رسالة الغنية عن الكلام وأهله
للإمام الخطابي
بسم الله الرحمن الرحيم (1/1)
قال الإمام الخطابي رحمه الله
عصمنا الله وإياك أخي من الأهواء المضلة والآراء المغوية والفتن المحيرة ورزقنا وإياك الثبات على السنة والتمسك بها ولزوم الطريقة المستقيمة التي درج عليها السلف وانتهجها بعدهم صالحو الخلف وجنبنا وإياك مداحض البدع وبنيات طرقها العادلة عن نهج الحق وسواء الواضحة وأعاذنا وإياك من حيرة الجهل وتعاطي الباطل والقول بما ليس لنا به علم والدخول فيما لا يعنينا والتكلف لما قد كفينا الخوض فيه ونهينا عنه ونعمنا وإياك بما علمنا وجعله سببا لنجاتنا ولا جعله وبالا علينا برحمته
وقفت على مقالك أخي وليك الله بالحسنى وما (1/23)
وصفته من أمر ناحيتك وما ظهر بها من مقالات أهل الكلام وخوض الخائضين فيها وميل بعض منتحلي السنة إليها واغترارهم بها واعتذارهم في ذلك بأن الكلام وقاية للسنة وجنة لها يذب به عنها ويذاد بسلاحه عن حرمها وفهمت ما ذكرته من ضيق صدرك بمجالستهم وتعذر الأمر عليك في مفارقتهم لأن موقفك بين أن تسلم لهم ما يدعونه من ذلك فتقبله وبين أن تقابلهم على ما يزعمونه فترده وتنكره وكلا الأمرين يصعب عليك أما القبول فلأن الدين يمنعك منه ودلائل الكتاب والسنة تحول بينك وبينه وأما الرد والمقابلة فلأنهم يطالبونك بأدلة العقول ويؤاخذونك بقوانين الجدل ولا يقنعون منك بظواهر الأمور
وسألتني أن أمدك بما يحضرني في نصرة الحق من علم وبيان وفي رد مقالة هؤلاء القوم من حجة وبرهان وأن أسلك في ذلك طريقة لا يمكنهم دفعها ولا يسوغ لهم من جهة العقل جحدها وإنكارها فرأيت إسعافك به لازما في (1/24)
حق الدين وواجب النصيحة لجماعة المسلمين فإن الدين النصيحة
واعلم يا أخي أدام الله سعادتك أن هذه الفتنة قد عمت اليوم وشملت وشاعت في البلاد واستفاضت فلا يكاد يسلم من رهج غبارها إلا من عصمه الله تعالى وذلك مصداق قول النبي صلى الله عليه و سلم إن الدين بدأ غريبا وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء فنحن البوم في ذلك الزمان وبين أهله فلا تنكر ما نشاهده منه وسلوا الله العافية (1/25)
من البلاء واحمده على ما وهب لك من السلامة وحاطك به من الرعاية وجميل الولاية
ثم إني تدبرت هذا الشأن فوجدت عظم السبب فيه أن الشيطان صار اليوم بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نفسه بزيادة فهم وفضل ذكاء وذهن ويوهمه أنه إن رضي في عمله ومذهبه بظاهر من السنة واقتصر على واضح بيان منها كان أسوة للعامة وعد واحدا من الجمهور والكافة فإنه قد ضل فهمه واضمحل لطفه وذهنه فحركهم بذلك على التنطع في النظر والتبدع لمخالفة السنة والأثر ليبينوا بذلك من طبقة الدهماء ويتميزوا في الرتبة عمن يرونه دونهم في الفهم والذكاء فاختدعهم بهذه الحجة حتى استزلهم عن واضح المحجة وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها وتاهوا عن حقائقها فلم يخلصوا منها إلى شفاء نفس ولا قبلوها بيقين علم (1/26)
ولما رأو كتاب الله تعالى ينطق بخلاف ما انتحلوه ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه ضربوا بعض آياته ببعض وتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم ولسنته المأثورة عنه وردوها على وجوبها وأساؤا في نقلتها القالة ووجهوا عليهم الظنون ورموهم بالتزندق ونسبوهم إلى ضعف المنة وسوء المعرفة لمعاني ما يروونه من الأحاديث والجهل بتأويله
ولو سلكوا سبيل القصد ووقفوا عندما انتهى بهم التوقيف لوجدوا برد التقى وروح القلوب ولكثرت البركة وتضاعف النماء وانشرحت الصدور ولأضاءت (1/27)
فيها مصابيح النور والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
واعلم أدام الله توفيقك أن الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام وهذا النوع من النظر عجزا عنه ولا انقطاعا دونه وقد كانوا ذوي عقول وافرة وأفهام ثاقبة وقد كان وقع في زمانهم هذه الشبه والآراء وهذه النحل والأهواء وإنما تركوا هذه الطريقة وأضربوا عنها لما تحققوا من فتنتها وحذروه من سوء (1/28)
مغبتها وقد كانوا على بينة من أمرهم وعلى بصيرة من دينهم لما هداهم الله له من توفيقه وشرح به صدورهم من نور معرفته ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته وتوقيف السنة وبيانها غناء ومندوحة عما سواهما وأن الحجة قد وقعت بهما والعلة أزيحت بمكانهما
فلما تأخر الزمان بأهله وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة وقلت عنايتهم بها واعترضهم الملحدون بشبههم والمتحذلقون بجدلهم حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام ولم يدافعوهم بهذا النوع من الجدل لم يقووهم ولم يظهروا في الحجاج عليهم فكان ذلك ضلة من الرأي وغبنا منه وخدعة من الشيطان والله المستعان
فإن قال هؤلاء القوم فإنكم قد أنكرتم الكلام (1/29)
ومنعتم استعمال أدلة العقول فما الذي تعتمدون عليه في صحة أصول دينكم ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه وأن الرسول لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقول وأنتم قد نفيتموها
قلنا إنا لا ننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف ولكنا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدوث العالم وإثبات الصانع ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بيانا وأصح برهانا وإنما هو الشيء أخذتموه عن الفلاسفة وتابعتموهم عليه وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء فأما مثبتو النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المنعرجة (1/30)
التي لا يؤمن العنت على راكبها والانقطاع على سالكها
وبيان ما ذهب إليه السلف من أئمة المسلمين في الاستدلال على معرفة الصانع وإثبات توحيده وصفاته وسائر ما ادعى أهل الكلام تعذر الوصول إليه إلا من الوجه الذي يذهبون إليه ومن الطريقة التي يسلكونها ويزعمون أن من لم يتوصل إليه من تلك الوجوه كان مقلدا غير موحد على الحقيقة هو أن الله تعالى لما أراد إكرام من هداه لمعرفته بعث رسوله محمدا صلى الله عليه و سلم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وقال له يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته (1/31)
وقال صلى الله عليه و سلم في خطبة الوداع وفي مقامات له شتى وبحضرته عامة أصحابه ألا هل بلغت وكان الذي أنزل إليه الوحي وأمر بتبليغه هم كمال الدين وتمامه لقوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم فلم يترك صلى الله عليه و سلم شيئا من أمر الدين قواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه إذ لا خلاف بين فرق الأمة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تزال الحاجة ماسة إليه أبدا في كل وقت وزمان ولو أخر عنه البيان لكان التكليف واقعا بما لا سبيل للناس إليه وذلك فاسد غير جائز وإذا كان الأمر على ما قلناه وقد علمناه يقينا أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يدعهم في أمر (1/32)
التوحيد إلى الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها إذ لا يمكن أحد من أصحابه من هذا النمط حرفا واحدا فما فوقه لا من طريق تواتر ولا آحاد علم أنهم قد ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقتهم ولو كان في الصحابة قوم يذهبون مذاهب هؤلاء في الكلام والجدال لعدوا في جملة المتكلمين ولنقل إلينا أسماء متكلميهم كما نقل أسماء فقهائهم وقرائهم وزهادهم فلما لم يظهر ذلك دل على أنه لم يكن لهذا الكلام عندهم أصل
وإنما ثبت عندهم أمر التوحيد من وجوه (1/33)
أحدها ثبوت النبوة بالمعجزات التي أوردها نبيهم من كتاب قد أعياهم أمره وأعجزهم شأنه وقد تحداهم به وبسورة من مثله وهم العرب الفصحاء والخطباء والبلغاء فكل عجز عنه ولم يقدر على شيء منه إما بأن لا يكون من قواهم ولا من طباعهم أن يتكلموا بكلام يضارع القرآن في جزالة لفظه وبديع نظمه وحسن معانيه وإما أن يكون ذلك في وسعهم وتحت قدرتهم طبعا وتركيبا ولكنهم منعوه وصرفوا عنه ليكون آية لنبوته وحجة عليهم في وجوب تصديقه وإما أ يكون إنما عجزوا عن علم ما جمع في القرآن من أنباء ما كان والإخبار عن الحوادث (1/34)
التي تحدث وتكون وعلى الوجوه كلها فالعجز موجود والانقطاع حاصل هذا إلى ما شاهدوه من آياته وسائر معجزاته المشهورة عنه الخارجة عن رسوم الطباع الناقضة للعادات كتسبيح الحصى في كفه وحنين الجذع لمفارقته ورجف الجبل تحته وسكونه لما ضربه برجله وانجذاب الشجرة بأغصانها وعروقها إليه وسجود البعير له ونبوع الماء من أصابعه حتى توضأ به بشر كثير وربو الطعام اليسير بتبريكه فيه حتى أكل منه عدد جم وإخبار الذراع إياه بأنها مسمومة وأمور كثيرة سواها يكثر تعدادها وهي مشهورة ومجموعة في الكتب التي انتسبت لمعرفة هذا الشأن
فلما استقر ما شاهدوه من هذه الأمور في نفوسهم وثبت ذلك في عقولهم صحت عندهم نبوته وظهرت عن غيره بينونته ووجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب (1/35)
ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله تعالى وإثبات صفاته وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعا حكيما عالما خبيرا تام القدرة بالغ الحكمة وقد نبههم الكتاب عليه ودعاهم إلى تدبره وتأمله والاستدلال به على ثبوت ربوبيته فقال وفي أنفسكم أفلا تبصرون الذاريات 21 إشارة إلى ما فيها من آثار الصنعة ولطيف الحكمة الدالين على وجود الصانع الحكيم لما ركب فيها من الحواس التي يقع عنها الإدراك والجوارح التي يتأثر بها القبض والبسط والأعضاء المعدة للأفعال التي هي خاصة بها كالأضراس الحادثة فيهم عند غنائهم عن الرضاع وحاجتهم إلى الغذاء فيقع بها الطحن له وكالمعدة التي اتخذت لطبخ الغذاء والكبد التي يسلك إليها صفاوته وعنها يكون انقسامه على الأعضاء في مجاري العروق المهيأة لنفوذه إلى أطراف البدن وكالأمعاء التي إليها يرسب (1/36)
ثفل الغذاء وتمجه فيبرز عن البدن وكقوله تعالى أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت الغاشية 17 20 وكقوله إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب آل عمران 190 وما أشبه ذلك من جلال الأدلة وظواهر الحجج التي يدركها كافة ذوي العقول وعامة من يلزمه حكم الخطاب مما يطول تتبعه واستقراؤه فعن هذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه ثم تبينوا وحدانيته وعلمه وقدرته بما شاهدوه من اتساق أفعاله (1/37)
على الحكمة واطرادها في سبلها وجريها على إدلالها ثم علموا سائر صفاته توقيفا عن الكتاب المنزل بأن حقه وعن قول النبي صلى الله عليه و سلم المرسل الذي قد ظهر صدقة ثم تلقى جملة أمر الدين عنهم أخلاقهم وأتباعهم كافة عن كافة قرنا بعد قرن فتناولوا ما سبيله الخبر منها تواترا واستفاضة على الوجه الذي تقوم به الحجة وينقطع فيه العذر ثم كذلك من بعدهم عصرا بعد عصر إلى آخر من تنتهي إليه الدعوة وتقوم عليه به الحجة فكان ما اعتمده المسلمون في الاستدلال أصح وأبين وفي التوصل إلى المقصود به أقرب إذ كان التعلق في أكثر إنما هو بمعان تدرك بالحس وبمقدمات من العلم مركبة عليها لا يقع الخلف في دلالاتها
فأما الأعراض فأن التعلق بها أن يكون عسرا (1/38)
وإما أن يكون تصحيح الدلالة من جهتها عسرا متعذرا وذلك أن اختلاف الناس قد كثر فيها فمن قائل لا عرض في الدنيا ناف لوجود الأعراض أصلا وقائل إنها قائمة بأنفسها لا تخالف الجواهر في هذه الصفة إلى غير ذلك من الاختلاف فيها وأوردوا في نفيها شبها قوية فالاستدلال بها والتعلق بأدلتها لا يصح إلا بعد التخلص من تلك الشبه والانفكاك عنها
والطريقة التي سلكناها سليمة من هذه الآفات بريئة من هذه العيوب فقد بان ووضح فساد قول من زعم وادعى من المتكلمين أن من لم يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده من الوجه الذي يصححونه في الاستدلال فإنه غير موحد في الحقيقة لكنه مستسلم مقلد وأن سبيله سبيل الذرية في كونها تبعا للآباء في الإسلام وثبت أ قائل هذا القول مخطئ وبين يدي الله ورسوله مقدم وبعامة الصحابة وجمهور السلف مزر وعن طريقة السنة عادل وعن نهجها ناكب فهذا قولهم ورأيهم في عامة (1/39)
السلف وجمهور الأئمة وفقهاء الخلف فلا تشتغل رحمك الله بكلامهم ولا تغتر بكثرة مقالاتهم فإنها سريعة التهافت كثيرة التناقض وما من كلام نسمعه لفرقة منهم إلا ولخصومهم عليه كلام يوازيه أو يقاربه فكل بكل معارض وبعض ببعض مقابل وإنما يكون تقدم الواحد منهم وفلجه على خصمه بقدر حظه من البيان وحذقة في صنعة الجدل والكلام وأكثر ما يظهر به بعضهم على بعض إنما هو إلزام من طريق الجدل على أصول مؤصلة ومناقضات على مقالات حفظوها عليهم فهم يطالبونهم بعودها وطردها فمن تقاعد عن شيء منها سموه من طريق الجدل منقطعا وجعلوه مبطلا وحكموا بالفلج لخصمه عليه
والجدل لا يبين به حق ولا تقوم به حجة وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين كلتاهما باطلة ويكون الحق في ثالثة غيرهما فمناقضة أحدهما صاحبه غير (1/40)
مصحح مذهبه وإن كان مفسدا به قول خصمه لأنهما مجتمعان معا في الخطأ مشتركان فيه كقول الشاعر فيهم ... حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقا وكل كاسر مكسور ...
وإنما كان الأمر كذلك لأن واحدا من الفريقين لا يعتمد في مقالته التي ينصرها أصلا صحيحا وإنما هو أوضاع وآراء تتكافأ وتتقابل فيكثر المقال ويدوم الاختلاف ويقل الصواب قال الله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا النساء 82 فأخبر سبحانه أن ما كثر فيه الاختلاف فإنه ليس من عنده وهذا من أدل الدليل على أن مذاهب المتكلمين فاسدة لكثرة ما يوجد فيها من الاختلاف المفضي بهم إلى التكفير والتضليل وذلك صفة الباطل الذي أخبر الله سبحانه عنه ثم قال في صفة الحق بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق الأنبياء 18 (1/41)
فإن قيل إن دلائل النبوة ومعجزات النبي صلى الله عليه و سلم ما عدا القرآن إنما نقلت إلينا من طريق الآحاد على من كان في الزمان المتأخر لجواز وقوع الغلط فيها واعتراض الآفات من الكذب وغيره عليها قيل هذه الأخبار وإن كان شروط التواتر في آحادها معدومة فإن جملتها راجعة من طريق المعنى إلى التواتر ومتعلقة به جنسا لأن بعضها يوافق بعضا ويجانسه إذ كل ذلك واقع تحت الإعجاز والأمر المزعج للخواطر الناقض لمجرى العادات ومثال ذلك أن يروي قوم أن حاتم الطائي وهب لرجل مائة من الإبل ويروي آخرون أنه وهب لرجل آخر ألفا من الغنم وآخرون أنه وهب لآخر عشرة أرؤس من الخيل وارقيق وما يشبه ذلك حتى يكثر عدد ما يروى منه فهو وإن لم يثبت التواتر في كل واحد منها نوعا نوعا فقد ثبت التواتر في جنسها فقد حصل من جملتها العلم الصحيح بأن حاتما سخي كذلك هذه الأمور فإن لم تثبت أفراد أعيانها تواترا فقد ثبتت برواية الجم الغفير الذي (1/42)
لا يحصى عددهم ولا يتوهم التواطؤ في الكذب عليهم أنه جاء بمعنى معجز للبشر خارج عما في قدرتهم فصح بذلك أمر نبوته وبالله التوفيق
فإن قيل فيجب على هذه المقدمة التي قدمتموها أن لا يكون الإيمان بالله ولا معرفة وحدانيته واجبا على من يعقل قبل أن يبعث إليه رسول وأن لا يكون بتركه مؤاخذا وعليه معاقبا قيل كذلك نقول وعليه دل قوله سبحانه وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا الإسراء 15 وقوله حكاية عمن استحق العقوبة على ترك الإيمان به وبالبعث ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى الزمر 71 فأقام الحجة عليهم ببعثه الرسل فلو كانت الحجة لازمة بنفس العقل لم تكن بعثة الرسل شرطا لوجوب العقوبة وقال صلى الله عليه و سلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا (1/43)
الله فدل على أنه الداعي إلى الإيمان وصح أن الدعوة له والحجة إنما تقوم به
والحمد لله رب العالمين
هذا آخر كلام الخطابي وكان إماما في الفقه واللغة وغيرها توفى في ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وثلاث مائة
الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد
للإمام العلامة الفقيه المجتهد محمد بن علي الشوكاني (1/44)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمدك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك
الاستعانة والاستغاثة
وبعد فإنه وصل إلى الحقير الجاني محمد بن علي الشوكاني غفر الله له ذنوبه وستر عن عيون الناس عيوبه سؤال عالم مفضال عارف بما قد قيل وما يقال في مدارك الحرام والحلال عند اختلاف الأقوال وتباين آراء الرجال وهو العلامة الفهامة الأفخم محمد بن أحمد بن محمد مشحم أكثر الله فوائده ومد على أهل العلم موائده وحاصل السؤال هو عن التوسل بالأموات المشهورين بالفضل وكذلك الأحياء والاستعانة بهم ومناجاتهم عند الحاجة من نحو على الله وعليك يا فلان وأنا بالله وبك وما يشابه ذلك وتعظيم قبورهم واعتقاد أن لهم قدرة على قضاء حوائج المحتاجين وإنجاح طلبات السائلين وما حكم من فعل شيئا من ذلك وهل يجوز قصد قبور الصالحين لتأدية الزيارة ودعاء الله عندها من غير استغاثة بهم بل بالتوسل بهم فقط فأقول مستعينا بالله
اعلم أن الكلام على هذه الأطراف يتوقف على إيضاح (1/3)
ألفاظ هي منشأ الاختلاف والتباس فمنها الاستغاثة بالغين المعجمة والمثلثة ومنها الاستغاثة بالعين المهملة والنون ومنها التشفع ومنها التوسل
فأما الاستغاثة بالمعجمة والمثلثة في طلب الغوث وهو إزالة الشدة كالاستنصار وهو طلب النصر ولا خلاف أنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر على الغوث فيه من الأمور ولا يحتاج مثل ذلك إلى استدلال فهو في غاية الوضوح وما أظنه يوجد فيه خلاف ومنه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه وكما قال وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر وكما قال تعالى وتعاونوا على البر والتقوى وأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يستغاث فيه إلا به كغفران الذنوب والهداية وإنزال المطر والرزق ونحو ذلك كما قال تعالى ومن يغفر الذنوب إلا الله وقال إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وقال يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض (1/4)
وعلى هذا يحمل ما أخرجه الطبراني في معجمه الكبير أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه و سلم منافق يؤذي المؤمنين فقال أبو بكر رضي الله عنه قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه و سلم وآله وسلم من هذا المنافق فقال صلى الله عليه وآله سلم إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله فمراده صلى الله عليه و سلم أنه لا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله وأما ما يقدر عليه المخلوق فلا مانع من ذلك مثل أن يستغيث المخلوق بالمخلوق ليعينه على حمل حجر أو يحول بينه وبين عدوه الكافر أو يدفع عنه سبعا صائلا أو لصا أو نحو ذلك
وقد ذكر أهل العلم أنه يجب على كل مكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله سبحانه وأن كل غوث من عنده وإذا حصل شيء من ذلك على يد غيره فالحقيقة له سبحانه ولغيره مجاز ومن أسمائه المغيث والغياث قال أبو عبد الله الحليمي الغياث هو المغيث وأكثر ما يقال غياث المستغيثين ومعناه المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه ومجيبهم ومخلصهم وفي خبر الاستسقاء في الصحيحين اللهم أغثنا إغاثة وغياثة وغوثا وهو في معنى المجيب والمستجيب قال تعالى إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إلا أن الإغاثة (1/5)
أحق بالأفعال والاستجابة بالأقوال وقد يقع كل منهما موقع الآخر قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاواه ما لفظه والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول صلى الله عليه و سلم ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيه مسلم ومن نازع في هذا المعنى فهو أما كافر وأما مخطئ ضال وأما بالمعنى الذي نفاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو أيضا مما يجب نفيها ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضا كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق وقول الشيخ أبي عبد الله القرشي استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون
وأما الاستعانة بالنون فهي طلب العون ولا خلاف أنه يجوز أن يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه من أمور الدنيا كأن يستعين به على أن يحمل معه متاعه أو يعلف دابته أو يبلغ رسالته وأما مالا يقدر عليه إلا الله جل جلاله فلا يستعان فيه إلا به ومنه إياك نعبد وإياك نستعين (1/6)
التشفع بالمخلوق
وأما التشفع بالمخلوق فلا خلاف بين المسلمين أنه يجوز طلب الشفاعة من المخلوقين فيما يقدرون عليه من أمور الدنيا وثبت بالسنة المتواترة واتفاق جميع الأمة أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم هو الشافع المشفع وأنه يشفع للخلائق يوم القيامة وأن الناس يستشفعون به ويطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربه ولم يقع الخلاف إلا في كونها لمحو ذنوب المذنبين أو لزيادة ثواب المطيعين ولم يقل أحد من المسلمين بنفيها قط
وفي سنن أبي داود أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله فقال شأن الله أعظم من ذلك أنه لا يستشفع به على أحد من خلقه فأقره على قوله نستشفع بك على الله وأنكر عليه قوله نستشفع بالله عليك وسيأتي تمام الكلام في الشفاعة
وأما التوسل إلى الله سبحانه بأحد من خلقه في مطلب يطلبه العبد من ربه قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى إلا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن صح الحديث فيه ولعله يشير إلى الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه والترمذي وصححه وابن ماجة وغيرهم (1/7)
أن أعمى أتى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله إني أصبت في بصري فادع الله لي فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ وصل ركعتين ثم قل اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد يا محمد إني أستشفع بك في رد بصري اللهم شفع النبي في وقال فإن كان لك حاجة فمثل ذلك فرد الله بصره
وللناس في معنى هذا قولان
أحدهما أن التوسل هو الذي ذكره عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال كنا إذا أجدبنا تتوسل إليك بنبيك فتسقينا وأنا نتوسل إليك بعم نبينا وهو في صحيح البخاري وغيره فقد ذكر عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه و سلم في حياته في الاستسقاء ثم توسل بعمه العباس بعد موته وتوسلهم هو استسقاءهم بحيث يدعو ويدعون معه فيكون هو وسيلتهم إلى الله تعالى والنبي صلى الله عليه و سلم وآله وسلم كان في مثل هذا شافعا وداعيا لهم
والقول الثاني أن التوسل به صلى الله عليه و سلم وآله وسلم يكون في حياته وبعد موته وفي حضرته ومغيبه ولا يخفاك أنه قد ثبت التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وثبت (1/8)
التوسل بغيره بعد موته بإجماع الصحابة إجماعا سكوتيا لعدم إنكار أحد منهم على عمر رضى الله عنه في التوسل بالعباس رضى الله عنه وعندي أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما زعمه الشيخ عز الدين بن عبد السلام لأمرين
الأول ما عرفناك به إجماع الصحابة رضي الله عنهم
والثاني أن التوسل إلى الله بأهل الفضل والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة إذا لا يكون الفاضل فاضلا إلا بأعماله
فإذا قال القائل اللهم إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني فهو باعتبار ما قام به من العلم وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه و سلم حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أن كل واحد منهم توسل إلى الله بأعظم عمل عمله فارتفعت الصخرة فلو كان التوسل بالأعمال الفاضلة غير جائز أو كان شركا كما يزعمه المتشددون في هذا الباب كابن عبد السلام ومن قال بقوله من أتباعه لم تحصل الإجابة من الله لهم ولا سكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم وبهذا تعلم أن ما يورده المانعون من التوسل إلى الله بالأنبياء (1/9)
والصلحاء من نحو قوله تعالى ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ونحو قوله تعالى فلا تدعوا مع الله أحدا ونحو قوله تعالى له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء ليس بوارد بل هو من الاستدلال على محل النزاع بما هو أجنبي عنه فإن قولهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى مصرح بأنهم عبدوهم لذلك والمتوسل بالعالم مثلا لم يعبده بل علم أن له مزية عند الله بحمله العلم فتوسل به لذلك وكذلك قوله تعالى فلا تدعوا مع الله أحدا فإنه نهى عن أن يدعى مع الله غيره كأن يقول يا الله ويا فلان والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا الله وإنما وقع منه التوسل إليه بعمل صالح عمله بعض عباده كما توسل الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم وكذلك قوله والذين يدعون من دونه الآية فإن هؤلاء دعوا من لا يستجيب لهم ولم يدعوا ربهم الذي يستجيب لهم والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا الله ولم يدع غيره دونه ولا دعا غيره معه
فإذا عرفت هذا لم يخف عليك دفع ما يورده المانعون للتوسل من الأدلة الخارجة عن محل النزاع خروجا زائدا على (1/10)
ما ذكرناه كاستدلالهم بقوله تعالى وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيء والأمر يومئذ لله فإن هذه الآيات الشريفة ليس فيها إلا أنه تعالى المنفرد بالأمر في يوم الدين وأنه ليس لغيره من الأمر شيء والمتوسل بنبي من الأنبياء أو عالم من العلماء لا يعتقد أن لمن توسل به مشاركة لله جل جلاله في أمر يوم الدين ومن اعتقد هذا لعبد من العباد سواء كان نبيا أو غير نبي فهو في ضلال مبين
وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله تعالى ليس لك من الأمر شيء قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا فإن هاتين الآيتين مصرحتان بأنه ليس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أمر الله شيء وأنه لا يملك لنفسه نفعا أو ضرا فكيف يملك لغيره وليس فيهما منع التوسل به أو بغيره من الأنبياء والأولياء أو العلماء وقد جعل الله لرسوله صلى الله عليه و سلم المقام المحمود مقام الشفاعة العظمى وأرشد الخلق إلى أن يسألوه ذلك ويطلبوه منه وقال له سل تعطه واشفع تشفع وقيد ذلك (1/11)
في كتابه العزيز بأن الشفاعة لا تكون إلا بأذنه ولا تكون إلا لمن ارتضى ولعله يأتي تحقيق هذا المقام إن شاء الله تعالى
وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل قوله تعالى وأنذر عشيرتك الأقربين يا فلان بن فلان لا أملك لك من الله شيئا يا فلانه بنت فلان لا أملك لك من الله شيئا فإن هذا ليس فيه إلا التصريح بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يستطيع نفع من أراد الله تعالى ضره ولا ضر من أراد الله نفعه وأنه لا يملك لأحد من قرابته فضلا عن غيرهم شيئا من الله وهذا معلوم لكل مسلم وليس فيه أنه لا يتوسل به إلى الله فإن ذلك هو طلب الأمر ممن له الأمر والنهي وإنما أراد أن الطالب يقدم بين يدي طلبه ما يكون سببا للإجابة ممن هو المنفرد بالعطاء والمنع وهو مالك يوم الدين (1/12)
ما ورد في التمائم والتولة
وإذا علمت هذا فاعلم أن الرزية كل الرزية والبلية كل البلية أمر غير ما ذكرناه من التوسل المجرد والتشفع بمن له الشفاعة وذلك ما صار يعتقده كثير من العوام وبعض الخواص في أهل القبور وفي المعروفين كثير من العوام وبعض الخواص في أهل القبور وفي المعروفين بالصلاح من الأحياء من أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله ويفعلون مالا يفعله إلا الله عز و جل حتى نطقت ألسنتهم بما انطوت عليه قلوبهم فصاروا يدعونهم تارة مع الله وتارة استقلالا ويصرحون لهم خضوعا زائدا على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي ربهم في الصلاة والدعاء وهذا إذا لم يكن شركا فلا تدري ما هو الشرك وإذا لم يكن كفرا فليس في الدنيا كفر وها نحن أولاء نقص عليك أدلة في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فيها المنع مما هو دون هذا بمراحل وفي بعضها التصريح بأنه شرك وهو بالنسبة إلى هذا الذي ذكرناه يسير حقير ثم بعد ذلك نعود إلى الكلام على مسألة السؤال
فمن ذلك ما أخرجه أحمد في مسنده بإسناد لا بأس به عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا (1/13)
بيده حلقة من صفر فقال ما هذه قال من الواهنة قال انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا ولو مت وهي عليك ما أفلحت وأخرج أيضا عن عقبة بن عامر مرفوعا من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع له وفي رواية من تعلق تميمة فقد أشرك ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلا في يده خيط للحمى فقطعه وقرأ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون
وفي الصحيح عن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولا ألا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت وأخرج أحمد وأبو داود عن ابن مسعود سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول أن الرقي والتمائم والتولة شرك وأخرج أحمد والترمذي عن عبد الله بن حكيم مرفوعا من تعلق شيئا وكل إليه وأخرج أحمد عن رويفع قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا رويفع لعل الحياة ستطول بك فأخبر الناس أ من عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه فانظر كيف جعل الرقي والتمائم (1/14)
والتقولة شركا وما ذلك إلا لكونها مظنة لأن يصحبها اعتقاد أن لغير الله تأثيرا في الشفاء من الداء وفي المحبة والبغضاء فكيفه بمن نادى غير الله وطلب منه مالا يطلب إلا من الله واعتقد استقلاله بالتأثير أو اشتراكه مع الله عز و جل (1/15)
حكم من يقرب لغير الله
ومن ذلك ما أخرجه الترمذي وصححه عن أبي واقد الليثي قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى حنين ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عليها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم فهؤلاء إنما طلبوا أن يجعل لهم شجرة ينوطون بها أسلحتهم كما كانت الجاهلية تفعل ذلك ولم يكن من قصدهم أ يعبدوا تلك الشجرة أو يطلبوا منها ما يطلبه القبوريون من أهل القبور فأخبرهم صلى الله عليه و سلم أن ذلك بمنزلة الشرك الصريح وأنه بمنزلة طلب آلهة غير الله تعالى
ومن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال حدثني رسول الله صلى الله عليه و سلم بكلمات أربع لعن الله من ذبح لغير الله لعن الله من لعن والديه لعن الله من آوى محدثا لعن الله من غير منار الأرض وأخرج أحمد عن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال دخل رجل الجنة في ذباب ودخل النار (1/16)
رجل في ذباب قالوا كيف ذلك يا رسول الله صلى الله عليه و سلم قال مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب إليه شيئا فقالوا لأحدهم قرب ولو ذبابا فقرب ذبابا فخلوا سبيله فدخل النار وقالوا للآخر قرب فقال ما كنت أقرب لأحد غير الله عز و جل فضربوا عنقه فدخل الجنة فانظر لعنه صلى الله عليه و سلم لمن ذبح لغير الله وإخباره بدخول من قرب لغير الله النار وليس في ذلك إلا مجرد كون ذلك مظنة للتعظيم الذي لا ينبغي إلا الله فما ظنك بما كان شركا بحتا
قال بعض أهل العلم أن إراقة دماء الأنعام عبادة لأنها أما هدى أو ضحية أو نسك وكذلك ما يذبح للبيع لأنه مكسب حلال فهو عبادة ويتحصل من ذلك شكل قطعي هو أن إراقة دماء الأنعام عبادة وكل عبادة لا تكون إلا لله فإراقة دماء الأنعام لا تكون إلا لله ودليل الكبرى قوله تعالى اعبدوا الله مالكم من إله غيره وإياي فاعبدون وإياك نعبد وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين (1/17)
حكم الحلف بغير الله
ومن ذلك أنه صلى الله عليه و سلم نهى عن الحلف بغير الله وقال من حلف فليحلف بالله أ ليصمت وقال من حلف بملة غير الإسلام لم يرجع إلى الإسلام سالما أو كما قال وسمع رجلا يحلف باللات والعزى فأمره أن يقول لا إله إلا الله وأخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه من حديث عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من حلف بغير الله فقد أشرك
وهذه الأحاديث في دواوين الإسلام وفيها أ الحلف بغير الله يخرج به الحالف عن الإسلام وذلك لكون الحلف بشيء مظنة تعظيمه فكيف بما كان شركا محضا يتضمن التسوية بين الخالق والمخلوق في طلب النفع أو استدفاع الضر وقد يتضمن تعظيم المخلوق زيادة على تعظيم الخالق كما يفعله كثير من المخذولين فإنهم يعتقدون أ لأهل القبور من جلب النفع ودفع الضر ما ليس لله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
فإن أنكرت هذا فانظر أحوال كثير من هؤلاء المخذولين فإنك تجدهم كما وصف الله سبحانه وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عنه (1/18)
صلى الله عليه و سلم عند موته أنه كان يقول لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك وأخرج أحمد بسند جيد وأبو حاتم في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعا إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد
والأحاديث في هذا الباب كثيرة وفيها التصريح بلعن من اتخذ القبور مساجد مع أنه لا يعبد إلا الله وذلك لقطع ذريعة التشريك ودفع وسيلة التعظيم وورد ما يدل على أن عبادة الله عند القبور بمنزلة اتخاذها أوثانا تعبد أخرج مالك في الموطأ إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وبالغ في ذلك حتى لعن زائرات القبور كما أخرجه أهل السنن من حديث ابن عباس قال لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ولعل وده تخصص النساء بذلك لما في طبائعهن من النقص المفضي إلى الاعتقاد والتعظيم بأدنى شبهة ولا شك أن علة النهي عن جعل القبور مساجد وعن تسريجها وتجصيصها ورفعها وزخرفتها هي ما ينشأ عن ذلك من (1/19)
الاعتقادات الفاسدة كما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه و سلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال أولئك إذا مات فيهم الرجل أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا وصورا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله ولابن خزيمة عن مجاهد أفرأيتم اللات والعزى قال كان يلت له السويق فمات فعكفوا على قبره وكل عاقل يعلم أن لزيادة الزخرفة للقبور وإسبال الستور الرائعة عليها وتسريجها والتأنق في تحسينها تأثيرا في طبائع غالب العوام ينشأ عنه التعظيم والاعتقادات الباطلة وهكذا إذا استعظمت نفوسهم شيئا مما يتعلق بالأحياء وبهذا السبب اعتقد كثير من الطوائف الإلهية في أشخاص كثيرة (1/20)
حكم ما قيل في زيارة القبور
ورأيت في بعض كتب التاريخ أنه قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم لبعض الملوك على بعض خلفاء بني العباس فبالغ الخليفة في التهويل على ذلك الرسول وما زال أعوانه ينقلونه من رتبة إلى رتبة حتى وصل إلى المجلس الذي يقعد الخليفة في برج من أبراجه وقد جمل ذلك المنزل بأبهى الآيات وقعد فيه أبناء الخلفاء وأعيان الكبراء وأشرف الخليفة من ذلك البرج وقد انخلع قلب ذلك الرسول مما رأى فلما وقعت عيناه على الخليفة قال لمن هو قابض على يده من الأمراء أهذا الله فقال ذلك الأمير بل هذا خليفة الله فانظر ما صنع ذلك التحسين بقلب هذا المسكين
وروى لنا أن بعض أهل جهات القبلة وصل إلى القبة الموضوعة على قبر الإمام أحمد بن الحسين صاحب ذي بين رحمة الله فرآها وهي مسرجة بالشمع والبخور ينفخ في جوانبها وعلى القبر الستور الفائقة فقال عند وصوله إلى الباب أمسيت بالخير يا أرحم الراحمين
وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى ولا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق (1/21)
ونسرا قال هذه أسماء رجال من قوم نوح لما هلكوا أوحي الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون عليها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم يعبدوا حتى إذا هلك أولئك ونسي عبدت وقال غير واحد من السلف لما ماتوا عكفوا على قبورهم (1/22)
حكم العيافة والطيرة
ومن ذلك ما أخرجه أحمد بإسناد جيد عن قبيضة عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت وأخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان أيضا وأخرج أبو داود بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر وأخرج النسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق شيئا وكل إليه وهذه الأمور إنما كانت من الجبت والشرك لأنها مظنة للتعظيم الجالب للاعتقاد الفاسد
ومن ذلك ما أخرجه أهل السنن والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من أتى كاهنا أو عرافا فصدقة فقد كفر بما أنزل على محمد وأخرج أبو يعلى بسند جيد مرفوعا من (1/23)
أتى كاهنا فصدقة بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد وأخرج نحوه الطبراني من حديث ابن عباس بسند حسن والعلة الموجبة للحكم بالكفر ليست إلا اعتقاد أنه مشارك الله تعالى في علم الغيب مع أنه في الغالب يقع غير مصحوب بهذا الاعتقاد ولكن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه (1/24)
حكم التكهن بالمطر
ومن ذلك ما في الصحيحين وغيرهما عن زيد بن خالد قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الصبح على أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال أمطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب ولا يخفى على عارف أن العلة في الحكم بالكفر هي ما في ذلك من إيهام المشاركة وأين ذلك ممن يصرح في دعائه عندما يمسه الضر بقوله يا الله ويا فلان وعلى الله وعلى فلان فإن هذا يعبد ربين ويدعو اثنين وأما من قال مطرنا بنوء كذا فهو لم يقل أمطره ذلك النوء بل قال أمطر به وبين الأمرين فرق ظاهر
ومن ذلك ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الله عز و جل أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه وأخرج أحمد عن أبي سعيد مرفوعا ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح الدجال قالوا بلى قال الشرك (1/25)
الخفي يقوم الرجل فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل ومن ذلك قوله تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا فإذا كان مجرد الرياء الذي هو فعل الطاعة لله عز و جل مع محبة أن يطلع عليها غيره أو يثني عليه بها أو يستحسنها شركا فكيف بما هو محض الشرك
ومن ذلك ما أخرجه النسائي أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال إنكم تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة فأمرهم النبي صلى الله عليه و سلم أن يقولوا ورب الكعبة وأن يقولوا ما شاء الله ثم ما شئت وأخرج النسائي أيضا عن ابن عباس مرفوعا أن رجلا قال ما شاء الله وشئت قال أجعلتني لله ندا قل ما شاء الله وحده وأخرج ابن ماجة عن الطفيلي قال رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزيز ابن الله وقالوا أو أنتم لأنتم القوم لو أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد ثم مررت بنفر من النصارى فقلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله وقالوا وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرته قال فهل أخبرت بها أحدا قلت نعم قال فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد أن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من (1/26)
أخبر منكم وأنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنها كم فلا تقولوا ما شاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده
والوارد في هذا الباب كثير وفيه أن التشريك في المشيئة بين الله ورسوله أو غيره من عبيده فيه نوع من الشرك ولهذا جعل ذلك في هذا المقام الصالح كشرك اليهود والنصارى بإثبات ابن لله عز و جل وفي تلك الرواية السابقة أنه إثبات ند لله عز و جل (1/27)
أسباب بعث الرسل
ومن ذلك قوله صلى الله عليه و سلم لمن قال من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصمها فقد غوى بئس خطيب القوم أنت وهو في الصحيح وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون أنه قال الأنداد أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل وهو أن يقول والله وحياتك يا فلان وحياتي ويقول لولا كلبه هذا لأتانا ولولا بط في الدار لأتى اللصوص وقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشئت وقول الرجل لولا الله وفلان هذا كله شرك أ ه
ومن ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا يقل أحدكم أطعم ربك وارض ربك ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي وغلامي ووجه هذا النهي ما يفهم من مخاطبة السيد بمخاطبة السيد العبد لربه والرب لعبده وإن لم يكن ذلك مقصودا ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الله تعالى ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ذرة وليخلقوا حبة أو شعيرة (1/28)
ولهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون خلق الله ولهما عن ابن عباس رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسا يعذب بها في جهنم ولهما عنه مرفوعا من صور صورة في الدنيا كلف أ ينفخ فيها الروح وليس بنافخ وأخرج مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال قال لي ألا أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته فانظر إلى ما في هذه الأحاديث من الوعيد الشديد للمصورين لكونهم فعلوا فعلا يشبه فعل الخالق وإن لم يكن ذلك مقصودا لهم وهؤلاء القبوريون قد جعلوا بعض خلق الله شريكا له ومثلا وندا فاستغاثوا به فيما لا يستغاث فيه إلا بالله وطلبوا منه مالا يطلب إلا الله مع القصد والإرادة
ومن ذلك ما أخرجه النسائي بسند جيد عن عبد الله بن الشخير قال انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقلنا أنت سيدنا قال السيد الله تبارك وتعالى قلنا وأفضلنا وأعظمنا طولا قال قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرنكم الشيطان وفي رواية لا يستهوينكم الشيطان أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز و جل (1/29)
وبالجملة فالوارد عن الشرع من الأدلة على قطع ذرائع الشرك وهدم كل شيء يوصل إليه في غاية الكثرة ولو رمت حصر ذلك على التمام لجاء في مؤلف بسيط فلنقتصر على هذا المقدار ونتكلم على حكم ما يفعله القبوريون من الاستغاثة بالأموات ومناداتهم لقضاء الحاجات وتشريكهم مع الله في بعض الحالات وإفرادهم بذلك في بعض فنقول
اعلم أن الله لم يبعث رسله ولم ينزل كتبه لتعريف خلقه بأنه الخالق لهم والرازق لهم ونحو ذلك فإن هذا يقربه كل مشرك قبل بعثه الرسل ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي من يدبر الأمر فسيقولون الله قل أفلا تتقون قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون الله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله قل أفلا (1/30)
تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون الله قل فأنى تسحرون ولهذا تجد كل ما ورد في الكتاب العزيز في شأن خالق الخلق ونحوه في مخاطبة الكفار منعونا باستفهام التقرير هل من خالق غير الله أفي الله شك فاطر السموات والأرض أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض أروني ماذا خلق الذين من دونه بل بعث الله رسله وأنزل كتبه لإخلاص توحيده وإفراده بالعبادة يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ألا تعبدوا إلا الله أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون 6 قالوا أجئنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وإياي فاعبدون (1/31)
وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله والنداء والاستغاثة والرجاء واستجلاب الخير واستدفاع الشر له ومنه لا لغيره ولا من غيره فلا تدعوا مع الله أحدا له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء وعلى الله فليتوكل المؤمنون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين وقد تقرر أن شرك المشركين الذين بعث الله إليهم خاتم رسله صلى الله عليه و سلم لم يكن إلا باعتقادهم أن الأنداد التي اتخذوها تنفعهم وتضرهم وتقربهم إلى الله وتشفع لهم عنده مع اعترافهم بأن الله سبحانه هو خالقهم ورازقها ورازقهم ومحييها ومحييهم ومميتها ومميتهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون هؤلاء شفعاؤنا (1/32)
عند الله وكانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شركا هو لك تملكه وما ملك
وإذا تقرر هذا فلا شك أن من اعتقد في ميت من الأموات أوحى من الأحياء أنه يضره أو ينفعه أما استقلالا أو مع الله تعالى أو ناداه أو توجه إليه أو استغاث به في أمر من الأمور التي لا يقدر عليها المخلوق فلم يخص التوحيد لله ولا أفراده بالعبادة
إذ الدعاء بطلب وصول الخير إليه ودفع الضر عنه هو نوع من أنواع العبادة ولا فرق بين أن يكون هذا المدعو من دون الله أو معه حجرا أو شجرا أو ملكا أو شيطانا كما كان يفعل ذلك في الجاهلية وبين أن يكون إنسانا من الأحياء أو الأموات كما يفعله الآن كثير من المسلمين وكل عالم يعلم هذا ويقر به فإن العلة واحدة وعبادة غير الله تعالى وتشريك غيره معه يكون للحيوان كما يكون للجماد وللحي كما يكون للميت فمن زعم أن ثم فرقا بين من اعتقد في وثن من الأوثان أنه يضر أو ينفع وبين من اعتقد في ميت من بني آدم أوحى منهم أنه يضر أو ينفع أو يقدر على أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى لغيره فيما لا يقدر عليه سواه أو التقرب إلى غيره بشيء مما فقد غلط غلطا بينا وأقر على نفسه بجهل كثير فإن الشرك (1/33)
هو دعاء غير الله في الأشياء التي تختص به أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه
ومجرد تسمية المشركين لما جعلوه شريكا بالصنم والوثن والإله لغير الله زيادة على التسمية بالولي والقبر والمشهد كما يفعله كثير من المسلمين بل الحكم واحد إذا حصل لمن يعتقد في الولي والقبر ما كان يحصل لمن كان يعتقد في الصنم والوثن إذ ليس الشرك هو مجرد إطلاق بعض الأسماء على بعض المسميات بل الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئا يختص به سبحانه سواء أطلق على ذلك الغير ما كان تطلقه عليه الجاهلية أو أطلق عليه اسما آخر فلا اعتبار بالاسم قط من لم يعرف هذا فهو جاهل لا يستحق أن يخاطب بما يخاطب به أهل العلم وقد علم كل عالم أن عبادة الكفار للأصنام لم تكن إلا بتعظيمها واعتقاد أنها تضر وتنفع والاستغاثة بها عند الحاجة والتقريب لها في بعض الحالات بجزء من أموالهم وهذا كله قد وقع من المعتقدين في القبور فإنهم قد عظموها إلى حد لا يكون إلا الله سبحانه بل ربما يترك العاصي منهم فعل المعصية إذا كان في مشهد من يعتقده أو قريبا منه مخافة تعجيل العقوبة من ذلك الميت وربما لا يتركها إذا كان في حرم الله أو (1/34)
في مسجد من المساجد أو قريبا من ذلك وربما حلف بعض غلاتهم بالله كاذبا ولم يحلف بالميت الذي يعتقده
وأما اعتقادهم أنها تضر وتنفع فلولا اشتمال ضمائرهم على هذا الاعتقاد لم يدع أحد منهم ميتا أو حيا عند استجلابه لنفع أو استدفاعه لضر قائلا يا فلان افعل لي كذا وكذا وعلى الله وعليك وأنا بالله وبك (1/35)
حكم الذبائح للأموات
وأما التقرب للأموات فانظر ماذا يجعلونه من النذور لهم وعلى قبورهم في كثير من المحلات ولو طلب الواحد منهم أن يسمح بجزء من ذلك لله تعالى لم يفعل وهذا معلوم يعرفه من عرف أحوال هؤلاء
فإن قلت إن هؤلاء القبوريين يعتقدون أن الله تعالى هو الضار النافع والخير والشر بيده وإن استغاثوا بالأموات قصدا لا نجاز ما يطلبونه من الله سبحانه
قلت وهكذا كانت الجاهلية فإنهم كانوا يعلمون أن الله هو الضار النافع وأن الخير والشر بيده وإنما عبدوا أصنامهم لتقربهم إلى الله زلفى كما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز نعم إذا لم يحصل من المسلم إلا مجرد التوسل الذي قدمنا تحقيقه فهو كما ذكرناه سابقا ولكن من زعم أنه لم يقع منه إلا مجرد التوسل الذي قد منا تحقيقه فهو كما ذكرناه سابقا ولكن من زعم أنه لم يقع منه إلا مجرد التوسل وهو يعتقد من تعظيم ذلك الميت مالا يجوز اعتقاده في أحد من المخلوقين وزاد على مجرد الاعتقاد فتقرب إلى الأموات بالذبائح والنذور وناداهم مستغيثا بهم عند الحاجة فهذا كاذب في دعواه أنه متوسل فقط فلو كان الأمر كما زعمه لم يقع منه شيء من ذلك والمتوسل به لا يحتاج إلى رشوة بنذر أو ذبح ولا تعظيم ولا اعتقاد لأن المدعو هو الله (1/36)
سبحانه وهو أيضا المجيب ولا تأثير لمن وقع به التوسل قط بل هو بمنزلة التوسل بالعمل الصالح فأي جدوى في رشوة من قد صار تحت أطباق الثرى بشيء من ذلك
وهل هذا إلا فعل ما يعتقد التأثير اشتراكا أو استقلالا ولا أعدل من شهادة أفعال جوارح الإنسان على بطلان ما ينطق به لسانه من الدعاوي الباطلة العاطلة بل من زعم أنه لم يحصل منه إلا مجرد التوسل وهو يقول بلسانه يا فلان مناديا لمن يعتقده من الأموات فهو كاذب على نفسه ومن أنكر حصول النداء للأموات والاستغاثة بهم استقلالا فليخبرنا ما معنى ما نسمعه في بعض الأقطار من التوسل بالأولياء والصالحين والمقربين والذين يدعون الولاية
وهل ينكر هذا منكر أو يشك فيه شاك وما عدا ذلك فالأمر فيها أطم وأعلم ففي كل قرية ميت يعتقده أهلها وينادونه وفي كل مدينة جماعة منهم حتى أنهم في حرم الله ينادون يا ابن عباس يا محجوب فما ظنك بغير ذلك فلقد تلطف إبليس وجنوده أخزاهم الله تعالى لغالب أهل الملة الإسلامية بلطفية تزلزل الأقدام عن الإسلام فإنا لله وإنا إليه راجعون (1/37)
أين من يعقل معنى إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فلا تدعوا مع الله أحدا له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء وقد أخبرنا الله سبحانه أن الدعاء عبادة في محكم كتابه بقوله تعالى إدعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين
وخرج أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح من حديث النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الدعاء هو العبادة وفي رواية مخ العبادة ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم الآية المذكورة وأخرج أيضا النسائي وابن ماجة والحاكم وأحمد وابن أبي شيبة باللفظ المذكور
وكذلك النحر للأموات عبادة لهم ولنذر له م بجزء من المال عبادة لهم والتعظيم عبادة لهم كما أن النحر للنسك وإخراج صدقة المال والخضوع والاستكانة عبادة لله عز و جل بلا خلاف ومن زعم أن ثم فرقا بين الأمرين فليهده إلينا ومن قال أنه لم يقصد بدعاء الأموات والنحر لهم والنذر عليهم (1/38)
عبادتهم فقل له فلأي مقتض صنعت هذا الصنيع فإن دعاؤك للميت عند نزول أمر بك لا يكون إلا لشيء في قلبك عبر عنه لسانك فإن كنت تهذي نزول بذكر الأموات عند عروض الحاجات من دون اعتقاد منك لهم فأنت مصاب بعقلك وهكذا إن كنت تنحر لله فلأي معنى جعلت ذلك للميت وحملته إلى قبره فإن الفقراء على ظهر البسيطة في كل بقعة من بقاع الأرض وفعلك وأنت عاقل لا يكون إلا لمقصد قد قصدته أو أمر قد أردته وإلا فأنت مجنون قد رفع عنك القلم ولا نوافقك على دعوى الجنون إلا بعد صدور أفعالك وأقوالك في غير هذا على نمط أفعال المجانين فإن كنت تصدرها مصدر أفعال العقلاء فأنت تكذب على نفسك في دعواك الجنون في هذا الفعل بخصوصه فرارا عن أن يلزمك ما لزم عباد الأوثان الذين حكى الله عنهم في كتابه العزيز ما حكاه بقوله وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا وبقوله ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون
فإن قلت إن المشركين كانوا لا يقرون بكلمة التوحيد وهؤلاء المعتقدون في الأموات يقرون بها (1/39)
قلت هؤلاء إنما قالوها بألسنتهم وخالفوها بأفعالهم فإن من استغاث بالأموات أ طلب منهم مالا يقدر عليه إلا الله سبحانه أو عظمهم أو نذر عليهم بجزء من ماله أو نحر لهم فقد نزلهم منزلة الآلهة التي كان المشركون يفعلون لها هذه الأفعال فهو لم يعتقد معنى لا إله إلا الله ولا عمل بها بل خالفها اعتقادا وعملا فهو في قوله لا إله إلا الله كاذب على نفسه فإنه قد جعل إلها غير الله يعتقد أنه يضر وينفع فعبده بدعائه عند الشدائد والاستغاثة به عند الحاجة وبخضوعه له وتعظيمه إياه ونحر له النحائر وقرب إليه نفائس الأموال وليس مجرد قوله لا إله إلا الله من دون عمل بمعناها مثبتا للإسلام فإنه لو قالها أحد من أهل الجاهلية وعكف على صنمه يعبده لم يكن ذلك إسلاما (1/40)
حكم النطق بالتوحيد
فإ قلت قد أخرج أحمد بن حنبل والشافعي في مسنديهما من حديث عبد الله بن عدي بن الخيار أ رجلا من الأنصار حدثه أنه أتى النبي صلى الله عليه و سلم وهو في مجلسه فسار ليستأذنه في قتل رجل من المنافقين فجهر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أليس يشهد إن لا إله إلا الله قال الأنصاري بلى يا رسول الله ولا شهادة له قال أليس يشهد أن محمدا رسول الله قال بلى ولكن لا شهادة له قال أليس يصلي قال بلى ولكن لا صلاة له قال أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد في قصة الرجل الذي قال يا رسول الله صلى الله عليه و سلم اتق وفيه فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه يا رسول الله ألا أضرب عنقه فقال لا لعله أن يكون يصلي فقال خالد كم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق قلوبهم ومنه قوله صلى الله عليه و سلم لأسامة ابن زيد رضي الله عنه لما قتل رجلا من الكفار بعد أن قال لا إله إلا الله فقال له صلى الله عليه و سلم فما تصنع بلا إله إلا الله فقال يا رسول الله إنما قالها تقية فقال هل شققت عن قلبه هذا معنى الحديث وهو في الصحيح (1/41)
قلت لا شك أن من قال لا إله إلا الله ولم يتبين من أفعاله ما يخالف معنى التوحيد فهو مسلم محقون الدم والمال إذا جاء بأركان الإسلام المذكورة في حديث أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويحجوا البيت ويصوموا رمضان وهكذا من قال لا إله إلا الله متشهدا بها شهادة الإسلام ولم يكن قد مضى عليه من الوقت ما يجب فيه شيء من أركان الإسلام فالواجب حمله على الإسلام عملا بما أقربه لسانه وأخبر به من أراد قتاله ولهذا قال صلى الله عليه و سلم لأسامة بن زيد ما قال وأما من تكلم بكلمة التوحيد وفعل أفعالا تخالف التوحيد كاعتقاد هؤلاء المعتقدين في الأموات فلا ريب أنه قد تبين من حالهم خلاف ما حكته ألسنتهم من إقرارهم بالتوحيد
ولو كان مجرد التكلم بكلمة التوحيد موجبا للدخول في الإسلام والخروج من الكفر سواء فعل المتكلم بها ما يطابق التوحيد أو يخالفه لكانت نافعة لليهود مع أنهم يقولون عزير ابن الله وللنصارى مع أنهم يقولون المسيح ابن الله وللمنافقين مع أنهم يكذبون بالدين ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم وجميع هذه الطوائف الثلاث يتكلمون بكلمة التوحيد بل لم تنفع الخوارج فانهم من أكمل الناس توحيدا وأكثرهم عبادة وهم كلاب النار وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1/42)
بقتلهم مع أنهم لم يشركوا بالله ولا خالفوا معنى لا إله إلا الله بل وحدوا توحيده وكذلك المانعون للزكاة هم موحدون لم يشركوا ولكنهم تركوا ركنا من أركان الإسلام ولهذا أجمعت الصحابة رضي الله عنهم على قتالهم بل دل الدليل الصحيح المتواتر على ذلك وهو الأحاديث الواردة بألفاظ منها أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويحجوا البيت ويوموا رمضان فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا من دمائهم وأموالهم إلا بحقها فمن ترك أحد هذه الخمس لم يكن معصوم الدم ولا المال وأعظم من ذلك التارك معنى التوحيد أو المخالف له بما يأتي به من الأفعال
فإن قلت هؤلاء المعتقدون في الأموات لا يعلمون بأن ما يفعلونه شرك بل لو عرض أحدهم على السيف لم يقر بأنه مشرك بالله ولا فاعل لما هو شرك بل ولو علم أدنى علم أن ذلك شرك لم يفعله
قلت الأمر كما قلت ولكن لا يخفى عليك ما تقرر في أسباب الردة أنه لا يعتبر في ثبوتها العلم بمعنى ما قاله من جاء بلفظ كفري أو فعل فعلا كفريا وعلى كل حال فالواجب على كل من اطلع على شيء من هذه الأقوال والأفعال التي اتصف بها المعتقدون في الأموات أن يبلغهم الحجة الشرعية ويبين لهم ما أمره الله بيانه وأخذ عليه الميثاق ألا يكتمه كما حكى ذلك (1/43)
لنا في كتابه العزيز فيقول لمن صار يدعو الأموات عند الحاجات ويستغيث بهم عند حلول المصيبات وينذر لهم النذور وينحر لهم النحور ويعظمهم تعظيم الرب سبحانه إن هذا الذي يفعلونه هو الشرك الذي كانت عليه الجاهلية وهو الذي بعث الله رسوله بهدمه وأنزل كتبه في ذمه وأخذ على التبيين أن يبلغوا عباده أنهم لا يؤمنون حتى يخلصوا له التوحيد ويعبدوه وحده فإذا علموا بهذا علما لا يبقى معه شك ولا شبهة ثم أصروا على ما هم فيه من الطغيان والكفر بالرحمن وجب عليه أن يخبرهم بأنهم إذا لم يقلعوا عن هذه الغواية ويعودوا إلى ما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه و سلم من الهداية فقد حلت دماؤهم وأموالهم فإن رجعوا وإلا فالسيف هو الحكم العدل كما نطق به الكتاب المبين وسنة سيد المرسلين في إخوانهم المشركين (1/44)
حكم دعاء الأحياء
فإن قلت فقد ورد الحديث الصحيح بأن الخلائق يوم القيامة يأتون آدم فيدعونه ويستغيثونه ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمدا صلى الله عليه و سلم وسائر إخوانه من الأنبياء
قلت أهل المحشر إنما يأتون هؤلاء الأنبياء يطلبون منهم أن يشفعوا لهم إلى الله سبحانه ويدعوا لهم بفصل الحساب والإراحة من ذلك الموقف وهذا جائز فإنه من طلب الشفاعة والدعاء المأذون فيهما وقد كان الصحابة يطلبون من رسول الله صلى الله عليه و سلم في حياته أن يدعو لهم كما في حديث يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم لما أخبرهم بأنه يدخل الجنة سبعون ألفا وحديث سبقك بها عكاشة وقول أم سليم يا رسول الله خادمك أنس ادع الله له وقول المرأة كانت تصرع يا رسول الله أدع الله لي وآخر الأمر سألته الدعاء بألا تنكشف عند الصرع فدعا لها ومنه إرشاده صلى الله عليه و سلم لجماعة من الصحابة بأن يطلبوا الدعاء من أويس القرني إذا أدركوه ومنه ما ورد في دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب وغير ذلك مما لا يحصر حتى إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعمر لما خرج معتمرا لا تنسني يا أخي من دعائك
فمن جاء إلى رجل صالح واستمد منه أن يدعو له فهذا (1/45)
ليس من ذلك الذي يفعله المعتقدون في الأموات بل هو سنة حسنة وشريعة ثابتة وهكذا طلب الشفاعة ممن جاءت الشريعة المطهرة بأنه من أهلها كالأنبياء ولهذا يقول الله لرسوله يوم القيامة سل تعط واشفع تشفع وذلك هو المقام المحمود الذي وعده الله به كما في كتابه العزيز
والحاصل أ طلب الحوائج من الأحياء جائز إذا كانوا يقدرون عليها ومن ذلك الدعاء فأنه يجوز استمداده من كل مسلم بل يحسن ذلك وكذلك الشفاعة من أهلها الذين ورد الشرع بأنهم يشفعون ولكن ينبغي أن يعلم أن دعاء من يدعو له لا ينفع إلا بأذن الله وإرادته ومشيئته وكذلك شفاعة من يشفع لا تكون إلا بأذن الله كما ورد بذلك القرآن العظيم فهذا تقييد للمطلق لا ينبغي العدول عنه بحال (1/46)
الشبه الوارد في المعتقد في الأموات
وأعلم أن من الشبه الباطلة التي يوردها المعتقدون في الأموات أنهم ليسوا كالمشركين من أهل الجاهلية لأنهم إنما يعتقدون في الأولياء والصالحين وأولئك اعتقدوا في الأوثان والشياطين وهذه الشبه داحضة تنادي على صاحبها بالجهل فإن الله سبحانه لم يعذر من اعتقد في عيسى عليه السلام وهو نبي من الأنبياء بل خاطب النصارى بتلك الخطابات القرآنية ومنها يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسوله وقال لمن كان يعبد الملائكة ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم ولا شك أن عيسى والملائكة أفضل من هؤلاء الأولياء والصالحين الذين صار هؤلاء القبوريون يعتقدونهم ويغلون في شأنهم مع أ رسول الله صلى الله عليه و سلم هو أكرم الخلق على الله وسيد ولد آدم وقد نهى أمته أن تغلو فيه كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام ولم يتمثلوا أمره ولم يمتثلوا ما ذكره الله في كتابه (1/47)
العزيز من قوله ليس لك من الأمر شيء ومن قوله وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيء والأمر يومئذ لله وما حكاه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا وما قاله صلى الله عليه و سلم لقرابته الذين أمره الله بإنذارهم بقوله وأنذر عشيرتك الأقربين فقام داعيا لهم ومخاطبا لكل واحد منهم قائلا يا فلان بن فلان لا أغني عنك من الله شيئا فانظر رحمك الله تعالى ما وقع من كثير من هذه الأمة من الغلو المنهى عنه المخالف لما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم كما يقوله صاحب البردة رحمه الله تعالى ... يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم ...
فانظر كيف نفى كل ملاذ ما عدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه و سلم وغفل عن ذكر ربه ورب رسول الله صلى الله عليه و سلم إنا لله وإنا إليه راجعون
وهذا باب واسع قد تلاعب الشيطان بجماعة من أهل الإسلام حتى ترقوا إلى خطاب غير الأنبياء بمثل هذا الخطاب (1/48)
ودخلوا من الشرك في بواب بكثير من الأسباب ومن ذلك قول من يقول مخاطبا لابن العجيل ... هات لي منك يا ابن موسى إغاثة ... عاجلا في سيرها حثاثة ...
فهذا محض الاستغاثة التي لا تصلح لغير الله لميت من الأموات قد صار تحت أطباق الثرى منذ مئين من السنين ويغلب على الظن أ مثل هذا البيت والبيت الذي قبله إنما وقعا من قائليهما لغفلة وعدم تيقظ ولا مقصد لهما إلا تعظيم جانب النبوة والولاية ولو نبها لتنبها ورجعا وأقرا بالخطأ وكثيرا ما يعرض ذلك لأهل العلم والأدب والفطنة وقد سمعنا ورأينا فمن وقف على شيء من هذا الجنس لحي من الأحياء فعليه إيقاظه بالحجج الشرعية فإن رجع وإلا كان الأمر فيه كما أسلفناه
وأما إذا كان القائل قد صار تحت أطباق الثرى فينبغي إرشاده الأحياء إلى ما في ذلك الكلام من الخلل وقد وقع في البردة والهمزية شيء كثير من هذا الجنس ووقع أيضا لمن تصدى لمدح بنينا محمد صلى الله عليه و سلم ولمدح الصالحين والأئمة الهادين مالا يأتي عليه الحصر ولا يتعلق بالاستكثار منه فائدة فليس المراد إلا التنبيه والتحذير لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ربنا لا تزغ قلوبنا (1/49)
بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب
وأعلم أن ما حررنا وقررنا من أن كثيرا مما يفعله المعتقدون في الأموات يكون شركا قد يخفى على كثير من أهل العلم وذلك لا لكونه خفيا في نفسه بل لاطباق الجمهور على هذا الأمر وكونه قد شاب عليه الكبير وشب عليه الصغير وهو يرى ذلك ويسمعه ولا يرى ولا يسمع من ينكره بل ربما يسمع من يرغب فيه ويندب الناس إليه وينضم إلى ذلك ما يظهره الشيطان للناس من قضاء حوائج من قصد بعض الأموات الذين لهم شهرة وللعامة فيهم اعتقاد وربما يقف جماعة من المحتالين على قبر ويجلبون الناس بأكاذيب يحكونها عن ذلك الميت ليستجلبوا منهم النذور ويستدروا منهم الأرزاق ويقتنصوا النحائر ويستخرجوا من عوام الناس ومعاشا وربما يهولون على الزائر لذلك الميت بتهويلات ويجملون قبره بما يعظم في عين الواصلين إليه ويوقدون في المشهد الشموع ويوقدون فيه الأطياب ويجعلون لزيارته مواسم مخصوصة يتجمع فيها الجمع الجم فينهر الزائر ويرى ما يملأ عينه وسمعه من ضجيج الخلق وازدحامهم وتكالبهم على القرب من الميت والتمسح بأحجار قبره وأعواده والاستغاثة به والالتجاء إليه وسؤاله قضاء (1/50)
الحاجات ونجاح الطلبات مع خضوعهم واستكانتهم وتقريبهم إليه نفائس الأموال ونحرهم أصناف النحائر
فبمجموع هذه الأمور مع تطاول الأزمنة وانقراض القرن بعد القرن يظن الإنسان مبادئ عمره وأوائل أيامه أن ذلك من أعظم القربات وأفضل الطاعات ثم لا ينفعه ما تعلمه من العلم بعد ذلك بل يذهل عن كل حجة شرعية تدل على أن هذا هو الشرك بعينه وإذا سمع من يقول ذلك أنكره ونبا عنه سمعه وضاق به ذرعه لأنه يبعد كل البعد أن ينقل ذهنه دفعة واحدة في وقت واحد عن شيء يعتقده من أعظم الطاعات إلى كونه من أقبح المقبحات وكبر المحرمات مع كونه قد درج عليه الأسلاف ودب فيه الأخلاق وتعاودته العصور وتناوبته الدهور وهكذا كل شيء يقلد الناس فيه أسلافهم ويحكمون (1/51)
العادات المستمرة وبهذه الذريعة الشيطانية والوسيلة الطاغوتية بقى المشرك من الجاهلية على شركه واليهودي على يهوديته والنصراني على نصرانيته والمبتدع على بدعته وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا وتبدلت الأمة بكثير من المسائل الشرعية غيرها وألفوا ذلك ومرنت عليه نفوسهم وقبلته قلوبهم على المسائل الشرعية البيضاء النقية التي تبدلوا بها غيرها لنفروا عن ذلك ولم تقبله طبائعهم ونالوا ذلك المرشد بكل مكروه ومزقوا عرضه بكل لسان وهذا كثير موجود في كل فرقة من الفرق لا ينكره إلا من هو منهم في عقله
وانظر إن كنت ممن يعتبر ما ابتليت به هذه الأمة من التقليدات للأموات في دين الله حتى صارت كل طائفة تعمل في جميع مسائل الدين بقول عالم من علماء المسلمين ولا تقبل قول غيره ولا ترضى به وليتها وقفت عند عدم القبول والرضا لكنها تجاوزت ذلك إلى الحط على سائر علماء المسلمين والوضع من شأنهم وتضليلهم وتبديعهم والتنفير عنهم ثم تجاوزوا ذلك إلى التفسيق والتفكير ثم زاد الشر حتى صار أهل كل مذهب كأهل ملة مستقلة لهم نبي مستقل وهو ذلك العالم الذي قلدوه فليس الشرع إلا ما قال به دون غيره وبالغوا وغلوا فجعلوا قوله على قول الله ورسوله وهل (1/52)
بعد هذه الفتنة والمحنة شيء من الفتن والمحن فإن أنكرت هذا فهؤلاء المقلدون على ظهر البسيطة قد ملئوا الأقطار الإسلامية فاعمد إلى أهل كل مذهب وانظر إلى مسألة من مسائل مذهبهم هي مخالفة لكتاب الله أو لسنة رسوله ثم أرشدهم الى الرجوع عنها إلى ما قال الله أو رسوله وانظر بماذا يجيبونك فما أظنك تنجو من شرهم ولا تأمن من مضرتهم وقد يستحلون لذلك دمك ومالك وأروعهم يستحل عرضك وعقوبتك وهذا يكفيك إن كان لك قطرة سليمة وفكرة مستقيمة
فانظر كيف خصوا بعض علماء المسلمين واقتدوا بهم في مسائل الدين ورفضوا الباقين بل جاوزوا هذا إلى أن الإجماع ينعقد بأربعة من علماء هذه الأمة وإن الحجة قائمة بهم مع أن في عصر كل واحد منهم من هو أكثر علما منه فضلا عن العصر المتقدم على عصره والعصر المتأخر عن عصره وهذا يعرفه كل من يعرف أحوال الناس ثم تجاوزوا في ذلك إلى أنه لا اجتهاد لغيرهم بل هل مقصور عليهم فكأن هذه الشريعة كانت لهم لاحظ لغيرهم فيها ولم يتفضل الله على عباده بما تفضل عليهم وكل عاقل يعلم أن يعلم أن هذه المزايا التي جعلوها لهؤلاء الأئمة رحمهم الله تعالى إن كانت باعتبار كثرة عملهم وزيادته على علم غيرهم فهذا مدفوع عند كل من له إطلاع على أحوالهم وأحوال غيرهم فان إتباع كل واحد منهم من هو أعلم منه (1/53)
لا ينكر هذا إلا مكابر أو جاهل فكيف بمن لم يكن من أتباعهم من المعاصرين لهم والمتقدمين عليهم والمتأخرين عنهم
وإن كانت تلك المزايا بكثرة الورع والعبادة فالأمر كما تقدم فإن في معاصرتهم والمتقدمين عليهم والمتأخرين عنهم من هو أكثر عبادة وورعا منهم لا ينكر هذا الأمر إلا من لم يعرف تراجم الناس بكتب التواريخ
وإن كانت تلك المزايا بتقدم عصورهم فالصحابة رضي الله عنهم والتابعون أقدم منهم عصرا بلا خلاف وهم أحق بهذه المزايا ممن بعدهم لحديث خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
وإن كانت تلك المزايا لأمر عقلي فما هو أو لأمر شرعي فأين هو ولا ننكر أن الله قد جعلهم بمحل من العلم والورع وصلابة الدين وأنهم من أهل السبق في الفضائل والفواضل ولكن الشأن في المتعصب لهم من إتباعهم القائل أنه لا يجوز تقليد غيرهم ولا يعتد بخلافه أن خالف ولا يجوز لأحد من علماء المسلمين أن يخرج عن تليدهم وإن كان عارفا بكتاب الله وسنة رسوله قادرا على العمل بما فيهما متمكنا من استخراج المسائل الشرعية منهما فلم يكن مقودنا إلا التعجب لمن كان (1/54)
له عقل صحيح وفكر رجيح وتهوين الأمر عليه فيما نحن بصدده من الكلام على ما يفعله المعتقدون للأموات وأنه لا يغير العاقل بالكثرة وطول المهلة مع الغفلة فإن ذلك ولو كان دليلا على الحق لكان ما زعمه المقلدون المذكورون حقا ولكان ما يفعله المعتقدون للأموات حقا وهذا عارض من القول أوردناه للتمثيل ولم يكن من مقصودنا (1/55)
الاعتقاد في الأموات
والذي نحن بصدده هو أنه إذا خفي على بعض أهل العلم ما ذكرناه وقررناه في حكم المعتقدين للأموات لسبب من أسباب الخلفاء التي قدمنا ذكرها ولم يتعقل ما سقناه من الحجج البرهانية القرآنية والعقلية فينبغي أن نسأله ما هو الشرك فإن قال هو أن تتخذ مع الله إلها آخر كما كانت الجاهلية تتخذ الأصنام آلهة مع الله سبحانه
قيل له وماذا كانت الجاهلية تصنعه لهذه الأصنام التي اتخذوها حتى صاروا مشركين فإن قال كانوا يعظمونها ويقربون لها ويستغيثون بها وينادونها عند الحاجات وينحرون لها النحائر ونحو ذلك من الأفعال الداخلة في مسمى العبادة فقل له لأي شيء كانوا يفعلون لها ذلك فإن قال لكونها الخالقة الرازقة أو المحيية أو المميتة فاقرأ عليه ما قدمنا لك من البراهين القرآنية المصرحة بأنهم مقرون بأن الله الخالق الرازق المحيي المميت وأنهم إنما عبدوها لتقربهم إلى الله زلفى وقالوا هم شفعاؤهم عند الله ولم يعبدوها لغير ذلك فإنه سيوافقك ولا محالة إن كان يعتقد أن كلام الله حق وبعد أن يوافقك أوضح له أن المعتقدين في القبور قد فعلوا هذه الأفعال أو بعضها على الصفة التي قررناها وكررناها في هذه الرسالة فإنه إن بقى (1/56)
فيه بقية من إنصاف وبارقة من علم وحصة من عقل فهو لا محالة يوافقك وتنجلي عنه الغمرة وتنقشع عن قلبه سحائب الغفلة ويعترف بأنه كان في حجاب عن معنى التوحيد الذي جاءت به السنة والكتاب
فإن زاغ عن الحق وكابر وجادل فإن جاءك في مكابرته ومجادلته بشيء من الشبه فادفعه بالدفع الذي قد ذكرناه فيما سبق فإنا لم ندفع شبهة يمكن أ يدعيها مدع إلا وقد أوضحنا أمرها وإن لم يأت بشيء في جداله بل اقتصر على مجرد الخصام والدفع المجرد لما أوردته عليه من الكلام فاعدل معه عن حجة اللسان بالبرهان والقرآن إلى محجة السيف والسنان فآخر الدواء الكي هذا إذا لم يكن دفعه بما هو دون ذلك من الضرب والحبس والتعزير فإن أمكن وجب تقديم الأخف على الأغلظ عملا بقوله تعالى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وبقوله تعالى ادفع بالتي هي أحسن
ومن جملة الشبه التي عرضت لبعض أهل العلم ما حزم به السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير رحمه الله تعالى في شرحه لأبياته التي يقول في أولها (1/57)
رجعت عن النظم الذي قلت في نجدي ...
فإنه قال إن كفر هؤلاء المعتقدين للأموات هو من الكفر العملي لا الكفر الجحودي ونقل ما ورد في كفر تارك الصلاة كما ورد في الأحاديث الصحيحة وكفر تارك الحج في قوله تعالى فإن الله غني العالمين وكفر من لم يحكم مما أنزل الله كما في قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ونحو ذلك من الأدلة الواردة فيمن زنى ومن سرق ومن أتى امرأة حائضا أو امرأة في دبرها أو أتى كاهنا أو عرافا أو قال لأخيه يا كافر قال فهذه الأنواع من الكفر وإن أطلقها الشارع على فعل هذه الكبائر فإنه لا يخرج به العبد عن الإيمان ويفارق به الملة ويباح به دمه وماله وأهله كما ظنه من لم يفرق بين الكفرين ولم يميز بين الأمرين وذكر ما عقده البخاري في صحيحه من كتاب الإيمان في كفر دون كفر وما قاله العلاقة ابن القيم إن الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة من الكفر العملي وتحقيقه أن الكفر كفر عمل وكفر جحود وعناد فكفر الجحود أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودا وعنادا فهذا الكفر يضاد الإيمان (1/58)
من كل وجه وأما كفر العمل فهو نوعان نوع يضاد الإيمان ونوع لا يضاده ثم نقل عن ابن القيم كلاما في هذا المعنى
ثم قال السيد المذكور قلت ومن هذا يعني الكفر العملي من يدعو الأولياء ويهتف بهم عند الشدائد ويطوف بقبورهم ويقبل جدرانها وينذر لها بشيء من ماله فإنه كفر عملي لا اعتقادي فإنه مؤمن بالله وبرسوله صلى الله عليه و سلم وباليوم الآخر لكن زين له الشيطان أن هؤلاء عباد الله الصالحين ينفعون ويشفعون ويضرون فاعتقدوا ذلك كما اعتقد ذلك أهل الجاهلية في الأصنام لكن هؤلاء مثبتون التوحيد لله لا يجعلون الأولياء آلهة كما قاله الكفار إنكارا على رسول الله صلى الله عليه و سلم لما دعاهم إلى كلمة التوحيد أجعل الآلهة إلها واحدا فهؤلاء جعلوا لله شركاء حقيقة فقالوا في التلبية لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك فأثبتوا للأصنام شركة مع رب الأنام وإن كانت عباراتهم الضالة قد أفادت أنه لا شريك له لأنه إذا كان يملكه وما ملك فليس شريك له تعالى بل مملوك فعبادة الأصنام الذين جعلوا لله أندادا واتخذوا من دونه شركاء وتارة يقولون
شفعاء يقربونهم إلى الله زلفى بخلاف جهلة المسلمين (1/59)
الذين اعتقدوا في أوليائهم النفع والضر فإنهم مقرون لله بالوحدانية وإفراده بالالهة وصدقوا رسله فالذي أتو من تعظيم الأولياء كفر عمل لا اعتقاد فالواجب وعظهم وتعريفهم جهلهم وزجرهم ولو بالتعزير كما أمرنا بحد الزاني والشارب والسارق من أهل الكفر العملي إلى أن قال فهذه كلها قبائح محرمة من أعمال الجاهلية فهو من الكفر العملي وقد ثبت أن هذه الأمة تفعل أمورا من أمور الجاهلية هي من الكفر العملي كحديث أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري فهذه من الكفر العملي لا تخرج به الأمة عن الملة بل هم مع إتيانهم (1/60)
بهذه الخصلة الجاهلية أضافهم إلى نفسه فقال من أمتي (1/61)
اعتقاد تأثير الولي في الخلق وقبول الشرع من غير شرك
فإن قلت أهل الجاهلية تقول في أصنامها أنهم يقربونهم إلى زلفى كما يقول القبوريون هؤلاء شفعاؤنا عند الله كما يقوله القبوريون
قلت لا سواء فإن القبوريون مثبتون للتوحيد لله قائلون أنه لا إله إلا هو ولو ضربت عنقه على أن يقول أن الولي إله لما أطاع الله كان له بطاعته عنده تعالى جاء به تقبل شفاعته ويرجى نفعه لا أنه إله مع الله بخلاف الوثني فإنه امتنع عن قول لا إله إلا الله حتى ضربت عنقه زاعما أن وثنه إله مع الله ويسميه ربا والها قال يوسف عليه السلام أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار سماهم أربابا لأنهم كانوا يسمونهم بذلك كما قال الخليل هذا ربي في الثلاث الآيات مستفهما لهم مبكتا متكلما على خطابهم حيث يسمون الكواكب أربابا وقالوا أجعل الآلهة إلها واحدا وقال قوم إبراهيم من فعل هذا بآلهتنا أانت فعلت (1/62)
هذا بآلهتنا يا إبراهيم وقال إبراهيم أأفكا آلهة دون الله يردون ومن هذا يعلم أن الكفار غير مقرين بتوحيد الإلهية والربوبية كما توهمه من توهم من قوله ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض خلقهن العزيز العليم قل من يرزقكم من السماء والأرض إلى قوله فسيقولون الله فهذا إقرار بتوحيد الخالقية والرازقية ونحوهما لا أنه إقرار بتوحيد الآلهة لأنهم يجعلون أوثانهم أربابا كما عرفت فهذا الكفر الجاهلي كفر اعتقاد ومن لازمه كفر العمل بخلاف من اعتقد في الأولياء النفع والضر مع توحيد الله والإيمان به وبرسوله وباليوم الآخر فإنه كفر عمل فهذا تحقيق بالغ وإيضاح لما هو الحق من غير إفراط ولا تفريط انتهى كلام السيد المذكور رحمه الله تعالى
وأقول هذا الكلام في التحقيق ليس بتحقيق بالغ بل كلام متناقض متدافع وبيانه أنه لا شك أن الكفر ينقسم إلى كفر اعتقاد وكفر عمل ولكن دعوى أنه ما يفعله المعتقدون في الأموات (1/64)
من كفر العمل في غاية الفساد فإنه قد ذكر هذا البحث أن كفر من اعتقد في الأولياء كفر عمل وهذا عجيب كيف يقول كفر من يعتقد في الأولياء ويسمى ذك اعتقادا ثم يقول أنه من الكفر العملي وهل هذا إلا التناقض البحت والتدافع الخالص انظر كيف ذكر في أول البحث أن كر من يدعو الأولياء ويهتف بهم عند الشدائد ويطوف بقبورهم ويقبل جدرانها وينذر لها بشيء من ماله هو كفر عمل
فليت شعري ما هو الحامل له على الدعاء والاستغاثة وتقبيل الجدران ونذر النذورات هل هو مجرد اللعب والعبث من دون اعتقاد فهذا لا يفعله إلا مجنون أم الباعث عليه الاعتقاد في الميت فكيف لا يكون هذا من كفر الاعتقاد الذي لولاه لم يصدر فعل من تلك الأفعال ثم انظر كيف اعترف بعد أن حكم على هذا الكفر بأنه كفر عمل لا كفر اعتقاد بقوله لكن زين الشيطان أن هؤلاء عباد الله الصالحين ينفعون ويشفعون فاعتقد ذلك جهلا كما اعتقده أهل الجاهلية في الأصنام فتأمل كيف حكم بأن هذا كفر اعتقاد ككفر أهل الجاهلية واثبت الاعتقاد واعتذر عنهم بأنه اعتقاد جهل
وليت شعري أي فائدة لكونه اتقاد جهل فإن طوائف الكفر بأسرها وأهل الشرك قاطبة إنما حملهم على الكفر ودفع الحق والبقاء على الباطل الاعتقاد جهلا وهل يقول قائل إن (1/65)
بكلمة التوحيد فقط من دون نظر إلى ما ينافي ذلك من أفعال المتكلم بكلمة التوحيد ويخالفه من اعتقاده الذي صدر عنه تلك الأفعال المتعلقة بالأموات وهذا الاعتبار لا ينبغي التعويل عليه ولا الاشتغال به فالله سبحانه إنما ينظر إلى القلوب وما صدر من الأفعال عن اعتقاد لا إلى مجرد الألفاظ وإلا لما كان فرق بين المؤمن والمنافق
وأما ما نقله السيد المذكور رحمه الله تعالى عن ابن القيم في أول كلامه من تقسيم الكفر إلى عملي واعتقادي فهو كلام صحيح وعليه جمهور المحققين ولكن لا يقول ابن القيم ولا غيره إن الاعتقاد في الأموات على الصفة التي ذكرها هو من الكفر العلمي وسننقل ههنا كلام ابن القيم في أن ما يفعله المعتقدون في الأموات من الشرك الأكبر كما نقل عنه السيد رحمه الله تعالى في كلامه السابق ثم نتبع ذلك بالنقل عن بعض أهل العلم فإن السائل كثر الله فوائده قد طلب ذلك في سؤاله فنقول
قال ابن القيم في شرح المنازل في باب التوبة وأما الشرك فهو نوعان أكبر وأصغر فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله ويغضبون لمنتقص معبوديهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقض أحد رب العالمين وقد (1/68)
شاهدناه هذا نحن وغيرنا منهم جهرة ونرى أحدهم قد اتخذ ذكر معبوده على لسانه إن قام وقعد وإن عثر وهو لا ينكر ذلك ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده وهكذا كان عباد الأصنام سواء وهذا القد هو الذي قام بقلوبهم وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم فأولئك كانت آلهتهم من الحجر وغيرهم اتخذها من البشر قال الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار وهكذا حال من اتخذ من دون الله وليا يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى وما أعز من تخلص من هذا بل ما أعز من لا يعادي من أنكره والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وهذا عين الشرك
وقد أنكر الله ذلك في كتابه وأبطله وأخبر أن الشفاعة كلها له ثم ذكر الآية التي في سورة سبأ وهي قوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وتكلم عليها ثم قال والقرآن مملوء من أمثالها ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثا وهذا هو الذي (1/69)
لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه والله لم يجعل استعانته وسؤاله سببا لإذنه وإنما السبب كمال التوحيد فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الأذن وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها وهذا حال كل مشرك والميت محتاج إلى من يدعو له ويترحم عليه ويستغفر له كما أوصانا النبي صلى الله عليه و سلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل الله لهم العافية والمغفرة فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة لقضاء الحوائج والاستعانة بهم وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد وسموا قصدها حجا واتخذوا عندها الوقفة وحلق الرءوس فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى التنقص بالأموات وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك وأولياء الموحدين المخلصين له الذين لم يشركوا به شيئا بذمهم ومعاداتهم وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا وأنهم أمروهم به وأنهم يوالونهم عليه وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم ولله در خليله إبراهيم عليه الصلاة و السلام حيث يقول واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب أنهن أضللن كثيرا من الناس وما نجا من هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله انتهى كلام ابن القيم (1/72)
فانظر كيف صرح بأن ما يفعله هؤلاء المعتقدون في الأموات هو شرك أكبر بل أصل شرك العالم وما ذكره من المعاداة لهم فهو صحيح لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء إلى قوله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده وقال شيخ الإسلام تقي الدين في الإقناع إن من دعا ميتا وإن كان من الخلفاء الراشدين فهو كافر وإن من شك في كفره فهو كافر وقال أبو الوفاء بن عقيل في الفنون لما صعبت التكاليف على الجهال والطعام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها يا مولاي افعل لي كذا وكذا أو إلقاء الخرق على الشجرة إقتداء بمن عبد اللات والعزى انتهى
وقال ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان في إنكار تعظيم القبور وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين إلى أن صنف بعض غلاتهم كتابا سماه مناسك المشاهد ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين (1/73)
ونهى عن الحلف بغير الله وقال من حلف بغير الله فقد أشرك وقال صلى الله عليه و سلم في مرض موته لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا وقال صلى الله عليه و سلم اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد وقال صلى الله عليه و سلم لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا على حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني
ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها وذلك لأن من أكثر الأسباب لعبادة الأوثان كان تعظيم القبور ولهذا اتفق العلماء على أنه لا يتمرغ بحجرته ولا يقبلها لأنه إنما يكون لأركان بيت الله فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه كما قال الله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه وأعظم آية الكرسي الله لا إله إلا هو الحي القيوم وقال صلى الله عليه و سلم من كان آخر كلامه لا إلا الله دخل (1/76)
الجنة والإله هو الذي يألهه القلب عبادة له واستغاثة به ورجاء له وخشية وإجلالا انتهى
وقال أيضا شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم في الكلام على قوله وما أهل به لغير الله إن الظاهر أنه ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو له يلفظ وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه وقال فيه باسم المسيح ونحوه كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله فإن عبادة الله بالصلاة والنسك له أعظم من الاستغاثة باسمه في فواتح الأمور والعبادة لغير الله أعظم من استعانة بغير الله فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرم وإن قال فيه باسم الله كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال لكن يجتمع في الذبيحة مانعات ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح
ثم قال في موضع آخر من هذا الكتاب إن العلة في النهي عن الصلاة عند القبور ما يفضي إليه ذلك من الشرك ذكر ذلك الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وغيره وكذلك الأئمة من أصحاب أحمد ومالك كأبي بكر الأثرم عللوا بهذه العلة انتهى وكلامه في هذا الباب واسع جدا وكذلك كلام غيره من أهل العلم (1/77)
إلا الله وفي هذا من إخلاص التوحيد ما لبس عليه مزيد ومن ذلك قوله
مالك يوم الدين أو ملك يوم الدين على القراءتين السبعيتين فإن كونه المالك ليوم الدين يفيد أنه لا ملك لغيره فلا ينفذ إلا تصرفه تصرف أحد من خلقه من غير فرق بين نبي مرسل وملك مقرب وعبد صالح وهذا معنى كونه ملك يوم الدين فإنه يفيد أن الأمر أمره والحكم حكمه ليس لغيره معه أمر ولا حكم كما أنه ليس لغير ملوك الأرض معهم أمر ولا حكم ولله المثل الأعلى وقد فسر الله هذا المعنى الإضافي المذكور في فاتحة الكتاب في موضع آخر من كتابه العزيز فقال
وما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ومن كان يفهم كلام العرب ونكته وأسراره كفته هذه الآية عن غيرها من الأدلة واندفعت لديه كل شبهة ومن ذاك إياك نعبد فإن تقديم الضمير قد صرح أئمة المعاني والبيان وأئمة التفسير أنه يفيد الاختصاص فالعبادة لله سبحانه وتعالى ولا يشاركه فيها غيره ولا يستحقها وقد عرفت أن الاستغاثة والدعاء والتعظيم والذبح والتقرب من أنواع العبادة ومن ذلك قوله وإياك نستعين فإن تقديم الضمير ههنا يفيد (1/80)
الاختصاص كما تقدم وهو يقتضي أنه لا يشاركه غيره في الاستعانة في الأمور التي لا يقدر عليها غيره فهذه خمسة مواضع في فاتحة الكتاب يفيد كل منها إخلاص التوحيد مع أن فاتحة الكتاب ليست إلا سبع آيات فما ظنك بما في سائر الكتاب العزيز فذكرنا لهذه الخمسة المواضع في فاتحة الكتاب كالبرهان على ما ذكرناه من أن في الكتاب العزيز من ذلك ما يطول تعداده وتتعسر الإحاطة به ومما يصلح أن يكون موضعا سادسا لتلك المواضع الخمسة في فاتحة الكتاب قوله
رب العالمين وقد تقرر لغة وشرعا أن العالم ما سوى الله سبحانه وصيغ الحصر إذا تتبعتها من كتب المعاني والبيان والتفسير والأصول بلغت ثلاث عشرة صيغة فصاعدا ومن يشك في هذا فليتتبع كشاف الزمخشري فإنه سيجد فيه ما ليس له ذكر في كتب المعاني والبيان كالقلب فإنه جعله من مقتضيات الحصر ولعله ذكر ذلك عند تفسيره للطاغوت وغير ذلك مما لا يقتضي المقام بسطه ومع الإحاطة بصيغ الحصر المذكورة تكثر الأدلة الدالة على خلاص التوحيد وإبطال الشرك بجميع أقسامه
وأعلم أن السائل كثر الله فوائده ذكر في جملة ما سأل عنه أنه لو قصد الإنسان قبر رجل من المسلمين مشهور بالصلاح ووقف لديه وأدى الزيارة وسأل الله بأسمائه الحسنى وبما لهذا (1/81)
الميت من المنزلة هل تكون هذه البدعة عبادة لهذا الميت ويصدق عليه أنه قد دعا الله وأنه قد عبد غير الرحمن وسلب عنه اسم الإيمان ويصدق على هذا القبر أنه وثن من الأوثان ويحكم بردة ذلك الداعي والفريق بينه وبين نسائه واستباحة أمواله ويعامل معاملة المرتدين أو يكون فاعلا معصية كبيرة أو مكروها
وأقول أنا قد قدمنا في أوائل هذا الجواب أنه لا بأس بالتوسل بنبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء أو عالم من العلماء وأوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه فهذا الذي جاء إلى القبر زائرا ودعا الله وحده وتوسل بذلك الميت كأن يقول اللهم إني أسألك أن تشفيني من كذا وأتوسل إليك بما لهذا العبد الصالح من العبادة لك والمجاهدة فيك والتعلم والتعليم خالصا لك فهذا لا تردد في جوازه لكن لأي معنى قام يمشي إلى القبر فإن كان لمحض الزيارة ولم يعزم على الدعاء والتوسل إلا بعد تجريد القصد إلى الزيارة ولم يعزم على الدعاء والتوسل إلا بعد تجريد القصد إلى الزيارة فهذا ليس بممنوع فإنه إنما جاء ليزور وقد أذن لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بزيارة القبور بحديث كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها (1/82)
وخرج لزيارة الموتى ودعا لهم وعلمنا كيف نقول إذا نحن زرناهم وكان يقول السلام عليكم دار قوم مؤمنين وانا بكم إن شاء الله لاحقون وأتاكم ما توعدون نسأل الله لنا ولكم العافية وهو أيضا في الصحيح بألفاظ وطرق فلم يفعل هذا الزائر إلا ما هو مأذون به ومشروع لكن بشرط ألا يشد راحلته ولا يعزم على سفره ولا يرحل كما ورد تقييد الأذن بالزيارة للقبور بحديث لا تشد الرحال إلا لثلاثة وهو مقيد لمطلق الزيارة وقد خص بمخصصات منها زيارة القبر الشريف النبوي المحمدي على صاحبه أفضل الصلاة والتسليم وفي ذلك خلاف بين العلماء وهي مسألة من المسائل التي طالت ذيولها واشتهرت أصولها وامتحن بسببها من امتحن وليس قصد المشي إلى القبر ليفعل الدعاء عنده فقط وجعل الزيارة تابعة لذلك أو مشى لمجموع الزيارة والدعاء عنده فقط وجعل الزيارة تابعة لذلك أو مشى لمجموع الزيارة والدعاء فقط كان يغنيه أن يتوسل إلى الله بذلك الميت من الأعمال الصالحة من دون أن يمشي إلى قبره (1/83)
حكم التوسل بساكن القبور
فأن قال إنما مشيت إلى قبره لأشير أليه عند التوسل به فقال له إن الذي يعلم السر وأخفى ويحول بين المرء وقلبه ويطلع على خفيات الضمائر وتنكشف لديه مكنونات السرائر لا يحتاج منك إلى هذه الإشارة التي زعمت أنها الحاملة لك على قصد القبر والمشي إليه وقد كان يغنيك أن تذكر ذلك الميت باسمه العلم أو بما يتميز به عن غيره فما أراك مشيت لهذه الإشارة فأن الذي تدعوه في كل مكان مع كل إنسان بل مشيت لتسمع الميت توسلك به وتعطف قلبه عليك وتتخذ عنده يدا بقصده وزيارته والدعاء عنده والتوسل به وأنت أن رجعت إلى نفسك وسألتها عن هذا المعنى فربما تقر لك به وتصدقك الخبر فأن وجدت عندها هذا المعنى الدقيق الذي هو بالقبول منك حقيق فأعلم أنه قد علق بقلبك ما علق بقلوب عباد القبور ولكنك قهرت هذه النفس الخبيثة عن أن تترجم بلسانك عنها وتنشر ما انطوت عليه من محبة ذلك القبر والاعتقاد فيه والتعظيم له والاستغاثة به فأنت مالك لها من هذه الحيثية مملوك لها من الحيثية التي أقامتك من مقامك ومشت بك إلى فوق القبر فأن تداركت نفسك بعد هذه وإلا كانت المستولية عليك المتصرفة فيك
المتلاعبة بك في جميع ما تهواه مما قد وسوس به لها الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس
فإن قلت قد رجعت إلى نفسي فلم أجد عندها شيئا من هذا وفتشتها فوجدتها صافية من ذلك الكدر فما أظن الحامل لك على المشي إلى القبر إلا أنك سمعت الناس يفعلون شيئا ففعلته ويقولون شيئا فقلته فاعلم أن هذه أول عقدة من عقود توحيدك وأول محنة من محن تقليدك فارجع تؤجر ولا تتقدم تنحرفان هذا التقليد الذي حملك على هذه المشية الفارغة العاطلة الباطلة سيحملك على أخواتها فيقف على باب الشرك أولا ثم تدخل منه ثانيا ثم تسكن فيه واليه ثالثا وأنت في ذلك كله تقول سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ورأيتهم يفعلون أمرا ففعلته
وإن قلت إنك على بصيرة في علمك وعملك ولست ممن ينقاد إلى هوى نفسه كالأول ولا ممن يقهرها ولكنه يقلد الناس كالثاني بل أنت صافي السر نقي الضمير خالص الاعتقاد قوي اليقين صحيح التوحيد جيد التمييز كامل العرفان عالم بالسنة والقرآن فلا لمراد نفسك اتبعت ولا في هوة التقليد وقعت
فقل لي بالله ما الحامل لك على التشبه بعباد القبور والتعزير على من كان في عداد سليمي الصدور فإنه يراك الجاهل والخامل ومن هو عن علمك وتمييزك عاطل فيفعل كفعلك (1/84)
يقتدي بك وليس له بصيرتك ولا قوة في الدين مثل قوتك فيحكى فعلك صورة ويخالفه حقيقة ويعتقد أنك لم تقصد هذا القبر إلا الأمر ويغتنم إبليس اللعين غربة هذا المسكين الذي اقتدى بك واستن بسنتك فيستدرجه حتى يبلغ به إلى حيث يريد فرحم الله امرأ هرب بنفسه عن غوائل التقليد وأخلص عبادته للحميد المجيد
وقد ظهر بمجموع هذا التقسيم أن من يقصد القبر ليدعو عنده هو أحد ثلاثة إن مشى لقصد الزيارة فقط وعرض له الدعاء ولم يحصل بدعائه تغرير على الغير فذلك جائز وإن مشى لقصد الدعاء فقط أو له مع الزيارة وكان له من الاعتقاد ما قدمنا فهو على خطر الوقوع في الشرك فضلا عن كونه عاصيا وإذا لم يكن له اعتقاد في الميت على الصفة التي ذكرنا فهو عاص آثم وهذا أقل أحواله وأحقر ما يربحه في رأس ماله وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولي التوفيق
عقيدة السلف أصحاب الحديث
تأليف المؤلف أبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني (1/86)
بسم الله الرحمن الرحيم
سند الكتاب إلى مؤلفه
أخبرنا قاضي القضاة بدمشق نظام الدين عمر بن إبراهيم ابن محمد بن مفلح الصالحي الحنبلي إجازة مشافهة أخبرنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد بن المحب المقدسي إجازة إن لم يكن سماعا أخبرنا الشيخان جمال الدين عبد الرحمن بن أحمد بن عمر بن شكر وأبو عبد الله محمد ابن المحب عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسيين قال الأول أخبرنا إسماعيل بن أحمد بن بن الحسين بن محمد العراقي سماعا أخبرنا أبو الفتح عبد الله بن أحمد الخرقي إجازة وقال الثاني أخبرنا أحمد بن عبد الدائم رحمه الله وأخبرنا المحدث تاج الدين محمد بن الحافظ عماد الدين إسماعيل بن محمد بن بردس البعلي في كتابه أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل ابن الخباز شفاها أخبرنا أحمد أبن عبد الدائم إجازة إن لم يكن سماعا أخبرنا الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي أخبرنا أبو بكر عبد الرحمن ابن إسماعيل الصابوني حدثتنا والدي شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن فذكره (1/8)
وأخبرنا قاضي القضاة عز الدين عبد الرحيم بن محمد ابن الفرات الحنفي إجازة مشافهة أخبرنا محمود بن خليفة ابن محمد بن خلف المتبجي إجازة أخبرنا الجمال عبد الرحمن ابن أحمد بن عمر بن شكر بنصه قال
سبب تأليف الرسالة
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام
أما بعد فإني لما وردت آمد طبرستان وبلاد جيلان متوجها إلى بيت الله الحرام وزيارة مسجد نبيه محمد صلى الله عليه و سلم وعلى آله وأصحابه الكرام سألني إخواني في الدين أن أجمع لهم فصولا في أصول الدين التي استمسك بها الذين مضوا من أئمة الدين وعلماء المسلمين والسلف الصالحين وهدوا ودعوا الناس إليها في كل حين ونهوا عما يضادها وينافيها جملة المؤمنين المصدقين المتقين ووالوا في إتباعها (1/9)
وعادوا فيها وبدعوا وكفروا من اعتقد غيرها وأحرزوا لأنفسهم ولمن دعوهم إليها بركتها وخيرها وأفضوا إلى ما قدموه من ثواب اعتقادهم لها واستمساكهم بها وإرشاد العباد إليها وحملهم إياهم عليها فاستخرت الله تعالى وأثبت في هذا الجزء ما تيسر منها على سبيل الاختصار رجاء أن ينتفع به أولو الألباب والأبصار والله سبحانه يحقق الظن ويجزل علينا المن بالتوفيق والاستقامة على سبيل الرشد والحق بمنه وفضله
قلت وبالله التوفيق
عقيدة أصحاب الحديث
أصحاب الحديث حفظ الله أحياءهم ورحم أمواتهم يشهدون لله تعالى بالوحدانية وللرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة والنبوة ويعرفون ربهم عز و جل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله أو شهد له بها رسوله صلى الله عليه و سلم على ما وردت الأخبار الصحاح به ونقلته العدول الثقات عنه ويثبتون له جل جلاله ما أثبت لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه و سلم ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه فيقولون إنه خلق آدم بيده كما نص سبحانه عليه (1/10)
في قوله عزمن قائل يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ولا يحرفون الكلام عن مواضعه بحمل اليدين على النعمتين أو القوتين تحريف المعتزلة الجهمية أهلكهم الله ولا يكيفونهما أو تشبيههما بأيدي المخلوقين تشبيه المشبهة خذلهم الله وقد أعاذ الله تعالى أهل السنة من التحريف والتكييف ومن عليهم بالتعريف والتفهيم حتى سلكوا سبل التوحيد والتنزيه وتركوا القول بالتعليل والتشبيه واتبعوا قول الله عز و جل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
قولهم في الصفات
وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن ووردت بها الأخبار الصحاح من السمع والبصر والعين والوجه والعلم والقوة والقدرة والعزة والعظمة والإرادة والمشيئة والقول والكلام والرضا والسخط والحياة واليقظة والفرح والضحك وغيرها من غير تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله تعالى وقاله (1/11)
رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من غير زيادة عليه ولا إضافة إليه ولا تكييف له ولا تشبيه ولا تحريف ولا تبديل ولا تغيير ولا إزالة للفظ الخبر عما تعرفه العرب وتضعه عليه بتأويل منكر ويجرونه على الظاهر ويكلون علمه إلى الله تعالى ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله كما أخبر الله عن الراسخين في العلم أنهم يقولونه في قوله تعالى والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب
القرآن كلام الله غير مخلوق
ويشهد أصحاب الحديث ويعتقدون أن القرآن كلام الله وكتابه ووحيه وتنزيله غير مخلوق ومن قال بخلقه واعتقده فهو كافر عندهم والقرآن الذي هو كلام الله ووحيه هو الذي ينزل به جبريل على الرسول صلى الله عليه و سلم قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا كما قال عز من قائل وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وهو الذي بلغه الرسول صلى الله عليه و سلم أمته كما أمر به في قوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك فكان الذي بلغهم بأمر (1/12)
الله تعالى كلامه عز و جل وفيه قال صلى الله عليه و سلم أتمنعونني أن أبلغ كلام ربي وهو الذي تحفظه الصدور وتتلوه الألسنة ويكتب في المصاحف كيف ما تصرف بقراءة قارئ ولفظ لافظ وحفظ حافظ وحيث تلي وفي أي موضع قرئ وكتب في مصاحف أهل الإسلام وألواح صبيانهم وغيرها كله كلام الله جل جلاله غير مخلوق فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر بالله العظيم
سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول سمعت أبا الوليد حسان بن محمد يقول سمعت الإمام أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول القرآن كلام الله غير مخلوق فمن قال إن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم لا تقبل شهادته ولا يعاد إن مرض ولا يصلي عليه إن مات ولا يدفن في مقابر المسلمين ويستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه
فأما اللفظ بالقرآن فإن الشيخ أبا بكر الإسماعيلي الجرجاني ذكر في رسالته التي صنفها لأهل جيلان أن من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فقد قال بخلق القرآن (1/13)
وذكر ابن مهدي الطبري في كتابه الاعتقاد الذي صنفه لأهل هذه البلاد أن مذهب أهل السنة والجماعة القول بأن القرآن كلام الله سبحانه و وحيه وتنزيله وأمره ونهيه غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر بالله العظيم وأن القرآن في صدورنا محفوظ وبألسنتنا مقروء وفي مصاحفنا مكتوب وهو الكلام الذي تكلم الله عز و جل به ومن قال إن القرآن بلفظي مخلوق أو لفظي به مخلوق فهو جاهل ضال كافر بالله العظيم وإنما ذكرت هذا الفصل بعينه من كتاب ابن مهدي لاستحساني ذلك منه فإنه اتبع السلف أصحاب الحديث فيما ذكره مع تبحره في الكلام وتصانيفه الكثيرة فيه وتقدمه وتبرزه عند أهله أه
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال قرأت بخط أبي عمرو المستملي سمعت أبا عثمان سعيد بن أشكاب يقول سألت إسحاق ابن إبراهيم عن اللفظ بالقرآن فقال لا ينبغي أن يناظر في هذا القرآن كلام الله غير مخلوق (1/14)
وذكر محمد بن جرير الطبري رحمه الله في كتابه الاعتقاد الذي صنفه في هذه وقال أما القول في ألفاظ العباد في القرآن فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي ولا تابعي إلا عمن في قوله الغنى والشفاء وفي إتباعه الرشد والهدى ومن يقوم قوله مقام الائمة الأولى أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله فإن أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله يقول اللفظية جهمية قال الله تعالى فأجره حتى يسمع كلام الله ممن يسمع
قال سمعت جماعة من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم يذكرون عنه رضي الله عنه أنه كان يقول من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع
قال محمد بن جرير ولا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله غير قوله إذ لم يكن لنا فيه إمام نأتم به سواه وفيه الكفاية والمقنع وهو الإمام المتبع رحمة الله عليه ورضوانه هذه ألفاظ محمد بن جرير التي نقلتها نفسها إلى ما ها هنا من كتاب الاعتقاد الذي صنفه
قلت وهو أعني محمد بن جرير قد نفى عن نفسه (1/15)
بهذا الفصل ذكره في كتابه كل ما نسب إليه وقذف به من عدول عن سبيل السنة أو ميل إلى شيء من البدعة والذي حكاه عن أحمد رضي الله عنه وأرضاه أن اللفظية جهمية فصحيح عنه وإنما قال ذلك لأن جهما وأصحابه صرحوا بخلق القرآن والذين قالوا باللفظ تدرجوا به إلى القول بخلق القرآن وخافوا أهل السنة في ذلك الزمان من التصريح بخلق القرآن فذكروا هذا اللفظ وأرادوا به أن القرآن بلفظنا مخلوق فلذلك سماهم أحمد رحمه الله جهمية وحكي عنه أيضا أنه قال اللفظية شر من الجهمية
وأما ما حكاه محمد بن جرير عن أحمد رحمه الله أن من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع فإنما أراد أن السلف من أهل السنة لم يتكلموا في باب اللفظ ولم يحوجهم الحال إليه وإنما حدث الكلام في اللفظ من أهل التعمق وذوي الحمق الذين أتوا بالمحدثات وبحثوا عما نهوا عنه من الضلالات وذميم المقالات وخاضوا فيما لم يخض فيه السلف من علماء الإسلام فقال الإمام أحمد هذا القول في نفسه بدعة ومن حق المتدين أن يدعه ولا يتفوه به ولا بمثله من البدع المبتدعة ويقتصر على ما قاله السلف من الأئمة المتبعة أن القرآن كلام الله غير مخلوق ولا يزيد عليه إلا تكفير من يقول بخلقه (1/16)
أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الخراجي بمرور حدثنا يحيى بن سالوكه عن أبيه عبد الكريم السندي قال قال وهب بن زمعة أخبرني الباساني قال سمعت عبد الله بن المبارك يقول من كفر بحرف من القرآن فقد كفر بالقرآن ومن قال لا أومن بهذا الكلام فقد كفر
استواء الله على عرشه
ويعتقد أهل الحديث ويشهدون أن الله سبحانه وتعالى فوق سبع سموات على عرشه كما نطق به كتابه في قوله عز و جل إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه وقوله في سورة الرعد الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وقوله في سورة الفرقان ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا وقوله في سورة السجدة ثم استوى على العرش وقوله في سورة طه الرحمن على العرش استوى يثبتون له من ذلك ما أثبته الله تعالى ويؤمنون به ويصدقون الرب جل جلاله في (1/17)
خبره ويطلقون ما أطلقه سبحانه وتعالى من استوائه على العرش ويمرونه على ظاهره ويكلون علمه إلى الله ويقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب كما أخبر الله تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يقولون ذلك ورضيه منهم فأثنى عليهم به
أخبرنا أبو الحسين عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى المعلي حدثني محمد بن داود بن سليمان الزاهد أخبرني علي بن محمد بن عبيد أبو الحسن الحافظ من أصله العتيق حدثنا أبو يحيى بن بشر الوراق حدثنا محمد بن الأشرس الوراق أبو كنانة حدثنا أبو المغيرة الحنفي حدثنا قرة بن خالد عن الحسن عن أبيه عن أم سلمة في قوله تعالى الرحمن على العرش استوى قالت الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإقرار به إيمان والجحود به كفر
وحدثنا أبو الحسن بن اسحق المدني حدثنا أحمد بن الخضر أبو الحسن الشافعي حدثنا شاذان حدثنا ابن مخلد بن يزيد القهستاني حدثنا جعفر بن ميمون قال سئل مالك بن أنس عن قوله الرحمن على العرش استوى كيف استوى قال (1/18)
الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا ضالا وأمر به أن يخرج من مجلسه
أخبرنا أبو محمد المجلدي العدل حدثنا أبو بكر عبد الله ابن محمد بن مسلم الاسفراييني حدثنا أبو الحسين علي بن الحسن حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا مهدي بن جعفر بن ميمون الرملي عن جعفر بن عبد الله قال جاء رجل إلى مالك بن أنس يعني يسأله عن قوله الرحمن على العرش استوى قال فما رأيته وجد من شيء كوجده من مقالته وعلاه الرحضاء وأطرق القوم فجعلوا ينتظرون الأمر به فيه ثم سري عن مالك فقال الكيف غير معلوم والاستواء غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وإني لأخاف أن تكون ضالا ثم أمر به فأخرج
أخبرنا به جدي أبو حامد أحمد بن إسماعيل عن جد والدي الشهيد وأبو عبد الله محمد بن عدي بن حمدوية الصابوني حدثنا محمد بن أحمد بن أبي عون النسوي حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا مهدي بن جعفر الرملي حدثنا جعفر بن عبد الله قال (1/19)
جاء رجل لمالك بن أنس فقال يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى كيف استوى قال فما رأيت مالكا وجد من شيء كوجده من مقالته وذكر بنحوه
وسئل أبو علي الحسين بن الفضل البجلي عن الاستواء وقيل له كيف استوى على عرشه فقال أنا لا أعرف من أنباء الغيب إلا مقدار ما كشف لنا وقد أعلمنا جل ذكره أنه استوى على عرشه ولم يخبرنا كيف استوى
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو بكر محمد بن داود الزاهد أخبرنا محمد بن عبد الرحمن السامي حدثني عبد الله ابن أحمد بن شبويه المروزي سمعت علي بن الحسين بن شقيق يقول سمعت عبد الله بن المبارك يقول نعرف ربنا فوق سبع سموات على العرش استوى بائنا منه خلقه ولا نقول كما قالت الجهمية إنه ها هنا وأشار إلى الأرض
وسمعت الحاكم أبا عبد الله في كتابه التاريخ الذي جمعه لأهل نيسابور وفي كتابه معرفة الحديث اللذين جمعهما ولم يسبق إلى مثلهما يقول سمعت أبا جعفر محمد بن صالح بن هانئ يقول سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول من لم يقل بأن الله عز و جل على عرشه فوق سبع (1/20)
سمواته فهو كافر بربه حلال الدم يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وألقي على بعض المزابل حتى لا يتأذى المسلمون ولا المعاهدون بنتن رائحة جيفته وكان ماله فيئا لا يرثه أحد من المسلمين إذ المسلم لا يرث الكافر كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم رواه البخاري
عقيدتهم بنزول الرب سبحانه ومجيئه
ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له بنزول المخلوقين ولا تمثيل ولا تكييف بل يثبتون ما أثبته رسول الله صلى الله عليه و سلم وينتهون فيه إليه ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره ويكلون عمله إلى الله
وكذلك يثبتون ما أنزله الله عز اسمه في كتابه من ذكر المجيء والإتيان المذكورين في قوله عز و جل هل ينظرون (1/21)
إلا أن يأتيهم في ظلل من الغمام والملائكة وقوله عز اسمه وجاء ربك والملك صفا صفا وقرأت في رسالة الشيخ أبي بكر الإسماعيلي إلى أهل جيلان أن الله سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا على ما صح به الخبر عن الرسول صلى الله عليه و سلم وقد قال الله عز و جل هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وقال وجاء ربك والملك صفا صفا ونؤمن بذلك كله على ما جاء بلا كيف فلو شاء سبحانه أن يبين لنا كيفية ذلك فعل فانتهينا إلى ما أحكمه وكففنا عن الذي يتشابه إذ كنا قد أمرنا به في قوله عز و جل هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب
أخبرنا أبو بكر بن زكريا الشيباني سمعت أبا حامد بن الشرقي يقول سمعت أحمد السلمي وأبا داود الخفاجي (1/22)
يقولان سمعنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول قال لي الأمير عبد الله بن طاهر يا أبا يعقوب هذا الحديث الذي ترويه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف ينزل قال قلت أعز الله الأمير لا يقال لأمر الرب كيف إنما ينزل بلا كيف
حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم العدل حدثنا محبوب بن عبد الرحمن القاضي حدثني أبو بكر بن أحمد بن محبوب حدثنا أحمد بن حمويه حدثنا أبو عبد الرحمن العباسي حدثنا محمد بن سلام سألت عبد الله بن المبارك عن نزول ليلة النصف من شعبان فقال عبد الله يا ضعيف ليلة النصف ينزل في كل ليلة فقال الرجل يا أبا عبد الله كيف ينزل أليس يخلو ذلك المكان منه فقال عبد الله ينزل كيف يشاء وفي رواية أخرى لهذه الحكاية أن عبد الله ابن المبارك قال للرجل إذا جاءك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فأصغ له (1/23)
سمعت الحاكم أبا عبد الله يقول سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري يقول سمعت إبراهيم بن أبي طالب يقول سمعت أحمد بن سعيد بن إبراهيم بن عبد الله الربا طي يقول حضرت مجلس الأمير عبد الله بن طاهر ذات يوم و حضر إسحاق ابن إبراهيم يعني ابن راهويه فسئل عن حديث النزول اصحيح هو قال نعم فقال له بعض قواد عبد الله يا أبا يعقوب أتزعم أن الله ينزل كل ليلة قال نعم قال كيف ينزل فقال له إسحاق أثبته فوق حتى أصف لك النزول فقال الرجل أثبته فوق فقال إسحاق قال الله عز و جل وجاء ربك والملك صفا صفا فقال الأمير عبد الله يا أبا يعقوب هذا يوم القيامة فقال إسحاق أعز الله الأمير ومن يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم
وخبر نزول الرب كل ليلة إلى سماء الدنيا خبر متفق على صحته مخرج في الصحيحين من طريق مالك بن أنس عن الزهري عن الأغر وأبي سلمة عن أبي هريرة أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد حدثنا أبو مصعب حدثنا مالك وحدثنا أبو بكر بن زكريا (1/24)
حدثنا أبو حاتم علي بن عبيدان حدثنا محمد بم يحيى قال ومما قرأت على ابن نافع وحدثني مطرف بن مالك رحمه الله وحدثنا أبو بكر بن زكريا أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن إبراهيم ابن باكويه حدثنا يحيى بن محمد حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن ابن شهاب الزهري عن أبي عبد الله الأغر وأبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ينزل ربنا تبارك وتعالى في كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له
ولهذا الحديث طرق إلى أبي هريرة رواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رحمه الله ورواه يزيد بن هارون وغيره من الأئمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة ومالك عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة ومالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وعبيد الله بن عمر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة وعبد الأعلى بن أبي المساور وبشير بن أبي سلمان عن أبي حازم عن أبي هريرة ورواه نافع بن جبير بن مطعم (1/25)
عن أبيه وموسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى عن عبادة ابن الصامت وعبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر بن عبد الله وعبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب وشريك عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود ومحمد ابن كعب بن فضالة بن عبيد عن أبي الدرداء وأبو الزبير عن جابر وسعيد بن جبير عن ابن عباس وعن أم المؤمنين عائشة وأم سلمة رضي الله عنهم
وهذه الطرق كلها مخرجة بأسانيدها في كتابنا الكبير المعروف بالانتصار وفي رواية الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا مضى نصف الليل أو ثلثاه ينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول هل من سائل فيعطى هل من داع فيستجاب له هل من مستغفر فيغفر له حتى ينفجر الصبح وفي رواية سعيد بن مرجانة عن أبي هريرة زيادة في آخره وهي ثم يبسط يديه فيقول من يقرض غير معدوم ولا ظلوم وفي رواية أبي حازم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الله ينزل إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الأخير فينادي هل من سائل (1/26)
فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له فلا يبقى شيء فيه الروح إلا علم به إلا الثقلان الجن والإنس قال وذلك حين تصيح الديكة وتنهق الحمير وتنبح الكلاب وروى هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن ميمون عن عطاء بن يسار عن رفاعة الجهني حدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إذا مضى ثلث الليل أو شطر الليل أو ثلثاه ينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول لا أسأل من عبادي غير من يستغفرني فأغفر له من يدعوني فأستجيب له من يسألني أعطيه حتى ينفجر الصبح
أخبرنا أبو محمد المجلدي أخبرنا أبو العباس السراج حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي مسلم الأغر قال أشهد على أبي سعيد وأبي هريرة أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا أشهد عليهما أنهما سمعا النبي صلى الله عليه و سلم يقول إن الله يمهل حتى إذا ذهب ثلث الليل الأول هبط إلى السماء الدنيا فيقول هل من مذنب هل من مستغفر هل من سائل هل من داع حتى تطلع الشمس (1/27)
أخبرنا أبو محمد المجلدي حدثنا أبو العباس الثقفي حدثنا الحسن بن الصباح حدثنا شبابة بن ثوار عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي مسلم الأغر قال أشهد على أبي سعيد وأبي هريرة أنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله يمهل حتى إذا كان ثلث الليل هبط إلى هذه السماء ثم أمر بأبواب السماء ففتحت فقال هل من سائل فأعطيه هل من داع فأجيبه هل من مستغفر فأغفر له هل من مضطر أكشف عنه ضره هل من مستغيث أغيثه فلا يزال ذلك مكانه حتى يطلع الفجر في كل ليلة من الدنيا
أخبرنا أبو محمد المجلدي أنبانا أبو العباس يعني الثقفي حدثنا مجاهدين موسى والفضل بن سهل قالا حدثنا يزيد بن هارون حدثنا سهل عن أبي إسحاق عن الأغر أنه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال إذا كان ثلث الليل نزل تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فقال ألا هل من مستغفر يغفر له هل من سائل يعطى سؤله ألا هل من تائب يتاب عليه
حدثنا الأستاذ أبو منصور بن حماد حدثنا أبو إسماعيل بن أبي الظما ببغداد حدثنا أبو منصور الرمادي حدثنا عبد الرزاق (1/28)
أخبرنا معمر عن سهل عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ينزل الله تعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول أنا الملك أنا الملك ثلاثا من يسألني فأعطيه من يدعوني فأستجيب له من يستغفرني فاغفر له فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر
سمعت الأستاذ أبا منصور على إثر هذا الحديث الذي أملاه علينا يقول سئل أبو حنيفة عنه فقال ينزل بلا كيف وقال بعضهم ينزل نزولا يليق بالربوبية بلا كيف من غير أن يكون نزوله مثل نزول الخلق بل بالتجلي والتملي لأنه جل جلاله منزه أن تكون صفاته مثل صفات الخلق كما كان منزها أن تكون ذاته مثل ذوات الخلق فمجيئه وإتيانه ونزوله على حساب ما يليق بصفاته من غير تشبيه وكيف
وقال الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب التوحيد الذي صنفه وسمعته من حامله أبي طاهر رحمه الله تعالى (1/29)
باب ذكر أخبار ثابتة السند رواها علماء الحجاز والعراق في نزول الرب إلى السماء الدنيا كل ليلة من غير صفة كيفية النزول مع إثبات النزول
نشهد شهادة مقر بلسانه مصدق بقلبه متيقن بما في هذه الأخبار من ذكر النزول من غير أن نصف الكيفية لأن نبينا صلى الله عليه و سلم لم يصف لنا كيفية نزول خالقنا إلى السماء الدنيا وأعلمنا أنه ينزل والله عز و جل ولي نبيه صلى الله عليه و سلم بيان ما بالمسلمين إليه الحاجة من أمر دينهم فنحن قائلون مصدقون بما في هذه الأخبار من ذلك النزول غير متكلفين للنزول بصفة الكيفية إذ النبي صلى الله عليه و سلم لم يصف كيفية النزول أ ه
وأخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو محمد الصيدلاني حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا أحمد بن صالح المصري حدثنا بن وهب أنبأنا مخرمة بن بكير عن أبيه رحمه الله وأخبرنا الحاكم حدثنا محمد بن يعقوب الأصم واللفظ له حدثنا إبراهيم بن حنيفة حدثنا ابن وهب عن مخرمة ابن بكير عن أبيه قال سمعت محمد بن المنكدر يزعم أنه سمع أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه و سلم تقول نعم اليوم يوم (1/30)
ينزل الله تعالى فيه إلى السماء الدنيا قالوا وأي يوم قالت يوم عرفة
وروت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم قالت ينزل الله تعالى في النصف من شعبان إلى السماء الدنيا ليلا إلى آخر النهار من الغد فيعتق من النار بعدد شعر معز بني كلب ويكتب الحاج وينزل أرزاق السنة ولا يترك أحدا إلا غفر له إلا مشركا أو قاطع رحم أو عاقا أو مشاحنا
أخبرنا أبو طاهر بن خزيمة حدثنا جدي الإمام حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني حدثنا إسماعيل بن علية عن هشام الدستوائي ح قال الإمام وحدثنا الزعفراني عبد الله بن بكر السهمي حدثنا هشام الدستوائي ح وحدثنا الزعفراني حدثنا يزيد يعني ابن هارون الدستوائي ح وحدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون بالاسكندرية حدثنا الوليد عن الأوزاعي جميعهم عن يحيى بن أبي كثير عن عطاء بن يسار حدثني رفاعة بن عرابة الجهني ح قال الإمام وحدثنا أبو هشام (1/31)
بن زياد بن أيوب حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلي عن الأوزاعي حدثنا يحيى بن أبي كثير حدثني هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار حدثني رفاعة بن عرابة الجهني قال صدرنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم من مكة فجعلوا يستأذنون النبي صلى الله عليه و سلم فجعل يأذن لهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم ما بال شق الشجرة الذي يلي النبي صلى الله عليه و سلم أبغض إليكم من الآخر فلا يرى من القوم إلا باكيا قال يقول أبو بكر الصديق إن الذي يستأذنك بعدها لسفيه فقام النبي صلى الله عليه و سلم فحمد الله وأثنى عليه وكان إذا حلف قال والذي نفسي بيده أشهد عند الله ما منكم من أحد يؤمن بالله واليوم الآخر ثم يسدد إلا سلك به في الجنة ولقد وعدني ربي أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب وإني لأرجو أن لا يدخلوها حتى يؤمنوا ومن صلح من أزواجهم وذرياتهم يساكنكم في الجنة ثم قال صلى الله عليه و سلم إذا مضى شطر الليل أو قال ثلثاه ينزل الله إلى السماء الدنيا ثم يقول لا أسأل عن عبادي غيري من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يدعوني فأجيبه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له حتى ينفجر الصبح هذا لفظ حديث الوليد
قال شيخ الإسلام قلت فلما صحح خبر النزول عن الرسول (1/32)
صلى الله عليه و سلم أقر به أهل السنة وقبلوا الخبر وأثبتوا النزول على ما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يعتقدوا تشبيها له بنزول خلقه وعلموا وتحققوا واعتقدوا أن صفات الله سبحانه لا تشبه صفات الخلق تعالى الله عما يقول المشبهة والمعطلة علوا كبيرا ولعنهم لعنا كبيرا
وقرأت لأبي عبد الله ابن أبي البخاري وكان شيخ بخاري في عصره بلا مدافعة وأبو حفص كان من كبار أصحاب محمد بن الحسن الشيباني قال أبو عبد الله أعني ابن أبي حفص هذا سمعت عبد الله بن عثمان وهو عبدان شيخ مرو يقول سمعت محمد بن الحسن الشيباني يقول قال حماد بن أبي حنيفة قلنا لهؤلاء أرأيتم قول الله عز و جل وجاء ربك والملك صفا صفا قالوا أما الملائكة فيجيئون صفا صفا وأما الرب تعالى فإنا لا ندري ما عنى بذلك ولا ندري كيفية مجيئه فقلت لهم إنا لم نكلفكم أن تعلموا كيف جيئته ولكنا نكلفكم أن تؤمنوا بمجيئه أرأيتم من أنكر أن الملك يجيء صفا أنكر أن الله سبحانه لا يجيء فهو كافر مكذب (1/33)
قال أبو عبد الله بن أبي حفص البخاري أيضا في كتابه ذكر إبراهيم عن الأشعث قال سمعت الفضيل بن عياض يقول إذا قال لك الجهمي إنا لا نؤمن برب ينزل عن مكانه فقل أنت أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء
رؤية المؤمنين لله في الآخرة
وروى يزيد بن هارون في مجلسه حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله في الرؤية وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم إنكم تنظرون إلى ربكم كما تنظرون إلى القمر ليلة البدر فقال له رجل في مجلسه يا أبا خالد ما معنى هذا الحديث فغضب وحرد وقال ما أشبهك بصبيغ وأحوجك إلى مثل ما فعل به ويلك ومن يدري كيف هذا ومن يجوز له أن يجاوز هذا القول الذي جاء به الحديث أو يتكلم فيه بشيء من تلقاء نفسه إلا من سفه نفسه واستخف بدينه إذا سمعتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فاتبعوه ولا تبتدعوا فيه فإنكم إن اتبعتموه ولم تماروا فيه سلمتم وإن لم تفعلوا هلكتم (1/34)
وقصة صبيغ الذي قال يزيد بن هارون للسائل ما أشبهك بصبيغ وأحوجك إلى مثل ما فعل به هي ما رواه يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن صبيغا التميمي أتى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن الذاريات ذروا قال هي الرياح ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقوله ما قلته قال فأخبرني عن المقسمات أمرا قال الملائكة ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقوله ما قلته قال فأخبرني عن الجاريات يسرا قال هي السفن ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقوله ما قلته قال ثم أمر به فضرب مائة سوط ثم جعله في بيت حتى إذا برأ دعا به ثم ضربه مائة سوط أخرى ثم حمله على قتب وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن حرم عليه مجالسة الناس فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى الأشعري فحلف بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجده شيئا فكتب عمر إليه ما إخاله إلا قد صدق خل بينه وبين مجالسة الناس (1/35)
وروى حماد بن زيد عن قطن بن كعب سمعت رجلا من بني عجل يقال له فلان خلته ابن زرعة يحدث عن أبيه قال رأيت صبيغ بن عثل بالبصرة كأنه بعير أجرب يجيء إلى الحلق فكلما جلس إلى قوم لا يعرفونه ناداهم أهل الحلقة الأخرى عزمة أمير المؤمنين
وروى حماد بن زيد أيضا عن يزيد بن أبي حازم عن سليمان بن يسار أن رجلا من بني تميم يقال له صبيغ قدم المدينة فكانت عنده كتب فجعل يسأل عن متشابه القرآن فبلغ ذلك عمر فبعث إليه وقد أعد له عراجين النخل فلما دخل عليه جلس فقال من أنت قال أنا عبد الله صبيغ قال وأنا عبد الله عمر ثم أهوى إليه فجعل يضربه بتلك العراجين فما زال يضربه حتى شجه فجعل الدم يسيل على وجهه فقال حسبك يا أمير المؤمنين فقد والله ذهب ما كنت أجد في رأسي (1/36)
أخبرنا أبو عبد الرحمن محمد ابن الحسين بن موسى السلمي أخبرنا محمد بن محمود الفقيه المروزي بها حدثنا محمد بن عمير الرازي حدثنا أبو زكريا يحيى بن أيوب العلاف التجيبي بمصر حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا أشهب بن عبد العزيز سمعت مالك بن أنس يقول إياكم والبدع قيل يا أبا عبد الله وما البدع قال أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته لا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن عمر الزاهد الخفاف أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي الفقيه حدثنا الربيع بن سليمان سمعت الشافعي رحمه الله يقول لأن ألقاه بكل ذنب ما خلا الشرك أحب إلي من ألقاه بشيء من الأهواء
أخبرني أبو طاهر محمد بن الفضل حدثنا أبو عمر والحيري حدثنا أبو الأزهر حخدثنا سفيان عن جعفر بن برقان قال سأل رجل عمر بن عبد العزيز عن شيء من الأهواء فقال الزم دين الصبي في الكتاب والأعرابي واله عما سوى ذلك
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا محمد بن يزيد سمعت (1/37)
أبا يحيى القزاز يقول سمعت العباس بن حمزة يقول سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول سمعت سفيان بن عيينة يقول كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه
أخبرنا أبو الحسين الخفاف حدثنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث حدثنا الهيثم بن خارجة سمعت الوليد بن مسلم قال سألت الأوزاعي وسفيان ومالك بن أنس عن هذه الأحاديث في الصفات والرؤية قال أمروها كما جاءت بلا كيف
قال الإمام الزهري إمام الأئمة في عصره وعين علماء الأمة في وقته على الله البيان وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم
أخبرنا أبو طاهر بن خزيمة حدثنا جدي الإمام أحمد بن نصر حدثنا أبو يعقوب الحسن حدثنا كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء (1/38)
قيل يا رسول الله ومن الغرباء قال الذين يحيون سنتي من بعدي ويعلمونها عباد الله
أخبرنا عبد الله الحافظ سمعت أبا الحسن المكاري يقول سمعت علي بن عبد العزيز يقول سمعت أبا القاسم بن سلام يقول المتبع للسنة كالقابض على الجمر وهو اليوم عندي أفضل من ضرب السيف في سبيل الله
وروي عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال دخلنا على عبد الله بن مسعود فقال يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم قال عز و جل لنبيه صلى الله عليه و سلم قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين 34
أخبرنا عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس المعقلي حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي حدثني أبي وعبد الرحمن (1/39)
الضبي عن القاسم بن عروة عن محمد بن كعب القرظي قال دخلت على عمر بن عبد العزيز فجعلت أنظر إليه نظرا شديدا فقال إنك لتنظر إلي نظرا ما كنت تنظره إلي وأنا بالمدينة فقلت لتعجبي فقال ومم تعجب قال قلت وما حال من لونك ونحل من جسمك ونقي من شعرك قال كيف ولو رأيتني بعد ثلاثة في قبري وقد سالت حدقتاي على وجنتي وسال منخراي في فمي صديدا كنت لي أشد نكرة حدثني حديثا كنت حدثتنيه عن عبد الله بن عباس قال قلت حدثني عبد الله بن عباس يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لكل شيء شرف وأشرف المجالس ما استقبل به القبلة لا تصلوا خلف نائم ولا محدث واقتلوا الحية والعقرب وإن كنتم في صلاتكم ولا تستروا الجدر بالثياب ومن نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فإنما ينظر في النار ألا أنبئكم بشراركم قالوا بلى يا رسول الله قال الذي يجلد عبده ويمنع رفده وينزل وحده أفلا أنبئكم بشر من ذلكم الذي يبغض الناس ويبغضونه أفلا أنبئكم بشر من ذلكم الذي لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة ولا يغفر ذنبا أفلا أنبئكم بشر من ذلكم الذي لا يرجى خيره ولا يؤمن شره من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله (1/40)
ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يد غيره ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله إن عيسى عليه السلام قام في قومه فقال يا بني إسرائيل لا تكلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم ولا تظلموا ولا تكافئوا ظالما بظلمه فيبطل فضلكم عند ربكم الأمور ثلاثة أمر بين رشده فاتبعوه وأمر بين غيه فاجتنبوه وأمر اختلفتم فيه فكلوه لله عز و جل
البعث بعد الموت والشفاعة
ويؤمن أهل الدين والسنة بالبعث بعد الموت يوم القيامة وبكل ما أخبر الله سبحانه من أهوال ذلك اليوم الحق واختلاف أحوال العباد فيه والخلق فيما يرونه ويلقونه هنالك في ذلك اليوم الهائل من أخذ الكتب بالأيمان والشمائل والإجابة عن المسائل إلى سائر الزلازل والبلابل الموعودة في ذلك اليوم العظيم والمقام الهائل من الصراط والميزان ونشر الصحف التي فيها الذر من الخير والشر وغيرها ويؤمن أهل الدين والسنة بشفاعة الرسول صلى الله عليه و سلم لمذنبي أهل (1/41)
التوحيد ومرتكبي الكبائر كما ورد به الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبرنا أبو سعيد بن حمدون أنبأنا أبو حامد بن الشرقي حدثنا أحمد بن يوسف السلمي حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي
وأخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد أخبرنا محمد بن المسيب الأغياني حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي عن زياد بن خيثمة عن نعمان بن قراد عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل شطر أمتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكفى أترونها للمؤمنين المتقين لا ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين أخبرنا أبو محمد المجلدي أخبرنا أبو العباس السراج حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو (1/42)
وأخبرنا أبو طاهر بن خزيمة أخبرنا جدي الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة حدثنا علي بن حجر بن إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة فقال لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه
الحوض والكوثر
ويؤمنون بالحوض والكوثر وإدخال فريق من الموحدين الجنة بغير حساب ومحاسبة فريق منهم حسابا يسيرا وإدخالهم الجنة بغير سوء يمسهم وعذاب يلحقهم وإدخال فريق من مذنبيهم النار ثم إعتاقهم أو إخراجهم منها وإلحاقهم بإخوانهم الذين سبقوهم إليها ولا يخلدون منها وإلحاقهم بإخوانهم الذين سبقوهم إليها ولا يخلدون في النار فأما الكفار فإنهم يخلدون فيها ولا يخرجون منها أبدا ولا يترك الله فيها من عصاة أهل الإيمان أحدا (1/43)
رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة
ويشهد أهل السنة أن المؤمنين يرون ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم وينظرون إليه على ما ورد به الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر والتشبيه وقع للرؤية بالرؤية لا للمرئي والأخبار الواردة في الرؤية مخرجة في كتاب الانتصار بطرقها
الإيمان بالجنة والنار وأنهما مخلوقتان
ويشهد أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان وأنهما باقيتان لا يفنيان أبدا وأن أهل الجنة لا يخرجون منها أبدا وكذلك أهل النار الذين هم أهلها خلقوا لها لا يخرجون أبدا وأن المنادي ينادي يومئذ يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهخل النار خلود ولا موت على ما ورد به الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم (1/44)
الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص
ومن مذهب أهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ومعرفة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية قال محمد بن علي بن الحسن بن شقيق سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله عن الإيمان في معنى الزيادة والنقصان فقال حدثنا الحسن بن موسى الأشيب حدثنا حماد بن سلمة عن أبي جعفر عن أبيه عن جده عن عمر بن حبيب قال الإيمان يزيد وينقص فقيل وما زيادته وما نقصانه قال إذا ذكرنا الله فحمدناه سبحانه فتلك زيادته وإذا غفلنا وضيعنا ونسينا فذلك نقصانه
أخبرنا أبو الحسن بن أبي إسحاق المزكي حدثنا أبي حدثنا أبو عمرو الحيري حدثنا محمد بن يحيى الذهلي بن إدريس المكي وأحمد بن شداد الترمذي قالوا حدثنا الحميدي حدثنا يحيى بن سليم سألت عشرة من الفقهاء عن الإيمان فقالوا قول وعمل
وسألت هشام بن حسان فقال قول وعمل وسألت ابن جرير فقال قول وعمل وسألت محمد بن مسلم الطائفي فقال قول وعمل وسألت سفيان الثوري فقال قول وعمل وسألت المثنى بن الصباح فقال قول وعمل وسألت فضيل (1/45)
فقال قول وعمل وسألت نافع بن عمر الجمحي فقال قول وعمل وسألت بن عيينة فقال قول وعمل
وأخبرنا أبو عمرو الحيري حدثنا محمد بن يحيى ومحمد بن إدريس سمعت الحميدي يقول سمعت سفيان بن عيينة يقول الإيمان قول وعمل يزيد وينقص فقال له أخوه إبراهيم بن عيينة يا أبا محمد تقول ينقص فقال اسكت يا صبي بل ينقص حتى لا يبقى منه شيء
وقال الوليد بن مسلم سمعت الأوزاعي ومالكا وسعيد ابن عبد العزيز ينكرون على من يقول إقرار بلا عمل ويقولون لا إيمان إلا بعمل فمن كانت طاعاته وحسناته أكثر فإنه أكمل إيمانا ومن كان قليل الطاعة كثير المعصية والغفلة والإضاعة فإيمانه ناقص
وسمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن باكويه الحلاب يقول سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول سمعت أحمد بن سعيد الرباطي يقول قال لي عبد الله بن طاهر يا أحمد إنكم تبغضون هؤلاء القوم جهلا وأنا أبغضهم عن معرفة أولا إنهم لا يرون للسلطان طاعة والثاني إنه ليس للإيمان عندهم (1/46)
قدر والله لا أستجيز أن أقول إيماني كإيمان يحيى بن يحيى ولا كإيمان أحمد بن حنبل وهم يقولون إيماننا كإيمان جبرائيل وميكائيل
وسمعت أبا جعفر محمد بن صالح بن هانئ يقول سمعت أبا بكر محمد بن شعيب يقول سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول قدم ابن المبارك الري فقام إليه رجل من العباد الظن أنه يذهب مذهب الخوارج فقال له يا أبا عبد الرحمن ما تقول فيمن يزني ويسرق ويشرب الخمر قال لا أخرجه من الإيمان فقال يا أبا عبد الرحمن على كبر السن صرت مرجئا فقال لا تقبلني المرجئة المرجئة تقول حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة ولو علمت أني قبلت مني حسنة لشهدت أني في الجنة ثم ذكر عن أبي شوذب عن سلمة بن كهيل عن هذيل بن شرحبيل قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح
سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن زكريا الشيباني يقول سمعت يحيى بن منصور القاضي يقول سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول سمعت الحسين بن حرب (1/47)
أخا أحمد بن حرب الزاهد يقول أشهد أن دين أحمد بن حرب الذي يدين الله به أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص
لا يكفر أحد من المسلمين بكل ذنب ويعتقد أهل السنة أن المؤمن وإن أذنب ذنوبا كثيرة صغائر وكبائر فإنه لا يكفر بها وإن خرج من الدنيا غير تائب منها ومات على التوحيد والإخلاص فإن أمره إلى الله عز و جل إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة يوم القيامة سالما غانما غير مبتلى بالنار ولا معاقب على ما ارتكبه واكتسبه ثم استصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار وإن شاء عفا عنه وعذبه مدة بعذاب النار وإذا عذبه لم يخلده فيها بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار
وكان شيخنا سهل بن محمد رحمه الله يقول المؤمن المذنب وإن عذب بالنار فإنه لا يلقى فيها إلقاء الكفار ولا يبقى فيها بقاء الكفار ولا يشقى فيها شقاء الكفار ومعنى ذلك أن الكافر يسحب على وجهه إلى النار ويلقى فيها منكوسا في السلاسل والأغلال والأنكال الثقال والمؤمن المذنب إذا ابتلى في النار فإنه يدخل النار كما يدخل المجرم في الدنيا السجن على الرجل من غير إلقاء وتنكيس ومعنى قوله لا يلقى في (1/48)
النار إلقاء الكفار أن الكافر يحرق بدنه كله كلما نضج جلده بدل جلدا غيره ليذوق العذاب كما بينه الله في كتابه في قوله تعالى إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب 41 وأما المؤمنون فلا تلفح وجوههم النار ولا تحرق أعضاء السجود منهم إذ حرم الله على النار أعضاء سجوده ومعنى قوله لا يبقى في النار بقاء الكفار أن الكفار ييأسون فيها من رحمة الله ولا يرجون راحة بحال وأما المؤمنون فلا ينقطع طمعهم من رحمة الله في كل حال وعاقبة المؤمنين كلهم الجنة لأنهم خلقوا لها وخلقت لهم فضلا من الله ومنة
حكم تارك الصلاة عمدا
واختلف أهل الحديث في ترك المسلم صلاة الفرض متعمدا فكفره بذلك أحمد بن حنبل وجماعة من علماء السلف وأخرجوه به من الإسلام للخبر الصحيح بين العبد والشرك (1/49)
ترك الصلاة فمن ترك الصلاة فقد كفر وذهب الشافعي وأصحابه وجماعة من علماء السلف رحمة الله عليهم أجمعين إلى أنه لا يفكر ما دام معتقدا لوجوبها وإنما يستوجب القتل كما يستوجبه المرتد عن الإسلام وتأولوا الخبر من ترك الصلاة جاحدا كما أخبر سبحانه عن يوسف عليه السلام أنه قال إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون ولم يك يتلبس بكفر فارقه ولكن تركه جاحدا له
خلق أفعال العباد
ومن قول أهل السنة والجماعة في إكساب العباد أنها مخلوقة لله تعالى لا يمترون فيه ولا يعدون من أهل الهدى ودين الحق من ينكر هذا القول وينفيه ويشهدون أن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء لا حجة لمن أضله الله عليه ولا عذر له لديه قال الله عز و جل قل فلله الحجة البالغة (1/50)
فلو شاء لهداكم أجمعين وقال ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني الآية وقال ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس الآية سبحانه وتعالى خلق الخلق بلا حاجة إليهم فجعلهم فرقتين فريقا للنعيم فضلا وفريقا للجحيم عدلا وجعل منهم غويا ورشيدا وشقيا وسعيدا وقريبا من رحمته وبعيدا لا يسئل عما يفعل وهم يسألون
أخبرنا أبو محمد المجلدي أخبرنا أبو محمد العباس السراج حدثنا يوسف عن موسى أخبرنا جرير عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد فو الذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا (1/51)
ذراع ثم يدركه ما سبق له في الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها
الخير والشر
ويشهد أهل السنة ويعتقدون أن الخبر والشر والنفع والضر بقضاء الله وقدره لا مرد لهما ولا محيص ولا محيد عنهما ولا يصيب المرء إلا ما كتبه له ربه ولو جهد الخلق أن ينفعوا المرء بما لم يكتبه الله له لم يقدروا عليه ولو جهدوا أن يضروه بما لم يقضه الله لم يقدروا على ما ورد به الخبر عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم وقال الله عز و جل وأن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله
ومن مذهب أهل السنة وطريقتهم مع قولهم بأن الخير والشر من الله وبقضائه لا يضاف إلى الله تعالى ما يتوهم منه (1/52)
نقص على الانفراد فلا يقال يا خالق القردة والخنازير والخنافس والجعلان وإن كان لا مخلوق إلا والرب خالقه وفي ذلك ورد قو رسول الله صلى الله عليه و سلم في دعاء الاستفتاح تباركت وتعاليت والخير في يديك والشر ليس إليك ومعناه والله أعلم والشر ليس مما يضاف إليك إفرادا وقصدا حتى يقال لك في المناداة يا خالق الشر أو يا مقدر الشر وإن كان هو الخالق والمقدر لها جميعا لذلك أضاف الخضر عليه السلام إرادة العيب إلى نفسه فقال فيما أخبر الله عنه في قوله أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها ولما ذكر الخير والبر والرحمة أضاف إرادتها إلى الله عز و جل فقال فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك ولذلك قال مخبرا عن إبراهيم عليه السلام أنه قال وإذا مرضت فهو يشفين فأضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى ربه وإ كان الجميع منه (1/53)
ومن مذهب أهل السنة والجماعة أن الله عز و جل مريد لجميع أعمال أهل العباد خيرها وشرها لم يؤمن أحد إلا بمشيئته ولم يفكر أحد إلا بمشيئته ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة ولو شاء أن لا يعصي ما خلق إبليس فكفر الكافرين وإيمان المؤمنين بقضائه سبحانه وتعالى وقدره وإرادته ومشيئته أراد كل ذلك وشاءه وقضاه ويرضى الإيمان والطاعة ويسخط الكفر والمعصية قال الله عز و جل إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم
عواقب العباد مبهمة
ويعتقد ويشهد أصحاب الحديث أن عواقب العباد مبهمة لا يدري أحد بما يختم له ولا يحكمون لواحد بعينه أنه من أهل الجنة ولا يحكمون على أحد بعينه أنه من أهل النار لأن ذلك مغيب عنهم لا يعرفون على ما يموت عليه الإنسان ولذلك يقولون إنا مؤمنون إن شاء الله سبق القضاء عليهم من الله (1/54)
أنهم يعذبون بالنار مدة لذنوبهم التي اكتسبوها ولم يتوبوا منها فإنهم يردون أخيرا إلى الجنة ولا يبقى أحد في النار من المسلمين فضلا من الله ومنه ومن مات والعياذ بالله على الكفر فمرده إلى النار لا ينجو منها ولا يكون لمقامه فيها منتهى
المبشرون بالجنة فأما الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم من أصحابه بأعيانهم ببأنهم من أهل الجنة فإن أصحاب الحديث يشهدون لهم بذلك تصديقا للرسول صلى الله عليه و سلم فما ذكره ووعده لهم فإنه صلى الله عليه و سلم لم يشهد لهم بها إلا بعد أن عرف ذلك والله تعالى أطلع رسوله صلى الله عليه و سلم على ما شاء من غيبه وبيان ذلك في قوله عز و جل عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول وقد بشر صلى الله عليه و سلم عشرة من أصحابه بالجنة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد وأبو عبيدة بن الجراح وكذلك قال الثابت بن قيس بن شماس (1/55)
أنت من أهل الجنة قال أنس بن مالك فلقد كان يمشي بين أظهرنا ونحن نقول إنه من أهل الجنة
أفضل الصحابة
ويشهدون ويعتقدون أن أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وأنهم الخلفاء الراشدون الذين ذكر صلى الله عليه و سلم خلافتهم بقوله فيما رواه سعيد بن نبهان عن سفينة الخلافة بعدي ثلاثون سنة وبعد انقضاء أيامهم عاد المر إلى الملك العضوض على ما أخبر عنه الرسول صلى الله عليه و سلم ويثبت أصحاب الحديث خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم باختيار الصحابة واتفاقهم عليه وقولهم قاطبة رضية رسول الله صلى الله عليه و سلم لديننا فرضيناه لدنيانا وقولهم قد مات رسول الله (1/56)
صلى الله عليه و سلم فمن يؤخرك وأرادوا أنه صلى الله عليه و سلم قدمك في الصلاة بنا أيام مرضه فصلينا وراءك بأمره فمن ذا الذي يؤخرك بعد تقديمه إياك وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتكلم في شأن أبي بكر في حال حياته بما يبين للصحابة أنه أحق الناس بالخلافة بعده فلذلك اتفقوا عليه واجتمعوا فانتفعوا بمكانه والله وارتفعوا حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استحلف لما عبدا الله ولما قيل له مه يا أبا هريرة قام بحجة صحة قوله فصدقوه فيه وأقروا به
ثم خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه استخلاف أبي بكر رضي الله عنه إياه واتفاق الصحابة عليه بعده وإنجاز الله سبحانه بمكانه في إعلاء الإسلام وإعظام شأنه وعده
ثم خلافة عثمان رضي الله عنه بإجماع أهل الشورى وإجماع الأصحاب كافة ورضاهم به حتى جعل الأمر إليه
ثم خلافة علي رضي الله ببيعة الصحابة إياه عرفه ورآه كل منهم رضي الله عنه أحق الخلق وأولاهم في ذلك الوقت بالخلافة ولم يستجيزوا عصيانه وخلافه فكان (1/57)
هؤلاء الأربعة الخلفاء الراشدين الذين نصر الله بهم الذين وقهر وقسر بمكانهم الملحدين وقوى بمكانهم الإسلام ورفع في أيامهم للحق الأعلام ونور بضيائهم ونورهم وبهائهم الظلام وحقق بخلافتهم وعده السابق في قوله عز و جل وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وفي قوله أشداء على الكفار فمن أحبهم وتولاهم ودعا لهم ورعى حقهم وعرف فضلهم فاز في الفائزين ومن أبغضهم وسبهم ونسبهم إلى ما تنسبهم الروافض والخوارج لعنهم الله فقد هلك في الهالكين قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تسبوا أصحابي فمن سبهم فعليه لعنة الله وقال من أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فيبغضني أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن سبهم فعليه لعنة الله (1/58)
الصلاة خلف البر والفاجر
ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام مسلم برا كان أو فاجرا ويرون جهاد الكفرة معهم وإن كانوا جورة فجره ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح ولا يرون الخروج عليهم وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف ويرون قتال الفئة الباغية حتى ترجع إلى طاعة الإمام العدل ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيبا لهم ونقصا فيهم ويرون الترحم على جميعهم والموالاة لكافتهم وكذلك يرون تعظيم قدر أزواجه رضي الله عنهن والدعاء لهن ومعرفة فضلهن والإقرار بأنهن أمهات المؤمنين
لا تدخل الجنة بالعمل
ويعتقدون ويشهدون أن أحدا لا تجب له الجنة وإن كان عمله حسنا وطريقه مرتضى إلا أن يتفضل الله عليه فيوجبها له بمنه وفضله إذ عمل الخير الذي عمله لم يتيسر له إلا بتيسير الله عز اسمه فلو لم ييسره له لم يهد له أبدا قال الله عز و جل (1/59)
ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء وفي آيات
لكل مخلوق أجل
ويعتقدون ويشهدون أن الله عز و جل أجل لكل مخلوق أجلا وأن نفسا لن تموت إلا بأذن الله كتابا مؤجلا وإذا انقضى أجل المرء فليس إلا الموت وليس له عنه فوت قال الله عز و جل ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون وقال وما كان لنفس أن تموت إلا بأذن الله كتابا مؤجلا
ويشهدون أن من مات أو قتل فقد انقضى أجله قال الله عز و جل قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم (1/60)
وسوسة الشيطان
ويتيقنون أن الله سبحانه خلق الشياطين يوسوسن للآدميين ويعتمدون استزلالهم ويترصدون لهم قال الله عز و جل وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون وإن الله يسلطهم على من يشاء ويعصم من كيدهم ومكرهم من يشاء قال الله عز و جل واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا وقال أنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولون والذين هم به مشركون
السحر والسحرة
ويشهدون أن في الدنيا سحرا وسحرة إلا أنهم لا يضرون أحدا إلا بأذن الله قال الله عز و جل وما هم بضارين به (1/61)
من أحد إلا بأذن الله ومن سحر منهم واستعمل السحر واعتقد أنه يضر أو ينفع بغير إذن الله تعالى فقد كفر وإذا وصف ما يكفر به استتيب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وإن وصف ما ليس بكفر أو تكلم بما لا يفهم نهى عنه فإن عاد عزر وإن قال السحر ليس بحرام وأنا اعتقد إباحته وجب قتله لأنه استباح ما أجمع المسلمون على تحريمه
آداب أصحاب الحديث
ويحرم أصحاب الحديث المسكر من الأشربة المتخذة من العنب أو الزبيب أ التمر أو العسل أ الذرة أو غير ذلك مما يسكر ويحرمون قليله وكثيره ويجتنبونه ويوجبون به الحد ويرون المسارعة إلى أداء الصلوات وإقامتها في أوائل الأوقات أفضل من تأخيرها إلى أخر الأوقات ويوجبون قراءة فاتحة الكتاب خلف الإمام ويأمرون بإتمام الركوع والسجود حتما واجبا ويعدون إتمام الركوع والسجود بالطمأنينة فيهما والارتفاع من الركوع والانتصاب منه والطمأنينة فيه وكذلك الارتفاع من السجود والجلوس بين السجدتين مطمئنين فيه (1/62)
من أركان الصلاة التي لا تصح إلا بها ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام وبصلة الأرحام وإفشاء السلام وإطعام الطعام والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام والاهتمام بأمور المسلمين والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمصرف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والبدار إلى فعل الخيرات أجمع ويتحابون في الدين ويتباغضون فيه ويتقون الجدال في الله والخصومات فيه ويتجانبون أهل البدع والضلالات ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات ويقتدون بالسلف الصالحين من أئمة الدين وعلماء المسلمين ويتمسكون بما كانوا به متمسكين من الدين المتين والحق المبين ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه ولا يحبونهم ولا يصحبونهم ولا يسمعون كلامهم ولا يجالسونهم ولا يجادلونهم في الدين ولا يناظرونهم ويرون صون آذانهم عن سماع أباطليهم التي إذا مرت بالآذان وقرت في القلوب ضرت وجرت إليها الوساوس والخطرات الفاسدة وفيه أنزل الله عز و جل قوله وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره (1/63)
علامات أهل البدع
وعلامات البدع على أهلها بادية ظاهرة وأظهر آياتهم وعلاماتهم شدة معاداتهم لحملة أخبار النبي صلى الله عليه و سلم واحتقارهم لهم وتسميتهم إياهم حشوية وجهلة وظاهرية ومشبهة اعتقادا منهم في أخبار الرسول صلى الله عليه و سلم أنها بمعزل عن العلم وأن العلم ما يلقيه الشيطان إليهم من نتائج عقولهم الفاسدة ووساوس صدورهم المظلمة وهواجس قلوبهم الخالية من الحير وحججهم العاطلة بل شبههم الداحضة الباطلة أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء
سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول سمعت أبا علي الحسين بن علي الحافظ يقول سمعت أحمد جعفر بن مناف الواسطي يقول سمعت أحمد بن سنان القطاف يقول ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث فإذا ابتدع الرجل نزعت حلاوة الحديث من قلبه
وسمعت الحاكم يقول سمعت أبا الحسن محمد بن أحمد الحنظلي ببغداد يقول سمعت محمد بن إسماعيل الترمذي يقول كنت أنا وأحمد بن الحسن الترمذي عند إمام الدين أبي (1/64)
عبدالله أحمد بن حنبل فقال له أحمد بن الحسن يا أبا عبدالله ذكروا لابن أبي قتيلة بمكة أصحاب الحديث فقال أصحاب الحديث قوم سوء فقام أحمد بن حنبل وهو ينفض ثوبه ويقول زنديق زنديق حتى دخل البيت
وسمعت الحاكم أبا عبدالله يقول سمعت أبا نصر أحمد بن سهل الفقيه ببخاري يقول سمعت أبا نصر بن سلام الفقيه يقول ليس شيء أثقل على الإلحاد ولا أبغض إليهم من سماع الحديث وروايته بإسناده
وسمعت الحاكم يقول سمعت الشيخ أبا بكر أحمد بن إسحق بن أيوب الفقيه وهو يناظر رجلا فقال الشيخ أبو بكر حدثنا فلان فقال له الرجل دعنا من حدثنا إلى متى حدثنا فقال الشيخ له قم يا كافر فلا يحل لك أن تدخل داري بعد هذا أبدا ثم التفت إلينا وقال ما قلت لأحد ما تدخل داري إلا هذا
وسمعت أبا منصور محمد بن عبدالله بن حماد العالم الزاهد يقول سمعت أبا القاسم جعفر بن أحمد المقري الرازي يقول قرأ علي عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي وأنا أسمع سمعت أبي يقول عني به الإمام في بلده أباه أبا حاتم محمد بن (1/65)
إدريس الحنظلي الرازي يقول علامة أهل البدع الوقعة في أهل الأثر وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل الأثر حشويه يريدون بذلك إبطال الأثر وعلامة القدرية تسميتهم أهل السنة مشبهة وعلامة الرافضة تسميتهم أهل الأثر ثابتة وناصبة قلت وكل ذلك عصبية ولا يلحق أهل السنة إلا اسم واحد وهو أصحاب الحديث قلت أنا رأيت أهل البدع في هذه الأسماء التي لقبوا بها أهل السنة سلكوا معهم مسلك المشركين مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنهم اقتسموا القول فيه فسماه بعضهم ساحرا وبعضهم كاهنا وبعضهم شاعرا وبعضهم مجنونا وبعضهم مفتونا وبعضهم مفتريا مختلفا كذابا وكان النبي صلى الله عليه و سلم من تلك المعائب بعيدا بريئا ولم يكن إلا رسولا مصطفى نبيا قال الله عز و جل انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا وكذلك المبتدعة خذلهم الله اقتسموا القول في حمله أخباره ونقله آثاره ورواه أحاديثه المقتدين به المهتدين بسنته فسماهم بعضهم حشوية وبعضهم مشبهة وبعضهم ثابتة وبعضهم ناصبة وبعضهم جبرية وأصحاب الحديث عصامة من هذه المعايب بريئة (1/66)
زكية نقية وليسوا إلا أهل السنة المضية والسيرة المرضية والسبل السوية والحجج البالغة القوية قد وفقهم الله جل جلاله لا تباع كتابه ووحيه وخطابه والاقتداء برسوله صلى الله عليه و سلم في أخباره التي أمر فيها أمته بالمعروف من القول والعمل وزجرهم فيها عن المنكر منهما وأعانهم على التمسك بسيرته والاهتداء بملازمة سنته وشرح صدورهم لمحبته ومحبة أئمة شريعته وعلماء أمته ومن أحب قوما فهو معهم يوم القيامة بحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم المرء مع من أحب
علامات أهل السنة
وإحدى علامات أهل السنة حبهم لأئمة السنة وعلمائها وأنصارها وأوليائها وبغضهم لأئمة البدع الذين يدعون إلى النار ويدلون أصحابهم على دار البوار وقد زين الله سبحانه قلوب أهل السنة ونورها بحب علماء السنة فضلا منه جل جلاله
أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ أسكنه الله وإيانا الجنة حدثنا محمد بن إبراهيم بن الفضل المزكي حدثنا أحمد بن (1/67)
سلمة قرأ علينا أبو رجاء قتيبة بن سعيد كتاب الإيمان له فكان في آخره فإذا رأيت الرجل يحب سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وشعبة وابن المبارك وأبا الأحوص وشريكا ووكيعا ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن ابن مهدي فاعلم أنه صاحب سنة قال أحمد بن سلمة رحمه الله فألحقت بخطي تحته ويحيى وأحمد بن حنبل واسحق بن رهوايه فلما انتهينا إلى هذا الموضع نظر إلينا أهل نيسابور وقال هؤلاء القوم يبغضون يحيى بن يحيى قال رجل صالح إمام المسلمين واسحق ابن إبراهيم إمام وأحمد بن حنبل أكبر من سميتهم كلهم وأنا ألحقت بهؤلاء الذين ذكر قتيبة رحمه الله أن من أحبهم فهو صاحب سنة من أئمة أهل الحديث الذين بهم يقتدون وبهديهم يهتدون ومن جملتهم وشيعتهم أنفسهم يعدون وفي إتباعهم آثارهم يجدون جماعة آخرين منهم محمد بن إدريس الشافعي وسعيد بن جبير والزهري والشعبي والتيمي ومن بعدهم كالليث بن سعد والأوزاعي والثوري وسفيان بن عيينة الهلالي وحماد بن سلمة وحماد بن زيد ويونس بن عبيد وأيوب وابن عوف ونظرائهم ومن بعدهم مثل يزيد بن هارون وعبد الرزاق وجرير بن (1/68)
عبد الحميد ومن بعدهم محمد بن يحيى الذهلي ومحمد بن إسماعيل البخاري بن الحجاج القشيري وأبي داود السجستاني وأبي زرعة الرازي وأبي حاتم وابنه ومحمد بن مسلم بن واره ومحمد بن أسلم الطوسي وعثمان بن سعيد الدارمي ومحمد بن إسحاق بن خزيمة الذي كان يدعى إمام الأئمة والمقري كان إمام الأئمة في عصره ووقته وأبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل البستي وجدي من قبل أبي أبو سعيد يحيى بن منصور الزاهد الهروي وعدي بن حمدويه الصابوني وولديه سيفي السنة أبي عبد الله الصابوني وأبي عبد الرحمن الصابوني وغيرهم من أئمة السنة المتمسكين بها ناصرين لها داعين إليها والين عليها وهذه الجمل التي أثبتها في هذا الجزء كانت معتقد جميعهم لم يخالف فيها بعضهم بعضا بل أجمعوا عليها كلها واتفقوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع وإذلالهم وإخزائهم وإبعادهم وإقصائهم والتباعد منهم ومن مصاحبتهم ومعاشرتهم والتقرب إلى الله عز و جل بمجانبتهم ومهاجرتهم قال الأستاذ الإمام رحمه الله وأنا بفضل الله عز و جل متبع لآثارهم مستضيء بأنوارهم ناصح لإخواني وأصحابي أن لا يزلقوا عن منارهم ولا يتبعوا غير أقوالهم ولا يشتغلوا بهذه المحدثات (1/69)
من البدع التي اشتهرت فما بين المسلمين وظهرت وانتشرت ولو جرت واحدة منها على لسان واحد في عصر أولئك الأئمة لهجروه وبدعوه ولكذبوه وأصابوه بكل سوء ومكروه ولا يغرن إخواني حفظهم الله كثرة أهل البدع ووفور عددهم فإن ذلك من إمارات اقتراب الساعة إذ الرسول المصطفى صلى الله عليه و سلم إن من علامات الساعة واقترابها أن يقل العلم ويكثر الجهل والعلم هو السنة والجهل هو البدعة ومن تمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وعمل بها واستقام عليها ودعا إليها كان أجره أوفر وأكثر من أجر من جرى على هذه الجملة في أوائل الإسلام والملة إذ الرسول المصطفى صلى الله عليه و سلم قال له أجر خمسين فقيل خمسين منهم قال بل منكم إنما قال صلى الله عليه و سلم ذلك لمن يعمل بسنته عند فساد أمته (1/70)
وجدت في كتاب الشيخ الإمام جدي أبي عبد الله محمد بن عدي بن حمدويه الصابوني رحمه الله أخبرنا أبو العباس الحسن بن سفيان الثوري أن العباس بن صبيح حدثهم حدثنا عبد الجبار بن طاهر حدثني معمر بن راشد سمعت ابن شهاب الزهري يقول تعليم سنة أفضل من عبادة مائتي سنة
اخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن زكريا الشيباني أخبرنا أبو العباس محمد بن عبد الرحمن الدغولي سمعت محمد بن حاتم المظفري يقول كان أبو معاوية الضرير يحدث هارون الرشيد فحدثه بحديث أبي هريرة احتج آدم وموسى فقال عيسى بن جعفر كيف هذا وبين وآدم وموسى ما بينهما قال فوثب به هارون وقال يحدثك عن الرسول صلى الله عليه و سلم وتعارضه بكيف قال فما زال يقول حتى سكت عنه هكذا ينبغي للمرء أن يعظم أخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم ويقابلها بالقبول والتسليم والتصديق (1/71)
وينكر أشد الإنكار على من يسلك فيها غير هذا الطريق الذي سلكه هارون الرشيد رحمه الله مع من اعترض على الخبر الصحيح الذي سمعه بكيف على طريق الإنكار له والابتعاد عنه ولم يتلقه بالقبول كما يجب أن يتلقى جميع ما يرد من الرسول صلى الله عليه و سلم جعلنا الله سبحانه من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ويتمسكون في دنياهم مدة حياتهم بالكتاب والسنة وجنبنا الأهواء المضلة والآراء المضمحلة والأسواء المذلة فضلا منه ومنة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تطهير الجنان والأركان عن درن الشرك والكفران بقلم الشيخ احمد بن حجر ال بوطامي ال بن علي (1/72)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد
فقد قال الله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
أي لآمرهم أن يعبدوني ويفردوني بالعبادة وهذا هو التوحيد الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام من عهد نوح إلى عهد نبينا محمد صلى الله عليه و سلم
أقسام التوحيد
1 - توحيد الربوبيه
وهو اعتقاد أن الله سبحانه وتعالى خالق العباد ورازقهم محييهم ومميتهم (1/12)
أو تقول إفراد الله بأفعاله مثل اعتقاد أنه خالق ورازق وهذا قد أقر به المشركون السالفون وجميع أهل الملل من اليهود والنصارى والصابئين والمجوس
ولم ينكر هذا التوحيد إلا الدهرية فيما سلف والشيوعية في زماننا
الدليل على توحيد الربوبية
يقال لهؤلاء الجهلاء المنكرين للرب الكريم أنه لا يقبل ذو عقل أن يكون أثر بلا مؤثر وفعل بلا فاعل وخلق بلا خالق
ومما لا خلاف فيه أنك إذا رأيت إبرة أيقنت أن لها صانعا فكيف بهذا الكون العظيم الذي يبهر العقول ويحير الألباب قد وجد بلا موجد ونظم بلا منظم وكان كل مافيه من نجوم وغيوم وبروق ورعود وقفار وبحار وليل ونهار وظلمات وأنوار وأشجار وأزهار وجن وإنس وملك وحيوان إلى أنواع لا يحصيها العد ولا يأتي عليها الحصر قد وجدت بلا موجد يخرجها من العدم
اللهم لا يقول هذا من كان عنده مسكة من عقل أو ذرة من فهم (1/13)
وبالجملة فالبراهين على ربوبيته لا يأتي عليها العد وصدق الله إذ قال أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (1/14)
وقوله الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل
الدليل على إقرار المشركين بتوحيد الربوبية
قال الله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون
وقوله تعالى قل من يرزقكم من السموات والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج (1/15)
الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون
وقوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم
على أن الشرك مأخوذ من الشركة يفيد إقرارهم بالربوبية إل أنهم يجعلون معه شريكا في العبادة كشريكين في شيء مثلا مع أنهم ما كانوا يساوون آلهتهم بالله في كل شيء بل في المحبة والخضوع لا في الخلق والإيجاد والنفع والضر
توحيد الربوبية لا يدخل الإنسان في دين الإسلام
لتعلم أيها القارئ الكريم أن هذا التوحيد لا يدخل الإنسان في دين الإسلام ولا يعصم دمه وماله ولا ينجيه في الآخرة من النار إلا إذا أتى معه بتوحيد الألوهية (1/16)
2 - توحيد الألوهية
ويقال له توحيد العبادة وهو إفراد الله بالعبادة لأنه المستحق لأن يعبد لا سواه مهما سمت درجته وعلت منزلته
وهو التوحيد الذي جاءت به الرسل إلى أممهم لأن الرسل عليهم السلام جاءوا بتقرير توحيد الربوبية الذي كانت أممهم تعتقده ودعوتهم إلى توحيد الألوهية كما أخبر الله عنهم في كتابه المجيد
قال الله مخبرا عن نوح عليه السلام ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذر مبين أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم
وقال عن هودا وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون
وقال عن صالح وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره
وقال الله عن شعيب وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره (1/17)
وقال الله مخبرا عن موسى عليه السلام في محاجته مع فرعون قال فرعون وما رب العالمين قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين إلى آخر الآيات
وقال الله مخبرا عن موسى أنه قال لبني إسرائيل قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين
وقال عن عيسى إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم
وأمر الله نبيه محمدا أن يقول لهل الكتاب قل يا أهل تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا نتخذ بعضنا بعضنا أربابا من دون الله
وقال الله تعالى مناديا جميع البشر يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون
وبالجملة فالرسل كلهم بعثوا لتوحيد الألوهية ودعوة القوم إلى إفراد الله بالعبادة واجتناب عبادة الطواغيت والأصنام (1/18)
كما قال الله ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا واجتنبوا الطاغوت
فقد سمعت دعوة كل رسول لقومه فكان أول ما يقرع أسماع قومه يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره (1/19)
تفسير العبادة
العبادة في اللغة معناها التذلل والخضوع يقال طريق معبد أي مذلل
وفي الشرع معنى العبادة كما قال شيخ الإسلام هي طاعة الله بامتثال ما أمر الله به على ألسنة الرسل
وقال أيضا العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة اه
فعلى المسلم أن يفرد ربه بجميع أنواع العبادات مخلصا لله فيها وأن يأتي بها على الوجه الذي سنه رسول الله قولا أو عملا (1/20)
شمول العبادة للأنواع الآتية
واعلم أن العبادة تشمل الصلاة والطواف والحج والصوم والنذر والاعتكاف والذبح والسجود والركوع والخوف والرهبة والرغبة والخشية والتوكل والاستغاثة والرجاء إلى غير ذلك من أنواع العبادات التي شرعها الله في قرآنه المجيد أو شرعها رسول الله بالسنة الصحيحة القولية أو العملية
فمن صرف شيئا منها لغير الله يكون مشركا لقوله تعالى ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرين
وقوله وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا فأحد جاءت نكرة في سياق النهي تعم كل مخلوق رسولا كان أو ملكا صالحا
أول حدوث الشرك
إذا ثبت هذا فاعلم أن أول ما حدث الشرك في قوم نوح ولما أرسل الله إليهم نوحا يدعوهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة تلك الأصنام عاندوا وأصروا على شركهم وقابلوا نوحا (1/21)
بالكفر والتكذيب وقالوا كما في القرآن الكريم لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا
في الصحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في هذه الآية قال هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها انصابا أي صوروهم على صور أولئك الصالحين وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله قال غير واحد من السلف لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم
سبب الشرك الغلو في الصالحين
ومن هنا نعلم أن الشرك إنما حدث في بني آدم بسبب الغلو في الصالحين
ومعنى الغلو الإفراط بالتعظيم بالقول والاعتقاد ولهذا قال الله تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا (1/22)
على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته
أي لا تفرطوا في تعظيمه حتى ترفعوه عن منزلته التي أنزله الله فتنزلوه المنزلة التي لا تنبغي إلا الله
والخطاب وإن كان لأهل الكتاب فإنه عام يتناول جميع الأمة تحذيرا لهم أن يفعلوا بنبيهم كما فعلت النصارى في عيسى واليهود في عزير
ولهذا ورد في الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله
أي لا تتجاوزوا الحد في مدحي فتنزلوني فوق منزلتي التي أنزلني الله بها كما غلت النصارى في عيسى فادعوا فيه الألوهية وإنما أنا عبد الله ورسوله فصفوني كما وصفني ربي
ولكن أبى الجاهلون والمخرفون إلا مخالفة أمر رسول الله وارتكاب نهيه فناقضوه أعظم مناقضة وضاهئوا النصارى في (1/23)
غلوهم وشركهم وبنوا القباب والمساجد على أضرحة الأولياء والصالحين وصلوا فيها وإن كان لله لكن بفصد التعظيم للمقبورين وطافوا بقبورهم واستغاثوا بهم في كشف الملمات وقضاء الحاجات ورأوا أن الصلاة في أضرحة الأولياء أفضل من الصلاة في المساجد
وقد ورد في الحديث الشريف عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم قالت لما نزل برسول الله صلى الله عليه (1/24)
وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا أخرجه الشيخان
وجرى منهم الغلو في الشعر والنثر ما يطول عده حتى جوزوا الاستغاثة بالرسول وسائر الصالحين في كل ما يستغاث فيه بالله ونسبوا إليه علم الغيب حتى قال بعض الغلاة لم يفارق الرسول الدنيا حتى علم ما كان وما يكون وخالفوا صريح القرآن وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو (1/25)
وقال تعالى إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير
وقال تعالى مخبرا عن رسوله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء
وقوله قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله
وإذ علمتم أن الشرك حدث بسبب الغلو في الصالحين وأنه إنما جاءت الرسل من أولهم إلى أخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله بالعبادة لا إلى إثبات أنه خلقهم ونحوه إذ هم مقرون بذلك كما قررناه وكررناه
ولذا قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا أي لنفرده بالعبادة ونخصه بها من دون آلهتنا (1/26)
أنواع العبادة وأدلتها
اعلموا أن من أنواع العبادة كما سبق الركوع والسجود والطواف والنذر والذبح والاستغاثة والاستعانة والحلف والتوكل إلى غير ذلك مما مر فدليل الركوع والسجود قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون
ودليل الصلاة والذبح قوله قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين
وقوله فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر
وللحديث الصحيح لعن الله من ذبح لغير الله
ودليل النذر والطواف قوله تعالى وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق (1/27)
ودليل الحلف الحديث الوارد عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم من حلف بغير الله فقد أشرك وفي لفظ فقد كفر
ودليل الاستعانة قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين
والحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله
ودليل الخوف قوله تعالى وخافون إن كنتم مؤمنين
ودليل التوكل قوله تعالى وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين
ودليل الرهبة قوله تعالى فإياي فارهبون
ودليل الاستغاثة قوله تعالى ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين
وهذا خطاب للرسول صلى الله عليه و سلم كما ترى أي لا تدع يا محمد من دون معبودك وخالقك شيئا لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة ولا يضرك في دين ولا دنيا يعني بذلك الآلهة (1/29)
والأصنام فإن فعلت فدعوتها من دون الله فإنك إذا من الظالمين أي المشركين بالله والرسول صلى الله عليه و سلم معصوم من الشرك ومن كبائر الذنوب وإنما هذا تعليم للأمة
وقوله وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله
وقوله ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين
والمستغيث بالرسول إنما ينادي ويدعو غير الله كأن يستغيث قائلا يا رسول الله أنقذني من هذه الشدة أو يا عبد القادر أو يا دسوقي أو يا رفاعي أو يا بدوي إلخ
ولا ريب ان المستغيث بغير الله داخل في هذه الآية وأمثالها
وكيف يستغيث العاقل المؤمن بغير الله وهو يقرأ هذه الآيات أو يسمعها
ومنها قوله تعالى أمن يجيب المضطر إذا دعاه (1/30)
ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء في الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون (1/31)
بين الله في هذه الآية أن المشركين من العرب ونحوهم كانوا يعلمون أنه لا يجيب المضطر ويكشف السوء إلا الله وحده فذكر ذلك محتجا عليهم في اتخاذهم الشفعاء من دونه ولهذا قال أإله مع الله بالاستفهام الإنكاري أي ليس إله مع الله يجيب المضطر ويكشف السوء
وروي الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه و سلم منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه و سلم من هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه و سلم إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله
الركوع والسجود والنذر لغير الله
فمن ركع أو سجد لحي أو لميت أو نذر لغير الله كأن ينذر لقبور الأولياء أو الصالحين أو يذبح لهم أو للأشجار أو للعيون
أو يطوف بقبر نبي أو ولي كأن يطوف بقبر الرسول أو بقبر علي بن أبي طالب أو بقبر الحسين أو الحسن أو علي بن موسى الرضا أو عبد القادر الجيلاني أو البدوي أو الرفاعي أو غيرهم
أو يستغيث بهم في الشدائد كأن يقول يا رسول الله أنقذني يا رسول الله فرج عني هذا الكرب المدد يا عبد القادر يا جيلاني (1/32)
أو يطلب من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله كأن يطلب عافية من مرض له أو لغيره أو قدوم غائب أو يرزقه ولدا أو يأتي له برزق أو يفرج عنه شدة وكربة أو نحو ذلك من الأمور التي ليست في قدرة المخلوق أن يفعلها فإنه يكون بكل فعل من هذه الأفعال مشركا بالله العظيم شركا أكبر لا يغفر الله له إلا أن يتوب لقوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما
أما ما كان في إمكان المخلوق الحي فلا بأس بأن تستعين به (1/33)
مثل أن تطلب منه أن يعينك في قضاء حاجة أو إنقاذ من غرق أو حريق أو ما سوى ذلك
الآيات الآمرة بعبادته والمبينة عجز المعبودات الباطلة
هذا وقد أكثر الله في كتابه المجيد من الآيات الآمرة بعبادته والحاثة عليها كما قال الله يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون
وقال الله واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا
وقال وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا
وقال مبينا عجز تلك الآلهة التي عبدها المشركون من أن تجلب لهم نفعا أو تدفع عنهم ضرا بل ولا تدفع عن نفسها فضلا عن غيرها فقال إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وأن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب (1/34)
وقال مبينا أن النفع والضر بيده لا بيد غيره بقوله وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله
وأخبر الله سبحانه وتعالى أنه يبكت المسيحيين ويوبخهم على عبادتهم للمسيح وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد
فانظروا كيف يتبرأ المسيح من عباده المسيحيين ويقول ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم
والله يعلم أن المسيح لم يأمر بعبادته ولا يرضى بذلك ولكن يريد الله من هذه الآيات أن يبين للناس أن عبادة المسيح الذي هو من الأنبياء المرسلين لا تجوز بل ويكون شركا فكيف بعبادة غيره من الأولياء ومن الأشجار ومن الغيران والكهوف (1/35)
ألم يسمع هؤلاء الضالون قول الله مخاطبا لسيد العالمين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو
فإذا كان الضر النازل بالرسول لا يستطيع أن يدفعه فكيف يستطيع الرسول وأولي من هو دونه أن يدفع ضرا نزل بغيره
ألم يسمع هؤلاء قول الله العظيم ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون
ألم ينع على اليهود والنصارى باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله كما قال الله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (1/36)
الفرق بين توحيد للربوبية وتوحيد الألوهية وجهل الكثيرين به
فالواجب على كل مسلم أن يميز الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية لأنه قد أخطأ فيهما كثير من العلماء فضلا عن الجهلاء
وذلك أن أولئك المخطئين فسروا كلمة الإله بالقادر على الاختراع أو الخالق أو المالك
والحال أن الأمر ليس كذلك بل الإله يطلق على كل معبود بحق أو باطل ولهذا لما قال الرسول صلى الله عليه و سلم لمشركي قريش قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم
قالوا أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق
وأما لفظ الجلالة فلا يطلق إلا على الله العظيم فمشركوا العرب كانوا أعرف بمعنى الإله من مشركي زماننا (1/38)
والبلية كل البلية والجهل كل الجهل أن الكثيرين ممن ينطقون بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لا يعرفون معنى هاتين الكلمتين
معنى لا إله إلا الله
فلو عرفوا أن معنى لا إله إلا الله أي لا معبود بحق في الوجود إلا الله
فلا إله نفي لجميع المعبودات الباطلة
وإلا الله إثبات للمعبود الحق جل جلاله (1/39)
ولو عرفوا هذا المعنى وعرفوا أن ما يأتون به لأوليائهم وسادتهم وقبور صالحيهم من الذبح أو النذر لهم أو التبرك بتراب قبورهم أو الصلاة إليهم أو الطواف بأضرحتهم أو طلب قضاء حاجة منهم تأليه لأولئك الصالحين والإلهية لا تصلح إلا لله
لعلموا أن هذا شرك أكبر وقد قال الله تعالى إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (1/40)
معنى محمد رسول الله
ولو عرفوا أن معنى أشهد أن محمدا رسول الله طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما عنه نهى وزجر وأن لا يعبدوا الله إلا بما شرع لا بالأهواء والبدع وتأملوا قول الله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
وقوله فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
وقوله فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم
وقوله صلى الله عليه و سلم من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1/41)
وقوله في الحديث الشريف عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح
بيان بعض البدع
لعلموا أن كثيرا من صلواتهم وأدعيتهم وأذكارهم وأحزابهم مما ابتدعه بعض الفقهاء الجامدين أو المتصوفة المبطلين أنها من البدع والضلالات التي ما أنزل الله بها من سلطان مثل الذكر بالاسم المفرد الله الله أو يا هو يا هو
ومثل حلق المريدين اجتماعهم في حلقات الذين يزعمون أنهم يذكرون الله بمثل هذه الأذكار المخترعة (1/42)
وكصلاة الرغائب ومثل حزب البحر وأمثاله وابتهالات وصلوات ومناجاة وإنشاد قصائد في مدح النبي صلى الله عليه و سلم فوق المنائر قبل الفجر وفي ليلة الجمعة ويومها وبعض صيغ صلوات على الرسول لم ترد السنة بها (1/43)
مثل قولهم اللهم صل على محمد عدد ما في علم الله صلاة دائمة بدوام ملك الله
وكقولهم اللهم صل على محمد كلما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون
لأن الصلاة على الرسول من أجل القربات كيف لا وقد أمرنا الله بها في كتابه المجيد بقوله إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما
والصيغ الواردة في الصلاة على الرسول مدونة في كتب السنة لا حاجة إلى الاختراع والابتداع في صيغها
لأن الصلاة عليه صلى الله عليه و سلم عبادة والعبادة مبنية على التوقيف
من صيغ الصلاة على الرسول
ومن الصيغ الواردة للصلاة عليه صلى الله عليه و سلم ما رواه مسلم عن ابن نمير عن روح بن عبادة وعبد الله بن نافع الصائغ أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم قولوا اللهم صلي على (1/44)
محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد
وكما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك عرفناه فكيف الصلاة عليك قال قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل إبراهيم
شبهة للقبوريين وردها
وإنما قلنا يجب على المسلم أن يميز الفرق بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية لأن الموحد إذا أنكر عليهم ما يأتون من أفانين العبادات وأنواع التضرعات لتلك القبور وقال لهم إن عملكم هذا شرك غضبوا وقالوا كيف تصفنا بالشرك ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت وبيده النفع والضر وإليه المرجع والمصير وغاية الأمر أننا نجعل هؤلاء الأنبياء أو الصلحاء شفعاء يشفعون لنا عند الله لأننا ملطخون بأنجاس الذنوب ليس لنا قدر حتى نطلب من الله أن يغفر ذنوبنا أو يقضي حاجتنا أو يدفع ضرنا (1/45)
فنستشفع بهؤلاء ونجعلهم وسطاء بيننا وبين الله لما نعلم ما لهم من الجاه والمنزلة بمثابة الوزير عند الملك
حيث أن أفراد الرعية لا يستطيعون أن يصلوا إلى الملك إذا حل بهم ظلم أو كارثة فيتوسلون بالوزير أو المقرب ليشفع لهم عند الملك أو السلطان أو الوزير ليقضي الملك حوائجهم أو يدفع عنهم الظلم
فنقول لهؤلاء الجهلاء في الجواب
أولا إن عقيدتكم هذه هي عقيدة المشركين بذاتها
قال الله إخبارا عن المشركين السالفين ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون
وقال الله في آية أخرى إخبارا عنهم ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى
فاعتقاد أولئك المشركين بأن الله خالقهم ورازقهم إلخ لم ينفعهم ولم يحقن دماءهم لأنهم عبدوا الأصنام ليقربوهم إلى الله وليشفعوا لهم (1/46)
لم يعبدوها لأنها خالقة ورازقة ومدبرة للأمور ولا يخفى هذا على أحد قرأ القرآن وتدبره
تشبيه الخالق بالمخلوق
وثانيا إن هؤلاء الجهلاء قد شبهوا الرب العظيم بالملك البشري
قد شبهوا رب العالمين بالسلطان المخلوق من ماء مهين
قد شبهوا رب العالمين بالسلطان المخلوق من ماء مهين
قد شبهوا أعدل العادلين وأرحم الراحمين بالملك المخلوق الذي قد يكون من أظلم الظالمين
قد شبهوا الله بالمخلوق وتوسلوا إليه بالشفعاء والأنداد فجمعوا بين الشرك والتشبيه ولم يعلموا أنه لا يقاس الإله بالمخلوق ولا الرب المالك بالمملوك
وبيان ذلك على وجه الاختصار أن الملك البشري قد لا يعلم بالظلم الواقع على ذلك المتوسل بالوزير أو يعلم أن الظلم الواقع من أحد أبنائه أو عشيرته ممن يجاملهم ولا يريد أن يجرح عواطفهم أو أن الظلم صدر منه على ذلك (1/47)
فأنى يقاس الخالق بالمخلوق
فهل الله لا يعلم بالظلم الواقع على هذا العبد أو لا يعلم بحاجته أو بالضر الذي مسه وهو القائل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور
وهل الله يصدر منه الظلم لأحد
أو له أقرباء ينزلون ظلمهم بأحد من العباد
وهل لله وزير أو معين أو ظهير حتى يتوسل إليه العباد ليشفع لهم عند الله ذلك الوزير أو المعين أو الظهير
فما أفسده هذا القياس وأخبثه وما أجهل هؤلاء وأكفرهم بالله
لا واسطة بين الخالق والمخلوق إلا في تبليغ الشرائع
وأي حاجة إلى واسطة والله يقول ونحن أقرب إليه من حبل الوريد
ويقول وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان (1/48)
والواسطة للتبليغ هم الرسل عليهم الصلاة والسلام
أما الواسطة في رفع ضر أو جلب نفع فتلك عقيدة المشركين كيف تكون واسطة بين العبد وربه وقد قال الله تعالى إدعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين
لم يقل الله أدعو أوليائي أو ادعوا أنبيائي أو استغيثوا بأحبائي والصالحين من عبادي
بل قال إدعوني استجب لكم وقال وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون
وفي الحديث الشريف من لم يسأل الله يغضب عليه
كما ورد في الحديث ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة
ولم يقل الرسول صلى الله عليه و سلم ادعوا الأنبياء حتى يطلبوا من الله لكم أو توسلوا بالأنبياء والصالحين (1/49)
عدم ثبوت التوسل عن النبي وأصحابه
ولذا لم يثبت التوسل عن الأنبياء بعضهم ببعض كما لم يثبت التوسل عن الصحابة بالرسول صلى الله عليه و سلم ولم يثبت عن التابعين ولا عن الأئمة المعتبرين
التوسل قسمان مشروع وممنوع
أما المشروع فهو قسمان أيضا
القسم الأول هو التوسل بالإيمان بالله وبرسوله وبالأعمال الصالحة
ولم يقع في هذا خلاف بين العلماء سواء كان في حياة الرسول أو بعد موته
القسم الثاني من المشروع التوسل بدعائه صلى الله عليه و سلم يوم كان حيا بأن يأتي السائل فيسأل الرسول صلى الله عليه و سلم أن يطلب له من الله عافية
كما طلب الأعرابي من الرسول أن يستسقي لهم
وكما طلب من الرسول أن يدعو له برد بصره إن صح حديث الأعمى (1/50)
وكما طلبت الجارية السوداء التي كانت تصرع أن يعافيها الله فخيرها الرسول بين الصبر وبين أن يدعو لها فاختارت الصبر وسألت أن يدعو الله ألا تتكشف عندما يأتيها الصرع
وهذا التوسل الذي هو بدعائه قد انقطع بموته صلى الله علي هوسلم
فلا يجوز لمسلم أن يأتي قبر رسول الله ويسأله حاجة أو غفران ذنب أو كشف ضر
والدليل على ذلك أن في خلافة عمر بن الخطاب انقطع المطر وأراد عمر أن يستسقي وطلب من العباس بن عبد المطلب أن يدعو لهم بالاستسقاء فقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا ثم قال قم يا عباس فادع الله لنا رواه البخاري (1/51)
فلو كان التوسل بالرسول بعد موته جائزا لما عدلت الصحابة عن الرسول إلى العباس بن عبد المطلب وهذا من الوضوح بمكان لا يخفى إلا من أعماه التعصب والعناد وسلك سبيل أهل الضلال والفساد
ولزيادة الإيضاح والبيان نورد لكم بعض أدعية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
فهذا أبونا آدم لما اقترف الخطيئة قال ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
فلم يتوسل أبونا آدم بمحمد كما زعم الزاعمون وأوردوا حديثا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لما اقترف آدم الخطيئة قال يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي فقال الله يا آدم وكيف عرفت محمد ولم أخلقه قال يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك (1/52)
فقال الله صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي ادعني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك رواه الحاكم في مستدركه
وقد أجاب أهل العلم أ الحاكم متساهل في تصحيح الأحاديث حتى اتهمه بعضهم بسوء العقيدة
فقد قال الذهبي في تعليقه على المستدرك في خصوص هذا الحديث إنه حديث موضوع فلا حجة في موضوع بل ولا في ضعيف
أدعية الرسل
وإذ سمعتم دعاء آدم عليه السلام فاسمعوا دعاء نوح كما أخبر الله عنه رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا
وقال الله عن إبراهيم عليه السلام رب اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (1/53)
وقال الله مخبرا عن أيوب وأيوب إذ نادى ربه إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين
وعن يونس لما التقمه الحوت وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين
وعن زكريا وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرادا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه
وعن يوسف عليه السلام رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما والحقني بالصالحين
وأدعية الرسول صلى الله عليه و سلم كثيرة مبثوثة في كتب السنة وفي كتب الأذكار ومنها (1/54)
اللهم إني أسألك العافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي وبدني إلى آخر الدعاء
ومنها دعاء سيد الاستغفار المشهور
ومنها دعاء اللهم إنا ندعوك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا
فهل يستطيع أحد من هؤلاء أن يأتي بحرف من القرآن أو من السنة الصحيحة على مشروعية التوسل بالصالحين أو الأنبياء والمرسلين فضلا عن الاستغاثة بالرسول أو بغيره
فإن الاستغاثة بغير الله شرك لا ريب فيها وأما التوسل فهو بدعة لا كفر
ومن الأدلة الدالة على أن التوسل يكون بالأعمال الصالحة ما جاء في الحديث عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة فتوسل أحدهم ببر والديه والثاني توسل بعفته من الزنا بعد أن جلس من المرأة مجلس الرجال من النساء والثالث توسل بتنمية أجر الأجير (1/55)
بعد أن ذهب وترك أجرته ثم رجع بعد مدة طويلة وطلب أجرته فردها عليه فإذا هي مال كثير
احتجاجهم بآية يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة والجواب عنها
أن الوسيلة هنا معناها التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة أو بأسمائه وصفاته كما بينا في التوسل المشروع لا كما يقول المبتدعون أن نجعل الأنبياء والصالحين شفعاء ووسطاء ويقولون إنها من الوسائل المأمور بها ويفسرون الآية بها
أو يزعمون أن الشفاعة ثابتة لرسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن نسأله لأن الله قد منحه إياها
إثبات الشفاعة للرسول
فالجواب لا ريب للرسول صلى الله عليه و سلم شفاعات متعددة أعظمها الشفاعة العظمى يوم القيامة لإراحة الناس من عناء الموقف العظيم وهذه الشفاعة مخصوصة برسول الله صلى الله عليه و سلم (1/56)
وله شفاعة أخرى في إخراج بعض من دخل النار من الموحدين وأخرى في رفع درجات المؤمنين في الجنة
ولكن اعتقادنا بثبوت الشفاعة له لا يسوغ للمسلم اتكالا على هذه الشفاعة أن يسأل رسول الله في الدنيا شفاعته أو غفران ذنوبه كأن يقول يا محمد اشفع لي يا محمد اغفر لي ذنبي أدركني أستخر بك ممن ظلمني أو أسألك يا محمد الشفاعة فإن هذا كله لا يجوز صلى الله عليه و سلم
بل يقول اللهم ارزقني شفاعة محمد اللهم شفع في محمدا أو يقول اللهم لا تحرمني من شفاعة محمد
فإذا لم يجز للإنسان أن يقول مخاطبا لرسوله صلى الله عليه و سلم اشفع لي أو أغثني أو أستجير بك فأولى أن لا يجوز بغيره من الأولياء والصالحين ولا يغتر بقول بعض الشعراء ... يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العميم ...
فإن هذا الكلام شرك وضلال ولكن الله أعلم بقائله هل مات على هذا أو تاب
يقول ما لي من ألوذ به ونقول له ... لذ بالإله ولا تلذ بسواه ... من لاذ بالملك الجليل كفاه (1/57)
حجج المبتدعة في جواز التوسل والاستعانة
وقد كثر في كلام بعض الشعراء من الاستغاثات والنداءات لرسول الله صلى الله عليه و سلم ولغيره كما كثر في كلام المتأخرين من التوسلات والاستغاثات وتجويزهم لهما بشبه واهية ليس عليها شبهة الصواب فضلا عن الحجة والدليل
1 - مثل احتجاجهم على التوسل بحديث آدم السابق ذكره
2 - وبحديث اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا
3 - وبحديث فاطمة بنت أسد الذي رواه ابن حبان والحاكم عن أنس بن مالك قال لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم (1/58)
علي بن أبي طالب وكانت قد ربت النبي صلى الله عليه و سلم دخل عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم فجلس عند رأسها وقال رحمك الله يا أمي بعد امي إلى أ قال لما أدخلها في اللحد اغفر لأمي فاطمة بت أسد ووسع لها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين
4 - ومثل احتجاجهم على جواز الاستغاثة بقوله تعالى فاستغاثة الذي من شيعته على الذي من عدوه
5 - وبقوله تعالى ول أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما
6 - وبمثل قولهم لا فرق بين الأحياء والأموات فإذا جاز التوسل بالنبي حيا جاز به ميتا لأنه حي في قبره وهكذا سائر الأنبياء لأن الأنبياء أعلى مقاما من الشهداء والشهداء قد قال الله فيهم ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (1/59)
7 - وبما يروونه من حديث إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور
8 - وحديث توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم إلى غير ذلك من الاحتجاجات الواهية السمجة الباردة التي تستوجب الضحك عليهم والرثاء لحالهم
الرد على حجج المبتدعين وتفنيدها
وإلى القارئ الجواب عن تلك الشبه فنقول (1/60)
أولا ليعلم القارئ أن التوسل بدعة ليس بكفر وإنما الكفر هو الاستغاثة برسول الله أو بغيره كما مر غير مرة
وثانيا ليس في التوسل بالأموات حديث صحيح أو حسن وكل ما يوردونه إما ضعيف أو موضوع
1 - فأما حديث الاحتجاج بتوسل آدم فقد سبق الجواب عنه
2 - وأما حديث اللهم إني أسألك بحق السائلين فإنه ضعيف قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد هذا إسناد مسلسل بالضعفاء عطية وهو العوفي والفضيل بن مرزوق والفضل ابن الموفي كلهم ضعفاء
وعلى تسليم أنهم اختلفوا في الفضيل بن مرزوق فضعفه ابن حبان والنسائي وأبو حاتم ووثقه ابن معين
قال ابن حبان فيه يروى عن عطية العوفي الموضوعات وهو في هذا الحديث عن عطية العوفي
فإن الجرح مقدم على التعديل على أننا لو سلمنا بصحة الحديث فإنا لا نسلم أن حق السائلين مخلوق إذ حقهم هو إجابة الله وإعطاءهم سؤالهم وهما صفتان له تعالى فحق الخلق قد يكون صفة من صفات الله قال تعالى وكان حقا علينا نصر المؤمنين (1/61)
3 - والجواب عن حديث فاطمة بنت أسد أنه ضعيف أيضا فإن فيه روح بن صالح المصري وهو ضعيف
وعلى فرض تسليم صحته فحق الأنبياء غير مخلوق كما قدمنا في حديث اللهم إني أسألك بحق السائلين
بل إنه صفة من صفات الله تعالى وهو نصرته للأنبياء وإرضاؤهم وإعلاؤهم على أعدائهم
4 - وأما احتجاجهم على الاستغاثة بقوله تعالى في قصة موسى فستغاثه الذي من شيعته
فما أسمجه من استدلال وما أبرده لأنها استغاثة حي بحي فيما يقدر عليه وليس في هذا خلاف على أن فعل الرجل الإسرائيلي ليس بحجة وإجابة موسى له وتقريره عليه ليس بحجة لأن ذلك قبل أن يوحى إليه
وسكوت الأنبياء قبل بعثتهم لا يدل على جواز المسكوت عنه وبعد ذلك كله ليس هو في شريعتنا
وأما احتجاجهم بقوله تعالى ولو أنهم إذ ظلموا الآية فالجواب أن غايتها تعليق غفران ذنوبهم على مجيئهم إليه صلى الله عليه و سلم واستغفارهم الله واستغفار الرسول لهم وأنهم ليموا على ترك ذلك وليس فيها أنهم طلبوه ولا أمروا أن يطلبوه (1/62)
وثانيا أن الآية معلقة ذلك على إتيانه صلى الله عليه و سلم وإتيانه غير متأت بعد موته إذ لا يمكن إلا إتيان قبره ومن أتى القبر لا يقال أنه أتى صاحب القبر إلا على سبيل التسامح والتجوز
ثالثا هي واقعة معينة لا تفيد العموم بمعناها ولا لفظها وقعت في حياته صلى الله عليه و سلم فمن أين أخذوا التعميم في الحياة والممات
ولو دلت على العموم في الحياة والممات لكانت مخصصة ومقصورة على الحياة ودليل التخصيص الأخبار الشرعية الدالة أن الأموات لا يسمعون ولا يجيبون قال تعالى إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور
وفي الحديث الذي رواه مسلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو ولد صالح يدعو له أو علم ينتفع به
ولأن الصحابة ومن بعدهم ما فهموا شمولها للموت ولذا لم يدعوه صلى الله عليه و سلم ولم يأت إلينا أنهم دعوه بعد الموت كما قد أتى إلينا أنهم سألوه الدعاء في حياته صلى الله عليه و سلم (1/63)
وأما قولهم لا فرق بين الأحياء والأموات في جواز التوسل والاستغاثة وما ثبت لأحد المثلين ثبت للآخر وقد ثبتت حياة الأنبياء في قبورهم لأنهم أعلى مقاما من الشهداء فجازت الاستغاثة والتوسل بهم وبالشهداء والأولياء
فالجواب أن هذه المقالة مصادمة للقرآن صريحا لأن القرآن يقول وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور
ويقول فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين
فسبحان الله الذي أعمى بصائر هؤلاء القبوريين الدجاجلة المضلين حتى سووا بين الأحياء والميتين
بل قالوا إن الأرواح بعد مفارقة الأجسام باقية وتتصرف التصرف التام
فعلى عقولهم العفاء والدمار فما أجهل هؤلاء وما أكفرهم فلو كانوا أحياء كما جاز دفنهم وتقسم أموالهم وتتزوج نساؤهم بالنسبة لغير الرسول صلى الله عليه و سلم
وإنا نرى الميت يهان ويوطأ وهو لا يتحرك ولا يدفع عن نفسه أتراه رضي لها الهوان ولا أظن أن سمع الناس أبطل من هذا الكلام وأفسد من هذا القياس (1/64)
6 - وقولهم إن الأرواح تتصرف بعد مفارقة الأجسام لأنها حية فكلام باطل
وأي تصرف لها وهل يلزم من حياتها تكون قادرة مجيبة للمستغيثين والسائلين
ولو جاز لنا أن نستغيث بهؤلاء لأنهم أحياء جاز لنا أ نستغيث بالملائكة الذين لا خلاف في حياتهم وبالحور والولدان وبأرواح الكفار وبالجان لأنهم أحياء سبحانك هذا بهتان عظيم لا يقول هذا إلا من سفه نفسه وتجرد من عقله اللهم اهدهم إلى صراط الحق والطريق المستقيم
8 - وأما حديث إذا أعيتكم الأمور فإنه مكذوب ومن وضع الزنادقة الذين قصدوا إفساد الدين
9 - وحديث توسلوا بجاهي موضوع لم يختلف في وضعه اثنان
ولا ريب عند المسلمين جميعهم أن لرسول الله صلى الله عليه و سلم جاها عظيما ومقاما محمودا وأنه أفضل الورى وخاتم الأنبياء والمرسلين
ولكن هذا لا يسوغ لنا التوسل والاستغاثة به وإن كان الأنبياء أحياءا في قبورهم حياة برزخية لا يعلمها إلا الله لأن الحياة البرزخية لا تقاس بالحياة الدنيا ولا تعطي أحكامها فإذا جاز (1/65)
أن نسأله صلى الله عليه و سلم في حياته الدعاء بأن يطلب لنا من الله قضاء حاجة أو غفران ذنب فلا يجوز بعد مماته أن نسأله قياسا على حياته الدنيوية
وأين هؤلاء من الآيات القرآنية التي تنادي بأن ليس لغير الله أمر أو تصرف أو قدوة في دفع ضر أو جلب نفع سواء أكان نبيا أم غيره كقوله تعالى قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون
وقوله قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا
وقوله قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون (1/70)
إلى غير ذلك من الآيات التي فيها الخطاب للرسول صلى الله عليه و سلم مبينا أن الذي بيده النفع والضر هو الله وحده لا غير وأن المعبودات من دون الله لا تغني شيئا وأن الرسول صلى الله عليه و سلم مع أنه سيد الأولين والآخرين وإمام الأنبياء والمرسلين لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فضلا عن غيره
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لما نزلت آية وأنذر عشيرتك الأقربين
يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار
يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار
يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار
يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار
يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار
فإني لا أملك لكم من الله شيئا
وفي رواية يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله فإني لا أغني عنكم من الله شيئا يا بني عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا فاطمة بنت رسول الله سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا (1/71)
وقوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين أي نخصك بالعبادة ولا نعبد سواك ونستعين بك في أمور الدنيا والدين ولا نستعين بأحد غيرك
وحديث إذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله
لو تدبر هؤلاء المبتدعون تلك الآيات والأحاديث وراجعوا تفاسير الأئمة المحققين على تلك الآيات وشروح تلك الأحاديث شروح الأجلاء المعتبرين
لعلموا أن توسلاتهم بالرسول أو بالأنبياء والصالحين ليس لها أصل في الدين
وأن الاستغاثة والاستعانة بهم من الشرك والكفر المبين (1/72)
3 - توحيد الأسماء والصفات
وهو أن يعتقد العبد اعتقادا جازما أن ما أخبر الله به في كتابه من أوصافه العليا وأسمائه الحسنى وكذا ما جاءت به الأحاديث الصحيحة من أسمائه وصفاته هي كما تليق بجلال الله وعظمته وكبريائه فمن تلك الصفات
صفة الحياة له جل جلاله كما قال الله لا إله إلا هو الحي القيوم
وصفة العلم كما قال الله ولا يحيطون بشيء من علمه
وقوله ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير
وصفة الإرادة لقوله تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون
والقدرة لقوله تعالى وكان الله على كل شيء قديرا والسمع والبصر لقوله تعالى وكان الله سميعا بصيرا (1/73)
والكلام لقوله تعالى وكلم الله موسى تكليما
وقوله ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه
والرحمة لقوله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم
وصفة الحب لقوله يحبهم ويحبونه
واليدين لقوله تعالى لما خلقت بيدي
والوجه لقوله ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
والاستواء على العرش لقوله تعالى الرحمن على العرش استوى في سبع آيات من القرآن
والنزول للحديث الصحيح ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فينادي هل من مستغفر فأغفر له هل من سائل فأعطيه هل من تائب فأتوب عليه (1/74)
إلى غير ذلك من الصفات التي لا نستطيع حصرها في عشرين صفة وحصرها في عشرين من مبتدعات الخلف بل ولا حصرها في أكثر من عشرين وإنما الواجب الإيمان بكل ما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة من صفات الله وأسمائه إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل
والقول الشامل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله وبما وصفه به السابقون الأولون لا يتجاوز القرآن والحديث
فمذهب السلف حق بين باطلين بين باطل التمثيل وباطل التعطيل
فالمشبه يعبد صنما والمعطل يعبد عدما والموحد يعبد إله الأرض والسماء
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
فصدر الآية تنزيه الله عن مماثلة المخلوقات ورد على المشبهه
وآخر الآية إثبات صفتي السمع والبصر في قوله وهو السميع البصير ورد على المعطلة (1/75)
فالسلف الصالح لا يمثلون صفات الله بصفات خلقه كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه
فالكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات فكما أن ذاته المقدسة لا تشبه ذوات المخلوقين فصفاته لا تشبه صفات المخلوقين فإذا قلنا لله علم وللمخلوق علم كما قال في كتابه المجيد وهو بكل شيء عليم وقال ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير
وقال في حق المخلوق وبشرناه بغلام عليم
وقال عن نبيه يوسف اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم
فلا شك أن ليس علم الله كعلم يوسف أو إسحاق عليه السلام
ووصف نفسه بالرأفة والرحمة فقال إنه بهم رؤوف رحيم وقال وكان بالمؤمنين رحيما
وقال في حق الرسول صلى الله عليه و سلم لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم (1/76)
حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم
فليست رحمة الله كرحمة المخلوق ولا رأفته كرأفة المخلوق
ووصف نفسه بالسمع والبصر في غير ما آية من كتابه فقال إن الله سميع بصير وقال ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
وقال في حق المخلوق إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا
ونحن لا نشك أن ما في القرآن حق
فلله سمع وبصر حقيقتان لائقتان لجلاله وكماله
كما أن للمخلوق سمعا وبصرا حقيقتين مناسبتين لحاله من فقره وفنائه
وبين سمع وبصر الخالق وسمع وبصر المخلوق كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق
ووصف نفسه بالحياة فقال الله لا إله إلا هو الحي القيوم وقال هو الحي لا إله إلا هو (1/77)
ووصف بعض المخلوقين بالحياة فقال وجعلنا من الماء كل شيء حي
وقال وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا
فليست حياة الخالق كحياة المخلوق
وقال الرحمن على العرش استوى
وقال في حق المخلوق واستوت على الجودي
فليس استواؤه كاستواء السفينة على الجودي
والحاصل أننا لا نتعدى القرآن والحديث ولا نؤول صفات الله الواردة في الوحيين بتأويلات الجهمية والمعتزلة القائلين إن اليد بمعنى النعمة والاستواء بمعنى الاستيلاء والوجه بمعنى الذات والرحمة بمعنى التفضل ونزوله بمعنى نزول أمره أو رحمته أو ملائكته
وما أشبه ذلك من التأويلات الفاسدة النابعة من منابع الفلاسفة الضالين (1/78)
تلك التأويلات التي تؤول بالإنسان إلى الكفر وتجعل الشريعة ألعوبة بأيدي المبطلين والهدامين بحيث أنه لا يريد مبطل أن يهدم عقيدة أو حكما شرعيا إلا وقد أتى من باب التأويل وكفى بهذا قبحا وضلالا
وعلى اعتقاد ما وصف الله به نفسه أو وصفه رسوله بما أتى في القرآن والأحاديث الصحيحة من غير تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل مضى عصر الرسول والصحابة والتابعين وتابعيهم من الأئمة المعتبرين كالإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي والإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل والبخاري ومسلم والترمذي والنسيء وأبي داود والثوري وابن عيينه وغيرهم من المحدثين والفقهاء المعتبرين والصوفية المحقين كالجنيد والجيلاني وأبي نعيم واللغويين المحققين كالخليل بن أحمد وثعلب وغيرهما
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين نسأل الله أن ينفعنا وينفع إخواننا المسلمين بهذه الرسالة إنه سميع قريب مجيب الدعاء وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين (1/79)