الغنية في أصول الدين أبي سعيد النيسابوري (1/1)
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وآله الحمد لله رب العالمين حمدا يزيد ولا يبيد وصلواته على خير خلقه محمد صلاة تنفع مصليها عليه وتفيد ورأفة على أصحابه وأهل بيته رأفة تبدي الرحمة عليهم وتعيد
اعلم وفقك الله للرشاد وهداك إلى الحق والسداد اني لما رأيت ظهور البدع والضلالات وكثرة اختلاف المقالات أحببت أن أتقرب إلى الله تعالى ذكره وجلت قدرته بإظهار الحق من بين المقالات المختلفة وكشف تمويه الملحدة والمشبهة متحريا بذلك جزيل الثواب ومستغنيا به على إيمانه وقدمت عليه فصولا لا بد من معرفتها وآثرت في ذلك التخفيف واجتنبت التطويل وإلى الله أرغب في أن يوفقني للصواب ولا يحرمني في ما أجمعه جزيل الثواب وبه أستعين إنه خير موفق معين
فصل في بيان العبارات المصطلح عليها بين أهل الأصول
منها العالم هو اسم لكل موجود سوى الله تعالى وينقسم قسمين جواهر وأعراض (1/49)
فالجوهر كل ذي حجم متحيز والحيز تقدير المكان ومعناه أنه لا يجوز أن يكون عين ذلك الجوهر حيث هو
وأما العرض فالمعاني القائمة بالجواهر كالطعوم والروائح والألوان
والجوهر الفرد هو الجزء الذي لا يتصور تجرئة عقلا ولا تقدير تجزئة وهما
وأما الجسم فهو المؤلف وأقل الجسم جوهران بينهما تأليف
والأكوان اسم للاجتماع والافتراق والحركة والسكون
فصل في حد العلم
حقيقة العلم معرفة المعلوم على ما هو به
وقالت المعتزلة حقيقة العلم اعتقاد الشيء على ما هو به مع سكون النفس الواقع عن ضرورة أو نظر وقصدوا بذلك نفي علم الباري تعالى
وهذا الحد باطل فإن الله تعالى ليس له نظير ولا زوجة ولا ولد فإن هذه علوم وليست باعتقاد أشياء لأن الشيء عندنا الموجود وعندهم المعدوم الذي يصح وجوده (1/50)
أما الجهل اعتقاد المعتقد على خلاف ما هو به
والشك تردد بين معتقدين من غير ترجيح
والظن أن يترجح أحد المعتقدين على الآخر
والعلم ينقسم إلى قديم وحادث
فالقديم علم الله تعالى وليس بضروري ولا كسبي
والحادث على ثلاثة أقسام ضروري وبديهي وكسبي
فالضروري هو العلم الحادث الذي يلزم ذات العالم لزوما لا انفكاك له منه وليس للشك إليه سبيل وذلك مثل العلم الحاصل عن إدراك الحواس وعلم الإنسان بنفسه وما يلحقه من الألم واللذة وغيرها
وأما البديهي فيقرب من الضروري وهو علم الإنسان باستحالة اجتماع المتضادين مثل الحركة والسكون والسواد والبياض واستحالة كون الموجود الواحد في الوقت الواحد في مكانين ونحو ذلك
وأما الكسبي فالعلم الحاصل عن نظر واستدلال ومن حكمة جواز طريان الشك والإبطال عليه
وأما العقل فهو العلم والدليل عليه أنه لا يحسن أن يقول الرجل (1/51)
علمت وما عقلت أو عقلت وما علمت إلا أنه اسم لنوع من العلم وهو البديهي دون الضروري والكسبي لأن أصل العلوم الضرورية الحواس
ومن الجائز أن يكون الموجود عاقلا ولا حاسة له والكسبي يحصل عن نظر والعقل يسبق النظر
وأما الدليل فهو المرشد إلى المقصود وينقسم ذلك إلى عقلي وسمعي
فالعقلي مثل دلالة الصنع على الصانع
والسمعي خبر الصادق مثل كتاب الله وسنة رسول الله
وأما النظر فهو فكر القلب والتأمل في حال المنظور لطلب حقيقة العلم أو غلبة ظن
والنظر صحيح عندنا ويحصل به العلم
وأنكرت طائفة من الدهرية صحة النظر وقالوا لا معلوم إلا من جهة الحواس وتطرقوا بذلك إلى نفي الصانع
والدليل عليه بطلان قولهم أن نقول لهم عرفتم فساد النظر أو تشكون فيه فإن قالوا نقطع ببطلانه فقد أبطلوا قولهم لا معلوم إلا من جهة الحواس لأن فساد النظر لا يعرف حسا
وإن قالوا الشك في كون النظر طريقا إلى العلم دعوناهم إلى (1/52)
النظر في الدليل فإن نظروا في الدليل واعترفوا بحصول العلم فقد أقروا ببطلان مذهبهم وإن أنكروا حصول العلم فقد قطعوا بأن النظر ليس بطريق إلى العلم وفيه إثبات علم حاصل لا بالحواس
ومن الدليل على بطلان قولهم أن نقول لهم علمتم فساد النظر ضرورة أو بالنظر فإن قالوا ضرورة عكسنا عليهم قلنا نحن علمنا بطلان مذهبكم ضرورة إذ ليس أحد الخصمين بدعوى ضرورة ينفرد بها بأولى من الآخر
وإن قالوا عرفنا بطلانه نظرا فقد أقروا بكون النظر طريقا إلى العلم فإنهم عرفوا بالنظر فساد النظر
فإن قيل يلزمكم مثل ذلك فإنكم جعلتم النظر طريقا إلى العلم فعرفتم ذلك ضرورة أو نظرا فإن قلتم عرفناه ضرورة ادعينا نحن بطلانه ضرورة وإن قلتم عرفنا نظرا فكيف يعرف الشيء بنفسه
قلنا عن سؤالكم يلزمكم لأنه نوع من النظر فإن لم يكن مفيدا فهو لغو وإن كان مفيدا للعلم ببطلان النظر ففيه إقرار بأن النظر يفيد العلم
ثم جوابنا عنه أنا نصحح النظر بنوع من النظر داخل في جملة النظر فصحح نفسه وغيره كالعلم يعلم به المعلومات ويعلم بالعلم نفس العلم وفي كتاب الله تعالى آيات كثيرة وتدل على أن النظر طريق إلى العلم مثل قوله تعالى أفلا ينظرون أو لم يتفكروا وقوله تعالى (1/53)
واعبدوا وذلك أكثر من أن يحصى
فصل
النظر ينقسم إلى صحيح وفاسد
فالصحيح ما يؤدي إلى المقصود والفاسد ما لا يؤدي إلى المقصود
وفساده بطريقة أحدهما بأن يعدل من الدليل إلى الشبهة والثاني بأن يطرأ على الدليل قاطع فيمتنع تمام النظر
فصل
لا واجب عند أهل الحق إلا من جهة الشرع والسمع ولولا ورود الرسل لما وجب على العباد شيء والعقل طريق المعرفة
وذهبت المعتزلة إلى أن العقل موجب حتى لو قدرنا أن الله تعالى لم يبعث إلينا الرسل كان يجب علينا أن نعرف الله ونشكره
والدليل على أنه لا واجب إلا من جهة الشرع قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقوله تعالى وما كان ربك مهلك القرى بظلم حتى يبعث في أمها رسولا
وقوله تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وسنذكر المسألة على الاستقصاء (1/54)
فإن قال قائل إذا نفيتم وجوب الأشياء عقلا وعولتم في وجوبها على السمع كان فيه إبطال النبوات وذلك لأن أول رسول يرد من الله تعالى ويدعو الخلق إليه لا يعلم صدقه إلا بالنظر في معجزته فلا يجب النظر إلا بدليل سمعي وقبل ورود الرسل لم يثبت الشرع ليلزم النظر بحكم ذلك الشرع قال يلزمهم النظر في المعجزة وفيه إبطال النبوات
قلنا عن هذا السؤال يتوجه على من يقول بالوجوب عقلا فإن الطريق عندهم أن العاقل يخطر بقلبه أن له صانعا قد خلقه وأنعم عليه وأراد شكره على ما أنعم عليه ومن لم يخطر له هذا الخاطر وتغافل فليس يعلم وجوب النظر في المعجزة ولا وجوب معرفة الصانع وعندهم معرفة الله والنظر في المعجزة واجب عليه
ثم جوابنا عنه أن نقول لهم ليس من شرط الوجوب عندنا شرع مستقر قبل ورود الرسل ولكن الشرط ورود الرسل وظهور الدلالة في الظاهر وتمكن المخاطب من النظر فيه وإذا وجد ذلك وجب النظر في المعجزة فلم يتضمن قولنا إبطال النبوات
فصل
أول ما يجب على المكلف القصد إلى النظر الصحيح المؤدي إلى العلم بحدوث العالم وإثبات العلم بالصانع
والدليل عليه إجماع العقلاء على وجوب معرفة الله تعالى وعلمنا عقلا أنه لا يعلم حدوث العالم ولا الصانع إلا بالنظر والتأمل وما (1/55)
لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب
مسالة
العالم محدث مخلوق بعد أن لم يكن
وذهبت الدهرية إلى أن العالم قديم وليس له أول ولم يزل كان هكذا ولا يزال يكون هكذا رجل من نطفة ونطفة من رجل وحبة من نبات ونبات من حب ودجاجة من بيضة وبيضة من دجاجة وليل بعد نهار ونهار بعد ليل
والكلام في هذه المسالة على طريقين إثبات أصول ومقدمات إذا صحت وثبتت ثبت حدوث العالم
والثاني يدل على بطلان مذهبهم واستحالة قولهم
أما الطريق الأول فيعتمد على ثلاثة أصول الأصل الأول يدل على إثبات الأعراض وهي المعاني القائمة بالجواهر
وأنكرت طائفة من الملحدة الأعراض بالكلية وقالوا لا موجود إلا الجواهر
والدليل على ثبوت الأعراض انا نرى الجوهر ساكنا فيتحرك ويزول عن جهته التي كان فيها إلى غيرها مع جواز أن لا يتحرك ويبقى في جهته فإذا كان من الجائز أن لا يتحرك فإذا اختص بالحركة بدلا عن استمرار السكون لا بد له من موجب أوجب زواله عن محله (1/56)
ثم الموجب لا يخلو إما أن يكون نفسه وهو محال لأن نفسه كان موجودا قبل ذلك الوقت وبعده والحركة غير موجودة فثبت أن الموجب أمر زائد عليه
فإذا ثبت أنه يقتضي معنى زائدا عليه فلا بد وأن يكون ذلك المعنى ثانيا موجودا لأن العدم نفي محض والنفي لا يجوز أن يكون موجبا حكما
فإذا ثبت أن الزائد على الجوهر موجود فلا يخلو إما أن يكون مثل الجوهر أو خلافه ولا يجوز أن يكون مثله لأن مثل الجوهر جوهر آخر فليس أحد الجوهرين بإيجاب حركة في الآخر بأولى من أن يكون الجوهر الآخر موجبا غير تلك الحركة فيه
فإذا ثبت أنه خلافه فلا يخلو إما أن يكون فاعلا مختارا أو معنى قائما به هو الموجب
ولا يجوز أن يكون ذلك الخلاف فاعلا مختارا لأن الكلام في جوهر موجود والموجود لا يفعل بل يستغني بوجوده عن الفاعل فثبت أنه معنى زائد عليه قائم به وهو ما ذكرناه من الأعراض
الأصل الثاني يدل على أن ما أثبتناه من الأعراض حادثة والدليل (1/57)
عليه أن الجوهر الساكن إذا تحرك فقد طرت عليه الحركة ودل طريانها على انتفاء السكون عنه وانتفاء السكون دليل حدوثه لأن القديم يستحيل عدمه
فإن قيل ولم أنكرتم على من يقول أن الحركة ما حدثت والسكون ما انتفى ولكن الحركة كانت كامنة فظهرت والسكون كان ظاهرا فكمن وتستر
قلنا لو كان كذلك لاجتمع الحركة والسكون في المحل وقد علمنا استحالة كون الشيء الواحد متحركا ساكنا فكذلك يستحيل اجتماع الحركة والسكون فإن قيل ولم قلتم أن القديم يستحيل عدمه
قلنا الدليل على استحالة عدمه أنه لو جاز عدمه لكان لا يخلو اما أن يقال عدمه حالة ما يعدم واجب حتى يستحيل عليه البقاء على تلك الحال أي حالة الوجود أو يقال عدمه في تلك الحالة من الجائزات ويجوز أن يستمر وجوده في تلك الحالة أي حالة الوجود بدلا عن العدم ولا يجوز أن يكون العدم في تلك الحالة واجبا حتى لا يجوز استمرار الوجود لأنا نجوز بقاء الحركة في المتحرك حالة ما سكن ولو كان عدم الحركة واجبا لاستحال تقدير بقائها في تلك الحالة وإن كان عدمه جائزا واستمرار الوجود جائزا فمحال لأنه إذا جاز بقاؤه وجاز عدمه فلا يختص بأحد الجائزين إلا بمخصص يقصد إلى التقديم لأجل الجائزين على (1/58)
الآخر وهم أنكروا الصانع والمخصص
فإن قيل ولم لا يجوز أن يكون عدمه لضد يطرأ عليه فيبطله
قلنا هذا محال لأن الطارئ كما يضاد القديم فالقديم يضاد الطارئ أيضا فلم كان إبطال القديم بالضد الطارئ أولى من امتناع ثبوت الطارئ بمضادة القديم له
فإن قيل ولم لا يجوز أن تكون الحركة قد انتقلت من جوهر آخر إليه
قلنا الحركة هو الانتقال ولو افتقر الانتقال إلى انتقال آخر لافتقر ذلك الانتقال إلى انتقال آخر ثم لا يزال كذلك فيتسلسل وذلك محال
الأصل الثالث أن عند أهل الحق يستحيل خلو الجواهر عن الأعراض
بيانه أنه لا يجوز أن يكون جوهر لا يكون له لون أصلا ولا يكون له طعم أصلا ولا يكون ساكنا ولا متحركا وكذلك لا يجوز أن يكون جواهر لا متصلة مجتمعة ولا متباينة متفرقة
وذهبت جماعة من الملحدة إلى جواز خلو الجواهر عن جميع الأعراض وجوز الكعبي من المعتزلة تعرى الجواهر عن الأكوان وهو الاجتماع والافتراق والحركة والسكون ولم يجز تعريها مما سواه من الأعراض
وأما معتزلة البصرة جوزوا تعريها من الأكوان وسائر الأعراض غير (1/59)
الأكوان إلا أن جملة المعتزلة وافقونا على أن الجوهر بعدما اتصف بالأعراض يستحيل خلوه عنها وإنما جوزوا ذلك في ابتداء الحدوث
فأما إذا أردنا الكلام مع الملحدة نفرض في الأكوان فنقول الجواهر القابلة للاجتماع والافتراق غير مجتمعة ولا متباينة لا يعقل
وأيضا فإنهم جوزوا الاجتماع والافتراق فيما لا يزال ولا يعقل اجتماع موجودين إلا عن افتراق سابق ولا افتراق موجودين إلا عن اجتماع سابق
وأما الرد على المعتزلة فيستدل على الكعبي بالألوان وسائر الأعراض فنقول
لو جاز تعري الجوهر عن الأكوان لجاز عن الألوان
ويستدل على معتزلة البصرة بالأكوان فنقول لما لم يجز تعري الجواهر عن الأكوان لا يجوز عن الألوان
ويستدل على الفريقين بمناقضتهم حيث قالوا بعد قبوله للأعراض لا يجوز خلوه عن الأعراض فنقول كل عرض اتصف به المحل لا ينتفي إلا عند طريان ضده ولا يزول البياض إلا عند طريان السواد ولا الحركة إلا عند طريان السكون
والضد إنما يطرى على زعمهم بعد انتقال لعرض الموجود الذي كان في المحل
فإذا زال العرض فهلا جاز أن لا يدخل فيه الضد لو كان تعرية جائزا (1/60)
في الابتداء ولما استحال ذلك في الإنتهاء فكذلك في الابتداء
فإذا تقررت هذه الأصول ثبت حدوث العالم لأن الأعراض حادثة والجواهر لا تخلوا من الأعراض
وإذا لم يتصور خلو الجواهر من الأعراض وما لا يسبق الحادث فهو حادث
الطريقة الثانية تدل على استحالة حوادث لا أول لها فنقول (1/61)
للدهرية من أصلكم أن لا نبات إلا من حب ولا حب إلا من نبات وقد وجد أعدادا لا نهاية لها وانقضت وظهر لها أعداد أخر وهو ما نشاهده في الوقت وحوادث لا نهاية لأعدادها ولا غاية لآحادها كلها حاصلة في الوجود لا يعقل انقضاؤها وتناهيها لأن ما لا نهاية له كيف ينقضي ويفنى ولما ظهر آخر الحوادث والأعداد ثبت انه كان له ابتداء حتى ظهر له انتهاء
فإن قيل أليس من قولكم أن نعيم أهل الجنة لا آخر له ولها ابتداء (1/62)
وعقوبة أهل النار لا آخر لها ولها ابتداء فإذا جاز حصول حوادث لا آخر لها ولها ابتداء فلم لا يجوز حصول حوادث لا أول لها ولها آخر
قلنا هذا الكلام ساقط لأن نعيم أهل الجنة وعقوبة أهل النار معلوم الابتداء والانتهاء في كل وقت وأما الذي لا يتناهى ولا يحصى ما هو مقدور الله تعالى من النعمة والعقوبة فالله تعالى يجدد كل وقت لأهل الجنة نعمة ولأهل النار عقوبة ومقدوراته لا نهاية لها فما يثبته غير متناهي لم يحصل في الوجود وأنتم أثبتم أعدادا كلها حصلت في الوجود وانتهت وانتهاء أعداد موجودة لا نهاية لها مستحيل
ويستشهد على هذه الجملة بصورة يتضح الغرض بها وذلك أن يقول الرجل لولده لا أعطيك درهما إلا وأعطيك قبلة دينارا ولا أعطيك (1/63)
دينارا إلا وأعطيك قبلة درهما فلا يتصور العطاء بحكم الشرط أن يعطيه لا دينارا ولا درهما لأن الولد متى طالبه بالدرهم يقول حتى أعطيك دينارا وإذا طالبه بالدينار يقول حتى أعطيك درهما فهذا نظير ما جوزوه فإن النبات عن الحب والحب عن النبات ولاحب إلا وقبله نبات ولا نبات إلا وقبله حب وقد حصل الجميع وانقضى
ومثال ما جوزنا أن يقول الرجل لولده لا أعطيك دينارا إلا بعده أعطيك درهما ولا أعطيك درهما إلا وأعطيك بعده دينارا فيعطيه من الدراهم والدنانير ما يزيد ولا يمتنع العطاء بحكم الشرط فظهر فساد قولهم
ويتضح ذلك بآيات من كتاب الله تعالى قال الله تعالى وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا وقال الله تعالى قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار
مسألة
إذا ثبت حدوث العالم ترتب عليه ثبوت الصانع والدليل (1/64)
على أن للعالم صانعا أنه لا موجود في وقت من الأوقات إلا ومن الجائز حدوثه وظهوره قبل ذلك الوقت ومن الجائز حدوثه وظهوره بعد ذلك الوقت بزمان فإذا اختص في ذلك الوقت بالوجود بدلا عن استمرار العدم اقتضى مخصصا اختار الوجود في تلك الحالة
وإذا ثبت أنه يقتضي مخصصا فلا يجوز أن يكون المقتضي علة أوجب وجوده في تلك الحالة كما توجب الحركة كون المحل متحركا والسواد كون المحل اسودا لأن العلة توجب الحكم مقارنا لها لا تتقدمها ولا تتأخر عنها
فإذا كان حكم العلة يقارن العلة فالعلة لا تخلو إما أن تكون قديمة أو محدثة فإن كانت قديمة أوجبت قدم العالم وقد دللنا على حدوثه وإن كانت العلة حادثة أيضا تفتقر إلى مخصوص ومقتضي
ثم للكلام في علة العلة مثل ذلك والقول بهذا يؤدي إلى التسلسل
ولا يجوز أن يكون المخصص والمقتضي طبيعة لأن على قول من يثبت الطبيعة يظهر تأثير الطبيعة عند ارتفاع المواقع من غير تأخير وإذا (1/65)
كان تأثير الطبيعة لا يتأخر فالطبيعة إن كانت قديمة أوجبت قدم العالم وإذا كانت حادثة اقتضت مخصصا موجودا وإذا بطل ذلك ثبت أن المخصص فاعل مختار أراد الوجود بدل عن العدم
ومن الدليل على إثبات الصانع أنه لا يتصور في العقول بناء بلا بان وكتابة بلا كاتب فكيف يتصور خلق بلا خالق
ويتضح ذلك بآيات من كتاب الله تعال قال الله تعالى أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وقوله والله خلقكم وما تعملون وغير ذلك من الآيات
مسألة
إذا ثبت أن للعالم صانعا فالصانع واحد ووصفنا البارئ تعالى بأنه واحد له معنيان أحدهما أن ذاته غير منقسم على معنى أنه ليس له أجزاء وأبعاض بل هو واحد على التحقيق
والمعنى الثاني أنه لا نظير له ولا مثل له وكلا المعنيين حقيقة
والدليل على استحالة إثبات الأجزاء والأبعاض أنه إن كان له أجزاء لم يخل أما أن يكون كل جزء منه حيا عالما قادرا أو كان بعض الأجزاء مختصا بالحياة والعلم والقدرة فإن كان كل جزء منه حيا عالما قادرا كان في ذلك إثبات آلهة ويستدل على بطلانه وإن كانت الحياة والقدرة والعلم في جزء مخصوص لم يكن الجزء الثاني حيا عالما قادرا لاستحالة وجود العلة في محل وثبوت حكمها في محل آخر كما يستحيل (1/66)
وجود سواد في بعض أجزاء الثوب ويكون الباقي من الثوب أسود وإذا ثبت أن الجزء الثاني لا يكون حيا عالما قادرا لم يكن مستحقا لصفات الإلهية لم يكن إلها ويتضح ذلك بقوله وإلهكم إله واحد
وأما الدليل على أنه لا مثل له ولا نظير له أنا لو قدرنا إلهين اثنين وقدرنا أن أحدهما أراد تحريك جسم وأراد الثاني تسكينه لم يخل عن ثلاثة أحوال إما أن يحصل مرادهما أو لا يحصل مرادهما أو يحصل مراد أحدهما دون الثاني ولا جائز أن يحصل مرادهما جميعا لاستحالة أن يكون الجسم الواحد في الحالة الواحدة متحركا ساكنا وإذا لم يحصل مراد واحد منهما كانا جميعا عاجزين لا يصلحان للإلهية
وأيضا فإنه يؤدي إلى خلق الجسم القابل للحركة والسكون عن الأمرين جميعا وإن حصل مراد أحدهما دون الآخر فهو الإله والثاني عاجز لا يصلح للإلهية وهذا معنى قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا والمعنى أدى إلى التناقض والاختلاف وأن لا يجري الأمر على النظام
فإن قال قائل رتبتم هذه الدلالة على اختلاف القديمين في الإرادة وبم أنكرتم على من يثبت إلهين قديمين لا مختلفان ولا يريد أحدهما إلا ما يريد الثاني
الجواب إن هذا السؤال لا يقدح في الدليل لأنهما وإن كان لا يختلفان إلا أن من الجائز تقدير الاختلاف بينهما وإن أحدهما يريد الحركة (1/67)
والثاني يريد السكون ولو حصل الاختلاف بينهما كان دلالة نفي الإلهية
قكذا إذا كان الاختلاف مجوزا بينهما لأن ما دل وقوعه على حكم دل جوازه عليه ألا ترى أن قيام الحوادث بالشيء دل على حدوثه ثم جواز قيام الحوادث به أيضا يدل على حدوثه
فإن قيل بم ينكرون على من يثبت إلهين لا يختلفان ولا يجوز عليهما الاختلاف
قلنا هذا باطل فأنا لو قدرنا أحدهما منفردا بالإلهية لم يكن من الممتنع أن يريد تحريك جسم ولو قدرنا الثاني منفردا لا يستحيل أن يريد تسكين جسم في ذلك الوقت بعينة واحد الذاتين منفردا عن الآخر فيستحيل أن يتغير حكم ذات بوجود ذات آخر كما يستحيل أن يزول السواد عن محل بوجود السواد في محل آخر وبوجود البياض في محل آخر فعلم أن ما ادعوه مستحيل
فإن قيل ولم لا يجوز أن يكون إلهان ويكون مقدورات كل واحد منهما يتناهى فما يقدر عليه أحدهما من المخلوقات لا يقدر عليه الثاني حتى لا يؤدي إلى الاستحالة
قلنا هذا السؤال لا يقدح في الدلالة لأنا فرضنا الكلام في جنس من الأعراض وهو الحركة والسكون
فإن زعم أنهما جميعا لا يقدران على الحركة والسكون أدى إلى (1/68)
خلق الجسم القابل للحركة والسكون عن الوصفين جميعا وهو مستحيل وان قدر السكون مقدور أحدهما والحركة مقدور الثاني وقعا في التمانع على ما سبق ذكره
فإن قال جملة الأكوان مقدور أحدهما دون الآخر فتفرض في جنس آخر من الأعراض مثل الألوان
فنقول ما قولكم فيما لو أراد أحدهما أن يكون بعض المحال أسود وأراد الثاني بياضه
فإن قال وجملة الألوان مقدور أحدهما أيضا دون الثاني نفرض في نوع آخر من الأعراض مثل الطعوم والروائح الى أن نثبت اشتراكهما في جنس من الأعراض أو نقول جملة الأعراض مقدور أحدهما دون الثاني فإذا ثبت الاشتراك في نوع من الأعراض وقعا في التمانع وأن قال جنس الأعراض مقدور أحدهما فنقول الثاني هل يقدر على خلق الجوهر أم لا فإن قال لا يقدر الثاني على أن يخلق الجوهر فقد خرج عن القدرة بالكلية وان قال الثاني قادر على الجوهر كان محالا لأن من المستحيل خلق الجواهر عن الأعراض والقدرة لا تتعلق بما يستحيل وجوده
فإن قيل بم أنكرتم على من يثبت قديمين أحدهما قادر والثاني (1/69)
عاجز وايش فيه من الاستحالة
قلنا إثبات قديم عاجز محال وذلك لأنه لو كان عاجزا " قديما " لكان عاجزا " بعجز قديم قائم به واثبات عجز قديم محال لأن معنى العجز امتناع إيقاع الفعل الممكن في نفسه وذلك يقتضي إمكان الفعل أزلا " ثم الحكم بأن العجز مانع منه
وإذا وجب أن يكون والإمكان سابقا " لم يكن العجز قديما " وهذا كما أن إثبات حركة قديمة محال لأنه يقتضي سكونا " سابقا " وإذا سبق السكون لم تكن الحركة قديمة
فإن قيل أليس أنتم أثبتم قدرة قديمة وكما يقتضي العجز إثبات إمكان الفعل أزلا " ثم الحكم بالعجز عنه يقتضي القدرة تمكنا " من الفعل أزلا ثم لا يلزمكم من ذلك إثبات إمكان فعل أزلي فكذا لا يلزمنا بإثبات عجز قديم إثبات إمكان الفعل في الأزل
قلنا ليس في إثبات قدرة قديمة استحالة لأن من الجائز سبق القدرة على المقدور ألا ترى أنا لو قدرنا في الشاهد لواحد منا قدرة باقية مستمرة ولم يكن من المستحيل تقدمها على المقدور وليس من الشرط ظهور المقدور مع ظهور القدرة بل قد يمتنع مع تحصيل مقدور مع وجود القدرة فأما العجز عن الفعل يستحيل أن يكون مقارنا " للتمكين من الفعل ولو ثبت عجز قديم لاقتضى ذلك إمكان فعل قديم فبطل قولهم
مسألة
صانع العالم موجود حقيقة
وأنكرت طائفة من الباطنية ذلك وقالوا لا نقول انه سبحانه وتعالى (1/70)
موجود لأنا قد علمنا أن الحوادث موجودات فلو أثبتنا منه الوجود في حقه تعالى لكان في ذلك إثبات التشبيه من حيث انه اتصف بصفة تتصف بها الحوادث والتشبيه في حقه محال في طريقهم فيما يسألون عنه النفي فيقولون صانع العالم ليس بمعدوم
والدليل على فساد قولهم أنا قد أقمنا الدلالة على أنه لا بد للعالم من صانع والصانع لا يجوز أن يكون عدما " لأن العدم نفي محض ليس له صفة إثبات فلا نفرق بين أن نقول لا صانع للعالم وبين أن نقول له صانع هو نفي وعدم
والدليل على بطلان قولهم انهم قالوا ليس بمعدوم وإذا نفوا العدم ثبت الوجود إذ ليس بين الوجود والعدم واسطة
وقولهم أن في وصفنا له بالوجود إثبات التشبيه خطأ لأن الدليل دل على ثبوت الصانع والحوادث ثابتة فثبت بها التشبيه على مقتضى قولهم فيلزمهم نفي الصانع
وإن زعموا أنا لا نسميه ثابتا لم يتفهم ذلك فإن التماثل والاختلاف يتعلق بما دل الدليل على ثبوته لا بما يطلق من التسميات والعبارات فنفيهم تسمية الوجود والإثبات لا ينفعهم على أنه كان يمكنهم إثبات صفة الوجود للباري تعالى ونفيه عن الحوادث بأن نقول لا نسمي الحوادث موجودات فيحصل به غرضهم فلم صاروا إلى نفي هذه الصفة في حقه وإثباتها للحوادث (1/71)
مسألة
الباري تعالى قديم والقديم في عرف اللسان اسم لموجود تقدم على غيره زمانا طويلا كما يقال رسم قديم ودار قديمة وقال تعالى حتى عاد كالعرجون القديم
ومعنى وصفنا للباري تعالى بالقدم انه لا أول لوجوده
واطلاق الإسم له على سبيل الأول لأن ما تقدم على غيره زمانا معلوما إذا سمي قديما فما لا أول له أولى أن يكون قديما
والدليل على أنه قديم أنه لو كان حادثا لافتقر إلى محدث آخر فيتسلسل ذلك ويؤدي إلى إثبات حوادث لا أول لها وفي ذلك حكم بإثبات قدم العالم
فإن قيل يلزمكم مثل ذلك في إثبات موجود لا أول له وذلك لأنه لا يعقل استمرار الوجود إلا في أوقات متعاقبة لا نهاية لها وفيه إثبات حوادث لا نهاية لها
قلنا هذا السؤال غلط فإن حقيقة الوقت مقارنة موجود بموجود يقال وقت طلوع الشمس إذا قاربت الشمس مشرقها ووقت دخول الأمير إذا قرب من البلد وفي العرف عبارة عن حركات الفلك
وإذا ثبت هذا فليس من شرط الوجود حركات الفلك ولا اقتران موجود آخر به إذا لم يتعلق أحد الموجودين بالثاني مثل تعلق الصنع بالصانع (1/72)
والدليل على ذلك انه لو افتقر كل موجود إلى وقت فالأوقات موجودة فتفتقر إلى وقت آخر وذلك يؤدي إلى مالا يتناها
وإذا تقرر ما ذكرناه فالباري سبحانه وتعالى منفرد بوجوده لا يقارنه حادث
مسالة
الباري سبحانه وتعالى قائم بنفسه
واختلفوا في معناه فقال بعضهم معنى القائم بنفسه المستغني عن المحل فعلى هذه الطريقة الجواهر أيضا قائمة بنفسها لاستغنائها عن المحل فان من الجائز أن يخلق الله تعالى جوهرا واحدا لا يكون مع غيره
وقال الأستاذ أبو إسحاق الاسفراييني القائم بالنفس المستغني من جميع الوجوه
فعلى هذا الجوهر لا يكون قائما بنفسه لحاجته إلى الصانع والمخصص
والغرض من هذا الفصل نفي الحاجة إلى المحل والجهة خلافا للكرامية والحشوية والمشبهة الذين قالوا أن لله جهة فوق
وأطلق بعضهم القول بأنه جالس على العرش مستقر عليه تعالى الله عن قولهم (1/73)
والدليل على أنه مستغني عن المحل إنه لو افتقر إلى المحل لزم أن يكون المحل قديما لأنه قديم أو يكون حادثا كما أن المحل حادث وكلاهما كفر
والدليل عليه أنه لو كان له محل لاتصف المحل به لأن ما قام بمحل يتصف به المحل ألا ترى أن السواد إذا قام بمحل يتصف به المحل حتى يسمى المحل أسودا والعلم إذا قام بمحل يسمى عالما وإذا كان هو صفة المحل لم يجز أن يكون قادرا عالما لأن الصفة لا تقبل الصفة والأحكام التي هي موجبات المعاني كالعلم لا يجوز أن يكون قادرا والقدرة لا يجوز أن تكون عالمة وسنبين أن الباري تعالى حيا عالما قادرا إلى غير ذلك
والدليل عليه أنه لو كان على العرش على ما زعموا لكان لا يخلو أما أن يكون مثل العرش أو أصغر منه أو أكبر وفي جميع ذلك إثبات التقدير والحد والنهاية وهو كفر
والدليل عليه أنه لو كان في جهة وقدرنا شخصا أعطاه الله تعالى قوة عظيمة واشتغل بقطع المسافة والصعود إلى فوق لا يخلو أما أن يصل إليه وقتا ما أو لايصل إليه
فإن قالوا لا يصل إليه فهو قول بنفي الصانع لأن كل موجودين بينهما (1/74)
مسافة معلومة وأحدهما لا يزال يقطع تلك المسافة ولا يصل إليه يدل على أنه ليس بموجود
فإن قالوا يجوز أن يصل إليه ويحاذيه فيجوز أن يماسه أيضا ويلزم من ذلك كفران أحدهما قدم العالم لأنا نستدل على حدوث العالم بالافتراق والاجتماع
والثاني إثبات الولد والزوجة على ما قالت النصارى لأن الذي يقطع المسافة ويصعد إلى فوق يجوز أن يكون امرأة تتصل به وكل ذلك كفر وضلال تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
فإن استدلوا بظواهر الكتاب والسنة مثل قوله سبحانه وتعالى الرحمن على العرش استوى وقوله تعالى في قصة عيسى عليه السلام إني متوفيك ورافعك إلي وقوله سبحانه وتعالى يخافون ربهم من فوقهم ومثل قوله عليه السلام ينزل الله (1/75)
في كل ليلة إلى سماء الدنيا وغير ذلك من الآيات والأخبار فلأصحابنا في ذلك طريقان
أحدهما الإعراض عن التأويل والإيمان بها كما جاءت والإيمان بها صحيح وإن لم يعرف معناها كما أن إيماننا بجميع الأنبياء والملائكة صلوات الله عليهم والكتب المنزلة من الله تبارك وتعالى صحيح وإن لم يعرف شيئا في ذلك وإيماننا بالحروف المقطعة في أوائل السور صحيح وإن لم نعرف معناها وهذا الطريق أقرب إلى السلامة
ومن أصحابنا من صار إلى التأويل والاختلاف صادر عن اختلاف القراءتين في قوله تعالى فيه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات إلى قوله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به
فمن صار إلى الوقف على قوله وما يعلم تأويله إلا الله أعرض عن التأويل وجعل قوله والراسخون في العلم كلاما مبتدأ ومعناه أن العلماء يقولون آمنا به (1/76)
ومن صار إلى الوقف على قوله والراسخون في العلم فيكون معناه أن الله تعالى يعلم تأويله والراسخون في العلم أيضا يعلمون تأويله صار إلى التأويل
ولكن الطريق في الجواب معهم أن نعارضهم بآيات تخالف ظواهرها ظواهر هذه الآيات وذلك مثل قوله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة إلا وهو رابعهم إلى قوله تعالى هو معهم أين ما كانوا وقوله تعالى وهو معكم أين ما كنتم وموجب الآيتين حلوله في كل مكان وقال تعالى ألا انه بكل شيء محيط ومقتضى ظاهرها انه محيط بالعالم
فإن أعرضوا عن تأويل هذه الآيات مع الإيمان بظواهرها والاعتقاد بأنه لا يكون في كل مكان وأنه غير محيط بالعالم أعرضنا نحن عن التأويل وصرنا إلى الإيمان بما ورد مع الاعتقاد بأن الحق تعالى منزه عن المكان وإن صاروا إلى التأويل وقالوا المراد بقوله تعالى وهو معكم أين ما كنتم بالعلم لا بالذات وكذلك قوله تعالى ألا انه بكل شيء محيط يعني بالعلم ضربا إلى التأويل
وقلنا المراد بقوله الرحمن على العرش استوى بالقدرة
فإن قيل إذا حملتم على القدرة لم يكن لتخصيص العرش فائدة
قلنا فائدته أن العرش أعظم المخلوقات فإذا قدر عليه علم من طريق التنبيه أنه قادر على ما هو دونه على أن مثل هذا يلزمهم فيما قالوا (1/77)
بأن الله تعالى عالم بكل مخلوق غير بني آدم فإذا حملوا على العلم لم يكن لتخصيص بني آدم فائدة
فإن قالوا خص بني آدم تشريفا لهم
قلنا وخص العرش بذلك تشريفا له
فإن قيل الاستواء إذا كان بمعنى القهر والغلبة فيقتضي منازعة سابقة وذلك محال في وصفه قلنا والاستواء بمعنى الاستقرار يقتضي سبق الاضطراب والانزعاج وذلك محال في وصفه
وأما قوله تعالى ورافعك إلي معناه إلى كرامتي ورحمتي
وقوله يخافون ربهم من فوقهم معناه يخافون ربهم أن ينزل عليهم عذابا من فوقهم وإنما خص جهة فوق لأن الله تعالى أجرى سنته أن ينزل العذاب من فوق
وأما قوله عليه السلام ينزل الله في كل ليلة إلى سماء الدنيا والمراد به انه يبعث ملكا إلى سماء الدنيا حتى ينادي على ما ورد في الخبر ثم أضاف نزول الملك إلى نفسه كما يقال نادى الأمير في البلد إذا أمر بالنداء ويقال قتل الأمير فلانا والقاتل غيره ويضاف إلى الأمير من حيث إنه هو الآمر به (1/78)
فإن استدلوا بعرف الناس ورفع أيديهم إلى السماء عند الدعاء فرفع اليد إلى السماء ليس لأن الله تعالى في مكان ولكن لأن السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة في حال القيام والأرض قبلة في حال الركوع والسجود
وليعلم أن الله تعالى ليس في الكعبة ولا في الأرض وإن استدلوا بقصة المعراج وان رسول الله حمل إلى جهة فوق وبقوله تعالى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فليس فيها حجة لأن موسى عليه السلام سمع الكلام على الطور وكان ميعاده الطور ولم يدل على أن الله تعالى على الطور
وقال في قصة إبراهيم إني مهاجر إلى ربي وكانت هجرته إلى الشام ولم يكن الباري تعالى في الشام فبطل قولهم
وأما قوله تعالى ثم دنا فتدلى فذلك دنو كرامة لا مجاورة كقوله واسجد واقترب
مسألة
الباري تعالى لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء وحقيقة هذه المسألة تتبين (1/79)
على معرفة حقيقة المثلين والخلافين فحقيقة المثلين عندنا كل موجودين ينوب أحدهما مناب الآخر ويقوم مقامه
وذهب أبو هاشم إلى أن حد المثلين المشتركين في أخص الأوصاف
ثم زعموا أن الاشتراك في الوصف الأخص لو كان يوجب الاشتراك في سائر الصفات لكان الاختلاف في الأخص يوجب الاختلاف في سائر الصفات ورأينا أن الحركة مع السواد يختلفان في الأخص وإن أخص أوصاف الحركة الزوال عن المكان وأخص أوصاف السواد أنه يسود المحل
ثم يشتركان في أوصاف العموم وهو كونهما موجودين عرضين حادثين وإذا ثبت ما ذكرناه ثبت أن الله تعالى ليس له مثل لأنه لو كان له مثل وجب قدم العالم أو حدوث الباري وكل واحد منهما كفر
وتتضح هذه الجملة بقول الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وقوله لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
مسألة
الباري تعالى ليس بجسم (1/80)
وذهبت الكرامية إلى أن الله تعالى جسم
والدليل على فساد قولهم أن الجسم في اللغة بمعنى التأليف واجتماع الأجزاء والدليل عليه أنه نقول عند زيادة الأجزاء وكثرة التأليف جسم واجسم كما يقال عند زيادة العلم عليم واعلم وقال تعالى وزاده بسطه في العلم والجسم فلما كان وصف المبالغة كزيادة التأليف دل على أن أصل الإسم للتأليف فإذا ثبت ما ذكرنا بطل مذهبهم لأن الله تعالى لا يجوز عليه التأليف
فإن قالوا نحن نريد بقولنا جسم أنه موجود ولا نريد به التأليف
قلنا هذه التسمية في اللغة ليس لها ذكر ثم وهي مبنية على المستحيل فلم أطلقتم ذلك من غير ورود السمع به
وما الفصل بينكم وبين من يسميه جسدا ويريد به الموجود وإن كان يخالف مقتضى اللغة فإن قيل أليس يسمى نفسا
قلنا أتبعنا فيه السمع وهو قوله تعالى تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ولم يرد السمع بالجسم
مسألة
لا يجوز قيام حادث بذات الباري تعالى (1/81)
وزعمت الكرامية أنه يقوم بذات الباري تعالى قول حادث وهو قوله للأشياء كن موجودا أو عرضا أو جوهرا فيحصل في الوجود فيحدث في نفسه أولا هذا القول ثم يحدث ذلك الشيء بعد حدوث هذا القول لا محالة حتى لو أراد أن لا يحدث ذلك كان مستحيلا
ثم زعموا انه لا يتصف بهذا القول ولا يسمى به قائلا وإنما هو قائل بقائلية قديمة والقائلية عندهم القدرة على القول
والدليل على بطلان قولهم أنه لو قبل ذاته الحوادث لم يخل منها كما أن الجواهر لما قبلت الحوادث لم يتصور خلوها من الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث لأنهم قالوا يقوم بذاته قول حادث ثم لا يتصف به ولو جاز قيام حادث بمحل من غير أن يتصف به المحل لجاز في الشاهد أن يقوم بمحل قول وإراده ثم لا يتصف بكونه قائلا ومريدا
ولأنه لو جاز أن يقوم بذاته قول حادث لجاز أن يقوم بذاته لون حادث لأن الحق تعالى جسم على قولهم وهو متحيز ومختص بجهة ولا يتقرر في العقول جسم متحيز يخلو عن الألوان ولجاز أن يقوم بذاته قدرة حادثه وعلم حادث فإن استدلوا بقوله تعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون فدل على أنه يحدث قولا عند إرادته خلق الأشياء
فالجواب أن في الآية دلالة على أن قوله ليس بحادث لأنه لو (1/82)
كان حادثا لما جاز حدوثه إلا بقول آخر يسبقه ثم القول الآخر أيضا لا يجوز حدوثه إلا بآخر يسبقه لأنه حادث يريد وجوده وذلك يؤدي إلى التسلسل وإلى ما لا يتناهى وهو محال
مسالة
الباري سبحانه وتعالى ليس بجوهر
وقالت النصارى هو جوهر وزعموا أن المراد بقولهم جوهر أنه اصل الأقانيم الثلاثة وهي الوجود والحياة والعلم ويعبرون عن الوجود بالأب وعن العلم بالكلمة وقد يسمونه ابنا ويعبرون عن الحياة بروح القدس
ولا يعنون بالكلمة الكلام لأن الكلام عندهم مخلوق
ثم الأقانيم عندهم هي الجوهر بلا زيادة والوجود واحد الأقانيم الثلاثة فليس الأقانيم موجودات عندهم
ثم زعموا أن الكلمة جلت جسم عيسى كحلول العرض في الجوهر
وقال بعضهم الكلمة مازجت جسد المسيح كالخمر مازج اللبن
والدليل على أنه لا يوصف بأنه جوهر أن الجواهر لا تخلو من الحادث وقد ثبت بالدليل أنه لا يجوز أن يوصف ذاته بالحوادث ولأن الجوهر متحيز والحق تعالى لا يجوز أن يكون متحيزا (1/83)
والدليل على فساد قول ترهات النصارى أن نقول لهم بم أنكرتم على من يثبت أربعة أقانيم ويعد القدرة أقنوما آخر مثل العلم سواء وبماذا يترجح قولكم على قولهم ولأن الكلمة على زعمهم حلت في المسيح فهل فارقت الجوهر أم لا
فإن زعموا بأن العلم فارق الجوهر لم يجز أن يكون الجوهر أقل من ثلاثة أقانيم حين صار العلم حالا في جسد المسيح
فإن قالوا لم يفارقه فكيف حل جسد عيسى مع قيامه بالجوهر الأول إذ لا يجوز حلول صفة في جسم مع بقائها في جسم آخر ولأنه لو جاز أن تحل الكلمة في المسيح لجاز أن يحل الجوهر بنفسه في المسيح وما الفصل ولأنه لو جاز أن تحل الكلمة في المسيح جاز أن يحل فيه روح القدس وهي أقنوم فإن من حكم العلم أن لا يفارق الحياة ولا يتصور وجوده دون الحياة
ويقال لهم بم تنكرون على من يقول أن الكلمة حلت جسد موسى ولذلك كان يقلب العصا ثعبانا ويفلق البحر ولأنهم قالوا أن المسيح ابن الآله واتفقوا أن المسيح لاهوت وناسوت حتى أطلقوا القول بأنه صلب المسيح وقالوا إنما صلب الناسوت دون اللاهوت واطلاق إسم الآله يقتضي تمحض الآلهية (1/84)
مسألة
الباري سبحانه ليس بعرض والدليل عليه أن العرض لا بد له من محل يقوم به والباري تعالى لا يجوز أن يكون في محل
والدليل عليه أن الدلالة قد دلت على حدوث الأعراض والخالق لا يجوز أن يكون حادثا
والدليل عليه أن الدليل قد دل على كونه عالما قادرا حيا والعرض لا يقبل الصفات كالحركة لا توصف بالبياض والسواد
مسألة
الباري تعالى قادر والدليل عليه انا نعلم أن الفعل في الشاهد لا يصح إلا قادر عليه ولطائف صنعه ظاهرة فثبت بذلك كونه قادرا
ويدل عليه من حيث الشرع قوله تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم وغير ذلك من الآيات
مسألة
صانع العالم عالم والدليل عليه أن دلالة العلم في الشاهد ترتب الفعل وانتظامه فإن من رأى أسطرا مكتوبة منظومة يعلم أن ذلك لم يصدر عن جاهل بالخط والترتيب والأحكام والنظام ظاهر في أفعاله يدل على كونه عالما
والدليل عليه من الكتاب قوله تعالى عالم الغيب والشهادة وقوله عالم الغيب فلا يظهر على غيبة أحدا وغير ذلك من الآيات (1/85)
مسألة
الحق سبحانه وتعالى حي والدليل عليه أنه قد ثبت بدلالة العقل قدرته وبانتظام الفعل علمه ولا يجوز أن يكون قادرا عالما ولا يكون حيا فإن الميت والجماد لا يجوز وصفه بالقدرة والعلم
والدليل عليه من الكتاب قوله تعالى وعنت الوجوه للحي القيوم وقوله هو الحي لا إله إلا هو وغير ذلك من الآيات
مسألة
الباري تعالى مريد لأفعاله على الحقيقة وأنكر الكعبي كونه مريدا
والدليل على فساد قول الكعبي انا قد علمنا أن اختصاص أفعال العباد بالوقوع في بعض الأوقات على أوصاف مخصوصة يقتضي القصد منهم إلى تخصيصها بأوقاتها وأوصافها والدلالة العقلية يجب اطرادها شاهدا وغائبا إذ لو جاز أن لا تطرد دلالة الإرادة في الغائب لجاز أن لا تطرد دلالة العلم وهو أحكامها الفعل في الغائب حتى لا يوصف الباري تعالى بكونه عالما
فإن قيل إنما دل اختصاص الفعل بوقت وصفة على القصد في الشاهد لأن علمه لا يحيط بما غاب عنه وإذا لم يحط علمه بوقت وقوع الفعل وصفته لم يكن بد من القصد والباري سبحانه وتعالى عالم الغيب
فيستغنى بعلمه عن كونه مريدا
قلنا لو جاز أن يقال إنه يستغني بكونه عالما عن وصف الإرادة (1/86)
فرقا بين الشاهد والغائب لجاز أن لا يوصف الباري تعالى بالقدرة أيضا لاتصافه بالعلم فرقا بين الشاهد والغائب على أن هذا باطل لأنا لو قدرنا في الشاهد فاعلا علم ما سيكون من فعله باخبار صادق ووقت وقوعه وصفته لم يكن بد من الإرادة والقصد وقت الفعل فبطل أن يكون وصف الإرادة في الشاهد لفقد العلم
فإن قالوا والفعل في الشاهد أيضا لا يدل على القصد والإرادة وإنما عرفنا القصد والإرادة بدليل آخر
قلنا لو جاز مثل هذا في الإرادة لجاز أن يقال الفعل المحكم المتقن لا يدل على العلم في الشاهد وإنما عرفنا العلم في الشاهد بدليل آخر والدليل عليه من الشرع قوله تعالى يفعل الله ما يشاء و يحكم ما يريد وقوله سبحانه إنما قولنا لشيء إذا أردناه وغير ذلك من الآيات
مسألة
الباري تعالى سميع بصير وقال الكعبي لا يوصف بالسمع والبصر وزعم أن معنى السميع والبصير في وصفه أنه عالم بالمعلومات على حقائقها
وقال الجبائي أن المعنى بكونه سميعا بصيرا أنه حي لا آفة به ولا يجوز وصفه بالسمع والبصر (1/87)
والدليل عليه أنا قد بينا بالدليل كونه حيا والحي يجوز أن يتصف بالسمع والبصر فإذا لم يتصف به وجب اتصافه بضده لأن من اتصف بقبول الضدين على البدل ولم يكن بينهما واسطة يستحيل خلوه عنهما وضد السمع والبصر آفة ونقص والآفات لا تجوز عليه سبحانه
فإن قيل ولم قتلتم آنه يجوز اتصافه بالسمع والبصر وبم أنكرتم على استحالة اتصافه بالسمع والبصر وأضدادهما كما يستحيل عليه الاتصاف بالبياض وبما يضاده من الألوان ويستحيل وصفه بالحركة والسكون
قلنا الدليل عليه إنا قد علمنا أن الحي في الشاهد يجوز أن يتصف بالسمع والبصر وإن الجماد والميت لا يجوز أن يتصف بهما وإذا سبرنا المعاني لم يكن المصحح للسمع والبصر في الشاهد إلا الحياة وقد ثبتت الحياة في الغائب فوجب القول باتصافه بالسمع والبصر
فإن قيل إذا أثبتم السمع والبصر وهما إدراكان ثم رأينا في الشاهد إدراكا يتعلق بالطعوم وهو الذوق وآخر يتعلق بالروائح وهو الشم وآخر يتعلق باللين والخشونة والحرارة والبرودة وهو اللمس فهل تثبت للباري هذه الإدراكات
قلنا نعم تثبت لله تعالى هذه الإدراكات لأن لكل واحد من هذه الإدراكات ضد وضده آفة فإذا لم يتصف به وجب وصفه بضده إلا أنه لا يسمى شاما ولا ذائقا ولا ماسا لأسباب منها أنه يعتبر في أساميه وفي أسامي صفاته ورود الأذن والشرع ما ورد به (1/88)
والثاني أن الوصف بالشم والذوق واللمس يقتضي نوع اتصال بين الشام والمشموم والذائق والمذوق والحق تعالى يتقدس عن الاتصال وأما السمع والبصر لا يقتضيان اتصال
والثالث أن هذه الصفات لا تبنى عن حقيقة الإدراك لأنه يصح أن يقول القائل شممت ولم أدرك رائحة ولو كان إدراكا لتناقض قوله وصار بمنزلة ما لو قال أدركت الرائحة ولم أدرك فنطلق القول بوصف الإدراك ولا تثبت هذه الأوصاف له
والدليل عليه في الشرع قوله تعالى في مواضع كثيرة السميع البصير والدليل عليه أنه أنكر على عبدة الأصنام ورد عليهم صنعهم بأنه لا سمع لمعبودهم ولا بصر فقال مخبرا عن إبراهيم عليه السلام لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر فثبت بذلك صحة ما ذكرناه
مسألة
الباري تعالى متكلم وطريق إثبات كونه متكلما مثل طريق إثبات السمع والبصر إلا أنه لا بد في إثبات ذلك من إثبات حقيقة الكلام وسنذكره بعد ذلك
والدليل عليه من الشرع قوله تعالى فأجره حتى يسمع كلام الله وغير ذلك من الآيات
مسألة
الباري تعالى باق والدليل على أنه باق ما قدمناه من الدليل (1/89)
على أنه تعالى قديم فإن القديم يستحيل عدمه وإذا ثبت ذلك وجب وصفه بالبقاء لأن البقاء استمرار الوجود
والدليل عليه من الشرع قوله تعالى ويبقى وجه ربك وغير ذلك من الآيات
مسألة
إذا ثبت أن الباري تعالى قادر عالم حي فعندنا الباري عالم بعلم قادر بقدره وحي بحياة وعلمه قديم وقدرته قديمة وحياته قديمة
والمعتزلة وافقونا على وصفه بأنه عالم قادر حي إلا أنهم نفوا العلم والقدرة والحياة ثم اختلفوا في العبارات عن وصفه بهذه الأوصاف
فقال بعضهم هو عالم لنفسه وقوم قالوا عالم لا لنفسه ولا لعلة وقوم قالوا هذه الأحكام ثابتة بأنفسها
ولا بد في إثبات الصفات الأزلية من أصل تقدم ذكره وهو أن يعلم أن طريق إثبات الصفات اعتبار الغائب بالشاهد بجامع يجمع بينهما (1/90)
والجامع أربعة أشياء أحدها العلة وذلك إذا رأينا حكما ثابتا في الشاهد بعلة وجب تعلق المعلول بتلك العلة في الغائب
مثاله أن يكون العالم عالما في الشاهد مقيدا بالعلم فوجب أن يكون في الغائب مثل ذلك
والثاني الشرط فإذا ثبت في الشاهد حكم يتعلق بشرط وثبت مثل ذلك الحكم غائبا فيجب أن يكون مشروطا بذلك الشرط
ومثاله أن شرط العالم في الشاهد أن يكون حيا فيشرط مثل ذلك في الغائب
الثالث الحقيقة والحد مثل قولنا حقيقة العالم من قام به علم فيقتضي في الغائب مثل ذلك
الرابع الدليل فإذا دل الدليل على مدلول عقلا لا يوجد الدليل إلا وهو دال عليه غائبا وشاهدا وذلك مثل دلالة الصنع على الصانع
فالطريق في اعتبار الغائب بالشاهد بهذا الطريق ولا يعتبر مجرد الصورة حتى تضاهي مذهب الدهرية ويلزم من ذلك إثبات جسم محدود اعتبارا للغائب بالشاهد
إذا عرفت هذه المقدمة
فالدليل على إثبات الصفات لله تعالى أنه قد ثبت وتقرر أن وصفنا الحي في الشاهد بأنه عالم معلل بالعلم وقد وصفنا الحق سبحانه (1/91)
بكونه عالما فلا بد وأن يكون معللا بالعلم إذ لو جاز عالم لا علم له جاز تقدير علم لا يتصف محله بكونه عالما فلما استحال إثبات علم لا يتصف محله بكونه عالما شاهدا أو غائبا استحال إثبات عالم لا يتصف بالعلم شاهدا أو غائبا
فإن قيل بم أنكرتم على من قال لكم أن وصف الشاهد بكونه عالما إنما كان معللا بالعلم لأنه حكم جائز فافتقر إلى مقتضى أو مخصص
فأما كونه تعالى عالما صفة واجبة وكونه واجبا يستقل بوجوبه عن مقتضى يقتضيه وصار هذا كما أن وجود الباري سبحانه وتعالى لما كان واجبا لم يتعلق بموجب ومقتضي ووجود المحدثات لما كان جائزا افتقر إلى مقتض يقتضيه ومخصص يخصصه
قلنا بم أنكرتم على من يقول لكم أن الحكم الجائز يتعلق بعلة جائزة والحكم الواجب يتعلق بعلة واجبة فكونه عالما لما كان وصفا واجبا يتعلق بعلة واجبة وهو علمه القديم وليس كما استشهدوا به من الوجود لأنا لم نعول على ما ادعوه من الواجب والجائز ولكن وجوده سبحانه ليس له مقتض لأنه لا أول له وما لا أول له لا يتعلق بفاعل لأن الفعل لا بد أن يكون له أول على أن هذا الكلام يبطل عليهم بالشرط فإنهم زعموا أن كونه (1/92)
سبحانه وتعالى عالما مشروط بكونه حيا كما كون العالم في الشاهد مشروط بالحياة
فإذا لم يفصلوا بين الجائز والواجب في الشرط امتنع الفصل بينهما في العلة
طريقة أخرى أنه يقال لهم قد ثبت وتقرر أن الذي يحيط بالمعلوم ويتعلق به هو العلم لاستحالة أن يكون للعلوم قدرة أو حياة وقد ثبت أن المعلومات كلها معلومة لله تعالى وقد أحاط بها ويشهد لها قوله تعالى وأن الله قد أحاط بكل شيء علما فوجب وصفه بالعلم
ومن الدليل على ما ذكرناه أنا قد علمنا أن الحق تعالى موصوف بكونه عالما كما أنه موصوف بكونه مريدا
ثم المعتزلة البصريون ساعدونا على أن كونه مريدا ليس لنفسه فكذا وصفه بكونه عالما وجب أن لا يكون للنفس
والدليل عليه من الكتاب قوله لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه
شبهتهم في المسالة قالوا لو ثبت لله تعالى صفة لكانت قديمة والقديم من أخص أوصاف الباري والإشتراك في الوصف الأخص يوجب الاشتراك في كل وصف وفي ذلك قول بإثبات آلهه (1/93)
فنقول لهم في الجواب هذا بناء على أصلكم وعندنا الاشتراك في الأخص لا يوجب الاشتراك فيما عداه
وقد ذكرنا هذا الفصل فيما تقدم جواب آخر ما ذكروه مجرد دعوى فإنا لا نساعدهم على أن القدم أخص أوصاف الباري
شبهة أخرى وعليها معولهم قالوا علم الباري تعالى على زعمكم يتعلق بما لا يتناهى من المعلومات على التفصيل وفي الشاهد العلم الواحد لا يتعلق بمعلومات مختلفة فإن العلم بالسواد غير العلم بالبياض وإنما يتعلق بمعلوم واحد والعلم الواحد عندكم في حكم العلوم المختلفة ولو جاز ذلك لجاز أن يكون العلم في حكم القدرة والعلم والقدرة مختلفان فيلزم من ذلك أن يكون للباري تعالى صفة واحدة هي علم وقدرة وحياة وسمع وبصر وذلك مستحيل فكذلك إثبات علم يتعلق بمعلومات مختلفة مستحيل
الجواب أن الدليل العقلي يقتضي إثبات صفة هي علم فأما كون العلم صفة زائدة على القدرة لم نعلمه عقلا ولكن بالأدلة السمعية فإن الذين تكلموا في الصفات بالنفي والإثبات اجمعوا على نفي صفة هي في حكم العلم والقدرة
فإن قيل فإذا لم يبعد على قولهم إثبات علم في حكم علوم مختلفة فما المانع من قولنا عالم لنفسه قادر لنفسه ويكون نفسه في حكم العلم والقدرة فيستغني بذلك عن الصفات (1/94)
قلنا المانع فيه أن ذات الباري لو كان في حكم العلم لكان عالما لأن ما يتعلق بالمعلوم علم والقول بأن ذاته علم باطل على القطع
ثم يقال العقل قد دل على إثبات العلم وانعقد الإجماع على أن وجود الباري تعالى ليس بعلم فيحصل من مجموع ذلك أن العلم زائد على الوجود
مسألة
لله تعالى صفة وهي الإرادة تتعلق بالمرادات كلها
وذهبت المعتزلة البصرية إلى أن الباري مريد بإرادات حادثة لا في محال فتحدث تلك الإرادات لا في محال ويصير الباري بها مريدا
ثم زعموا أن الإرادات لا تتعلق بها الإدارة والدليل على بطلانه أن إرادته لو كانت حادثة لافتقرت إلى تعلق إرادة أخرى بها لأن كل فعل ينشئه الفاعل العالم به ويوقعه على صفة مخصوصة في وقت مخصوص لا بد وأن يكون قاصدا إلى إيقاعه إذ لو جاز وقوعه من غير قصد لجاز وقوع سائر الأفعال من غير قصد وإذا افتقرت إلى إرادة أخرى لافتقرت تلك الإرادة إلى مثلها فتسلسل وهو باطل فثبت أن إرادته قديمة
فإن زعموا أن الإرادة لا تراد في نفسها ولكن يراد بها فهو خطأ لأنه لو صح ما قالوه في الإرادة لصح قول جهم في العلم أن لله علوما ثابتة يعلم بها الحوادث ولا يعلم العلوم في نفسها ولما كان قول جهم في العلم باطلا كذلك قولهم في الإرادة (1/95)
ثم نقول من أصلكم أن المثلين يجب اشتراكهما في جميع الصفات وإرادتنا مثل الإرادة الحادثة لاشتراكهما في الوصف الأخص وهو كونهما إرادة ومن حكم إرادتنا القيام بالمحل فأثبتوا لإرادة الباري تعالى محلا
ثم يلزمهم من ذلك قيام إرادته بحمار أو كلب وذلك محال
فإن قالوا الإرادة من شرطها الحياة وبنية مخصوصة لا تتعلق بكل محل
فنقول لهم في إثباتكم إرادة لا في المحل نفي المحل والبنية والصفة التي أشرتم إليها
فإذا جاز نفي أصل المحل لم لا يجوز نفي شرط المحل حتى تقوم إرادته بكل بنية ولا تختص ببنية مخصوصة
مسألة
ذكرنا أن لله تعالى علما يتعلق بالمعلومات وعلمه صفة قديمة قائمة بذاته
وذهب جهم بن صفوان إلى أنه ليس لله تعالى علم قديم ولكن له علم حادث على عدد المعلومات وكلما تجدد شيء حدث لله تعالى علم يتعلق به ويكون وقوع ذلك العلم سابقا على وقوع المعلوم وتتعاقب العلوم كما يتعاقب المعلومات
والدليل على بطلان قوله أن الحوادث قد افتقرت إلى علم يتقدمها (1/96)
والعلوم مشاركة للحوادث في كونها أفعالا حادثة فوجب أن يتقدمها علوم غيرها وفي ذلك إثبات علوم لا نهاية لها ويقتضي ذلك إلى القول بقدم العالم
فإن قالوا العلم يحدث من غير علوم تتقدمها فيلزمهم من ذلك استغناء جملة الحوادث عن العلم وهو باطل على القطع
ومن الدليل على بطلان قوله أن العلوم الحادثة لا تخلو أما أن تكون في غير محل أو قائمة بأجسام أو قائمة بذات الباري تعالى
فإن زعمتم أنها قائمة لا في محل فالرد عليه مثل الرد على المعتزلة البصرية في الإرادة
وإن زعموا قيامه بذات الباري فالكلام عليه مثل الكلام على الكرامية حيث جوزوا إقامة الحوادث بذاته
وإن زعموا قيام العلوم بأجسام لزمهم من ذلك أن يقوم علم بجسم والعالم به جسم آخر وذلك باطل على القطع
وشبهه الجهمية قالوا الباري تعالى عالم في أزله بأن العالم سيقع فلما وقع كان ذلك معلوما مجددا إلا أنه من قبل ما علمه واقعا وإذا تجدد له حكم اقتضى تجدد موجب الحكم وفي ذلك إثبات علوم متجددة
قلنا الباري تعالى لا يتجدد له حكم ولا تتعاقب عليه الأحوال لأنه يلزم من ذلك القول بحدوث الصانع كما لزم القول بحدوث الجوهر (1/97)
لتعاقب الحوادث عليها بل الباري تعالى موصوف بعلم واحد يتعلق بالمعلومات لا يتعدد ولا يتجدد وهو غير مستحيل في العقل
والذي يدل عليه أنا لو قدرنا في الشاهد علما حادثا باقيا متعلقا بمجيء الأمطار غدا وقدرنا استمرار العلم إلى وقت وقوع المطر لم يفتقر حالة وقوعه إلى علم مجدد بوقوعه
والدليل عليه أنا إذا قدرنا علما سابقا على وقوع المطر بأنه سيقع وقدرناه باقيا إلى وقت وقوعه قلنا لا يتعلق العلم السابق بالوقوع يلزمه أن يكون جاهلا بالوقوع في وقت الوقوع أو غافلا عنه مع تقدير دوام العلم وذلك محال
فثبت بذلك أن العلم السابق على الوقوع إذا كان باقيا إلى وقت الوقوع يعني عند تجدد علم وعلومنا وإن لم تكن باقية إلا أن الدلالة العقلية قد تبنى على الموجودات مرة وعلى التقديرات أخرى فإذا لم يلزم في الشاهد تجدد علم عند تقدير علم باق لم يلزم في حق الصناع تجدد علم عند الوقوع لأن علمه السابق باق عند الوقوع
مسألة
عند أهل الحق أن الباري متكلم بكلام قديم أزلي غير مفتتح الوجود وكلام الله تعالى أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد
وذهبت المعتزلة والخوارج إلى أن كلام الباري تعالى مفتتح الوجود وليس بقديم (1/98)
ثم منهم من يطلق القول بأنه مخلوق ومنهم من يمتنع من إطلاق هذه اللفظة مع القطع بأنه ليس بقديم احتراز مما فيه من الإبهام لأن المختلف ما لا يكون له اصل
وقالت الكرامية الكلام قديم والقول حادث غير محدث والقرآن قول الله وليس بكلام الله والكلام عندهم القدرة على التكلم
والكلام في هذه المسألة يبنى على أصلين أحدهما إثبات حقيقة الكلام
والثاني إثبات حقيقة المتكلم
فأما الأصل الأول فعندنا حقيقة الكلام هو المعنى القائم بالنفس الذي تدل عليه العبارات والإشارات والكتابة وأما العبارة فتسمى كلاما
ثم لا المذهب الصحيح أن العبارات كلام على الحقيقة واسم الكلام يتناولها على الحقيقة لا على المجاز
ومن أصحابنا من قال تسمية العبارات كلاما على سبيل المجاز لأنه دلالة على الكلام كما يسمى علما يقول القائل سمعت اليوم علوما كثيرة ويريد به العبارات الدالة على العلوم
وقالت المعتزلة حقيقة الكلام حروف منتظمة وأصوات منقطعة دالة على أغراض صحيحة
والدليل على بطلان تحديدهم أنهم حدوا الكلام بالحروف وقد يحد الحرف الواحد كلاما صحيحا مثل لفظ الأمر من وقى ووشاه من وش (1/99)
وليس ها هنا حروف ولا أصوات ولأنهم ذكروا في الحد الدالة على أغراض
وليس يصح لأن من تلفظ بكلمات لا تفيد لا يسمى متكلما وليس ها هنا غرض ولأنهم قالوا الحروف المنتظمة والأصوات المنقطعة والحروف نفس الأصوات فلا معنى للتكرير فيجب حذفه فإذا حذف يبقى قولهم الأصوات المتقطعة لا تفيد فائدة ما لم يقع الاصطلاح على كونه دالة على غرض فبطل تحديدهم
وأما الدليل على إثبات ما ذكرناه من كلام النفس أن العاقل إذا أمر عبده بأمر وجد في نفسه طلب الطاعة منه وجدانا ضروريا قبل أن يعلمه به ثم يدله على ما في نفسه بلغة أو إشارة أو كتابة فدل ذلك على ثبوت كلام النفس
فإن قيل بم أنكرتم على من قال إن الذي يجده في نفسه إرادة من الأمر امتثال المأمور به
قلنا ليس من شرط الآمر أن يكون مريدا للمأمور سنذكر ذلك وإذا لم تكن الإرادة من شرط الأمر بطل أن يكون ذلك المعنى هو الإرادة
فإن قيل بم أنكرتم على من قال أن الذي يجده في نفسه إرادة يجعل اللفظة أمرا على جهة الإيجاب أو على جهة الندب وليس بكلام
قلنا هذا باطل لأن اللفظ ينقضي بالفراغ منه وذلك الطلب والاقتضاء مستمر الوجود والماضي لا يراد ولكن يتلهف عليه ونحن نعلم ان ما نجده في نفسه الاقتضاء والطلب وليس بتلهف فبطل أن يكون ذلك (1/100)
إرادة
فإن قيل بم أنكرتم على من يقول أن ما يجده في نفسه ضرب من الاعتقاد وليس بكلام
قلنا هذا محال لأن الاعتقاد إما أن يكون علما أو ظنا أو شكا أو جهلا والذي يجد نفسه الطلب والاقتضاء يقطع بأنه ليس يعلم ولا ظن ولا شك ولا جهل فبطل أن يكون ذلك اعتقادا على أن جميع ما ذكروه يبطل عليهم بالنظر
فإن قائلا لو قال النظر إرادة علم المتطور أو ضرب من الاعتقاد كان في مثل منزلتهم ونحن نعلم أن النظر ليس هو الإرادة ولا اعتقاد
وفي الدليل على ما ذكرناه أن قول القائل افعل قد يتضمن الإيجاب كقوله تعالى وأقيموا الصلاة وقد يتضمن الاستحباب كقوله تعالى وافعلوا الخير وقد يتضمن الإباحة كقوله تعالى فإذا طعمتم فانتشروا وقد يراد به التهديد كقوله تعالى اعملوا ما شئتم وإذا كان لفظ الأمر يتردد على هذه الوجوه فقد يقول افعل ويريد به الوجوب وقد يريد به التهديد وقد يريد به الاستحباب وقد يريد به الإباحة وقد يريد به النهي وصورة الحروف والأصوات واحدة ولو كان الأمر نفس اللفظ لما اختلف فعلم أن الإيجاب صفة قائمة للنفس يتميز بوصفه الخاص عن الاستحباب والإباحة والنهي (1/101)
والتهديد لم يقع التنبيه عليه بالعبارة والإشارة والكناية
فإن قيل ما ألزمتمونا ينعكس عليكم فإنكم جعلتم العبارة دلالة على ما في النفس ولا يجوز أن يكون دليل الإيجاب والاستحباب واحدا
قلنا التمييز يحصل بنفس والقرائن لا بنفس الأصوات والحروف القرائن عندهم ليس من الكلام
والدليل على إثبات كلام النفس من جهة الشرع قوله عز و جل ويقولون في أنفسهم فأثبت قول النفس
وقوله رفع عن أمتي ما حدثت به أنفسهم
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذروت في نفسي كلاما يوم السقيفة ويقول الرجل في العادة في نفسي كلام أريد أن أعرضه عليك
قال الأخطل
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
فثبت أن ما وراء العبارة والحروف كلاما (1/102)
وأما الأصل الثاني فعندنا المتكلم من قام بذاته الكلام كالعالم من قام به العلم وعندهم المتكلم من يفعل الكلام وليس من الشرط قيامه بالمتكلم كما لا يشترط قيام الفعل بالفاعل
والمسألة في الحقيقة تبينا على اصل وهو أن عندنا لا فاعل في الحقيقة إلا الله سبحانه وإذا ثبت ذلك فالله تعالى فاعل كلامنا وليس متكلما به فبطل أن يكون المتكلم من يفعل الكلام
والدليل على بطلان كلامهم أنه لو كان المتكلم من يفعل الكلام لكان المصوت من يفعل الصوت ويلزم أن يكون الباري عز و جل مصوتا من حيث أنه خلق الأصوات
والدليل عليه أن من سمع كلامنا من آخر علم كونه متكلما من غير أن يخطر بباله كونه فاعلا لكلامه ولو كان الكلام بمعنى الفعل لكان لا يعلمه متكلما من لا يعلمه فاعلا
والذي يدل على فساد قولهم أن الكلام عندهم حروف منتظمة وأصوات متقطعة فإذا قال الواحد منا زرت الكعبة مختارا فهو المتكلم به عندهم
فلو قدرنا أن الله تعالى خلق هذه الحروف والأصوات على صورتها في بعض عبيده ضروريا بحيث لا يمكنه السكوت عنها فلا (1/103)
يخلو أما أن يقضي من سمع منه هذه الحروف بكونه متكلما أو لا يقضي به فإن قال يقضي بكونه متكلما فقد بطل أن يكون المتكلم من يفعل الكلام لأنه لا فعل من جهته ها هنا وإنما الفعل لله تعالى
وإن قال ذلك العبد غير المتكلم فقد جحد الشاهد لأنا نسمع منه الكلام كما نسمع منه إذا كان مختارا فبطل قولهم
ويقال لهم من أصلكم أنه عالم لنفسه فهلا قلتم أيضا أنه متكلم لنفسه فإن قالوا إنما لم نقل ذلك لأن الصفة النفسية يعم تعلقها إلا ترى أنه لما كان عالما لنفسه كان عالما بكل معلوم ونحن نعلم أنه ليس متكلم بكل كلام فإن لنا كلاما حقيقة وليس الله به متكلما
قلنا هذا باطل بالقدرة فإن عندهم الباري تعالى قادر لنفسه
ثم لا يتعلق قدرته عندهم بجملة المقدورات لأن أفعال العباد غير مقدورة لله تعالى على قولهم فبطل أصلهم بذلك (1/104)
وإذا ثبت كلام النفس وبطل أن يكون الكلام بمعنى الفعل فقد ثبت كونه تعالى متكلما فلا بد وأن يكون كلامه قديما لأنه لا يجوز قيام الحوادث بذاته
شبهتهم في المسألة قالوا قوله اخلع نعليك وألق عصاك كلام الله تعالى
ويستحيل أن يكون الباري عز و جل مخاطبا بذلك في أزلة وموسى عليه السلام غير موجود لأن الخطاب والمخاطب ليس هناك لغو وهذيان ويستحيل ذلك في صفات الله تعالى
الجواب أن مثل هذا يلزمهم لأن قوله تعالى اخلع نعليك وألق عصاك بإجماع المسلمين كلام الله في دهرنا ووقتنا وموسى غير مخاطب به الآن فإذا لم يمتنع إثبات كلام الآن والمخاطب به قد تقدم ولم يكن لغوا لماذا يمتنع إثبات خطاب سابق والمخاطب به متأخر
وربما أوردوا هذا الكلام على وجه آخر فقالوا إذا أثبتم كلاما قديما أزليا فلا يخلو أما أن تحكموا في الأزل بكونه أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا أو لا تثبتوا له هذه الأوصاف فإن صرتم إلى نفي هذه الأوصاف أبطلتم الكلام إذ لا يعقل كلام لا يتصف بكونه أمرا أو نهيا وخبرا واستخبارا فإن هذه جملة أقسام الكلام
وإن أطلقتم كونه أمرا ونهيا وخبرا لزمكم إثبات مخاطب به في الأزل لاستحالة توجه الخطاب على المعدوم
قلنا عندنا الكلام الأزلي يتصف بكونه أمرا ونهيا والمعدوم على (1/105)
أصلنا مأمور بالأمر الأزلي بشرط الوجود
وأما ما ألزمونا من الاستحالة فيلزمهم مثله لأن من مذهب المعتزلة أنه ليس لله تعالى في وقتنا كلام وإنما كان له كلام وقت الخطاب وقد عدم الآن ونحن الآن مأمورون بالأوامر فإذا لم يستبعدوا مأمورا بلا آمر لم أنكروا أمرا بلا مأمور
ثم إن هذا باطل فإن الله تعالى موصوف في أزله بأنه قادر بالإجماع ومن حكم القادر أن تكون له قدرة والمقدور هو الجائز الممكن
وإيقاع الأفعال في الأزل يستحيل فإذا جاز وصفه بكونه قادرا مع أن وقوع المقدورات مختص بما لا يزال جاز وصفه بكلام أزلي هو أمر لمن سيكون
ثم جوابنا عنه أن الكلام في الأزل موجود إلا أنه لو وقع الأخبار عنه في الأزل كان تقديره أني آمرا عبيدا اخلقهم بكذا وكذا وحين خلقهم تقدير الأخبار افعلوا كذا وبعدما يغنيهم تقدير الأخبار عنه اني أمرت عبيدا اخلقتهم لكذا وكذا فالتعبير يرجع إلى الحوادث لا إلى كلامه
ومثاله لو قدرنا في الشاهد كلاما باقيا وقدرنا أن الواحد منا اضمر في نفسه أن يقول لعبده ادخل السوق واشتر ثوبا فذلك الكلام الآن موجود وتقدير العبارة عنه إني أريد أن أقول لعبدي غدا أدخل السوق واشتر الثوب فإذا جاء الغد كان تقدير العبارة عنه يا عبدي أدخل السوق واشتر ثوبا فإذا مضى الغد فالرجل بعد على ما أضمر فيكون تقدير العبارة بأني قلت لعبدي أمس أدخل السوق وأشتر الثوب فالمعنى (1/106)
القائم بذاته في الأحوال كلها واحد والاختلاف يرجع إلى العبارة الدالة عليه لا على نفس المعنى كذي في وصوف كلامه
ومن شبهتهم أنهم قالوا القرآن معجزة الرسول والمعجزة لا تكون إلا أفعالا خارقة للعادة ولا يجوز أن تكون المعجزة قديمة إذ لو جاز ذلك لجاز أن يكون علمه القديم معجزة وسمعه القديم معجزة وهذا لأن القديم لا يختص ببعض المحدثين حتى يصير معجزة له فإذا ثبت كونه معجزة ثبت أنه مخلوق
فالجواب أن عندهم القرآن حين خلقه كان أصواتا ثم انقضت والمتلو والمحفوظ ليس بكلام الله تعالى ونفي كلامه اشنع مما ذكرنا
والجواب من مذهبهم أن ما تحدى به الرسول لم يكن كلام الله تعالى وإنما تحدى بمثله
وعندهم أن كل قارئ آت بمثل كلام الله تعالى وقد قال الله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله فأبطلوا المعجزة وكذبوا القرآن فظهر فساد قولهم
مسألة
كلام الله تعالى منزل على الحقيقة والدليل عليه ظاهر الآيات من كتاب الله تعالى مثل قوله انا أنزلناه قرآنا عربيا وقوله آلم تنزيل وقوله وكذلك أنزلناه قرآنا (1/107)
وليس المعنى في قولنا أنه منزل حط شيء من علو إلى سفل ونقله من مكان إلى مكان ولكن المراد بالانزال أن جبريل عليه السلام أدرك كلام الله تعالى فوق سبع سماوات ثم نزل إلى الأرض وافهم الرسول فأفهم عند سدرة المنتهى وهو كما يقال نزلت رسالة الملك من القصر لا يراد به حط شيء من القصر وإنما يراد به ما ذكرناه
مسألة
كلام الله تعالى مسموع على الحقيقة والدليل عليه قوله تعالى وان أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله
والمعنى بقولنا مسموع أن كلام الله تعالى مفهوم السامع عند سماع القراءة والسماع يذكر ويراد به الفهم
يقول القائل سمعت كلام الغائب إذا انتهى إليه معنى كلامه وان لم يسمع منه وليس المراد به أن السامع مدرك لنفس كلام الله تعالى
والدليل عليه أن الله تعالى خص موسى عليه السلام بأن أسمعه كلامه القديم بلا واسطة وخص محمدا به ليلة المعراج ولو كان المسموع ادراك كلام الله تعالى القديم لما ظهر لتخصيص بعض الأنبياء بذلك فائدة
مسألة (1/108)
كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف على الحقيقة محفوظ في القلوب على الحقيقة
والدليل على أنه مكتوب قوله تعالى في لوح محفوظ ولا يوصف بأنه حال في المصحف ولا في القلب وهذا كما أن الله تعالى على الحقيقة معبود في مساجدنا معلوم في قلوبنا مذكور بألسنتنا ولا يوصف الباري تعالى بالحلول والانتقال
مسألة
القراءة عندنا أصوات القراء ونغماتهم وهي اكتسابهم والمفهوم عند القراءة كلام الله تعالى
والدليل عليه أن القارئ يؤمر بالقراءة في حال الطهارة ويثاب عليها ويمنع عنها في حال الجنابة ويعاقب عليها ولا يتعلق الثواب ولا العقاب إلا بما هو كسب العبد
والدليل عليه أن القراءة تستطاب من بعض القراء ولا تستطاب من البعض وذلك محال في ما صفته القدم
مسألة
كلام الله تعالى واحد وهو أمر بجميع المأمورات ونهى عن جميع المنهيات وخبر عن جميع المخبرات يسمى بالعربية قرآنا وبالعبرانية توراة وبالسريانية انجيلا (1/109)
وليس إثبات طريق العلم باتحاد الصفات العقل بل العقل يدل على إثبات الكلام الواحد وإنما عرفناه بالإجماع فإن الإجماع قد انعقد على نفي ما زاد على الواحد
مسألة
صفات الله تعالى لا توصف بأنها متغايرة وكذلك الذات مع الصفات
ولا يجوز أن يقال العلم غير القدرة وغير الكلام ولا أن العلم هو الكلام أو القدرة هي العلم أو العلم هو الذات أو الكلام هو الذات ولكن يقال الذات موجود والصفات موجودات مع الذات قائمات بالذات لأنا نصف الصفات الأزلية بالبقاء
والدليل عليه أن حقيقة الغيرين الموجودين الذي يجوز مفارقة أحدهما للثاني بزمان ومكان أو وجود أو عدم ولا يجوز مفارقة الصفات للذات ولا مفارقة الصفات بعضها بعضا كما ذكرناه أن العقل قد دل على قدم الصفات ويستحيل عدم القديم
مسألة
ذهب القدماء من ائمتنا إلى أن البقاء صفة للباقي زائدة على الذات وأن لله تعالى صفة تسمى البقاء كالعلم والقدرة والصحيح أن البقاء ليس معنى زائد على الذات ولكن البقاء استمرار الوجود
والدليل عليه أنا نصف الصفات الأزلية بالبقاء ولو كان البقاء معنى لما وصف به الصفات لاستحالة قيام المعنى بالمعنى
ولأنا لو أثبتنا بقاء قديما لزمنا أن نثبته ببقاء أحد فتسلسل (1/110)
ذلك
ونظيره القدم فإن الشيء في أول حال حدوثه لا يسمى قديما فإذا استمر وجوده مدة يسمى قديما وليس القدم معنى زائدا على الوجود المستمر
مسألة
للباري تعالى في الأزل اسم وصفة
وأنكرت المعتزلة ذلك وقالوا ليس لله عز و جل في الأزل اسم ولا صفة وهذا القول يقضي إلى القول بأن الله تعالى لم يكن له في الأزل صفة الإلهية وهو كفر وضلال
وحقيقة هذه المسألة تبنى على معرفة الاسم والتسمية والصفة والوصف والتسمية عندنا هو لفظ المسمى الدال على الاسم والاسم مدلول التسمية
وقد يذكر الاسم ويراد به التسمية توسعا ومجازا والوصف قول الواصف والصفة مدلول الوصف وقد يطلق الصفة ويراد بها الوصف
وذهبت المعتزلة إلى أن الاسم والتسمية واحد والوصف والصفة واحد والصفة والاسم وأقول المسمين والواصفين ولم يكن عندهم لله كلام في الأزل وقول ولم يكن له اسم ولا صفة
والدليل على أن الاسم يخالف التسمية قوله سبح باسم ربك (1/111)
الأعلى والمسبح ذات الباري سبحانه لا أقوال الذاكرين وألفاظهم
وقال تعالى وما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم فعبدة الأصنام ما عبدوا اللفظ بل عبدوا الأجسام والأعيان فثبت أن الاسم هو المسمى
فإن قيل قد ورد في الخبر أن رسول الله قال لله تسعة وتسعون اسما ولو كان الاسم هو المسمى لكان تسعة وتسعون إلها
فالجواب أن الاسم قد يطلق ويراد به التسمية فالمراد به لله تسعة وتسعون تسمية
وإذا تقرر ما ذكرنا فأسامي الرب تعالى على ثلاثة أقسام فمن الأسامي ما يطلق بأنه المسمى وهو ما دلت التسمية به على وجوده مثل قولنا حق وموجود وذات
ومن أسمائه ما يطلق بأنه غير المسمى وهو ما دلت التسمية على فعله كالخالق والرازق
ومن أسمائه ما لا يقال فيه أنه المسمى ولا غير المسمى وهو ما دلت التسمية به على صفة قديمة كالعالم والقادر والسميع والبصير (1/112)
مسألة
ورد السمع بإثبات صفات الله تعالى لا يدل عليه العقل مثل الوجه في قوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه والعين في قوله تعالى تجري بأعيننا واليدين في قوله تعالى لما خلقت بيدي
واختلفوا في ذلك فذهب جماعة إلى أن هذه صفات زائدة على ما دل عليه العقل واستدلوا على ذلك بقوله ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ولا وجه لحمله على القدرة لأن جملة المخلوقات حاصلة بالقدرة فتبطل فائدة التخصيص
ومنهم من أنكر أن تكون هذه الصفات زائدة على ما دل عليه العقل وصار إلى أن العين محمول على البصر والوجه على الوجود واليد على القدرة واستدلوا عليه بأن من قال العقل قد دل على أن الخلق لا يقع إلا بالقدرة ومن أثبت صفة قديمة يقع بها الخلق فقد ابطل حقيقة القدرة وأثبت لها تناهيا لأن ما حصل باليد لم يحصل بالقدرة فتكون القدرة متناهية
وأيضا فإن آدم عليه السلام ما استحق السجود لأنه مخلوق باليد (1/113)
ولكن أمر الحق سبحانه وتعالى الملائكة بالسجود فصار ظاهر لأنه متروك ووجب حمله على تأويل وهو أنه تخصص تشريف كما أضاف الكعبة إلى نفسه وأضاف المؤمنين بصفة العبودية إلى نفسه
أما قوله تعالى تجري بأعيننا فالمراد به الأعين التي انفجرت من الأرض وأضافته إلى الله سبحانه على سبيل الملك
وأما قوله عز و جل ويبقى وجه ربك متروك الظاهر يختص البقاء بعد فناء الخلق بصفة من صفات الباري تعالى التي هي الوجه بل الباري تعالى باق بعد فناء الخلق بجميع صفاته
ويقال المراد بالوجه الجهة التي يراد بها القرب إلى الله سبحانه كما يقال فعلت كذا لوجه الله سبحانه خالصا لله فيكون معناه ان كل عمل ما أريد به وجه ربك يحبطه ويبطله
ومما يقرب مما ذكرنا آيات في كتاب الله تعالى وأخبار رسوله فمنه قوله تعالى الله نور السموات والأرض ومعناه منور السموات والأرض وقيل هادي أهل السموات والأرض
والغرض من الآية ضرب المثل بدليل أنه قال في آخر الآية (1/114)
ويضرب الله الأمثال للناس
ومنها قوله تعالى يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ومعناه جهة أمر الله لأن الجنب إن كان بمعنى الجارحة لا يجوز في صفة بالاتفاق وأن كان بمعنى الصفات فلا يكون للتفريط فيه معنى وفائدة
ومنها قوله تعالى يوم يكشف عن ساق والمراد به التنبيه على أهوال يوم القيامة كما يقال قامت الحرب على ساقها أي على شدتها
ومنه قوله تعالى وجاء ربك والملك وقوله تعالى هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة والمراد به جاء أمر ربك ويأتيهم أمر الله تعالى
والدليل عليه أن الله تعالى ذكر في سورة الأنعام أخبارا عن إبراهيم أنه استدل بأفول الشمس والقمر والكواكب على أنها ليست بآلهة وتبرأ منها ولو كان الباري يجوز عليه الإتيان والمجيء لبطلت الدلالة
ومنها ما روي في الخبر ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا فالمراد به أنه يأمر الملائكة بالنزول فيكون معناه ينزل ملائكة الله
ونظيره قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله (1/115)
ومعناه يحاربون أولياء الله
ويقال في العبارة نادى الأمير في البلد والأمير لا ينادي ولكن يأمر به ويضاف إليه لكونه آمرا له
ويقال قتل الأمير فلانا وضرب فلانا وهو لا يتولى بنفسه ذلك ويضاف إليه أمرا به
ومنها ما روي أن الجبار يضع قدمه في النار فتقول قط فالمراد بالجبار المتجبر من العباد والدليل عليه قوله تعالى كل قلب متكبر جبار والدليل عليه أن الله تعالى أخبر عن الأصنام أنهم يدخلون النار في قوله تعالى انكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ثم استدل على نفي منه الإلهية عنهم بدخولهم النار فقال لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها
فمن زعم أن الباري له قدم يضعها في النار فقد أبطل هذه الدلالة وسوى بينه وبين الأصنام
ومنها ما روى أن الله تعالى خلق آدم على صورته فهذا بعض الخبر وله سبب وهو ما روى أن رجلا كان يلطم وجه عبد له فنهاه رسول الله عن ذلك وقال لا تلطم وجهه فإن الله تعالى خلق آدم على صورته يعني على صورة الغلام (1/116)
وقيل إنها كناية راجعة إلى آدم نفسه ومعناه خلقه بشرا سويا من غير والد ووالدة ومن غير أن كان نطفة وعلقة بل صورة ابتداء وخلقه على تلك الصورة هذه طريقة المحققين
والأولى لمن لا يتجر في العلم الأعراض عن التأويل في جملة ذلك والإيمان بظاهر الآيات والأخبار وإجرائها كما جاءت مع الاعتقاد بأنه لا يجوز عليه سبحانه وتعالى ما هو من سمات المحدثين وصفات المخلوقين
مسألة
مذهب أهل الحق أن لا خالق إلا الله سبحانه وتعالى وما يحدث في العالم فكلها حادثة بقدرته واختراعه ولا فرق بين ما يتعلق به قدرة الآدميين كالأجسام والألوان والطعوم وبين ما يتعلق به قدرة العباد كالاكتساب وجملة ذلك أن كل مقدور لقادر فهو مقدور لله تعالى فالله خالقه ومنشئه
وزعمت المعتزلة أن العباد مخترعون لأفعالهم وأن الباري تعالى لا يوصف بالقدرة على مقدورات العباد كما لا يوصف العبد بالقدرة على مقدورات الباري تعالى
ثم المتقدمون منهم امتنعوا من تسمية العبد خالقا والمتأخرون منهم أطلقوا ذلك (1/117)
والدليل على بطلان قولهم أن يقال لهم زعمتم أن مقدورات العباد ليست بمقدوره لله تعالى لاستحالة مقدور بين قادرين
فقيل أن كان يخلق القدرة لعبده هل يقدر على ما يعلم أن العبد سيقدر عليه إذا خلقه فإن قالوا لا يقدر ما يعلم أن العبد سيقدر عليه إذا خلقه فإن قالوا لا يقدر عليه بطل لأن ما سيقدر عليه العبد من الجائزات الممكنات ولم يتعلق بها قدرة العبد استحال أن لا يقدر عليه الصانع
وإن قالوا يقدر عليه فمن المستحيل أن يكون الشيء مقدورا له ثم يخرج عن كونه مقدورا بعد ذلك
والذي يدل على فساد قولهم أن خروجه عن كونه مقدورا له لظهور قدرة العبد ويستحيل مقدور بين قادرين فبقاؤه مقدورا لله تعالى ونفي قدرة العبد أولى من إثبات قدرة حادثة للعبد ونفي قدرة للصانع
وإذا ثبت أنه مقدور لله تعالى ثبت أنه خالقه إذ لا يجوز أن يخترع العبد ما هو مقدور لله تعالى
ومن الدليل على فساد قولهم أن الفعل المحكم المتقن دلالة على علم مخترعه ورأينا أنه يصدر من العبد أفعال في حال غفلته وسكره وجنونه على الاتساق والاتقان والعبد غير عالم بما يصدر منه في هذه الحالة فيجب أن يكون من يصدر منه عالما به
وليس يتحقق ذلك إلا على مذهب أهل الحق فإن المخترع للأفعال (1/118)
هو الله تعالى فإن زعموا أن العبد هو المخترع وهو غير عالم به ولو ساغ ذلك لخرج الفعل المحكم من أن يكون دلالة على علم فاعله
فإن عكسوا علينا وقالوا أنتم أثبتم للعبد كسب ويجب أن يكون المكتسب عالما بما يكتسبه ثم يصدر عنه القليل من أفعاله في حال غفلته وهو غير عالم به
قلنا ليس من الواجب كون المكتسب عالما بما يكتسبه وإنما يمتنع وقوعه دون علمه لاطراد العادات فأما أن يكون العلم شرطا فلا
ومن الدليل على فساد قولهم أن من أصلهم صلاح القدرة المتعلقة بالشيء لأمثاله وأضداده فالقدرة على الحركة قدرة على أمثالها وعلى السكون والموجودات كلها مشتركة في تعلق القدرة بها فيجب أن تتعلق القدرة الحادثة بجميع الحوادث كالطعوم والألوان والروائح ونحوها كما تتعلق القدرة المتعلقة بالحركة بجميع ما يماثلها ويضادها ولما لم تتعلق قدرته ببعض المقدورات مع اشتراك الجميع في تعلق القدرة بها بطل أن يكون العبد مخترعا
ومن الدليل على فساد قولهم انهم قالوا القدرة الحادثة تتعلق بالاختراع ابتداء ولا تتعلق بالإعادة والفوات ومعلوم أن الإعادة (1/119)
بمثابة النشأة الأولى وكذلك يستدل على قدرة الباري تعالى على الإعادة بالنشأة الأولى
ويدل عليه نص التنزيل حيث قال قل يحييها الذي أنشأها أول مرة فإذا لم تصلح القدرة الحادثة لإعادة ما يجوز إعادته كيف يصلح لابتداء الخلق والاختراع
ومن الدليل على إبطال قولهم إجماع سلف الأمة رضي الله عنهم على الرغبة إلى الله تعالى في أن يرزقهم الإيمان ويجنبهم الكفر والطغيان ويحفظهم من المعاصي وعليه يدل نص القرآن في قوله تعالى في قصة إبراهيم صلوات الله عليه حيث دعا فقال ربنا واجعلنا مسلمين لك وقال واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ولو كانت المعاصي والكفر غير مقدورة لله تعالى كان ذلك السؤال مما لا يقدر عليه وذلك محال
فإن قالوا هذه الرغبة ليست بخلق الإيمان وإنما هو سؤال القدرة على الإيمان والله تعالى هو الذي يخلق له القدرة على الإيمان وإن كان العبد هو الذي يخلق الإيمان
فالجواب أن هذا خطأ على أصلكم لأن عندكم كل مكلف قادر على الإيمان والباري تعالى لا يسلبهم القدرة على الإيمان (1/120)
وأيضا فإن القدرة على الإيمان قدرة على الكفر فلو كان الباري معينا على الإيمان بخلق القدرة لكان معينا على الكفر بخلق القدرة فكيف ومن العبيد من علم الله عز و جل لو خلق له قدرة الكفر لكفر فخلق القدرة في هذه الحالة مع علمه بأنه لا يؤمن أعانه على الكفر
ومن الدليل على قولهم اطلاق السلف والخلف القول بأن الباري تعالى مالك كل مخلوق وإله كل محدث
ومن المستحيل أن يكون الباري مالك ما لا يخلقه وإله ما لا يقدر عليه وإذا لم يكن الباري سبحانه وتعالى رب هذه الأفعال وكان العبد خالق أعمال نفسه كان ربها وإليه وإشارة الباري سبحانه في القرآن حيث قال إذا لذهب كل إله بما خلق والقول بذلك كفر
ومن الدليل على فساد قولهم أن الإيمان والطاعات أحسن من الأجسام وأعراضها فلو اتصف العبد بكونه خالقا لإيمانه وطاعاته لكان أحسن خلقا من ربه وقد قال الله عز و جل فتبارك الله أحسن الخالقين
فإن قيل لولا القدرة على الإيمان لما قدر العبد على الإيمان فخلق القدرة على الإيمان أحسن من خلق الإيمان فالباري تعالى هو أحسن الخالقين
قلنا فيلزم على مقتضي قولهم أن تكون القدرة على الكفر أشر (1/121)
من الكفر وعندكم القدرة صالحة للكفر كما هي صالحة للإيمان وإذا كان ذلك إعانة على الكفر لم يكن أحسن
ومن الدليل على بطلان قولهم قول الله تعالى ذلكم الله ربكم خالق كل شيء فتمدح بالاختراع والإبداع ولو كان غيره خالق مبدعا لبطل التمدح من حيث أنه يصير خاصا بأنه الخالق لأفعاله دون أفعال غيره والعبد أيضا يقول وأنا خالق كل شيء ويريد به أفعال نفسه فبطل التمدح
ويستدل بكل آية فيها تمدح مثل قوله تعالى والله على كل شيء قدير ولا معنى لذلك عند المعتزلة لأنه يقدر على أفعال نفسه دون أفعال عبيده والعبد كذلك يقدر على أفعال نفسه
ومن الدليل عليهم قوله تعالى أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار
والمعتزلة أثبتوا الشركاء له حيث أثبتوا الخلق لأنفسهم
شبههم في هذه المسألة قالوا العاقل يميز بين مقدوره ومقدور غيره ويفرق بين الحركة الواقعة بإرادته واختياره وبين حركة المرتعش بأن مقدوره يقع على قصد حسه صوابه حسب قصده وما لا يكون مقدوره لا يقع على حسب قصده ولو كان فعله غير واقع به لما كان على وفق إرادته كلونه وصورته وسائر صفاته (1/122)
الجواب أن من المقدور ما لا يقع على حسب قصده وإرادته وهو أفعال الغافل والسكران والنائم وإذا لم يطرد ذلك أبدا لم يدل وقوعه في بعض الأحوال على حسب إرادته على كونه خالقا كما أن الشبع يقع عند الأكل في عامة الأحوال والري عند الشرب ومنهم المخاطب عند الخطاب وخجل الإنسان عند التخجيل وفزعه عند التهويل ولم يدل وقوع هذه الأشياء على هذه الوجوه على أنه فعل القاصد على أن التفرقة التي ذكروها راجعة إلى تعلق القدرة بأحدها دون الثاني وهو كما يفرق الإنسان بين العلم والظن مع أنه لا تأثير للعلم والظن فيما تعلقا به
ومن شبههم قالوا العبد مطالب من ربه بالطاعة ويستحيل في العقل مطالبة العبد بما لا يقع منه كما يستحيل مطالبته بألوانه وخلقته وسائر صفاته
وربما قرروا ذلك بأن قالوا الإجماع قد انعقد بأن ما يؤدي إلى حمل كلام الباري تعالى على التناقض والخروج عن الإفادة باطل
ومن جملة اللغو أن يقول المخاطب لمن يخاطبه أفعل ما لا تقدر عليه أو افعل ما أنا فاعله
فالجواب أن مثل هذا يلزمكم من أصلكم أن المعدوم شيء وذات على خصائص أوصافه فما معنى المطالبة بإثبات ما هو ثابت
وأيضا فإن العبد عندكم مطالب بالنظر ابتداء وهو ليس يعتقد أمرا طالبا فكيف يصبح الطلب قبل معرفة الطالب على أن مثل هذا التناقض يلزمهم لأن من أصلهم أن على الله سبحانه وتعالى أن يفعل ما هو (1/123)
الأصلح لعباده وإذا قدرنا عبدا علم الله تعالى أنه لو مات في صباه نجا من العذاب ولو عاش إلى وقت التكليف وخلق الله عز و جل له القدرة على الكفر لكفر فصلاحه أن لا يقدره وهذا غاية التناقض أن يقول الآمر أني أكلفك شيئا قاصدا بها صلاحك مع علمي أنك لا تصلح قط
ويقال لهم اتفق أهل الملك على توجه الخطاب على المكلفين فما ادعيتم من استحالة الطلب علمتموه ضرورة أم دلالة فإن ادعوه ضرورة كان محالا لأن الخصم يدعي عليهم ضرورة على الضد مما ادعوه وإن ادعوه من حيث الدلالة فلا بد من إظهاره
ومن شبهتهم أن قالوا إن كانت القدرة الحادثة لا تؤثر في متعلقها كان نظيره العلم المتعلق بالمعلوم من حيث أنه لا يؤثر فيه ويلزم من ذلك تجويز تعلق القدرة الحادثة بالألوان والأجسام وجميع الحوادث كما يتعلق العلم بجميع ذلك
قلنا لهم ولم قلتم أن العلم يتعلق بكل المعلومات لانتفاء تأثيره فيه حتى يكون مشاركا للقدرة في نفي التأثير فوجب أن يعم تعلقه على أن هذا باطل بالرؤية لا تؤثر في المرئي ثم لا يتعلق عندهم بجميع الموجودات فإن الطعوم عندهم والروائح لا يجوز أن ترى
ومن شبهتهم قالوا العبد يثاب على فعله ويعاقب عليه وذلك دليل (1/124)
على أنه واقع منه إذا يحسن توبيخه والثناء عليه بما لا يقع منه كما لا يوبخ على لونه وسائر صفاته
قلنا هذا فاسد لأن الثواب والعقاب والمدح والذم ليس من موجبات فعل المكلف حتى لو ابتدأ الباري تعالى بنعيم مقيم أو عقاب أليم من غير طاعة ولا معصية كان جائزا وإنما أفعال العباد إمارات ودلالات لا موجبات
فإن قيل ما ذكرتم من كون العبد مكتسبا غير معقول فإن القدرة إذا لم تؤثر في المقدور لم يكن لتعلقها به معنى
قلنا ليس من شرط الصفة أن تؤثر فيما تتعلق به فإن العلم يتعلق بالمعلوم ولا يؤثر فيه والرؤية تتعلق بالمرئي ولا تؤثر فيه والإرادة تتعلق بفعل الغير
فإن الإنسان قد يريد أن يفعل غيره شيئا فلا تأثير لإرادته في فعله فيبطل ما ادعوه
واستدلوا بقول الله سبحانه فتبارك الله أحسن الخالقين وهذا دليل على أن غير الله يتصف بالخلق والاختراع حتى يكون الباري تعالى احسن الخالقين خلقا
قلنا عندكم العبد أحسن خلقا من الباري تعالى لأن العبد يخلق الإيمان والباري يخلق الأجسام على أن الخلق في اللغة بمعنى التقدير ومنه سمى الحزاز خالقا لأنه يقدر طاقة بطاقة فيكون معنى الآية أحسن المقدرين فيحمله على التقدير دون الاختراع (1/125)
مسألة
مذهب أهل الحق أن العبد قادر على كسبه وله فعل
وذهبت الجبرية إلى أن لا قدرة على إثبات فعل للعبد فهو على سبيل المجاز
والدليل على إثبات القدرة أن العاقل يفرق بين الحركة القصدية والاختيارية وبين حركة المرتعش ضرورة والحركتان على صفة واحدة ولا بد من موجب التفرقة ويستحيل أن تكون التفرقة راجعة إلى نفس الفاعل لأن ما كان للنفس يستمر ما دامت النفس موجودة وترى النفس موجودة ولا حركة فثبت أنها زائدة على النفس وليس ذلك إلا القدرة
فإن قيل بم أنكرتم على من يقول أن التفرقة راجعة إلى الإرادة والكراهية والاختيارية مرادة وغيرها ليس بمراد
قلنا هذا محال لأن الغافل ومن لا إرادة له يفرق بين تحريك اليد والرعدة والإرادة معدومة
فإن قيل بما أنكرتم على من قال التفرقة راجعة إلى صحة الجارحة ووجود بنية مخصوصة وعدمها لا إلى القدرة
قلنا هذا باطل فإن صاحب اليد الصحيحة والبنية التامة يفرق بين أن يفرق يد نفسه اختيارا وبين أن يفرق الغير يده وبنية اليد في الحالتين على صفة واحدة
والذي يدل على ما ذكرناه من الكتاب قوله سبحانه وتعالى لها ما كسبت (1/126)
وعليها ما اكتسبت وقال تعالى كل نفس بما كسبت رهينة وغير ذلك من الآيات
مسالة
مذهب أهل الحق أن الحوادث كلها بقضاء الله تعالى وقدره ومشيئته وإرادته خيرها وشرها نفعها وضرها حلوها ومرها الكفر والإيمان والطاعة والعصيان فما أراد الله سبحانه وتعالى كان وما لم يرد لم يكن
ثم من أصحابنا من أطلق هذا القول على الجملة وإذا جاء الأمر إلى التفصيل وسأل عن الكفر والفسق فلا نطلق القول بأنه مراد الله سبحانه وتعالى ونظير ذلك اطلاق القول بأن العالم لله سبحانه وتعالى وإذا جاء الأمر إلى التفصيل لانطلق القول بأن له زوجة لما فيه إيهام الزلل
ومن أصحابنا من أطلق ذلك وقال الله سبحانه وتعالى يريد كفر الكافر معاقبا عليه
وأما المحبة والرضا فمن أصحابنا من قال المحبة والرضا بمعنى الإرادة إلا أنها أخص من الإرادة فإذا أراد الله سبحانه وتعالى بالعبد نعمة يقال أحبه وضده السخط إرادة العقوبة
ومن أصحابنا من قال المحبة والرضا عبارة عن أنعام الرب سبحانه (1/127)
وتعالى وإفضاله والسخط عبارة عن النقمة والعقوبة
وقالت المعتزلة الرب سبحانه وتعالى مريد لأفعال نفسه سوى الإرادة والكراهية فإنه لا يوصف بأنه مريد الإرادة والكراهية مع قولهم بأن الله تعالى مريد بإرادة حادثة
فأما أفعال العباد فما كان منها قربة وطاعة فيوصف الباري سبحانه وتعالى بأنه مريد له وما كان معصية من أفعالهم أو كان مباحا فلا يوصف الباري عز و جل بأنه مريد له
فأما ما لا يدخل تحت التكليف من معتقدات الأطفال وأفعالهم فلا يريدها الباري تعالى ولا يكرهها
والدليل على بطلان قولهم أن القائلين بثبوت الصانع اتفقوا على تقدسه عن النقائص
واتفق العقلاء على أن نفوذ المشيئة علامة السلطنة ودلالة الكمال وصد ذلك دلالة النقص
فإن زعموا أن معظم ما يجري في العالم الله سبحانه له كاره فقد قضوا بالقصور والعجز وإليه أشار جعفر الصادق لما سئل عن هذه المسألة فقال أو يعصى كرها فإن قالوا الرب سبحانه قادر على (1/128)
إلجاء الخلق إلى الإيمان بأن يظهر آيات هائلة تقهر الجبابرة كما فعل باليهود لما امتنعوا من قبول الأمر قال الله سبحانه وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة
قلنا هذا فاسد لأن الله تعالى لا يخلق عندهم إيمان المؤمنين ومعنى الإلجاء إظهار آيات هائلة
وربما يتفق طائفة من الكفرة والمعاندين لا يؤمنون وإن رأوا الآيات الهائلة وأيضا فإنه إذا ألجأهم لا يكون إيمانهم مما يثاب عليه لأن الثواب إنما يكون على ما يختار فعله ولأن ما يقع بطريق الخبر يكون قبيحا والرب سبحانه وتعالى لا يريد القبيح على زعمهم فما يريد الرب لا يقدر عليه والذي يقدر عليه لا يريده
والذي يدل عليه إجماع الأمة على كلمة وهو قولهم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فهو إذا قال الله تعالى لا يريد ما يحدث من الحوادث فقد خرق الإجماع
والدليل عليه من الكتاب الآيات الواردة في الهداية والضلالة والختم والطبع كقوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام وقال تعالى من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون وقال تعالى والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء (1/129)
ولا يجوز حمل هذه الآية على الإرشاد إلى طريق الجنان لأن الله تعالى علق الهداية على مشيئته فكل من يستوجب الجنة فحتم على الله تعالى أن يدخله الجنة ولا تتعلق المشيئة
ومنها قول الله سبحانه وتعالى ختم الله على قلوبهم وقوله بل طبع الله عليها وقوله عز و جل وجعلنا قلوبهم قاسية وجعلنا على قلوبهم أكنة فهذه الآيات على أن الهداية والضلالة من الله عز و جل وأنه مريد كفر الكافرين وإيمان المؤمنين وأنه متفرد بخلقه
شبهتهم قالوا الله تعالى أمرنا بالإيمان والطاعة ونهانا عن الكفر والفجور والمعصية ويستحيل في حقه أن يأمرنا بما يكرهه ويأباه وينهانا عما يريده لأن الجمع بين الأمر وكراهة المأمور به وبين النهي وإرادة المنهي تناقض وهو يشابه الأمر بالشيء والنهي عنه فإذا ثبت أن ما أمر الله سبحانه وتعالى به فقد أراده وما نهى عنه فلم يرده
قلنا لا نساعدكم على هذه القاعدة بل يجوز في العقل أن يأمر العاقل بما لا يريده (1/130)
ومثال ذلك شاهدا رجل ضرب عبده وبالغ في تأديبه فاتصل الخبر بسلطان الوقت فهم بزجره فلما استحضره قال معتذرا أنه عصاني ولم يمتثل أمري فاتهمه السلطان فقال سيد الغلام انا أحقق قولي بين يديك فاستدعى العبد فآمره بأمر بمرأى منك ومسمع فإن خالفني بان صدقي وإن أطاعني بان كذبي فاستحضره وأمره بشرائط الأمر وصورته كلها موجودة ونعلم أن مراد السيد أن لا يمتثل أمره ليمهد عذره عند الأمير فيصح أن الآمر يجوز أن يأمر بما لا يريده
هذا من جهة المشاهدة ومن جهة الشرع فإن الله سبحانه أمر إبراهيم الخليل عليه السلام بذبح ولده وما أراد الذبح فإن قالوا ذلك لم يكن أمرا على التحقيق فخطأ لأن مثل إبراهيم عليه الصلاة و السلام لا يجوز أن يقدم على ذبح ولده من غير أمر
فإن قالوا هو لم يكن مأمورا بالذبح حقيقة وإنما كان مأمورا بمقدمات الذبح من شد الأطراف والقصد إلى الذبح
والدليل عليه أن الله تعالى قال قد صدقت الرؤيا فدل على أنه لم يكن مأمورا إلا بما فعل
قلنا هذا محال لأن الله سبحانه قال إن هذا لهو البلاء المبين
وليس في مقدمات الذبح بلاء مبين وأيضا فإن الله تعالى قال وفديناه بذبح عظيم ولو كان المأمور به مقدمات الذبح ما احتاج إلى (1/131)
الفداء
وأما قوله سبحانه وتعالى قد صدقت الرؤيا فمعناه اعتقدت كونه صدقا وابتدرت إلى الامتثال فخففنا عنك
ثم يقال لهم ما ألزمتمونا من التناقض يلزمكم لأنكم توافقونا أن الله سبحانه وتعالى أمرهم بالإيمان مع علمه بأنهم لا يؤمنون ومن قال لعبده أعطيتك القوة وأتممت عليك النعمة حتى تكتسب الجنة مع علمي بأنك تعصي وتفخر بعد ذلك تناقضا وقد جوزوه فبطل دعواهم
شبهة أخرى قالوا الإرادة تكتسب صفة المراد فإذا كان المراد سفها كانت الإرادة سفها ولا يجوز أن يتصف الله تعالى به
قلنا عندنا إرادة الباري تعالى قديمة وإنما يتصف بالسفه وضده من كان حادثا هذا كما أن من اكتسب علما بالفواحش من غير حاجة إليه يعد سفها
ثم الباري تعالى عالم بجميع الحوادث خيرها وشرها ثم لا يوصف بما يوصف به من اكتسب بذلك علما
ثم هذه القاعدة فاسدة لأنه لو كان إرادة السفه سفها لكان إرادة الطاعة طاعة ويلزم من ذلك أن يكون الباري تعالى مطيعا لإرادته الطاعة استدلوا بقوله ولا يرضى لعباده الكفر
فالجواب أنا نحمل ذلك على المؤمنين دون الكفار وقد يرد لفظ العباد والمراد به الخصوص قال الله تعالى عينا يشرب بها عباد الله (1/132)
استدلوا بقوله عز و جل سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ثم وبخهم عليه ورد مقالتهم
قلنا إنما وبخهم لاستهزائهم بالدين فإنهم سمعوا من الرسول أن الأمور بإرادة الله تعالى فلما طولبوا بالإسلام على سبيل الاستهزاء لو شاء الله ما أشركنا وغرضهم بذلك رد دعوة الأنبياء
والدليل عليه أنه قال بعد ذلك إن يتبعون إلا الظن
وأيضا فإن الإيمان بصفات الله تعالى فرع للإيمان بالله سبحانه وتعالى وهم أنكروا الصانع فكيف يؤمنون بصفاته قالوا فإن الله سبحانه وتعالى قال وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فدل أن الله تعالى أراد من العباد العبادة وهم يكفرون
فالجواب أن الآية قد دخلها التخصيص فإن الصبيان والمجانين خصوا في الآية وعندهم العموم إذا دخله التخصيص صار مجملا
ثم المراد بالآية بيان استغناء الله تعالى عن عباده بدليل أنه قال ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون
والحمل على ما ذكرناه أولى لأن الله تعالى قد علم أن معظم الخليقة يكفرون فإذا حملوا الآية على ظاهرها فيصير تقديره ما خلقت من علمت أنه لا يؤمن إلا ليؤمن وذلك تناقض ظاهر (1/133)
واستدلوا بقوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك فدل على أن ذلك من العباد وليس من الله تعالى
قلنا أنتم لا تقولون بظاهر الآية لأن عندكم أفعال العباد مخلوقة خيرها وشرها أفلا يقولون إن الحسنة من الله سبحانه وتعالى
أيضا فإن الإصابة إنما تستعمل فيما يكون بغير الاختيار يقال أصابه مرض وخسران
فأما ما يقع باختياره لا تستعمل فيه هذه الكلمة لا يقال إصابة أكل وشرب فلم يكن لهم حجة
ثم نعارضها بقوله تعالى إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فدل على أن الجميع بمشيئة الله عز و جل وقضائه
مسألة
التوفيق خلق قدرة الطاعة والخذلان خلق قدرة المعصية ثم الموفق لا يعصي لعدم القدرة والمخذول لا يطع لعدم القدرة والرب تعالى قادر على توفيق جملة العباد وعلى خذلانهم والعصمة هي التوفيق بعينه (1/134)
ثم قد يكون خاصا عن بعض الذنوب وقد يكون عاما واللطف أيضا خلق قدرة الطاعة
وقالت المعتزلة التوفيق خلق لطف يعلم الله أن العبد يؤمن عنده والخذلان امتناع ذلك واللطف خلق فعل يعلم الله تعالى أن العبد يطيع عنده
ثم قد يكون الشيء لطفا في إيمان واحد ولا يكون لطفا في إيمان غيره
ثم يجب عندهم على الله سبحانه أقصى ما يقدر عليه من اللطف بعبيده حتى يطيعوا وليس في مقدوره لطف لو فعله بالكافر لا من عنده وهذا كفر وضلال
وقد قال الله تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها وقال تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة
ويقال لهم إذا أوجبتم على الله تعالى أقصى ما يقدر عليه من اللطف فهلا قلتم بأنه يقطع التكليف على من علم أنه لا يؤمن أو نميته حتى لا يبلغ مبلغ التكليف فيكفر ويستوجب العقوبة إذ لا غرض في تكليف من يعلم أنه لا يؤمن حياته
مسألة
الحسن عند أهل الحق ما ورد الشرع بالثناء على فاعله والقبيح ما ورد الشرع بالذم على فاعله وليس الحسن والقبيح صفة زائدة على ورود الشرع فأما العقل فلا يحسن ولا يقبح (1/135)
وذهبت المعتزلة إلا أن الحسن والقبيح يعلم من طريق العقل فالكفر قبيح والضرر المحض الذي لا غرض فيه قبيح
والدليل على بطلان قولهم أن يقال لهم عرفتم قبح ما حكمتم بقبحه ضرورة أو دلالة فإن ادعوا ذلك ضرورة كان محالا لأنا لا نساعدهم عليه ومن المستحيل اختصاص طائفة من العقلاء بضرب من العلوم الضرورية مع استواء الجميع في مداركها
فإن قالوا دلالة فنقول لا تخلو إما أن يكون قبحه لنفسه أو لمعنى فيه أو لا لنفسه ولا لمعنى بطل أن يكون لنفسه او لمعنى فيه فإن القتل ظلما يماثل القتل قصاصا والزنا يماثل الوطء الحلال واختلفا في الحسن والقبح
وبطل أن يكون لا لنفسه ولا لمعنى فيه لاستحالة أن يكون النفي حكما فثبت أنه لورود الشرع به
والدليل عليه أن اللم واللذة حادثان بقدرة الله تعالى ورأينا إيلام الأطفال الذين لم يرتكبوا ذنبا ولم يصدر منهم سبب يوجب العقوبة وكذلك نشاهد إيلام البهائم التي لا تكليف عليهم وهو ضرب محض لا يحكم بقبحه
فإن قيل إنما حسن ذلك لأن الله تعالى يثيبهم على ذلك لما يريد يفعله على ذلك
قلنا الذي يصل إليها لا يخلو إما أن يكون في مقدور الله (1/136)
تعالى إيصاله إليهم من غير ألم أو ليس في مقدوره فإن زعموا أنه لا يقدر عليه فقد نفوا قدرة الصانع وهو كفر وإن قالوا يقدر عليه فما الفائدة في إتلافه
وهلا من عليه بذلك ابتداء فضلا من عنده من غير ألم
فإن قالوا إنما حسن إيلام الأطفال لغرض فيه وهو أن يعتبره غيره فيمتنع مع المعصية
قلنا فليس من المستحسن إيلام من لا ذنب له ليعتبر به مذنب
شبهتهم قالوا الذين ينكرون الشرع يعلمون قبح الظلم وكفران النعم مثل البراهمة ولو كان طريق التحسين والتقبيح الشرع لما عرفه من ينكر الشرع
ومن سلم لكم أن اعتقاد البراهمة علم بل اعتقادهم ليس بعلم وهو مثل اعتقادهم أن ذبح البهائم وتعريضها للتعب قبيح ولا يعد ذلك علما
قالوا العاقل إذا عرض له حاجة وتحصيل غرضه بالصدق ويحصل بكذب يصدر منه ولا مزية لأحد الطرفين على الثاني فإنه يختار الصدق ويجتنب الكذب وإنما يؤثر الكذب إذا كان فيه غرض لا يحصل من الصدق وليس ذلك إلا لكون الصدق حسنا بالعقل
قلنا هذا كلام متناقض في نفسه لأن الكذب قبيح يستحق عليه الذم (1/137)
والصدق حسن يستحق عليه المدح فكيف يتصور استواؤها في حصول الغرض بهما
والذي يدل على فساد ذلك أن ما ذكروه يوجب خروج الصدق عن حكم التكليف واستحقاق الثواب عليه لأن الملجأ إلى الشيء لا يثاب عليه وعلى قولهم العاقل مجبر على الصدق
ثم إن هذا الكلام إنما يستمر لهم بعد ورود الشرع بتحسين الصدق وتقبيح الكذب فأما قبل ورود الشرع واستقراره لا نسلم لهم ما ادعوه
مسألة
لا واجب على العباد عقلا وإنما طريق الايجاب الشرع وقبل ورود الشرع لا حكم أصلا
وقالت المعتزلة يجب على العبد عقلا أن يعرف الصانع ويشكره وهذه المسألة كالتي قبلها وقد بينا
وشبهتهم في المسألة قالوا إذا تأمل في حال نفسه جوز في ابتداء نظره أن يكون له صانع أنعم عليه وأنه لو شكر المنعم لأثابه وتفضل عليه بالزيادة ولو كفر لعاقبه ومن الجائز لا يريد ذلك فإذا تساوى الجوازان فالعقل يرشده إلى ما فيه الأمن من العقوبة
وهذا كما لو قصد السفر إلى بلدة لها طريقان أحدهما أمن والثاني مخوف ولا غرض له في المخوف فالعقل يقتضي تقديم ما فيه الأمن والعدول عن طريق الخوف
قلنا هذا الخاطر يعارضه مثله وذلك أن العاقل يخطر له كونه عبدا (1/138)
محكوما عليه وأنه ليس للملوك إلا ما أذن فيه مالكه وأنه لو أتعب نفسه كانت مكدودة من غير إذن مولاه وإن مالكه غني عن شكره وأنه يبتدي بالنعم قبل الاستحقاق لا يبتغي بدلا ولو فعل كان منه سوء أدب فإذا كان هذا الخاطر معارضا للأول فقضية العقل التوقف فيه وانتظار الأمر والإذن
والذي يحقق ما قلنا أن الملك العظيم إذا أعطى عبده رغيفا بالمثل ثم أراد العبد أن يطوف شرقا وغربا يثني على سيده بحسن عطائه وذكر إنعامه لا يعد مستحسنا لأن ما صدر من الملك بالإضافة إلى قدرة مستحقر فيكون العبد مستحقا للتأديب وجملة المخلوقات بالإضافة إلى جلال الله تعالى أقل من إضافة رغيف إلى ملك من ملوك الدنيا
جواب آخر أن من لا يخطر له الخاطر الذي ذكروه فطريق العلم لم يوجد في حقه والشكر حتم عليه على قولهم فبطلت قاعدتهم
مسألة
مذهب أهل الحق أن لا واجب على الله أصلا بل هو يتصرف في مملكته على حسب إرادته ومشيئته
وقالت المعتزلة يجب على الله تعالى من طريق الحكمة أن يخلق الخلق ابتداء وإذا خلق الذين علم انه يكلفهم فيجب أن يكمل عقولهم حتى يؤمنوا به ويجب أن يفعل ما هو الأصلح لهم في دينهم ودنياهم ولا يجوز في حكمته أن يبقى ممكنا بما فيه صلاحهم في العاجل والآجل وإذا أطاع العبد مولاه فيما أمر به يجب على الله أن يثيبه (1/139)
عليه وأن يعوضه عما لحقه من الألم
والدليل على بطلان قولهم أن يقال لهم أي شيء تريدون بما أثبتم من الوجوب فإن قلتم أردنا به توجه أمر عليه كان محالا لأن الله تعالى هو الآمر وحده لا آمر سواه
فإن قالوا نريد به أنه يتضرر بتركه فالباري تعالى يتقدس عن الضرر والنفع إذ لا معنى لهما إلا الألم واللذة وإذا بطل الطريقان ثبت ما ذكرناه
ثم يقال لهم بم أوجبتم ثواب الأعمال على الله تعالى وأعمالكم شكر على ما سبق من نعمة ومن أصلكم أن شكر المنعم واجب وإذا الفرض لا يستحق عليه عوض
ويقال لهم لو وجب على الله تعالى فعل الأصلح لعباده لوجب على العبد أن يعمل ما هو الأصلح له ولأولاده من أمر الدنيا وقد وافقونا على أنه لا يلزمه أن يعمل في حق نفسه ما هو الأصلح لدنياه
فإن قالوا إنما لم يوجب عليه فعل الأصلح في حق نفسه لأنه يصير بتكليف ذلك مجهودا متعبا والباري سبحانه لا يلحقه في فعل الأصلح تعب
قلنا فإذا لم توجبوا على العبد فعل الأصلح لأن فيه مشقة وتعبا وفي تكليفه العباد مشقة عليهم فيجب أن لا يجوزوا تكليف العباد ابتداء
فإن قالوا يحصل له بما يقاسي من التعب ثواب أعظم منه
قلنا ففي أمر الدنيا كذلك يحصل له النفع ولم يوجبوا (1/140)
ومن الدليل على بطلان قولهم أن في فعل النوافل صلاح العباد والذي يدل عليه أن الشرع دعاهم إلى ذلك وندبهم إليها فوجب أن يجب النوافل على العباد لأن فيه صلاحهم
فإن قالوا إنما لم يجب جملة النوافل لأن الباري تعالى علم أنه لو كلفهم لم يطيقوا فيكفرون بالجميع ويستحقون العقاب
قلنا أنتم لا تعتبرون الأصلح في العلم فإن الباري تعالى إذا علم من حال عبد أنه إذا مات في الحال لنجا من العذاب ولو بلغ مبلغ التكليف لطغى وعصى يجب عليه أن يرزقه العقل والكمال مع علمه بأن فيه هلاكه
ويقال لهم قولكم يوجب الأصلح على الله تعالى جحد الضرورة لأن الله تعالى يدخل الكفار في عذاب النار ويخلدهم فيها فأي صلاح لأهل النار في الخلود في النار
فإن قالوا إنما يخلدهم لأن الباري عز و جل علم منهم أنه لو أنقذهم لعادوا لما نهوا عنه فيستحقون زيادة العذاب
قلنا فكان من سبيلكم أن تقولوا يميتهم أو يقطع العذاب عنهم أو يسلبهم عقولهم حتى لا يعصوه
فيقال لهم إذا حكمنا بأن كلما يفعل الرب واجب عليه فعله فينبغي أن يقولوا الباري لا يستوجب شكرا لأن الواجب لا يقابل (1/141)
بشيء كقضاء الدين ولما أوجبوا الشكر بطلت قاعدتهم
مسألة
مذهب أهل الحق أن الباري تعالى يصح أن يرى بالأبصار عقلا وهو واجب للمؤمنين في دار القرار من جهة الوعد وورود الخبر به
وأما المعتزلة بأسرهم نفوا جواز الرؤية عليه أصلا وحقيقة
المسألة تبنى على أصلين أحدهما أن عندنا الرؤية تقتضي أن يكون لمحل الرؤية بنية مخصوصة مثل بنية العين ولا اتصال الشعاع من محل الرؤية بالمرئي
والأصل الآخر أن الرؤيا ليس من شرطها المقابلة واختصاص المرئي بجهة وعندهم شرط الرؤية بنية مثل بنية العين فينبعث منها الشعاع وهي أجسام لطيفة فيتصل بالمرئي والموانع مرتفعة من الحجاب الكثيف والقرب المفرط والبعد المفرط فيحصل الادراك
والشرط أن يكون المرئي مقابلا لمحل الرؤية ويستحيل الاتصال والمقابلة على الباري تعالى ويستحيل رؤيته
والدليل على أن الرؤية لا تقتضي بنية أن الله تعالى يرى الموجودات ويستحيل عليه البنية
وأيضا فإن الادراك الواحد لا يقوم إلا بجوهر واحد والجواهر المحيطة به لا تؤثر في محل الادراك لأن كل جوهر مختص بحيز لا (1/142)
يؤثر في جوهر آخر كما أن العرض إذا قام بمحل السواد والبياض لا يؤثر في محل آخر فإذا ثبت أن الجواهر المجتمعة غير مؤثرة فيه كان وجودها كعدمها
والدليل على أنه لا يقتضي اتصال الشعاع أن الباري تعالى يرى الموجودات والاتصال في وصفه محال والدليل عليه أنا نرى الأعراض ولا يجوز تقدير الاتصال بالعرض
فإن قيل إنما نرى الأعراض لأن الشعاع يتصل بما قام العرض به وهو الجوهر
قلنا فيلزمكم أن تجوزوا رؤية الطعوم والروائح لأنه قائم بالمحل والشعاع قد اتصل بالمحل وعندهم لا يجوز رؤية الطعوم والروائح ولأن الجوهر الواحد على قولهم لا يجوز تعلق الرؤية به والاتصال بالجوهر الواحد صحيح
فإن قالوا وجدنا أن الشيء يرى عند اتصال شعاع البصرية ولا يرى عند عدمه فدل أن اتصال الشعاع شرط
فالجواب أن يقال لهم لم قلتم أن بثبوت الرؤية في حالة وانتقالها في حالة لاتصال الشعاع به وعدمه فبم أنكرتم على من يقول أن ذلك راجع إلى استمرار العادة كالشبع عند أكل الخبز والحرارة عند القرب من النار وغيره (1/143)
وأما الدليل على أن الرؤية ليس من شرطها المقابلة أن الباري تعالى يرى المخلوقات والمقابلة لا تجوز في حقه بحال
وأيضا فإن الإنسان إذا نظر في المرآة أو جسم صقيل يرى نفسه ولا يجوز أن يكون الإنسان في مقابلة نفسه وإذا نظر فيما تحت سقف يرى السقف والسقف ليس من مقابلة محل الرؤية
والدليل عليه أنا نرى إذا نظرنا أجساما كثيرة وما يقابل حاسة العين شيء قليل فالمرئي أضعافه فنعلم أن الرؤية ليس من شرطها المقابلة وإذا ثبتت هذه المقدمات ثبت جواز الرؤية
ومن الدليل على جواز الرؤية أن المصحح للرؤية الوجود والباري تعالى موجود
والدليل على أن المصحح للرؤية الوجود أنا نرى المختلفات والمتضادات مثل السواد والبياض ولو لم يكن المصحح للرؤية الوجود لما صح رؤية المتضادات لأن الموجودات ما اشتركت إلا في الوجود
فإن قيل لو كان المصحح للرؤية الوجود حتى نرى جميع الموجودات لكان المصحح للسمع والشم والذوق الوجود حتى نسمع جميع الموجودات ونشم جميع الموجودات ونذوق جميعها وقد علمنا استحالة ذلك لاستحالة القول بأن الباري تعالى مسموع أو مشموم أو مذوق (1/144)
فالجواب أما ادراك حس السمع فالمصحح له الوجود ويجوز أن يخلق الله تعالى لنا سمعا ندرك به الجواهر والألوان وسائر الموجودات وأما الشم والذوق فهو عبارة عن نوع اتصال بمحل ومن الموجودات ما يستحيل عليه الاتصال فلم نطلق القول بجواز تعلقه بكل موجود
والدليل على جواز الرؤية من جهة السمع قوله تعالى وجوه يومئذ ناظرة والنظر المقرون بالوجه الموصول بحرف إلى لا يكون إلا بمعنى الرؤية قال الله سبحانه وتعالى كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون فلما اتصف قوم بالحجاب دل على أن اتصاف قوم بالرؤية
وقال تعالى تحيتهم يوم يلقونه واللقاء المقرون بالسلام لا يكون إلا بمعنى الرؤية
وقال رسول الله إنكم لترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته
فإن استدلوا بقوله تعالى لا تدركه الأبصار فدل أنه لا يرى
فالجواب أن نفي الادراك لا يقتضي نفي الرؤية قال الله تعالى لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر فنفني أن تكون الشمس مدركة (1/145)
للقمر ويجوز أن ترى الشمس القمر
جواب آخر نقول بظاهر الآية لأن الادراك ينبئ على الإحاطة والوقوف والكيفية والباري تعالى يتقدس عن التحديد والكيفية فلا تحصل الإحاطة
فإن استدلوا بقول الله سبحانه وتعالى في قصة موسى لن تراني فدل على أن الرؤية محال
فالجواب أن الآية حجتنا من وجوه أحدها أن موسى صلوات الله عليه سأل الرؤية ومثل موسى لا يجوز أن يسأل المستحيل
الثاني أن الله علق رؤية موسى بأمر غير مستحيل وهو استقرار الجبل فقال تعالى فإن استقر مكانه فسوف تراني وفي مقدور الله تعالى استقرار الجبل فدل على جواز الرؤية
الآخر أن الله تعالى قال لن تراني ولم يقل لم يجز على الله الرؤية
فإن قيل لو كان الباري مرئيا لرأيناه في وقتنا لأن الموانع مرتفعة من الحجب الكثيفة إذ الباري تعالى ليس في مكان حتى يكون بيننا وبينه حجاب من القرب المفرط والبعد المفرط ولما لم نره دل على استحالة الرؤية (1/146)
قلنا فلم حصرتم الموانع بما ذكرتم ولم أنكرتم على من يقول إنما لم نره لمعنى قائم بالحاسة مضاد لرؤية الباري تعالى وهو أنه لم يخلق لنا الإدراك
والذي يدل عليه أن جبريل عليه السلام كان يحضر عند رسول الله وهو يراه والباقون ما كانوا يرونه مع جواز الرؤية والمريض عند الموت يرى الملائكة وغيره لا يراها مع جواز الرؤية
فإن قيل هذا الذي ذكرتم من امتناع الرؤية لعدم خلق الإدراك محال لأنه يؤدي إلى أن يكون بحضرة الإنسان أشخاصا وأطلالا وهو لا يراها مع سلامة البصر وعدم الحجب والبعد المفرط والقرب المفرط لعدم الإدراك ومن جوز ذلك نسب إلى الجهل
قلنا امتناع ذلك يجري العادة به وإلا فذلك يجوز عقلا
ونظير ذلك من المقدور أن يقلب الله تعالى جبال الدنيا ذهبا والمياه دما ومن قدر وجوده اعتمادا على المقدور عد جاهلا
ومن الجائز أن يخلق الله تعالى بشرا سويا من غير والدين كما خلق آدم صلى الله عليه و سلم ثم من رأى إنسانا وشك في كونه مولودا عن أبوين عد جاهلا لأن ذلك راجع إلى استمرار العادة فكذا ما ذكرناه
مسألة
مذهب أهل الحق جواز بعث المرسلين والأنبياء إلى الخلق كافة (1/147)
وأنكرت البراهمة وقالوا من المحال أن يبعث الباري بشرا رسولا والمسألة تبتني على تحسين العقل وتقبيحه وقد قدمنا ذكره
والدليل على جواز بعث الأنبياء المعجزات الظاهرة على أيدي الأنبياء وسنذكر شرائط المعجزة وكونها دلالة شبهتهم
قالوا لو قدرنا ورود نبي من الله تعالى لم يخل ما جاء به الرسول إما أن يستدرك بالعقل أو لا يستدرك بالعقل فإن كان مما يستدرك بالعقل فلا فائدة في بعثه الرسل وإن كان مما لا يستدرك بالعقل فلا يتلقى بالقبول وإنما يقبل ما يدل عليه العقل فلم يكن فيه فائدة والحليم لا يفعل ما لا فائدة فيه
فيقال لهم ولم لا يجوز أن يكون ما جاء به الرسول مما يستدرك بالعقل ويكون بعث الرسل تأكيدا له ومثله غير ممتنع كما لا يستحيل قيام أدلة عقلية على مدلول واحد وإن كان في الواحد كفاية ويكون باقي الأدلة مؤكدا
جواب آخر لماذا لا يجوز أن يكون ما جاء به الرسول مما يستدرك عقلا إلا أن العقلاء تغافلوا عنه فيكون مجيء الرسول لطفا من الله تعالى بالقوم لينتهوا لما تغافلوا عنه فيكون فيه غرض
جواب آخر يقول لهم من الأمور ما لا يستدرك عقلا ويحتاج إليه العقلاء وهي الأغذية الموافقة للبدن والسموم القاتلة فهلا جوزتم بعث نبي (1/148)
يبين لهم ذلك ويميز الأغذية الصالحة من السموم القاتلة
ومن شبههم قالوا نرى في هذه الشرائع أمور مستقبحة بالعقل مثل ذبح البهائم وغيرها والحكيم لا يأمر بالفواحش وفيها أمور يمنع منها العقل وهو الإنحناء في الركوع والإنكباب على الوجه في السجود وخلع الثياب في الإحرام والمشي بين الجبلين في السعي ورمي الحجار وغير ذلك وإذا كان في جملة الشرائع مثل هذه الأشياء والعقل ينكر علمنا أنه لا أصل له
قلنا أما فصل ذبح البهائم فمقابل فإنا نرى من فعل الله إيلام البهائم والأطفال من غير جناية ولا يعد ذلك قبيحا فإذا لم يعد ذلك قبيحا في فعله جاز الأمر به
وأما الثاني فمقابل فإن الواحد منا لو أخذ ثياب غيره وعراه ومنع منه الطعام والشراب مع تمكنه منه يعد قبيحا
ثم الله تعالى يبلي عبده بالفقر والجوع والعطش ويبليه بسلب جوارحه وأطرافه وسلب العقل حتى يتعاطى في حال جنونه ما يتعاطاه ولا يعد مستقبحا وكذا ما أشاروا إليه من الأصل لا يعد مستقبحا
مسألة
المعجزة دالة على صدق الأنبياء وحقيقة المعجزة الخبر عن (1/149)
امتناع المعارضة وتحديه للإتيان به
وللمعجزة خمسة شرائط أحدها أن يكون فعلا من الله تعالى ولا يجوز أن يكون صفة قديمة وذلك لأن المعجزة دالة على صدق الرسول خاصة والصفة القديمة لا اختصاص لها ببعض المخلوقات دون بعض
فإن قال قائل شرطتم في المعجزة كونه فعلا فلو أن نبيا ادعى وقال آية صدقي عجزكم عن القيام عشرة أيام هل يكون ذلك معجزة أم لا فإن جعلتموه معجزة بطل قولكم أن من شرطها أن يكون فعلا لأن هذا ترك الفعل
فالجواب أن ذلك معجزة ومعنى الإعجاز فيه راجع إلى الفعل وهو القعود المستمر مع القصد إلى القيام
والشرط الثاني أن يكون الفعل خارقا للعادة لأنه إذا لم يكن خارقا للعادة يستوي فيه الصادق والكاذب فلا يظهر الصدق
فإن قيل خرق العادة لا يدل على الصدق لأن المقدور أن يجري الله تعالى عادة لم يعهد قبلها ولو اطردت واستمرت لم يكن معجزة وهو الذي ظهر لا يؤمن أن يكون ابتداء عادة
فيقال لهم ولو قال نبي من الأنبياء آية صدقي أن يقلب الله العادة ويطردها على خلاف ما هو معتاد لكان دليلا على صدقه لأن النادر الواحد إذا دل على صدقه مع عود العادة إلى ما كان قبلها فلأنه تدل عادة مطردة (1/150)
على خلاف ما كان معهودا على صدقه أولى
فإن قيل الحكماء بحكمتهم اطلعوا على خاصية الجسم حتى توصلوا إلى قلب النحاس ذهبا وامساك الحديد في الهواء بحجر له خاصية فأيش الذي يوجب أن يكون هذا الذي ظهر على يد مدعي النبوة مثل ذلك يكون ما جاء به من خاصية بعض الأجسام وقد انفرد هو بالإطلاع عليه
قلنا قول هذا الكلام يفضي إلى جحد الضرورات لأنا نعلم أنه ليس في قدرة البشر إحياء العظم البالي وقلب العصا ثعبانا وشق القمر بنصفين ومن ادعى أن بالحكمة يتوصل إلى مثل ذلك لا يعد عاقلا
الشرط الثالث تحدي النبي بالمعجزة وأن يكون ظهورها على وفق دعواه حتى لو ظهرت على يد شخص وهو ساكت لم تكن معجزة وذلك لأن المعجزة دلالة من حيث إنها تنزل منزلة تصديق الله تعالى للرسول وإذا كان دون التحدي لم تنزل منزلة التصديق
مثاله أن من ادعى على جماعة من العقلاء أنه رسول ملكهم إليه وقد عرفوا من عادة ملكهم أن لا يقوم إذا قعد في مجلس إلا في وقت معلوم فجاء الرسول والمرسل يراه ويعلم حاله وادعى الرسالة وقال آية صدقي أن أسأل الملك تغيير عادته في القيام والقعود فيوافقني عليه وسأله ذلك فوافق كان دلالة على صدقه
ولو ادعى الرسالة مطلقا ولم يقل إنه يوافقني على ما اقترحته عليه من تغيير عادته فقام الملك وقعد لم يكن ذلك دليلا على صدقه (1/151)
الشرط الرابع أن يكون ظهور المعجزة بعد الدعوى والتحدي حتى لو ظهرت آية فقال رجل من القوم أنا نبي الله والذي ظهر معجزتي لم يكن شيئا لأنه لا تعلق لما مضى بدعواه ولا يدل على صدقه
فإن قيل فهل يجوز أن تتأخر المعجزة عن دعوى النبوة
قلنا إن تأخرت ووافقت دعواه بأن قال علامة صدقي في ظهور كذا في الوقت الفلاني وظهر ما اخبر عنه على وفق ما قال لكان معجزة دالة على صدقه
الشرط الخامس أن تشهد المعجزة بصدقه ولا تشهد بتكذيبه حتى لو قال رجل يدعي النبوة علامة صدقي أن ينطق هذا الحجر أو الشجر فأنطقه الله تعالى بتكذيبه حتى قال أيها الناس إنه كاذب فاحذروه لم يكن ذلك معجزة ولا دلالة على صدقه فهذه شرائطها
مسألة
مذهب أهل الحق جواز ظهور ما يخرق العادة على أيدي الأولياء على سبيل الكرامة
وأنكرت المعتزلة كرامات الأولياء بالكلية
والدليل على ثبوتها قصة أصحاب الكهف وما كانوا أنبياء
والدليل عليه قصة مريم عليها السلام فإنها خصت بكرامات فمن ذلك أن زكريا كان يجد عندها في الشتاء فاكهة الصيف وفي الصيف فاكهة الشتاء حتى قال لها أنى لك هذا قالت هو من عند الله (1/152)
ومن ذلك حديث جذع النخلة وصوت الحناء من الجذع بعدما جفت ويبست النخلة
ومن ذلك حديث أم موسى وما ألهمت والقصة ظاهرة في القرآن
ومن ذلك ما ظهر من الآيات لمولد رسول الله وذلك ظاهر سائغ فلم يكن معجزة لأنها سبقت دعوة النبوة والمعجزة لا تسبق النبوة ووقعت من غير دعوى وشرط المعجزة الدعوى فعلم ذلك جواز الكرامة للأولياء بخرق العادة
والدليل عليه أن الأصول الخارقة للعادة مقدورة من الله تعالى وليست تستقبح عقلا وليس فيها قدح في المعجزات على ما تذكره فالقول بامتناعها لا وجه له
فإن قالوا لو جاز ظهور ما يخرق العادة على يد ولي من وجه لجاز من كل وجه وتجويز ذلك مضى إلى ظهور معجزة الأنبياء على يد الأولياء وفيه تكذيب النبي الذي تحدى به وقال آية صدقي أني آتي بكذا ولا يأتي أحد بمثل ما أتيت به وإذا كان يؤدي إلى إبطال النبوات لم يجز القول به
قلنا هذا فاسد فإن الشيء الواحد من خوارق العادة يجوز أن يكون معجزة لنبي بعد نبي وظهوره على يد نبي آخر لا يقدح في نبوة الأول فكذا بظهوره على يد ولي
فإن قيل الذي أظهر تلك المعجزة يفيد دعواه ويقول لا يأت بمثل ذلك إلا من يدعي النبوة وكان صادقا فلا يقدح ذلك في نبوته
قلنا إذا جاز أن تفيد الدعوى بما ذكرتم جاز أن تفيده بما نخرج منه (1/153)
الكرامة فيقول لا يأت بها مسيء ولا من يقصد تكذيبي فلا تكون الكرامة قادحا فيها لأنه لا يقصد تكذيبه
إذا ثبت ما ذكرنا من الدلائل على جواز ظهورها بخرق العادة على يد الأولياء على سبيل الكرامة فماذا تتميز الكرامة عن المعجزة
اختلفوا فيه فذهب قوم إلى أن شرط الكرامة أن تكون من غير إيثار واختيار من الولي والمعجزة يكون بالإيثار والاختيار فيفترقان
وقوم قالوا يجوز ظهور الكرامة على يد الولي مع الاختيار ولكن لا يجوز ظهورها مع دعوى الولاية حتى لو ادعى الولاية وأراد إثباتها بالكرامة لم يخرق المعجزة فظهر مع دعوى النبوة
والفرق الصحيح أن الكرامة لا تقع موافقا لدعوى الولي والمعجزة شرطها أن تكون موافقة لدعوى مدع النبوة فيظهر به الفرق
مسألة
مذهب أهل الحق أن السحر حق ومعناه أنه موجود
وأنكرت المعتزلة ذلك قالوا لا أصل له
والدليل عليه قصة هاروت وماروت وهو ظاهر في نص القرآن
والدليل عليه اتفاق أهل التفسير على أن نزول المعوذتين في سحر لبيد بن أعصم لرسول الله
والدليل عليه أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه سحرته اليهود فتكوعت يده فأجلاهم عمر عن ديارهم وروي أن جارية لعائشة سحرتها فباعتها عائشة (1/154)
والدليل عليه إجماع الفقهاء على السحر واختلافهم في أحكامه حتى تكلموا في وجوب القصاص على من قتل بالسحر فدل ذلك على أنه موجود
فإذا ثبت كون السحر موجودا فالسحر موافق للكرامة إلا أن السحر لا يظهر إلا على يد فاسق والكرامة لا تظهر على يد فاسق بل تظهر على يد من يكون حاله موافقا للشرع والدين
مسألة
محمد نبي حقا وهو أفضل الأنبياء وخاتم النبيين
وليست النبوة وصفا راجعا إلى نفس النبي ولا إلى صفة من صفاته ولا إلى علم ربه لأن غير النبي يكون عالما بربه ولكن النبوة قول الله عز و جل لمن يصطفيه ويختاره أنت رسولي فهو من أحكام القول لا من صفات الفعل
وأنكرت رسالة رسولنا محمد طائفتان إحداهما اليهود وطريقتهم منع النسخ والثانية أنكروا معجزته
وذهب قوم يسمونهم العيسوية إلى أنه رسول الله إلى العرب خاصة دون سائر الناس
فأما الكلام مع اليهود فيبنى على أصل وهو جواز النسخ وأنكره اليهود وحقيقة النسخ عندنا الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بخطاب آخر قبله ولولا الخطاب الثاني لاستمر الحكم المنسوخ ومن (1/155)
ضروريته رفع حكمه بعد ثبوته
والدليل على جواز النسخ أنه لو كان مستحيلا لكان لا يخلو أما أن يكون استحالته لنفسه كاستحالة اجتماع المتضادين مثل الحركة والسكون والافتراق والاجتماع أو تكون استحالة لكونه قادحا في صفة من صفات الإلهية ولا يجوز أن يكون استحالته لنفسه لأن كون الشيء مأمورا به ليس لنفسه ولا يكون منهي عنه لنفسه وإذا لم يكن مأمورا به أو منهيا عنه من صفات نفسه لم يجز امتناع النهي عما أمر به لنفسه
ولا يجوز أن يكون لكونه قادحا في صفة من صفات الإلهية لأنه ليس في النسخ ما يضاد العلم والقدرة والإدارة ولا شيئا من الصفات فلم يكن مستحيلا
فإن قيل هو مستحيل لأنه بداء والبداء لا يجوز على الله تعالى
قلنا النسخ ليس هو بداء لأن معنى البداء استفادة علم لم يكن وقد يكون عبارة عمن يهم بأمر ويقصده ثم يندم على ما قدم
ولا يتحقق ذلك في وصفه سبحانه لأن علم الباري متعلق بجملة المعلومات على ما هي عليه لا يتجدد له علم لم يكن وليس له تعلق بالإرادة لأن على أصلنا يجوز أن يأمر الباري تعالى بما لا يريده وينهى عما يريده وليس ذلك بمستحيل وقد قدمنا ذكره
فإن قالوا فيه استحالة لأن ما أوجبه الله تعالى فقد اخبر عن كونه واجبا فلو خطره واخبر عن كونه محظورا لا يقلب الخبر الأول خلقا (1/156)
وذلك مستحيل في وصف الباري سبحانه وتعالى لأن خبره صدق لا محالة
قلنا هذا ليس بصحيح لأن الوجوب ليس بصفة للواجب على اصلنا ولكن الواجب الذي قيل فيه افعل فاذا اخبر الباري تعالى عن وجوب شيء فمعناه أنه أخبر عن الأمر به وإذا نهى عنه اخبر عن النهي عنه فلم تكن بين الأخبار عن الأمر به وبين الأخبار عن النهي عنه تناقض وإنما يقع التناقض لو كان الوجوب صفة الواجب يقع الخبر به والنهي صفة المنهي عنه يقع الخبر عنه فيقع التناقض
فإن قالوا انتم جوزتم النسخ ثم ادعيتم أن شريعتكم مؤيدة فإذا طولبتم بالدليل عليه صرتم إلى إخبار رسولكم بتأييد شرعه وأنه لا نبي بعده ونحن ندعي أيضا أن موسى عليه السلام أخبر بتأيد شرعه وأنه لا نبي بعده
قلنا لو صح ما قلتوه عن موسى لكان صدقا ولو كان صدقا لما ظهرت المعجزة على يد عيسى ومحمد صلى الله عليهما فلما ظهرت المعجزة على يد من ادعى النبوة بعد موسى ظهر به كذبهم فيما ادعوه فإن طعنوا في معجزة عيسى ومعجزة رسولنا صلى الله عليهما لم ينفصلوا عمن يعكس ذلك عليهم في معجزة موسى
جواب آخر عن سؤالهم (1/157)
نقول ادعيتم محالا فإنه لو كان لما قلتم أصل لكان أولى الاعصار بإظهار ذلك عصر رسولنا ومعلوم أن الجاحدين لرسالته من اليهود في عصره ما تركوا مجهودا في رد نبوته فلو كان في التوراة نص لا يقبل التأويل في تأييد شرعه لأظهروا ذلك فلما لم يظهروا دل على فساد أقوالهم
وأما الكلام على الطائفة الثانية وهم الذين أنكروا معجزته فنقم عليهم إثبات كون القرآن معجزا
وبيان الإعجاز فيه من ثلاثة أوجه أحدها جزالة اللفظ وفصاحته مع كونه مخالفا للنظم المعهود عند العرب وهو نظم الشعر وهذا امر لا مراء فيه لأن العرب مع فصاحتهم وكونهم من أهل اللسان كلهم انقادوا له وأقروا بفصاحته ثم منهم من صرح بالإقرار ومنهم من سكت
والدليل على اعترافهم أنهم ارتقوا في دفعه بالمجاوبة إلى محاربته بالسيوف حتى قتلوا وقهروا ونهب أموالهم وسبي ذراريهم والعاقل لا يشتغل بأمر يكون فيه هلاكه وهو يقدر على دفع الخصم بما لا يخاف منه الهلاك والضرر فلو قدروا على معارضته لاشتغلوا به فثبت أنه من أفصح الكلام
ومعنى الفصاحة والبلاغة فيه يعود إلى أمرين أحدهما العبارة عن (1/158)
المعنى السديد بلفظ شريف يدل على المقصود من غير زيادة وجمع المعاني في الكثرة عبارة وجيزة وهذا لا يعد القراءة كثرة
فمن ذلك أنه أخبر عن قصص الأولين وعن إهلاكهم في شطر آية وهو قوله تعالى فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض الآية وكذلك أخبر عن سفينة نوح واجرائها على الماء واهلاك الكفرة واستقرار السفينة وتسخير الأرض والسماء بالأمر في ألفاظ وجيزة وهو قوله تعالى وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إلى آخر الآية وأخبر عن الموت وحسرت في الدار الآخرة وثوابها وعقابها وأنها دار غرور وأنها قليلة بالإضافة إلى دار البقاء في ألفاظ معدودة وقوله تعالى كل نفس ذائقة الموت إلى آخرها وأمثال هذا كثيرة
والوجه الثاني من البلاغة أنه ذكر القصص واستوفاها بأجزل عبارة وأفصحها والبلغاء أنما يحسن كلامهم في التثبيت فإذا شرعوا في حكاية الأحوال تركوا الجزالة له وإن أرادوا الجزالة لم يذكروا مقصودهم من المعنى إلا بتطويل وزيادة على القدر المحتاج إليه فظهر به الفصاحة
والوجه الثالث من الإعجاز أن القرآن تضمن الأخبار عن القصص (1/159)
الأولين على وفق ما كان في الكتب المنزلة على الرسل قبله والرسول كان أميا لم يكن قد درس الكتب ولا اشتغل بالعلم وكان قد نشأ بينهم ولم يعرف له سفر يتوقع فيه تلقف العلم فظهر بذلك صدقه
والوجه الرابع أنه تضمن الأخبار عن أمور مستقبلة كلها ما وقع الأخبار عنها موافقا له فمن ذلك قوله قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولم يقدروا عليه وقال فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا وما قدروا عليه وقال تعالى لتدخلن المسجد الحرام وتحقق دخوله وقال آلم غلبت الروم وقد تحقق ذلك في القرآن أكثر من أن يحصى فظهر بذلك كون القرآن معجزا وإذا ثبت ذلك لزم الانقياد وبطل دعوى من أنكر المعجزة
وأما الكلام مع العيسوية فظاهر لأنهم اعترفوا بصدقه فيما ادعى من الرسالة وقد ادعى الرسالة إلى جملة الخلق وبعث الرسل إلى الأكاسرة والقياصرة وبعث إليهم السرايا واشتغل بالقتال معهم فثبت أنه رسول إلى كافة الخلق
مسألة
الأنبياء معصومون عما يناقض مدلول المعجزة وهو صدقهم فلا يجوز (1/160)
عليهم الكذب فيما يبلغون هذا لا خلاف فيه
والدليل عليه أنه لو جاز عليهم الكذب لم تقع الثقة بهم فكان في ذلك إبطال فائدة المعجزة وأما غير ذلك من الكبائر فهم معصومون عنها وطريق إثباته الاجماع فإن العقل لا يدل عليه
وأما الصغائر فاختلفوا في جوازها عليهم فمنهم نفاها تحقيقا للعصمة ومنهم من جوزها وعليه يدل قصص الأنبياء وهو ظاهر في القرآن مثل قصة داود وغيره
مسألة
حشر الخلائق ونشرهم بعد افنائهم حق والله تعالى قادر على الإعادة بعد وجوده إلى الفناء جوهرا كان أو عرضا
وأنكر قوم من الملحدة والزنادقة الحشر
وقالت المعتزلة الجواهر والأجسام والأعراض الباقية المقدورة لله تعالى يجوز إعادتها فأما ما لا يجوز بقاؤها من الأعراض فلا يجوز إعادتها وكذلك ما كان مقدورا للعباد لا يجوز إعادتها والباري تعالى لا يقدر على إعادتها
وقالت الكرامية أن الباري لا يقدر على إعادة الجواهر بعد فنائها ولكن يعيد أمثالها وأشباهها
والدليل على جواز الحشر والنشر والإعادة بما نص الشرع عليه في (1/161)
قوله قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وتحقيق ذلك أن الإعادة ليست مخالفة النشأة الأولى لأن المعاد هو المخلوق نفسه ولا يجوز أن يقدر الشيء خلاف نفسه وإذا كان مثل الأول جاز وجوده لأن من حكم المثلين التساوي في الجائز والواجب من أحكامه
والدليل عليه أن الأوقات التي تقارن الموجودات لا تأثير لها فيما يظهر من الحوادث وإذا لم يكن للوقت تأثير فيما وقع وحدث في وقت لم يمتنع وقوعه في غيره
وإذا ثبت أنه غير مستحيل منصوص الكتاب دلت عليه أنه سيكون قال الله تعالى وإليه تحشرون وقال ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وغير ذلك من الآيات
فأما ما قالت الكرامية فهو إبطال العقاب والثواب بالكلية وذلك لأن الله تعالى إذا أفنى العيال ولا يقدر على إعادتهم وإنما يعيد أمثالهم فالثواب ليس للمطيع وإنما هو لمثله والعقاب ليس للعاصي وإنما يكون لمثله ومثله لا طاعة له ولا معصية
فإن قيل إذا جوزتم إعادة الجواهر والأعراض والأجسام يفنيها (1/162)
الله تعالى بكليتها جواهرها وأعراضها ثم يعيدها أم يفني أعراضها المعهودة ثم يعيدها
قلنا كلا الأمرين جائز عقلا ولم يرد دليل سمعي يوجب القطع بأحد الأمرين فكلاهما جائز وقوعه
مسألة
عذاب القبر ومسائلة منكر ونكير حق ثابت
وأنكرت المعتزلة ذلك وقالوا لا عذاب في القبر ولا سؤال
والدليل عليه أن العذاب في القبر ليس ما يستحيل عقلا لأن الله تعالى قادر على إحياء الموتى وقادر على أن يبعث إليهم رسولا يسألهم وما كان جائزا عقلا وورد به السمع فلا بد من اتباعه قال الله تعالى في قصة فرعون وحاق بآل فرعون سوء العذاب وهو العذاب قبل الحشر لأن الله تعالى أخبر عما يكون يوم القيامة من حالهم ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب والدليل عليه أن الأخبار قد تواترت باستعاذة رسول الله من عذاب القبر
وروي أن رسول الله مر بقبرين فقال أنهما يعذبان وما يعذبان (1/163)
في كبيرة أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة والآخر فكان لا يتنزه من البول وقال رسول الله استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه
وروى أن النبي لما وضع سعد بن معاذ في القبر تغير وجهه فقال سبحان الله فسئل عن ذلك فقال رأيت القبر ضمه ضمة أقام منها أضلاعه
فإن قيل نحن نشاهد الميت كما كان لم يتغير حتى لو كان على بطنه قدح من ماء لم يتغير عن حاله
فيقال أن مثل هذه الاستعاذات لا يعول عليها وهو مثل استعاذات الكفرة إحياء العظام البالية واعادة الحق بعد افنائها والله تعالى قادر على أن يرينا صورته على حاله وألما على بطنه ويكون معذبا كما أنا نشاهد الرجل به الوجع الشديد والآلام العظيمة وهو على صفته (1/164)
فإن قيل من آكلته السباع أو حرق وفرق رماده كيف يسأل وكيف ترد إليه الروح فيقال له ليس من شرط الحياة بنية مجتمعه ولا جثة كبيرة فإنا نشاهد حيوانات صغيرة الجسم وإذا لم يكن كبر الجسم شرطا والله سبحانه وتعالى يجمع منها جزءا يعلمها ويرد عليه الروح ويتوجه عليه السؤال والعقاب لو أراد معاقبته وليس ذلك بمستحيل
مسألة
الروح أجسام لطيفة يجتمع مع الأجسام المحسوسة والله تعالى أجرى العادة أن الحياة تستمر في الأجسام المحسوسة إذا كانت تلك الأجسام اللطيفة مجتمعة معها وتفارقها الحياة إذا فارقتها تلك الأجسام
وأما الحياة فعرض والأجسام اللطيفة المحسوسة تكون حسية بالحياة وهي صفة تقوم بالجسم لأن الروح توجب الحياة وهذا كما أجرى الله تعالى العادة بظهور الشبع عند الأكل والري عند الشرب والله خالق الري والشبع ولكن يجري العادة يكون ذلك عند الأكل والشرب
ثم الأرواح إذا فارقت الأجسام فما كان من أرواح الموحدين يكون في الجنة في حواصل طير خضر وما كان من أرواح الأشقياء يهبط بها إلى سجين كما ورد به الأخبار والآثار وليس للعقل في هذا مجال (1/165)
مسألة
الكتب التي يحاسب عليها العباد حق والميزان حق والصراط حق وهو جسر ممدود على جهنم ترد عليه الخلائق فإذا وردوها يسلون عليها
والحوض حق وهو حوض من الماء أعطاه الله رسوله كرامة له يسمى الكوثر
وأنكرت المعتزلة الكتب والصراط وصنف من المبتدعة أنكروا الحوض
والطريق في إثبات هذه الأشياء أن كل هذه الأمور من مجوزات العقل إذ ليس في شيء منها استحالة والسمع قد ورد بجميع ذلك قال الله سبحانه وتعالى وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا وقال تعالى وأما من أوتي كتابه بشماله فأما من أوتي كتابه بيمينه وأما من أوتي كتابه وراء ظهره وقال في الميزان ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ووردت الأخبار عن رسول الله بصفة الصراط وبالحوض وبصفته وفي القرآن ما يدل عليه وهو قوله سبحانه وتعالى إنا أعطيناك الكوثر فوجب الإيمان بجميعه (1/166)
فإن قيل كيف توزن الطاعات والمعاصي وهي أعراض لا يمكن وزنها
فيقال الخبر قد ورد عن رسول الله بأنه توزن الصحف والله ينقلها في الميزان على قدر ما تعلق بها من الثواب والعقاب في علمه
فإن قيل ورد في الخبر أن هذا الصراط أدق من الشعرة واحد من السيف وحصول الخلائق على ما هذا وصفه غير ممكن
قلنا هذا خطأ فإن الوقوف في الهواء على الماء غير مستحيل وبماذا يستحيل الوقوف على صراط وصفه ما ذكرنا
مسألة
الجنة والنار مخلوقتان مدة حياة الدنيا وموجودتان على الحقيقة
وأنكرت المعتزلة كونهما مخلوقتين في الحال وقالوا الله سبحانه وتعالى يخلقهما يوم القيامة وما ورد من قصة آدم فكان في بستان من بساتين الدنيا
والدليل على ما ذكرناه أن كونهما مخلوقتين ليس بمستحيل في العقل وقد ورد السمع بذلك قال الله تعالى وجنة عرضها السماوات (1/167)
والأرض أعدت للمتقين وقال الله تعالى عندها جنة المأوى
والدليل عليه قصة آدم وإدخاله الجنة وإخراجه منها وما قالوا أنه كان في بستان من بساتين الدنيا فخطأ لأن الله سبحانه وتعالى وعده الرد إليها ولا يكون رده إلى بساتين الدنيا
فإن قالوا أي فائدة من خلقهما قبل وقت الثواب والعقاب
قلنا أفعال الله لا تحمل على الاعتراض بل هو الفعال لما يريد ويشاء من غير حاجة وغرض
مسألة
ثواب المطيع وعقاب العصاة ليس بحق على الله من جهة العقل ولكن الخبر ورد بأنه يثيب المطيعين ويعذب العصاة ووعده حق ووعيده حق
وقالت المعتزلة يجب على الله تعالى أن يثيب المطيعين حتما ويجب عليه معاقبة من عصاه ومات من غير توبة
والدليل على بطلان قولهم أن السيد إذا قام بمؤنه عبده وكفايته وأعطاه زيادة على ما يحتاج إليه وأنعم عليه ولم يكلف العبد بذل جهده في الخدمة أقصى ما يقدر عليه بل تركه مودعا مرفها في عامة أوقاته يشتغل (1/168)
بلذاته وشهواته وأمره بالخدمة في بعض الأوقات على وجه ليس فيه مشقة عظيمة فالعبد لا يستحق بإزاء تلك الخدمة على سيده شيئا فإذا كان هذا سبيل من يخدم مثله فكيف سبيل من يعبد الله سبحانه وجميع عباداته لو قوبلت بأدنى نعمة من الله عليه لما كان له في مقابلة تلك النعمة خطرا
وأيضا فإن عبادة العباد شكرا على النعمة وشكر النعمة واجب خصوصا عندهم فإنهم أوجبوه عقلا وليس من حكم العقل استيجاب عوض على ما هو واجب إذ لو استحق العبد بشكره عوضا لاستحق الرب عليه شكرا آخر لأن الثواب وذلك يؤدي إلى ما لا ينتهي
ومن الدليل على فساد قولهم أنهم قالوا يجب على الله سبحانه وتعالى أن يثيب المطيعين ثوابا مؤبدا ويعاقب العصاة عقابا مؤبدا وطاعات العبد ومعاصيه متناهية محصورة ونحن نعلم أن من جنى جناية وقدر له دوام البقاء لم يحسن معاقبته على الجناية أبدا ولأنهم قالوا الثواب يتأخر إلى يوم القيامة
وليس من حكم العقل تأخير المستحق عن مستحقه وحبسه عنه مع القدرة فهلا أوجبوا الثواب في الوقت حتى يزداد العبد بذلك رغبة في الطاعة فظهر فساد قولهم
مسألة
من ارتكب كبيرة ولم يوفق للتوبة لم يستحق اسم الكفر ولا يبطل ثواب عمله ولا يستحق التخليد في النار والذنوب كلها كبائر عندنا من حيث (1/169)
أنها مخالفة لأمر الرب تعالى إلا أنها في أنفسها متفاوتة فبعضها أعظم من البعض
وقال قوم من الخوارج إنه يستحق اسم الكفر على وجهة كفران النعمة
وقالت المعتزلة لا نسميه مؤمنا ولا كافرا ولكن يسمى فاسقا وهو منزلة بين منزلتين
واتفقوا على أنه يستحق التخليد في النار ولا يغفر ذنبه ويبطل ثواب أعماله
فنقول لهم قد قلتم أن الباري تعالى يحبط أعماله بذلة واحدة
ونحن نعلم أن من خدم غيره مدة وبذل جهده في رعاية حقه زمانا طويلا وما وقعت إلا هفوة وزلة وصاحبه علم أنه قادر على منعه ولم يمنعه منه أن لا يحسن إحباط جميع خدمته بسبب ذلك فإذا كان لا يحسن ذلك فيما بين المخلوقين كيف يجب ذلك على الباري جلت قدرته
وأيضا فإنها لا كبيرة توازي مغفرة الله تعالى كما لا طاعة تقابل الكفر بالله تعالى وإنما تعرف الأشياء بأضدادها فكان من سبيلهم أن يقولوا يبطل الثواب بالمعرفة (1/170)
فأما أن يبطل بها ثواب الإيمان فلا ولأن الثواب والعقاب إن كانا متنافيين فلم كان إبطال الثواب بالعقاب أولى من إبطال العقاب بالثواب بل إحباط العقاب أولى لأن السمع ورد به قال الله تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات ولأن الكبيرة تقارن الطاعات ولا تمنع من صحتها حتى لو تاب بعده يثاب عليها
ولو كان يسقط ثواب الطاعة لكان ينافي صحته كما في حال الردة ولأن من بغى عليه عبده وعصاه فعاقبه مدة ثم رده إلى الكرامة لم يستقبح ذلك فكيف تحكموا بأنه لا يجوز من الله تعالى أن يعفو عنه ويرده إلى الكرامة ويتضح ذلك بآيات من كتاب الله تعالى أن الله لا يغفر أن يشرك به وقال تعالى إن الله يغفر الذنوب جميعا وقال لا تقنطوا من رحمة الله وقال ومن يغفر الذنوب إلا الله فإن استدلوا بقوله ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها
قلنا معناه ومن يقتل مؤمنا مستحلا قتله فيكون معناه من قتل مؤمنا لأجل إيمانه ومن فعل ذلك فهو كافر مخلد في النار هكذا قاله ابن عباس رضي الله عنه وهو ترجمان القرآن (1/171)
ثم نعارضه بقوله إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ولا يصح حمله على موضع التوبة لأن الله تعالى علق التوبة على المشيئة وقبول التوبة على قولهم حتم فمن تاب يغفر له حتما لأنه فارق ذلك بمشيئته
مسألة
شفاعة محمد حق للعصاة من أمته
وأنكرت المعتزلة ذلك وقالوا لا يجوز الشفاعة لأهل الكبائر وشفاعته لرفع الدرجات لا لغفران السيئات
والدليل على بطلان قولهم أن قبول الشفاعة للعصاة ليس مما يحيله العقل فإن من عصى مالكه وخالقه لا يستقبح في العقل أن تتشفع إليه بعض المختصين به حتى يعفوا عنه وإذا كان جائزا في العقل
فالسنة المستفيضة قد وردت به موجب الإيمان به فإن حملوه على الشفاعة لرفع الدرجات ثم يصح لأن في الخبر عن رسول الله أنه قال شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وفي خبر آخر أنه يجيء إليهم فيخرجهم من النار والمطيعين لا يكونوا في النار (1/172)
عندهم
مسألة
عندنا حقيقة الإيمان هو التصديق بالقلب والطاعات تسمى إيمان على سبيل التوسعة ويوصف الباري تعالى بأنه مؤمن قال تعالى السلام المؤمن
ونوصف به العباد أيضا إلا أن إيمان الله تصديقه لنفسه ورسله بما جاءوا به وإيمان العباد تصديقهم لمعبودهم ولرسله وكتبه وإيمان الباري تعالى قديم وإيمان العبد مخلوق
وقال بعض أصحاب الحديث الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان وجميع الطاعات عندهم من الإيمان
وقال بعضهم الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان
وقالت الكرامية الإيمان هو الإقرار المجرد باللسان فحسب حتى أن من أقر باللسان وأضمر الكفر فهو مؤمن حقا ويستحق الخلود في النار ولو أضمر الإيمان ولم يظهره فليس بمؤمن ويدخل الجنة
وقالت الخوارج وإليه ذهب بعض المعتزلة أن الإيمان هو الطاعة فحسب والغرض من هذا القول أن من خالفنا في حقيقة الإيمان لا يصف الفاسق بالإيمان وعندنا الفاسق مؤمن على التحقيق
والدليل على أن الفاسق مؤمن أن الإيمان في اللغة هو التصديق قال الله تعالى في قصة يوسف وما أنت بمؤمن لنا أي بمصدق (1/173)
والفاسق مصدق ويوصف بالإيمان
والدليل عليه أن الأحكام المختصة بالمؤمنين تجري على الفسقة من الدفن في مقابر المسلمين والصلاة عليهم وصرف مال المصالح وصرف الزكوات إليهم وغير ذلك ولأنهم سموه عارفا بالله تعالى مع فسقه فلم لا يجوز أن يسمى مؤمنا فإن استدلوا على أن الإيمان هو الطاعات يقول الله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم وأراد به الصلاة إلى بيت المقدس وقال الإيمان بضع وسبعون بابا
فالجواب أنا نساعدهم على وقوع اسم الإيمان على هذه الأشياء لأنها تتصل به ومن جملة أحكامه ولكنه مجاز
فإن قيل إذا قلتم أن الإيمان هو التصديق يلزمكم أمران أحدهما امتناع زيادته ونقصانه إذ التصديق لا يتغير والله تعالى وصفه بالزيادة فقال فزادهم إيمانا
والثاني أن يكون إيمان رسول الله وإيمان الأنبياء والأولياء والصديقين مثل إيمان الفاسق المنتهك لأن التصديق في حق الجميع واحد وذلك محال
قلنا لا يلزمنا شيء من ذلك لأن التصديق عرض من الأعراض وهو كلام النفس والأعراض عندنا لا تبقى بقاء الزمن فهو في حق رسول الله يتوالى ويتعاقب ولا يكون له فترة لغفلة ولا شك ولا نوم وإليه أشار (1/174)
حيث قال تنام عيناي ولا ينام قلبي وفي حق غيره لا يتعاقب عليه مثل ما يتعاقب في حقه ويقع فيه الفترة بالغفلة والنوم في حق الفسقة والجهال بالشك قد ظهر بذلك التفاوت ويتحقق الزيادة بزيادة تجدد التصديق المجدد
مسألة
التوبة في اللغة الرجوع يقال تاب إذا رجع فإذا أضيفت التوبة إلى الله تعالى كان المراد به رجوع نعمائه إلى عباده وإذا أضيفت إلى العباد كان المراد بها رجوعا من الزلات والمعاصي إلى الندم عليه والتوبة في اصطلاح الناس الندم على المعصية
وأما شرائط التوبة فالمعاصي قسمان قسم منها يتمحض حقا لله تعالى لا يتصل بحق الآدميين
والقسم الثاني ما يتصل بحق الآدميين فأما ما هو حق الله تعالى فإن كان ارتكاب محظور مثل الشرب والزنا وغيره فله شرطان أحدهما الندم على ما كان منه وحقيقة الندم أن يتمنى أن ما كان منه ليته لم يكن
والشرط الثاني أن يعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل وإن كان يترك مأمور مثل الصلاة والصوم فله ثلاث شرائط الندم على التفريط (1/175)
وقضاء ما تركه والخروج منه والعزم على ترك العود إليه
وأما ما يتصل بحق العباد فله ثلاث شرائط الخروج عن حقه مثل رد المغصوب وغرامة ما أتلف عليه من مال ونفس وإن لم يكن له بدل مثل القصد والضرب والأذية فيطلب رضاه ويطيب قلبه بما يقدر عليه والندم على ما حصل منه والعزم على تركه والعود إليه فإذا اجتمعت هذه الشرائط على ما ذكرناه تصح التوبة
مسألة
التوبة واجبة على كل من عصى الله تعالى وخالف أمره
والدليل عليه الآيات الواردة في كتاب الله تعالى في الأمر بالتوبة مثل قوله تعالى وتوبوا إلى الله وغير ذلك من الآيات
والدليل عليه إجماع الأمة على وجوب ترك المعاصي والندم على ما حصل في الوجود فثبت أنه واجب
مسألة أخرى
قبول التوبة لا تجب على الله عقلا
وقالت المعتزلة يجب على الله تعالى قبول التوبة (1/176)
والدليل على فساده أنا إذا رجعنا إلى الشاهد ورأينا الواحد منا أساء إلى غيره وبالغ في عداوته ثم جاء معه إليه معتذرا لا يحتم عليه من قضية العقل قبول توبته حتى لو امتنع من ذلك لا يعد مخالفا للعقل فإذا لم يكن ذلك في الشاهد حتما كيف أوجبوا على الله تعالى
والدليل عليه إجماع المسلمين على الرغبة إلى الله تعالى في قبول توبتهم والخضوع والخشوع خوفا أن لا تقبل التوبة فثبت أنه غير واجب
فإن قيل إذا لم تحكموا بوجوب قبوله عقلا فهل تقطعون بقبوله سمعا أم لا قلنا أما التوبة عن الكفر فمقبولة قطعا وأما التوبة عن المعاصي فقد ورد به ظواهر القرآن مثل قوله تعالى غافر الذنب وقابل التوب وقوله تعالى وهو الذي يقبل التوبة عن عباده إلا أن هذه ظواهر وليست مما توجب القطع في حق كل أحد والظاهر أن الباري يقبل التوبة عن كل ذنب في كل مذهب
مسألة
تصح التوبة عن بعض الذنوب عندنا مع الإصرار على غيره
وقال أبو هاشم من المعتزلة لا يصح ذلك
والدليل على بطلان قوله أن من تعدى على رجل بغصب أمواله وهتك محارمه وإيلامه بالضرب وتحريق الثياب ثم غرم ما (1/177)
أتلفه ورد ما أخذه واعتذر عن هتك حرمته ولم يعتذر عما مزق من ثيابه يصح اعتذاره مما يعتذر فيه ولأن الكافر لو أسلم صح إسلامه وإن كان مصرا على زله وكذا إذا تاب عن ذنب وجب أن تصح توبته مع الإصرار على غيره ولأن عنده الطاعة حسنة بالعقل والمعصية مستقبحة بالعقل
ثم اتفقنا على أنه يصح منه الطاعة مع تركه ليغيرها فكذا وجب أن تصح منه التوبة مع الإصرار على غيرها
مسألة
من تاب عن ذنب وصحت توبته ثم عاد إلى الذنب فالتوبة الماضية صحيحة ولا تبطل
وإنما قلنا ذلك لأن التوبة عبادة من العبادات فلا يقدح فيها بعد صحتها ما يظهر بعدها كسائر العبادات وعليه تجديد التوبة لما أحدثه من الذنب وتكون هذه التوبة عبادة أخرى
مسألة
شرائط الإمامة أن يكون من ينصب إماما رجلا مسلما حرا عاقلا بالغا مجتهدا بحيث لا يحتاج أن يستفتي فيما يقع من الحوادث وأن يكون مهتديا إلى الأمور يضبط أمور المسلمين ويقوم بمصالحهم ذا رأي قوي حصيف بتجهيز الجيوش وسد الثغور وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق (1/178)
وأن يكون ورعا موثوقا بدينه لأن من لا يكون ورعا لا يقبل قوله في حكومة فكيف في أمور المسلمين
ويشترط أن يكون قرشيا لقول رسول الله الأئمة من قريش رواه أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة وانقاد الصحابة له وما خالفوه
مسألة
نصب إمامين في عصر واحد لا يجوز لأن الغرض من نصب الأئمة صلاح أمور المسلمين وانتظام أسبابهم وسكون الفتنة الثائرة وإذا نصب إمامان في عصر واحد فاتت المصلحة وكان في ذلك ظهور فتنة بين المسلمين ووقوع الحرب والعداوة بينهم فمنع منه واخترنا الواحد لكون الأمور كلها صادرة عن رأيه فلا تعضل الأمور
فإن قيل أليس يجوز نبيان في عصر واحد وأنبياء وقد اتفقت أعصار كان فيها أنبياء كثيرون فلم لا يجوز إمامان وأئمة
فالجواب أن الأنبياء معصومون عن الخطأ ومن جوز عليهم السهو لم يجز التقرير عليه بل ينهون في الوقت فيؤمن من وقوع الفتنة والأئمة غير معصومين ولا نأمن من وقوع الفتنة (1/179)
مسألة
الخليفة بعد رسول الله غير منصوص عليه
وذهبت الإمامية والروافض إلى أن رسول الله نص على علي رضي الله عنه ولكن القوم ظلموا وغصبوا حقه
والدليل على بطلان قولهم أن حديث الإمامة جرى في عهد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في أوقات فمنها يوم السقيفة حيث عقدوا الخلافة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ومنها استخلاف أبي بكر لعمر رضي الله عنهما ومنها حين جعل عمر الأمر شورى من ستة ومنها حين قتل عثمان رضي الله عنه ووقع القتال والحكمان بين علي رضي الله عنه ومعاوية ولم يدع في وقت من هذه الأوقات أنه منصوص عليه من جهة رسول الله فلو كان يعرف نصا لأظهره كما أن الصديق رضي الله عنه لما عرف نصا في تخصيص قريش أظهره يوم السقيفة
والدليل على فساد قولهم أن هذا النص الذي أدعوه لا يخلو أما يكونوا عرفوه عقلا أو خبرا
بطل أن يكون طريقه العقل لأنه ليس في العقل ما يدل على تنصيص رسول الله على إنسان بعينه (1/180)
وإن قالوا عرفناه خبرا فلا يخلو إما أن يكون ادعوا خبرا تواترا أو آحادا
فإن ادعوه تواترا فهو محال لأنهم لا ينفصلون ممن يعكس ذلك عليهم في أبي بكر ويقول إنه منصوص عليه من جهة رسول الله ويدعي تواتر يختص به
وإن قالوا عرفناه بخبر الآحاد فالخلافة لا تثبت بخبر الواحد لأن عندنا خبر الواحد لا يوجب العلم وعند الروافض لا يوجب العمل به أيضا فكيف أثبتوا به الخلافة
فإن قالوا فهل تعلمون أنتم أن عليا كرم الله وجهه غير منصوص عليه من جهة رسول الله
قلنا بلى نعلم ذلك لأن النص لا يخلو أما أن يكون جليا على رؤوس الخلائق أو كان خفيا اختص به جماعة مخصوص من بين الصحابة
ولا يجوز أن يكون نصا جليا ظاهرا إذ لو كان كذلك لما خفي إلى يومنا هذا كما لم يخف تجهيز جيش أسامة وتولية معاذ اليمن وكما لم يخف نصب أبي بكر إماما واستخلافه لعمر رضي الله عنهما وحديث (1/181)
الشورى في زمن عثمان
ولأنا لو جوزنا انكتام مثل هذا الأمر الظاهر لم نأمن أن يكون القرآن قد عورض على عهد رسول الله ثم كتم وكل أصل في الإمامة يوجب بطلان النبوة كان محالا
وإن ادعوه نصا خفيا علمنا بطلانه بإجماعهم على خلافه إذ لو كان صحيحا لما خالفوه كما لم يخالفوا أبا بكر في روايته أن الأئمة من قريش
فإن استدلوا بما روي أن رسول الله قال من كنت مولاه فعلي مولاه فالمراد بالمولى الناصر فمعناه من كنت ناصره فعلي ناصره
يدل عليه أنه أطلق ذلك في حياته ولم يقل بعد موتي فعلي مولاه ومعلوم أن في حياة رسول الله لم يكن الأمر إلى علي رضي الله عنه
فإن قالوا روي عن رسول الله أنه قال لعلي أنت مني (1/182)
بمنزلة هارون من موسى فإنما ورد ذلك على سبب وهو أن رسول الله استخلفه على المدينة عند خروجه إلى غزاة تبوك فشق عليه تخلفه عنه فقال له ذلك تطيبا لقلبه فإن موسى استخلف هارون حين خرج إلى الميقات يدل أن هارون ما ولي الأمر بعد موسى بل مات في زمانه
مسألة
الخليفة الحق بعد رسول الله أبو بكر الصديق
والدليل عليه اتفاق الصحابة وإجماعهم على طاعته وانقيادهم لأوامره ونواهيه وتركهم للإنكار عليه فيما كان يفعل ولو لم يكن خليفة حقا لما تركوا الإنكار عليه وما أطاعوه مع زهدهم وورعهم وديانتهم واتصافهم بأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم
والدليل عليه أن عليا ما قاتله
ولا يخلو إما أن يكون تركه لقتاله لخوف الفتنة والشر (1/183)
أو لعجز أو لعلمه أن الحق معه
بطل أن يكون لاتقاء الفتنة وخوف الشر لأنه قاتل في زمن معاوية وقتل في الحرب الخلق الكثير وقاتل طلحة والزبير رضي الله عنهما وقاتل عائشة رضي الله عنها حين علم أن الحق له ولم يترك ذلك لسبب الفتنة
وإن قالوا كان عاجزا فهو فاسد لأن الذي نصره في زمن معاوية كانوا على الإيمان يوم السقيفة ويوم استخلاف عمر ويوم الشورى فلو علموا أن الحق له لنصروه فثبت أنه إنما انقاد لأمره وترك القتال لعلمه أن الحق مع أبي بكر
فإن قالوا فلماذا لم يبايعه علي رضي الله عنه على الخلافة قلنا ليس كذلك بل بايعه على رؤوس الخلائق في المسجد إلا أنه لم يحضر يوم السقيفة لأنه كان يتولى تجهيز رسول الله وغسله ودفنه مع العباس رضي الله عنهما وكان لا يتفرغ إلى الخروج إلى السقيفة وبعد ذلك كان قد لازم بيته أياما وما كان يخرج لشدة حزنه على رسول الله
مسألة
عقد الإمامة لا يشترط فيه إجماع جميع أهل الحل والعقد في (1/184)
ذلك العصر ولكن إذا حضره من تيسر حضوره من أهل الحل والعقد كفى ذلك
إلا أنه يشترط إظهاره وحضور جماعة يشاهدون ذلك حتى لا ينصب إمام آخر فيقع التنازع بينهما
والدليل عليه أن الخلافة لما عقدت لأبي بكر يوم السقيفة اشتغل بإمضاء الأحكام وترتيب الأمور ولم يتوقف قدرا يبلغ الخبر إلى الغائبين ولم ينكر عليه أحد فدل على أن إجماع الجميع ليس بشرط
مسألة
أفضل الصحابة بعد رسول الله وخيرهم أبو بكر وليس هذا مما يدل عليه العقل لأن العقل لا يدل على تفضيل بعض الأشخاص ولكن طريق إثباته الإجماع
فإن الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على أنه خيرهم وأفضلهم
والدليل عليه ما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال خير الناس بعد نبينا أبو بكر وعمر
والدليل عليه أن رسول الله اختار لإمامة الصلاة في مرضه أبا بكر ولو كان غيره خيرا منه لما قدمه في الصلاة مع وجود من هو خير منه (1/185)
فإن قيل قد روي عن أبي بكر الصديق أنه قال لما ولي لخلافه أقيلوني أقيلوني أقيلوني لست بخيركم
قلنا هذا ليس يوجب قدحا فيه ولا في فضله بل يوجب ذلك تقديمه لأنه لا يرى لنفسه الفضل مع كونه أفضل
وهذا كما روي عن النبي أنه قال لا تفضلوني على يونس ابن متى مع كونه أفضل منه
وكما روي أن عليا يوم الحكمين كتب كتاب عهد وذكر فيه هذا كتاب كتبه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقالوا له لا نرضى بذلك فمحاه مع كونه أمير المؤمنين في ذلك الوقت
مسألة
الخلافة بعد أبي بكر لعمر رضي الله عنهما وطريق ثبوته استخلاف أبي بكر إياه
ثم الخلافة بعده لعثمان وطريق إثباته الشورى والاختيار
فإن عمر لما خرج جعل الأمر في ستة عثمان وعلي وطلحة والزبير (1/186)
وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم وهم بقية العشرة الذين شهد لهم رسول الله فترك طلحة والزبير وسعد حقوقهم لعثمان وعلي وعبد الرحمن ثم إن عبد الرحمن بن عوف ترك حقه بشرط أن يكون هو حكما بين عثمان وعلي فتراضيا فاختار عثمان بإشارة الصحابة
ثم إن الخلافة بعده لعلي بإجماع القوم عليه وعقدهم الخلافة له
مسألة
أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه قتل ظلما لأن موجبات القتل معلومة في الشرع وما كان قد ارتكب شيئا من ذلك
والدليل عليه أن العوام باشروا قتله ومن كان مستوجبا للقتل لا يجعل قتله إلى العوام
مسألة
الذين قاتلوا عليا رضي الله عنه كانوا بغاة وكانوا (1/187)
مجتهدين مخطئين اجتهدوا في حديث قتل عثمان فوقع لهم أن عليا رضي الله عنه ليس يقتلهم لرضاه بقتل عثمان وأنه قادر على قتلهم وكانوا على الخطأ
وعائشة رضي الله عنها ما كانت قاصدة إلى القتال وإنما خرجت لتسكين الفتنة ولما نبح عليها كلاب قرية سماها رسول الله قصدت الانصراف في جماعة وحلفوا أن هذه القرية ليست تلك القرية حتى لم ترجع عن الطريق
وكذا طلحة والزبير كانا مخطيين ثم أنهما تابا عن ذلك وقتلا بعد التوبة
ثم بعد عثمان رضي الله عنه كانت الخلافة لعلي رضي الله عنه بحكم الشورى فسار على السيرة المرضية ونكف ألسنتنا عما شجر بينهم فإن الله تعالى ضمن نزع الغل عن قلوبهم يوم القيامة حيث قال تعالى ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين (1/188)
وقد كثرت المطاعن من المبتدعين في أئمة الصحابة والواجب على كل أحد أن يعتقد أنهم خير الناس وأفضلهم وقد نطق القرآن بعدالتهم وفضلهم حيث قال والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وغير ذلك من الآيات وشهد رسول الله بفضلهم وعدالتهم حيث قال خير الناس قرني ثم الذين يلونهم
وقال لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه والواجب أن نترحم عليهم (1/189)
ونعتقد فضيلتهم ولا نخوض في تتبع مساوئهم بل نتبع محاسنهم بالذكر والاقتداء لأن الله تعالى ندبنا إلى ذلك حيث قال والتابعين لهم بإحسان
ونسكت عما جرى في زمانهم ونفوض ذلك إلى الله تعالى لما روي عن الزهري رحمه الله أنه قال لما سئل عن ذلك قال تلك دماء (1/190)
طهر الله عنها أيدينا فلا نلوث بها ألسنتنا
ونقول ما قال الله تعالى ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم
مسألة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب لأن خطاب الشرع قد ورد بهما في قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وقال سبحانه وتعالى خذ العفو وأمر بالعرف وقال لتأخذن على يد الظالم في قصة طويلة وقال أيضا انصر أخاك ظالما أو مظلوما
والدليل عليه إجماع الأمة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في العصر الأول إلى زماننا هذا حتى أنكروا على الولاة والخلفاء من غير نكير عليهم وإذا ثبت أنه واجب فهو من فروض الكفايات وإذا قام به واحد سقط الفرض عن الباقين ولا يختص ذلك بالأئمة بل لآحاد الرعية (1/191)
القيام به بالقول والفعل ما لم يؤول الأمر فيه إلى نصب قتال فيترك بسبب الفتنة وإنما يجوز ذلك فيما هو مقطوع بتحريمه يدركه الخاص والعام
فأما من كان مجتهدا فيه فالأمر فيه إلى الأئمة والله تعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب وهو حسبي ونعم الوكيل
تمت الغنية في أصول الدين تصنيف الإمام جمال الدين أبي سعيد عبد الرحمن بن المأمون المتولي قدس الله روحه ونور ضريحه آمين وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل (1/192)