الذهب المسبوك في وعظ الملوك
تأليف
أبي عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي
488 هـ
حققه
أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري
الدكتور عبد الحليم عويس
عالم الكتب
الرياض
الطبعة الأولى
1402 هـ - 1982 م(/)
أخبرنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي قال:
قرأت على القاضي أبي الغنائم محمد بن علي الرصافي:
عن المعافى بن زكريا الجريري قال:
حدثنا عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي قال:
حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد:
حدثني القاسم بن هاشم أبو محمد قال:
حدثنا الحكم بن نافع قال:(1/137)
حدثنا صفوان بن عمرو:
عن عبد الرحمن بن عبد الله الخزاعي:
أن ذا القرنين أتى على أمة من الأمم ليس في بلادهم شيء مما يستمتع به الناس في دنياهم وقد احتفروا قبورهم فإذا أصبحوا تعهدوا تلك القبور فكنسوها وصلوا عندها. ورعوا البقل كما ترعاه البهائم، وقد قيض الله لهم في ذلك معاشاً من نبات الأرض. فأرسل ذو القرنين إلى ملكهم فقال:
أجب الملك ذا القرنين.
فقال: ما لي إليه حاجة.
فأقبل إليه ذو القرنين فقال:
إني أرسلت إليك لتأتيني فأبيت وقد جئتك فقال له: لو كانت لي إليك حاجة لأتيتك فقال له ذو القرنين: ما لي أراكم على الحال التي لم أجد أحداً من الأمم عليها؟.
قال: وما ذاك؟.(1/138)
قال: ليس لكم دنيا ولا شيء!.
أفلا اتخذتم الذهب والفضة فانتفعتم بهما؟.
فقالوا: إنما كرهناهما لأن أحداً لم يعط منهما شيئاً إلا تاقت نفسه ودعته إلى أفضل منه.
قال: فما بالكم قد احتفرتم قبوراً، فإذا أصبحتم تعهدتموها فكنستموها وصليتم عندها؟. قالوا: أردنا إذا نظرنا إليها وأملتنا الدنيا منعتنا قبورنا من الأمل. قال: وأراكم لا طعام لكم إلا البقل أفلا اتخذتم البهائم من الأنعام فاحتلبتموها وركبتموها واستمتعتم بها؟. فقالوا: كرهنا أن نجعل بطوننا قبوراً ورأينا في نبات الأرض بلاغاً. وإنما يكفي ابن آدم أدنى العيش من الطعام، وإن ما جاوزك الحنك من الطعام لم نجد له طعماً كائناً ما كان من الطعام!. ثم بسط ملك تلك الأرض يده خلف ذي القرنين فتناول جمجمة فقال: ياذا القرنين أتدري من هذا؟. قال: لا . ومن هو؟.(1/139)
قال ملك من ملوك الأرض أعطاه الله سلطاناً على أهل الأرض فختر وظلم وعتا فلما رأى الله ذلك منه حسمه بالموت فصار كالحجر الملقى قد أحصى الله عليه عمله كله حتى يجزيه به في آخرته.
قال: ثم تناول جمجمة أخرى بالية فقال:
ياذا القرنين: هل تدري من هذا؟.
قال: لا. ومن هو؟.
قال: هذا ملك ملكه الله بعده كان يرى ما يصنع الذي قبله من الختر والظلم والتجبر فتواضع وخشع لله عز وجل وعمل بالعدل في أهل مملكته فصار كما ترى قد أحصى الله عز وجل عليه عمله حتى يجزيه به في آخرته ثم أهوى إلى جمجمة ذي القرنين فقال:
وهذه الجمجمة كأن قد كانت كهاتين فانظر ياذا القرنين ماذا أنت صانع؟!
فقال له ذو القرنين:
هل لك في صحبتي فأتخذك أخاً ووزيراً وشريكاً فيما أتاني الله تعالى من هذا المال؟.
فقال: ما أصلح أنا وأنت في مكان ولا أن نكون جميعاً.
قال ذو القرنين:
ولم ؟.
قال: من أجل الناس كلهم لك عدو ولي صديق.(1/140)
قال: ولم.
قال: يعادونك لما في يدك من الملك والمال والدنيا ولا أجد أحداً يعاديني لرفضي لذلك ولما عندي من الحاجة وقلة الشيء.
قال: فانصرف عنه ذو القرنين متعجباً منه ومتعظاً به.
* أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل الغساني المصري -بها قراءة عليه- قال:
حدثنا أبي قال:
حدثنا القاضي أبو بكر أحمد بن مروان المالكي قال:
حدثنا أحمد بن عبدان الأزدي قال:
حدثنا عبد المنعم: عن أبيه:(1/141)
عن وهب بن منبه:
أن ذا القرنين أتى مغرب الشمس فرأى قوماً لا يعملون عملاً، وإذا منازلهم ليس لها أبواب، وليس لهم قضاة ولا حكام!!
فاجتمعوا إليه، فقال لهم:
قد رأيت منكم عجباً!
قالوا: وما رأيت من العجب؟.
قال: أرى قبوركم على أبواب منازلكم؟!
قالوا: كي لا ننسى الموت!.
قال: فما لي لا أرى قيادتكم واحدة؟.
قالوا: نتقاسم بالسوية، فنعطي من زرع، ومن لم يزرع!.
قال: وما لي أرى بيوتكم ليس لها أبواب؟.
قالوا: ليس فينا متهم!
قال: فما لي أرى الحيات والعقارب فيما بينكم ولا تضركم؟!
قالوا: نزع الله من قلوبنا الغش، والحيات نزع الله منها السموم!
قال: فما لي لا أرى فيكم حكاماً؟.
قالوا: ليس فينا من يظلم صاحبه!.
قال: فما لي أراكم أطول الناس أعماراً؟.(1/142)
فقالوا: وصلنا أرحامنا فطول الله أعمارنا.
* وقرأت على محمد بن علي القاضي:
عن أبي الفرج المعافى بن زكريا الجريري:
حدثنا عبيد الله بن محمد الأزدي:
أخبرنا أبو بكر بن أبي الدنيا:
حدثنا يعقوب بن إسماعيل:
حدثنا حيان بن موسى:.
حدثنا عبد الله بن المبارك قال:
حدثنا رشدين بن سعد:.
حدثنا عمرو بن الحارث:.
عن سعيد بن أبي هلال:.(1/143)
أنه بلغه:
أن ذا القرنين في بعض مسيره دخل مدينة، فاشتبك عليه أهلها ينظرون إلى موكبه: الرجال، والنساء، والصبيان.
وعند بابها شيخ على عمل له، فمر ذو القرنين فلم يلتفت الشيخ إليه!
فعجب ذو القرنين، فأرسل إليه، فقال: ما شأنك؟.
اشتبك الناس، ونظروا إلى موكبي، فما بالك أنت؟.
قال: لم يعجبني ما أنت فيه:
إني رأيت ملكاً مات في يوم هو ومسكين ولموتانا موضع يجعلون فيه فأدخلا جميعاً فأطلعتهما بعد أيام وقد تغيرت أكفانهما، ثم أطلعتهما وقد تزايلت لحومهما، ثم رأيتهما وقد تفصلت العظام واختلطت:
فما أعرف الملك من المسكين؟.
فلما خرج استخلفه الإسكندر على المدينة!
* وقرأت على محمد بن علي:
عن الجريري:
حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا:
حدثني الحارث بن محمد التميمي:
عن شيخ من شيوخ قريش قال:
مر الإسكندر بمدينة قد ملكها أملاك سبعة فبادوا، فقال:(1/144)
هل بقي من نسل الأملاك الذين ملكوا هذه المدينة أحد؟.
قالوا: نعم: رجل يكون في المقابر!.
فدعا به فقال:
ماذا دعاك إلى لزوم المقابر؟.
قال: أردت أن أعزل عظام الملوك عن عظام عبيدهم، فرأيت عظامهم وعظام عبيدهم سواء!.
قال: فهل لك أن تتبعني وأحيي بك شرف آبائك إن كانت لك همة؟.
قال: إن همتي لعظيمة إن كانت بغيتي عندك؟.
قال: وما بغيتك؟.
قال: حياة لا موت فيها، وشباب ليس معه هرم، وغنى لا فقر بعده، وسرور بغير مكروه!
قال: لا.
قال: فامض لشأنك ودعني أطلب ذلك ممن هو عنده!.
فقال الإسكندر: هذا أحكم من رأيت!.(1/145)
* أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل الضراب -قراءة عليه بالفسطاط-:
حدثنا أبي:
حدثنا القاضي أبو بكر أحمد بن مروان:
حدثنا أحمد بن يوسف:
حدثنا محمد بن سلام الجمحي:
عن الأصمعي:
أن النعمان بن امرئ القيس الأكبر -وهو الذي بنى الخورنق- ركب فرساً فلما أشرف على الخورنق نظر إلى ما حوله فقال لمن حضره:
هل علمتم أحداً أوتي مثل ما أوتيت؟.
فقالوا: لا.
إلا أن رجلاً منهم ساكت لا يتكلم وكان من حكمائهم.
فقالوا له: ما لك لا تتكلم؟.
فقال: أيها الملك إن أذنت لي تكلمت.
فقال: أرأيت ما جمعت:(1/146)
أشي هو لك لم يزل ولا يزول، أم هو شيء كان لمن هو قبلك زال عنه فصار إليك وكذلك يزول عنك؟.
فقال: لا : بل كان لمن كان قبلي فزال عنه وصار إلي وكذلك يزول عني.
قال: فسررت بشيء تذهب عنك لذته وتبقى تبعته عليك تكون فيه قليلاً وترتهن فيه كثيراً طويلاً.
فبكى وقال له: فأين المهرب؟
قال: إلى أحد أمرين: إما أن تقيم فتعمل بطاعة ربك، وإما أن تلقي عليك أمتعتك ثم تلحق بجبل وتفر من الناس وتقيم وحدك تعبد ربك حتى يأتيك أجلك.
قال: فإذا فعلت ذلك فما لي؟
فقال: حياة بلا موت، وشباب بلا هرم، وصحة بلا سقم، وملك جديد لا يبلى.
فقال له: أيها الحكيم: وكل ما أرى إلى فناء وزوال؟
قال: نعم.
قال: فأي خير فيما بقي؟!
والله لأطلبن عيشاً لا يزول أبداً، فانخلع من ملكه ولبس الأمساح وسار في الأرض. وتبعه الحكيم ، فعبد الله حتى ماتا.
وهو الذي يقول فيه عدي بن زيد الشاعر:
وتبين رب الخورنق إذ ... أشرف يوماً وللهدى تفكير(1/147)
سره حاله وكثرة ما يملك ... والبحر معرضاً والسدير
فارعوى قلبه وقال: وما ... غبطة حي إلى الممات يصير
وفيه يقول الأسود بن يعفر:
ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد
أهل الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد
نزلوا بأنقرة تسيل عليهمو ... ماء الفرات يجيء من أطواد
أرض تخيرها لطيب مقيلها ... كعب بن مامة وابن أم دواد(1/148)
جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد
فأرى النعيم وكل ما يلهى به ... يوماً يصير إلى بلى ونفاد
* أخبرني أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الفقيه بالمغرب لفظاً بالإسناد-:
أخبرنا عبد الله بن ربيع التميمي أبو محمد. قال:
حدثنا أبو علي إسماعيل بن القاسم قال:
حدثنا أبو بكر قال:
أخبرنا الحسن بن خضر.
عن حماد بن إسحاق الموصلي. قال:
سمعت أبي يقول:
قال رجل من العجم لملك من ملوكهم كان في دهره:
أوصيك بأربع خلال ترضي بهن ربك وتصلح بهن رعيتك:
لا يغرنك ارتقاء السبل إذا كان المنحدر وعراً، ولا تعدن عدة ليس في يديك وفاؤها، واعلم أن لله تعالى نقمات فكن على حذر، واعلم أن للأعمال جزاء فاتق العواقب.(1/149)
* ويروى أن رجلاً قال مثل هذا لهشام بن عبد الملك كما أخبرنا أبو القاسم الغساني المصري بها قراءة عليه. قال:
أخبرنا أبي. قال:
حدثنا أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري. قال:
حدثنا محمد بن الحارث.
عن المدائني قال:
قال صالح بن كيسان.
خرج علينا الزهري من عند هشام بن عبد الملك فقال:
لقد تكلم اليوم رجل عند أمير المؤمنين كلاماً ما سمعت كلاماً أحسن منه.
قال له: يا أمير المؤمنين: اسمع مني أربع كلمات فيهن صلاح دينك وملكك وآخرتك ودنياك.
قال: ما هن؟
قال: لا تعدن أحداً عدة وأنت لا تريد إنجازها، ولا يغرنك مرتقى سهل إذا كان المنحدر وعراً، واعلم أن للأعمال جزاء فاحذر العواقب، وأن للدهر ثارات فكن على حذر.
* أخبرنا عبد العزيز بن الحسن -قراءة عليه بمصر- قال:
أخبرنا أبي قال:
حدثنا أبو بكر الدينوري. قال:(1/150)
حدثنا الحارث بن أبي أسامة. قال:
حدثنا معاوية بن عمرو. قال:
حدثنا أبو بكر العجلي. قال:
حدثنا أبو عقيل الدروقي.
عن بكر بن عبد الله المزني قال:
كان رجل من ملوك بني إسرائيل قد أعطي طول عمر وكثرة مال وكثرة أولاد.
فكان أولاده إذا كبر أحدهم لبس ثياب الشعر ولحق بالجبال وأكل من الشجر وساح في الأرض حتى يأتيه الموت ففعل ذلك جماعتهم رجل فرجل حتى تتابع بنوه على ذلك فأصاب ولداً بعد ما كبر فدعا قومه فقال:
إني قد أصبت ولداً بعد ما كبرت وترون شفقتي عليكم وإني أخاف أن هذا سيتبع سنة إخوته، وأنا أخاف عليكم إن لم يكن عليكم أحد من ولدي بعدي أن تهلكوا فخذوا له الآن في صغره فحببوا إليه الدنيا فعسى أن يبقى بعدي عليكم.
فبنوا حائطاً فرسخا في فرسخ فكان فيه دهراً في لهوه ثم ركب يوماً(1/151)
فإذا عليه حائط مصمت فقال: إني أحسب خلف هذا الحائط ناساً وعالماً.
أخرجوني أزدد علماً وألقى الناس.
فقيل ذلك لأبيه، ففزع، وخشي أن يتبع سنة إخوته.
فقال: اجمعوا عليه كل لهو ولعب ففعلوا ذلك به، ثم ركب في السنة الثانية فقال: لا بد من الخروج.
فأخبر بذلك الشيخ، فقال: أخرجوه فحمل على عجلة وكلل بالزبرجد والذهب وصار حوله حافتان من الناس فبينا هو يسير إذا هو برجل مبتلى فقال:
ما هذا؟.
قالوا: رجل مبتلى.
فقال: أيصيب ناساً دون ناس؟ أو كل خائف له؟
فقالوا: كل خائف له.
قال: وأنا فيما أنا فيه من السلطان؟!
قالوا: نعم.
قال: أف لعيشكم هذا عيش كدر!
فرجع مغموماً محزوناً.
فقيل لأبيه، فقال:
انشروا عليه كل لهو وباطل حتى تنزعوا من قلبه هذا الحزن والغم.
ولبث حولاً كاملاً، ثم قال:(1/152)
أخرجوني -على مثل حاله الأولى- فبينما هو يسر إذا هو برجل هرم قد أصابه الهرم ولعابه يسيل من فمه.
فقال: ما هذا؟
فقالوا: هذا رجل به هرم.
قال: يصيب ناساً دون ناس؟ أو كل خائف له إن هو عمر؟
قالوا: كل خائف له.
قال: أف لعيشكم. هذا عيش لا يصفوا لأحد.
فأخبر بذلك أبوه، فقال:
احشروا عليه من كل لهو وباطل.
فحشروا عليه، فمكث حولاً ثم ركب على مثل حاله فبينما هو يسير إذا هو بسرير تحمله الرجال على عواتقها.
فقال: ما هذا؟
قالوا: رجل مات.
قال لهم: وما الموت؟
ائتوني به، فأتوه، فقال:
أجلسوه؟.
فقالوا: إنه لا يجلس.
قال: كلموه؟
قالوا: إنه لا يتكلم.
قال: فأين تذهبون به؟
قالوا: ندفنه تحت الثرى.(1/153)
قال: فيكون ماذا بعد هذا؟
قالوا: الحشر.
قال لهم: ما الحشر؟
قالوا: يوم يقوم الناس لرب العامين فيجزي كل واحد على قدر سيئاته وحسناته.
قال: ولكم دار غير هذه تجازون فيها؟
قالوا: نعم.
فرمى بنفسه من الفرس وجعل يعفر وجهه في التراب، وقال لهم:
من هذا كنت أخشى!
كاد هذا أن يأتي علي ولا أعلم به!
أما ورب يعطي ويحشر ويجازي:
إن هذا آخر الدهر بيني وبينكم، فلا سبيل لكم علي بعد هذا اليوم.
فقالوا: لا ندعك حتى نردك إلى أبيك.
قال: فردوه إلى أبيه وكان ينزف دمه.
فقال له: يا بني: ما هذا الجزع؟
قال: جزعي ليوم يعطى فيه الصغير والكبير مجازاتهما على ما عملا من الخير والشر.
فدعا بثياب شعر فلبسها، وقال:
إني عازم الليل أن أخرج.
فلما كان نصف الليل أو قريب منه خرج، فلما أن خرج من باب القصر قال:(1/154)
اللهم إني أسألك أمراً ليس لي منه قليل ولا كثير قد سبقت به المقادير الأولى:
لوددت أن الماء كان في الماء وأن الطين كان في الطين ولم أنظر بعيني إلى الدنيا نظرة واحدة.
قال بكر بن عبد الله: هذا رجل حرج من ذنب لا يعمل ما كان عليه فيه فكيف بمن يذنب وهو يعلم بما عليه فلا يحرج ولا يجزع ولا يتوب.
* أخبرنا أبو القاسم بن الضراب -بالفسطاط قراءة عليه-:
أخبرنا أبو محمد الحسن بن إسماعيل الغساني:
أخبرنا أحمد بن مروان المالكي القاضي. قال:
حدثنا أحمد بن داود:
أخبرنا محمد بن الحارث:
عن المدائني. قال:
نزل النعمان بن المنذر ومعه عدي بن زيد الشاعر في ظل شجرة [عظيمة ليلهو] فقال له عدي بن زيد:
أتدري ما تقول هذه الشجرة؟(1/155)
قال: لا.
قال: تقول:
رب قوم قد أناخوا عندنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
ثم أضحوا لعب الدهر بهم ... وكذاك الدهر حالاً بعد حال
* أخبرني أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الفقيه -بالمغرب لفظاً بالإسناد-:
أخبرني أبو محمد عبد الله بن ربيع القاضي. قال:
حدثنا أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي. قال:
حدثنا أبو بكر. قال:
حدثنا عمي: عن أبيه:
عن ابن الكلبي: عن أبيه. قال:
نشأ لسلامة ذي فائش ابن كأجل أبناء المقاول وكان أبوه به مسروراً يرشحه لموضعه.
فركب يوماً فرساً صعباً فكبا به فوقصه فجزع عليه أبوه جزعاً شديداً وامتنع من الطعام واحتجب عن الناس فاجتمعت وفود العرب ببابه ليعزوه فلامه نصحاؤه في إفراط جزعه، فخرج إلى الناس فقام خطباؤهم يؤسونه(1/156)
وكان في القوم الملبب بن عوف بن سلمة بن عمرو بن سلمة الجعفي وجعادة بن الحارث وهو جد الجراح بن عبد الله الحكمي صاحب خراسان.
فقام الملبب، فقال:
أيها الملك: إن الدنيا تجود لتسلب وتعطي لتأخذ وتجمع لتشتت وتحلي لتمر وتزرع الأحزان في القلوب بما تفجأ به من استرداد الموهوب.
وكل مصيبة تخطيك جلل ما لم تدن الأجل وتقطع الأمل.
وإن حادثاً ألم بك فاستبد بأقلك وصح عن أكثرك لمن أجل النعم عليك وقد تناهت إليك أنباء من قد رزئ فصبر وأصيب فاغتفر إذ كان شوى فيما يرتقب ويحذر فاستشعر اليأس مما فات إذا كان ارتجاعه ممتنعاً ومرامه مستصعباً فلشيء ما ضربت الأسى وفزع أولو الألباب إلى حسن العزاء.
وقام جعادة فقال:
أيها الملك لا تشعر قلبك الجزع على ما فات، فيغفل ذهنك عن الاستعداد لما هو آت، وناضل عوارض الحزن بالأنفة عن مضاهاة أفعال أهل وهن العقول، فإن العزاء لحزماء الرجال والجزع لربات الحجال!
ولو كان الجزع يرد فائتاً أو يحيي تالفاً: لكان فعلاً ذميماً!
فكيف به وهو مجانب لأخلاق ذوي الألباب فارغب بنفسك أيها الملك عن ما يتهافت فيه الأذلون وصن قدرك عما يركبه المخسوسون وكن على ثقة من أن طمعك فيما استبدت به الأيام ضلة كأحلام النيام.(1/157)
قال أبوعلي:
المقاول، والأقيال: من الملوك دون العظماء.
ووقصت: كسرت.
ويؤسونه: يعزونه. وأصله أن يقال لك: أسوة بفلان وفلان.
والجلل: الصغير، والجلل: الكبير، وهو من الأضداد.
والبدة: النصيب.
واستبد به: أي جعله نصيبه.
والشوى: الهين واليسير، والشوى -أيضاً: رذال المال.
والمناضلة: المراماة.
والمضاهاة: المشاكلة.
والتهافت: التتابع.
* أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن الحسن المصري -بها قراءة عليه – قال:
أخبرنا أبي. قال:
أخبرنا القاضي أبو بكر الدينوري. قال:
حدثنا علي بن الحسن الربعي. قال:
حدثنا محمد بن عبد الرحمن القرشي:
عن أبيه. قال:
كتب بعض الحكماء إلى ملك من الملوك:
إن أحق الناس بذم الدنيا وقلاها من بسط له فيها وأعطي حاجته(1/158)
منها، لأنه يتوقع آفة تغدو على ماله فتجتاحه أو على جمعه فتفرقه أو تأتي سلطانه من القواعد فتهدمه أو تدب إلى جسمه فتسقمه أو تفجعه بمن هو ضنين به من أحبابه وأهل مودته.
فالدنيا أحق بالذم هي الآخذة ما تعطي الراجعة فيما تهب.
بينما هي تضحك صاحبها إذا أضحكت منه غيره!
وبينما هي تبكي له إذ بكت عليه!
وبينما هي تبسط كفه بالإعطاء إذ بسطتها بالمسألة.
تعقد التاج على رأس صاحبها اليوم وتعفره بالتراب غداً.
سواء عليها ذهاب ما ذهب وبقاء ما بقي.
تجد في الباقي من الذاهب خلفاً، وترضى من كل بدلاً، فأصبحت كالعروس المجلوة: فالعين إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة والنفوس لها عاشقة.
وهي لأرواحهم قاتلة فلا الباقي بالماضي معتبر ولا الآخر بما أصاب الأول منزجر ولا العارف بالله -حين أخبره عنها- مدكر.
فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسي المعاد فشغل فيها لبه حتى زلت به عنها قدمه وعظمت ندامته وكثرت حسراته واجتمعت سكرات الموت إلى حسرات الفوت بغصته فذهب بكمده ولم يدرك منها ما طلب ولم يرح نفسه من التعب فخرج بغير زاد وقدم على غير مهاد.
* أخبرني أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الفقيه بالمغرب -لفظاً بالإسناد، وكتب لي بخطه- قال:(1/159)
أخبرنا القاضي أبو محمد بن عبد الله بن الربيع التميمي. قال:
أخبرنا أبو علي إسماعيل بن القاسم اللغوي -بقرطبة من أراضي الأندلس- قال:
حدثنا أبو بكر بن دريد -بأكناف العراق- قال:
حدثنا أبو حاتم: عن أبي عبيدة.
وقال أبو بكر: وحدثنا السكن بن سعيد -أيضاً-:
عن محمد بن عباد:
عن ابن الكلبي -ولفظهما متفقان غير أن أبا عبيدة قال:
مات لبعض ملوك اليمن ابن.
وقال ابن الكلبي: مات أخ لذي رعين فعزاه بعض أهل اليمن فقال:
إن الخلق للخالق والشكر للمنعم الرازق والتسليم للقادر ولا بد مما هو كائن وقد حل ما لا يدفع ولا سبيل إلى رجوع ما قد فات.
وقد أقام معك ما سيذهب عنك أو ستتركه لغيرك فما الجزع مما لا بد منه وما الطمع فيما لا يرجى وما الحيلة فيما سينقل عنك أو تنقل عنه.
وقد مضت لنا أصول نحن فروعها فما بقاء الفرع بعد الأصل.
وأفضل الأشياء عند المصائب الصبر وإنما أهل الدنيا سفر لا يحلون عن الركاب إلا في غيرها.
فما أحسن الشكر عند النعم والتسليم عند الغير فاعتبر بمن رأيت من أهل الجزع.(1/160)
هل رد أحد؟.
واعلم أن أعظم المصيبة سوء الخلف منها، فأفق فالمرجع قرب.
واعلم أنما ابتلاك المنعم وأخذ منك المعطي وما ترك أكثر.
فإن نسيت الصبر فلا تغفل عن الشكر.
* وأخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن الحسن الضراب. قال:
حدثنا أبي:
أخبرنا أبو بكر الدينوري القاضي:
حدثنا عبد الرحمن بن محمد الحنفي وابن قتيبة. قالا:
سمعنا الزبادي يقول:
قال موبذ (موبذان لكسرى) :
لا ينبغي للملك أن يغضب، لأن القدرة من وراء حاجته ولا يكذب لأنه لا يقدر أحد على استكراهه على غير ما يريد ولا يبخل فإنه لا يخاف الفقر ولا يحقد لأن خطره قد جل عن المجازاة، ولا يجهل لأنه لا يكون ذنب أرزن من حلمه.
* وأخبرنا عبد العزيز بن الحسن:
أخبرنا أبي. قال:
حدثنا أبو بكر أحمد بن مروان. قال:
حدثنا محمد بن عبد العزيز. قال:(1/161)
حدثنا ابن عائشة. قال:
قال بزرجمهر الحكيم لبعض ملوك الفرس:
إياك وغرة الغضب فإنها مصيرتك إلى ذل الاعتذار.
* قرئ على أبي الحسن أحمد بن عبد الواحد بن محمد بن أحمد السلمي بدمشق وأنا أسمع:
أخبرنا جدكم أبو بكر محمد بن أحمد بن الوليد بن عثمان فأقر به. قال:
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن ربيعة قال:
حدثنا محمد بن عبد السلام البصري. قال:
حدثنا نصر بن علي. قال:
حدثنا عبد الملك بن قريب الأصمعي:
حدثنا حاجب بن نصر العدوي:
أن رجلاً كان ينادي على بعض أبواب الملوك: من يشتري مني ثلاث كلمات باثني عشر ألف درهم!.
فكان من يسمعه يعجب منه حتى بلغ ملكاً منهم خبره فدعا به وسأل عن الكلمات فقال: أحضر المال.
فأحضره، فقال:(1/162)
أما الكلمة الأولى: فينبغي أن تعلم أنه ليس في صحبة الناس خير.
والثانية: ينبغي أن تعلم أنه لا بد منهم.
والثالثة: ينبغي أن يعاملوا على قدر ذلك.
فقال له الملك: قد أحسنت، فخذ المال.
قال: لا حاجة لي فيه، إنما أردت أن أعلم هل بقي أحد يطلب الحكمة.
* وفيما روينا من طريق أبي بكر أحمد بن محمد بن عيسى -وأخبرنا به غير واحد من المشايخ-:
عن محمد بن عمران،:
عن أبي بكر بن عيسى. قال:
حدثنا محمد بن القاسم البصري. قال:
قال معاوية بن أبي سفيان لعامر بن عبد القيس -وكان من كبار الزهاد وقد وعظه وأسرف-:
رضيت لنفسك نزراً أرق من القليل.
قال: بل أنت رضيت لنفسك بالقليل الفاني عن الكثير الباقي.
فقال له معاوية: أما لي عليك حق؟.
قال: حقك أن أنهاك عن الخطأ وآمرك بالصواب.(1/163)
* أخبرنا أبو القاسم بن الضراب المصري -قراءة عليه بها- قال:
أخبرنا أبي أبو محمد الحسن بن إسماعيل بن محمد:
أخبرنا أبو بكر أحمد بن مروان المالكي القاضي. قال:
حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي. قال:
حدثنا الرياشي. قال:
سمعت الأصمعي يقول:
دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك بن مروان -وهو جالس على سريره وحواليه الأشراف من كل بطن وذلك بمكة في وقت حجة في خلافته- فلما بصر به قام إليه وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه وقال:
يا أبا محمد: ما حاجتك؟
قال: يا أمير المؤمنين: اتق الله في حرم الله وحرم رسوله فتعاهده بالعمارة.
واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار فإنك بهم جلست هذا المجلس.
واتق الله في أهل الثغور فإنهم حصن للمسلمين وتفقد أمور المسلمين فإنك وحدك المسئول عنهم.
واتق الله في من على بابك فلا تغفل ولا تغلق بابك دونهم.
فقال له: أفعل.
ثم نهض وقام فقبض عليه عبد الملك فقال له:(1/164)
يا أبا محمد: إنما سألتنا حوائج غيرك وقد قضيناها فما حاجتك ؟.
فقال: ما لي إلى مخلوق حاجة.
ثم خرج، فقال عبد الملك:
هذا وأبيك الشرف هذا وأبيك السؤدد.
* أخبرنا عبد العزيز بن الحسن الغساني -قراءة عليه- قال:
أخبرنا أبي. قال:
أخبرنا أحمد بن مروان. قال:
حدثنا أبو غسان عبد الله بن محمد:
أخبرنا أبو سلمة يحيي بن المغيرة المخزومي -بمكة في دار زبيدة- قال:
حدثنا عبد الجبار بن عبد العزيز بن أبي حازم. قال:
حدثني أبي:
عن أبيه أبي حازم. قال:
دخل سليمان بن عبد الملك المدينة فأقام بها ثلاثاً فقال:
ما ها هنا أحد ممن أدرك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يحدثنا؟.
فقيل له: بلى ها هنا رجل يقال له أبو حازم.
فبعث إليه فجاءه.
فقال له سليمان: يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟.
قال له أبو حازم:(1/165)
وأي جفاء رأيت مني؟.
فقال له سليمان: أتاني وجوه أهل المدينة كلهم ولم تأتني.
فقال له: أعيذك بالله أن تقول ما لم يكن، ما جرى بيني وبينك معرفة آتيك عليها.
فقال سليمان: صدق الشيخ.
قال سليمان: يا أبا حازم: ما لنا نكره الموت؟.
قال: لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم فأنتم تكرهون أن تنقلوا من العمران إلى الخراب.
قال: صدقت يا أبا حازم، فكيف القدوم؟.
قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه!.
قال: فبكى سليمان، وقال: ليت شعري ما لنا عند الله يا أبا حازم؟.
فقال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله عز وجل تعلم ما لك عند الله.
فقال: يا أبا حازم: أين نصيب تلك المعرفة من كتاب الله؟
فقال أبو حازم: عند قوله عز وجل:
{إن الأبرار لفي نعيم. وإن الفجار لفي جحيم}.(1/166)
فقال سليمان: يا أبا حازم: فأين رحمة الله؟.
قال: قريب من المحسنين.
قال: يا أبا حازم: من أعقل الناس؟
قال أبو حازم: من تعلم الحكمة وعلمها الناس.
فقال سليمان: فمن أحمق الناس؟.
قال أبو حازم: من خطا في هوى رجل هو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره.
فقال سليمان: يا أبا حازم: ما أسمع الدعاء؟.
قال: دعاء المخبتين إليه.
قال سليمان: يا أبا حازم: فما أزكى الصدقة؟.
فقال أبو حازم: جهد المقل.
فقال سليمان: ما تقول فيما نحن فيه؟.
فقال أبو حازم: أعفنا من هذا.
قال سليمان: نصيحة بلغتها.
قال أبو حازم: إن ناساً أخذوا هذا الأمر من غير مشاورة من المؤمنين ولا إجماع من رأيهم فسفكوا فيه الدماء على طلب الدنيا ثم ارتحلوا عنها فليت شعري ما قالوا وما قيل لهم؟.(1/167)
فقال بعض جلسائه: بئس ما قلت يا شيخ.
فقال أبو حازم: كذبت إن الله تعالى أخذ على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه.
فقال سليمان: يا أبا حازم: كيف لنا أن نصلح؟.
قال أبو حازم: تدعوا التكلف وتتمسكوا بالمروءة.
فقال سليمان: يا أبا حازم: كيف المأخذ لذلك؟.
قال أبو حازم: تأخذه من حقه وتضعه في أهله.
فقال سليمان: أصبحنا يا أبا حازم تصيب منا ونصيب منك.
قال أبو حازم: أعوذ بالله من ذلك.
قال سليمان: ولم؟.
قال: أخاف أن أركن إليك شيئاً قليلاً فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات.
فقال سليمان: فأشر علي يا أبا حازم؟.
فقال أبو حازم: اتق الله أن يراك حيث نهاك وأن يفقدك من حيث أمرك.
قال سليمان: يا أبا حازم: ادع لنا بخير.
فقال أبو حازم:(1/168)
اللهم إن كان سليمان وليك فبشره بخير الدنيا والآخرة وإن كان عدوك فخذ إلى الخير بناصيته.
قال له سليمان: عظني.
قال: قد أوجبت إن كنت وليه وإن كنت عدوه فما ينفعك أن أرمي بقوس بغير وتر.
فقال: يا غلام: إئت بمئة دينار.
ثم قال: خذ يا أبا حازم.
فقال أبو حازم: لا حاجة لي فيها إني أخاف أن يكون أجراً لما سمعت من كلامي.
إن موسى (عليه السلام) لما هرب من فرعون وورد ماء مدين وجد عليه جاريتين تذودان.
فقال: ما لكما عون؟.
قالتا: لا.
ثم تولى إلى الظل فقال: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير.
ولم يسأل الله أجراً على دينه.
فلما أعجل بالجاريتين الانصراف أنكر ذلك أبوهما فقال:
ما أعجلكما اليوم؟!
قالتا: وجدنا رجلاً صالحاً فسقى لنا.
قال: فما سمعتماه يقول؟.(1/169)
قالتا: سمعناه يقول: رب إني لما أنزلت من خير فقير.
قال: ينبغي أن يكون هذا جائعاً.
تنطلق إليه إحداكما فتقول:
إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا.
قال: فجزع موسى-عليه السلام- من ذلك وكان طريداً في فيافي الصحراء.
فأقبل والجارية أمامه فهبت الريح فوصفتها له وكانت ذات خلق، فقال لها:
كوني خلفي وأريني السمت.
فلما بلغ الباب ودخل إذا الطعام موضوع.
فقال له شعيب عليه السلام: صب يافتى في هذا الطعام؟.
قال موسى عليه السلام: أعوذ بالله.
قال شعيب: ولم؟.
قال موسى: لأننا من أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهباً.
قال شعيب: لا والله ولكنها عادتي وعادة آبائي نطعم الطعام ونقري الضيف. فجلس موسى فأكل.
فإن كانت هذه الدنانير عوضاً لما سمعت من كلامي فالآن أرى أكل(1/170)
الميتة في حال الضرورة أحب إلي من أخذها.
فكأن سليمان أعجب بأبي حازم، فقال بعض جلسائه:
يا أمير المؤمنين: أبشرك أن الناس كلهم مثله.
قال الزهري: إنه لجاري منذ ثلاثين سنة ما كلمته بكلمة قط.
فقال له أبو حازم: صدقت إنك نسيت الله فنسيتني ولو أحببت الله لأحببتني.
قال الزهري: أتشتمني؟
فقال: بل أنت شتمت نفسك: أما علمت أن للجار على جاره حقاً.
فقال أبو حازم: إن بني إسرائيل لما كانوا على الصواب كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء فكانت العلماء تفر بدينها من الأمراء فاستغنت الأمراء عن العلماء واجتمع القوم على المعصية فسقطوا وانتكسوا.
ولو كان علماؤنا هؤلاء يصونون علمهم لم تزل الأمراء تهابهم.
قال الزهري: كأنك إياي تريد وبي تعرض؟
قال: هو ما تسمع.
وقدم هشام المدينة مرة أخرى، فأرسل إلى أبي حازم فقال له: يا أبا حازم: عظني وأوجز.(1/171)
قال أبو حازم: اتق الله وازهد في الدنيا فإن حلالها حساب وحرامها عقاب.
قال: لقد أوجزت يا أبا حازم.
فقال له: يا أبا حازم ارفع حوائجك إلى أمير المؤمنين.
قال أبو حازم: هيهات قد رفعت حوائجي إلى من لا تختزل الحوائج دونه فما أعطاني منها قنعت، وما منعني منها رضيت.
وقد نظرت في هذا الأمر فإذا هو على قسمين: أحدهما لي، والآخر لغيري.
فأما ما كان لي فلو احتلت فيه بكل حيلة ما وصلت إليه قبل أوانه الذي قدر لي فيه، وأما الذي لغيري فذلك الذي لا أطمع نفسي فيه فيما مضى، ولن أطمعها فيما بقي.
وكما منع غيري رزقي كذلك منعت رزق غيري، فعلام أقتل نفسي.
وفي رواية أخرى أن سليمان بن عبد الملك لما قدم المدينة للزيارة بعث إلى أبي حازم الأعرج وعنده ابن شهاب. فلما دخل عليه قال: تكلم يا أبا حازم؟
قال: فيما أتكلم يا أمير المؤمنين؟
قال: في المخرج من هذا الأمر؟
قال: يسير إن أنت عقلته!(1/172)
قال: وما ذاك؟
قال: لا تأخذ الأموال إلا بحلها، ولا تضعها إلا في أهلها.
قال: ومن يقوى على ذلك؟
قال: من قلده الله من أمر الرعية ما قلدك.
قال: عظني يا أبا حازم؟
قال: إن هذا الأمر لم يصل إليك إلا بموت من كان قبلك وهو خارج عن يدك مثل ما صار إليك.
قال: يا أبا حازم: أشر علي؟
قال: إنما أنت سوق فما نفق عندك حمل إليك من خير أو شر، فاختر لنفسك أيهما شئت.
قال: فما لك لا تأتينا يا أبا حازم؟
قال: وما أصنع بإتيانك يا أمير المؤمنين؟
إن أدنيتني فتنتني، وإن أقصيتني أحزنتني، وليس عندي ما أخافك عليه، ولا عندك ما أرجوك له؟!
قال: فارفع حوائجك إلينا؟
قال: قد رفعتها إلى من هو أقدر عليها منك، فما أعطاني منها قبلت وما منعني منها رضيت.
* وقرأت على أبي الحسين أحمد بن محمد بن أحمد السمار:
أخبركم محمد بن العباس:
حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن السكري:(1/173)
حدثنا زكريا بن يحيى حدثنا العتبي قال:
دخل أعرابي على سليمان بن عبد الملك فقال له: يا أمير المؤمنين:
إني مكلمك بكلام فاحتمله إن كرهته، فإن من ورائه ما تحب وإن كرهت أوله.
فقال سليمان: إنا لنجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصيحته، ولا نأمن غشه، وأنت الناصح جيباً، والمأمون غيباً.
قال: يا أمير المؤمنين: أما إذ أمنت بادرة غضبك فإني أقول تأدية لحق الله وحق رعيتك:
يا أمير المؤمنين: إنه قد تكنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم فابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، فهم حرب الآخرة سلم الدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، فإنهم لا يألون الأمانة تضييعاً والأمة عسفاً، وأنت مسئول عما اجترحوا وليسوا المسؤولين عما اجترحت، ولا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس جرماً من باع آخرته بدنيا غيره.
فقال سليمان: يا أعرابي: أما أنت فقد سللت لسانك فهو أقطع من سيفك!
فقال: أجل يا أمير المؤمنين: لك لا عليك!
* قرأت على أبي القاسم منصور بن النعمان بن منصور الصيمري في منزله بالفسطاط: أخبرك أبو مسلم محمد بن أحمد بن علي الكاتب قال:(1/174)
حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد:
أخبرنا أبو حاتم: حدثنا العتبي: عن أبيه. قال:
لما ولي عمر بن عبد العزيز فزع إلى ثلاثة: رجاء بن حيوية، وإلى محمد بن كعب وإلى سالم بن عبد الله بن عمر، فقال: يا إخوتي: هذا يوم حاجتي إليكم فعظوني؟
فقال محمد بن كعب: يا عمر إن [فيك] جرأة وجبنا وإن فيك غفلة وكيسا فداو ما فيك بعضه ببعض، وعليك بذي الدين والعقل يعنك على نفسك ويكفك نفسه، وإياك ومن مودته على قدر حاجته إليك، فإنه إذا ذهبت حاجته انقطعت مودته، وإذا اصطنعت صنيعة فأحسن رعايتها وهب الدنيا يوماً صمته كان إفطارك فيه الآخرة.
وقال سالم بن عبد الله: يا أمير المؤمنين: إرض للناس ما ترضى لنفسك واكره لهم ما تكره لها تسلم منهم ويسلموا منك.
وقال رجاء بن حيوية: اترك كبير الناس أباً، وصغيرهم ولداً، وكهلهم أخاً، يصلحوا لك، وتصلح لهم.
* قرئ على أبي محمد عبد الله بن أحمد الرجل الصالح وأنا أسمع: أخبركم أبو الحسن أحمد بن محمد القرشي سنة اثنتين وأربع مئة: حدثنا أبو عمر حمزة بن القاسم الهاشمي:
حدثنا حنبل بن إسحاق بن حنبل:
حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس. قال: قال سفيان بن عيينة: دخل(1/175)
إبراهيم بن أدهم على عمر بن عبد العزيز، فقال له: أطريك؟
فقال: لا.
قال: أفأعظك؟
قال: نعم.
قال: فافتح الباب، وأدخل الناس.
فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
إن الله تبارك وتعالى خلق الخلائق غنياً عنهم وعن طاعتهم، أمناً لمعصيتهم أن تنقصه.
قال: فالناس يومئذ في الحالات والمنازل مختلفون فالعرب منهم من باشر تلك الحال أهل الوبر والشعر وأهل الحجر لا يتلون كتاباً ولا يصلون جماعة ميتهم في النار وحيهم أعمى بشر حال مع الذي لا يحصى من عيشهم المزهود فيه والمرغوب عنه.
فلما أراد الله أن ينشر فيهم حكمته بعث فيهم رسولاً من أنفسهم عزيزاً عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم.
فبلغ محمد رسالة ربه ونصح لأمته وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
ثم ولي أبو بكر من بعده فارتدت العرب أو من ارتد منها فحرصوا أن يقيموا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة، فأبى أبو بكر أن يقبل منهم إلا ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قابلاً منهم لو كان حياً فلم يزل يخرق أوصالهم ويسقي الأرض من دمائهم حتى أدخلهم من الباب الذي خرجوا منه، وقررهم على الأمر الذي نفروا عنه وأوقد في الحرب شعلها وحمل أهل الحق(1/176)
على رقاب أهل الباطل ثم حضرته الوفاة وقد أصاب من فيء المسلمين شاة لقوحاً كانت ترضع ابناً له فلم يزل ذلك غصة في حلقه وثقلاً على كاهله حتى خرج منه إلى أن ولي الأمر من بعده عمر رضي الله عنه.
ثم ولي عمر فحسر عن ذراعيه، وشمر عن ساقيه، وأعد للأمور أقرانها فراضها فأذل صعابها ولم يزل الأمر فيها إلى يسر ثم حضرته الوفاة وقد أصاب من فيء المسلمين شيئاً فلم يرض في ذلك بكفالة من أحد من ولده حتى يلقى في ذلك ربه وضم ذلك إلى بيت مال المسلمين.
وأيم الله ما اجتمعنا من بعدهما إلا على ضلع.
قال: ثم أقبل على عمر بن عبد العزيز فقال:
وأنت يا عمر: بني الدنيا غذتك بأطيبها وألقمتك ثديها تطلبها مظانها تعادي فيها وترضى لها حتى إذا أفضت إليك بأركانها من غير طلب منك لها ولا مشير حاباك بها رفضتها ورميت بها حيث رمى الله بها، فامض -رحمك الله- ولا تلتفت فالحمد لله الذي فرج بك كربنا، ونفس بك غمنا، فإنه لا يذل مع الحق حقير، ولا يكثر مع الباطل عزيز.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
* قرأت على أبي الغنائم محمد بن علي القاضي: عن أبي الفرج الجريري: حدثنا محمد بن الحسين: حدثنا حماد بن الوليد الحنظلي. قال: سمعت عمر بن ذر يذكر أنه بلغه ميمون بن مهران أنه قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً وعنده سابق البربري الشاعر وهو ينشد شعراً(1/177)
في وعظه فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات:
فكم من صحيح بات للموت آمناً ... أتته المنايا بغتة بعد ما هجع
فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة ... فراراً ولا منه بحيلته امتنع
فأصبح تبكيه النساء مقنعاً ... ولا يسمع الداعي ولا صوته رفع
وقرب من لحد فصار مقيله ... وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع
فلا يترك الموت الغني لماله ... ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع
فلم يزل عمر يبكي ويضطرب حتى غشي عليه.
فال: فقمنا فانصرفنا عنه.
* وقرأت هذه الأبيات بالفسطاط على أبي القاسم عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل المصري: أخبرنا أبي:
أخبرنا أحمد بن مروان المالكي. قال أنشدنا إسماعيل بن إسحاق. قال أنشدني أبو زيد النميري لسابق وذكر الأبيات.
* أخبرنا أبو محمد علي بن أحمد الفقيه الحافظ بالمغرب: أخبرنا عبد الله ابن ربيع قال: حدثنا إسماعيل بن القاسم حدثنا أبو بكر بن دريد حدثنا أبو عثمان السكري عن أبي عبيدة قال:(1/178)
بلغني أن محمد بن كعب القرظي قال لعمر بن عبد العزيز لا تتخذن وزيراً إلا عالماً ولا أميناً إلا بالجميل معروفاً وبالمعروف موصوفاً، فإنهم شركاؤك في أمانتك وأعوانك على أمورك فإن صلحوا أصلحوا وأن فسدوا أفسدوا.
* قرئ على أبي محمد عبد الله بن أحمد الزاهد وأنا أسمع: أخبر كمال الدين محمد المخرمي: حدثنا حمزة بن القاسم الهاشمي: حدثنا حنبل بن إسحاق:
حدثنا محمد بن جعفر الوركاني:
حدثنا معمر بن سليمان الرقي عن فرات بن سلمان:
أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى سالم بن عبد الله:
سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو: أما بعد فإن الله عز وجل ابتلاني بما ابتلاني به من أمر هذه الأمة من غير مشورة مني فيها ولا طلب مني لها إلا قدر من الرحمن تعالى قدره علي.
فأسأل الذي ابتلاني بما ابتلاني به أن يعينني على ما ولاني من أمر عباده وبلاده وأن يرزقني فيهم العمل بطاعته وأن يرزقهم مني الرأفة والرحمة وأن يرزقني منهم السمع والطاعة وحسن المؤازرة.
فإذا جاءك كتابي هذا فابعث إلي بكتب عمر رضي الله عنه وسيرته وقضائه في أهل القبلة وأهل الذمة، فإني سائر بسيرته ومتبع أثره إن الله أعانني على ذلك إن شاء الله والسلام.
قال فكتب إليه سالم بن عبد الله:(1/179)
من سالم بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز:
سلام عليك، فأنني أحمد إليك الله لا إله إلا هو:
أما بعد: فإن الله عز وجل وتقدست أسماؤه لا يقدر أحد قدره سبحانه وتعالى عما يشركون خلق الدنيا كما أراد فجعل لها مدة قصيرة كأن ما بين أولها وآخرها ساعة من نهار ثم قضى عليها وعلى أهلها الفناء فقال: { كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون}.
ولا يقدر أهلها منها على شيء حتى تفارقهم ويفارقوها.
أنزل بذلك كتاباً وبعث به نبيه صلى الله عليه وسلم وقدم في ذلك بالوعيد، ووصل فيه القول، وضرب فيه الأمثال، وشرع دينه فيه وأحل فيه الحلال، وحرم فيه الحرام، وقص فأحسن فيه القصص، وجعل دينه في الأولين والآخرين ديناً واحداً ولم يبدل قوله ولم يغير قضاؤه ولم يختلف رسله ولم يسبق أحد من أمره بشيء سعد به أحد ولم يسعد أحد من أمره بشيء شقي به أحد.
ثم إنك يا عمر بن عبد العزيز ليس تعدو أن تكون رجلاً من بني آدم يكفيك من الطعام والشراب ما يكفي رجلاً منهم.
اجعل فضل ذلك فيما بينك وبين الرب عز وجل الذي ترجوه شكر النعمة، ثم إنك قد وليت اليوم أمراً عظيماً ليس يليه غيرك دون الله عز وجل أحد فإن استعطت أن تغبن من كان قبلك ولا تخسر نفسك وأهلك يوم القيامة فافعل ولا قوة إلا بالله فإنه قد كان قبلك فيما مضى رجال عملوا ما عملوا وأماتوا ما أماتوا وأحيوا ما أحيوا حتى ولد في ذلك رجال ونشؤوا وظنوا أنها هي السنة فلم يسدوا على العباد باب الرخاء إلا فتح الله باب بلاء، فإن استطعت أن تفتح عليهم أبواب الرخاء فافعل فإنك لن تفتح منها باباً إلا سد به عنك باب بلاء ولا يمنعك من نزع عامل أن تقول(1/180)
لا أجد من يكفيني عمله فإنك [إن] كنت تعمل لله وتفزع لله أتاح الله لك أعواناً وأتى بهم.
وإنما قدر العون بقدر النية فمن تمت نيته تم عون الله إياه ومن قصر من النية قصر من العون بقدر ذلك فإن استطعت أن تجيء يوم القيامة لا يتبعك أحد بمظلمة ويجيء من قبلك وهم غابطون لك بقلة أتباعك فافعل ولا قوة إلا بالله، فإنهم قد لقوا الله وعالجوا نزع الموت وعاينوا هول المطلع وانفقأت أعينهم التي كانت لا تنقضي لذتها وانشقت بطونهم التي كانوا لا يشبعون فيها واندقت رقابهم غير متوسدة بعد ما تعلم من تظاهر الفرش والمرافق والسرر والخدم، وصاروا جيفاً في بطون الأرض تحت أكامها لو كانوا إلى جنب مساكين تأذوا من ريحهم بعد إنفاق ما لا يحصى من الطيب كان ذلك إسرافاً وتغييراً عن حق الله فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ما أعظم الذي ابتليت به يا عمر فاقطع الذي سيق إليك من أمر هذه الأمة بالعدل، ومن بعثت من عمالك فازجره زجراً شديداً شبيهاً بالعقوبة عن أخذ الأموال وسفك الدماء إلا بحقها.
المال المال يا عمر.
الدم الدم يا عمر، فإنه لا عدة لك من هول جهنم من عامل بلغك ظلمه ولم تغيره.
واحذر من بعثت من عمالك: أن يأخذوا في ظنة، أو يعملوا بعصبية، أو يتخذوا في عملهم خبنة أو يحدثوا على المسلمين تبعة، أو يسبقوا بدم(1/181)
فالله الله يا عمر.
واعلم أنك إن اجترأت على ذلك أوشكت أن يؤتى بك صغيراً ذليلاً وإن أنت اجتنبت ذلك وجدت راحته في قلبك وسمعك وظهرك.
كتبت تسألني أن أبعث إليك بكتب عمر وسيرته وقضائه في أهل القبلة والذمة، وإن عمر رضي الله عنه عمل به في غير زمانك وعمل بغير رجالك ووليت في زمن من تعلم بعد ما عمل وأظهر ما تعلم.
وأنا أرجو إن عملت على النحو الذي عمل به عمر بعد الذي رأيت وبلوت من الظلم أن تكون أفضل عند الله منزلة من عمر.
وقل كما قال العبد الصالح: (( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ..إلى قوله: وإليه أنيب)).
* حدثنا القاضي أبو الحسين محمد بن علي بن محمد الخطيب الهاشمي، قراءة منه علينا: أخبرنا أبو الفضل محمد بن الحسن بن الفضل حدثنا محمد بن القاسم حدثني عمي أبو العباس أحمد بن بشار بن الحسن بن بيان، حدثنا إسحاق بن بهلول بن حسان بن سنان التنوخي الأنباري حدثني أبي البهلول بن حسان: حدثنا إسحاق بن زياد من بني أسامة(1/182)
ابن لؤي عن شبيب بن شيبة عن خالد بن صفوان بن الأهتم قال: أوفدني يوسف بن عمر إلى هشام بن عبد الملك في وفد العراق فقدمت عليه وقد خرج مبتدياً بقرابته وأهله وحاشيته وغاشيته من جلسائه فنزل في أرض قاع صحصح متنايف أفيح في عام قد بكر وسميه وتتابع وليه وأخذت الأرض فيه زينتها من اختلاف ألوان نبتها من نور ربيع مونق فهو في أحسن منظر وأحسن مختبر مستمطر بصعيد كأن ترابه قطع الكافور حتى لو أن قطعة لحم ألقيت فيه لم تترب.
وكان قد ضرب له سرادق من حبرة كان صنعه له يوسف بن عمر باليمن فيه أربعة أفرشة خز أحمر مثلها مرافقها وعليه دراعة من خز أحمر مثلها عمامتها وقد أخذ الناس مجالسهم فأخرجت رأسي من ناحية السماط فنظر إلي مثل المستنطق لي، فقلت له:
أتم الله عليك يا أمير المؤمنين نعمه وسوغكها بشكره وجعل ما قلدك من هذا الأمر رشداً وعاقبة ما تؤول إليه حمداً وخلصه لك بالتقى وكثره لك بالنماء لا كدر الله تعالى عليك منه ما صفى ولا خالط سروره الردى فقد أصبحت للمسلمين ثقة ومستراحاً إليك يفزعون في مظالمهم وإليك يلجئون في أمورهم.
وما أجد شيئاً يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك هو أبلغ في قضاء حقك وتوفير مجلسك [مع ما] من الله تعالى علي به من مجالستك والنظر إلى وجهك من أن أذكر نعمة الله تعالى عندك وأنبهك على شكرها وما أجد في ذلك شيئاً هو أبلغ من حديث من تقدم قبلك من الملوك فإن أذن لي أمير(1/183)
المؤمنين أخبرته.
وكان متكئاً فاستوى جالساً، فقال:
هات يا ابن الأهتم؟.
فقلت: يا أمير المؤمنين: إن ملكاً من الملوك خرج قبلك في عام مثل عامنا هذا إلى الخورنق والسدير في عام قد بكر وسميه وتتابع وليه وأخذت الأرض فيه زينتها من اختلاف ألوان نبتها من نور ربيع مونق، فهو في أحسن منظر وأحسن مخبر وأحسن مستمطر بصعيد كأن ترابه قطع الكافور حتى لو أن بضعة لحم ألقيت فيه لم تترب.
وكان قد أعطي منى النفس مع الكثرة والغلبة والنماء.
ونظر فأبعد النظر فقال: لمن هذا الذي أنا فيه؟
هل رأيتم مثل هذا الذي أنا فيه؟
هل أعطي أحد مثل ما أعطيت؟
وعنده رجل من بقايا جملة الحجبة والمصر على أدب الحق ومنهاجه فقال له:
أيها الملك: إنك قد سألت عن أمر أفتأذن في الجواب؟
فقال: نعم.
قال: أرايتك هذا الذي أعجبت به:
أهو شيء لم تزل فيه، أم هو شيء صار إليك ميراثاً عن غيرك وهو زائل عنك وصائر إلى غيرك كما صار إليك؟(1/184)
قال: كذلك هو.
قال: أفلا أراك إنما أعجبت بشيء يسير تكون فيه قليلاً وتغيب عنه طويلاً وتكون غداً بحسابه مرتهناً.
قال: ويحك! فأين المهرب وأين المطلب؟
قال: إما أن تقيم مع ملكك فتعمل فيه بطاعة الله ربك على ما ساءك وسرك ومضك وأرمضك، وإما أن تضع تاجك و تضع أطمارك وتلبس أمساحك وتعبد ربك في هذا الجبل حتى يأتيك أجلك.
قال: فإذا كان السحر فأقرع على بابي فإن اخترت ما أشرت به كنت وزيراً لا يعصى وإن اخترت فلوات الأرض وقفر البلاد كنت رفيقاً لا تخالف فلما كان السحر قرع بابه فإذا هو قد وضع تاجه وخلع أطماره ولبس أمساحه وتهيأ للسياحة فلزما والله الجبل حتى أتتهما آجالهما.
وذلك حيث يقول أخو بني تميم عدي بن زيد العبادي المرادي:
أيها الشامت المعير بالدهر ... أأنت المبرأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من ... الأيام بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى كسرى الملوك أبو ... ساسان أم أين قبله سابور
وبنو الأصفر الكرام ملوك ... الروم لم يبق منهمو مذكور
وأخو الحصن إذ بناه وإذا ... دجلة تجبى إليه والخابور(1/185)
شاده مرمرا وجلله كلسا ... فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد ... الملك عنه فبابه مهجور
وتأمل رب الخورنق إذ ... أشرف يوماً وللهدى تفكير
سره حاله وكثرة ما يملك ... والبحر معرض والسدير
فارعوى قلبه فقال وما ... غبطة حي في الممات يصير
ثم بعد الفلاح والملك والأمة ... وارتهم هناك القبور
ثم أضحوا كأنهم ورق جف ... فألوت به الصبا والدبور
قال فبكى هشام حتى اخضلت لحيته وبل عمامته وأمر بنزع أبنيته وبنقلان قرابته وأهله وحشمه وغاشيته من جلسائه ولزوم قصره.
قال: فاجتمعت الموالي والحشم على خالد بن صفوان فقالوا:
ما أردت إلى أمير المؤمنين نغصت عليه لذته وأفسدت عليه مأدبته؟.
فقال لهم: إليكم عني فإني عاهدت الله عهداً أن لا أخلو بملك إلا ذكرته عز وجل.
قال أبو بكر محمد بن القاسم: الذي حفظناه شيخنا:
متنايف أفيح.
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى الضراب: مسايف أفيح جمع مسافة.
* وأخبرنا هذا الخبر أبو القاسم عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل(1/186)
الغساني المصري فقال: أخبرنا أبي: حدثنا أبو بكر أحمد بن مروان القاضي المالكي: حدثنا محمد بن عبد العزيز: حدثنا أبي: عن بهلول بن حسان: عن إسحاق بن زياد من بني أسامة بن لؤي عن شبيب بن شيبة عن خالد بن صفوان بن الأهتم قال:
أوفدني يوسف بن عمر، وذكر نحوه وزاد في آخره: فبعث إلى كل واحد من الوفد بجائزة فكانوا عشرة وبعث إلى خالد بمثل ما وجه إلى جميع الوفد.
* وقرأت على أبي الغنائم محمد بن علي القاضي عن أبي الفرج الجريري حدثنا محمد بن الحسن بن دريد: حدثنا أبو عثمان: عن العتبي. قال صعد رجل إلى هشام بن عبد الملك في خضراء معاوية فمثل بين يديه لا يتكلم فقال له هشام:
ما لك لا تتكلم؟
قال: هيبة الملك وبهر الدرج فلما رجعت نفسه إليه قال له هشام:
تكلم وإياك ومدحنا.
فقال: لست أمدحك إنما أحمد لله فيك ثم قال:
إن الدنيا ذمت بأعمال العباد إذا أساءوا ولم تحمد بأفعالهم فيها إذا أحسنوا فإن الدنيا لم تكتتم بما فيها فتذم ولكن إنما جهرت به فأخذها من أخذها بذلك وهي عليه وتركها من تركها لذلك وهي له.
وإن الدنيا بادأت أهلها بأنها لملوكة من أخذها ومفارقة من صحبها ونحن بها عمران من عمرها فمن زرع فيها سروراً حصد حزناً ومن آثر فيها هوى اجتنى ندامة.(1/187)
وإنما هي لمن زهد فيها اليوم وأعرض عنها وآثر الحق عليها وأخذها من أخذها بعد البيان منها والإخبار عن نفسها فغر نفسه وسماها غرارة وكذب نفسه وسماها كذابة وزهد فيها آخرون فصدقوا مقالها ورأوا آثارها في رد أفعالها وأخذوا منها قليلاً وقدموا فيها كثيراً وسلموا من الباطل وصارت لهم عوناً على الحق في غيرها، فلم تحمد بإحسان من أحسن فيها وهي له وذمت بإساءة من أساء فيها وهي عليه وأنت أحق بإساءتك فيها إذا كان الإحسان لك دونها.
فأطرق هشام يفكر في كلامه واختلس الرجل فلم ير.
* حدثنا القاضي أبو الحسين محمد بن علي الهاشمي الخطيب: أخبرنا أبو الفضل محمد بن الحسن الهاشمي: حدثنا محمد بن القاسم أبو بكر إملاء حدثنا أبو عبد الله المقدمي: حدثنا حارث بن أسامة: حدثنا محمود بن داهر: حدثنا ابن الفارسي: حدثنا الفريابي. قال: قال عباد بن كثير لسفيان الثوري: قلت لأبي جعفر المنصور: أتؤمن بالله؟
قال: نعم.
قلت: حدثني عن الأموال التي اصطفيتموها من أموال بني أمية؟
فوالله لئن كانت صارت إليهم ظلماً غصباً لما رددتموها إلى أهلها الذين ظلموا فيها وغصبوها.
ولئن كانت الأموال لهم لقد أخذتم ما لا يحل ولا يطيب.
إذا دعيت بنو أمية يوم القيامة بالعدل جاءوا بعمر بن عبد العزيز.(1/188)
وإذا دعيتم أنتم بالعدل -وأنتم أمس رحماً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تجيئوا بأحد فكن أنت ذلك الأحد فقد مضت من خلافتك مبلغ ست عشرة سنة.
وما رأينا خليفة قبلك بلغ اثنين وعشرين سنة فهبك تبلغها فما ست سنين تعدل.
فقال لي: يا أبا عبد الله: ما أجد على هذا الأمر أعواناً.
قلت: علي بأعوانك بغير مروفة.
أنت تعلم أن أبا أيوب المرزباني يريد منك في كل سنة بيت مال.
وأنا أجبك بمن يعمل بغير رزق ويتصدق على المسلمين.
وأنا آتيك بالأوزاعي فقلده كذا وبسفيان الثوري فقلده كذا وأكون أنا بينك وبين الناس على مظالم أبلغهم عنك وأبلغك عنهم بلا دينار ولا درهم.
فقال: حتى أستكمل بناء مدينة السلام وأخرج إلى البصرة وأوجه إليك.
فقال سفيان الثوري: ولم ذكرتني له؟
فقال عباد: والله ما أردت إلا النصيحة للمسلمين.
ثم قال لسفيان: يا أبا عبد الله: ويل لمن دخل عليهم إذا لم يكن كثير العقل كثير الفهم كيف يكون فتنة عليهم وعلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؟!
* أخبرنا أبو القاسم منصور بن النعمان بن منصور الصيمري بقراءتي عليه في منزله بالفسطاط قلت: أخبركم أبو مسلم محمد بن أحمد الكاتب: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد: حدثنا أبو علي عسل بن(1/189)
ذكوان العسكري بعسكر مكرم سنة ستين ومئتين. قال: حدثني بعض أهل الأدب عن صالح بن سليمان عن الفضل بن يعقوب بن عبد الرحمن ابن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. قال: حدثني عمي قال:
إني لعلى باب المنصور وإلى جانبي عمارة بن حمزة إذ طلع عمرو بن عبيد على حمار فنزل عن حماره ثم نحى البساط برجله ثم جلس فالتفت إلى عمارة فقال: لا تزال بصرتك ترمينا منها بأحمق فبينما نحن كذلك إذ خرج الربيع وهو يقول:
أين أبو عثمان عمرو بن عبيد؟
قال: فوالله ما دل على نفسه حتى أرشد إليه فأتكأه يده ثم قال: أجب جعلني الله فداك.
فالتفت إلى عمارة فقلت: إن الرجل الذي استحمقته قد دعي وتركنا.
قال: فلبث ما شاء الله ثم خرج متوكئاً على الربيع وهو يقول:
يا غلام: حمار أبي عثمان! ما برح حتى أقره على سرجه وجمع إليه ثيابه واستودعه الله.
فالتفت إليه عمارة وقال:
لقد فعلتم بهذا الرجل فعلاً لو فعلتموه بولي عهدكم قد قضيتم حقه!.(1/190)
قال: فما غاب عنك مما فعله أمير المؤمنين أكثر وأعجب.
قال: فإن اتسع لك الحديث فحدثنا.
قال: ما هو إلا أن سمع أمير المؤمنين بمكانه فما أمهل حتى أمر ببيت ففرش بلبود ثم انتقل إليه هو والمهدي وعلى المهدي سواده وسيفه فلما دخل سلم فرد عليه السلام ثم أدناه حتى تحاكت ركبتاهما فسأله عن حاله وتحفى ثم قال:
يا أبا عثمان عظني.
فقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم { والفجر وليال عشر} حتى أتى على آخرها.
فبكى المنصور بكاء شديداً، ثم قال: زدني.
قال: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك منه ببعضها واعلم أن هذا الأمر الذي صار إليك إنما كان في يدي من كان قبلك ثم أفضى إليك وكذلك يخرج منك إلى من بعدك.
وإني محذرك ليلة تمخض صبيحتها عن يوم القيامة.
قال فبكى والله أشد من البكاء الأول.
فقال له بعض القيام: أكفف عن أمير المؤمنين.
فقال عمرو: بمثلك ضاع الأمر وانتشر.
فقال: يا أبا عثمان: أعني بأصحابك.
فقال: أظهر الحق يتبعك أهله.(1/191)
قال: يا أبا عثمان بلغني أن عبد الله بن الحسن كتب إليك.
قال: قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه.
قال: وما أجبته؟
قال: قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف إلي.
قال: فتحلف لي؟
قال: لئن كذبت تقية لأحلفن تقية.
قال: أنت والله الصادق البر قد أمرت لك بعشرة الآف تستعين بها على زمانك.
قال: لا حاجة لي بها.
قال: والله لتأخذنها.
قال: والله لا أخذتها.
فقال له المهدي: يحلف أمير المؤمنين وتحلف.
فترك المهدي وأقبل على المنصور، فقال: من هذا الفتى؟
قال: هذا محمد بن أمير المؤمنين وهو المهدي ولي عهد المسلمين.
قال: أما والله لقد ألبسته لبوساً من لبوس الأبرار، ولقد سميته اسماً ما يستحقه عمله ولقد مهدت له أمراً أمتع ما يكون به أشغل ما يكون عنه.
ثم التفت إلى المهدي فقال:(1/192)
نعم يا ابن أخي: إذا حلف أبوك وحلف عمك فأبوك أقوى على الكفارة من عمك.
ثم قال: يا أبا عثمان: هل من حاجة ؟
قال: نعم: أن لا تبعث إلي حتى آتيك.
قال: إذن لا نلتقي أبداً.
قال: هي حاجتي، فاستودعه الله ونهض، ثم أتبعه بصره، وقال:
كلكم يمشي رويد
كلكم يطلب صيد
غير عمرو بن عبيد
وفي رواية أخرى: أن أبا جعفر المنصور بكى لما قال له عمرو بن عبيد: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك منه ببعضها واحذر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعدها.
فقال عمرو: انبذ عنك البكاء واترك ما تنكر إلى ما تعرف، واعلم أن ربك لبالمرصاد.
* وحكى أبو عمرو أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد فيما أورده فيه:
أن المنصور بينما هو يطوف بالبيت ليلة إذ سمع قائلاً يقول:
اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يجول بين الحق وأهله من الطمع.
فخرج المنصور فجلس ناحية المسجد وأرسل إلى الرجل.(1/193)
فصلى ركعتين واستلم الركن ثم أقبل مع الرسول، فسلم عليه بالخلافة.
فقال له المنصور: ما الذي سمعتك تذكر من ظهور البغي والفساد في الأرض، وما الذي يجول بين الحق وأهله من الطمع؟!
قال: إن أمنتني يا أمير المؤمنين أعلمتك بالأمور على أصولها وإلا اقتصرت على نفسي.
قال: أنت آمن على نفسك.
قال: إن الله استرعاك أمر عباده وأموالهم فجعلت بينك وبينهم حجاباً من الجص والآجر وأبواباً من الحديد وحراساً معهم السلاح ثم سجنت نفسك عنهم وبعثت عمالك في جباية الأموال وجمعتها وأمرت أن لا يدخل عليك من الناس إلا فلان ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف إليك.
ولا أحد إلا وله في هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت أن لا يحجبوا عنك حتى تجبي الأموال وتجمعها.
قالوا: هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه؟!
وأتمروا أن لا يصل إليك من أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا ولا يخرج لك عامل إلا خونوه عندك وبغوا عليه حتى تسقط منزلته فلما انتشر ذلك عنهم وعنك أعظمهم الناس وهابوهم وصانعوهم.
فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ليقووا بذلك بها على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو المقدرة والثروة من رعيتك ليقووا بذلك(1/194)
على من دونهم فامتلأت بلاد الله بغياً وفساداً وصار هؤلاء القوم شركاؤك وأنت غافل فإن جاء متظلم حيل بينه وبينك، وإن أراد رفع قصة إليك وجدك قد ذهبت عن ذلك ووضعت للناس رجلاً ينظر في مظالمهم، فإن جاء ذلك الرجل المتظلم فبلغ بطانتك خبره سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته إليك فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث ويدفعه.
فإذا جهد وخرج ثم ظهرت طرح بين يديك فيضرب ضرباً مبرحاً يكون نكالاً لغيره وأنت تنظر فما تنكر.
فما بقاء الإسلام على هذا؟
وقد كنت -يا أمير المؤمنين- أسافر إلى الصين فقدمتها مرة وقد أصيب ملكهم بسمعه فبكى يوماً فحداه جلساؤه على الصبر وظنوه ضيق الصدر بما أصابه في سمعه.
فقال: أما إني لست أبكي لسمعي ولكنني أبكي لمظلوم يصرخ فلا أسمع صوته.
ثم انتبه انتباهة فقال: لئن كان سمعي قد ذهب، فإن بصري لم يذهب، فنادوا في الناس:
أن لا يلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم.
ثم كان يلتفت طرفي النهار ينظر هل يرى مظلوماً.
فهذا -يا أمير المؤمنين- مشرك قد بلغت رأفته على رعيته هذا المبلغ.(1/195)
وأنت -يا أمير المؤمنين- مؤمن بالله ومن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تغلبك رأفتك بالمسلمين على نفسك.
فبكى المنصور ثم قال: ويحك كيف احتيالي لنفسي؟!
قال: يا أمير المؤمنين: إن للناس أعلاماً يفزعون إليهم في دينهم ويرضون بهم في دنياهم فاجعلهم بطانتك يرشدوك وشاورهم في أمرك يسددوك.
قال: قد بعثت إليهم فهربوا مني.
قال: خافوا أن تحملهم على طريقتك، ولكن افتح باباك وسهل حجابك وانصر المظلوم واقمع الظالم وخذ الفيء والصدقات على وجهها وأنا ضامن عنهم أن يأتوك ويساعدوك على صلاح الأمة وجاء المؤذنون فسلموا عليه إعلاماً بحضور وقت الصلاة فصلى وعاد إلى مجلسه وأمر بطلب الرجل فلم يوجد.
* وفي رواية أخرى رويناها من طريق أبي المهاجر المكي زيادة عند قول ملك الصين:
أما إن كان ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب.
نادوا في الناس أن لا يلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم، وكان يركب الفيل طرفي النهار هل يرى مظلوماً فينصفه.
هذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله قد غلبت رأفته بالمشركين ورقته على شح نفسه في ملكه وأنت مؤمن بالله عز وجل وابن عم نبيه - صلى الله عليه وسلم -: ألا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك فإنك لا تجمع الأموال إلا لواحد من ثلاثة:(1/196)
إن قلت أجمعها لولدي فقد أراك الله- عز وجل- عبراً في الطفل الصغير يسقط من بطن أمه وما له على الأرض من مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه فما يزال يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس.
لست بالذي تعطي بل الله يعطي من يشاء.
وإن قلت: أجمع المال ليشتد سلطاني فقد أراك الله عبراً في من كان قبلك ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة وما أعدوا من السلاح والرجال والكراع وما ضرك وولد أبيك ما كنت فيه من قلة الجدة والضعف حين أراد الله -عز وجل- بكم ما أراد.
وإن قلت: أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بالعمل الصالح يا أمير المؤمنين.
هل تعاقب من عصاك من رعيتك بأشد من القتل؟
قال: لا.
قال: فكيف تصنع بالملك الذي خولك الله وما أنت فيه من ملك الدنيا وهو لا يعاقب من عصاه بالقتل، ولكن يعاقب من عصاه بالخلود في العذاب الأليم، وهو الذي يرى منك ما عقد عليه قلبك وأضمرته جوارحك.
فما تقول إذا انتزع الملك الحق ملك الدنيا من يدك ودعاك إلى الحساب هل يغني عنك عنده شيء مما كنت فيه مما شححت عليه من ملك الدنيا؟
فبكى المنصور بكاء شديداً حتى نحب وارتفع صوته ثم قال:(1/197)
يا ليتني لم أخلق ولم أر شيئاً مذكوراً.
ثم قال: كيف احتيالي فيما خولت ولم أر من الناس إلا خائناً.
فقال: يا أمير المؤمنين: عليك بالأئمة الأعلام المرشدين.
قال: ومن هم؟
قال: العلماء.
قال: إنهم فروا مني.
قال: هربوا مخافة أن تحملهم على ما ظهر من طريقتك في ذلك ولكن افتح الأبواب وسهل الحجاب وانتصر للمظلوم من الظالم وامنع الظالم منهم وخذ الشيء مما حل وطاب واقسمه بالحق والعدل وأنا ضامن عمن هرب منك أن يأتيك فيعاونك على صلاح أمرك.
فقال المنصور: اللهم وفقني أن أعمل بما قال هذا الرجل.
وجاء المؤذنون فسلموا عليه وأقيمت الصلاة فخرج فصلى بهم ثم قال للحرسي: عليك بالرجل لئن لم تأتني به لأضربن عنقك واغتاظ عليه غيظاً شديداً فخرج الحرسي فطلب الرجل فبينا هو يطوف إذا هو بالرجل قائماً يصلي في بعض الشعاب فقعد حتى صلى.
ثم قال: ياذا الرجل أما تتقي الله؟
قال: بلى.
قال: أما تعرفه؟
قال: بلى.(1/198)
قال: فانطلق معي إليه فقد آلى أن يقتلني إن لم آته بك؟
قال: ليس إلى ذلك سبيل.
قال: يقتلني.
قال: لا يقتلك.
قال: كيف؟
قال: تحسن تقرأ؟
قال لا.
فأخرج من مزود كان معه رقاً فيه مكتوب شيئاً.
قال: خذه فاجعله في جيبك فإن فيه دعاء الفرج.
قال: وما دعاء الفرج.
قال: لا يرزقه إلا السعداء.
قلت: يرحمك الله قد أحسنت إلي فإن رأيت أن تخبرني ما هذا الدعاء وما فضله؟
قال: من دعا به صباحاً ومساء هدمت ذنوبه ودام سروره ومحيت خطاياه واستجيب دعاؤه وبسط له في رزقه وأعطي أمله وأعين على عدوه وكتب عند الله صديقاً ولا مات إلا شهيداً.
يقول: اللهم كما لطفت في عظمتك دون اللطفاء وعلوت بعظمتك على العظماء وعلمت ما تحت أرضك كعلمك ما فوق عرشك وكانت وساوس الصدور كالعلانية عندك وعلانية القول كالسر في علمك فانقاد كل شيء لعظمتك وخضع كل ذي سلطان لسلطانك وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك:(1/199)
اجعل لي من كل هم أمسيت فيه فرجاً ومخرجاً.
اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي وسترك على قبيح عملي أطمعني أن أسألك ما لا أستوجبه فصرت أدعوك آمناً وأسألك مستأنساً وإنك للمحسن إلي وإني للمسيء إلى نفسي فيما بيني وبينك.
تتودد إلي وأتبغض إليك ولكن الثقة بك حملتني على الجرأة عليك فعد بفضلك وإحسانك علي إنك أنت التواب الرحيم.
قال: فأخذته فصيرته في جيبي ثم لم يكن لي هم غير أمير المؤمنين فدخلت فسلمت عليه فرفع رأسه ينظر إلي ويبتسم ثم قال لي:
ويلك تحسن السحر؟
فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين ثم قصصت عليه أمري مع الشيخ قال:
هات الرق الذي أعطاك، ثم جعل يبكي وقال:
قد نجوت وأمر بنسخه وأعطاني عشر آلاف درهم.
ثم قال: أتعرفه؟
قلت: لا.
قال: ذلك الخضر عليه السلام.
* قرأت على أبي القاسم عبد العزيز بن الحسن البزاز-أو قرئ عليه وأنا أسمع-:(1/200)
أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم: حدثنا ابن شقير النحوي: حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي حدثنا محمد بن مصعب القرقساني.
وأخبرنا أبو عبد الله الحسين لأبي طاهر فيما قرئ عليه: حدثنا الحسن ابن الحسين حدثنا أبو محمد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم: حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح أبو جعفر: حدثنا محمد بن مصعب القرقساني -واللفظ لأحدهما-:
حدثني الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو. قال:
بعث إلي أبو جعفر المنصور وأنا بالساحل فأتيته فلما وصلت إليه وسلمت عليه بالخلافة رد علي واستجلسني ثم قال لي:
ما الذي بطأ بك عنا يا أوزاعي:
قال: قلت: وما الذي تريد يا أمير المؤمنين؟
قال: أريد الأخذ عنك والاقتباس منكم.(1/201)
قال قلت: فانظر يا أمير المؤمنين أن لا تجهل شيئاً مما أقول لك؟!
قال: وكيف أجهله وأنا أسألك عنه وفيه وجهت إليك وأقدمتك له؟
قال: قلت: أن تسمعه ثم لا تعمل به.
قال: فصاح بي الربيع وأهوى بيده إلى السيف فانتهزه المنصور وقال:
هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة.
فطابت نفسي وانبسطت في الكلام، فقلت:
يا أمير المؤمنين: حدثني مكحول عن عطية بن بسر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه فإنها نعمة من الله سيقت إليه فإن قبل بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه ليزداد بها إثما ويزداد الله بها عليه سخطاً.
يا أمير المؤمنين: حدثني مكحول عن عطية بن بسر قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيما وال بات غاشاً لرعيته حرم الله عليه الجنة.
يا أمير المؤمنين: من كره الحق فقد كره الله. إن الله هو الحق المبين.
يا أمير المؤمنين: إن الذي لين قلوب أمتكم لكم حين ولاكم أمورهم لقرابتكم من نبيكم - صلى الله عليه وسلم - فقد كان بهم رؤوفاً رحيماً مواسياً لهم بنفسه في ذات يده وعند الناس لحقيق أن يقوم له وإليهم بالحق وأن(1/202)
يكون بالقسط له فيهم قائماً ولعوراتهم ساتراً لا يغلق عليك دونهم الأبواب ولا يقيم عليك دونهم الحجاب تبتهج بالنعمة عندهم وتبتئس لما أصابهم من سوء.
يا أمير المؤمنين: قد كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس. بالدين أصبحت تملك أحمرهم وأسودهم مسلمهم وكافرهم وكل له عليك نصيب من العدل فكيف بك إذا اتبعك منهم فئام وراء فئام ليس منهم أحد إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه أو ظلامة سقتها إليه:
يا أمير المؤمنين. حدثني مكحول عن عروة بن رويم. قال:
كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة يستاك بها ويروع بها المنافقين فأتاه جبريل فقال يا محمد ما هذه الجريدة التي كنت قد كسرت بها أمتك وملأت قلوبهم بها رعباً
فكيف بمن ضرب أبشارهم وسفك دماءهم وخرب ديارهم وأجلاهم عن بلادهم [ونهب أموالهم].
يا أمير المؤمنين: حدثني مكحول عن زياد بن حارثة عن حبيب بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى القصاص من نفسه في خدش خدشه أعرابياً لم يتعمده، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن الله لم يبعثك جباراً ولا متكبراً، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي، فقال: اقتص مني، فقال الأعرابي: قد أحللتك بأبي وأمي وما كنت لأفعل ذلك أبداً ولو أتت على نفسي، فدعا له بخير.
يا أمير المؤمنين: رض نفسك لنفسك وخذ لها الأمان من ربك وارغب في جنة عرضها السموات والأرض التي يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقيد قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها.(1/203)
يا أمير المؤمنين: إن الملك لو بقي لمن قبلك لم يصل إليك وكذلك لا يبقي لك كما لم يبق لغيرك.
يا أمير المؤمنين: تدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك: {ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} ؟ قال: الصغيرة التبسم والكبيرة الضحك فكيف بما عملته الأيدي وحصدته الألسن.!!
يا أمير المؤمنين: بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة لخشيت أن أسأل عنها فكيف بمن حرم عدلك وهو على بساطك!!؟
يا أمير المؤمنين: تدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك:
{ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله }؟ قال: يا داود: إذا قعد الخصمان بين يديك فكان لك في أحدهما هوى فلا تتمنين في نفسك أن يكون الحق له فيفلج على صاحبه فأمحوك من نبوتي ثم لا تكون خليفتي، ولا كرامة يا داود إنما جعلت رسلي إلى عبادي رعاء كرعاء الإبل لعلمهم بالرعاية ورفقهم بالسياسة، ليجبروا الكسير ويدلوا الهزيل على الكلأ والماء.
يا أمير المؤمنين: إنك قد بليت بأمر لو عرض على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنه وأشفقن منه.(1/204)
يا أمير المؤمنين: حدثني يزيد بن جابر عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري أن عمر بن الخطاب استعمل رجلاً من الأنصار على الصدقة فرآه بعد أيام مقيماً فقال له: ما منعك من الخروج إلى عملك؟
أما علمت أن لك مثل أجر المجاهد في سبيل الله؟ قال: لا. قال: فكيف ذلك؟ قال: لأنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من وال يلي شيئاً من أمور الناس إلا أتى به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه، يوقف على جسر النار، ينتفض به ذلك الجسر انتفاضة تزيل كل عضو منه عن موضعه، ثم يعاد فيحاسب فإن كان محسناً نجا بإحسانه وإن كان مسيئاً انخرق به ذلك الجسر فهوى به في النار سبعين خريفاً. فقال له عمر: ممن سمعت هذا؟ قال: من أبي ذر ومن سلمان. فأرسل إليهما عمر فسألها فقالا نعم سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال عمر: واعمراه من يتولاها بما فيها!! فقال أبو ذر: من سلت الله أنفه وألصق خده بالأرض.
فأخذ المنديل فوضعه على وجهه ثم بكى وانتحب حتى أبكاني. ثم قال: يا أمير المؤمنين قد سأل جدك العباس النبي صلى الله عليه وسلم إمارته على مكة أو الطايف أو اليمن، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يا عباس يا عم النبي: نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها)).. نصيحة منه لعمه وشفقة عليه وأخبره أنه لا يغني عنه من الله شيئاً إذ أوحى إليه: {وأنذر عشيرتك الأقربين} فقال: يا عباس ويا صفية عمَّي الرسول ويا فاطمة بنت محمد: إني لست أغني عنكم من الله شيئاً، لي عملي ولكم عملكم.
وقد قال عمر بن الخطاب لا يقيم أمن الناس إلا حصيف العقل أريب(1/205)
العقدة لا يطلع منه على عورة ولا يحنق منه على جرة، لا تأخذه في الله لومة لائم.
وقال: السلطان أربعة أمراء:
فأمير قوي يظلف نفسه وعماله فذاك كالمجاهد في سبيل الله يد الله عليه باسطة بالرحمة.
وأمير فيه ضعف يظلف نفسه وأرتع عماله لضعفه فهو على شفا هلاك إلا أن يرحم.
وأمير يظلف عماله وأرتع نفسه فهو الحطمة الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شر الرعاء الحطمة. فهو هالك وحده.
وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعاً.
بلغني يا أمير المؤمنين أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتيتك حين أمر الله بمنافخ النار فوضعت على النار تسعر ليوم القيامة فقال له يا جبريل: صف لي النار فقال: إن الله تعالى أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف عام حتى اصفرت ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا جمرها. والذي بعثك بالحق لو أن ثوباً من ثياب أهل النار أظهر لأهل الأرض لماتوا جميعاً، ولو أن ذنوباً من شرابها صب في مياه أهل الأرض جميعاً لقتل من ذاقه، ولو أن ذراعاً من السلسلة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعاً لذابت وما استقلت.
ولو أن رجلاً أدخل النار ثم خرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه(1/206)
وتشويه خلقه وعظمه، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وبكى جبريل لبكائه فقال أتبكي يا محمد وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: أفلا أكون عبداً شكورا. قال فلم بكيت يا جبريل وأنت الروح الأمين أمين الله على وحيه؟ قال: أخاف أن أبتلي بما ابتلي به هاروت وماروت فهو الذي منعني عن اتكالي على منزلتي عند ربي فأكون قد أمنت مكره.
فلم يزالا يبكيان حتى نودي من السماء يا جبريل يا محمد إن الله قد أمنكما أن تعصيا فيعذبكما، وفضل محمد على سائر الأنبياء كفضل جبريل على ملائكة السماء.
وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد الخصمان بين يدي على من قال الحق من قريب أو بعيد فلا تمهلني طرفة عين.
يا أمير المؤمنين: إن أشد الشدة القيام لله بحقه، وإن أكرم الكرم عند الله التقوى وإنه من طلب العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه ومن طلبه بمعصية الله أذله الله ووضعه بها.
نصيحتي والسلام عليك. ثم نهضت فقال لي إلى أين؟ فقلت إلى الولد والوطن بإذن أمير المؤمنين إن شاء الله.
قال: فقد أذنت لك وشكرت لك نصيحتك وقبلتها بقبولها والله الموفق للخير والمعين عليه وبه أستعين وعليه أتوكل وهو حسبي ونعم الوكيل، قلا تخلني من مطالعتك إياي بمثلها فإنك المقبول القول غير متهم في النصيحة. قلت أفعل إن شاء الله.(1/207)
قال محمد بن مصعب: فأمر له بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله وقال أنا في غنى عنه ما كنت لأبيع ديني بعرض الدنيا كلها. وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه في ذلك.
* قرأت على القاضي أبي عبد الله بن سلامة بن جعفر القضاعي وعلى أبي القاسم منصور بن النعمان الصيمري جميعاً بالفسطاط قال أخبرنا أبو نصر دريد قال حدثنا الحسن بن خضر عن أبيه قال أخبرني بعض الهاشميين قال كنت جالساً عند المنصور بأرمينية في مجلس المظالم وهو أميرها لأخيه أبي العباس فدخل عليه رجل فقال إن لي مظلمة وأنا أسألك أن تسمع مني مثلاً أضربه قبل أن أذكر مظلمتي قال قل لي، قال: إني وجدت الله تبارك وتعالى خلق الخلق على طبقات فالصبي إذا خرج إلى الدنيا لا يعرف إلا أمه ولا يطلب غيرها فإن فزع من شيء لجأ إليها ثم يرتفع من ذلك فيعلم أن أباه أعز من أمه فإن أفزعه شيء لجأ إليه، ثم يبلغ ويستحكم فإن أفزعه شيء إلى سلطانه، فإن ظلمه ظالم انتصر به، فإذا ظلمه السلطان التجأ إلى ربه واستنصره، وإني كنت في هذه الطبقات، وقد ظلمني ابن نهيك في ضيعة لي في ولايته فإن نصرتني عليه وأخذت لي مظلمتي، وإلا استنصرت الله. فانظر لنفسك أيها الأمير، فتضاءل أبو جعفر فقال: أعد علي الكلام، فأعاده فقال:
أما أول شيء فقد عزلت ابن نهيك عن عمله، وأمر برد ضيعته.
* قرأت على أبي منصور علي بن الحسن الكاتب الأديب. أخبرنا أحمد بن(1/208)
سعيد الدمشقي قال: حدثني الزبير بن بكار، قال: حدثنا علي بن عبد الله المديني قال:
دخل صالح بن عبد الجليل وكان ناسكاً مفوهاً على المهدي فسأله أن يأذن له في الكلام فقال: تكلم، قال يا أمير المؤمنين إنه لما سهل علينا ما توعر على غيرنا من الوصول إليك قمنا مقام المؤدي عنهم، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بإظهار ما في أعناقنا من فريضة الأمر والنهي لانقطاع عذر الكتمان في البينة ولا سيما حين اتسمت بميسم التواضع، ووعدت الله وحملة كتابه إيثار الحق على ما سواه، فجمعنا وإياك مشهد من مشاهد التمحيص ليتم مؤدينا على موعد الأداء عنهم، وقابلنا من موعد القبول أو يردنا تمحيص الله إيانا في اختلاف السر والعلانية وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: من حجب الله عنه العلم عذبه على الجهل، وأشد منه عذاباً من أقبل إليه العلم فأدبر عنه، ومن أهدي إليه علم فلم يعمل به فقد رغب عن هدية الله إليه وقصر بها، فاقبل يا أمير المؤمنين ما أدى الله إليك من ألسنتنا، فتعمل بتحقيق وعمل لا قبول سمعة ورياء، فإنه لا يخلفك منا إعلام ما تجهل، ومواطأة فضل تعلم، أو تذكر لك من غفلة، فقد وطن الله نبيه صلى الله عليه وسلم على نزولها تعزية عما فات، وتحصناً من التمادي، ودلالة على المخرج فقال: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله}، فاطلع على قلبك ما ينور به القلوب من إيثار الحق ومنابذة الهوى، فإنك إن لم تفعل لم تر لله أثرة عليك، قال: فبكى المهدي حتى هم من كان على رأسه بضرب صالح، وحتى ظنوا أنه لا يسكت وحتى ذهب به البكاء.(1/209)
فقال: يا صالح لو وجدت رجالاً يعملون بما آمرهم وهابوني في رعيتي لظننت أني ألقى الله عز وجل وأمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم أقل ذنوبي وأهون حسابي، ولكن دلني على وجه النجاة فإن لم أعمل كنت أنا الجاني على ظهري والمؤثر هواي على رضا ربي، فقال له صالح:
أنت يا أمير المؤمنين أعلم بموضع النجاة.
قال: لو أعلم بموضع النجاة ما كنت أولى بعظتي مني بعظتك، وما هو إلا أن أركب سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولا يصلح والله عليها أحد من أهل هذا العصر، وذلك أن الناس في الزمن الماضي كان يرضى أحدهم الطمر البالي، وتقنعه الكسرة اليابسة والماء القراح، وهم اليوم في مضاعف الخز والوشي، ومائدة أحدهم في اليوم بمثل غنى ذي العيال في زمن عمر. أو أسيح في الأرض ذات العرض فإلى من أكلهم؟
إلى ولد أبي طالب، فو الله ما أعلم للمسلمين حاجة بهم، ولا حافز عندهم، ولو أنني حملت الناس على سيرة العمرين في هذا العصر كنت أول مقتول وذلك أن الفطام عن هذا الحطام شديد لا يصبر عليه إلا المبرز السابق، وأنى أولئك القوم يا صالح!
والله لقد بلغني أن لسعيد بن سلام ألف سراويل مخارم وألف جبة ولعبادة بن حمزة ألف دواج وهي أقل ملكهم، فما ظنك بي وهم أجل عددي وبدتي وسهام كنانتي لو حملتهم ومن أشبههم كمعن بن زائدة وعبد الله بن مالك على التقشف والنسك وأخذت ما بأيديهم ووضعته حيث تراه أنت وأنا هل كانت نفس أبغض إليهم من نفسي أو حياة أثقل عليهم من حياتي قال: فأطرق صالح مفكراً ثم رفع رأسه فقال: يا أمير المؤمنين إنه ليقع في خلدي أنك قبلت قولي قبول تحقيق لا قبول رياء!!.(1/210)
فقال المهدي: شاهدي على ذلك الله، فقام صالح فدنا من المهدي فقبل رأسه، وقال أعانك الله يا أمير المؤمنين على حسن نيتك وأعطاك أفضل ما تؤمله من رعيتك ووهب لك أعوانا صالحين بررة يعملون ما يجب عليهم فيك، ثم خرج فقال له أصحابه: ما صنعت؟ قال: والله ما تركت شيئاً إلا سبقني إليه ولا شتماً له إلا أوضح العذر فيه.
* قال الحميدي: وقرأت على أبي جعفر محمد بن أحمد الشاهد عن محمد بن عمران بن موسى قال: أخبرنا ابن أبي عروة الغفاري قال حدثنا أبو نعيم قال: سمعت سفيان الثوري يقول: حج المهدي في سنة ست وستين ومئة فرأيته يرمي جمرة العقبة والناس يحيطون يميناً وشمالاً بالسياط فوقفت فقلت يا حسن الوجه حدثنا أيمن بن وائل عن قدامة عن عبد الله الكلابي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة يوم النحر على جمل لا ضرب ولا طرد ولا جلد ولا إليك إليك، وها أنت تحفظ الناس بين يديك يميناً وشمالاً، فقال لرجل من هذا؟ فقال: سفيان الثوري: فقال: يا سفيان لو كان المنصور لما احتملك على هذا، فقلت: لو أخبرك المنصور بما لقي لأقصرت عما أنت فيه، قال: فقيل له إنه قال لك يا حسن الوجه، ولم يقل لك يا أمير المؤمنين، فقال اطلبوه فطلب سفيان فاختفى.
* حدثنا عبد العزيز بن الحسن البصري قراءة عليه بها قال [حدثنا] أبو محمد الحسن بن إسماعيل قال: حدثنا أحمد بن مروان الدينوري، قال: حدثنا أحمد بن داود، قال حدثنا محمد بن سلام الجمحي قال: قال شبيب بن شيبة للمهدي إن الله تبارك وتعالى لم يرض أن يجعلكم دون خلقه فلا ترض أن يكون أحد أشكر لله تعالى منك.(1/211)
* حدثني القاضي الشريف أبو الحسن محمد بن علي بن محمد الهاشمي من لفظه وكتابه. قال: حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن أيوب الواعظ إملاء في ذي الحجة من ثلاث وثمانين وثلاث مئة قال حدثنا محمد بن زكريا بن إبراهيم بن إسماعيل العسكري قال: حدثنا العباس بن عبد الله، حدثنا الحسن بن يوسف الواسطي، قال: حدثنا محمد بن علي أبو عمر النحوي قال حدثنا الفضل بن الربيع قال: حج أمير المؤمنين هارون الرشيد فينما أنا ليلة نائم بمكة إذ سمعت قرع الباب، فقلت من هذا؟ فقال: أجب أمير المؤمنين، فخرجت مسرعاً فقلت يا أمير المؤمنين: لو أرسلت إلي لأتيتك، فقال: ويحك إنه قد حاك في نفسي شيء فانظر رجلاً أسأله، فقلت ههنا سفيان بن عيينة، فقال: امض بنا إليه.
فأتيناه فقرعت عليه الباب. فقال من هذا فقلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعاً فقال: يا أمير المؤمنين: لو أرسلت إلي لأتيتك فقال خذ لما جئناك له فحادثه ساعة ثم قال أعليك دين؟ قال: نعم. ثم قال: يا عباس اقض دينه ثم انصرفا فقال ما أغنى صاحبك شيئاً فانظر لي رجلاً أسأله فقلت ها هنا عبد الرزاق بن همام.
قال امض بنا إليه فأتيناه فقرعت عليه الباب فقال من هذا؟ قلت أجب أمير المؤمنين فخرج مسرعاً فقال يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك فقال خذ لما جئناك له فحادثه ساعة ثم قال له أعليك دين؟ قال: نعم قال يا عباس اقض دينه ثم انصرفنا فقال ما أغنى عني صاحبك شيئاً فانظر لي رجلاً أسأله، فقلت ههنا الفضيل بن عياض.
فقال امض بنا إليه، فأتيناه، فإذا هو قائم يصلي، يتلو آية من القرآن يرددها، فقال لي: إقرع الباب، فقرعت الباب، فقال من هذا؟ فقلت أجب أمير المؤمنين، فقال ما لي ما لي ولأمير المؤمنين، فقلت سبحان الله، أو ما عليك طاعته؟ أوليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليس لمؤمن أن يذل نفسه؟ قال فنزل ففتح الباب، ثم ارتقى الغرفة فأطفأ(1/212)
السراج ثم التجأ إلى زاوية من زوايا الغرفة، قال فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا، فسبقت كف هارون إليه قبلي فقال: أواه من كف ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله تعالى، قال فقلت في نفسي ليكلمنهم الليلة بكلام نقي من قلب تقي فقال خذ لما جئناك له يرحمك الله، فقال: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة فقال لهم: إني ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي، فعد الخلافة يا أمير المؤمنين بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة، فقال له سالم بن عبد الله إن أردت النجاة من عذاب الله فصم الدنيا وليكن إفطارك هذا الموت، فقال محمد بن كعب القرظي: إن أردت النجاة غدا من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أباً وأوسطهم عندك أخاً وأصغرهم عندك ولداً، فوقر أباك وأكرم أخاك وتحنن على ولدك.
فقال رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، ثم مت إذا شئت. إني لأقول لك هذا وإني لأخشى عليك أشد الخوف يوم القيامة، يوم تزل فيه الأقدام. فهل معك رحمك الله مثل هؤلاء. من يأمرك بمثل هذا؟: فبكى هارون بكاء شديداً حتى غشي عليه، فقلت له أرفق بأمير المؤمنين، فقال يا ربيع تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا، ثم أفاق فقال زدني يرحمك الله فقلت يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكى إليه، فكتب إليه عمر: يا أخي أذكر طول قهر أهل النار في النار مع خلود الأبد. إن ذلك يطرد بك إلى الرب عز وجل نائماً ويقظان. وإياك أن ينصرف بك من عند الله عز وجل فيكون آخر العهد بك ومنقطع الرجاء. قال فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز فقال له: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك لا وليت لك عملاً حتى ألقى الله عز(1/213)
وجل.
قال: فبكى هارون بكاء شديداً ثم قال زدني يرحمك الله فقال يا أمير المؤمنين إن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أمرني على إمارة فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا عباس يا عم محمد نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها. إن الأمارة حسرة وندامة يوم القيامة فإن استعطت ألا تكون أميراً فافعل.
قال فبكى هارون بكاء شديداً فقال زدني يرحمك الله، فقال يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فانظر وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لرعيتك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة،
قال فبكى هارون الرشيد بكاء شديداً ثم قال عليك دين؟ قال نعم دين لربي لم يحاسبني عليه فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي، قال فقال إنما أعني دين العباد، قال: لا. عندي خير كثير لا أحتاج معه إلى ما في أيدي الناس.
قال أبو عمر: وكأنه يعني القرآن واليقين والدعاء في هذه الرواية قال فقال إن ربي عز وجل لم يأمرني بهذا أمرني أن أصدق وعده وان أطيع أمره فقال عز وجل: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق} فقال هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك وتقو بها على عبادة ربك فقال سبحان الله: أنا أدلك على النجاة وتكافيني بمثل هذا سلمك الله ووفقك ثم صمت، فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده، فلما صرنا على الباب قال لي هارون: يا عباس إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا. هذا سيد المسلمين اليوم.
قال عمر بن أحمد في هذا الحديث: فدخلت عليه امرأة من نسائه(1/214)
فقالت يا هذا أما ترى ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت هذا المال ففرجنا به، فقال لها: مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه.
فلما سمع هارون هذا الكلام قال ادخل فعسى أن يقبل المال فدخلنا فلما علم بنا الفضيل خرج فجلس في التراب على السطح، فجاء هارون فجلس إلى جنبه فجعل يكلمه فلم يجبه، فبينما نحن كذلك إذ جاءت جارية سوداء فقالت يا هذا قد آذيت الشيخ منذ الليلة، فانصرف رحمك الله قال: فانصرفنا.
* وأخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري في الإجازة وأخبرنا الخطيب أبو بكر أحمد بن علي الحافظ، قراءة عليه، قال أخبرنا عبيد الله بن أحمد بن يعقوب المقرئ، قال حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري قال:
لما لقي هارون فضيل بن عياض قال له الفضيل: يا حسن الوجه أنت المسئول عن هذه الأمة.
حدثنا ليث عن مجاهد: وتقطعت بهم الأسباب قال: الوصل التي كانت بينهم في الدنيا. قال: فجعل هارون يبكي ويشهق.
* أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن الحسين بن إسماعيل المصري بها، قراءة عليه قال أخبرني أبي. قال حدثنا أحمد بن مروان القاضي الدينوري قال: حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال: حدثنا محمد بن منصور البغدادي قال: لما حبس أمير المؤمنين الرشيد أبا العتاهية جعل عليه عيناً له يأتيه بما يقول، فوجده يوماً وقد كتب على الحائط:(1/215)
أما والله إن الظلم لؤم ... ومازال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
قال: فأخبر بذلك الرشيد فبكى ودعا به واستحله ووهب له ألف دينار.
* أخبرنا أبو إسحاق بن إبراهيم بن سعيد بن عبد الله النعماني بالفسطاط قراءة في كتاب المقيمين من الصوفية قال: حدثنا أبو صالح محمد بن عدي ابن الفضل السمرقندي الصوفي قراءة بالفسطاط. قال أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن اليسع بن القاسم بن عاصم البزاز الصوفي قراءة عليه بالقرافة قال أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري قال حدثنا أبو محمد جعفر بن عبيد الله الصوفي الخياط. قال: أبو حمزة محمد بن إبراهيم الصوفي: وحدثني طلحة بن اليمان النهشلي حدثني أبي عن سالم الأسود وكان من خيار عباد الله قال:
رأيت هارون الرشيد بمكة وهو متكئ على الفضل بن الربيع ورجل آخر يطوف بالبيت فقام إليه محمد بن أوس الهلالي وكان سفيان بن عيينة له مكرماً ومبجلاً ومعظماً وكان الناس يقولون إنه لم يبق من الصوفية بالحجاز أحد أفضل منه فقام للرشيد واعترضه عند الحجر فقال: يا أمير المؤمنين استمع كلامي فإنك إن سمعته حقاً قبلته وإن سمعته باطلاً فلا تعبأ به فوقف. فقال: يا من غذي في نعيم وتردد في ملك سليم إن خفت العذاب الأليم وأحببت البقاء في سرور مقيم فلا تسمعن ممن أنت بينهما ولا تغترن بشيء من قولهما فإن الله عز وجل يخلو بك دونهما فالموت يصل إليك على الطوع والكره منهما فلا تقتصدن بالذليل ولا تتكثرن بالقليل ولا تعتصم بغير دافع ولا تطمئن إلى غير مانع لا يمنع ولا يدفع عنك فإنك بعين الله وبحضرة بيته(1/216)
الذي جعله مثابة للزائر ومنحجراً للفاجر فانتفض الرشيد وجلس وخلا يديه عنهما وأومأ أن خذوا الرجل، فأخذ حتى قضى طوافه وصلى، ورجع إلى المنزل الذي به نزل، ودعا بالرجل فأدخل عليه شيخ جليل، فقال من أين أنت؟ قال: من مكة. قال وما اسمك؟ قال: محمد قال ابن من؟ قال: ابن أوس. قال: من قبيلتك؟ قال: بنو هلال، قال: قبيلة مشهورة، فما حملك أن كلمتني بالذي كلمتني؟ قال: إشفاقاً عليك. إذ أنضيت الركاب وأتعبت الرجال وأنفقت الأموال في أمور الله عز وجل أعلم بها، حتى إذا صرت إلى غاية الطالب وموضع ترجو فيه الرحمة اعتمدت على ظالمين طاغيين، قد جبلا على الغشم، ونشئا على الظلم، وقد قال الله تعالى: {وما كنت متخذ المظلين عضداً}
فنكس الرشيد رأسه، وأقبل ينكت في الأرض وعيناه تذرفان ثم رفع رأسه فقال: من أين مطعمك ومشربك؟ قال: من عند من يرزقك. قال من ذاك؟ قال: من عند من فلق الحب والنوى وأخرج الحب من الثرى من طعام سهرت فيه العيون، وتعبت في حصاده الأجساد، وحرسته الملائكة حتى أتاني به القدر بلا رنق ولا كدر قال: ألك عيال؟ قال: نعم. قال: ومن هن؟ قال: زوجة. قال أتختلف إلى تجارة أو تحترف في صناعة؟ قال: قد كفاني الله مؤونة ذلك بالعافية. قال: أفلا أجري عليك رزقاً تستعين به على بعض أمورك وتستغني به عن الطلب من غيرك. قال: إني بالله أغنى مني بما بذلت لي من ذلك. قال: ألك حاجة؟ قال: نعم أطع الله عز وجل فيما تعلم من سرك، فإنك تصل إلى كل محبوب وتنال به كل مطلوب، ولست تبلغ شيئاً من نكاية عدوك من طاعتك لربك فإنك إن أطعته جعل ناصية عدوك بيدك، فلا تشاء أمراً إلا بلغته ولا مكروهاً به إلا نلته، قال: ألك حاجة غيرها؟ قال أتؤمنني من الموت؟ قال لا أقدر على ذلك. قال: فتجيرني من النار قال: ليست في يدي قال: فتدخلني الجنة؟ قال لست(1/217)
أملك. قال: أفتحيي لي ميتاً حتى أسأله عما عاين ورأى؟ قال: ذاك في قدرة غيري. قال: ما أنت إلا كسائر من ترى من رعيتك، غير أن الله عز وجل فضلك عليهم بما أعطاك من هذا الحطام الزائل، واستخلفك في الأرض لينظر كيف تعمل، وذكر كلاماً، ثم خرج فقال الرشيد: الحمد لله الذي جعل في رعية أنا عليها مثله، ولا تزال هذه الأمة بخير ما لم يعدموا هذا ونظراءه وأشباهه.
* أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل الغساني من فسطاط قراءة عليه أخبرنا أبي أخبرنا أبو بكر أحمد بن مروان القاضي الدينوري، قال حدثنا ابن أبي الدنيا ومحمد بن موسى قال: حدثنا عبد الرحمن عن عمه قال: بعث إلي هارون الرشيد وقد زخرف مجالسه، وبالغ فيها، ووضع فيها طعاماً كثيراً ثم وجه إلى أبي العتاهية، فأتاه، فقال له: صف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا، فأنشأ يقول:
عش ما بدا لك سالماً ... في ظل شاهقة القصور
فقال: أحسنت، ثم ماذا فقال:
يسعى عليك بما اشتهيت ... لدى الرواح وفي البكور
قال: حسن أيضاً ماذا فقال:
فإذا النفوس تقعقعت ... قي ضيق حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ... ما كنت إلا في غرور
فبكى هارون، فقال الفضل بن يحيى: بعث إليك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته فقال هارون: دعه فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا عمى.
* أخبرنا أبو القاسم بن الضراب المصري بها قراءة عليه، قال: أخبرنا أبي قال: حدثنا أبو بكر الدينوري قال: حدثنا إبراهيم الحربي قال: حدثنا(1/218)
داود بن رشيد. قال: دخل ابن السماك على هارون الرشيد فقال: عظني وأوجز فقال: ما أعجب يا أمير المؤمنين ما نحن فيه كيف غلب علينا حب الدنيا. وأعجب ما نصير إليه كيف غفلنا عنه. عجباً لصغير حقير إلى فناء يصير غلب على كثير طويل دائم غير نافذ.
* قرأت في كتاب العقد لأحمد بن محمد بن عبد ربه أن ابن السماك لما دخل على هارون ووقف بين يديه قال له: يا ابن السماك عظني وأوجز، فقال: كفى بالقرآن واعظاً يا أمير المؤمنين قال الله عز وجل: {ويل للمطففين. الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} فهذا وعيد لمن طفف في الكيل فما ظنك بمن أخذه كله.
* قرأت على الخطيب الحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي بدمشق قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن يوسف البراز وأبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله المعدل قال أحمد حدثنا وقال علي أخبر علي بن محمد المصري قال: حدثنا محمد بن عمرو بن خالد، قال حدثنا أبي قال: بعث هارون أمير المؤمنين إلى محمد بن السماك في آخر شعبان فأحضر فقال له يحيى بن خالد: أتدري لما بعث إليك أمير المؤمنين؟ قال: لا أدري. قال له: بعث إليك لما بلغه من حسن دعائك للخاصة والعامة وثنائهم عليك فقال ابن السماك: أما ما بلغ أمير المؤمنين عني من ذلك فبستر الله الذي ستره علي ولولا ستره لم يبق ثناء ولا بقاء على مودة، والستر هو الذي أجلسني بين يديك، ثم قال في رواية أخرى: يا أمير المؤمنين: في عيوب لو أطلعت الناس منها على عيب واحد ما بقيت لي في قلب أحد مودة، وإني لخائف من الكلام الفتنة ومن(1/219)
الستر الغرة، وإني لخائف على نفسي من قلة خوفي عليها. يا أمير المؤمنين: إني والله ما رأيت وجهاً أحسن من وجهك فلا تحرق وجهك بالنار، فبكى هارون بكاء شديداً ثم دعا بماء واستسقى فأتي بقدح فيه ماء فقال يا أمير المؤمنين: أكلمك بكلمة قبل أن تشرب هذا الماء قال: قل ما أحببت قال يا أمير المؤمنين: لو منعت هذه الشربة إلا بالدنيا وما فيها أكنت تفتديها بالدنيا وما فيها حتى تصل إليك قال نعم قال فاشرب ريا بارك الله لك، فلما فرغ من شربه قال يا أمير المؤمنين أرأيت لو منعت إخراج هذه الشربة عنك إلا بالدنيا وما فيها أكنت تفتدي ذلك بالدنيا وما فيها؟ قال: نعم. قال يا أمير المؤمنين: فما تصنع بشيء وشربة ماء خير منه قال فبكى هارون واشتد بكاؤه
قال: فقال يحيى بن خالد: يا ابن سماك قد آذيت أمير المؤمنين فقال له: وأنت يا يحيى فلا يغرنك رفاهية العيش ولينه.
* أخبرنا عبد العزيز بن الحسن قراءة عليه بالفسطاط أخبرنا أبي قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن مروان قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن مولى بني هاشم قال: حدثنا مصعب بن عبد الله عن ابن أبي فديك، قال: كان ههنا بالمدينة في سنة سبع وثمانين رجل يكنى أبا نصر من جهينة ذاهب العقل في غير ما الناس فيه، لا يتكلم في شيء من أمر الدنيا وكان يجلس مع أهل الصفة في آخر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا سئل عن الشيء أجاب جواباً معجباً حسناً
قال ابن أبي فديك فأتيته يوماً وهو في آخر المسجد منكساً رأسه واضعاً وجهه بين ركبتيه فجلست إلى جنبه فحركته فانتبه فأعطيته شيئاً كان معي فأخذه وقال: قد صادف منا حاجة! فقلت له يا أبا نصير: ما الشرف؟ قال حمل ما ناب العشيرة أدناها وأقصاها والقبول من محسنها والتجاوز عن مسيئها. قلت له: فما المروءة؟ قال إطعام(1/220)
الطعام وإفشاء السلام وتوقي الأدناس واجتناب المعاصي صغيرها وكبيرها. قلت فما السخاء؟ قال: جهد المقل. قلت: ما البخل؟ قال: أف وحول وجهه عني فقلت لم تجبني بشيء؟ قال: بلى قد أجبتك.
قال ابن أبي فديك: وقدم أمير المؤمنين هارون إلى المدينة فأحب أن ينظر إليه فأخلي له مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ووقف على منبره وفي موضع جبريل عليه السلام ثم قال: قفوا بي على أهل الصفة حتى أنظر إليه يعني أبا نصر فلما أتاهم حرك هارون أبا نصر بيده فرفع رأسه وهارون واقف فقيل يا أبا نصر هذا أمير المؤمنين واقف عليك فرفع رأسه إليه فقال له: أيها الرجل إنه ليس بين الله وبين أمة نبيه ورعيتك خلق غيرك وإن الله سائلك فأعد للمسألة جواباً فقد قال عمر بن الخطاب رحمة الله عليه: لو ضاعت سخلة على شاطئ الفرات لخاف عمر أن يسأله الله عنها فبكى هارون وقال: يا أبا نصر إن رعيتي ودهري غير رعية عمر ودهره فقال له أبو نصر: هذا والله غير مغن عنك، فانظر لنفسك فإنك وعمر تسألان عما خولكما الله ، ثم دعا هارون بصرة فيها مئة دينار فقال ادفعوها إلى أبي نصر، فقال: وهل أنا إلا رجل من أهل الصفة؟ ادفعوها إلى فلان يفرقها عليهم ويجعلني رجلاً منهم .
* قرأت على أبي بكر بن علي الحافظ أخبرك بكران بن الطبيب السقطي بجرجرايا قال: حضرت محمد بن أحمد بن محمد المفيد قال: حدثنا أبو المغيرة بن شعيب قال:حضرت يحيى ين خالد البرمكي يقول لابن السماك إذا دخلت على أمير المؤمنين هارون الرشيد فأوجز ولا تكثر عليه، فلما دخل عليه وقام بين يديه قال يا أمير المؤمنين إن لك بين يدي(1/221)
الله مقاماً وإن لك من مقامك منصرفاً فانظر إلى أين منصرفك إلى الجنة أم إلى النار قال فبكى هارون حتى كاد يموت.
* وأخبر الشريف أبو الغنايم عبد السلام بن أحمد بن محمد البراز وغيره قال: حدثنا محمد بن أحمد الحافظ أبو الفتح أخبرنا القاضي أبو الحسين وغيره قال: حدثنا محمد بن أحمد بن صالح التمار حدثني أبو النصر هاشم ابن محمد بن خالد ببغداد قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن مهران قال حدثنا أبي عبد الله بن مهران قال حج الرشيد فوافى الكوفة فأقام بها أياماً ثم ضرب بالرحيل، فخرج الناس وخرج بهلول المجنون فيمن خرج فجاز بالكناس والصبيان يؤذونه ويولعون به إذ أقبلت هوادج أمير المؤمنين فكف الصبيان عن الولوع به فلما جاء هودج هارون نادى بأعلى صوته: يا أمير المؤمنين. فقال هارون للعباس: من المجترئ علي في هذا المكان؟ فقال هذه بهلول المجنون يا أمير المؤمنين، فكشف هارون السجاف بيده عن وجهه فقال لبيك يا بهلول لبيك يا بهلول،
فقال يا أمير المؤمنين: حدثنا أيمن بن نابل عن قدامة بن عبد الله العامري قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم منصرفاً من عرفة على ناقة له صهباء بلا ضرب ولا قائد ولا إليك إليك،
وتواضعك في شرفك هذا يا أمير المؤمنين خير لك من تكبرك وتجبرك، قال: فبكى هارون حتى سقطت دموعه إلى الأرض ثم قال: يا بهلول زدنا رحمك الله قال: نعم يا أمير المؤمنين رجل آتاه الله مالاً وجمالاً فأنفق من ماله وعف في جماله كتب في خالص ديوان الله عز وجل من الأبرار قال: أحسنت يا بهلول مع الجائزة قال: أردد الجائزة على من أخذتها منه فلا حاجة لي فيها. قال يا بهلول فإن يكن عليك دين قضيناه، قال يا أمير المؤمنين: هؤلاء أهل العلم بالكوفة متوافرون أجمعت آراؤهم أن قضاء الدين بالدين لا يجوز، قال يا بهلول أفنجري عليك ما يقوتك أو(1/222)
يقيمك، قال: فرفع بهلول رأسه إلى السماء ثم قال: يا أمير المؤمنين أنا وأنت من عيال الله، فمحال أن يذكرك وينساني، قال: فأسبل هارون السجاف ومضى.
* أخبرنا أبو القاسم منصور بن النعمان بن منصور الصيمري فيما كتب لنا به بالفسطاط بإسناده إلى سفيان بن عيينة قال: قال الرشيد: أريد أن ألقى الفضيل بن عياض لعل الله يحدث لي عظة أنتفع بها فقلت: والله إن ذلك لحبيب إلي ولكنه رجل قد نذر نفسه لخدمة الله عز وجل فما لأحد فيه حظ، وأكره أن تراه منصرفاً في بعض حالاته من عبادة ربه عز وجل فتوهم عليه جفاء وإن كنت والله أعرفه الرجل الكريم العشرة الحسن الخلق يوهم من شاهده من لينه ودماثة أخلاقه أنه داخل في حكم العيافة فقال لي: ما عزمت على لقائه حتى وطنت نفسي على احتمال مشاهدتي له في أخلاقه، ثم قال: ويحك يا سفيان إن شرف التقوى لا يزاحم عليه بإمرة ولا خلافة، فأديت ذلك إلى الفضيل فقال: إنه لحسن العقل لولا ما ضرب به من حب هذا العاجل، ويسرني أن يلقاني ويسؤوني أيضاً.
فأما ما يسرني من لقائه فأجو أن يكون له فيه بعض الكبحات عن غيه وأما الذي يسؤوني فيه فلم أر مثله يرفل في سوابغ النعم عرياناًً من الشكر، ثم قطب بين عينيه ثم قال: ما قدر من كان لله عاصياً؟ لا حاجة لي في لقائه. فلم أزل أرفق به حتى أذن له. فرجعت إلى الرشيد فأعلمته وقلت له: ليس تطمع فيه إلا في وقت إفطاره وكان إفطاره كاختطاف الطير حبة فركب الرشيد ولبس مبطنه وطيلساناً وغطى رأسه ومعه مسرور الخادم وأنا فقرعت عليه الباب فنزل وفتح ودخل ودخلت معه ووقف مسرور على الباب فسلم عليه الرشيد قائماً فشم منه الفضيل رائحة المسك فقال اللهم(1/223)
إني أسألك رائحة الجنة التي أعددتها لأوليائك المتقين في جنات النعيم وتبادرت دموعه على لحيته فقلت: يا أبا علي هذا أمير المؤمنين واقف يسلم عليك، فرفع رأسه وقال: إنك لهو يا حسن الوجه ونظر الرشيد وهو يبكي فقال له: اعلم أن الأحكام قد سلبت فضيلة العقل وظهر في الملة والذمة عدوان الأمرين، وهو في صحيفة تدرج معك في كفنك ليوم النشور فقد بدت لك شرعة نفاذ ما أنت فيه فيمن تقدمك من آبائك ثم نهض وقال: الله أكبر: فقلت يا أمير المؤمنين: أما إذا افتتح الصلاة فليس فيه حيلة، وانصرفنا فقال لي الرشيد وهو خارج: لولا خجلي منك قبلت ما بين عينيه فقلت والله: لوددت أنك فعلت.
* قرأت على أبي الغنايم محمد بن علي القاضي عن القاضي أبي الفرج الجزيري، حدثنا أبو نصر العقيلي أخبرنا أبو القاسم البوشنجاني قال: قال الحسن بن عبد الجبار المعروف بالغرق: بينا المأمون في بعض مغازيه يسير منفرداً عن أصحابه ومعه عجيف بن عنبة إذ طلع رجل متخبط متكفن، فلما عاينه المأمون وقف ثم التفت إلى عجيف فقال: ويحك أما ترى صاحب الكفن مقبلاً يريدني. فقال له أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، قال: فما كذب الرجل أن وقف على المأمون فقال له المأمون: من أردت يا صاحب الكفن وإلى من قصدت؟ قال: إياك أردت. قال عرفتني؟ قال: لو لم أعرفك ما قصدتك قال: أفسلمت علي؟ قال: ما أرى السلام عليك. قال: ولم؟ قال لإفسادك علينا الغزاة. قال عجيف: فأنا ألين. من سيفي لئلا أبطئ ضرب عنقه إذ التفت المأمون فقال: يا عجيف إنني جائع ولا رأي لجائع، فخذه إليك حتى أتغدى وأدعو به فقال فتناوله عجيف فوضعه بين يديه فلما صار المأمون إلى رحله دعا بالطعام فلما وضع بين يديه أمر برفعه وقال والله ما أسيغه حتى أناظر خصمي، يا عجيف علي(1/224)
بصاحب الكفن قال: فلما جلس بين يديه قال: هيه يا صاحب الكفن ماذا قلت؟ قال: لا أرى السلام عليك لإفسادك الغزاة علينا. قال: بماذا أفسدتها؟ قال بإطلاقك الخمور تباع في عسكرك وقد حرمها الله عز وجل في كتابه فابدأ بعسكرك فنظفه ثم اقصد العدو. بماذا استحللت أن تبيح شيئاً قد حرمه الله كهيئة ما أحل الله عز وجل قال: أو عرفت أن الخمر تباع ظاهراً أم رأيتها؟ قال: لو لم أرها وتصح عندي ما وقفت هذا الموقف قال: فشيء سوى الخمر أنكرتها؟ قال: نعم إظهارك الجواري في العماريات وكشفهن الشعور منهن بين أيدينا كأنهن فلق الأقمار. خرج الرجل منا يريد أن يهراق دمه في سبيل الله ويعتقر جواده قاصداً نحو العدو فإذا نظر إليهن أفسدن [عليه] دينه فركن إلى الدنيا وانصاع إليها فلم استحللت ذلك؟ قال: ما استحللت ذلك وسأجيبك بالعذر فيه، فإن كان صواباً وإلا رجعت ثم قال: فشيء غير هذا أنكرته قال: نعم شيئاً أمرت به تنهانا عن الأمر بالمعروف قال: أما الذي تأمر بالمنكر فإني أنهاه وأما الذي تأمر بالمعروف فإني أحبه على ذلك وأحدوه عليه، ثم قال: أفشي سوى ذلك قال: لا
قال يا صاحب الكفن: أما الخمر فقد حرمها الله ولكن الخمر لا تعرف إلا بثلاث جوارح بالنظر والشم والذوق أفتشربها أنت؟ قال: معاذ الله أن أنكر ما أشرب قال أفممكن في وقتك هذا أن توقفنا على بيعها حتى نوجه معك من يشتري منها؟ قال ومن يظهره إلي أو يبيعنيها وعلي هذا الكفن، قال: صدقت قال: فكأنك إنما عرفتها بهاتين الجارحتين، يا عجيف علي بقوارير فيها شراب فانطلق عجيف فأتاه بعشرين قارورة فوضعها بين يديه في أيدي عشرين وصيفاً ثم قال: يا صاحب الكفن: نفيت من آبائي الراشدين المهديين إن لم تكن الخمر فيها فإنك تعلم أن الخمر من ستر الله على عباده وأنه لا يجوز لك أن تشهد(1/225)
على قوم مستورين إلا بمعاينة وعلم ولا يجوز إلا بمعاينة بينة وشاهدي عدل، قال فنظر صاحب الكفن إلى القوارير فقال له عجيف: أيها الرجل لو كنت خماراً ما فرقت موضع الخمر بعينها بين هذه القوارير، فأخذ المأمون القارورة فذاقها ثم قطب ثم قال: يا صاحب الكفن انظر هذه الخمر فتناول الرجل القارورة فذاقها فإذا خل ذابح، فقال قد خرجت هذه عن حد الخمر فقال المأمون: صدقت إن الخل مصنوع من الخمر لا يكون خلاً ولا والله ما كانت هذه خمراً قط ما هو إلا رمان حامض يعصر لي فأصطبح به من ساعته. فقد سقطت الجارحتان وبقي الشم يا عجيف صيرها في رصاحيات وأت بها قال: ففعل فعرضت على صاحب الكفن فشمها فوقع شمه على قارورة منها فيها مينتخج فأخذها المأمون فصبها بين يديه وقال انظر إليها كأنها طلاء عقدتها النار بل تقطع بالسكين قد أسقطت إحدى الثلاث يا صاحب الكفن،
ثم رفع المأمون رأسه إلى السماء فقال: اللهم إني أتقرب إليك بنهي هذا ونظرائه عن الأمر بالمعروف. يا صاحب الكفن أدخلك الأمر بالمعروف في أعظم المنكر، شنعت على قوم باعوا من هذا الخل ومن المينتخج الذي شممت فلم تسلم استغفر الله من ذنبك هذا العظيم وتب إليه.
ما الثاني؟ قال: الجواري قال: صدقت. أخرجتهن إبقاء عليك وعلى المسلمين كرهت أن تراهن عيون العدو والجواسيس في العماريات والقباب والسجوف عليهن يتوهمون أنهن بنات أو أخوات فيجدون في قتالنا ويحرصون على الغلبة على ما في أيدينا حتى يجتذبوا خطام واحد من هذه الإبل يستقيدونه لكل طريق إلى أن تبين لهم أنهن إماء، فأمرت برفع الظلال عنهن وكشف شعورهن ليعلم العدو أنهن إماء أتقي بهن حوافر دوابنا، لا قدر لهن عندنا: تدبير دبرته للمسلمين عامة ويعز علي أن ترى(1/226)
لي حرمة، فدع هذا فليس هو من شأنك، فقد صح عندك أني في هذا مصيب وأنك أنكرت باطلاً.
وأي شيء الثالثة؟ قال الأمر بالمعروف. قال: نعم أرأيتك لو أصبت فتاة مع فتى قد اجتمعا في هذا الفج على حديث. ما كنت صانعاً؟ قال: كنت أسألهما، ما أنتما؟ قال كنت تسأل الرجل فيقول: امرأتي وتسأل المرأة فتقول: زوجي قال: كنت أحول بينهما وأحبسهما قال: حتى يكون ماذا؟ قال: حتى أسأل عنهما. قال: من تسأل عنهما؟ قال: كنت أسألهما من أين أنتما؟ قال: سألت الرجل من أين أنت فقال لك: أنا من استيجاب وسألت المرأة فقالت من استيجاب ابن عمي تزوجنا وجئنا. أكنت حابساً الرجل والمرأة بسوء ظنك وتوهمك الكاذب إلى أن يرجع رسول من استيجاب؟ فإن مات الرسول أو ماتا إلى أن يعود رسولك؟ قال: كنت أسأل في عسكرك ههنا. قال: فلعلك لا تصادف في عسكري هذا من أهل استيجاب إلا رجلاً أو رجلين فيقولان لك: لا نعرفهما على هذا النسب.
يا صاحب الكفن ما أحسبك إلا أحد ثلاثة رجال: إما رجل مديون، وإما مظلوم وإما رجل تأولت في حديث أبي سعيد الخدري في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم ق
ال: وروي الحديث عن هشيم وغيره، ونحن نسمع الخطبة إلى مغيربان الشمس إلى أن بلغ إلى قوله: إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر فجعلتني جائراً، وجعلت نفسك تقوم مقام الآمر بالمعروف، وقد ركبت من المنكر ما هو أعظم، لا والله لاضربنك سوطاً ولا زدت على تحريق كفنك، ونفيت من آبائي الراشدين المهديين لئن قام أحد مقامك هذا، لا يقوم بالحجة فيه إن نقصته من ألف سوط، ولآمرن بصلبه في(1/227)
الموضع الذي يقوم فيه.
قال: فنظرت إلى عجيف وهو يجرد كفن الرجل ويلقي عليه ثياب بياض.
* وفيما قرأناه من أخبار المأمون أن إبراهيم النظام كان جالساً بين يدي المأمون إذ دخل بعض المتكلمين، ممن يقول بالدهر فأمر المأمون بمناظرته، فطالت المناظرة وكثر الشغب فذكر بعض الحاضرين أن بالكوفة مجنوناً اسمه عليان قد قطع كل خطيب وأسكت كل متكلم بسرعة جوابه وحدة خاطره، فأحب المأمون أن ينظر عليه ويسمع كلامه، فكتب إلى عامله بالكوفة كتاباً، وأرسل بريداً، فأشخص عليان من الكوفة في يوم وليلة.
فلما دخل على المأمون نظر إلى رجل أشعث أغبر في زي المساكين وحلية المجانين فاستزراه المأمون فأمر أن يجلس في مجلس العامة من حيث يراه ويسمع كلامه.
وقال لإبراهيم النظام: سائل الرجل. فقال له إبراهيم: ما اسمك؟ قال: اسمي عليان، فضحك المأمون من تصغيره لاسمه، وضحك بعض الحاضرين وعرف ذلك عليان فقال: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون. قال فاستحيا منه المأمون، ورفع من موضعه، وقال لإبراهيم النظام: سائل الرجل فإني أراه أريباً فقال له إبراهيم: يا عليان: أسألك عن مسألة. قال عليان: سؤال متعلم أم متعمد. قال بل سؤال متعلم. قال فانزل عن موضعك واجلس موضع يمينك عن شمالك واجمع بين عقبيك وأرخ ذقنك على صدرك وسلم سلام متعلم على معلم وسل عما تريد.(1/228)
قال يا عليان: ما تقول في القضاء والقدر؟ فقال: ما لولد مولود وشيخ مفقود وجسم مكدود وعقل غير موجود بعيد عن المعرفة عيي عن الجواب، عم عن الصواب: إلى من السموات منشآت بقدرته والشمس من شعاع أنوار عظمته والجن والإنس من حسن صنعته والطير من إتقان حكمته، وكل شيء داخل في علمه، وجار عليهم حكمه، لا يعزب عنه معرفة شيء منه، وكل صغير وكبير، ففي أم الكتاب عنده يكفر نعمته ويجحد ربوبيته ويريد أن يشاركه في علمه ويتعقب عليه في حكمه فيحكم عليه بعقله.
فأفلس إبراهيم النظام ولم يحر جواباً، ووقف باهتاً، وخشي الفضيحة بين يدي المأمون، فقال له عليان: ما تقول في العرش؟ فقال: شيء مكنون وعلم مخزون، فقال له: فتحده وتصفه؟ فقال له إبراهيم: ومن يحده وهو من وراء الحجب؟ ومن يصفه وقد استوى عليه ربه وخالقه؟ كيف شاء، تعالى وتقدس اسمه، الفاطر المبدع بغير مثال احتذاه ولا شبه حاكاه، بل قال كن فكان كما شاء وكيف شاء بلا حد يوصف ولا كيف يعرف فقال له إبراهيم: هذا يخالفك على ما تقول، وأومأ بيده إلى الذي يقول بالدهر لينجو هو من مناظرته فقال: ما يقول هذا؟ قال: يقول ليل ونهار وفلك دوار وسماء خالية بلا جبار، فقال يا إبراهيم هذا كافر وكلامي معك ومخاطبتي لك، لا أعرف هذا أخبرني: من ذا الذي أمر النطفة أن تسببت من غشاء قرقر اليافوخ وعروق الدماغ وأطراف الشعر وخلصها من شراسيف الصدر، ونياط حجاب القلب، فتسببت وانسكبت في تابوت حقو أبيك ثم عادت من بعد الحمرة إلى البياض، ومن ألهم أباك الشهوة فأمر الجوارح بالحركة حتى أفضى الفرج إلى الفرج فصرت نطفة في قرار مكين إلى قدر معلوم، وجعل النطفة علقة وجعل العلقة مضغة وجعل المضغة عظاماً رقيقاً ثم كسا العظم لحماً ثم أنشأك خلقاً آخر؟ قال: الله تعالى.(1/229)
قال فأخبرني من جعل الهامة فراخاً؟ ومن الذي جعل نباتها الشعر يشرب من ماء الدماغ؟ قال: الله تعالى. قال أخبرني من الذي فتح صحن الجبين وركب العرنين وخلق العينين فأسكنهما جوهرتين وزينهما بالحاجبين وجعل الأذنين على الصدغين وزين الفم بالشفتين وقدر اللسان في مقدم اللحيين؟ قال: الله تعالى. قال فأخبرني من عدل منكبيك فشدهما بالعضدين وزينهما باليدين وركب الكفين وجعل الساقين اسطوانتين وركب تحتهما قدمين؟ قال: الله تعالى. قال: فأخبرني من الذي حبس عن أمك الحيض في أيام الحمل غذاء لك وتقوية لجسمك، فلما كملت صورتك وانقضت أيامك وحان وقت خروجك إلى الدنيا ناداك من فوق عرشه -جلت عظمته- اخرج واعرف قدري فإني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني فخرجت من ظلمة الأحشاء إلى دار الدنيا وأنت ضعيف مهين ليس لك رجلان تسعى عليهما ولا يدان تتحرك بهما ولا لسان يتكلم ولا سن يقلع ولا ضرس يطحن، ولا أذن تسمع ولا عقل يفهم، فأجرى لك من ثلاث مئة وستين عرقاً عرقين دقيقين لبنا عذباً صافياً زلالاً بارداً في الصيف، حاراً في الشتاء جعله لك غذاء وحنن عليك أبوين شفيقين رفيقين فهما لا يأكلان حتى يطعماك ولا يشربان حتى يسقياك ولا ينامان حتى ينوماك، كل ذلك رأفة ممن خلقك فسواك، فلما ترعرعت ونشأت كافأته بالمعاصي وجحدت ربوبيته
فأمسك النظام والمتكلم ولم يحريا جواباً وكان المأمون متكئاً فاستوى جالساً وقال: يا عليان، هل من حاجة فأقضيها؟ قال: نعم أريد أن تنسئ في أجلي وتتجاوز على مساوئي وتغفر لي خطيئتي، فبكى المأمون وقال: يا عليان ليس هذا إلي أنا لا أقدر أن استخلصه لنفسي فكيف استخلصه لك؟ قال عليان: يا أمير المؤمنين إن الله تبارك وتعالى لم يجعل أحداً فوقك في عصرنا فيجب عليك ألا يكون أحد أطوع لله منك.(1/230)
فقال له: عظنا يرحمك الله. قال يا أمير المؤمنين إن الذي أكرمك بما أكرمك به، يجب أن تحب له ما أحب، وتبغض له ما أبغض، فو الله لقد أحب داراً أبغضتها وأبغض داراً أحببتها كأنما أردت خلاف ربك أو أردت سواه؟ فاعلم يا أمير المؤمنين أن الذي في يديك لو بقي على من كان قبلك إذا لما صار إليك، وهكذا هو صائر إلى من بعدك فاتق الله في خلافتك واحفظ محمداً صلى الله عليه وسلم في أمتك، قال: فبكى المأمون، ثم أمر أن يحشى فمه دراً وياقوتاً، فقال له اعفني يا أمير المؤمنين فأعفاه، ثم خرج من عنده فقيل له: لم لم تقبل جوائز أمير المؤمنين؟ قال: خشيت أن أمنع جوائز رب العالمين. ثم ولى وهو يقول:
كم ملوك عن الديار تفانوا ... وخلت منهم هناك البيوت
فسل الربع والمنازل عنهم ... هل تنبيك عنهم أم سكوت
حب من شئت فهو بالموت فان ... غير أني أحببت من لا يموت
* وقرأت على الشيخ الصالح أبي محمد أحمد بن علي الحسن الإمام، أخبرنا محمد بن أحمد بن محمد حدثنا أبو جعفر محمد بن يوسف بن حمدان، حدثنا أبو علي الحسن بن يزيد الرقاق، حدثنا عبد الله بن جعفر ابن أحمد حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن الجنيد حدثني الفتح بن شخرف قال: كتب جعفر المتوكل إلى عامل البصرة قد بلغني أن بالبصرة مجنوناً معه حكمة إذا تكلم قال صواباً فإذا ورد كتابي إليك فوجه به إليه وتلطف له في الكلام
فلما ورد الكتاب حمله على البريد فلما صار إلى باب الخلافة قال له الحجاب: سلم على الخليفة سلام الخلفاء [قال] ما أدري أي شيء تقولون ولا بد من السلام عليه والنصيحة له، فدعاه المتوكل في محافل العلماء(1/231)
والفقهاء وأهل الشرف، فلما دخل عليه، قال له أنت المتوكل؟ قال: نعم قال لم سميت نفسك متوكلاًً؟ ولم تسمي نفسك متواضعاً، السلام عليك يا من قد شرب بكأس التجبر والكبرياء السلام عليك يا من قد اتكأ على نمارق البلاء السلام عليك يا من قد استوى على أسرة العناء، السلام عليك يا من قد تقمص بقميص الخيانة، السلام عليك يا من قد اشتمل بمشامل سقوط العناية، السلام عليك يا من قد أغضب عليه في وقت خلوته صاحب الستر والكفاية كأني بك وقد أتاك حاصد فظ غليظ، فجذبك من سرر بهائك، وأخرجك من مقاصير فساحة ملكك ولم يستأمر عليك حاجباً ولا بواباً قهرماناً حتى يقدمك إلى ضيق اللحد فيسكنك الخراب والجبان، ويفارقك الأهل والولدان، فو الله لو نظرت في صحيفة بطالتك لقصرت يا من قد اجترأ بظلمه على الصغار اليتامى، وبجوره على فنون البلايا، غداً تقف تحت ستر المتجبر الجبار فيدعوك لدقيق المسألة وتعنيف التوبيخ فإن كانت خيانة أوقفت على متن صراط دقيق وأخذ عليك فجاج المضيق، وقرأت بالتحقيق
وذكر الحديث بطوله اختصرناه، لأنه ليس من الوعظ وإنما هو في مسائل سألوه فيها، وقد ذكرناه بطوله في مكان.
* أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل الغساني المصري بها قراءة عليه، حدثنا أبي حدثنا أحمد بن مروان القاضي المالكي حدثنا أحمد بن علي البصري قال: وجه المتوكل إلى أحمد بن المعذل وغيره من العلماء، فجمعهم في داره ثم خرج عليهم فقام الناس كلهم غير أحمد ابن المعذل، فقال المتوكل لعبيد الله إن هذا الرجل لا يرى بيعتنا، فقال له بلى يا أمير المؤمنين ولكن في بصره سوء فقال أحمد بن المعذل: يا أمير المؤمنين، ما في بصري سوء ولكن نزهتك من عذاب الله قال النبي صلى الله عليه وسلم ،(1/232)
من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار.
قال: فجاء المتوكل فجلس إلى جنبه.
* قرأت على القاضي أبي عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر بن علي القضاعي، وعلى أبي القاسم منصور بن النعمان بن منصور الصيمري، وعلى أبي الحسن يحيى بن فرج الصيرفي بالفسطاط، قلت لكل واحد منهم على الانفراد: أخبركم أبو مسلم محمد بن أحمد بن علي الكاتب وأقر به، أخبرنا أبو محمد بن الحسن بن دريد، حدثنا أبو حاتم حدثنا محمد بن سلام، حدثنا بكار بن محمد بن واسع قال: مر عمرو بن عبيد بالمربد وسليمان بن علي الهاشمي مشرف، وكان أمير البصرة فأمر بإدخاله واستجلسه وقال له: يا أبا عثمان إنا كنا وليس عندنا مما ترى شيئاً فجاء الله به، فوصلنا الأرحام وأعتقنا الرقاب، وسقينا المياه، فقال عمرو: إن مما من الله به على الأمير أنه يعلم أنه ليس له أن يأخذ درهماً إلا من حله، ولا يضعه إلا في حقه، فقال سليمان: نحن أحسن بالله ظناً منك، فقلت في نفسي لا أدعه وإياها فقلت: ما كان أحد أحسن ظناً بالله من محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد لقي الله تعالى وما يطالبه أحد بمظلمة.
* أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد النوكي أخبرنا أبو محمد الحسن بن عثمان بن بكران العطار أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير الخلدي أخبرنا إبراهيم بن نصر المنصوري حدثني إبراهيم بن بشار الصوفي قال: كنت يوماً من الأيام ماراً مع إبراهيم بن أدهم في صحراء إذ أتينا على قبر مسنم، فرحم عليه وبكى، فقلت قبر من هذا؟ فقال هذا قبر حميد بن جابر أمير هذه المدينة كلها كان غارقاً في بحار الدنيا، فأخرجه الله عز وجل منها، واستنفذه، ولقد بلغني [أنه] سر ذات يوم بشيء من ملاهي(1/233)
ملكه ودنياه وغروره وفتنته، قال ثم نام في مجلسه هذا مع من يخصه من أهله فرأى رجلاً واقفاً على رأسه بيده كتاب فناوله، ففتحه، فإذا فيه كتاب بالذهب مكتوب:
((لا تؤثرن فانياً على باق، ولا تغترن بملكك وقدرك وسلطانك وخدمك وعبيدك ولذاتك وشهواتك، فإن الذي أنت فيه جسيم لولا أنه عديم، وهو ملك لولا أن بعده هلك، وهو فرح وسرور لولا أنه لهو وغرور، وهو يوم لو كان يوثق فيه بغد، فسارع إلى أمر الله عز وجل فإن الله تعالى قال: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين}، قال فانتبه فزعاً وقال: هذا تنبيه من الله وموعظة فخرج من ملكه لا يعلم به، وقصد هذا الجبل فتعبد فيه))، فلما بلغني قصته وحدثت بأمره قصدته فسألته، فحدثني ببدء أمره وحدثته ببدء أمري، فلما زلت أقصده حتى مات، ودفن ههنا، هذا قبره رحمة الله عليه.
فوقع لنا ذكر بدء أمر إبراهيم بن أدهم وكيف كان سبب زهده:
* أخبرنا به الشيخ الصالح أبو بكر محمد بن علي بن محمد المقرئ أخبرنا أبو بكر علي بن محمد بن عبد الله بن الحذاء المقرئ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد المزكي أنه سنة اثنتين وستين وثلاث مئة قال سمعت أبا العباس محمد ابن إسحاق السراج يقول سمعت إبراهيم بن بشار خادم إبراهيم بن أدهم يقول: قلت لإبراهيم بن أدهم يا أبا إسحاق: كيف كان أوائل أمرك وخروجك من خراسان إلى بلاد الرمال؟ قال فقال لي أنت إلى غير هذا أحوج من ذا، فكررت عليه وقلت لعل الله ينفعني أو كما قال، فقال لي إبراهيم كان أبي من ملوك خراسان وكنت امرأ مولعاً بالصيد، قال فركبت فرساً لي يوماً وخرجت إلى الصحراء، فرأيت أرنباً فركضت فرساً خلفه،(1/234)
فنوديت يا إبراهيم ما لذا خلقت ولا بذا أمرت، قال: فلم أر شيئاً فقلت: فعل الله بالشياطين وركضت فرساً ثانية فنوديت يا إبراهيم ما لذا خلقت ولا بذا أمرت، قال فنظرت يمنة ويسرى فلم أر شيئاً، فركضت فرساً فنوديت من قربوس حظي يا إبراهيم والله ما لذا خلقت ولا بذا أمرت، فقلت. هذا نذير من رب العالمين، قال فنزلت عن فرسي وتركت ثيابي التي علي وأخذت من بعض رعائنا ما لبسته، وخرجت فأرض ترفعني وأرض تضعني حتى خرجت إلى بلاد الرمال، فعملت بها أياماً فلم يصف لي شيء من الحلال فقالوا لي إن أردت الحلال فعليك بطرسوس، قال فخرجت إلى بلدة يقال لها طرسوس قال وعملت فيها أياماً في بستان لرجل، قال فدخل علي بعد أيام صاحبه قال فنادى يا نطور، قال فجئته برمانة فكسرها فوجدها حامضة، فقال: أنت مذ كذا وكذا في بستاننا تأكل فاكهتنا لا تعرف الحلو من الحامض قال: فقلت والله ما أكلت من فاكهتكم ولا أعرف الحلو من الحامض، قال فقال لي: لو أنك إبراهيم بن أدهم!!
ما زاد على هذا، قال: وكان فوج يدخل من باب البستان، وفوج يخرج، فخرجت في الفوج الذي كان يخرج من البستان فلم أعد إليه، فهذا كان أوائل أمري وخروجي من بلاد خراسان إلى بلاد الرمال.(1/235)