيسر في كثير من الكلام إن لم نقل في أكثره أن يحصل القطع بالمعنى الذي حقه أن يفهم منه ، وإنكار هذا مكابرة ، فم إذا حصل القطع بهذا في كلام من يمتنع عليه الغلط حصل القطع بأنه أراد أن يكون الكلام كذلك ، أي حقه أن يفهم من ذاك المعنى ، فإذا كان ممتنعاً عليه قطعاً أن يكذب خطأ و لا عمداً حصل القطع بصحة ذاك المعنى فيحصل القطع باستحالة أن يوجد دليل عقلي صحيح على بطلان ذاك المعنى .فمن زعم أن النصوص لا يحصل بها القطع بعدم المعارض العقلي فإما أن يكون جاهلاً بقوانين الكلام ، وإما أن يكون يكذب المتكلم بالنصوص ، فأما زاد على هذا فرد بعض تلك النصوص أو حرفها إلى غير المعاني التي يعلم أن حقها بحسب قانون الكلام منها فهو مكذب للمتكلم بها و لابد .
ومن وقف عن نفي حصول القطع وإثباته مع معرفته بقوانين الكلام فإن كان واقفاً في المسائل التي يختلف فيها السلفيون و غيرهم أو غالبها ، فهو غير جازم بتصديق المتكلم بالنصوص و إن كان يرد كثيراً من تلك النصوص أو يحرفها ، فلا معنى لوقفه بل هو مكذب البتة ، فإن قيل قد يخطئ في فهم النصوص التي خالفها .
قلت : إنما يتجه الحمل على الخطأ حيث يقل و يكون الغالب الصواب ، ومع ذلك فهذا إنما يفيد الجزم بالتصديق ، فأما المرتاب فسواء أخطأ أم تعمد .
فأما القرآئن فهي على ضربين :
الضرب الأول : ما هو كالجزء من الكلام بأن ينصبه المتكلم أو يلاحظ تتميماً لمقصود الكلام وهو الإفهام ، فتارة تكون فائدتها تأسيسية , ذلك حيث يتوقف عليها الفهم أو تعيين المراد أو تبيينه ، وتارة تكون تأكيدية و ذلك حيث توافق ما يدل عليه الكلام .(1/209)
الضرب الثاني : العلامات والأمارات الدالة على بعض الأمور ، كأن نعلم أن القاضي مريض مرضاً خطراً ثم نسمع البكاء من بيته ، ويدعى الغسالون و الحفارون و يحضر العلماء والأمراء ، ثم تخرج من بيت القاضي جنازة على هيأة العلماء فيتسابق أهل العلم و الفضل إلى حملها ، ومعها أبناء القاضي بهيئة الغم و الحزن ، ثم توضع للصلاة فيقدمون للإمامة أكبر أبناء القاضي ، فتقدم ويقوم حيث يقوم الإمام من جنازة الرجل ، ثم يذهب بها فيدفن الميت في قبره بجانب قبر والد القاضي ، ثم نرى الناس يتقدمون إلى أبناء القاضي على هيأة ما جرت به العادة في التعزية – إلى غير ذلك مما يدلنا على أن القاضي مات ولو لم نشاهد موته ، ولم نسمع مخبراً يخبر بموته ، وهذه الأمارات قد تقوي وتكثر حتى يحصل اقطع بموت القاطي ، وذلك حيث يستحيل في العادة أن يتفق اجتماع لغير موته .
فإذا فرضنا أنه عندما سمعنا البكاء من بيت القاضي خرج طبيب كان دعي قبل ساعة ، فسئل فقال : مات القاضي ، فهذا الخبر قد يحصل به وبتلك الأمارات القطع حتى على فرض عم الخبر .
وهذا الضرب قد يحتاج إليه الناس لوجهين :
الأول : تثبيت صدق المخبر .
الثاني : الدلالة على معنى الخبر حيث لم يكن صريحاً كما لو كان الطبيب لما سئل قال : (( مات رجل كبير )) . فأما الشرع فإنه غني عن تثبيت صدق أخباره ، وإنما الشأن في ثبوت أه أخبر ، ثم في معنى الخبر ، وكلا الضربين يدخل فيما يتعلق بالعقليات ، كما يدخل في غيره .
وجاري السيد الجرجاني في ( شرح المواقف ) المتن . ثم قال :
(( و قد جزم الإمام بأنه لا يجوز التمسك بالأدلة النقلية …. ))(1/210)
أقول : قد رجع الرازي كما تقدم (1) و لله الحمد . و السيد هذا هو المصرح في البيان كما في بحث الاستعارة من حيث ( حواشي عبد الحكيم على المطول ) بأن الكذب العمد لا ينصب صاحبه قرينة (( بل يروج ظاهره لكن لا مانع من قصد التأويل في
ذهنه )) .
وجاراهما المحشي عبد الحكيم قم قال
(( ههنا بحث مشهور ، و هو أن المبني لعدم المعارض العقلي في التشريعات صدقُ القائل ، و هو قائم في العقليات أيضاً ، و ما لا يحكم العقل بإمكانه ثبوتاً و انتفاء لا يلزم أن يكون من الممتنعات لجواز إمكانه الخالي من العقل ، فينبغي أن يحمل كل ما علم أن الشرع نطق به على هذا القسم ، لئلا يلزم كذبه ، و إبطال قطع العقل بصدقه ، فالحق أن النقلي أيضاً يفيد القطع في العقلي أيضاً ، ولا يفيد ما ذكره الشارح ، و لا مخلص إلا بأن يقال مراده أن النظر في الأدلة أنفسها و القرآئن في الشرعيات يفيد الجزم بعد المعارض لأجل إفادته الإرادة من القائل الصادق جزما ، وفي العقليات إفادته الجزم بعدمه محل نظر بناء على إفادته لإرادة محل له لأنه بعد ما علم مراد الشارع يقيناً في العقلي والنقلي يحصل الجزم بعدم المعارض في الثاني دون الأول فإنه غير مسلم )) .
أقول : لا شك أن هذا الذي زعمه هو مرادهم ، لكنه لا يفيدهم شيئاً ، لأن ذاك النظر لا يستند إلى شئ سوى أنهم وجدوا الشبهات التعمقية تخالف بعض النصوص ، فلم يكن عندهم من قوة الإيمان ما يحملهم على اطراح تلك الشبه وتصديق الشرع ، وكبر عليهم أن يصرحوا بتكذيب الشرع ، فحاولوا أن يتخذا بين ذلك سبيلاً ، وهيهات !
وكذلك السع التفتازاني جرى في ( المقاصد ) و( شرحها ) على أن النصوص لا يحتج بها في مقابل تلك الشبه و جمجم في ذاك الموضع جمجمة ينكشف حالها في كلامه في موضع آخر ، كما يأتي في مسألة الجهة إن شاء الله تعالى .
__________
(1) يعني في و صيته التي لخصها المؤلف من (( لسان الميزان )) ص 33 ، م ع(1/211)
وقد أوضحت في رسالة ( أحكام الكذب ) اتفاق البيانيين ومنهم التفتازاني والجرجاني وعبد الحكيم أن الكلام إذا كان حقه أن يفهم منه مع ملاحظة قرينة - إن كانت - خلاف الواقع ، لم تخرجه الإرادة التي هي التأويل الذهني عن كونه كذباً ، وتقدم بعض ما يتعلق بذلك ومرت عبارة الجرجاني قريباً . فمتى تحقق في النص أنه ظاهر بين في معنى ولا قرينة تصرف عنه ففرض بطلان ذاك المعنى مستلزم أن الكلام كذب ، وأن المتكلم كاذب ولابد ، ويتأكد بعيداً جداً عن احتمال غير ذاك المعنى فإنه يتحقق حينئذ عدم العلاقة مع عدم القرينة .
وزعم الجرجاني في ( شرح المواقف ) أن القول بأن الأدلة لا تفيد اليقين هو مذهب المعتزلة و جمهور الأشاعرة ، فإن صح هذا القول فهو بالنظر إلى متأخري الطائفتين، فأما المتقدمون فلا يظن بهم هذا ، نعم إنهم يخالفون بعض النصوص ولكن قد يكون ذلك لاشتباه ما توهموا أنه دليل عقلي بالدليل العقلي الصحيح الذي من شأنه أن لا يخفى على المخاطبين الأولين فتوهموا أنه قرينة صحيحة ، أو لاشتباه معاني بعض الآيات عليهم ، فظنوا أنها صريحة فيما ذهبوا إليه ، و أنها قرينة صحيحة توجب تأويل ما يخالفها، وقل عالم إلا وقد خالف بعض النصوص ، وكما لا يلزم من ذلك إنكار أن تكون النصوص حجة ، فكذلك لا يلزم إنكار أنها قد تفيد اليقين ، بلى إذا كثرت المخالفة فقد يتجه الحكم . و الله أعلم .(1/212)
المحكم و المتشابه
كثير من المتعمقين يسترون تكذيبهم للنصوص بدعوى أن ما يخالفونه منها هو من المتشابه المنهي عن إتباعه ، وقد كثر الكلام في المحكم و المتشابه ، وسألخص ما بان لي راجياً من تعالى التوفيق .المعنى المتبادر إلى الذهن من كلمتي (( محكم )) و(( متشابه )) أن الحكم هو المتقن الذي لا خلل فيه ، والمتشابه هو الذي يشبه بعضه بعضاً ، والقرآن كلام رب العلمين ، أحكم الحاكمين ، العليم القدير ، فلابد أن يكون كله محكماً ، وينبغي أن يعلم إحكام الشئ يختلف باختلاف ما أعد له ، ففي البناء يختلف الإحكام في الحصن و دار السكنى و قصر النزهة ، (1) وهكذا يختلف الإحكام في حجر الدار الواحدة كالمجلس و المخزن و الحمام ، ويختلف المعد لغرض واحد باختلاف الأحوال ، فالمجلس الذي يصلح للشتاء قد لا يصلح للصيف ، و الذي يصلح للصيف في بلد لا تكون فيه السموم (2) قد لا يصلح في بلد تكون فيه ، و هكذا الكلام كما يقوله البيانيون في تفسير البلاغة، فمهما يكن في بعض الآيات مما يزعمه بعض الناس خللاً فهو بالنظر إلى ما أعدت له الآية عين الإحكام.و هناك صفات تشترك فيها آيات القرآن كالإحكام و الصدق و غير ذاك من الصفات المحمودة ، فيصح أن يقال : إن القرآن كله متشابه كما أنه كله محكم ، و قد وصفه الله تعالى بهذين الوصفين ، قال تعالى : [ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ] فاتحة سورة ( هود ) .
وقال عز و جل : [ وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ] فاتحة سورة ( يّس ) .
وقال سبحانه : [ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً ] . الزمر : 23 .(3)
__________
(1) كل بحسبه ، فإتقان الحصن غير إحكام دار السكنى قصر النزهة . م ع
(2) السموم الرياح الحارة مع الجفاف كاصبا و الشمال في تهامة و الحجاز و كالجنوب في مصر . م ع
(3) و الذي أفاده شيخ الإسلام ابن تيمية أن الإحكام و التشابه العام في القرآن يتشابهان ، فهو محكم متقن بين واضح ، و هو متشابه يشبه بعضه بعضاً في الإحكام و الصدق و البيان و الوضوح . م ع
(1/213)
فيبقى النظر في قوله تعالى : [ الم . اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ .نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ] إلى قوله : [ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ. رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ] . فواتح سورة ( آل عمران ) .
دل هذا أن منه آيات محكمات غير متشابهات ، و آيات متشابهات غير محكمات ،فلابد أن يكون الإحكام و التشابه هنا معنى غير الأول فما هو ؟
أشهر ما روي عن السلف في ذلك قولان :
الأول : أن المحكم ما ينسخ . والمتشابه المنسوخ .
الثاني : أن المحكم ما للناس سبيل إلى معرفة تأويله كآيات الحلال و الحرام . و المتشابه ما لا يعلم تأويله إلا الله كوقت قيام الساعة . وقد عرف من عادة السلف أنهم يفسرون الآية ببعض ما تتناوله وذلك على سبيل التمثيل ، و أنهم كانوا يطلقون النسخ على ما يشمل البيان بالتخصيص ونحوه ، وفيمكن أن يشرح ذلك القولان على ما يأتي:
القول الأول : أن المحكمات هي كل آية بينة بنفسها ، والمتشابهات ما تحتاج إلى أن يبينها غيرها كالمنسوخ و المجمل بنوعيه .(1/214)
القول الثاني : أن المحكمات كل آية يتهيأ للسامع مع معرفة معناها الذي سيقت لبيانه أن يعرف ما تتوق إليه نفسه مما يتعلق بما اشتملت عليه ، و المتشابهات ما عدا ذلك، فالآيات المنذرة بقيام الساعة إنما سيقت لإعلام العباد أن لهم بعد هذه الحياة الفاني حياة خالدة يحاسبون فيها على ما قدموه في الدنيا و يجزون به ، ليستعدوا لها بالإيمان و العمل الصالح والاستكثار منه ، و اجتناب الكفر و الظلم و الفسوق العصيان ، فهذا هو المقصود، و لكن كثيراً من النفوس تخطاه متعطشة إلى معرفة وقت قيام القيامة ، قال الله تعالى : [ يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ] . الأعراف : 187 .(1/215)
(حفي عنها ) : معني بالسؤال عن وقتها حتى علمته ، فرد الله تعالى عليهم بأن رسول ليس مثلهم في الحرص على معرفة ذلك لأنه يعلم أن المهم هو الإستعداد لها فهو مستعد فلا يهمه أن تقوم بعد لحظة أو بعد ألوف القرون ، و في القرآن عدة آيات أخرى في هذا المعنى . و في ( الصحيحين ) عن أنس (( أن رجلاً قال : يار رسول الله متى الساعة؟ قال ويلك وما أعددت لها ؟ قال : ما أعددت لها إلا أني أحب الله و رسوله ، قال أنت مع من أحببت ، قال : أنس فما رأيت المسلمين فرحوا بشئ بعد الإسلام فرحهم بها )) . عدل به النبي صلى الله عليه و آله وسلم إلى المهم ، و نبهه على أن المحبة تقتضي المعينة ، فمن صدق حبه لله و رسوله كان معها في الدنيا بالإيمان و الطاعة و الاتباع فيحبه الله فينيله المعية في الآخرة بالنجاة و الدرجات ، قال تعالى : [ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ] . و تفاوت المعية في الدنيا دليل تفاوت المحبة ، و قضية ذلك تفاوت المعية في الآخرة ، و يزيد الله تعالى من شاء من فضله .
ويدخل في المتشابه على القول الثاني الآيات المتعلقة بذات الله تعالى و صفاته و غيبه كقوله تعالى فيما قصة من خطابه لإبليس : [ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي ] . ص : 75 .
فالآيات سيقت لحض بني آدم على مخالفة الشيطان و تحذيرهم من طاعته أو فعل مثل فعله ، و بيان عداوته لهم ، و بيان إقامة الله عز وجل الحجة عليه ، و بيان أن الله تعالى شرف أباهم بأن خلقته بيديه سبحانه ، و بيان أن له سبحان يدين كما يليق بعظمته، و هذه المعاني ظاهرة لا لبس فيها ، لكن النفس قد تتخطاها إلى الخوض في منه اليدين و كيفيتهما .(1/216)
فعلى كلا القولين تكون تلك الآيات محكمة أي متقنة على ما اقتضته الحكمة ، و في بقاء المنسوخ بعيداً عن ناسخه ، و الإتيان بالمجمل بنوعيه ابتلاء من الله لعباده ، فيكون عليهم مشقة و عناء في استنباط الأحكام لاحتياج ذلك إلى الإحاطة بنصوص الكتاب و السنة و استحضارها ، و في ذكر ما لا سبيل للعباد إلى معرفة كنهه و كيفيته مع ما يتعلق بذلك من المعاني الظاهرة ابتلاء لهم ليمتاز الزائغ عن الراسخ ، و قد تقدمت حكمة الابتلاء في أوائل الرسالة .
ويبقى النظر في وجه تسمية تلك الآيات متشابهات ، و الذي يظهر أنه ليس المراد أنها يشبه بعضها بعضاً ، بل المراد – و الله أعلم – أن كل آية متشابهة ، أي يمكن أت تحمل على معان متشابهة في أن لا يترجح بعضها على بعض رجحاناً بيناً .
وفي حديث ( الصحيحين ) : (( الحلال بين ، و الحرام بين ، و بينهما مشبهات…. )) و في ( فتح الباري ) : (( وفي رواية الأصيلي مشتبهات …. و هي رواية ابن ماجه و هو لفظ ابن عون …. ورواه الدارمي عن أبي نعيم شيخ البخاري بلفظ : (( و بينهما متشابهات )) واشتبهوا و تشابهوا يأتيان بمعنى واحد ، شأن افتعل و تفاعل في كثير من الكلام ،فالأمر الذي بين الحلال و الحرام متشابه الحل و الحرمة في الاحتمال ، يحتمل كلاً منهما كما يحتمل الآخر ، لا يترجح فيه ذا و لا ذاك ، فهكذا و الله أعلم تكون الآية المتشابهة يتشابه فيها معنيان فأكثر ، و انطباق هذا على المجمل الذي ظاهر له واضح ، فأما الذي له ظاهر فإنما يقع حيث تكون هناك قرينة تقاوم ظهوره ، كما أوضحته في رسالتي في ( أحكام الكذب ) ، و بذلك يصير في حكم الأول ، هذا بالنسبة إلى الصحابة .(1/217)
فأما من بعدهم فقد علم المسلمون أن في النصوص ما هو منسوخ نسخة نص آخر بعيد عنه ، و ما هو عام خصصه نص آخر ، و ما هو مطلق قيده نص آخر ، و هكذا ، فمن ل يستقرئ النصوص و يتدبرها فإنه يقف على ما هو في نفس الأمر منسوخ ولم يعلم ذلك يكون محتملاً في حقه أن يكون حكمه باقياً ، وأن يكون منسوخاً, و قس على هذا حال الباقي ، فثبت التشابه .
وأما ما لا سبيل إلى علم تأويله ، و أو قل : كنهه و كيفيته كاليدين في قوله تعالى : [ خَلَقْتُ بِيَدَيّ ] فإنه لا يبقى إلا التخرص و لا حد له فقد يتخرص الانسان
وجهين ، أو أكثر و معلوم أنه لا يتبين واحد من ذلك بياناً واضحاً ، فثبت التشابه .
وكلا القولين يمكن تطبيقه على السياق .
وأما القول الأول ؛ فأهل الزيغ يتبعون المنسوخ و المجمل ، فتارة يعيبون القرآن بالتناقض – زعموا – وبعدم البيان . و تارة يتشبثون بذلك لتقوية أهوائهم كما فعل النصارى ، إذ تشبثوا بما في القرآن من إطلاق الكلمة و الروح على عيسى ، و كما فعل المشركون عندما سمعوا قوله تعالى : [ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّم ] و تارة يبتغون تأويله مع عدم تأهلهم لذلك و عدم رجوعهم إلى الراسخين ، كما فعل الخوارج في قوله تعالى : [ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ] و قوله : [ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَان ] ، و نحو ذلك .(1/218)
وأما القول الثاني : فأهل الزيغ يتبعون تلك النصوص ، تارة ابتغاء الفتنة ، بأن يعيبوا القرآن و الإسلام بزعم أنه جاء بالباطل فيزعمون أن لفظ [ بِيَدَيّ ] معناه أن لله سبحانه يدين مماثلتين ليدي الإنسان يجوز عليهما ما يجوز على يدي الإنسان ثم يقولون : و هذا باطل ، ثم يوجه كل منهم ذلك إلى هواه ، فنمهم من يستدل بذلك على أن القرآن ليس من عند الله ، و أن محمداً ليس بنبي ، ومنهم من يستدل بذلك على أن القرآن جاء بالبطل مجاراة لعقول الجمهور ، إلى غير ذلك . و تارة ابتغاء تأويله ، فمنهم من ذهب يتخرص تخرص هشام بن الحكم و أصحابه و غيرهم من المشبهة الضالة ، و منهم من يحرف تلك النصوص بحملها على معاني بعيدة ، كعقول بعضهم أن اليدين هما القدرة و الإرادة و غير ذلك .
وقوله تعالى : [ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا به ] ، و ينطبق على كل من القولين ، إلا أنه القول الأول يكون قوله : [ وَالرَّاسِخُونَ ] عطفاً ، و المعنى أن الراسخين يعلمون تأويله أيضاً ، و على القول الثاني يكون قوله : [ وَالرَّاسِخُونَ ] استئنافاً ، فهم لا يعلمون تأويله ، و إنما امتازوا بأنهم لا يتبعونه اتباع الزائغين ، بل يقولون : [ آمَنَّا به ] الآية .
ويدل على تصحيح كلا القولين أن من الناس من و قف على قوله : [ إلا الله ]، ومنهم من لم يقف ، و أنه صح عن ابن عباس أنه ذكر الآية ثم قال : (( أنا ممن يعلم تأويله)) . وصح عنه أنه قرأ : (( و يقول الراسخون )) .
والتأويل على القول الأول بمعنى التفسير ، و على الثاني بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها اللفظ ، ففي قوله تعالى : [ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي ] تأويل اليدين حقيقتهما و كنههما على ماهما عليه .(1/219)
واعلم أن التأويل يكون للفعل ، كخرق صاحب موسى (1) سفينة المساكين ، و قتله الغلام و إقامته الجدار ، و يكون للرؤيا ، و يكون للكلام . فتأويل الفعل إما مآله أي ما يؤول إليه ، و هو المقصود من فعله كسلامة السفينة من غضب الملك ، و سلامة أبوي الغلام من إرهاقه ، و سلامة كنز اليتيمين ، و إما بيان أن الفعل يؤول إلى المآل . قال الله تعالى فيما قصة عن صاحب موسى : [ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ] ثم أخبره بأن القصد من تلك الأفعال أن تؤول ذاك المآل ، ثم قال : [ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ] وقال تعالى : [ ذَلِكَ (2) خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ] النساء - 59 ، الإسراء– 35 .
وتأويل الرؤيا إما مآلها و هو الواقع في نفس الأمر الذي هي تمثيل له كسجود إخوة يوسف وأبويه له ، فقال يوسف قصة الله تعالى عنه [ عندما سجد له أبواه و إخوته] (3)
__________
(1) صاحب موسى هم الخضر كما صرح به حديث ابن عباس في ( الصحيحين ) و غيرهما و قصتهما في سورة الكهف ، و ذكر البخاري حديث الخضر و موسى في عدة مواضع من ( صحيحه ) كالعلم والإيمان و التفسير و أحاديث الأنبياء و غيرها ، و لا أدري لماذا أبهم المؤلف اسم صاحب ( موسى ) مع التصريح باسمه في الأحاديث الصجيجة ، و أن اسمه خضر أو الخضر بذكر الألف و اللام و حذفها . م ع
(2) أي الفعل المأمور به ، أنظر الآيتين .
(3) زيادة من الشيخ محمد عبد الرزاق . ن(1/220)
هذا تأويل رؤياي ، و إما بيان ما تؤول إليه ، و ذلك تعبيرها . و منه ما قصه الله تعالى من قول يعقوب ليوسف [ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيث ] ، ثم قول يوسف [ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ] . و يحتمل المعنيين ما قصه الله تعالى من قول صحأبي السجن ليوسف [ نبأنا بتأويله ] و قوله لهما : [ إلا نبأتكما بتأويله ] ، و قول الناجي منها للملك و من معه [ أنا أنبئكم بتأويله ] بعد قو أصحاب الملك [ و ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ] .
و تأويل الكلام إما مآله الخارجي و هو الواقع في نفس الأمر إذا كان الكلام خبراً، و الفعل المأمور به إذا كان أمراً ، و قص على ذلك قص الله عز و جل في سورة ( الأعراف ) حال القيامة و الجنة و النار ، ثم قال : [)وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ . هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ] الأعراف – 52 – 53 .
وقال تعالى : [ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ] إلى أن قال : [ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه ] يونس – 37 – 39
و في ( صحيح مسلم ) من حديث عائشة : (( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكثر أن يقول فيركوعه و سجوده : سبحان الله و بحمده اللهم أغفر لي ، يتأول القرآن )) .(1/221)
تريد و الله أعلم : يأتي بتأويل قوله تعالى : [ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ] و إما مآله المعنوي كأن يقال : تأويل رأيت أسداً يرمي ، رأيت رجلاً شجاعاً .وإما بيان أحدهما ، و هذا هو المسمى بالتفسير ، و يحتمل هذا الذي قبله قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم في ابن عباس : (( اللهم فقه في الدين و علمه التأويل )) . (1) فعلى الأول يكون المعنى : علمه المعاني التي تؤول إليها النصوص ، و على الثاني يكون المعنى : عامة أن يؤول النصوص أي يبين معانيها التي تؤول إليها .
إذا تقرر هذا فعلى القول الأول في المتشابه يكون المراد بتأويله معانيه ، و على القول الثاني يكون المراد ما يؤول إليه من الحقائق ، فكما أن تأويل الأخبار بالبعث هو البعث نفسه ، فكذلك تأويل الأخبار بأن لله يدين هو اليدين ، و العلم الذي ينفرد الله تعالى به في شأن اليدين هو العلم بالكنه و الكيفية ، فأما العلم الإجمالي الذي يتوقف عليه الإيمان بأن لله تعالى يدين على الحقيقة ، فهذا يحصل للمؤمنين ، و به يكونون مصدقين لخبر الله عز و جل ، و بذلك يخلصون من تكذيبه و يمتازون عن الزائغين المتبعين له ابتغاء الفتنة ، وبقناعتهم به يمتازون عن الزائغين المتبعين له ابتغاء تأويله .
فإن قيل : فإن للمتعمقين أن يقولوا : الصواب عندنا من القولين المذكورين في المتشابه القول الأول ، النصوص التي تتعلق بالمعقولات كلها من المجمل الذي له ظاهر ، و لا يمكن الوثوق بأن ذلك الظاهر هو المراد ، إلا أن يقوم الدليل العقلي على وجوب ذاك الظاهر أو جوازه ، ثم نقول : إن كل نص من تلك النصوص يحتاج إلى بيانين :
الأول : بيان صحة ذاك الظاهر أو بطلانه .
__________
(1) أخرجه أحمد باسناد صحيح ، و هو في (( الصحيحين )) دون قوله : (( و علمه التأويل )) . ن(1/222)
الثاني : بيان المعنى المراد ، فأما البيان الأول فيحصل بالعقل ، و يحصل بقوله تعالى : [ ليس كمثله شيء ] و قوله : [ قل هو الله أحد ] السورة ،فقد بين العقل ، و هاتان الآيتان و غيرهما بطلان ظواهر تلك النصوص التي نتأولها ، فوجب أن يكون المراد بها معان أخرى صحيحة . فأما الزائغون فاتبعوا تلك الظواهر ، هم فريقان :
الأول : الملحدون القانون : هذه الأمور باطلة قطعاً ، فالشرع الذي جاء بها باطل .
الفريق الثاني : الذين يجهلون أو يتجاهلون بطلانها فيدينون بإثباتها ، و السلف و أئمتنا أبرياء من الفريقين ، غير أن السلف كانوا مع العلم ببطلان تلك الظواهر يمتنعون من الخوض في البيان الثاني ، و أئمتنا اصطدموا بالزائغين الزاعمين أن تلك الظواهر هي المعاني المرادة من تلك النصوص و يبالغون فيدعون أن تلك النصوص صريحة في تلك المعاني لا تحتمل التأويل ، فاحتاج أئمتنا إلى بيان الاحتمال ، فمن لم يجزم منهم بمعنى معين فلم يأتي بما ينكر عليه ، و من جزم بذلك فقد ينكر عليه من يذهب إلى أن الراسخين لا يعلمون ذلك ، أي أنهم و لو علموا بطلان الظاهر ، و أن المراد غيره ، فلا يعلمون التأويل وهو المعنى المراد لاحتمال النص عدة معان ، لكن قد يقال : إذا كان المعنى الذي جزم به ذلك الجازم صحيحاً في نفسه فالخطب تسهل ، و ذلك كالقائل : إن المراد باليدين في قوله تعالى : [ لما خلقت بيدي ] القدرة و الإرادة ، فإن هذا معنى صحيح في نفسه ، للعلم بأن الله تعالى قدرة و إرادة ، و أن لها تعلقاً بخلق آدم ، فإن فرض أن المراد باليدين في الآية معنى آخر فليس في الجزم المذكور كبير حرج .(1/223)
فالجواب عن هذا كله يعلم مما تقدم في هذه الرسالة و ألخصه هنا بعون
الله عز وجل :قولكم : (( فلا يمكن الوثوق بأن ذلك الظاهر هو المراد إلا أن يقوم الدليل العقلي على وجوب ذاك الظاهر أو جوازه )) . قول باطل مردود عليكم ، بل الحق أنه أن دل العقل الصريح – الذي يصح أن يكون قرينة بأن يكون من شأنه أن لا يخفى على المخاطب إذا تدبر – على امتناع ذاك الظاهر لم يبقى ظاهراً ضرورة أن القرينة ركن من الكلام ، و إلا كان النص برهاناً على الوقوع فضلاً عن الجواز ، ضرورة أنه إن لم يكن كذلك كان كاذباً ، و قد قامت البراهين على استحالة أن يقع الكذب من الله تعالى و لا من رسوله .
فإن قيل : لا يلزم من فرض البطلان التكذيب ، لجواز تأخير بيان المجمل الذي له ظاهر .
ومن أجاز التأخير فمحله في مجمل لا ظاهر له ، أو له ظاهر بحسب اللفظ لكن تكون هناك قرينة صحيحة كدافع ذاك الظهور ، فيبقى النص في حكم المجمل ، الذي لا ظاهر له ، على هذا إذا كان للنص ظاهر و لا قرينة تدافعه وجب الجزم بأن ذاك الظاهر هو المراد .
وهناك نصوص في الأحكام يمثلون بها لما أدعوه من جواز أن يكون للنص ظاهر غير مراد ويتأخر بيانه ، و نحن نجيب عنها إجمالاً فنقول :
ما ثبت فيه الظهور وثبت أنه لم تكن قرينة صحيحة تدافعه و ثبت أنه ورد بعده ما يخالفه فإننا نصحح ذلك الظاهر و نقول : إنه هو المراد ، و إن ما ورد بعده مخالفاً فهو ناسخ له ، فإن ثبت إن المتأخر ورد قبل العمل بالمتقدم اخترنا جواز النسخ قبل العمل ، و يكون المقصود من الحكم السابق إنما هو ابتلاء المكلفين ليتبين من يتقبل الحكم بالرضا و العزم على العمل به و الاستعداد له .(1/224)
و على ذلك فهذا إنما يتأتى في النصوص المتعلقة بالأحكام ، دون النصوص المتعلقة بالعقائد و الفرق بين النصوص التي قيل إنها كانت من المجمل الذي ظاهر غير مراد، و هي متعلقة بالأحكام و بين النصوص المتعلقة بالعقائد التي ينفرد المتعمقون بإنكار ظواهرها من وجوه :
الأول : أن الأولى يعقل فيها تأخر الحاجة كآية تنزل في شوال ، و تتعلق بحكمٍ لصيام رمضان .
فأما الثانية : فالحكم المقصود منها يتعلق بالاعتقاد ، و هو يحصل عقب السماع فوقت الحاجة فيها هو وقت الخطاب .
الوجه الثاني : أن الأولى يعقل قيام قرينة تدافع الظهور .
وأما الثانية فبعيد عن ذلك لأن كثيراً منها أو أكثرها كانت موافقة لعقول المخاطبين ، فدلالة العقل تدفع ما قد يحتمل من قرينة و تصير النص صريحاً في ظاهره .(1/225)
الوجه الثالث : أن الأولى لا تخلو فائدة فقد ذهب حمع من أهل العلم إلى أن من احتاج إلى عمل و وجد نصاً يتعلق به إلا أنه يحتمل أن يكون له ناسخ أو مخصص أو مقيد، و لم يمكنه البحث حالاً كان عليه العمل بذلك النص ثم يبحث ، و يشهد لهذا أن استقبال بين بيت المقدس نزل نسخه و أناس من المسلمين غائبون عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم ، فبقي الحكم في حقهم استقبال بيت المقدس حتى بلغهم النسخ ، و كذلك تحريم الخمر نزل و أناس من المسلمين غائبون ، فبقي الحكم في حقهم حلها حتى بلغهم التحريم ، هذا مع أن من أولئك الغائبين من غاب بعد أن علم أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم يتوقع القبلة و تحريم الخمر ، و على هذا فإذا جاز أن تنزل في شوال آية تتعلق بحكم رمضان و تكون مجملة لها ظاهر غير مراد و تكون هناك قرينة تدافع ذاك الظهور فسمعها بعض المسلمين ثم غاب ، وطالت غيبته حتى دخل رمضان كان عليه العمل بتلك الآية ، وإن كان محتملاً عنده نزل بع غيبة ما يبين أنها على خلاف الظاهر ، فهذا و نحوه إنما يعقل في الأحكام التي يعقل فيها الاختلاف ، فيكون الحكم حقاً في وقت أو حال ، و باطلاً في غيره ، فأما الاعتقادات فإنما تكون على حال واحدة .
الوجه الرابع : أن الظهور في الأولى ضعيف و احتمال خلافه قوي ، و ذلك كالعموم ، و قد قيل : ما من عام خص ، و كالإطلاق و هو قريب من ذلك ، و الثانية كثير منها أو أكثرها صريحة في المعاني التي ينكرها المتعمقون ، و ما كان كذلك فلا مجال لتجويز أن يكون ذلك المعنى غير مراد ، لأن ذلك يكون تكذيباً له .
الوجه الخامس : أن الأولى قليلة حتى أنكر جمع كثير من أهل العلم وقوع تأخير البيان بل أنكروا جوازه ، و الثانية كثير جداً .
الوجه السادس : أن الأولى توجد النصوص المبينة لها صريحة واضحة في البيان ، و الثانية لا يوجد نص واحد بين في خلافها . و قد مر النظر في قوله تعالى : [ ليس كمثله شئ ] وما معها .
الوجه السابع : أن الأولى لا يكاد ينقل من أقوال الصحابة و التابعين ما يتعلق بها إلا مع بيانها . و الثانية لا يصح عن أحدهم منهم قول يخالف معانيها التي ينكرها المتعمقون ، بل جاء عنهم مما يوافقها و يقرر معانيها و ما يشبهها الكثير الطيب . و زعمكم أن السلف كانوا يعتقدون بطلان تلك المعاني ، من العجب العجاب . و دونكم الحقيقة .(1/226)
الباب الرابع:في عقيد السلف و عدة مسائل
من تدبر القرآن و تصفح السنة و التأريخ علم يقيناً أنه لم يكن بين يدي السلف مأخذ يأخذون منه عقائدهم غير المأخذين السلفيين ،و أنهم كانوا بغاية الثقة بهما و الرغبة عما عداهما ، و إلى ذلك دعاهم الشرع حتى لا تكاد تخلوا آية من آيات القرآن من الحض على ذلك . و هذا يقضي قضاء باتاً بأن عقائدهم هي العقائد التي يثمرها المأخذان السلفيان ، يقطعون بما يفيدان فيه عندهم القطع ، و يظنون ما لا يفيد أن فيه إلا الظن ، و يقفون عما عدا ذلك ، و هذا هو الذي تبينه الأخبار المنقولة عنهم كما تراها في التفاسير السلفية و كتب السنة ، و هو الذي نقله أصاغر الصحابة عن اكبارهم ، ثم نقله أعلم التابعين بالصحابة و أخصهم بهم و اتبعهم لهم عنهم ، ثم نقله صغار التابعين عن كبارهم ، و هكذا نقله عن التابعين أعلم أتباعهم بهم ، و أتبعهم لهم ، و هلم جرا .(1/227)
وهذا قول السلفيين في عقيدة السلف ، و يوافقهم عليه أكابر النظار ، صرح بذلك من لم ينصب نفسه منصب المدافع عن الدين و المحامي عن عقائد المسلمين كابن سينا وابن رشد و أشار إليه من نصب نفسه ذاك المنصب كما يأتي في مسألة الجهة . و أما من دون هؤلاء فمضطربون فمنهم من يقف ، و منهم من يزعم أن السلف كانوا واقفين في غالب العقائد التي اختلف فيها من بعدهم يطلقون بألسنتهم ما يوافق ظاهر النصوص غير جازمين بأنه على ظاهره أو على غير ظاهره ، و منهم من ينتحل السلف ، فمن أتباع الأشعرية من يقول كانت عقيدة السلف هي عقيدة الأشعرية نفسها ! فكانوا يرون بطلان ظواهر النصوص التي يقول الأشعرية ببطلانها ! إلا أنهم لم يكونوا يخوضون في بيان معانيها الأخرى ، فكانوا يعتقدون أن الله عز و جل غير مباين للعالم و لا محايث له و لا ولا ، و مع ذلك أنهم يطلقون أنه تعالى على عرشه فوق سماواته ، معتقدين بطلان ظاهر هذا ساكتين عن معناه الذي يرونه صحيحاً ! و هذا القول الأخير شهره المتعمقون حتى لا يكاد يخلوا عنه كتاب من كتب الخلف في أي فن كان .
و يمكن أن يتشبثوا في الانتصار له بأن يقول : لا نزاع أن السلف كانوا أفضل الأمة و خيرها و أعلمها بالدين و أثبتها على الحق ، و كان أسلافنا من المتعمقين علماء خياراً صالحين ، يعرفون فضل السلف ، فلم يكونوا ليخالفوهم .(1/228)
فيقال لهؤلاء إن أسلافكم ذهبوا إلى أنه لا يحتج بالعقائد بالكتاب و لا السنة و لا أقول السلف ، بل كان المتبعون منهم من أجل خلق الله بالسنة ، و أقول السلف ، و إنما استقروا عقائدهم من النظر العقلي المتعمق فيه ، ثم اعتراض بعض نصوص القرآن التي تخالف راية و رأي أشياخه من المتعمقين ، فحاول صرفها عن معانيها ، مع أنه في مواضع آخر يقرر أن مثل ذلك الصرف لا يسوغ و أن الخبر إذا كان صريحاً في معنى أو ظاهراً فيه و لا قرينة صحيحة تصرف عنه ، فزعم أن ذاك المعنى غير واقع تكذيب للخبر و إن زعم أن المخبر تأول في نفسه معنى آخر كما تقدم إيضاحه غير مرة ، و هكذا تصدى بعضهم لنصوص السنة التي تخالف راية و رأي أشياخه فرد بعضها زاعماً أنها مخالفة للعقل ، و حاول صرف بعضها عن تلك المعاني كما صنعوا في نصوص القرآن ، و لعلهم بظهور سخافتهم فيما يرتكبونه يحاولون ترويجه بأمرين :
الأول : زعمهم أن الملجئ لهم إلى ذلك احتياجهم إلى الدفاع عن الدين ، لئلا يلزم من مجيئه بتلك النصوص بطلانه !
الثاني : عيب أئمة المؤمنين الذين يصدقون الله و رسوله ، و السخرية منهم بأنهم لا يعقلون و لا يفهمون ، و يسمونهم (( الحشوية )) و غير ذلك من الأسماء المنفردة – كما صنع أبن الجويني المدعي إمام الحرمين في رده على كتاب (( الإبانة )) للحافظ أبي نصر السجزي ، و ذلك قبل أن يرجع ابن الجويني و يتمنى الموت على دين عجائز نيسابور ، و كما صنع ابن فورك في كتابه ( مشكل الحديث ) ، و أني و الله ما آسى على ابن فورك و إنما آسى على مسحوره البيهقي الذي امتلأ من تهويلات ابن فورك و غيره رعباً فاستسلم لهم و انقاد ورائهم . (1)
__________
(1) يعني أن البيهقي سحر بتأويلات فورك و انبهر بها فأخذته عن السير في طريق الصحابة و كبار التابعين و تابعيهم إلى السير وراء ابن فورك كما تجد كثيراً من ذلك في كتابه (( الأسماء و الصفات )) . م ع .(1/229)
و كان عبد الرزاق ابن همام الصنعاتي قد أخذ عن جعفر بن سليمان الضبعي طرفاً من التشيع ، فشنعوا عليه بذلك حتى قال محمد بن أبي بكر المقدمي ، فقدت عبد الرزاق ، ما أفسد جعفر بن سليما غيره ، و ليت شعري لو كان ابن فورك و البيهقي أدركا المقدمي ما عسى كان يقول فيها . فأما ما يعترضهم من كلام السلف ، فإنهم يصرحون بقلة حياء بأن تلك الأقوال تجسيم كما صنعوا فيما صح عن كبار أئمة التابعين من تفسير الصمد بأنه الذي لا جوف له و قد مر ذلك في الباب الثالث . فإذا كان أشياخهم يردون القرآن و السنة و يجهلون أئمة السلف فكيف تظنون بهم أنهم لا يخالفون السلف ؟
( فإن قيل ) حاصل هذا أنهم كانوا يعتمدون النظر العقلي ، و على هذا فما أثبته العقل فهو حق لا ريب فيه ، و إذا كان حقاً فلن يكون الكتاب و السنة مخالفين له ، و لن تكون عقيدة السلف إلا موافقة له ، لأنهم خير الأمة و أفضلها و أعلمها بالحق و أولاها به .
قلت : قد مر في الباب الأول كلمة (( العقل )) وقع فيها التدليس ، فهناك العقل الفطري الصريح الذي لا التباس فيه ، و هو الذي أعده الله تعالى ليبنى عليه الشرع و التكليف و هو الذي كان حاصلاً للأمم التي بعث الله تعالى فيها رسله و أنزل فيها كتبه ، وهو الذي كان حاصلاً للصحابة و من لعدهم من السلف ، فهذا هو الذي يسوغ أن يقال : إن ما أثبته قطعاً فهو حق ، و دون ذلك نظر متعمق فيه ، مبني على تدقيق و تخرص و مقاييس يلتبس فيها الأمر في الآلهيات و يشتبه و يكثر الخطأ و اللغط ، و يطول النزاع و المناقضة و المعارضة على ما أوضحناه في الباب الأول . فهذا هو الذي اعتمده أشياخكم مع اعترافهم بوهنه ، و لذلك رجع بعض أكابرهم عنه كما سلف .
فإن قالوا : و كيف يجوز أن يعتمد أولئك الأجلة على ما يسوغ الاعتماد عليه .(1/230)
قلت : لم يكونوا معصومين ، و قد اختلفوا ، و خالفهم من هو مثلهم و أعرف منهم بالنظر و بحسبكم أن أكابرهم رجعوا في أواخر أعمارهم كما مر .
هذا و ما منا إلا من يعتز بآبائه و أشياخه ، و يعز عليه أن يتبين أنهم كانوا على باطل ، و لكن أقل ما يجب علينا أن نعلم أن آباءنا و أشياخنا لم يكونوا معصومين ، وهب أنه يبعد عندنا جداً أن يكونوا تعمدوا الباطل ، فما الذي يبعد أن يكونوا غلطوا و أخطأوا ؟ و على كل حال فليسوا إلا أفراداً من المسلمين و قد اختلف المسلمون ، في الفرق الأخرى أئمة و أكابر إن لم يكونوا أفضل من آبائنا و أشياخنا فلم يكونوا دونهم ، و إذا راجعت نفسك علمت أنك لست بأحق من مخالفك بالقناعة بما مضى عليه الآباء الأشياخ ، و أنه كما يحتمل أن يكون آباؤه و أشياخه هم المبطلين عمداً أو خطأ فمن المحتمل أن يكونوا هم المحقين ، بل الحق أنه لك و لا له في التضحية بالنفس و الدين في سبيل التعصب الفارغ الذي يعود بالخسران المبين ، و بالضرر على الآباء و الأشياخ أنفسهم ، كما مر في أوائل الرسالة . فدع الآباء و الأشياخ ، والتمس الحق من معدنه ، ثم إن شئت فاعرض عليه مقالة آبائك و أشياخك فما وافقه حمدت الله تعالى على ذلك ، و ما خالفه التمست لهم العذر ، برجاء أن يكونوا لم يعتمدوا الباطل ، و لم يقصروا تقصيراً لا يسعه عفو الله تبارك و تعالى ، بل قد ثبت رجوع بعض أكابرهم كما مر (1) في الباب الأول ، و لعل غيرهم قد رجع و إن لم ينقل . فإذا سلكت هذه الطريق فقد هديت، و إن أبيت إلا التعصب لآبائك و أشياخك ، و الجمود على اتباعهم ، فقد قامت عليك الحجة . و الله المستعان .
( الأينية ، أو القومية ، أو كما يقولون : الجهة )
__________
(1) في وصية الرازي و إمام الحرمين عند موته . م ع .(1/231)
اطلقت انا : الأينية لما ثبت عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم من قوله للسوداء: أين الله ؟ قالت : في السماء ، و في آخر الحديث قوله صلى الله عليه و آله و سلم لسيدها : اعتقها فإنها مؤمنة .
و في حديث أبي رزين العقيلي قال : (( قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه ؟ قال : كان في عماء ، ما تحته هواء و ما فوقه هواء ، و خلق عرشه على الماء)) (1)
في الأثر عن عثمان أنه قال لرجل ظنه أعرأبياً : (( يا أعرأبي أين ربك ؟ ))
وأرى أن أسوق هنا عبارة الشيخ أبي الحسن الأشعري في كتابه ( الإبانة ) (2)
__________
(1) و حديث الجارية السوداء في الموطأ و صحيح مسل و غيرهما و حديث أبي رزين في (( جامع الترمذي )) و انظر أثر عثمان في كتب الآثار ، و لعل المؤلف يشير فيما بعد إلى من أخرجه . م ع
قلت : حديث أبي رزين مع شهرته و تحمس بعض السلفيين له لا يصح من قبل إسناده ، فيه وكيع بن حدس، قال الذهبي : (( لا يعرف )) ، و فيما صح في الباب ما يغني عنه . ن
(2) كتاب مشهور للأشعري طبع مراراً في الهند و مصر ، و قد ذكره جماعة من القدماء و نقلوا عنه – منهم الحافظان الشافعيان أبو بكر البيهقي و أبو القاسم بن عساكر و جماعة آخرون كما في رسالة ابن درباس المطبوعة مع الإبانة . المؤلف
قلت : ز كما في (( تبين كذب المفتري )) لابن عساكر فقد اعترف فيه بالإبانة للأشعري و نقل منها و دافع عن الأشعري بما نقله منها . م ع(1/232)
تأنيساً للمنتسبين إليه و غيرهم لأنه أشهر المتبوعين في المقالات التعمقية ، و في ( روح المعاني ) و غيره أن كتاب ( الإبانة ) آخر مصنفاته – قال :(( باب ذكر الإستواء على العرش : إن قال قائل ما تقولون في الاستواء ؟ قيل له نقول : إن الله عز و جل مستوٍ على عرشه كما قال : [ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ] ، و قد قال الله عز و جل : [ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ] ، و قال : [ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْه ] ، وقال عز و جل : [ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْه ] ، و قال حكاية عن فرعون : [ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ . أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً ] كذب موسى عليه السلام في قوله إن الله عز و جل فوق السموات ، و قال عز و جل : [ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْض ] ، فالسموات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السموات قال : [ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ] ، لأنه مستو على العرش الذي فوق السموات و كل ما علا فهو سماء ، فالعرش أعلى السموات …. و رأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله عز وجل مستو على العرش الذي هو فوق السموات …. ( سؤال ) و قد قال قائلون من المعتزلة و الجهمية أن قول الله عز و جل : [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ] أنه استولى و ملك و قهر ، و أن الله عز و جل في كل مكان ، و جحدوا أن يكون الله عز و جل على عرشه كما قال أهل الحق ، و ذهبوا في الاستواء إلى القدرة . و لو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش و الأرض …. وزعمت المعتزلة والحرورية (1)
__________
(1) الحرورية هم الخوارج نسبة إلى حروراء بلد على دجلة و الفرات لجأور و تحصنوا به بعد ما خرجوا على علي ابن أبي طالب فخرج إليهم فيها و قاتلهم حتى شتت شملهم ، و قد ثبت منهم الأباصية و الأزارقة و غيرهم و وكرهم بجزيرة العرب مسقط و عمان- - و لحج و لهم فروع بجنوب افريفيا زنجبار ، و بشمالها بالجزائر ولهم مؤلفات في الحديث و الفقه كمسند الربيع بن حبيب ، و شرحه بعض متأخريهم باسم (( الجامع )) ، كلاهما مطبوع بمصر . م ع .(1/233)
والجهمية أن الله عز و جل في كل مكان ، فلزمهم أن الله في بطن مريم ، وفي الحشوش والأخلية ، و هذا خلاف الدين ، تعالى الله عن قولهم ...)) .
ثم ساق الكلام و ذكر حديث (( ينزل الله عز و جل كل ليلة إلى السماء الدنيا…. )) من طرق ، ثم قال :
(( دليل آخر و قال الله عز و جل : [ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ] ، و قال [ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْه ] ، و قال : [ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ] ، و قال : [ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً ] ، و قال : [ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ ] فكل ذلك يدل على أنه تعالى في السماء مستو على عرشه...
( دليل آخر ) : و قال عز و جل : [ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ] ، و قال : [ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ] ، و قال : [)ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى . فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى . مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى . أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ] إلى قوله : [ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ] ، و قال عز و جل لعيسى بن مريم عليه السلام : [ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ ] ، و قال : [) وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً . بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ] . و أجمعت الأمة على أن الله عز و جل رفع عيسى إلى السماء ، و من دعاء أهل الإسلام جميعاً إذا هم رغبوا إلى الله عز و جل في الأمر النازل بهم يقولون جميعاً: يا ساكن العرش ، و من حلفهم جميعاً : لا و الذي احتج بسبع سماوات ….(1/234)
دليل آخر : و قال عز و جل : [ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ] ، و قال [ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِم ] ، و قال [ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ] ، و قال عز و جل : [ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّا ] …. فلم يثبتوا (1) له في و صفهم حقيقة ، و لا أوجب له الذي يثبتون له بذكرهم إياه و حدانية ، إذ كل كلامهم يؤول إلى التعطيل ، وجميع أوصافهم تدل على النفي أ التعطيل ، ….. وروت العلماء عن عبد الله بن عباس أنه قال : (( تفكروا في خلق الله عز و جل و لا تفكروا في الله عز و جل ، فإن بين كرسيه إلى السماء ألف عام ، و الله عز و جل فوق ذلك )) .
دليل آخر : و روت العلماء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمة سوداء فقال يا رسول الله إني أري أن اعتقها في كفارة فهل يجوز عتقها ؟ فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - أين الله ؟ قالت : في السماء ، قال : فمن أنا ؟ قالت : أنت رسول الله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : اعتقها فإنها مؤمنة . و هذا يدل أن اللع عز و جل على عرشه فوق السماء . )) (2)
يعلم من عبارة الأشعري و غيرها أن الأمة كانت مجمعة على إثبات الأينية (3)
__________
(1) يعني الجهمية و من معهم . المؤلف
(2) أهل كلام الأشعري رحمه الله تعالى . م ع .
(3) يعني أن الأمة الإسلامية جميعاً من سلفيين صحابة و تابعيهم و جهمية مخالفين لهم ، جميعاً يؤمنون بجواب أين الله تعالى ؟ فالسلفيون يؤمنون أن الله في السماء فوق العرش ، و الجهمية و المعتزلة يؤمنون أنه في كل مكان ، فرد عليهم الأشعري بالنصوص السلفية إثباتاً لعلوا الله على عرشه . م ع .(1/235)
غير أن السلف يثبتون الفوقية ، و الجهمية تقول بالمعية ، أي أنه تعالى في كل مكان ، و ثبت السلفيون على قول السلف على الحقيقة ، ووافقهم على ذلك في الجملة فرق قد انقرضت، و صار المتعمقون إلى فرقتين ، الأولى : تدعي موافقة السلف ، و الأخرى : تنمى إلى الجهمية ، و اتفقت الفرقتان على نفي الأينية ، لكن الأولى تطلق ما يظهر منه الفوقية ، و تتأول ذلك بالفوقية المعنوية ، و الثانية : تطلق أنه تعالى في كل مكان ، و تتأول ذلك بالعلم و القدرة ، و عرضهما التمويه و التمهيد لتأويل النصوص و أقوال من سبق .
و على كل حال فعبارة الأشعري التي سقناها صريحة واضحة في أنه يثبت الفوقية الذاتية على الحقيقة ، و المنتسبون إليه يواربون محتجين بأنه ينفي الجسمية .
فيقال لهم : إن كان صريح بنفي الجسمية فيحتمل حاله أوجهاً :
الأول : أن يكون رجع عن ذلك و قد تقدم أن ( الإبانة ) آخر مصنفاته .
الثاني : أن يكون إنما ينفي الجسمية المستلزمة للمحذور – على حد قول جماعة : (( جسم لا كالأجسام )) .
الثالث : أن يكون يخص اسم الجسم بما يستلزم المحذور ، و يرى أن ما ثبت لله عز و جل بما ذكره في عبارته السابقة من الفوقية و النزول كل ليلة إلى السماء الدنيا ، و المجيء يوم القيامة ، و غير ذلك لا يقتضي أ يسمى جسماً ، و أن كان يستلزم ما يسميه غيره جسمية . و أيا ما كان فلندع الأشعري و ننظر في أصل القضية .
أحتج مثبتو الأينية مع النصوص الشرعية و إجماع السلف بأنه لا يعقل الموجود بدونها ، و هذا من أجلى البديهيات و أوضح الضروريات .
أجاب المتعمقون بأن هذه بديهية وهمية ، قال الغزالي في ( المستصفي )(1/236)
ج 1 ص 46 : (( السادس الوهميات ، و ذلك مثل قضاء الوهم بأن كل موجود ينبغي أن يكون مشاراً إلى جهته ، فإن موجوداً لا متصلاً بالعالم ، و لا منفصلاً عنه ، و لا داخلاً ، و لا خارجاً محال ، و إن إثبات شيء مع القطع بأن الجهات الست خالية عنه محال … و من هذا القبيل نفرة الطبع عن قول القائل ، ليس وراء العالم خلاء و لا ملأ . و هاتان قضيتان وهميتان كاذبتان :
والأولى منهما : ربما وقع لك الإنس بتكذيبها لكثرة ممارستك للأدلة العقلية الموجبة إثبات وجود ليس في جهة …. و هذه القضايا مع أنها وهمية فهي في الأنفس لا تتميز عن الأوليات القطعية …. بل يشهد به أول الفطرة كما يشهد بالأوليات العقلية )).
قال المثبوت : أما أن القضية بديهية فطرية فحق لا ريب فيه . و أما زعم أنها وهمية فباطل ، فإن القضايا الوهمية من شأنها أن ينكشف حالها بالنظر انكشافاً واضحاً ، و من شأن الشرع إذا كانت ماسة بالدين كهذه أن يكشف عنها . و كلا هذين منتف ، أما الشرع فإنما جاء بتقرير هذه القضية و تثبيتها و تأكيدها بنصوص صريحة تفوق الحصر، بل أصل بناء الشرائع على نزول الملك من عند الله عز و جل بالوحي على أنبيائه .
وأما النظر فقد اعترف الغزالي بأن أقصى ما يمكن من مخالفته لهذه القضية أنه ربما حصل الإنس بتكذيبها لمن كثرت ممارسته للأدلة العقلية … ، ففي هذا أن تلك الأدلة كلها فضلاً عن بعضها لا تثمر اليقين ، و لا ما يقرب منه ، و لا ما يشبهه ، و إنما غايتها أنه ربما حصل الإنس لمن كثرت ممارسته لها .(1/237)
وقد شرح الغزالي نفسه في ( المستصفى ) ج 1 ص 43 يقين النفس بقوله : (( أن تتيقن وتقطع به ، وينضاف إليه قطع ثان ، و هو أن تقطع بأن قطعها به صحيح ، و تتيقن بأن يقينها فيه لا يمكن أن يكون به سهو ولا غلط ولا التباس ، فلا يجوز الغلط في يقينها الأول ، ولا في يقينها الثاني ، و يكون صحة يقينها الثاني كصحة يقينها الأول ، بل تكون مطمئنة آمنة من الخطأ ، بل حيث لو حكى لها عن نبي من الأنبياء أنه أقام معجزة و ادعى ما يناقضها ، فلا تتوقف في تكذيب الناقل ، بل تقطع بأنه كاذب ، أو تقطع بأن القائل ليس بني ، و أن ما ظن بأنه معجزة فهي مخرقة ، فلا يؤثر هذا في تشكيكها ، بل تضحك من قائله و ناقله ، و إن خطر ببالها إمكان أن يكون الله قد أطلع نبياً على سرٍ به انكشف له نقيض اعتقادها فليس اعتقادها يقيناً ، مثاله قولنا : الثلاثة أقل من الستة ….))
فأنت إذا عرضت قوله : (( ربما حصل لك الإنس …. )) على هذا اليقين الذي شرحه علمت أن بينهما كما بين السماء و الأرض ، فثبت أن ما سماه أدلة عقلية موجبة إثبات موجود ليس في جهة ، ليس معنى ايجابها ذلك إثمار اليقين و لا ما يقاربه و لا ما يشبهه ، فإذا كانت كذلك فكيف تسوغ أن اعرض بها القضية البديهية الواضحة ؟
فإن قيل : لكنها تزلزل اليقين بتلك القضية فلا تبقى يقينية ؟(1/238)
قلت : أما زلزلة اليقين في جميع النفوس فممنوع . و أما زلزلته في بعض النصوص فلا يقدح ، ألا ترى أن من العقلاء من شك في البديهيات كلها و قدح فيها كما مر في الباب الأول ؟ أولا ترى أن الغزالي نفسه صرح في كتابه ( المنقذ من الضلال ) بأنه نفسه كان يشك في الحسيات و البديهيات ، و أنه بقي على ذلك نحو شهرين ، و قد تقدم حكاية ذلك في الباب الأول . (1) فالحق أن اليقين قد يطرأ عليه التفات إلى الشبهات و رعب منها إذا حكيت عن جماعة اشتهروا بالتحقيق و التدقيق ، و أنهم اعتمدوها فيعرض التشكك ، و هذا هو الذي ربما يعرض هنا ، بما ذكره الغزالي من كثرة الممارسة ، و قد تقدم في الباب الأول أن القادحين في البديهيات احتجوا بقولهم : (( من مارس مذهباً من المذاهب برهة من الزمان و نشأ عليه فإنه يجزم بصحته و بطلان ما يخالفه )) . (2) و لم يجب مخالفوهم إلا بقولهم : (( الجواب أنه لا يدل على كون الكل كذلك )) . فإذا كانت كثرة الممارسة للباطل قد تورث الجزم ببطلان ما يخالفه فكيف لا تورث ما ذكره الغزالي هنا بقوله : (( ربما حصل لك الإنس )) و إذا وجب أن لا يعتد بالجزم الحاصل عن طول الممارسة فكيف يعتد باحتمال حصول الإنس ؟ و لو كان هذا كافياً للتشكيك في البديهيات ، و خشية أن تكون وهمية لثبب القدح في عامة البديهيات و طوي بساط العقل و حقت السفسطة ، و قد تقدم في الباب الأول (3) قولهم في الجواب عن شبهات القادحين في البديهيات : (( و لا نشتغل بالجواب عنها لأن الأوليات مستغنية من أي يذب عنها ، و ليس يتطرف إلينا شك فيها بتلك الشبه التي نعلم أنها فاسدة قطعاً، و إن لم يتيقن عندنا وجه فاسدها )) . أفلا يكفي مثبتي الأينية (4) أن يجيبوا عما سماه الغزالي أدلة بمثل هذا ؟
__________
(1) ص ( 227 - 228 – ر 235 ) .
(2) تقدم ص 216 .
(3) ص 218 .
(4) أي المؤمنين بجواب (( أين الله)) و أنه في السماء فوق العرش مباين للخلق . م ع(1/239)
فإن قيل : إن من تلك الأدلة البراهين على وجوب واجب الوجود لنه لا يصح كونه واجب الوجود إلا إذا لم يكن له أين فجمودهم على تلك القضية يقتضي نفي وجود واجب الوجود .
قلت : البراهين الصحيحة على وجوده لا تقيد بعدم الأين ، بل منها ما يقتضي بوجوده مع ثبوت الأين له ، فأما المقاييس التي يتشبث بها النفاة فهي من الشبهات التي نتيقن فسادها و إن فرض أنه لم يتعين لنا وجهه .
أقول : و في هذا مع الأدلة الشرعية ما يكفي الراغب في الحق الخاضع له ، فلا حاجة بنا إلى التشاغل بتلك الشبهات ، و لكن أشير هاهنا إلى نكات :
الأولى : المتعمقون يقولون أن ذاك البارئ عز و جل مجردة ، ثم منهم من يثبت ذوات كثيرة مجردة حتى عدوت منها الملائكة و أرواح الخلق ،(1) و منهم من يقتصر على تجويز ذلك ، و ردوا على من نفى ذلك محتجاً بأنه لو وجدت ذات أخرى مجردة لكانت مماثلة لذات الله عز و جل ، بأن المشاركة في التجرد لا تقتضي المماثلة التي تستلزم اشتراك الذاتيين فيما يجب و يجوز و يمتنع .
وأنت إذا تدبرت علمت ما في هذا القول كما مر في الباب الثالث . (2)
فإن قيل : الإنصاف أن من أثبت المشاركة في أمر ما فقد أثبت المثل في مطلق ذاك الأمر ، و لزوم التساوي في الأحكام إنما هو بالنظر لذاك الأمر فالمثبت الشريك في الوجود يلزمه تساوي الذاتين في أحكام مطلق الوجود ، و هكذا يقال في التجرد و الجسمية و الأينية و غيرها و ليس المحذور هنا إثبات مثل في أمر ما ، و لا إثبات مساو في أحكام أمر ما ، و إنما المحذور لزوم حكم باطل .
قلت : فهذا يوضح سقوط تشبثهم بقوله تعالى : [ ليس كمثله شئ ] ، وقوله : [ ولم يكن له كفواً أحد ] ، و يبين ما قدمناه في ذلك في الباب الثالث . و لله الحمد .
__________
(1) يعني أرواح بني آدم و يمونها النفوس الناطقة و لا يدخل في ذلك عندهم أرواح الحيوانات . م ع
(2) ص 278 .(1/240)
ثم أقول : التجرد المزعوم إنما حاصل عند العقول الفطرية العدم وذلك مناف للوجود فضلاً عن الوجوب ، و على فرض أنه لا ينافي الوجود ، فأي فرق يعقل بين ذاتين مجردتين حتى تكون هذه روح بعوضة و تلك ذات رب العالمين ؟ فأما ذاتان مشتركتان في مطلق الأينية ، فإن معقولية الفرق بينهما بغاية الوضوح ، بل يجيئ ذلك في الجسمية و إن كنا لا نقول أنه سبحانه و تعالى جسم . فأما زعمهم أن في أحكام مطلق الأينية ما ينافي الوجود . فإنما مستندهم فيه تلك الشبهات التي تقدم أنه لا يلزمنا التشاغل بها للعلم ببطلانها مع اعتراف أشد أنصارها تحمساً و مجازفة بأن غايتها أنها ربما تورث منطالت ممارسته لها الأنس بمقتضاها ، ومن تدبر تلك الشبهات علم و هنها .
يقول الفلاسفة : إن ذات الله تعالى وجود . ومال إلى هذا كثير من متأخري المتكلمين .وأورد عليهم أن الوجود عندهم أمر عدمي . فأجابوا بأنه لا مانع من تفاوت الأفراد ، فيكون هذا الفرد المعروف من الوجود أمراً عدمياً ، و فرد آخر منه واجب الوجود لذاته ، ومن العجب أن يزعموا معقولية هذا ، وينكروا معقولية التفاوت في الأينية ، أو قل في الجسمية . (1)
__________
(1) مجاراة للذين يزعمون أن إثبات الصفات من العلو و الأستواء و النزول و الوجه و اليدين لله عز و جل يستلزم أن يكون جسماً . فيقال لهم على سبيل التنزل و المجاراة : إذا قلتم بتجرد ذات الله و تجرد العقول النفوس الناطقة مع عدم المشابهة فقولوا بإثبات النصوص الشرعية و قولوا لمن يقول بلزومها للجسمية بعدم المماثلة و المشابهة ، و حينئذ تكونون قد وافقتم الشرع و الفطرة و سنن المرسلين . م ع .(1/241)
الثالثة القائلون : جسم لا كالأجسام ، يقولون لا حاجة أن تلزمونا ذلك بإثباتنا الفوقية ، بل نحن نلزمكم ذلك بما اعترفتم به أنه سبحانه موجود قائم بنفسه ، بل ذلك هو معنى القيام بالنفس ، و هذه من أجلى البديهيات . و ذكروا أن بعضهم أورد هذا على أبي إسحاق الإسفرائني (1) ففر إلى قوله : إنما أعني بقولي : قائم بنفسه ، أنه غير قائم بغيره . و هذا عجب ! فإنه إذا كان موجوداً و الموجود إما قائم بنفسه ، و إما قائم بغيره ، فقوله : (( غير قائم بغيره )) ، إنما حاصله أنه قايم بنفسه ، فحاصل جوابه إنما يعني بقوله " قايم بنفسه ، أنه قيم بنفسه !
وشبَّه الماء بعد الجهد بالماء
أقام يُعْمِلُ أياماً رَوَّيته
الرابعة : في عبارة الغزالي ذكر قضية الخلاء والملأ ، فالفلاسفة و من تبعهم قولون: إنه ليس وراء العالم خلاء و لا ملأ ، و العقول الفطرية تنكر ذلك ، و أورد عليهم أنا إذا فرضنا إنساناً على طرف العالم فمد يده إلى خارجه فإن امتدت فثم خلاء ، و إلا فثم ملأ ، فأجابوا باختيار أنها لا تمتد ، و لكن لا لوجود ملأ ، بل لعدم شرط الامتداد وهو الخلاء .
أقول : و هذه القضية قريبة من سابقتها . فإن الفطر قاضية بأن الخلاء و الملأ إذا فقد أحدهما وجد الآخر ، و على هذا ففقد الخلاء و معناه وجود الملأ .
__________
(1) كذا الأصل بالهمزة بين الألف و النون ، و الصواب ( الإسفرايني ) بالياء المكسورة كما في كتب الأنساب. و قال السيوطي : قلت (( بلا همزة )) . و نحوه في (( معجم البلدان )) إلا أنه زاد في ضبطها ياء أخرى ساكنة . يعني ( الإسفراييني ) . ن .(1/242)
الخامسة : مذهب المتكلمين أن الخلاء أمر عدمي ، و الأعدام قديمة ، و استدل الفلاسفة على أنه أمر وجودي بأنه يشار إليه و يتقدر ، و مما دفع أنهم يقولون : ليس وراء العالم خلاء و لا ملأ ، فلنفرض أن الله عز و جل خلق وراء العالم جدراناً و خلق لها خلاء (1) تقوم فيه و تكون بحيث يأتلف منها مربع و يبقى جوفه على ما كان عليه ، فإن ذاك الجوف يكون مشاراً إليه متقدراً ، و مع أنه بات على ما كان عليه . و العقول الفطرية يمكنها أن تتصور أن يكون الكون له جسماً واحداً مثلاً ، و أن تتصور عدم الأجسام ، و أن يكون الكون كله خلاء ، (2)
__________
(1) أي بناء على زعم أن الخلاء أمر وجودي . المؤلف .
(2) بل العلوم التجريبية التي هي أصح من تفكير المتكلمين و أقيستهم قد ثبت فيها بما لا شك فيه أن بين الأجرام السماوية من شموس و كواكب خلاء حقيقي ففوق الأرض بنحو مائة كيلو متر بعد طبقة الهواء الأرضي خلاء صرف إلى ما يشاء الله تعالى لا يشغله غير الأجرام السماوية و الحرارة و النور و الأشعة الأخرى تأتي إلينا من مصادرها في خلاء صرف .
فليتخيل المتخيلون في هذا الخلاء الواسع الأطراف الذي لا يعلم حدوده إلا الله سبحانه ماشؤوا من خيالات القدم و الحدوث و العدم فهو بحر تسبح فيه الأجرام السماوية سباحة الأسماك في البحار . م ع(1/243)
و لا تتصور ارتفاع الأمرين ، و هذا يقضي بأن الخلاء أمر عدمي ، فإن يعقل ارتفاع العدم بالوجود، ويستحيل ارتفاعهما معاً . (1) وظواهر النصوص الشرعية توافق هذا ، فإنها تعرضت لخلق العالم في الخلاء ، و لم تتعرض لخلق الخلاء ، بل في عدة نصوص ما يقتضي أن الخلاء لم يكن مرتفعاً (1) فقط قبل وجود الملأ ، ولا أعلم من سلف المسلمين قائلاً بأن الخلاء أمر وجودي ، و انه لم يكن خلاء و لا ملأ حتى خلق الله تعالى ذلك. و قال لي قائل : هب أن زاعماً زعم أن الخلاء وجودي، و أنه قديم محذور في هذا ؟ فإن الخلاء لا يصلح أن يكون منه تخليق و لا تدبير فلا يتوهم أن يكون هو رب العالمين أو مغنياً عنه أو شريكاً له ، و قضية الافتقار إليه على فرض كونه واجباً لا ينافي الوجود ، ولا تز عن الافتقار إليه على فرض أنه عدمي ، و على الافتقار إلى المانع نحو ذلك .
وأقول : خير لمن يعرض له مثل هذا أن يعرض عن التفكير ، و يستغني بما ثبت بالقواطع ، و سيأتي لهذا مزيد . و الله الموفق .
__________
(1) أي منفياً . م ع(1/244)
السادسة : من تدبر عبارة الغزالي علم أنه يعترف أن العرب و الصحابة و التابعين وكل من لم تطل ممارسته لمزاعم الفلاسفة في التجرد (1) إذا أيقن أحدهم بوجود الله عز و جل فإنه يوقن بثبوت الأينية له و لابد ، و إذ كانت الفطر قاضية بأنه سبحانه فوق سمواته، فإنهم يوقنون بذلك على ظاهره و حقيقته ، فإذا سمعوا النصوص الشرعية الموافقة لذلك ، فإنما يفهمون منها تلك المعاني الموافقة ، و ليس في وسع أحد منهم أن يتوقف عن فهم ذلك منها ، و على فرض أن في النصوص ما يشعر بخلاف ذلك ، فإنهم يحملونه على خلاف ما يشعرون به . و بهذا تعلم أن من ينكر تلك المعاني فإنه ينسب النصوص إلى الكذب البتة ، و لعل للغزالي عبارات أصرح مما ذكر ، و فيما ذكر كفاية ، و فإن الأمر واضح جداً . و كذلك غيره من المتعمقين يلزمهم ذلك ، و يظهر من حالهم أنهم يعرفونه و يعترفون به . و من آخرهم السعد التفتازاني قال في ( شرح المقاصد ) : -(( فإن قيل : إذا كان الدين الحق نفي الحيز و الجهة فما بال الكتب السماوية و الأحاديث النبوية مشعرة في مواضع لا تحصى بثبوت ذلك من غير أن يقع في موضع واحد منها تصريح بنفي ذلك و تحقيق ( ؟ ) كما كررت الدلالة على وجود الصانع و وحدته و علمه و قدرته وحقيقة المعاد و حشر الأجساد في عدة مواضع و أكدت غاية التأكيد ، مع أن هذا أيضاً حقيق بغاية التأكيد و التحقيق لما تقرر في فطرة العقلاء مع اختلاف الأديان و الآراء من التوجه إلى العلو عند الدعاء و مد الأيدي إلى السماء ؟
__________
(1) أي عموم بني آدم الذين لم يخرجوا عن سنن الفطرة التي فطر الله عليها عباده و لم تفسدها عليهم خيالات الفلاسفة و المتكلمين و هوسهم و أقيستهم الباطلة . م ع .(1/245)
أجيب : بأنه لما كان التنزيه عن الجهة مما تقصر عنه عقول العامة حتى تكاد تجزم بنفي ما ليس في الجهة كان الأنسب في خطاباتهم و الأقرب إلى إصلاحهم و الأليق بدعزتهم إلى الحق ما يكون ظاهراً في التشبيه وكون الصانع في أشرف الجهات مع تنبيهات دقيقة على التنزيه المطلق عما هو من سمة الحدوث )) .
أقول : تدبر عبارة هذا الرجل و انظر ما فيها من التلبيس و التدليس !
أولاً : قوله : (( الدين الحق )) وكل مسلم يعلم ( أن الدين عند الله الإسلام ) و الإسلام باعتراف هذا الرجل جاء بنقيض ما زعم أنه الدين الحق ، وكذلك جميع أديان الأنبياء ، فكيف يقول مسلم أن الدين الحق نقيض ما جاء به الأنبياء ؟ ثم ما الذي جعله حقاً وهو مع مخالفته للكتب والسنة وسائر كتب الله تعالى وأنبيائه منابذ لبدائة العقول؟!
ثانياً قوله : (( مشعرة )) ومن عرف الكتاب و السنة علم يقيناً أن نصوصهما بغاية الصراحة في الإثبات .(1/246)
ثالثاً قوله : (( تقصر عنه عقول العامة )) والحق أن العقول كلها تنبذه البتة ، إلا أن من أرعبته شبه المخالفين لعظمتهم في و همه وطالت ممارسته لها قد يأنس بالنفي الساقط كما تتقدم ، وهذا الأنس إنما هو ضرب من للحيرة بل هو ضرب من الجنون ، افرض أنك خرجت من بيتك وعلى رأسك عمامة فيلقاك رجل فيقول لك : لم خرجت بلا عمامة ؟ فترى أنه يمازحك ، قم يلقاك آخر فيقول لك نحو ما قال الأول ، ثم يلقاك ثالث، ثم رابع ثم خامس و هكذا كل منهم يقول لك نحو مقالة الأول ، ألا ترتاب في نفسك وتخاف أن تكون قد جننت حيث تعتقد أن على رأسك عمامة تراها وتلمسها و تحس بثقلها وهؤلاء كلهم ينفون ذلك ، وينتهي بك الحال إلى أن تحاول أن تقنع نفسك بأنه ليس على رأسك عمامة ، وتتقي أن أحداً بأنك تعتقد أن على رأسك عمامة ، بل قد ترى الأولى أن ترمي العمامة حتى يتفق اعتقادك و اعتقاد الناس ، و لكن افرض رميت بها واعتقدت أنه ليس على رأسك عمامة حتى يتفق اعتقادك واعتقاد الناس ، ولكن افرض أنك رميت العامة واعتقدت أنه ليس على رأسك عمامة فلقيك رجل فقال لك : عمامتك هذه كبيرة ، ثم لقيك آخر فقال : عمامتك هذه وسخة ، ثم ثالث ثم رابع ثم خامس و هلم جرا كل منهم يثبت لك أن على رأسك عمامة ، فماذا يكون حالك ؟ وقد وقع ما يشبه هذا فكانت نتيجته الجنون !
أُخبرت أنه كان في هذه البلدة امرأة من نساء كبار الأمراء وكان ولد يعارضها ويمانعها عما تريد ، و اشتدت مضايقته لها ، حتى عمدت إلى جماعة أعدتهم لمجالسة و لدها وصحبته وأن يتعمدوا مخالفته وإظهار التعجب منه في أشياء كثيرة ، كانوا يقولون في الحلو إنه حامض ، وفي الأصفر إنه أحمر ، ونحو ذلك ففعلوا ذلك وألحوا فيه حتى تشكك الولد وجن .(1/247)
و أُخبرت أنه كان لرجل من كبار الوزراء ابن أخ أو قريب آخر ، و كان القريب عاقلاً ذكياً فطناً مهذباً نبيل الأخلاق ، و كان الأبن دون ذلك فخاف الوزراء أن يموت فيتولى الوزراة قريبه دون أبنه ، فأعد جماعة لمجالسة قريبه و أمرهم بمخالفته ، وتشكيكه ، ففعلوا ذلك حتى جن المسكين . (1)
رابعاً قوله : (( حتى تكاد تجزم بنفي ما ليس في الجهة )) . و الحق أنها تجزم بذلك كل الجزم ، إلا أن يبتلى بعضها بالتشكك كما مر .
خامساً قوله : (( مع تنبيهات دقيقة )) إن أراد بالتنبيهات قوله تعالى : [ ليس كمثله شئ و هو السميع البصير ] و نحوها فقد تقدم الجواب ، و إن أراد الدلائل على وجوب الوجود و الغنى فقد تقدم الكلام فيها ، و على كل حال فليس في العقول الفطرية ولا النصوص الشرعية ما يصح و نظراءه لزوماً واضحاً تكذيب النصوص و لابد .
__________
(1) و مغزى الحكايتين أن من عاش في وسط مخالف له في التفكير و التعبير ، فإما أن يوافق هذا الوسط و ينسى فكره و عقله ، أو يجن إذا أصر على مناقضتهم و الخلاف معهم . و قد فسروا الجنون بالحالة التي لا يقدر صاحبها على الأنسجام مع وسطه الذي يعيش فيه .
و قد سمعت من بعض المفكرين في إصلاح العامة أن ذلك يكون بأمرين إما يتنزل رجل ممتاز التفكير إلى طبقتهم حتى يأخذ بأيديهم إلى الارتقاء و التهذيب بلطف ، أ, بنبوغ رجل منهم يقودهم برفق و هو في وسطهم لا يترفع عنهم . و قال : هكذا كانت حال الأنبياء و المصلحين مع أممهم أ هـ م ع(1/248)
وقد حكى بعض المحشين على ( المواقف ) عبارة التفتازاني المذكورة ثم تعقبها بقوله : (( فيه فتح باب الباطنية لأنه جاز إظهار الباطل حقاً في آيات كثيرة و تقريره في عقول عامة المسلمين لقصور دركهم جاز مثله في سائر الأحكام كخلود العذاب الجسماني والجنة و الجسماني و الصراط الأدق من الشعر لأن الصرف عن الظاهر لا يتوقف على استحالة بل الاستبعاد كاف نحو رأيت الأسد في الحمام ، فالحق أن تأويل تلك الآي بظهور المجرد في صورة الجسماني )) .
أقول : حاصل هذا التعقب موضحاً أن الاستحالة المزعومة لم تكن تدركها عقول المخاطبين فلا يصح عدها قرينة تدفع الكذب ، فإن زعمتم أنه اقتضت المصلحة التسامح في هذا و الاكتفاء بجواز الكذب من الله و رسله و التكذيب منكم بأن هناك ما لو علمه المخاطبون لكان قرينة وهو الاستحالة العقلية كان للبطنية أن يعتذروا بنحو عذركم عن تأويلاتهم لغالب العقائد و الأحكام متشبثين بدعوى الاستبعاد كما تشبثتم بدعوى الاستحالة ، والحاصل أنكم تشبثتم باقتضاء المصلحة و دعوى وجود ما لو علمه المخاطبون لكان قرينة ، و هذه حال الباطنية أيضاً .
ثم أقول : الاستحالة مدفوعة ، و كثير من النصوص صريح لا يحتمل غير ذاك المعنى الذي ينكره المتعمقون ، و الكلام الذي غير الظاهر احتمالاً قريباً لا يصرف عن ظاهر إلا بقرينة ، و من شرط القرينة أن يكون من شأنها أن لا تخفى على المخاطب ، فإن لم يتحمل غير ظاهره أو احتمله و لا قرينة فزعم أن ظاهره باطل تكذيب له و لابد ، و معلوم من الدين بالضرورة استحالة أن يقع كذب من الله تعالى أو من رسوله فيما يخبر به عنه ، و الله تعالى أجل و أعظم من أن يكذب لمصلحة ، و المصلحة المزعومة قد مر إبطالها في الباب الثالث ، و مر هناك ما يكفي و يشفي .(1/249)
فأما ظهور المجرد في صورة الجسماني ، فالتجرد المزعوم لا حقيقة له ، و إنما المعروف ثمثل الملك بشراً و لا يلزم من جواز ذلك في المخلوق جوازه أو نحوه في الخالق جل و علا ، و مع ذلك فتلك حال عارضة و النصوص صريحة في حال مستقرة مستمرة و بدائه العقول تقتضي بذلك كما لا يخفى . و الله الموفق .
السابعة : المباحث التي تتعلق بالتدقيق في شأن وجود الله عز و جل ، يلتبس فيها الأمر فينزل النظر من الوجود الواجب الذاتي الذي لم يزل الممكن و الحادث كما تقدم في الباب الثالث (1) و تقدم هناك المخلص من أمثال ذلك ، و إمتثالاً لذلك نقول : إننا لا نطلق ما لم يطلقه الشرع و لا وضح به الحق ، و إنما ندين بما ثبت بالمأخذين السلفيين ، عاملين أنه لا يلزم الحق إلا حق ، فكل ما ثبت بالمأخذين السلفيين فهو حق ، و م اأورد عليه من الإلزامات التعمقية لم يخل الخال أن يكون اللزوم باطلاً أو يكون اللازم حقاً لا ينافي ما ثبت بالمأخذين السلفيين .
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ، و اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنه لا حول و لا قوة إلا بالله .
القرآن كلام الله غير مخلوق
هذه القضية كانت بغاية الوضوح في عهد السلف ، ثم جحدها الزائغون ، ثم التبس الأمر فيها على بعض الناس ، و قد كفى فيها و شفى ما بينه إمام السنة أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ، ثم ما حرره الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، ثم ما حققه و نقحه شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين ابن تيمية ، و لكن لا أخلي هذه الرسالة عن إشارة إلى ذلك ، فأقول :
__________
(1) ص 284 – 289 .(1/250)
العقول الفطرية قاضية بأن لله تعالى الكمال المطلق و القدرة التامة ، و أنه متى شاء أن يتكلم الكلام الحقيقي المعروف بعبارة وحرف و صوت تكلم كيف شاء ، ثم جاءت كتب الله تعالى ورسله بإثبات أنه سبحانه تكلم و يتكلم ، وكلم و يكلم ، و قال و يقول ، و نادى و ينادي ، و أن القرآن هذا المعروف كلام الله على الحقيقة الحقة . و قد أخبر الله تعالى أن الجمادات قد تتكلم كلاماً حقيقياً ، وأن أعضاء الإنسان تنطق يوم القيامة فتشهد عليه ، وأخبر النبي صلى الله عليه و آله وسلم أنه كان يسمع تسليم الحجر و الشجر عليه ، و أسمع أصحابه تسبيح الحصى . فكان من المعلوم عند الناس أن التكلم بالعبارة والحرف و الصوت ليس موقوفاً على الآلات التي يتكلم بها الإنسان ، بل قد يتكلم المخلوق بغيرها فكيف الخالق عز و جل ؟ فلم يلزم من تكلم الله عز و جل أن يكون له جوف او غير ذلك مما هو منزه عنه .(1/251)
ثم جحد الزائغون كلام الله عز وجل ، و حاولوا تحريف معاني النصوص التي لا تحصى تحريفاً ليس بخير من التكذيب الصريح ، بل لعله شر منه ، ثم حال بعض الناس التلبيس فحمل النصوص على كلام نفسي ليس بعبارة ولا حرف و لا صوت ، بل راد أنه معنى واحد لا تنوع فيه و لا تعدد ، فلا أمر فيه و لا نهي ، ولا خبر ولا ولا ، ثم لم يزالوا في تخبيط و تخليط إلى أن صاروا إلى ما في ( روح المعاني ) ج 1 ص 15 قال : (( الذي انتهى إليه كلام أئمة الدين كالماتريدي و الأشعري و غيرهما من المحققين أن موسى عليه السلام سمع كلام الله تعالى بحرف وصوت كما تدل عليه النصوص التي بلغت في الكثرة مبلغاً لا ينبغي معه تأويل ، ولا يناسب معه قال وقيل )) . ثم ذكر آيات النداء ثم قال : ((واللائق بمقتضى اللغة و الأحاديث أن يفسر النداء بالصوت ، بل قد ورد إثبات الصوت لله تعالى شأنه في أحاديث لا تحصى ، و أخبار لا تستقصى . روى البخاري في ( الصحيح ) : يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك أنا الديان )) .
ثم ذهب إلى تخليط المتصوفة ، إلى أن قال : و الفرق بين سماع موسى عليه السلام كلام الله تعالى و سماعنا له على هذا أن موسى عليه السلام سمع من الله عز و جل واسطة لكن من وراء حجاب ، و نحن إنما نسمعه من العبد التالي )) . وعاد إلى تخليط المتصوفة .
فأقول : قد مر الله تبارك و تعالى عباده بتدبر القرآن وتصديقه و الإيمان به على حسب فطرهم و عقولهم الفطرية ، و لم يكلفهم تعمق المتكلمين فضلاً عن تغلغل المتصوفة، سواء أكان عن تخيل أم عن تعقل ، و في ( الصحيحين ) عن ابن عمر (( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا و هكذا ( أشار بيديه مبسوطة أصابعهما ) و عقد الإبهام على الثالثة ، ثم قال : الشهر هكذا و هكذا و هكذا ( أشار بها مبسوطة أصابعهما في الثلاث كلها ) يعني تمام الثلاثين يعني تسعة و عشرين مرة ثلاثين )) .
وإذ أعترف المتعمقون بأن الله تبارك و تعالى يتكلم بلا واسطة بعبارة و حرف و صوت و يسمع كلامه من يشاء من خلقه ، فهذا الذي قامت عليه الحجة ، و عليه سلف الأمة و أتباعهم ، و لم يبق إلا التنطع عن الكيفية ، و هي من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله ، و لا يبتغيه إلا أهل الزيغ [ و الراسخون في العلم يقولون : آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب . ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا ومن لدنك رحمة أنك أنت الوهاب ] .(1/252)
الإيمان قول وعمل يزيد وينقص
اشتهر عن أبي حنيفة أنه كان يقول : ليس العمل من الإيمان ، والإيمان لا يزيد ولا ينقص . وروى الخطيب عن جماعة من أهل السنة إنكارهم ذلك على أبي حنيفة ، ونسبته إلى الأرجاء ، فتكلم الكوثري في تلك الروايات ، وحاول التشنيع على أولئك الأئمة ، وأسرف وغالط على عادته ، فاضطررت إلى مناقشته دفعاً لتهجمه بالباطل على أئمة السنة .
قال الكوثري ص 40 من ( تأنيبه ) : (( يرى أبو حنيفة أن العمل ليس بركن أصلي من الإيمان ، بحيث إذا أخل المؤمن بعمل يزول منه الإيمان ، كما يرى أن الإيمان هو العقد الجازم بحيث لا يحتمل النقيض ، ومثل هذا الإيمان لا يقبل الزيادة ولا النقص )) .(1/253)
وقال ص 34 : (( وحيث كان أبو حنيفة وأصحابه لا يرون تخليد المؤمن العاصي في النار ، رماهم خصومهم في الأرجاء وأعلنوا عن أنفسهم أنهم منحازون إلى الخوارج في المعنى )) .
وقال ص 44 : (( والإرجاء بالمعنى الذين هم يقولون به هو محض السنة ، ومن عادى ذلك لا بد أن يقع في مذهب الخوارج أو المعتزلة شاعراً أو غير شاعر )) . ثم قال :
كان في زمن أبي حنيفة وبعده أناس صالحون يعتقدون أن الإيمان قول وعمل ، يزيد وينقص ، ويرمون بالإرجاء من يرى إن الإيمان هو العقد والكلمة ، مع أنه الحق الصراح بالنظر إلى حجج الشرع ، قال الله تعالى : [ ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ] ، (1) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر ، ونؤمن بالقدر خيره وشره )) أخرجه مسلم عن ابن عمر ، (2) وعليه جمهور أهل السنة ، وهؤلاء الصالحون باعتقادهم ذلك الاعتقاد أصبحوا على موافقة المعتزلة أو الخوارج حتماً ، إن كانوا يعدون خلاف اعتقادهم هذا بدعة وضلالة ، لأن الإخلال بعمل من الأعمال – وهو ركن الإيمان – يكون إخلالاً بالإيمان ، فيكون من أخل بعمل خارجاً من الإيمان ، إما داخلاً في الكفر كما يقوله الخوارج ، وإما غير داخل فيه ، بل في منزلة بين منزلتين – الكفر والإيمان – كما هو مذهب المعتزلة ، وهو من أشد الناس تبرؤاً من هذين الفريقين، فإذا تبرموا أيضاً مما كان عليه أب حنيفة وأصحابه وباقي أئمة هذا الشأن يبقى كلامهم متهافتاً غير مفهوم ، وإما إذا عدوا العمل من كمال الإيمان فقط ، فلا يبقى وجه للتنابز والتنابذ ، لكن تشددهم هذا التشدد يدل على أنهم لا يعدون العمل من كمال الإيمان
__________
(1) وقع في (( التأنيب : (( قلوبهم )) سهواً . المؤلف
(2) كذا الأصل ، أعني (( التأنيب )) وهو خطأ ، والصواب : (( عمر بن الخطاب )) فإنه من مسنده عند مسلم وغيره ، وإنما رواه ابن عمر عنه ، فتوهم الكورثي أنه من مسند ابن عمر . ن(1/254)
فحسب ، بل يعدونه ركناً منه أصلياً ، ونتيجة ذلك كما ترى … فإرجاء العمل من أن يكون من أركان الإيمان الأصلية هو السنة ، وأما الإرجاء الذي يعد بدعة ، فهو قول من يقول : لا تضر مع الإيمان معصية ، وأصحابنا أبرياء من مثل هذا القول …. ولولا مذهب أبي حنيفة وأصحابه في هذه للزم إكفار جماهير المسلمين غير المعصومين ، لإخلالهم من الأعمال في وقت من الأوقات ، وفي ذلك الطامة الكبرى )) .
أقول : اختلفت الأمة فيمن كان مؤمناً ثم ارتكب كبيرة . فقالت الخوارج : يكفر ، وقالت المعتزلة : لا يكفر ولكن يزول إيمانه ، وإذا مات من غير توبة دخل النار وخلد فيها مع الكفار ، وقالت المرجئة لا يكفر ولا يزول إيمانه ولا يدخل النار ، لا يضر مع الإيمان ذنب ، كما لا تنفع مع الكفر طاعة ، وقال أهل السنة : لا يكفر ، ولا يزول إيمانه البتة بمجرد ارتكابه الكبيرة ولكنه يكون ناقصاً ، وقال بعض الأئمة : إلا ترك الصلاة المكتوبة عمداً فإنه كفر ، وحقق بعض إتباعهم أن الترك نفسه ليس كفراً ، ولكن الشرع قضى انه لا يكون إلا من كافر .
يستدل المرجئة والمعتزلة والخوارج بنصوص ظاهرها أن المؤمنين لا يعذبون ، ويستدل المعتزلة والخوارج ظاهرها بنصوص أن مرتكب الكبيرة لا يبقى مؤمناً ، ويستدل الخوارج بنصوص ظاهرها أن ارتكاب لعض الكبائر كفر . وأهل السنة يجيبون عن الأولين ؛ بأن المراد الإيمان الكامل ، وعن الثالث بأنه كفر دون كفر ، فهو كفر يقتضي نقص الإيمان لا زواله ، ويدفع المرجئة الجواب المذكور بقولهم : الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، والأعمال ليس من الإيمان .
وهذا القول قد كان أبو حنيفة يقوله ، لكن يقول الكوثري أنه مع ذلك مخالف للمرجئة في أصل قولهم ، وهو أنه لا يضر مع الإيمان ، ولا غرض في النظر في هذا وتتبع الروايات .(1/255)
بل أقول : تلك الموافقة يعترف بها تكفي لتبرير إنكار الأئمة ، أما من لم يعترف منهم أن أبا حنيفة وإن وافق المرجئة في ذاك القول فهو مخالف لهم في أصل قولهم ، فعذره في إنكاره واضح ، وأما من عرف فيكفي لإنكار القول أنه مخالف للأدلة كما يأتي ، وأنه قد يسمعه من يقتدي بأبي حنيفة ، ولا يعلم قوله أن أهل المعاصي يعذبون فيتغير بذلك ، وقد يبلغ بعضهم قولاه معاً إلى الثاني بل يقولون : رأس الأمر الإيمان ، فإذا كان إيمان الفجار مساوياً لإيمان الأنبياء والملائكة ففيم العذاب وقد دلت النصوص على أن المؤمنين لا يعذبون ؟ ! ويحملهم ذلك على التهاون بالعمل ، ويقول أحدهم لم أعذب نفسي في الدنيا بما لا يزيد إيماني شيئاً ، حسبي أن إيماني مساوٍ لإيمان جبريل ومحمد عليهما السلام ! ويحملهم ذلك على احتقار الملائكة والأنبياء والصديقين قائلين : أعظم ما عندهم الإيمان، وأفجر الفجار مساوٍ لهم فيه !
وإذا كان أبو حنيفة كما يقول الكوثري يرى أن الإيمان هو الإعتقاد القلبي الجازم، وأنه لا يزيد ولا ينقص ، فقد يبلغ هذا بعض الناس فيقولن : إذا كنت لا أصير مؤمناً إلا بأن يكون يقيني مساوياً ليقين جبريل ومحمد عليهما السلام فهذا ما لا يكون ، ففيم إذاً أعذب نفسي بالأعمال فأجمع عليهما عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ؟ !
وبعد فيكفي مبرراً لإنكار ذاك القول مخالفته للنصوص الشرعية ، وأما النصوص على أن الأعمال من الإيمان ، وأنه يزيد وينقص بحسبها فمعروفة ، حتى اضطر الكوثري إلى المواربة ، فزعم أن أبا حنيفة إنما كان يدفع أن يكون العمل ركناً أصلياً لا أنه من الإيمان في الجملة ، كاليدين والرجلين وغيرها من الأعضاء بالنسبة إلى الجسد هي منه وينقص بفقدها مع بقاء أصله ، وإن كان في لعض عبارات الكوثري ما يخالف هذه الدعوى .(1/256)
وأما النصوص على أن الإيمان القلبي يزيد وينقص ، فمنها الأحاديث الصحيحة في أنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال شعيرة من إيمان ، ثم من قالها وفي قلبه مثقال حبة خردل من لإيمان ، ثم من قالها وفي قلبه أدنى أدنى من مثقال حبة خردل من إيمان . (1)
فأما قول الله عز وجل : [ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ] فليس فيها ما ينافي أن تكون الأعمال من الإيمان ، وإنما غاية ما فيها أن الاعتقاد القلبي ركن ضروري للأيمان ، فلا يكون الإنسان مؤمناً حقاً بدونه ، فإن قوله (( لم تؤمنوا )) نفي لإيمانهم ، ويكفي نفيه انتفاء ركن ضروري عنه كما لا يخفى ، وقوله : [ وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ] لا يقتضي أن الإيمان كله هو الذي يكون في القلب ، ألا ترى أنه يصح أن يقال : لم يدخل الإسلام في قلب فلان .. أو : لم يدخل الدين في قلب فلان . مع الاتفاق أن الإسلام والدين لا يختص بما في القلب .
__________
(1) قلت : من شاء الاطلاع على الأحاديث الواردة في زيادة الإيمان ونقصانه ، وكذا الآثار عن الصحابة والتابعين فليرجع إلى (( كتاب الإيمان )) لأبي بكر ابن أبي شيبة الذي قمنا بتحقيقه ، وأشرفنا على طبعه مع رسائل أخرى ، تم طبعها على نفقة صاحب المعالي الشريف شرف رضا آل يحيى وجعلها وقفاً لله تعالى ، جزاه الله خيراً . ن(1/257)
وأما ما في حديث جبريل : (( الإيمان أن تؤمن بالله وملئكته وكتبه ورسله واليوم الآخر … )) فقد أجاب عنه البخاري في (( كتاب الإيمان )) من ( صحيحه ) قال : (( باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة ، وبيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال : (( جاء جبريل عليه السلام يعلمكم دينكم )) ، فجعل ذلك كله ديناً وما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوفد عبد القيس من الإيمان وقوله تعالى : [ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ] )) .
وقصة وفد عبد القيس التي أشار إليها هي في ( الصحيحين ) أيضاً وقد وردها فيما بعد فأخرج من طريق ابن عباس في قصة محاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم (( … فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع ، أمرهم بالإيمان بالله وحده ، , قال : أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة … )) فقد يقال : الإيمان في حديث جبريل منحوٌّ به المعنى اللغوي لا المعنى الشرعي ، ويؤيد ذلك أن السائل في حديث جبريل كان في الظاهر كما يعلم من الروايات أعرابياً لم يجتمع قبل ذلك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما أبتدأ فقال : ما الإيمان ؟ كان الظاهر أنه إنما يريد بالإيمان ما يعرفه في اللغة ، فإذا كان معناه في اللغة التصديق القلبي ، فظاهر السؤال : ما الذي يطلب في الدين التصديق القلبي به ؟ . وأما في قصة عبد القيس ، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو ابتدأ فأمرهم بالإيمان ثم فسره لهم ، فكان المعنى الشرعي للإيمان هو ما جاء في قصة عبد القيس .
فإن قيل : فإنه لم يستوعب الأعمال .(1/258)
قلت : هذا السؤال مشترك ، ولا قائل أن ما ذكر فيه من الأعمال هي مكن الإيمان دون غيرها ، ومثل هذا في النصوص كثير من الاقتصار على الأهم ، وإما لعلم المخاطب بغيره ، وإما اتكالاً على أنه سيعلمه عند الحاجة ، وإما لأن في الإجمال ما يدل عليه ، وكثيراً ما يقع الاختصار من بعض الرواة .
و بالجملة ، فإذا صح قول الكوثري أن أ[ا حنيفة لا يقول إن الأعمال ليست من الإيمان مطلقاً وإنما يقول إنها ليست ركناً أصلياً وإنما اركن الأصلي العقد والكلمة ، فالأمر قريب .
فلندع هذا ، ولننظر فيما زعمه أن الإيمان القلبي لا يزيد ولا ينقص حتى قال ص 67 : (( لأن الإيمان الشرعي إنما يتحقق عند تحقق الجزم المنافي لتجويز النقيض … لا يتصور تفاوت أصلاً بين إيمان المؤمنين من جهة الجزم والتيقن ، ويكون النقص عن مرتبة اليقين كفراً )) .
أقول : تفاوت الإيمان القلبي ثابت نقلاً ونظراً .
أما النقل فمعروف ، وقد تقدمت الإشارة إلى حديث الخروج من النار .(1/259)
وأما النظر فإن الإنسان إذا قارن بين اعتقاده أن الثلاثة من حيث العددية أقل من الستة وبين اعتقاداته الدينية التي يجزم أنه موقن بها بأن له الفرق . فإن أحب الكوثري فليحكم على نفسه وعلى جمهور الناس بعدم الإيمان ، وإن أحب فليثبت ما نفاه ، وقد صرح النظار بأن اليقين يتفاوت قوة وضعفاً كما تراه في ( المواقف ) (1) وغيرها ، وفي
( فتح الباري ) (( قال الشيخ محي الدين (2) الأظهر المختار أن التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر ، ووضوح الأدلة ولهذا كان إيمان الصديق أقوى من إيمان غيره بحيث لا تعتريه الشبه ، ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى أنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقيناً وإخلاصاً وتوكلاً منه في بعضها ، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها . وقد نقل محمد بن نصر المروزي في كتابه : ( تعظيم قدر الصلاة ) عن جماعة من الأئمة نحو ذلك )) .
فإن أحب الكوثري فليحكم على نفسه وعلى جمهور الناس أن أحدهم يختلف حاله في حياته ، فيكون تارة مؤمناً وتارة غير مؤمن ! وإن أحب فليثبت ما نفاه .
وفي ( صحيح مسلم ) وغيره قصة أبي ابن كعب رضي الله عنه في اختلاف القراءة وفيها قوله : (( فسقط في نفسي من التكذيب في الجاهلية ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ، ففضت عرقاً ، وكأنما أنظر إلى الله فرقاً .. )) ولا يرتاب عاقل أن لإيمان هذا الصحابي الجليل عند تلك الغشية دون إيمانه قبلها وبعدها . وقد عرض لعمر بن الخطاب وغيره قصة الحديبية ما يشبه ذلك . وفي حديث الرجل الذي قاتل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هو من أهل النار : (( فكاد بعض الناس يرتاب )) .
__________
(1) موقف 6 مرصد 3 مقصد 2 .
(2) محي الدين كأنه النووي الفقيه الشافعي شارح (( صحيح مسلم )) رحمه الله تعالى ، وليس المراد به محي الدين بن عربي الحاتمي المتصوف فذاك له مجال آخر . م ع هو النووي قطعاً . المؤلف(1/260)
ولا يرتاب عاقل أن المؤمنين بتفاوتون في التقوى تفاوتاً عظيماً ، وأعظم أسباب ذلك تفاوتهم في اليقين ، فإننا نرى أحوالهم في اتقاء الضرر الدنيوي لا يتفاوت ذاك التفاوت. بل إنك تجد من نفسك أنه قد يقوى فترغب نفسك في الطاعة وعن المعصية ، وقد يضعف فتتهاون بذلك . وكذلك تجد ذلك عندما تطلع على الأدلة أو الشبهات ، فقد يقف العالم على عدة نصوص من الكتاب والسنة فيتبين له أن بعضها يصدق بعضاً ، وقد يتراءى له أنها تتناقض . وقد يرى نصوصاً في العقائد ، فيتبين له أن العقل موافق لها وقد يتراءى له أنه يخالفها . ويرى نصوصاً في الأحكام فيتبين له أنها موافقة للرأي والنظر والحكمة والقياس ، وقد يتراءى له أنها مخالفة لذلك . ويرى نصوصاً في الأخبار عن الجن والشياطين ، والأرض والسماء ، والشمس والقمر ، وغير ذلك ، فيتبين له أنها موافقة للواقع ، وقد يتراءى له أنها مخالفة له . ويطالع السيرة فيها أموراً واضحة الدلالة على النبوة، وقد يرى فيها ما يتراءى له منه خلاف ذلك . ويسمع من الأطباء وغيرهم ما يوافق ما جاء في الشرع ، وقد يسمع منهم ما يخالفه . يطيع النبي صلى الله عليه آله وسلم في بعض الأمور فيناله نفع ، وقد يتفق له خلاف ذلك ، وهذا كمن يريد سفراً مع رفقة فتعزم الرفقة على الخروج يوم الجمعة قبل الصلاة فيأبى أن يخرج قبل الصلاة للنهي الشرعي عن ذلك ، (1) وسافر الرفقة فتصيبهم مصيبة كاصطدام القطار ، أو غرق الباخرة أو نحو ذلك ، وينج لتأخره ، وقد يتفق خلاف هذا بأن تسلم الرفقة وتغنم ، ويخرج هو بعد الصلاة فيصيبه ضرر . وأشباه هذا كثيرة لا تكاد تمضي ساعة إلا ويقع
__________
(1) قلت: لم يثبت النهي عن السفر يوم الجمعة ، بل صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال لمن سمعه يقول : لولا أن اليوم جمعة لخرجت ! قال عمر : (( أخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر )) . راجع لهذا وغيره مما روي في النهي كتابنا (( سلسلة الأحاديث الضعيفة )) رقم ( 218 ، 219 ) . ن(1/261)
شئ منها . ولا ريب أن اعتقاد الإنسان بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يبقى على حال واحدة مع اختلاف الأمور المذكورة ، بل يصفو تارة ، ويتكدر أخرى ، ويقوى تارة ، ويضعف أخرى ، ويزيد تارة، وينقص أخرى .
ولا أدرى عاقلاً يتصور حاله وحال الملائكة والأنبياء ويقول : إن يقينه مثل يقينهم . وقد حاول الكوثري أن يجيب عن هذا فقال ص 67 :
(( نعم ، إن الإيمان الأنبياء ، وإيمان العلماء ، وإيمان العوام يتفاوت من جهة ما يحتمل الزوال منها ، وما لا يحتمله ، واحتمال الزوال أو عدم احتماله ، ناشئ من أمر خارج ، وذلك من تفاوت طرق حصول الجزم عندهم ، لا من التفاوت في ذات الإيمان ، فالإيمان عند الأنبياء لا احتمال لزواله منهم ، لأن حصوله عن مشاهدة ووحي قاهر ، وإيمان العلماء يحتمل الزوال بطروء بعض شبه على أدلة الإيمان عندهم ، ولو احتمالاً ضعيفاً ، وأما إيمان العوام فربما يزول بأيسر تشكيك …. فبهذا البيان اتضحت المسألة تمام الاتضاح إن شاء الله تعالى لكل من ألقى السمع وهو شهيد )) .
ونَوَّهَ عن هذا الكلام ص 193 بقوله : (( تحقيق بديع … )) !
أقول : لنا أن نلتمس من الأستاذ الكوثري أن يفكر في اعتقاده أن الثلاثة من حيث العددية أقل من الستة ، هل يمكن أن يتشكك فيه يوماً ما مع بقاء عقله ؟ فإن قال : لا ، فليستعرض الاعتقادات الدينية الضرورية للإيمان ، التي يرى أنه جازم حق الجزم ، هل يمكن أن يتشكك في بعضها يوماً ما ؟ فإن قال : لا ، فقد أخرج نفسه من زمرة العلماء الذين قضى في عبارته السابقة بأن يحتمل الزوال !
وإن قال : يجوز ذلك .
قيل له : فتجويزك هذا ألا يدل على أن جزمك بتلك العقيدة دون جزمك بأن الثلاثة نصف الستة ؟
فإن قال : قد قلت : إن هذا الأمر خارج .(1/262)
قيل له : هذا الأمر الخارج إنما حاصله قوة الدليل في حق الأنبياء ، وكونه دون ذلك في حق العلماء ، أو ليس من لازم تفاوت الأدلة في القوة تفاوت الجزم بمدلولاتها عند العارف بتفاوتها ؟ فالدليل الذي الذي يكون عندك غاية في القوة ، ويكون جزمك بمدلوله، وانتفاء نقيضه أقوى من جزمك بمدلول دليل دونه عندك في القوة .
فإن قال : ليس هذا بلازم الجزم قد يقع عن شبهة باطلة .
قلت : من جزم عن شبهة باطلة ، فإنه لا يراها شبهة ، بل يراها دليلاً قاطعاً ، وكلامنا إنما هو في العالم الذي يميز بين الأدلة .
فإن عاد وقال : تفاوت الأدلة مع الجزم بمدلولاتها إنما يكون من جهة إن بعضها لا يحتمل إن تعرض شبهة تشكك فيه ، وبعضها يحتمل ذلك .
قيل له : تسمية العارض شبهة ، فيه شبه مغالطة ، فإن من جزم بشيء ثم عرض له ما يجزم بأنه شبهة ، فإن لا يتغير جزمه الأول ، وإنما يتغير حيث يجوز أن العارض دليل، فعلى هذا ، إذا كنت الآن تجوز في بعض ما تجزم أن يعرض ما يشكك فيه ويزيل جزمك، فمعنى ذلك أنك تجوز أن يعرض مشكك فيه يحتمل أن يكون دليلاً صحيحاً ، وأن يكون شبة ، (1) ويوضح هذا أن بعض المسائل الحسابية والهندسية واليقينية يجوز لجازم بها بعد أن يحيط بها أن يعرض ما يظهر منه خلاف ما جزم به ، ولكنه يجزم الآن بأنه لو عرض ألف عارض من تلك العوارض لما تغرير جزمه ، وكما يجزم بهذا في حق نفسه ، فكذلك يجزم في حق غيره بأن من عرف تلك المسألة كما عرفها ، لا يتغير جزمه ما دام عقله ، فهذا هو الذي يصح أن تحكم بأنه جازم أن العارض لا يكون إلا شبهة .
فإن قيل : فما قولك أنت ؟
__________
(1) كذا الأصل لا، ولا تخلوا العبارة من شيء . ن(1/263)
قلت : أقول : إن الإيمان يتفاوت ، وإن ذلك التجويز المستعبد إذا كان صاحبه ينفر عنه ، ويشفق منه ، ويستعيذ بالله عز وجل فإنه لا يضر ، بل ولا يضره عروض الشبهة إذا كان عند عروضها يتألم ويتأذى وتشق عليه ، ويبادر إلى طردها عن نفسه مستعيذاً بالله عز وجل ، وإنما يضره أن يأنس بها ، وتستقر في نفسه ، وتبيض ، وتفرخ ، حتى يصدق عليه اسم (( مرتاب )) هذا هو تدل عليه النصوص ، والذي لا يسع الناس غيره و[ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ] .
ومعيار الإيمان القلبي العمل ، ولهذا كان السلف يقولون : (( الإيمان قول وعمل))، ولا يذكرون الاعتقاد ، وكانت المرجئة تقول : (( الإيمان قول )) . ثم منهم من يوافق أهل السنة على اشتراط الاعتقاد ، ومنهم من لا يشترطه في اسم الإيمان ، ولكن يشترطه للنجاة ، وهذا قو الكرامية . ومنهم من لا يشترطه في اسم الإيمان ، ولا في النجاة ، وهؤلاء هم الغلاة .
وقال الله عز وجل : [)قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [ إلى قوله : [ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ]
الحجرات : 14 - 15
و قال تعالى : [ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً ] . الأنفال : 1 - 4(1/264)
و في ( الصحيحين) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( الإيمان بضع وستون شعبة ، والحياء شعبة من الإيمان )) . وفي رواية مسلم : (( أعلاها لا آله إلا الله ، وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق )) .
وذكر الله عز وجل في سورة ( التوبة ) المنافقين ثم قال : [ وآخرون اعترفوا بذنبهم ] إلى أن قال : [ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ]
التوبة : 102 – 105 .
وفي ( الصحيحين ) من حديث أبي هريرة : (( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : آية المنافق ثلاث : - زاد مسلم : وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم – إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان )) . وفيها من حديث عبد الله بن عمرو : (( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا أؤتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر )) .
وفي ( تذكرة الحفاظ ) ج 2 ص 53 : عن سفيان الثوري أنه قال : (( خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاث : يقولون : الإيمان قول لا عمل ، ونقول : قول وعمل ، ونقول : يزيد وينقص ، وهم يقولون : أنه لا يزيد ولا ينقص ، ونحن نقول : النفاق ، وهم يقولون : لا نفاق )) .
أقول : كأنهم في قولهم : (( النطق بالشهادتين هو الإيمان )) ، يشترطون أن يقع النطق من قائليه طوعاً ولا يكذبون أنفسهم فيه إذا خلا بعضهم إلى بعض ، ثم يقولون : إن المنافقين الذين كانوا في عهد النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا ينطقون تقية ويكذبون أنفسهم إذا خلوا ،فهذا هو النفاق ، فأما من يقول طوعاً ، ولا يكذب نفسه إذا خلا ، فهو مؤمن ، وإن كان في نفسه شاكاً مرتاباً ، بناء على جحدهم اشتراط الاعتقاد في الإيمان ، وأهل السنة يقولون هذا نفاق إذا شرط الإيمان عندهم الاعتقاد .(1/265)
وبالجملة فلا أرى عاقلاً لقوله يقول : إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، إلا على أحد أوجه :
الأول : أن يكون يخص لفظ الإيمان القلبي بالتصديق الذي لا يعتد بها دونه ، فهو بمنزلة النصاب ، فكما أن نصاب الذهب في حق الأغنياء بالذهب واحد لا يزيد ولا ينقص وإن تفاوتوا في الغنى بالذهب ، فكذلك يقول هذا : إن الإيمان الذي هو نصاب التصديق لا يزد ولا ينقص وإن تفاوت الخلف في التصديق . أو قل : إنه بمنزلة زكاة الفطر، وهي صاع لا يزيد ولا ينقص ، وإن كان من الناس من يعطي صاعين أو مائة أو ألفاً او أكثر من ذلك .
الثاني : أن يكون عنده أن الإيمان قول فقط ، وهذا إن فسر القول بالشهادتين ، وقال : إنه لا يكفي للنجاة فهو قول الكرامية ، وإن فسره بهما وقال : إنه يكفي ، فهو قول غلاة المرجئة ، وإن فسره بالاعتراف اللساني بربوبية الله عز وجل ، وقال : إنه لا يكفي للنجاة ولجريان أحكام الإسلام فهو قريب من الأول ، وإن قال إنه يكفي لذلك فهو أشد من قول غلاة المرجئة .
الثالث : أن يزعم أن الإيمكان هو القوزل والاعتقاد الذي لا يقين فوقه ، ولا أرى هذا إلا قاضياً على نفسه وغالب الناس بعدم الإيمان . والله المستعان .
قول : أنا مؤمن إن شاء الله(1/266)
جاء عن بعض السلف كراهية أن يقول الرجل : (( أنا مؤمن حقاً )) والأمر بأن يقول : (( أنا مؤمن إن شاء الله )) (1) وكذلك كانوا يقولون ، وقال البخاري في (كتاب الإيمان ) من ( صحيحه ) : (( باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر .
وقال إبراهيم التيمي : ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً . وقال ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلهم يخاف النفاق عن نفسه ، ما منهم أحد يقول : أنه على إيمان جبريل وميكائيل . ويذكر عن الحسن ( البصري ) : ما خافه إلا مؤمن ، وما أمنه إلا منافق … )) .
وفي ( فتح الباري ) أن مقالة الحسن صحيحة من طرق ، وأن في رواية المعلى بن زياد : (( سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا آله إلا هو ما مضى مؤمن قط وما بقي إلا وهو من النفاق مشفق ، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن. وكان يقول : من لم يخف النفاق فهو منافق . وفي رواية هشام : سمعت الحسن يقول : والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخالف النفاق ، ولا أمنة إلا منافق إلا )) .
واقتبس البخاري أول الترجمة من قول الله تبارك وتعالى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ] . أول ( الحجرات ) .
__________
(1) راجع الآثار الواردة في ذلك في(( كتاب الإيمان )) لابن أبلي شيبة الذي سبقت الإشارة إليه قري كتاب الإيمان باً ، واستعن على ذلك بـ (( فهرس الآثار )) الذي وضعناه في آخره . ن(1/267)
والمؤمن لا تحبط أعماله ، قال الله تعالى : [ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً ] طه : 112 .
وقال تعالى : [ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ] . التوبة : 102 .
وإنما تحبط أعمال الكافر ، قال الله تعالى : [ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ] . المائدة : 5 .
وأقرأ من آل عمران : 22 ، والأنعام : 88 ، والأعراف : 77 ، والتوبة : 17، و69 ، وإبراهيم : 18 ، والكهف : 105 ، والفرقان : 23 ، والزمر : 65 ، والقتال : 32 – 34 ، .
وقد قال تعالى : [ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ] . الحجرات : 14 .
فإذا كان حال هؤلاء فما الظن بحال من قد آمن واستقر الإيمان في قلبه ؟
فأما قوله تعالى : [ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ] . هود : 15 – 16 .
فهي في سياق الكلام في الكفار فهي ورادة فيهم ويدخل فيهم المنافقون ،
و للمؤمنين المخلصين في بعض أعمالهم المرائين في بعضها نصيب من الآية بالنظر إلى ما وقع فيه الرثاء دون غيره .(1/268)
وأما قوله سبحانه : [ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ] البقرة : 200 – 202 .
فالفريق الأول هم الذين يكون جميع دعائهم وعبادتهم لطلب الدنيا فقط ولا شأن لهم بالآخرة ، وهذا أنما يكون ممن لا يؤمن بالآخرة إيماناً صادقاً ، ومن لا يؤمن بها فليس بمؤمن ، فأما المؤمن فإنه لا بد أن يهتم بالآخرة ، فالمؤمن لا يحبط عمله حتى دعاؤه لطلب حاجته المباحة من الدنيا ، فإنه قد لا يقضي الله عز وجل له بعض تلك الحوائج ، ولا يعوضه في الدنيا ، بل يدخر له ثواب دعائه في الآخرة ، كما ورد في أحاديث تفسير استجابة الدعاء ، وقد اتفق الأمة فيما أعلم على أن المؤمن لا تحبط أعماله التي أخلص فيها واستمر على إخلاصه ، ومن قال من المعتزلة : إن الكبيرة تحبط الأعمال هم الذين يقولون أن ارتكاب الكبيرة يبطل الإيمان .
وروى الخطيب بسنده إلى محمود بن غيلان (( حدثنا وكيع قال سمعت الثوري يقول نحن المؤمنون ، وأهل القبلة عندنا مؤمنون في المناكحة والمواريث والصلاة والإقرار، ولنا ذنوب ، ولا ندري ما حالنا عند الله ، قال وكيع : وقال أبو حنيفة : من قال بقول سفيان هذا فهو عندنا شرك ، نحن المؤمنون هنا وعند الله حقاً . قال وكيع : ونحن نقول بقول سفيان ، وقول أبو حنيفة عندنا جرأة )) .(1/269)
وذكر الكوثري في ( تأنيبه ) ص 34 هذه الرواية ، ثم ذكر عن كتاب ابن أبي العوام بسنده إلى عبيد بن يعيش قال : (( حدثنا وكيع قاتل كان سفيان الثوري إذا قيل أمؤمن أنت ؟ قال : نعم ، فإذا قيل له : عند الله ؟ قال : أرجو . وكان أبو حنيفة يقول: أنا مؤمن هنا وعند الله . قال وكيع : قول سفيان أحب إلينا )) .
وقال الكوثري ص 67 : (( لكن الإيمان الشرعي إنما يتحقق عند تحقق الجزم المنافي لتجويز النقيض فمن يقول : أنا مؤمن ، ولا أدري ما حالي عند الله ، أو : أنا مؤمن إن شاء الله ، فإن كان مراد بذلك إن الخاتمة مجهولة وأرجو الله أن يختم لي بخير فليس ذلك من منافاة الجزم في شيء ، وأما إن كان مراده بذلك القول أنا مؤمن هنا ولا أدري ما إذا كان ما اعتقده إيماناً هنا إيماناً عند الله فهو شاك غير جازم بل جوز بتلك الإرادة أن يكون الإيمان خلاف ما يعتقده ، فهو ليس من الإيمان في شيء ، لأنه ليس من اليقين على شيء ، فتبين من هذا البيان أنه لا يتصور تفاوت أصلاً بين إيمان المؤمنين من جهة الجزم ويكون النقص عن مرتبه اليقين كفراً )) .
أقول : مسألة الزيادة والنقصان قد سلف النظير فيها .
فأما المسألة الأخرى فتحريرها أن هناك ثلاث قضايا :
الأولى : اعتقادك ثبوت كل أمر من الأمور التي ترى اعتقاد ثبوت جميعها هو الإيمان الذي لا بد منه .
الثانية : اعتقادك أنك جازم بكل واحد من تلك الأمور الجزم الكافي عند الله عز وجل .
الثالثة : اعتقادك أنك وافٍ بجميع الأمور الضرورية للإيمان في نفس الأمر ، من اعتقاد وفعل وترك .
فمن قيل له : أمؤمن أنت ؟ فقال : أرجو ، أو : إن شاء الله ، فهذا يتعلق بالقضية الثالثة كما لا يخفى ، ولا يجب تعلقه بالثانية ، فأما الأولى فبعيد عنها .(1/270)
وقد دلت آيات الحجرات السابقة على أن المؤمن قد يزول إيمانه وهو لا يشعر فكيف يسوغ ذلك مع هذا أن تجزم بالقضية الثالثة فتقول : أنا عبد الله مؤمن حقاً ، اللهم ألا أن تريد بالإيمان معنى هذا كمجرد النطق بالشهادتين ، أو مجرد الاعتراف اللساني بربوبية الله عز وجل .
و تدبر آيات الحجرات ، وتأمل معاملتك للنصوص الشرعية التي تخالفها في العقائد والإيمان والفقه زاعماً أنك تخالف ظواهرها ، وأنعم النظر في ذلك ألا تخشى أن يكن في معاملتك لها ما هو قديم بين يدي الله ورسوله ورفع لصوتك خلاف صوته
وجهر له بالقول كما تجهر لمخالفيك ودون جهرك لأئمتك في الكلام والفقه بكثير ؟ !
وتدبر قوله تعالى : [ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُون ] إلى قوله : [ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً ] إلى قوله : [ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ] .
النساء – 59 – 65
وانظر أين أنت منها ، ففي هذا الإجمال كفاية ، وبها يتضح ما في عبارة الكوثري من المغالطة ، فإنها توهم أن قول القائل : أرجو ، أو : إن شاء الله ، ينافي الجزم بما في القضية الأولى ، فإن قول الكوثري في تفسير ذلك (( ولا أدري ما إذا كان ما اعتقده إيماناً هنا ، إيماناً عند الله )) يصدق بأن تكون الإشارة إلى الإيمان بما في القضية الأولى ، كأنه قال : لا أدري هل الإيمان بنبوة محمد إيمان عند الله ؟ وهكذا في بقية الأمور ، وقول الكوثري : (( بل جوز بتلك الإرادة أن يكون الإيمان خلاف ما يعتقده )) كالصريح فيما ذكر من الإيهام .(1/271)
فإن قلت : إذا كان الرجل جازماً بوجود الله تعالى وبروبيته وتفرده بالألوهية ونبوة محمد وغير ذلك من أمور الإيمان التي تتضمنها القضية الأولى فما الذي يشككه في القضية الثانية أي في أنه جازم في تلك الأمور ؟ ثم ما الذي يشككه في الثالثة أي في أنه عند الله تعالى مؤمن حقاً ؟
قلت : قد مر ما يكفي لو تدبرته ، وأزيده إيضاحاً :
تقدم في المسألة السابقة أن الجزم يتفاوت ، فإذا ثبت ذلك ولم يكن عندك برهان واضح على أن القدر الذي عندك منه كاف عند اله تعالى ، فمن أين يتهيأ لك أن تجزم بذلك ؟ وهب أن الجزم الأول لا يتفاوت فمن أبن لك أن تجزم بأن جزمك مسار لجزم جبريل ومحمد عليهما السلام ؟ فإن منتك نفسك ذلك فأنظر إن كنت من إتباع المتكلمين في النصوص المصرحة بأن الله تعالى في السماء فوق سماواته على عرشه ، والنصوص الدالة على أنه سبحانه وتعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ، وإنه يجيء يوم القيامة ، وغير ذلك مما خالفت فيه السلفيون ، ثم تأمل في جزمك بأن محمداً رسول الله صادق في كل ما أخبر به عن الله واستحضر ما تقدم عن أئمتك في مسألة الجهة وفي الباب الثالث : فإن زعمت أنك جازم ، فوازن بين ذاك الجزم وبين جزمك بأن الثلاثة أقل من الستة .
وانظر إن كنت فقيهاً في الأحاديث الذي اشتهر أن إمامك يخالفها ، وتفكر فيما تعاملها به ، وانظر هل تقع منك تلك المعاملة وأنت جازم بأن محمداً رسول الله صادق بكل ما أخبر به عن الله ، وأنك محكم له فيما وقع فيه الاختلاف ، مسلم لحكمه تسليماً لا تجد في نفسك جرحاً مما قضى ؟
وانظر ، وانظر ، وأعم ذلك أن تنظر في عملك اعمل من يوقن بأن محمداً رسول الله صادق في كل ما أخبر به من التكليف والحساب والجزاء والجنة والنار ؟ وهل عملك مساو أو مقارب لعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأفاضل أصحابه وخيار التابعين ؟
وأما القضية الثالثة : فإنك إن تدبرت وجدت شأنها أوضح فأن الأمة اختلفت في أمور الإيمان ، فمن الناس من يشترط الجزم بثبوت بعض ما تنفيه أنت أو ينفي بعض ما تثبته ، أو يعد منها ما لا تعده .
ومن أهل السنة من يشترط المحافظة على الصلوات المكتوبة ، والمعتزلة والخوارج يشترطون المحافظة على الفرائض والسلامة من الكبائر ، وليس جزمك بخطأ هؤلاء في جميع ما يخالفونك فيه كجزمك بأن الثلاثة أقل من الستة ، أفلا تخشى أن يكون من أقوالهم ما هو حق في نفس الأمر ، وتكون أنت مقصراً تقصيراً لا تعذر فيه ؟ !
وقد اختلف الفقهاء في كثير من أحكام الصلاة فلعل كثيراً من صلواتك يقول بعض مخالفيك أنها باطلة ، فلعلك غير معذور في مخالفته فيكون حكمك حكم من ترك تلك الصلوات . ولعل فيما تسامح نفسك ما يكون فريضة في نفس الأمر ، وفيما تسامح نفسك بفعله ما يكون كبيرة في نفس الأمر ، ولعلك لا تستح عذر الجاهل أو المخطئ .
و أشد من ذلك أن رأس أمور الإيمان شهادة ألا آله إلا الله ، فهل حققت معنى الألوهية ، أفلا تخشى أن يكون في اعتقاداتك وأعمالك ما هو تأليه وعبادة لغير الله عز وجل ، وقد قال تعالى : [ وما يؤمن أكثرهم بالله وهم مشركون ] . يوسف - 106 وقال سبحانه : [ اتخذوا أحباركم ورهبانهم أرباباً من دون الله ] . التوبة - 31
وفي حديث : (( أتقو الشرك فأنه أخفى من دبيب النمل )) ، ذكرت طرقه في كتاب ( العبادة ) وأوضحت أنه على ظاهره . وبسيط هذا المطلب في ذاك الكتاب .
وبالجملة فمن تدبر علم أنه لا يمكنه أن يجزم غير مجازف أنه عند الله مؤمن حقاً إلا أن يريد بقوله (( مؤمن )) معنى ناطق بالشهادتين وإن لم يعرف معناها تحقيقاً ، ولا التزم مقتضاهما تفصيلاً ، بل قد يكن مصراً على بعض ما ينافيهما ، ولاحول ولا قوة إلا بالله.(1/272)
الخاتمة:فيما جاء في ذم التفرق
وأنه لا تزال طائفة قائمة على الحق و ما يجب على أهل العلم في هذا العصر
قال الله تبارك وتعالى : [ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ . وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ] . الشورى - 13 - 14 .
و قال عز وجل : [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ . وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ . وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ] إلى أن قال : [ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا [ مِنْ ](1) بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ] . آل عمران:-100 - 105 .
و قال تعالى : [ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ] . الأنعام : 153 .
و قال سبحانه : [ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء ] الأنعام : -159 ] .
__________
(1) سقطت من الأصل . ن(1/273)
و قال تعالى : [ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ . مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ] الروم:- 30 – 32.
و قال سبحانه : [)وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ] هود :118 – 119 .
إن قيل : التفرق والاختلاف يصدق بما إذا ثبت بعضهم على الحق وخرج بعضهم عنه ، والآيات تقتضي ذم الفريقين .
قلت : كلاَّ ، فإن الآيات نفسها على إقامة الدين ، والثبات عليه ، والاعتصام به، واتباع السراط ، بل هذا هو المقصود منها ، فالثابت على الصراط لم يحدث شياً ، ولم يقع بفعله تفرق ولا اختلاف ، وإنما يحدث ذلك بخروج من يخرج من السراط ، وهو منهي عن ذلك ، فعليه التبعة .
فإن قيل : المكلف مأمور بالاستقامة على السراط ، ولا يمكنه الاستقامة عليه حتى يعرفه ، وإنما يعرفه بالبحث والنظر والتدبير ، وحجج الحق كما سلف في المقدمة غير مكشوفة فالباحث معروف للخطأ ، بل متدبر الحجج علم أنه يستحيل في العادة أن لا يخلف الناظرون فبها ، فما الجامع بين الأمر باتباع الحجج وهو يؤدي إلى الاختلاف ، وبين الزجر عن الاختلاف ، وقد قال الله تبارك وتعالى : [ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ] وقال سبحانه : [ فاتقوا الله ما استطعتم ] .(1/275)
أقول : وأسأل اتلله تبارك وتعالى التوفيق : قولي : إن حجج الحق غير مكشوفة، إنما معناه كما سلف إنها بحيث يحتاج في إدراكها إلى عناء ومشقة ، ويمكن من له هوى في خلافها أن يغالط نفسه وغيره بحيث يتيسر له زعم أنه إن لم يكن هو المحق فهو معذور، واتباع الحجج لا يؤدي إلى اختلاف ، ، وإنما يؤدي إليه اتباع الشبهات ، وإنما الشأن في أمرين :
الأول : تمييز الحجج من الشبهات .
الثاني : معرفة الاختلاف المنهي عنه . وجماع هذا في أمر واحد هو معرفة السراط المستقيم ، وقد بينه الله تعالى بقوله : [ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ] . وقد علمنا أن المنعم عليهم قطعاً من هذه الأمة هم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه . وقد قال الله عز وجل : [ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ] . يوسف : 108 .و قال تعالى : [ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ [ مِنْ ] (1) بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ] النساء : 115 . فالسراط المستقيم ه ما كان عليه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، وقد تقدم بيان جوامعه في الباب الأول ، وأول الباب الرابع . فما اتضح المأخذين والسلفيين بحسب النظر الذي كان متيسراً للصحابة وخير التابعين ، فهو من السراط المستقيم ، وما خفي أو تردد فيه النظر فالسراط المستقيم هو السكوت عنه ، قال الله تعالى لرسوله : [ ولا تقف ما ليس لك به علم ] . الإسراء : 36 .
وقال تعالى : [ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ] ص ّ: 86 .
__________
(1) سقطت من الأصل . ن(1/276)
وفي ( الصحيحين ) من حديث جندب بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ، فإذا اختلتم فقوموا عنه )) .
فإن كان من الأحكام العملية والقضية واقعة ساغ الاجتهاد فيه على الطريق التي كانت يجري عليها من أمثال ذلك الصحابة وأئمة التابعين .
فمن لزم هذه السبيل فهو الثابت على سبيل الحق والصراط المستقيم ، ومن لزم ذلك في المقاصد ، وخاض في النظر المتعمق فيه ، لتأبيد الحق وكشف الشبهات ، وقد تحققت الحاجة إلى ذلك ، فلا يقضى عليه بالخروج على السراط ما لم يتبين خروجه عنه في المقاصد فتلحقه تبعة ذلك بحسب مقدار خروجه .
هذا والاختلاف المنهي عنه من لازمه كما بينته الآيات التحزب وأن يكون شيعاً ، وسبيل الحق بينه ، والدين محفوظ فد تكفل الله تعالى بحفظه ، وبأن لا تزال طائفة من الأمة قائمة عليه ، فإن أخطأ عالم لم يلبث أن يجد من ينبهه على خطأه ، فإن لم يتفق له ذلك ، فالذي يوافقه أو يتابعه لا بد أن يجد من ينبهه ، فلا يمكن أن يستولي الخطأ على فرقة من الناس يثبتون عليه ويتوارثونه إلا باتباعهم الهوى ، ولهذا نجد علماء كل مذهب يرمون علماء المذاهب الأخرى بالتعصب واتباع الهوى ، وأكثرهم صادقون بالجملة ، ولكن الرامي يغفل عنه نفسه ، وكما جاء في الأثر (1)
__________
(1) الذي يؤثر عن المسيح عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم ومعناه في القرآن ( أمأمورون الناس بالبر وتنسون أنفسكم [ وأنتم تتلون الكتاب ] أفلا تعقلون ) وقوله تعالى : [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُون َكَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ] . م ع
قلت : بل هو حديث مرفوع صحيح الإسناد ، أخرجه ابن حبان في (( صحيحه )) ( 1848 – موارد ) وغيره ، وهو مخرج في (( سلسلة الأحاديث الصحيحة )) رقم ( 33 ) ، ولا أدري كيف خفي ذلك على الشيخين ، ولا سيما فضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق فإنه هو الذي قام على نشر كتاب (( موارد الضمآن إلى زوائد أبن حبان )) ، وعلى تحقيقه أيضاً ، فلعله لم يتذكر الحديث عند كتابته لهذا التعليق قد ختمه بقوله :(( وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبيه محمد ، وآله وصحبه ، وسائر الأنبياء والمرسلين ، .
فرغت من قراءته صباح يوم الثلاثاء 23 ذي الحجة سنة 1370 كتبه محمد عبد الرزاق حمزة )) .(1/277)
(( يرى القذاة في عين أخيه . وينسى الجذع في عينه )) .
وعلى كل حال فإن الأمة قد اتبعت سنن من قبلها كما تواترت بذلك الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن ذلك بل من أعظمه بل أعظمه أنها فرقت دينها وكانت شيعاً ، وقد تواترت الأخبار أيضاً بأنه لا تزال طائفة قائمة على الحق ، فعلى أهل العلم أن يبدأ كل منهم بنفسه فيسعى في تثبيتها على السراط ، وإفرادها عن اتباع الهوى ، ثم يبحث عن إخوانه ، ويتعاون معهم على الرجوع بالمسلمين إلى سبيل الله ، ونبذ الأهواء التي فرقوا لأجلها دينهم وكانوا شيعاً .
ويتلخص العمل في ثلاثة مطالب :
الأول : العقائد ، وقد علمت أن هناك معدناً لحجج الحق وهو المأخذان السلفيان، ومعدناً للشبه ، وهو المأخذان الخلفيان ، فطريق الحق في ذلك وضح .(1/278)
المطلب الثاني : البدع العملية ، والأمر في هذتا قريب لولا غلبة الهوى ، فإن عامة تلك البدع لا يقول أحد من أهل العلم والمعرفة أنها من أركان الإسلام ولا من واجباته ولا من مندوباته ، بل غالبهم يجزمون بأنها بدع وضلالات ، وصرح قولهم منهم بأن منها ما هو شرك وعبادة لغير الله عز وجل ، وقد شرحت ذلك في كتاب ( العبادة ) ، وبحسبك هنا أن تستحضر أن من يزعم من المنتسبين إلى العلم أنه لا يرى ببعضها بأساً ، أو زاد على ذلك أنه يرجى منها النفع ، فإنه مع مخالفته لمن هو أعلم منه يعترف بأنفي الأعمال المشروعة اتفاقاً ما هو أعظم أجراً وأكبر فضلاً بدرجات لا تحصى ، وقد قال الله تعالى : [ فاتقوا الله ما استطعتم ] ، وفي ( الصحيحين ) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( الحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما مشتبهات ، لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات ، فقد إستبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه )) وفي حديث آخر (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )) . وفي حديث آخر : (( أنه لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى ما لا بأس به حذراً لما به بأس )) .
والنظر الواضح يكشف هذا ، فإنك لو كنت مريضاً فاتفق الأطباء على أشياء أنها نافعة لك ، واختلفوا في شيء ، فقال بعضهم : أنه سم قاتل ، وقال بعضهم : لا رناه سماً ولكنه ضار ، وقال بعضهم : لا يتبين لنا أنه ضار ، وقال بعض هؤلاء :بل لعله لا يخلو من نفع . أفلا يقضي عليك العقل إن كنت عاقلاً بأن تجتنب ذاك الشيء ؟
أو ليس من يأمرك ويلح عليك أن تصرف وقتك في تناول ذاك الشيء تاركاً ما اتفقوا على نفعه بحقيق أن تعده ألد أعداؤك ؟ وتدبر في نفسك أيصح من عاقل محب الإيمان خائف من الشرك أن يستحضر هذا المعنى ثم يصر على تلك البدع التي يخاف أن تكون شركاً ؟ !
أو ليس من يصر أنما يشهد على نفسه أنه لا يبالي إذا وافق هواه أن يكون شركاً؟!(1/279)
المطلب الثالث : الفقهيات ، والاختلاف فيها إذا كان سببه غير الهوى أمره قريب ، لأنه كما مرت الإشارة إليه لا يؤدي إلى أن يصير المسلمون فرقاً متنازعة وشيعاً متنابذة ، ولا إلى إيثار الهوى على الهوى ، وتقديم أقوال الأشياخ على حجج الله عز وجل، والالتجاء إلى تحريف معاني النصوص ، وإذا كان المسلمون قد وقعوا في ذلك فإنما أوقعهم الهوى ، فلا مخلص لهم منه إلا أن يستيقظ أهل العلم لأنفسهم فيناقشوها الحساب، ويكبحونها عن الغي ويتناسون ما استقر في أذهانهم من اختلاف المذاهب ، وليحسبوها مذهباً واحد اختلف علماءه ، وإن على العالم في زماننا النظر في تلك الأقوال وحججها وبيناتها ، واختيار الأرجح منها ، وقد نص جماعة من علماء المذاهب أن العالم المقلد إذا ظهر له رجحان الدليل المخالف لإمامه لم يجز له تقليد إمامه في تلك القضية ، بل يأخذ بالحق لأنه إنما رخص له بالتقليد ، عند ظن الرجحان ، إذ الفرض على كل أحد طاعة الله وطاعة رسوله ، ولا حاجة في هذا إلى اجتماع شروط الاجتهاد ، فإنه لا يتحقق رجحان خلاف قول إمامك إلا في حكم مختلف فيه ، فيترجح عندك قول مجتهد آخر ، وحينئذ تأخذ بقول هذا الآخر متبعاً الدليل الراجح من جهة ، ومقلداً في تلك القضية لذاك المجتهد الآخر من جهة ، والفقهاء يجيزون تقليد المقلد غير إمامه في بعض الفروع لمجرد احتياجه ، فكيف لا يجوز بل يجب أن يقلده فيما ظهر أن قوله أولى بأن يكون هو الحق في دين الله ؟ وقضية التلفيق إنما شددوا فيها إذا كانت لمجرد التشهي وتتبع الرخص ، فأما إذا اتفقت لمن يتحرى الحق وإن خالف هواه فأمرها هين ، فقد كان العامة في عهد السلف تعرض لأحدهم المسألة في الوضوء فيسأل عنها عالماً فيفتيه فيأخذ بفتواه ، ثم تعرض له مسألة أخرى في الوضوء أيضاً أو الصلاة فيسأل عالماً آخر فيفتيه فيأخذ بفتواه ، وهكذا ، ومن تدبر علم أن هذا تعرض للتلفيق ، ومع ذلك لم ينكره أحد من السلف فذاك إجماع منهم على(1/280)
أن مثل ذلك لا محذور فيه ، إذ كان غير مقصود ، ولم ينشأ عن التشهي وتتبع الرخص .
فالعالم الذي يستطيع أن يروض نفسه على هذا هو الذي يستحق أن يهديه الله عز وجل ، ويسوغ له أن يثق بما تبين له ، ويسوغ للعامة أن يثقوا بفتواه ة،نعم قد غلب اتباع الهوى وضعف الإيمان في هذا الزمان ، فإذا احتيط لذلك بأن يرتب جماعة من أعيان العلماء للنظر في القضايا والفتاوى فينظر في مجتمعين ! ثم يفتوا بما يتفقون عليه أو أكثرهم لكن في هذا خير كثير وصلاح كبير إن شاء الله تعالى .
فتلخص مما تقدم أن من اعتمد في العقائد المأخذين السلفيين ووقف معها ، واتقى البدع ، وجرى في اختلاف الفقهاء على أنها مذهب واحد اختلف علماؤه فتحرى الأرجح ، واكن مع ذلك محافظاً على لفرائض ، مجتنباً للكبائر ، فإن عثر استقال ربه وتاب وأناب ، فهو من الطائفة التي أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها لا تزال قائمة على الحق ، فليتعرف إخوانه ، وليتعاضد معهم على الدعوة إلى الحق ، والرجوع بالمسلمين إلى سواء السراط . فأما من أبى إلا الجمود على أقوال آبائه وأشياخه والانتصار لها ، فيوشك أن يدخل في قول الله تبارك وتعالى : [ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه ] . التوبة : 31 ، وقوله تعالى : [ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ]. الجاثية : 23 .
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، [ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ] .(1/281)
بسم الله الرحمن الرحيم
تذييل لكتاب ( العقائد إلى تصحيح العقائد )
بقلم : فضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة
فرغت من قراءة كتاب (العقائد إلى تصحيح العقائد ) للعلامة المحقق :
الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي
فإذا هو كتاب من أجود ما كتب في بابه من مناقشة المتكلمين والمتفلسفة الذي انحرفوا بتطرفهم وتعمقهم في النظر والأقيسة والمباحث ، حتى خرجوا عن سراط الله المستقيم الذي سار عليه الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من إثبات صفات الكمال لله تعالى من علوه سبحانه وتعالى على خلقه علواً حقيقياً يشار إليه في السماء عند الدعاء إشارة حقيقية ، وإن القرآن كلامه حقاً حروفه ومعانيه كيفما قرء أو كتب ، وإن الإيمان يزيد وينقص حقيقة ، يزيد بالطاعات ، وينقص بالمعاصي ، وأن الأعمال جزء من الإيمان ، لا يتحقق الإيمان إلا بالتصديق والقول والعمل .
حقق العلامة المؤلف هذه المطالب بالأدلة الفطرية والنقلية من الكتاب والسنة على طريقة السلف الصالح من الصحابة وأكابر التابعين وناقش كمن خالف ذلك من الفلاسفة كابن سينا ورؤساء علم الكلام كالرازي والغزالي والعضد والسعد فأثبت بذلك ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه المحققة الشافية الكافية بأوضح حجة وأقوى برهان - إن طريقة السلف في الإيمان بصفات الله تعالى أعلم وأحكم وأسلم ، وإن طريقة الخلف من فلاسفة ومتكلمين أجهل وأظلم وأودى وأهلك .(1/282)
قرأت الكتاب فأعجبت به أيما إعجاب ، لصبر العلامة على معاناة مطالعة نظريات المتكلمين خصوصاً من جاء منهم بعد من ناقشهم شيخ الإسلام أبن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم كالعضد والسعد ، ثم رده عليهم بالأسلوب الفطري والنقول الشرعية التي يؤمن بها كل من لم تفسد عقيلته بخيالات الفلاسفة والمتكلمين ، فسد بذلك فراغاً كن على كل سني سلفي سده بعد شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى ، وأدى عنا ديناً كنا مطالبين بقضائه ، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وحشرنا وإياه في زمرة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا . آمين .
وبقيت بعد ذلك لمن يبتلي بمطالعات في كتب العصر وما تحوي من نظريات علمية وتجارب صناعية مسائل يظن تعارضها مع ما جاءت به أنبياء الله ورسله ، فيغتر بها ضعفاء العقول ، ويفتتن بها سفهاء الأحلام ، وسأذكر شيئاً منها على سبيل المثال ، وأشير إلى المخرج لمن هداه الله تعالى ووفقه للإيمان بما جاءت به أنبياؤه ورسله ، والله الهادي إلى سراط المستقيم ، ممهداً لذلك بتمهيد وجيز .
( تمهيد ) :
أرسل الله رسله مبشرين ومنذرين ، وأنزل كتبه هداية للمتقين بأصول سعادة الدنيا والآخرة للبشر أجمع ، فقررت أصول الإيمان بالله ورسله والملائكة واليوم الآخر وقدر الله في خلقه ، وشرحت أركان العمل الصالح في معاملة الله تعالى ومعاملة خلقه من عبادات ومعاملات وتشريع مدني وجنائي ، وبينت نتائج السير على هذا الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة وعواقب الانحراف عنه وعقوباته دنياً وأخرى ، وسعادة من سار عليه ، وشقاء من انحرف وحاد عنه .(1/283)
أما علوم المعاش ، رفاهة الحياة الدنيا وملذاتها من صناعة وزراعة وطب وهندسة وكيميا وطبيعة وفلك قلم تعن بها شرحاً وبحثاً وتنقيباً ، بل تركت ذلك لجهود العقل البشري وتجارب الناس وهمم الباحثين ، لأن ذلك يتطور حال الناس ويظهر بمظاهر تناسب عصورهم وتفكيرهم وجهودهم العقلية والاجتماعية ، وهو قابل للأخذ والرد والتمحيص والتحوير والاستبدال ، واصلاحه ممكن بالعقل وبتطور الزمان ومناسبة المكان.
فإن عرضت الشرائع لشئ من ذلك فعلى سبيل المثال وذكر نعمة في خلقه ورحمته بهم بأرضه وسمائه ورياحه وسحبه وأمطاره ، ولا يضيرها في ضرب هذه الأمثال أن تقر بها لعقول الناس وتفكير العقلاء .
( هذا تمهيد أول ).
( الثاني ) يظهر للمتأمل في مخلوقات الله تعالى أن لكل حادث منها أسباباً مادية يتلمسها الباحثون ويقفون على كثير منها ظناً وتخميناً ، أو قطعاً ويقيناً ، وأن لهذه الحوادث أسباباً غيبية وعللاً روحية أشارت إليها الديانات ولوحت إليها كتب السماء . وسيأتي شئ من الأمثلة الآتية توضيح لذلك .
وجل هم الباحثين في العلوم العصرية والتجارب المعيشية التعرف إلى الأسباب المادية ، وربطها بمسبباتها وما يقوي ذلك أ يضعفه .
و أما رسل الله الكرام فمطمع نظرهم وجل توجههم إلى الأسباب الغيبية والتدبير الآلهي للأسباب والمسببات والراسخون في العلم من يؤمنون بما جاءت به الأنبياء وينتفعون بما أثبتته التجارب وبحوث الباحثين ، جامعيين بين الإيمان والانتفاع بثمرات العقول ونتائج الأبحاث الصحيحة ، والأمثلة الآتية توضيح وتفريغ للتمهيدين السابقين ، وإزالة لشبهة تعارض الدين والمباحث العصرية .
(1) مسألة خلق آدم أبي البشر من تراب أثبتتها شرائع الله في التوراة والإنجيل والقرآن بما لا يحتمل الشك أو الجدل .(1/284)
وبحث باحثون على رأسهم دارون الإنكليزي أن الحياة متسلسل بعضها من بعض من الأدنى إلى الأرقى ، وأن البشر تسلسلوا من سلسلة حيوانية أدنى منهم وأرقى من القردة ، والمسألة نظرية تخمينية لا تزال في بوتقة البحث والتمحيص ، لم تصعد سلماً من سلالم القطع والمشاهدة ، فنلدع باحثيها في شغلهم بها ويسلم لنا الدين بلا معارض ولا منازع . والعجب من قوم منا فتنتهم هذه الفكرة التخمينية فأخذوا يؤولون نصوص الكتاب العزيز ليخضعوه إليها .و نبرأ إلى الله تعالى من ذلك .
( 2 ) مسألة النيل والفرات جاء في حديث ( الصحيحين ) أنهما ينبعان من أصل شجرة المنتهى فوق السماء السابعة ، والمعروف عند الناس اليوم أن النيل يخرج من بلاد الحبشة أمطارها وبحيراتها إلى السودان إلى مصر – والفرات من جبال أرمينيا إلى العراق .
فذهب قوم كابن حزم الظاهري إلى حل المسألة باشتراك الاسمين أي أن الجنة نهرين أسمهما النيل والفرات ، ينبعان من أصل سدرة المنتهى ، وأنهما غير النيل والفرات اللذين في الدنيا ، و[ وأنهما ] وإن اشتركا معهما في الاسم فالمسميان متغايران .
وذهب الآخرون كالنووي وغيره إلى المجاز والتشبيه ، وإن النيل والفرات يشبهان أنهار الجنة في النماء والبركة والعذوبة .
وعندي أنه لا بأس بحل المسألة بتطبيق التمهيد الثاني المتقدم آنفاً وإن ما جاء في الحديث في نبه النيل والفرات من أصل سدرة المنتهى نظر إلى السبب الغيبي الروحاني ، وأن نبعها مما هو معروف لدى الناس الآن هو السبب الحسي المادي .
فإن أعجبك التوجيه ، وإلا فأنت في حل منه ، وإنما هو جهد المقل ، وحاول الجمع بين الإيمان المعقول ، والمعقول الذي لا يشوش الإيمان .(1/285)
(3) مسألة الخسوف والكسوف – ثبت لدى علماء الفلك وأقره المحققون من علماء الدين كالغزالي والرازي وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إن خسوف القمر لاحتجاب نور الشمس عنه بظل الأرض ، وكسوف الشمس لاحتجاب نورها عنا بتوسط جرم القمر .
وجاء في حديث أبو داود أن كسوف الشمس لتجلي الله تعالى لها ، وأن الله تعالى إذا تجلى لشيء خضع له . (1)
__________
(1) قلت هذا قطعه من خطبته صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف ، والخطبة متواترة عنه صلى الله عليه وسلم رواها عنه نحو عشرين صحابياً ، وأكثرهم له عنه أكثر من طريق واحد ، ولم ترد هذه القطعة إلا من حديث قبيصة بن مخارق أو النعمان بن بشير من رواية أبي قلاية عنه ، وهذا إسناد أعله المحققون من علماء الحديث بالانقطاع ، مثل ابن أبي حاتم البيهقي وغيرهما ، زد على ذلك أن بإسناده ومتنه اضطراباً كثيراً ، لا مجال لبيانه هنا ، ومحلة في رسالتي المؤلفة في (( صفة صلاة الكسوف ، وما رأي صلى الله عليه وسلم فيها من الآيات )) رقم ( 6 ) .
و أيضاً فالتجلي المذكور لم يرد إلا في بعض الطرق عن أبي قلابة ، فإذا ضممنا إلى ذلك عدم ورودها في أحاديث سائر الصحابة العشرين ، فلا ريب بعد ذلك أنه ضعيف منكر للتفرد والمخالفة لرواية التواتر ، وبأقل من ذلك تثبت النكارة ، وتقوية أبن تيمية إنما هو باعتبار ظاهر الرواية عن أبي قلابة عن الصحابي ، ولم يتنبه للانقطاع الذي بينهما ولا الاضطراب الذي ألمحنا إليه .
ثم أن هذه القطعة ليست عند أبي داود ، وإنما هي عند النسائي وعند أبي داود أصل الحديث . فاقتضى التنبيه.ن(1/286)
فتجرأ الغزالي بسبب أنه – كما شهد على نفسه – مزجى البضاعة في الحديث فتجرأ بالقول برد الحديث ، وغلطه الشيخ ابن تيمية فقوى الحديث واعتمده . وحل المسألة عندي مستفيداً من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومجالسة بعض محققي علماء الهند أو الحديث جاء على طريقة الأنبياء من النظر إلى الملكوت في الأسباب والمسببات التي وراء الأسباب الظاهرة المعروفة ، وحينئذ فتفكير الباحثين في أسباب الخسوف والكسوف صحيح ، والحديث على طريقة الأنبياء صحيح ، والعاقل من آمن بها جميعاً .
(4) مسألة كروية الأرض ودورانها حول نفسها وحول الشمس . تقطع العلوم الحديثة من فلك وجغرافيا بهذه المسألة قطعاً لا شك فيه عندهم في الكروية وظناً يقرب من اليقين ، مع الإطباق والتطبيق عليه من مسألة الحركة . وظواهر النصوص تخالف ذلك بادي الرأي .
وعندي أن هذه المسألة لا حاجة لها في الدين ، وإنما ذكر الله الأرض وسكونها وعدم حيدانها ، والشمس والقمر وجريانهما دائبين لنزداد إيماناً برحمته بنا وخلق لاما في السماوات والأرض جميعاً لمنافعنا فالنعمة سابغة ، ورحمة الله شاملة لنا ، دارت الأرض أم سكنت .
المؤمن يزداد إيماناً بما ذكرنا الله من نعمه علينا وتكرار آلائه علينا .
(5) مسألة تنفس جهنم نفسين في الشتاء يكون منه شدة البرد ، وفي الصيف يكون منه شدة الحر ، [ كما ] جاء في الحديث الصحيح .
و المسألة نفس لأمر غيبي لا نعرفه فلنؤمن به وبنفسه ، والكيفية عند الله تعالى .(1/287)
(6) جاء في بعض الآثار (1) إن لله بيتاً معموراً فوق السماء السابعة يوازي بيته العتيق بمكة المكرمة ، والمسألة كسابقتها غيب في غيب والإيمان واجب ، والشك بدعة ، والكيف مجهول .
(7) جاء في الحديث أن الله خلق آدم طوله ستون ذراعاً ، فما زال الخلق أي من بنيه يتناقص حتى صاروا إلى ما هم عليه الآن . استشكله ابن خلدون ، ونقل أشكاله الحافظ ابن حجر في ( فتح الباري ) بأن ديار ثمود في الحجر لا تزيد أبوابها عن أبواب ديارنا وهم من القدم على ما يظهر أن يكونوا في نصف الطريق بيننا وبين آدم فكان على هذا يجب أن تطول أبدانهم عنا بنحو ثلاثين ذراعاً ، ولعل أهل الحفريات عثروا على عظام وجماجم قديمة جداً ولا يزيد طولها عن طول الناس اليوم – سمعت حل الإشكال من الشيخ عبيد الله السندي رحمه الله أن الطول المذكور في عالم المثال لا في عالم الأجسام والمشاهدة . فالله أعلم . (2)
__________
(1) قلت التعبير بـ (( الآثار )) قد يوهم أن الحديث المذكور موقوف غير مرفوع ، وليس كذلك ، فقد جاء مرفوعاً في (( الصحيحين )) وغيرهما من حديث أنس رضي الله عنه ، لكن ليس فيه (( يوازي بيته العتيق )) ، وإنما جاءت هذه الزيادة عن قتادة مرسلاً بمعناها بسند صحيح ، ورويت من حديث أبي هريرة وابن عباس مرفوعاً ، وعلي موقوفاً ، مما يشهد مجموعها لثبوتها ، وقد خرجت ذلك في (( الأحاديث الصحيحة )) برقم ( 471 ) .
(2) قلت هذا التأويل أشبه بتأويلات المتكلمين والمتصوفة ، وأني متعجب جداً من حكاية فضيلة الشيخ إياه وإقراره له .
و استشكال ابن خلدون إنما يصح على ما استظهره أن ثمود في نصف الطريق بيننا وبين آدم . وهذا رجم بالغيب ، إذ لم يأت به نص عن المعصوم ، ولا ثبت مثله حتى الآن من الآثار المكتشفة ، بل لعلها قد دلت على خلاف ما استظهره . فيبقى الحديث من الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها دون أي استشكال .
و الحديث المشار إليه أخرجه الشيخان في (( صحيحهما )) . ن
و به انتهى التعليق على هذا الكتاب النافع إن شاء الله تعالى بتاريخ 17 شعبان سنة 1386 من هجرة سيد المرسلين ، وصلة الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .(1/288)
(8) جاء في سورة القمر [ اقتربت الساعة وانشق القمر ] وجاء في الحديث المشتهر المستفيض عن أنس وابن مسعود وغيرهما ثبوت انشقاقه معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإقامة للحجة على طالبيها منه من قريش .
و رأيت لبعض المتأخرين بحثاً تشكيكياً في ذلك ، وقد سألت مدير مرصد حلوان الفلكي :
هل رأيت ما يثبت ذلك فلكياً أو يقربه من العقل ؟ فأجاب : لا .
وشكوك الملاحدة على المسألة معروفة من قديم الزمان .
وعندي أن المسألة ما دامت أنها آية فسبيلها سبيل الآيات ، لا مجال للعقل إلا تكيفها ، ويعجبني من صاحب الكتاب ( الطب الحديث والقرآن ) الأستاذ بكلية الطب عبد الخالق العزيز ( ! ) باشا إسماعيل أنه عندما يمر بمعجزة أو آية كولادة عيسى ابن مريم ومعجزات موسى وإبراهيم وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنه يمر عليهما مر الإيمان بدون تعليل ولا تكييف لأنه معجزة وكفى ، أي فيدل اسمها على عجز العقل عن تكيفها . فلله دره من مؤمن مسلم لما أخبر الله تعالى .
ولعى ذكر آيات الأنبياء ومعجزاتهم فقد انقسم الناس فيها شأنهم في أكثر المسائل ثلاثة طوائف :
طائفة الماديين عمي البصائر ، الذين أنكروها وساروا وراء قردة قلدوهم في الأفكار ، واستحيوا من المسلمين فنافقوا بتأويلها .
وطائفة الخرافيين الذين توسعوا في الخرافات والمخرقات حتى جعلوا كون الله العجيب ملعباً للدجاجلة يلعبون به حسب أهوائهم وأهواء الناس فيهم .
والثالثة : الوسط المؤمن بها من سائر العقلاء والمصدقون بما صح منها نقلاً متواتراً في كتاب الله تعالى ، وصحيح الأخبار عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، مع رفع العصا والنعال في وجوه الدجالين والمخرفين والمظلمين للعامة بمنازعة الله تعالى في ربوبيته والتلاعب بزعمهم في سننه ، طبائع مخلوقاته .
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .(1/289)