لقاء العشر الأواخر بالمسجد الحرام (63)
السنا والسنوت في معرفة ما يتعلق بالقنوت
من الأحاديث النبوية والأحكام الفقهية
تأليف الشيخ العلامة المحقق
شمس الدين محمد بن رسول الحسيني الشافعي البرزنجي ثم المدني
(1040-1103هـ)
رحمه الله تعالى
حققه وعلق عليه
العربي الدائز الفرياطي
دار البشائر الإسلامية
الطبعة الأولى
1425 هـ - 2004 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الحي [الذي] لا يموت، والصلاة والسلام على سر اللاهوت والناسوت، وعلى آله وصحبه أهل الصلاة والزكاة والصيام والقنوت.
وبعد: فهذا (السنا والسنوت فيما يتعلق بالقنوت).
[مشروعية القنوت، واختلاف العلماء في موضعه]
اعلم أيدك الله أن الأمة أجمعت على مشروعية القنوت واستحبابه في الصلاة، واختلفوا في موضعه. فذهب الإمامان الشافعي ومالك إلى أنه في ثانية الصبح، ثم افترقا، فقال الشافعي: بعد الركوع، وقال مالك: قبله ويجزئ بعده.
وذهب الإمامان أو حنيفة وأحمد إلى أنه في أخيرة الوتر، ثم افترقا، فقال أحمد: بعد الركوع ويجزئ قبله، وقال أبو حنيفة: قبله.
وحكي وجه عن [ابن] أبي هريرة [من أصحابنا المتقدمين من أصحاب الوجوه] أنه لا يقنت في الصبح، قال في الروضة: وهو غريب وغلط.(1/41)
ويسن عند الشافعي في الوتر، ولأصحابه فيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يستحب فيه جميع السنة، وهذا الذي دلت عليه الأحاديث الكثيرة الصحيحة، وثانيها: أنه في جميع رمضان وهو ضعيف، وثالثها: أنه في النصف الثاني منه، وهو الذي نص عليه الشافعي، وعليه أكثر أصحابه، ودل عليه بعض الأحاديث.
هذا في القنوت المعتاد.
[قنوت النازلة، وترجيح النووي أنه مستحب]:
وأما قنوت النازلة فجائز بل مندوب في جميع الفرائض عند الشافعي، وله قول ثان: أنه لا يقنت فيها مطلقاً، وقول ثالث: أنه يقنت فيها مطلقاً، كانت نازلة أو لم تكن.
وهل الخلاف في غير الصبح في الجواز أو الاستحباب؟
مقتضى كلام الأكثرين أنه في الجواز، ومنهم من يشعر كلامه بالاستحباب.
قال في الروضة من زيادته: [الأصح استحبابه، وصرح به صاحب العدة، ونقله عن نص الشافعي رضي الله عنه في الإملاء]. انتهى.
وقال في التحقيق: (أما سائر المكتوبات، فالمشهور يقنت لنازلة دون غيرها، والمختار أن الخلاف في الندب، ونص عليه في الإملاء، وقال الأكثرون: في الجواز.(1/42)
وقال في الأم: لا قنوت في العيد والاستسقاء، فإن قنت لنازلة لم أكرهه أو [لغيره] كرهته). انتهى.
وصح أنه صلى الله عليه وسلم قنت شهراً لذلك.
فلنشرع في ذكر أدلة كل قول اختصاراً، ولنشر إلى الراجح منها، فأقول والله المأمول:(1/43)
[أدلة القنوت في الصبح]
أما القنوت في الصبح، فقد روى الحاكم في الأربعين، وقال: حديث صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت في صلاة الصبح حتى فارق الدنيا)). وأخرجه في كتاب القنوت.
قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الأذكار للنووي: (وسياقه فيه أتم). ثم ساق سنده.
[أسانيد المؤلف إلى تصانيف ابن حجر]:
ولنذكر سندنا إليه ثم نسوق أسانيده فنقول:
أخبرنا بجميع تصانيف الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله شيخنا الإمام العلامة المحقق الحافظ أبو عبد الله محمد بن علاء الدين البابلي، وبجميع ما يصح له روايته عن النور علي الزيادي والشيخ سالم السنهوري، عن الشمس محمد الرملي، عن الزين القاضي زكريا الأنصاري.
وحدثنا أبو الوفا العرضي عن والده عمر العرضي، عن الإمام العلامة ابن حجر الهيتمي، عن القاضي زكريا عن الحافظ ابن حجر.
وأخبرنا الإمام مفتي الحنابلة بدمشق الشام شيخنا الشيخ عبد الباقي(1/44)
الحنبلي، عن الشيخ محمد حجازي الواعظ، عن ابن أركماس، عن الحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني.
ولنا إليه طرق كثيرة ليس هذا محل بسطها.
[تخريج حديث أنس: ((ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح ..))]
قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الأذكار في باب استحباب القنوت في الصبح ما نصه: (أنا أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن المبارك، أنا يونس بن أبي إسحاق العسقلاني، أنا أبو الحسن علي بن الحسين بن المقير، عن أبي الفضل أحمد بن طاهر الميهني، أنا أبو بكر بن علي بن خلف الشيرازي، أنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، ثنا محمد بن عبد الله الشافعي، ثنا محمد بن إسماعيل السلمي، ثنا أبو نعيم، ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس هو البكري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
((ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح حتى فارق الدنيا)).(1/45)
هذا حديث حسن، أخرجه أحمد عن عبد الرزاق فوقع لنا بدلاً عالياً.
وأبو جعفر اسمه: عيسى بن ماهان، مختلف فيه وفي شيخه).
وبه إلى ابن حجر: (قرأت على فاطمة بنت المنجا عن سليمان بن حمزة، أنا الحافظ أبو عبد الله المقدسي، أنا المؤيد الطوسي، أنا عبد الجبار بن محمد، أنا أحمد بن الحسين الحافظ، أنا أبو عبد الله الحافظ يعني الحاكم، ثنا محمد بن عبد الله الصفار، ثنا أحمد بن محمد بن مهران، ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أنس رضي الله عنه قال:
((قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً ثم تركه، فأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا)).
وأخبرني أبو محمد عمر بن محمد بن أحمد بن سلمان، أنا أبو بكر بن أحمد الدقاق، أنا علي بن أحمد المقدسي، عن محمد بن معمر، أنا إسماعيل بن الفضل، أنا محمد بن أحمد بن عبد الرحيم، ثنا عمر بن علي بن عمر الحافظ، ثنا الحسين بن إسماعيل، أنا أحمد بن محمد بن عيسى، ثنا أبو نعيم، ثنا أبو جعفر الرازي قال:
كنت جالساً عند أنس بن مالك رضي الله عنه، فقيل له: أما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً؟
فقال: ((لم يزل يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا)).(1/47)
وهكذا أخرجه الحاكم عن بكر بن محمد الصيرفي عن أحمد بن محمد بن عيسى وصححه، وهو على طريقته في تصحيح ما هو حسن عند غيره. انتهى كلامه في تخريج الأذكار.
وقال في تخريج الرافعي: (رواه الدارقطني من حديث عبيد الله بن موسى عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أنس بهذا، ومن طريق عبد الرزاق وأبي نعيم، عن أبي جعفر مختصراً، ورواه أحمد عن عبد الرزاق، ورواه البيهقي من حديث عبيد الله بن موسى وأبي نعيم، وصححه الحاكم في كتاب القنوت.
وأول الحديث في الصحيحين من طريق عاصم الأحول عن أنس، وأما باقيه فلا، ورواية عبد الرزاق أصح من رواية عبيد الله بن موسى، فقد بين إسحاق بن راهويه في مسنده سبب ذلك، ولفظه عن الربيع بن أنس قال:
قال رجل لأنس بن مالك: أقنت رسول الله شهراً يدعو على حي من أحياء العرب؟
قال: فزجره أنس وقال:
((ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا)).
ثم ذكر اختلاف الناس في أبي جعفر قال: ووثقه غير واحد.(1/48)
[حديث آخر عن أنس يشهد لحديثه السابق]
ثم قال: (وقد وجدنا لحديثه شاهداً رواه الحسن بن سفيان عن جعفر بن مهران، عن عبد الوارث، عن عمرو، عن الحسن، عن أنس قال:
((صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يقنت في صلاة الغداة حتى فارقته، وخلف أبي بكرٍ كذلك، وخلف عمر كذلك)).
وغلط بعضهم فصيره عن عبد الوارث، عن عوف، فصار ظاهر الحديث الصحة، وليس كذلك بل هو من رواية عمرو، وهو ابن عبيد، وهو رأس القدرية، ولا تقوم الحجة بحديثه).(1/49)
قلت: وفي الدر من طريق الدارقطني عنه بلفظ: ((صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يقنت بعد الركوع في صلاة الغداة حتى فارقته، وصليت خلف أبي بكر فلم يزل يقنت بعد الركوع في صلاة الغداة حتى فارقته، وصليت خلف عمر فلم يزل يقنت بعد الركوع في صلاة الغداة حتى فارقته)).
ومن طريقه عن أبي الطفيل، عن علي وعمار: ((أنهما صليا خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقنت في الغداة)).
وعند البيهقي عن بريد بن أبي مريم قال: سمعت ابن عباس ومحمد بن علي بن الحنفية بالخيف يقولان:
((كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح وفي وتر الليل بهذه الكلمات: اللهم اهدني فيمن هديت .. .. )) بتمامه.(1/50)
[وجه الجمع بين حديث أنس السابق، وبين حديثه الآخر في مسلم]
أقول:
بالروايتين الأخيرتين عن أبي جعفر المصرح فيهما بترك القنوت فيما عدا الصبح ظهر وجه الجمع بين حديث أنس هذا، وبين حديثه الآخر عند مسلم: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على حي من أحياء العرب ثم تركه)).
وروى أبو هريرة وابن مسعود نحوه حيث لم يقل أنه قنت شهراً في صلاة الصبح ثم ترك، بل أطلق القنوت ثم استثنى صلاة الصبح من ترك القنوت فيها، فيحمل رواية الإطلاق على أنه قنت شهراً في بقية الفرائض غير الصبح ثم تركه فيها، وأما الصبح فلم يزل يقنت فيه حتى فارق الدنيا، فلا معارضة بين الحديثين حتى يقال: إن حديث مسلم أصح. نعم يعارضه حديث أبي مالك الأشجعي عند الترمذي كما يأتي.(1/51)
وتابع الحاكم في هذا الحديث أحمد والخطيب وجماعة من طريق أبي جعفر الرازي.
قال الحافظ ابن حجر في تخريج العزيز: يعكر على هذا ما رواه الخطيب من طريق القيس بن الربيع، عن عاصم بن سليمان:
قلنا لأنس: ((إن قوماً يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت في الفجر، فقال: كذبوا إنما قنت شهراً يدعو على حي من أحياء المشركين)).
وقيس وإن كان ضعيفاً لكنه لم يتهم بكذب.
وروى ابن خزيمة في صحيحه من طريق سعيد عن قتادة، عن أنس: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقنت إلا إذا دعا لقومٍ أو دعا على قومٍ)).
فاختلفت الأحاديث عن أنس واضطربت، فلم يقوم بمثل هذا حجة. انتهى.
أقول: إنما يحكم بالاضطراب إذا تقاومت الروايات في القوة، وقد تقدم أن رواية [أبي] جعفر الرازي صحيحة عند الحاكم حسنة عند غيره، ورواية قيس بن الربيع التي عند الخطيب ضعيفة لضعف قيس فلا تقاومها.
وأما رواية سعيد التي عند ابن خزيمة وإن كانت صحيحة إلا أنها ليست(1/52)
نصاً ولا صريحة في نفي القنوت في الصبح؛ إذ يمكن أن يحمل على قنوت النازلة أو القنوت في بقية الفرائض، فيكون المعنى: لا يقنت للنازلة إلا عند إرادة الدعاء لقوم أو على قوم، أو لا يقنت في بقية الفرائض إلا للنازلة، وهذا واضح جلي وبالله التوفيق.
على أن لرواية أبي جعفر شواهد، ففي الدر المنثور للسيوطي في تفسير قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} معزواً لأحمد والبزار والدارقطني عن أنس: ((ما زال رسول الله يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا))، ومعزواً إلى الدارقطني والبيهقي عنه: ((قنت شهراً يدعو عليهم ثم تركه، وأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا)).
وفي شرح منتهى الإرادات للحنابلة: وبهذا الحديث -يعني حديث أنس الذي عند أحمد والحاكم وغيرهما المار- رخص أحمد في القنوت في الفجر.
[القنوت في الصبح مروي عن الخلفاء الأربعة]
وقال الحافظ ابن حجر في تخريج الرافعي عند قوله: ((وروي القنوت في الصبح عن الخلفاء الأربعة)) ما نصه: (رواه البيهقي عن العوام بن حمزة قال: ((سألت أبا عثمان عن القنوت في الصبح فقال: بعد الركوع: قلت: عمن؟ قال: عن أبي بكر وعمر وعثمان)).(1/53)
ومن طريق قتادة عن الحسن عن أبي رافع: ((أن عمر كان يقنت في الصبح)).
ومن طريق حماد عن إبراهيم عن الأسود قال: ((صليت خلف عمر في الحضر والسفر فما كان يقنت إلا في صلاة الفجر)).
وروى أيضاً بسند صحيح عن عبد الله بن معقل بن مقرن قال: ((قنت علي في الفجر))، ورواه الشافعي أيضاً).
[أدلة من منع القنوت في الصبح وتوجيهها]
قال الحافظ ابن حجر: (ويعارض الأول -يعني رواية الحاكم- ما روى الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أبي مالك الأشجعي عن أبيه: ((صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي فلم يقنت أحدٌ منهم، وهو بدعةٌ)). قال: وإسناده حسن.(1/54)
قلت: ولا يظهر في هذه الرواية معارضة من كل وجه، فإنه ليس فيها نفي قنوتهم في الفجر، فيمكن حمله على بقية الفرائض، لكن أورده في شرح منتهى الإرادات للمؤلف بلفظ: ((قلت لأبي: إنك صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ههنا بالكوفة نحو خمس سنين، أكانوا يقنتون في الفجر؟ قال: أي بني، محدثٌ)). قال الترمذي: حسن صحيح، قال: ورواه أحمد وابن ماجه والنسائي.
قال: والعمل عليه عند أهل العلم.
وعن أبي هريرة: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت في الفجر إلا إذا دعا لقومٍ أو دعا على قومٍ)). رواه سعيد.
وروى أيضاً عن الشعبي أنه قال: لما قنت علي في صلاة الصبح أنكر ذلك الناس فقال: ((إنما أنا أستنصر على عدونا)).
فهذان الحديثان معارضان للحديث الأول، وهما دليل الذاهبين إلى نفي القنوت في الصبح، وحملوا القنوت في حديث أنس المار على طول القيام فإنه يسمى قنوتاً، ويعارضه أيضاً ما مر عن الحافظ ابن حجر في تخريج الرافعي وعزاه للخطيب من طريق قيس بن الربيع: عن عاصم بن سليمان قلت لأنس:(1/55)
إن قوماً يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت في الفجر، فقال: ((كذبوا إنما قنت شهراً واحداً يدعو على حي من أحياء المشركين))، وقيس وإن كان ضعيفاً لكنه لم يتهم بالكذب [عنه].
وروى ابن خزيمة في صحيحه من طريق سعيد عن قتادة: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقنت إلا إذا دعا لقومٍ أو دعا على قومٍ))، فاختلفت الأحاديث عن أنس واضطربت فلا يقوم بمثل هذا حجة). انتهى كلامه في تخريج الرافعي.
وإذا تعارضا فلا بد من الترجيح، ولا شك أن المثبت مقدم على النافي، وحديث أنس عند الحاكم فيه إثبات القنوت، وحديثه عند الترمذي وغيره ناف، فيقدم رواية الحاكم مع قوتها وصراحتها وضعف غيرها واحتمال القوي منها كما مر.
أقول: على أن الجمع مقدم على الترجيح مهما أمكن، وهنا في بعضها ممكن، لكن لا على الوجه الذي سبق من حمل القنوت على طول القيام لأن الظاهر المتبادر من كلام الشارع المعاني الشرعية لا اللغوية، سيما وقد صرح في بعض الروايات بأنه صلى الله عليه وسلم : ((قنت شهراً ثم تركه إلا في الصبح فإنه لا زال يقنت في الصبح إلى أن فارق الدنيا)). انتهى، فهذا الاستثناء وقع في القنوت الصادر منه صلى الله عليه وسلم وهو قنوت النازلة لأنه إنما كان دعا على الكفرة، ومعلوم أنه قنوت شرعي لا لغوي، فالمستثنى كذلك، بل على أن يقال: معنى الحديث: قنت للنازلة في جميع الصلوات شهراً ثم ترك القنوت فيها لها إلا الصبح فإنه صلى الله عليه وسلم لا زال يقنت فيها للنوازل إلى أن فارق الدنيا، وبقية الأحاديث السابقة لا تأبى(1/56)
هذا الجمع؛ فحديث أبي رافع: ((أن عمر كان يقنت في الصبح)) ليس فيه إلا إثبات القنوت في الصبح، وليس فيه أنه لم يكن للنازلة.
وكذا حديث الأسود: ((صليت خلف عمر في الحضر والسفر فما كان يقنت إلا في صلاة الصبح))، ليس فيه إلا نفي القنوت في بقية الصلوات وإثباته في الصبح، وليس فيه أنه لم يكن للنازلة.
وكذا حديث ابن مقرن: ((قنت علي في الفجر)).
ويوضح هذا الجمع حديث أبي هريرة عند البخاري من رواية إبراهيم بن سعد عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدعو لأحدٍ أو يدعو على أحدٍ قنت في الركعة الأخيرة)).
وأورده ابن خزيمة من رواية أبي داود الطيالسي عن إبراهيم بن سعد بهذا الإسناد بلفظ: ((كان لا يقنت إلا إذا دعا لأحدٍ أو دعا على أحدٍ)).
قال الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار بعد تخريجه لحديث أبي هريرة هذا: ولهذا اللفظ -يعني لفظ رواية ابن خزيمة- شاهد من حديث أنس ثم ساق سنده: قرأت على أبي الطاهر الربعي عن زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم، عن عجيبة بنت أبي بكر، أنا أبو الخير الباغبان إجازة، أنا أبو بكر السمسار، أنا أبو إسحاق الأصبهاني، ثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي، ثنا القاسم بن محمد بن عباد، ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/57)
لا يقنت إلا إذا دعا لقومٍ أو على قومٍ))، أخرجه ابن خزيمة عن محمد بن محمد بن مرزوق، عن محمد بن عبد الله الأنصاري.
وله شاهد آخر عند الطبراني عن ابن عباس قال: ((قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دعا لقومٍ ودعا على قومٍ)). [وسنده حسن]. انتهى.
وقال في تخريج الرافعي: ورد ما يدل على أن القنوت يختص بالنوازل من حديث أنس أخرجه ابن خزيمة في صحيحه كما تقدم من حديث أبي هريرة، وأخرجه ابن حبان بلفظ: ((كان لا يقنت إلا .. .. )) بمثل ما مر، قال: وأصله في البخاري من الوجه الذي أخرجه منه ابن حبان بلفظ: ((إذا أراد)) بمثل ما مر أيضاً.
وحديث الشعبي أن علياً لما قنت في صلاة الصبح أنكر ذلك الناس فقال: (([أنا] إنما أستنصر .. .. )) الخ، ولا يدفع هذا الجمع رواية الخطيب المارة عن أنس: ((كذبوا ..)) الخ لأنها ضعيفة، وعلى هذا الجمع يحمل(1/58)
حديث أبي مالك الأشجعي أنه بدعة، على معنى أن جعله قنوتاً معتاداً بدعة.
وكذا ما رواه الدراقطني عن ابن جبير قال: أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: ((إن القنوت في صلاة الفجر بدعةٌ))، أي القنوت لغير نازلة فيها بدعة.
والجواب: أن مفهوم هذا الجمع: أن قنوت النازلة يختص بالصبح ولا يكون في بقية الصلوات، ويأباه حديث ابن مسعود الآتي في قنوت الوتر: ((وكان إذا حارب قنت في الصلوات كلها يدعو على المشركين))، لكن فيه غرابة وضعف، وما يأتي في دليل القولين الأخيرين للشافعي.
نعم، وقع في شرح المنتهى للحنابلة للمؤلف عن أبي هريرة -كما مر- ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت في صلاة الفجر إلا إذا دعا لقومٍ أو على قومٍ))، رواه سعيد. انتهى. ولو ثبتت هذه الزيادة [لكانت] نصاً في المقصود، وقد علمت أن في الروايات التي سقناها عن الحافظ ابن حجر ليست هذه الزيادة مذكورة، فلعلها من النساخ.(1/59)
[أدلة قنوت النازلة]
وأما دليل قنوت النازلة: فحديث ابن عباس عند أبي داود وغيره قال: ((قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح يدعو على رعلٍ وذكوان وعصية من بني سليم في دبر كل صلاةٍ إذا قال: ((سمع الله لمن حمده)) من الركعة الأخيرة، ويؤمن من خلفه))، وهو حديث حسن، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه، فهذا دليل الفعل للنازلة.
وأما دليل القول الثاني، وهو الترك مطلقاً: فوقع في الصحيحين عن أنس وأبي هريرة: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على أحياء من العرب ثم تركه)). وحمله الأول على انقضاء الحاجة لقول أبي هريرة في بعض طرقه: ((إن الذين كان يدعو لهم قدموا فترك الدعاء لهم)).(1/60)
وأما دليل القول الثالث، وهو القنوت في جميع الصلوات مطلقاً: فحديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وبالسند السابق إلى الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار: (قرأت على فاطمة بنت محمد بن عبد الهادي عن أبي نصر بن العماد، أنا أبو محمد عبد الرشيد في كتابه، أنا الحسن بن أحمد المقري، أنا الحسن بن أحمد المهري، أنا أحمد بن عبد الله الحافظ، أنا سليمان بن أحمد، ثنا يعقوب بن إسحاق المخرمي، [ثنا علي بن بحر بن بري]، ثنا محمد بن أنس، عن مطرف بن طريق، عن أبي الجهم هو سليمان بن الجهم، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي صلاةً مكتوبةً إلا قنت فيها))، قال سليمان: لم يروه عن مطرف إلا محمد بن أنس)).(1/61)
قال الحافظ ابن حجر: (قلت: رجاله موثقون إلا هو، فقال الدارقطني: ليس بقوي).
قال ابن حجر: (وذكر له البخاري في صحيحه شيئاً تعليقاً، وأخرج حديثه هذا الدارقطني والبيهقي من طريق أبي حاتم الرازي، عن محمد بن أنس).
قال: (وله شاهد؛ أخبرني أبو الحسن علي بن محمد الخطيب عن أبي بكر الدشتي، أنا يوسف بن خليل الحافظ، أنا أبو المكارم اللبان، أنا أبو علي الحداد، أنا أبو نعيم، أنا أبو محمد بن فارس، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود الطيالسي، ثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول: سمعت البراء بن عازب يقول: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الصبح والمغرب)) هذا حديث صحيح أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة من طرق متعددة عن شعبة فوقع لنا عالياً.(1/62)
وله شاهد آخر أخرجه البخاري من رواية محمد بن سيرين عن أنس بلفظه، وله شاهد آخر أخرجه الشيخان من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لأقربن لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان يقنت في الظهر والعشاء والصبح)).
وحمل بعضهم هذه الأحاديث على قنوت النازلة).
أي: فيكون دليلاً للقول الأصح أن القنوت فيما عدا الصبح للنازلة، ولو جعلت لقنوت غير النازلة ففيها دليل لقنوت الصبح أيضاً؛ لأنه إذا ثبت استحبابه في الكل -ومن جملتها الصبح- ثبت فيه بالضرورة، وكذا إذا ثبت في الصبح والمغرب أو في الظهر والعشاء والصبح؛ لأن الصبح مذكور في جميع الروايات. وعلى هذا القول يكون معنى ((ثم تركه)): ثم ترك الدعاء على المشركين في القنوت لا أصل القنوت، فالضمير المنصوب في تركه سواء كان مذكوراً أو محذوفاً راجع للدعاء المفهوم من قوله: ((يدعو على أحياء من العرب))، لا للقنوت المفهوم من ((قنت)). و((شهراً)) ظرف ليدعو ولقنت المقيد بيدعو الواقع حالاً لأنه جملة فعلية، ويجوز أن يكون استئنافاً جواباً لقول القائل: ما كان يقول في قنوته؟ وقد مر أن دليل النافين حديث أبي مالك(1/63)
الأشجعي: أنه محدثٌ، وقد ترجم الترمذي: باب ترك القنوت في الفجر. وأورد الحديث المذكور.
قال الحافظ ابن حجر بعد تخريجه له: (هذا حديث صحيح أخرجه الترمذي عن أحمد بن منيع، وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن يزيد بن هارون. فوقع لنا بدلاً عالياً.
وأخرجه أحمد عن يزيد بهذا الإسناد فوقع لنا موافقة عالية.
وأخرجه أيضاً عن إسماعيل بن محمد عن مروان بن معاوية.
وأخرجه الترمذي أيضاً من رواية أبي عوانة، والنسائي من رواية خلف بن خليفة، وابن ماجه أيضاً من رواية عبد الله بن إدريس وحفص بن غياث، خمستهم عن أبي مالك الأشجعي، وصححه الترمذي وابن حبان، واسم أبي مالك: سعد بن طارق بن أشيم، بفتح الهمزة والياء آخر الحروف بينهما شين معجمة.
وقد أخرج مسلم بهذا الإسناد حديثاً غير هذا فهو على شرطه، وعجبت للحاكم إذ لم يستدركه، وقد أجاب من أثبت القنوت بأن المثبت مقدم على النافي، أو لعلهم أسروه فلم يسمع، أو كان بعيداً أو نسي)، انتهى كلام ابن حجر.
قلت: لا سيما وقد تقوت رواية الإثبات بشواهد صحيحة.
وبالسند السابق إلى الحافظ ابن حجر: (أخبرني الإمام الحافظ أبو الحسن بن أبي بكر، أنا [أبو] الفضل محمد بن إسماعيل بن عمر، أنا الفخر أبو الحسن المقدسي، عن عبد الله بن عمر الصفار، أنا عبد الجبار بن(1/64)
محمد الفقيه، أنا أحمد بن الحسين الحافظ، أنا أبو عبد الله الحافظ، [ثنا] علي بن حمشاذ، ثنا العباس بن الفضل، ثنا أحمد بن يونس، ثنا محمد بن بشر، ثنا العلاء بن صالح، عن بريد بن أبي مريم، ثنا أبو الحوراء: سألت الحسن بن علي، ما عقلت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: علمني دعواتٍ أقولهن: اللهم اهدني فيمن هديت .. .. الحديث.
قال بريد بن أبي مريم: فذكر ذلك لمحمد بن الحنفية فقال: ((إنه الدعاء الذي كان أبي يدعو به في صلاة الفجر في قنوته)) .
قال ابن حجر: هذا حديث حسن، والعلاء بن صالح وثقه يحيى بن معين وجماعة.
وبه إلى أبي عبد الله الحافظ، ثنا أبو الوليد حسان بن محمد، ثنا أبو بكر [هو الباغيني، ثنا هشام بن خالد] الأزرق، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا ابن جريج عن أبي هرمزٍ، عن بريد بن أبي مريم، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا دعاءً ندعو به في القنوت في صلاة الصبح: اللهم اهدنا(1/65)
فيمن هديت ..)) الحديث، وفي رواية عنه: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح ووتر الليل بهؤلاء الكلمات: اللهم اهدنا فيمن هديت .. .. )) الحديث.
قلت: وبهذا يجمع بين ما ورد عن الحسن أنه في قنوت الوتر، وبين ما سبق آنفاً أنه في قنوت في الصبح، والله أعلم.
وله شاهد آخر من حديث أبي هريرة ولكن فيه ضعف، وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى.
وإنما يقدم المثبت على النافي إذا تعارضا، أما إذا جمع بالحمل في الإثبات على قنوت النازلة، وفي النفي على غيره كما مر عن نقل ابن حجر فلا تقديم.
ويؤيد هذا الحمل ما أخرجه في تخريج الأذكار عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في شيءٍ من الصلوات إلا في الوتر، وكان إذا حارب قنت في الصلوات كلها يدعو على المشركين)). ثم قال: هذا حديث غريب أخرجه الطبراني في الأوسط هكذا،(1/66)
وقال: تفرد به محمد بن جابر عن حماد.
قال ابن حجر: ومحمد بن جابر ضعيف، وقد رواه الحسن بن الحر وهو صدوق عن حماد بهذا الإسناد، فحذف الأسود ووقفه على عمر، وهو أشبه بالصواب. انتهى.
فأحد الإسنادين ضعيف والآخر موقوف، وكلاهما لا تقوم به الحجة، بل لو صح لقدم عليه حديث أنس عند الحاكم المار؛ لأن هذا نفي وذلك إثبات، والإثبات مقدم على النفي.
فائدة: قال الحافظ ابن حجر في تخريج الرافعي: عزا هذا الحديث -يعني حديث أنس عند الحاكم- بعضهم إلى مسلم فوهم، وعزاه النووي إلى المستدرك للحاكم، وليس هو فيه، وإنما أورده وصححه في جزء له في القنوت، ونقل البيهقي تصحيحه عن الحاكم فظن الشيخ يعني النووي أنه في المستدرك. انتهى.
قلت: وقد صرح النووي في الأذكار بنسبة تصحيحه إليه في كتاب الأربعين، وعبارته: ((رواه الحاكم أبو عبد الله في كتاب الأربعين وقال: حديث صحيح)).
فائدة أخرى: قال في التخريج المذكور وفي تخريج الأذكار: روى الحاكم في المستدرك من طريق عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن(1/67)
أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه في الركوع في صلاة الصبح في الركعة الثابتة رفع يديه فيدعو بهذا الدعاء: اللهم اهدني فيمن هديت إلى تباركت وتعاليت))، وقال: صحيح.
قال ابن حجر: وليس كما قال بل ضعيف لأجل عبد الله، فلو كان ثقة لكان الحديث صحيحاً، وكان الاستدلال به أولى من الاستدلال بحديث الحسن بن علي الوارد في قنوت الوتر. ثم قال: وروى الطبراني في الأوسط من حديث بريدة نحوه، وفي إسناده مقال. انتهى.
قلت: وكلاهما يصلح شاهداً لقنوت الصبح، وذكر البيهقي من طريق أبي صفوان الأموي عن ابن جريج عن ابن هرمز عن ابن عباس نحو حديث أبي هريرة.
قال: وابن هرمز المذكور شيخ مجهول، والأكثر أن اسمه عبد الرحمن وليس هو الأعرج الثقة المشهور صاحب أبي هريرة، والله أعلم.
فهذا ما يتعلق ببيان محل القنوت بالنسبة إلى الصلوات.(1/68)
[محل القنوت قبل الركوع أو بعده]
وأما بالنسبة إلى الأركان، فالشافعي وأحمد والجمهور على أن محله الاعتدال بعد رفع الرأس من الركوع، وأبو حنيفة ومالك وكثيرون على أن محله القيام بعد القراءة وقبل الركوع.
ودليل الأول: حديث البخاري: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحدٍ أو يدعو لأحدٍ قنت بعد الركوع)).
وحديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود والحاكم: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت بعد رفع رأسه من الركوع)).
ولفظه كما في تخريج الرافعي لابن حجر: ((قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دبر كل صلاةٍ إذا قال: سمع الله لمن حمده في الركعة الأخيرة .. على أحياء من العرب، [على] رعلٍ وذكوان وعصية، ويؤمن خلفه)). وقد مر بإسناده.
وفي هذا الحديث من الفوائد: الإتيان بذكر الاعتدال قبل القنوت، وتأمين المأمون لدعاء إمامه فيه، وأن قنوت النازلة لا يتعين لفظه، وإنما هو دعاء على حسب ما يقتضيه الحال، والله أعلم.(1/69)
وحديث أبي هريرة في الصحيحين: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت بعد رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة)).
وحديث أنس في الصحيحين أيضاً: ((قنت شهراً بعد الركوع يدعو على أحياء من العرب ثم تركه)). وللبخاري عن عمر مثله.
قال الحافظ ابن حجر في تخريج الرافعي: ((روى البخاري من طريق عاصم الأحول عن أنس أن القنوت قبل الركوع، أي:(1/70)
هو دليل من قال إنه قبل الركوع كمالك. قال: وقال البيهقي: إن رواة القنوت بعد الركوع أكثر وأحفظ، وعليه درج الخلفاء الراشدون. وروى الحاكم أبو أحمد في الكنى عن الحسن البصري قال: ((صليت خلف ثمانيةً وعشرين بدرياً كلهم يقنت في الصبح بعد الركوع))، قال: وإسناده ضعيف.
قلت: وإسناده وإن كان ضعيفاً لكنه يصلح في المتابعات والشواهد، ففيه تقوية للمذهب القائل بالقنوت في الصبح.
وقال الأثرم: قلت لأحمد: يقول أحد في حديث أنس أنه قنت قبل الركوع غير عاصم الأحول؟ قال: لا يقوله غيره، خالفوه كلهم: هشام عن قتادة، والتيمي عن أبي مجلز، وأيوب عن ابن سيرين، وغير واحد عن حنظلة كلهم عن أنس، وكذا روى أبو هريرة، وخفاف بن [إيماء] وغير واحد.
وروى ابن ماجه من طريق [سهل] بن يوسف عن حميد عن أنس:(1/71)
((أنه سئل عن القنوت في صلاة الصبح قبل الركوع أو بعده؟ فقال: ((كلاهما قد كنا نفعل، قبل وبعد))، وصححه أبو موسى المديني. انتهى.
فرع: قال في الروضة: ولو قنت قبل الركوع فإن كان مالكياً يرى ذلك أجزأه، وإن كان شافعياً لا يراه لم يحسب على الصحيح بل يعيده بعد الرفع من الركوع، وهل يسجد للسهو؟ وجهان، الأصح المنصوص في الأم يسجد. انتهى.
قلت: وذلك لما مر عن البيهقي أن رواة القنوت بعد الركوع أكثر وأحفظ، ولما مر عن أحمد أن عاصم الأحول تفرد برواية القنوت قبل الركوع، وأنه خالفه جمهور أصحاب أنس وجمهور الرواة فيكون شاذاً لأن الشاذ عند المحققين ما خالف الثقة فيه الجماعة.
قال الحافظ العراقي في ألفيته:
وذو الشذوذ ما يخالف الثقة ... فيه الملا فالشافعي حققه(1/72)
[قنوت الوتر ومن ذهب إليه من الأئمة]
وأما قنوت الوتر قال به أبو حنيفة وأحمد في جميع السنة، ونفاه مالك، وفي مذهب الشافعي ثلاثة أوجه: أحدها يستحب فيه في النصف الثاني من شهر رمضان، وهو المنصوص، وأشار في المنهاج إلى ضعف الوجه القائل باستحبابه جميع السنة.
وقال في الأذكار: ((ويستحب القنوت عندنا في النصف الأخير من شهر رمضان في الركعة الأخيرة من الوتر، ولنا وجه أنه يقنت فيها في جميع شهر رمضان، ووجه ثالث في جميع السنة، وهو مذهب أبي حنيفة، والمعروف من مذهبنا هو الأول، والله أعلم)). انتهى.
قال الحافظ ابن حجر في تخريجه: ولم يذكر لشيء من ذلك دليلاً، قال: ومستند الأول ما أخرجه أبو داود بإسنادين رجالهما ثقات؛ لكن أحدهما منقطع، وفي الآخر راو لم يسم: أن عمر رضي الله عنه لما جمع الناس على(1/73)
أبي بن كعب: ((كان لا يقنت إلا في النصف الأخير))، وكذا أخرجه محمد بن نصر في كتاب قيام الليل، وأخرج مثله عن أبي حليمة معاذ بن الحارث وهو الذي كان يصلي بهم إذا غاب أُبي، وأخرج أيضاً عن علي نحوه بسند ضعيف، وعلقه الترمذي لعلي والثابت عن علي خلافه. انتهى.
قلت: فليس لهذا الوجه حديث صحيح، لأن أحد الإسنادين لأبي داود منقطع، وثانيهما فيه مجهول.
قال: وأما الوجه الثاني، فلم يثبت لبعضهم ونسبه الرافعي لمالك، وما وقفت على مستند، لكن في الموطإ عن داود بن الحصين، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج قال: ((ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان)) . وهذا يحتمل أن يخص بالنصف الأخير فيرجع إلى الأول.(1/74)
قال: وأما الوجه الثالث، فهو المختار عند جماعة، وقد عقد له محمد بن نصر باباً ذكر فيه عن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم ذلك بأسانيد صحيحة، وتقدم حديث ابن مسعود المرفوع وسيأتي حديث الحسن وإن كان غير صحيح في التعميم.
وأخرج ابن خزيمة من رواية عن الرحمن بن أبي ليلى أنه سئل عن القنوت في الوتر فقال: حدثنا البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ((هي سنة ماضية)).
ونقل القاضي حسين في التعليقة: أن القفال ود أن لو قال به أحد من السلف وأقره على ذلك، وهو غريب؛ فقد نقله محمد بن نصر وقبله أبو بكر بن أبي شيبة عن جماعة من التابعين فمن بعدهم، ونقله ابن المنذر عن أبي ثور صاحب الشافعي، ونقله الروياني عن مشايخ طبرستان، وقال به جماعة من الشافعية. انتهى.
قلت: وعبارة الروضة: ولنا وجه أنه يقنت في جميع رمضان، ووجه أنه يقنت في جميع السنة، قاله أربعة من أئمة أصحابنا: أبو عبد الله الزبيري،(1/75)
وأبو الوليد النيسابوري، وأبو الفضل بن عبدان، وأبو منصور بن مهران. انتهى.
واختاره النووي في التحقيق، وشرح المهذب.
[حديث الحسن بن علي، وفيه ما يشهد لقنوت الوتر في جميع السنة]
وأما مستنده، فبالسند السابق إلى الحافظ ابن حجر قال: أخبرني الإمام المسند أبو الفرج ابن أبي العباس الغزي، أنا علي بن إسماعيل بن عبد القوي بقراءة الحافظ أبي الفتح ابن سيد الناس عليه ونحن نسمع، أنا إسماعيل بن عبد القوي، أخبرتنا فاطمة بنت سعد الخير، أخبرتنا أم إبراهيم بنت عبد الله بن عقيل، أنا محمد بن عبد الله الأصبهاني، أنا أبو القاسم الطبراني، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ومحمد بن عبد الله الحضرمي قال الأول: ثنا علي بن حكيم، والثاني يحيى بن عبد الحميد وأبو بكر بن أبي شيبة، قالوا: حدثنا شريك هو [ابن] عبد الله النخعي.
ح وبه إلى الطبراني، ثنا الحسن بن المتوكل البغدادي، ثنا عفان.
ح وأخبرني الشيخ أبو إسحاق بن كامل والمسند أبو العباس بن تميم قالا: أخبرنا أبو العباس الصالحي، أنا أبو المنجا بن اللتي، أنا أبو الوقت،(1/76)
أنا أبو الحسن بن المظفر، أنا محمد السرخسي، أنا أبو العباس السمرقندي، ثنا أبو محمد الدارمي، ثنا يحيى بن حسان قال: هو وعفان، ثنا أبو الأحوص سلام بن سليم.
ح وبه إلى الدارمي، أنا عبيد الله بن موسى، ثنا إسرائيل هو ابن يونس.
ثلاثتهم عن أبي إسحاق هو عمرو بن عبد الله السبيعي، عن بريد بن أبي مريم، عن أبي الحوراء، عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال:
علمني جدي كلماتٍ أقولهن في الوتر: ((اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت)).
هذا لفظ شريك، ولم يقل أبو الأحوص في روايته: ((جدي)) ولا ((ربنا)). وقال: ((في قنوت الوتر))، وقال إسرائيل في روايته: ((في القنوت)) ولم يقل: ((جدي)).
وأحال الدارمي بباقي لفظه على رواية أبي الأحوص: هذا حديث حسن صحيح، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي جميعاً عن قتيبة بن سعيد،(1/77)
وأخرجه أبو داود عنه أيضاً، عن أحمد بن جواس بفتح الجيم وتشديد الواو آخره مهملة كلاهما عن أبي الأحوص فوقع لنا بدلاً عالياً.
ولفظ قتيبة كلفظ شريك الذي سقته لكن قال: ((فإنك)) بزيادة فاء، ولم يقل: ((ولا يعز من عاديت)). ولفظ أحمد بن جواس مثله، لكن قال: ((في قنوت الوتر)).
وأخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن [أبي] شيبة فوقع لنا موافقة عالية وبدلاً عالياً بالنسبة للرواية المتصلة.
وأخرجه ابن خزيمة عن يوسف بن موسى، عن عبيد الله بن موسى فوقع لنا بدلاً عالياً.
وأخرجه أبو داود أيضاً عن عبد الله بن محمد النفيلي، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، ولم يسق لفظه بل قال: إن في روايته في آخر الحديث: ((أقولهن في الوتر في القنوت)).
وساقه البيهقي من طريق عمرو بن مرزوق، عن زهير.(1/78)
وبه إلى ابن حجر: قرأت على فاطمة بنت عبد الهادي عن محمد بن عبد الحميد، أنا إسماعيل بن عبد القوي بالسند المذكور آنفاً إلى الطبراني: ثنا محمد بن عمرو بن خالد الحراني، ثنا أبي، ثنا زهير بن معاوية فذكره. قال الترمذي: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي الحوراء السعدي واسمه: ربيعة بن شيبان.
قال ابن حجر: وأبو الحوراء: بفتح الحاء المهملة وسكون الواو بعدها راء مهملة، وهو بصري ثقة، والراوي عنه بريد بموحدة ومهملة مصغر، واسم أبيه أبو مريم: مالك بن ربيعة السلولي بفتح المهملة صحابي نزل البصرة، وابنه بريد بصري ثقة وهو تابعي أيضاً، ورواية أبي إسحاق من رواية الأقران بل أبو إسحاق أكبر منه، وقد رواه عن بريد أيضاً ابنه يونس بن أبي إسحاق وصاحبه شعبة؛ أما رواية يونس فأخرجها الإمام أحمد عن وكيع عنه. وأخرجها ابن خزيمة من رواية وكيع ويحيى بن آدم وكلاهما عن يونس، وأما رواية شعبة فوقعت لنا بعلو.
وبالسند المذكور آنفاً إلى الدارمي: أنا عثمان بن عمر، ثنا شعبة.
ح وبالسند الأخير إلى الطبراني: ثنا محمد بن محمد التمار، ثنا عمرو بن مرزوق، ثنا شعبة عن بريد بن أبي مريم، عن أبي الحوراء قال: قلت للحسن بن علي: ما تذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: حملني على عاتقه، فذكر(1/79)
قصة فيها: ((وكان يدعو بهذا الدعاء: اللهم اهدني فيمن هديت .. .. )) الحديث كما تقدم أولاً، هذا لفظ عثمان بن عمر.
ولفظ عمرو بن مرزوق: ((علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول في الوتر .. .. )) مثله سواء، وزاد فيه: ((ولا يعز من عاديت)).
وأخرجه ابن خزيمة من طريق غندر، وابن حبان من طريق مؤمل بن إسماعيل كلاهما عن شعبة مثل رواية عثمان بن عمر، فوقع لنا بدلاً عالياً بدرجة أو درجتين، ولله الحمد.
وبه على الحافظ ابن حجر: أخبرني أبو عبد الله محمد بن محمد الشبلي، أنا عبد الله بن الحسين الدمشقي وزينب بنت أحمد الصالحية سماعاً عليهما، قال الأول: أنا محمد بن أبي بكر البلخي والأخرى: أنا عبد الرحمن بن مكي في كتابه قالا:
أنا الحافظ أبو الطاهر السلفي، قال الأول: إجازة، والثاني سماعاً، أنا أبو ياسر محمد بن عبد العزيز الخياط في آخرين قالوا: أنا أبو القاسم عبد الملك بن محمد، أنا أبو محمد الفاكهي، أنا يحيى بن أبي مسرة، أخبرني أبي، أنا عبد المجيد -يعني ابن عبد العزيز بن أبي رواد- أنا ابن جريج، أخبرني عبد الرحمن بن هرمز أن بريد بن أبي مريم أخبره قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: ((كان رسول الله يقنت في صلاة الصبح وفي وتر الليل بهؤلاء الكلمات: اللهم اهدني فيمن هديت ..)) الحديث.
قال ابن حجر: هذا حديث غريب، أخرجه محمد بن نصر في كتاب قيام الليل عن عمرو بن علي الفلاس، عن أبي عاصم النبيل، عن ابن جريج بهذا(1/80)
الإسناد والمتن، وأخرجه البيهقي عن محمد بن أحمد بن الحسن البزاز، عن الفاكهي، فوقع لنا بدلاً عالياً.
وذكر البيهقي أن مخلد بن يزيد رواه عن ابن جريج نحو رواية الوليد، لكن زاد ابن الحنفية مع ابن عباس، وقال في حديثه: في قنوت الليل.
وبه إلى الحافظ ابن حجر: أخبرني الإمام المسند أبو إسحاق ابن الجريري، أنا أيوب بن نعمة النابلسي، أنا إسماعيل بن أحمد العراقي، أنا محمد بن عبد الخالق في كتابه، أنا عبد الرحمن بن أحمد، أنا القاضي أبو نصر بن الكسار، أنا الحافظ أبو بكر بن السني، أنا أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، أنا محمد بن سلمة هو المرادي، ثنا ابن وهب عن يحيى بن عبد الله بن سالم، عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن علي، عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال:
((علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت ..))، فذكر مثل سياق الترمذي لكن سقط منه: ((وعافني فيمن عافيت))، وزاد بعد قوله: ((تباركت وتعاليت، وصلى الله على النبي)).
قال ابن حجر: هذا حديث أصله حسن روي من طرق متعددة عن الحسن، لكن هذه الزيادة في هذا السند -يعني زيادة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم - غريبة لا تثبت، لأن عبد الله بن علي لا يعرف.
وقد جوز الحافظ عبد الغني أن يكون هو عبد الله بن علي بن الحسين بن علي أي وهو الملقب بالباهر، وجزم المزي بذلك، فإن يكن كما قال(1/81)
فالسند منقطع، فقد ذكر ابن سعد والزبير بن بكار أن أمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي وهو شقيق أبي جعفر الباقر ولم يسمع من جده الحسن بن علي، بل الظاهر أن جده مات قبل أن يولد لأن أباه زين العابدين أدرك من حياة عمه الحسن رضي الله عنه نحو عشر سنين فقط، ويؤيد انقطاعه أن ابن حبان ذكره في أتباع التابعين من الثقات، فلو كان سمعه من الحسن لذكره في التابعين، وقد بالغ في شرح المهذب فقال: إنه سند صحيح أو حسن، وكذا في الخلاصة. انتهى.
وبه إلى الحافظ ابن حجر: أخبرني شيخنا الإمام حافظ العصر أبو الفضل بن الحسين، أخبرني عبد الله بن محمد البزوري، أنا علي بن أحمد السعدي، أنا محمد بن أبي يزيد الكراني في كتابه، أنا محمود بن إسماعيل الصيرفي، أنا أحمد بن فادشاه، أنا الطبراني في الدعاء، ثنا الحسن بن علي بن شهريار وعلي بن سعيد الرازي، قال الأول:
حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن زرارة الرقي.
وقال الثاني: ثنا الحسن بن محمد المنكدري قال: ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت:
أخبرني الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: ((علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء(1/82)
القنوت في الوتر))، فذكره مثل رواية أبي داود سواء، أخرجه محمد بن نصر في كتاب قيام الليل من رواية محمد بن إسماعيل هذا فوقع لنا بدلاً عالياً.
قلت: وفي هذا الإسناد رواية الصحابي عن الصحابي، ورواية التابعي عن التابعي، ورواية الأبناء عن الآباء.
وبه إلى الطبراني: ثنا أحمد بن واضح العسال المصري، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا محمد بن جعفر، ثنا موسى بن عقبة، عن أبي إسحاق، عن بريد بن أبي مريم، عن أبي الحوراء، عن الحسن بن علي قال: ((علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول في الوتر .. .. )) فذكر مثله سواء لكن زاد فيه: ((ولا يعز من عاديت)).
وهكذا أخرجه أبو عبد الله بن منده في معرفة الصحابة في ترجمة الحسن بن علي من طريق سعيد بن أبي مريم، وهذه الطريق أشبه بالصواب لأن محمد بن جعفر وهو ابن أبي كثير المدني أثبت وأحفظ من إسماعيل بن إبراهيم عن عقبة، ومن يحيى بن عبد الله بن سالم، فرجع الحديث إلى رواية أبي إسحاق عن بريد، عن أبي الحوراء وهو المعروف.
فهذه أدلة الوجه الثالث في قنوت الوتر، فإن هذه الروايات بظاهرها وبعمومها تدل على استحباب القنوت في الوتر مطلقاً في جميع السنة، وكفى بالظاهر دليلاً ولا يعارضها حديث أبي أنه: ((ما كان يقنت إلا في النصف الثاني من رمضان))؛ لضعفه ولأنه فعل صحابي، وللرأي فيه مدخل فلا احتجاج فيه.
وأما بيان تعيين محله، فلم يذكر فيما مر من الروايات، إلا أن الحافظ ابن(1/83)
حجر قال في تخريج العزيز: إن الحاكم روى من حديث إسماعيل عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن الحسن بن علي قال: ((علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم في وتري إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود .. .. ))، ففيه أنه بعد الركوع، لكن قال: رأيت في الجزء الثاني من أبي بكر الأصفهاني عن الحسن أنه قال في الوتر قبل الركوع. انتهى.
فلم يتعين أنه بعد الركوع أو قبله، فيكون على الخلاف السابق في قنوت الصبح، والمذاهب فيه معلومة، وقد سبقت الإشارة إليها.(1/84)
فصل لفظ القنوت لا يتعين
قال ابن الصلاح: (القول بتعينه شاذ مردود مخالف لجمهور الأصحاب ولسائر العلماء، ونقل القاضي عياض الاتفاق على أنه لا يتعين).
وأخرج محمد بن نصر في كتاب قيام الليل بسند صحيح عن سفيان الثوري قال: كانوا يستحبون أن يقولوا في قنوت الوتر هاتين السورتين:(1/85)
((اللهم إنا نستعينك)) إلى قوله: ((ملحق))، وهؤلاء الكلمات: ((اللهم اهدني فيمن هديت))؛ فذكره كاللفظ الأول إلى قوله: ((تباركت ربنا وتعاليت))، وأن يقرأ المعوذتين وأن يدعو. وليس فيه شيء مؤقت.
ولمثل هذه الرواية قال أئمتنا: يستحب للمنفرد والإمام المحصورين أن يجمع بين: ((اللهم اهدني .. .. )) الخ، وبين قنوت عمر وهو: ((اللهم إنا نستعينك ..)) الخ.
قال الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار: ولم أجد ذلك في حديث، قال: ونسبة القنوت إلى عمر تخدش فيها وروده مرفوعاً، يعني: ((اللهم إنا نستعينك)) إلى آخره، ثم ساقه بسنده.
وبالسند إلى البيهقي قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا بحر بن نصر الخولاني، قرئ على عبد الله وأنا أسمع قيل له: حدثكم معاوية بن صالح عن عبد القاهر يعني ابن عبد الله، عن خالد بن أبي عمران قال:
بينما النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على مضر يعني في الصلاة إذ جاءه جبريل عليه السلام فأومأ إليه أن اسكت فسكت، قال: يا محمد إن الله لم يبعثك لعاناً ولا سباباً، ولم يبعثك عذاباً وإنما بعثك رحمة، و {ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوب عليهم} إلى {ظالمون}، ثم علمه هذا القنوت: ((اللهم إنا نستعينك))، فذكره إلى قوله: ((ملحق)).(1/86)
وهكذا أخرجه أبو داود في كتاب المراسيل عن سليمان بن داود المهري عن ابن وهب.
وخالد من صغار التابعين، وعبد القاهر لم أجد عنه راوياً إلا معاوية بن صالح، وقد ذكره ابن حبان في الثقات). انتهى كلام ابن حجر.
وورد من وجه آخر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم : ((وبالسند إلى الطبراني في الدعاء قال: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا عباد بن يعقوب الأسدي، ثنا يحيى بن يعلى الأسلمي، ثنا ابن لهيعة عن ابن هبيرة، عن عبد الله بن زرير الغافقي، قال:
قال لي عبد الملك بن مروان: لقد علمت ما حملك على حب أبي تراب إلا أنك أعرابي جاف، فقلت: والله لقد جمعت القرآن من قبل أن يجتمع أبواك، ولقد علمني منه علي بن أبي طالب رضي الله عنه سورتين علمه إياهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ما علمتهما أنت ولا أبوك: ((اللهم إنا نستعينك))، فذكره إلى: ((من يكفرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد))، فذكره إلى ((ملحقٌ، اللهم عذب كفرة أهل الكتاب والمشركين الذين يصدون عن سبيلك، ويجحدون آياتك، ويكذبون رسلك، ويتعدون حدودك، ويدعون معك إلهاً آخر، لا إله إلا أنت تباركت وتعاليت عما يقول الظالمون علواً كبيراً)).(1/87)
قال ابن حجر: هذا حديث غريب، وعبد الله بن زرير صدوق، وأبوه -بزاي وراء مصغر-، وابن هبيرة اسمه عبيد الله صدوق أيضاً، وابن لهيعة اسمه عبد الله وهو صدوق ضعف من قبل حفظه، ويحيى الراوي من أقرانه وهو ضعيف، وعباد صدوق أخرج عنه البخاري لكنه منسوب إلى الرفض. انتهى.
قلت: لعل نسبة القنوت المذكور إلى عمر لمداومته على قراءته له في القنوت، فقد ورد عنه ذلك في عدة روايات.
وبالسند إلى البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن [أبي] عمرو قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنا أسيد بن عاصم، ثنا الحسين بن حفص، ثنا سفيان وهو الثوري، ثني ابن جريج عن عطاء، عن عبيد بن عمير: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قنت بعد الركوع فقال:
((اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوهم.
اللهم العن الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ويقاتلون أوليائك، اللهم خالف بين كلمتهم وزلزل بهم الأرض وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين.
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك. بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق)).
قال شيخ الإسلام ابن حجر: هذا موقوف صحيح، أخرجه محمد بن(1/88)
نصر عن إسحاق بن إبراهيم، عن محمد بن بكر والنضر بن شميل كلاهما عن ابن جريج، وزاد بهذا السند إلى ابن جريج حكمة البسملة فيه وأنهما سورتان في مصحف بعض الصحابة.
وبسند آخر إلى أبي بن كعب: أنه كان يقنت بالسورتين فذكرهما، وأنه كان يكتبهما في مصحفه.
وبه إلى البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن الوليد، أخبرني أبي، ثنا الأوزاعي، حدثني عبدة بن أبي لبابة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه قال: صليت خلف عمر رضي الله عنه الصبح فسمعته يقول بعد القراءة قبل الركوع: ((اللهم إياك نعبد .. .. ))، فذكره كما عند النووي في الأذكار، لكن قدم وأخر وانتهى إلى قوله: ((ونخلع من يكفرك))، وإسناده صحيح.
والجمع بينه وبين ما قبله: أن عمر رضي الله عنه كان يقنت تارة قبل الركوع وأخرى بعده؛ قال البيهقي: من روى عنه بعد الركوع كان أكثر عدداً.
وأخرج عبد الرزاق بسند حسن عن أبي رافع الصائغ واسمه نفيع، قال: ((صليت خلف عمر رضي الله عنه الصبح فقنت بعد الركعة فسمعته يقول: اللهم إنا نستعينك))، فذكره بطوله وفيه: ((اللهم عذب الكفرة وألق في قلوبهم(1/89)
الرعب، وأنزل عليهم رجسك وعذابك، اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك))، إلى آخره. انتهى.
وقال في الروضة: ولفظ القنوت هو ما تقدم في قنوت الصبح يعني: اللهم اهدنا فيمن هديت .. .. إلخ، واستحب الأصحاب أن يضم إليه قنوت عمر: ((اللهم [إنا] نستعينك)) إلى قوله: ((ملحق، اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وأصلح ذات بينهم وألف بين قلوبهم واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة وثبتهم على ملة رسولك وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه وانصرهم على عدوك وعدوهم إله الخلق واجعلنا منهم)).
قال: وهل الأفضل أن يقدم قنوت عمر على قنوت الصبح أو يؤخره؟ وجهان:
قال الروياني: يقدمه عليه، وعليه العمل. ونقل القاضي أبو الطيب عن شيوخهم تأخيره؛ لأن قنوت الصبح ثابت في الوتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وينبغي أن يقول: ((اللهم عذب الكفرة)) للحاجة إلى التعميم في زماننا، والله أعلم.
قال الروياني: قال ابن القاص: يزيد في القنوت: ((ربنا لا تؤاخذنا)) إلى آخر السورة، واستحسنه. انتهى.(1/90)
فصل : وحكم الجهر بالقنوت في الوتر ورفع اليدين، وغير ذلك، من استحباب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه، والسجود لتركه، ونحوها، على ما قرروه في قنوت الصبح.
ويستحب لمن أوتر بثلاث أن يقرأ بعد الفاتحة في الأولى بـ {سبح اسم ربك الأعلى}، وفي الثانية بـ: {قل يأيها الكافرون}، والثالثة: {قل هو الله أحد} مرة، والمعوذتين.
فرع:
قال في الروضة: (إن أوتر بركعة قنت، وإن أوتر بأكثر قنت في الأخيرة). انتهى.
وهكذا ذكره في قنوت رمضان، والظاهر أن قنوت السنة كذلك إذا قلنا باستحبابه.
ثم قال: (وفي موضع القنوت من الوتر أوجه: أصحها: بعد الركوع، ونص عليه في حرملة. والثاني: قبل الركوع، قاله ابن سريج. والثالث: يخير بينهما.(1/91)
وإذا قدمه فالأصح أن يقنت بلا تكبير. والوجه الثاني: يكبر بعد القراءة ثم يقنت). انتهى. وهذا الوجه موافق لمذهب الحنفية، لكن الحنفية لم يجوزوا في الوتر إلا الثلاث موصولة، وسيأتي عندنا الخلاف فيه بعد فصلين.
فرع: قال النووي في التحقيق: ويستحب القنوت في النصف الثاني من رمضان نص عليه، ويقال: كل رمضان. ويقال: كل السنة وهو المختار.
وإن تركه في الوتر حيث نستحبه أو قنت حيث لا نستحبه سجد للسهو، وقيل: يندب كل السنة ولا يسجد لتركه. انتهى.
وأشار بقوله: ((وإن تركه)) إلى آخره بعد قوله: ((وهو المختار)) إلى أنا إذا استحببناه كل السنة سجد لتركه. وأشار لضعف مقابله بقيل. والذي يعتمده المتأخرون خلافه.
والمعتمد ما في التحقيق، فقد قال في خطبته: ((وما وجدته فيه في حكم، أو خلاف غريب، أو ترجيح خلاف ما في بعض الكتب المشهورة، فاعتمده؛ فهو محقق معتمد إن شاء الله تعالى، فإني لا أفعل ذلك إلا بعد البحث التام وجمع متفرقات كلام الأصحاب)). انتهى.(1/92)
فصل في وقت الوتر وجهان:
الصحيح من حين يصلي العشاء إلى طلوع الفجر، فإن أوتر قبل فعل العشاء لم يصح وتره سواء تعمد أو سها، ولو ظن أنه صلى العشاء أو صلاها ظاناً أنه متطهر ثم أحدث فتوضأ وصلى الوتر ثم بان أنه كان محدثاً في العشاء فوتره باطل.
والوجه الثاني: يدخل وقته بدخول وقت العشاء وله أن يصليه قبلها على هذا الوجه، ولو صلى العشاء ثم أوتر بركعة قبل أن يتنفل صح وتره على الصحيح.
وقيل: لا يصح حتى يتقدمه نافلة، وإذا لم يصح وتراً كان تطوعاً. قاله إمام الحرمين.
قال في الروضة: وينبغي أن يكون على الخلاف فيمن صلى الظهر قبل الزوال تبطل صلاته أم تكون نفلاً؟
والمستحب أن يكون الوتر آخر صلاة الليل إن كان له تهجد، فإن لم يكن له تهجد فينبغي أن يوتر بعد فريضة العشاء وراتبتها ليكون وتره آخر صلاة الليل.(1/93)
قال في الروضة: هذا التفصيل قاله العراقيون.
وقال إمام الحرمين والغزالي: اختار الشافعي رضي الله عنه تقديم الوتر فيجوز أن يحتمل نفلهما على من لا يعتاد قيام الليل، ويجوز أن يحمل على اختلاف قول أو وجه.
والأمر فيه قريب وكل سائغ. انتهى.
وإذا أوتر قبل النوم ثم قام وتهجد لم يعد الوتر على الصحيح المعروف لقوله صلى الله عليه وسلم : ((لا وتران في ليلةٍ)).
وفي وجه شاذ يصلي في أول قيامه ركعة يشفعه ثم يتهجد بما شاء ثم يوتر ثانياً، ويسمى هذا: نقض الوتر.
والصحيح المنصوص في الأم والمختصر أن الوتر يسمى تهجداً إذا صلى بعد النوم وغير الوتر غير التهجد.(1/94)
فصل [أقل الوتر وأكثره]
يحصل الوتر بركعة وما فوقها من الأوتار إلى أحد عشر ركعة وهو أكثره على الأصح من الوجهين.
والوجه الثاني أن أكثره ثلاثة عشر، ولا تجوز الزيادة على أكثره على الأصح، فإن زاد لم يصح وتره.
ثم إن زاد على ركعة بأن أوتر بثلاث فأكثر موصولة فالصحيح أن له أن يتشهد تشهداً واحداً في الأخيرة، وله أن يتشهد [تشهداً] آخر في التي قبلها، وفي وجه لا يجوز الاقتصار على تشهد واحد، وفي وجه لا يجوز لمن أوتر بثلاث أن يتشهد تشهدين بتسليمة، فإن فعله بطلت صلاته، بل يقتصر على تشهد واحد، أو يسلم في التشهدين، وهذان الوجهان منكران، قاله في الروضة.
قال: والصواب جواز ذلك [كله].
ولكن هل الأفضل تشهد أو تشهدان؟ فيه أوجه: أرجحها عند الروياني: تشهد. والثاني: تشهدان. والثالث: هما في الفضيلة سواء. فإن زاد على(1/95)
تشهدين وجلس في كل ركعتين واقتصر على تسليمة واحدة، فالصحيح أنه لا يجوز لأنه خلاف المنقول، والثاني يجوز كنافلة كثيرة الركعات.
أما إذا أراد الإيتار بثلاث ركعات فهل الأفضل فصلها بسلامين أم وصلها بسلام؟ فيه أوجه: أصحها الفصل أفضل. والثاني الوصل. والثالث إن كان منفرداً فالفصل، وإن صلاها بجماعة [فالوصل]. والرابع عكسه.
وهل الثلاث الموصولة أفضل من ركعة فردة؟ فيه أوجه: الصحيح أن الثلاث أفضل. والثاني الفردة أفضل. قال في الروضة: قال إمام الحرمين في النهاية: وغلا هذا القائل، فقال: الفردة أفضل من إحدى عشرة ركعة موصولة. والوجه الثالث: إن كان منفرداً فالفردة أفضل، وإن كان إماماً فالثلاث الموصولة.
خاتمة [استحباب الجماعة في الوتر بعد التراويح]
إذا استحببنا الجماعة في التراويح تستحب الجماعة أيضاً في الوتر بتبعيتها فيها وإن لم يصل التراويح.
وأما في غير رمضان فالمذهب أنه لا يستحب فيه الجماعة.
وقيل في استحبابها فيه وجهان مطلقاً في جميع السنة حكاه أبو الفضل ابن عبدان.
وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم آمين(1/96)
وقد فرغ من تنميقها محمد سعيد بن حسين القرشي الكوكبي النقشبندي ليلة الجمعة في المحرم الحرام سنة (1088هـ) في المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، والحمد لله رب العالمين.(1/97)